قال رحمه الله : [ ومن لزمته فطرة نفسه لزمته فطرة من تلزمه مؤونته ليلة العيد إذا ملك ما يؤدي عنه ] : إذا كان عند الإنسان زوجة فإنه مسؤول عن نفقتها وعليه زكاتها ، كذلك أيضا إذا كان عنده مملوك عبد فإنه يؤدي الزكاة عنه ؛ والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا زكاة الفطر )) فنص عليه الصلاة والسلام على أنها مركبة على وجوب النفقة ، وعلى هذا يؤدي الزكاة عن زوجه ويؤدي الزكاة عن أولاده: ذكورا كانوا أو إناثا صغارا كانوا أو كبارا ، إلا إذا كان كبيرا استقل بنفقته فلا إشكال ، إنما هي واجبة عليك بنفسك ومن تلزمك نفقته من أولادك وذريتك، وعلى هذا خرّج بعض العلماء الخادم طبعا المملوك لا إشكال ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بيّن أنه تجب الزكاة عليه . أما الخادمة والخادم كالسائق ونحوه والعامل في المزرعة والعامل في البيت والحارس للعمارة فهذا فيه طريقتان : الطريقة الأولى أن يكون الاتفاق في الإجارة على أجرة الشهر فحينئذ لا إشكال، يقول له : أنت تعمل عندي الشهر بألف ريال ؛ فحينئذ هو متول نفقة أكله وشربه ، أما لو أنه قال له : تعمل عندي وأكلك وشربك علي هذه يجيزه بعض العلماء وبعض العلماء يمنعه إلا إذا حدد الأكل؛ لأنها تصير إجارة بمجهول ومعلوم . المعلوم الألف، والطعام مجهول، وإذا دخل المجهول على المعلوم صير المعلوم مجهولا ، لكن إذا قلنا بالجواز وحدد الطعام وصارت نفقته عليه ومضى الشهر شهر رمضان فهذا وجه من يقول بعض مشايخنا : إن الخادمة إذا كانت مؤونة أكلها وشربها على صاحب العمل فإنه يؤدي الزكاة عنها كما كان في القديم في عهد الأولين الخادم في الغنم يرعاها على أن على صاحب الغنم الطعام والأكل قالوا يؤدي الزكاة عنه في أحد الوجهين عند أهل العلم -رحمهم الله- .(3/485)
قال رحمه الله : [ فإن كان مؤونته تلزم جماعة كالعبد المشترك أو المعسر القريب لجماعة ففطرته عليهم على حسب مؤونته ] : المقصود من هذا أن ينتقل من صورة الإفراد إلى صورة التشريك، فبعد أن بيّن لك أن كل من تلزمك نفقته تؤدي الزكاة عنه فأنت وليه ، وحينئذ مخاطب بزكاة الفطر شخص واحد . فيرد السؤال: إذا كانت النفقة على أشخاص كالعبد في القديم المملوك يكون لخمسة أشخاص وقيمته خمسة آلاف اشتركوا ودفعوا خمسة آلاف على أن لكل واحد منهم خمس العبد يعمل عند هذا يوماً ثم اليوم الثاني ثم الثالث خمسة أيام فحينئذ زكاة الفطر على قدر حصصهم ؛ لأن مؤونته تلزمهم على نفس هذا القدر، وهذا أصل شرعي في استحقاقه عليهم . هذا بالنسبة للمشترك .
أو كان قريبا وكان هناك ينفق عليه ، ثبت النفقة على أكثر من قريب كأبناء العمومة عند استوائهم في العصبة ولزوم النفقة عليهم ؛ فحينئذ تقسط زكاة الفطر على قدر النفقة .
[ وإن كان بعضه حرّاً ففطرته عليه وعلى سيده ] : المبعّض الذي بعضه حرّ وبعضه عبد فإذا كان بعضه حرًّا وكان بعضه مملوكا فتجب بقدر ما فيه من الحرية على نفسه وبقدر ما فيه من الملك على سيده على السنة لثبوت الخبر بهذا . فإذا كان نصفه حراًّ ونصفه عبداً وجب على من يملك النصف أن يخرج نصف الزكاة والنصف الثاني على العبد في ملكه .(3/486)
[ ويستحب إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة ] : هذا هو وقت الإخراج . يستحب إخراجها يوم العيد. وقت الجواز بغروب الشمس من آخر يوم من أيام رمضان ، ويجوز تعجيلها إلى يوم أو يومين كما ثبتت السنة في ذلك . هذا وقت الجواز ، الأصل والمددّ ، وأما وقت الأفضلية فعند الخروج إلى الصلاة ؛ لأن هذا يعين على منع الفقير من السؤال ويغنيه أكثر ، هذا من حيث حكم الشرع ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته )) ، فأمر بها أن تخرج قبل الصلاة ، فالأفضل عند خروجه إلى الصلاة أخذوا من قوله: { قد أفلح من تزكى وذكر ا سم ربه فصلى } فجعلها مع بعضها ، وهذا أفضل كما أشار إليه المصنف -رحمه الله- .
هذا بالنسبة لوقت الأفضلية والجواز، يستمر وقت الجواز إلى الصلاة ، فإذا صلى الصلاة فقد انتهى وقت إخراج زكاة الفطر ، لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال في الحديث الصحيح : (( فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات)) .
[ ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد ]: لأنها واجبة وفريضة فلا يجوز تأخيرها عن الوقت المعتبر .
[ ويجوز تقديمها عليه بيوم أو يومين ]: لثبوت السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بذلك .
[ ويجوز أن يعطي الواحد ما يلزم الجماعة والجماعة ما يلزم الواحد ] : ويجوز أن يعطي الواحد ما يلزم الجماعة إذا كان غناءا له والعكس أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد ، لو أنه جاء إلى بيت فيه فقراء ، وعنده فقط صاع واحد يجوز أن يعطيه لهؤلاء ، وهكذا لو كان رب الأسرة محتاجا وكفايته بالصاعين والثلاثة والأربعة فيعطي رب الأسرة ما للأربعة والخمسة فلا بأس في ذلك ولا حرج فيه ؛ لأن المقصود الغناء .(3/487)
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب إخراج الزكاة . لا يجوز تأخيرها عند قرب وجوبها إذا أمكن إخراجها ]: الزكاة فريضة من الفرائض العظيمة ، ولا يجوز التلاعب بها ، والتساهل في إخراجها ، لأن النصوص في الكتاب والسنة جاءت بالوعيد الشديد في التساهل في هذا الحق العظيم ، فإذا وجبت على المسلم الزكاة يجب عليه أن يبادر وأن يؤديها ؛ لأن الأمر على الفور وقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه صلى بأصحابه العصر ، ثم قام يتخطّى الرقاب مستعجلا ، ثم قال : (( ذكرت تِبْرا في بيتي -أي من الذهب- وأردت إخراجه )) وهذا يدل على حرصه – عليه الصلاة والسلام – وفي السنة ورد أن مال الزكاة لا يكون بين مال إلا أهلكه - والعياذ بالله- وهذا المراد فسره بعض العلماء أن تكون عليه الزكاة ويمتنع من إخراجها ، فهذه العشرة آلاف التي هي زكاة عليه ، إذا بقيت في ماله أهلكت ماله -والعياذ بالله - طال أو قصر الزمان مع أنه معذب بذلك ، وهذا أمر عظيم تأخير الزكاة لا يجوز ، والواجب على الأغنياء أن يبادروا بإخراج الزكوات، فإن اعتذروا بأنهم لا يعرفون الفقراء فالواجب عليهم قبل حولان الحول أن يسألوا أهل الخبرة وأن يتحروا وأن يهيئوا أنفسهم .
يا سبحان الله ! لو أراد التاجر منهم مَوْسما من المواسم لوجدته يهيّئ لموسمه ، ووجدته يسبق الموسم بكل ما يستطيع لكي يصل إلى درجة الكمال والغَنَاء ، فكيف بحق الله -- عز وجل -- ، وما قدروا الله حق قدره ، ولذلك لا عذر في تأخير الزكاة ؛ إلا في مسائل مخصوصة ذكرها بعض العلماء وهو مثل أن لا يوجد أصلا محتاج تكون مثلا في موضع ولا يوجد فقير فينتظر وجوده أو يؤخرها حتى يبعث بها إلى من هو مستحق . أما الأصل فيقتضي المبادرة.(3/488)
قال رحمه الله : [ فإن فعل فتلف المال لم تسقط عنه الزكاة ] : فإن فعل فأخر الزكاة فهو آثم شرعا، وإذا اطلع عليه الإمام ألزمه أن يبادر وإلا عزّره وأدبه وأخذها منه بالقوة ، فلا يجوز تأخير الزكاة ولا المماطلة فيها ، فإذا تأخر عن إخراجها ؛ ثم جاءت مصيبة فاحترقت أمواله أو سرقت أمواله فإن الزكاة واجبة في ذمته . شخص عنده مبلغ من المال ، ثم وجبت عليه الزكاة عشرة آلاف ريال فتساهل ولم يخرج العشرة آلاف ريال، فجاءت مصيبة فأخذت ماله كله، فالعشرة الآلاف دين في ذمته ، لا يبرأ إلا بإعطائه لمستحقه؛ قال تعالى : { وفي أموالهم حق معلوم} فهو الذي قصر في إيصال الحق فيجب عليه ضمانه كحق المخلوق إذا وجب عليه فإنه لا يسقط لما ذكر ، فلو كان لأحد عليه دين عشرة آلاف ريال، ثم تلفت أمواله لوجب عليه أن يسدده ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فدين الله أحق أن يقضى )) .
قال رحمه الله : [ وإن تلف قبله سقطت ] : وإن تلف قبل الحول سقطت الزكاة ، وحينئذ لا يجب عليه ا لإخراج إلا بحولان الحول وتمامه حتى يخاطب بالإخراج ، فإذا تلف ماله قبل الحول فإنه لم تجب عليه الزكاة ، فتسقط عنه .(3/489)
[ ويجوز تعجيلها إذا كمل النصاب ] : إذا كان هذا حكم التأخير فالتعجيل ما حكمه ؟ التعجيل أن يخرج الزكاة قبل حولان الحول ، ولا يخلو إما تعجيل لسنة أو تعجيل لأكثر من سنة ، فإذا أراد أن يعجل الزكاة يشترط أن يكون المال قد بلغ النصاب ، فلا تعجيل في مال لم يبلغ النصاب؛ لأن سبب الوجوب لم يوجد ، فيجوز له أن يعجل بعد تمام النصاب وقبل تمام الحول ، والأصل في ذلك قبول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لزكاة العباس عمه -- رضي الله عنه -- وقد عجلها، فيجوز له أن يعجل ، ثم له أن يعجل السنة والسنتين والثلاث، من أمثلة هذا ، لو حصلت مثلا كارثة لفقراء وضعفاء وأيتام وبائسين ومساكين وعند الشخص أموال زكاتها عشرة آلاف ريال ، ونظر إلى هذه الكارثة ونظر إلى هؤلاء المعوزين والمعسرين أو رب أسرة وقع في دين وسجن وأراد أن يخرجه من السجن وعليه دين مثلا ثلاثون ألف ريال . الزكاة عشرة آلاف ريال للمال الموجود عنده ، فقال: سآخذ ثلاثين ألف أنوي بها الثلاث السنوات أو آخذ عشرين ألفا وأنوي بها السنتين ؛ صح ذلك وأجزأه .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز قبل ذلك ] ولا يجوز قبل بلوغ النصاب ؛ لأن السبب ليس بموجود .(3/490)
قال رحمه الله : [ وإن عجلها إلى غير مستحقها لم يجزه ] : فإن عجلها إلى غير مستحقها لم يجزه ولو صار عند الوجوب مستحقا . هذه المسألة : من عجل الزكاة أو أداها في وقتها أو أجلها فالواجب عليه أن يعطيها لمستحقها ، هذا بلا إشكال أنه يجب عليه أن يعطيها لمستحقها ، لكن صورة المسألة عندنا : لو أن شخصا قال: أريد أن أعجل زكاتي ، فأخذ عشرة آلاف ريال ، زكاته عشرة آلاف ريال فأعطى لشخص لا يستحق الزكاة ، وهو يعلم أنه لا يستحق ، ولما انتهت السنة وجاء الحول إذا بهذا الذي أعطاه العشرة آلاف صار مستحقا ، فعند الإعطاء في التعجيل لم يكن مستحقا ، فلما حال الحول صار مستحقا ، إذن يرد السؤال : هل يصح أولا ؟ والجواب : العبرة بوقت الإعطاء ، فإذا كان وقت الإعطاء غير مستحق لم تصح زكاته ، ويجب عليه قضاؤها ولو صار وقت الوجوب مستحقا ؛ ولذلك لو أعطاه في وقت الإعطاء عشرة آلاف وهو مديون ثم سدد بها دينه ثم فتح الله على هذا الشخص فتاجر وانفتحت عليه الدنيا وأصبح عند حولان الحول غنيا صحت الزكاة ؛ لأن العبرة بوقت الإعطاء وقد وقعت في موقعها ، وأما الأولى فألغيت لأنها وقعت في غير موقعها فلا تصح سواء آل إلى الحاجة وتحقّقت فيها الصفة أو لم يؤل إليها وبقي على الغناء فالحكم واحد .
قال رحمه الله : [ فإن عجّلها إلى غير مستحقها لم يجزئه ؛ وإن صار عند الوجوب من أهلها ]: لم يجزه وإن صار عند الوجوب تضع على الفاصلة نقطة تحتها وهذا يعني ارتباط الجملة الثانية بالأولى ، فليس موضع وقف، لم يجزه وإن صار عند الوجوب مستحقها . طبعا لم يجزه عموما سواء صار مستحقا أو ليس مستحقا .(3/491)
قال رحمه الله : [ وإن دفعها إلى مستحقها فمات أو استغنى أوارتد أجزأته ] : العكس ؛ لأن العبرة بوقت الإعطاء وقد تقدم هذا ، زولان صفة الاستحقاق بالموت لو مات أو ارتد أو استغنى فإن هذه كلها توجب عدم دفع الزكاة ، فهو حوله في رمضان ، وجاءه شخص في شعبان ، وقال له : أريد منك عشرة آلاف ريال أنا عندي دين ، بحث في أسباب الدين ووجده دينا شرعيا يعني لا سفه ولا إسراف ولا محرّم ، وجده صاحب أسرة استأجر له شقة ليس فيها بذخ ، سكن له ولأولاده ، فلزمته العشرة الآلاف ريال ، فدفع العشرة الآلاف ريال سدادا لدين في هذه الشقة ، فلما جاء رمضان توفي هذا الرجل وقد أخذ الزكاة وحينئذ هل هذا يؤثر؟ نقول : لا يؤثر، فإن العبرة بوقت الإعطاء ، أو ارتد -والعياذ بالله – فالكافر ليس من الذين تدفع لهم الزكاة بالإجماع، فلا يجزئ دفع الزكاة للكافر، واختلف في أهل الذمة في زكاة الفطر هل يعطون أو لا ؟ لأن زكاة الفطر بعض العلماء يجيز –كالحنفية- إعطاؤها لأهل الذمة؛ لأنه يجوز التصدق على اليهود والنصارى إذا كانوا تحت المسلمين كما تصدقت عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح مسلم في قصة اليهودية ، لكن الزكاة الواجبة هنا لا إشكال في أنه إذا ارتد ليس من أهل الزكاة ، فالكافر لا يستحق أخذ الزكاة . فالشاهد في المسألة أن يزول الوصف الموجب لدفع الزكاة إليه عند حولان الحول . نقول : صحت الزكاة ؛ لأنه دفعها على الوجه المعتبر وإن اختل حاله بعد ذلك .(3/492)
قال رحمه الله : [ وإن تلف المال لم يرجع على الآخذ ] : وإن تلف المال : طيب هو زكى هذا المال الذي عنده جاءه محتاج في رمضان وحوله في محرم وقالوا له : أريد منك عشرين ألف ريال ، أنا مديون ومحتاج –غارم- فقال له : هذه العشرون ألف ريال وعجلها وحوله في محرم ، ثم لما جاء شوال ، جاءت مصيبة فأخذت مال صاحب الزكاة فنقول: لا يرجع بالعشرين على من دفعها إليه، فإنه يملكها بالأخذ، وقد اختار التعجيل فصار ملكا لمن أخذها بالقبض ، وحينئذ لا يلزمه أن يرد له العشرين التي دفعها في زكاته.
قال رحمه الله : [ ولا تنقل الصدقة إلى بلد تقصر إليه الصلاة إلا أن لا يجد من لا يأخذها في بلدها ] : هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة نقل الزكاة ، لو كان المال موجودا في المدينة هل يجوز أن يأخذ زكاة ماله إلى جدة ومكة وغيرها أو أنه يزكي في الموضع الذي فيه المال ؟
قولان للعلماء : أصحهما وأقواهما أنه يزكي المال في موضعه ، لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال لمعاذ -- رضي الله عنه - وأرضاه - : (( فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )) ولم يقل صدقة تجلبها إلي ، أو تردها إلى بيت مال المسلمين ، وإنما جعله مزكيا لها في موضعها، وهذا هو الأصل أن الزكاة حتى ذكر بعض العلماء أن الله جعل غناء كل قوم في فقراء كل قوم ومساكينهم ومحتاجهم في أغنيائهم ، فكل بلد يسد عوز بلده حتى يفضل الفاضل فيكون لغيرهم . أما الأصل يقتضي أن تخرج الزكاة في نفس البلد ولا يجوز النقل ولو كانوا أحوج ، هذا الأصل ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بذلك بردها إلى فقراء الأغنياء .
وهذا القول لا شك أنه أحوط إذا كان هذا هو الأصل فقالوا : الضابط مسافة القصر ، فيجوز لك أن تخرج فيما دون مسافة القصر تخرج إلى ضواحي المدينة والقرى المجاورة شريطة أن لا تصل إلى مسافة قصر ، هذا وجهها .(3/493)
وعلى هذا يجوز أن يخرج إلى القرى المحتاجة ، والمنبغي للأغنياء أن يتفقدوا الضعفاء وبخاصة في المناطق التي هي بعيدة عن السكان والمدن ، وأهلها أحوج ، وقد يكون فيها من هو أصلح وأتقى لله -- عز وجل -- وأكثر استقامة ومحافظة على دينه ، وقد يكون فيهم الفقير الشديد الفقر المدقع الذي إذا زكى ماله كان أبلغ ما يكون من وضع الزكاة في يد مستحقها ، فهذا واجب على الغني أن يتفقد وأن يسأل وأن يبحث عن المحتاجين . هذا هو الأصل، على كل حال فيجوز نقلها إلى من هم بجوار المدن شريطة أن لا يصلوا إلى مسافة القصر ، فإن عدم المحتاج في البلد الذي هو فيه جاز نقلها إلى غيرها ، واختلفوا على وجهين :
قال بعضهم : ينظر إلى أفقر المدن من المدينة التي فيها الزكاة .
وبعضهم قال: بل ينتقل إلى حيث شاء ويخير ولا يلزمه الأقرب . هذه مسألة معروفة عند العلماء عند انعدام الأصل هل ينظر إلى أقرب شيء إليه أو يبقى الحكم عاما ، يتفرع على هذه المسألة مسألة المحتدة إذا كان لزمها الحداد ، يجب أن تبقى في بيت زوجها ، لو كان بيت زوجها في مكان تخاف على نفسها فيه ، وقلنا لها : يجوز أن تنتقل، فهل نقول لها الخيار أن تعتد حيث شاءت أو أنها تنظر إلى أقرب المدن وأقرب البيوت إلى بيت زوجها ، هذه المسألة مشهورة عند أهل العلم –رحمهم الله – هل الإسقاط كلي أو ينظر بقدر الضرورة والحاجة فيلزمه ما قرب ؟ .
الأسئلة
السؤال الأول : فضيلة الشيخ : ما المراد بقول العلماء : حكم الصداق كحكم الدين وجزاكم الله خيرا ؟
بسم الله . والحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(3/494)
فشرحنا هذه العبارة وبيّنا أن الصداق يأخذ حكم الدين ، فإذا كان الزوج قادرا على أن يدفع الصداق للمرأة إذا كان دينا عليه ولم يكن معلقا على طلاق أو نحو ذلك ، فإذا كان دينا في ذمة الزوج ، فحينئذ يفصل على التفصيل الذي ذكرناه ، إن كان الزوج قادرا على أن يسددها وماطلها ومانعها وهي غير قادرة عليه فحينئذ لا تجب عليها الزكاة ، وإذا أعطاها إياه في أي سنة من السنوات ولو بعد سنوات زكّته لسنة واحدة ، وأما إذا كانت قادرة على أخذه منه والحياء يمنعها فالحكم كحكم المال الذي بيد المديون وتستحي أن تطالبه فيجب عليك أن تؤديه؛ لأنه في حكم المال الذي في يدك ، وأما إذا كان الزوج فقيرا ولا يستطيع أن يسدد فحينئذ لا يجب عليها أن تدفع زكاتها . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني : ما حكم إعادة قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة عمدا أو سهوا . وجزاك الله خيرا ؟
هذه المسألة تعرف بإعادة الركن في الصلاة ، فإذا أعاده سهوا وكرر الفاتحة مرتين يسجد سجود السهو البعدي؛ لأنها زيادة ، وقد بينا في أحكام سجو السهو الدليل على أن السجود للزيادة يكون بعد السلام وهو حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- قال في الصحيحين في قصة ذي اليدين ، وأما إذا كانت الزيادة عمدا فللعلماء في زيادة الركن عمدا منهم من يقول : كل زيادة ركن عمدا قوليا كان أو فعليا موجبا لبطلان الصلاة ، فالفاتحة ركن ، فإذا كررها مرتين كان كمن ركع مرتين، وكمن سجد ثلاث مرات متعمدا فإنه تبطل صلاته ، فالركن قوليا كان أو فعليا إذا كان كرر على هذا الوجه يوجب بطلان الصلاة ، ولاشك أن الأحوط أنه يحتاط في إعادة صلاته . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : من كبر لصلاة الوتر وأذن عليه الفجر قبل أن يركع فهل يتم شفعا أو وترا وجزاكم الله خيرا ؟(3/495)
من كبر لصلاة الوتر وأذن عليه الأذان قبل أن يركع ؛ فحينئذ يتم الصلاة شفعا ؛ لأنه لا وتر بعد أذان الفجر ، إذا لم يركع فإنه يتمه شفعا ، فيجعله نافلة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( أوتروا قبل أن تصبحوا )) وقال : (( صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة )) . وقال صلوات الله وسلامه عليه : (( إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وجعل لكم ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر )) فدل على أنه إذا دخل وقت الفجر، انتهى وقت الوتر ، فإذا أذن المؤذن قبل أن يركع لم يدرك وقت الوتر ؛ لأن العبرة بإدراك الوقت بالركوع ؛ والدليل على ذلك قوله -- صلى الله عليه وسلم -- : (( من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ، ومن أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح )) فجعل إدراك الوقت بإدراك الركوع ، والركعة تدرك بإدراك الركوع ، لقوله عليه الصلاة والسلام : (( من أدرك الركوع فقد أدرك السجود ومن أدركهما فقد أدرك الركعة ، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة )) فجعل الإدراك مبنيا على الركعة ، فمن كبر وانتهى من ( راء ) أكبر قبل أن يبدأ المؤذن بأذان الفجر جاز له أن يتمه وترا ، فإذا ركعت ثمّ أذن للفجر وأنت في الركوع رفعت ودعوت دعاء الوتر وإن شئت أن تترك القنوت ثم تسجد وتسلم من ركعة واحدة ، لأنك أدركت وقت الوتر ، أما إذا أذن عليك وأنت قد قرأت الفاتحة ، ولم تقرأ السورة أو قرأت الفاتحة والسورة ولم تكبر للركوع فتتم شفعا كما ذكرنا
وذهب بعض الصحابة -رضي الله عنهم- إلى القول بجواز إتمام الوتر بين الأذان والإقامة من الفجر وهو مذهب مرجوح .(3/496)
والصحيح أنه إذا فاته الوتر على الصفة التي ذكرناها قضاه بعد طلوع الشمس وقبل زوالها، ففي الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( من فاته حزبه من الليل فصلاهما بين طلوع الشمس إلى زوالها كتب له كأنما صلاه من ساعته )) والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع : إذا قال لي رجل : هذا السلام أمانة في عنقك توصله إلى فلان فهل يعد هذا من الحلف بالأمانة أو قال لي : أمانة . السلام توصل إلى فلان . وجزاك الله خيرا؟
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فإذا قال لك : هذا السلام أمانة أو سلم لي على فلان أمانة في عنقك فمعنى ذلك أنه ائتمنك ، وسألك أن تبلغ فلانا سلامه ، وليس هذا من الحلف بالأمانة في شيء ، وإنما يكون حلفا حينما يقول له : أمانة عليك ، بالأمانة ، افعل كذا ، أمانة كما يقول بعضهم: بذمتك ، هذا كله لا يجوز أن يحلف ويقسم به بالأمانة أو بالذمة أو بغيرها ؛ بل الحلف لا يكون والقسم لا يكون إلا بالله أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته ، لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( فمن كان حالفا فليحلف بالله ، أو ليصمت )) ، فعلى هذا فإذا قال لك : سلم على فلان ، هذه أمانة أن تبلغه مني السلام تقول له : إن شاء الله إن كنت تستطيع وتؤجر على معونتك لأخيك على البر والطاعة ، فإن كنت لا تستطيع وتخشى أن تنسى تقول له : لا أستطيع أو تستثني وتقول: إن شاء الله إذا تذكرت أو إن شاء الله إذا لم أنسَ ونحو ذلك حتى تبرأ ذمتك . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس : والدي رحمه الله وغفر له وأسكنه الجنة وجميع المسلمين قد مات قبل أيام وكنت بارا به وقبل موته بيومين كان يقول : إني راض عنك في الدنيا والآخرة فما واجبي نحوه الآن بعد موته وجزاكم الله خيرا ؟(3/497)
أولا : أسأل الله العظيم أن يعظم أجرك، وأن يحسن عزاءك وإخوانك وأهلك في مصابكم في والدكم . وأسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويغفر لموتى جميع المسلمين وأن يجبر كسر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أجمعين.
أخي في الله : إن هذه نعمة من الله -- عز وجل -- عظيمة أن تكون بارا بوالديك ، وأن يبلغك الله -- عز وجل -- هذه الكلمة العظيمة : أن يشهد والدك بأنه راض عنك، فهنيئا لك على هذا الفضل من الله .
أوصيك أولا أن تحمد الله وتشكره حق حمده وشكره ، فهذه النعمة تقرحت الأجساد وضني الناس يطلبونها وقل من يظفر بها أن ينال رضوان والده ، وأن يسمع من والده الشهادة أنه راض عنه ، أو والدته. فنسأل الله من فضله العظيم .
وأما الأمر الثاني : أن تستديم هذا الشكر ببر أبيك بعد موته كما بررته في حياته ، فأصدق ما يكون البر بعد الموت بالصدقة والاستغفار والترحم وذكره بالجميل والكف عن مساوئه، وستر عورته ، ونشر فضائله ، والإحسان إلى أولاده وذريته ، وصلة أصحابه وأهل وده ومحبته ، هذا الذي أوصيك به أن تستمر على البر .
وكذلك أوصيك بعدم الغرور، فلا تغتر بهذه الكلمة ، واعتقد الفضل كله لله -- عز وجل -- واحمد الله -- عز وجل -- على هذه النعمة ، فمن برّ برّت أبناؤه وبرّت ذرياّته وبرّت زوجته ووفق لكل خير . فهنيئا لك بهذا الفضل العظيم الذي فضلك الله به .
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من البارين، وأن يتولانا برحمته وبره وإحسانه وهو أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
باب من يجوز دفع الزكاة إليه
قال الإمام المصنف –رحمه الله تعالى- : [ باب من يجوز دفع الزكاة إليه ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(3/498)
فيقول المصنف : [ باب من يجوز دفع الزكاة إليه ] : هذا الباب قصد المصنف –رحمه الله- أن يبين فيه أصناف الناس الذين يجب دفع الزكاة إليهم ، فلا يجوز صرف الزكاة إلا لأشخاص مخصوصين توفرت فيهم الصفات المعتبرة شرعا ، وحينئذ يكون دفع الزكاة على هذا الوجه واجبا ، وفي مقام اللزوم ، وأما قوله : [ من يجوز ] بمعنى أن الأصل أنها لا تدفع الزكاة لكل أحد ، ولما كان هؤلاء مخصوصين بالذكر من الله –- سبحانه وتعالى -- جاز دفع الزكاة إليهم ، فهناك طريقتان : إما أن نقول : من يجب دفع الزكاة إليهم وحينئذ نفهم أنه لا يجوز دفعها إلى غيرهم ، وإما أن يقال من يجوز دفع الزكاة إليهم على أن غيرهم يحرم دفع الزكاة إليه ، وتعبير المصنف بقوله : [ من يجوز دفع الزكاة إليه] أدق لأنه قد يجب دفع الزكاة إلى شخص ولا يمنع أن تدفع إلى غيره ، ومن هنا كان التعبير بالجواز إشارة إلى أصل الحرمة ، أي أن الأصل أنه لا يجوز لك أن تدفع الزكاة لكل أحد إلا هؤلاء يوصفون بكونهم من أهل الجواز ، وعلى هذا فإن الأصناف التي سماها الله في كتابه من مستحقي الزكاة هم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم ، وأما من عداهم فإنه باق على الأصل من حرمة دفع الزكاة إليه وإذا أخذها فإنه يأخذ مالا سحتا حراما والعياذ بالله وإذا دفع إليه الشخص وهو يعلم أنه لا يستحق الزكاة ترتب على ذلك حكمان:
الحكم الأول: الإثم.(3/499)
والحكم الثاني: عدم الإجزاء ، لأن صرف الزكاة لا يُعصى الله –- عز وجل -- فيه فلا يصرف إلا حيث أمر الله بصرفه ، وقد تكفل الله –- سبحانه وتعالى -- ببيان مصارف الزكاة من فوق سبع سماوات ، وهذا تعظيما لشأنها وبيانا لعظم حرمتها ، حتى يلتزم العباد بهذا الأصل الشرعي ، فلا يتلاعب الناس بهذا الحق الذي جعله الله –- عز وجل -- للأصناف الثمانية والأصل في ذلك قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم } هذه الآية الكريمة أجمع العلماء –رحمهم الله- على أنها هي الأصل في أصناف الزكاة ، وأن المنبغي صرف الزكاة لهؤلاء الذين سمى الله –- عز وجل -- ، أولا: وكون الله –- عز وجل -- يبين مصارف الزكاة هذا يدل دلالة واضحة على أهمية العناية والتنبه إلى أن الزكاة ينبغي أن لا يتقلد صرفها إلا من علم حكم الله –- عز وجل -- وفَقُه في دين الله –- عز وجل -- فعلم من الذي يحل له أخذها ومن الذي يحرم عليه أخذها ، حتى يضع الزكاة في موضعها ، فعناية النص بذكر الأصناف الثمانية تدل دلالة واضحة على أهمية الأمر ، بل وخطر الأمر وأنه لا يجوز التساهل فيه .(3/500)
ثانيا: أن الله صدّر الآية الكريمة بقوله : { إنما الصدقات } وإنّما أسلوب حصر هذا الأسلوب أسلوب حصر وقصر ، والحصر يفيد اختصاص الحكم بما ذكر ونفيه عما عداه ، بمعنى أن الزكاة لا تكون زكاة شرعية إلا إذا صرفت لهؤلاء الأصناف الثمانية . - فائدة ثالثة- أن قوله –تعالى- : { إنما الصدقات } يدل على أن صرف الزكاة ليس على سبيل الإطلاق في سبل الخير ، لأنه لو كان على الإطلاق في سبل الخير لقال إنما الصدقات في سبيل الله ولكنه عين وحدد ، ولذلك جماهير السلف والأئمة الأربعة والظاهرية على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلا لهذه الأصناف الثمانية وأن قوله تعالى : { في سبيل الله } ليس على إطلاقه ، وأن إطلاق سبيل الله في الكتاب والسنة المراد به الجهاد في سبيل الله –- عز وجل -- ، وعليه فلا يجوز صرف الزكاة في سبل الخير كطبع الكتب وتأمين الدعاة ونحو ذلك من وسائل الخير العامة هذه لها باب صدقات وباب نفقات خارج عن محل الزكاة ، أما الزكاة فإنها حق واجب حق معلوم للسائل والمحروم ، ومن سمى الله –- عز وجل -- في كتابه وبين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أمره . فأولا في قوله : { إنما الصدقات } يدل على الحصر والقصر ، وهذا يقتضي أن لا تكون سبل الخير بعمومها محلا لصرف الزكاة ، وهذا قول جماهير أهل العلم –رحمهم الله- ، وأئمة التفسير أشاروا إلى ذلك ، هناك قول يقول : وفي سبيل الله يجوز أن تصرفها لمن يريد الزواج يجوز أن تصرف زكاتك لمن يريد أن يسافر في دعوة أو في سبيل خير ويعمم في الزكاة لقوله تعالى : { وفي سبيل الله } وهذا ضعيف من عدة وجوه:
أولا : حصر الآية وقصرها كقوله : { إنما الصدقات } .(4/1)
ثانيا : أن قوله تعالى: { وفي سبيل الله } إذا أطلق في القرآن فنصوص الكتاب والسنة في الأكثر والأغلب لا تصرف في سبيل الله إلا إلى الجهاد في سبيل الله –- عز وجل -- فوجب حمل هذه الحقيقة الشرعية على المعهود وعند العلماء أنه إذا تعارضت حقيقة شرعية مع الحقيقة اللغوية قدمت الحقيقة الشرعية على الحقيقة اللغوية ، فإطلاق في سبيل الله على سبل الخير حقيقة لغوية ، لأنه سبيل الله طريق في طاعته ومحبته ومرضاته ، وفي سبيل الله على خصوص الجهاد حقيقة شرعية ، والقاعدة أنه إذا تعارضت الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية قدمت الحقيقة الشرعية لأنها هي المعهود ، وهي التي عند الإطلاق ينصرف اللفظ إليها ، كذلك أيضا من الأدلة من سياق الآية فإن الآية الكريمة قالت : { وفي سبيل الله وابن السبيل } فلو كان في سبيل الله عاما لجاء في صدر الآية صدر أو ختم بالآية ، فصار عطف خاص على عام أو عام على الخاص ، أما في لسان العرب فلا يعرف أنه يأتي بالعام بين الخاصين على الترتيب المذكور في الآية ، لأن هذا مستبشع لأن العرب لا تقول : ليدخل محمد والناس وعلي ، هذا ركيك لغة ، إما أن يقول ليدخل الناس وليدخل محمد ، { تنزل الملائكة والروح } فيعطف الخاص على العام دلالة على شرفه ، يقول لك أدخل الناس وأدخل محمدا فخص محمدا بين الناس لشرفه وفضله ومكانته كما قال تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها } فهذا عطف الخاص على العام أو يؤخر العام فيقول لك: أدخل محمدا فيقدمه لشرفه والناس أما أن يقول لك أدخل محمد والناس وعليا فهذا لا يؤتى بعام بين خاصين وعلى هذا الذي يظهر قول جماهير السلف والخلف والأئمة بأن الزكاة تختص بهذه الأصناف الثمانية وأن قوله : { في سبيل الله } خاص وليس بعام ، أيضا الآثار فإذا وجدنا الآن الآثار نجد مثلا حينما تطبع الكتب وتجد تطبع بالألوف ولاشك أن هذا سبيل خير وباب خير لكن له مجال آخر غير المجال الواجب ، فتجدها تطبع بعشرات(4/2)
الألوف بل بمئات الألوف ثم يأتي فترة توزع حتى يعطى من يستحق ومن لا يستحق ، ومن يقرأ ومن لا يقرأ ، ولو سأل طالب العلم نفسه كم من كتاب في مكتبته قرأ وهو يشتريه بالنقد ، فضلا عن أن يأخذه بدون نقد ، هذا كله سيكون على حساب الجائعين ، وعلى حساب الأرامل ، على حساب الأيتام على حساب ذي الفقر المدقع وذي الغرم المفزع على حساب المديونين والمعسرين والبائسين فهذا ينبغي حتى من ناحية النظر حتى ولو كان جائزا قدم من هو أحق ، إن الرجل إذا افتقر لربما وقع في الحرام ، والمرأة إذا افتقرت ربما وقعت في الحرام فلذلك ينبغي تقديم من هو أهم ، خاصة في أزمنة الفساد حتى ولو كانت الآية تحتمل هذا لما فتح بابه حتى يقدم ما هو أهم رعاية للأصول الشرعية ، هذا بالنسبة لمسألة من يجوز صرف الزكاة إليه أن الصحيح أنه خاصة بالأصناف الثمانية وأنها ليست بعامة وعليه فينبغي على كل من تولى صرف الزكوات أن يعرف من هم الأصناف الذين يجوز صرف الزكاة إليهم وما هي الصفات التي ينبغي توفرها فيهم وما هي ضوابط هذه الصفات ، فمثلا لو علم أن الفقير من أصناف الزكاة فيسأل عن حدود الفقر وضوابطه وهكذا المسكنة هذا أمر ينبغي على كل من تولى صرف الزكوات أن يعتني به ، كذلك أيضا ننبه على مسألة وهي أن بعض طلبة العلم وبعض الأخيار وبعض أئمة المساجد يحتسبون ويريدون الأجر نحسبهم ولا نزكيهم على الله فيتحملون هذه المسؤولية ، فلربما جاءهم من يعرض عليهم مالا ويقول لهم أعطوه هذه الزكاة أعطها للمستحق ، أو تجده هو يطلب من الغير ويقول من عنده زكاة فأنا أتولى صرفها فليعلم كل من يتحمل صرف الزكوات أنه يقف على شفير نار جهنم ، وأنها أمانة عظيمة ومسؤولية عظيمة وعليه أن يتقي الله –- عز وجل -- ويأخذ بالأسباب ومن الأسباب أولا أن ينزع من قلبه حب الدنيا لأن أناسا دخلوا في هذا الأمر فتوسعوا فيه حتى أكلوا مال الزكاة ، تحت التأويلات الفاسدة ، بل إن بعضهم يأخذ عشرات الألوف(4/3)
من الناس ثم يضرب ضريبة ويتخذ عنده الخمسة والستة الأشخاص ثم يقول لهم كل زكاة تأتيكم فخذوا منه الربع تحت اسم والعاملين عليها ، فإذاً لا يجوز لأحد أن يتلاعب في هذا الأمر ، ولا أن يستغل هذه الفتاوى الخاطئة في تحليل ما حرم الله ، الزكاة أمرها عظيم ، والنبي –- صلى الله عليه وسلم -- قام يتخطى الصفوف تاركا أذكار الصلاة معتنيا بتبرٍ وقال: (( ما ظن آل محمد لو أمسى وعنده هذا )) وقال : (( ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا تمسي علي ثالثة أو رابعة وعندي منه دينار أو درهم)) هذا في الشيء من الصدقات المستحبة فما بالك إذا كانت من الفرائض التي تقف فيها أصحاب الأكباد الجائعة والمعسرين والمعوزين ينتظرون حقهم الذي جعله الله لهم في هذه الأموال ، فعلى الذين يتقلدون هذه الأمور أن يعلموا أن المسؤولية عظيمة وأن الأمانة جسيمة فإذا حرص يحرص على أن ينجي نفسه من نار الله –- عز وجل -- وإذا عظمت المسؤولية عظم الثواب فيها وعظم الأجر ، فالأمين الذي يأخذ هذه الزكوات ويحرص على أدائها لمستحقيها أعظم أجراعند الله ، كذلك أيضا المبادرة فالبعض يأخذ مثلا زكوات الناس ويجعلها عنده شهورا ودهورا ويعطلها ويؤخرها بحجة أنه لم يجد أحدا فإذا أراد أن يتقلد هذا الأمر فليبحث عن مستحقيه وليعد بهم بيانا ويعرف كم سيصرف لهم ثم يأخذ على قدر حاجته ، وأذكر من كان يأخذ الزكاة فلا تمسي عنده ليلة فقد تكون مبالغ كبيرة لا يأخذها إلا بعد ما يعد للمستحقين أسماءهم كاملة ثم لا ينام ليلته إلا وقد وصل لكل مستحق حقه ، وهذا هو الذي ينجو به الإنسان من نار الله –- عز وجل -- نبين هذه الأشياء لعموم البلوى بها ، والعجيب أن الأخطاء تقع ولا يحس الإنسان بأنها خطأ وقد تجلس هذه الألوف المؤلفة سنوات بل إن بعض المنتسبين لأهل العلم جاء يشتكي للوارث ورثته أنه لما توفي وجدوا في بيته مئات الألوف وكان يأخذ الزكوات ويتولى صرفها ولكنه كان يماطل ويؤخر بحجة التشدد في الأمر(4/4)
حتى أصبح عنده مئات الألوف واحتار ورثته ماذا يفعلون بهذا ، وهم يريدون أن يخلصوا أنفسهم ويخلصوا مورثهم ، وقد يكون هذا بما ظنوا عن حسن نية ، لكن حسن النية مع الجهل مهلكة ، فإذاً وجب أن نعتني بهذا الأمر وأن ننبه طلاب العلم وعلى طلبة العلم أن يتناصحوا وإذا رأيت أخاك يتقلد هذا الأمر عليك أن تخوفه بالله –- عز وجل -- فإن الناس إذا أمنوا طلبة العلم وأمنوا الأخيار ينبغي أن يكون الأخيار وطلبة العلم عند حسن ظنهم ، وأن يكون فيهم من الورع والمحافظة أكثر مما يظن بهم من الخير نسأل الله أن يعصمنا جميعا بعصمته ، وأن يتولانا برحمته .
يقول رحمه الله : [ باب من يجوز دفع الزكاة إليه ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل في بيان الأصناف الذين ينبغي صرف الزكاة إليهم .
قال رحمه الله : [ وهم ثمانية: الأول: الفقراء، وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم بكسب، ولا غيره ] : هذا الباب طبعا مناسبته لما تقدم بعد أن بين فريضة الله شرع في بيان من الذي تصرف إليه هذه الفريضة ، فهذا الباب منبني على ما قبله ، وأخره عن زكاة الفطر وعن الزكاة كلها لأن الكل يشترك في كون مصرفه واحداً ، ولذلك مذهب طائفة من العلماء أن زكاة الفطر تصرف للأصناف الثمانية على تفصيل وضوابط عندهم من حيث الأصل العام الإجمال ومنهم من قال بحصرها على المساكين ، فعلى القول الأول إنها تشمل مصارف الزكاة حينئذ لا إشكال ، وعلى القول بأنها خاصة بالمساكين احتجوا له بقوله - صلى الله عليه وسلم - : (( أغنوهم عن السؤال يوم العيد وليلته )) والأولون يقولون إن هذا من …ذكر الفرق من أفراد الخاص والعام نص عليه في آية التوبة : { إنما الصدقات } وذكر الفرد من أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به كما تقدم معنا غير مرة .(4/5)
الأول: الفقراء، ومذهب الجمهور أن الفقير أشد حالا من المسكين ، ولذلك قدمه المصنف –رحمه الله- بالذكر وابتدأ به ، وقال الإمام أبو حنيفة النعمان –عليه من الله شآبيب المغفرة والرضوان- إن المسكين أشد حالا من الفقير لقوله تعالى : { أو مسكينا ذا متربة } فوصف المسكين بكونه أترب أي كأنه قد التصق بالتراب فليس عنده من شيء ، ومن كان بهذه الحالة فهو أضيق حالا من غيره ، والصحيح مذهب الجمهور أولا لأن الفقير هو الذي لا يجد شيئا أو لا يجد شيئا يقع موقعا من كفايته، هذا يحتاج إلى توضيح بمقدمة إذا جئت تبحث في ضابط الفقير والمسكين فليعلم أن هناك في معيشة الإنسان أمورا ضرورية وأمورا حاجية وأمورا تكميلية وتحسينية ، فالأمور الضروربة هي التي يتوقف تتوقف حياة الإنسان عليها ، لو أنه مرض مرضا أوشك فيه على الموت احتاج لعملية جراحية فإنه مضطر وفي حكم المضطر وحالته حالة ضرورة ولذلك دفع الزكاة إليه دفع في حال اضطرار ، فهي حاجة بلا إشكال ، ولكنها حاجة ضرورية في أقصى مراتب الرخصة ، ولو كان معه مرض وهذا المرض خطير كما في بعض أمراض القلب وفي بعض أحوال السكر احتاج إلى دواء وهذا الدواء إن لم يستعمله يهلك ، فحينئذ حاجته إلى هذا الدواء ضرورية ، طبعا هذه المرتبة يخاف فيها على نفسه أو يخاف فيها على عضو من أعضائه ، فألحق بعض العلماء بهذه الحالة الخوف على الأعضاء فلو أنه تأذى عنده عضو كطرف أصبعه حصل فيه مثلا تسمم أو شيء فاحتاج إلى بتر إذا لم يبتر سيبتر أصبعه كاملا ، وإذا لم يبتر الأصبع ستبتر اليد كاملة ، فحينئذ يكون مضطرا ، فأنزلوا وهكذا لو خاف على سمعه وابتلي بمرض في سمعه فيذهب السمع إن لم يعالج قالوا مضطر ، أو عمل عملية جراحية لعينه إذا لم تزل هذه المياه أو كذا سيعمى هذا مضطر ، إذا هاتان الدرجتان جعلها العلماء ومذهب الجمهور على أنها في مقام الضرورة ، خوف على النفس أو خوف على الأعضاء ، كل ما يلزم لدفع هذه الضرورة(4/6)
فهو مقام اضطرار ، النقطة الثانية الحاجة الحاجة تجعل الإنسان في ضيق وحرج لا يخاف فيها على نفسه ولا على روحه ولا على أعضائه يصل فيها إلى الضيق والعنت والحرج وهذا ما يجعله العلماء في مقام الحاجة مثل الآلام المبرحة والآلام المظنية بعض الأمراض فيها آلام لا يتمكن الإنسان فيها من النوم إلا بقلق ، وبعضها آلام تؤذيه في حال يقظته ، وبعضها آلام تؤذيه إذا مشى فتحدث عنده قلقا وضيقا هذه مقام الحاجة ، هذا بالنسبة لعلاج الإنسان ، طيب بالنسبة للضرورات في مأكله ومشربه ، الأكل والشرب تتوقف عليهما حياة الإنسان ، فإذا كان لا يجد شيئا بحيث أنه إذا لم يجد سيموت فقد وصل إلى مقام الاضطرار مثل أن يمر عليه اليومان ولا يجد طعاما فقالوا إن الإنسان يصبر ما بين يومين إلى ثلاثة وإلا يهلك فلو كان عندي زكاة ومررت على شخص بهذه المثابة لم يأكل من يوم أو يومين وليس عنده ما يأكله فهو مضطر ، ودفع الزكاة إليه في حال اضطراره ، ودعوى موجب الزكاة هنا توصله إلى مقام الاضطرار ، يكون مقام الحاجة يجد بعض الطعام لكنه لا يقيم أوده ولا يستطيع أن يقوم معه ويحصل مصالحه يأكل شيئا ليس بذي موقع في صحته وعافيته حتى يقوم لمصالحه، فتجد عنده كسرة من الخبز أو قليل من الطعام لكنه لا يستطيع أن يسد بها جوعه ، عنده طعام فلا يصل إلى مقام الاضطرار والموت ، لكن هذا الطعام لا يصل به أن يبلغ قضاء حوائجه أو يخرج لأنه على قدر الحياة والبقاء ، هذا المقام مقام حاجة إذا أعطيته ، من الحاجيات أيضا مثلا إذا احتاج لسداد فاتورة كهرباء ، الكهرباء تتوقف المصالح عليه إذا كان في المدن ، وحينئذ يحتاج لقضاء مصالحه فلو عاش في بيته بدون كهبراء أو قطع عليهم الكهرباء سيحيى فلم يصل إلى مقام المضطر ، لكنه يحيى بضيق تتعطل مصالحه ويحتاج في الصيف إلى ثلاجة أن يشعلها يحتاج في الشتاء إلى مدفأة ونحو ذلك إذا يصل عنده ضيق لكنه لا يصل لو كان بيته بهذه المثابة جاءك وقال(4/7)
عندي فاتورة كهرباء فإذا دفعت إليه دفعت له في مقام الحاجة لا في مقام الضرورة ، لكن قد تكون الكهرباء كمالية كما إذا كان في القرى والهجر ، ففي القرى غالب الناس يعيشون بدون كهرباء فحينئذ ينتقل الشيء من الحاجة إلى الكمال ، هذا يتأثر بالعرف وبالشخص نفسه ، السيارة حاجة لو قال مثلا : أنا أريدك أن تعطيني من زكاتك. تقول له : لماذا ؟ يقول لك والله أنا مديون. تقول له : ما السبب؟ قال: احتجت إلى سيارة فاشتريتها فوجدت أنه صاحب عائلة أو صاحب عمل أو عنده أولاد يدرسون أو نحو ذلك فيحتاج إلى أن ينقلهم ، وإذا لم ينقل نفسه وينقل أولاده سيحتاج أن يستأجر ، فاشترى سيارة هذا الشراء للسيارة ليس على سبيل الكمال وجدت أن السيارة تليق بمثله ، الغني يأخذ سيارة مثلا بمائة ألف المتوسط يأخذ بخمسين ألف هناك سيارة تقضي المصالح بعشرة آلاف فوجدته اشترى سيارة بعشرة آلاف دون سفه ولا تبذير ، ثم تسلف لشرائه ، هذه السيارة تقضي مصالحه فحينئذ هو محتاج لسداد دينه في مقام الحاجة ليس في مقام الضرورة ، فلا يموت إذا لم يجد سيارة ، الكماليات لو جاءك وقال لك: والله علي دين . ما سبب دينك؟ قال: والله فاتورة جوال طيب. لماذا أنت معك جوال؟ قال: والله الناس معه جوال، وأنا عندي جوال ، متشبع بما لم يعط ، لكن لو قال أنا امرأتي مرضت وهي في البيت واحتجت شريحة جوال اشتريت بمائتي ريال في هذا الشهر؛ لأني أخاف على زوجتي أخاف على أولادي أحتاج أن أتصل عليهم قال عندي مثلا أخرج إلى عملي بعيدا عنهم إذا هذا له ما يبرره ليس في سفه وليس في إسراف ، يفصل في هذه الأشياء حتى ينتبه لأن هذا يحتاج إليه في الفقير ، يحتاج إليه في المسكين ، يحتاج إليه في الغارم ، هذا كله لابد لطالب العلم أن ينتبه إليه حتى يستطيع أن يعرف من هو المحتاج ومن هو الخارج عن حدود الحاجة ، وعليه الفقير هناك شيء يسمى الكفاية وهناك شيء يسمى دون الكفاية وشيء يسمى فوق الكفاية ، فالإنسان(4/8)
إذا كان لوحده له حكم وإذا كانت معه عائلة وأسرة له حكم ، فإذا عال نفسه نظرنا فيه فوجدنا أنه يحتاج في بلده الذي يعيش فيه إلى عشرين ريالا يوميا لمأكله ومشربه ، فوجدنا أنه ليس عنده أي دخل ، ولا عمل قد يكون الإنسان كبير السن ما يستطيع أن يعمل وقد يكون مريضا ما يستطيع أن يعمل وليس عنده هذا القدر عشرين يشتري بها طعاما ، ما عندي شيء تقول هذا فقير ، لا يجد كفايته لا يجد شيئا من كفايته ، هذه أقصى مراتب الحاجة أن يكون ليس عنده من شيء يسد حاجته التي يحتاجها لنفسه ، وهكذا إذا كان عنده عائلة تحتاج إلى صرف بمائة ريال أو خمسين ريالاً أو ثلاثين ريالاً يوميا وليس عنده هذا المبلغ ، فحينئذ إذا لم يجد شيئا فهو فقير ، والفقر فيه ما هو مدقع وفيه ما هو فوق ذلك ، فإذا وجد من العشرين ريالاً ما دون النصف النصف عشرة ريالات فوجد تسعة ريالات ثمانية ريالات سبعة ريالات ستة ريالات ريالا واحدا فقد وجد بعض الكفاية الذي لا يقع موقعا متى يكون بعض الكفاية واقعا موقعا إذا جاوز النصف ، فإذا جاوز النصف فقد وقع موقعا من كفايته ، لكن ما حصلت الكفاية ، فأصبح ثلاث مراتب: الكفاية، وما دون الكفاية بما يقع موقعا وهو الذي هو فوق النصف ، وما دون الكفاية مما لا يقع موقعا وهو ما سفل عن النصف ، في هذه الحالة إذا كان الشخص لا يجد شيئا أو يجد شيئا لا يقع موقعا من كفايته فهو فقير ، إن كان لوحده قدرت نفقته ونظرت إلى نصفها فإن نزل عن النصف فهو فقير ، هذا مذهب الجمهور إما أن لا يجد شيئا أو يجد شيئا ليس بذي بال في كفايته، هذا هو الفقير لأن الله –- سبحانه وتعالى -- فرق بين الفقير والمسكين فبين أن المسكين يملك وقال - سبحانه وتعالى - : { وأما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } فوصفهم بالمسكنة مع وجود الدخل ، وكونهم مالكين للشيء الشاهد من هذا أن الجمهور يقولون الفقير أشد حالا من المسكين ، أولا : لأن الله قدمه في الذكر { إنما(4/9)
الصدقات للفقراء والمساكين } فدل على أن حاجته إلى الزكاة أقوى من حاجة المسكين .
ثانيا : أن الله استغنى بذكر المسكين عن ذكر الفقير { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } فدل على أن الفقير سيدخل من باب أولى ، { فكفارته إطعام عشرة مساكين } فاستغنى بذكر المسكين عن ذكر الفقير ، ولم يستغن بذكر الفقير عن ذكر المسكين ، فدل على أن المسكين أرفع حالا من الفقير حتى يشمل الفقير ومن هنا عبر بالمسكين لكي ينبه بالأعلى على ما هو أدنى منه .
ثالثا: أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( اللهم أحيني مسكينا )) وقال : (( اللهم إني أعوذ بك من الفقر )) فلا يمكن أن يسأل شيئا هو أشد مما استعاذ منه ، لا يمكن هذا وقوله : (( اللهم إني أعوذ بك من الفقر )) ثم يقول : (( اللهم أحيني مسكينا )) ومن هنا فهمنا أن الفقير أشد حالا من المسكين ، هذا بالنسبة للفقير هو الذي لا يجد شيئا أو يجد شيئا لا يقع موقعا من كفايته ، فمن توفر فيه هذا الوصف فهو من أهل الزكاة لقوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء } فإذا أُعطي يُعطى كفايته ، فيقدر له الكفاية ، يدخل في الفقير من كانت عليه يعني ديون تستغرق ماله وليس عنده سدادها وليس عنده دخل ، أو عنده دخل لا يفي ولا يمكن أن يكفي بسداد دينه ، حينئذ ننتقل إلى مسألة الغارم وسيأتي بيانها ، إذا الفقير ضابطه هو الذي لا يجد شيئا أو يجد ما لا يقع موقعا من كفايته.(4/10)
قال رحمه الله : [ وهم ثمانية الأول: الفقراء، وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفاية بكسب، ولا غيره ] : [ لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم بكسب أو بغيره ] إذا ممكن أن يكون الفقير عنده عمل فلو أن شخصا يشتغل باليومية ويوميته تسعون ريالاً وعنده زوجة وأولاد والزوجة والأولاد مصاريفهم ومصارفه معهم مثلا مائة ريال ، حينئذ لا إشكال لأن الدخل الذي يأتي لا يغطي نفقته ، لكن هذه التغطية فوق النصف فحينئذ يكون مسكينا ، ولا يكون فقيرا في هذه الحالة إلا إذا كان دخله دون نصف الكفاية كما ذكرنا ، فإذا وجد كسبا دون النصف مثلا هو الحاجة إلى مائة ريال فوجد الأربعين والخمس والأربعين والثمانية والأربعين وما دون فهو فقير ، فلا يجد دخلا يقع من كفايته سواء كان بكسب أو بغيره ، نص على الكسب حتى يفهم أن الفقير لا يشترط أن يكون لا كسب عنده ، بل إن من الناس من عنده كسب وجوده وعدمه على حد سواء ، من كثرة مصاريفه وكثرة ما يتحمله من النفقة ، إذا لو كان دخله تسعين ومصاريفه مائة فهو مسكين وليس بفقير ، ولو كان دخله دون النصف من كفايته فإنه فقير ، ذكر بعض العلماء أن الفقير ممكن أن يصل إلى نصف الكفاية ، ولكن ما ذكرناه هو الحقيقة يعني هو المنصوص عليه وكثير من العلماء الذين تكلموا على هذا أغفلوا التساوي والأصل في التساوي أنه يرجع إلى الفقر ولا يحكم بكونه مسكينا إلا إذا جاوز فوق نصف الحاجة ، هذا الأصل عندهم .(4/11)
قال رحمه الله : [ الثاني: المساكين، وهم الذين يجدون ذلك، ولا يجدون تمام الكفاية ] : إذا فالفقير تنظر إلى أمرين : الدخل عنده دخل أو لا ليس عنده دخل، وإذا كان عنده دخل هل يجاوز نصف النفقة أو لا يجاوز ؟ يشمل هذا الدخل اليومي والدخل الأسبوعي والدخل الشهري ، إذا جاءك شخص وقال لك أنا أريد من زكاة أنا من أهل الزكاة أنا فقير تسأله كم دخلك؟ قال: دخلي في الشهر ثلاثمائة ريال. طيب كم ولد عندك؟ قال: مثلا عندي خمسة أولاد وزوجة دخلك ثلاثمائة ريال كم تصرف على هؤلاء؟ قال: أصرف على هؤلاء مثلا سبعمائة ريال في الشهر تعرف أنه فقير ، لأن الثلاثمائة لا تصل إلى نصف دخله الشهري ، إذا يستوي أن يكون هذا في الدخل اليومي أو الدخل الشهري ، وهكذا لو كان دخلا أسبوعيا يشتغل في السبعة الأيام بالأسبوع ، إذا ممكن تقدير حال الفقير بالأيام ، ويمكن تقدير حاله بالشهور .(4/12)
قال رحمه الله : [ الثاني: المساكين، وهم الذين يجدون ذلك، ولا يجدون تمام الكفاية ] : [وهم الذين يجدون ذلك] يعني ما يجده الفقير، ويفضلون عليه يعني عندهم فوق النصف دخله ثلاثمائة ريال ومصروفه الذي يحتاجه خمسمائة ريال هذا مسكين وليس بفقير ، هو مسكين سيكون عنده عوز في المائتين والمائتان بالنسبة للخمسمائة دون النصف ، ولذلك لو كان دخله مثلا سبعمائة ريال ثلاثمائة ريال وكلفة المصاريف عليه خمسمائة ريال، فحينئذ نقول إن المائتين التي هي العوز والنقص لم تصل إلى النصف كما وصلت في الفقير وزادت ، إذاً المسكين يعكس حال الفقير ، فتجد الغالب فيه الكفاية ، والفقير الغالب في ما عنده النقص ، فلو قال أصرف على أولادي ونفسي بخمسمائة في الشهر ، والذي آخذ من الراتب أنا أشتغل باليومية آخذ كل يوم عشرة ريالات هذه ثلاثمائة ريال ، ثلاثمائة ريال من الخمسمائة تجاوز النصف فهو مسكين ، إذا يجد شيئا لكنه لا يصل إلى حد الكفاية ، فإذا لم يصل إلى حد الكفاية ولو كان ناقصا عليها بالقليل فإنه مسكين ، ولذلك تجد بعضهم مثلا راتبه سبعمائة ريال ودخله ومصاريفه سبعمائة وخمسين يضطر أنه يتسلف خمسين ريال ، فهو مسكين يجد غالب قوته ولكنه لا يستطيع أن يسد الحاجة في القوت والمصاريف اللازمة ، طيب هذا القوت لما يقول لك مصاريفي ثلاثمائة مصاريفي خمسمائة لابد أن تنظر أنها مصاريف رُشْد وليست بمصاريف سفه ، لأنه قد يكون مثلا هو لوحده كسبه أو دخله مائة ريال الذي ينفقه ثلاثمائة ريال هذا فقير ، إذا كان دخله مائة ريال ومصاريفه مائة وخمسين هذا مسكين ، لكن حينما تأتي وتنظر في المائة ريال التي يصرفها إن وجدتها مثل ما ذكرنا في الضروريات والحاجيات فلا إشكال ، لكن إن وجدت نصف هذه المصاريف في الكماليات رجعت إلى الخمسين ما ترجع إلى المائة كاملة ، إذا مسألة لابد فيها من دقة حتى يستطيع أن تحكم أن هذا فعلا مسكين ، وإلا قد يقول لك يا أخي أنا دخلي مائة(4/13)
ريال والذي أصرفه مائتين ، تقول له طيب كيف المائتان قال مائة ريال مصروفي ومائة ريال على الجوال ، وإذا به ما يحتاج جوال إذاً المائة هذه التي للجوال وجودها وعدمها على حد سواء ، وهو قد حصل الكفاية فليس بفقير ولا مسكين ، إذا لابد أن ينظر في مسألة الدخل ولماذا نحن مهدنا بقضية الضرورة والحاجة والكماليات ، ولذلك البعض يأتي ويقول والله أنا مديون أو غارم أو مسكين أو فقير تقول له لماذا؟ يقول لك: مصاريفي كذا وكذا وعلى طول إذا قال مصاريفي كذا وكذا أعطاه من الزكاة ، لا. بل تتأكد حتى تعذر إلى الله –- عز وجل -- ومن هنا يحكم بكونه فقيرا بهذا التفصيل . الأمر الثاني: يحكم بكونه فقيرا ومسكينا طبعا بعد أن عرفنا ضابط الفقير والمسكين تستطيع أن تتوصل إلى كونه فقيرا أو مسكينا إما باليقين أنت تستيقن أنه فقير أو تستيقن أنه مسكين جار لك تعرف مدخله ومخرجه ومصاريفه وحاله ، تعرف طبعه أنه إنسان محافظ وأنه إنسان رشيد يحسن التصرف في ماله ولكن عنده أولاد وعنده عالة وترى ظروفه صعبة وليس عندك أدنى شك أنه فقير وفي بعض الأحيان تجزم بأنه فقير فقرا مدقعاً ، فهذا يقين في نفسي إذا أعطيته فإنك قد أعطيت ببينة ولا تحتاج إلى أحد أن يشهد ولا أن تثبت لأنك على يقين ، وما علمه الإنسان فلاشك أنه أبلغ ما يكون حجة على نفسه ، الحالة الثانية يكون بغلبة الظن غلبة الظن أنك تنظر إلى أحواله فيغلب على ظنك أنه بمقام الفقير أو المسكين ، أو جاءك من تعرف في غلبة الظن بالصدق فأخبرك تعرف أنه غالب الظن أنه صادق ما جربت عليه كذبا، حينئذ لا تجزم لكن في غالب الظن تراه إنساناً صالحاً ديّناً مستقيماً وتعرف فيه الصدق جربته بالصدق فجاء وأخبرك أن عنده كذا وكذا من الظروف وهذه الظروف فعلا تؤهله للزكاة فحينئذ تكون حكمت بفقره ومسكنته بغالب الظن ، أيضا لو شهد الشهود قلت: والله، يا فلان أنا ما أعرفك هل عندك شهود يشهدون فعلا على ما ذكرت أوعندك من يزكيك(4/14)
فيما تقول فجاء باثنين ترضاهم بالتزكية أو شهود عدول وقالوا نعم هذا كان عنده تجارة كما أخبر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- (( ويقوم اثنان من ذوي الحجا فيشهدون لقد أصابت مال فلان جائحة)) فيأتون العدول ويشهدون هذه طريقة ثانية البينة التي تدل على صدق الدعوى ، أو تكون هناك وثائق تثبت مثلا عنده عقد إيجار موثق وتوصلت إلى أنه فعلا استأجر هذه الشقة وهذه الشقة مثلها يدفع فيه هذه الأجرة ، إذا ينبغي على من يتولى الزكاة أن يتأكد بنفسه أو بمن يثق به أو يطلب الحجج والأشياء التي تثبت صدق الدعوى ، على هذا إما أن تجزم أو يغلب على ظنك أو تأتيك البينة وإما أن تجزم بالعكس يعني ليس هو فقيراً أو شخص تعرف فيه الكذب، شخص تعرف دخله وتعرف مصاريفه، وأن فيه الكذب، وجاء وقال لك: أنا من أهل الزكاة، وأن علي مثلا مصاريف بخمسة آلاف ريال، ودخلي مثلا في الشهر ثلاثة آلاف ريال أريد من الزكاة. أنت تعرف أنه كذاب، وتعرف أنه لا يصرف هذا المصروف، فإذاً لا يجوز لك أن تعطيه ، وإذا أعطيته تعلم أنه كذاب فهذه ليست بزكاة ، ويجب عليك ضمان المبلغ كاملا ، إن وكلك أحد في دفعه فدفعت له الألف تضمن الألف لأنك تعلم كذبه ، إذا لا يجوز دفع الزكاة في حال يقيني بالكذب أو غلبة ظني ويجب علي أن أعطي المستحق في حال يقيني وغلبة ظني ووجود البينة بقي السؤال إذا شككت ما تستطيع أن تقول أنه من أهل الزكاة ولا تستطيع أن تقول ليس من أهل الزكاة فهل ترجّح جانب الإعطاء أو ترجّح جانب المنع ؟ الجواب لا يجوز لك الدفع في هذه الحالة جاء لك بوثائق وأوراق تشك فيها والرجل وجدت عليه أمارات تحدث الريبة فما وجدت شيء يحدث طمأنينة في صدقه ، تتوقف تقول ما أستطيع أن أعطيك الزكاة ، لو أعطيت في حال الشك هذه تضمن ، لأنه لا يجوز لك صرف الزكاة إلا إذا توفرت الصفة الشرعية ، ولا تتوفر إلا باليقين أو غلبة الظن ، فلذلك نص بعض العلماء على أنه إذا شك لم يجز له دفع الزكاة(4/15)
وعليه الضمان إذا لم يستبِن وعلى هذا فإن هذين الصنفين مجمع على كونهما من أهل الزكاة الفقراء والمساكين وضابط الفقر والمسكنة على الصفة التي ذكرناها ، إذا قلنا إنهما من أهل الزكاة فكم تعطيه؟ يعطى إلى أن يصل قدر الكفاية ، فلو كان مثلا العوز عنده والنقص عنده في إيجار البيت ويحتاج إيجار البيت بسبعة آلاف في السنة والنقص عنده في دخل السنة في ألفين ، أو ألفين وخمسمائة الذي هو نصف الأجرة فتعطيه نصف الأجرة ، وتعطيه على قدر ما يسد الكفاية ، وهذا يشمل طبعا اليوم ويشمل السنة ، مثلا لو كان الزكاة معك خمسمائة ريال وجاءك شخص عنده عائلة وأصابه عوز في أسبوعه وهذا العوز في حدود الخمسمائة ريال حتى يصل إلى قدر الكفاية ، تعطيه خمسمائة ريال ، لو عندك مثلا زكاة عشرة آلاف ريال وجاءك شخص عنده عوز في السنة في حدود ثلاثة آلاف ريال وقال أنا استأجرت شقة أو أخذت سيارة أو نفقات البيت أو كذا هذا آخذ منها بقدر كذا وكذا يعطى على قدر الكفاية ، يعني إلى أن يصل إلى سداد حاجته .(4/16)
قال رحمه الله : [ الثالث: العاملون عليها، وهم السعاة عليها، ومن يحتاج إليها فيها ] : [ الثالث العاملون عليها وهم السعاة] الجباة [ ومن يحتاج إليه فيها] يعني لحفظ الزكاة ولحفظ مالها ، العاملون عليها هم الذين سمى الله –- عز وجل -- فقال سبحانه : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها } العاملون عليها كان في القديم يبعث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- السعاة والجباة وهم رسل رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- إلى الناس ، فالزكاة من الإبل والغنم والبقر والأموال يقف الساعي على أصحاب الأموال ويقول له عندك كذا وكذا فأدِّ زكاتك كذا وكذا ، هذا الجابي يحتاج إلى مؤونة عنده كلفة ومؤونة في سفره وانتقاله بين المدن والقرى وأخذه للأموال وحملها لها ، هذه مؤونة فنص العلماء على أن الله –- عز وجل -- حينما نص على أصحاب الزكاة عنى هذا الصنف لوجود الحاجة إليه ، وهو يوفر للفقراء والمساكين وأهل الزكاة حقوقهم ، وحينئذ شرع أن يعطى من الزكاة ، العامل عليها على هذه الصفة يجبي إلى بيت المال ، ويجبي إلى ولي الأمر وكان - صلى الله عليه وسلم - يتولى أخذ الزكاة من هؤلاء العمال ثم يتولى صرفها، فالعمال في عهد النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يأخذون الزكاة ويأتون بها فطريقتهم طريقة مغنم لا طريقة مغرم بمعنى أنهم يجلبون إلى بيت المال ، وبهذا استحقوا أن يأخذوا مكافأة واستحقوا أن يأخذوا أجرة تعبهم وعملهم ، ومن هنا قالوا يقدر للعامل في جلبه على قدر عنائه وتعبه ، هذا هو الذي كان موجودا على عهد النبي –- صلى الله عليه وسلم -- والذي كان عليه العمل عند الخلفاء الراشدين أن السعاة والجباة يتكلفون مشقة بل قد يتعرضون للموت ، قد يتعرضون للهلاك يسافرون ويتغربون يتحملون المشاق ولذلك عطاؤهم في هذا على قدر تعبهم هذا هو الأصل إذا الجباة معناه أن الناس تحتاج إلى من يأتي إليهم ويقف على أموالهم ويحدد نصيب الزكاة ثم يأخذ منها(4/17)
، فهذا الأصل متفق عليه بين العلماء ، على هذا إذا أردنا أن نقول فلان عامل على الزكاة ينبغي أن تتوفر فيه هذه الصفة التي حفظت في عهد النبي –- صلى الله عليه وسلم -- والخلفاء الراشدين وجرى عليها العمل ، كل من يقوم على جلب أموال الزكاة والمحافظة عليها حتى إنها كانت إذا جلبت تحتاج مثلا إلى رعاة تحتاج إلى أناس مثلا قد يجلب مائة رأس من الإبل تحتاج إلى من يقوم عليها تحتاج إلى من يحلبها تحتاج إلى من يحفظها تحتاج إلى من يصونها كل هذه الأمور بمصلحة مال الزكاة ، هذا الأصل الموجود الآن من العاملين عليها شخص يجلس في بيته ولا يشعر إلا بمن قرع عليه الباب وأعطاه المبلغ وقال له أعط هذا للمسكين فصار من العاملين عليها ، يأخذ ربع الزكاة إن يتيسر الثلث! إن تيسر النصف! حتى -والعياذ بالله- ربما يغويه الشيطان ويأخذها كلها ، تحت اسم العاملين عليها ، أي عمل إذا نظرت إلى فقه المسألة وجدت أن هذا الذي وجبت عليه الزكاة مأمور أن يعطيها للمسكين ، كونه يذهب إلى شخص آخر ما أمره الله أن يوكل وما أمره الله أن يدفع إلى شخص آخر يضر بمصالح الفقراء لأن الزكاة إذا كانت خمسة آلاف ريال لهذا يوزّعها وهذا يوزّعها وكل واحد يأخذ منها كم يبقى من الزكاة ؟ وكل هذا على حق المسكين ، إذا جاء إنسان يجتهد أو يريد أن يطبق صفة يرجع إلى عهد النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ويرجع إلى هذه المصطلحات الشرعية ما هو ضابطها ، وما الذي عرف في زمان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- والصحابة ومن بعدهم ، من توفرت فيه الصفة جلب المال وحفظ مال الزكاة فهو عامل ، أما الوكلاء ففيهم إشكال عند العلماء –رحمهم الله- ، والتحقيق أن مثل هذا الذي يعني يأخذ الزكاة ويحبسها عنده ويذهب يفرقها وكيلا عن غيره أنه وكيل يريد أن يأخذ مال يأخذ ممن وكله يقول أنا سأوزعها على المستحقين ، عندي فلان وفلان وفلان وهؤلاء في القرى في الهجر في كذا سأذهب إليهم ، سأعطيهم من هذا المال(4/18)
وأريد مثلا مبلغ كذا وكذا ، سيحملني هذا في هذه الحالة لا إشكال ، مع أن الأصل في توزيع الزكاة أنها توزع في نفس البلد الذي هو فيه ، وبينا أن نقل الزكاة لا يجوز بخلاف الجبي الجبي يأتي من خارج وقد يسافر أياما فاختلفت صورة الدفع عن صورة الجلب ، ومن هنا ينبغي أن تضبط مسألة التوزيع متى يجوز للشخص أن يأخذ ، وإذا جاء شخص يريد أن يفتح مكتباً ويريد أن يأتي بموظفين ثم يأتي بإعلانات ثم كل هذا يحسب على الحق المعلوم الذي خصه الله للسائل والمحروم ، قالوا نحن الذين عرفنا الناس بالمساكين ، فنستحق أن نأخذ ، ونحن الذين نشرنا الإعلانات ونحن الذين فتحنا المكاتب لنعطيهم نقول: إذا وكّلكم الفقراء في هذا شيء آخر، وإذا وكلكم المساكين أن تجلبوا من الزكاة هذا شيء آخر ، لكن الله أمر المصدق أن يذهب بزكاتهم وأن يعطيها طيبة بها نفسه للمسكين لأن الله يقول : { وفي أموالهم حق معلوم } نضرب مثالا لو أن شخصا عمل عندك شهرا بخمسمائة ريال فمعناه أن له عندك خمسمائة ريال هذه الخمسمائة ريال شرعا تطالب بإعطائه إياها ، لو أن هذا الشخص مثلا ذهب إلى مكان ولم يطلب منك أن ترسلها إليه فجئت وقلت يا فلان اذهب إلى فلان وأوصل له الخمسمائة ريال ومصروفك وأنت ذاهب بالطيارة أو بالسيارة احسبه من هذا الخمسمائة ريال ، لما كان من حقك ذلك ، لكن لو قال لك ابعثها إليّ قلت والله ما عندي أحد يتبرع ببعثها إليك ولكن في شخص يقول أنه سيسافر ويحتاج إلى كلفة فيؤخذ من هذا الخمسمائة كذا وكذا قال لك أعطه صح هذه نقطة أنه ما يصح أنك تأخذ من مال الشخص والله يقول : { في أموالهم حق معلوم } معناه أن هؤلاء الفقراء وهؤلاء المحتاجون لهم هذا الحق كاملا غير ناقص ، هذا حق معلوم للسائل والمحروم هذا الأصل لهم ، النقطة الثانية لو سلمنا جدلا أن هذا الذي يوزع الزكاة يتعب في توزيعها هل كل الناس لا يمكن أن يوزعوا الزكاة إلا بعوض ؟ بمعنى أن هذا الغني لو أراد أن يعطي(4/19)
الفقير حقه ما في طريقة لإعطاء الحق إلا هذا السبيل حتى نقول إنه الزمان فسد ووجود الحاجة والضرورة ما نستطيع أن نوصل إلا بهذا الطريقة ، هذه مسألة يعني لو شرع وقيل إن العاملين عليها يدخل فيهم من يوزع ينبغي أن تبحث قضية فيقال لا يجوز أن يستأجر الموزع ويعطى مع وجود المحتسب وهنا الإشكال ، أن هناك من هو مستعد أن يوصل للفقراء احتسابا ، فلا يجوز أننا نضر بالفقراء بالبحث عمن نستأجره ، حتى لو برّر أن في العاملين عليها من يصرفها نقول بشرط أن لا يوجد المحتسب ، فإن مصحلة الفقير والنصيحة واجبة وعلى هذا نقول إنه ينبغي أن يضبط هذا الأمر بهذه الضوابط أن يكونوا من الجباة في المغنم لا في المغرم ، وعلى هذا يفرق بين جلب الزكاة وبين توزيعها ، ولاشك أننا نضيق في هذا بأننا وجدنا أمورا بدهية يعني لا يحتاج الأمر لو أن مائة ألف تؤخذ من الزكاة ويقوم الإنسان بتوزيعها يعني يمكن ما يكلفه الأمر عناء كثيرا يمكن خلال أيام معدودة يستطيع أن يعد بيانا بالمليون والمليونين للأشخاص المستحقين ويستطيع أن يضع إعلانا صغيرا لمن عليه دين في إجارة ويأتيه وينظر في هؤلاء الذين يطلبون إجارتهم وينظر هل يبقى من هذا المال شيء أو لا يبقى ، وكل هذا نقوله لأن حق المسكين والفقير لازم والله –- عز وجل -- جعل الزكاة بدون منة ، يقول بعض العلماء : إذا أعطى الغني الفقير زكاته فحرام عليه أن يذله ، حتى كان بعض السلف يتورع إذا أراد أن يعطي المسكين يضعها أمامه ، يقول حتى لا ترتفع يدي عليه لأن هذا حقه ، يقول ما أريد أن أذله يضعها على الطاولة يقول هذه زكاتك ، هذا مالك هذا حقك حتى لا يذله وهذا يؤكد حرص السلف والأئمة والعلماء وما عرف من خلال النصوص أن الزكاة حق ليس فيه منة ولا فضل إذا كانت كذلك فينبغي أن تصل كاملة غير ناقصة ، وأن تؤدى على الوجه الذي يرضي الله –- عز وجل -- لأنها إذا أديت بمهانة فهي ناقصة ولو كانت كاملة عددا ، وكذلك أيضا إذا نقص(4/20)
منها عدد فهي ناقصة غير كاملة وعليه فإن العاملين عليها هم الذين يقومون بجلب الزكاة أو حفظ مال الزكاة ، فإذا توفرت هاتان الصفتان فهم من أهل الزكاة ، السهم الذي يأخذونه يأخذون قدر عملهم ، يقوم الإمام بالنظر في تعبهم السعاة والجباة الذين يجمعون الزكاة في ضواحي المدن ليس كالسعاة والجباة الذين يسافرون ، والذين يسافرون إلى أماكن سهل الوصول إليها ليسوا كالجباة والسعاة الذين يكونون في أماكن خطرة أو وعرة وصعب سلوك مسالكها ونحو ذلك يقدر مثل أجرة مثله فيعطى حقه في ذلك .(4/21)
قال رحمه الله : [ الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم السادة المطاعون في عشائرهم الذين يرجى بعطيتهم دفع شرهم أو قوة إيمانهم ] : أجمع العلماء على أن المؤلفة قلوبهم صنف من أصناف الزكاة ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { والمؤلفة قلوبهم } والمؤلف قلبه إما أن يكون للإسلام حتى يسلم، وإما أن يكون لدفع شره وضرره عن المسلمين ، نوعان أما بالنسبة لمن يُعْطى لأجل أن يسلم فالناس ينقسمون كما ذكر أهل العلم –رحمهم الله- في قبولهم للإسلام على مراتب : منهم من تقنعه الحجة والبرهان ، ومنهم من يسلم طواعية بعد قهر السيف والسنان ، ومنهم من يؤلّف بالمال ، هناك من يجادلك ويناقشك حتى يصل إلى الحق ، فهذه نصوص الكتاب والسنة زاخرة ببيان الأدلة وكيف يقام الحق على المبطل ، فهذا يناقشه العلماء وتقيم عليه حجة الله –- عز وجل - - بالعلم والبصيرة ، قال تعالى : { قل إني على بينة من ربي } وقال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة } وقال تعالى : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } هذا مثله يتقلده العلماء ومن عنده بصيرة ونور من الكتاب والسنة ، القسم الثاني والنوع الثاني يقبل بالقوة وإذا كسرت شوكته ذل للإسلام ولذلك لما فتح النبي –- صلى الله عليه وسلم -- مكة أسلم أصناف من هذا الصنف لما رأوا أن الله أعز دينه ونصر نبيه –عليه الصلاة والسلام- أسلموا ، وقسم منهم يكون بين الإسلام والكفر ، منهم من يدخل في الإسلام رغبة بالمال ، ومنهم من يكون عنده رغبة ولكن المال يزيده رغبة ، فأصبح على الصورتين : من يتأثر بالمال وبالعطاء وبالإحسان مثل ما وقع للأعرابي أعطاه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عطاء عظيما فانطلق إلى قومه وقال يا قوم أسلموا فقد جئتكم من رجل لا يخشى الفقر –صلوات الله وسلامه عليه- فأسلم فلان قلبه ، القسم الثاني: يكون مسلم لكن يخشى عليه الفتنة فيعطى المال حتى يثبت على دينه ، ما السبب؟ هنا إشكال كيف نحن نعطيه(4/22)
المال من أجل أن يسلم؟ معنى ذلك أنه أسلم للمال ما أسلم لله ، والدين يقوم على الإخلاص ، توضيح هذه المسألة كما قرر عند المحققين من أهل العلم أن الإسلام نور وحق {قد جاءكم من الله نور } ما في ظلمة ولا في خطأ ولا في خلل ، لكن من الناس من تحجبه حواجب تضعف أمام الإغراء المادي فإذا زال هذا الحاجب ونظر في الحق قَبِل الحق لأنه حق ولم يقبله لأنه مال، فهو وسيلة للوصول إلى غاية يمعن النظر حتى يصل إلى قناعته الذاتية ، ولذلك هناك أناس من الصحابة أعطاهم النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يوم حنين فتألفهم للإسلام فأصبحوا من أقوى الناس شكيمة للإسلام والحق ، أسلموا مؤلفة فأصبحوا في الإسلام سادة ، ولذلك صاحب الحق لا يخاف ، يعني إذا أعطي هذا المال لا يعطى على أن كل ما أسلم نعطيه ونريد نعطيه كل شهر نعطيه كل سنة نعطيه حينئذ نكون نعطيه يسلم من أجل المال ، لكن أن نعطيه في المبتدأ ليشعر بحقيقة هذا الإسلام ولكي يهيأ له كما لو جاءك الكافر فأدخلته في بيتك فأكرمته وأطعمته وأحسنت ضيافته لترغبه في الإسلام ، هذا الإكرام والإطعام والإحسان ليس ليشتري بمعنى أنه يسلم من أجل أنك أكرمته ، لا تهيئة النفس أن تستجيب لأن النفوس جبلت على محبة من أحسن إليها ، وهذا طبع الكرام لا اللئام ، فاللئيم العكس إذا أكرمته والعياذ بالله أهانك وإذا أذللته أذلّك نسأل الله السلامة والعافية ، فكرام الناس إذا حصل لهم الكرامة تأثر ولذلك استخدم النبي –- صلى الله عليه وسلم -- جميع هذه الأساليب ، منهم من ضربه عليه الصلاة والسلام بسيفه ورمى عليه الصلاة والسلام بالجهاد في سبيل الله صلوات الله وسلامه عليه ، كسرا لشأفة الأعداء استجابة لأمر الله –- عز وجل -- له بالجهاد ، ومنهم من تألفهم النبي –- صلى الله عليه وسلم -- حتى بالفكاك والعتق ، فربط ثمامة بن أثال في المسجد فقال له : (( ما وراءك يا ثمامة، قال: إن تقتل تقتل ذا دم وإن تحسن تحسن على كريم لا(4/23)
ينسى ))، فمكث ثلاثة أيام حتى جاء اليوم الرابع؛ لماذا ثلاثة أيام أراه الإسلام وأراه المسلمين وليس هناك صورة للمسلمين على أجمل وأكمل وأطول ما إن تراءه مثل صورة مثل صورة الصحابة بين يدي رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، وإذا أردت أن ترى الأتباع لهذا الدين في أعلى مراتب الاتباع وأعلى مراتب السمع والطاعة والذلة لله ولحكم الله –- عز وجل -- وسرعة الاستجابة والتفاني والحرص والبصيرة بالدين والجهاد بحق فانظر إلى أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، فرأى شيئا هاله فجعله ثلاثة أيام ينظر ما هو الإسلام ، فلما رأى ما هو الإسلام وثق النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن إنسانا عاقلا وكريما وذا أصل وذا بصيرة وذا نور من الله –- عز وجل -- في عقله لا يمكن أن يرى هذا الشيء إلا ويرى أنه حق ، فأبى ثمامة أن يسلم وهو في القيد حتى لا يظن أنه دخل في الإسلام بذلة ودخل في الإسلام بمهانة ، فقال إن تقتل تقتل ذا دم لا يزال يصر على دينه كي يري النبي –- صلى الله عليه وسلم -- هذا ، والنبي –- صلى الله عليه وسلم -- أكمل الخلق عقلا وأكملهم فراسة وأكملهم علما ينظر إلى الرجل والرجل يعرف الرجل فنظر في وجه ثمامة وعرف من هو ثمامة ، والرجل يعرف الرجل فقال أطلقوا ثمامة ، فما كان منه إلا أن انطلق إلى الحائط واغتسل ثم وقف على رأس رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وقال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، والله يا محمد لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلي ، ودينك أبغض الأديان إلي ، فأصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، وأصبح دينك أحب الأديان إلي ، إذا معناه أنه ليس كل الناس يدخل في الإسلام بالقوة ولا بالقهر ولا بالمال والإغراء ، فجاء وأسلم عن طواعية ، معناه أن طبقات الناس تختلف ، معناه أن مدارك الناس تختلف ، هناك العزة الحمية العصبية كل هذا عالجه الإسلام ومنه مسألة المال للإسلام فهذه قضية مهمة حتى إن بعض المستشرقين أثار فيها(4/24)
الشبهة وقال إن المسلمين يشترون الناس ويغرّونهم ويرشوتهم للدخول في دينهم شاهت وجوههم ، ولذلك من الأدلة على حكمة هذا التصرف أن تسألهم وتقول لهم خرصت ألسنتهم أن الإسلام أعطى تأليفا ولكن بعد أن أخذوا العطاء الأول صاروا هم الذين يقدمون للإسلام ، وأعطوا للإسلام أرواحهم في سبيل الله –- عز وجل -- أعز ما يملكون ، لماذا؟ لأن هذا معناه مرحلة يراد بها تهيئة السبب لمعرفة الحقيقة ، فهنا الشبهة جوابها أن المراد بها دعوته للإسلام حتى تنجلي أمامه الحقائق -حقيقة الإسلام- ، وثانيا: إذا كان بين الإسلام والكفر فيعطى المال ، مثلا الآن شخص يريد أن يترك النصرانية ويدخل في دين الله –- عز وجل -- شخص لا ديني والعياذ بالله ملحد ما عنده دين يريد أن يدخل في الإسلام لكنه متردد متذبذب تارة يقول الإسلام حق وتارة يقول كيف أترك الإسلام وعملي ووظيفتي وأخسر كذا وكذا فيأتي من يعطيه مثلا مالا ويتألفه للإسلام عندها تقوى عزيمته على الحق ، فيضعف سلطان الشيطان عليه كيف تسلم وتترك المال وكذا فإذا تبين له الحق اطمأن قلبه وانشرح صدره وكان مسلما كما أمر الله ، فهذان النوعان يعطى ، هذا بالنسبة للتأليف للإسلام ، هذا النوع من التأليف الصحيح مذهب جماهير السلف والخلف على أنه باق إلى قيام الساعة، وأثر عن بعض الصحابة كعمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- أنه منع هذا السهم في أواخر خلافته وقال فيما نعطي وقد أعز الله دينه ، وهذا اختلف في تفسيره ، فقال بعض العلماء إن عمر يقصد به العموم وأنه لا تأليف بعد اليوم ، من أراد أن يسلم يسلم ومن أراد أن لا يسلم تحمل مسؤولية نفسه ، وهذا ضعيف والأقوى أن عمر قصد حالا في الجزيرة حينما فتحها الله –- عز وجل -- وأصبحت كما أخبر الله –- عز وجل -- أن فتح مكة سبيل لإسلام العرب ودخولهم في الإسلام فأعز الله دينه ، وبعد أن أعز الله دينه بلغ هذه العزة في عهد عمر مبلغا عظيما حتى سقطت دولة فارس ودولة الروم ،(4/25)
فأحس أن بعد اليوم ما يحتاج إلى تأليف أحد ، بالتأليف لكبار القوم وأعيانهم لأن سيف الإسلام مسلط ، فإذا أبى فإنه يقاتل ويجاهد في سبيل الله –- عز وجل -- حتى يسلم ويذعن للحق ، فحمل على هذا الوجه كقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( لا هجرة بعد الفتح )) المراد به أهل مكة أن يهاجروا إلى المدينة فهو عام أريد به الخصوص ، فيكون قول عمر عاما أريد به الخصوص ، وأيا ما كان فالنص عام شامل لزمان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وبعد زمانه ، والآية محكمة لا نسخ فيها وقول عمر لا ينسخ دلالتها يبقى التأليف إلى قيام الساعة ، بقي الصنف الثاني بقي النوع الثاني من صنف المؤلفة قلوبهم وهم أهل الشوكة وأهل القوة أهل الشوكة والقوة قد يعطون من الزكاة على تفصيل عند أهل العلم ، من أهل العلم من رأى أنهم في الأصل لا يعطون إلا من أجل أن يسلموا ، أو يثبتوا على الإسلام ، ومن أهل العلم من قال : إنه لو كان ذا شوكة وعزة ومنعة وقومه تحت يده فيهم رغبة في الإسلام أو فيهم عقل ويمكن التأثير فيهم حتى يسلموا فإنه يعطى لكي يتمكن من دعوة قومه ، حتى ولو كان على كفر في هذه الحالة لا يعطى لكي هو يتألف ، وإنما يتألف من وراءه ، وهذا ذكروا له بأعيان العشائر ومشائخ العشائر ونحوهم ممن لهم سلطة وقوة ، في هذه الحالة يسوغ إذا أردنا دعوة منطقة أو مكان وعليه إنسان ذو قوة وشوكة لا نستطيع أن نصل إلى قومه لدعوتهم إلى الإسلام إلا بمنعه ، ولا نستطيع أن نمنعه بالقوة ولكنه بالمال يستجيب ، قالوا يعطى وهذا العطاء ليس لتأليفه هو وإنما تأليف غيره ، وهذا الذي جعل بعض العلماء يضيق في المسألة والصحيح أن هذه المسألة تلحق المسألة الأولى لأنه إذا جاز إعطاء الشخص الواحد فمن باب أولى أن يعطى لإسلام من هو أكثر من شخص ، وعلى هذا يقوى أن يعطى أمثال هؤلاء ، يرد السؤال إذا قلنا بإعطاء هؤلاء هل العطاء يختص دعوة للإسلام أو يشمل عطاء البقاء بأن يكون له ذا شكوة وكلب(4/26)
فيتسلط على المسلمين تحته المسلمون مسلمون لكن يتسلط بقوته وأذيته وإضراره فيضر بالمسلمين ولربما يفتنهم في دينهم ، فهل يجوز أن نعطي مثل هذا حتى لا يضر بالمسلمين ، للعلماء وجهان : منهم من قال يعطى من الزكاة لأن الإبقاء على الإسلام أقوى من الدعوة للإسلام لأن هذا مسلم بحق وبقاؤه على الإسلام حتى لا يفتن في دينه ولا ينسلخ من دينه أقوى من أن نعطي شخصا ما ندري هل هو يسلم أو لا يسلم ، فهذا من باب أولى وأحرى ، ومنهم من قال بعدم الإعطاء والذين قالوا بعدم الإعطاء من الزكاة قالوا إنه لا يعطى من الزكاة ولكن يعطى من بيت مال المسلمين ، هناك في بيت مال المسلمين بنود أخرى يمكن أن يعطى منها ، وعلى هذا لو قيل إننا ننظر إن وسع بيت المال أن يعطى من غير الزكاة أعطي منها حتى نخرج من الشبهة وإن لم يسع قوي القول بإعطائه ، هذا بالنسبة لحاصل ما يقال في المؤلفة قلوبهم .
قال رحمه الله : [ أو قوة إيمانهم ] : المؤلفة قلوبهم المسألة الأخيرة في قضية كم يعطون ، هذا يرجع للقاعدة أن ما شرع لسبب يتقيد به ، فإذا كان أعطي لتأليف قلبه ننظر ما الذي يعين على تأليف قلبه، وإذا أعطي لكفاية شره ودفع ضرره ينظر كم يكفي لدفع شره ومنع أذيته للمسلمين .(4/27)
قال رحمه الله : [ أو قوة إيمانهم أو دفعهم عن المسلمين أو إعانتهم على أخذ الزكاة ممن يمتنع من دفعها ] : هذه المسألة الأخيرة إعانتهم على أخذ الزكاة ممن يمتنع من دفعها هذه ذكرها بعض الفقهاء هل يشرع دفع الزكاة لمن لا يتوصل إلى الزكاة إلا عن طريقه هو مقدم في قومه وزكاة قومه لا يمكن أن نأخذها إلا بعد أن يزاح من الطريق عنها ، هو واقف يمنع أخذها هذه صورة يكون المنع منه هو الصورة الثانية أن يكون الامتناع من عشيرته فهو له سلطان على هذه العشيرة فيعطى من أجل أن يفرض عليهم دفع الزكاة ، وكلتا الصورتين بينهم خلاف ، المسألة الأولى أن يكون مثلا لا نستطيع أن نصل إلى أهل الزكاة إلا بعد إزاحته ، فحينئذ قالوا يعطى من أجل الوصول إلى زكاة قومه ، في هذه الحالة ينبغي أن ينظر كم يطلب مع كم سيؤخذ من قومه ، فإذا كان مثلا يريد أن يأخذ مائة ألف وزكاة قومه أكثر من مائة ألف فلا إشكال خرّجها بعض العلماء على الأصل في إعطاء العاملين عليها أن الشريعة شرعت الأصل فأعطت العامل عليها بأنه يجلب فخسرنا بعض المال للحصول على ما هو أكبر وخرجوها على قصة موسى مع الخضر كسر لوح السفينة لاستبقاء السفينة فدل على جواز التضحية بقليل المال للوصول إلى ما هو أكثر لأن كسر اللوح يوجب بقاء السفينة وبقاء السفينة أعظم من خسارة هذا اللوح منها ، هذا بالنسبة إذا كان ما نستطيع أن نصل إلى قومه إلا عن طريقه ، الصورة الثانية أن يعطى من أجل أن يفرض على قومه دفع الزكاة ، وهذه لا إشكال فيها لأنها يكون في حكم المعين للوصول ويكون مثل السعاة في هذه الحالة يختلف عطاؤه أولا عن عطائه ثانيا لأن عطاءه ثانيا يكون بالأجرة ينظر إلى أجرة مثله ، والعطاء الثاني الأول ينظر إلى ما يطلبه ويقدر بين ما يؤخذ وما يطلب ، لكن الثاني يتقدر بأجرة المثل ، هذا بالنسبة لقضية إذا كان لا يمكن أن يتوصل إلى الزكاة من قومه إلا به ، لكن يبقى الإشكال في الصورتين لو أنه طلب(4/28)
مالا وهذا المال الذي طلبه أكثر أو مساوي للمال الذي سيؤخذ ، طبعا إذا طلب هذا في حالتين : الحالة الأولى يكون قومه وعشيرته يريدون أن يدفعوا الزكاة ، والحالة الثانية لا يدفعون ، فكونهم لا يدفعون الأمر أخف لكن إذا كان عندهم رغبة أن يدفعوا وهذا يمنع من الوصول إليه ، فبعض مشائخنا –رحمة الله عليهم- يقول : إذا منع من الوصول إليهم وعندهم رغبة فإننا حينما نأخذ الزكاة أو يأخذ ولي الأمر الزكاة يأخذ لإقامة فرض الله وهؤلاء عندهم الرغبة في الإقامة ، قال حتى ولو كلف هذا ضعف الزكاة لأنه يتوصل به إلى ركن من أركان الإسلام ، هذا على القول بلزوم دفع الزكاة إلى ولي الأمر ، فحينئذ يقول إنها فريضة وركن لا يمكن أن يتأتى إلا على هذا الوجه ، أما إذا قلنا بعدم لزومها الذي هو الوجه الثاني مخرج عند أهل العلم –رحمهم الله- فحينئذ لا يدفع له شيء ويؤمر أهل الإخراج بأن يخرجوها في موضعهم ويتكلف كل شخص بنفسه ، هذا بالنسبة لقضية الإعطاء وعدم الإعطاء ، أما إذا كانوا ممتنعين قال ما نستطيع أن نضحي لأن الذي يريد أن يدفع الزكاة ما يريد أن يدفعها وعلى هذا فلو طلب المثل أو أكثر فلا وجه للتكلف لأنهم ما يريدون أن يدفعوا ، لكن لو كان أكثر وأحظ لبيت المال تعلق الحق بالمساكين وبالفقراء لأنه سيكون هناك باقي ، أما إذا لم يبق شيء والمسألة عدل ومكافئة فحينئذ مادام أنهم لا يدفعون فيتحملون مسؤولية الامتناع عن دفع الزكاة .
قال رحمه الله : [ الخامس الرقاب وهم المكاتبون وإعتاق الرقيق ] : الصنف الخامس الرقاب فيدفع إلى الرقيق الذي يريد فكاك نفسه بقدر حاجته ، لو أن رقيقا كاتب سيده على عشرة آلاف ريال مقسطة على عشرة أشهر كل شهر يدفع ألف ريال ثم عجز عن كل العشرة أو بعضها يعطى بقدر عجزه ويعطى حتى المال كله حتى لو عجز عن المال كله يشرع أن يعطى المبلغ كاملا لقوله تعالى : { وفي الرقاب } أي في فكاك الرقاب .(4/29)
قال رحمه الله : [ السادس الغارمون وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح ] : الغارمون جمع غارم والغارم هو المديون ، والمديون له حالتان : الحالة الأولى أن يكون دينه على وجه الرشد لا على وجه السفه ، والحالة الثانية : أن يكون دينه على وجه السفه فأما إذا كان دينه على حال الرشد مثل أن يكون عنده مصاريف له ولأولاده فاحتاج أن يتسلف ويتدين لطعام أولاده كما لو أخذ من بقالة دينا بألف ريال وأصبح الدين في ذمته ألف ريال في طعام أولاده سواء شهر أو شهرين أو أكثر بلغت دينه في مطعمه ألف ريال ووجدنا الذي أخذه من البقالة أمور يحتاجها في أكله وأكل أولاده فهي أمور ضرورية أو حاجية ، شرع أن يعطى الألف سدادا لدينه ، وهكذا لو أنه استأجر شقة فسدد نصفها وبقي عليه النصف بقي عليه خمسة آلاف ، فإنه يشرع أن يعطى الخمسة آلاف الباقية ، وهنا ننبه على أن البعض يكون عنده مثلا زكاة مائة ألف ريال ويأتيه شخص ويقول له عندي إيجار شقة وهذه الشقة موثقة ويثق أنه صادق ويعلم أنه صادق بقي علي من الإجارة ثلاثة آلاف ريال وهذا عنده زكاة بمائة ألف ريال فلا يشعر إلا وقد أخرج مائة مائتين ريال وقال له خذ وسدد إجارتك ، هذا لا يسد شيئا عليه دين ثلاثة آلاف ريال ويعطيه المائة والمائتين بل منهم من أعطاه عشرين ريالا ذات مرة يقول له هذا من الزكاة وزكاته بالملايين نسأل الله السلامة والعافية العشرين ريالا لا تساوي أجرة سيارة يركب بها من المدينة إلى بيته ذاهبا آيبا ، فمثل هؤلاء الذين هم مديونون هم من أحق الناس للزكاة خاصة أن المديون الدين يكون فوق نفقته وفي بعض الأحيان يضطر إلى سجنه فيحبس عن أولاده ، وكم من أسر تشتتت ، وكم من أولاد فسدوا وكم من أولاد ضاعوا وكم من نساء وقعوا في المحرمات بسبب الديون التي وقعت على آبائهم برشد لا بسفه ، فأدخلوا فيها في ظلمات السجون لأن أصحاب الحقوق يطالبونهم بحقوقهم ، مسألة المديونين هي المسألة تكاد حتى تكون(4/30)
الأهم خاصة في زماننا مادام الدين ما فيه سفه ومادام يتسلف لولده وأهله ، ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه فدل على أنه مادام أنه يريد أن يتسلف بالمعروف فإن الله يعينه مثل هذا يعان وينبغي أن يقدم أمثال هؤلاء لأن الحرج في حقهم أكثر ، خاصة في زماننا في بعض الأحيان يأتي مطالبة بسجنه وقد يصدر الأمر باستدعائه لا يستطيع أن يذهب إلى عمله ، ولا يستطيع أن يذهب إلى وظيفته يذل هم في الليل وذل في النهار يذل أمام جيرانه كل يوم يأتيه مثلا من يطلبه من أجل أن يسجن أو يذل أمام زملائه في العمل كل يوم يقف على رأسه من يطالبه بالديون أو فلان حضر نريده يحضر عندنا أو كذا هذه أمور ينبغي أن تعطى الأولوية ولذلك أي لجنة تريد أن تقوم بالزكاة وتحفظ زكوات المسلمين ولي لها من الله ورجل مسلم صاحب عائلة في ظلمات السجون بدين يستحق أن يعان فيه ، من يستطيع أن يقف بين يدي الله وعنده زكاة وأمثال هؤلاء بهذه الحالة والمثابة ، أصحاب الدين هم من أحق الناس بشرط أن يكون الدين على الرشد لا السفه ، الرشد أن يصرف بالمعروف فيما فيه حاجته ، والسفه يكون بأحد أمرين : إما التبذير في المباحات أو والعياذ بالله المحرمات ، فلو أنه سافر إلى بلد لفعل الحرام أو أكثر من السفر إلى الخارج لفعل الحرام حتى ركبته الديون فهذا سفه في الحرام ، لكن لو أنه سفه في الحلال كان يشتري مثلا سيارة فخمة ويستأجر شقة غالية حتى ركبه الدين فهذا تبذير في الشهوة الحلال .
والسفه التبذير للأموال في شهوة ولذة حلال(4/31)
هي حلال مباح فما بالك إذا كانت حراما فمن باب أولى وأحرى ، في المباحات أن يشتري الطعام الذي هو فوق كفايته يسرف في المأكل يسرف في المشرب مثلا في الإجازة يسافر مع أن حاله ضيقة وليس محتاجا للسفر فيأخذ أولاده وكذا ويسافر فيغرم عشرات الألوف ويأخذ من الناس ويتسلف ، هذا تبذير وسفه لكنه في المباح ، إذا كان السفر في المباح ، والعكس إذا كان في حرام فإذا صار مديونا نظرنا على التأصيل الذي قررناه في حاجيات الإنسان الضرورية والحاجية والتكميلية ، فإن كان الدين في ضرورة وحاجة فهذا له حقه ونصيبه في الزكاة ، وإن كان الدين في غير ذلك ففيه وجهان : الحالة الأولى أن يتوب ويرجع إلى الله وقع في هذه المحرمات وأسرف وسفه والآن يريد أن يصلح نفسه ولا يستطيع أن يصلح حتى يعان بسداد دينه ، فإن صدق كان بعض مشائخنا يترخص في إعطاء الزكاة إليه ، كان يعني في القديم يفعل المحرمات ثم تاب ولعل الله أن يتوب عليه فأراد أن يصلح حاله وظهرت علامات الصدق أنه يريد التوبة والإصلاح فقد اعتبر واتعظ قال مثل هذا يعان ، لأنه تاب فيعان على التوبة والإصلاح ويستحق أن يعان الزكاة وله وجه هذا التخريج ، ومنهم من قال يبقى على الأصل ، فمن توبته أن يتحمل مسؤولية خطأه وأن لا يقحم على الضعفاء والفقراء والمحتاجين فيبقى على الأصل ، هذا بالنسبة للغارم ، ثانيا : طبعا الغارم مجمع على أنه من أهل الزكاة لنص آية التوبة { والغارمين } ثانيا يعطى بقدر سداد دينه ينظر إلى الدين مثلا عليه دين في إيجار شقته عشرة آلاف ريال سدد منها خمسة آلاف ريال وبقيت خمسة آلاف ريال ، يعطى الخمسة الآلاف الباقية ، وكما أن أصحاب الزكاة يخطئون في أهل الديون كذلك بعض أهل الديون يسرفون في طلب هذا الحق فتجد البعض إذا صار عليه دين في إيجار شقته يكون محتاجاً إلى خمسة آلاف قد يجمع بهذا السند خمسين ألفا وقد يأخذ من الأموال فوق حاجته فيستكثر من نار جهنم والعياذ بالله وعلى هذا لا(4/32)
يجوز لأصحاب الديون أن يتوسعوا في هذا الأمر ، كذلك بعضهم يكون عليه خمسون ألفا ويأخذ الخمسين ألفا أو نصف الخمسين ألف يجمعها ثم لا يعطي أصحاب الحقوق حقوقهم ، يكون عليه خمسون ألف فيجمع خمسين ألف ثم يأخذ خمسين ألف ويستمتع بها ولا يسأل عن صاحب الدين ، فكل هذه الصور خاطئة وأصحابها مسؤولون أمام الله –- عز وجل -- إذا أخذت الدين تسدد، وإذا حصل عندك سداد وامتنعت من السداد فأنت ظالم قال - صلى الله عليه وسلم - : (( مطل الغني ظلم )) يكون من الظالمين ولو قبضت روحه قبضت روحه على ظلم والعياذ بالله ، فهذا المال من أخذ المال على غير وجه مباح يستكثر به زاده الله قلة ، فعليه أن يتقي الله –- عز وجل -- إذا جاء وقال والله أريد هذا المال لسداد أهل الديون وأعطوه سدادا لأهل الدين يأخذه من يد ويعطيه بيد أخرى ، فيحرص على أن لا يستغل هذا الأمر وليت هذه المطالب عند الحاجة لما يكون الإنسان يحتاج إلى مبلغ لسداد دينه في علاج أو كذا إذا صدرت صكوك شرعية بإعسار هؤلاء ليتها توضع أرقام حسابات أصحاب الديون، ويوكل المديون الغني أن يسدد عنه ، لأنه ليست القضية أن نضيق على هذا أو هذا القضية أن لا يُضيق على المساكين ومن هو محتاج وأن يتأكد من وصول المال إلى صاحبه أو مستحقه ما أمكن فالغارمون عليهم أن لا يستغلوا استحقاقهم فيأخذوا فوق حقهم أو يأخذوا الحق ولا يعطوه لأصحاب الديون ، بل عليهم أولا أن يتقوا الله فيكون غرمهم على وجه شرعي ، وثانيا أن يطلبوا على قدر حاجتهم ، وثالثا أن يعطوا ما أخذوه إلى أصحاب الديون ويسددوا لهم .(4/33)
قال رحمه الله : [ أو لإصلاح بين طائفتين من المسلمين ] : الغارم يكون لنفسه وأهله وولده كما ذكرنا بالتفصيل والضوابط ويكون غارما لغيره كمشائخ القبيلة وأعيانها يحرصون على الصلح بين الناس ويحرصون على لم الشمل بين العوائل فتحصل بين أفراد القبيلة مشاكل أو بين أفراد البيت والأسرة والعائلة مشاكل فيتدخل الرأس أو الكبير منهم ويرضي هذا بمال من أجل أن يسكت أو قد تحدث خصومة ويؤذي بعضهم بعضاً فيحتاج إلى مال من أجل أن يُعطى المظلوم فأمراء القبائل، ورؤساء العشائر، ومشايخهم يبتلون بهذه الأشياء فيحتاجون إلى مال لإصلاح الفساد وللصلح بين الأرحام وللمّ الشمل فقد تركبهم حتى ديون بسبب هذا ، فيجوز دفع الزكاة إليهم ، يدفع لهم الزكاة الغارمون لإصلاح ذات البين ، لو أن شخصا له مكانة ومحبوب بين جماعته أو محبوب بين الناس ودخل بين اثنين متخاصمين ووجد أن هذا اعتدى على هذا وأنه لابد من الصلح والصلح يتوقف أن يُرضي صاحب الحق والذي اعتدى ما عنده قدرة أن يرضي فقال أنا أتحمّل هذا الدم أنا أتحمل هذا الجرح أنا أتحمل هذه الضربة في وجهي أنا أتحملها أنا المسؤول عنها تكفل بإرضاء صاحب الحق ، هذا الدم وهذا الجرح وهذه الضربة أو هذه الإهانة يعني احتاجت إلى رَضْوة بخمسة آلاف ريال ، احتاجت إلى رضوة بعشرة آلاف ريال ، فتحمل شيخ القبيلة هذا أو تحمل العم للصلح بين أولاد إخوانه هذه العشرة آلاف ريال فأصبح عليه هذه العشرة آلاف ، فجاء وقت الزكاة وعندي عشرة آلاف ريال ووجدت هذا النوع من الناس الذي يصلح أعطيه عشرة آلاف لأنه حق له في مال الله –- عز وجل -- ولذلك غارم لإصلاح ذات البين ، وهو ممن يلتمس مرضات الله –- عز وجل -- وأولى وأحق بأن يعان وهذا يدل على سماحة الشريعة وكمالها هيأت كل شيء للإصلاح بين الناس حتى الزكاة التي هي حق الله وفريضة يشدد فيها تدفع لمن يصلح بين الناس ، فكيف بمن يفسد الناس وكيف بمن يمشي بالنميمة وكيف بمن يفرقهم(4/34)
كيف بمن يضاد الله –- عز وجل -- ويعادي شرعه ، فالشرع يحرص على لم الشمل وهذا يحرص على التفريق ، فانظر كيف تجتمع جميع أدلة الكتاب والسنة على تأليف القلوب ، وتهيئة كل الأسباب حتى المال الذي هو عبادة ويحتاجه الفقير ويحتاجه المسكين يدفع من أجل جمع القلوب ،وهذا يدل على أن كل داعية وكل طالب علم وكل والد وكل مسؤول عليه أن يكون كالأب الرحيم بين المسلمين ، يجمع ولا يفرق ، يحبب ولا يبغض ، يكرم الناس بالصلح بينهم ويفتح عليهم ويكون باب رحمة ، من الناس من جعله الله رحمة بخلقه ، ما يأتي في مشكلة إلا حلّت على يده وأجرى الله الحل على يده ، ولا يأتي في خصومة إلا أصلحه الله به ، ولا يأتي في نزاع إلا جمع الله الشمل به ، هؤلاء مفاتيح للخير مغاليق للشر ، والعكس والعياذ بالله منهم من هو بالعكس إن جاء في دعوته إن جاء في خطبته إن جاء في منبره إن جاء في محرابه إن جاء في كتابته إن جاء في صحيفته ما يسعى إلا والعياذ بالله إلا على تبغيض الناس وإيقاع البغضاء والشحناء نسأل الله السلامة والعافية وكل ميسر لما خلق له، فللجنة أهلها وللنار أهلها ، وللجنة طلابها وللنار ورادها ، فنسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر ، فهؤلاء الذين يصلحون بين الناس يعانون على الصلح ويعطون من مال الزكاة ما يسددون به ديونهم ، لو أن شيخ القبيلة حصلت مشكلة بين أفراد القبيلة احتاج أن يدفع مائة ألف لإصلاحها ويعلم أنه ستسيل دماء وستقطع أرحام فدفع مائة ألف فيعطى من الزكاة مائة ألف ، ولو دفع مليونا ولكن ما فيها سفه ولا فيها مبالغة والشر عظيم أهون مما دفع فإنه يعان على ذلك ، وله حق في الزكاة.(4/35)
قال رحمه الله : [ السابع: في سبيل الله، وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم ] : [ السابع في سبيل الله] لقوله –تعالى- : { وفي سبيل الله } والسبيل هو الطريق في سبيل الله . أي: في طريق الله –- عز وجل -- الذي يحبه ويرضاه وهذا الطريق يوصل إلى الجنة وينتهي بصاحبه إلى الجنة ، وهو سبيل الجهاد في سبيل الله –- عز وجل - - لكسر شوكة أعداء الإسلام والمسلمين بضوابطه الشرعية الصحيحة التي يصدق عليها أنه جهاد شرعي ، لا بالمغالطة ولا بالكذب ولا باستباحة دماء المسلمين ومحرماتهم وإنما يكون على أصول شرعية بعيداً عن الهوى بعيدا عن العبث بالنصوص وحملها ما لا تتحمل ، موزون بميزان الشرع على أيدي العلماء وعلى أيدي الأهل للنظر والاجتهاد وفي نص الشرع ، هذا الجهاد الشرعي يحتاج إلى مؤونة لإعداد الغزاة وتجهيزهم للغزو في سبيل الله –- عز وجل -- ، وهذه العدة يحتاجها المجاهد في سفره وهذا ما يسمى بالجهاز فمن جهّز غازيا كان كمن غزى وتجهيز الغازي يكون بالمركب، وبالنفقة، وبالعدة والسلاح ، هذه كلها من تجهيز الغازي ، فأكمل ما يكون أن يجمع هذه الثلاثة ، فلو أراد السفر إلى ثغر من ثغور الإسلام للجهاد في سبيل الله فإنه يجهز بهذا ، قال هم الغزاة قوله في سبيل الله وهم الغزاة يدل على أن المراد بهذا الصنف المجاهدون وأن في سبيل الله ليست على عمومها بأن يعطى الذي يريد الزواج والذي يريد أن يطبع كتاباً والذي يريد أن يوزع منشور في ذكر ونحو ذلك ، وإنما في سبيل الله خاصة بالمجاهدين ، وهذا هو الذي عليه العمل عند جماهير أهل العلم والأئمة وعلى المسلم أن يتورّع وأن يتحفظ في دينه ، فلا يأخذ هذا المال إلا على هذا الوجه المعتبر ، ولا ينفق تحت هذا الصنف إلا لمن سمى الله وعرف باستقراء الشرع وتتبع نصوص الكتاب والسنة أنهم هم المعنيون لقوله في سبيل الله ، [ الغزاة الذين لا ديوان لهم ] : لا ديوان يعني لا راتب وإذا كان مجاهدا له حالتان : الحالة(4/36)
الأولى: أن يكون له راتب من بيت مال المسلمين ، وهذا كان موجودا الذي هو ديوان الجهاد ، كان له ديوان وله راتب وله عمل فهذا لا يأخذ من الزكاة؛ لأنه قد أخذ حقه من بيت مال المسلمين وله أحكام تخصه وسيأتي إن شاء الله في باب الجهاد تفصيل هذه المسائل ، الحالة الثانية الذي لا ديوان له هو الذي ليس على ديوان العطاء من بيت مال المسلمين ، سواء بالراتب أو بغيره وهو المتبرع وهو الذي خرج في سبيل الله –- عز وجل -- للجهاد دون أن يكون له راتب أو ديوان ، فقال المصنف –رحمه الله- هم الغزاة الذين لا ديوان لهم يعطون على قدر ما يوصلهم إلى الثغر طبعا من المركب ويعطون الآلة آلة الجهاد وعُدّة الجهاد ويعطون النفقة في المأكل والمشرب هذا التجهيز بالنسبة للغزاة ، من أهل العلم من قال : يعطون السلاح والآلة ولا يعطون نفقة الأكل ، وعند بعض أهل العلم –رحمهم الله- تفصيل في هذا ، وأيا ما كان لو أعطي الكل فالأمر سائغ لأن النص يحتمله .
قال رحمه الله : [ الثامن : ابن السبيل: وهو المسافر المنقطع به وإن كان ذا يسار في بلده ] : الثامن من أهل الزكاة ابن السبيل وابن السبيل هو : المسافر المنقطع ، المسافر المنقطع له حالتان :
أن يكون فقيرا في البلد الذي انقطع فيه فقيرا في بلده محتاجا ما عنده مال لا في بلده ولا في المكان الذي انقطع فيه .(4/37)
والحالة الثانية : أن يكون فقيرا في البلد الذي انقطع فيه ليس عنده فلوس ولا نقود وعنده غناء وكفاية إذا رجع إلى بلده ، مثل من ضاعت نقوده وهو في موضع لا يستطيع أن يجد مالا فهذا ابن سبيل ، ظاهر القرآن أنه يشمل الاثنين ابن السبيل المنقطع فقيرا في بلده والبلد الذي انقطع فيه ، وابن السبيل المنقطع الذي عنده غناء ويسار لو رجع إلى بلده ، فيشمل الاثنين كلاهما يعطى ، والإجماع منعقد على أن ابن السبيل من أهل الزكاة لظاهر قوله –تعالى- : { وابن السبيل } ويعطى على قدر ما يوصله إلى بلده ، هذا يستلزم المركب والمأكل يعني نفقته في المركب والمأكل والمسكن ، فمثلا لو كانت التذكرة بالسيارة توصله إلى بلده بمائة ريال ويحتاج أن يبيت ليلة في الطريق خمسين ريالاً ويحتاج أن يأكل بخمسين ريالا يعطى مائتي ريال ، نفقة المركب والمأكل والمسكن ، ثم ينظر إلى المركب هل هو بقدر الحاجة أو مثله ، والأشبه أنه بقدر الحاجة إلا إذا تضرر مثله به ، وعلى هذا مثلا لو وجدت سيارة توصله وطيارة يركب فيها الطائرة أجرتها بخمسمائة ريال والسيارة أجرتها بمائتين نعطيه المائتين ويسافر بالسيارة ، إلا إذا كان في سفره على هذا الوجه ضرر عليه يتضرر مثل كبير السن أو نحوه أو حصلت حاجة ضرورة أن يرجع إلى بلده عجالة هذا بالنسبة لابن السبيل ، لا خلاف أنه من أهل الزكاة، والدليل عليه قوله سبحانه : { وابن السبيل } والمسألة الثالثة أنه يعطى سواء كان غنيا في بلده أو كان فقيرا ، والدليل عموم النص ، أما إذا كان فقيرا في بلده والبلد الذي انقطع فيه فلا إشكال أنه يأخذ الزكاة ولا يقضي ، لكن الإشكال لو كان فقيرا في البلد الذي انقطع فيه غنيا في بلده هل يجب عليه رد الزكاة أو لا يجب ؟ أصح القولين أنه لا يجب عليه لأن الله وصفه بكونه ابن السبيل وحينئذ إذا وصل إلى بلده استأنف لكن الأورع أنه يخرج هذا المال ويتصدق به على المستحق تورعا ، لكن ظاهر النص أنه ابن سبيل(4/38)
سواء كان قادرا على السداد في بلده أو لم يكن قادرا على السداد .
قال رحمه الله : [ فهؤلاء هم أهل الزكاة ] : فهؤلاء هم أهل الزكاة لا غيرهم ، لأن الله يقول : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين ...} وذكرهم فلا يجوز لأحد أن يدخل في هؤلاء ما ليس منهم، أو ينقص منهم من هو منهم ، هذا بالنسبة للأصل أولا أن نعتقد أن هؤلاء هم أهل الزكاة لأن الله نص عليه .
المسألة الثانية: إذا كان هؤلاء هم أهل الزكاة وعرفنا ضوابطهم فهل يجب عليك في الزكاة أن تعمم هؤلاء كلهم أو يجوز أن تعطي الزكاة لبعضهم دون بعض ، مثال ذلك لو كان عندك زكاة بخمسة آلاف ريال ووجدت الفقير، والمسكين، وابن السبيل، والغارم ووجدت جميع هذه الأصناف فهل تعمم أو يجوز لك أن تخصص ؟ لاشك إذا عممت واستفاد الغير من التعميم أفضل ، لأنه خروج من الخلاف ، لكن هل يجب عليك ذلك ؟ الجواب لا فيجوز لك أن تدفعها للفقير وحده مثلا عندك خمسة آلاف ريال فوجدت رجلا مديونا في إيجار شقة يحتاجها له ولأسرته بخمسة آلاف ريال وما عنده سداد لها تعطيه خمسة آلاف ريال ، ولو أن مسكينا أعوز واحتاج وعندك زكاة ألف ريال ويحتاج هذه الألف ريال أعطيته الألف ريال ، لا يشترط تعميم الأصناف الثمانية والدليل على ذلك أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- دفع الزكاة وأمر بني زريق أن يدفعوا الزكاة إلى سلمة بن صخر البياضي –رضي الله عنه وأرضاه- وعلى هذا يجوز دفع الزكاة لبعض الأصناف دون بعضهم .
قال رحمه الله : [ لا يجوز دفعها إلى غيرهم ] : لا يجوز دفعها إلى غيرهم فلا يجوز أن تدفع للغني ، وإذا دفعت إلى من يعلم غناه فإنه آثم بالدفع وكذلك أيضا يجب عليه ضمان ما دفعه ، لم يزكّه لأن الزكاة لا تكون زكاة إلا إذا وصلت إلى مستحقها .(4/39)
قال رحمه الله : [ ويجوز دفعها إلى واحد منهم ] : ويجوز دفعها إلى واحد منهم كما ذكرنا لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أمر بني زريق أن يدفعوا صدقاتهم إلى سلمة بن صخر البياضي –- رضي الله عنه -- .
قال رحمه الله : [ لأنه –- صلى الله عليه وسلم -- أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر وقال لقبيصة أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ] : [ أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها] هذان الدليلان دلّ على مشروعية تخصيص بعض المستحقين بالزكاة فالنبي –- صلى الله عليه وسلم -- خص سلمة بن صخر وقبيصة بن ذؤيب –رضي الله عن الجميع- بالزكاة ، وهذا يدل على أن نص القرآن بذكر الأصناف الثمانية بيانا للاستحقاق لا بيانا للشمول يعني يجب أن تشملهم الزكاة كلهم ، إنما هؤلاء هم المستحقون صرفها للكل أو للبعض ، الأفضل في دفع الزكاة أن ينظر إلى الأحوج فالأحوج ، والأفضل في دفع الزكاة أن يقدم القريب على الغريب ، فإذا كان عندك قريب من أبناء العم حتى ولو ذو رحم كأولاد الخال وهو من أهل الزكاة وعندك أجنبي يعني ليس بقريب وهو من أهل الزكاة فقريبك أحق وينبغي عليك أن تقدمه لأن الناس تمتنع من إعطائه لأنهم يقولون فلان قريب فلان ، والبعض وللأسف على العكس ولأن الصدقة على القريب فيها أجران فيها صلة رحم وفيها الصدقة ، وإذا خص القريب صلة للرحم لا محاباة ولا بغرض دنيوي فإنه يؤجر على هذا التخصيص ، وكونه أول ما يبدأ في الزكاة يكتب قرابته المحتاجون يبدأ بقرابته الأقربين من أبناء العم ثم من هو أقرب فأقرب لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( أدناك أدناك )) وهذا ليس بالعصبية هذا عصبية بحق وعصبية في موضعها وعصبية ترضي الله ولذلك لما سأل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( عندي دينار أريد أن أتصدق به قال لنفسك قال عندي غيره قال لأهلك قال عندي غيره قال لقريبك قال عندي غيره قال شأنك به )) فابتدأ بالقرابة ومن(4/40)
هنا يقدم الإنسان قرابته ، والأقربون هم أولى بالمعروف والصدقة عليهم فيها ثوابان ثواب الصدقة وثواب صلة الرحم وعليه فإن المنبغي أن يبدأ في تقسيم زكاته بقرابته وذي الرحم ما يعرف القرابة يكلم أحد من القرابة يقول له هل تعرف من أقربائي أحد مديون دينا لا سفه فيه ، هل تعرف من القرابة أيتاما، أرامل أقدم هؤلاء ، وهؤلاء إذا أعطيتهم دعوا لك ودعوة القريب ليست كدعوة الغريب، القريب يدعو لك من قلبه ويحس أنك وصلة الرحم وبللتها ببلالها ، فكونه يترك الأقرباء نسأل الله العافية بعض الأغنياء مسلط على الفقراء والضعفاء إلا إذا كانوا من القرابة ، فتجده أبعد ما يكون عن قرابته، ومن الناس من يعطف على الغريب ولا يعطف على القريب ، وهذا لا يشترط أن يكون الغني عنده أموال كثيرة بل أنت في نفسك حينما يكون عندك راتب ويزيد في الراتب شيء وتعلم من قرابتك من هو محتاج فإنه أولى وأحرى ، فتقدمه ولذلك لما سأل النجاشي جعفراً عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وسأل هرقل أبا سفيان عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال ماذا يأمركم؟ قال: (( يأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا وأن نصل الرحم )). صلة الرحم فهؤلاء أحق في تقسيم الزكاة ، صلة الرحم ما تقتصر على الزيارة ، إنما هناك صلة بالمال وصلة بالمحبة والمودة وتفريج الكربة ، فالقريب له حق في هذا فيصله الإنسان إذا كان هؤلاء الأصناف فيهم أحد من القرابة فإنه أولى وأحق .
قال رحمه الله : [ ويدفع إلى الفقير والمسكين ما يتم به كفايته ] : لأنها شرعت فتتقيد به الفقير شرع لسبب الفقر فيعالج هذا الفقر بقدر الكفاية ، في الفقير والمسكين ، الفقير يُكَمّل حتى يصل إلى الكفاية والمسكين يُكَمّل له حتى يصل إلى الكفاية .(4/41)
قال رحمه الله : [ وإلى العامل قدر عمالته ] : يعني على هذا لو جاء فقير ما عنده شيء واشتكى إلى إنسان عنده زكاة وحاجته في النفقة إلى ثلاثمائة ريال والفقير ما عنده الثلاثمائة ، والآخر عنده زكاة بخمسة آلاف ريال ، لا يجوز له أن يعطيه العشرين ريالاً والخمسين ريالاً عليه أن يعطيه كفايته وهي الثلاثمائة ريال إذا كان يحتاج إلى ثلاثمائة ريال في مصاريفه فيعطيه ثلاثمائة ريال هذا حقه مادام وسع مال الزكاة سد الحاجة يسدها ، فما يفعله البعض كما ذكرنا من الإعطاء القليل اليسير ويقول أريد أن أشمل أكبر عدد هذا خطأ لأنه يوزع الزكاة على أكبر عدد في العشرين ريال العشرة ريال مفرقة ، وهذا ذكره العلماء حتى في الوقف قالوا لو أوقف على طلاب علم وفي البلد طلاب علم كثر لو وزع عليهم الوقف كلهم وصل لكل واحد منهم عشر ريال ما لا يقع موقعا اقتصر على بعضهم اقتصر على الأفضل فيهم ومن تكون يعني الحاجة فيها أمس هكذا هنا ، ففي الزكاة إذا نقول وزع الأكثر وهذه كلها من اجتهادات الناس تجد الشخص يقول والله أريد أن أعطي هذا خمسة ريال بل منهم من يفرق بالريالات ، وإن تيسر بالنصف ريال والربع ريال من باب أولى وأحرى ، يقول أريد أن أشمل أكثر يجتهد من عنده وهذا كله سببه أن الإنسان يضع نفسه في غير موضعه ، يجتهد في أشياء شرعية وليس عنده أهلية للنظر فعلى هؤلاء أن يتقوا الله –- عز وجل -- وأن يرجعوا للشرع ، بين المصنف أن الفقير والمسكين يعطى قدر كفايته ، وحينئذ لما يأتي أحد يسأل انظر ما هو كفايته هو المشكلة أين تقع التاجر يجلس في محله فيأتون السُؤّال طبعا هؤلاء السُؤّال يحس أنهم عبء وثقل عليه كان المفروض أن يحمد نعمة الله عليه بالغنى فيخرج الخمس ريال والعشر ريالات من ماله الزائد ، لكن هو ما يريد هذا هو يريد أن يتخلص من عنائهم على حساب حقوق الفقراء الذين هم بحق يستحقون للزكاة ، ماذا يفعل يأخذ الزكاة ويصرفها عشرات أو خمسات لكي ينكفي(4/42)
كما يقول شر هؤلاء الذين يتعبونه ، فيعطي هذا خمسة يعطي هذا عشرة حتى يصفي المبلغ الذي عنده ، هذا ما هو وارد ، إعطاء الزكاة بين المصنف أنه قدر الكفاية لأن الله أثبت لهذا السائل الذي ثبتت فيه صفة الزكاة حقا في مالك فإذا كانت كفايته ثلاثمائة ريال تخرج من زكاتك ثلاثمائة ريال ، أين تؤخرها؟ تؤخرها لمن؟ هذا شخص جاء يسأل وتوفرت فيه الصفات المعتبرة لإعطائه كفايته كاملة لا يجوز أن تعطيه بعض الكفاية وأنت قادر على إعطاء الكفاية ومن هنا ينبه هؤلاء أنهم إذا أرادوا صرف الزكاة وجاء المسكين والفقير يدرس حاله يتأكد منه يسأل إذا قال لك الغني أنا أبغى أجلس أسأل وأراجع يقول له إذا ما عندك وقت تسأل وتراجع تنصب توكل تنظر من تثق به حتى يسأل ويراجع ، وعلى هذا لابد أن يعطى قدر الكفاية الفقير والمسكين .
قال رحمه الله : [ وإلى العامل قدر عمالته ] : وإلى العامل قدر عمالته كما ذكرنا التفصيل الذي ذكرناها العامل على الزكاة قدر عمالته يقدر بالمثل من سافر إلى هذا الموضع كم يحتاج في مؤونة السفر ولو استأجر كم يأخذ خمسمائة ريال أجرة للذهاب طيب لو استأجرنا شخصاً يجمع هذه الأموال كم يأخذ يقدر له مثل أجرة مثله .
قال رحمه الله : [ وإلى المؤلف ما يحصل به تأليفه ] : وإلى المؤلف ما يحصل به تأليفه يريد المصنف في هذه الأصناف أنهم يعطون لسبب ، فلا يجوز أن نعطيه حتى نعرف ضوابط هذا السبب ونقدر بهذا السبب لأنه هو منشأ إعطاءهم هذا الحق ، أعطي للفقر السبب عدم الكفاية ، أعطي للعمالة يقدر عمل مثله كم يعطى ، أعطي لتأليف قلبه نفس الشيء ننظر ما الذي يؤلف قلبه .(4/43)
قال رحمه الله : [ وإلى المكاتب والغارم ما يقضي به دينه ] : [ وإلى المكاتب والغارم ما يقضي به دينه ] : مثلا فرضنا المكاتب يحتاج إلى ثمانية آلاف دفع ألفين من العشرة بقيت ثمانية آلاف ، وعندي زكاة بعشرة آلاف أعطيه الثمانية الباقية ، يعني ما يسدد به دينه المكاتب ويوجب فك رقبته ، المديون نفس الشيء عنده شقة استأجرها لسكنه وسكن أهله وأولاده وغرم بسببها خمسة آلاف وعندي زكاة ستة آلاف أعطيه خمسة آلاف لسداد هذا العوز .
قال رحمه الله : [ وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه ] : وإلى الغازي في سبيل الله يحتاج إليه في غزوه على الضابط الذي ذكرناه لتجهيز الغازي فيحتاج إلى مؤونة الركوب والسكن والنفقة حتى يصل إلى موضع الغزو أو ثغر الغزو .
قال رحمه الله : [ وإلى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده ] : وإلى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده يكون يتقدر بالقدر الذي يصل به إلى بلده على التفصيل الذي ذكرناه المركوب والمأكول والسكن ، إن كان يحتاج إلى النزول والزائد على هذا لا يجوز إعطاؤه إياه فإن أعطاه زائدا على ذلك غرم ، ولا يكون زكاة .
قال رحمه الله : [ ولا يزاد واحد منهم على ذلك ] : ولا يزاد واحد منهم على ذلك حق مقدر الأمر الذي يدل على أن صرفها يحتاج إلى علم ويحتاج إلى انضباط ويحتاج إلى بصيرة وهذا يزيد المسؤولية على العلماء والأئمة والخطباء في المساجد أن يبينوا للناس مثل هذه الأمور حتى يكونوا على وعي منها ويستشعروا عظم هذه المسؤولية وتصل الحقوق إلى أصحابها .
قال رحمه الله : [ وخمسة منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة وهم الفقير والمسكين والمكاتب والغارم لنفسه ] : الفقير والمسكين يأخذ مع الحاجة وإذا لم تكن له حاجة طبعا هو حاجة الفقر والمسكنة فيعطى على سداد حاجته الفقير والمسكين .(4/44)
قال رحمه الله : [ والمكاتب والغارم لنفسه ] : والمكاتب لا يأخذ وهو مستغني لو عند المكاتب ما يسدد به أنجم الكتابة ما يلزم أن تعطيه ما تقول هذا في الرقاب والله أمرني أن أعطيه في الرقاب بغض النظر عن كونه عنده مال أو ما عنده مال ، نقول لا ما يعطى إلا إذا احتاج حصل عنده العوز .
قال رحمه الله : [ والغارم لنفسه ] : والغارم لنفسه المديون لا يعطى إلا إذا كان محتاجا لكن لو عنده سيارة يستطيع أن يبيعه ويسدد دينه وهذه السيارة زائدة عن حاجته لكن لو كان عنده سيارة يحتاجها ننظر إلى نوعية السيارة هذه السيارة فخمة قيمتها مائة ألف ريال وهو عنده دين بعشرة آلاف ريال بعشرين ألف ريال يستطيع أن يبيع السيارة بمائة ألف ريال ويركب سيارة بخمسين بستين تصلح لمثله فنقول هذا ليس بمحتاج ولا يعطى ، لأن عنده سداداً ما يعطى إلا إذا كان هناك حاجة هذا إذا غرم لنفسه ، وهكذا بالنسبة لمن تقدم من المكاتب والفقير والمسكين .
قال رحمه الله : [ وابن السبيل ] : وابن السبيل كذلك لو أن شخصا أراد أن يسافر للجهاد في سبيل الله فأردنا أن نجهزه وهو غني وعنده قدرة وعنده مال ما نقول إن الله أمرنا بإعطاء ابن السبيل نعطيه ولو كان عنده مال نقول لا نعطيه إلا عند الحاجة ، ابن السبيل لا يجهز إلا إذا احتاج .(4/45)
قال رحمه الله : [ وأربعة يجوز الدفع إليهم مع الغنى وهم العامل ] : العامل على الزكاة يأخذ حق عمله بغض النظر عن كونه فقيرا أو غنيا ، فلو كان عنده المال وأراد أن يعمل لجلب الزكاة وهذا مصلحته لابد لنا ممن يجلب الزكاة واحتجنا أن نستأجره وهذا كما ذكر بعض العلماء عند وجود الحاجة إلى مثله فإنه يعطى ولو كان غنيا ولو كان غنيا يعطى ، ومن هنا دخل الدخل على بعضهم في الصرف وقال إنه حتى ولو كان وجد هناك محتسب فإننا نقيم هؤلاء الأغنياء ونعطيهم من الرواتب نحن قلنا إن مسألة الصرف كمسألة الجلب وبيّنا هذا وفصّلنا فيه لأنه أوفق وأرعى للأصل وهو الذي كان يعمله النبي –- صلى الله عليه وسلم -- والخلفاء الراشدون من بعده فيتبع الوارد .
قال رحمه الله : [ والمؤلف ] : مؤلف قلبه سواء كان غنيا أو فقيرا محتاجا فنعطيه للتأليف بغض النظر عن كونه غنيا أو ليس بغني محتاجا أو غير محتاج .
قال رحمه الله : [ والغازي ] : كذلك الغازي .
قال رحمه الله : [ والغارم لإصلاح ذات البين ] : والغارم لإصلاح ذات البين مثلا أمراء العشائر ونحوهم إذا غرموا فإنهم يعطون لأن الاستحقاق جاء من جهة إصلاحهم لذات البين هذا حاصل ما يقال في توزيع الزكاة .(4/46)
وهنا أنبه طلبة العلم على أمور مهمة منها طبعا أولا وقبل كل شيء أن نحمد الله جميعا على توفيقه وتيسيره ومعونته بالشكر تستدام النعم وتأذن الله لمن شكر بالمزيد ولمن كفر بالحرمان والعذاب الشديد، وهما أمران لا ثالث لهما ، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الشاكرين ، ثانيا : نعترف لأئمة السلف الصالح ودواوين العلم بفضلهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، فنجعل كل ما تعلمناه وفهمناه نصب أعيننا فضلهم وإحسانهم إلينا لأن الله جعل شكر ذي الفضل بعد شكره على فضله –- سبحانه وتعالى -- وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من لا يشكر الناس لا يشكر الله ))، ولقد وقفت كما وقف غيري ووقف من قبلي وسيقف من بعدي أمام هذه الأمة الصالحة من دواوين العلم من السلف الصالح ، فلا نملك إلا أن نقول اللهم اجزهم عنا وعن دينك وشرعك وأمة نبيك –- صلى الله عليه وسلم -- خير ما جزيت عالما عن علمه ، فهذه المسائل التي نتعلمها وهذه الكتب التي نقرأها الله أعلم كم سهرت عيونهم، وكم تعبت أجسادهم وكم تغربوا، وكم، وكم لاقوا في ذات الله –- عز وجل -- فمن حفظ حقهم وأكثر من الترحم عليهم ، فهو بخير المنازل عند الله ومظنة أن يبارك الله له ولذلك نجد من أهل العلم ومن طلبة العلم من فتح الله عليه في علمه فإذا نظرت إلى حاله وجدته أسبق الناس إلى الاعتراف لأهل الفضل بفضلهم فيضع الله له البركة في قوله وعلمه وننبه على هذا لأن هذا الزمان كثر التناسي فيه للحقوق والهضم فيه للحقوق حتى إنك لتجد الإنسان يقرأ متن عالم لا يدري ما هو اسمه ولربما تمر عليه الشهور والسنوات قل أن يقول اللهم ارحمه بل لربما يقرأ الكتاب يقول فلان لا يترحّم عليه ولا يذكره وكل هذا كما ذكرنا من الغفلة ولذلك من أراد أن يبارك له في هذا العلم فليحفظ حق أهله ، وأعود وأكرر بلزوم الأدب مع السلف الصالح والعلماء والأئمة ولو رجحنا في بعض المسائل فأصبحت أقوال بعض العلماء مرجوحة فلا يعني هذا(4/47)
أننا نقول قولا معصوما من الخطأ ، فلا زالت مكانتهم محفوظة ومنزلتهم مصانة وثوابهم على الله الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا ، تعتقد فضلهم وحبهم وتكثر من الترحم عليهم والترضي عليهم وتجعل علمك الذي تتعلمه إشادة بهم كيف يقرأ الإنسان كتاب عالم لم يستشعر حقه وقدره وكيف تنظر هذا الكتاب الذي بين يديك تصاغ فيه العبارات في صلاتك وفي زكاتك من الذي صاغها من الذي جلس يتعب نفسه ويجهد فكره حتى يقول كلمة تكون واضحة لكي تفهمها ، ولكي يقول كلمة حتى إذا فهمتها وعلمتها تتجمل بها أمام الناس وتسلم من الخطأ ، لو أن هذه المتون ما كتبت كيف يكون حالنا الآن ، فهؤلاء لهم فضل عظيم علينا بعد الله –- عز وجل -- ومن ترحم على مشائخه وعلمائه وذكر جميل ما قدموه وإحسان ما فعلوه بارك الله له في علمه وبارك الله له في وقته، وبارك له في عمله ، قال الإمام أحمد لأحد أبناء مشائخه: أبوك أحد الأربعة الذين أذكرهم في صلاتي. وإن من طلبة العلم من يعرف من نفسه أنه منذ أن وطئت قدمه في طلبه للعلم على يدي شيخه ما صلى صلاة لم يخصه بدعوة في دينه، ودنياه، وآخرته ، الوفاء ما قامت هذه الأمة إلا على الوفاء اللؤم، ونسيان الفضل، واحتقار العلماء ، والتربيّ على هضم حقوقهم ومنازلهم أمر منكر وليس بمعروف ، وأمر لا يعرفه سلف هذه الأمة وصالحوها والمؤتسون بهم الذين ساروا على نهجهم ما عرفت الأمة لعلمائها إلا المحبة والتقدير والدعاء والإشادة بالفضل .(4/48)
النقطة الثالثة من لازم هذه النقطة أن الإنسان إذا جاء يذكر هذا العلم أن يحفظ حرمات العلماء ويحرص في تعلمه إذا تعلم على حفظ منازلهم وأن لا ينتقصهم ويستطيع أن يعرف الحق دون أن ينتقص العلماء ، بل إن معرفته بالحق تزيده من حب أهل العلم –رحمهم الله- هذا أمر مهم جدا ، وإذا تعلمت على يدي شيخ أو على يدي كتاب يغرس في قلبك محبة العلماء ومحبة دواوين العلم فما قال إلا صدقا ولا نطق إلا حقا ، وإذا جلس الإنسان بين يدي من يعلمه لكي يقول له لا تقترب بفلان وهذه من أوهام فلان وعلان وهذه من أخطائه وهذه من كذا فتقرأ كتابه أو تجلس مجلسه تقوم من أجل أن تتسلّط على حرمات العلماء فبئس والله ما صنعت والله ما قامت الأمة على اللؤم ونسيان الفضل والجميل أن نقرأ كتبهم وأن نتعلم على أيديهم في هذه الكتب الذي خطتّها أيديهم ونفع الله بها الأمة ثم نأتي ونتسلق على أكتافهم ، نسأل الله بعزته وجلاله أن لا يجعلنا ذلك الرجل ، ما عاشت هذه الأمة إلا على الوفاء وعلى الحب وعلى التقدير ، لو قلت رحم الله علماء الأمة فقد جمعت بلايين الحسنات التي لا يعلمها إلا الله –- جل جلاله -- لأنهم ما يبقى عالم إلا وكان لك مثل أجره وانظر إذا ترحمت عليه واستغفرت له فيكثر الدعاء لعلماء المسلمين وأئمتهم الذين أصلحوا ونفعوا ودلوا على هذه العلوم، تقف أمام المسألة فتحتاج إلى كتاب في اللغة لكي يفسر لك كلماتها ثم تحتاج إلى أكثر من كتاب في كلمة واحدة ، فتجد هذا يدلك على تصريفها وهذا يدلك على معناها وهذا يدلك على اشتقاقها فتجد كنوزا منثورة وأنت ما تجاوزت كلمة واحدة في المسألة ثم تنتهي من هذا فتحتاج إلى تعريف شرعي فتذهب إلى المطولات إلى كتب الفقه إلى شروح الأحاديث فتجد كل واحد يمدك بعلم وكلهم أموات في قبورهم تغشاهم الرحمات وأنت ما تشعر بهذا الكتاب الذي بين يديك أنه كتب في ظلمة أو كتب في خوف ورعب حتى صار بين يديك من أجل أن يفسر لك هذه الكلمة ، فإذا(4/49)
انتهيت من فهم عنوان المسألة تدخل إلى أقوال العلماء فيها فتجد قد جمع لك اسم عالم من المشرق وعالم من المغرب وعالم من الشمال ومن الجنوب ثم هذا العالم عنه روايتان أو ثلاث أو أربع صحيحها كذا وهو قصد ولم يقصد كذا، أصوله تقتضي كذا فتدخل في بحر وعلم لا يعلم فضلهم فيه إلا الله -- جل جلاله -- حتى إذا ما انتهيت من هذا كله تحتاج إلى الأدلة فإذا بك تجد كتب التفسير فتأتي إلى الآية تريد أن تفهم وجه دلالتها فتجد هذا المفسر يمدك بوجه دلالتها من ناحية أصولية وهذا يمدك بدلالتها من ناحية فقهية وهذا يمدك باعتراض على الدلالة وهذا يريد أن يمدك بجواب عن الاعتراض فتقف حائرا أمام حسنات وفضائل ومعروف لا تستطيع أن تكافأ إلا بالدعاء ، ثم إذا انتهيت من الدليل من الكتاب تحتاج إلى دليل السنة ما هو هذا الحديث فتذهب إلى شروح الأحاديث، والمظان في كتب الحديث، وتجد تراجم كتب الحديث حتى تصل إلى الحديث في المسألة ثم تحتاج إلى ثبوته وعدم ثبوته فتجد أئمة شمروا عن ساعد الجد فميزوا لك بين صحيح حديث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- الذي قاله وضعيفه وما هو صحيح بالنسبة إليه وما لم تصح النسبة إليه يوضع بين يديك في أعمار وأسفار لا يعلم عناءهم فيها إلا الله وحده ، وإذا بك في النهاية تصل إلى الحق وقد تبين لك و أسفرت لك أنواره وكله وأنت لا تملك لنفسك حولا ولا قوة ، بعد هذا كله ماذا يملك الإنسان والله إن طالب العلم ينتهي من المسألة وأمامه ثلاثون أربعون كتابا لا يملك إلا أن تورورق عيناه من الدمع مسألة بسيطة تأتيك يا طالب العلم ما تدري كيف جاءتك وتخط في الكتاب ما تدري ما الذي عناه من خطها لك والنبي –- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( من صنع إليكم معروفا فكافئوه )) فهؤلاء كيف نكافئهم؟ نكافئم مكافأة العاجز ما نستطيع أن نكافئهم إلا بأمرين: كثرة الدعاء، والثاني الحرص على نشر هذا العلم واعتقاد حبهم وفضلهم؛ لأنه لا يوفق لهذا(4/50)
الخير وهذا النفع العظيم إلا من يريد الله به خيرا ، وفعلا وجدنا أن الله أراد بهم خيرا حينما أمضوا أعمارهم في هذا العلم النافع وحينما انتفعت الأمة بعلومهم ووجدنا بركة هذه العلوم وآثارها فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلها أنوارا لهم في قبورهم وأنوارا لهم في حشرهم أن يجعلها درجات العلى في الفردوس الأعلى من الجنة ، هؤلاء لا يستطيع الإنسان أن يكافئوهم تكافئ من تكافئ من علمك كيف تصلي تكافئ من علمك كيف تزكي تقف في مسألة في الصلاة ما تدري فيها السنة من البدعة ، وإذا به ينير لك الطريق لولا الله ثم هؤلاء لضللت وحرت وما عرفت كيف تتكلم بالله ثم بهؤلاء رقى الناس المنابر وبالله ثم بهؤلاء تصدروا في المحراب وبالله ثم بهؤلاء جلسوا في دروسهم فحفظ حق العلم من أراد أن يتعلم العلم فليتعلم له الأدب وليتعلم له الوفاء، فإياك ومنكرات الأخلاق من الناس من تعلم هذه المسائل وجلس في حلق الذكر من أجل أن يعرف فضل أهل الفضل، ومنهم والعياذ بالله من يتنكب عن هذا الصراط والطريق المستقيم فعليك أن تحرص أن تكون في الأكمل والأفضل كذلك أيضا مما يوصى به طالب العلم أوصي بعدم الشتات عدم الشتات عدم الشتات ، ترجع إلى المتن من أوله من كتاب الصلاة وتبدأ تلخص كل باب وتذكر الآتي المسألة صورتها الدليل ولا تشتغل بخلاف ولا قال فلان ولا علان خذ المسألة بدليلها والراجح بدليله ، ثم اجرد هذه المسائل واحفظها صما واحرص بارك الله فيك على أن لا تسأم ولا تمل ، سيأتيك السآمة والملل والضيق احرص أنك ما تسأم فوالله بعد هذا الضيق فسحة تتمتع بها عمرك كلها وبعد هذا العناء راحة ستجدها إذا أفضيت إلى ربك راحة لا عناء بعدها أبداً، طالب العلم صاحب همة صادقة وإياك والشواغل والمشاغل وإياك تشتيت الذهن البعض من طلبة العلم بمجرد ما يأخذ المسألة هنا يذهب إلى المطولات فيأخذ الأقوال والردود ثم يدرس خمس ست مسائل من الطهارة بهذا الأسلوب فلا ينتهي من كتاب(4/51)
الطهارة إلا وقد تشتت والعياذ بالله ، وبعضهم لا يثق بشيخه بمجرد ما تأتيه المسألة يقول لا هو بشر يؤخذ من قوله ويرد يالله ويذهب إلى المغني ويذهب إلى المجموع لكي يجد ثغرة ولربما تأتيه شبهة يظنها دليلا خذ قولا ممن تثق بدينه وعلمه وتعبد الله بهذا القول بالدليل وإذا وقفت بين يدي الله فقل دليلك من الكتاب والسنة حتى تصل إلى درجة الاجتهاد والنظر ، الآن لا يجوز لك أن تنظر في الأدلة الأخرى وأنت لا تعرف الأصول الذي عن طريقه يفهم الدليل اترك الدلالة لمن هو أهل بعد ما تضبط الفقه كاملا بهذه الطريقة تتعبد الله في عبادتك ومعاملتك وقد حفظت المسائل ، ثالثا تحرص كل الحرص على أن تكون دقيقا في الفقه لو استطعت أن لا تقول إلا قول من تلقيت عنه العلم لا تزيد ولا تنقص ، العلم هو الأمانة والعلم هو استشعار الأمانة فإذا أرادت عيناك أن ترى من فتح عليه في العلم فانظر إلى ذلك الذي يستشعر هذا الأمر على التمام والكمال أمين والاستشعار معه في كل ما يقول ويفعل في هذا العلم كيف؟ يأتي إلى مجلس العلم بوده أنه لا يتكلم في هذا العلم إلا بما سمع من العلماء إذا وصل إلى هذه المرتبة ولا يزيد في العلم ولا ينقص منه فليعلم أنه ممن أراده الله به خيرا في الدين ، الناس ما تريد آراءك ولا تريد اجتهاداتك المفلوتة مادمت أنك لست أهلاً للاجتهاد لا تريد من طالب العلم أن يؤصل ويقعد وهو لم يبلغ درجة التأصيل والتقعيد هذا غش بعض الطلبة إذا جلس شهرا قالوا من طلاب الشيخ فلان يأتي ويأتي بمسائل جديدة ويقعد فيها ويؤصل ويقيسها على النصوص والله مسائل لو عرضت على جهابذة السلف لجثا الواحد منهم على ركبتيه خوفا من الله أن يتكلم فيها ، وهذا مسترسل فيها لا يبالي ، اجعل علمك الحفظ اجعل علمك الأمانة ، ولما ضيع الناس هذا الأساس ضاع العلم ، انظر الآن في درسك في محاضرتك في كليتك في جامعتك لما تأتي إلى شيخ يلقي درسا في الفقه في الصلاة في صفة الوضوء يذكر(4/52)
الحكم ودليله حتى يتم المسألة تصور الطلاب المسألة وضبطوا كماً واضحاً بالدليل لكن إذا جاء وقال المسألة الفلانية الأولى الوضوء مأخوذ من الوضاءة قال له لماذا أخذ من الوضاءة ؟ ما الدليل على أنه أخذ من الوضاءة ؟ ما هي هذه الوضاءة ؟ ثم دخل معه في إشكالات يجادله في هذا الشيء تجد الوقت يذهب ولا يتعلم أمثال هؤلاء إلا الجدل ، وتجد السنة تنتهي ولم يحصل هؤلاء إلا الجدل ، ومع ذلك يظن أنه أنبغ الطلاب وأنه أحسن الطلاب ولكن تجد الذي أنصت وحفظ العلم أولا فهم يحرص أن كل شيء يقال له ممن يثق بدينه أن يأخذه من نثرت بين يديه الجواهر أخذ ومن لا يعرف قدر الجواهر رماها ولم يبال من حضر قسمة المال من حضر وهو عطشان المورد العذب عبى منه وملأ ولو استطاع أن يملأ الماء كله لأخذه هكذا طلبة العلم مع العلم الذي يأتي ويعب ويحمل معه للأمة هذا الذي ينتفع والذي يجلس يجادل ويماري يجادل في مجلس العلم أو يجادل بعد ذلك ما يجد شيئا ولذلك بورك لهؤلاء وضاع هؤلاء إذا ليست العبرة أن يختم الشيخ الكتاب قد تجد هذه النوعية الصادقة تقرأ باب الوضوء من الطهارة فتجد الواحد منهم يتمنى أن عطلته كله في باب الوضوء ، لأنه سيلخص ما يقوله الشيخ ، ويلخص المسائل ويذكر أدلتها ثم يجلس ليله ونهاره ينتظر متى يحفظ هذه المسائل فتجده إذا قال له الشيخ أزيدك يقول له : لا عندي يكفيني حتى أضبط بعد ثلاث سنوات أربع سنوات تجد الواحد من هؤلاء عن أمة وتجد من يأخذ مثلا إذا جاء دورة في الفقه جاء وحضرها ثم بمجرد ما انتهى قال والله الشيخ ما أكمل الكتاب ما في شيء يالله ندور على دورة ثانية دورة ثالثة ورابعة وإذا به في بيته الأشرطة موجودة والمذكرات موجودة وكتب العلم موجودة ولكن نزعت البركة ، لو جئت تسأله عن باب يضبطه لا يضبط ، لو جئت تسأله عن مسألة تؤصل ما يؤصل ، يحتاج إلى إعادة نظر في المنهجية وكم من أمور استفادها الخلف من السلف ضيعناها ، كان العلماء في(4/53)
القديم مسألة الضبط بالمذاهب دون تعصب وهذه قضية حقيقية شيخ الإسلام ابن تيمية تتلمذ على مذهب الحنابلة حتى أتقنه وجوده ما تأتي بمسألة إلا ويقول لك قال فيها الإمام أحمد وعن الإمام أحمد أربع روايات خمس روايات الرواية الأولى عن ابن صالح الرواية الثانية عن ابن عبدالله الرواية الثالثة عن مهنا الرواية الرابعة عن فلان، هذه الرواية أصح من هذه الرواية ؛ لأنه إمام مجتهد، وأهل للاجتهاد فعرف قدره وحقه فضبط علمه كما ينبغي ، ثم لما فتح الله عليه بضبط علم العلماء انتقل حتى أصبح شيخا للإسلام وديوانا من دواوين العلم ، هذا الانفلات هو الذي ضيّعنا وبهذا التقيد عاشت الأمة أكثر من ثلاثة عشر قرناً وهي تتتلمذ على علوم هؤلاء المذاهب الأربعة ومذهب الظاهرية وتعد لكل مذهب أصوله فكانوا يعظمون الفتوى وما كان أحد يتكلم يفتي إلا سئل من أين هذا الأصل الذي أخذه فإذا جاء يفتي بأصل عند الحنفية قال فقهاء الحنفية هذا الأصل ضعيف عندنا هذا الأصل كذا كانت مضبوط الأمة معروف من يتكلم بماذا يتكلم ، لكن الآن أول كانت مضبوطة في عوامها وطلبة علمها وعلمائها وهذا كل من قرأ المناقب وحوادث الإسلام وكتب التاريخ يجد هذا جليا لما سلخت الأمة من قضية الاتباع ولزوم القول بدليله وأصبحت منفلتة أصبح كل يفتي وكل يجتهد هل هو أهل أو ليس بأهل؟ لا توجد علامات معينة نستطيع أن نميز ولا في أصول حتى لو أراد أن يغش في فتواه ما يستطيع أحد أن يجلي غشه لأنه ما في ضوابط معينة ومن هنا نعود إلى ما عاد إليه السلف نقول قلة المقرأ مع الضبط والتركيز والعناية بالدليل على المسألة وعدم التشتت بالخلاف وكثرة المراجعة مع الحفظ إذا قرأت باب الصلاة إن استطعت لن تكون طالب علم حتى تكون المسائل التي تليت عليك جميعها مستحضرة مكتوبة ، محفوظة في صدرك تستطيع في أي وقت أن تستحضر المسألة وصورتها والدليل ، إذا وصلت إلى هذا نعم طرقت بابا من أبواب العلم بحق ، أما أن تستكثر(4/54)
من الأبواب تستكثر من الدورات وتستكثر من هذا بدون نتيجة والنهاية الشتات إذا الحصار ما أمكن أوصي بتفريغ الشريط يفرغ الشريط ويأخذ المسائل بعض الأخوة جزاهم الله خير تبرعوا بتفريغ هذه الأشرطة وطبعها وإن شاء الله ستوزع بعد انتهاء الدورة بإذن الله يحرص على اقتناء هذا المفرغ ثم تلخصه ثم تذكر الدليل عليه وتحفظ هذا ثم تضع لك مثل فهرس لجميع المسائل التي أخذتها في الطهارة والصلاة لأنك مسؤول أمام الله استشعار الأمانة وهذا من أقوى ما يعينك على الحفظ والله ما من طالب علم يقرأ كتاب الطهارة إلا وهو مسؤول أمام الله - عز وجل - عن جميع المسائل التي ألقاها الشيخ عليه ، مسؤول عنها أن يطبقها في نفسه ، مسؤول عنها أن يدعو إليه ولا يجوز له أن ينحرف عن هذا القول الذي ذكر شيخه الدليل إلا إذا كان أهلا للاجتهاد والنظر بأن وجد دلالة أصح منها ، بل يبقى على علم من هو أعلم منه حتى يضبط بهذه الطريقة تحس أن عندك من العلم الكثير ، وبإذن الله سيبارك لك ، أوصي بأن تفرغ نفسك لهذا العلم فلو أعطيت العلم كلك لم يعطك إلا بعضه ، فكيف إذا أعطيته بعضك ، وتحدد أوقاتاً مناسبة للحفظ والمراجعة ، الأمر الثاني إذا حددت الأوقات تحس أنك أسعد الناس بهذا العلم ، فتشعر أن عندك كنزاً من الكنوز العظيمة وأي كنز قال الله قال رسوله –عليه الصلاة والسلام- وأي كنز تسعد به فلا تشقى وترفع به فلا توضع فيه سعادة الدنيا والآخرة ، فاحفظ وأحس كل مسألة أنها قد تكون هي التي تدخلك الجنة ، إذا بلغت في العلم أنك تضبط العلم تحس كل مسألة قد تكون هذه المسألة طريقا لك إلى الجنة لأن الله أخبر على لسان رسوله –- صلى الله عليه وسلم -- أن من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة )) قد تأتي إلى مسألة تعم به البلوى فتفتي بها في الناس فيعظم لك بها الأجر حتى تثقل موازينك وقد يكتب الله لك بها رضاً لا سخط بعده أبدا ، فعلى كل حال تحرص على أن تضبط هذه(4/55)
المسائل تتقنها ترتبها ومن الأمور المساعدة أنك لن تقرأ بابا إلا وقد عرفت المسائل التي قرأتها فيه ، بحيث لو وردت عليك أي مسألة مباشرة تعرف هل هي مما قرأت أو ما لم تقرأ ، وكذلك أوصي بالحذر من الغرور والحذر من التباهي بالعلم جلسنا دورة فلان قرأنا على فلان أوصي بعدم الاغترار والله فلان أعلم من فلان ، عليك أن تشتغل بالعلم بلبه وجوهره وصفائه وبركته ، ولا تتخذ من قراءتك على الشيخ وسيلة لاحتقار العلماء وانتقاصهم وازدرائهم بل العكس يزيدك من محبة أهل العلم وتوقيرهم وإجلالهم ، كذلك أيضا أوصي بالعمل بالعلم ما أمكن فتحرص على أنك لا تتعلم شيئاً إلا تعمل به وأعظم طلبة العلم بركة في العلم إذا رزق العلم النافع ولن يكون ممن رزق العلم النافع إلا إذا رزق الاستجابة لله ولرسوله ولذلك تجد طالب العلم الذي إذا قال له شيخه شيئا بالدليل يسرع للاستجابة والعمل والتطبيق والامتثال من أكثر الناس بركة في العلم، رأينا ذلك وقرأنا في كتب العلماء فمن كان مستجيبا لله ولرسوله يحس أنه إذا سمع من العالم لأن العالم له أهلية ومكانة تؤهله أن يقول عن الله ورسوله فهو يستجيب طاعة لله ولرسوله ولا يتعالى ، فكم من إنسان أهلكه التعالي ، وكم من طالب علم مقته الله بتعاليه ، تجده يجلس ويحس أنه يمكن يعني بالخيار أن يقبل هذه المسألة أو يردها ، بالخيار أن يقبل الترجيح أو يرده ، بالخيار أن يعمل بهذا أو يرده ، ليس لك من خيرة ، مادمت لست أهلا للاجتهاد ، بل عليك أن تلزم العلماء وأن تأخذ بقولهم وأن تربي فيك شعور الاستجابة ، فكنا مع مشائخنا وعلمائنا أدركناهم على هذا ، محبة العلم والاستجابة للعلم والعمل بالعلم والتطبيق والحرص على الدعوة ، مما أوصي به المسائل المفيدة مما يعينك على ضبط العلم مثلا لو قرأت صفة تغسيل الميت وجئت بين أبناء عمك وبين قرابتك وبين جماعتك وقلت لهم يا إخوان بدل أن يضيع الوقت فلنصف غسل الميت ولنقل فلان مثلا مات كيف(4/56)
نغسله؟ تطبق لهم كيف نصف صلاة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- كان إذا وقف رفع يديه حذو منكبيه بهذه الصفة ثم بعد ما يكبر يفعل هكذا ثم يقول هكذا كم من حسنات تنثر لك بهذا التعليم ، وتبدأ بطريقة جيدة مدروسة تربي في نفسك كيف تتكلم كيف ترتب الأفكار ولا تخرج للناس إلا وأنت على أرضية ثابتة، واعلم أنك إن جملت العلم جملك الله في الدنيا والآخرة ، فلا تتصدر عجالة عليك أن تهيئ نفسك وأن تحرص على الكمال، ليس بمجرد أن تضبط باباً وأن تحرص على أنك تعلم لا تحرص على التعليم إلا بعد أن تهيئ نفسك لذلك ، وإذا وجدت من نفسك ما تستطيع أن تتكلم فقل لا ما أريد أن أتكلم أريد أن أتكلم بأحسن الكلام ، فإذا وجدت درست كيف يكون الكلام حسنا وأحسن تدرس تقول لا ما أتكلم حتى أعرف ما هو الوقت المناسب للناس وإذا درست متى يكون الوقت مناسبا درست العبارات المؤثرة والمقاطع المؤثرة خرجت للناس على أرضية خرجت للناس على نور و حتى إذا رأوك على كرسيك ومنبرك أجلوا هذا العلم الذي تنطق به فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجملنا بالعلم وأن يجمل العلم بنا أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، ونسأله أن يتجاوز عن أخطائنا ونسأله بعزته وجلاله وعظمته وكماله اللهم أنت الله لا إله إلا أنت اسبغ شآبيب رحماتك وغفرانك على مشائخنا وعلمائنا ومن علمنا وكان له الفضل بعد فضلك علينا يا حي يا قيوم اللهم نور قبورهم اللهم نور قبورهم اللهم نور قبور موتاهم وأفسح لهم فيها وارفع درجاتهم واغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم يا حي يا قيوم واجزهم عنا خير الجزاء وأوفاه وأعظمه وأسناه اللهم من كان منهم حيا فأحسن خاتمته وبارك في عمره ورزقه واجزه عنا خير الجزاء اللهم اجز علماء الأمة من سلفنا الصالح وأتباعهم بإحسان خير الجزاء وأعظمه ، اللهم أعظم أجورهم وأجزل ثوابهم واكتب لنا حسن الائتساء بهم ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا(4/57)
شرها وسيئها لا يصرف عن شرها وسيئها إلا أنت ، اللهم إنا نسألك العصمة من الزلل والتوفيق في القول والعمل وبارك لنا في علمنا واجعله علما نافعا شافعا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتاك بقلب سليم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه
قال المصنف رحمه الله تعالى : [ باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فقد ترجم الإمام المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة التي قصد منها أن يبيّن الأشخاص الذين يحرم دفع الزكاة إليهم. فقد بين نص الكتاب والسنة الصحيحة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أن الزكاة لا يجوز دفعها لأشخاص معيّنين توفرت فيهم الصفات الموجبة لمنعهم وحرمانهم من الزكاة ؛ ونظرا لأهمية هذا الباب، وتعلقه بأحكام الزكاة؛ ناسب أن يعتني المصنف -رحمه الله- بذكره في كتاب الزكاة ، فهو يقول في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالأشخاص الذين لا يجوز دفع الزكاة إليهم، فيجب على كل من تولى أمر صرف الزكاة أن يعلم أو يتعرف على هذه الصفات حتى يمتنع من دفع الزكاة إلى غير أهلها .(4/58)
قال رحمه الله : [ لا تحل لغني ] : لا تحل الزكاة لغني: لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي )) فالزكاة لا يجوز دفعها للأغنياء ، فقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه لا يجوز صرف الزكاة الواجبة إلى غني ؛ والأصل في ذلك أن الله تعالى جعل الحظ فيها للفقراء والمساكين ، ومن كان غنيا لم تتوفر فيه صفة الفقر والمسكنة ، وأما إذا كان الغني عاملا عليها فقد تقدم معنا استثناء من يجوز دفع الزكاة إليه مع الغنى لسبب غير سبب الحاجة ، والسؤال ما هو الغِنَى ؟ الغِنَى ينقسم إلى قسمين :
الغنى الذي يحصل به الكفاف ، وتنسد به الحاجة ، وهو أن يجد الإنسان قوته وقوت من يعول ، فلو كان الإنسان عنده مصاريف له ولأولاده وزوجه تتكلّف في الشهر خمسة آلاف ريال وعنده راتب أو دخل ثابت بالخمسة آلاف ريال فإنه غني ولا يجوز صرف الزكاة إليه ، وهكذا بالنسبة لحظه في اليوم فلو كان دخله في اليوم مائة ريال ونفقته بمائة ريال فقد استغنى.
فمذهب طائفة من العلماء أن الغنى ما تحصل به الكفاية ، إذا حصلت له الكفاية فهو غني ، وإن نزل عن الكفاية فهو إما فقير وإما مسكين بالضوابط التي ذكرناها في الفقر والمسكنة .
قال رحمه الله : [ ولا لقوي مكتسب ] : ولا يجوز دفع الزكاة لقوي مكتسب أي لا حظ فيها لمن عنده قدرة على أن يتكسب ، وهذا هو معنى قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( فإنه لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي )) وذو المِرّة هو ذو القوة ؛ قال تعالى : { ذو مرة فاستوى } والمراد بهذا أن يكون صحيح البدن يستطيع أن يتكسب لنفسه ولأهله وولده ، فإن كان قادرا على الكسب فلا يجوز دفع الزكاة إليه ؛ لأنه يستطيع أن يتحصّل على حاجته وحاجة من تلزمه نفقته عن طريق الكسب والمعيشة .(4/59)
قال رحمه الله : [ ولا تحل لآل محمد -- صلى الله عليه وسلم -- وهم بنو هاشم ومواليهم ] : ولا يحل دفع الزكاة الواجبة لآل محمد -- صلى الله عليه وسلم -- وهم بنو هاشم ومواليهم . أجمع العلماء -رحمهم الله- على عدم جواز دفع الزكاة لآل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهم بنو هاشم ، وقد كان لعبد مناف وهو الجد الرابع للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أربعة أبناء انقطع نسلهم إلا من هاشم ، وهو جد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فبنو هاشم منهم من كان مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أسلم وناصره وآزره فهذا لا إشكال في دخولهم في آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سواء كانوا من الأعمام أو كانوا من بني الأعمام ، فأعمام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الذين أدركوا الإسلام هم أكثر من عشرة على خلاف بين علماء النسب فيما زاد على العشرة من ولد عبدالمطلب ، لكن الذين أدركوا الإسلام من أعمامه -عليه الصلاة والسلام- أربع : اثنان منهم أسلما وهم : حمزة بن عبدالمطلب والعباس بن عبدالمطلب -رضي الله عنهما- ، واثنان أدركا الإسلام ولم يسلما وهما أبو طالب وأبو لهب، وأما البقية فإنهم توفوا ولم يدركوا الإسلام ، وهؤلاء بالنسبة لأعمام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وذرياتهم من بني الأعمام الذين أدركوا الإسلام وأسلموا كلهم تحرم عليهم الزكاة .
أما الزكاة الواجبة فبالإجماع ؛ فلا يجوز إعطاؤها لآل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : بنو هاشم سواء كانوا في عهده -عليه الصلاة والسلام- أعمامه الذين أسلموا كالعباس وحمزة ، وكذلك أبناء الأعمام ، فلأبي طالب ثلاثة وهم : عقيل وعلي وجعفر هؤلاء أسلموا وذرياتهم كلهم من آل البيت اتفاقا بين العلماء -رحمهم الله -.(4/60)
وأما طالب وهو ابن أبي طالب الأكبر فقد توفي على الكفر، وأما بالنسبة لبقية بني الأعمام قالوا مجموعة منهم خمسة وعشرون من أبناء الأعمام كلهم أسلموا إلا اثنين، واللذان لم يسلما هما طالب وعتيبة بن أبي لهب ، هذان لم يسلما . طالب قيل: إنه مات قبل بعثة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وعتيبة معروف شأنه أنه كان يؤذي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حتى دعا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عليه كما في الحديث الحسن وسلط الله عليه الأسد وقيل الذئب ، فاقتلعه من بين أصحابه وقتله ، قيل : إنه بصق في وجه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقيل إنه كان يضع الأذى في طريق النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ودعا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عليه فقال : (( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك )) قد حسن هذا الحديث الإمام الشوكاني وغيره -رحمة الله على الجميع- فخرج في تجارة إلى الشام ومازال يتخوف دعوة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عليه حتى كان إذا نام ينام بين أصحابه ، فجاء الأسد واشتمه وسله من بين أصحابه حتى أصبح يصيح كما في السير ويقول : ألم أقل لكم إن محمدا صادق . ألم أقل لكم إن محمدا صادق حتى هلك . بالنسبة لبقية ذرية من سمينا من ذرية أبي طالب عقيل وعلي وجعفر كلهم من آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الذين تحرم عليهم الزكاة، وذرية العباس قيل إنهم انقرضوا ولم يبق إلا نسل عبدالله بن عباس -رضي الله عن الجميع- كان له ما يقارب العشرة من الولد العباس وبقيت ذرية عبدالله -رضي الله عنه وأرضاه- هؤلاء كلهم تحرم عليهم الزكاة ، وذرية الحارث بن عبدالمطلب وهم اثنان ، وكذلك بالنسبة لأبناء حمزة عُمَارة ويعلى .(4/61)
بالنسبة لآل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من ولد هاشم لا إشكال في دخولهم إلا اثنين اختلف العلماء -رحمهم الله- فيهم من أسلم منهم لا إشكال في دخوله ، واختلفوا في الذين أسلموا في اثنين هما : عتبة ومعتب ابنا أبي لهب ، فأبو لهب له أربعة من الولد ثلاثة ذكور وبنت : عتيبة وعتبة ومعتب ، ودرة وهي البنت .
عتيبة وعتبة معتب ودرة إلى التبيب تنسب
والتبيب هو أبو لهب ، يقال له : التبيب ؛ لأن الله قال : { تبت يدا أبي لهب } فعتيبة مات على الكفر، وبقي عتبة ومعتب وكانت تحتهما بنتا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رقية وأم كلثوم ، وجاءت الشقية أمهم أم جميل وكان الإمام ابن العربي يقول : أم قبيح -قبحها الله- جاءت وأمرت ابنيها أن يطلقا بنتي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رقية وأم كلثوم ، وعتبة ومعتب بقيا حتى عام الفتح ، فأسلما وجاء بهما العباس إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وعند ابن سعد في الطبقات أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أخذهما إلى الملتزم ، وسأل الله -- عز وجل -- فيهما فوهبهما إليه ؛ لأن الله يقول : { تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب } والولد من كسبه ، فجعل الله التباب عليه وعلى ولده ، فجاء في رواية ابن سعد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- استوهبهما ربه في دعائه -صلوات الله وسلامه عليه- عند البيت ، فاختلف في نسل عتبة ومعتب هل هما من آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أو لا ؟(4/62)
والصحيح أنهما ليسا من آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الذين تحرم عليهم الزكاة لنص الآية ، والاستيهاب في الحديث كلام ذكره بعض العلماء -رحمهم الله- فبقيا على الأصل ؛ وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن الولد من كسب الإنسان ؛ فقال عليه الصلاة والسلام : (( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم )) فقالوا إن آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لابد فيهما من الأمرين : من القرابة المعتبرة والنصرة ، ومن هنا اختلفوا في آل المطلب بن عبدمناف ؛ لأن عبدمناف كان له أربعة من الولد : هاشم ، والمطلب ، ونوفل وعبدشمس . فأما بالنسبة لهاشم فلا إشكال ، وأما المطلب وهو أخوه هل ذرية المطلب من آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أو ليسوا من آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؟ الصحيح أنهم من آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الذين تحرم عليهم الزكاة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال كما في صحيح البخاري وغيره : (( إنما بنو المطلب ونحن كالشيء الواحد )) وجاء في الرواية الصحيحة أيضا عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام )) فجعلهم كبني هاشم ؛ فكان بنو هاشم يحالفهم بنو المطلب ، وكان العبشميون يحالفهم النوفليون أبناء نوفل ، ونوفل من أبنائه المطعم الذي دخل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في جواره يوم أُوْذِي يوم الطائف .(4/63)
فالشاهد أن أبا لهب أولاده اختلف فيهم واختلف في المطلب ؛ والصحيح في المطلب دخول نسله ، ومنهم -من نسل المطلب- الإمام الشافعي -رحمه الله- لأنه ينتهي نسبه إلى المطلب بن عبدمناف ، فهو داخل في آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على ظاهر قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( إن بني المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام)) ، ولذلك لما حوصر بنو هاشم في شعب أبي طالب كان معهم بنو المطلب ، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام )) فذهب جمهور العلماء إلى إدخالهم في آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأنهم تحرم عليهم الزكاة والصدقة ، وأما بالنسبة لأبناء عمه -عليه الصلاة والسلام- وهما عتبة ومعتب فالصحيح عدم دخولهم لظاهر القرآن في قوله تعالى : { تبت يدا أبي لهب وتب } واشتراط النصرة معتبر في دخول الآل كما بيناه .
هؤلاء كلهم تحرم عليهم الزكاة : بنوهم ، وآل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من جهة العصبة كأبناء عمه ونحوه لا إشكال فيهم، الإناث من صلب الذكور لا إشكال في دخولهم وتحريم الصدقة عليهم ، فكل من انتسب إلى بني هاشم تحرم عليه الزكاة الواجبة إجماعا ، وأما بالنسبة لأبناء البنات فإنهم لا يعتبرون من آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الذين تحرم عليهم الزكاة كما هو معروف في مسألة النسب ، وتأثيره في الولد من جهة العصبة لا من جهة الرحم .(4/64)
أما بالنسبة للموالي فهم كل من أعتقهم بنو هاشم فكل عتيق لهم يعتبر منهم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( مولى القوم منهم )) فلو أن هاشميا كان عنده عبد ثم أعتقه فإنه يعتبر مولى لبني هاشم ، فذرية هذا العتيق لا تجوز لهم الزكاة كالحال في أصولهم ، والسبب في ذلك نص النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في قوله : (( مولى القوم منهم )) فلا يجوز دفعها لآل هاشم ولا لمواليهم ، وهذا هو الذي نص عليه المصنف -رحمه الله- ثم السؤال الأخير : هل هذا خاص بالصدقة الواجبة أو يلتحق بها الصدقات النافلة ؟ وجهان للعلماء -رحمهم الله- :
منهم من قال : إن الصدقة النافلة تجوز لآل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، والمحرم عليهم الصدقة الواجبة وهي الزكاة .
وذهب طائفة من العلماء إلى أن المحرم على آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يشمل الزكاة الواجبة والصدقة غير الواجبة .
وهذا هو الصحيح ؛ واستدلوا بعموم قوله : (( إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد )) والصدقة هنا لفظ عام يشمل الواجب وغير الواجب .(4/65)
أما الدليل الثاني -وهو من أقوى الأدلة والحجج- على أنه لا يجوز لآل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن يأخذوا من الصدقات العامة ؛ فحديث بريرة في الصحيحين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما دخل على أم المؤمنين والبرمة تفور باللحم . قالوا : يا رسول الله ، إنها لبريرة أو تصدق بها على بريرة . فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( هو لها صدقة ولنا هدية )) فإن الذي في البرمة ليس من الزكاة الواجبة ؛ لأن الزكوات الواجبة ليس فيها اللحم المقطع الذي يطبخ معروف بالنسبة للصدقات الواجبة لا يكون فيها مثل هذا ، وإنما الغالب أن تكون من الصدقات العامة ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( هو لها صدقة ولنا هدية )) فكونها تقول : تصدق بها على بريرة يدل على أن الصدقة العامة والصدقة الخاصة حكمهما سواء ، وقد أثر عن بعض آل البيت أنهم كانوا يفرقون بين الزكاة الواجبة وغيرها ، وأثر عن جعفر الباقر -رحمه الله- أنه كان يشرب من الأسقية التي بين مكة والمدينة للحجاج ، ويرى أن الصدقة الواجبة هي المحرمة. والصحيح ما ذكرناه على ظاهر حديث بريرة -رضي الله عنها- إذا ثبت هذا فهل الحكم عام أو يستثنى منه الأحوال والظروف ؟
ذهب طائفة من العلماء كاد أن يكون مذهب الجمهور إلى أن الأصل أنه لا تحل الصدقة والزكاة لآل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سواء استقام لهم الخمس من بيت مال المسلمين أو لم يستقم لهم .
وذهب بعض العلماء إلى أنه إذا لم يستقم ولم يأخذوا حظهم من الخمس ؛ فإنه يجوز لهم أن يأخذوا من الزكاة.
وفي ظاهر السنة ما يدل على أنهم حُرِموا من الصدقة من أجل الخمس الذي أخذوه من بيت مال المسلمين فيما يأخذونه من الخمس من بيت مال المسلمين ، وهذا هو معنى قوله -عليه الصلاة والسلام- لأبي سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب : (( إنما هو الخمس )) .(4/66)
وظاهر السنة في عموم نهي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن الزكاة يدل على أنه يشمل ما إذا استقام أو لم يستقم، وهذه المسألة راجعة إلى سبب : وهو هل سبب تحريم الزكاة على آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- استغناءهم بما لهم في بيت مال المسلمين أو أن السبب أن الزكاة أوساخ الناس ؟ وقد قال الله -- عز وجل -- في الزكاة : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لابنه الحسن أو الحسين كما في الرواية : (( كِخْ أو كَخْ كَخْ إنها من الصدقة إنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس )) فعلى القول بأنها أوساخ الناس يشمل حالة استقامة الخمس وعدم استقامته .
ويستثنى منها حالة الضرورة فذهب بعض العلماء إلى أنه إذا اضطر الهاشمي ولم يجد ما يكفيه وتعرض للمخمصة حل له أن يأخذ من الزكاة حتى إن بعض العلماء يقدمها على الميتة . هذا بالنسبة لتحريم الزكاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وآله -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- .(4/67)
قال رحمه الله : [ ولا يجوز دفعها إلى الوالدين وإن علو ] : [ولا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين]: الأب والأم. [ وإن علو ] كالجد من جهة الأب أو الجد من جهة الأم ؛ والدليل على ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( إنما فاطمة بضعة مني )) فأثبت أن الولد من الوالد كالشيء الواحد ؛ فقال : (( بضعة مني )) وعلى هذا فإن السنة دلت على أن من أعطى ولده كأنه أعطى نفسه ، والزكاة واجبة عليه لا له ، ومن هنا لا يجوز أن يدفع الأب زكاته لابنه، ولا يجوز للابن أن يدفع زكاته لأبيه ، ولا يجوز للبنت أن تدفع زكاتها لأمها ولا لأبيها ؛ لأن الابن مع أبيه وأمه والبنت كذلك كل منهما كالشيء الواحد ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: (( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم )) فاجتمعت دلالة السنة في هذين الحديثين على أن الولد والوالد كالشيء الواحد ، سواء كان أباً مباشرة أو أباً بواسطة كالجد وسواء كان جدا تمحض بالذكور كأب الأب أو تمحض بالإناث كأب أم الأم أو أب الأم كل هؤلاء لا يجوز دفع الزكاة إليهم ؛ لأن الله سمى الجد أبا ؛ فقال تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم } فلا يجوز دفع الزكاة للآباء ولا للأمهات ولا للأجداد ولا للجدات ، وأيضا لا يجوز دفع الزكاة من الآباء للأبناء والبنات سواء كانوا مباشرين أو بواسطة .
قال رحمه الله : [ ولا إلى الولد وإن سفل ] : ولا يجوز دفع الزكاة للولد يعني سواء كان ذكرا أو أنثى إذا قيل ولد فيشمل الابن والبنت . [ وإن سفل ] يعني نزل كابن الابن وبنت البنت وابن البنت وبنت الابن كل هؤلاء لا يجوز دفع الزكاة إليهم لما قدمناه .(4/68)
قال رحمه الله : [ ولا إلى الزوجين ] : ولا يجوز دفع الزكاة إلى الزوجين ، فلا تدفع المرأة زكاتها لزوجها ، ولا الزوج لزوجته ، هذا من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل ففيه خلاف بين العلماء -رحمهم الله- ، فالمرأة تنتفع بدفع الزكاة إلى زوجها ، والزوج ينتفع بدفع الزكاة إلى زوجته ، ومن هنا مُنع من دفع الزكاة لحصول النفع كأنه ينتفع والمال آيل إليه .
قال رحمه الله : [ ولا من تلزمه مؤونته ] : ولا يجوز دفع الزكاة إلى من تلزمه مؤونته كعبده وزوجته أيضا وقريبه إذا وجبت نفقته عليه ؛ لأنه إذا وجبت نفقة القريب على المزكي فإنه إذا أعطاه الزكاة دفع الضرر عن نفسه وحينئذ يجب عليه أولا أن ينفق عليه ، وبالنفقة يستغني القريب وهذا هو الأصل أنه إذا وجبت عليه النفقة قدمها على الزكاة ، وإذا أعطاه نفقته التي وجبت عليه صار غنيا فسقط حقه في الزكاة .
قال رحمه الله : [ ولا إلى الرقيق ] : ولا يجوز دفع الزكاة إلى الرقيق المملوك ؛ لأن نفقته واجبة على سيده ، ولو أنه أعطاه النفقة فإن مآلها إلى السيد ؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيحين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع )) فأخلى يده عن الملكية .
قال رحمه الله : [ ولا إلى كافر ] : ولا يجوز دفع الزكاة إلى كافر وهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ممن منع دفع الزكاة للكفار : عبدالله بن عمر -رضي الله عنه وعن أبيه- فلا يجوز دفعها ليهودي ولا لنصراني سواء كان كتابيا أو غير كتابي كالمشرك والملحد والمرتد ونحوهم فهؤلاء كلهم لا يجوز دفع الزكاة إليهم سواء كانت الزكاة زكاة الأموال أو كانت زكاة فطر خلافا للإمام أبي حنيفة -رحمه الله- في مسألة زكاة الفطر .
والصحيح أنه لا يجوز دفع الزكوات الواجبة إلى الكفار.(4/69)
أما الصدقة فيجوز أن تتصدق على الكافر كما يجوز أن تتصدق على المسلم ، فلو أن مسلما تصدق على يهوديّ أو نصرانيّ فلا بأس ؛ لما ثبت في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها دخلت عليها يهودية فاستطعمتها فأطعمتها ، فقالت لها : أعاذك الله من عذاب القبر ففزعت عائشة –رضي الله عنها- من قولها فلما دخل عليها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أخبرته بما قالت اليهودية. فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لقد أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو أشد )) .
فالشاهد أنه أقرها على صدقتها ؛ لأن الصدقة النافلة يحصل بها التأليف ، وقد يلين قلبه للإسلام ، ثم إن الصدقة محض منة وصدقة التطوع يقصد بها التقرب إلى الله -- عز وجل -- ((وفي كل كبد رطبة أجر)) .
قال رحمه الله : [ فأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم ] : فأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم : يجوز أن يتصدق على آل النبي-- صلى الله عليه وسلم -- الصدقة غير الواجبة على ما اختاره المصنف -رحمه الله-، وقد بينا أن الصحيح عموم النهي عن الصدقة سواء كانت واجبة أو غير واجبة عن آل النبي-- صلى الله عليه وسلم -- لشرفهم، وهم أبعد من هذه الصدقة سواء كانت واجبة أو غير واجبة ، وحديث بريرة يقوّي ذلك.(4/70)
وأما بالنسبة لغير آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيجوز للولد أن يتصدق على والده ، فيجوز للوالد أن يتصدق على ولده الصدقة بالمعروف ، وحينئذ يؤجر من وجهين : يؤجر من جهة كونه بارا بوالده ، وتكون برا له ومن جهة الصدقة نفسها . فالصدقة على القريب كما ثبت في الحديث الصحيح يكون فيها أجران : أجر الصلة ، وأجر الصدقة نفسها ، فحظها أعظم وثوابها أكبر، ويجوز أن يتصدق كما ذكرنا على الكافر ويجوز للمرأة أن تتصدق على زوجها ، ويجوز للزوج أن يتصدق على زوجه ، كل هذا جائز ؛ وقد ثبت في السنة بالصدقة على آل الزوج كما في الحديث الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز دفع الزكاة إلا بنية ] : ولا يجوز دفع الزكاة إلا بنية : لأنها عبادة، والعبادة لا تصح إلا بنية ، نية التقرب إلى الله -- عز وجل -- ، وإذا كانت واجبة نواها ، فينوي أنها زكاة عن ماله ، فلو أن شخصا أخرج مبلغا من المال وأعطاه فقيرا مجاملة أو أعطاه بسبب إلحاح وأذية ، ثم قال : مادمت أعطيته هذه الألف سأنويها زكاة ، فالعبرة بوقت الإعطاء فمادام أنه أعطاه على نية المجاملة أو على نية الفكاك من إلحاحه وأذيته وكثرة غشيانه وإتيانه فإنه لا تعتبر زكاة ، ولا تجزيه عن الزكاة ، لا تجزيه عن الزكاة إلا إذا كان عند الدفع قد نوى أن تكون زكاة بماله ؛ فحينئذ تجزيه .
وأما إذا لم ينو ذلك في ذلك الوقت المعتبر فإنه لا تجزيه ولا تقع زكاة ، فلابد في الزكاة من النية لما ذكرنا لأنها عبادة ، والعبادة لا تصح إلا بنية وهي كالصلاة ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) فدل هذا الحديث على أن من نوى الزكاة كانت له ، ومن لم ينوها زكاة لم تكن له .(4/71)
قال رحمه الله : [ إلا أن يأخذها الإمام قهرا ] : إلا أن يأخذ الإمام الزكاة قهرا ، فإذا أخذت قهرا وبدون رضى الإنسان كما كان يحدث في القديم فإنها تجزيه ، وهو قول جمهور العلماء –رحمهم الله - .
قال رحمه الله : [ وإذا دفع الزكاة إلى غير مستحقها لم يجزه ] إذا دفع الزكاة إلى غير مستحقها: لو دفع الزكاة إلى غني لم تجزِه ، ولو دفع الزكاة الو اجبة إلى كافر لم تجزه، إذا دفع الزكاة إلى غير المستحق فإنه يتحمل المسؤولية ويجب عليه ضمانها ، ثم هذا الذي أخذ الزكاة إذا كان الإنسان يظنه فقيرا وتبين أنه ليس بفقير؛ فإن الزكاة تسترد منه ، فإذا رفع إلى الإمام فإن الإمام ينتزعها منه بالقوة، لأنها دفعت على أساس أنه فقير وتبيّن أنه ليس بفقير ، ولأنها حق مخصوص لشخص مخصوص لم تتوفر فيه صفاته، فأخذها على هذا الوجه ظلم، ومن هنا كل من تعرض للزكوات وأخذها وهو لا يستحقها؛ فإنما يستكثر بها من نار جهنم-والعياذ بالله- ، ولاشك أنه يأكل في بطنه ناراً، وسيصلى سعيرا بهذه الزكاة التي جعلها الله للضعفاء والفقراء والبؤساء وأرامل المسلمين وأيتامهم والمحتاجين الذين سمينا وبينا وبينت النصوص منْ هم ، فإذا اعتدى على هؤلاء فهم خصومه بين يدي الله –- عز وجل --، فالتساهل في هذا الأمر من بعض الناس حتى تجده في نعمة ، وتجده عنده الكفاف بحيث لو استغنى بما عنده من طعامه وكسوته والستر الذي يجده في نفسه وآله لحصل له الغناء ، ولكن يأبى إلا أن يتكثر بأموال الزكاة ، ويأبى إلا أن يعتدي على أموال المسلمين فيأتي ويزاحمهم ويدعي أنه مريض والله يشهد أنه صحيح ، ويدعي أنه فقير والله يشهد أنه غني ، ويدعي الدعاوى الكاذبة حتى يتوصل إلى هذه الأموال ، فإذا أخذها على غير حق بدون حق ؛ فإنه يكون ضامنا يتحمل المسؤولية أمام الله -- عز وجل -- في الدنيا والآخرة .(4/72)
أما في الدنيا فيجب رد جميع هذه الأموال التي أخذها ، فلو أن شخصا كذب في دعواه، وادعى أن عليه إيجار شقة لمسكنه وولده ، وأنه لا يستطيع أن يسدد هذا الإيجار ، فأخذ ثلاثة آلاف لسد هذا الدين ، والواقع أنه سدد أو أخذ من غني آخر وسدد، ثم أخذ الثلاثة آلاف هذه الزائدة يجب عليه أن يردها، وهي سحت يأكلها سحتا -والعياذ بالله-، وإذا خرج من هذه الدنيا ولم يردها فإنها نار جهنم التي يكوى بها جنبه وجبينه وظهره في يوم حتى يقضى بين العباد في يوم مقداره خمسون ألف سنة؛ كما في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبينه وظهره)) .
قال بعض مشايخنا رحمهم الله : إذا كان هذا في من منع الزكاة ، فكيف بمن كذب ؟! واعتدى على الضعفاء، فالزكاة كانت مصروفة إلى الضعفاء فإذا به يحول بينهم وبين حقوقهم ، فكان ظالما من وجهين :
من جهة منع الزكاة ، أنه مانع للزكاة من وجه .
ومؤذ لإخوانهم المسلمين من وجه .
وعلى هذا ينبغي التحفظ في هذه الأمور ، وكان بعض أهل الورع وأهل الصلاح يخافون من هذه الزكوات ، بل من كل مال في بيت مال المسلمين ليس لهم فيه حق ، حتى إن عمر -- رضي الله عنه -- لما أتي له بالطيب من بيت مال المسلمين . قال بأنفه هكذا . فوضع ثوبه على الأنف حتى لا يشم . فقيل له : ماذا تفعل يا أمير المؤمنين ؟ قال : إنه لبيت مال المسلمين ، وهل الطيب إلا رائحته ؟! أي ما دام أنه لبيت مال المسلمين وفيه الرائحة فإنني أخشى أن أكون قد أخذت هذه الرائحة من بيت مال المسلمين . فما بال هؤلاء يرتعون في أموال الزكوات ويأخذونها - نسأل الله السلامة والعافية - .(4/73)
قال رحمه الله : [ إلا الغني إذا ظنه فقيرا ] إلا الغني إذا ظنه فقيرا وأعطاه؛ وهذا على حديث الصحيح : (( تصدق الليلة على غني تصدق الليلة على زانية.. الحديث )) . وعلى هذا الأصل قالوا إذا لم يعلم بغناه ؛ فإنها تجزيه وتمضي زكاته .
أما بالنسبة للشخص إذا أخذ الزكاة غنيا كان أو كان مدعيا لصفة ليست فيه وهذه الصفة توجب الزكاة ؛ فإنه يجب عليه ضمان هذا المال ورده إلى صاحبه أو يستأذن صاحبه فيخرج الزكاة عنه . وتشترط النية فلابد أن يرده إلى صاحبه ، فإذا أراد أن يخرجها بنفسه يخبر صاحب الزكاة ويقول له: سأخرج الزكاة عنك ، ولذلك المصنف سبق وأن ذكر أنه لا تصح الزكاة إلا بنية ، ومن هنا لو أن شخصا علم أن أباه عليه زكاة بألف ريال، فجاء وأخرج الزكاة عن أبيه دون علم أبيه لم تجزه ؛ لأن الأب لم ينوها ولم يوكله بالإخراج ، وعلى هذا لو أنه أخذ مال الزكاة وكذب على صاحبه فيجب عليه عند الرد أن يردها لصاحبه ، فإذا أراد أن يخرجها للضعفاء والفقراء يخبر صاحب المال حتى ينوي صاحب المال إخراجها للمحتاجين .
الأسئلة :
السؤال الأول : رجل أذن أذان الظهر في المدينة وهو خارج من بيته متوجه إلى جدة فصلى بعد المركز فهل يصلي أربعا أو قصرا وهل يجمع وجزك الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد :
فاختلف العلماء -رحمهم الله- فيمن أذّن المؤذن وهو في الحضر ثم خرج فسافر ولم يصل الصلاة إلا وهو على سفر، هل العبرة بوقت الدخول أو العبرة بالأداء على وجهين : أصحهما وأقواهما أنه يصلي أربعا ؛ لأنه إذا أذن عليه الأذان وهو في الحضر فقد خوطب بالصلاة أربعا ؛ وعليه فإنه يصلي أربع ركعات على أصح قولي العلماء . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :(4/74)
فضيلة الشيخ : هذه سائلة تقول: فاتتها ركعة وأدركت الإمام ساجداً ثم لم تقض هذه الركعة ظنا منها أنها أدركتها وسألت بعد الخروج من المسجد فماذا عليها . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
يجب عليها قضاء الصلاة كاملة . كل من فاته ركن أو فاتته ركعة فأكثر من الصلاة يجوز له أن يتدارك مادام في المسجد ، أما إذا خرج عن المسجد فإنه ينقطع التدارك ويجب عليه قضاء الصلاة كاملة ؛ والأصل في استثناء المسجد ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر -والشك من الراوي- فسلم من اثنتين فقام - صلى الله عليه وسلم - إلى جذع كان في المسجد -وهو الجذع الذي كان يعتمد عليه- وشبك بين يديه كالغضبان فهاب الصحابة أن يكلموه ، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة يا رسول الله أو نسيت ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : ما كان شيئا من ذلك . قال : بلى قد كان شيء من ذلك . فقال - صلى الله عليه وسلم - للصحابة : أصدق ذو اليدين ؟! قالوا : نعم . فرجع عليه الصلاة والسلام وصلى ركعتين ، ثم سجد سجدتين بعدما سلم كما في رواية عمران -- رضي الله عنه - -.
محلّ الشاهد : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سلّم من الصلاة وبقيت له ركعتان ، وقام من موضع الصلاة ، ولما تبين له النقص رجع إلى موضع الصلاة ، فدل على أن خروج المصلي عن مكان الصلاة وأنه مادام داخل المسجد لا يقطع البناء ، وأنه يجوز له أن يبني على ما مضى من صلاته ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بنى على ما مضى من صلاته ، وعلى هذا إذا فاتته السجدة في الركعة الأخيرة كأن يكون سجد سجدة واحدة ثم تشهد ثم سلم ثم تذكر أنه لم يسجدها سجد في الحال ولو كان قد قام من مصلاه سجد ثم تشهد ثم سلم ثم سجد سجود الزيادة البعدي وقد بيّنا دليل ذلك من السنة .(4/75)
وأما بالنسبة لمن خرج كما هو حال السؤال فحينئذ ينقطع فيه التدارك ؛ لأن الأصل عدم التدارك مادام قد خرج من الصلاة ، واستثني المسجد لورود النص فيه فبقي ما عداه على الأصل فيجب عليه قضاء الصلاة تامة كاملة . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : شخص يتقاضى مرتّبا شهرياّ يسأل عن كيفية إخراج الزكاة ، وأتيح له فرصة تدريبية تحصل منها على مبلغ من المال السؤال : هل يخلط بين الراتب وما تحصل عليه في هذه الدورة علما بأن المال المتحصل عليه في الدورة لم يحل عليه الحول. وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
بالنسبة للرواتب هناك طريقتان :
الطريقة الأولى : أن يجعل حولها واحدا . فأول راتب يستلمه يعتبره حولا لجميع المال، فإذا جاء واحد الذي هو أول محرم واستلم راتبا في أول محرم من شهر ذي الحجة مثلا فإنه يستقبل بعد ذلك السنة كاملة إذا جاء الحول نظر إلى الموجود عنده من الرواتب وزكاه زكاة واحدة ، وهذه الطريقة تقطع الوسوسة وهي فضل من الإنسان ؛ لأن هناك رواتب لم يحل عليها الحول ، ولكن حتى يخرج من الإشكال يجعل حولها واحداً . هذه الطريقة طريقة أكمل وأفضل لكنها ليست واجبة .(4/76)
الطريقة الثانية وهي الواجبة : أن يجعل كل راتب عليه ورقته بتاريخه ثم يصرف منه ما شاء ، ثم إذا حال الحول نظر هل بقي من هذا الراتب شيء من النصاب فما فوق فيزكي إذا ما بقي شيء فلا زكاة عليه . استلم أربعة آلاف لمحرم ثم مثلها في صفر ثم مثلها في ربيع يأخذ الذي لمحرم ويضع عليه ، فإذا جاء محرم من السنة القادمة لم يبق من راتب محرم السنة الماضية شيء لا زكاة عليه ، بقي شيء دون النصاب لا زكاة عليه ، بقي شيء فوق النصاب زكّاه . كذلك أيضا بالنسبة لبقية الشهور، فينتظر إلى حولان حول على راتب صفر وراتب ربيع وراتب جمادى إلى آخره هذه الطريقة هي الأصل أن العبرة في كل راتب أن يحول عليه الحول كاملا ، لكن الطريقة الأولى من باب أنها أفضل وأكمل ويصبح الحول لمحرم وما عداه معجل يكون ما عداه قد عجلت زكاته ؛ لأنه لم يحل عليه الحول بعد يخير بين هذا وهذا .
أما الدليل إذا قلنا إنه يجعل لكل راتب حوله ؛ فالدليل هو الأصل الشرعي؛ لأن السنة ثبتت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بأنه لا زكاة حتى يحول في المال حتى يحول عليه الحول ؛ وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يأخذ الزكاة من الصحابة إلا بعد أن يحول الحول، فحينئذ قلنا لكل راتب حوله ، وهذه لا إشكال فيها .
أما الصورة الثانية فدليلها مخرج على مسألة جواز تعجيل الزكاة وهذه فيها حديث العباس –- رضي الله عنه --وهو صحيح وقد تقدم معنا في مسألة تعجيل الزكاة .
وثانيا : قياسا على نتاج الغنم ، فإن بعضه لم يحل عليه الحول لكن هذا القياس فيه إشكال من جهة أن نتاج الغنم فرع تابع لأصله والراتب ليس فرعا تابعا للراتب الأصلي . على كل حال يخير بين الطريقتين .(4/77)
أما ما استحدث من الدورات ومن البدلات إذا كانت هذه طارئة فحينئذ لا إشكال أن لها حولا مستقلا ، لو أنه مثلا خرج في انتداب ، وهذا الانتداب أعطي فيه خمسة آلاف ريال ، وراتبه الأصلي أربعة آلاف ريال نقول : خمسة آلاف ريال هذه الواجب عليك أن تنتظر سنة كاملة لا تجب عليك الزكاة حتى يحول عليها الحول ، هذا مال جاء بإجارة لعمل لا علاقة له بالعمل الأصلي يعني ليس نتاجا له ولا فرعا له هو انتداب لكنه عمل زائد، فحينئذ يخير إن شاء أن يضمه إلى الراتب تفضلا منه ويضمه إلى الراتب الأول كما ذكرنا من باب تعجيل الزكاة فلا إشكال، وأما الواجب عليه فينبغي عليه أن ينتظر حوله تاما كاملا . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : استدان شخص بعض المال لينفقه على عمرته لعدم توفر المال لديه فما حكم عمرته في هذه الحالة . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
العمرة والحج ينبغي أن يتخير لهما المال الطيب من كسب الإنسان ، وإذا أراد الإنسان أن يعتمر فلا تجب عليه العمرة ولا يجب عليه الحج إذا ما كان عنده قدرة ، لكن لو أنه من عنده أراد أن يتسلف ويتدين ويقترض كشخص أزف زمان الحج عليه وأحب أن يقترض ؛ لأن الراتب سيأتيه ولا إشكال عنده أو عنده ديون على الناس ينتظر أن تأتيه فقال : لا أحب أن أفَوَّتَ موسم الخير فلابأس ولا حرج ، لكن لا يجب عليه أن يحج قرضا ودينا حتى ولو وجد من يسلفه ويقرضه . أما من عند نفسه فيجوز له إذا أراد .
أما بالنسبة لمسألة الجواز فيجوز، وقبول العمل الصالح إذا كان بمال الغير موقوف على رد هذا المال لصاحبه ، فإذا رد إلى الناس حقوقهم رجي له القبول إن توفرت أسباب القبول .والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : أنا شاب من عادتي إفشاء أسرار أصحابي ما إثم ذلك وبماذا تنصحني لكي أتجنب مثل هذه العادة . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(4/78)
اتق الله في نفسك ، اتق الله في إخوانك ، لا يجوز إفشاء الأسرار، ومن أفشى السر؛ فقد خان الأمانة ، ومن خان الأمانة ؛ ففيه خَصْلة من خِصال المنافقين، فلا يجوز لك أن تخدع إخوانك ، وأن تنكث العهد الذي بينك وبينهم في أخوتهم ، فتفشي أسرارهم ، وتتساهل في ذلك ، وإفشاء الأسرار مذمة ومنقصة في الإنسان رجلا كان أو امرأة ، وبخاصة إذا كان إفشاء السر يوجب العداوة ، كمن ينقل الأحاديث فتنشأ منها العداوة فهي النميمة ، والنمام معروف عذابه عند الله -- عز وجل -- فإنه يعذب في قبره . وقال بعض العلماء في قوله تعالى : { وامرأته حمالة الحطب } قيل: إنها كانت تسعى بالنميمة ، فتحمل الحطب يعني أن النميمة توقد النار بين الناس بالعداوة ، كما أن الحطب توقد به النار فكنى بذلك ، وقيل : حمالة الحطب ؛ لأنها كانت تحمل الحطب فتجعله في طريق رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- .(4/79)
فالشاهد أن إفشاء الأسرار وبخاصة إذا ترتب عليه النميمة الوعيد فيه أشد ؛ ولذلك احتقر الله أمثال هؤلاء ، وأنزلهم عن المنازل الكريمة { ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم } فالذي يخون الناس في أسرارهم مذموم عند الله -- عز وجل -- ، مذموم عند خلقه ، عليه أن يتقي الله -- عز وجل -- خاصة إذا كان صاحب السر له فضل على الإنسان، كأن يكون أحسن إليه فأدخله إلى بيته وأكرمه ، أو أطلعه على أسراره وعلى عيوبه ، فيذهب ويفشيها لأعدائه ، وبخاصة إذا كان من ذوي الرحم كالأب والأم والزوج والزوجة إفشاء السر أمره عظيم ولاشك أنه تترتب عليه العواقب الوخيمة فهو خيانة للأمانة ، وسيضرب الصراط على متن جهنم فلن يستطيع أن يمر على الصراط سالما من خان الأمانة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ثم يضرب الصراط على متن جهنم وعليه كلاليب تخطف الناس )) جاءت الرواية الأخرى في الصحيح تبين قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ثم يضرب الصراط على متن جهنم وتقوم الأمانة والرحم على جنبتي الصراط )) قال بعض العلماء : فيه دليل على أنه لا يمر على الصراط سالما إلا من حفظ حق الرحم ولم يخن الأمانة، عيب على الإنسان وعار عليه أن يخون الناس في أسرارهم رجلا كان أو امرأة . المرأة تكون مع زوجها يذهب بها إلى أهله ، فتجلس مع أهله فتسمع أسرارهم وأخبارهم ثم لا تجد شيئا تتفكه فيه أو تتفكه به إذا جلست مع الغير إلا أن تقول: فلان فعل، وفلان قال، وفلان عنده، وفلان كذا وكذا، كذلك الرجل تجده في وظيفته وعمله تأتيه معاملات الناس وفيها أسرار الناس سواء كان في القضاء أو كان في أي مصلحة من مصالح المسلمين حتى الفتوى الشيخ حينما يأتيه الناس يستفتونه يعطونه أسرارهم فإنها أمانة في عنقه ، فعلى الدعاة وطلبة العلم أن يتقوا الله في أسرار المسلمين، وأذكر من الوالد –رحمه الله- موقفا سألته عن رجل وقف معه وكنت صغير السن : ماذا قال له ؟(4/80)
فضرب على كتفي وقال : يا بني ، امش هذه أسرار المسلمين لا أبيحها ولو ضربت عنقي . هناك أسرار للناس ليست الأمانة فقط أن يعطيك المال وتضعه في صندوق ، قد يعطيك ما هو أعز من المال ومن نفسه التي بين جنبيه يثق بمحبتك ومودتك وأخوتك ، ولذلك الحر الكريم لا يخون الأمانة ، ومن هنا قالوا في المثل : (( قلوب الأحرار قبور الأسرار)) ، قلوب الأحرار: الحر الوفي الكريم السر في قلبه إذا أعطيته السر فقد قبرت هذا السر إلى يوم الدين ، حتى يلقى الله وقد وفىّ الأمانة ولم يخنها ، وليقفنّ كل من حمل الأمانة بين يدي الله -- عز وجل -- ليقال له : أد أمانتك ، فالخائن للأمانة تصور له الأمانة بجرم ، ثم تلقى له في النار كما ثبت في الصحيح ، ثم يقال : له أد الأمانة فينزل في نار جهنم ويحملها على ظهره . أمانة في الأسرار، أمانة في الأخبار، أمانة في العيوب، أمانات الناس في عيوبهم وأسرارهم وأخبارهم كلها تصور في ذلك اليوم العظيم ويقال : له أد أمانتك ، فينزل إلى نار جهنم على عظم الأمانة وقلتها ، فإذا حملها على ظهره يقول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ((حتى إذا بلغ شفيرها تردت –سقطت- من على ظهره مرة ثانية فينزل ويأتي بها من نار جهنم )) يعذب بهذه الخيانة .(4/81)
الذي يفشي السر الكلمة الواحدة قد يهوي بها الإنسان في نار جهنم من الأسرار (( إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله )) الكلمة من سخط الله أن تكون سرا عند الإنسان ثم يبيحها ولذلك قالوا إذا كلم الرجل الرجل في الحديث المرفوع عنه -عليه الصلاة والسلام- فالتفت فإنها أمانة . خلاص أصبحت أمانة في عنقه بمجرد أن تفارق أخاك، فعلى من اطلع على أسرار المسلمين وعلى عيوبهم وعلى أخبارهم أن يتقي الله في عورات المسلمين ، وأن نحفظ هذا اللسان ، وهذا لا يختص بأحوال الناس العامة بل آكد ما يكون في طلبة العلم وفي الأخيار، حتى إن طالب العلم قد يكون في مجلس العلم مع بعض طلبة العلم فيطلع على بعض عوراتهم الخاصة ثم يذهب ويقول: طلاب العلم فيهم كذا وكذا ، أنت مؤتمن ، الأمانة أمرها عظيم ، والسر أمره عظيم ، يرتفع الرجل إلى ذرا العلياء وهو مرقع الثياب حافي القدم حينما يحفظ السر، ويهوي إلى حظيظ الغبراء وإلى أسفل سافلين ولو كان عزيزا شريف النسب إذا خان الأمانة وباح بالأسرار، وانظر إذا قيل لك: فلان يبيح السر، كيف يمقت وكيف يسقط من عينيك ، وكيف تذهب مكانته من قلبك .(4/82)
على المؤمن أن يسعى في الكمالات ، وأن يتقي الله في أسرار المؤمنين والمؤمنات ، حتى لو جاءك صاحبك وقال لك: والله سر بيني وبينك . البعض يفرح ويقول : والله سر بيني وبينك . مباشرة تقول له : يا أخي ، اتق الله فأنت على شفير جهنم ، إن كان هذا السر ائتمنك عليه مسلما فاتق الله ولا تفضحه ، وإن كانت عورة فاسترها ؛ فإن الله مؤاخذك على ذلك ، ومن أفشى أسرار الناس أفشيت أسراره ، ومن هتك ستر الله على عباده ؛ هتك الله ستره وفضحه في قعر بيته ؛ فعلى المسلم أن يتقي الله -- عز وجل -- . هذا الاسترسال في اللسان ، وإخبار الناس بأخبارهم وعيوبهم أمره عظيم وعواقبه وخيمة ؛ ولذلك قل أن يسود في الناس ، وقل أن يكون محبوبا من أفشى أسرار الناس ، بل تجتمع القلوب على كراهيته ، والناس على النفرة منه وحقارته فيذوق ذل الدنيا قبل ذل الآخرة ، ولما ينتظره عند الله أعظم فاتق الله في نفسك ، ومن اليوم احفظ أسرار المسلمين، وهذه العادة المذمومة اردع نفسك عنها بنار جهنم ، واعلم أنك إلى الله صائر، وأنك مجندل بين اللحود والحفائر، فلا يطلبنك الله بعورات المسلمين، وإياك أن تسترسل في هذا الأمر حتى تهتك ستر الله على ولي من أوليائه، فيؤذنك الله بحر فتشقى في الدنيا والآخرة .
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يصرف عنا سيء الأخلاق وشرها ، لا يصرف عنا شرها وسيئها إلا هو . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
تكثر في الإجازة المناسبات ويلاحظ التساهل في حقوق كبار السن وبخاصة من القرابة فهل من كلمة في ذلك . غفر الله لكم ولوالديكم ولجميع المسلمين ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(4/83)
فالكبير له حق كبير، وعلى المسلم أن يحفظ وصية رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في كبار المسلمين ؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا )) فمن حفظ حقوقهم وأداها إليهم فقد حفظ وصية رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، ولقد عدّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- الإحسان إلى الكبار ورحمتهم وإكرامهم من شيم المسلمين حتى قال - صلى الله عليه وسلم - يبين فضل الإحسان إليهم : (( إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم )) .
فيعظم حق الكبير إذا كان من القرابة وبخاصة حينما يكون أمام الناس؛ فإن الأمر آكد والحق على القريب أوجب، فكم من قريب جُرِح فؤاده وجُرِح قلبه بنسيان القريب له ، فلم يراعِ حق القرابة، ولم يرحم كبر سنه، ولم يرحم ضعفه وعجزه ، ولو كان للكبير ما هو فيه من همه في نفسه لكفاه ، فقد رق عظمه ، وابيض شعره ، وقد اشتكى الكبير إلى ربه ذلك فقال : { إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا } فاشتكى الأنبياء إلى ربهم -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- شدة الكبر ومؤونته ، فالكبير يكفيه ما في نفسه ، يكفيه فراقه لأحبته وإخوانه وخلانه ، فينتظر من القريب أن يواسيه وأن يسليه وأن يرحم هذا الضعف، وأن يجبر هذا الكسر، وإذا لم يرحمه قريبه فمن يرحمه ، وإذا لم يشعر أو يتلمس مشاعره من هو قريب منه فمن هذا الذي يتلمسها .(4/84)
يقف كبار السن كما ورد في السؤال في المناسبات وقد أتوها فرحين مستبشرين فيخرجون بقلوب مجروحة، ونفوس متألمة ، لا يعلم ما يعانوه ويجدوه من الاحتقار ومن التناسي ومن الإهمال ومن اللامبالاة إن لم تكن هناك الألفاظ التي لا تليق من السفهاء ومن الأحداث ومن صغار السن . لقد بلغ بقطيعة الرحم من بعضهم -والعياذ بالله- إلى أنه يستعيب أن يجلس عمه أو خاله ذي الشيب المسلم في صدر المجلس ، يستعيب أن يجلسه في مكان يليق به ؛ لأنه يراه مرقع الثياب ، ويراه بهيئة ليست بجميلة ، والبنت يبلغ بها في المناسبة أن لا تقترب من عمتها ولا من خالتها ؛ لأنها فقيرة وتخاف أن تراها صويحباتها ، فيسألنها من هذه ؟ فتقول : عمتي أو خالتي . حتى إن البعض من الأبناء يشتكي لأبيه ويقول : يا أبت، لا تجلس في صدر المجلس عمي فلان ما يجملنا ، وعمي فلان وخالي فلان وإذا به يُجْلس في أقصى المجلس لكي يدخل محبا ويأتي من مسافة بعيدة صادق الود صادق الحب لقرابته ؛ فإذا به يخرج مكسور القلب مهانا ذليلا قل أن يجد من تبسم في وجهه ، وقل أن يجد من رحم شيبته وكبره .(4/85)
يا هذا ! يا معشر الشباب ! أي أنتم من أخلاق الإسلام ، لماذا ينتقص الإنسان نفسه مع قريبه؟! ولماذا يستذل بلحمته ودمه ؟! إن هذا الذي تجلسه في صدر المجلس جميل الثياب حسن الهيئة قد لا يفكر فيك ، ولو نزلت بك ضائقة لم يسأل عنك ، أما هذا القريب الذي أهنته بل ولربما يكون بعضهم قد جاء من مئات الكيلومترات يكون فقيرا في باديته وغنمه يأتي بهديته التي لا تساوي شيئا فإذا بالقريب يزدريه ويزدري هديته ، ولربما جاء بثوبه أو جاءت المرأة والأم والعم والعمة والخالة بثياب رثة هذا ما يستطيعونه وهذا مبلغ ما بأيديهم فإذا جاءوا ودخلوا وجدوا البنات يبتعدن ويتنكّرن ولا تستطيع واحدة منهن أن تجد بنتا لأختها أو بنتا لأخيها تتبسم في وجهها إنا لله وإنا إليه راجعون ! لئن اكتسى الأغنياء والأثرياء بريش الدنيا فقد اكتسى ذوو رحمك بتقوى الله-- عز وجل -- ولباس التقوى ذلك خير { قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير} هذا ابن عمك قد جاء من مئات الكيلومترات قد يكون مريضا ، قد يكون في آخر عمره، الكيلو منه بمئات الكيلومترات من المشقة التي تحملها ، والله لو ابتسمت في وجهه لتبددت عنه هموم الدنيا، ولو أنك قبلت رأسه وأنفه اشترى ذلك بالدنيا كلها ، جاءك بهديته المتواضعة أو بثيابه الرثة لكي يترجم لك حبه ووده ، لكي يذكرك بالرحم والدم ، فيا معاشر المؤمنين والمؤمنات رفقا بالرحم ! التي اشتكت إلى ربها من القطيعة ، عار عليك أن تتخلى عن لحمك ودمك ، وعار عليك أن تنسى جنسك وأهلك ، عار إن كنت تظن أن هذا يرفعك عند الناس فلن يزدك إلا سفالة .(4/86)
أيها البعيد وإن كنت تظن أن هذا يعزك فوالله، لا يزيدك إلا ذلاّ ، كن على بينة أن الرحم لها حق كبير، وأن هؤلاء وإن ضعفت أحوالهم المادية وقصرت بهم عن هذه المنزلة أنهم شيء كبير بما يحملون في قلوبهم من الحب والود، فلنتق الله في أرحامنا ، ولنتق الله في قرابتنا ، ولنتق الله في صلة الأرحام ، فهؤلاء لهم حق كبير علينا ، ونتقرب إلى الله -- عز وجل -- بذلك .
رأيت رجلا يقارب السبعين من عمره -وهذه الحادثة مرت علي- تعطلت سيارته في الساعة الثالثة من الليل في السحر بين جدة والمدينة ، فوقفت معه ، وإذا به في سيارته يحمل رأسين من الغنم أو ثلاثة ، وقد شمر ثيابه لكي يصلح الكَفَر الذي تعطل في سيارته ، وهو في آخر عمره يقارب السبعين وحاله تنظر إليه حال رث . فسألته : ما بك ؟ قال : تعطلت سيارتي ، وإذا به بفراشه الذي ينام فيه قد وضعه في سيارته . نعم ؛ لأنه إذا جاء إلى قريبه وجد أن القريب يتذمر أن ينام عنده فيختار أن يدخل عزيزا وأن يرجع عزيزا ، أن ينام في البر أو ينام بعيدا عن هذا البيت الذي يذل فيه وعن هذا القريب الذي يتبرأ منه . فقلت : ما بك ؟ فحصل ما حصل إلى أن سألته إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : أنا جئت من مائتين كيلو وعندي ابن عمي قريب أريد أن أقف معه وأقدم له هذه الهدية وأرجع . فمثل هذا مكسور القلب، تقول له كلمة تثبته على الحق فقلت : جزاك الله خيرا يا والد أنك وصلت الرحم ، وهذه خطوات عزيزة عند الله أغبطك على ما أنت فيه ، فتنهد بألم ، وقال : إيه يا ولدي ، وهل يشعرون بذلك ؟! هل هم يشعرون ؟! هل هم يفكرون ؟!
قلوب مجروحة وبخاصة كبار السن يتألمون كثيرا ولكن من يجبر كسرهم ؟! ومن يرحم ضعفهم غير الله ثم النفوس الأبية الصالحة .(4/87)
أدركت أناسا من بعض القرابة نالوا شرفا في الدنيا وغنى كان الواحد منهم في عزه وغناه ، إذا جاءه ابن عمه مرقع الثياب احتفى به كما يحتفي بأعلى الناس ، ويجلسه في المجلس الذي يليق به ، لن تنال السؤدد والعزة إلا بصلة الرحم وبمحبة الرحم وبتوقير الرحم ؛ فليتناصح الناس مع بعضهم وبخاصة البنات والنساء فقد أصبحت قطيعة الرحم وبخاصة أمام الناس والتبرأ منها أمر يخشى من عواقبه الوخيمة.
فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيننا على صلة الأرحام ، وأن يعيننا على جبر خواطر الضعفاء والبائسين ، وأن يرحمنا ويرحمهم برحمته الواسعة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من شريط 40 الى 44
كتاب الصيام
باب أحكام المفطرين في رمضان
قال المصنف – رحمه الله - : [ باب أحكام المفطرين في رمضان ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
ترجم الإمام المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة والتي تتعلق بأهل الأعذار في رمضان ، وهذا من الترتيب المنطقي، ومن تسلسل الأفكار الصحيح ؛ لأنه بعد أن بيّن لنا من يجب عليه الصوم شرع في بيان المعذورين ، وهؤلاء المعذورون دلت النصوص في الكتاب والسنة على إباحة الفطر لهم فقال : [ باب أحكام ] الأحكام: جمع حكم ، والحكم إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه .
وأما في اصطلاح العلماء : فهو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء أو التخيير أو الوضع . وهذا يشمل الأحكام بنوعيها : الشرعية ، والوضعية .(4/88)
فأما بالنسبة لقولهم : على جهة الاقتضاء أو التخيير فشمل خمسة أحكام : وهي الوجوب ، والندب ، والحرمة، والكراهة ، وقولهم : أو التخيير المراد به الإباحة ، فهذه خمسة أحكام ؛ لأن الاقتضاء : إما اقتضاء فعل ، أو اقتضاء ترك ، والأول والثاني كلاهما إما أن يكونا على سبيل اللزوم أو على سبيل غير اللزوم .
فقولهم : أو الوضع هذا يشمل الصحة والفساد ، ونحو ذلك : الشرط ، والسبب ، مما لا دخل للمكلف فيه ، ووضعه الشرع كعلامة وأمارة ، ونصّبه على ذلك .
فلما قال المصنف : [ باب أحكام ] : إذا كان هذا تعريف الحكم فمعنى ذلك أنه سيتكلّم على وجوب الفطر على من يجب عليه الفطر وعلى من يندب له الفطر، وعلى من يحرم عليه الفطر، وعلى من يكره له الفطر، وعلى من يباح له الفطر. والواقع أنه قد يخصّ بعض هذه الأحكام دون بعضها ، ولذلك هناك من يجب عليه أن يفطر، فالمريض الذي إذا غلب على الظنّ أنه إذا صام يموت ويهلك كما إذا كان بعد عملية جراحيّة أو كان الإنسان في حالة وضع خطيرة لو صام هلك ؛ يحرم عليه أن يصوم ؛ لأنه في هذه الحالة يلقي بنفسه إلى التهلكة ، وكذلك يجب عليه الفطر، وحينئذ يكون حكم الفطر واجبا .
وقد يكون الفطر مستحباًّ في حق الإنسان وهو أفضل كما لو سافر فلحقته المشقّة وبإمكانه أن يصوم ، فإذا ضيّق عليه السفر في صومه وأصبح في حرج وضيق وشدة وصبر على ذلك ؛ صحّ صومه ، ولكنّه مع الكراهة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - حينما صام حتى بلغ كراع الغميم وأفطر عليه الصلاة والسلام، وهذا بعد صلاة العصر، فلما دعا باللبن وأفطر قيل له إنّ بعض الصحابة لازال صائماً قال : (( أولئك العصاة ، أولئك العصاة )) فحينئذ قالوا : إن هذا عصاة الأمر قيل ، وليس المراد أنه واجب عليهم ، لكنه يكره والأفضل له الفطر .(4/89)
وكذلك أيضا يكون هناك أحكام ذكرها المصنف في هذا الباب من حيث الصحة والفساد؛ فنظرا لاشتمال الباب على عدة أحكام متنوعة جمعها بقوله: [ باب أحكام ] .
والمفطرون : جمع مفطر، والمراد بالفطر أنه ضد الصوم إذا كانت حقيقة الصوم الإمساك عن شهوتي البطن والفرج فالفطر الإخلال بهذا الإمساك ، إما أن يصيب شهوة البطن أو يصيب شهوة الفرج فيحكم بفطره ، فإذا أخلّ كان مفطرًا .
[ باب أحكام المفطرين في رمضان ] : وهذا هو الأصل وهو صيام الفرض ، وينبني على رمضان قضاء رمضان ، وقد ينبني على أحكام الفطر عموما الصيام النافلة والمباح .
كأنه يقول رحمه الله في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالفطر في رمضان .
[ ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام ] : يباح : أي أنه للتخيير ، وهذا أحد قولي العلماء في المسألة : من أهل العلم من قال : يجب على المسافر والمريض أن يفطر.
وجمهور العلماء على أنّه يباح ولا يجب .
وخالف في هذا الظاهريّة وبعض السلف -رحمهم الله- ويقال عن بعض أهل الظاهر وليس كلهم قالوا بذلك ، فالشاهد من هذا أن الفطر في السفر والمرض من العلماء من أوجبه وألزم به المكلف، ومنهم من خير المكلف، فقال بإباحته ، ومذهب الجمهور أن من سافر مخيّر، وأن من مرض مخيّر ما لم يصل به المرض إلى الخوف على نفسه ؛ فحينئذ يتعيّن عليه الفطر؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني )) وإذا ثبت هذا فإن أصحّ قولي العلماء -رحمهم الله- الجواز والتخيير، ومن هنا عبّر المصنّف -رحمه الله- بقوله : [ يباح ] ولم يقل يجب الفطر، وإنما قال يباح أي أنك مخيّر، إنما يرد السؤال : هل الأفضل أن أفطر أم الأفضل أن أصوم ؟ وهذا ما سيذكره -إن شاء الله تعالى- بعد بيانه للفطر في السفر والمرض .(4/90)
فقال رحمه الله ويباح الفطر في رمضان لأربعة أصناف أو أنواع أو أشخاص المراد بهذا الإجمال قبل البيان والتفصيل ، أي أن الله أحلّ لهؤلاء الأربعة أن يفطروا ، وهؤلاء الأربعة منهم : من يفطر ويلزمه القضاء ولا تلزمه كفارة ، ومنهم من يفطر ويلزمه القضاء مع التكفير، ثم يختلفون إلى قسمين أو إلى نوعين :
منهم من تجب عليه الكفّارة المغلّظة كمن أفطر بالجماع .
ومنهم من تجب عليه الكفارة مخففة كالحامل إذا أفطرت خوفا على نفسها على ولدها فإنها تقضي وتكفر؛ لأن العذر ليس متصلا بها ، وإنما متعلّق بمصاحب .
فالكفارة تكون مغلّظة ، وتكون غير مغلّظة .
ومنهم من يفطر ولا يقضي وهو الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه ، فإنه يفطر ولا يلزمه القضاء . فهذه أصناف المفطرين : فمنهم من أوجب الله عليه القضاء ولم يوجب عليه غير القضاء إلا إذا تأخّر في القضاء إلى رمضان آخر دون عذر فجمهور العلماء وهو محكي عن بعض الصحابة يلزمونه عن كل يوم ربع صاع وهو المد النبوي ، ومنهم من لا يوجبه ، والعمل به أحوط وأسلم. هذا بالنسبة لمن يفطر ويقضي كالحائض والنفساء تفطر وتقضي ، وكالمسافر يفطر ويقضي ولا يجب عليه كفّارة .
والنوع الثاني يفطر ويقضي ويكفّر، فهذا إن كان فطره بالمغلّظ كالجماع في نهار رمضان، أفطر بجماعه ووجبت عليه الكفّارة المغلّظة ، ووجب عليه قضاء اليوم الذي أفطر فيه .
ومنهم من يفطر ويقضي ويكفر كفارة دون المغلّظة وهي المخففّة : أن يطعم عن كلّ يوم مدًّا أو نصفاً ، فإن تطوع فهو خير له ، وهي المرأة الحامل والمرأة المرضع إذا كان عذر الفطر متعلّقا بمصاحب لا بها بأن خافت على ولدها الرضيع أو خافت على جنينها إذا كانت حاملاً ، فإنها تفطر وتقضي وتكفّر، فيلزمها القضاء للأصل وتلزمها الكفّارة وهي إطعام المد لكون العذر تعلق بالغير لا بها محضا .(4/91)
ومنهم من يجب عليه التكفير ولا يجب عليه القضاء ، وهو المريض الذي لا يرجى برؤ مرضه، والشيخ الهرم ؛ لأن الله نقلهما إلى الإطعام . هذه أربعة أصناف للمفطرين في نهار رمضان .
[ أحدها : المريض الذي يتضرر به ] : المريض الذي يتضرّر به : أحدها المريض : المرض ضد الصحة ، والمرض هو خروج البدن عن حد الاعتدال ، فإذا اعتدلت في الإنسان طبائعه كان صحيحا ، وإذا غلبت إحدى الطبائع ؛ فإنه ينتقل من حدّ الاعتدال إلى السقم والمرض .(4/92)
والمرض ينقسم إلى أقسام ، ومن هنا هو في الأصل إما أن يكون المرض يؤثر فيه الصوم ، وإما أن يكون المرض لا يؤثر فيه الصوم ، فمن جرح إصبعه يوصف بكونه مجروحا ومريضا حتى إن بعض السلف كان يترخص به كما أثر عن ابن سيرين في قصته المشهورة -رحمه الله- ، لكن هناك من هو مريض ويتأثّر بمرضه إذا صام . فأما إذا كان المرض لا يتأثر بالصوم كالصداع الخفيف وألم البطن الخفيف المحتمل والجروح والقروح ونحو ذلك التي لا تتضرر بالصوم فهذه جماهير السلف والخلف على أنه يجب عليه أن يصوم ؛ لأن الأصل أنه مطالب بالصوم ، ولذلك يجب عليه الصوم ولا يعتبر هذا عذرا له ، أما إذا كان الصوم يؤثر في المرض ، فإما أن يكون يفضي به إلى الهلاك وهو ما يعبر عنه بعض العلماء أن يتعذّر عليه الصوم بحال ، بمعنى أنه لا يمكنه أن يصوم إلا إذا كان يريد أن يموت فهذا وجها واحدا عند العلماء -رحمهم الله- يفطر ويتعيّن عليه الفطر لإنقاذ نفسه ولا يجوز له أن يعذب نفسه ولا أن يلقي بنفسه إلى التهلكة ، يدخل في حكم هذا بالتبع الاستصحاب للعذر أن يكون المرض يمكنه أن يصوم مع المرض لكن أعطي دواء لهذا المرض يستوجب الفطر، وحينئذ يتعلق بفطره يكون الفطر لإنقاذ نفسه من هذا المرض الذي قد يشفي به إلى الهلاك ، فحينئذ يفطر فإذا كان المرض لا يمكن للإنسان أن يصوم معه بحال تعين عليه الفطر. وأما إذا كان المرض لا يفضي به إلى الهلاك وإنما يفضي به إلى الحرج والمشقة والضيق ؛ فإنه يخير بين الفطر وبين الصوم ، ثم يكون الفطر أفضل له على حال ، ويكون الصوم أفضل له في حال أخرى .
أما الدليل على أنه يباح للمريض أن يفطر؛ فقوله - سبحانه وتعالى - : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وقوله - سبحانه وتعالى - : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فهاتان الآيتان نصتا على العذر بالمرض ، وهذا يدلّ على أن المريض معذور شرعا .(4/93)
وكذلك أيضا أجمع العلماء -رحمهم الله-على أن المرض يبيح الفطر، وعلى هذا اجتمع النص والإجماع ، ولا خلاف بين أهل العلم في كون المرض عذرا ، إنمّا الخلاف هل يجب عليه أن يفطر عموما أو يكون مخيرا على التفصيل الذي ذكرناه .
أما بالنسبة للمريض من حيث الأصل ؛ فالمرض في الشرع عذر ورخصة وموجب للتخفيف ، ولكنه في الصوم العلماء توسّعوا فيه أكثر من بقية العبادات ؛ لأنه في الصوم يتصل بالدواء ، ويتصل بالطعام والشراب ، ومن هنا لا يشترط كون المرض قضية المرض ذاتها ، بل إن استعمال الأدوية لعلاج المرض هذا أيضا مؤثر، ومن هنا نجد السلف الصالح يعبرون عن مسألة زيادة المرض، فإن الإنسان إذا كان مريضا وأمكنه أن يصبر ولكن صومه يزيد المرض ويؤخر البرء فمذهب طائفة من العلماء أن تأخير البرء عذر، وهذا حرره غير واحد ومأثور عن بعض السلف الصالح -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين وحتى عن بعض أئمة الاجتهاد كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي وأحمد -رحمة الله على الجميع-، وهو أيضا أصول الشريعة تقتضيه حتى وقد تكلم عليه شيخ الإسلام -رحمه الله- في المجموع ، وذكروا أنه عذر في التيمم في الغسل، كما لو كان مزكوما فإن شدة الزكام محرجة ومؤذية ومضرة ، وقد تسترسل وتتأخر فتوقع الإنسان في الحرج، فحينئذ لو أعطي دواء لعلاج ولا يمكن إلا بأن يفطر أثناء يومه رخص له في هذا الدواء ؛ إذًا الفطر ليست قضية أن يأكل ويشرب للبدن ، بل قد يكون الفطر لاستعمال الأدوية ونحو ذلك من العقاقير فإنه يستعملها ؛ لأن موجب الرخصة وهو المرض بغض النظر عن كون الأذى موجود في المرض نفسه أو كون يريد هذا الدواء فيفطر به من أجل أن لا يتأخّر عليه البرء ونحو ذلك من الأسباب .(4/94)
[ أحدها المريض الذي يتضرر به ] :. وقوله : [ المريض الذي يتضرر به ] : يعني الصوم ، فالباء سببية . المريض الذي يتضرر بسبب الصوم يباح له أن يفطر، ومفهوم هذا -والمفاهيم معتبرة في المتون الفقهية- أنه إذا كان لا يتضرر بالصوم ؛ فإنه يجب عليه أن يصوم ، فلو كان عنده مرض لا يؤثّر فيه الصوم نقول له أنت باق على الأصل ويجب عليه أن تصوم كما ذكرنا في الصداع الخفيف وألم الإصبع وألم الرِّجْل الذي لا علاقة له بالأكل والشرب وليس له من دواء يؤخذ هذا يجب على صاحبه أن يصوم .
[ والمسافر الذي له القصر ] : والمسافر الذي له القصر : المسافر يباح له الفطر ؛ والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع : فإن الله –تعالى- قال : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر } وقال في الآية الأخرى : { فمن كان مريضا أو على سفر } وهذا يدلّ على أن السفر رخصة ؛ لقوله بعد ذلك : { فعدة من أيام أخر } فجعل حكمه أن ينتقل للأيام الأخر إن أفطر .
والمسافر إما أن يكون سفره مأذونا به شرعا مثل أن يسافر لحج واجب ، مثل أن يسافر لعمرة واجبة عليه ، أو يسافر برًّا لوالديه ، أو يسافر لأمر نذر لعمرة منذورة أو نحو ذلك من السفر الواجب، فإذا سافر لواجب أو سافر لمندوب كصلة رحم ونحو ذلك فلا خلاف بين العلماء أنه يرخص له . وأما إذا سافر لمحرّم فمذهب طائفة من العلماء أنه لا يستبيح الرخصة ؛ لأنه مأمور بالرجوع من هذا السفر، وحينئذ يبقى على الأصل إذ لا يعقل أن الشريعة تقرّه على هذا المنكر وتعطيه الرخصة فتعينه على التقوي على الحرام ، وهذا هو أعدل الأقوال أنه لا يرخّص له إلا إذا تضرر فيكون الرخصة من باب الضرر لا من باب المعونة على السفر المحرّم .(4/95)
وأما بالنسبة للسفر المباح كأن يسافر للنزهة أو يسافر للصيد المباح ؛ فللعلماء وجهان أصحّهما أنه يرخص له ولو كان سفره مباحا ما لم يقصد بهذا السفر المباح التذرّع للتلاعب بصيام رمضان، فيعامل بنقيض قصده ؛ لأن الأمور بمقاصدها وحينئذ يخرج عن حد الرخصة .
أما بالنسبة للأصل ؛ فإنه يباح له ؛ لأن الله أطلق السفر فلمّا قيّد بالحرام لورود النص بقي المباح على الأصل .
إذًا المسافر إما أن يسافر سفرا مأذونا به شرعا فلا إشكال في ثبوت الرخصة في حقّه ؛ والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سافر لعمرته وترخّص في هذا السفر، وإما أن يسافر سفرا غير مأذون به شرعاً فالواجب عليه أن ينقطع عن هذا السفر وأن يرجع ولا يمكن للشرع أن يعينه على حرام ؛ لأن هذا من التناقض ، والشرع ينّزه عن التناقض .
وثالثاً : أن يسافر لأمر مباح فأصحّ قولي العلماء أنه يرخص له ولا بأس له أن يفطر .
المسافر يستبيح الرخصة إذا كان على سفر؛ فقال تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر } وجمهور السلف والأئمّة -رحمهم الله- أنه لا يكون على سفر إلا إذا أسفر، وأسفر إذا بان ، والمراد بذلك أن يخرج عن العمران وهذا مما يستفاد من لفظ الآية الكريمة ؛ لأن المكلّف فيه نية وهو باطن وفيه ظاهر وهو فعل، فإذا كان قد خرج وفي نيته بهذا الخروج أن يسافر؛ فإننا نحكم بمجرد خروجه عن آخر العمران بأنه أسفر، وحينئذ تستباح رخص السفر من الصلاة قصر الرباعية إذا أذن عليه الأذان وهو خارج المدينة ووجبت عليه السفريّة ، وكذلك الفطر يجوز له أن يفطر في سفره ، لكن قبل ذلك لو نوى ؛ فالنية وحدها ليست كافية ؛ لأن الله قال: { على سفر } وهذا يشمل الظاهر والباطن وهذا مذهب الجمهور ؛ ودليلنا أثر عن بعض الصحابة أنه إذا وضع الإنسان متاعه في رحله وعزم الذي هو أنس -- رضي الله عنه -- وغيره أيضا أجيب عن هذا كما حرره غير واحد ومنهم الإمام ابن قدامة وغيره بوجهين :(4/96)
الوجه الأول : أن يقال إن الصحابي وهذا ثابت كما جاء في قصة عدي يجتهد في فهم السنة وقد ينسبها ، لمّا قيل له : من السنّة . قال : إنها سنة قال : نعم ورفعها ونسبها إلى السنة ، قالوا إنه إذا فهم النّص على ظاهره نسبه للسنة ؛ لأنه من اجتهاده في الفهم ، فكان يفهم من قوله : { على سفر } أنه بمجرد نيته أنه مسافر مع أننا وجدنا صريح السنة دالة على أن الرخص لا تستباح بالنية ، ومن أقوى ما يدل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات في حجة الوداع ، وصلاها بذي الحليفة ركعتين مع أنه بالإجماع أصبح ذلك اليوم وفي نيته أن يسافر بل قدم الناس من خارج المدينة وهم يريدون الحج ، حتى قال جابر: امتلأت بهم سكك المدينة كلهم يريد أن يرى كيف يحج رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --؛ فإذا لا إشكال في كونه ناويا للسفر ومع ذلك لم يستبح رخص السفر، وانتظر حتى أسفر عن المدينة ونزل بذي الحليفة فصلى العصر ركعتين ، فجعل الرخصة بعد البروز والخروج ، وهذا ما يقتضيه النظر الصحيح ؛ وعلى هذا فإنه لا يستبيح الفطر إلا بعد خروجه من المدينة ، وحينئذ يكون على سفر ظاهرا وباطنا ، وأما الاقتصار على الباطن فهذا اجتهاد ؛ ولذلك عدي -- رضي الله عنه -- فسر الآية على غير ظاهرها ، وردّ عليه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا التفسير، فعندنا إذا فسّر الصحابي نصا وجاء من السنة ما يخالفه وجب الرجوع إلى تفسير السنة ، فلما لم يعمل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- النية وحدها واكتفى بالفعل والظّاهر وجمع مع الباطن الظاهر ولم يكتف بالباطن وحده ؛ دل على أن الرخص لا تستباح بمجرد نية السفر لا في الصلاة ولا في الصوم ، ومن هنا نقول إنه لا يستبيح الرّخصة ويفطر إلا إذا أسفر وخرج .(4/97)
المسافر يباح له الفطر في السفر وعلى هذا إذا خرج من الليل ثم أصبح مسافرا فوجه واحد عند العلماء أنه يفطر، ولو خرج أثناء النهار وكان قد نوى السفر طارئاً فمن أهل العلم من ألزمه بإتمام يومه ، وظاهر النص أنه يباح له الفطر سواء خرج وفي نيته أن يصوم أو لم يخرج على تلك الصفة أنه يباح له أن يفطر، ومن هنا قالوا إنه لو بات ليلته ينوي أن يفطر إذا كان عنده نية للسفر حتى يخرج من الخلاف، وعلى كل حال فإن النص ظاهر وواضح الدلالة على أنه يستبيح الرخصة مادام أنه على سفر .
الأصل يقتضي أنه يفطر مادام في السفر، فإذا قدم الحضر لزمه الإمساك ، وهذا على ما ثبت في الصحيح عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث أنس -- رضي الله عنه -- أنهم خرجوا مع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فمنهم الصائم ومنهم المفطر، فلم يزل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثم نزلوا إلى كراع الغميم وهو بطرف جدة فأفطر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأفطر صحابته معه قال : (( فلم يزل مفطرا حتى دخل مكة )) وهذا يدل على أنه استباح الرخصة وهو على السفر أي على حالة السفر، فإذا قدم إلى الحضر فإنه في هذه الحالة يمسك إلا إذا وجد عنده عذر يبيح له الفطر فإنه يفطر، وهذا قول جمهور العلماء -رحمهم الله- أنه إذا نزل في الحضر فإنه يمسك ولا يفطر .
هناك وجه ثان أنه يباح له الفطر ولكن لا يفطر أمام الناس، ولا يفطر في عيون الناس ، والأول أحوط .(4/98)
[ فالفطر لهما أفضل وعليهما القضاء ] : فالفطر للمريض وللمسافر أفضل ، قال بعض العلماء: الفطر واجب كما ذكرنا ؛ لقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فطائفة من أهل الظاهر والسلف الصالح فسروا الآية الكريمة بأن المسافر والمريض نقله الله من رمضان إلى عدة من أيام أخر، وحينئذ يجب عليه أن يفطر في رمضان إذا أصابه عذر المرض أو السفر، ولا يجوز للمسافر عندهم أن يصوم ، وإذا صام لم يجزه صومه .
وذهب جمهور العلماء والأئمة إلى أنه يجوز له أن يفطر ويجوز له أن يصوم ؛ لأن السنة الصحيحة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ثابتة بذلك ، فقد خرج عليه الصلاة والسلام في سفره ثم كان معه الصحابة منهم الصائم و منهم المفطر. قال أنس -- رضي الله عنه -- : (( فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم )) أي ليس الصائم يعيب على المفطر ، ويقول له مثلا : أنت أفطرت ، ولا المفطر يعيب على الصائم فيقول له : أنا أخذت بالرخصة وأنت تشدد على نفسك ، فكل منهم على حاله . قالوا فهذا يدل على أنها رخصة تخييريّة وليست إلزاميّة ، وهذا القول هو أقوى الأقوال ؛ لأن السنة واضحة في الدلالة على أنه يباح للإنسان أن يفطر في السفر وليس بمتعين عليه ، وقد ذكر الله المرض والسفر كعذرين وحكمهما واحد .
ومن الأدلّة أن النبي- - صلى الله عليه وسلم -- لما سئل كما في الصحيحين ، قال له أبو حمزة -رضي الله عنه وأرضاه- عمرو بن حمزة -رضي الله عنه وأرضاه- قال : يا رسول الله ، إني أطيق الصوم في السفر . فقال له النبي -- صلى الله عليه وسلم --: (( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر )).(4/99)
فخيره النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بين الصوم وبين الفطر. وقال بعض العلماء : إن هذا التخيير فيه تفصيل ، فظاهر حديث عمرو وحديث النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه كان بهم الجلد والقوة ، فقال : إني أطيق الصوم في السفر فخيره ، فدل على أنه إذا كان لا يطيق الصوم في السفر ويصل به الأمر إلى الحرج ؛ فالأفضل له الفطر، ويؤكد هذا أنه لما صام في شدة الحر عليه الصلاة والسلام حتى بلغ كراع الغميم وسقط الناس أفطر عليه الصلاة والسلام فراعى الرخصة لوجود الحرج والضيق. فنقول المسافر له حالتان :
الحالة الأولى : أن يصل به الصوم إلى الحرج والمشقة والضيق ، فالفطر في حقه أفضل .
وأما إذا كان لا يصل به الأمر إلى الحرج والضيق ويمكنه أن يصوم ؛ فللعلماء وجهان :
منهم من قال : الفطر أفضل؛ لأنه أخذ بالرخصة ، ويقولون إن الأخذ بالرخصة جاءت به السنة : (( عليكم برخص الله الذي رخّص لكم )) وحديث : (( إن الله يحب أن تؤتى رخصه )) ضعيف السند لكنه صحيح المتن إذا ثبت هذا ولذلك قال : (( عليكم برخص الله )) وهذا فيه نوع من التشديد بالرخصة أن يقبلها العبد ويعمل بها .
وقالوا وخاصة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ليس من البر الصيام في السفر)) فقوله : (( ليس من البر )) قالوا الكامل والأفضل أن يصوم في السفر، ومن هنا قّووا أن يكون مفطرا لا صائما .(4/100)
وذهب طائفة من العلماء إلى أن الأفضل أن يصوم وهذا هو الصحيح والأقوى أنه إذا لم تلحقه المشقة الأفضل أن يصوم ؛ لأنه يبرئ ذمته ؛ ولأنه مسارعة للخير، ولأن الرخصة ليست إلزامية، فليس هناك دليل يدل على اللزوم ؛ ,لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صام في سفره ، فكون النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يصوم مع وجود الرخصة دل على الأصل والأفضل أن الإنسان يراعي براءة الذمة ، وأن هذا أولى وأحرى ، فلما بلغ به الجهد ما بلغه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أخذ برخصة الله ، فقلنا بالتفصيل : إن كان في سفره مرتاحا وفي الطائرة أو نحو ذلك أو في السيارة أو به جلد وقوة وصبر أو تعود الصوم في السفر نقول له الأفضل أن تصوم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صام ما لا يقل عن سبعة أيام من عشرة أيام ؛ لأن كراع الغميم فيها مرحلة واحدة باقية على مكة ؛ لأنه بحذاء عسفان ، وهذا يقوي ؛ لأنه صائم خلال ثمانية أيام أو تسعة أيام التي قبل وصوله إلى مكة كلها وهذا يقوّي أن الصوم هو الأفضل ، ولأنّه إبراء للذّمّة والإنسان لا يضمن أن يتمكّن من قضاء الصوم أو لا يتمكّن ؛ فحينئذ نقول الأفضل أن يبرئ ذمّته .(4/101)
بقيت مسألة أخيرة وهي : أن بعض الناس يقول الآن نحن في طائرات وفي سيارات ومرفّهون فلا رخصة في السفر، وهذا ليس بصحيح ، ولذلك منع الناس من الفطر في السفر لوجود وسائل الترفيه مخالف لشرع الله ؛ لأنّ الله اطّرد هذا الوصف بغض النظر عن النادر، ومن هنا نقول إن الرخص والأحكام الشرعية تتعلق بالغالب في الأوصاف لا بالنادر، فالغالب في السفر المشقّة، فإن وجد نادر لم يلتفت إليه، كما أن الغالب في لمس المرأة الشهوة والخلوة بها فتنة والسفر معها بدون محرم فتنة ، فلو أنها كانت عجوزا أو كبيرة أو غير مشتهاه والرجل صالح ديّن يغلب على الظن أنه لا يقع في الفتن لا نقول : يجوز لك ؛ لأن الشرع وضع القاعدة للغالب ، فالصور النادرة هذه لا عبرة بها ، وهذه الصورة التي في عصرنا نادرة أربعة عشر قرناً ما وجدت فيها وسائل الترفيه هذه، فجاءت أحكام الشريعة على غالب الأسفار في سائر الأعصار ولم تلتفت إلى خصوص الحال فيسقط هذا ولذلك الالتفات إلى الصور النادرة بّين العلماء أنه ليس من الفقه وليس هو الذي تنضبط به أحكام الشريعة ، ومن أنفس من تكلّم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس قواعد الأحكام ، وعلى هذا نقول ليس لك أن تتحدث برخصة الله -- عز وجل -- فتقيّدها والله أطلقها فنحن نقول الرخصة باقية لكل مسافر .
ثانيا : نقول لهم من قال لكم إن المسافر مرتاح في وسائل الترفيه ؛ هذا لأنهم ينظرون إلى ترفّهه ظاهرا ولا ينظرون إلى عذابه النفسي، فإن المسافر معذّب نفسياًّ بفراقه لأهله ، بل إن هذه الوسائل العصريّة قد يكون فيها من الخوف من الضرر والبلاء أكثر من غيرها ممّا سبق ومن هنا لا يقبل هذا العذر .(4/102)
ثالثا : أن مسألة الرخصة يعني هم يقولون إن هذا الترفيه يوجب البقاء على الأصل . نقول لهم : قد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- في أزمنتهم يوجد التّرفيه وهناك الأغنياء والأثرياء والعظماء لم نجد من فقهاء الإسلام من فرّقوا بين من يسافر مترفّها ومن يسافر غير مترفّه ، ولذلك هذا التفصيل والتفريق لا أصل له في الشرع ، وإنما نبهنا عليه لأن بعض العوام ينكر على من يراه من طلبة العلم أو من يراه يأخذ برخصة الله وهذا خلاف شرع الله أنه لا ينكر على من أخذ برخصة الله التي رخص له ولو كان على ترف أو على سفر لا مشقّة فيه ولا عناء .
[ وإن صاما أجزأهما ] : وإن صاما أجزأهما إشارة إلى القول المخالف أنه إذا صام لم يجزه وأنه يتعين عليه الفطر، فالصحيح أنه مأذون له بالفطر، ولو صام أجزأه صومه ؛ والدليل على ذلك السنة ، فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صام في سفره فدل على أنه يجزيه .
[ الثاني : الحائض والنفساء تفطران وتقضيان ] : الحائض والنفساء أوجب الله عليهما الفطر ولا يجوز لهما أن يصوما ، والحائض هي المرأة التي أصابها الحيض ، والحيض دم يرخيه رحم المرأة لغير فساد ولا نفاس .(4/103)
فخرج بقولنا : فساد دم الاستحاضة والنفاس دم الولادة ، وإذا حاضت المرأة وجب عليها أن تفطر، فتفطر أيّام عادتها وأيّام حيضها وهذا بإجماع المسلمين ، وإذا صامت لم يجزها الصوم ، بل قال بعض العلماء وهو مذهب صحيح إنها لو صامت وهي حائض تأثم شرعاً فلا يجوز لها أن تصوم حال حيضها بل يجب عليها الفطر، وهكذا النّفساء ؛ لأنّ حكم النّفساء حكم الحائض وبإجماع العلماء على أنّ النفساء لا تصوم ، قالت عمرة بنت عبد الرحمن -رحمها الله- كما في الصحيحين لعائشة -رضي الله عنها- : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت: أحروريّة أنت ؟! قالت: لا . وإنمّا أسأل . قالت : (( كنّا على عهد رسول الله- - صلى الله عليه وسلم -- يصيبنا الحيض، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )) .
فدلّ على أنّ الحائض تؤمر بالقضاء وتؤمر بالانتقال إلى العدّة من أيام أخر ولا يجزيها أن تصوم رمضان .
[ وإن صامتا لم يجزهما ] : وإن صامتا لم يجزهما الصوم كما ذكرنا ، بعض العلماء يرى أنّهما تأثمان بذلك .
[ الثالث : الحامل والمرضع ] : الثالث : الحامل والمرضع .
[ الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا ، وإذا خافتا على والديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا ] : هذا النوع من أهل الرخص له صور :
الصورة الأولى: أن تكون المرأة الحامل والمرضع تخاف كل واحدة منهما على نفسها إن صامت .
الصورة الثانية : أن تخاف على الولد ولا تخاف على النفس ، فهي حامل وصحتها طيبة قادرة على الصوم ، ولكن تخاف أنها لو صامت يتضرّر الجنين أو أخبرها الطبيب أن الجنين في وضع معيّن وعليها أن تفطر؛ لأن لا يتضرّر بصومها .
الصورة الثالثة : أن يجتمع العذران ، فتخاف على نفسها وتخاف على ولدها ، فهذه ثلاث صور: أن يكون الخوف على الجنين والرضيع ، وهذا عذر منفصل لا متصل .
الصورة الثانية : أن يكون الخوف على النفس ، وهذا متّصل لا منفصل.(4/104)
والثالثة : أن تجمع بين العذرين ، فتخاف على نفسها وتخاف على ولدها ، فالحامل إذا كان في بطنها الجنين تخاف هذا الخوف يثبت بقول الطبيب ، ويثبت بغالب الظنّ أو بالمعرفة وبالخبرة ، فإذا قال الطبيب أو قالت المرأة التي عندها معرفة وخبرة إنها لا تصوم، وأنهّا لو صامت يتضرر الجنين الذي في بطنها ، أو أثبت الطبيب أنها لو صامت يتضرر الجنين الذي في بطنها ، ويكفي قول الطبيب العدل الواحد ؛ فحينئذ يحكم بالرخصة إذا كان مأمونا فإنه يحكم بالرخصة فيجوز لها أن تفطر .
أما المرضع فعندها ولد ترضعه ، والولد يحتاج إلى حليبها ، فإذا صامت قلّ حليبها ، وحينئذ يتضرر الولد ، وصحّتها طيّبة لو صامت فعذرها منفصل عنها فإذا كان العذر منفصلا في كلتا الحالتين تفطر كل واحدة منهما؛ مراعاة لهذا العذر، ويجب عليها أن تقضي ؛ لأنها أفطرت ، ويجب عليها أن تطعم لانفصال العذر عنها، هذا بالنسبة إذا كان العذر متعلقا بالجنين وبالولد الرضيع .(4/105)
وأما إذا كان متعلقا بها نفسها ؛ فهي لو صامت صحتها لا تساعدها بسبب الحمل، فالحمل أجهدها وأنهكها، فإذا صامت تضرّرت وخافت على نفسها أو كانت مرضعة وجسمها لا يساعدها على الصوم فلو صامت أثناء الإرضاع خافت على نفسها ؛ فحينئذ يكون العذر متّصلا بها لا منفصلا عنها . الجنين ليس به علاقة قد يكون الجنين يمكن أن يصبر ويمكن أن يتحمّل ولا يضره الصوم ويقول الطبيب لا يضره ولكن العذر متعلّقًا بها هي ، في هذه الصورة إذا خافت على نفسها ولم تخف على جنينها أفطرت وقضت ولا يلزمها الكفّارة ؛ لأن العذر متصل بها فأشبهت المريض ، وحينئذ تفطر كما لو أن الإنسان أصابه الجهد ولم يستطع أن يكمل صومه يجوز له أن يفطر، فلو أنّ شخصاً مثلا نام البارحة ولم يتسحّر نام عن سحوره وكان يظنّ أنّه يتمكّن من القيام للسحور ثم لما استيقظ النهار خاصة أيام الصيف التي يطول فيها النهار أجهد حتىّ سقط ولربما وصل الجهد الشدة فهذا يفطر، والعذر متعلّق به ، وجهد الحامل وجهد المرضع في حكم هذا ، ولذلك يجب عليه القضاء عند الجميع ولا يجب عليه أن يكفّر، فحكمه كحكم المريض إذا أصابه المرض أبيح له أن يفطر وعليه القضاء وليس عليه كفارة ولا إطعام ، وعلى هذا نقول الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما فإنه تفطر كل واحدة منهما ولا يجب عليها أن تكفر، لا يجب عليه إلا القضاء. أما لو اجتمع العذر فيها وفي الولد فإنه في هذه الحالة ليس عليها إلا أن تفطر وتقضي فقط؛ لأن عذرها المتعلق بها موجود سواء تمحض أو اشترك ، فأصبحت هذه الصورة منحصرة على صورتين : صورة فيها القضاء دون التكفير، وصورة فيها التكفير مع القضاء .
فالصورة التي فيها القضاء دون تكفير فهي الصورة التي يكون فيها العذر في المرأة تخاف على نفسها تمحّض العذر أو اشترط مع الخوف على الولد ، فحينئذ ليس عليها إلا القضاء ؛ لأن المهم أن يكون عندها عذر، فإذا كان عندها عذر أسقط الكفارة .(4/106)
وأما بالنسبة إذا كان عذر الخوف على ولدها وانفصل عنها ؛ فإنّها حالة توجب القضاء مع الكفّارة ، فرجعت هذه الثلاث الصور إلى الحكمين ، بهذا قضى طائفة من أصحاب النبي- - صلى الله عليه وسلم -- وفسر به ابن عباس -رضي الله عنهما- آية : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } وطردها في المرأة الحامل والمرضع .
[ وإن صامتا أجزأهما ] : وإن صامتا أجزأهما : فلو أنّهما استمرّتا في الصوم فالحامل قالت : أريد أن أصوم صامت؛ أجزأها ، والمرضعة قالت : أريد أن أصوم مع وجود هذه الأعذار وصامت؛ فإنه يجزيها ؛ إعمالا للأصل .(4/107)
[ الرابع : العاجز عن الصيام لكبر ] : النوع الرابع من المفطرين في رمضان العاجز عن الصيام لكبر، هذا النوع يجب عليه الإطعام ولا قضاء عليه ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فبين - سبحانه وتعالى - أنّ الذي يجد الطّاقة والجهد والمشقة في الصوم أنّه يباح له أن يفطر، وفي حكمه المريض الذي لا يرجى برء مرضه مثل من ابتلى بفشل كلوي وتعذّر أو وصل إلى سنّ لا يمكن علاجه أو كان معه مرض في القلب مزمن وليس له علاج ولا يرجى له برء لتأخر السن أو نحو ذلك ؛ فهؤلاء يعتبرون معذورين، كل منهم يجب عليه أن يطعم عن كلّ يوم مسكين، فإذا أطعم مسكينا ؛ فهذا هو الواجب في حقه سقط عنه الصوم ؛ لقوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } وفي بعض القراءات : يطيقونه يطّيّقُونه ويَطّوّقُونه هذا كله ذكر أئمة التفسير -رحمهم الله- أن المراد به الجهد والمشقّة على أن الآية محكمة وليست منسوخة ومأثور هذا عن بعض أصحاب النبي- - صلى الله عليه وسلم -- في تفسيرها ، وعلى هذا نقول : إن الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه من المرض يجب على كل واحد منهما أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، هذا الإطعام يكون بعد الفطر إذا أفطر في اليوم أطعم ، ولكن لا يسبق الصوم ، فلو أن شخصاً جاء في بداية رمضان فأخرج إطعام الثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما فإنه لا يجزيه إلا بعد وجود سبب الوجوب ، إذا وجد الإخلال فحينئذ يكفّر ويطعم بعد فطره ، ولكن لو أنه أخر الإطعام إلى آخر الشهر وأخرجه دفعة واحدة فهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي- - صلى الله عليه وسلم -- كأنس بن مالك -- رضي الله عنه -- وهذا الإطعام يأتي على صورتين :
الصورة الأولى : أن يعطي المسكين ، وهذا إعطاء التمليك وهو معروف مطّرد في الكفّارات .(4/108)
والصورة الثانية : أن يهيّئ الطعام ويعدّ طعاماً ويدعو إليه المساكين ، إذا أعطى المسكين المد أو نصف الصاع على القول الثاني ؛ لأن الكفارات بعضهم يرى أنه يطعم مدا ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتبره في الكفارة ، ولذلك في كفارة الجماع في نهار رمضان أعطي الرجل مكتلا ، وهذا المكتل عرق من التمر قال سعيد بن المسيب كان فيه خمسة عشر صاعا والخمسة عشر صاعاً على ستين مسكين لكل مسكين ربع صاع ، والمراد بالصاع الذي هو صاع الفطر الذي يخرج في آخر رمضان يقسم على أربعة إن قلنا لكل مسكين ربع صاع ، والوجه الثاني أن الإطعام يكون بنصف صاع ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتبره في فدية الأذى ؛ والله تعالى يقول : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فجعلها بنصف صاع، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين لكعب بن عجرة : (( أطعم فرقا بين ستة مساكين )) والثلاثة الآصع بين ستّة مساكين معناه لكلّ مسكين نصف صاع، فللعلماء هذان الوجهان ربع صاع ونصف صاع والأفضل أن يطعم نصف صاع والأفضل أن يزيد؛ لأن الله يقول : { فمن تطوع خيرا فهو خير له } فبين أن الزيادة في الإطعام أفضل ، وإذا زاد في الإطعام هل يوصف كل بالوجوب أو قدر الإجزاء وجهان حكاهما الإمام ابن رجب في القواعد، وإذا قلنا يوصف الكل بالوجوب ينبغي أن يتوفّر فيمن أخذ الزيادة شرط الحاجة والفاقة من فقر ومسكنة ، وإذا قلنا لا يوصف الكلّ بالوجوب سقط ذلك هذا من فوائد الخلاف في هذه المسألة . يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان على التمليك ، إذا لم يكن على التمليك يصنع طعاما ويدعو عشرة مساكين أو ثلاثين مسكينا في آخر الشهر، ويطعمهم وجبة كاملة في اليوم ، قالوا هذا يجزيه وأثر عن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- والأوّل أحوط وهو الذي يقرّره العلماء والجماهير، وهو أبرأ للذمة أن كل يوم يخرج عنه فيخرج عن هذا القدر المعتبر في الإطعام .(4/109)
[ أو مرض لا يرجى برؤه ] : وهكذا إذا كان المرض لا يرجى برؤه مثل ما ذكرنا مثل الفشل الكلوي – أعاذنا الله وإياكم - ونحو ذلك مما يتعذر معه الصوم ، ويكون المرض لا يرجى برؤه ؛ لأنه إذا كان المرض يرجى برؤه ؛ فإنه حينئذ نقول له : أفطر وانتظر زوال المرض ، واقض ما أوجب الله عليك من صوم ، فمثلا لو أن شخصاً عمل عمليّة جراحيّة عنده مرض وتعالج من هذا المرض وعملت له عملية جراحية فإنه يفطر في هذا رمضان ، ثم بقي بعد هذه العملية خمسة أشهر أو ستة أشهر، فإنه إذا كان معه هذا المرض نقول له أفطر ويلزمك القضاء ؛ لأنّ مرضك يرجى برؤه ، وحينئذ المريض له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون مرضه مما لا يرجى برؤه ، فإنه يطعم ولا يجب عليه القضاء .
وإما أن يكون مرضه يرجى برؤه ؛ فإنه لا يطعم ويجب عليه القضاء على الأصل ؛ لأنّ الله يقول : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فإن كان مرضه يرجى برؤه انتقل إلى عدة من أيام أخر .
[ فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا ] : فإنّه يطعم كلّ واحد منهم ، المريض الذي لا يرجى برؤه والشيخ الكبير أو العاجز عن الصيام يطعم عن كلّ يوم مسكيناًَ .(4/110)
[ وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير ] : قال رحمه الله : [ وعلى سائر ] : سائر من ألفاظ العموم يعني على جميع من أفطر القضاء لا غير ، يعني من غير هؤلاء ، فمن تعمد الفطر في نهار رمضان يجب عليه القضاء لدخوله تحت هذا العموم ، وإذا قلنا بأنه يجب عليه القضاء يرد السؤال : هل قضاء رمضان يجب فيه التتابع أو لا يجب فيه التتابع ؟ فعن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن من قضى رمضان يجب عليه أن يتابع ، وأن يصوم كصيام رمضان، فإذا أفطر ثلاثة أيام متتابعة يقضيها متتابعة ، وإذا أفطرها متفرّقة قضاها متفرّقة، قالوا بوجوب التتابع إن حصل الفطر؛ واحتجّوا ببعض الأحاديث الضعيفة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بعضها مرسل وبعضها ضعيف الإسناد ، حيث إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بسرد الصوم وتتابعه في القضاء ، ولكنّه لم يصح إسنادا .
وأيضا عن ابن عمر أنه أمر بالسرد في صيام القضاء .
وجماهير السلف والخلف على أنه لا يجب التتابع ؛ وقد صحّ عن أم المؤمنين عائشة كما روى الدارقطني في سننه وقال إن إسناده صحيح أنه كان فيما أنزل : { فعدة من أيام أخر متتابعات } ثم قالت رضي الله عنها : أسقطت متتابعات أي أسقطت تلاوة وحكما ، وحينئذ لا يجب التتابع وهذا قول جماهير العلماء -رحمهم الله- وعدّة نكرة ، والنكرة تفيد العموم يعني سواء قضى متتابعا أو متفرقا ، هذا من جهة النقل .(4/111)
ومن الأدلّة من جهة العقل أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نزّل الحقوق الواجبة لله -- عز وجل -- منزلة حقوق الآدمين وقال : (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضِيَتِيَه ؟ قالت : نعم )) وهذا أيضا في القضاء فنّزله منزلة القضاء الآدمي ، ومن أخذ من رجل مالا كمائة وقضاها متفرّقة لم يحرم عليه ذلك أو قضاها مجتمعة لم يحرم عليه ذلك، فهو مخيّر بين أن يقضي دفعة واحدة أو يقضي أقساطا فتبرأ ذمته في كلتا الحالتين، فإذا كان في حقوق الآدمييّن لا يشترط وهذا قياس مأثور حتى عن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قاسوه ، وقالوا أرأيت لو قضيت الدرهم والدرهمين أكان عليك شيء يعني ما عليك بشيء وكذلك حق الله -- عز وجل -- وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( دين الله أحق أن يقضى )) وقاس حقّ الله على حقّ المخلوق في الإلزام وأنّه أولى بالقضاء .(4/112)
[ إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة ] : إلا من أفطر بجماع في الفرج؛ فإنه يقضي ويعتق رقبة أي يلزمه القضاء مع الكفارة . [من ] أي : الذي جامع وهذا يقتضي وجود وصف مهم ومؤثّر في الحكم وهو الجماع في نهار رمضان وأن يكون صائما ؛ لأنّ سلمة بن صخر البياضي -- رضي الله عنه -- كما في صحيحين من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أتى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو يقول : (( هلكت وأهلكت جامعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم )) أي والحال أنيّ صائم ، وهذا يدل على أنه لابد من وجود الجماع في الفرج، وأن يكون صائما ، وفي نهار رمضان على تفصيل عند العلماء ، إن قلنا الجماع يخرج من هذا أنه لو باشر المرأة ولم يحصل جماع أنه لا كفارة عليه ولو باشرها وأنزل ولم يحصل جماع أنه لا كفارة عليه ، وهذا لقوله : جامعت ، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها ، فجاء الحكم بقوله -عليه الصلاة والسلام- : أتجد ما تعتق به رقبة ؟ قال: لا ، أتجد ما تعتق به رقبة جاء مركّبا على قوله : جامعت ، وحينئذ ما دون الجماع فيه للعلماء وجهان :
إن أنزل وباشر امرأته فأنزل أو تعاطى أسباب الإنزال كالاستمناء فمن أهل العلم من قال الاستمناء والمباشرة مع الإنزال موجبة للكفارة التفاتا للمعنى ، وهذا مذهب المالكيّة -رحمهم الله- والحنفية من حيث الجملة قالوا : لأنه انتهك حرمة الشهر، والمراد أن يفسد صومه ، ويتفق الجمهور على أنه لو أنزل فسد صومه . قالوا استوى لأنه اللذة الكبرى استوى أن تكون بجماع وبدون جماع ، والأقوى كما ذكرنا أن يكون الجماع الحقيقي؛ لقوله : جامعت .(4/113)
وقوله : [ في الفرج ] : خرج وطء البهيمة ، فإنه لا يوجب ؛ لأنه ليس بفرج ، واختلف في وطء الميتة : هل يأخذ حكم الحيّة من كل وجه أو لا يأخذ ؟ طبعا من حيث الأصل هو فرج ويدخل في هذا العموم ، فإذا حصل الوطء في الفرج ولا يكون الوطء في الفرج موجبا للكفارة إلا إذا حصل إدخال رأس العضو ، وهذا نفصّل فيه لأن طلاب العلم في بعض الأحيان مع عدم ذكره وعدم بيانه قد يخطئون في بعض الفتاوى ، حتى إنّ البعض قد يوجب بمجرّد مماسة الفرج الفرج لابدّ من وجود الإيلاج ، وهو دخول رأس الذكر وهو الذي يترتب عليه الحكم بالزنا والحكم بالإحصان وثبوت المهر كاملاً وثبوت الكفّارة في نهار رمضان إلى غير ذلك من الأحكام المعروفة ، وعلى هذا لابد من الإيلاج إذا قيل وطء أو جماع فعند العلماء ضابطه إيلاج الحشفة أو قدرها من المقطوع . أما بالنسبة لقوله طبعا من حيث الأصل في نهار رمضان يرد السؤال: قال سلمة بن صخر -- رضي الله عنه -- : جامعت أهلي فنقول : جامعت أهلي وصف مؤثّر ، لكن لو زنا فجامع غير أهله -والعياذ بالله- نقول من باب أولى وأحرى ؛ لأن الله إذا أوجب عليه أن يكفر وامرأته حلال له أن يطأها في الأصل ؛ فمن باب أولى إذا زنا ، أو نقول بقياس المساواة إن المرأة حرمت عليه فصارت كالأجنبية أثناء الصوم ، وهذا أصل عند العلماء -رحمهم الله- فإذا وطئها وجبت عليه الكفارة لهذا المعنى ، وحينئذ إذا وطأ الأجنبية كان مثلها .
ومن أهل العلم من قال : إذا زنا لا يجب عليه الكفارة ، لكن هذا ضعيف ، والصحيح قول الجماهير أنه يجب عليه أن يكفر .(4/114)
في نهار رمضان طيب لو جامع في قضاء رمضان ولم يجامع في نهار رمضان إن قلنا الوصف مؤثر فحينئذ نقول : إنه لا يأخذ حكم نهار رمضان ، فلو صام قضاء فثارت شهوته فوطئ زوجته قال المالكية وطائفة من الحنفية -رحمهم الله- : يجب عليه أن يكفر ؛ لأن القضاء يأخذ حكم الأداء، والمراد أن يطأ ويجامع في صيام فرض واجب عليه ، وهذا من جهة المعنى فيه قوة ، ولكن القياس في الكفارات فيه ضعف من وجوه ، وحينئذ يقوى القول أنه لا يأخذ حكم الكفارة ، ولكن زجرا للناس نخيفهم ونمنعهم من ذلك تحقيقا لمقصود الشرع في صيانة الواجبات ؛ لأنه إذا صام قضاء يجب عليه أن يتم صومه ولا عذر له ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( المتطوّع أمير نفسه )) ولم يجعل الخيار لغير المتطوّع .
[في فرج ] : يجب عليه أن يعتق يكفر بالعتق هذه تسمى عند العلماء الكفارة المغلظة تكون في القتل قتل الخطأ واختلف فيها في القتل العمد ، وتكون أيضا في الجماع في نهار رمضان وتكون في الظهار، لكن في قتل الخطأ لا يجب أن يطعم ستين مسكينا، تختص بعتق الرقبة وصيام شهرين متتابعين، فإذا عجز عنهما سقطت عنه الكفارة ، وأما في الجماع في نهار رمضان وفي الظهار فإنه يكون هناك بدل من صيام شهرين متتابعين وهو إطعام ستين مسكينا .
فقوله : [ عتق رقبة ] : أن يعتق الرقبة ، والرقبة للعلماء فيها وجهان :
منهم من قال : إنها تكون مؤمنة ، ويشترط الإيمان في الرقبة في الكفّارات .
ومنهم من قال : يشمل المؤمنة وغير المؤمنة .(4/115)
والصحيح أنّ العتق لا يكون إلا لمؤمنة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما جاءه الصحابي يريد أن يعتق مولاته وأمته أمره أن يحضرها فقال لها : (( أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقال عليه الصلاة والسلام : اعتقها فإنها مؤمنة )) فلما قال فإنهّا مؤمنة جملة تعليليّة أي اعتقها لأجل أنها مؤمنة وهذا من جهة النظر صحيح .
قلنا : إن اشتراط الإيمان أقوى ويحمل المطلق على المقيد ، وهذا معروف في كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وقوّت السنة ذلك في الحديث الذي ذكرناه ثم من جهة النظر الصحيح أن نقول إن سبب ضرب الرقّ على الأرقّاء هو الكفر، ولذلك الرقّ لا يختصّ بلون ولا بجنس ولا بطائفة وإنما هو بسبب الكفر، ولما الرق لا يضرب إلا في حال الجهاد الشرعي بصفاته وضوابطه بعد أن يأذن الإمام بالاسترقاق، فإذا وقف هذا الكافر في وجه الإسلام وقاتل المسلمين وأخذ أسيًرا ؛ فإنه حينئذ استحق العقوبة لأنه بكفره كما أخبر الله : { إن هم كالأنعام بل هم أضل } فانحط من الآدمية إلى البهيمية ثم لم يقف عند كفره بل وقف في وجه الإسلام وقاتل وحينئذ استحق أن يعاقب فإذا ضرب عليه الرق من أجل هذا السبب الباعث وهو الكفر لا يعقل أنه يعتق ويخرج وهو كافر ما صار فيه معنى ، ومن هنا لا تعتق الرقبة إلا إذا كانت مسلمة ، ولا يشترط فيها الكمال، فيجوز عتق الرقبة الصغيرة ، ويجزي أن تكون ذكرا ويجزي أن تكون أنثى في الكفارات ، ويجزي أن تكون كاملة الخلقة أو تكون ناقصة الخلقة معيبة للنكرة التي تفيد العموم ، ولم يرد ما يقيدها ، وعلى هذا إلا إذا كان مشلولاً فمذهب الجمهور على أنه لا يجزي لتعطل المقصود ولوجود التهرب والتخلص منه من سيده فيتهم في عتقه هذا بالنسبة للرقبة .
يعتق رقبة : وإذا لم يجد الرقبة .(4/116)
[ فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ] : يصوم شهرين متتابعين ؛ لأنّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال لسلمة بن صخر البياضي : أتجد ما تعتق به رقبة ؟ قال : لا ، وقال : صم شهرين متتابعين ، فهذا يدلّ على أن البدل عن الرقبة صيام شهرين متتابعين . فقال : يا رسول الله، هل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم كان مبتلى بهذا لأنه لا يصبر على زوجته ، فخفف النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عنه وانتقل إلى البدل وذلك بإطعام ستين مسكينا ، فقال : أطعم ستين مسكينا وأشار المصنف -رحمه الله- إلى هذا بقوله :
[ فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ] : يجب عليه صوم شهرين متتابعين : إن بدأ من بداية الشهر كأن يبدأ من بداية محرم فإنه ينتهي بنهاية صفر كاملا الشهران سواء كملا أو نقصا فلو كان هلال محرم هلال صفر ظهر في يوم الشك فإنه سيصوم محرم ناقصا وصفر كاملا فإذا صام الشهرين يصومهما كاملين أو ناقصين أو أحدهما كامل والآخر ناقص على حسب الرؤية الشرعية، وهذا الذي جعل العلماء يقول : إنّه لا يجوز للمسلمين ؛ لأنّها من فروض الكفايات إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين أن يتركوا ترائي الهلال؛ لأنّه تترتّب عليه كثير من الأحكام الشرعية ومنها صيام الكفارة أن يعلم هل الشهر كامل أو ناقص، فالشاهد من هذا أنه إذا ابتدأ من بداية الشهر اعتد بهما كاملين أو ناقصين ، وإن ابتدأ أثناء الشهر فإنه يصوم ستين يوما متتابعة ، وهذا على الأصل إن حصل أن صام مثلا شعبان ثم دخل عليه رمضان فإن صوم رمضان لا يقطع التتابع ثم اختلف العلماء على وجهين : هل يفطر يوم العيد أو يصومه ؟
منهم من قال بالفطر بناء على أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالفطر يوم العيد وهو قوي من حيث النص كما في حديث عمر في الصحيحين في خطبته -رضي الله عنه وأرضاه- .(4/117)
ومنهم من قال : إنه لا يفطر يوم العيد ؛ لأنه مأمور بصيام الشهرين المتتابعين للكفارة ، وإنما نهي بسبب الإعراض عن ضيافة الله -- عز وجل -- ، وهذا من جهة المعنى مع النص أقوى .
والأوّل من جهة النص واتقاء المنهي عنه أقوى ، وإذا أفطر يتأول النص ؛ فإن صومه صحيح ، ولا يقطع التتابع فطره ، وإذا صام فصومه صحيح ولا يلزم بقضاء يوم مكان يوم العيد ؛ لأنه غير مأمور بصيامه .
يصوم الشهرين المتتابعين على هذا التفصيل الحائض ، المرأة إذا حاضت لا يقطع الحيض الصوم ، وإذا مرض مرضا موجبا للفطر لم يقطع تتابعه ، فيفطر لوجود العذر كما أن الحائض تفطر ولا يقطع التتابع ، وإذا كان المرض مضرا به ؛ فإنه يفطر ولا يقطع التتابع.
[ فإن لم يجد سقطت عنه ] : يطعم ستّين مسكينا لكل مسكين ربع صاع ؛ لأنّ حديث الكفّارة أتي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بمكتل وهو العَرْق فيه خمسة عشر صاعاً كما أخبر في رواية مالك في الموطّأ الخمسة عشر صاعا على ستين مسكيناً ، لكل مسكين ربع صاع ، وعلى هذا تكون الكفارة المغلّظة يطعم لكل مسكين ربع صاع خمسة عشر صاعاً من التمر من الحب كالبر والشعير ونحوه تجزيه وتكون لكل مسكين من تحقّق فيه وصف المسكنة وهو الذي لا يجد كفاية القوت، قد يجد قوته لكنه لا يجد الكفاية قدر الكفاية ، والفقير الذي لا يجد شيئا من الكفاية .
[ فإن لم يجد سقطت عنه ] : فإن لم يجد ما وجد رقبة ما عنده نقود يشتري بها رقبة أو لا توجد الرقبة ولا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين كأن يكون كبيرا في السن ولا يستطيع أن يطعم ستّين مسكينا للعجز والفاقة ؛ سقطت عنه الكفارة .
اختلف العلماء : هل إذا اغتنى بعد ذلك يلزمه أن يقضي أو لا ؟ على وجهين مشهورين عند العلماء -رحمهم الله- :
منهم من أسقطها ، والعبرة بحال الوجوب وبحال الأمر، وهذا على أصل مطّرد عند العلماء -رحمهم الله- في مسائل عديدة من هذا النوع .(4/118)
ومنهم من قال : إنه إذا اغتنى سقطت عنه عند العجز، وإذا اغتنى بعد ذلك لزمه أن يكفّر .
[ فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة ] : إن جامع ولم يكفّر حتى جامع ثانية في يوم واحد فكفّارة واحدة لكن إذا جامع في أيام متعددة لكل يوم كفارته .
[ وإن كفّر ثمّ جامع فكفارة ثانية ] : وإن كفّر ثم جامع في نفس اليوم أو في الأيّام المتعدّدة على القول بالتداخل ؛ فإنه تلزمه كفّارة ثانية .
الصحيح أنه إذا جامع في اليوم الواحد وجبت عليه كفارة واحدة ولو تعدّد جماعه ، وأنه إذا جامع في أيّام متعدّدة فلكل يوم كفارته .
الذين يقولون إنه إذا جامع في اليوم الواحد تجب عليه أكثر من كفارة قالوا لأنّه مأمور بالإمساك بعد جماعه الأول ، فإذا جامع ثانية فقد أخلّ إخلالا ثانيا ، لكن هذا يضعف قوله : جامعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم ، وأولئك يعتذرون بأنه في حكم الصائم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر في يوم عاشوراء لما نزلت فرضيته أن يمسك بقية اليوم مع أنهم مفطرون حقيقة ، ونزّلهم في حكم الصائم وهذا معروف عند الجمهور في مسألة إلحاق المعذور أو المخلّ بالأصل .
[ وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع ؛ فعليه كفارة ] : هذا على الأصل الذي ذكرناه في حديث عاشوراء أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بإمساك بقية اليوم ، ومن قدم من السفر وهو مفطر في سفره ودخل إلى بيته يجب عليه أن يمسك بقية اليوم ؛ لأنّ العذر قد زال ، وهذا شيء تعبّديّ ولذلك أمر يوم عاشوراء نزلت فرضيته أثناء اليوم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله فرض عليكم صوم يومكم هذا في مقامي هذا، فمن أصبح منكم صائما ؛ فليتم صومه ، ومن أصبح منكم مفطرا؛ فليمسك بقية يومه )) فدلّ على وجوب الإلزام وهذا واضح يعني العلماء قرروه وإن كان البعض يقول ما له دليل ، وله دليل واضح من السنة وهو إمساك بقية اليوم مع وجود العذر في الأصل .(4/119)
[ وإن أخّر القضاء لعذر حتى أدرك رمضان آخر فليس عليه غيره ] : إذا كان لعذر ، وأما إذا لم يكن لعذر؛ فإنه يجب عليه أن يكفّر فيما اختاره المصنّف والجمهور .
والأقوى أنه لا تجب عليه الكفارة لكن فيه قضاء عن الصحابة فيحتاط لكل يوم ربع صاع أخّره من دون عذر.
أخره لعذر : العبرة بشهر شعبان فإن جاء شهر شعبان وعنده عذر سقطت عنه الكفارة كالمرأة يجب عليها أن تصوم أيام حيضها ، ثم شاء الله في بداية شعبان أن تمرض حتى دخل رمضان الآخر فحينئذ أخرت لعذر فلا يجب عليها إلا القضاء وحده . أما إذا ماطلت وسوّغت وتأخّرت بدون عذر فيجب عن كل يوم أن يطعم ربع صاع على الاحتياط لا على سبيل الإلزام .
[ فإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا ] .
[ وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه ] : وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه ؛ لأنه إذا ترك القضاء حتى مات وكان تركه للقضاء لعذر سقط عنه القضاء ؛ لأنه لم يحصّل أياما يجب عليه أن يقضي ؛ لأن الله قال : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } هذه العدة من أيام أخر لم تأت فأشبه كما لو لم يدخل عليه رمضان ولم يجب عليه رمضان .
[ وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين ] : فإن مات وأخّر تفريطا وجاءته أيام يمكنه أن يصوم فيها أطعم عن كل يوم مسكين ، وهذا لمكان التأخير يقيسونه على مسألة رمضان الأصلية ، وإن قلنا إنه يصوم عن الميت يصير يصوم ويطعم عن كل يوم مسكين لمكان التفريط إذا دخل عليه رمضان الآخر، وأما إذا مات فإنه الصحيح إذا مات وهو مفرّط فإنه يجوز أن يصوم عنه وليه لعموم قوله : (( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )) وإلا انتقل إلى الإطعام إذا كان عاجزا لكبر سنّ واستمرّ معه العجز أو أفطر لمرض لا يرجى برؤه واستمرّ حتى مات فإنه حينئذ يجب أن يطعم عنه أولياؤه فقط .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه(4/120)
قال المصنف – رحمه الله - : [ وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فهذه العبارات هي من آخر ما شرحناها ؛ ونظرًا لأنهّا كانت في آخر الدرس الماضي كانت تحتاج إلى شيء من التفصيل .
[ ومن ترك قضاء رمضان لعذر حتى مات فلا شيء عليه ] : أولا قضاء رمضان موسّع وليس بمضيّق ، بمعنى أنّ المسلم لا يجب عليه بمجّرد انتهاء رمضان أن يقضي الأيام التي عليه من شهر الصوم ، وإنما يقال له : أنت في فسحة ، ولك أن تؤخّر القضاء ما لم تبقَ الأيّام الواجبة عليك في شعبان ؛ والأصل في هذا التأخير دليلان :
الأول قوله -- سبحانه وتعالى -- : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر } فجعل الله القضاء عدّة من أيام أخر، وهذا عام يشمل جميع أيام السنة ، ولم يحدد الله -- عز وجل -- شهرًا من شهور السنّة التي تلي رمضان ، ولم يوجب عليه القضاء مباشرةً فدل على أنه قضاء موسّع .(4/121)
ثانيا : إذا كان المكلّف بإذن الشّرع في الكتاب قد سمح له بالتأخير فكذلك في السّنة ، فإن النّبي-- صلى الله عليه وسلم -- أكّد هذا المعنى حينما أقرّ أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- على تأخير قضاء رمضان إلى شعبان ؛ ففي الحديث الصّحيح عنها -رضي الله عنها- أنها قالت: (( إن كان يكون عليّ الصّوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- منّي )). فأخبرت أنّها كانت تؤخّر قضاء رمضان إلى شعبان ، قيل: لأنّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في شعبان كان ينشغل بالصّوم وحينئذ تتمكّن وكانت حبّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، وعلى هذا فإنه لو كان عليه عشرة أيّام نقول له أنت بالخيار أن تصومها من أي أيّام السّنة ما لم يبق من شعبان عشرة أيّام من غير يوم الشّكّ، وحينئذ من التّاسع عشر يصوم العشرين ثم الواحد والعشرين حتى يتمّ العشر فنقول له واجب موسّع ما لم يبق من شعبان على قدر الأياّم التي أفطرتها من رمضان ، هذا الأصل يعني دلّت عليه النصوص في الكتاب والسّنة وهو قول أئمة العلم -رحمهم الله- والفتوى : أنّ قضاء رمضان موسّع إذا ثبت أن النّص قد أذن للمسلم أن يؤخر في قضاء رمضان ؛ فإنه في هذه الحالة يجوز للإنسان أن يؤخّر ما لم يصل إلى الحد الواجب عليه ، فلو مات قبل أن يصوم فإنّه حينئذ لم يفرّط ، وعلى هذا لا يجب عليه القضاء ، ولا يجب على أهله أن يطعموا ؛ لماذا ؟ لأنه لم يصر واجباً مضيقا عليه إنما يصير واجبا مضيقا عليه إذا بقي قدر الأيّام الواجب عليه من شعبان ، وحينئذ يتعيّن عليه الصوم ولذلك في القضاء في قضاء رمضان اجتمع مثال للواجب الموسّع والواجب المضيّق وهما نوعان من أنواع الواجب عند علماء الأصول .(4/122)
ثانياً : قلنا إن أخّر لعذرٍ فالتّأخير عذر شرعيّ وقد يكون عذرًا لمرض ، وقد يكون عذر لعدم استطاعته الصوم ، فحينئذ نقول في جميع هذه الأحوال العذر الشّرعي والعذر الطبيعي المتعلّق به في نفسه وجسده كلّ ذلك موجب لسقوط المؤاخذة عنه .
[ وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين ] : إذا أخّر قضاء رمضان لغير عذر وأصبح -مثلاً- متعيّناً عليه ، ثم بعد ذلك دخل عليه رمضان الثاني إذا أخّر رمضان حتى أصبح واجباً عليه ثم فرّط فيه حتى دخل رمضان الثاني فإنّه يطعم عن كلّ يوم مسكين ، هذه تسمى فدية التأخير، وهذه الفدية محفوظة عن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وعمل بها العلماء وجمهور الأئمة . قال يحي بن أكثم : إنها حفظت عن أكثر من ستّ من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنهم كانوا يفتون من أخّر وليس عنده عذر حتى دخل رمضان الثاني أنّ عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً ، وهذا جبر للإخلال في الصيام ؛ لأن محلّ الصوم ما بين الرمضانين ، فلماّ فرّط ألزم صار عنده حقّان : حق التأخير والتفريط ، وحقّ الصوم ، فالصوم باقٍ باق ويلزمه أن يصوم بعد رمضان الثاني ، ولكن يبقى الإشكال في عدم صومه مع عدم وجود العذر، فهذا جبر بإطعام مدّ لكل مسكين وهو ربع صاع ، وعلى هذا لو أفطر أربعة أيام ثم لم يقضِها حتى دخل رمضان الثاني فإنه يطعم صاعاً واحدًا لكل مسكين ربع صاع ؛ إن شاء أطعم في كل يوم أعطاه ربع صاع حتى يتمّ الصاع بعد أربعة أيام ، وإن شاء أعطى الصاع مفرّقًا بين أربعة مساكين .
[ إلا أن يكون الصوم منذورًا فإنه يصام عنه ] : إذا توفّي ومات وعليه صوم نذر؛ فللعلماء وجهان :(4/123)
الوجه الأول : أن صوم النّذر يقضيه الحيّ عن الميّت ؛ والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه سألته امرأة وفي بعض الروايات : رجل أنها ماتت أمّها وعليها صوم فقال : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاَضِيَتيِه ؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحق أن يقضى )) .
فأخذ في بعض الروايات : (( صوم نذر )) فمن هنا قال بعض العلماء : إن صوم النذر يصام عن الميت ؛ وذلك لأن صوم النّذر ليس كالصوم المحدود وهو صوم رمضان الذي انضبط بضوابط الشريعة ، فحينئذ لو مات قبل أن يقضي لعذر سقط عنه ؛ لأنه لم يتعيّن ولم تنشغل به ذمته ، ولكن النذر تنشغل به الذمة مباشرة ، ومن هنا فرّق بين النوعين وهذا اختيار الإمام أبي عبدالله أحمد بن حنبل -رحمه الله برحمته الواسعة- ؛ والأصل يقتضي أن العبادات البدنية لا يفعلها الحي عن الميت ، والعبادات المشتركة بين البدن والمال كالحج ؛ فإنه يفعلها الحي عن الميّت كما في حديث الحج ؛ خاصة في حال خاص وهو أن يموت الميّت ولم يحج ولم يعتمر، وأما بالنسبة للعبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم ؛ فالأصل الشرعي يقتضي أنها لا يفعلها الحيّ عن الميت، ومن هنا الإجماع قائم على أنه لا يصلّي الحي عن الميّت إلا خلافاً شاذًّا عن إسحاق بن راهويه والصحيح أنه لا يصلي حي عن ميّت ، ولا يصوم حي عن ميت ؛ لأنها عبادة بدنية فجاءت السنة واستثنت من هذا الأصل ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاَضِيَتيِه؟ قالت: نعم . قال : فدين الله أحقّ أن يقضى)) وفي اللفظ الآخر في الحديث الآخر : (( من مات وعليه صوم ؛ صام عنه وليّه )) .(4/124)
ومن هنا أخذ العلماء أن صوم النذر يصومه لو نذر أن يصوم لله ثلاثة أيّام، أو نذر أن يصوم أسبوعاً ، فإذا أطلق فإنها تصحّ ثلاثة أيّام متتابعة ومتفرّقة ، فلو توفي قبل أن يقوم بها قام وليّه وقريبه فصام الثلاثة الأيام عنه ، فمراد المصنّف أن صوم النذر يقضى ويقضيه الحي عن الميت .
[ وكذلك كل نذر طاعة ] : وكذلك كلّ نذر طاعة لو أن الميّت نذر نذرا فإن الحيّ يقوم به عنه ومن هنا إذا كان على الإنسان نذر يكتب في وصيته ذلك النذر؛ لأنه دين لله عليه فكما أن ديون الآدميين يجب حفظها كذلك دين الله يجب حفظه ، وهذا هو الأصل في حديث الوصيّة ما حق امرئ مسلم كما في الصحيحين من حديث عمر : (( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه )) وفي بعض الروايات : (( وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه )) فإذا نذر طاعة فإنّ طائفة من العلماء وكما اختاره المصنف -رحمه الله- يرون أن حديث الأمر بالصيام عن الميت بالنذر أنه أصل في الوفاء بالنذور عن الميت إذا مات ولم يؤد نذره ؛ لأنّ هذا دين عليه ، وقد أمر الحي أن يقضي دين الميت ؛ لأنّ الميت مشغول الذمة بهذا فيشرع له أن يقضي دين ميته .
[ باب ما يفسد الصوم ] : يقول المصنّف -رحمه الله- : [ باب ما يفسد الصوم ] : الفساد ضد الصحة ، والمراد بالفساد عدم ترتب الأثر الشرعي على العبادة أو المعاملة ، فإذا قلنا : صلاة فاسدة فمعناه أنه لا يترتب الأثر الشرعي عليها ، فكل من صلى إذا كانت صلاته صحيحة وحكمنا بصحتها ؛ ترتّب الأثر الشرعي ، ما هو الأثر الشرعي ؟
أولا : الإجزاء كونها مجزئة إذا وقعت بشروطها وأركانها تامة حكمنا بكونها مجزئة ، وإذا قلت إنها مجزئة فمعنى ذلك أنه برئت ذمّته ، وسقط عنه الإلزام بالقضاء ، فهو إذا أدى العبادة على وجهها المعتبر؛ فإننا نحكم بخلو ذمته وبراءتها .(4/125)
والفساد ضدّ هذا فإننا نقول إنه يجب عليه أن يعيد الصلاة ويلزمه قضاؤها ، وعلى هذا إذا قلنا إن الصوم صحيح فمعناه أنه برئت ذمته ، ولا يلزم بإعادته ثانية إذا أداه على الوجه المعتبر، هذا يستلزم أن نبيّن حقيقة الصوم ، وما يخل بهذه الحقيقة ، ومن هنا لا يكون الفساد إلا بالإخلال بالضوابط الشرعية للعبادة أو المعاملة ، فإذا أخلّ بها حكم بالفساد ، ومن هنا يقول المصنّف-رحمه الله : باب ما يفسد الصوم أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلّق بمفسدات الصيام .
[ ومن أكل أو شرب ] : يقول رحمه الله : [ ومن أكل أو شرب ] : حقيقة الصوم الإمساك عن الأكل والشرب ؛ ودلّ على ذلك دليل الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب ؛ فقوله -- سبحانه وتعالى -- : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } فقوله -- سبحانه وتعالى -- : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } فيه دليل على أنّ الأكل والشرب مسموح به إلى غاية ؛ ولذلك قال : { حتى يتبين } والقاعدة في الأصول : أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم ، فهنا قال :{ وكلوا واشربوا حتى يتبين } فلما أراد أن يبيّن لنا بداية الصوم منع من الأكل والشرب ، فدلّ على أن حقيقة الصوم هي الإمساك عن الأكل والشرب ، وأكّد هذا حديث السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في الصحيح في الحديث القدسي يقول الله تعالى : (( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )) فقال : (( يدع طعامه وشرابه )) .(4/126)
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أنه قال : (( إن بلالا يؤذن بليل -وهذا الأذان الأول- فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم )) . فقال : (( كلوا واشربوا حتّى يؤذّن ابن أمّ مكتوم )) وكان ابن أم مكتوم لا يؤذّن إلاّ عند تبيّن الصبح ، وهذا يدل على اجتماع دليل الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب عند التبين وأنه لا يجوز لأحد أن يأكل ويشرب بعد أن تبين الصبح إلا أن المؤذن في بعض الأحيان يحتاط بالقدر اليسير ؛ لأنها السنة وكان لا يؤذن حتى يقال له: (( أصبحت أصبحت )) أي ويحك كدت أن تصبح ، ومن هنا حمل حديث من أذن عليه الأذان والإناء في يده ؛ فإنه لا يرده حتى يصيب حاجته منه ؛ لأن الإناء للشرب والنهمة والحاجة تسع هذا القدر القليل الذي يحتاط به المؤذنون .
وقال بعض العلماء كما أشار الإمام النووي وغيره -رحمه الله- في تأويل هذا الحديث إن المراد به الأذان الأول؛ لأنه جاء بالنداء حتى يفرغ من حاجته فكان هناك النداء الأول ، وهو نداء بلال ، ثم بعد ذلك الأذان ، فبين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا الحديث أنه لا يبين منه حتى يصيب نهمته منه فيما بين الأذانين وكان القدر اليسير وهو الذي عناه الراوي بقوله : (( لم يكن بينهما إلا أن يصعد هذا ثم ينزل هذا )) .
والحقيقة التأويل الثاني أضعف من الأول ، وأيا ما كان هذا الحديث لا يمكن أن تعارض به النصوص الصريحة في الكتاب والسنة ، فإن النص الصريح في الكتاب والسنة يدل على حرمة الأكل والشرب بعد الأذان ، وأنه إذا ابتدأ الأذان وجب الإمساك إلا إذا كنت على علم وبصيرة بالفجر كما يحدث في البوادي وفي الأماكن التي لا ضياء فيها تعرف تبين الفجر بنفسك ، وتعلم قدر الاحتياط من المؤذّن فتأكل في هذا القدر وأنت على بينة من أمرك فلا بأس .(4/127)
أما ظاهر الكتاب والسنة ونصوصه ؛ فإنه صريح في هذا ، ولا يقاس على الشرب الأكل بإجماع العلماء -رحمهم الله- فلو كان يرفع اللقمة في فمه فلو قيل إن هذا خاص والآيات والأحاديث عامّة نقول إن هذا لا يقتضي القياس عليه ، ولذلك لا يصح أن يقاس الطعام على الشراب في هذا، وأما الجماع فإنه إذا كان يجامع أهله فاستمر بالجماع بعد الأذان فإنه يعتبر مرتكبا للمحظور، ويجب عليه الكفّارة إذا جامع بعد سماعه للأذان استمرّ في الجماع بعد سماعه للأذان لزمته الكفارة، وقد قرر ذلك الأئمة وأشار إليه شيخ الإسلام في الشرح أنه وجه واحد عند العلماء أنه إذا استمرّ في جماعه بعد الأذان وأن الاستدامة تأخذ حكم الابتداء في هذا ، وعليه أن ينزع ثم اختلف هل النزع جماع أو ليس بجماع فيه خلاف بين العلماء ، والصحيح والأقوى أنه إذا نزع مباشرة أنه لا شيء عليه ؛ لأن النزع ليس بجماع حقيقة ، وهو ممتثل لأمر الله -- عز وجل -- كاف عما نهي عنه، وينبغي للمسلم أن يحتاط في هذا وأن يستبرئ لدينه وعرضه وأن يأخذ بالأصول الصحيحة الواضحة الثابتة في الكتاب والسنة والتي عليها الإجماع .
ثانيا : ما أثر عن الصحابة -رضوان الله عليهم- من بعض الصحابة لأنه كان يأكل بعد تبين الفجر فهذا -إن شاء الله- سنبينه في مسألة الشك في طلوع الفجر .
أما من حيث الأصل وهذا النص أنه لا يجوز الأكل ولا يجوز الشرب بعد التبين ، وإذا ثبت هذا فمن أكل أو شرب بعد التبين سواء بعد الأذان مباشرة أو في أثناء النهار؛ فإنه يحكم بفطره ، ويجب عليه القضاء .(4/128)
الأكل والشرب معروف ، ولا يشترط في هذا الأكل أن يكون كثيرا ، ولا يشترط في المشروب أن يكون كثيرا ، فلو أنه أكل اليسير؛ فقد أفطر مادام أنه قد جاوز لهاته ، ولا يصدق عليه أنه آكل إلا إذا ازدرد الشيء وبلعه ، والعبرة باللهاة وهي الفاصل بين داخل الجوف وخارج الجوف ؛ ودليلنا أن المسلم إذا تمضمض لم ينتقض صومه ؛ فدل على أن الفم من خارج البدن في الصوم وليس من داخله بدليل المضمضة والاستنشاق للصائم ؛فإن جاوز اللهاة وهي اللحمة المدلاة في آخر الفم بداية الحلقوم ؛ فإنه يحكم بفطره ، وحينئذ لا ينظر لا إلى كثير ولا إلى قليل، استثنى العلماء اليسير الممتزج في الأسنان بعد السحور، فإن الإنسان ربمّا أذّن عليه الأذان وفي فمه بقاء الطّعام اليسير قالوا إنه ما استطاع أن يلفظه يلفظه وما كان فيه مشقّة فهذا عفو ؛ لأنّه لا يمكن التحرز منه ، ولذلك لا يبحث في هذا ولا يقال إنّه مؤثّر، ولكن إذا كان له جرم وأمكنه أن يتفله أو يخرجه فإنه يلفظه ، وأما بقايا اللبن ووبر اللبن على الأسنان ونحو ذلك ؛ فإنها لا تؤثر .
من أكل أو شرب : الأصل فيه أن يكون أكله وشربه اختيارا ، وأما المكره على الأكل والشرب والناسي؛ فسيبيّن المصنّف -رحمه الله- استثناءهما .(4/129)
[ أو استعط ] : السعوط يكون عن طريق الأنف ، والأصل في كون دخول الشيء من الأنف موجب للفطر حديث لقيط بن صبرة -رضي الله عنه وأرضاه- وهذا الحديث في الحقيقة من أدقّ الأحاديث ، وينبغي لطالب العلم أن يحسن النّظر فيه ؛ لأن جماهير السّلف والخلف والأئمة الأربعة وأصحاب المذاهب فصّلوا كثيرًا من الأحكام على هذا الحديث ، ومن دقّتهم في التفصيل أنهّا خفي هذا التفصيل على الكثير حتى ظن أن هذه التفصيلات التي قالوها لا دليل لها ، والواقع أن هذا الحديث فيه دلالات عجيبة على أحكام الصوم والإخلال بالصوم، حاصل الأمر أن هذا الحديث قال فيه النبي-- صلى الله عليه وسلم -- للقيط بن صبرة:(( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) ((بالغ في الاستنشاق )): الاستنشاق: استفعال من النشق ، والنشق والنشوق جذب الشيء إلى أعلى الخياشيم بالنفس ، هذا يسمّى نشوقاً والاستنشاق ، وطرحه استنثار من النثر، وهو الطرح، فالاستنشاق السنة فيه أن يبالغ الإنسان مبالغة في التنظيف خاصة إذا كان مستيقظا من نومه كما جرت بذلك السنة أن الشيطان يبيت على خياشيمه. في الصوم قال له : (( إلاّ أن تكون صائماً)) قالوا إن قوله : (( إلاّ أن تكون صائما )) فيه دليل على أنه خاف عليه عند المبالغة أن ينفذ الماء إلى جوفه ؛ لأنه إذا بالغ لم يأمن أن يدخل الماء إلى جوفه ، وحينئذ يفطر في صومه؛ ولذلك قال : (( إلا أن تكون صائما )) ومعناه أن صومك وإمساكك عن الطعام والشراب يقتضي امتناعك عن المبالغة ؛ لأنه يخاف ولا يأمن أن يدخل شيء إلى جوفه .(4/130)
طبعا فيه فوائد منها أنه لا يجوز للمسلم أن يشتغل بالمسنون على وجه يضيع به الواجب والمفروض، لأن المبالغة في الاستنشاق سنة وحفظ الصوم فرض وركن من أركان الإسلام ، فقدّم الركن على السنة ، ولهذا الأصل الذي استنبط من هذا نظائر منها : أنه لا يقبل الحجر وعليه طيب، لأن الامتناع من الطيب واجب عليه ، وتقبيل الحجر سنّة ، ونحو ذلك من المسائل .
الفائدة الثانية : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتبر الأنف منفذا للجوف ، ومن هنا حكم بعدم جواز المبالغة في الاستنشاق ، فتفهم منه أن العبرة بوصول الطعام والشراب إلى الجوف بغضّ النظر عن المكان المعتاد ، وهذا فقه المسألة أنّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يقيّد الفطر بالفم ، وحينئذ علينا أن ننظر في كلّ شيء يفضي إلى الجوف أنه مؤثر في الصوم ؛ اتباعا للسنة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يقيّدنا بالفم . هذا أوّل شيء .
وثانيا : أن دخول الماء عن طريق الأنف غير معتاد ، بل فيه ضرر، ومع ذلك اعتبره مؤثّرا في الصيام .
تفرّع عليه من هذا المعنى أنّ الدخول إلى الجوف لا يشترط فيه أن يكون من المكان المعتاد .(4/131)
ثالثا : أن هذا الداخل عند الاستنشاق إذا تأمّلته تجده شيئاً من الرذاذ القليل جدًّا ، وهذا رذاذ الماء القليل جدّا الذي منع منها أثناء المبالغة ويؤثّر في الصوم يدلّ دلالة واضحة على أن المراد اختراق الجوف لا الوصول إلى أصل الجوف ؛ لأنّ هذه القطرات قطعا كما يقرره العلماء وأشار إليه الإمام النووي والإمام ابن قدامة -رحمه الله- وشيخ الإسلام، في الشرع الأصل أنّ الدخول إلى الجوف لا يشترط فيه الوصول إلى المعدة ؛ لأنّ هذه القطرات ستستهلك عن طريق بمجرد وصوله إلى أطرف الحلقوم أو إلى أوّل مجاري الأمعاء أنّها ستنتهي، فلا تصل إلى الجوف قطعا ، فأصبح الإخلال أن يكون إما أن تقول العبرة بنافذ إلى الجوف ، فكلّ ما نفذ بغضّ النظر عن كونه وصل أو لم يصل ، ومن هنا لو أكل قطعة من الحلوى ثمّ بلعها ثمّ لفظها ولم تصل إلى جوفه أفطر إجماعا، فدل على أن المسألة لا تقف على الوصول إلى المعدة ، وهذا الذي جعل البعض يخلط في هذا الأمر ولا يرى الإنسان مفطرا إلا بإبرة تصل إلى جوفه ويتغذى بها جوفه ، فالسنة تدل دلالة واضحة على أن المراد انتهاك الحرمة بالجوف بغض النظر عن الوصول أو عدمه ، وعلينا أن ننظر في هذا كما نظر فيه جماهير العلماء والأئمة ولذلك إذا نظرت في كتب الفقهاء وجدتهم يشدّدون في الجوف اتباعا لهذه السنة ، ويعتبرون أن العبرة هو الوصول إلى الجوف فإذا كانت العبرة بالوصول إلى الجوف نظروا إلى النافذ وغير النافذ ، وهذا فقه المسألة ؛ لأنّ الحديث جاء في نافذ إلى الجوف؛ لأن الأنف ينفذ إلى المعدة ، ومن هنا قالوا كل ما نفذ إلى المعدة بغض النظر عن كونه يصل أو لا يصل . هذا أول شيء .(4/132)
وثانيا : عن كونه من أعلى أو أسفل مادام أنه نافذ ، فمنهم من جعله للأعلى اعتبارا على الغالب المعتاد ، ومنهم من نظر إلى العموم . الذين نظروا إلى العموم قالوا كيف نقيد بالمعتاد وقد وجدنا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يلغي المدخل المعتاد ؟ لأن الأنف مدخل غير معتاد، ومن هنا لا فرق عندنا بين الأعلى والأسفل.
تفرّعت على هذا مسائل ، منها : نقول إنّ البخاخ الذي يبخّ للربو، كلّ الأطبّاء متّفقون على أنه يصل ويوسّع مجاري النفس في الرئة ، فالبعض يقول إن هذا لا يفطر لأنه لا يصل إلى الجوف ، ونحن نقول إنّ السنّة لا تدل على الوصول إلى الجوف ، فهذا البخاخ إذا أصبح الشخص يعني حتى الأطباء يتعجّبون وقد رأيت أكثر من دكتور يقول: أتعجب كيف لا يفطر وهي موادّ مركّبة تدخل وتتفاعل في داخل الجسم وتفتح مناسم الجسم ، والسبب في هذا أن البعض يظنّ أنه لا يفطر إلا بشيء ينفذ إلى المعدة والواقع أن النفوذ إلى المعدة ليس بأساس؛ لأنّ القطرة في الاستنشاق كما ذكرنا ليست نافذة للمعدة ولا يغتذي بها المعدة .(4/133)
كذلك لو وضع الدهان فوجد طعمه في حلقه ؛ فإنه دخل إلى الجوف ؟، وهذا سار إلى الجوف فالعبرة عند العلماء بوجود النفاذ إلى الجوف ، وهذا مذهب الجمهور -رحمهم الله- وقول البعض إنه لا دليل عليه استعجال في الحكم ، علينا أن نرجع إلى ضوابط العلماء وشروح العلماء وقيود العلماء حتى نعلم ما هو وجه أقوالهم وما هو وجه تفريعاتهم ، فقد كان القوم أورع وأتقى لله وأبعد أن يقولوا في دين الله من عند أنفسهم، ولذلك الأصل يقتضي أن كلّ ما نفذ إلى الجوف من أعلى أو أسفل أنه موجب للفطر، ومسألة التفريق بين المغذّي وغيره في الحقن ليس بوارد؛ لأن الشّرع اعتبر الدّخول إلى الجوف موجباً للفطر بغض النظر عن نوعية الداخل، فإذا حكمنا بأن إبرة التغذية إذا دخلت أثرت وأضرت فإما أن نقول لكونها مغذية ووجدنا أن الشرع لا يتقيد بالمغذي لكونها داخلة إلى داخل البدن فحينئذ يستوي أن تكون مغذية أو غير مغذية ، هذا حاصل ما يقال في مسألة الأكل والشرب والاستعاط أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بين في السنة في حديث لقيط بن صبرة أن العبرة بالوصول إلى الجوف ، ومن هنا نقول إن هذه السنة مشى عليها جماهير العلماء في المذاهب الأربعة كلها لا الحنفية ولا المالكية ولا الشافعية ولا الحنابلة وشيخ الإسلام -رحمه الله- تكلّم كلاما جيدا في شرحه على عمدة الفقه ؛ لأنه في الشرح بين عبارات الإمام ابن قدامة وفصّل تفصيلا جيّداً وبيّن تأثير الدخول إلى الجوف ، وعلى هذا نقول من حيث الأصل أن العبرة بالوصول إلى الجوف وإن كان يرى -رحمه الله- في بعض المسائل كما في حقيقة الصوم استثناءات من هذا لكن من حيث الأصل أن أئمة الإسلام وعلماء الإسلام وفي فتاويهم قرّروا أن الوصول إلى الجوف مؤثّر، وعليه ينبغي أن نتقيد بهذه السنة الواردة ، وأن يحفظ المسلم صيامه إذا كان المسلم مضطرّاً لهذه العلاجات ولا يمكنه أن يتركها لحال ؛ فقد خفّف الله عنه وعليه الإطعام وإن كان مرضه يرجى(4/134)
برؤه ؛ فإنه يفطر في حال الاستعمال لهذه الأدوية ثم يقضي إذا يسّر الله له ذلك القضاء .
[ أو وصل إلى جوفه شيء من أي موضع كان ] : هذا ما ذكرناه ولذلك ذكره بعد الاستعاط؛ لأنه إذا استعط بنى حكمه على حديث لقيط بن صبرة ، ويبنى في مسائل الاستعاط بقية المسائل التي يعتبر فيها الوصول إلى الجوف .
[ أو استقاء فقاء ] : أو استقاء فقاء : الاستقاء استفعال من القيء ، واستقاء يعني استدعى القيء، وحينئذ إذا استدعاه بأصبعه ؛ فإنه حينئذ مثلا لو أنه استقاء فاستدعى القيء بأصبعه ؛ فإنه يفطر بلا خلاف بين العلماء -رحمهم الله- ، وذكر هذا غير واحد من العلماء -رحمهم الله- أنه إذا استقاء وقاء أنه يحكم بفطره ، وللعلماء في مسألة الاستقاء وجهان في كونه يفطر، والعلّة في الفطر :
بعضهم يقول : ما من شخص يقيء إلاّ ويزدرد يعني ما يمكن أن يقيء إلا ويبلع شيئاً ، وحينئذ صار الفطر من كونه بالعاً ، وقيل إنه من جهة الاستدعاء بالإخراج ، وأن الإخراج عكس الإدخال ، وعلى هذا لو أدخل في جوفه شيء قبل الإمساك ثم أخرج بعد الإمساك ؛ فإنه يحكم بالتأثير قياسا واطّرادًا لهذا الأصل هذه فائدة الخلاف في مسألة القيء كونه مؤثّرا في الصوم فإن قلنا إن العبرة بكونه يرد فحينئذ في المسألة الثانية لا نحكم بالفطر وإلا حكمنا بالفطر على الأصل من كونه خارجا من البدن .
الاستقاء -أكرمكم الله- القيء اختلف العلماء فيه :
منهم من يقول : يشترط أن يملأ الفم .
ومنهم من يقول : إلى النصف .
ومنهم من يقول : القليل والكثير سواء ، وهو أصح الأقوال أن العبرة بالاستقاء وإخراج القليل والكثير بغضّ النظر عن نوعيّة الخارج ماءً أو طعاما أن هذا موجب للفطر، فإذا خرج منه القليل والكثير حكم بفطره .(4/135)
في حكم الاستقاء مسألة استدعاء النخام من الصدر البلغم من الصدر، وقالوا إذا قلنا إن العبرة بالقدر يصبح لا يؤثّر إلا إذا كان قدرها بقدر النصف كما يقول من يقول بذلك أو بقدر ملء الفم على القول الثاني، وعلى كلّ حال لا يستدعي ذلك لا يستدعي النخامة ، وهي على وجهين: تارة تكون من الدماغ ، وتارة تكون من الصدر، فقالوا فيها حديث طبعا في القيء والإجماع منعقد وليس هناك خلاف في مسألة القيء فقالوا إنه إذا استدعى النخامة وكان لها جرم لا يجوز له أن يبلعها ، فإذا بلعها بعد ذلك أفطر، بخلاف الريق ، قالوا لأن النخامة ليست من الفم والريق من الفم ، ومن هنا شقّ التحرز عن الريق ولم يشقّ التحرز عن النخامة لا من الدماغ ولا من الصدر، وعلى هذا قالوا إن الحكم يختلف بين الريق وغيره فالريق لا يفطر ولو جمعه وازدرده فإنه فيه شبهة عند بعض العلماء والأصل يقتضي أنه لا يفطر .
[ أو استمنى ] : [ أو استمنى ] : استدعى المني ، والاستمناء فيه حركة وإثارة للشهوة ثم إنزال، فمجرد الاستمناء وهي الحركة تحريك الشهوة لا يقتضي الفطر إلا إذا أنزل، فإذا حصل الإنزال حكم بفساد صومه ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: (( يدع طعامه وشرابه وشهوته )) والاستمناء شهوة ، ولذلك يعتبر مؤثرا في الصوم ، فإذا استمنى في قول جمهور العلماء -رحمهم الله- على أنه يفسد صومه ويجب عليه القضاء .(4/136)
[ أو قبّل أو لمَسَ فأمنى أو أمذى ] : أو قبّل أو لمس فأمنى أو أمذى : قبّل التقبيل جائز ومشروع وإذا قبّل الرجل امرأته وهو صائم مالكاً لإربه ولم يحدث منه إنزال فلا إشكال؛ لأنّ النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قبل عائشة وقالت رضي الله عنها كما في الصحيح : (( وكان أملككم لإربه )) فإذا قبّل ولم يحصل شيء فصومه صحيح ، وهكذا لو باشر إلا أنّ طائفة من السّلف قال إنّ المباشرة باليد أشدّ من القبلة وهو الجسّ باليد وإثارة الشهوة أشدّ من القبلة في التأثير في الصوم ، ولذلك منع منها بعض العلماء ، وقالوا إنه لا يجوز للمسلم أن يثير شهوته ؛ لأنّه في الغالب لا يأمن فيها نفسه بخلاف التقبيل، ثم قالوا : إن الأصل المنع من الإثارة ، وجاءت السنة في القبلة فنستثني ما استثناه الشرع ، وأما من حيث الأصل لو وقعت المباشرة دون إيلاج لأصبع ونحوه أو وقع التقبيل دون إنزال ودون مني في الإثنين فإنّ صومه صحيح ، ويجبر هذا النقص بصدقة الفطر، فصدقة الفطر قالوا : إنها تجبر النقص إذا حصل من الإنسان مثل هذا الشيء .
ومن أهل العلم من قال : بل إنه عفو، وليس بنقص ؛لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا يفعل النقص في صومه لأنه قبّل صلوات الله وسلامه عليه .
[ أو كرّر النظر حتى أنزل ] : إذًا لابدّ من الإمناء على قول الجمهور، أما الإمذاء ؛ فإنه لا يفسد الصوم على الصحيح ، والمصنف يختار أنه يفسد ، لو قبّل فحصل المذي ، المني هو الماء الأبيض الثخين الذي يخرج دفقا عند الشهوة الكبرى من الرجل ، والأصفر الرقيق الذي يكون من المرأة أخف من الرجل ، ويكون عند الشهوة الكبرى .
أما بالنسبة للمذي فهو الماء اللّزج الذي يخرج قطرات ، المني يخرج دفعة ، والمذي يخرج قطرات عند الإنعاظ وهو انتشار الذكر وعند بداية الشهوة ، فهذا لا يأخذ حكم المني بمعنى أنه لا يفسد الصوم ، والصحيح أن الصوم صحيح ؛ لأنّه لا يؤثّر؛ لأنه ليس بشهوة تامّة .(4/137)
[ أو كرّر النظر حتى أنزل ] : طبعا نظر إلى شيء يثير شهوته فكرّر النظر إلى امرأته وأثارت شهوته بالنظر إلى شيء منها ثمّ أنزل ؛ فإنه إذا أنزل في هذه الحالة حكم بفساد صومه ، أما لو نظر وثارت شهوته دون إنزال فإنّ صومه صحيح .
[ أو احتجم ] : أو احتجم .
[ أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد ] : أو احتجم عامدًا ذاكرًا لصومه فسد عامدًا ذاكرا لصومه طبعا هذا في المسائل المتقدمة فخرج الناسي بناء على العذر بالنسيان .
إذا احتجم : الحجامة إخراج الدم من الأوعية الدمويّة ، والفصد إخراج الدم من العروق . هناك حجامة ، وهناك فصد ، الحجامة تكون للأوعية وهي أشبه بالتنقية لدم الإنسان ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن يكن الشفاء ؛ ففي أربعة : ففي آية من كتاب ، أو شربة من عسل ، أو شرطة من محجم أو كية من نار، ولا أحب أن أكتوي )) .
وقد احتجم بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه وأعطى الحجّام أجره ، وأفضل ما تكون في السابع عشر والتاسع عشر والحادي والعشرين هذه هي السنة ، وهي من الطب النبوي تكلّم عليه العلماء ، فهذه الحجامة يفطر فيها الحاجم والمحجوم على ظاهر الحديث ، لقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي رافع وغيره -رضي الله عنه وعن الجميع- قال : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) .
وهذا هو مذهب الإمام أبي عبدالله أحمد بن حنبل وطائفة -رحمة الله على الجميع- .(4/138)
والجمهور على أنّ الحجامة لا توجب الفطر؛ واحتجوا بما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- احتجم وأعطى الحجّام أجره ، واحتجم وهو صائم أيضا، وقد ذكر حتى شيخ الإسلام ابن تيمية أن حجامته -عليه الصلاة والسلام- وقعت في عام حجة الوداع ولذلك هذا الحديث متأخر، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم وقع يوم الفتح، ومن هنا اختلفت أجوبة العلماء عن هذا الحديث -حديث أفطر الحاجم والمحجوم- أعني الجمهور ، فقيل : إن المراد به أفطر الحاجم والمحجوم أي كادا أن يفطرا أو عرّضا أنفسهما للفطر، وفيه رواية عن أبي سعيد ، ولكن سندها ضعيف ، أنّ المراد به أن الحاجم لا يأمن من دخول الدم والمحجوم لا يأمن أن يضعف ، وهو من جهة النظر قوي يعني دلالة الحال دالة على هذا ، فإن الحجامة تضعف الإنسان ؛ لأنّها تأخذ من دمه وهو صائم ، وأيضا الحاجم لا يأمن أن يزدرد الدم .
أما بالنسبة للجواب الثاني فهو النسخ ، وقد أشار وهي رواية أنس في البيهقي وغيره وتُكلّم على بعض الروايات فيها كلام أيضا لكن الثابت أنها متأخرة أن حديث ابن عباس متأخر وحديث : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) متقدم ، ومن هنا القول بالنسخ من أقوى الأقوال .(4/139)
والقول الثالث أن المراد به أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مرّ على الحاجم والمحجوم وسمعهما يغتابان الناس ، فقال: (( أفطر الحاجم والمحجوم )) وهذا من أضعف الأجوبة أن المراد به خاص؛ لأنه إذا قيل بذلك قيل إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأيا ما كان فحديث ابن عباس أصح إسنادا ، وثبوته أقوى من ثبوت حديث : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) وما ذكرناه من ورود التأخير خاصة وأنه يلاحظ أن أحاديث الحجامة من رواية أصاغر الصحابة ، وأحاديث أفطر فيها عن أبي رافع وفيها عن غيره ومن هنا قالوا : إن روايات أصاغر الصحابة في التقدم والتأخر تقدم على رواية الأكابر عندهم قاعدة بتقديم رواية الأكابر على رواية الأصاغر فيما فيه تفسير أو فيه يعني في معنى يحتمل التأويل، لكن بالنسبة لرواية الأصاغر في المتقدم والمتأخر تقدم رواية الأصاغر؛ لأنها لا تكون إلا في آخر حال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ومن هنا قوي حديث الجمهور وقوي قولهم : إن الحجامة لا تفطر، ولكن مع هذا ينبغي للمسلم أن يحتاط كثيرا في هذا الأمر ولا يحتجم إلا عند وجود حاجة ، ويغلب على ظنه أنه يقوى ويطيق الحجامة .
[ وإن فعله ناسياً أو مكرهًا لم يفسد صومه ] : الأصل في ذلك أن من أكل أو شرب أو استعط أو فعل هذه الأشياء ناسياً لصومه وهذا يقع غالبا في اليوم الأول من رمضان ؛ لأن الإنسان ربما اعتاد شيئا من الأكل والشرب في وقت معين ، فيحصل منه النسيان ؛ ففي الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو صائم فليتمّ صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه )) .
فقوله عليه الصلاة والسلام : (( فإنما أطعمه الله وسقاه )) يدل دلالة واضحة على أنه لا يطالب بالقضاء ، وأن صومه صحيح ؛ وعلى هذا فإن جمهور العلماء من : الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة والظاهرية ، وأهل الحديث على أن من أكل أو شرب ناسيا أن صومه صحيح .(4/140)
وذهب المالكية إلى أنه يجب عليه القضاء ، وأجابوا من وجهين :
من جهة النص قالوا : إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يتكلم عن القضاء وإنما قال : (( إنما أطعمه الله وسقاه )) لكي يخرجه عن المتعمد ، وحينئذ نحن نلزمه بضمان هذا اليوم ؛ لأنّنا وجدنا الشّريعة تلزم بضمان الواجبات عند النّسيان ؛ لأنّه حقّ لله -- عز وجل -- .
ثانيا : قالوا : إنّ ركن الصّوم هو الإمساك ، وقد عهدنا أيضا من الشّريعة أن نسيان الأركان لا يسقط فعلها والمطالبة بها ، كيف نسيان الأركان ؟ لو أن شخصا سها فسلّم من اثنتين في الظهر أو من ثلاث في العشاء ؛ فإننا نقول يجب عليه أن يأتي بالركعتين الأخريين من الظهر، ويجب عليه أن يأتي بالركعة الأخيرة من العشاء ، وكونه ناسياً يعذر حال النسيان ، فمادام في مصلاّه أو في المسجد يرجع ويتم ما بقي عليه ، هذا يدل عليه أصل القاعدة : أن النسيان في الأركان لا يوجب الإسقاط ، إنما يوجب سقوط الإثم ونحو ذلك.
الصحيح مذهب الجمهور :
أولا : لصحة دلالة السنة ، وعندنا في الحديث ما يفيد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قصد صحة الصوم؛ لقوله : (( فليتمّ صومه )) والإتمام لا يكون في فاسد ، ووصفه بكونه صائما ، وبكون الصوم يتمّ له إذا أمسك ، فدل على أن تأويلهم ضعيف .
وثانيا : أنّ قولهم إنّ النّسيان في الأركان لا يؤثّر، نقول كما اختار بعض مشايخنا -رحمهم الله- هذه قاعدة واستثنت السنة منها هذا الأصل فنقول لا تعارض، فلكل قاعدة مستثنياتها ، ومادام قد صح الدليل عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- نستثني به ولا إشكال . هذا بالنسبة للناسي إذا نسي الأكل والشرب .(4/141)
واختلف في الجماع هل ينساه الإنسان وهل نسيانه مؤثّر ؟ والواقع أنه قد يقع منه النسيان كما في اليوم الأول إذا اعتاد إصابة أهله في وقت ونحو ذلك ، المهم أنه إذا وجد النسيان فهو عذر، وإذا ثبت هذا فإن الصحيح مذهب الجمهور: أن النسيان لا يفسد إذا أكل أو شرب أو استعط ناسيا لصومه ؛ فإنه لا شيء عليه ويتمّ صومه وهو صحيح .
[ وإن طار إلى حلقه ذباب ] : هذه مسألة تعرف يعني هي مسألة من مسائل الإكراه ، بعد أن بين حكم الناسي شرع في حكم المكره ، ثمّ العلماء -رحمهم الله- يأتون بصور، قد يستغرب البعض منها لكنّ هم يريدون تقرير الأصل، فلو قال لك ولو أكره على الفطر؛ صح صومه كفاه عن هذا كله ، يعني إنه شيء ليس باختياره ، فالنائم إذا كان نائما ألحق بالمكره ، ولذلك النائم والناسي والمخطئ والمكره بابهم واحد ، والعلماء اختلفوا في تكليف هؤلاء ، فالمراد هنا أن طالب العلم يُنَبّه على هذا في المتون الفقهية المراد بالأمثلة ضبط الأصل ، ولذلك إذا تعود طالب العلم على أن يرتب الأفكار والأمثلة ويعرف ما هو المراد من هذا المثال ، ولماذا ذكر هذه الصورة بعد هذه الصورة يستطيع أن يضبط المتون الفقهية ، ويستطيع أن يرتّب الأفكار في ذهنه ، ويستطيع أن يستحضرها متى سئل واستفتي ، بحيث إذا ذكر يعرف ما الذي يستثنى منه ؟ وإذا ذكر الأصل عرف ما الذي يتفرع عليه ؟ فالعلماء -رحمهم الله- يذكرون مسألة أن يكره على الفطر بعد أن ذكر أن يكون ناسيا ، ومن فعل ذلك ناسيا ؛ فلا شيء عليه ، شرع في مسألة الإكراه طيب إذا جئت للإكراه ماذا تفعل تنظر من الأفضل في التمثيل أن تأتي بغالب ما يقع للناس، وقد تأتي بالنادر إشارة إلى المذهب، ومن هنا لا يستغرب على بعض العلماء ذكر بعض الصور النادرة ؛ لأنها هي التي كان يدور عليها الخلاف بين العلماء ؛ إما في أصلها وإما في حقيقة الصورة ، فهنا في مسألة :[ وإن طار إلى حلقه ذباب] يعني الواحد يستغرب كيف جاءوا بهذا الشيء(4/142)
لكن هم يريدون أن يذكروا لك مثالاً عن الإكراه ، هذه الأمثلة من أين يأخذونها يأخذون من أسئلة الناس وفتاويهم، نحن في نعمة والناس يعيشون اليوم في نعمة عظيمة لكن والله لو أن الإنسان يعلم مقدار ما هو فيه من النعم ،كان الناس يأتي عليهم أياّم في السّنة خاصّة في الفصول التي يتكاثر فيها الذّباب لا يستطيع الإنسان أن يفتح فمه إلا دخلت فيه ذبابة ، نعم يا إخوان نحن في نعمة عظيمة ، ومن ذهب إلى البلاد الفقيرة والبلاد التي لا تملك شيئا عرف مقدار ما هو فيه من النعم ، ومن هنا قد تجد الإنسان ما يستطيع أن يفتح فمه إلا ودخل الذباب يقع هذا ويقع في بعض فصول السنة فصول تكاثر الذباب يقع هذا ، فيطير في حلقه ذباب ، طيب إذا طار في حلقه ذباب فهو أجنبيّ داخل إلى الجوف ، هل هذا يؤثّر في الفطر ؟ الجواب : لا ؛ لأنّه يشقّ التّحرز عنه ، ولا يمكنه لكن لو أمكن التحرز نعم ، أما كلامنا يطير في حلقه ذباب بغير اختياره لا أحد يسمح للذباب أن يدخل في حلقه ، ومن هنا تفهم أنها صورة إكراه ، وهم يخاطبون من عنده إحساس، ولذلك لا يقال طار إلى حلقه ذباب إنه فاتح فمه من أجل أن يدخل الذباب فيه الذي هو الاختيار فنفهم من هذا الاضطرار ، وندرك بداهةً أنّ مقصودهم صورة الاضطرار أكثر ما تقع في هذا إذا طار في حلقه ذباب.(4/143)
[ أو غبار ] : الغبار من حيث الأصل عند العلماء لا يجوز أكل التراب ، دخول الشيء إلى الجوف كما قلنا اختيارا واضطرارا في حال هبوب الغبار يشق التحرز عنه ولا يمكن للإنسان غالبا إذا سافر في البر وسفت الريح أو تحركت الرياح ما يستطيع إلا أن يدخل في حلقه الغبار أو يطير إلى جوفه الغبار ، هذا الغبار لو أكله اختيارا أفطر كما نبه عليه الإمام ابن قدامة وغيره من العلماء في المطوّلات ، لو أكل الغبار لو أكل الطين هناك نوع من الطين يأكلونه ويقصدون به التداوي ، لو أكله أفطر، ولو تعرّض للغبار يريد الغبار أفطر، ومن هنا مسألة الدخان البعض يقول لك هذا الدخان ليس بدواء وليس من جنس ما يؤكل وما يشرب تقول الغبار ليس بدواء وليس من جنس ما يؤكل ويشرب ومع ذلك نصّ العلماء على كونه مفطرا .(4/144)
صورة الإفطار بالدخان أن الدخان له مادة ، وهذه المادة تتحلّل عند استنشاق رائحة الدخان وتمتزج باللّعاب ، ولا يمكن غالبا إذا شرب الدخان أن يتّقي هذه المادة ، وغالبا أنه يزدردها وحينئذ هو مفطر ، أما المكابرة أن يقول الرجل إنه ما يفطر ولا يدخل إلى جوفه إذا قلنا بالأصل إذا جئنا نخرج المسألة نقول إنّ العلماء نصوا على أن الغبار لو دخل إلى جوفه فهو مفطر ، والغبار له جرم معروف يكون له جرم لكن الدخان له مادة موجودة وهي تنزّل منزلة الجرم ، ولذلك عندنا الفيكس وعندنا بخاخ الربو حكمنا لوجود الموادّ الكيماويّة الموجودة فيه والتي تتحلل وتفعل في الجسم ، وهذه مواد موجودة في الدخان هذه نافعة وهذه ضارة استوى دخول هذا كما أن الغبار ضارّ وإذا دخل أثّر، وغيره نافع إذا دخل أثّر، إذا لا فرق بين العلماء مادام أنه أدخله باختياره بغض النظر عن كونه ضارًّا أو نافعاً ، وعليه نقول الذي يقول إن العلماء ما يفطّرون بالدخان هذا يكابر، المعروف أنّ أصول العلماء تقتضي أنه يفطر، والمادّة موجودة وجرم المادة موجود ولذلك يجد أنه بشربه للدخان يتغيّر طعم الريق، ويتغيّر طعم فمه ، ومن هنا المادّة موجودة ، وبازدراده ولا يمكن له إذا شرب الدخان أن يتقي ازدراد هذه المادة فيحكم بفطره من هذا الوجه .
[ أو تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء ] : تمضمض واستنشق على صورتين :
إماّ أن يتكلّف ويتعاطى أسباب الإهمال فيعاقب .(4/145)
وإما أنه لا شعورياًّ حصل منه هذا فهو في حكم الخطأ بعض العلماء يغتفر ويقول : ولا شيء عليه وهو الذي درج عليه المصنف، ويكون في حكم ما ليس باختياره، هذا وجه دخول هذه الصور أنه إذا تمضمض مبالغا في مضمضته واستنشاقه يؤاخذ ، ولذلك لما قال : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) منع من تعاطي السبب في الإخلال، والأصل في السنة أن من تعاطى السبب في الإخلال يلزم ويتحمّل في المأمورات وفي المنهيات ؛ والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما رأى الصحابة أعقابهم تلوح قال : (( ويل للأعقاب من النار)) لا يوجد صحابي من هؤلاء لو كان يعلم أن عقبه لم تغسل لكان غسلها، فنحن لا نشكّ أنهم لا يعلمون بالعقب، قالوا فلما قصّر في التحرّي؛ لأنه كان المفروض أن يتحرّى رجله لأنه مأمور بها واستيعابها ،فلما قصّر في التحرّي عوقب ، وهنا لما هناك التقصير في التحري في فعل الواجب والتقصير في التحري في ترك المنهي ؛ لأنه مأمور بترك الشرب ، وإذا تمضمض مأمور بأن يحافظ حتى لا يشرب ، وإذا استنشق مأمور حتى لا يستنشق لا يستعط ، فإذا قصر ألزم بتقصيره ومن هنا إذا بالغ حكم بفطره على ظاهر السنة ؛ لأنه قال : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)) فكلّفه وألزمه وحمّله المسؤوليّة عن نفسه قال إلا أن تكون صائما معناه لا تبالغ لأن ما بعد إلا مخالف لما قبله في الحكم ؛ لأنه لما قال : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) استثناء والاستثناء إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ أي فإذا كنت صائما لا تبالغ ، فلما نهى عن المبالغة معناه أنك إذا بالغت تحمّلت المسؤوليّة ، ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يتمضمض ويستنشق مبالغا في مضمضته كأن يغرغر، وذكر العلماء هذا فإذا غرغر ودخل شيء إلى جوفه أفطر، وأما إذا تمضمض مضمضته المعتادة ولم يشعر إلا والماء أو طعم الماء في حلقه فهذا لا يؤاخذ في فعله وهكذا إذا استنشق .(4/146)
[ أو فكر فأنزل ] : أو فكر فأنزل : وهذا كما يقول العلماء هجم عليه التفكير، يعني جاءه شيء عارض وقيل أن يفكّر المرة ولا يكرّر كما في تكرار النظر، قال إذا كرر النظر فالشاهد من هذا أنه إذا فكر مسترسلاً وتعاطى السبب فأنزل؛ فإنه لا فرق بينه وبين من يستدعي وينزل، سواء بمباشرة أو بتقبيل أو بالاستمناء ؛ لأنه يتعاطى السّبب ، الأوّل سبب حسيّ، والثّاني سبب معنويّ، ولا فرق بين الاثنين، أما إذا فكّر بأن كان في حالة ثم هجم عليه شيء وذهل أثناء هذا الشيء وفتن به من شهوة زوجته أو نحو ذلك فانشغل به حتى أنزل ولم يشعر فهذا مستثنى يعني إذا كان غصبا عنه وليس باختياره ، أما أن يأتي الشّخص ويفكّر في الأشياء التي تثير الشّهوة ثمّ ينزل ثمّ يقول من فكّر فأنزل فلا شيء عليه فلا ؛ لأنه تعاطى السبب ويريد استثارة الشّهوة بطريقة لم تكن حسيّة صحيح أنها معنويّة متعلّقة بالفكر لكنها كالحسّيّة كما لو استدعى المني بالاستمناء لا فرق بينهما.
[ أو قطر في إحليله ] : الإحليل مجرى البول من الذكر، وهذا راجع إلى مسألة : هل الإحليل ينفذ إلى الجوف وهل المثانة جوف أو ليست بجوف ؟ فالمصنّف يميل إلى أنها لا تأخذ حكم الجوف إذا قطر في الإحليل بناء على هذا القول إذا أجريت له العملية التي تعرف بتوسيع مجرى البول -أكرمكم الله- لا يحكم بفطره ؛ لأنهّم يرون أنّه لا ينفذ ، واختيار بعض العلماء أنّ المثانة نافذة من الحالب إلى الجوف ، وهذا يؤثر في الصوم ، وهو أقوى من حيث النظر، وأشار إليه الإمام النووي رحمه الله في المجموع وكذلك الماوردي في الحاوي .(4/147)
[ أو احتلم ] : أو احتلم هذا شيء لا يملكه هذا طبعا انتهى من المكره ودخل في النائم، عندنا الناسي، وعندنا المكره لم يأت بالإكراه أنّ شخصاً يهدده أو كذا لكن بغير اختياره ، عندهم مكره يكره على الشيء ، وعندنا مكره يعني ليس باختياره ، والمراد هنا التجوز في الإكراه الذي ليس بالاختيار، وليس المراد أن يهدد حتى يطير في حلقه الذباب أو ما تقدم من المسائل، لا ، إنما المراد بها نفي الاختيار الذي ينزّل منزلة الإكراه .
هنا شرع في النائم ، النائم إذا نام واحتلم وأنزل فصومه صحيح ، فلو أنّه نام ثمّ رأى في نومه ما يثير شهوته ثم نزل منه المنيّ ؛ فصومه صحيح ، لوجود العذر ويتم صومه ولا يؤثّر فيه ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( رفع القلم عن ثلاثة : وذكر منهم النائم حتى يستيقظ )) وهو حديث عائشة وعلي رضي الله عن الجميع في السنن وهو صحيح .
[ أو ذرعه القيء لم يفسد صومه ] : [ أو ذرعه ] : يعني غلبه القيء [لم يفسد صومه ] : وهذا كما ذكرنا لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار .(4/148)
[ ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر ] : من أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر: أمر الله المسلم أن يمسك عند تبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب، والنصوص كما قدمنا واضحة في الكتاب والسنة على هذا ، وهو قول جماهير أهل العلم من الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن بعدهم من السلف الصالح . وكان الصحابة في بداية الأمر يتأولون الآيات كما في حديث عدي في الصحيح وأيضا ثبت في الصحيح من حديث سهل -- رضي الله عنه -- أن الصحابة لما نزل قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } أول ما نزل : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } قال - رضي الله عنه - : فكان الرجل كما في رواية في الصحيحين :كان الرجل إذا نام يربط خيطا أبيض وخيطا أسود ؛ اتباعا للوارد هذا ما هو استخفاف بهم -رضي الله عنهم- بل هو تجرّد للكتاب والسنة كيف ما جاء يفعلون ما ورد ، قال الخيط الأبيض من الخيط الأسود كان يضع عنده خيطين ومنهم من كان يربط الخيطين فينظر حتى يتبيّنهما، فنزل قول الله تعالى : { من الفجر } فعلموا أن الله يريد تبين النهار من الليل ومن هنا يعني تأويلات الصحابة في تفسير الآية ينبغي أن تُردّ إلى هذا الأصل .
@ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول : فضيلة الشيخ : استفدنا كثيرا جزاك الله خيرا من هذه الدورة ، ولكن ما الطريق والسبيل إلى ضبط هذه المسائل . وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(4/149)
فضبط العلم وإتقان العلم أمر مهم لطالب العلم ، وكل طالب العلم يأخذ الأحكام الشرعية مبنيّة على أدلّتها من الكتاب والسنّة وإجماع العلماء -رحمهم الله- والنّظر الصحيح ، ويحسن ترتيبها وإتقانها ومراجعتها وفهمها لاشكّ أنه سيبارك له في العلم -بإذن الله تعالى- . فالذي أوصي به بعد الإخلاص لله -- عز وجل -- أن يحرص طالب العلم على وقته ، وهذه الوصية كان العلماء -رحمهم الله- والأئمة يشدّدون فيها ، فرأس مال طالب العلم في الدورات وفي الدروس العلميّة أن يحفظ وقته بعده ، إذا وجدت طالب العلم يأخذ العلم ويرجع إلى بيته ينكبّ عليه يحسّ أن عنده أمانة وعنده مسؤولية وأنه مسؤول عن هذا العلم بورك له في وقته ، وسيرى بركة ذلك ، وسيرى كيف أن الله -- سبحانه وتعالى -- سيخرجه للأمة بالعلم النافع وكيف سيضع له القبول وكيف يتولى الله أمره ؛ لماذا ؟ لأنه إذا قدم الجد والاجتهاد صدق مع الله -- عز وجل -- ، ولا يكون ذلك إلا بفضل الله ثم معرفة قيمة هذه النصوص من الكتاب والسنة وكلام العلماء ، فالفضل لله ثم لأئمة الإسلام ودواوين العلم -نسأل الله بعزته وجلاله أن ينور قبورهم وأن يرفع درجاتهم وأن يجزيهم عن أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- خير الجزاء- لا تضع وقتك وطالب العلم يقوم من الدورات من الدروس العلمية لكي يأخذ الكتاب أو الورقة التي سجّل فيها الملاحظات فيرمي كتابه لكي يسهر مع هذا ويجلس مع هذا ويباسط هذا فليبكِ على نفسه، ووالله، ليمرن عليه يوم يبكي بكاء الندم والحرقة على التفريط في هذا العلم النافع، والله، لا أسعد منك ولا أعز منك وأنت تسمع كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وليس هناك أشرف من هذا العلم الذي بين يديك ، ومن ظن أن هناك أعز منه في علمه فقد ازدرى نعمة الله -- عز وجل -- عليه .(4/150)
اعرف قيمة هذا العلم واعلم أنه أعز ما تمضي فيه وقتك ، الإمام ابن عقيل الحنبلي الإمام الذي كان آية يقال : إن كتابه الفنون كان أكثر من خمسمائة مجلد ، هذا العالم لا يوجد فن إلا وخاض فيه من سعة علمه ، يذكر عنه ابن الجوزي أنه قال : إني لا أحل لنفسي يعني أمر محرم على نفسه هذا من باب المبالغة على النفس لما شعر بالمسؤولية عن الأمة إني لا أحلّ لنفسي أن تذهب مني لحظة دون أن أكون في علم يعني بدون أن أستفيد منها في العلم، فلو ذهب سمعي فلو كَلّ سمعي وبصري ويدي عن كتابة العلم أشغلت فكري حتى أجد الفائدة يعني أشغلت فكري للتّفكر في العلم حتى أجد الفائدة فأدوّنها ؛ نفعاً للأمة ، وإني قد بلغت عشرة ثمانين يعني دخل في الثمانينات جاوز الثمانين، وأنا أشد طلبا للعلم وحبا له مني في العشرين ، عمره فوق الثمانين والنشوة والقوة والحماس للعلم أكثر مما وجده وعمره في العشرين ؛ لأن الله بارك له ، لكن بالجد والاجتهاد طالب العلم الذي لا يراجع العلم هذا مسكين ، يستكثر من حجج الله عليه يورد نفسه الموارد .
أخي الكريم رتّب وقتك ، نظّم وقتك ، واعلم أنّ هذا العلم يحفظ في الليل والنهار، ويراجع وتكرّس جهدك عليه .
المطلوب: أوّلا : أن تعرف المسائل، كل مسألة تكتبها، تضع لها عنوانها، ثم تضع معنى العبارة في المسألة، ثم حكمها، ثم الدليل، إن كانت خلافيّة قلت على الراجح حتى تفهم إذا خالفك أحد ما تنكر عليه ، وتبيّن لك دليل، المهم أن يكون عندك حكم بالدليل حتى إذا وقفت بين يدي الله في هذا الفقه ؛ لماذا تعمل وتقول ؟ تقول : قلتها يارب في كتابك وقال نبيك -- صلى الله عليه وسلم -- تذكر حجة ودليلاً، مادام عندك الحجة والدليل مستنبطة من الكتاب والسنة فأنت على هدى وعلى نور.(4/151)
إذا ضبطت المسائل رتبت المسائل إذا عندك قوة لفهم المسائل والردود والمناقشات أنا أنصحك أن لا تدخل في الخلافات، طلاب العلم المبتدئون لا يدخلون في الخلافات، وبعض طلاب العلم لا يشعر بنفسه إلا إذا كان الدرس فيه خلاف، وقالوا وقلنا وردود ومناقشات عنده يحس أنه تعلم لا أول شيء تأخذ الأساس، وتضبطه بدليله ، وتأخذ على قول واحد ، وتضبط بالدليل، اقرأ لكتاب شيخ الإسلام -رحمه الله- وهو يشرح العمدة حينما كان على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- مجتهدا في المذهب، واقرأ له في مجموع الفتاوى، تجد أنه قد أخذ العلم بالتدرج، ضبط أقوال الفقهاء وحرر مقاصدهم وأدلتهم ثم بعد ذلك خرج للأمة مجتهدا .
فطالب العلم الذي يدخل للخلافات والردود والمناقشات يتشتّت ، ولذلك ينبغي على طالب العلم دائما حتى في المحاضرات لما تحضر لأحد احرص على أنك تكون مركّزا ولا تشغل من يحاضر لك بالاعتراضات بالمناقشات تضيع وقتك وتضيع على الطلاب الفائدة والعائدة ، هذا يذهب الكثير من بركة العلم.
اترك الشيخ يشرح ويذكر مسألته بالدليل إذا ارتضى قولا للسلف بالدليل يقرر المسألة على ما ظهر له ويتبين له إن وجدت من هو أعلم منه وأردت أن تأخذ عنه فلا بأس لكن من حيث الأصل تتقيد ولا تتشتت. إذا تلخيص الدروس وهذا يكون ببيان صورة المسألة ، أمثلة المسألة ، حكم المسألة ، دليل المسألة ، ثم تضع عندك جدولا عن كتاب الصوم : ترتّب أبوابه ، ترتّب مسائله ، ثمّ تبدأ تراجع ، هذا الملخص عند العلماء شيء لطالب العلم يعتبر أصلاً، فإذا بدأ بمتن مدعم بالدليل وأخذ يحفظ ويركز سيفتح الله عليه بعد ذلك ، ويكون المنطلق يكون هو الأساس ، وعلى هذا الأساس يبني ، وعندها يكون كالذي جعل له أصلا وفرّع عليه ، ما تلتبس عنده المسائل ، يعرف أن هذه المسألة مشى عليها لدليل ، وأنه خالفها لدليل ، وعندها يفتح عليه في الفهم ، ويفتح عليه، لكن معلومات مرتبة ومنظمة .(4/152)
أما إذا دخل في المناقشات والردود ودون تأصيل ودون ترتيب فما مَثَل هذا إلا كشخص أعطي الدرر والجواهر والكنوز ولو جلس عند أعلم الناس ولا يرتّب أفكاره فسيضيّع عليه علمه، مثل الشخص الذي يأخذ الجواهر والدرر ويضعها في المستودع، إن وضعها مرتبة في أي وقت يحتاج إلى أي شيء يذهب إليه بسرعة ويعرف أين مكانه ولا يخطئ غالبا -بإذن الله- . والعكس إذا جاءت المعلومات هذه ردود ومناقشات وأقوال وأدلة إذا بها تدخل فإذا به يوما من الأيام يطلب منه شيء يذهب إلى غيره ، ويعيا في وجود ما يريد ، هذا كمثال والله ضرب لنا المثل ، ولذلك حرص العلماء على القواعد والأصول والاختصار في البداية .
أنا أوصي بهذا طلاب العلم في كل الدورات والدروس إذا بدأ باختصار وتركيز فبإذن الله سيفتح الله عليه وأهم شيء الحرص على الوقت والمراجعة . والله -تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :فضيلة الشيخ : إذا بلغنا الخبر برؤية الهلال ونحن في وقت الضحى أو قبل الزوال هل يجب علينا الإمساك وهل نقضي ذلك اليوم بعد رمضان أو لا . وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
نعم يجب الإمساك ؛ لأنّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما نزلت عليه فرضيّة صيام عاشوراء أمر بإمساك بقيّة اليوم، ويجب عليكم الإمساك ؛ لأن فرضيّة عاشوراء طارئة وفرضيّة رمضان سابقة ، والقاعدة لا عبرة بالظنّ البيّن خطؤه ، فتمسكون بقيّة اليوم ، وتعذرون في الأكل أول اليوم ويجب عليكم قضاء هذا اليوم ؛ لأنكم مأمورون بصيام الشّهر كاملاً .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا ؛ أفطر
قال المصنف رحمه الله : [ ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا ؛ أفطر ] :
الشرح :(4/153)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتماّن الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه، واستنّ بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فلازال الكلام موصولاً عن متن عمدة الفقه في أحكام الصيام ، وبيّن المصنف -رحمه الله- في هذه المسألة : أن من أكل ، وهذه المسألة : من أكل يظنّه ليلاً : هذه المسألة تعرف عند العلماء -رحمهم الله- بالشك ، من مسائل الشك أن يكون الإنسان في الليل فيشك هل طلع عليه الفجر فيمسك أو لم يطلع الفجر فيأكل ؟ وهناك مسألة تقابلها وهي أن يكون صائماً فيشك في غروب الشمس ، هل غابت الشمس فيفطر أم لم تغب الشمس فيجب عليه أن يظل صائماً حتى يتحقق مغيبها ؟ هذان الموضعان من مواضع الشك في العبادة ، والمراد به في التأقيت .(4/154)
أما بالنسبة للمسألة الأولى: وهي أن يقوم الإنسان في الليل أو يكون جالساً في الليل ويشك هل أذّن للفجر أو لم يؤذّن ؟ وهل دخل وقت الإمساك أو لم يدخل ؟ فالأصل أنه في الّليل ، وحينئذ نقول له إما أن يمكنه أن يتحرّى ، وإما أن لا يمكنه ذلك ، فإذا أمكنه التّحري كأن يكون داخل الغرفة ويمكنه أن يخرج ويسأل إخوانه أو الناس بخارجها ، ويستطيع أن يتحقّق أو يكون في بَرّ في غرفة، ويستطيع أن يخرج فينظر هل طلع الفجر أو لا ، ويعرف أمارات الفجر؛ فحينئذ نقول: يجب عليه أن يتحقّق قبل أن يأكل ؛ إذًا إذا شكّ هل طلع الفجر أو لم يطلع الفجر وبإمكانه أن يتوصّل إلى اليقين ؛ فإنه يجب عليه أن يتحرى ، وأن يتحقّق هل طلع الفجر أو لم يطلع الفجر، ولا يجوز له أن يُعمل الشكّ ؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشكّ ، وحينئذ لا اجتهاد مع القدرة على الوصول لليقين ، فلو أن شخصاً كان في بلد ويمكنه أن يسأل عن جهة القبلة فجاء يجتهد لكي يصلي باجتهاده نقول له : لا اجتهاد ؛ لأنه يمكنه أن يصل إلى اليقين بسؤال أهل الخبرة والمعرفة، فإذا أمكنه التحري فنلزمه بالتحري ، يكون التحري بسؤال الناس ، يكون التحري بالنظر في ساعته ، ومعرفة تقويم الفجر، يكون التحري بالخروج من الغرفة إذا كان في بَرّ ؛ لأن المدن مع وجود الأضواء يصعب معها معرفة دخول الفجر، وتبين الفجر الصادق من الكاذب ، وحينئذ إذا كان في بَرّ ويمكنه النظر والسماء صحو؛ نقول له : تحرَّ .
أما إذا كان لا يمكنه التحري ولا يستطيع أن يصل إلى اليقين وقام ؛ فحينئذ نقول له : يجوز لك أن تأكل ، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة -رحمهم الله- وشدّد في هذا المالكية لكن الجمهور على أنه يجوز له الأكل ، ثم إذا أكل فلا يخلو من حالتين ، إذا قام وهو لا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع ثم أكل لا يخلو من حالتين :(4/155)
إما أن يتبين له الأمر، وإما أن يرجع وينام ولا يتبيّن له الأمر، فإن تبيّن له الأمر الذي هي الحالة الأولى إما أن يتبيّن أنه مصيب أو يتبين أنه مخطئ ، إذا قام فأكل بناء على أنه يظن أن الليل باقي ثم تبيّن له حقيقة الأمر؛ إما أن تتبين بصواب ، وإما أن تتبين بخطأ ، فإن تبينت بصواب ؛ فلا إشكال في أنه لا شيء عليه ؛ لأنه أكل في وقت يجوز فيه الأكل ، ولا إشكال في هذه المسألة .
أما إذا تبيّن أنّه أخطأ ؛ فإنه يجب عليه القضاء ، وهذا قول جماهير الأئمة -رحمهم الله- من السلف والخلف ؛ لأنه يجب عليه أن يقضي ؛ إذ الأصل أن يصوم يومه كاملاً ، وقد اجتهد وظن وبان خطأ ظنه فوجب عليه ضمان حق الله -- عز وجل -- كما لو ظن إنسان أنه قضى دين المخلوق وتبين له أنه لم يقض ؛ فإنه يجب عليه ، معذور حال الظن وغير معذور بعد التبيّن ، وهذا مبني على قواعد سنذكرها .
أما حكمنا بجواز الأكل له ؛ فهذا مبني على القاعدة الشرعية : (( الأصل بقاء ما كان على ما كان)) فنقول له : إذا قمت أثناء الليل ولم تتبيّن الفجر فأنت في الليل حتى تتحقّق من دخول الفجر؛ لأن الأصل بقاء الليل وليس هناك دليل على زواله فيجوز لك الأكل ، هذا وجه قول الجمهور أنه يجوز له أن يأكل .
أما القضاء ؛ فلأن القاعدة (( لا عبرة بالظن البيّن خطؤه)) ، أي لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه ، فالشريعة تُسقط الاعتداد به ، لكن لا يلحقه الإثم لمكان الخطأ ، ويجب عليه ضمان حق الله -- عز وجل -- لمكان النقص ، هذا إذا تبيّن له أنه أصاب أو تبيّن له أنه أخطأ .
أما لو أنه قام أثناء الليل وأكل أو قام أثناء نومه فأكل أو شرب ثم رجع ونام ثم استيقظ وإذا به بعد صلاة الفجر لا يدري هل أكله وقع في وقت الجواز فلا شيء عليه أم أن أكله وقع في وقت الإمساك والتحريم فيجب عليه الضمان ؛ نقول له : اليقين أنك أكلت بالليل حتى تتأكد أنك أكلت بالنهار، وحينئذ هو معذور ، وصومه صحيح .(4/156)
إذًا الخلاصة أن من قام أثناء الليل ، ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع ؛ نقول : إما أن يمكنه أن يستبين فيجب عليه ، وإما أن لا يمكنه الاستبيان ؛ فحينئذ إذا أكل أو شرب إما أن يتبيّن له الأمر، وإما أن لا يتبين له الأمر، فإن تبين له الأمر بصواب ؛ فلا إشكال ، وإن تبين بخطأ أي أنه أخطأ ؛ فيجب عليه ضمان خطئه ، ويسقط عنه الإثم للخطأ ؛ وهذا معنى قوله : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فالإثم يسقط بالخطأ والضمان واجب ، ولذلك لو أخطأ إنسان في حق أخيه نقول : لا إثم عليك في الخطأ ، ولكن تضمن حق أخيك ، فلو كسر شيئاً لألزمناه بضمانه ؛ والنبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( فدين الله أحق أن يقضى )) فإذا كانت حقوق المخلوقين تضمن بالخطأ فحق الله أولى أن يضمن بالخطأ ، فالمؤاخذة ساقطة ، ولكن يجب عليه الضمان . قالوا لأنه لا يقع في الخطأ إلا بنوع من الإهمال والتقصير، ولو تحرّى كما ينبغي أن يتحرّى لأدرك حقيقة الأمر وجليته، هذا بالنسبة لمن استيقظ ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع .
وأما إذا استيقظ وأكل ثم نام ثم استيقظ بعد ذلك ولا يدري هل كان أكله أثناء نومه بعد طلوع الفجر فيجب عليه القضاء أم أنه وقع قبل طلوع الفجر فصومه صحيح ؛ نقول : الأصل أنه أكل في الليل ، والأصل (( بقاء ما كان على ما كان)) ، والأصل أيضا ((براءة ذمته من المطالبة بالقضاء حتى نتحقّق أنه أخطأ )) ، وحينئذ لا يجب عليه شيء ، وصومه صحيح ولا شيء عليه ، فلو سألك سائل وقال : قمت أثناء نومي وأكلت ، ولا أدري هل وقع أكلي أثناء الحِل أم وقع أكلي في وقت الحرمة ، ثم إني إلى الآن لم يتبيّن صواب فعلي من خطئه ؟ تقول له : صومك صحيح ، ولا شيء عليك ، وإن كان يمكنه التّحري فإنه يأثم بترك التّحري .(4/157)
[ ومن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً أفطر ] : [ ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا ] : فبان إذًا معناه أنه شك وأخطأ في ظنه فقدّر أنه في الليل ثم تبيّن أنه أخطأ قلنا يجب عليه القضاء .
[ ومن أكل شاكًّا في طلوع الفجر لم يفسد صومه ] : هذا الذي لم يتبيّن له شيء ، لكن الأول تبيّن له أنه أخطأ ، فذكر لك المصنّف صورتين :
أن يتبيّن له أنه أخطأ ؛ فحينئذ يجب عليه الضمان ، وأن يشك فيأكل ولا يتبين له شيء ؛ فالأصل بقاء الليل حتى يتأكّد أنه أكل في وقت التحريم .
[ ومن أكل شاكا في غروب الشمس فسد صومه ] : هذه المسألة ضد المسألة الأولى ، الأولى شكّ في دخول وقت التحريم ، والأصل أن الأمر حلال ؛ لأنه حينما يكون نائماً ويستيقظ الأصل أنه في الليل حتى يتحقّق أنه دخل النهار، لكن هنا الأصل أنه في النهار وأن الواجب عليه أن يمسك، وشكّ هل غابت الشمس أو لم تغب ؟ نفس الشيء تستصحب وتقول: الأصل بقاء النهار حتى يتحقّق من غروب الشمس ؛ إذًا الأصل بقاء ما كان على ما كان ، فلا يجوز له أن يفطر إلا بيقين أو غالب ظن .(4/158)
اليقين أن يتأكد من أن الشمس قد غابت بأمارة ظاهرة يقينية . رأى الشمس تغيب ويعرف علامات مغيبها وجزم ، وأقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم )) تأكد فلا إشكال ، فالأصل عندنا أنه لا يفطر إلا بيقين ، لكن لو شك هل غابت الشمس أو لم تغب ، يقع هذا في الأماكن المظلمة :كالكهوف ، والحجرات ، والغرف ، ويقع كذلك في حال الغيم إذا لم تكن هناك مواقيت أو آلات للحساب ، وأصبحت السماء مغيبة ؛ فإنه يصعب في بعض الأحوال أن يتأكد من مغيب الشمس ، فنقول له : اصبر حتى تتحقق من مغيبها ، أو يغلب على ظنك ، فإما يقين وإما غلبة الظن ، صبر وتحرّى نقول له : إذا لم يغلب على ظنك وأكلت ؛ فأنت آثم ، فلا يجوز له أن يأكل حتى يغلب على ظنه أن الشمس غابت . غلب على ظنه وأكل ثم طلعت الشمس أو تبيّن له أنه أخطأ ؛ فحينئذ يجب عليه القضاء ، وهذا قول جمهور العلماء -رحمهم الله- على أنه إذا تبيّن له أن الشمس لم تغب وكان قد أكل ظانًّا مغيبها ؛ فإنه يجب عليه القضاء ، وفيه الأثر، وقد قال عروة : ليس في القضاء شك . فقال عمر بن الخطاب : الخطب يسير أي أننا نقضي يوما مكانه، والأصل أنه لا يفطر إلا ببيّنة ، فلما قصّر في التحري ؛ ألزم بعاقبة تقصيره ، وهذا أصل قررناه في شرح الدروس الماضية : أن الشريعة تلزم المخلّ إذا تساهل في التحرّي والضبط بإخلاله ، ومن هنا قلنا حديث : (( ويل للأعقاب من النار )) لا يتصور أحد أن الصحابة -رضوان الله عليهم- يتركون أعقابهم تلوح وإنما غسلوا أرجلهم يظنون أنها مغسولة ، ولكن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- توعد من فعل ذلك وقال : (( ويل للأعقاب من النار )) قالوا لأنهم لو تحرّوا لما وقع هذا ، وعلى هذا لو أنه تحرى واستبين وانتظر لتبيّن له خطأ ظنه ، ومن هنا يلزمه القضاء .
@ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @(4/159)
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : نظرا لقرب شهر رمضان المبارك فما وصيتكم شيخنا الكريم للصائمين والقائمين والمعتكفين وأئمة المساجد في إقامة الدروس في هذا الشهر المبارك . وجزاك الله خير الجزاء ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
مشكلة . والله، مصيبة ! تبغون منا أن نعتذر عن الدروس في رمضان وهذه وصية في الدروس في رمضان هذا غريب ! لكن على كل حال عندي عذر أرجو من الله . بعض العلماء يجيز الوعظ إذا كان الإنسان معذوراً عن الخير لا يكون ممن يقول ما لا يفعل .
شهر رمضان شهر خير وبركة ، ولا شك أن من تأمل النصوص في الكتاب والسنة ؛ فإنه يدرك جلياًّ عناية الشرع بهذا الشهر الكريم ؛ ففي الصحيحين من حديث عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال : (( كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أجود بالخير من الريح المرسلة ، وكان أجود ما يكون إذا كان في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن )) .
فكان -- صلى الله عليه وسلم - -أكرم الناس وأجود الناس ، وكان أكمل ما يكون كرماً بالخير من الدلالة على الخير والنصح للأمة ، ولقد بين الله -- عز وجل -- في كتابه في أكثر من موضع شفقته على الأمة -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- . فكان يقول ابن عباس : وكان أكثر ما يكون أجود ما يكون إذا كان في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، فهذا الشهر شهر مدارسة للقرآن، وأعظم الناس خيرا وبرا في شهر رمضان أكثرهم خيرا وبركة من كتاب الله -- عز وجل -- ؛ لأن الله وصف القرآن بأنه كتاب مبارك ؛ فقال سبحانه : { كتاب أنزلناه إليك مبارك } فمن تدبر القرآن أو تأمل القرآن وأقبل على كتاب الله في شهر الصيام والقيام يبكي لوعده ووعيده ويخاف من تخويفه وتهديده ويطمع في رحمة ربه، بما ذكر فيه من الآيات والعظات البالغات فهو أسعد الناس في شهر رمضان .(4/160)
ومن ذلك مدارسة العلم ومدارسة الخير ومدارسة السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وقراءة سيرة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كل هذا خير عظيم، ومن جرب ذلك يعرف خيره وبركته، فأسعد الناس في رمضان من أقبل على القرآن، والإقبال على القرآن والإقبال على السنة هو الإقبال على العلم وعلى الدين؛ ولذلك لما أراد الله أن يشرف شهر رمضان شرفه بالعلم فقال سبحانه : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } فجعله طريقا للدلالة على الخير وجعل فضل هذا الشهر بما كان فيه من نزول القرآن؛ ففي هذا الشهر شعت أنوار الرسالة على مشارق الأرض ومغاربها بنزولها على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، فمن تأمل هذا حرص كل الحرص على أن ينتفع وأن ينفع الناس، وأعظم الناس في العلم خيرًا وبركة من انتفع بعلمه أولا ثم نفع الناس ثانيا، والأمر لا يتوقف على عالم في درسه وشيخ مع طلابه ولا يتوقف على الإمام في مسجده بل إنك مع أولادك ومع بناتك وزوجتك في بيتك وأسرتك إذا جلست معهم الساعة في اليوم أو نصف ساعة تذكرهم بنعم الله، وتذكرهم بآيات الله وبمنن الله وتذكرهم بحقوق الله أن يحفظوها وبمحارم الله أن يجتنبوها؛ فأنت معلم للخير وأنت هاد للخير وإن قلت والله فقولك مصدق مادمت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتربي على الخير فيحرص المسلم على أن يكون في هذا الشهر أسعد الناس بالخير والبركة، وكون الناس يتهيئون مثلا في شهر رمضان للخير هذا يشحذ همة الأئمة والوعاظ إلى أن يغتنموا الفرصة ، فكم من أناس دخل عليهم شهر رمضان وهم أبعد ما يكونون عن الله وخرج عنهم الشهر وهم أكمل وأفضل وأجمل ما يكون عليه العبد فيما بينه وبين الله -- عز وجل -- ، وهذا كله بفضل الله ثم بغشيان حلق الذكر وسماع العلم النافع وبمحبة العلماء والتأثر بكلام أهل العلم أحياء وأمواتا ، وإذا أردت أن ترى أسباب التوفيق والفلاح فإنك تراها حينما تجد(4/161)
العبد منشرح الصدر مطمئن القلب لأهل العلم مقبلا عليهم محبا لهم في الله حريصا على سماع علمهم والاستفادة منهم أحياء وأمواتا ، وإذا أردت أن ترى الخذلان والحرمان والشقاء والبلاء فانظر إلى من حجبه الله عن صفوته من خلقه بعد أنبيائه ورسله وهم العلماء ، فتجده لا يغشى حلقة عالم ، ولا يستمع لموعظة ولا يتأثر بذكر، وأعظم من ذلك إذا شك فيهم واتهمهم وانتقصهم وسلط الناس عليهم والمحروم من حرم .
فالمقصود أن المسلم يحرص كل الحرص على أن يكون في رمضان على أكمل ما يكون عليه المسلم إقبالا على الخير وانتفاعا من الخير واستزادة من الخير، فهذا من توفيق الله - عز وجل - للعبد نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل .(4/162)
يبتدئ أولا بتعليمهم كتاب الله -- عز وجل -- وثانيا سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ينظر إلى حاجة قومه وأهل حيه يعلمهم ما يحتاجون إليها من المسائل ، يعلمهم أصول الدين (العقيدة) مسائل العقيدة ويبين لهم الأمور التي تطعن في العقيدة وتؤثر في عقائدهم ويدلهم على الأمور التي تصلح ما بينهم وبين الله -- عز وجل -- من الإخلاص وتوحيده وإرادة وجهه ، والبعد عن النفاق والرياء ، وغير ذلك مما يقدح في عبودية العبد لربه ، ثم يثني بعد ذلك بالأحكام والشرائع إن وجدهم مستقيمين في هذا الأصل أمرهم بشرائع الإسلام وأمرهم بسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهديه : في الوضوء ، في الصلاة ، في الزكاة ، في الصوم ، في الحج، في العمرة، في جميع شرائع الإسلام، فلا تزال في الخير ما أمرت بالخير ودللت عليه، يعلم وينظر حاجة قومه ، وحاجة الناس ، فإذا كان في شهر الصوم وأراد أن يعلمهم أحكام الصيام علّمهم وعلّمهم سنن القيام وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في قيام الليل ، وعلّمهم كيف يقوم المسلم بين يدي ربه والسنن عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في إحيائه لليل، الاعتكاف، مسائل الاعتكاف، ولكن بشرط أن يكون قد تعلم ذلك على يدي العلماء، فالذي له نور وبصيرة وعلم وجثا بركبته بين يدي العلماء وتعلم هو الذي يعلم الناس وأما إذا كان ما عنده علم ويريد أن يتعالم ويريد أن يتشبه بالعلماء وما عنده علم هذا مهلكة وأن الله تعالى يقول : { قل إني على بينة من ربي } والبينة من الرب تفتقر إلى الأنبياء والرسل وورثة الأنبياء والرسل وهم العلماء الهداة المهتدون فيعلمهم ما تعلم وإذا تعلم بابا من أبواب العلم والله لو تجلس حتى تعلمهم كيف الوضوء وهنا مسألة مهمة وهي أن العلم وهذا يحتاج إلى أن تتشرف به وتعتز به وتسمو به ولا تبالي بانتقاص المنتقصين والله ليس هناك شيء أعظم انتقاصاً وأكثر أذية من العلم تأتي تفتح كتابك تريد أن تتكلم عن الطهارة(4/163)
وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الوضوء فإذا برجل يسخر يقول ما يعلمنا إلا الوضوء ! فكأنهم ما شاء الله علماء الإسلام في الوضوء وكان السلف الصالح يدخل الرجل منهم وهو ابن خمسين سنة على الصحابي من أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يسأله ويقول كيف كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يتوضأ . يقول عمرو بن حسن : شهدت عبدالله بن زيد وقد سأل عمراً بن يحي المازني عن وضوء النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رجل من أجلاء التابعين يسأل صحابيا من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كيف الوضوء قال فدعا بتور مثل الطشت فتوضأ منه أمامه حتى يريه كيف توضأ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالفعل عثمان - رضي الله عنه - خليفة الراشد وإمام من أئمة المسلمين وفي الخلافة وفي العزة وفي أعلى مكان لدى الأمة إذا به يدعو كما في الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان أن عثمان دعا بوضوء فتوضأ فأسبغ الوضوء توضأ ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر له ما تقدم من ذنبه ما استنكفوا ولا تكبروا على العلم العلم تعتز به كل شيء تراه مما قاله الله وقاله رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- تعتز به ولا عليك من سخرية الساخرين ولا استهزاء المستهزئين ثم كرر هذا العلم حتى ولو قالوا إنه يكرر شيئا واضحا الفاتحة كم تكررها الإسلام يكرر الأشياء حتى تصبح عقيدة في القلب لا يمكن أن يتنازل عنها الإنسان ولذلك أعداء الإسلام ما حرصوا على شيء مثل دخول في المسلمات يحاولون زعزعة المسلمين دائما لا يريدونهم على نمط معين وكثير من شرائع الإسلام جاءت على نمط معين حتى تعود المسلم الانضباط فهذا الشيء الواضح لما تكرره وتكرره كم من أناس يتعطشون لهذا الخير ولذلك على طلاب العلم وعلى الأئمة أن يحرصوا على هذا ونحن يهمنا المبادئ والأسس أكثر مما يهمنا أن(4/164)
نقول درس كذا أو افعل كذا أو اختر الوقت الفلاني الأسس الذي يعلم الناس يعلم بعلم وثانيا أن يعتز بهذا العلم وليس عنده أي مانع أن يدرس أي شيء مما قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام طلبا لمرضاة الله -- عز وجل -- .
ثالثا : عليه أن يترفق بالناس وأن يعلمهم العلم بطريقة لا تمل بها النفوس ولا تسأم فإن على صاحب السنة وصاحب العلم مسؤولية ترغيب في العلم قبل أن يعلم ومن هنا كان ابن عباس -- رضي الله عنه -- يعظ أصحابه وطلابه أن لا يأتوا في مجامع مثل حفلات وأشياء فيتكلمون فيقهرون الناس على سماع الذكر فتمله الناس إنما يأتيهم عن رغبة وتفتح درسك عن رغبة وتفتحه في وقت لا تأتي تفرض على الناس أن يجلسوا معك، ولا تأتي في وقت ينشغل الناس فيها بأذكار الصلاة البعدية لكي تفرض عليهم الدرس أنت تعلمهم السنة ومن السنة أن تتركهم على السنة ثم بعد ذلك تختار الوقت المناسب من جلس فالحمد لله ومن صرف وعنده عذر أحسنا به الظن ومن صرف في غير ذلك فالله أعلم بخلقه ما تتكلم في أحد ولا تتهم أحدا أنه لا يريدك وأنه لا يحبك والله لو بقي شخص واحد فما يدريك أن هذا الشخص سيفتح الله عليه ويجري من ورائه الخير الذي لم يخطر لك على بال وكم من أناس وكم من علماء وكم من أئمة وكم من طلاب علم رمقتهم الأبصار واجتمع عليهم ما لا يحصى من الناس ولكن الأهم البركة والأهم أن يخرج الناس في هذا العلم فينفعوا به الأمة فلا تبالي لو تجلس في مسجدك تدرس وأنت صائم أو في هذه الأيام المباركة وما يجلس معك إلا اثنان فأنت عزيز كريم وتحس أنك على خير لأنك تعامل الله ولا تعامل الناس وتعلم أن هذا الكلام لا يذهب هدرا وأنك إن جلست لقومك وحيك واعظا مذكرا مبشرا ومنذرا أنك قد أعذرت إلى الله وأنك قد ألقيت الحمل من على كتفك فهذه فرصة لمواسم الخير تعلم الناس الخير وتتلطف بهم وتختار الأوقات المناسبة ثم تحاول أن تحضر الدرس بطريقة علمية جيدة مركزة يستفيد منها(4/165)
المبتدئ يستفيد منها المنتهي يستفيد منها المتوسط على قدر ما أوتيت من العلم فهذا أمر مهم جدا، وقد كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يخاطب الناس على قدر عقولهم وعلى قدر أفهامهم ويقول : (( حدثوا الناس بما يعلمون أتريدون أن يكذبوا الله ورسوله )) كما في الأثر فالمقصود من هذا أن على الإمام وعلى طلاب العلم أن ينصحوا فإذا كان هناك في الحي طالب علم جيد أو قرأ على شيخ وتعلم أنه أكثر ضبطا للمسائل منك وأنت إمام مسجد جئت وزرته وقدرته قدره وقلته يا فلان نريد منك أن تلقي عندنا الدرس في رمضان تنصح الناس تذكر الناس ونحو ذلك مما يكون فيه المعونة على البر والتقوى لأنك نصحت على عامة المسلمين لأنك تراه أعلم منك وأضبط منك فتقدمه المهم أن تكون هناك دروس علمية مفيدة وأن يختار لها الوقت المناسب ثم هذه الدروس تكون في حاجة الناس وما يحتاج إليه الناس وهنا مسألة مهمة وهي أن يحرص المعلم وأن يحرص الموجه على أن يصبر وأن يتحمل مسائل الناس وفتاوى الناس وهناك أمور مهمة جدا في مواجهة الناس ولذلك العلم شيء وفقه العلم شيء آخر العلم أن تعلم الأحكام وتفهمهن، ولكن فقه العلم أن تفقه كيف تؤدي رسالتك في العلم وكيف تعاشر الناس وكيف تواجه الناس وكيف إذا أتاك السفيه بسفهه والجاهل بجهله فتكون رحمة للناس كما كان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فأفقه الناس في العلم من تتبع سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهذا العلم لا يمكن أن يؤخذ إلا بطريق صحبة العلماء فترى من سمتهم ودلهم وحرصهم على نفع الناس وصبرهم في تعليم الناس وشدة المؤونة التي يتحملونها من الناس ما يعينك على أن تتشبه بالكرام في كرمهم وبالفضلاء بفضلهم فتسمو بنفسك فمثلا إمام المسجد قد يأتي ويلقي الدرس ويأتي من يسأله وقد يأتي بأمور غريبة وهنا ننبه على أمور مهمة جدا لمن يواجه الناس في تعليمهم وتوجيههم أول ما ينبغي الإخلاص وهذا أمر مسلم ولكن ينبغي دائما الوصية به(4/166)
أن تخلص لله وأن تجرد نيتك لله - عز وجل - لأنها منبع كل خير .
ثانيا أن تعلم أن هؤلاء الذين يجلسون بين يديك وأن هؤلاء الذين يستمعون إليك قد ائتمنوك على دين الله - عز وجل - وهذا يقتضي من المسلم أن يخاف الله - عز وجل - فلا يقول على الله بدون علم ولا يكذب ولا يغش هؤلاء عيب وحرام على المسلم أن يأتيه أخوه المسلم يسأله عن أمر في دينه يأمنه من بين الناس فيفتيه بدون علم أو يجلس بين الناس لكي يتكلم بدون علم فيتقحم نار الله على بصيرة ولذلك من أكبر الكبائر أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم وهي المهلكة فمن فعل ذلك فقد تقحم نار الله على بصيرة أن تكون أمينا على أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- لو سئلت أمام الأمة عن شيء لا تعلمه تقول بشجاعة وجرأة : الله أعلم، ولو اجتمعت لك الأمة كلها تكون عندك نفس أبية سوية مرضية تتقي الله -- عز وجل -- إذا كنت بهذه المثابة فقد تأهلت أن تتصدر للناس، التصدر للناس ليس بالأمر الهين ولذلك لما كان العلماء يربون لمن يخرج للناس كان كل من يقف أمام الناس يملأ العين في أمانته ونصحه كذلك أيضا عليك أن تعلم أن السائل أو المستفتي ينبغي أن تستبين منه وأن تستوضح منه وأنه ما جاءك يريد رأيك الشخصي ولا يريد اجتهادك الذي لا ينبني على ضوابط صحيحة بل جاءك يريد حكم الله في هذا الأمر فإن ورثت شيئا عن علمائك ومشايخك وعندك فيه سند متصل إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بالأخذ عن العلماء فحي هلا وإلا فلا لا يبلغ الإنسان مقام الصدق في العلم إلا إذا كان إذا تكلم جعل الجنة والنار بين عينيه فينظر في مقعده إن أصاب وينظر إلى مقعده إن أخطأ والله لا ثالث لهما إما جنة فيها أعالي الفردوس ورضوان الله - عز وجل - جعلنا الله وإياكم من أهلها وإما نار تلظى لأن أول من تسعر به نار جهنم فيهم العالم ثلاثة فيهم العالم فعلى الإنسان أن يتقي الله - عز وجل - فلا يقول على الله بدون علم .(4/167)
كذلك أيضا قضية الإخلاص قضية العلم الصحيح في تعليم الناس وتوجيههم الأمر الثالث الأمانة إذا كنت قد أخلصت ونصحت وقلت الصواب والحق ونصحت للأمة عليك أن تكون أمينا كل من يتصدر للناس وهذه وصية لطلاب العلم عليهم مسؤولية عظيمة في الأمانة هناك أسرار للناس في أسئلتهم وفتاويهم وحوائجهم وقضاياهم توطن نفسك على أن الكلمة إذا دخلت في أذنك لا يسمعها أحد فتكون أمينا على عورات المسلمين بعض الإخوان أصلحهم الله يأتي شخص يشتكي إليه في مسألة ثم لا تدري إذا به يذهب في المجلس والله جاءني وقال لي كذا واحد قال كذا حتى إنه لربما ذكر صفات الكل يعرف أنه فلان فويل له من الله - عز وجل - هذه أمانة ومسؤولية العلماء المفتون رجال الحسبة القضاة كل من يتحمل هذا الدين عليه أن يخاف الله - عز وجل - في أسرار المسلمين وعوارتهم وكان الوالد رحمه الله ذات مرة جاءه سائل فسأله في أمر خاص بينه وبينه ثم أحببت أنا الفائدة فأردت أن أسأله وكان عمري في الرابعة عشرة تقريبا فلما خرجنا . قلت: ماذا قال لك؟ فضغط على يدي، وقال : يا بني، هذه أسرار المسلمين هذه أمانة ، كل من جاء يأتي ويتكلم ولذلك تجد بعض الأخيار من طلبة العلم يأتي ويتكلم عن بعض المنكرات التي مرت عليه أو بعض الأمور التي وقعت هذا لا يجوز التحدث بها إلا لمصلحة شرعية، أما إنسان كل من جاءه بأمر يتحدث به وكل ما قيل له يتحدث به هذه أمانة ومسؤولية وعلينا أن نتق الله -- عز وجل -- .(4/168)
كذلك أيضا هناك أمور مهمة في قضية توجيه الناس إذا أراد شخص يفتح درساً لو يفتح درسا واحدا منضبطا بأسلوب علمي طيب مركز أفضل من عشرات الدروس غير منضبطة طالب العلم الذي يتكلم كلام العلماء ويتشبه بهم في الضبط والإتقان ويكون كلامه محصورا من أول الدلائل على طالب العلم بعد الإخلاص وتوجهه لله -- عز وجل -- على أن الله يريد به خيرا أن ترى كلامه معدودا إذا وجدت طالب العلم في طلبه للعلم بمجرد ما يجلس في حلق العلماء ما يتكلم إلا الذي قاله العلماء ويحرص على أن يحفظ أكثر مما يأتي بشيء من عنده وإذا به ينقل الكلام كما هو فاعلم والله أن من ورائه خيرا كثيرا لأن هذا هو العلم والإتباع والأثر ما يعطيك شيئا من عنده أما أن يأتي الإنسان ويفتح درساً يتكلم على حديث وكأنه جالس يتكلم في سوق أو كأنه قاعد يعلق على حديث هذا شيء واضح وهذا شيء كذا هذا ما يصلح شرف العلم وكمل العلم بالسكينة والوقار وآداب العلم حتى يعرف الناس قدر هذا العلم وكان الإمام مالك رحمه الله لا يحدث بحديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- إلا إذا طيب مجلسه وكان إذا جاءه الناس في بيته قال انظروا فإن كان الرجل يريد الرواية عن حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- طيب مجلسه إجلالا لرسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وكان رحمه الله إذا سأل السائل لا يستطيع أن يراجعه مما وضع الله له من الهيبة يقول محمد بن حسن جالست الهادي والمهدي والرشيد والله ثلاثة خلفاء عظماء من المحيط إلى المحيط والله ما هبتهم كهيبتي حينما جلست بين يدي مالك قال سحنون ما نظن ذلك إلا لشيء بين مالك وبين الله الذي الناس كانوا ينظرون للعلم نظرة هيبة لما كان الذين يصلون ويخطبون على علم وعلى بصيرة فكان الناس يهابون الإمامة ويهابون الخطابة لما كان الذين يلقون الدروس على علم كانوا يهابون الدروس لكن لما أصبح الذي يجلس للخطابة الحمد لله يوجد خطباء وأئمة إنما تقول النوعيات التي(4/169)
تجرأ ولا نتكلم على صفة عامة نتكلم على الجرأة على العلم فلما أصبح يتسلط على هذه النوعيات التي لا تعرف قيمة العلم ولا عليها نور العلم ولا أدب العلم أزريت وجرأ الناس وأصبح حتى إنك في بعض الأحيان تجد الرجل يدخل ويصلي بالناس ولا يبالي لكن لو كان الذي يصلي بالناس في سمته ودله ووقاره وهيبته وحشمته أورث الناس إذا أنا لم أعتز بعلمي الذي بين صدري فما الذي يعزه فعليك أن تكون على هذا السمت والدل والوقار وأن تحفظ للعلم هيبته ووقاره فهذا مما يعين على محبتنا وهذه توجيهات عامة سواء كانت في رمضان أو غيره لكن نقولها الحقيقة أمانة ونصيحة وإلا والحمد لله الخير موجود وطلاب العلم فيهم خير كثير إن شاء الله وجماع الخير كله في تقوى الله - عز وجل - .(4/170)
أما بالنسبة لصيام شهر رمضان فالوصية للصائم أن يتقي الله في صومه وأن يحفظ صومه وأن يصوم كما صام رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حافظا لشهوة بطنه وفرجه غاضا لسمعه وبصره وجوارحه بمجرد ما يهل عليه الشهر كأن لسان حاله يسأل ربه أن لا يجعله أشقى الناس في هذا الشهر ولا أقلهم خيرا وبركة بل يسأل الله أن يجعله في أعلى المنازل والرتب ثم يتبع السؤال بالعمل فيحرص كل يوم وكأنه آخر يوم يصومه يحرص على هذا الشعور كأنه آخر يوم يصومه يحفظ لسانه عن السب فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط ولا يجهل يترك فضول الحديث ويترك القيل والقال يشتغل بالتسبيح والاستغفار وتلاوة القرآن وذكر الله - عز وجل - والاستغفار له ولوالديه الأحياء والأموات ويكثر من شيء يقدمه لآخرته ثلاثمائة وستين يوماً من العام اختار الله لك منها هذه الثلاثين يوماً أو تسعة وعشرين يوماً، مدرسة تهذب فيها أخلاقك وتقوم فيها سلوكك { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } هذه فريضة وإذا به سبحانه يقول : { لعلكم تتقون } إذا فشهر الصوم مدرسة التقوى يهذب لسان الإنسان من الناس من صام رمضان فخرج من رمضان بالكف عن فضول الحديث من الناس من كان سبابا شتاما فخرج من رمضان وهو لا يسب أحدا ولا يشتم أحدا من الناس من كان كثير الكلام واللغط فخرج من رمضان بتلاوة القرآن وختم القرآن كل ثلاث ليال ومنهم من خرج بكثرة التهليل والتسبيح والتحميد مدرسة للعام ومدرسة يتزود منها الخير لعلكم تتقون وهذا من أجل أن تكونوا من أهل التقوى ضاقت مجاري الشيطان وفتحت أبواب الجنان وغلقت أبواب النيران وصفدت الشياطين عن بني الإنسان كل هذا من أجل أن تقترب إلى ربك ويا داعي الخير أقبل يناديك منادي الله - عز وجل - كل الظروف مهيأة فتصوم كما ينبغي أن يكون عليه الصائم والشعور بأنه آخر يوم من أيامك تصومه ومن هذا(4/171)
الذي يضمن أن ينتهي عليه يومه فضلا عن أن يدرك يوما غيره فكم من صائم لا فطر له في الدنيا قصر الأمل وكان السلف الصالح رحمهم الله إذا صلوا صلوا صلاة مودع فمما يعين على ضبط الصوم .
ثانيا تحس إذا كان الإنسان ما عنده وجد أن شعوره بأن آخر يوم ضعيف كما في الشاب تسلط عليه الشيطان يقول كأنه آخر يوم من رمضان فالنفوس الحية دائما في آخر يوم من رمضان تشفق وتتألم تقول يا ليتني في أوله أستدرك ما فات وأحسن لعل الله أن يحسن إلي في الدنيا وبعد الممات يستدرك الإنسان كأنها آخر يوم من أيام رمضان وجرب هذا الشعور وإلزام النفس { قد أفلح من زكاها } تزكي نفسك حين تأمرها لا تأمرك وحين تزجرها عن محارم الله - عز وجل - { فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } الجنة مأوى لمن كان سلطانه على نفسه نهى عن الهوى إذ النفس تكون تحت يدك وهذا من مقصود الصيام فهو مدرسة لكي تكون المدرسة مستجيبة فالذي لا يأكل ولا يشرب والأكل والشراب حلال له حري به أن لا يأكل أموال الناس ظلما وحري به أن لا يطعم الحرام وحري به أن لا يشرب الحرام والذي يعف ويمتنع عن زوجته وهي حلال له وطؤها وحلال له أن يطأها حري به أن لا يتسلط على أعراض المسلمين وحري به أن لا يقع في الحرام لأن هذه تربية للنفوس فهو أعني شهر الصوم وعبادة الصوم مدرسة للخير تصوم من أجل أن تهذب أخلاقك وتقوم سلوكك لا تصوم من أجل أن الإنسان يريد أن يتخلص من أمر واجب عليه أو تبعة تعينت عليه أبدا كذلك أيضا تحرص في شهر رمضان على فضائل الأمور وكل يوم إذا كنت في طاعة تحرص على أن تكون على أكمل ما تكون عليه الطاعة إطعام المساكين تفريج الكربات الإحسان للمؤمنين والمؤمنات قال -- صلى الله عليه وسلم -- : (( أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا جنة ربكم بسلام )) تفريج كربات المسلمين الحرص عليها في شهر الصيام قالوا(4/172)
إن الله - عز وجل - شرع للمسلم أن لا يأكل ولا يشرب حتى يتذكر الأكباد الجائعة والأحشاء الظامئة فالذي يصوم ويتذكر فقراء المسلمين وضعفة المسلمين وأيتامهم وأراملهم كمل صومه فمن الناس من يبتدئ في شهر رمضان في أول يوم ويحس بلوعة وألم الجوع والعطش فإذا حس بالألم والجوع والعطش منهم من يخرج من ماله فيخرج صدقة كان بعض الأخيار إذا كان صيام رمضان في شدة الصيف يخرج في شدة الهاجرة في شدة الظهيرة ومعه ما يحسن به إلى الضعفاء والفقراء لماذا لأنه يحس أن الله يعلمه بهذه العبادة يذكره إخوانه يذكره البائسين من الناس من غابت عليه شمس يومه فأخرج من ماله ما اشترى به رحمة ربه وما الفائدة إذا كان يصوم ولا يتذكر الضعفاء والبؤساء إذا لابد أن يكون صيامه بهذه المنازل الكريمة وأن يدرك ماذا يريد الله منه .(4/173)
كذلك أيضا إذا صام يومه وأتم صيامه شكر . الشكر على النعمة من أعظم النعم التي ينعم الله بها على عبده أن يرزقه الشكر فإذا وقف في آخر يومه تذكر من حرم صيام هذا اليوم تذكر أولا عافية الله في دينه حيث علمه وفهمه وجعله من أهل الإسلام ثم تذكر عافيته في دنياه في بدنه كم من مريض يتمنى الصحة التي هو فيها وكم من عاجز و كم من كبير سن وكم وكم فإذا وجد أن الله أعطاه العافية وتذكر من حرمها لهج لسانه بشكر الله - عز وجل - والثناء وهذا الفرح الفرح بالتوفيق للطاعة للصائم فرحتان فرحة عند فطره لأنه لا يوفق لتمام العبادة إلا من يحبه الله جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل ولذلك تجد التوفيق للعبادة قليل أن يوفق الإنسان إلا من رحم ربك وقليل من عبادي الشكور فأهل الشكر والإحسان والعبادة قليل جعلنا الله وإياكم من هذا القليل فإذا جئت عند غروب شمسك وحفظت الله وشعرت أن هذا الصيام توفيق من الله لا بحولك ولا بقوتك وبرأت من الحول والقوة زادك الله من نعمه ثم يكون عندك طمع في رحمة الله - عز وجل - وذلك أنك تفطر وأن ترجو رحمة الله - عز وجل - بالدعوات الصالحة تفطر وأن ترجو الخير الكثير من الله وكم من شمس يوم في رمضان غابت فغيبت ذنوب العمر وكم من شمس يوم غابت فغيبت هموما وغموما وأحزانا وآلاما لا يعلمها إلا الله - عز وجل - مواسم نفحات وساعات مباركات طيبات من أي شيء أعظم من هذه العبادة ولذلك يستشعر الإنسان هذه المعاني ثم في أي موضع من المواضع تكون فيه في طاعة الله - عز وجل - لا تنظر أمامك ولا عن يمينك ولا عن يسارك إلا وجدت دلائل توحيد الله وعظمته وانظر كيف المساجد تمتلئ في رمضان وكيف يزداد إيمانك ترى المسلمين في همومهم وغمومهم وكروبهم فتجد عبادات الإسلام تجمعهم ولو شتتهم الأعداء شتت الله شملهم وتجد كيف الإسلام في عظمته وعزته وكرامته يجمع هذه الأمة كنا ذات يوم في هذا المسجد وفوجئت برجل يقوم فيقف وكنا في الصف الأول فينظر(4/174)
إلى المسجد فإذا به لم يستطع حتى أجهش بالبكاء وكان من خيار طلبة العلم وهو يقول الله أكبر على عظمة الإسلام ترى الناس على اختلاف طبقاتهم وعلى اختلاف ألوانهم وأحسابهم وأنسابهم كلهم ينتظرون ساعة الفطر، يتبجح أهل الدنيا بأن الغرب وغيره نظام ويطبقونه . وعندنا من أنظمة العبادة وترتيبها وجمالها وجلالها ما تعجز البشرية جمعاء عنها في هذه الساعة تجد الناس كلهم ينتظرون لحظة واحدة لا يمكن أن يقدم الصوم عنها أو يؤخر أليس هذا انضباطا لكن مشكلتنا نحن دائما ننظر إلى أنفسنا بالنقص وننظر إلى غيرنا بالكمال عندنا عزة وكرامة تشعر بعزة الإسلام عزة دينك عظمته ومهما كان تحس أن الإسلام لازال باقيا ولو حصلت لهم من الفتن والمحن لكن عندك يقين بعظمة هذا الدين وأن لله حكما ولله سننا وما علينا إلا أن نرجع لديننا إن أردنا عزة أو كرامة فتجد هذه المواقف ما تكون غافلة عنها بحيث تصوم في رمضان وأنت أيقظ الناس قلبا وأوعاهم فهما وكذلك أيضا الحرص على قيام الليل والتأسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- تتذكر قول رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : (( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) أوصي القراء والأئمة أولا بالإخلاص بمجرد ما يخرج من بيته يريد أن يصلي بالناس يتذكر كيف أن الله قدمه وكيف أن الله شرفه (( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )) فيحمد نعمة الله - عز وجل - أن الله قدمه ثم إذا علم أن الله قدمه فليعلم أنه لله وأنه عبد لله وليس لغيره فلا يبحث عن تطريب الأصوات والنغمات والبحث عن عجب الناس يبحث عن مرضات ربه وحده لا شريك له يريد من الله أن يرضى عنه حتى إذا خرج القرآن من لسانه خرج طيبا مطيبا بالإخلاص والله طيب لا يقبل إلا ما كان طيبا خالصا لوجهه فلا يغيب قراءته بالنظر إلى أن الناس يعجبون به أو لا يقوم كما قام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قارئا لكتاب الله متدبرا متفهما وإذا صلى بالناس خاشعا متخشعا(4/175)
متذللا لربه يستشعر معاني الآيات إن هذا الخشوع من الإيمان يؤثر في المأمومين وهذا الإخلاص خيره وبركته في التابعين فإذا كان الإمام مخلصا تأثر الناس بقراءته وتأثر الناس بقيامه ويحرص على التأسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيصلي بالناس يرحم ضعيفهم وكبيرهم ويحسن إليهم ويحاول قدر المستطاع أن يصلي بهم صلاة أضعفهم كما وردت السنة بذلك ونحو ذلك .
كذلك أيضا على المأمومين أن يصبروا في قيام رمضان وأن لا يضجروا ولا يسأموا والعبادات فيها سآمة وفيها ملل لأن الجنة حفت بالمكاره والعجيب أنك تخرج من بيتك تريد أن تصلي التراويح وإذا بك تجد نفسك مجهدا منهكا ولربما حتى إن بعض الأئمة هذا فيه بعض الأحيان يخرج الإنسان وقد لا يستطيع أن يصلي يقول لا أستطيع أن أصلي ولكن سبحان الله ما إن صلي الركعتين الأوليين حتى تتفتح له أبواب الرحمات وإذا به ينشرح صدره ويطمئن قلبه وإذا بنفس الشيطان ودخل الشيطان وتثبيط الشيطان وتخذيل الشيطان قد ولى وذهب { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } فإذا به لا يصلي ثلاث تسليمات أو تسليمتين إلا وهو يتمنى أنه إمام إلى الفجر من لذة ما يجد وحلاوة ما يجد فإذا الإنسان عليه أن يصبر السآمة والملل دائما في العبادات في الطاعات عواقبها حميدة وأعظم الناس أجرا في العبادات من ثقلت عليه وصعبت عليه ووجد فيها الضيق وأكمل الناس إيمانا أكثرهم بلاء أشدكم بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ولذلك تجد بينك وبين هذا القيام قيام الليل من المجرب حتى في غير رمضان ولكن داوم عليه ثلاثة أيام ثلاث ليالٍ داوم عليه أسبوعا وأنت تجاهد حتى يأتيك توفيق الله - عز وجل - وكثير من الناس من بقي العشرين سنة منهم من لم يفته في عشرين سنة قيام ليله بل إنني أعرف من أخبرني أنه ما مرت عليه ليلة وقرأ فيها أقل من سبعة أجزاء وعمره قرابة الستين سنة قال حتى في المرض كنت أجاهد نفسي مجاهدة يقول الغريب أني لما صبرت في(4/176)
السنوات الأول كنت أجد جهدا عجيبا يقول سبحان الله ما إن ضغطت على نفسي حتى أصبحت السنوات التي بعدها من أيسر ما تكون { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } تجاهد أول ما تأتي كل طاعة هذا ليس خاصا بقيام الليل تريد تذهب إلى حلقة عالم تجد المثبطات والمتاعب تريد أن تذهب لتنفق على المساكين تجد المشاكل كذا لكن اصبر على ذلك وصابر عليه ويأتيك التوفيق من الله والثبات فالمقصود قيام الليل في رمضان تتذكر ما وعدنا الله - عز وجل - به على لسان رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه يغفر لك ما تقدم من ذنبك وهذه رفعة درجة وعظم أجر وزلفى لك عند ربك ومن منا لا يطمع أن يغفر له ما تقدم من ذنبه نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يتولى ذنوبنا وذنوبكم بالعفو والمغفرة .
كذلك أيضا مما يوصى به في نهار رمضان الحرص على الثبات على الخير فإذا وفق الله لك في بداية رمضان بعض الناس عنده نشاط في أول رمضان فإذا انتصف رمضان ضعف ومنهم من يكون يعني حريصا على إطعام الناس على الإحسان إليهم ثم بعد ذلك عليك أن تستديم الخير فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سئل عن أحب الأعمال إلى الله فقال : (( ما كان ديمة وإن قل )) فتداوم على الخير وإن من أعظم الخصال الطيبة المباركة في نفع الناس تفطير الصائمين تتفقد الضعفاء والفقراء والبؤساء وتفريج كرباتهم في هذا الشهر المبارك لاشك أنه خير كثير نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلغنا رمضان بعفو وعافية وبر وإحسان وأن يجعل لنا ولكم في هذا الشهر أوفر ما يكون حظا ونصيبا من كل خير وبركة ورحمة وبر وعفو وعافية إنه سميع مجيب والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : هناك رجل كبير لا يدرك الصوم فهل الكفارة تدفع في نفس اليوم أو بعد إكمال ثلاثين يوما وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(4/177)
أولا إذا كان لا يدرك الصوم فهو غير مكلف، إذا كان كبر السن غيب عقله، وأصبح لا يدرك الصوم يعني معناه أنه ضيع وأصبح يخلط وأصبح في عقله اختلاط فهذا غير مكلف؛ لأن المجنون غير مكلف وهو في حكم المجنون فهذا لا يجب عليه الصوم ولا يجب عليه الإطعام ما يجب عليه شيء فإذا كان ترى أحواله وأنه ما أصبح يدرك الأمور ولا يعرف الصوم ولا يعرف العبادات فهذا ليس عليه الأصل ولا البدل ليس عليه صيام ولا بدل عنه والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : ما حكم استخدام الطيب أثناء الصوم وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
الطيب نوعان :
البخور لا يجوز استعماله لأنه له مادة وهو جرم وقد فصلنا هذه المسألة في الدورة وبينا أن الدخان والبخور له جرم يمتزج باللعاب ولذلك يدخل إلى الجوف ويقتضي الفطر ومن هنا لا يجوز استعمال الطيب في حال الصوم إذا كان من الند والعود والمباخر وأما إذا كان الطيب من السائل ففيه وجهان :
من أهل العلم من أجازه ومنهم من منعه كراهية تنزيهية قالوا لأنه يثير الشهوة فهو يخالف المقصود شرعا من كون الصوم يعني يمنع من الشهوة فقالوا إنه يكره للصائم أن يتطيب ولكن ظاهر السنة الجواز لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالطيب للجمعة ولم يستثن من كان صائما وقد قال : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) فالأصل يقتضي جواز الطيب سواء كان للصائم أو لغيره إلا إذا كان بخورا على التفصيل الذي ذكرناه والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : ما هي الموازين في الكفارة من حيث الوزن الحالي الكيلو أو الرطل وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(4/178)
هذه المسألة بينا أن الأصل أن نتبع السنة والوارد فالوارد الكيل والوزن ليس بوارد عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والذي قرره العلماء رحمهم الله في أبواب الربا أنه لا يجوز بيع المكيل موزونا ولا الموزون مكيلا لأن الموزون يتبع الثقل والمكيل يتبع الجرم توضيح ذلك أننا لو نظرنا إلى التمر قد تكون نوعية التمر طويلة الحجم خفيفة الوزن مثلا عندنا هنا في المدينة تمرة العنبرة يعرفها أهل الخبرة طويلة الحجم خفيفة الوزن لو جئت تملأ منها الصاع ربما تصل إلى كيلو كيلو وزيادة يملأ الصاع وتجد تمرة العجوة خاصة الدرجة الثانية التي هي العجوة الصغيرة تجدها صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، نمرة واحدة أيضا متوسطة الحجم ثقيلة الوزن فما تستطيع أن تضبط المكيل بالوزن لأن هذا تابع لجرمه والذي وارد في الكفارات المكيلات وقد تكلم على هذه المسألة الإمام ابن قدامة رحمه الله في أبواب الربا في بيع المكيل وزنا والموزون كيلا وبين عدم جواز ذلك .(4/179)
فالمنبغي الحرص على إبقاء الناس على السنة فالناس مثلا لا يعرفون الصاع ولا يعرفون المد وقد قال كما في الصحيح من حديث أبي سعيد وحديث ابن عمر (( أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فرض صدقة الفطر من رمضان صاعا)) فبقاء هذه السنة أن نرد الناس إلى الصاع وأن نبقي الناس على الكيل. فالصاع موجود نحن نبقيه نبقي هذه السنة لأنها موجودة في السنن والآثار كم من أناس من غير المسلمين يحفظون تراثهم ونحن في دين الله وطاعة الله نريد أن نتخلص حتى من الآصع هناك صاع للفطر أو صاع في الكفارات وإطعام المساكين في الأيمان في النذر في كفارات الظهار في كفارات القتل في كفارة الجماع في نهار رمضان كلها مبنية على هذه المقادير ومن هنا ينبغي إبقاء السنة وإحياءها فقه الفتوى أن نبقي هذه الأشياء ولنحرص على بقائها أبنائنا اليوم كم بل حتى بعض طلاب العلم الآن لا يعرف ما هو الصاع بل منهم من لم تفتح عينه برؤية صاع ولا يعرف ما هو وهو موجود يعني في كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الأمور المقدرة فقه الفتوى أن نبقي هذا وأن نحرص على بقائه إذا اجتهد أحد وقدر الصاع أنه بكيل معين يحدد النوعية التي قدر بها الصاع مثلا إذا كان من التمر يكون مثلا من السكري من العجوة لأن الأوزان تختلف والأجرام تختلف فيضبط ضبطا صحيحا نعم أما أن يقال كل شخص أخذ كذا وكذا كيلو من الحب من أي كان ومن التمر من أي كان فهذا يحتاج إلى إعادة نظر فالأصل أولا أن نحرص على بقاء السنة وثانيا إذا وجدت حاجة فإننا نقول إنه ثلاثة كيلوات كيلوان ونصف كذا وكذا من نوعية كذا وكذا وتحدد حتى يكون ذلك أضبط وأتقن ولاشك أن الحرص على البقاء على السنة هو الأولى والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : إذا أفطر الشيخ الكبير والمريض لا يرجى برؤه لكن لا يستطيع الإطعام لفقره فماذا عليه وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(4/180)
إذا لم يستطع للفقر سقطت عنه الكفارة سقط عنه الأصل وبدله فلا يجب عليه شيء هو شيخ كبير ما يستطيع أن يصوم ولا يستطيع البدل وهو الإطعام فلا شيء عليه { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وهذا ليس بوسعه شيء فلا شيء والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : هل تجزئ النقود في الكفارة بدل الإطعام وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
النقود والذهب والفضة والأثمان كانت موجودة على عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ومع ذلك لم يقدم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على الكفارة ولا الإطعام وهذا لحكمة عظيمة فإن النقود يأخذها المستحق وغير المستحق ولكن الطعام لا يأخذها إلا المستحق ومذهب جمهور العلماء أنه لا يجوز إخراج النقود في زكاة الفطر ونحوها من الكفارات لأن الشرع عين الإطعام فيجب أن يكفر بالإطعام وكما قلنا كانت هذه الأشياء موجودة على عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يأمر بها فوجب البقاء عليها وما استدل به في حديث معاذ : (( إيتوني بقميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رد بأن هذا في الجزية وليس في الكفارات والصحيح مذهب الجمهور أنه يجب الإطعام فيما سمي فيه الإطعام ولا ينتقل إلى البدل من القيمة والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ : إذا انتقل الصائم وسافر من بلد إلى بلد ورؤيت البلد الأول رؤية هلال شوال فهل يفطر تبعا لهم علما بأن البلد الثاني لم ير فيه هلال شوال وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(4/181)
إن كان في بلد وانتقل إلى بلد فالعبرة بالبلد الثاني في فطره ولا يعتد بالبلد الأول العبرة بموضعه الذي أفطر فيه فيمسك معهم وحينئذ إذا أتم الشهر فلا إشكال إنما الإشكال إذا انتقص كما يقع في بعض الأحيان الفرق في الأيام إذا انتقص يوما إذا صام تسعة وعشرين فالصحيح أنه يجزيه لأن الشهر يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين فإذا كان الفرق في بعض وهذا نادر ما يقع قد يقع الفرق إلى يومين في هذه الحالة يقولون إنه يلزمه قضاء يوم وقال بعض العلماء يلزمه قضاء الشهر كاملا وهذا أحوط أنه يصوم يومين لإتمام العدد ثلاثين يوما وهذا أحوط والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
فضيلة الشيخ : ما هي المسافة التي تبيح له الفطر بالكيلو مترات تقريبا وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(4/182)
السفر في الشرع أن يكون مسيرة اليوم والليلة والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خرج دون مسيرة اليوم والليلة ولم يحتسب نفسه مسافرا فخرج إلى بني قريظة وهم على بضعة أميال من المدينة ومع ذلك لم يحتسب نفسه مسافرا مع أنه قد خرج من المدينة وأسفر عن المدينة ولما تبين لنا نظرنا إلى أقل ما سماه الشرع سفرا فوجدنا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم )) فلما كانت المرأة منهية عن السفر بدون محرم لم يذكر من التقديرات غير اليوم ففهمنا أن ما دون اليوم لا يسمى سفرا وهي مسيرة النهارين والليلتين واليوم والنهار وهي الإبل في النهار تبلغ ما يقرب خمس وسبعين كيلو إلى ثمانين كيلو لكن إذا وصل السفر إلى خمس وسبعين كيلو قصر الصلاة وترخص بفطره وبذلك يكون السفر وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن ابن عمر أنه سئل هل تقصر الصلاة فيما بين مكة والجموم الذي هو مر الظهران قال لا مع أن مر الظهران تبعد عن مكة ما لا يقل عن خمسين كيلو تقريبا قال لا ولكن إلى جدة وعسفان والطائف وكانت جدة في ذلك الزمان فوق خمسة وسبعين كيلو مسيرة مرحلتين كاملتين والطائف أيضا كانت كذلك فالشاهد من هذا أنهم اعتدوا بمسيرة اليوم والليلة الكاملة وهذه هي التي تسمى سفر وتأخذ أحكام السفر .
الثاني : الحائض والنفساء تفطران وتقضيان
- - -
قال المصنف رحمه الله : [ الثاني : الحائض والنفساء تفطران وتقضيان ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(4/183)
فقد تقدم معنا أنّ كلاًّ من الحيض والنفاس يعتبر مانعاً من موانع الصوم ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن المرأة إذا حاضت لم تصم ولم تصلّ فذلك نقصان دينها )) كما في الصحيح ، فدلّ على أنّ الحيض مانع من موانع الصوم ، والنفاس حكمه حكم الحيض . هذا المانع محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- ، وقد دلّت الأصول على أنّ الحيض والنفاس لا فرق بينهما إلا في مسائل خاصة. أما الأصل فيقتضي عدم التفريق ، وبالنسبة للحيض والنفاس هما مانعان إلى أمد الطهر، فإن قطع الدم عن المرأة وتبيّن طهرها ؛ فإنه يجوز لها أن تمسك إذا كان ذلك قبل طلوع الفجر، ولا يشترط أن تغتسل من الحيض والنفاس ، ولذلك يعتبر الحيض والنفاس كل منهما مانعا من موانع الصوم، ويرتفع هذا المانع بمجرّد انقطاع الدم وظهور علامة الطهر .
قال رحمه الله : [ وإن صامتا لم يجزهما ] : وإن صام كل من الحائض والنفساء لم يجزه صومه، وهذا محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- لثبوت النصوص ، منها ما تقدم ، وكذلك حديث عمرة بنت عبدالرحمن عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : (( كنا نحيض على عهد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )) فدل على أن الحائض يجب عليها القضاء ولا يجب عليها الأداء ، وأنها لو صامت لم يجزها صومها ، ومن هنا يختلف هذا النوع عن بقية الأنواع أنه لا يجزيه إذا صام . أماّ من تقدم من المريض والمسافر لو صاما صح الصوم منهما، فمانع الحيض والنفاس مانع من الأداء ، ولو أن كلاّ منهما صام لم يصح الصوم منه ، بل ويأثمان كما نص عليه طائفة من أهل العلم لمكان العصيان .(4/184)
قال رحمه الله : [ الثالث الحامل والمرضع ] : إذا كانت المرأة حاملا أو كانت مرضعا فإما أن تخاف على نفسها من الصوم ، وإماّ أن تخاف على ولدها ، وإما أن تخاف على نفسها وولدها ، فإذا كانت المرأة حاملا أو كانت مرضعا سواء كانت مرضعة لولدها أو مرضعا لولد غيرها كالمرأة المستأجرة للرضاع ؛ فإنه يجوز لها الفطر في جميع هذه الأحوال ، يجوز لها أن تفطر إذا خافت على نفسها كأن تكون حاملا ضعيفة البنية والحمل ينهكها فإذا صامت تعبت أو لربما استضرت فيجوز لها أن تفطر، وهكذا لو قال لها الطبيب : لا تصومي وأنت حامل ، فإنه يضرك في الجسد جاز لها الفطر، ففي هذه الحالة تخاف على نفسها ، وكذلك أيضا إذا خافت على جنينها . فقال لها الطبيب : إن الجنين في حالة لو صمت استضرّ بصومك ولربما مات ؛ فحينئذ يجوز لها أن تفطر، أو خافت على نفسها مع الجنين فهي أضعفها الحمل، وكذلك الحمل لو صامت تأثر؛ فحينئذ يكون مجموع الأمرين .
في جميع هذه الصور تفطر المرأة الحامل ، والمرضع كذلك إذا خافت على نفسها ، أو خافت على الولد الذي ترضعه ؛ لأنها تحتاج إلى الحليب ، ولكي تدر الحليب لابد أن تكون مفطرة أو تفطر على وجه تقْوى به على الإرضاع ، أو يكون الرضيع ضعيف البنية لا يمكن تأخير رضاعه ، وإذا أرضعته وهي صائم استضرت ؛ فحينئذ يجوز لها أن تفطر لمصلحة الغير ، وكذلك أيضا إذا اجتمع الأمران من باب أولى وأحرى ، فخافت على نفسها المرضع ، وخافت على ولدها ، أو على من ترضعه ؛ جاز لها أن تفطر .(4/185)
إذًا الحكم الأول أنه يجوز لها الفطر؛ وذلك لأنها إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها فقد وجد الضرر؛ وقد قال الله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ، وكان عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر فيما صح عنهما يقولان : إن الآية ليست منسوخة ، وإنها باقية في الحامل والمرضع والشيخ الكبير، وعليه فيجوز لها الفطر أعني المرأة الحامل والمرضع سواء خافت على نفسها أو خافت على ولدها أو خافت على الاثنين .
إذا خافت على ولدها فهذه نفس محرمة ، والولد يكون متصلا بالحامل ولا إشكال ، كأنه من المرأة الحامل نفسها ، وأما إذا كانت ترضعه فإنها نفس محرمة وتوقف إنقاذها أو دفع الضرر عنها لحصول الصوم ؛ فجاز لها أن تترخص كما يجوز للإنسان أن يفطر لإنقاذ غريق أو إنقاذ إنسان في مهلكة ، وحتى بعض العلماء أوجب عليه الفطر لهذا الإنقاذ ؛ لأن إنقاذها للنفس واجب ، وتوقف على الفطر وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . هذا مسلك طائفة من العلماء في تقرير فطر الحامل والمرضع :
أولا : ثبوت التفسير عن السلف في الآية الكريمة .
وثانيا : أن أصول الشريعة تقتضيه .
المسألة الثانية : إذا قلنا إن كلا منهما يفطر فهل يجب عليهما القضاء ؟ جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه يجب القضاء على المرأة الحامل والمرضع إذا أفطرتا ، سواء أفطرتا لأنفسهما خوفا على أنفسهما أو خوفا على الولد أو عليهما ؛ والدليل على ذلك أن الأصل الشرعي يقتضي وجوب الصوم ، وأن من حصل عنده العذر انتقل إلى أيام أخر؛ بدليل قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فأوجب الله على المعذور الذي أفطر لعذر أن ينتقل إلى العدة من أيام أخر وهو القضاء ، فهذا الأصل الشرعي هو الذي ينبغي البقاء عليه.(4/186)
وذهب بعض السلف كما هو قول عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر –رضي الله عنهم-إلى أن الحامل والمرضع لا تقضيان ، وقالا : يجب عليهما الإطعام فقط ، وهذا القول يعارض الأصول من حيث الأصل الشرعي يقتضي أن الحامل والمرضع كلاّ منهما معذور، والعذر في الشريعة في الصوم ينقسم إلى قسمين :
عذر مستصحب لا يزول كالمريض الذي لا يرجى زوال مرضه وبرؤه ، والشيخ الكبير الزمن الذي لا يعود إلى القوة حتى يقوى على الصوم ، فهذا عذر دل الأصل على أنه ينتقل إلى بدل عن الصوم وهو الإطعام .
وأما بالنسبة لمن كان عذره غير مستصحب ؛ فوجب البقاء على الأصل من مطالبته بالقضاء، واجتهد ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهما- فأسقطا القضاء ؛ واستدل بعض المتأخرين لذلك بحديث أنس الكعبي وفيه أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إن الله أسقط عن المسافر الصلاة والصوم وعن المرضع والحامل الصوم )) فقالوا : هذا الحديث اختلف في إسناده وفيه كلام عند العلماء -رحمهم الله- ومنهم من حسنه بالشواهد . وذكر بعض الأئمة كابن التركماني وغيره أنه مضطرب سندا ومتنا وبخاصة وأن في بعض الروايات عنه -- رضي الله عنه -- قال : (( لا أدري أقالهما جميعا أو أحدهما )) فشك في كون الإسقاط إسقاط الصوم عن المسافر والمرأة الحبلى والمرضع أم أنه اقتصر على المسافر فقط ، وأيا ما كان هذا الحديث يمكن قلبه دليلا للجمهور؛ لأن المسافر بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن الله أسقط عن المسافر الصوم والصلاة أي أسقط عنه شطر الصلاة ولم يسقطها بالكلية ، والمسافر بالإجماع لا يطعم ، فينتقل إلى البدل وإنما يجب عليه أن يصوم أياما أخر كما قال تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فدل على أن الإسقاط ليس إسقاطا للقضاء ، وأنه ليس إسقاطا للتعين وهو وجوب الصوم ، فالفهم من هذا الحديث على أنه يدل على أن المرأة الحامل والمرضع أن كلا منهما يطعم ولا يصوم ضعيف .(4/187)
والصحيح ما ذهب إليه جماهير السلف والخلف والأئمة -رحمهم الله- ومأثور عن طائفة من أئمة التابعين والأئمة الأربعة على أنه يجب القضاء على المرأة الحامل والمرضع ، حتى إن طائفة من أصحاب ابن عباس -رضي الله عنهما- خالفوا ابن عباس في ذلك ، واعتبر من مفردات ابن عباس -رضي الله عنهما- وكذلك عن ابن عمر ليس خاصا لابن عباس بل إنه صح عن ابن عمر فمن قال إنه من مفردات ابن عباس ربما لم يطلع على السند الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وأيا ما كان فقول الصحابي إذا احتمل اجتهادا وكان أصل القرآن أو أصل السنة يقتضي اللزوم ودل النظر الصحيح على قوة هذا الأصل واعتباره ؛ وجب البقاء على الأصل مراعاة لتلك النصوص ، وبخاصة أن جماهير السلف والأئمة -رحمهم الله- على عدم العمل بهذه الفتوى من ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- ؛ لأن الأصول الشرعية تدل دلالة واضحة على أن من عجز في أول حال وقدر في ثاني حال أنه لا تسقط عنه العبادة بحال بمعنى أنه لا تسقط عنه كلية .
أما أن تسقط عنه في حال العجز وينتقل إلى البدل ؛ فهذا الذي دلت عليه الأصول في الصلاة وفي الصوم ونحوها من العبادات البدنية ، وعلى هذا فإنها تصوم قضاء ، تصوم كل من الحامل والمرضع قضاء يجب عليهما القضاء .
ثم اختلف هل تطعمان أو لا تطعمان ؟ وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال مشهورة عند الأئمة الأربعة -رحمهم الله- : منهم من قال : بالأصل العام تفطران وتقضيان وتطعمان إذا خافتا على الولد، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وهو قول مجاهد من أئمة السلف -رحمة الله على الجميع -.(4/188)
القول الثاني يقول: تفطران وتقضيان ولا تطعمان ، وهذا القول قال به طائفة من أئمة السلف -رحمهم الله- قال به إبراهيم النخعي والحسن البصري وهو قول الإمام محمد بن مسلم الشهاب الزهري وسفيان الثوري وأبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي حنيفة وأصحاب الرأي -رحمة الله على الجميع- أنهما تفطران وتقضيان ولا إطعام عليهما ، والحقيقة هذا القول قوي جدا من حيث الأصل والدليل ، ولكن الإمام أحمد -رحمه الله- والشافعية جمعوا بين الأصل وبين فتوى عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وطردوا ذلك ، ولكن من حيث الدليل والقوة لاشك أن قول من قال : إنهما تفطران وتقضيان ولا إطعام عليهما أقعد وأقرب للصواب -إن شاء الله تعالى- .
والإمام أحمد -رحمه الله- كان يتورع كثيرا ، ولذلك القول بالإطعام فيه ورع ، وإذا قيل بالفطر لهما وبخاصة إن العذر متصل بغيرهما في حال الخوف على الولد من الحامل أو من المرضع فلاشك أن هذا أفضل .
وذهب الإمام مالك -رحمه الله- وهو القول الثالث إلى التفصيل فقال : الحامل تفطر وتقضي ولا تطعم ، والمرضع تفطر وتقضي إذا خافت على ولدها تفطر وتقضي وتطعم ، فجعل عذر المرضع منفصلا ، وجعل عذر الحائض متصلا ، فأسقط الإطعام في المتصل ولم يسقطه في المنفصل ، وأيا ما كان فإن الأقوى ما ذكرناه من وجوب القضاء دون الإطعام .(4/189)
قال رحمه الله : [ إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا ] : تطعمان عن كل يوم مسكينا إذا خافت على ولديهما هذا إذا كانت مرضعا أو حاملا سواء كانت في بداية الحمل أو في انتصاف الحمل أو في غاية الحمل المهم أن يثبت في قول الطبيب العدل أو تكون المرأة نفسها تعرف نفسها فيجوز لها أن تبني على غالب ظنها ، وهذا يختلف كما ذكر العلماء باختلاف الأشخاص . أما المرضع فإن كانت ترضع ولدها فلا إشكال ؛ لأنها ملزمة بهذا الأصل ، واختلف هل إذا وجدت من تستأجره للإرضاع هل يحل لها الفطر ؟ والصحيح أنه يحل لها الفطر سواء وجدت أو لم تجد ، وأما التي تستأجر للإرضاع ؛ فإنها يجوز لها أن تفطر من أجل أن ترضع ولد غيرها لما ذكرناه من الأصل . ويرد السؤال : هل تجب عليها الكفارة المكررة بعدد الأولاد أو أنها تكون للجميع في كل يوم بحسبه ؟ صورة المسألة : أنها لو أرضعت ثلاثة أولاد في اليوم الواحد وأفطرت من أجلهم فهناك من العلماء من يقول عليها أن تفتدي ثلاث مرات ؛ لأنها حينما أرضعت الأول وأفطرت وقويت على إرضاعه وجب عليها الإمساك ، ثم بعد ذلك إذا أكلت من أجل أن ترضع الثاني أو شربت فإن هذا انتهاك ثانٍ ، ثم الثالث كذلك ، وهذا فيه إشكال سيأتي في مسألة من كرر الجماع ، والأقوى أن فطرها للواحد كفطرها للجميع على قاعدة الاستصحاب .
قال رحمه الله : [ وإن صامتا أجزأهما ] : وإن صامت المرضع والحامل أجزأهما الصوم ، ولكن هل تأثمان إذا غلب على ظنهما وجود الضرر أو شهد الأطباء العدول بتضرر الجنين ثم صامتا وتضرر الجنين ؟ لا يخلو الأمر من وجود الإثم عليهما ، ولذلك العمل بغالب الظن معتبر شرعا فلا يجوز لها أن تعرض نفسها أو ولدها للضرر .(4/190)
قال رحمه الله : [ الرابع : العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا ] : العاجز عن الصيام ، مثل : الشيخ الزمِن ، وكبير السن ، أو المريض الذي لا يرجى برؤه من مرضه وعذره مستديم ، فهو عاجز أداء وقضاء ، وهذا النوع يختلف عمن قبله ؛ لأن العجز فيمن قبله في الأداء دون القضاء ، وأما هذا النوع ذكر في الشيخ الكبير ويدخل فيها المريض إذا كان عذره باقيا معه فهو عاجز في الحال عاجز في المآل، عاجز ابتداءً ومآلاً ، فلا يجب عليه أداء ولا يجب عليه قضاء ، ومثل هذا يجب عليه أن يطعم ؛ لقوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } في قراءة لابن عباس شاذّة كما ذكر الإمام ابن جرير الطبري وغيره { وعلى الذين يَطّوَّقونه فدية } ذكرنا غير مرة أن القراءة الشاذة على أصح قولي العلماء من أئمة الأصول أنه يصح الاستدلال بها وإن لم تثبت قرآنا ، فهناك فرق بين إثبات الحكم بها وبين العمل والقراءة بها ؛ وعليه فإن هذه الآية فسرها ابن عباس -رضي الله عنهما- في الشيخ الكبير أنه إذا عجز عن الصوم فإنه ينتقل إلى الإطعام .(4/191)
يطعم عن كل يوم مسكينا : يطعم ربع صاع على الأصل ، وإن احتاط بنصف صاع فهو أفضل؛ لأن هذا من قياس الشبه ، بعضهم يلحقه بكفارة الظهار فيوجب ربع صاع وهو الأقوى ، ومنهم من اعتبر نصف صاع قياسا على فدية الحج ؛ لحديث كعب بن عجرة -- رضي الله عنه --في الصحيحين ، وعلى القول بأنه ربع صاع فإن الأفضل أن يزيد لقوله تعالى : { فمن تطوع خيرا فهو خير له } وعلى هذا فإن الواجب عليه ربع صاع ويطعم مسكينا بربع صاع أو طعاما يغتذي بمثله في يومه، فلو صنع للمسكين طعاما فغداه أو عشاه أجزأه ؛ لأن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- كان إذا كان آخر يوم من رمضان جمع ثلاثين مسكينا فأطعمهم ، وعليه لا فرق بين كونه يطعمهم أو كونه يعطيهم الصاع أو ربع الصاع أو نصف الصاع إلا أن الأفضل أن يعطي المسكين طعامه ؛ لأنه أبلغ في التمكين والتمليك ؛ لأن المسكين قد يحب أن يأكل هذا الطعام في غير ذلك اليوم ، ولكنه إذا صنع له الطعام تعين عليه أن يأكله في ذلك اليوم ، وإذا قيل إن الكفارات والإطعام في الكفارات للتمليك قوي أن يعطيه لا أن يطعمه بأن يطبخ له ونحو ذلك يطعم عن كل يوم مسكين .
قال رحمه الله : [ وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير ] : وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير هذا من حيث الأصل قال تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } . فبين - سبحانه وتعالى - أن من أفطر في رمضان فعليه عدة من أيام أخر فليس عليه إلا أن يقضي ما ترك صيامه لعذر أو غير عذر .(4/192)
قال رحمه الله : [ إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة ] : إلا من أفطر بالجماع في الفرج : الجماع في نهار رمضان من محظورات الصيام ، ومن جامع فقد أفطر ؛ وذلك لقوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ومفهومه أنه في نهار الصوم لا يحل الرفث إلى النساء ، المراد بذلك جماع النساء ، فحرم الله -- عز وجل -- الجماع على الصائم فقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح فيما يرويه عن ربه : (( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )) فدل على أنه لا يجوز للصائم أن يجامع ، فإذا جامع وأصاب أهله ؛ وجبت عليه الكفارة ؛ وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن صخر البياضي -- رضي الله عنه -- أنه أتى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فقال : هلكت وأهلكت . قال : ما أهلكك ؟ قال : وقعت على أهلي . وفي لفظ : أصبت أهلي وأنا صائم . فقال عليه الصلاة والسلام : أعتق رقبة أتجد رقبة ؟ قال : لا . فقال - صلى الله عليه وسلم - : فصم شهرين متتابعين . قال : وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم . فقال : أطعم ستين مسكينا . فقال : لا أجد . فأُتِي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بعرق من تمر - والعرق هو المكتل .فقال - صلى الله عليه وسلم - : أطعم ستين مسكينا . فقال : والله ، وفي بعض الروايات : والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني . فقال - صلى الله عليه وسلم - : خذه فأطعمه أهلك )) صلوات الله وسلامه عليه فدل هذا الحديث على أنه تجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ، وهذا محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- وهذا النوع من الكفارات يعتبر من المغلظ فهي الكفارة المغلظة يجب عليه عتق رقبة فإن لم يجد رقبة صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين انتقل إلى إطعام ستين مسكينا على ظاهر هذا الحديث .(4/193)
والأصل وجوبها على الزوج ، وأما الزوجة فإن كانت مكرهة فلا شيء عليها إن غلبها وقهرها على الجماع ، وهكذا لو اغتصب امرأة -والعياذ بالله- للزنى فزنى بها فإنه لا يكون عليها شيء إذا أكرهها على الزنى واغتصبها ، وأما إذا طاوعته فعليه وعليها الكفارة عليهما الكفارة وعلى هذا يفرّق بين أن تطاوع المرأة أو تمتنع .
أما بالنسبة للرقبة فأصح قولي العلماء أن تكون مؤمنة خلافا لمن قال بإعتاق رقبة ولو كانت كافرة؛ وذلك لقوله -عليه الصلاة والسلام- لما أراد الرجل أن يعتق جارية أمرها أن يأتي بها فقال لها النبي -- صلى الله عليه وسلم --: أين الله ؟ قالت : في السماء . قال من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال : ((أعتقها فإنها مؤمنة )) والجملة (( فإنها مؤمنة )) تعليلية أي اعتقها من أجل أنها مؤمنة ، فدل على أن العتق يختص بالمؤمنين ، وقد فصلنا هذه المسألة في شرح الزاد ، وعلى كل حال يجب أن تكون هذه الرقبة مؤمنة ، سالمة من العيوب المؤثرة ، ويستوي فيها الصغير والكبير ، فيجوز أن يعتق جارية عمرها خمس سنوات أو يعتق صبيا عمره أربع سنوات ، وكذلك إذا كان كبيرا ، وذلك للعموم وأما بالنسبة لصيام شهرين متتابعين فإنه إذا بدأ الصوم من أول الشهر فإنه يعتد بها ناقصا أو كاملا فقد يصوم ثمانية وخمسين يوما من شهرين متتابعين ثبت بالرؤية نقصهما كأن يصوم محرم وصفر أو صفر وربيع ويثبت بالرؤية نقصان صفر وربيع فيصوم ثمانية وخمسين يوما . أما إذا صام أثناء الشهر فإنه للعلماء فيه وجهان إن تمحض له الشهر في الأثناء اعتد به كمالا ونقصا ، ثم احتسب الزائد فيما قبل الشهر وما بعد الشهر، مثال ذلك : لو ابتدأ في يوم العشرين من الشهر الذي يسبق شهر ربيع وهو صفر فإنه في هذه الحالة في صفر على القول بالاعتداد بالشهر ناقصا كان أو كاملا فإذا ثبت أن صفر تسعة وعشرون ؛ فإنه يحتسب ثلاثين يوما : عشر قبل ربيع ، وعشرين بعده ، ثم يصوم صفر على نقصه وكماله .(4/194)
وأما إذا قلنا إنه يصوم إذا صام أثناء الشهر ستين يوما فيجب عليه أن يتم ستينا يوما سواء كان الشهر المتخلل كاملا أو ناقصا هذه هي المسألة المشهورة عند العلماء فيمن صام شهرين متتابعين سواء في كفارة الظهار أو كفارة الجماع في نهار رمضان أو كفارة القتل .
على كل حال يجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين ، فإن عجز عن ذلك إما أن يعجز لضعفه أو يعجز لشدة شهوته ، فإن كان شديد الشهوة ولا يمكنه أن يصبر كما قال سلمة : وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم ، فإنه حينئذ ينتقل إلى إطعام ستين مسكينا ، فيطعم كل مسكين ربع صاع على أصح قولي العلماء ؛ لأن العَرْق الذي أتي به عليه الصلاة والسلام كان مِكْتلا فيه خمسة عشر صاع ، والخمسة عشر صاعا على ستين مسكينا لكل صاع ربع صاع ، وهذا هو الذي أشار إليه سعيد بن المسيب -رحمه الله- في رواية الإمام مالك عنه في الموطأ كما ذكر الإمام مالك عنه في الموطأ أن العَرْق كان خمسة عشر صاعا .
قال رحمه الله : [ فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فإن لم يجد سقطت عنه ] : فإن لم يجد سقطت عنه على أحد الوجهين ، وهذه المسألة : هل يعتبر بها في الحال أو في الحال والمآل في الكفارات ؟ فمن قال العبرة بالحال سقطت عنه ولم يلزمه القضاء إذا صار غنيا بعد ذلك . وصورة المسألة : لو أنه جامع امرأته في نهار رمضان ، ثم عجز عن العتق وعجز عن صوم شهرين متتابعين ، وعجز عن إطعام ستين مسكينا ؛ سقطت عنه الكفارة في الحال ، لكنه بعد مدة أو بعد شهر أو بعد سنة طالت أو قصرت أصبح غنيا فاستطاع أن يشتري رقبة واستطاع أن يعتقها أو استطاع أن يطعم ستين مسكينا فهل تبقى في ذمته ؟ ظاهر السنة أنها لا تبقى في الذمة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أسقطها عن سلمة بن صخر البياضي ولم يقل له فإذا اغتنيت فاقض ، فدل على أن العبرة فيها بالحال ، وهذا هو أقوى الوجهين عند العلماء -رحمهم الله- .(4/195)
إذا حصل الجماع بالمرأة سواء كانت حلالا أو حراما كما ذكرنا بالزنى خلافا لمن قال من الظاهرية لا كفارة في الزنى ولكن جمهور العلماء -رحمهم الله- على أنه يستوي أن يكون حلالا في الأصل كالزوجة أو يكون حراما وهكذا -والعياذ بالله- لو وطئ امرأته في دبرها أو حصل لواط فإنه يجب عليه أن يكفر كفارة مغلظة .
قال رحمه الله : [ فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة ] : إن جامع ولم يكفر عن الجماع الأول حتى جامع مرة ثانية فعلى صورتين : إما أن يقع ذلك في يوم واحد أو يقع في أيام متعددة ، فإن وقع في يوم واحد فكفارة واحدة ، وإن وقع في أيام متعددة فإن لكل يوم كفارته .
قال رحمه الله : [ وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية ] : هذا على القول بأن من لزمه الإمساك يستأنف ويكون صومه مستأنفا .(4/196)
قال رحمه الله : [ وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة ] : هذا مبني على الأصل كما في حديث صوم عاشوراء وأصله في الصحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر الصحابة في يوم عاشوراء من كان منهم قد أصبح صائما أن يتم بقية يومه ، ومن أصبح مفطرا أن يمسك بقية اليوم، فقالوا كل من لزمه الإمساك كرجل كان مسافرا وأفطر في سفره ثم دخل المدينة قبل غروب الشمس بثلاث ساعات ثم جامع أهله ؛ فإنه يجب عليه إذا دخل المدينة ورجع إلى أهله أن يمسك بقية اليوم ؛ لأن الله أحل له الفطر حال السفر، فوجب عليه الإمساك بقية اليوم ، فقال لو قال البعض كيف يمسك وهو مفطر ؟ فقل : إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالإمساك من كان مفطرا . فقال للصحابة ومن أصبح مفطرا فليمسك بقية يومه فأخذ من هذا جمهور السلف -رحمهم الله- منهم الأئمة الأربعة -رحمهم الله- لزوم الإمساك على الصائم إذا قدم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمره فدل هذا على أن له حرمة الصائم ومن هنا يرد السؤال : هل يأخذها من كل وجه بحيث لو جامع وجبت عليه الكفارة أو أنه يقال بإثمه دون وجوب الكفارة عليه اختار المصنف -رحمه الله- وجوب الكفارة عليه وهذا صحيح من جهة الأصل.(4/197)
قال رحمه الله : [ ومن أخر القضاء لعذر حتى أدرك رمضان آخر فليس عليه غيره ] : إذا وجب على العبد أن يقضي رمضان ؛ فالواجب عليه أن يبادر وله أن يؤخر القضاء ما لم يبق من شعبان على قدر الأيام دون يوم الشك ، فلو كانت عليه خمسة أيام من رمضان فيجوز له أن يؤخرها إلى شعبان إلى خمسة أيام قبل يوم الشك ، وحينئذ يضيق عليه هذا الواجب الموسع ويصبح ملزما بالصيام ؛ هذا دليله حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : (( إن كان يكون علي صوم في رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- مني )) وعليه فلو أخر إلى رمضان وجاءه العذر في الأيام التي تسبق شعبان أو قبلها واستصحب إلى دخول رمضان فلا شيء عليه ، مثاله : لو أن امرأة حاضت في رمضان فوجب عليها سبعة أيام قضاء فأخرت القضاء فلما دخل شعبان حملت أو جاءها عذر من مرض ولم تستطع أن تصوم حتى دخل رمضان الثاني فإنه لا شيء عليها إلا القضاء ولا يجب عليها الكفارة لعدم التفريط وعدم الإخلال .
قال رحمه الله : [ وإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا ] : ففي الحالة الأولى إذا لم يفرط وكان عنده عذر ألزمناه بالأصل ؛ والدليل قوله -تعالى- : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فأوجب الله عليه أن يصوم عدة من أيام أخر وعلى هذا لم يجب عليه غير هذه الأيام الأخر، فيستوي أن تكون فيما بين رمضانين أو بعد الرمضان الآخر مادام أن عنده عذراً أما إذا أخر وفرط فعليه عن كل يوم إطعام مسكين ربع صاع كما ذكرنا يطعم عن كل يوم فرط فيه ربع صاع ، وهذا يقول به جمهور العلماء -رحمهم الله- ويأخذونه منتزعا من فتاوى بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو مذهب الجمهور ، وهو أحوط ولكن من حيث الدليل القول الذي يقول بعدم وجوب الكفارة عليه أقوى .(4/198)
قال رحمه الله : [ وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه ] : وإن ترك القضاء حتى مات لعذر :كمريض استمر به المرض لا يستطيع أن يصوم حتى توفاه الله ليس عليه إلا الإطعام؛ لأنه في حكم المريض الذي لا يرجى برؤه ، ليس عليه إلا الإطعام ، فيؤخذ من تركته على قدر الإطعام المبلغ الذي يكفي لإطعام عن الأيام التي أفطرها وهذا هو الأصل ؛ لأن الواجب في ذمته الإطعام وليس الصوم .
أما لو مات وعليه صوم وتركه قادرا عليه ؛ فظاهر السنة في قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )) أن يصوم عنه وليه .
قال رحمه الله : [ وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين ] : إذا كان استمر معه العذر حتى توفاه الله فبعض العلماء يرى أنه في حكم المريض الذي لا يرجى برؤه ولذلك ينتقل إلى الإطعام ، واختار المصنف -رحمه الله- أن لا شيء عليه . ووجه ذلك : أن الحنابلة وطائفة من أهل العلم ومن يوافقهم على هذا القول يقولون : إنه إذا أفطر معذورا ؛ فإن الله أوجب عليه عدة من أيام أخر، وإذا أوجب الله عليه عدة من أيام أخر؛ فإنه قد استمر معه العذر فلم يجد أياما أخر فسقط عنه الأداء وسقط عنه القضاء فلا شيء عليه .
رد على هذا بأن عموم قوله -تعالى- : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } مخصص بما ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في قوله : (( من مات وعليه صوم )) فلم يفرق بين من استمر معه العذر أو لم يستمر معه إلا أن الأولين يقولون إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من مات وعليه صوم )) وهذا ليس عليه صوم وهذا فيه إشكال ولاشك أن القول بانتقاله إلى الصوم من الولي أو الإطعام على الوجه الثاني لاشك أنه أقوى .(4/199)
أما إذا كان برئ وشفي ثم ماطل وتأخر ولم يصم حتى توفاه الله ؛ فإنه في هذه الحالة من العلماء من قال يصام عنه بناء على أن الأصل في الميت أن يصوم والولي منّزل منزلته ، ومنهم من يقول: إن الواجب أن يطعم . والفرق بين المسألتين أنهم إذا قالوا بوجوب الصوم على الولي أخذوا بعموم قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من مات وعليه صوم )) ومن قال إنه يطعم يقول إن الإطعام سيكون من مال الميت ، والأصل أنه إذا عجز بنفسه انتقل إلى البدل وهو الإطعام بماله وهذا ألصق بالذمة ومن هنا قدموا الإطعام على الصوم من هذا الوجه .
قال رحمه الله : [ إلا أن يكون الصوم منذوراً فإنه يصام عنه ] : اختار المصنف -رحمه الله- رواية من مات وعليه صوم نذر، واختار أن السؤال الذي ورد في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مخصوص بالنذر.
ولكن الصحيح الأخذ بعموم اللفظ في قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )) وقد أكد هذا العموم قوله عليه الصلاة والسلام : (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ )) فجعل الولي منّزلا منزلة الأصيل ، وأن ذمة الميت مشغولة ، فقوي بهذا قول من ذكرنا من العلماء -رحمهم الله- .
قال رحمه الله : [ وكذلك كل نذر طاعة ] : وكذلك كل نذر طاعة يعني قوي قول من يقول الصوم سواء كان نذرا أو كان كفارة كما في صيام كفارة القتل وصيام كفارة الظهار وصيام كفارة الجماع في نهار رمضان فيصوم عنه الولي لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالسؤال ورد عن النذر فسبب خاص فالعبرة بعموم اللفظ .(4/200)
وثانيا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما قال : (( أرأيت لو كان على أمك دين )) دل على أن العبرة إبراء الذمة وأنه إذا كان عليه دين يستوي أن يكون بصوم نذر أو بصوم واجب في رمضان أو بصوم واجب من الواجبات الأخرى في الكفارات ، فكل هذا يشرع للولي أن يقضيه عن موليه ، لكن المصنف -رحمه الله- سلك مسلك من يقول إن العبادات البدنية لا ينوب فيها الحي عن الميت ولا ينوب فيها أحد عن أحد وجاءت السنة بالاستثناء فينبغي أن تقيد بالوارد من صوم النذر .
قال الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- : [ باب ما يفسد الصوم ] : الفساد ضد الصحة ، وفساد العبادة إخلال بها ، وعبادة الصوم ورد في الكتاب والسنة على أصل هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج هذا من حيث الأصل ، فيخل المكلف بهذا الأصل فيفسد العبادة . فال المصنف -رحمه الله- باب ما يفسد الصوم أي في هذا الموضع سأذكر لك الأمور التي إذا فعلها الصائم أوجبت الحكم بفساد عبادته وصيامه .
قال رحمه الله : [ ومن أكل أو شرب أو استعطى أو وصل إلى جوفه شيء من أي موضع كان أو استقام فقاء أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى أو كرر النظر حتى أنزل أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد ] : قال رحمه الله : [ من أكل أو شرب ] : ابتدأ بالأكل والشرب لأنهما أصل الإمساك ؛ قال تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } فدلت هذه الآية الكريمة على أنه يحرم على الصائم أن يأكل أو يشرب .
ثانيا: جاء هذا التحريم بالعموم الشامل للقليل والكثير فيستوي أن يأكل قليلا أو كثيرا.(4/201)
ثالثا جاء هذا العموم الذي يشمل كل مأكول وكل مشروب سواء كان يغتذي به البدن أو يتداوى به البدن ؛ ولذلك أجمع العلماء على أن من شرب الدواء أنه مفطر ولو كان الدواء ليس من نوعه مما يغتذي به البدن ويرتفق به . فقال رحمه الله : [ من أكل ] أجمع العلماء على أن الأكل يوجب فساد الصوم سواء كان قليلا أو كثيرا ؛ والدليل على ذلك قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } ووجه الدلالة من الآية الكريمة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم فلما قال تعالى : { وكلوا واشربوا } أمر إباحة أي أحللت لكم الأكل والشرب ليلة الصيام حتى يتبين فلما قال : { حتى يتبين } صار غاية ؛ لأن حتى للغاية أي هذا الإحلال غايته أن يتبين ، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم ، فيكون المفهوم فإن تبين فلا تأكلوا ولا تشربوا ، وهذا محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- حيث أكدت السنة ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح : (( إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )) وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه : (( إن الله تعالى يقول كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه وشهوته )) فقال : (( يدع طعامه )) في جنس المأكول ، (( وشرابه )) من جنس المشروب ، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على الصائم ، وينبني على ذلك إفطار الصائم بأكله وشربه سواء كان أكل كثيرا أو قليلا ، أو شرب كثيرا أو قليلا ، أكل ما يرتفق به البدن طعاما أو لا يرتفق به كما في الدواء ، شرب ما يرتفق به أو ما لا يرتفق به كالدواء كل ذلك موجب للحكم بالفطر ؛ ومن هنا جعل العلماء رحمهم الله دخول الجرم إلى البدن بقصد المكلف موجبا للفطر، كما قالوا لو أكل الطين أو قصد إدخال الغبار إلى حلقه وفي حكمه الدخان فإن له جرما(4/202)
؛ ومن هنا صار مادة غريبة فأصبح الأصل عند العلماء مبنيا على الأكل والشرب وسنبين هذا في مسائل الاستيعاط .
بين رحمه الله أن الأكل والشرب موجب للفطر وهذا كما ذكرنا على العموم .
قال رحمه الله : [ أو استعط ] : أو استعط : السعوط موجب للفطر فلو أنه وضع في أنفه شيئا فنزل إلى حلقه فإنه يحكم بفطره . فالنشوق موجب للفطر ، وفي حكم ذلك البخاخات سواء كانت من الرذاذ أو كانت من المحلولات الأخر مادام أنها لها مادة وجرم ودخلت عن طريق الأنف فإنها توجب الفطر .
الأكل والشرب يكون من الفم إلحاقا الأنف بالفم مبني على حديث لقيط بن صبرة -- رضي الله عنه --وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- منع الصائم أن يبالغ في الاستنشاق وليس لهذا معنى إلا خوف أن يفطر ولو كان لا يوجب الفطر أو ليس منفذا إلى الجوف لما كان للحديث معنى لكان وضع الماء في الأنف كوضعه في الوجه لا يضر فيه المبالغة ويستوي فيه المبالغة وغيرها فلا معنى لقوله : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) إلا أن يبين أن الماء إن دخل إلى الجوف عن طريق الأنف فأثر وإذا كان الماء يؤثر فمعنى ذلك أن الأنف طريق إلى الجوف ، وإذا كان طريقا للجوف يستوي أن يدخل منه الماء أو يدخل منه الطعام أو يدخل منه الرذاذ فمادام أن له جرما ودخل عن الأنف فطريق الأنف كطريق الفم سواء على ظاهر هذه السنة ؛ لأن المعنى ظاهر من الحديث .
تفرع على هذا عدة مسائل منها أنك لو تأملت المستنشق للماء لوجدته عند مبالغته بالاستنشاق لا يستطيع أن يدخل إلا الرذاذ اليسير جدا ، ولكن هذا الرذاذ بمجرد وصوله إلى الحلق يوجب الفطر كما أن الرذاذ القليل إذا جاوز اللهاة في الفم أوجب الفطر كذلك أيضا إذا دخل عن طريق الأنف .(4/203)
ينبني على هذا أنه لا فرق بين القليل والكثير؛ ولذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل اليسير من الرذاذ في حال الاستنشاق موجبا للإخلال بالصوم فحينئذ لو أنه أدخل مادة يسيرة من مطعوم أو مشروب عن طريق الأنف أوجب ذلك الحكم بفطره .
بخاخات الربو أجمع الأطباء على أن لها مادة ، وأن المادة تتخلل الشعب حتى تصل إلى الرئة ، وأنها تؤثر حتى كان يتعجب بعض الأطباء من عدم القول بفطر صاحبه ؛ لأن لها مادة وجرما وهي تدخل إلى البدن ، فدخولها عن طريق الأنف أودخولها عن طريق الفم موجب للفطر وهذا البخاخ الذي يرى هو البخاخ لكنه مركب وفيه مادته ، وعلى هذا يوجب الفطر كل ما دخل إلى البدن سواء كان عن طريق البخ أو كان عن طريق الجرم سائلا كان أو جامدا .(4/204)
يقول رحمه الله : [ من أكل أو شرب أو استعط ] فبين أن العبرة بالوصول إلى الجوف ، إذا تأملت حديث لقيط بن صبرة وجدت أنه يلغي الفم بمعنى أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حينما حكم بدخول الشيء عن طريق الأنف أنه مؤثر في الصوم دل أن العبرة بالوصول إلى الجوف بغض النظر عن الطريق ، وحينئذ في الصوم إما أن تقول أعتبر المدخل والداخل ، أو تقول أعتبر الجوف بغض النظر عن المدخل والداخل، فأنت حينما تنظر إلى النهي عن المبالغة في الاستنشاق تجده يلغي المدخل ويعتبر الوصول إلى الجوف بغض النظر عن كونه من المدخل المعتاد أو المدخل غير المعتاد ، وعلى هذا قال جمهور العلماء -رحمهم الله- وهو مأثور عن أصل السلف في مسألة الحقنة إنها مفطرة ؛ لأنه استوى عندهم أن يدخل الشيء من أسفل البدن أو يدخل من أعلاه مادام أنه نافذ إلى الجوف ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتبر الوصول إلى الجوف فالأنف ينفذ إلى الحلق ومن هنا كون النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يقتصر في الصوم على المطعوم والمشروب المعتاد من المدخل المعتاد دل على أن الفطر لا يختص بهذا المدخل المعتاد ، فالبعض يقول : أنا لا أفطر إلا بمأكول ومشروب . نقول له : ما رأيك في الدواء؟ ليس بطعام حقيقة ولا يرتفق به البدن حقيقة لو أنه أدخل قال إذا العبرة عندي بالمدخل بغض النظر عن الداخل، لكن ظاهر السنة يضعف هذا ؛ لأنه لو كانت العبرة بالمدخل لكان الأنف ليس مدخلا معتادا ، ولما نهى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن المبالغة للصائم ، والسنة تنبه وكون البعض يقول إن هذا مما تعم به البلوى وينبغي أن تأتي به السنة . الغائط -أكرمكم الله- نجاسته محل إجماع بين العلماء أعطني دليلا واضحا من السنة يدل على أنه نجس وهو مما تعم به البلوى، لا يشترط أن تأتي النصوص واضحة وإلا لاستوى العلماء والجهلاء ، والفقه يحتاج إلى كلفة وعناء في فهم النصوص ومعرفتها ؛ ولذلك قال تعالى : { لعلمه(4/205)
الذين يستنبطونه منهم } فالجمود عند الفم بقولنا إنه لا يفطر إلا إذا كان طعاما أو شرابا نقول لهم: الدواء ليس بطعام يغتذي به البدن بل إنه لمصلحة وقد يكون لموضع معين في البدن وليس ولربما استعمل هذا الدواء مرات وكرات وهو في أشد الجوع فهو لا يطعم البدن ولا يسقي البدن ولا يرتفق به البدن ، وإنما يعالج الداء ومع ذلك يفطر به إجماعا إن شربه ، فدل على إلغاء مسألة المدخل والتقيد بالمدخل ، وأن السنة دلت على أن العبرة بالوصول إلى الجوف ، وهذا الذي جعل جماهير السلف والأئمة -رحمه الله- ويفتون سلفا وخلفا فالبعض يقولون هذه تعليلات وتأويلات من الفقهاء لا مانع أن تقول بقول من يقول إن الحقنة لا تفطر وأن الإبر لا تفطر ولكن إياك أن تقول إن هذه اجتهادات وتأويلات من الفقهاء وأنت لم تعِ ولم تعلم مسلكهم ، هذا حديث صحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- انبنت عليه هذه الدلالة ، وعليه فهي دلالة صحيحة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ألغى المدخل واعتبر الوصول إلى الجوف فللفقيه أن يقول إذا وصل الشيء إلى الجوف استوى عندي من أي مدخل كان ؛ لأن السنة لم تقيد بمدخل معين .
بناء على هذا فإن الإبر مفطرة ؛ لأنها تصل إلى الجوف ، والسبب في ذلك حتى إنك لو راعيت قول من يقول إنها لا تفطر يقول إذا كانت إبرة للدواء لا تفطر، وإذا كانت إبرة للغذاء فطرت، يعني معنى ذلك أن ما دخل الجوف من الأدوية لا يفطر، إذا كان يقول إن الإبرة تفطر فقد سلم أنها واصلة إلى الجوف، فيستوي أن تكون مغذية أو تكون للدواء ،كما أن الذي يبلعه الإنسان -مادام اعتبر المدخل- مفطر سواء كان مما يؤكل أو يشرب أو للدواء ، فمسألة التفريق بين المغذي وغير المغذي محل إشكال .(4/206)
جمهور العلماء يرون أن الحقنة سواء وله أصل من السلف حتى كان بعض السلف يفتي به وكانوا يضعون التحاميل في القديم يضعونها في الدبر لتخفيف حرارة الإنسان هذه كلها مؤثرة لأنها واصلة إلى الجوف ، وعلى هذا يستوي أن يكون طعاما أو يكون دواء ، يكون من المدخل المعتاد أو المدخل غير المعتاد ، وهذه دلالة يعني واضحة من السنة ولها سلف ولها علماء يقولون بها فمن ترجح عنده غيره لا يثرب على العلماء ولا يستهجن مثل هذه الفتاوى التي أطبق عليها جماهير السلف والعلماء لن تقلب كتابا في الفقه قل أن تجد إلا هم يرون أنه لا يتقيد الفطر بالمأكول والمشروب من المدخل المعتاد بل تجدهم ينصون على هذا وأن العبرة بالوصول إلى الجوف استنباطا من حديث لقيط بن صبرة -رضي الله عنه وأرضاه- .
قال رحمه الله : [ أو وصل إلى جوفه شيء من أي موضع كان ] : أو وصل إلى جوفه شيء : شيء نكرة يستوي أن يكون طعاما أو دواء يستوي أن يكون مؤثرا مغتذيا به البدن بالكمية كمية مؤثرة أو كمية قليلة ؛ وذلك لما ذكرناه من السنة .(4/207)
قال رحمه الله : [ أو استقاء فقاء ] : أو استقاء : السين والتاء للطلب ، والاستقاء أن يستدعي القيء يطلبه ، والقيء إما أن يهجم على الإنسان وإما أن يطلبه ، فالمؤثر في الفطر أن يطلب القيء وهذا يكاد كالإجماع بين العلماء -رحمهم الله- والأصل فيه حديث أبي هريرة وحسنه الترمذي رحمه الله : (( أن من استقاء فقاء فقد أفطر ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه ))، والحديث حسن. وقال بعض العلماء لا يصح في هذا الباب شيء . وقولهم لا يصح بمعنى أنه لا يرتقي إلى درجة الصحة وإنما الأحاديث محسنة إما لذاتها أو بالشواهد ، والعمل عند جماهير السلف والخلف والأئمة -رحمهم الله- على أن من استقاء فقد أفطر، وهو محفوظ عن علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم وعبدالله بن عمر من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم أجمعين وهو قول أئمة السلف حتى حكى بعض العلماء أنه لا خلاف فيه في كونه مفطرا ، لكن الإشكال هل عليه كفارة أو لا؟ ذهب بعض السلف إلى وجوب الكفارة عليه إذا استقاء يعني طلب القيء سواء كان معذورا أو غير معذور .
والصحيح أنه لا كفارة لأنه لا دليل على وجوب الكفارة في الاستقاء .
إذا استقاء فقاء : إما أن يكون القيء مؤثرا أو يكون دون تأثير ولا يكون القيء مؤثرا يقولون إلا إذا كان ملأ الفم يعني الكمية مما يملأ الفم فزيادة وما دون ذلك مما يخرج من القطع ونحوها بخاصة إذا كان عند الجشاء أو عند الشبع فهذا لا يفطر، لو أن إنسانا بعد السحور وأذن عليه الفجر ثم تجشأ فخرج شيء من اللبن أو من الماء ثم لفظه ولم يعده فإن صومه صحيح ، وأما إذا استقاء وطلب القيء فخرج منه مما ملأ الفم وزيادة فإنه يوجب الفطر .(4/208)
قال رحمه الله : [ أو استمنى ] : أو استمنى الاستمناء استدعاء المني ، ولا يجوز للصائم أن يستمني والدليل على ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي عن الله تعالى : (( يدع طعامه وشرابه وشهوته )) وإخراج المني شهوة ، وعلى هذا جماهير العلماء -رحمهم الله-أن الاستمناء محرم على الصائم ، وأنه إذا استمنى فقد أفطر .
قال رحمه الله : [ أو قبل ] : أو قبّل امرأته اختلف في القُبلة هل هي توجب الفطر أو لا توجبه؟ والصحيح أن القبلة لا توجب الفطر للصائم إلا إذا أنزل ، والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ((كان يقبلها وهو صائم ولما قيل له: يا رسول الله إنه قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أما إني أخشاكم لله وأتقاكم ))، فدل على أن الحكم عام ، وبينت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- التفصيل فقالت ((إلا أنه كان أملككم لإِرْبه ))، ولفظ (( لأَرَبِه )) أي حاجته وعلى كل حال من غلب على ظنه أنه ينزل أو تهوج شهوته ولربما جامع امرأته فإنه لا يجوز له أن يقبل ؛ لأن الوسائل المفضية إلى الحرام محرمة ، وأما إذا غلب على ظنه أنه يمسك نفسه ولا يكون شيء من ذلك فإنه يجوز له أن يقبل ولا يؤثر ذلك في الصوم .
قال رحمه الله : [ أو لمس فأمنى أو أمذى ] : أو لمس امرأته فأمنى هو العبرة بخروج المني أما الإمذاء فالصحيح أنه لا يوجب الفطر؛ لأن الإمذاء شهوة قاصرة ، والأصل صحة الصوم حتى يدل الدليل على فساده ، بل إن المذي قد يخرج ولا يشعر به الإنسان وهو يخرج عند الإنعاظ وعند بداية الهيجان وليس بشهوة كخروج المني والجماع .(4/209)
قال رحمه الله : [ أو كرر النظر حتى أنزل ] : أو كرر النظر حتى أنزل لا يجوز للمسلم أن ينظر فيما يهيجه ويوجب فساد صومه إذا غلب على ظنه أن النظر إلى امرأته أنه يوجب هيجان شهوته ونزول المني منه فيجب عليه أن يتقي ذلك؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه ، فيجب عليه حفظ صومه ، وتوقف هذا الحفظ على ترك النظر فيجب عليه أن يترك النظر، وهذا أصل شرعي أنه يجب ترك الوسائل المفضية للمحرمات، وعلى هذا فلو أنه كرر النظر مرة بعد مرة فأنزل فإنه يفسد صومه أما الإمذاء فإنه لا يوجب فساد الصوم لا في القبلة ولا في النظر لما ذكرناه .
قال رحمه الله : [ أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد ] : احتجم الحجامة معروفة وهي إخراج الدم إن كانت من العروق ففصد ، وإن كانت من الأوعية الدموية فحجامة ؛ وقد احتجم رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأمر بالحجامة وقال : (( إذا اشتد الحر فاحتجموا لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم )) وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن يكن الشفاء ففي أربعة في آية من كتاب أو شرطة من محجم أو شربة من عسل أو كية من نار ولا أحب أن أكتوي )) فقال : أو شرطة من محجم ، فالحجامة مشروعة ومسنونة ولها فضل بشرط أن يوجد من يعرفها ويتقنها ويعرف مواضع الحجامة منها ، ولا يجوز أن يسلم نفسه لمن يتطبب ولم يعرف منه طب .(4/210)
إذا ثبت هذا فإن الحجامة فيها قولان مشهوران للعلماء : جمهور العلماء على أن الحجامة لا تفسد الصوم ؛ واحتجوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم وكذلك أيضا جاء في حديث أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- قال : (( أول ما نهي عن الحجامة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مر على جعفر بن أبي طالب وهو يحتجم فقال: أفطر هذان . قال -- رضي الله عنه -- ثم رخص بعد ذلك )) فدل هذا على أن الحجامة كان في أول الأمر مشددا فيها ثم خفف في ذلك لقوله : (( ثم رخص بعد ذلك))، والرخصة تدل على أنه لا بأس ولا حرج في الحجامة وأنها لا توجب الفطر، وجاء في حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه قال عن رجل من أصحاب النبي-- صلى الله عليه وسلم -- وجهالة الصحابي لا تضر قال (( إنما نهي عن الحجامة وعن الوصال للصائم خشية أن يضعف )) من أجل الإبقاء على أصحابها ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عنها إبقاء لأصحابه وجاء في حديث ثابت البناني أنه سأل أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- (( هل كنتم تكرهون الحجامة على عهد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: لا ، وإنما نهي عنها لأنها تضعف الصائم )) فدل على أنها ليست مؤثرة في الصوم وهذا هو مذهب جمهور العلماء .(4/211)
واحتج الحنابلة على أن الحجامة تفسد الصوم بحديث ثوبان ورافع وشداد بن أوس وكذلك معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عن الجميع أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) والحديث فيه كلام من حيث السند واختار بعض المحدثين أن أقوى الروايات حديث ثوبان وكان يميل الإمام أحمد إلى تصحيحه وتبعه علي بن المديني ثم البخاري على ذلك والعمل على ثبوته لكنه لا يقوى على المعارضة ؛ لأن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- أثبت النهي وأثبت النسخ ، فقال : (( ثم رخص بعد ذلك )) ، وهذا من أظهر ما يكون وأوضح ما يكون أن الحجامة نسخ تأثيرها في الصيام .(4/212)
الوجه الثاني من الجواب : وهذا يختاره الإمام الشوكاني وغيره من الشراح أنه محمول على المجاز لا على الحقيقة أي تجوز النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على لسان العرب والعرب تتجوز في لسانها ، وهذا في معروف في كلامهم ، ولا يستطيع أحد أن ينكر تجوزهم بأن يأتي اللفظ ولا يقصد ظاهره . وتوضيح ذلك أن العرب تقول: أفطر أي عرض نفسه للفطر وإن لم يفطر حقيقة ، كما تقول للرجل وهو قريب من النار: احترقت احترقت وإن لم يحترق يعني أن وضعك سيؤول إلى أن تحترق ، فأفطر الحاجم والمحجوم أي عرض أنفسهما للفطر؛ لأن الحاجم يمص الدم فلا يأمن أن يبلع شيئا من الدم ويزدرده والمحجوم يضعف بسبب الحجامة فلا يأمن أن تضعفه إلى درجة يفطر فيها ، وقد أجمع الأطباء على أن من احتجم ينبغي له بعد الحجامة أن يأكل شيئا أو يشرب شيئا سريع النفوذ في البدن حتى يعوض النقص الذي فيه ، وهذا يدل على قوة تأثيرها ، فيكون قوله : أفطر الحاجم والمحجوم أي أنهما عرض أنفسهما للفطر لا أنهما أفطر حقيقة ، وهذا كقوله في حديث عبدالله بن أم مكتوم ((وكان لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت)) أي ويحك كدت أن تصبح ، فالعرب تقول للشخص : هلكت هلكت احترقت أصبحت وهو لم يصبح أي أنك على وشك أن تصبح، وهذا معروف في لسان العرب ويقولون : أنجد إذا دخل نجدا وإن لم يدخلها حقيقة وأتهم إذا دخل تهامة وإن لم يدخلها حقيقة .(4/213)
فالشاهد من هذا أن الحديث على أحد هذين الوجهين والقول بالنسخ أقوى ؛ لأن الصحابي أنساً -- رضي الله عنه -- روى الحديث على وجهه واضحا بينا ، فالرواية التي عند الدارقطني وهي رجالها رجال الصحيح كما ذكر الإمام الشوكاني رجالها رجال البخاري وقال غيره من الأئمة كما قال صاحب المنتقى : رجاله ثقات فيها أن أنساً -- رضي الله عنه -- قال : (( إن أول ما نهي عن الحجامة حينما مر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على جعفر بن أبي طالب ثم قال بعد ذلك ثم رخص فيها )) فجاء أنس -- رضي الله عنه -- بالحكم واضحا بينا حفظ فيه الناسخ والمنسوخ ، ومثل هذه الأحاديث قوية الاعتبار، أن يأتي الحكم فيها واضحا بينا .
كذلك أيضا أن روايات حديث الحجامة وأنها لا تؤثر جاءت من رواية أصاغر الصحابة ، فإن رواية ابن عباس من رواية أنس وعند العلماء من القرائن على التأخر في الحكم أن يأتي الناسخ من رواية صغار الصحابة ؛ لأنهم في الغالب أن يكون الحديث من آخر الأمرين من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وعلى هذا فإنها لا تفطر على أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور -رحمهم الله-.(4/214)
قال رحمه الله : [ وإن فعله ناسيا أو مكرها لم يفسد صومه ] : وإن فعل هذه الأشياء ناسيا لصومه فأكل أو شرب أو مكرها أُكْره على الأكل والشرب فإنّه لا يفسد صومه قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )) فدلّ على أن النسيان مؤثر وأنه يوجب ارتفاع المؤاخذة وصحة العبادة وأن ذلك لا يقدح في صيام الإنسان إذا أكل أو شرب أو استعط ناسيا أنّه صائم لكنه عند تذكّره يجب عليه أن يمسك وهكذا لو أكره ؛ لأن الله تعالى يقول : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فدلّت هذه الآية الكريمة على أن الإكراه موجب لإسقاط المؤاخذة في أعظم ذنب وهو الكفر والردّة فَلَأَنْ يسقط ما عداها وما دونها من باب أولى وأحرى ، ولذلك ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيره أن العلماء رحمهم الله جعلوا هذه الآية أصلاً في إسقاط المؤاخذة عن المكره ؛ لأنه إذا سقطت الردّة فغيرها من باب أولى وأحرى .
قال رحمه الله : [ وإن طار إلى حلقه ذباب ] : وإن طار إلى حلقه ذباب : هذا بالغلبة لأنّه في حكم المكره ، ولا يوجب هذا فساد صومه ؛ فدليله أنه في حكم المكره ، طار ودخل في حلقه لأن التكليف شرطه الإمكان وهذا ليس بإمكانه أن يمنعه ، ولكن لو كان بإمكانه أن يمنع فإنه يؤاخذ .
قال رحمه الله : [ أو غبار ] : أو غبار وهكذا إذا هبت الريح وأغبرت الأرض ودخل الغبار في حلقه لم يؤثر، وهكذا في السفر في حال الصوم .
وفرّق العلماء في هذا بين ما يقصد وما لا يقصد ، وهو مأثور حتى عن بعض أئمة السلف -رحمهم الله- فإذا طار الغبار إلى حلقه بغير اختياره فإنه لا يؤثر ولا يوجب فساد صومه .(4/215)
قال رحمه الله : [ أو تمضمض ] : أو تمضمض واستنشق فدخل الماء إلى جوفه اختار بعض مشايخنا -رحمهم الله- في المضمضة والاستنشاق أنه لا يأتي إلا بتقصير، ولذلك أكدت السنة هذا المعنى بقوله : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) ولا يأتي المؤثّر إلا بتعاطي المكلف ولذلك قال : (( بالغ في الاستنشاق )) فالذي يؤثّر في الصوم في حال الاستنشاق إنما هو المبالغة، والمبالغة لا تكون إلا من المكلف فهي إلى القصد أقرب ، وهكذا قالوا إنه لو تمضمض فدخل في حلقه أوجب الفطر.
وعند المصنف وطائفة من العلماء فرقوا بين أن يغرغر ويتقصد ذلك وبين كونه يتمضمض فيدخل إلى حلقه ، وقد أجاب من ذكرنا من العلماء بأن من تمضمض مثل الذي يغرغر ؛ لأنه إذا قصر ألزم بعاقبة تقصيره ، هذا مبني على حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ، وهو أصل تقدم في الطهارة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما رأى الصحابة أعقابهم تلوح قال : (( ويل للأعقاب من النار )) فلا يشك أحد أن الصحابة لم يتركوا هذا الموضع من الغسل قصدا ومع ذلك أوخذوا وعذبوا فقال: (( ويل للأعقاب من النار )) قالوا : لمكان التقصير، فالتقصير في التروكات وفي الأوامر شأنه واحد ومن يفرق بين التروكات وبين الأوامر يسلك هذا المسلك ، ويختاره بعض العلماء وهو الذي درج عليه المصنف -رحمه الله- .
قال رحمه الله : [ أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء ] : لظاهر حديث لقيط بن صبرة -- رضي الله عنه -- عند الترمذي بسند صحيح .
قال رحمه الله : [ أو فكر فأنزل ] : أو فكر فأنزل هناك فرق بين أن يدمن التفكير ويسترسل فيه أو يكرر النظر ويسترسل فيه وبين أن ينظر مرة ثم تهوج شهوته وبين أن يفكر مرة وتهوج شهوته هذا قالوا إنه يغتفر ولا يوجب الفطر .
والصحيح أنه إذا تعاطى ما يوجب الفطر فكرا ونظرا أوجب عليه الفطر؛ لأنه من باب الحكم الوضعي بغض النظر عن كونه قاصدا أو غير قاصد .(4/216)
قال رحمه الله : [ أو قطر في إحليله ] : إحليله مجرى البول من الذكر، وكانوا ولازالوا إلى الآن يقطرون ، وتوجد في عمليات جراحية لتنظيفه أو وضع زَرْق المواد لعلاج الأنثيين والخصية فمن العلماء من يقول إن الإحليل ليس منفذا إلى الجوف ولذلك أرشح البول من الحالب إلى الأنثيين ثم بعد ذلك يبول فيرون أنه لا يوجب الفطر ؛ لأنه ليس بمنفذ ، وهذا هو الذي اختاره المصنف -رحمه الله- .
قال رحمه الله : [ أو احتلم ] : أو احتلم لو أنه نام فاحتلم فإنه لا يوجب الفطر ؛ لأن خروج المني بقصد كما في الاستمناء ليس كخروجه بدون قصد كما في الاحتلام ، فلا يوجب هذا مؤاخذته لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم النائم حتى يستيقظ )) فلو نام واحتلم فإنه لا يؤثر في صومه .
قال رحمه الله : [ أو ذرعه القيء لم يفسد صومه ] : أو ذرعه القيء لم يفسد صومه لحديث أبي هريرة المتقدم . ذرعه : غلبه . رأى شيئا كريها فاستفرغ ما في بطنه . سمع شيئا كريها فاستفرغ ما في بطنه ، ضربه أحد على بطنه فاستفرغ ، سقط واستفرغ ، كل هذه ذرعه فيها القيء أو كان جالسا فغلبه القيء وذرعه فإنه لا يؤثر في صومه مادام أنه قد لفظ ما قاء أما لو رده فإنه يؤثر .(4/217)
قال رحمه الله : [ ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر ] : ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا : من شَكّ في طلوع الفجر فقد أجمع العلماء على أنه يجوز له أن يأكل ويشرب ؛ لأن الأصل بقاء الليل واليقين لا يزال بالشك ، فلو أنه استيقظ في جوف الليل وليس عنده ساعة وليس عنده أحد يسأله وليس الموضع أو في غيم لا يستطيع أن ينظر إلى السماء فيتبين هل طلع الفجر أو لم يطلع ؟ فالأصل أنه يجوز له أن يأكل، فإذا أكل والحال ما ذكر إما أن ينام ثم يستيقظ بعد ذلك ولا يدري هل كان استيقاظه في حال إذن أو حال حرمة ؟ فصومه صحيح وجها واحدا ، من أكل في جوف الليل ولم يدر هل أكله الذي وقع في الليل موافق فلا يؤثر الصوم أو غير موافق فيؤثر في صومه فصومه صحيح ؛ لأن الأصل بقاء الليل ، وليس هناك دليل يدل على فطره ووجوب مؤاخذته ، فذمته بريئة ، وأما إذا أكل أو شرب ثم تبين له أن الصبح قد طلع فحينئذ يجب عليه القضاء وهذا بينا غير مرة أنه مبني على التفريط والقاعدة أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه يعني الذي بان خطؤه وتوضيح ذلك أن الله - عز وجل - بين على لسان رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- أن هذه الحقوق من الفرائض والأركان أشبه بالدين كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث المرأة لما سألته عن فريضة الله - عز وجل - في الحج : (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم قال : فدين الله أحق أن يقضى )) فإذا خوطب المكلف بالعبادة صياما كان أو غيره فقد تعلق ذمته بهذا الحق ، فينبغي أن يؤديه كاملا ، فإذا ظن الكمال وتبين أنه لم يكمله وجب عليه أن يقضي ،كما لو أعطى قال له : شخص أعطني ديني قال أعطيتك ظانا أنه سدده ثم تبين أنه لم يسدده فبالإجماع يجب عليه أن يؤدي ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( دين الله أحق أن يقضى )) فالله - عز وجل - فرض على المسلم أن يمسك من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، وهذا هو الصيام المعتبر قالوا لا يخل أحد(4/218)
بصومه إلا بتفريط يعني أنه لو أكل شاكا في طلوع الفجر ثم تبين له خطؤه غالبا أنه مفرط ، ولذلك تجده لو أنه خاف شيئا ولو قيل له الموت لو أكلت عند طلوع الفجر لاستطاع أن يتبين هل الفجر طلع أو لا ؟ غالبا ما يقع الناس في هذه بنوع من التساهل والتفريط ، ولذلك تجد الواحد منهم بمجرد ما يستيقظ يذهب إلى طعامه وشرابه مباشرة مع أن بعضهم قد يتيسر له أن يسأل ويتحرى مع أن الذي يتيسر له السؤال والتحري يحرم عليه أن يأكل ويشرب ؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك ، وعلى هذا فلو تبين له أنه أخطأ فإنه يجب عليه أن يتم صومه بمعنى أن يصوم صوما تاما كاملا فيقضي ذلك اليوم هذا راجع إلى الحكم الوضعي .
الحكم الوضعي يستوي فيه الخطأ وغير الخطأ ، فالشخص الذي أخطأ وظن أن الفجر لم يطلع فأكل فإنه يجب عليه الضمان بغض النظر عن كونه قاصدا أو غير قاصد ، فهو غير آثم لوجود الشك ويجب عليه الضمان لتبين الحق أنه يجب عليه أن يصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا لم يصم كما أمره الله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فيجب عليه القضاء .
قال رحمه الله : [ ومن أكل شاكا في غروب الشمس فسد صومه ] : ومن أكل شاكا في غروب الشمس سواء تبين له الصواب أو الخطأ ؛ لأن الأصل بقاء النهار، فإذا شك هل غابت الشمس أو لم تغب فالأصل أنه في النهار، فإذا أكل أو شرب ولم يتبين له أنه أصاب أو أخطأ قلنا يجب عليك أن تعيد هذا اليوم ؛ لأنك لم تأكل في الوقت الذي يجوز لك الأكل فيه والأصل فيك أنك صائم حتى تتبين بيقين أو غلبة ظن غروب الشمس ولا يقين ولا غالب ظن؛ فإذا الأصل أنك آكل في وقت الصوم فيجب عليك القضاء هذا إذا شك .(4/219)
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب صيام التطوع ] : صيام التطوع : التطوع تفعل من الطاعة ، وقد تقدم معنا في صلاة التطوع، فبعد أن بين أحكام صيام الفرض شرع في صيام التطوع وهو الذي ندب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إليه وثبتت السنة بفضيلته .
وصيام التطوع من فضائله : عِظَم الثواب والأجر وحصول المغفرة ، وكونه تكمل به الفريضة ؛ لأن صيام النافلة يكمل صيام الفريضة عند النقص ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يقول الله تعالى - في الصلاة إذا كانت ناقصة- : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - ثم تكمل به الفريضة ثم سائر عمله على ذلك )) بمعنى سائر الأعمال كالصلاة فالزكاة والصوم والحج إذا سار فيه نقص في الفرض كمل بالنافلة والتطوع ، فيكمل به نقصه هذا الكمال من فضائل صيام التطوع مع ما فيه من الأجر والمغفرة ، ففي صيام مثلا العاشوراء يكفر الله به السنة الماضية ، وفي صيام عرفة يكفر الله به السنة الماضية والباقية ، وهذا كله يدل على فضل صيام التطوع .
قال رحمه الله : [ أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ] : هذا هو الحديث الصحيح المرفوع عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص قال له: ((صم يوما وأفطر يوما . قال : إني أطيق أفضل من ذلك قال: لا أفضل من ذلك )) . وفي بعض الروايات : (( وهو صيام أخي داود )) ، وأفضل الصيام صوم يوم وإفطار يوم ، ولا يجوز أن يصوم الدهر سردا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا صام من صام الأبد )) فلا يجوز للمسلم أن يسرد الصيام فيصوم الدهر، وإنما يصوم يوما ويفطر يوما ، وهو الحد المعتبر، وأفضل ما يكون عليه صوم النافلة .(4/220)
قال رحمه الله : [ وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم ] : ثم يلي ذلك بعد صيام يوم وإفطار يوم أن يصوم الشهور المفضلة كشهر الله المحرم ، بعد أن بين فضيلة الصيام في السنة كلها للأيام شرع في فضيلتها في الشهور، فأفضل الشهور في الصيام بعد رمضان مِنْ فرض الله -- عز وجل -- هو صوم شهر الله المحرم ، فهو أول السنة أجمع العلماء على أنه أفضل؛ لنص النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على ذلك فقال : (( أفضل الصيام صوم شهر الله المحرم )) .
يجوز له أن يصوم المحرم كاملا ويجوز له أن يصوم منه يوما ويفطر يوما ، ويجوز أن يصوم بعضه، وأفضل ما فيه يوم عاشوراء لثبوت السنة فيه، وأفضل ما يكون أن يصوم يوما قبله مع عاشوراء هذا بالنسبة للأفضل في المحرم ، وأما ما يفعله بعض المتأخرين من الإنكار على من يصوم شهر المحرم كاملا فهذا أمر باطل؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رغب في صيامه ، فمن صامه كاملا لا ينكر عليه بل يؤجر وتشحذ همته على ذلك ولا يثرب عليه فهو مأجور غير مأزور .
قال رحمه الله : [ وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة ] : هذا من فقه المصنف -رحمه الله- وورعه جاء بالحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر من ذي الحجة )) وهذا إشارة إلى جواز صيام العشر من ذي الحجة لغير المحرم ماعدا يوم النحر وهو اليوم العاشر .
[ ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله ] : هذا عام شامل للصوم وغيره ، فلو صام تسعة الأيام غير الحاج شرع له ذلك ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يفرق بين الصوم وغيره ، ولو صام وهو حاج الثمانية الأيام أو السبعة الأيام ثم أفطر يوم عرفة ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأفطر يوم النحر لنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن صوم يوم النحر .(4/221)
قال رحمه الله : [ ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله ] : فمن صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كمن صام الدهر هذا هو حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأجمع العلماء على ثبوت هذا الخبر عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أن صيام الست من شوال مرغب فيه خلافا لمن كرهه من بعض السلف واختلف في سبب الكراهة فجمهور العلماء على أنه يشرع أن يصوم ستا من شوال ويستوي أن يكون متفرقة أو تكون متتابعة .(4/222)
وكره بعض السلف صيام ست من شوال قيل: مطلقا وقيل: كره شيئا معينا وهو ما يفعله البعض بمجرد أن ينتهي يوم العيد يصوم اليوم الثاني والثالث والرابع حتى أصبح ذلك ديدن بعض الناس فخشي الإمام مالك رحمه الله أن تصبح سنة، وأن يصبح اعتقاد أنه لابد من وصل الست برمضان فحملوا كراهية الإمام مالك على هذا المعنى؛ لأنه كان شديدا في البدع رحمه الله شأنه شأن أئمة السلف فخشي أن يأتي على الناس زمان يعتقدون هذا الشيء وحينئذ يصلون برمضان ما ليس منه وأيا ما كان فالسنة ثابتة مشروعية صيام ست من شوال وقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من صام رمضان )) خرج مخرج الغالب يستوي أن يصومه كله أو يكون عليه قضاء ؛ لأن الله تعالى بين أن من عليه قضاء من رمضان فصام من غير رمضان كان كمن صام رمضان لقوله : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وتوضيح ذلك أننا لو جمدنا على ظاهر الحديث لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من صام رمضان )) أنه لا يصح أن يصوم الست إلا إذا كان صام رمضان فإنه لا تستطيع امرأة حائض ذلك أبدا لأن كل امرأة حائض تحيض في رمضان قطعا وحينئذ لا تستطيع أن تصوم رمضان كاملا ففهمنا من هذا أنه خرج مخرج الغالب، وإذا خرج مخرج الغالب فكل من عليه قضاء أصبح عليه عدة من أيام أخر فإذا صام العدة من أيام أخر في صفر أو رجب أو شعبان فإنه يصدق عليه أنه قد صام رمضان وصام ما يقوم مقام رمضان بالبدل ويتفرع على هذا جواز صيام الست من شوال قبل القضاء ؛ لأن القضاء ينقسم في الشريعة إلى قسمين : القسم الأول: أن يكون مضيقا ، وهو أن تضيق الأيام على المكلف فيجب عليه أن يبادر في العبادة الواجبة ولا يجوز له أن يتنفل وفي ذمته واجب .(4/223)
أما إذا كانت العبادة موسعة ووقتها موسعا فيه فإنه يجوز له أن يتنفل ولا بأس ولا حرج عليه في ذلك . وتوضيح ذلك لو أن رجلا استيقظ قبل نهاية وقت الظهر بقدر ما يتوضأ ويصلي الظهر نقول له: لا يجوز لك أن تتنفل ولا أن تصلي الراتبة القبلية بل يجب عليك أن تبدأ مباشرة بعد طهارتك بالصلاة ؛ لأن هذا الوقت متعين لفعل الصلاة ، وحينئذ لا يجوز له أن يشتغل بالنافلة على وجه يضيع به الفريضة ؛ لأن الوقت ضيق للفريضة ، لكن إذا كان الشرع قد جعل الوقت موسعا جاز له أن يتنفل وفي ذمته الفريضة ألا ترى أنه يؤذن عليه أذان الظهر فيصلي راتبة الظهر وهو لم يصل الفرض بعد ، ويتنفل قبل صلاة الظهر وهو لم يصل الفريضة بعد مع أنه مخاطب بفعل الفريضة ، لكن خوطب بها في وقت واسع وعلى هذا فمن أفطر من رمضان فإن الله وسع عليه فقال : { فعدة من أيام أخر } عدة من أيام أخر ما حددها بأيام معينة من شهر معين ، وجاءت السنة تؤكد ذلك بقول أم المؤمنين -رضي الله عنها- : (( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان )) فدل على أن القضاء موسع وإذا ثبت أنه موسع جاز له أن يتنفل قبل أن يقضي رمضان ؛ لأن حاصل الأمر أن يصوم أيام رمضان من رمضان أو قضاء ثم يصوم الست حتى يصبح المجموع ستا وثلاثين يوما ؛ لأن رمضان لا ينقص كما ثبت في الصحيح عن قوله عليه الصلاة والسلام : (( شهرا عيد لا ينقصان )) فإذا صام تسعا وعشرين كان كمن صام ثلاثين وقد بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذه العلة فقال : (( والحسنة بعشر أمثالها )) فثلاثون يوما بثلاثمائة وست من شوال بستين فيصبح ذلك بمجموع أيام السنة . بيّن في هذا الموضع أن من النوافل صيام ست من شوال فيحرص المسلم على أن يصوم ستاّ من شوال بعد صيامه لرمضان.(4/224)
قال رحمه الله : [ وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة ] : كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويوم العاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم صامه عليه الصلاة والسلام حينما قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فسألهم عن ذلك فقال : هذا يوم نجى الله فيه موسى فنحن نصومه فقال عليه الصلاة والسلام نحن أولى بموسى منكم ، فصامه عليه الصلاة والسلام وأمر الصحابة بصيامه ثم فرض على الصحابة صيام عاشوراء ثم نسخ ذلك برمضان وبقيت الفضيلة لصيام عاشوراء ثابتة حتى كان آخر حياته عليه الصلاة والسلام في آخر سنة من عمره الشريف عليه الصلاة والسلام قال : (( لئن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع )) فدل على أن الأفضل أن يضيف إليه يوماً وهو اليوم التاسع، ومن يقول إنه لا يصوم إلا التاسع وحده فهذا ضعيف مخالف لقول جماهير السلف والأئمة ، حيث قالوا إن الصوم المراد به يوم عاشوراء قصدا ، وقوله عليه الصلاة والسلام : (( لأصومنّ التاسع )) سكت فيه عن العاشر لم أقل لا أصوم العاشر ولم يقل لأصومن التاسع وأترك العاشر إنما قال لأصومن التاسع وسكت عن العاشر للعلم باستقراره والمداومة عليه والثابت ثابت حتى يأتي الدليل على نقله ، ولم يأت من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دليل يدل على إلغاء صيام عاشوراء ، فبعض المتأخرين يقولون لا يصام العاشر؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لأصومنّ التاسع)) ولم يقل لأصومن التاسع والعاشر حتى إن بعضهم يبدع من يصوم التاسع والعاشر وهذا مخالف للسنة فالسنة أثبتت صيام عاشوراء والنصوص في هذا واضحة وصحيحة وزاد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- التاسع مبالغة في المخالفة ؛ لأن اليهود يقتصرون على العاشر، فأضاف التاسع والعاشر قطعا للمشابهة وقصدا للمخالفة ، وبهذا يكون الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر على ظاهر الحديث .(4/225)
قال المصنف رحمه الله : [ وصيام يوم عرفة كفارة سنتين ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال ذلك كما في الحديث الصحيح عنه (( يكفر السنة الماضية والباقية )) قال في عاشوراء : (( أحتسب عند الله أن يكفر سنة )) فهذا يدل على فضل هذين اليومين ، ويوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية فهو كفارة لسنتين ؛ إلا أنه لغير الحاج يصومه غير الحاج ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حج فلم يصمه ، وكان بعض الصحابة يرى صيام عرفة ولو كان للحاج ؛ كما أثر عن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- فيما رواه الإمام مالك في موطئه أنها كانت تصوم يوم عرفة حتى إذا ابيضت الأرض بينها وبين الحاج دعت بفطورها فأفطرت .
والصحيح ما ذكرناه على ظاهر السنة : أن الأفضل للحاج أن يفطر يوم عرفة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أتي باللبن وهو واقف حينما اختلف الصحابة : هل هو صائم أو مفطر ؟ فشربه -عليه الصلاة والسلام- ؛ ولأنه إذا أفطر قوي على العبادة والوقوف والدعاء والتضرع والابتهال كما يقوى المجاهد على جهاده في سبيل الله فيكره له الصوم .فالمقصود من هذا أن صوم عرفة لغير الحاج .
قال رحمه الله : [ ولا يستحب لمن بعرفة أن يصومه ] : لظاهر السنة .
قال رحمه الله : [ ويستحب صيام أيام البيض ] : يستحب صيام أيام البيض وهي الأيام التي تبيضّ فيها السماء لاكتمال القمر وهي : اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر؛ لثبوت حديث الترمذي عن أبي ذر -- رضي الله عنه -- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سماها .
هذه الثلاثة الأيام -الأيام البيض- وذكر بعض الحكماء والأطباء أن الدم يهوج فيها أكثر من بداية الشهر ونهاية الشهر، فإذا صام الإنسان اعتدلت نفسه واستجمت ، ولذلك يجد الناس من الأرق في ليالي البيض ما لا يجدونه في غيره وهذا معروف ، فقالوا : إن الصيام فيه هذه النكتة كما أشار إلى ذلك الحكيم الترمذي -رحمه الله- في كتابه المنهيات .(4/226)
وصيام ثلاثة الأيام من شهر قيل المراد بها الأيام البيض، وقيل إن الثلاثة الأيام من كل شهر كما في حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --في الصحيح : (( أوصاني خليلي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- )) إما أن تكون في أول الشهر، وإما أن تكون في وسطه ، وإما أن تكون في آخره . فأول الشهر وآخر الشهر هي ليالي السَّرار، وهي التي يستسر فيها الهلال فلا يرى ، وهذه يفضل صومها كما في حديث السنن عنه -عليه الصلاة والسلام- : أصمت من سرر هذا الشهر؟ فقالوا من فاتته الأيام البيض يصوم أيام السِّرار، وإن شاء بادر فصام الثلاثة الأيام من بداية الشهر .
قال رحمه الله : [ والاثنين والخميس ] : ويصوم الاثنين والخميس ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( تعرض الأعمال على الله في كل يوم الاثنين والخميس وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم )) وقال عن يوم الاثنين : (( ذاك يوم ولدت فيه فأحب أن أصومه )) فهذا يدل على مشروعية صيام يوم الاثنين والخميس .
قال رحمه الله : [ والصائم المتطوع أمير نفسه ] : بعد أن بيّن الأيام التي تصام شرع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بصوم التطوع ، منها : أن الصائم المتطوع أمير نفسه ، وهذا مما يختلف فيه الفريضة عن النافلة ، يختلفان في مسائل ، منها : مسألة النية ، ومنها مسألة قطع الصوم ، فالفريضة لا خيار فيها للمكلف ، ويجب عليه أن يتم الصوم ، وأما صوم النافلة فالمتطوع أمير نفسه ؛ فقد جاءت بذلك السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا اللفظ .(4/227)
وكذلك أيضا دل حديث أم المؤمنين عائشة لما قال عليه الصلاة والسلام : (( هل عندكم شيء ؟ قالت : لا . قال : إني إذاً صائم )) على أن صوم النافلة موسع فيه ، ويجوز للمتطوع في الصوم أن يفطر أثناء اليوم ، فلو أنه أصبح صائماً ثم دعاه أخوه إلى طعام ورأى أن جبر خاطر أخيه أفضل أو فيه صلة رحم كالقريب أو دُعِي إلى وليمة ويحصّل فيها الخير بجبر خاطر صاحبها فنوى في قرارة قلبه أنه متم لهذا الصوم لولا هذا العذر جمع الله له بين الأجرين .
والأصل أن المسلم ينبغي له أن يحافظ على طاعته نافلة كانت أو فريضة ؛ لأن الله تعالى يقول : { ولا تبطلوا أعمالكم } فكل عمل يتقرب به إلى الله -- عز وجل -- يحرص الإنسان على تمامه وكماله، ومن حب الله للعبد توفيقه إلى التمام والكمال .
فالأصل أن يحرص على تمام النوافل والفرائض ، لكن هذه توسعة في السنة أنه أمير نفسه أي له أن يتم وله أن يقطع والأفضل أن لا يقطع ؛ إلا إذا كان هناك ما هو آكد ، فلو أمره أبوه كان بر الوالدين أعظم قربة لله -- عز وجل -- من إتمامه لصوم النافلة فيبرّ ، وهكذا لو كان فيه صلة رحم أو إحسان أو نحو ذلك من الأمور المفضلة .
قال رحمه الله : [ إن شاء صام وإن شاء أفطر ولا قضاء عليه ] : ولا قضاء عليه إذا أفطر على أصح قولي العلماء -رحمهم الله- ؛ لأن الصحيح أن الشروع في النوافل لا يصيّرها فرائض على جهة الإطلاق إلا فيما استثناه الشرع كما في الحج والعمرة فيجب عليه الإتمام ، فالأصل يقتضي أنه مخير .
قال رحمه الله : [ وكذلك سائر التطوع ] : وكذلك سائر التطوع : لو أنه أراد أن ينفق مالا فأخذ الخمسين ريالا يريد أن يتصدق بها ، ثم عَنّ له أن يرجع ولا يعطيها صدقة احتاج إليها أو رأى شيئا آكد من الصدقة فله ذلك له أن يرجع عن صدقته مادام أنه لم يعطها بعد .(4/228)
فالمتطوع أمير نفسه هذا لفظ عام ، له الحق أن يرجع عن ذلك ، ولو أنه أراد أن يخرج لشهود خير وبر تطوعا وليس بواجب عليه ثم عنّ له في الطريق أن يرجع حل له ذلك ؛ لأنه ليس بمتعين ولا يمكن أن تنزل النافلة منزلة الفريضة ؛ لأن هذا غلو في العبادة ، أن يجعل النوافل غير الواجبة منزلة منزلة الفرائض ، فنوجب على الناس ما لم يوجبه الله -- عز وجل -- عليهم ؛ (( قال : يا رسول الله ، هل علي غيرها ؟ -في الصلاة المفروضة- قال : لا . إلا أن تطوع )) فهو متطوع ابتداء وانتهاء .
قال رحمه الله : [ إلا الحج والعمرة فإنه يجب إتمامهما ] : إلا الحج والعمرةفإنه يجب إتمامهما ؛ لقوله تعالى : {وأتموا الحج والعمرة لله } وهاتان العبادتان : الحج والعمرة سواء كانت في حج فريضة أو عمرة فريضة أو حج نافلة أو عمرة نافلة مادام أنه أحرم فيجب عليه إتمام النسك إلا أن يخرج بأن يكون مُحْصَرا فيخرج على وجه شرعي معتبر كما في المحصر .(4/229)
الأصل يقتضي عليه أن يتم ؛ لأن الله تعالى قال : { وأتموا الحج والعمرة لله } حتى ولو أفسد عمرته فجامع زوجته في العمرة قبل أن يطوف ؛ فإنه يتم هذه العمرة الفاسدة ، ثم بعد ذلك يقضي؛ وذلك لقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وقد قضى عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- بذلك وعبدالله بن عمرو بن العاص وعائشة -رضي الله عنها- وطائفة من الصحابة -رضي الله عنهم- في مسألة من أفسد حجه بجماع أوجبوا عليه أن يتم الحج الفاسد ، ولو أنه أحرم بالحج ولم يتمكن من أداء الحج في وقته ؛ فإنه لا يفسخ الإحرام ، وإنما يتم النسك الأصغر إذا تعذر عليه النسك الأكبر ؛ ولذلك لما جاء هبّار إلى عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- صبيحة يوم النحر وهو بمزدلفة وكان يظن أن الشهر كامل قال له : ابقَ كما أنت ثم ائت البيت وطف وتحلل بعمرة ، ثم إذا كان من عام قابل فحج واهدِ . فأمره أن يخرج بالنسك الأصغر من النسك الأكبر وهو الحج بنسكه الأصغر وهو العمرة ؛ لأن الله جعل الحج أكبر وأصغر؛ كما قال تعالى : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } فالشاهد من هذا أن نسك الحج والعمرة أمرهما عظيم ، حتى قال بعض العلماء : إنهما العبادة التي أجمع العلماء -رحمهم الله- على وجوب إتمامها ولو كانت نافلة أو فاسدة .
قال رحمه الله : [ وقضاء ما فسد منهما ] : وقضاء ما فسد منهما أي يجب عليه قضاء الفاسد بأن يأتي بعمرة وحج إذا أفسد عمرته وحجه .(4/230)
قال رحمه الله : [ ونهى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- عن صوم يومين : يوم الفطر ويوم الأضحى ] : هذا ثابت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن صوم يوم النحر ويوم الفطر؛ لأنهما يوما عيد الإسلام والمسلمين ، وهما يوم فرحة فلا يجوز أن يصوم فيهما ، وإذا كان عليه صيام شهرين متتابعين فصام شعبان ثم صام رمضان ؛ فإنه يفطر يوم العيد للعذر الشرعي، ثم يتم بقية العدد حتى يستكمل الصوم الواجب عليه ، وعلى هذا فإن يوم العيد يجب عليه الفطر فيه حتى ولو كان في صيام الواجب كصيام الكفارة .
قال رحمه الله : [ ونهى عن صيام أيام التشريق إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي ] : ونهى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- عن صيام أيام التشريق : سميت بذلك ؛ لأن الحجاج يشرّقون فيها اللحم ، ويقددونه ويعرضونه للشمس ، وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة فهي يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، الحادي عشر يسمى يوم القر، والثاني عشر يسمى يوم النفر الأول، والثالث عشر يسمى يوم النفر الثاني ، فهذه الثلاثة الأيام اختلف العلماء -رحمهم الله- في صومها على قولين مشهورين : واختار المصنف -رحمه الله- تحريم صومها للحاج وغيره ، واختار جمع من العلماء تخصيص التحريم للحاج وحده ، وفيها حديث يدل على العموم لكنه ضعيف الإسناد: أنه لا يجوز صومها سواء كان حاجا أو غيره لكن سنده لم يصح ؛ والدليل على منع صيامه على الحاج قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( أيام منى أيام أكل وشرب وبعال وذكر لله -- عز وجل -- )) والأيام الثلاثة كاملة سواء تعجّل أو تأخّر .(4/231)
قال رحمه الله : [ إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي ] : إذا كان متمتعا ولم يجد الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام قبل يوم عرفة ، يحرم في اليوم الخامس فيصوم السادس والسابع والثامن، أو يحرم اليوم الرابع فيصوم الخامس والسادس والسابع، أو يحرم اليوم الثالث فيصوم الرابع والخامس والسادس.
يصوم قبل يوم عرفة فإذا لم يتيسر أن يصومها وهو على هذه الحال شرع له أن يصوم الثلاثة الأيام من أيام التشريق لوجود العذر ؛ لأن الله فرضها عليه في الحج ، وتعذر عليه قبل أيام التشريق فيصومها أيام التشريق .
قال رحمه الله : [ وليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان ] : وليلة القدر هذه الليلة من ليالي السنة ؛ سميت بهذا الاسم إما من القَدْر وهو الشرف والمكانة ، تقول: فلان له قدْر إذا كان عالي المنزلة، شريفا في نسبه ، سميت بذلك لعظم منزلتها وقدرها عند الله -- عز وجل -- ، وقيل من القدْر وهو التضييق ؛ لأن الأرض تمتلئ من الملائكة كما قال تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها } حتى تضيق فلا يعلم جند ربك إلا هو -- سبحانه وتعالى -- والبيت المعمور يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا ، فقالوا إن من كثرة نزول الملائكة تضيق الأرض ، وقيل القدْر من التقدير؛ لأن فيها المقادير تنسخ من عام إلى عام ، تنسخ من اللوح المحفوظ إلى صحف الملائكة ، وصحف الملائكة هي التي يقع فيها التغيير والتبديل، والله عنده أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ ، ويقع في صحيفة الملك التغيير والتبديل والنسخ ، وهذا النسخ يكون من كل عام من العام إلى العام في هذه الليلة ؛ كما قال تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر } فقوله سبحانه : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } قالوا هي يقع فيها الأوامر بمقادير الناس وأرزاقهم ، ومقادير الخلق وأرزاقهم ، وما يكون من شأنهم وأحوالهم .(4/232)
وأيا ما كان فهي أفضل الليالي ؛ لثبوت النصوص في الكتاب والسنة الدالة على فضلها .
فضلت هذه الليلة فقيامها إيمانا واحتسابا أفضل وخير عند الله من قيام ألف شهر ؛ ولذلك ندب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمته إلى طلبها ، والحرص على إحيائها ؛ حتى قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) .
وهذه الليلة اختلف في تعيينها فدلت النصوص عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنها في الوتر من العشر الأواخر .
وجماهير السلف والخلف على أنها في رمضان .
وهناك من العلماء من يقول إنها تنتقل في ليالي السنة .
والصحيح أنها في رمضان ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( تحرّوها فمن كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر )) وفي بعض الألفاظ : (( في الوتر من العشر الأواخر )) فكان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقوم العشر الأُوَل ، ثم انتقل إلى العشر الوسطى، ثم جاءه جبريل كما في الصحيحين وقال له : (( إن الذي تطلبه أمامك))، فاعتكف عليه الصلاة والسلام العشر الأواخر، فاستقر الأمر في الأخير على أنها في العشر الأواخر، ثم هي في الوتر من العشر الأواخر.(4/233)
واختلفت أقوال العلماء -رحمهم الله- في العشر الأواخر أي ليلة هي ، فقيل : ليالي الوتر إحدى وعشرون، وثلاث وعشرون، وخمس وعشرون، وسبع وعشرون، وتسع وعشرون، وقيل: إنها في الشفع من الوتر، في ليلة اثنين وعشرين، وأربع وعشرين، وست وعشرين، وثمان وعشرين، وليلة الثلاثين ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( تحروها فمن كان متحريها فليتحرها في الوتر من العشر الأواخر )) فهذا يدل على أنها إما ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاثة وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، ومن قال إنها تكون في الشفع فجاء اللفظ في الصحيح في : (( واحدة تبقى ، أو ثالثة تبقى ، أو خامسة تبقى ، أو سابعة تبقى )) فجعل الوتر فيما بقي . فالواحدة التي تبقى هي ليلة الثلاثين ، والثالثة التي تبقى هي ليلة ثماني وعشرين، والخامسة التي تبقى هي ليلة ست وعشرين، وقس على ذلك ، وكل هذه الليالي فيها أقوال للسلف -رحمهم الله- ، واستقر القول على ثلاث ليالي هي أقوى ما يرجى من ليالي القدر : إحدى وعشرون على حديث وقف المسجد وسجود النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على الماء والطين كما في حديث أبي سعيد في الصحيح ، وليلة خمس وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وثلاث وعشرين أيضا وخمس وعشرين وفيها حديث عبدالله بن أنيس ، وليلة سبع وعشرين وهي قول جمهور الصحابة -رضي الله عنهم- أنها في ليلة سبع وعشرين هي أرجى وأقوى ما يكون .(4/234)
وردّ الناس إلى ظاهر السنة من أمرهم بتحريها في الوتر والحرص على عدم تعيينها حتى لا يتّكل الناس على ليلة معينة موافق لمقصود الشرع ، ولذلك كان بعض مشايخنا -رحمهم الله- كثيرًا ما يضيق في الترجيح في هذه المسألة حتى يبقى الناس على مقصود الشرع ؛ لأن الله أخفى ليلة القدر في العشر الأواخر حتى يجتهد الناس فيها ، وأخفى اسمه الأعظم من بين أسمائه الحسنى -- سبحانه وتعالى -- حتى يُدعى بأسمائه ، وأخفى ساعة الجمعة في يوم الجمعة كلها حتى يحرص الناس على العمل الصالح في اليوم كله ويستغرقوه .
قال الإمام المصنف -رحمه الله- : [ باب الاعتكاف : وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ] : الاعتكاف أصله لزوم الشيء وحبس النفس عليه . قال تعالى حكاية عن نبيه الخليل -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } أي عليها عاكفون ، فاللام بمعنى على ؛ كقوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وكقوله تعالى : { ومن أساء فلها } أي فعليها .
فالاعتكاف بمعنى لزوم الشيء ، وعرّفه المصنف : بأنه لزوم المسجد لطاعة الله -- عز وجل -- ، فهو لزوم مخصوص من شخص مخصوص لمكان مخصوص بنية مخصوصة .
اللزوم المخصوص المراد به اللزوم لذكر الله -- عز وجل -- ، وطاعته بالصلاة ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ونحو ذلك من الأذكار .
لمكان مخصوص : وهو المسجد على تفصيل سيأتي : هل يختص بمسجد الجمعة وهذا إذا نوى العشر كاملة ؟ أو أنه يشمل مساجد الجمعة والجماعات ، ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد ، فلا يصح في المصلى ؛ لأن الله -تعالى- يقول : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فبين أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد .(4/235)
بنية مخصوصة : وهي نية التقرب إلى الله -- سبحانه وتعالى -- ، يستوي أن يكون الاعتكاف في رمضان أو في غير رمضان ، وجماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أن الاعتكاف في سائر السنة ، وأنه لا يحرم في غير رمضان .
وجاء بعض المتأخرين يبدّعون من اعتكف في غير رمضان ، وهذا القول بالتبديع لا يحفظ عن أحد من أهل العلم -رحمهم الله- من المتقدمين ؛ ولذلك قال تعالى : { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين } ولم يفرَّق بين زمان وآخر إلا أن العشر الأواخر والاعتكاف في رمضان آكد ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتكف فيه .
أما من اعتكف في غير رمضان ؛ فلا ينكر عليه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتكف في العشر الأخير من شوال؛ كما ثبت في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- في قصة أمهات المؤمنين حينما ضربن الأخبية ، ومن قال إن هذا قضاء لاعتكافه ؛ فقوله مردود ؛ لأن الأصل يدل على الجواز ، ومطلق النص يدل على أنه لا بأس بالاعتكاف ، وقد قال لعمر -- رضي الله عنه -- : (( أوفِ بنذرك )) ولم يقل له أوف بنذرك في رمضان حينما قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( أوف بنذرك )) ولم يقل له ليلة : أوفها في العشر الأواخر ولم يلزمه بها في ليلة معينة ؛ فدل على أن كل ليلة يصح أن تكون محلا للاعتكاف ، إلا أن الأفضل والأكمل في الاعتكاف وآكد ما يكون استحبابا إذا كان في العشر الأواخر، وعلى هذا فالاعتكاف لا يكون إلا بنية ، ومن هنا قالوا : لبث مخصوص من شخص مخصوص في مكان مخصوص بنية مخصوصة فأما الشخص المخصوص فهو المسلم فلا يصح الاعتكاف من كافر، العاقل فلا يصح الاعتكاف من مجنون، الذي لا يجب عليه الغسل هذه ثلاثة أمور لابد من توفرها في المعتكف : المسلم العاقل الذي ليس عليه غسل .(4/236)
وقولهم : الذي ليس عليه غسل أي ليس عليه جنابة ، وليس من النساء ممن عليهن حيض أو نفاس ؛ لأنه لا يجوز لهم المكث في المسجد ، وإذا ثبت هذا فخرج لزوم المسجد لغير هذه النية، كأن يلزمه لطلب العلم أو حضور حلقة قرآن لتعلم القرآن أو نحو ذلك فهذا ليس باعتكاف ؛ لأنه لم يقصد به الاعتكاف . فالسنة في الاعتكاف أن يكون في المساجد كما ذكرنا فقال المصنف رحمه الله في حقيقته .
قال رحمه الله : [ وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ] : وهو : أي الاعتكاف . لزوم المسجد لطاعة الله فيه : الأصل في مشروعيته دليل الكتاب كما في قوله تعالى : { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، بل جاء شرعنا بجواز ذلك وتأكيده ، وكذلك قال تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وأما السنة فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتكف واعتكف معه أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين- فدل على مشروعية الاعتكاف ، وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على مشروعية الاعتكاف وفضله واستحبابه .
قال رحمه الله : [ الاعتكاف : وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ] : لزوم المسجد : فدل على أن الاعتكاف لا يكون خارج المسجد ، ومن هنا من لم يلزم المسجد فليس بمعتكف ، كمن يدمن الخروج من المسجد ، أو خرج من دون حاجة هذا ليس بمعتكف .
لزوم المسجد لطاعة الله : فخرج لزوم المسجد لغرض آخر ، كأن يلزم المسجد لإصلاح المسجد أو نحو ذلك من أمور الدنيا .(4/237)
من أجل طاعة الله -- عز وجل -- : اللام لطاعة الله تعليلية أي من أجل طاعة الله -- عز وجل -- ، وهذا يدل على أنه ينبغي في المعتكف الصادق في اعتكافه أن يستغرق وقته في طاعة الله -- سبحانه وتعالى -- ومرضاته ، ومما يؤكد ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ضرب القبة ضربت له في المسجد كل ذلك لأجل أن ينقطع حتى عن الشواغل في نظره -عليه الصلاة والسلام- ويكون أكمل ما يكون في الإقبال على الله -- سبحانه وتعالى -- .
قال رحمه الله : [ وهو سنة لا يجب إلا بالنذر ] : لزوم المسجد : المسجد إذا كان مسجد جمعة وجماعة فلا إشكال ، وأما إذا كان مسجد جماعة لا جمعة كأن تُصلَّى فيه الفروض ولا يصلى فيه الجمعة ، فإن كان ناويا العشر الأواخر؛ فإنه يطلب مسجدا فيه الجمعة ؛ لأنه إذا اعتكف في هذا المسجد فستأتي الجمعة إما أن يتركها فلا يجوز له ذلك أن يترك الواجب وهو الجمعة والفريضة لمندوب ومستحب ، وإما أن يخرج لها ، وحينئذ يكون قد قطع اعتكافه ؛ لأن الاعتكاف هو اللزوم -وهو اللزوم للمسجد- فإذا خرج لم يلزمه ، وعليه فإنه إذا كان ناويا للعشر كاملة فإنه لا يكون إلا في مسجد تقام فيه الجمعة .
وأما الجماعة فعلى القول بوجوبها ؛ فإنه لا يعتكف إلا في مسجد فيه جماعة ، إلا إذا كان مريضا وأحب أن يكون في مسجد يعتكف فيه وهو معذور في الجماعة صح أن يعتكف في مسجد تصلى فيه بعض الفروض دون بعضها كما يقع في بعض المساجد يتوفر فيها العمال ونحوهم وتكون في مواضع يكون فيها عمار المسجد في الفروض وتغلق في بعض الفروض فله أن يعتكف فيها مادام أنه لم تلزمه الجماعة .(4/238)
قال رحمه الله : [ وهو سنة لا يجب إلا بالنذر ] : وهو أي الاعتكاف سنة هذا حكمه بعد أن بيّن حقيقته وهو لزوم المسجد لطاعة الله -- عز وجل -- فيه بيّن حكمه أنه سنة . سنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بقوله وفعله ، بفعله حينما اعتكف ، وأمر أصحابه أيضا أن يعتكفوا العشر الباقية ، وكذلك أيضا أمر عمر أن يفي باعتكافه ؛ فدل على أنه سنة . ثبتت السنة به قولا وفعلا من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ وهو سنة لا يجب إلا بالنذر ] : هذا المسنون ينتقل إلى الوجوب إذا كان نذرا فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر حينما قال : يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال عليه الصلاة والسلام : (( أوف بنذرك )) فدل على أن نذر الاعتكاف واجب ؛ لأنه نذر طاعة ، والنذر إذا كان في طاعة الله يجب الوفاء به ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( أوف بنذرك )) وقد دلت النصوص على وجوب الوفاء بنذر الطاعة .
قال رحمه الله : [ ويصح من المرأة في كل مسجد ] : ويصح من المرأة أن تعتكف ؛ لأن أمهات المؤمنين اعتكفن مع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في كل مسجد سواء في جمعة أو لا جمعة فيه ؛ لأنه لا تجب الجمعة على المرأة .(4/239)
قال رحمه الله : [ ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ] : لكن المرأة لا تعتكف إلا بإذن زوجها ، ويجوز للزوج أن يمنعها من الاعتكاف عند وجود السبب الذي يوجب ذلك؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه منع أمهات المؤمنين وأزواجه من الاعتكاف حينما غار بعضهن من بعض وضربن الأخبية ، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح : (( آلبر أردتنّ ؟ )) ثم أمر بنقض الأخبية ومنعهن من الاعتكاف ، فأخذ من هذا طائفة من العلماء أن للزوج أن يمنع زوجته ؛ ولأنه قد يمنعه ذلك من إصابتها وبخاصة إذا خاف على نفسه الحرام ، فتعتكف بإذن زوجها ، وقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه منع المرأة أن تصوم تطوّعا وزوجها شاهد إلا بإذنه، وتضرره بالاعتكاف النافلة أعظم من تضرره بالصوم ؛ لأنه أقل ما في الصوم أنها تصوم نهارا وتفطر ليلا ، فيمكنه أن يصيبها ليلا ومع ذلك لا تصوم إلا بإذنه ، وفي الاعتكاف تمتنع منه ليلا ونهارا ، وعلى هذا فإنه يشرع له أن يمنعها وتستأذنه في اعتكافها .
قال رحمه الله : [ ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ] : لما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل ] : هذا إذا كان قد نوى ما دون العشر أما إذا نوى العشر فلا إشكال .(4/240)
قال رحمه الله : [ ومن نذر الاعتكاف والصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره إلا المساجد الثلاثة ] : ومن نوى الاعتكاف في مسجد أو الصلاة في مسجد فله أن يصلي في غيره : الأصل يقتضي في النذر الوفاء ، فإذا عيّن مسجدا فإنه يصلي فيه ، ولا ينتقل إلى غيره إلا المساجد الثلاثة فإن بعضها أفضل من بعض ، ومن هنا إذا نوى أو نذر في المساجد الثلاثة قصد الفضيلة ؛ ذلك لأن المساجد الثلاثة : الأقصى بخمسمائة ، ومسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بألف صلاة ، والمسجد الحرام بمائة ألف ، فإذا ثبت هذا فإنه إذا نوى وعيّن هذه الثلاث دل على أنه قاصد هذه المضاعفة ، فإذا نوى أحدهم جاز له أن ينتقل إلى ما هو أعلى منه ؛ لأن المقصود موجود فيه ، وهذا أصل في الأيمان والنذر، وقد قدمنا في شرح كتاب الأيمان بيان ذلك ، وأن الشريعة تراعي مقصد المكلف في عقده ليمينه والنذر جارٍ مجرى اليمين ، فهو إذا نذر أن يعتكف في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام ؛ لأن قصده لمسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يكن إلا من أجل فضيلة المضاعفة فيه، ولذلك يجوز له أن ينتقل إلى المسجد الحرام ، ولا ينتقل إلى المسجد الأقصى ؛ لأنه دونه في الفضل ، والعكس يجوز له أن ينتقل إلى مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إذا نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى ؛ لأن فضيلته تندرج تحتها فضيلة الأقصى، هذا أصل عند طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- لثبوت السنة بالتفضيل بين هذه المساجد الثلاثة .
قال رحمه الله : [ ومن نذر الاعتكاف والصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره إلا المساجد الثلاثة ] : هذا إذا عين الأصل يقتضي أنه يصلي فيما عينه ، ولكن في المساجد الثلاثة لما ذكرنا لوجود قصد القربة بالمضاعفة ، فإذا حصّل المضاعفة فيما هو أكبر أغنى عن الأصغر .
قال رحمه الله : [ فإذا نذر في المسجد الحرام لزمه ] : لزمه ولم ينتقل إلى ما دونه .(4/241)
قال رحمه الله : [ وإن نذر في مسجد المدينة فله فعله في المسجد الحرام ] : مسجد المدينة هو هذا الاسم أن تقال : المدينة . أما المدينة النبوية ، المدينة المنورة، اسمها في كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- المدينة ولذلك ينبغي الحرص على هذا أن تقال لها : المدينة . البعض يقول : ما نقول المنورة، نقول النبوية ، طيب النبوة نور ! { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } ذهب طائفة من المفسرين إلى أن النور هو النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما قال تعالى : { وسراجا منيرا } وصفه الله بأنه سراج منير يعني إذا قال : النبوية معناه أنه قال النور. لا فرق بين المنورة والنبوية . اسمها في الكتاب والسنة : المدينة يقال : مسجد المدينة ، وهذا هو الذي ينبغي الحرص عليه .
فالشاهد أنه إذا نوى مسجد المدينة إذا أطلق مسجد المدينة المراد به مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو أفضلها أفضل المساجد فيها وفي غيرها إلا المسجد الحرام .
قال رحمه الله : [ وإن نذر في المسجد الأقصى فله فعله فيهما ] : فيهما يعني في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وفي المسجد الحرام له أن يفعل نذره فيهما .(4/242)
قال رحمه الله : [ ويستحب للمعتكف الاشتغال بفعل القُرَب ] : الاعتكاف عبادة قصد بها التقرب لله -- عز وجل -- ، وأعظم الناس في اعتكافه وأصدقهم قربة لله -- عز وجل -- وحبا له سبحانه أعرفهم بحقوق هذه العبادة ، وأحرصهم على القيام بهذه الحقوق ، ولذلك إذا قام المسلم بحقوق الاعتكاف وجد بركته وخيره وحسن عاقبته ، وكان أرجى الناس أن يخرج من معتكفه بأفضل الثواب وأعظم الجزاء من الله -- سبحانه وتعالى -- ، فعلى هذا فينبغي للمعتكف إذا أراد أن يعتكف أن يفرغ قلبه من شواغل الدنيا ومشاغلها ، وأن يعلم أن المساجد بيوت الله ، عمرت لذكر الله -- عز وجل -- ، وأنها ما جعلت للقيل والقال ، ولا لعمارة الأوقات بفضول الكلام ، ولا باللهو ، ولا بالضحك ، ولا بالنكت ، ولا بإضاعة الأوقات في مثل هذه الترهات ، إنما بنيت لذكر الله -- عز وجل -- ، وبخاصة إذا كان معه المعتكفون ، فالواجب عليه أن يهيئ له من نفسه ما يعينهم على طاعة ربهم ، فلا ينشغل بالأحاديث مع أصحابه ، ولا يؤذيهم بأقواله وأفعاله ، وبخاصة أثناء راحتهم التي يتقوون به على الاعتكاف .(4/243)
الاعتكاف عبادة عظيمة ، وكان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هديه في الاعتكاف أكمل الهدي وأتم الهدي -صلوات الله و سلامه عليه- فخرج إلى معتكفه فهيّأ جميع الأسباب لكي يتفرغ لعبادة ربه -- سبحانه وتعالى -- ، حتى كما ذكرنا ضربت له القبة حتى لا يشغله أحد في ذكره لله -- سبحانه وتعالى -- . قال بعض العلماء : إذا كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يدخل قبته ويتفرغ للعبادة مع أنه أكمل الخلق خشوعا -صلوات الله وسلامه عليه- وأكملهم خوفا من الله -- عز وجل -- وكمالا في العبادة ومع ذلك أخذ بالأسباب التي تعين على تفرغ القلب لذكر الله ، فأين غيره ؟! من باب أولى وأحرى ، ولذلك لما غير الناس هذه السنة ، وأصبح الاعتكاف للمباهاة ، وأصبح الاعتكاف للقيل والقال ، تجد الرجل يدخل معتكفه ويخرج من معتكفه -نسأل الله السلامة والعافية- وحاله لم يتغير ، بل إن منهم من يدخل إلى معتكفه بحال أفضل من حاله حينما يخرج -نسأل الله السلامة والعافية- ، فهو يدخل يريد ذكر الله ومحبة الله ومرضاة الله ثم يُبتلى بمضيع للأوقات من أهل الترهات والقيل والقال ولربما من أهل الغيبة والنميمة فينقل إليه قيل فلان وعلان فيأنس به ، ثم يتخذه صاحبا معه من أجل أن يضيع عليه -والعياذ بالله- عبادته .(4/244)
الاعتكاف الحق أن يفرغ النفس ظاهرا وباطنا لذكر الله -- عز وجل -- ، وهو مدرسة ، ولذلك من الناس من دخل الاعتكاف فخرج منه بختم القرآن كل ثلاثة ليال ، ومنهم من خرج من الاعتكاف بالبكاء عند سماع القرآن وبالخشوع عند تلاوته ، ومنهم من خرج من الاعتكاف بالجد والصبر على الطاعة ، فهو إذا طال قيامه في قيام الليل ألف ذلك في بقية ليالي العام ، ومنهم من شعر بلذة الخشوع والخضوع بين يدي الله ، فلا يزال يجد لذة ذلك بقية عامه ، ومن عام إلى عام يدخل هذه المدرسة خلال هذه الأيام والليالي المباركة لكي يزداد من إيمانه ويقوى في طاعته لربه ، ويتعرف على الله -- عز وجل -- ، فطيلة أيام السنة وليالي السنة وهو في غفلة الدنيا وملهياتها وشواغلها إذا به يعرض عن ذلك كله ويقبل على الله -- عز وجل -- في هذه الأيام لا يعرف قريبا، ولا بعيدا، لا صديقا ولا حميما ، فلا يعرف إلا ذكر الله ، خاشعا متخشعا ، متذللا لربه متضرعا ، قد استنفذ وقته لطاعة الله -- عز وجل -- حتى عظمت تجارته ، وربحت تجارته بذكر الله -- سبحانه وتعالى -- والإنابة إليه -جل وعلا -، وهكذا عرف كثير من العباد سبيل العبادة في هذه الليالي الطيبة ، وفي هذه العبادات الجليلة الكريمة حينما طبقوها على وجهها ، فما يحصل الآن من بعض الناس من التساهل في حقوق الاعتكاف يضيّع عليهم كثيراً من الخير -نسأل الله السلامة والعافية- ، والمحروم من حرم ، فعلى كل مسلم أن يستشعر أهمية الاعتكاف، وأن يقرأ عن آداب الاعتكاف قبل أن يعتكف ، وأن يعرف حقوق المعتكفين وما ينبغي له تجاه إخوانه حتى يؤدي ذلك على الوجه الذي يرضي ربه .(4/245)
قال رحمه الله : [ واجتناب ما لا يعنيه من قول وفعل ] : واجتناب ما لا يعنيه من القيل والقال، بعض الناس يدخل المعتكف مخلصا لله -- عز وجل -- يتمنى أنه لا تراه عين ولا تسمع به أذن ، إن من الناس من يعتكف ولا يعلم أحد على وجه الأرض أنه اعتكف ، ومن الناس من يعتكف الليالي العديدة ويؤدي حق هذه العبادة ولا يشعر أحد به ، حتى إن من معه ما يظنه إلا داخلا خارجا ما يظنه إلا رجل ممن يعتاد هذا المسجد ، بخلاف ما يفعله البعض فتجده يتحدث باعتكافه قبل أن يعتكف ، ومنهم من يتحدث باعتكافه بعد أن يعتكف ، ومنهم -والعياذ بالله- من يدخله الغرور، ومنهم من يدخله الرياء والسمعة ، فالحذر من هذه الآفات ، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وكثير من الخلف فاته كثير من فضل السلف بسبب ضياع الحقوق في العبادات ، كان السلف الصالح يذكرون فضائل في العبادات لكنهم قاموا بحقوقها وأدوها على وجهها ، فإذا قرأ الخلف ذلك لم يجدوها ؛ لأنهم لم يحصلوا ما حصله السلف من الرعاية للحرمة والرعاية للأدب الكامل والإخلاص لله -- عز وجل -- والتلذذ بمناجاته ، بلغ بالمعتكف الصادق في اعتكافه أن أضيق ساعة عنده أن يأتيه شخص يشغله عن ذكر الله -- عز وجل -- ، تضيق عليه الدنيا وليس معنى ذلك أنه حرام عليه أن يجلس مع غيره فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جلس مع أم المؤمنين وقلب سودة إلى بيتها -رضي الله عنها وأرضاها- من داخل المسجد ، لكن المراد عدم المبالغة وعدم الإسراف والتساهل في مثل هذه المباحات التي يفرّط الناس فيها في كثير من الخير .(4/246)
قال رحمه الله : [ ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه إلا أن يشترط ] : ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لابد منه وهو حاجة الإنسان كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان لا يدخل بيته وهو معتكف إلا لحاجة الإنسان من قضاء البول والغائط ونحو ذلك مما يضطر إليه الإنسان ، فلا يخرج من مسجد إلا من حاجة ، فإن خرج من غير حاجة بطل اعتكافه ، وعليه أن يستأنف الاعتكاف ؛ لأن الاعتكاف هو لزوم المسجد ، فلو خرج من غير حاجة بطل اعتكافه .
قال رحمه الله : [ إلا أن يشترط ] : إلا أن يشترط : الاشتراط في الاعتكاف قال به بعض العلماء قياسا على الاشتراط في الحج ، وهو من رد المختلف فيه إلى المختلف فيه ، مع أن الاشتراط في الحج مجاله ضيق وقد فصلنا في كتاب المناسك أن حديث ضباعة -رضي الله عنها وأرضاها- في الاشتراط أعدل الأقوال فيه الوسط وهو مذهب الشافعية ورواية عن أحمد واختيار طائفة من السلف أن من دخل في نسك الحج مريضا فقد تكلف هذه العبادة كما دخلت ضباعة فجعل لها الشرع من السعة ما لم يجعل لغيرها ؛ لأنها تكلفت ذلك وتكلفت المشقة ، فجعل لها السعة أن تشترط ، وأما التوسع في الاشتراط للمعذور وغير المعذور فهو خلاف ما دلت عليه السنة في ظاهرها ، وهكذا قياس عبادة على عبادة في الاشتراط فالأمر في هذا ضيق .
قال رحمه الله : [ ولا يباشر امرأته ] : ولا يباشر امرأته ؛ لقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمعتكف أن يباشر امرأته ، فيحظر عليه المباشرة بجميع صورها ؛ لأن الاعتكاف لزوم الطاعة ، والمباشرة تخالف ذلك .(4/247)
قال رحمه الله : [ وإن سأل عن المريض وغيره في طريقه ولم يعرج إليه جاز ] : إذا خرج لحاجته وهو في البيت عنده مريض أو أحد قرابته مريض فسأل عنه ولم يعرج عليه ولو كان مريض في البيت لم يعرج عليه يعني لم يمل إليه أو كان مثلا بينه وبين بيته بالمسجد بيت لمريض فهو مار سأل ولده على الباب :كيف أبوك؟ وكيف فلان؟ قد جاء عن أم المؤمنين -رضي الله عنها- وصح عنها ذلك أنها كانت تفعل ذلك ولا تعرج على المريض .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح ، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم موجبا لرضوانه العظيم .
باب الاعتكاف
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستنّ بسنّته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فإن الاعتكاف عبادة عظيمة ، وقربة جليلة كريمة ، سنّها الله وشرعها لهذه الأمة ، رفعة للدرجات ، وسببا في بلوغ الخيرات ، في الحياة وبعد الممات .
هذه العبادة العظيمة جاءت سنن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في هديه الصحيح ، ببيان جملة من مسائلها وأحكامها ، واعتنى علماء الإسلام من المحدثين والفقهاء ، ببيان هذه السنة الواردة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - ، وتفصيل أحكامها ومسائلها .
ولا شكّ أن دراسة باب ا لاعتكاف أمر مهمّ جدًّا لطلاب العلم وللناس كافّة ، أما بالنسبة لطالب العلم فإنه يكون على بصيرة من هدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وسنته، ويمكنه عن طريق ضبط هذه المسائل والأحكام أن يبين للناس ، وأن يدعوهم إلى الخير، ويكون على بصيرة ، وطاعة لله-- جل جلاله - - وله في ذلك الأجر العظيم ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئا )) .(4/248)
فهذا خير كبير، وفضل عظيم جليل، ينتظر طلاب العلم وينتظر كل موفق مسدد علم فعمل ، ودعا إلى ما علم وعمل به .
وأما بالنسبة لعناية الناس بمعرفة أحكام الاعتكاف ؛ فإنه يجب على كلّ مسلم يريد أن يعتكف أن يسأل عن أحكام الاعتكاف ، وعما يجب عليه ، وعما يحرم على المعتكف أن يفعله أو يقوله أو يتلبس به حتى يعبد الله على بصيرة .
وأجمع العلماء - رحمهم الله - على أن المسلم إذا أراد أن يعمل العبادة ، أو يقوم بالمعاملة ،كالبيع والشراء أن الواجب عليه سؤال أهل العلم ، وهذا من طلب العلم الخاص ، الذي يكون فرضا على بعض الناس دون بعض، وعلى كل حال فالخير كل الخير في العلم بما شرع الله في كتابه ، وسنة رسوله- - صلى الله عليه وسلم - - ، ولو لم يكن في ذلك فضل وشرف إلا اتّباع سنّة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - الذي هو سبيل الهداية والخير لكل مسلم - جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل – لكفى .
وانطلاقا من هذا اخترنا كتاب عمدة الفقه - لبيان هذا الباب ، وهذه العبادة الجليلة - للإمام الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي - رحمه الله برحمته الواسعة - ، وسنقرأ - إن شاء الله - هذه الليلة ما تيسر من أحكام الاعتكاف .
قال المصنف –رحمه الله- : [ باب الاعتكاف ] :
الشرح :
قوله رحمه الله : [ باب الاعتكاف ] : الاعتكاف في لغة العرب : لزوم الشيء ، يقال : عكف على الشيء يَعْكِف عُكوفاً إذا لزمه وصاحبه ؛ سواء كان ذلك الشيء خيرا ، كما قال تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }أوكان شرا ،كما قال تعالى : {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } ، وأثر عن علي - - رضي الله عنه - - أنه مرّ على قوم يلعبون الشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟! تبكيتا وكراهية لما يصنعون .(4/249)
فالعكوف أصله : الملازمة للشيء ، والمكث عنده ، والإقامة ، ومنه يقال : عكف في المسجد إذا لزمه ، ولزم الجلوس فيه .
يقول المصنف - رحمه الله – [ باب الاعتكاف ] : الاعتكاف مشروع بكتاب الله ، وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - ، وإجماع المسلمين .
أما كتاب الله ؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فنص - سبحانه وتعالى - على تحريم مباشرة النساء على المعتكف ، فدل على أن الاعتكاف مشروع ، ومن موانعه : مباشرة النساء. كذلك قال تعالى : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين } فبين - سبحانه وتعالى - أن البيت وهو المسجد الحرام وهو أصل للمساجد كلها محل للاعتكاف ؛ فدل على أنه يشرع الاعتكاف .
وأما بالنسبة لدليل السنة عن رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - - فقد اجتمع دليل القول والفعل والتقرير، فإن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -- ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - - أنه اعتكف العشر الأول من شهر رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان ، فلما كان في آخر ليلة من العشر الوسطى نزل عليه جبريل - عليه السلام - بالوحي ، وقال له : (( إن الذي تطلبه أمامك أي إن ليلة القدر في العشر التي أمامك وهي العشر الأواخر)) .
فكان عليه الصلاة والسلام معتكفا في قبة تركية ولها سدّة من حصير، فألقى الحصير على جانب القُبّة، نادى في أصحابه، فاقتربوا منه - عليه الصلاة والسلام - وقال : (( إني كنت قد اعتكفت هذه العشر، فمن كان قد اعتكف معي وأحب أن يعتكف فليعتكف فإنها في العشر الأواخر )) .
هذا الحديث يدل على مشروعيّة الاعتكاف ، وقد جاء في اللفظ الآخر : (( من أحب منكم أن يعتكف )) فدل على مشروعيته من السنة القولية .(4/250)
وقال لعمر - - رضي الله عنه - - كما في الصحيحين حينما سأله عن نذره في الجاهلية أنه - - رضي الله عنه - - نذر في الجاهلية أن يعتكف فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أوف بنذرك )) .
ومن المعلوم أنه لا يؤمر بالوفاء بنذر محرم ،كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصه فلا يعصه )) . فلما أمر عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - أن يفي بنذره دل على أن الاعتكاف مشروع .
وأما بالنسبة لدليل الفعل ؛ فقد صح عنه - عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : (( اعتكف رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - العشر الأواخر من رمضان )) ، وفي حديث ابن عمر : (( اعتكف رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - العشر الأواخر من رمضان )) وهو في الصحيحين ، ومثله حديث أنس - - رضي الله عنه -- في السنن ، فمن مجموع هذه الأحاديث نأخذ الدليل على مشروعية الاعتكاف بفعل رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - .(4/251)
وأما بالنسبة للسنة التقريرية ؛ فقد أقر الصحابة حينما اعتكفوا معه - بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه - ، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري المتقدم عنه - - رضي الله عنه - - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ندب الصحابة الذين اعتكفوا معه أن يعتكفوا العشر الأواخر ، وبين لهم أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فدل هذا حينما خاطبهم أن الاعتكاف لا يختص برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، وأنه للأمة وهذه سنة تقريرية منه - عليه الصلاة والسلام للصحابة أن يعتكفوا - فاجتمع دليل الكتاب ( والسنة : بجميع أنواعها : قولية ، وفعلية ، وتقريرية )، وقد أقر أمهات المؤمنين حينما اعتكفن معه ، ولكنه في المرة الأخيرة كره منهن التنافس على سبيل الغيرة ، ولم يمنعهن من الاعتكاف. وأجمع العلماء - رحمهم الله - على أن الاعتكاف مشروع ، وأنه قربة وطاعة لله - - عز وجل - - ، وأنه يتأكد استحبابه خاصة في العشر الأواخر من رمضان .
يقول المصنف - رحمه الله - : [ باب الاعتكاف ] : تقدم تعريف الاعتكاف لغة ، وأما في الاصطلاح فسيذكره المصنف - رحمه الله - ويبقى السؤال : إذا كان الاعتكاف مشروعا فما هي الحِكم التي يمكن أن تستفاد من شرعية هذه القربة والطاعة لله جل وعلا ؟
أعظم الفوائد والحِكم والنعم التي ينعم الله بها على العبد إذا اعتكف أن يتأسى برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، التأسي برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، والعمل بسنته ، ومتابعته - عليه صلوات الله وسلامه إلى يوم الدين - هذا من أعظم النعم وأجلها على العباد ، بل هو الطريق إلى الهداية ؛كما قال تعالى : {واتبعوه لعلكم تهتدون} ، فمن اعتكف تأسيا برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -كان من المهتدين ، وأصاب من الهداية ورحمة الله - - عز وجل - - على قدر اتباعه وائتسائه برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - .(4/252)
من فوائد الاعتكاف وحِكمه العظيمة : تفرغ القلب لله ، واستجماع الفؤاد في طاعة الله- - عز وجل - - ، فالعبد طيلة العام مشغول بفتن الدنيا ، مشغول بملهياتها ومغرياتها ، تتكابده هذه الهموم ، تنتزعه هذه الفتن والمحن حتى يقسو بها قلبه ، ويغفل بها عن ربه ، فيصبح مشتت الهم ، مبدد الفكر ، ولربما أصابه من وراء ذلك ما يصيبه من ضعف الدين ، وضعف التمسك بالطاعة ، والبعد عن المعصية ، فإذا بها تأتي أيام الاعتكاف ولياليه مدرسة إيمانية تفرغ القلوب لله ، وتستجمع الفؤاد في طاعة الله - - عز وجل - - ، ومن انصرف قلبه عن الله شتّت الله قلبه ، وفرّق أمره ، فلا يبالي به في أي أودية الدنيا هلك ، يعيش ولي الله المؤمن ساعات الاعتكاف ، ولحظات الاعتكاف في نشوة إيمانية ، وساعات روحانيّة ، مليئة بذكر الله - - سبحانه وتعالى - -وشكره والإنابة إليه .
ثلاثمائة وخمسون يوما وهو في غفلة عن ربه من فتن الدنيا ، فتأتي هذه الليالي المباركات ، والأيام الطيبات ، لكي تقربه إلى الله ، وتحببه في طاعة الله ، وتعرفه بفضل الباقيات الصالحات ، وما لها من أثر على نفوس المؤمنين والمؤمنات ، فيطمئن قلبه ، وينشرح صدره ، ويتجه إلى الله بكليته ، فمن الناس من يخرج من الاعتكاف صالح السريرة صالح السيرة ، فيستقيم على طاعة ربه إلى لقاء الله - - جل جلاله - - .
ومن الناس من هو دون ذلك ، والمحروم من حرم ، فمن مستقلّ ومستكثر، فمن حكم هذه العبادة وفوائدها الجليلة : أنها تربي النفوس على طاعة الله - - عز وجل - - ، ويشعر العبد بقيمة الانحباس، في مرضات ملك الجِنة والناس، جعلنا الله وإياكم من المنتفعين بطاعته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .(4/253)
[ وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ] : يقول المصنف - رحمه الله – [ وهو ] : أي الاعتكاف [ لزوم المسجد ] : يقال : لزم الشيء يلزمه لزوما إذا صاحبه ولم يفارقه ، ومنه سميت ملازمة الغريم لغريمه أي المديون فإنه لا يفارقه ؛ طلبا لحقه ، وأصل اللّزام : المصاحبة وعدم افتراق الشيء عن الشيء ؛ ومنه قوله تعالى:{فقد كذبتم فسوف يكون لزاما } أي عذابا يلازمكم فلا يفارقكم ، وهو أحد القولين في تفسير الآية ، هناك قول ثان عن ابن مسعود وأبي بن كعب - رضي الله عنهما - أن قوله: { فقد كذبتم فسوف يكون لزاما } المراد به الفصل ، وكانا - رضي الله عنهما - يفسران الآية بأنها يوم بدر، حيث فصل الله فيه بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال ، ولذلك سماه الله يوم الفرقان ، ومن هنا يكون اللزام من الأضداد ، وفي لغة العرب كلمات تستعمل بمعنيين متضادين تسمى الأضداد، كوراء أمامك و خلفك .
يقول المصنف - رحمه الله - : [ الاعتكاف وهو لزوم ] : عُبّر باللزوم وعُبر بالمجاورة وعُبّر بالإقامة وعُبّر باللبث، أربعة تعبيرات واردة عن السلف - رحمهم الله - ، وأيضا في الكتاب لها أصل ، وعن أئمة العلم - رحمهم الله برحمته الواسعة - .
فأما التعبير بالإقامة ؛ فقد قال تعالى : { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والقائمين والركع السجود} وقال في الآية الثانية : { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين } قال بعض العلماء : القرآن يفسر بعضه بعضا ، فقوله : { والقائمين} : المراد به المعتكفون ، فتكون الآية الثانية فسرت الآية الأولى، ومن هنا قالوا : إن الاعتكاف إقامة ؛ لأن المعتكف يقيم على طاعة الله ومرضاته .
وأيضا عبر بالمجاورة ، ومنه حديث عائشة - رضي الله عنها - في صحيح البخاري أنها قالت : (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصغي إلي رأسه فأرجّلُه وهو مجاورٌ في المسجد )) .(4/254)
فقولها - رضي الله عنها – (( وهو مجاور في المسجد )) يعني معتكف ، فيعبر عن الاعتكاف بالمجاورة ، ويعبر باللبث ؛ ولذلك عرفه الأئمة - ومنهم الإمام النووي رحمه الله - بقوله : (( هو اللبث في المسجد )) .
هذه التعبيرات تدور حول معان متقاربة ، فكل العلماء - رحمهم الله - متفقون على أن المعتكف يلزم المسجد ، ولا يخرج عن المسجد إلا من حاجة وضرورة ، ولما كان ملازما للمسجد ، قيل : إن اعتكافه هو لزوم المسجد، إذا كانت هذه هي الحقيقة فإن اللزوم يكون بالجسد ، فلا يخرج من المسجد ، فإذا خرج نظرنا فلو خرج كله لحاجة وضرورة فإنه معذور، وإن خرج لغير حاجة خرج عن كونه معتكفا .
ومن هنا أجمع العلماء على أنه لو اعتكف شخص في المسجد ، ثم خرج منه من دون وجود حاجة أنه قد بطل اعتكافه ولو خرج للحظة واحدة ، مادام أنه خرج وانفصل عن المسجد بدون عذر فقد خرج عن كونه معتكفا، ولابد له إذا أراد أن يعود إلى الاعتكاف من أن يجدد النية ، وهذا طبعا راجع إلى الجسد كله ، فإذا خرج البعض كيده ورأسه ورجله فليس بخروج ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أخرج رأسه من المسجد ولم يعتبر ذلك مخالفا للزوم أي للزوم الجسد كله ، ومن هنا قال العلماء - رحمهم الله - : إن الجزء لا يأخذ حكم الكل في مسائل ، ومنها هذه المسألة ، وإلا قد يأخذ حكم الكل كما لو قال : يدك طالق ، فإنه يأخذ حكم قوله : أنت طالق ، على كل حال الشاهد معنا أن اللزوم المراد به المجاورة للمسجد وعدم الخروج منه .
يقول رحمه الله : [ وهو لزوم المسجد ٍ] : المحل الذي يلازمه الإنسان ولا يفارقه هو موضع الاعتكاف ، والمسجد: اسم مكان مَفْعِل ،كالمَجْلِس والمَوْقِد مكان الوقود ومكان الجلوس .(4/255)
المسجد إما أن يكون مسجد جمعة وجماعة ، وإما أن يكون مسجد جماعة لا جمعة ، فإن كان مسجد جمعة وجماعة يعني تصلى فيه الجمعة وتصلى فيه الفروض الخمس ؛ فإنه لا إشكال في جواز الاعتكاف فيه ، وأما إذا كان مسجد جماعة لا جمعة يعني يصلون فيه الفروض الخمسة ولكن لا يصلون فيه الجمعة فهذا فيه تفصيل بالنسبة للشخص الذي ينوي اعتكاف أيام معينة وليالي معينة ، ولا يدخل فيها يوم الجمعة ، فهذا أمره يسير يعتكف فيه ، وأما إذا كان قد نوى اعتكاف العشر كاملة أو نوى اعتكاف أيام فيها يوم الجمعة ، فاختلف العلماء فيه على وجهين :
منهم من يقول : إنه لا يعتكف في مثل هذا خاصة إذا كان الاعتكاف واجبا ؛ لأنه في هذه الحالة يجب عليه ملازمة المسجد ، وصلاة الجمعة فرض عليه ، فيؤدي هذا إلى التعارض ، فإما أن يفسد اعتكافه بالخروج ، وإما أن يعطل الجمعة ، ولا يجوز للمسلم أن يترك الجمعة من دون عذر.
ومن هنا شددوا في المسجد الذي تقام فيه الجماعة ولا تقام فيه الجمعة .
وهناك قول ثان : أنه يجوز للمسلم إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة أن يخرج للجمعة ؛ وذلك لأنه قد جلس في هذا المسجد لطاعة الله - - عز وجل - - ، وخرج لفرض لازم عليه وهو الجمعة ، فيكون ذلك جائزًا له ؛ لأن الله فرض عليه الخروج ، وهو في خروجه يتعبد ويتقرب لله - - عز وجل - -كما لو كان داخل المسجد، قالوا وإذا كان يخرج لحاجته من بول وغائط ، فمن باب أولى أن يخرج لفريضة الله - - عز وجل - - وخففوا في هذا .(4/256)
يقول المصنف : [ لزوم المسجد ] : مفهومه أنه لا يقع الاعتكاف في غير المسجد ، وبناء على ذلك فلو أن شخصا جلس في كهف ونوى الاعتكاف فإنه ليس باعتكاف شرعي ؛ لأن الاعتكاف مخصوص بالمسجد ؛ ولذلك قال تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }ثم المساجد التي هي محل للإعتكاف تتفاضل وتتفاوت ، فأفضل ما يكون الاعتكاف إذا كان في مساجد الأنبياء ، ثم يلي ذلك المساجد المفضلة ، والتفضيل له أصول في الشريعة ، فمن المساجد ما يكون فضله بقدم الزمان ، ومنها ما يكون فضله بكثرة العدد ، ومنها ما يكون فضله داخل الصلاة بالخشوع والتأثر بالإمام .
فأما بالنسبة لمساجد الأنبياء وهي المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ، و المسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ، فهذه مجمع من حيث الأصل على جواز الاعتكاف فيها إلا أن بعض العلماء من السلف وهو قول سعيد بن المسيب يخص الاعتكاف في مسجد المدينة ، ومنهم من يخص الاعتكاف بمسجد مكة ،كعطاء ، ومنهم من يخص بالمساجد الثلاثة كحذيفة بن اليمان ، ويروى أيضا عن مجاهد .
والصحيح مذهب الجمهور - رحمهم الله - أن الاعتكاف لا يختص بهذه المساجد الثلاثة ؛ وذلك أن الله تعالى يقول : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }فدل على أن المساجد محل للاعتكاف ، ولم يفرق الله بين مسجد وآخر، ووصف من كان معتكفا في المسجد أنه معتكف .
أما حديث (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) فهذا أولا أجيب عنه من ناحية السند ؛ لأنه تكلّم في سنده ، وعلى القول بتحسين سنده فإنه يحمل على الكمال : أي لا اعتكاف كامل ، وأعظم ثوابا من الاعتكاف في المساجد الثلاثة . وهذا صحيح فإن القاعدة في الشريعة : (( أن النفي المسلط على الحقائق الشرعية إذا عارض أصولا وأدلة وجب صرفه عن ظاهره إلى الكمال أو إلى المبالغة )) ؛ ولهذا نظائر منها :(4/257)
قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( لا ربا إلا في النسيئة )) فإن هذا يبيّن أن أشد ما يكون الربا في النسيئة ولا ينفي ربا الفضل الذي دلت عليه عشرات الأحاديث ، وأجمع عليه العلماء - رحمهم الله - إلا قولا شاذا بجواز ربا الفضل ، وكقوله – عليه الصلاة والسلام - : (( لا إيمان لمن لا أمانة له )) ونحوه من الأحاديث .
فعهدنا من الشريعة أنها تبالغ تعظيما للشيء ، ونظرنا في قوله : (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) ووجدنا في المساجد الثلاثة مزية لا توجد في غيرها ، ففهمنا أن المراد به التعظيم والتفضيل لهذه المساجد حتى يكون المسلم حريصا على الاعتكاف فيها ، مفضلا اعتكافه فيها على غيرها ، فوجدنا في مسجد الكعبة فضيلة لا توجد في غيره ، وهي فضيلة الطواف ، ووجدنا فيه فضيلة مضاعفة الصلاة بمائة ألف صلاة ، ولا توجد في غيره ، ووجدنا فيه قدم الموضع ، ووجدنا في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فضيلة المضاعفة بألف صلاة ، ووجدنا في المسجد الأقصى فضيلة المضاعفة إلى خمسمائة ، فلما وجدت فيها هذه الفضائل بنصوص الشريعة علمنا أن قوله : (( لا اعتكاف )) أي لا اعتكاف كامل ،كقوله : (( لا إيمان لمن لا أمانة له )) وكقوله : (( لا ربا إلا في النسيئة )) وكقوله : (( الحج عرفة )) كل ذلك يقصد به التعظيم ، وليس المراد به نفي ما عداه ، وهذا هو قول جماهير السلف والخلف - رحمهم الله - ثم إن حديث : (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) فيه قصة مشهورة : حاصلها أن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - وعن أبيه جاء إلى عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - ، وتعرفون عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - ومكانته في الفقه قد كان من أئمة الفتوى على زمان الصحابة - رضي الله عنهم - ، وقال عنه عمر - - رضي الله عنه - -: (( كُنَيْفٌ ملئ علما )) وقال عنه أيضا لأهل الكوفة : ( أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين ) إشارة إلى علمه وفضله(4/258)
.
هذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود قال له حذيفة : أعجبك من قوم اعتكفوا بين دارك ودار الأشعري ، فقال له عبد الله بن مسعود : وما يدريك فلعلهم أصابوا وأخطأت ، هذا المقطع طبعا موثق وثابت عنهما ، في قضية حذيفة حينما يقول له : قوم اعتكفوا بين دارك ودار الأشعري يعني في المسجد ، ولذلك جاءت في الرواية الأخرى وقد قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - : (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) وكان حذيفة يرى هذا ، فعبد الله رد ذلك ، وقال : وما يدريك فلعلهم أصابوا وأخطأت أي أن الحديث ليس على ظاهره بنفي صحة الاعتكاف ، وإنما هو على الكمال لا على نفي الصحة ، هذا يدلنا على مسائل تحتاج إلى نظر منها : أن الصحابة لم يتفقوا على دلالة هذا الحديث على إلغاء الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة ، ووجدنا أن من أنكر نفي الصحة أقوى ممن أثبته فقها وعلماً ؛ لأنه من أهل الفتوى من الصحابة – رضي الله عنهم- وهو عبدالله بن مسعود فيقدم قوله على قول غيره ، فيكون من حمل على نفي الكمال أقوى ممن حمل على نفي الصحة ، ومن هنا ترجح هذا القول مع أن الأصول الشرعية كما في عموم الكتاب تدل على رجحانه ، ومن هنا كان القول بالعموم وهو أنه يصح الاعتكاف في كل مسجد أولى بالاعتبار.
قال المصنف - رحمه الله – [ وهو لزوم المسجد ] فعمم رحمه الله ، وبهذا يتبين أن الاعتكاف لا يختص بالمساجد الثلاثة .(4/259)
قال [ المسجد ] : المسجد كما ذكرنا هو مكان العبادة ، وبيت العبادة المعروف ، لكن يدخل في هذا سقف المسجد ، وأيضا خلوات المسجد التي هي في أسفله كما في المسجد الحرام ، فمن صعد إلى سطح المسجد لم يؤثر ذلك في اعتكافه ، ومن نزل إلى الخلوات أو السراديب التي تحت المسجد لم يؤثر ذلك في اعتكافه ، واعتكافه صحيح ، بشرط أن يكون النزول والطلوع إلى سطح المسجد من داخل المسجد لا من خارجه ، فلو خرج من باب لكي يصعد إلى سطح المسجد فقد بطل اعتكافه ؛ لأن هذا الخروج ليس لحاجة ضرورية من أكل وشرب أو قضاء الحاجة من بول وغائط ونحو ذلك ، وبناء على ذلك لابد وأن يكون الصعود إلى السطح أو النزول إلى الخلوات من داخل المسجد لا من خارج المسجد ، وهذا نص عليه الأئمة - رحمهم الله - ، وأما منارة المسجد إذا كان المسجد يؤذن فيه المؤذن وأراد أن يعتكف فقالوا : إن المنارة إذا اتصلت بالمسجد وكان دخولها من المسجد كما هو موجود في كثير من المنارات في المساجد فإنه لا يؤثر ذلك في الاعتكاف .
بقي رحبة المسجد ، ورحبة المسجد هي ما يلتحق بالمسجد تنقسم إلى قسمين : القسم الأول أن تكون الرحبة مسورة ومحاطة بسور ولها أبواب ، فالقول الذي اختاره جمع من الأئمة - رحمهم الله - أنها في حكم المسجد ، لا تدخله الحائض ولا النفساء ولا يبطل خروج المعتكف إليه ، وهي في حكم المسجد ، ومن هنا قالوا إن من خرج إليه معتكفا لم يؤثر ذلك في اعتكافه .
وأما إذا كانت الرحبة غير محفوظة وسابلة ، والناس تقبل فيها وتدبر، فإنها لا تعدّ من المسجد ولا يصح الاعتكاف فيها . هذا القول المختار عند طائفة من المحققين من الأئمة - رحمهم الله – وقد أشار إلى هذين القولين الإمام الموفق –رحمه الله- في المغني ، وغيره من الأئمة .(4/260)
يقول رحمه الله [ لزوم المسجد لطاعة الله ] : أي من أجل طاعة الله وهذا أصل عند العلماء أن المقصود من الاعتكاف طاعة الله ، لكنه في رمضان يلزم المسجد طلبا للطاعة ورجاء لليلة القدر، كما ثبت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم -- ومن هنا تأكد استحباب الاعتكاف في العشر الأواخر أكثر من غيرها ، وأما فيما سواها ممكن أن يعتكف لذكر الله - - عز وجل - - أو ينذر أن يعتكف في المسجد يوما أو يومين من أجل أن يشكر الله على نعمة أو ذهاب نقمة فلا بأس بذلك ولا حرج ؛ لأن السنة في حديث عمر –- رضي الله عنه - - في نذر الاعتكاف أصل في جواز الاعتكاف عموماً، وأحاديث العشر أصل في أفضل الاعتكاف وآكده .
[ لطاعة الله ] : من لزم المسجد لطاعة الله يلزمه لطاعة واجبة أو لطاعة مستحبة ، وقد يكون اللزوم لمعصية أو لغير طاعة ومعصية ، فالأقسام ثلاثة : إما أن يلزمه لطاعة الله سواء الواجبة ، أو المستحبة ، أو يلزمه لمعصية ، أو يلزم المسجد لا طاعة ولا معصية ، فإن لزم المسجد لطاعة الله الواجبة والمستحبة فلا إشكال ، الواجبة ، مثل : أن ينوي الاعتكاف لصلاة الجمعة ، وقت صلاة الجمعة على القول بأن الاعتكاف لا حد له أقلي فيكون لزومه مشغولا بواجب وهو صلاة الجمعة ينتهي بانتهائه .
والطاعة المستحبة ، مثل : اعتكاف العشر الأواخر تأسياً .(4/261)
وإن لزم لمعصية - والعياذ بالله- فمثل من يعتكف من أجل أن يراه الناس معتكفا أو يعتكف من أجل أن يشهد له أنه من الصالحين ، أو يعتكف من أجل أن يغرر بطلاب العلم وبالأخيار أنه منهم فهذا - والعياذ بالله - من حصب جهنم ؛ لأنه لا يهلك العبد مثل الرياء وهو الشرك الأصغر {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } هؤلاء - نسأل الله السلامة والعافية - المراءون يوقفهم الله يوم القيامة ويقول لهم اذهبوا فخذوا أجركم ممن عملتم له - نسأل الله السلامة والعافية - ، فمن اعتكف وفي نيته نظر الناس أو ثناء الناس أو سماع الناس أنه معتكف في مكة ، أو من أجل أن جيرانه وأصحابه وقرناءه إذا جاءوا إلى منزله يسألون عنه علموا أنه في طاعة وقربة ، وقصد ذلك ولم يقصد وجه الله - - عز وجل - - فإنه - والعياذ بالله - في معصية الله - عز وجل - ، ويكون اللزوم لا طاعة ولا معصية مثل : - نسأل الله السلامة والعافية - اعتكاف الغفلة ، الشخص يدخل المسجد ومعه أصحابه وأحبابه ومعه رفقة إن ذهبوا إلى الخير فمعهم على الخير، وإن ذهبوا إلى الشر فإلى شر، فيدخل المسجد وليس في نيته أن يعتكف ولكن مجاملة لزيد أو عمرو ، وليس هناك نية للاعتكاف ، أو يعتكف من أجل أن يروح عن نفسه ، أو أنه إذا سافر مع الأصحاب والأحباب أنس بهم ، ومن هنا كان أمر النية أمرا شديدا على الصالحين والأخيار ، وقال سفيان - رحمه الله - : (( ما وجدت شيئا أشدّ عليّ من نيتي إنها تتقلّب عليّ ))، وكان السلف الصالح - رحمهم الله - يجاهدون ويجتهدون مع أنهم في الأعمال الصالحة والقربات الفاضلة كيف يخلصون لله - - عز وجل - - ، والعبد تجده يخاف خوفا شديدا من أن يُدْخَل من نيته ، فلربما جاء الشخص وحدث غيره أنه معتكف فدخله الغرور باعتكافه ، ولربما انصرف شيء من قلبه إلى غير الله - - عز وجل - - ، فالنية مهمة جدا وهي الأساس ، ومن هنا لابد من النظر إلى أن الاعتكاف لا يقصد به إلا طاعة(4/262)
الله - - جل جلاله - - ، وأن أساسه وروحه ولبه الذي لا يمكن أن يصح إلا به إرادة وجه الله - - عز وجل - - ، التوحيد والإخلاص لله - - سبحانه وتعالى - - ونفي الشرك من الرياء والدَّخَن ، وطلب المدح والثناء من الناس ، فما عند الناس ينفد وما عند الله باق ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يجتهد في هذا .
يقول رحمه الله : [ لزوم المسجد لطاعة الله ] : أي من أجل طاعة الله - - عز وجل - - .
[ وهو سنة ] : وهو أي الاعتكاف حكمه في الشريعة سنة ، المقطع الأول : تعريف ، والمقطع الثاني : حكم ، والأصل أن يقدم التعريف على الحكم ؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، ومن عادة العلماء أن يقدموا التعاريف على الأحكام ، فقدم رحمه الله تعريف الاعتكاف وبيان حقيقته الشرعية ، وأضاف بعض العلماء قيدا في هذا التعريف بقوله : بنية مخصوصة ، وهذا كما ذكرنا على الأصل ، وهذا القيد في الحقيقة معتبر وصحيح ؛ لأن قوله - رحمه الله - : [ الاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله فيه ]يصدق على الشخص وهو غير معتكف ، فإنه ربما جئت ودخلت المسجد ولزمت المسجد - مثلا - بعد صلاة الظهر صليت الظهر ونويت أن تجلس إلى العصر حتى تنال فضيلة المرابطين في قوله – عليه الصلاة والسلام-: (( فذلكم الرباط )) ولم تنو اعتكافا فقد لزمت المسجد لطاعة الله - - عز وجل - - لكنك غير معتكف ، فدخل في التعريف ما ليس منه ، ومن هنا قالوا : حتى يكون التعريف مانعا يقول : بنية مخصوصة ، فينوي أنه معتكف ، ولابد من وجود هذا القيد وأشار إلى هذا شيخ الإسلام - رحمه الله - في شرحه .(4/263)
[ وهو سنة ] : أي الاعتكاف ، أجمع العلماء على أنه سنة من سنن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، والدليل على سنيته ما تقدم معنا من حديث عائشة - رضي الله عنها - وأبي سعيد وعمر بن الخطاب وأنس - رضي الله عن الجميع - كلها تدل على مشروعية الاعتكاف ، والإجماع منعقد على أنه سنة ، لكن تتأكد هذه السنية في العشر الأواخر ، ولا تتقيد بالعشر الأواخر ، بمعنى أنه لا يحرم الاعتكاف في غير العشر الأواخر ، والدليل على ذلك ما صح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه اعتكف العشر من شوال ، وهذا يدل على أن العشر من شوال محل للاعتكاف ، فإن قال قائل : إنها بدل عن العشر الأواخر ، قلنا : إن صيام الأيام المعدودات بدل عن رمضان ومع ذلك يصح صيامها طاعة وقربة ، فدل على أن غير رمضان محل للاعتكاف ، وهذا قول جماهير السلف والخلف - رحمهم الله - أن الاعتكاف لا يختص برمضان ، ومن هنا يجوز للمسلم أن يعتكف في سائر أيام السنة ، ويؤكد هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - لعمر : (( أوف بنذرك )) فإن عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - قال : يا رسول الله ، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، ولم يسأله هل هي من رمضان أو غير رمضان ، والقاعدة في الأصول : أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، أي أوف بنذرك في رمضان أو غيره ، وهذا يدل على أنه لا يتقيد الاعتكاف برمضان ، وهو سنة مؤكدة إذا كان في العشر الأواخر طلبا لليلة القدر ، ويتأكد الاستحباب في ليالي الوتر على ظاهر السنة أنها أرجى لليلة القدر .(4/264)
وقوله - رحمه الله – : [ إلا أن يكون نذرا ] : فإذا كان نذرا يعني قال : لله علي أن أعتكف ثلاث ليال ، أو أعتكف عشرة أيام ، فإذا قال : عشرة أيام دخل الليل والنهار ، فيجب عليه أن يعتكف ليلها ونهارها ، وإذا قال : ثلاث ليال من أهل العلم من قال : يختص الاعتكاف بالليل فيدخل قبل غروب الشمس ويخرج بعد طلوع الشمس ، ثم يكون النهار مخيرا فيه ، وإذا نوى التتابع لزمه التتابع ، وإذا لم ينو التتابع صدقت عليها مفرقة كما تصدق عليها متتابعة .
الدليل على أن النذر يكون في الاعتكاف - طبعا - حديث عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - أنه سأل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وقال : إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ فقال له النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( أوف بنذرك )) فهذا يدل على أن النذر لازم ، وأن من نذر الاعتكاف وجب عليه الوفاء لقوله : (( أوف )) وأوف أمر ، والأمر للوجوب ، ومن هنا قالوا : يجب عليه أن يفي بنذرالاعتكاف إذا نذره .
[ ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ] : ويصح الاعتكاف من كل امرأة ، بهذه الجملة بدأ في بيان شروط صحة الاعتكاف، وشروط صحة الاعتكاف أولا : الإسلام ، فلا يصح الاعتكاف من كافر ؛ قال تعالى : {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } فأخبر أنه لا عمل ولا قربة ولا طاعة للكافر إلا بعد توحيده وإسلامه .(4/265)
ثانيا : العقل ، فلا يصح الاعتكاف من مجنون ، ولو أنه كان معتكفا فجن وكان جنونه يسيرا قال طائفة من العلماء : لا يسقط الاعتكاف ولا يجب عليه أن يجدد النية ، والأحوط القول الثاني : أنه يجدد احتياطا ، وفي حكم هذا لو سكر - والعياذ بالله - أو خُدِّر فغاب عقله ، أو أغمي عليه ، الإغماء مذهب طائفة من أهل العلم أنه لا يؤثر ما لم يكن متفاحشا ، ثالثا : الطهارة من الحدث الأكبر ، فلا يكون جنبا ، فإذا أجنب لا يصح أن ينوي الاعتكاف وهو جنب ، وإنما يكون بعد أن يتطهر ، فلو قال : لله علي أن أعتكف هذه الساعة وهو جنب ؛ لا يصح منه أن يفي بنذره وهو جنب، لابد أن يتطهر ثم يفي بنذره ويعتكف ، كذلك أيضا لا يصح من حائض ، فالمرأة إذا حاضت وهي معتكفة وجب عليها الخروج من المسجد قولا واحدا عند العلماء - رحمهم الله - ؛ لأن الحائض لا يجوز لها دخول المسجد ، وقد كانت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تمتنع من الدخول للمسجد ، بل كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يدني ويصغي إليها رأسه لأجل ألا تضطر إلى الدخول للمسجد ، وليس هناك مانع إلا الحيض فدل على أن الحائض لا يجوز لها أن تدخل المسجد ولا أن تعتكف حال حيضها ، رابعاً: النية : لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) فلا يصح الاعتكاف بدون نية ، فيقع قربة عامة ، لكنه لا يكون اعتكافا إلا إذا نوى أنه معتكف ، فإذا لم ينو وجلس في المسجد مدة ولزمه فإنه لا يحكم بكونه معتكفا لعدم النية، وهكذا إذا نذره وجلس مدة النذر في المسجد ولزمه دون النية في ابتدائه لم يصح اعتكافه ولم يجزه عن النذر.(4/266)
قال رحمه الله : [ يصح من كل امرأة ] : المرأة يشترط فيها شرط زائد وهو إذن الزوج ، يأذن لها زوجها إن كانت ذات زوج ، والأصل في هذا أن حق الزوج متعين عليها ، والاعتكاف ليس بواجب عليها ، والقول فيها كالقول في البر للوالدين فيمن تعين عليه ، وكذلك فصلوا في مسألة العبد مع سيده .
[ ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ] : ويصح من المرأة إذا كانت المرأة كبيرة لا إشكال ، وأما إذا كانت شابة فإنه ينظر في أمرها ، طبعا من حيث الأصل لا يفتى باعتكاف النساء في المسجد إلا عند أمن الفتنة ، فإذا كان اعتكافهن داخل المسجد فيه ضرر عليهن في أعراضهن ، أو يتعرضن في بعض المساجد - لا قدر الله – للفتنة فلا يجوز ؛ لأن الفتنة في بيوت الله أعظم من الفتنة في غيرها ، والذنب داخل المسجد أعظم من الذنب خارج المسجد ، ولذلك إذا كانت المرأة تفتن نفسها ويفتن بها غيرها ، ويغلب على ظنها أنها تفتن غيرها فإنها تلزم بيتها ، وصلاتها في بيتها ولزومها لبيتها خير لها وللناس ؛ كما قالت فاطمة - رضي الله عنها - : (( خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال )) ، إذا غلب على الظن أنها فتنة ، وأما إذا كانت صغيرة ، طبعا الصغير ذكرا كان أو أنثى ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : الصبي المميز الذي يميز الأمور ويعقل ويفهم ، وهو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، بعض العلماء يرى التمييز من سبع سنين ؛ لأنه هو الذي أُمر بالصلاة فيه ، فإذا كان الصبي الذي يأخذ معه من سبع سنوات فما بعد يصح اعتكافه في قول طائفة من العلماء - رحمهم الله - ، وهكذا الصبية إذا أخذتها أمها .(4/267)
القسم الثاني : الصبي غير المميز وهو الذي لا يفهم الخطاب ولا يحسن الجواب ، ومنهم من جعله دون السابعة ، وهكذا الصبية الأنثى ؛ فهذا القسم لا يصح اعتكافه . واصطحابه إلى المسجد من النساء والرجال فيه تفصيل : إن كان يؤذي ويضر بالمصلين فلا يجوز، وإلا فلا بأس لمصلحة تعويده على الخير . ولكن لا يصح اعتكافه وجهاً واحداً .
وبناء على ما تقدم فقول المصنف – رحمه الله - : [ ويصح من كل امرأة ] فيه منطوق ومفهوم ، فمنطوقه أن الاعتكاف يصح من كل امرأة سواء كانت ذات زوج أو لا زوج لها، ومفهومه أنه لا يصح من الصغيرة ، لكن الصغيرة فيها تفصيل : إن كانت مميزة كما تقدم صح اعتكافها كما تصح صلاته وحجها ، وإن كانت غير مميزة فلا يصح اعتكافها .
: [ ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ] : [ في كل مسجد غير مسجد بيتها ] : المرأة لها ثلاثة مساجد : المسجد الأول : مسجدها في مخدعها الخاص ، والمراد به مكان صلاتها داخل خبائها ؛ لأنها لا تجب عليها الجماعة . والمسجد الثاني : داخل البيت ، الذي ربما صلت فيه مع زوجها وأولادها، ، والمسجد الثالث مسجد الحي .
بالنسبة لمسجدها في مخدعها وهو مسجد السر الذي في نفس غرفتها الخاصة وخبائها فهذا أفضل ما تكون فيه صلاتها ، لما فيه من الإخلاص والبعد عن الرياء ، هذا معنى قوله : (( خير لها )) .
وصلاتها في مسجدها داخل البيت وهذا مسجد نسبي أفضل من صلاتها في مسجد الحي ، وصلاتها في مسجد الحي أفضل من صلاتها في المسجد الذي هو أبعد ، فكلما كان أقرب إلى الستر كان خيرا لها وأفضل ؛ لأنه أبعد عن الفتنة ، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، يصح منها إلا مسجد بيتها ، فاستثنى المصنف -رحمه الله - مسجد البيت لا تصح فيه ، وبناء على ذلك لو كان هناك مصلى ونوى أحد أن يعتكف فيه لا يصح .(4/268)
[ ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ] : هذا مبني على اشتراط الجماعة - وقد تقدم معنا دليل ذلك ، ومن قال به من أهل العلم - رحمهم الله - ، فالرجل مأمور بالجماعة فإذا كان مأمورا بالجماعة فإنه لا يصح منه أن يعتكف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ، وفيه شيء مرفوع إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - - اختلف في ثبوته ، والعمل عند طائفة من العلماء على ضعفه (( لا اعتكاف إلا في مسجد تصلى فيه الجماعة )) وعن عائشة وفيه ضعف لكن على كل حال من حيث النظر ما ذكرنا خاصة على المذهب الذي يرى وجوب الصلاة مع الجماعة وبينا دليل ذلك ووجهه ، فالرجل لو أنه اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة ومن أمثلة ذلك المسجد الذي تقام فيه الجماعة في بعض الفروض دون بعضها فمثلا بعض العمال ينزلون في موضع يصلون فيه فرضين أو ثلاثة فروض ثم ينصرفون ويبقى المسجد كما هو مبنيا وعامراً ولكن لا يأتي هؤلاء المصلون إلا في النهار، فيصلون فيه الظهر والعصر فقط ، لكن لو أنهم استقروا لصلوا جميع الفروض ، فلو مثلا حارس هذا المسجد سأل : هل يشرع له أن يعتكف في هذا المسجد ؟ الجواب : مسجد جماعة وهو في الأصل مهيأ للجماعة ، فمثل هذا استثناه بعض مشايخنا وهو قول دقيق جدا ، واستثناء جيد ؛ لأنه في هذه الحالة المسجد مسجد جماعة ، والتعطيل ليس منه ؛ لأنه أصلا لا يوجد إلا جماعته في مسجده ، وجاء هذا لعارض وهو فوات الناس في بقية الفروض فبقي حكم المسجد مستصحبا له في الفروض بالنسبة له في خاصته فيؤذن فيه ويصلي ويأخذ حكم المسجد ولو صلى فيه بقية الفروض وحده لما ذكرنا.(4/269)
[ واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل ] : لأنا قلنا المساجد مساجد جمعة وجماعة ، ومساجد جماعة لا جمعة ، فالمسجد الذي تقام فيه الجمعة وهو المسجد الجامع أفضل، والأصل أن الجمعة لا يجوز تكرارها في المدينة ، وهذا أصل عند أهل العلم ، ولذلك في سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - -كانت الجمعة لا تقام إلا في مسجده - عليه الصلاة والسلام - ، وفي عهد الخلفاء الراشدين كله لم تقم في قباء ، وكانت الجمعة خاصة في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم --، ولكن لما كثر الناس واحتيج إلى التعدد ؛ جاز التعدد لكن يجب أن يكون بالضرورة والحاجة ، وليس كل أهل حيّ يجدّدون حيا يمتنعون من الذهاب إلى الحي المجاور، وربما يكون ذلك عنادا ونوعا من التنافس فيحدثون جمعة عندهم ، فهذا شدد فيه الأئمة والسلف - رحمهم الله - ، بل قالوا إن الجمعة الثانية لا تصح إذا لم توجد حاجة لأن هذا المسجد الثاني أشبه بمسجد الضرار إذا قصد منه إقامة الجمعة ؛ لأن الأصل أن الجمعة لا تتعدد ، وقد تكلم على هذه المسألة الإمام ابن قدامة - رحمه الله - في المغني وتكلم عليها أيضا الإمام النووي وغيرهم - رحمة الله عليهم - بينوا أن تكرار الجمعة لا يكون إلا عند الضرورة والحاجة ، وأول تكرار وقع في عهد الرشيد - رحمه الله - وهذا يعني بعد عصر بني أمية وفي أوائل دولة بني العباس ، وأفتاه بذلك الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي يوسف لأنهم كانوا في شطري بغداد إذا أراد أن يعبر أهل الشطر الثاني سقطوا في النهر عند الازدحام ، فقتلت الأنفس وتعرضوا للضرورة ، فاحتاجوا أن يحدثوا جمعة ثانية في الشطر الثاني من دجلة، ومع ذلك أفتاهم أن يصلوا الظهر احتياطا . من الاحتياط والتورع في شدة أمر هذه العبادة ، فنحن لا نقول : إنه ما تكرر، تكرر لكن عند الحاجة ، تكرر ولا يفتح الباب هكذا ،كل أهل حي يفتحون مسجدا يصلون فيه ويجمعون فيه .(4/270)
الشاهد أن المصنف يقول مسجد جمعة بالنسبة للرجل أفضل ، مفهوم ذلك أنه لا يعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة فاعتكافه صحيح ، وهذا يختاره جمع من الأئمة ، ويقولون : إنه يخرج إلى صلاة الجمعة وبينا دليل ذلك .
[ ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره إلا المساجد الثلاثة ] : ومن نذر الاعتكاف في مسجد فله أن يفعله في غيره : إذا عين المسجد يجب عليه ذلك المسجد ، لكن لو عين مسجدا من غير المساجد الثلاثة ، فله أن يفعله في واحد من المساجد الثلاثة ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صح عنه أنه يوم الفتح جاءه رجل وقال : يا رسول الله ، إني نذرت إن فتح الله عليك لأعتكفن في المسجد الأقصى . فقال عليه الصلاة والسلام : (( اعتكفها ههنا يعني في المسجد الحرام )) فأصرّ الرجل فردّ عليه - عليه الصلاة والسلام - وأمره أن يعتكف في المسجد الحرام ؛ فدل على أن المساجد الثلاثة تقوم عن غيرها ، وغيرها لا يقوم عنها ، لكن المساجد الثلاثة يقوم بعضها عن بعض ، فالأفضل يقوم عن المفضول ، والمفضول لا يقوم عن الأفضل ، فمن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام ومسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ويجزيه ، ولو نذر أن يعتكف في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - جاز أن يعتكف في المسجد الحرام ومسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - دون الأقصى ودون غيرها من المساجد ، ومن هنا قالوا : إن الأفضل يغني عن غيره ولا يغني المفضول عنه ، ولذلك لو نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لا يجزيه أن يعتكف في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم - - ؛ لأنه أفضل واللزوم فيه أوجب وآكد ، ومن هنا قالوا : يجب عليه أن يفي بنذره في مكة ، وهكذا لو نذر في المدينة لا يفي في بيت المقدس ، هذا مراده - رحمه الله - .
[ فإذا نذر ذلك في المسجد الحرام لزمه ] : لأنه هو أفضلها وغيرها لا يجزي عنه يجزي عن غيره وغيره لا يجزي عنه .(4/271)
[ وإن نذر الاعتكاف في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام ] : لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صرف الرجل من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ؛ فدل على أن الأمر مستتبع للفضيلة ، والنظير يأخذ حكم نظيره ، فلو نذر في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أجزأه في المسجد الحرام .
[ وإن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى فله فعله في أيهما أحب ] : يعني في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أو المسجد الحرام . طبعا أفضل المساجد المسجد الحرام ، ثم يليه مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ثم يليه المسجد الأقصى ، والفضيلة الخاصة بالمساجد : كمسجد قباء له فضيلة العمرة ،كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من تطهر في بيته ثم أتى قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة )) ثم تتفاضل المساجد ، فأفضل المساجد أقدمها ؛ والدليل على ذلك قوله - سبحانه وتعالى - : {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِيَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فيه}
فقوله تعالى : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِيَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ? فيه } يدل على أن المسجد الأقدم أفضل من المسجد الجديد ، وأنه أحق وأولى ، وبناء على ذلك لو وجد مسجدان : أحدهما قديم والثاني جديد ، فالأفضل القديم لنص الآية ، وذلك لأن العبادة فيه سبقت ، والفضل فيه سابق عن غيره .
ثانيا : يفضل في المساجد من جهة كثرة المصلين ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل الواحد وما كان أكثر فهو أزكى )) .
فهذا يدل على أن المساجد الأكثر عددا أفضل .(4/272)
كذلك يفضل المسجد من جهة الخشوع ، وصلاح الإمام ، واستقامته والحرص على الدعوة ، فإذا كان الإمام صالحا يتأثر الإنسان بقراءته ، ويرجو أن يكون ممن يخاف الله ويخشاه ، فالصلاة وراءه أفضل؛ لأن هذه فضيلة راجعة إلى ذات الصلاة ، حتى إن بعض العلماء يقول : لو وجد مسجدا إمامه أكثر خشوعا ومسجدا أقدم يقدم مسجد الإمام الأكثر خشوعا ؛ لأنها فضيلة متصلة بذات الصلاة ، وأما بالنسبة للأقدم فضيلة بالمكان ، لكن لو كان المسجد مثل مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أو المسجد الحرام أو المسجد الأقصى تضاعف فيه الصلاة فلا يستطيع أحد أن يجزم أن الصلاة وراء الأخشع أفضل من مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أو من مسجد مكة ؛ لأنه لا يدري كم أجر ألف صلاة في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وهل هذا الخشوع في صلاة واحدة يستطيع واحد أن يقطع بعلم الغيب أنه أفضل من ألف صلاة ، هذا أمر دونه خرط القتاد ، فعلى المسلم أن يكون على بينة ، فبعض من طويلبي العلم يجتهدون الآن يقول: فضيلة الخشوع متصلة نترك الحرم ونصلي التراويح في غيره ! ولذلك نقول : الصلاة في الحرمين فضيلتهما عظيمة شريفة كريمة ؛ لأنهما جمعا فضائل لا توجد في غيرهما ، ففيها فضيلة مضاعفة الصلاة ، وفيها فضيلة قدم المكان ، وهي أحق وأولى ، وفيها فضيلة كثرة العدد ، فاجتمعت الفضائل من وجوه متعددة ، ومن هنا يكون هذا الفضل موجبا لتقديمها على غيرها .
[ ويستحب للمعتكف الاشتغال بفعل القرب ] : الاعتكاف الأصل فيه أنه لطاعة الله كما ذكرنا ، فيستحب له الاشتغال بالقرب وأعظمها وأحبها عند الله - - عز وجل - - الصلاة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )) .
ثانيا :كثرة تلاوة القرآن .
ثالثا :الحرص على إحياء ليالي العشر بصلاة الليل ؛ التماسا لليلة القدر.
رابعا :كثرة التسبيح والتمجيد والتقديس لله - - عز وجل - - .(4/273)
فالمعتكف الصادق الصالح إما أن تراه قائما يصلي ، أو تراه جالسا يتلو كتاب الله ، أو يسبح أو يستغفر، أو تراه جالسا يقرأ شيئا ينتفع به ، يخشع به قلبه ، وينشرح به صدره ، فالحرص على استتغراق الوقت في طاعة الله - - عز وجل - - وبين رحمه الله أنه يشتغل بطاعة الله ، ومفهوم ذلك أنه لا يجوز له أن يشتغل في معصية :كالغيبة والنميمة ، أو بالمكروهات :كفضول الأحاديث والضحك وكثرة الغفلة ، فهذا يخالف مقصود الشرع من الاعتكاف .
الاعتكاف مدرسة لطاعة الله - - عز وجل - - ومرضاته ، حتى إن بعض العلماء لم يستحب الاشتغال بطلب العلم للمعتكف ، وقال : إن المعتكف لا ينشغل بطلب العلم ، ومنهم من فرق بين أن يكون طلبه للعلم محدودا وبين أن يكون طلبه للعلم كثيرا ؛ وبعض العلماء يقول المعتكف إذا اشتغل بطلب العلم أفضل ؛ لأن طلب العلم نفعه متعد ، والاعتكاف نفعه قاصر، ولكن رد هذا القول بأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أمر بالقبة التركية ، فضربت له في المسجد ، حتى ينقطع عن الناس وينقطع عنه الناس ، فلو كان الاشتغال بطلب العلم أفيد لبّينه النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لكن يستثنى من ذلك درس الاعتكاف ؛ لماذا ؟ لأن النبي- - صلى الله عليه وسلم - - فتح القبة وخاطب الصحابة بأحكام الاعتكاف ، فهذا يدل على أنه إذا كان بقدر وإذا كان لحاجة فلا بأس .(4/274)
على كل حال من حيث الأصل الحرص على الصلوات ، وأفضلها صلاة الليل ،كما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الصلاة ؟ فقال : (( صلاة الليل )) وأفضل الصلوات الثلث الأخير من الليل ، وأفضل ما يكون الاجتهاد في العبادة تدبر القرآن ، والخشوع عند تلاوته ، والخشوع عند سماعه ، والمعتكف الموفّق من جمع الله له بين صلاح القلب والقالب ، لو أنّ كل معتكف يستشعر عند خروجه من بيته ودخوله إلى بيت الله - - عز وجل - - أنه ضيف من ضيوف الله - - عز وجل - - وأنه قد ترك أهله وولده وزوجه وحبه لا من أجل الفراغ ولا من أجل القيل والقال وما يتبع ذلك من المعاصي وسوء الحال - نسأل الله العفو والعافية - إنما أقبل على ربه ضيفا على الله - - سبحانه وتعالى - - في أيام معدودة ، وساعات محدودة ، يريد أن يبث فيها حزنه ، ويبث فيها إلى ربه همه وغمه ، ويشتكي ما كربه ، ولو أن المعتكف استشعر أنه ضيف على ملك الملوك وأنه ضيف على أرحم الراحمين ، وأنه ضيف على أكرم الأكرمين ، وأن هذا الكريم ، وهذا الملك العظيم الرب الرحيم ، يعطي هبات ونفحات ومكرمات لا تخطر للعبد على بال ، وما يدريك فكم دخل هذا المعتكف شقي بعيد عن الله فخرج منه سعيدا محبوبا قريبا من الله ، وكم دخله عبد مذنب مسيء خطاء فخرج منه كيومِ ولدتْه أمه ، بلا ذنب ولا خطيئة ، وكم دخله غافل ساه لاه فخرج منه خاشع القلب ، منشرح الصدر، مطمئن النفس منيبا إلى الله أوّاها مخبتا .(4/275)
الاعتكاف أن يستشعر الإنسان مقامه وحاله ، وأنه في ضيافة الله - - جل جلاله - - لم يأت للدنيا ، ولم يأت للهو، ولا للعب ، قد أكربته الدنيا بهمومها ، وأقضت مضجعه بغمومها ، وآلمته أشجانها وأحزانها ، فإذا دخل بيت الله وحل بالمسجد ضيفا على الله تبددت همومه وزالت غمومه ، وعاش في عالم غير عالمه الذي كان فيه ، عاش في عالم الرحمات والمغفرات ، والباقيات الصالحات ، فيمسي ويصبح بوجوه الراكعين الساجدين ، والمخبتين المنيبين ، يا لها من ساعات ولحظات وأيام طيبات مباركات ، لو عقلها العاقلون ؛ لفازوا بخيرها، وبرها ، وبركتها وفضلها ، فنسأل الله العظيم أن يمن علينا وعليكم بحياة القلب وصلاحه ، وأن يرحم غربتنا ، وأن يجبر كسرنا ، وأن يعيننا على أن نقيم لهذه العبادة حقها وحقوقها .(4/276)
فالمعتكف الموفق يشتغل بهذه الأعمال الصالحة ، ألذ ساعة عنده حينما يكبر، فيقبل على الله - - عز وجل - - يقول الله أكبر فيحس أن همومه تبددت ، وأن غمومه انقطعت ، ويتمنى أنه لو استدام هذه الصلاة، فلا ينقطع منها أبدا ويتلو كتاب الله - - جل جلاله - - وهو يحس أنه طالما كان غريبا عن القرآن ، وطالما أشغلته الشواغل ، وأخذته المشاغل، فهذه ساعات ولحظات طيبات مباركات للمؤمنين والمؤمنات ، حينما أقبلوا على الله - - عز وجل - - واستشعروا فضل ليلة القدر وإدراكها ، ألم ير الإنسان إلى كرماء الدنيا الذين لا يعدون شيئا إلى كرم ملك الملوك - - سبحانه وتعالى - - الرجل الكريم إذا كنت بحاجة إلى الدنيا ، وعنده الدنيا يسيرة ، فجئت في حاجتك أحسست أن حاجتك تقضى وأنت على بابه ، وأنت في الطريق إليه { ولله المثل الأعلى} فكيف وأنت مقبل على ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ، وأرحم الراحمين ، وخير الغافرين ، وخير التوابين - - سبحانه وتعالى - - ، وهو رب العالمين ، فإذا أحس الإنسان أنه لله ، وفي الله ، وأنه يريد مرضات الله ،كان أكره ساعة عنده أن يقطعه عبد عن ربه ، وأكره ساعة عنده أن يأتي أحد يشغله عن ذكر الله - - سبحانه وتعالى - - .(4/277)
أما إذا كان من الغافلين ، وأصبح من اللاهين ، نهاره نوم ، فإذا صلى المغرب اشتغل بالطهارة لصلاة العشاء ، وإذا صلى العشاء والتراويح ذهب ليقضي حاجة أو ذهب ليزور زيدا أو عمْراً ، فإذا صلى صلاة التهجد قام يصلي وقَلَّ أن يجد فيها خشوعا - نسأل الله السلامة والعافية - فإذا انتهى من ذلك فكر كيف يهيئ سحوره ، أي اعتكاف هذا الاعتكاف ؟! نوم بالنهار ، وتقصير بالليل ، وقلة تفكر وتدبر ، فالأمور عليه متكالبة ، هذا معه عشر من أصحابه ، وهذا معه خمسة يفكر كيف يدخلهم ، وكيف يخرجهم ، وكيف يطعمهم ، وكيف يسقيهم ، بل وصل الأمر إلى عقد العزائم داخل المساجد ، وإلى عقد الجلسات والزيارات ، هذا ليس باعتكاف كامل ، الاعتكاف الكامل أسمى وأعلى وأقدس وأنفس من هذا كله ، لابد أن يعيد المسلم النظر ، ولذلك تجد البعض يدخل في اعتكافه ويخرج كأنه لم يتغير منه شيء ، ولكن من الناس من يدخل الاعتكاف ويخرج منه بختم القرآن كل ثلاث ليالي ، ومنهم من يخرج من الاعتكاف بالبكاء من خشية الله ، ومن الناس من يخرج من الاعتكاف بصيام الاثنين والخميس ، ومنهم من يخرج من الاعتكاف ببكاء الأسحار ، وجنة الأبرار في ظلمات الليل ، في مناجاة الواحد القهار ، وجد لذة طالما تمناها ، وسعادة كان يبحث عنها ، وجدها في القرب من الله الذي لا أنس بشيء سواه - - سبحانه وتعالى - - فإذا كان الإنسان بهذه المثابة وبهذه المنزلة فلينعم بربه ، ولتقر عينه في الدنيا والآخرة بسيده ومولاه ، هكذا وإلا فلا ، إما أن يكون اعتكافا كما ينبغي وإلا فلا .(4/278)
الوصية الأخيرة : أن لا يجهد نفسه وأن لا يعذب نفسه ، فالإسلام وسط بين الإفراط وبين التفريط ، فهذا رسول الأمة - - صلى الله عليه وسلم - - يستقبل صفية ويجلس معها ثم يقوم يقلبها ، فلا بأس بالزيارة إذا كانت محدودة ، ولا بأس بالجلوس مع أخيك تثبته وتسليه وتعينه ويعينك ، لكن إذا زاد الأمر عن الحد انقلب إلى الضد ، وفقد العبد خيرا كثيرا ، فالواجب على الإنسان أن يكون وسطا ، ولا يغلو على نفسه فيحملها ما لا تطيق من السهر والتعب ، وقلة النوم ، وقلة الأكل ، حتى يمرض ويسقم، فإن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول : (( إن المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع )) نريد اعتكافا على سنة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وهديه ، بعيدا عن غلو الغالين ، وتنطع المترهبين ، بعيدا عن تلاعب المتقاعسين ، ولهو اللاهين والغافلين ، نريد وسطية قام عليها العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، نريد من يتفكّر ويتدبّر في ساعاته ولحظاته .(4/279)
مما يعين على أن تكون معتكفا بحقّ أول ما تدخل الاعتكاف أن تبرأ من الحول والقوة ، وتقول : يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث ، أهل الكهف سألوا ربهم أن يهيئ لهم من أمرهم رشدا ، فهيأ الله لهم الرشد في أمرهم وهم في كهف ، كيف وأنت في بيت ملك الملوك ، وأنت في أحب البقاع إلى الله مساجد الله يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( أحب البلاد إلى الله مساجدها )) فاسأل الله أن ينشر لك من رحمته ، ثم قف بباب الله وقوف الصادق وقل : يا رب لا تجعلني أشقى عبادك في بيت من بيوتك ، اللهم لا تجعلني أشقى القوم ، ولا تجعلني محروما ، ولا تجعلني خائبا ، ولا تجعلني مطرودا من رحمتك ، فإذا أردت أن تخرج وقفت بالقلب المنكسر لله - - جل جلاله - - وأنت تتفطّر حزنا تسأل الله أن لا يحرمك القبول، فمن جمع الله له بين ساعة الإنابة وساعة الرجاء في القبول وعند مدخله ومخرجه فقد دخل مدخل صدق وخرج مخرج صدق ، تدخل إلى المعتكف تسأل الله المعونة والتوفيق- هذا مما يعين على الخشوع- .
ثانيا : تدخل المعتكف وأنت تتصور لو أنها كانت آخر ساعة لك في الاعتكاف ، فتصبح كل لحظة لها قيمة ، وتستشعر كأن شمس آخر يوم من رمضان ستغيب بعد لحظات كيف يكون حالك ، وهذا مما يثبت الطائعين ، ويقوي عزائم المجتهدين في العبادة أنك دائما تستشعر أنك في آخر وقت منها ، كيف يكون حالك ، هذا يدعوك إلى أن تغتنم كل دقيقة وكل ثانية وكل لحظة .
كذلك أيضا مما يعين على الاعتكاف أنك بمجرد أن تدخل تقهر هذه النفس ، وتجعلها مستجيبة لك ، وتهينها في جنب الله - - عز وجل - - ، فمن نهى نفسه عن الهوى استجابت له ، تجعل نفسك تحتك لا أنت الذي تستجيب لهواها ، وتستجيب لشهواتها فإنها بين كل فينة وفينة تدعوك إلى ضياع الوقت وضياع العمر، ولذلك يستعين الإنسان بعد الله - - عز وجل - - بهذا الشعور وهو نهيه نفسه عن الهوى وقهره لها في طاعة الله - - عز وجل - - .(4/280)
كذلك أيضا مما يعين على الجد والاجتهاد أن تبحث عن أصلح الناس تراه في مسجدك قوّاما متأدّبا تاليا لكتاب الله ، فكلما رأيت مصليا تفطّر قلبك من الحزن ، وقلت : هل هذا أحسن مني ؟ أليس ربه الذي يدعوه ربي ؟ فتجتهد مثلما يجتهد ، تنظر في المسجد بعض الأخيار والصالحين يذكرك بالله منظره ، ويعينك على الآخرة حاله وسمته ودله ، من الناس من رزقه الله حسن السمت ، فإذا رأيته ذكرت الله - - جل جلاله - - ، وهؤلاء هم الصالحون المتمسكون بالسنة ، العاملون بالخير في كل زمان ومكان - جعلنا الله وإياكم منهم - وكان بعض السلف إذا رؤي وجهه ذكر الله - - سبحانه وتعالى - - جعلنا الله وإياكم من أهل الخير والفلاح والصلاح ، فتبحث عن إنسان صالح ترى من حاله وسمته ودلّه الجدّ والاجتهاد في العبادة فتغبطه على الخير ، كل ما رأيت إنساناً يفتّش القرآن وأنت تريد أن تذهب لقضاء حاجة أو تذهب للطعام فإنك تتألم وتقول : يا ليتني مكانه ، فإذا بك تكون شريكا له في الأجر ، تصبح بهذه النفس المستجيبة النفس الحية التي تغار على كل دقيقة وثانية في أعلى المراتب وأفضلها ، هذا بعمله ، وهذا بنيته .(4/281)
كذلك أيضا مما يعين على اغتنام أوقات الاعتكاف كثرة الاستغفار ؛ لأن الاستغفار يقوي العزيمة ، فإذا استغفرت تحاتت الذنوب التي تحول بين العبد وبين الرحمة ، وهل يحجب العبد عن رحمة الله إلا بسبب الذنوب ، ولذلك انظروا إلى هدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لما استفتح الصلاة التي هي أحب الأعمال إلى الله كان يقول عليه الصلاة والسلام اللهم : باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ؛ لأنه لو كانت الخطايا موجودة حالت بينك وبين الخشوع و الخضوع والتفكّر والتدبر ، وكم من غافل في اعتكافه حجبه الله عن بركة الاعتكاف بذنب بينه وبين الله - - جل جلاله - - إما بغيبة ، أو بنميمة ، فعلى المسلم أن يحرص كل الحرص على الاستغفار ؛ لأن الاستغفار يشرح الصدر لذكر الله ، ويقوي العزيمة على ذكر الله وطاعة الله - - عز وجل - - ، وعلى كل حال جماع الخير كله في تقوى الله - - عز وجل - - .
بيّن المصنف - رحمه الله - أن على المعتكف أن يجتهد في طاعة الله وما يرضيه - - عز وجل - - .
[ واجتناب ما لا يعنيه من قول وفعل ] : من اجتنب ما لا يعنيه سلم له دينه ، ولذلك قال - - صلى الله عليه وسلم - - في الحديث الحسن : (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) وقال رجل لأحنف بن قيس - رحمه الله - كيف سدت قومك وأنت قصير ؟ - وليس من شغله أنه قصير أو طويل - فقال له الأحنف : بتركي لما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيني ، فمن يشتغل بالفضول يهلك ويخسر ؛ لأنها قد تجرّ إلى المحرمات ، ومن هنا كان السلف - رحمهم الله - يتركون فضول الحديث خوفا من الوقوع في الغيبة والنميمة . وجعل بعض العلماء حديث : (( من حسن إسلام المرء )) ربع الإسلام لما فيه من الخير للعبد .
عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البريّةْ
اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيّةْ
فهذه أربعة أحاديث يقولون : قامت عليها مقاصد الإسلام العظيمة .(4/282)
[ ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك ] : ولا يبطل الاعتكاف إذا اشتغل بفضول الأحاديث أو بما لا يعنيه لأن هذا لا يوجب بطلان اعتكافه ، إنما يبطل بفوات شرط من شروط صحته : كخروجه من المسجد إذا خرج من دون حاجة بطل اعتكافه ولزمه تجديد نيته ، وإذا كان اعتكافه واجبا لزمه القضاء .
[ ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه إلا أن يشترط ] : [ ولا يخرج من المسجد ] : لأن الاعتكاف ملازمة المسجد ، [ إلا لما لابد له منه ] : مثل قضاء الحاجة كالبول والغائط - أكرمكم الله - ، مثل الطعام والشراب إذا لم يوجد في المسجد طعام ولا شراب ؛ فإذاً ، لكن يخرج بقدر الحاجة والضرورة ، مثلا إذا كان يقضي حاجته في مكان قريب وبعيد يخرج للمكان الأقرب ولا يخرج للأبعد ، وإذا كان هناك محل يصلح الطعام قريبا ومحل بعيد لا يذهب إلى البعيد مع وجود القريب ، لكن لو وجد شخص يكفيه الطعام ويحضر له الطعام لا يجوز له الخروج للطعام ، لكن إذا تأخر وما ظن مجيئه يجوز له أن يذهب للطعام ، لأنه ليس من المعقول أن لا يأكل ربما من أجل هذا - والعياذ بالله- أفطر في يومه ، ولذلك يجوز له في هذه الحالة إذا تأخر أو لم يحضر له شيئا ، واستثنى العلماء - رحمهم الله- البول والغائط لثبوت السنة عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - بخروجه كما في حديث عائشة- رضي الله عنها - واستثنوا الأكل والشرب على التفصيل الذي ذكرناه ، بل قال بعض العلماء : لو كان من الأشخاص الذين لا يستطيعون الأكل أمام الناس في داخل المسجد ، ونفسيته لا تعينه على ذلك ويتحرج في هذا ، أو يكون من أهل العلم والفضل وله مكانة ويصعب عليه الخروج وليس هناك قبة أو مكان يحجبه كما كان للنبي - - صلى الله عليه وسلم - - ويتحرّج أن يأكل في وجوه الناس ، قال بعض العلماء : يجوز له أن يخرج من أجل أن يأكل خارج المسجد ، ففي هذه الحالة رخّصوا له ؛ لأنه يتضرّر بهذا ، كذلك أيضا مما ليس له بد مثل المرض ، والمرض(4/283)
نوعان :
النوع الأول : اليسير الذي يمكن الصبر عليه لا يجوز أن يخرج من أجله .
والنوع الثاني : المرض الشديد ، واختلف فيه : هل يقطع الاعتكاف أو لا يقطع ؟
والصحيح : أنه لا يقطع ، فلو خرج وتداوى ثم رجع مباشرة فهو على نيته الأولى ، والأحوط أن يجدد النية خروجا من الخلاف ، كذلك الجنابة لو أنه أجنب وهو نائم خرج فاغتسل للجنابة ، ويخرج لغسل الجمعة لأنه واجب عليه على الصحيح من أقوال العلماء ، أما إذا كان لا يرى وجوبه فقال بعض العلماء : يخرج لوضوء الجمعة ويجعل الغسل تبعا ولا يجعله أساسا .
[ ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه إلا أن يشترط ] : [ إلا أن يشترط ] : الاشتراط أخذوه من حديث ضباعة - رضي الله عنها - قالت : يا رسول الله ، إني أريد الحج وأنا شاكية ، فقال : (( أهلي واشترطي إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني )) وأرادت أن تدخل الحج فألزمت نفسها ، فقالوا : المعتكف لا يجب عليه الاعتكاف فألزم نفسه ، فإذا اشترط كان له شرطه ، وإذا اشترط إما أن يشترط ما هو معتبر شرعا ، وإما أن يشترط ما هو جائز ، وإما أن يشترط ما هو محرم ، فإذا اشترط ما هو معتبر شرعا مثلا يقول : شرطي أن أخرج لقضاء الحاجة ، فهذا شرط موجود في أصل الشرع ولا إشكال فيه وجها واحدا عند العلماء .(4/284)
ثانيا : أن يشترط ما هو مباح له مما فيه قربة ، مثل : أن يشترط أن يعود مريضا قال : إذا - لا قدر الله - دخل والدي المستشفى فأشترط أن أذهب لعيادته ، أو الوالدة أذهب لعيادتها ، أو اشترط أن يتصل بأهله ، ونحو ذلك مما هو محتاج إليه ، قالوا : فلا بأس بهذا ولا حرج ، وهناك مذهب يرى أن الاشتراط وارد في الحج بسبب مخصوص ، وهو أنّ المرأة ألزمت نفسها بالحج مع وجود المرض والسِّقَم ، ومن هنا قالوا : من كان مثل ضباعة كان له الاشتراط ، ولذلك أتى عليه الصلاة والسلام إلى الميقات ولم يأمر الصحابة أن يشترطوا أثناء الإهلال ، مع أن حديث ضباعة قبل الميقات ، وخص ضباعة وقال لها : (( أهلي واشترطي )) كأنها لما تكلفت الدخول للعبادة مع المرض والسقم أعطيت هذه الرخصة ، وإلا فالأصل أنها ملزمة بإتمام النسك ، وأيا ما كان لا شك أن أحوط القولين عدم الاشتراط ، خاصة وأنه بالاشتراط يشترط الأمور المباحة خرج عن الأصل من لزوم المسجد ، وعند النظر في نصوص الكتاب والسنة كلها دالة على أن الأصل لزوم المسجد وعدم الخروج منه ، ولذلك في النفس شيء من الاشتراط ، وقد فصلنا في هذه المسألة وبيناها في شرح العمدة ، وبينا الأدلة والأقوال والراجح وأن الصحيح عدم الاشتراط ؛ لأن القياس هنا ضعيف ، وجه ضعفه : أنهم قاسوا الاعتكاف على الحج ، ومن المعلوم أن الرخص لا يقاس عليها لأنا ذكرنا أن حديث ضباعة - رضي الله عنها - نصحح فيه أن من كان في حالة ضباعة - رضي الله عنها - يأخذ حكمها في الاشتراط في النسك خاصة .
ثانيا : أن الأصل يقتضي خلاف هذا ؛ لأن أصل الاعتكاف اللزوم ، والشرط يخرج المعتكف عن هذا اللزوم ، ومن هنا لا يستثنى إلا ما استثناه الشرع من وجود الضرورة والحاجة .(4/285)
[ ولا يباشر امرأة ] : أجمع العلماء على أن المعتكف لو جامع امرأته فسد اعتكافه ، فلو خرج إلى منزله لقضاء الحاجة فجامع زوجته بطل اعتكافه ، وعليه أن يجدد النية ؛ الدليل على ذلك قوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }ولو أنه فكر أو تفكر أو لاعب امرأته فأنزل أيضا بطل اعتكافه ، كما يفسد الصوم والحج بالإنزال يفسد الاعتكاف بهما ؛ لأنه محظور من المحظورات ، أما بالنسبة للمقدمات مثل : التقبيل ونحوه إذا لم يحصل إنزال لا يبطل اعتكافه ، لكنه يعتبر من المكروه .
[ وإن سأل عن المريض في طريقه أو عن غيره ولم يعرج إليه جاز ] : لو مر على مريض فيه تفصيل:
إما أن يكون المريض في طريقه وهو ذاهب لقضاء حاجته ؛ فحينئذ يسأل عنه وهو مار ولا يعرج ، وأما إذا كان المريض في موضع غير موضع قضاء الحاجة فلا يذهب إليه ، وهذه مسألة عيادة المريض ، وكانت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تمر على المريض ولا تعرج عليه ولا تجلس عنده ، وإنما هي مارة ، تسأل عن حال المريض ، وهذا هو الأصل ، وهذا يدل على تشديد الشرع في مسألة الاعتكاف ، وأنها عبادة تقتضي عدم الخروج عنها إلا من ضرورة وحاجة ، فإذا كان هناك مريض ، أو أراد أن يشيع جنازة ؛ فإنه لا يخرج لا لعيادة مريض ولا لتشييع جنازة قصدا ، لكن يجوز تبعا ، وهذا مما يغتفر يقولون : يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل ، كما في حديث ابن عمر في إتباع الثمرة قبل بدو صلاحها للأصل ، مع أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو الصلاح ، فهذا كله أخذ العلماء منه دليلا على أنه يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل ، فاغتفروا أن يسأل المريض وهو مار ولا يقف ولا يعرج عليه .
@ @ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : متى يكون بداية الدخول في المعتكف ومتى يكون الخروج . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(4/286)
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فأصح قولي العلماء - وهو مذهب الجمهور - : أنه يدخل قبل مغيب الشمس من يوم عشرين ؛ لأنه يريد أن يعتكف العشر الأواخر فلابد أن تكون كاملة ، فيدخل قبل غروب الشمس ، وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح فهذا أجيب عنه بجوابين أحدهما أقوى من الآخر :
أن الاعتكاف فيه دخول للمسجد ودخوله - عليه الصلاة والسلام - للقبة داخل المسجد ، فكان دخوله للقبة بعد صلاة الفجر ، وكان دخوله العام قبل غروب الشمس ، ولكن اختار شيخ الإسلام جوابا آخر وأشار إليه بعض العلماء : أن عائشة - رضي الله عنها – أشارت إلى أنه كان يدخل بعد صلاة الصبح ولم تبين هل هو صبح اليوم العشرين أوالحادي والعشرين ؟ وإنما قالت : إنه كان يدخل في صلاة الصبح ، ومن المعلوم أن دخوله كان قبل ، ولذلك قال للصحابة : فليعتكف معي وكان هذا صبيحة العشرين، يقول شيخ الإسلام : إنها لم تنص على أنها في صبيحة الحادي والعشرين ، فالأشبه أنه دخل معتكفه في القبة من فجر يوم العشرين تحقيقا للعشر كاملة ، وهذا على سبيل التحري وليس على سبيل اللزوم ، أما اللزوم فمن قبل غروب الشمس ولو بلحظة ، هذا الذي عليه العمل حتى يستتم اعتكاف العشر كاملة تامة . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:
فضيلة الشيخ:من أوتر أول الليل كيف يفعل إذا قام آخر الليل وأراد القيام . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(4/287)
فيه تفصيل : إن كان يريد أن يصلي ركعتين فيصلي ركعتين ؛ والسنة أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلى ركعتين بعد ما أوتر ، والأحاديث في هذا صحيحة ، حتى إن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ألف في هذا رسالة على ثبوت السنة في صلاة الشفع بعد الوتر ، لكن إذا أراد أن يتهجد ثانية ، مثلا : صلى أول الليل فأوتر ؛ لأنه ظن أنه لا يقوم آخر الليل ، فقام قبل الفجر بوقت وأراد أن يقوم فإنه ينقض الوتر الأول ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر ، أما نقض الوتر الأول فلأنّ النبيّ- - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا )) فالسنة أن يكون الوتر في الأخير ، وأما كون الوتر ينقض الوتر فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( لا وتران في ليلة )) حيث بيّن أن الوتر ينقض الوتر ، لما نهى عن الوترين دلّ على أن الصلاة ستصبح شفعيّة ، إذ لو لم يكن الوتر الثاني مؤثّرا لما كان هناك تأثير لأصبح الوتر هو الوتر الأول ، قالوا فقوله : (( لا وتران في ليلة )) يدل على أن الوتر ينقض الوتر ، خاصة وأنه أثر عن ابن عمر وبعض أصحاب النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنهم كانوا ينقضون الوتر الأول ثم يصلون ثم يوترون ، وهذا هو الذي تطمئنّ إليه النفس . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ : إذا خرج المعتكف من المسجد لغير عذر بقصد قطع الاعتكاف فهل يعتبر عاصيا وآثما أم لا نرجو توضيح هذه المسألة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(4/288)
إذا كان الاعتكاف واجبا يأثم ، وإذا كان الاعتكاف مسنونا ومستحبا لا يأثم ، فوت على نفسه الخير، والمحروم من حرم ، وإن العبد ليحرم الطاعة بسبب الذنب - والعياذ بالله - ، فلا يخرج إلا من ضرورة وحاجة حتى يكتب الله له الأجر كاملا تاما ؛ ولذلك قال تعالى : {ولا تبطلوا أعمالكم } فلا يليق بالمسلم أن يعامل الله ثم يزهد في المعاملة مع الله ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا )) فلا يحرم الإنسان نفسه من الخير والبرّ . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع : فضيلة الشيخ : هل يجوز أن يقوم الرجل بأداء عمرتين في سفر واحد مثلا عمرة له وعمرة لأبيه بعد انتهاء عمرته الأولى. وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا مر بالميقات الأبعد مثلا من المدينة وعنده نية لعمرتين يحرم عن نفسه أولا ويعتمر ثم يرجع ويحرم عن أبيه ؛ لأنه مر بالميقات ناويا للعمرتين (( هنّ لهنّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة )) فهو أنشأ النية للعمرتين من المدينة ، ولذلك يلزمه الميقات الأبعد ، ولا يصح أن يذهب إلى التنعيم ويأتي بالعمرة الثانية ؛ لأنه مر بالميقات وعنده نيتان ، أما لو أنه اعتمر عن نفسه ثم لما صار في مكة تذكر والده أو قريبه أو اتصلت به أمه وهي عاجزة عن العمرة وقالت له : اعتمر عني ؛ فإنه يجوز أن يعتمر من التنعيم ولا بأس بذلك ولا حرج ؛ لأن النية للعمرة الثانية أنشأها دون المواقيت ، وفي الصحيح عنه – عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ )) والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس: فضيلة الشيخ : من كان علاج مرضه في الكي فهل يكتوي أم يصبر ، مع أنه يترتب على عدم العلاج حرج شديد . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(4/289)
الكي كرهه عليه الصلاة والسلام ، قال : (( الشفاء في الثلاثة : آية من كتاب ، وشرطة من محجم ، أو كية من نار ولا أحب أن أكتوي )) وكان عمران بن حصين - - رضي الله عنه - - ممن تسلم عليه الملائكة ، ولما اكتوى من البواسير التي كانت معه انقطع عنه التسليم فترة الكي، والكي مكروه ، لكنه يجوز التداوي به ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أثبته دواء ، والكيّ قيل : إنه دواء وقيل : إنه قطع لنقل الألم ، وهذا فيه كلام طويل عند الأطباء ، حتى إنه يعتبر من معجزات النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في الإشارة إليه ، لكن هل الأفضل أن يكتوي أو لا يكتوي ؟ في حديث السبعين أنهم لا يكتوون ، فإن كانت خصال السبعين فيه مستجمعة السبعين الألف الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب - جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه ورحمته - قيل : إنهم لا يكتوون ، ولا يتطيّرون ، ولا يسترقون ، وعلى ربهم يتوكلون ، فهؤلاء الموحّدون المخلصون المحسنون في عبادتهم وتوحيدهم وإخلاصهم لا شك أنه إذا كان فيه صفاتهم الأفضل أنه لا يكتوي ، تحصيلا لهذه المرتبة المنيفة ، بشرط أن يكون ممن يغلب على الظن صبره ، ما يكون يقول : أنا من السبعين أجتهد أن أكون من السبعين ، ثم بعد شهر ، شهرين ، ثلاثة ، أربعة يعجز - ونسأل الله السلامة والعافية - يضعف نفسه ، ثم يذهب ويكتوي ، إذاً لماذا يعذب نفسه هذه الأشهر كلها ؟ وهذا المعنى من أجمل المعاني التي استنبطها العلماء في كون النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يقبل من بعض الصحابة أمورا عظيمة ، ولا يقبلها من بعضهم ، ولذلك قال كعب بن مالك : يا رسول الله ، إن من توبة الله علي أن أتصدق بمالي كله ، قال : (( أمسك عليك مالك )) وردّ عليه التصدق بجميع ماله ؛ لأنه عند شدّة الفرح يبذل ماله ثم يندم ، وإذا ندم يفوّت على نفسه الأجر - نسأل الله السلامة والعافية - هذه النوعية التي لا تصبر ليست عندها قوة وجلد نقول له :(4/290)
الأفضل أن يكتوي ، حتى لا يأتي في يوم من الأيام ويجزع ، لا هو أدرك أجره ، ولا هو رحم نفسه ، فمن كان من أهل الصبر والثبات يفتى بمثل هذا ، وهذا من فقه الفتوى، ومما يعبر عنه العلماء باختلاف الفتاوى باختلاف الأشخاص ، أبو بكر - - رضي الله عنه - - جاء بماله إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فقبله لأن يقين أبي بكر ليس كيقين كعب بن مالك ، ومن هنا اختلفت أحوال الناس ، اختلف الناس إيمانا وتصديقا وعقيدة وقوة وتوحيدا ، قوة في التوحيد والتسليم لله -- عز وجل -- ، فإن كان عنده تسليم وقوة شكيمة في طاعة الله - - عز وجل - - فالأفضل له ذلك ، لكن عند العلماء خلاف -طبعا- إذا كان المرض مزعجا جدا ويقعده عن العبادات وعن الطاعات اختلف العلماء -رحمهم الله- ، بعض العلماء يقول : التداوي أفضل ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال في حديث أسامة بن شريك -- رضي الله عنه -- في سنن الترمذي وغيره وإسناده صحيح قال : جاء الأعراب من هاهنا وهاهنا ، وقالوا : يا رسول الله ، أنتداوى ؟ فقال : (( تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء )) قالوا : (( تداووا )) أمر وهو أمر ندب واستحباب ، فيدل على أن التداوي أفضل من ترك التداوي ، قالوا : وأيضا إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - تداوى وهو سيد المتوكلين وإمام الصابرين -صلوات الله وسلامه عليه- ، فدل على أن الأفضل أن يتداوى .(4/291)
ومن أهل العلم من قال : الأفضل الصبر إذا كان قوي اليقين ؛ لأن المرأة السوداء جاءت إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وقالت : يا رسول الله ، إني أصرع فادع الله لي ، قال : (( إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت ولك الجنة فقالت : أصبر )) فتركت التداوي ، فأقرها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - على ذلك ، ومن هنا قالوا : إن هذا أفضل ، لكن هذا يختلف باختلاف الأشخاص - كما ذكرنا - وإن كان الأصل العام أن التداوي أفضل ، إلا أن هذا من جنس المكروهات - كما بينا - . والخلاصة : إذا كان يرجي أن يكون من السبعين الألف الأفضل لا يكتوي ، ومثله من يصبر على مرضه ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم - - قال : (( ولا أحب أن أكتوي )) وإن كان بخلاف ذلك فإنه يكتوي لعموم الأمر بالتداوي . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : ما هو حكم إمامة صاحب الأعذار من به سلس بول أو ريح ، وكذلك هل يجوز له أن يخطب الجمعة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا كان إماما راتبا يصلي بالناس ، وإذا كان غير راتب يقدم غيره خروجا من الخلاف ؛ أما الدليل على أن الراتب يصلي ؛ فحديث عمرو بن العاص - - رضي الله عنه - - لما أصابته جنابة فقال : فتمعكت كما تمعك الدابة ، فالشاهد أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أقر على ذلك ، وقال : (( أصليت بأصحابك وأنت جنب؟! قال : يا رسول الله ، إني ذكرت قول الله - - عز وجل - - : {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فهو عنده عذر ، وأخذ بالعذر فتيمّم ، فصلى من هو أقلّ طهارة بمن هو على الطهارة التامّة ، واعتبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلاته وأذن له بذلك . فالشاهد من هذا أن هذا يدل على جواز صلاة المعذور بغير المعذور .(4/292)
ومن أهل العلم من قال : إن من به سلس معذور في نفسه ، والقاعدة : أن ما جاز لحاجة وضرورة يقدر بقدرها ، فنحن نقدر بالشخص نفسه ، والضرورات والرخص لا يتجاوز بها محالها ، وعلى كل حال فالقصة على مثلما فصلنا لأن عمروَ بن العاص - - رضي الله عنه - - كان أمير السرية ، ومن هنا فرق بعض أهل العلم بين من هو راتب ، فقالوا: من فقه الإمامة أنه لا يعرض صلاة الناس إلى الشك ، خاصة على القول بأنه لا يصلي المعذور ، فيتقدم بهم إذا كان راتبا لأنه تعيّنت عليه الإمامة والسنة دالة على الجواز، ويقدم غيره إذا كان غير راتب .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم موجبا لرضوانه العظيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
من شريط 45 الى 53
كتاب المناسك
كتاب الحج والعمرة
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ كتاب الحج والعمرة ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ، ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد :
فيقول المصنف -رحمه الله- : [ كتاب الحج والعمرة ] : يشتمل هذا الكتاب على بيان الركن الخامس من أركان الإسلام وهو ركن الحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا ، ومن عادة العلماء من المحدثين والفقهاء أن يختموا أركان الإسلام ببيان أحكام الحج وأحكام العمرة ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رتّب هذه الأركان فجعل خاتمتها الحج ؛ كما في الصحيح من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : (( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا )).(4/293)
ومناسبة كتاب الحج لكتاب الصوم واضحة ، وقد رتبها المصنف على ترتيب السنة .
والحج في لغة العرب : القصد . قال بعض العلماء : القصد إلى كل شيء حج .
وقال بعض أئمة اللغة : بل إنه يختص بالقصد إلى الأشياء المعظمة ، وأيا ما كان فإن أصل معناه القصد .
وأما في الاصطلاح : فهو القصد إلى بيت الله الحرام والمناسك بأفعال مخصوصة ونية مخصوصة. وأما العمرة فإنها في لغة العرب : الزيارة ، وأما في اصطلاح العلماء فهي زيارة البيت بطوافه والسعي بين الصفا والمروة .
وهاتان العبادتان متلازمتان ، ولذلك يقول العلماء : الحج نوعان : حج أكبر ، وحج أصغر. فالحج الأكبر هو الحج إلى بيت الله الحرام ، وأداء المناسك من : الوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار، والمبيت بمنى ، وهذه كلها متعلقة بالحج الأكبر ، وأما بالنسبة للحج الأصغر فهو العمرة ؛ وقد أشار الله -- عز وجل -- إلى ذلك بقوله سبحانه : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } فبين أن الحج فيه أكبر وفيه أصغر .
والأصل في مشروعية الحج دليل الكتاب والسنة والإجماع :
أما كتاب الله ؛ فإن الله تعالى يقول : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } .
وأما السنة فأحاديث ، منها : حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- المتقدم حيث عدّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الحج إلى بيت الله الحرام ركنا من أركان الإسلام .
وكذلك ثبت في الأحاديث الصحيحة ، منها : حديث سؤال الأعرابي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن فرائض الإسلام ، وذكر منها الحج .
وأما الإجماع فقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على فرضية الحج، وأنه ركن من أركان الإسلام. وأما العمرة فإن العلماء -رحمهم الله- اختلفوا فيها على قولين :
قال بعض العلماء : إنها واجبة ، وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية في المشهور وقال به بعض أئمة السلف -رحمة الله على الجميع- .(4/294)
ومنهم من قال : إنها سنة مستحبة وليست بواجبة كما هو مذهب الحنفية والمالكية وقول عند الشافعية ورواية عند الحنابلة ؛ والدليل على وجوبها أن الله تعالى قال : { ولله على الناس حج البيت } فأمر عباده بالحج إلى بيته ، وبيّن في كتابه أن الحج حج أكبر وأصغر، فدل على وجوبهما ، ولم يأتِ دليل بإخراج العمرة من هذا الأصل .
وأما السنة فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال لأبي رزين العقيلي -رضي الله عنه وأرضاه- وقد سأل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في فريضة الحج حيث أدركت أباه شيخا كبيرا لا يستقيم على الراحلة . فقال له : حج عن أبيك واعتمر ، فقد صحح هذا ا لحديث غير واحد من أئمة الحديث كالإمام الترمذي -رحمه الله- وغيره .
فقوله عليه الصلاة والسلام : (( حج عن أبيك واعتمر )) فأمره أن يعتمر؛ فدل على وجوب العمرة .
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة الحسن في السنن عنها -رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما سألته أَعَلَى النساء جهاد ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (( عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة )) وبناء على ذلك فأصح قولي العلماء هو وجوب العمرة .
وأما الذين قالوا بعدم الوجوب فقد قالوا إن الكتاب نص على وجوب الحج ولم ينص على وجوب العمرة .
والجواب عن ذلك ظاهر حيث إن الحج شامل للأصغر والأكبر كما دلت عليه نصوص الكتاب وكذلك الأحاديث التي وردت بالأمر بالحج يندرج تحتها العمرة .(4/295)
وأما بالنسبة لقوله -رحمه الله-: [ كتاب الحج والعمرة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالحج إلى بيت الله الحرام والعمرة ، وكلتا العبادتين عظيم عند الله أجرها عظيم ثوابها ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه )) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) وهما من أجلّ ما يتقرب به العبد إلى ربه -- سبحانه وتعالى -- ، وما من مسلم يخرج من بيته من أجل أداء هذه العبادة حجا كانت أو عمرة فقصدهما لوجه الله إلا كان أجره وثوابه على الله -- عز وجل -- ، ولذلك عُدّ الخروج في الحج من أعظم الخروج ثواباً وأجراً كما أخبر النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في فضائل الأعمال أن منها الحج المبرور ، ولا يكون الإنسان بارا في حجه إلا إذا استجمع أسباب البر التي أعظمها الإخلاص لله -- عز وجل -- ، وطيب المكسب ، وتحري السنة وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في حجه ، فهو منذ أن يتجرد من ثيابه ، ويتجرد من مخيطه ، ويلبس ثوبيه ، يتأمل السنة الواردة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يحج كحجه ، ويعتمر كعمرته ، حتى كأنه يرى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أمامه في طوافه ، وفي سعيه ، وفي مناسكه كلها ، فإذا وُفّق للكسب الطيب ووُفق للإخلاص لله -- عز وجل -- ووفق لتحري السنة كان حريا أن يرجع إلى بيته بالحج المبرور، وبخاصة إذا اتقى الله في سمعه وبصره ولسانه فلم يرفث ولم يفسق ولم يعتد حرمات الله -- عز وجل -- في إخوانه المسلمين .
يقول المصنف -رحمه الله-: [ كتاب الحج والعمرة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالحج والعمرة .(4/296)
قال رحمه الله : [ يجب الحج والعمرة مرة في العمر ] : يجب الحج والعمرة مرة في العمر لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما سأله الصحابي وقد قال : (( أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا )) فقام له الأقرع بن حابس -- رضي الله عنه -- وقال: يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فسكت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثم قال: (( أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فحجوا )) فقام الأقرع وقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم )) وقال في اللفظ الآخر : (( لو قلت : نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ذروني ما تركتكم )) الحديث .
فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لو قلت نعم لوجبت )) أي لوجب عليكم أن تحجوا كل عام ، فدل على أنه لا يجب الحج إلا مرة واحدة ؛ لأنه لم يقل : نعم -صلوات الله وسلامه عليه- .
فالواجب مرة في العمر، وهذا من رحمة الله بعباده ، ولو تصور المسلم أن الحج واجب في كل عام على المسلم لنظر في ذلك من المشقة والبلاء للناس ما الله به عليم .
قال رحمه الله : [ على المسلم ] : على المسلم : لأن الكافر إذا حج لا يصح حجه ؛ قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } فالكافر عمله قد أحبطه الله فعليه أولا أن يُسْلم ثم بعد ذلك يخاطب بفعل الحج ويصح منه حجه بعد إسلامه ؛ إذاً الإسلام شرط لوجوب الحج وإجزائه وصحته ، فلا يجب الحج على غير الكافر أصلا حتى يحقق أصل الإسلام بالتوحيد. وكذلك أيضاً لا يصح من الكافر لظاهر القرآن كما ذكرنا ، ولا يجزيه لو حج الكافر بكفره لم يجز عن حجة الإسلام بل الواجب عليه أن يعيد حجه ؛ وقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه بعث مناديه ينادي في الحج: (( أن لا يحج بعد العام مشرك ، وأن لا يطوف بالبيت عريان )) ، فدل على أن الحج لا يصح من الكافر .(4/297)
قال رحمه الله : [ العاقل ] : العاقل : وهذا أيضا شرط وجوب وصحة وإجزاء ، فلا يجب الحج على مجنون ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم المجنون حتى يفيق )) حتى يفيق من جنونه وهذا الحديث عن عائشة وعلي -رضي الله عنهما- حديث صحيح .
وأجمع العلماء على عدم وجوب الحج على المجنون .
قال رحمه الله : [ البالغ ] : البالغ : وقد تقدم معنا في الصوم من هو البالغ ، سواء كان بلوغه بالسن من الرجال والنساء وهو بلوغ خمس عشر سنة ، وبينا دليل ذلك ، أو بالإنبات وبينا دليل ذلك ، أو كان بالحيض والنفاس كما هو خاص بالنساء ، فإذا بلغ فإنه يجب عليه الحج ، ويجزيه الحج إذا أداه في حال بلوغه ، ويصح الحج من الصبي فلو أن صبيا أحرم بالحج ولبى في الحج أو العمرة وأدى مناسك الحج والعمرة ؛ صح منه ذلك ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما أحرم عام حجة الوداع وبلغ فج الروحاء وهو ما يسمى اليوم ببئر الراحة اعترضه ركب فقال - صلى الله عليه وسلم - : من الركب ؟ قال: المسلمون، ثم سألوا من الركب ؟ قالوا : رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأصحابه . فرفعت امرأة صبيها إليه فقالت : يا رسول الله، ألهذا حج ؟ قال : (( نعم ولك أجر )) .(4/298)
فبين أن الحج يصح من الصبي ، والصبي ينقسم إلى قسمين : إما أن يكون صبيا دون التمييز، ومثل أن يكون له أربع سنوات أو ثلاث سنوات أو حتى يحمل كالصبي الذي يحمل كذي السنة أو السنتين فإذا كان كذلك فهو دون التمييز، وإما أن يكون مميزا يعلمه أبوه أو وليه فيؤدي المناسك. فأما بالنسبة للصبي غير المميز؛ فإنه يحرم عنه وليه ؛ سواء كان رجلا أو امرأة ، فيجوز للأم أن تلبي عن صبيها وصغيرها، ويجوز للأب أن يلبي عن صبيه وصغيره ، ثم إذا أحرم الأب أو أحرمت الأم عن الصغير والصغيرة قام بمناسك الحج بالنية عنه ، وطاف به ولو محمولا يطوف عن نفسه، ثم يطوف عنه وسنبين هذا ، ثم إذا حصل إخلال من هذا الصبي لزم الولي في ماله ولا يلزم في مال الصبي ؛ لأنه هو الذي أحرم .
وأما إذا كان الصبي مميزا ؛ فله حالتان : الحالة الأولى أن يرغب الصبي بنفسه ، فيحرم من نفسه ويطلب ذلك ، فإذا حصل منه إخلال وجب ضمانه في ماله كما لو ارتكب جناية ، وقد سوي بين حق الله وحق المخلوق في الضمانات .
وأما إذا كان وليه هو الذي أمره وهو الذي ألزمه ؛ فمذهب طائفة من العلماء بوجوب الفدية على الولي والإخلالات عليه .
أما من حيث صحة الحج فالحج والعمرة يصحان من الصبي سواء كان مميزا أو كان غير مميز ، ثم إذا كان مميزا علمه والده الأذكار والأفعال ودله عليها وأرشده إليها، وقام بها الصبي بنفسه أصالة إلا أن يعجز فيوكل فيما تدخله الوكالة . فبيّن رحمه الله أن البلوغ شرط من شروط الحج ، والمراد بهذا الشرط أنه شرط إجزاء ووجوب وليس بشرط صحة ، وعلى هذا فإنه يصح الحج من الصبي ولا يجب عليه .
قال رحمه الله : [ الحر ] : الحر ضد المملوك ، وعلى هذا فإنه إذا حج المسلم البالغ العاقل الحر صح حجه وأجزأه عن حجة الإسلام .(4/299)
وأما إذا كان مملوكا فقد نصت نصوص الكتاب والسنة على أنه ملك لسيده ، مأمور بالقيام بحقه؛ ولذلك قال تعالى : { عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } ووصفه بهذا الوصف وقد ذكرنا غير مرة أن الإسلام ضرب الرق دون نظر إلى جنس ولا لون ولا بلد ، وإنما أوجب الرق على من كفر بالله في الجهاد الشرعي بإذن ولي الأمر، فإذا ضرب الرق على هذا الوجه فقد ضرب على من يستحقه ؛ لأن الآدمي كرمه الله وشرفه ، فإذا كفر بالله ووقف في وجه الإسلام حاملا سلاحه مقاتلا للمسلمين نزل إلى مقام أحط من مقام البهيمة ؛ كما قال تعالى : { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل } فقد كفر نعمة سيده ومولاه ، فحكم الله عليه بالرق ، وفي هذه الحالة يكون ملكا لسيده كما قال تعالى : { وما ملكت أيمانهم } وعليه فإنه لا يخاطب بالحج ولا يجب عليه إلا بعد أن يعتق .
قال رحمه الله : [ إذا استطاع إليه سبيلا ] : إذا استطاع إليه سبيلا : هذا الشرط الأخير وهو شرط الاستطاعة ؛ والأصل فيه قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } أي استطاع سبيلا إلى البيت الحرام وأداء المناسك في الحج والعمرة .
وأجمع العلماء -رحمهم الله- على اعتبار شرط الاستطاعة من حيث الأصل ، وعلى هذا فلو كان فقيرا أو ليس عنده زاد أو ليس عنده نفقة الذهاب إلى مكة ؛ فإنه لا يجب عليه الحج ، وهذا شرط وجوب ، وعلى هذا فلو أنه حج وهو غير مستطيع فتكلف المشقة وحج من عند نفسه
فإنه يصح حجه ويجزيه ، ولا يعتبر موجبا لعدم صحة حجه .
فأصبحت شروط الحج منها ما هو شرط صحة وإجزاء ووجوب وهو شرطا الإسلام والعقل ، ومن الشروط ما هو شرط وجوب وإجزاء وهو الحرية والبلوغ ، ومنها ما هو شرط وجوب فقط وهو النفقة والاستطاعة . هذا حاصل ما ذكره العلماء بالنسبة لشروط الحج، وقد أجملها المصنف -رحمه الله- وبينّها بهذا الترتيب : الإسلام ، ثم البلوغ ، ثم البلوغ، ثم الحرية ، ثم الاستطاعة .(4/300)
وقسمها العلماء إلى هذه الثلاثة الأقسام : شروط وجوب وصحة وإجزاء ، وشروط وجوب وإجزاء ، وشرط وجوب ، وهو شرط الاستطاعة كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتهما ] : وهو أن يجد زادا وراحلة بآلتهما : إذا كان يشترط في وجوب الحج على الإنسان أن يكون مستطيعا ، فالاستطاعة أن يجد زادا ومركوباً بآلة المركوب وآلة الزاد لإصلاح الطعام ونحو ذلك ، فإذا تيّسر له ذلك فقد وجب عليه الحج ، وعلى هذا ينظر في الاستطاعة إلى الآلة التي يصل بها كالدابة والسيارة ، وهذا مذهب الجمهور -رحمهم الله- .
ومن أهل العلم من قال: لا تشترط الدابة والركوب ، بل إنه يجب عليه إذا كان قادرا على المشي كقوله تعالى : { وأذن في الناس للحجّ يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق }(4/301)
{وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا } قال : يأتوك رجالا فدل على أن الركوب ليس معتبرا في الزاد، وقد جاء في السنة ما يدل على اشتراط الركوب ، ولاشك أن الأصل يقتضي أنه إذا كان بعيدا مسافة السفر لابد من أن يتهيأ له ما يوصله إلى البيت ، فهذه الدابة إذا كان يملكها فلا إشكال ، وإن كان لا يملكها نظرنا في أجرة مثله للركوب ، فإذا كانت أجرته مائة ريال في ركوبه وذهابه للحج وإيابه فإننا نقول إذا ملك المائة لركوبه ، ثم ننظر في طعامه ونفقة الطعام فإذا كانت تُكلّفه مثلا مثلها فإننا نقول إذا كان عنده المائتان وأمن الطريق وليس في الطريق خطر عليه فإنه يجب عليه أن يحج ؛ لأنه يستطيع أن يصل إلى البيت ، وهذا المذهب يقوم على تفسير الاستطاعة بشرطين : الراحلة ، والزاد ، كما ورد التفسير في السنة . الراحلة وهو المركوب الذي يركبه لبلوغ مكة كما في زماننا سيارة الأجرة تنزّل منزلة الراحلة ، فإذا وجد من يستأجره أو وجد صديقا يقله ويحمله فحينئذ يسقط الأجرة إذا لم يكن في حمله ضرر كما يقول العلماء إذا لم تكن منة عليه وفي ذلك أذية عليه فلابأس ، وحينئذ يسقط شرط الراحلة ؛ لأنه في حكم من ملك الراحلة .
أما بالنسبة للنفقة فالمراد بها نفقة الأكل ونفقة السكن في ذهابه للنسك وإيابه .
ومن أهل العلم من اعتبر الذهاب دون الإياب ؛ والصحيح أنه معتبر بالذهاب والإياب ، إذا قدّرت النفقة :
فأولا : تقدر ذهابا وإيابا .
ثانيا تقدر للركوب وللأكل .
ثالثا يقدر معها السكن لمثله .
ورابعا أن يكون هذا التقدير يعتد به لمثله ، فلا يبالغ ولا يجحف به ، فينظر إلى مثله إذا ركب يركب ما يرتفق به المثل ، فكبير السن يركب ما لا يركبه الشاب الجلد ، فيحتاج إلى وسيلة تريحه أكثر من الشاب ونحو ذلك مما ينظر فيه على حسب اختلاف الأشخاص .(4/302)
فالشرط في الاستطاعة الزاد والراحلة ، لكن مع هذا ينبغي اعتبار أمن الطريق ، فأمن الطريق نص عليه العلماء -رحمهم الله- فلو كان الطريق مخوفا أو لا يمكنه بلوغ البيت أو في زمان فتنة فإنه لا يجب عليه أن يحج في ذلك الزمان ، فلو تعسر عليه الوصول إلى البيت إلا من طريق يخاف فيه القتل أو يخاف عدوا من أعدائه فإنه لا يجب عليه حتى يأمن .
قال رحمه الله : [ مما يصلح لمثله ] : مما يصلح لمثله الزاد والراحلة .
قال رحمه الله : [ فضلا عما يحتاج إليه لقضاء دينه ] : إذا قدرنا نفقة هذا المسافر لحجه فرضنا بخمسمائة ريال ما بين الركوب ونفقة النزول ونفقة الأكل فنقول له : يجب عليك الحج إذا ملكت خمسمائة ريال زائدة عن نفقتك الأصلية ونفقة من تعول ، فإذا كان عنده زوجة وعنده أولاد ونفقته الأصلية لهم بخمسمائة ريال ووجد خمسمائة ريال فأصبح المجموع عنده ألف ريال وجب عليه الحج ؛ لأنه ملك نفقة الحج وما يستطيع به الحج فاضلا عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته ، وأما إذا كان دون ذلك فلا يجب عليه .
قال رحمه الله : [ ومؤونة نفسه وعياله على الدوام ] : ومؤونة نفسه وعياله كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ ويعتبر للمرأة وجود محرمها ] : ومن شرط وجوب الحج على النساء أن يكون مع المرأة محرم ، والمحرم شرط في وجوب الحج ؛ لأنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم ؛ فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم )) فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم ؛ وفي الحديث الصحيح أن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله، إني اكتتبت في غزوة كذا وكذا وإن امرأتي انطلقت حاجة . فقال عليه الصلاة والسلام : (( انطلق فحج مع امرأتك )) فأمره أن يحج معها .(4/303)
فالمَحْرم شرط لوجوب الحج على المرأة ؛ لأنها إذا سافرت وحدها لم تأمن أذية المؤذين ، ولم تأمن أن يصيبها شيء ، فتحتاج إلى من يقوم عليها ، فإذا قام عليها الأجنبي لم تأمن الفتنة ، ومن هنا وضعت الشريعة هذا الشرط لنوع خاص وهم النساء يجب أن يكون معها محرم ، هذا الشرط محله أن تكون المرأة بعيدة عن مكة مسافة القصر فأكثر، أما لو كانت من أهل مكة فيجوز لها أن تحج مع الرفقة المأمونة ولا يشترط وجود المحرم معها ؛ لأنها ليست على سفر؛ لأن مسافة المناسك من مكة ليست مسافة سفر .
قال رحمه الله : [ وهو زوجها ومن تحرم عليه من التأبيد بنسب أو سبب مباح ] : وهو أي المحرم زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح أو رضاع : المحرم أمر مهم ، وينبغي لطالب العلم ولكل مسلم إذا بلغ طور الرجال أن يعرف من هي المرأة التي هي محرم له يجوز له أن يسلم عليها ، وأن يختلي بها ، وأن يسافر معها ، ومن هي المرأة الأجنبية التي هي بخلاف ذلك ، فمعرفة المحارم أمر مهم ؛ لأنه تترتب عليه مسائل شرعية .
والمحرم هو: كل من يحرم على المرأة على التأبيد بنسب أو سبب من المصاهرة أو الرضاع .
بالنسبة للزوج لا إشكال في كونه محرما للمرأة ، وهو الذي يلي أمرها ؛ كما قال تعالى : { الرجال قوامون على النساء } .
وأما بالنسبة للمحرم من قرابتها على التأبيد فهم من ثلاث جهات :
الجهة الأولى : جهة النسب .
والجهة الثانية : جهة المصاهرة .
والجهة الثالثة : جهة الرضاع .
فالمرأة إذا حرمت على الإنسان على التأبيد فإنها محرم له إلا في اللعان ، فأما بالنسبة للمحرمة من جهة النسب فقد حرم الله من جهة النسب سبعاً من النساء ، وهن : الأمهات ، والبنات، والأخوات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت ، والعمات ، والخالات . فهؤلاء سبع من جهة النسب وقالوا نسب لأنه ينسب للإنسان ويضاف إليه .(4/304)
فأما الأم فهي كل أنثى لها على الإنسان ولادة ؛ سواء كانت مباشرة كأمه التي ولدته ، أو أم أمه وإن علت سواء كانت تمحضت بالنساء كأم أمه وهي الجدة ، أو تمحضت بالذكور كأم أب الأب ، فكل هؤلاء محارم ومحرمات للإنسان ؛ لقوله تعالى : { حرمت عليكم أمهاتكم } وأجمع العلماء -رحمهم الله- على تحريم الأم المباشرة والأم بواسطة سواء تمحضت بالذكور أو بالإناث أو جمعت بينهما .
النوع الثاني : البنات ، والبنت : هي كل أنثى لك عليها ولادة ، سواء كانت مباشرة كبنتك من صلبك ، أو بواسطة كبنت ابنك أو بنت بنتك ، تمحضت بالإناث كبنت البنت ، أو تمحضت بالذكور كبنت الابن ، فهؤلاء كلهن محرمات ومحارم ؛ لقوله تعالى : { وبناتكم } .
النوع الثالث : الأخت ، والأخت هي: كل أنثى شاركتك في أحد أبويك ، أو فيهما معا ، فقول العلماء : هي كل أنثى شاركتك في أحد أصليك المراد بها الأخت لأب أو الأخت لأم ، وهي التي شاركت في أحد الأصلين ، أو شاركت فيهما معا وهي الأخت الشقيقة ، فالأخوات ثلاثة أنواع: شقيقة، ولأب ولأم ، فكلهن محرمات ومحارم لقوله تعالى : { وأخواتكم } .
النوع الرابع : الخالات ، والخالة : هي كل أنثى شاركت الأم في أحد أصليها ، أو فيهما معا، ويشمل هذا الخالة الشقيقة وهي التي شاركت في الأصلين ، والخالة لأب ، والخالة لأم ، فكل واحدة منهما شاركت في أحد الأصلين . الخالة لأم هي أخت الأم لأم ، والخالة لأب هي أخت الأم لأب ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { وخالاتكم } ، والخالة يستوي أن تكون خالة لك أو خالة لأصولك ، فخالات الأب وخالات الجد وخالات الجدة كلهن خالات لك ؛ ولذلك قال العلماء : خالات الأصول خالات للفروع .(4/305)
النوع الرابع : العمات ، وهي كل أنثى شاركت الأب في أحد أصليه ، أو فيهما معا ، فيشمل العمة الشقيقة وهي التي شاركت في الأصلين ، والعمة لأب ، والعمة لأم ، فكل واحدة منهما شاركت في أحد الأصلين ، فإذا شاركت المرأة الأب في الأصلين فهي عمة شقيقة ، وإذا شاركت في أحدهما فهي إما عمة لأب ، أو عمة لأم ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { وعماتكم }.
وأما النوع الخامس فهن بنات الأخ ، وبنات الأخ هي كل أنثى لأخيك عليها ولادة ، فكل ما ولد أخوك فإنه محرم ومحرم عليك نكاحه ؛ لقوله تعالى : { وبنات الأخ } يشمل الأخ الشقيق والأخ لأب والأخ لأم ، فكل من أنجبوا من النسوة من البنات يعتبرن محارم ومحرمات .
وأما بنت الأخت وهو النوع السابع فهي كل أنثى لأختك عليها ولادة سواء كانت مباشرة كبنت الأخت أو بواسطة كبنت بنت الأخت أنثى كانت أو ذكرا ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { وبنات الأخت } .
فهؤلاء كلهن محرمات من جهة النسب ، وتحريمهم إلى الأبد ، فلا يحِللن للإنسان عمره كله .
أما النوع الثاني من المحرمات على التأبيد فهن المحرمات من جهة المصاهرة ، وهن أربعة أنواع : بنت الزوجة ، وأمها ، وزوجة الأب ، وزوجة الابن ، هؤلاء أربعة من النساء يحرم على المسلم أن ينكحهن إلى الأبد . فالتحريم على التأبيد ، وهن محرمات ومحارم .(4/306)
فأما بالنسبة لزوجة الأب فكل أنثى عقد عليها الأب سواء دخل بها أو لم يدخل ، سواء طلقها أو مات وهي في عصمته ، فكل أنثى عقد عليها تعتبر محرمة عليك إلى الأبد ؛ لقوله تعالى : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } فقال تعالى : { ما نكح آباؤكم } والمرأة منكوحة للأب بالعقد، فكل امرأة عقد عليه الإنسان فقد نكحها ، سواء دخل بها أو لم يدخل ؛ كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } فوصفهم بكونهم ناكحين قبل الدخول ، فدل على أن كل امرأة عقد عليها الأب ولو لم يدخل بها فإنه ناكح لها ، يستوي في ذلك زوجة الأب وزوجة الجد وإن علا الجد سواء كان من جهة الأب أو من جهة الأم .
أما النوع الثاني من المحرمات من المصاهرة فهي زوجة الابن ، وهي كل أنثى عقد عليها ابنك سواء دخل بها أو لم يدخل ؛ لقوله تعالى : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } فبين - سبحانه وتعالى - أن كل امرأة صارت حليلة للابن أنها حرام على أبيه وإن علا سواء دخل بها أو لم يدخل ؛ لأنه قال : { حلائل أبنائكم } وحليلة الابن تكون المرأة حلالا للابن بمجرد العقد ، فلا يشترط دخوله بها، وسواء كان الابن ابنا لك مباشرة أو ابن ابنك أو ابن بنتك ، فلو أن ابن البنت عقد على امرأة في هذه الساعة حل لجده أن يدخل على المرأة وأن يسلم عليها وأن يصافحها وأن يختلي بها ؛ لأنها حرام ومحرم .(4/307)
وأما بالنسبة لبنت الزوجة وهي النوع الثالث من المحرمات من المصاهرة فبنت الزوجة وهي الربيبة فهي كل أنثى ولدتها الزوجة إذا كانت من زوج آخر سواء كان هذا الزوج قد نكح الزوجة قبل الرجل أو بعده ، فكل من تنجبه هذه المرأة التي نكحتها من النساء فهي ربيبة ، ويستوي أن تكون بنتا مباشرة كبنت الزوجة المباشرة أو بنت بنتها فإنها ربيبة أيضا ، ويستوي أن تتمحض بالإناث أو تتمحض بالذكور فبنت بنتها ربيبة وبنت ابنها ربيبة ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } إلا أن الربيبة وهي بنت الزوجة لا تحرم إلا بشرط أن يدخل بأمها ، فإذا دخل بأمها حرمت الربيبة ، ولا يكفي مجرد العقد ، فلو عقد على امرأة ثم طلقها حل له أن ينكح الربيبة وهي بنتها ، ويستوي في الربيبة أن تكون قد تربّت في حجر الإنسان ، أو كانت بلغت قبل أن يدخل بأمها ؛ فإنها ربيبة في مذهب جمهور العلماء ؛ لقوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } .
فقوله : { في حجوركم } خرج مخرج الغالب ، والنص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، وقد دلت السنة على أن الربيبة حرام على الزوج سواء كانت في حجره أو لم تكن في حجره ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال لأم حبيبة بنت أبي سفيان -رضي الله عنها وعن أبيها- كما في الصحيحين- (( فلا تعرِضُن -يخاطب أزواجه- علي بناتكن ولا أخواتكن )) فحرم عليهن أن يعرضن بناتهن فدل على أن الربيبة محرمة سواء كانت في الحجر أو لم تكن في الحجر؛ لأنه لم يقل فلا تعرضن علي بناتكن اللاتي في حجري ، وإنما قال : فلا تَعرضْن علي بناتكن مطلقا فدل على صحة مذهب الجمهور على تحريم الربيبة مطلقا .(4/308)
أما النوع الرابع من المحرمات من جهة المصاهرة فهي أم الزوجة ، وأم الزوجة هي كل أنثى لها على الزوجة ولادة ؛ سواء كانت أمها المباشرة أو أما لأمها فجدة الزوجة سواء من جهة أبيها أو أمها فإنها محرمة ؛ لأنها أم للزوجة تمحضت بالذكور أو تمحضت بالإناث أو جمعت بينهما ؛ فيجوز للرجل أن يسلم على أم زوجته وعلى جدة زوجته سواء كانت من جهة الأب أو من جهة الأم ؛ لقوله تعالى : { وأمهات نسائكم } فدل على أن أم المرأة محرم ؛ ولما قال الله تعالى : { وأمهات} فشمل الأم المباشرة والأم بواسطة ؛ وقال : { وأمهات نسائكم } والمرأة تكون من نساء الإنسان بمجرد العقد ، فبمجرد أن يعقد على زوجة يجوز له بعد العقد أن يدخل على أمها وأن يسلم عليها وأن يختلي بها وأن يسافر محرما لها .
هؤلاء هن المحرمات من جهة النسب ، ومن جهة المصاهرة .
ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، فتحرم الأم من الرضاع، والبنت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، وبنت الأخ ، وبنت الأخت ، والأخت من الرضاع ، وكذلك أيضا يحرم من الرضاع بالمصاهرة أم الزوجة من الرضاع، وبنت الزوجة من الرضاع، كلهن محارم، وزوجة الابن من الرضاع، وزوجة الأب من الرضاع، كلهن محارم ، هذا حاصل ما يقال في المحرم على التأبيد .(4/309)
وقال المصنف: [على التأبيد ] فخرج المحرم من النساء على التأقيت ، فمثلا أخت الزوجة نجد بعض الأزواج الآن يجلس مع أخت زوجته ، فإن قيل له : لماذا تفعل هذا ؟ يقول : إنها محرّمة علي، ولا يفرّق بين التحريم والمحرمية ، فليس كل مُحرَّم نكاحها مَحْرما للإنسان ، الأجنبية محرّم نكاحها لكن ليس معنى ذلك أنها محرم له ، فأخت الزوجة تحرمها مؤقت ؛ لأنه إذا طلق أختها وخرجت من عدتها حل له أن ينكحها ، فليست بمحرم ؛ لأنها محرمة على التأقيت ، وهكذا المطلقة ثلاثا ؛ فإنها محرمة على التأقيت حتى تنكح زوجا غيره ، وهكذا بالنسبة لبقية المحرمات كما في مانع الكفر ومانع الزنا وغيرها من الموانع المؤقتة ، فبين رحمه الله أن التحريم لا يكون إلا من جهة المحرمات على التأبيد .
قال رحمه الله : [ فمن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة ] : فمن فرط في الحج حتى مات أخرج من ماله نفقة الحج والعمرة بمعنى أنه يحجّجُ عنه ؛ والأصل في ذلك أن النبي - - صلى الله عليه وسلم -- جعل الحج دينا لله ، وقال للمرأة : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت: نعم. قال : (( فدين الله أحق أن يقضى )) فمن وجب عليه الحج في حياته فتركه وفرط فيه وتساهل فيه حتى توفي -والعياذ بالله- ولم يحج ؛ فإنه عاص لله -- عز وجل -- آثم للتأخير ، ثم في ذمته هذه الحج بالبدل ، فيخرج من ماله على قدر ما يستأجر الشخص بنفقته ذهابا وإيابا لمثله في الحج، فلو كان يحجج عن الإنسان بألف ريال إذا توفي وترك خمسة آلاف ريال يؤخذ الألف الريال قبل قسمة التركة ؛ لأنها دين لله -- عز وجل -- ولا تقسم التركة إلا بعد قضاء الديون ؛ لقوله تعالى : { من بعد وصية يوصي بها أو دين } وقال في الآية الأخرى : { من بعد وصية توصون بها أو دين } فلا حق للوارث إلا بعد سداد دينه ، فتسدد الديون .
أخرج من ماله على قدر ما يحجّج عنه : إذا استأجر الشخص للحج هناك صورتان :(4/310)
الصورة الأولى: أن يقول لك: أعطني ما يكفيني للركوب وللأكل وللسكن وهذا ما يسميه العلماء بأجرة البلاغ .
والصورة الثانية : أن يقول لك : أعطني عشرة آلاف، أعطني خمسة آلاف، أعطني ثلاثة آلاف، ما زاد فهو لي ، وما نقص فأنا أضمنه .
فأما الصورة الأولى فيسمونه أجرة البلاغ ، وأما الصورة الثانية فيسمونها أجرة المقاطعة ، يفاصله ويبيع ويشتري معه .
فأما إذا أخذ أجرة البلاغ فلا إشكال في جواز ذلك ومشروعيته أن يحجّج بقدر ما يبلغه ذهابا وإيابا بنفقة مثله ، وإذا حج معتمرا أو قارنا أعطي قيمة الدم لنسكه هذا لا إشكال في جوازه .
وأما إذا قال : أريد خمسة آلاف وما زاد فهو لي ، أريد عشرة آلاف وما زاد فهو لي ؛ فهذا لا يجوز في أصح قولي العلماء ؛ لأن الحج عبادة وليس محلا للتجارة ، وإنما عليه أن يبلغه الحج ، وأن يعطيه ما يبلغه الحج ، وليس محلا لأن يأخذ عليه مقاطعة ، فيكون له الزائد ، ويضمن ما نقص بعد ذلك . يعطيه نفقة حجه ذهابا وإيابا وتؤخذ من تركة الميت .
قال رحمه الله : [ ولا يصح من كافر ولا مجنون ] : ولا يصح الحج من كافر ولا مجنون ؛ قال تعالى في الكافر : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } فبين أنه لا يصح مع الكفر عمل ، ولا مجنون ؛ لأن المجنون قد رفع عنه القلم فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم المجنون حتى يفيق )) فدل على عدم صحة حج المجنون .
قال رحمه الله : [ ويصح من الصبي والعبد ولا يجزئهما ] : ويصح الحج من الصبي ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- حينما سألته المرأة : ألهذا حج ؟ قال : (( نعم ، ولك أجر )) فبين أن الحج يصح من الصبي .(4/311)
قال رحمه الله : [ والعبد ] : والعبد فإذا حج العبد صح ، ولكن لا يجزي الصبي ولا يجزي العبد حجهما حال الصبا وحال الرق ؛ لأنه حج نافلة ، ولم يجب عليهم الحج بعد ، وإنما يخاطب الصبي بالحج بعد بلوغه ، فإذا حج قبل البلوغ فقد تنفل ، فقد أدى العبادة قبل وجوبها عليه، والنافلة لا تجزي عن الفرض ، وهكذا بالنسبة للرقيق ؛ فإنه قد أداها نافلة ، فإذا عتق فإنه يعيد ويحج ، وكذلك إذا بلغ يحج حجة الإسلام ؛ وفي هذا أثر ابن عباس اختلف في رفعه ووقفه ، ومثله لا يقال بالرأي فيجب عليه أن يعيد حجه بعد بلوغه وعتقه .
قال رحمه الله : [ ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم ] : ويصح الحج من غير المستطيع فلو أن شخصا لا يستطيع الحج ولكنه تكلف وتجشم ، وكم ترى عينك في الحج أناسا من الحطمة والضعفة وكبار السن ، بل تتعجب كيف بلغ إلى هذه الأماكن ، ولكنها العزيمة . قال بعض السلف : علمت أن قوة الإنسان في قلبه وروحه وليس في جسده ، ثم قال : ألا ترى الشيخ الكبير الحطمة يفعل ما لا يفعل الشاب ، أو يقوى ما لا يقوى عليه الشاب ، هذا يدل على صدق العزيمة فلو أن هذا الرجل الذي لا يجب على مثله الحج تجشّم الصعاب وركب الشدائد وحج ؛ صح حجه وعلى الله أجره ، ولاشك أن الحج صحيح ، فليس شرط الاستطاعة شرطا في الإجزاء والصحة .
قال رحمه الله : [ والمرأة بغير محرم ] : وكذلك يصح الحج من المرأة بغير محرم ، ولكنها آثمة عاصية ، فإذا حجت ؛ صح حجها ؛ لأنها فعلت ما أمرها الله به وأدت العبادة على وجهها ، وتأثم لعصيانها ؛ لنهي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن سفر المرأة بدون محرم ، هذا إذا كانت على مسافة القصر كما ذكرنا . أما إذا كانت دون مسافة القصر فيصح منها بدون محرم .(4/312)
قال رحمه الله : [ ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه أو عن نذر وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره ] : بين رحمه الله أن الحج عن الغير يشترط فيه أن يكون الإنسان قد حج عن نفسه ، فشرع في الشروط الخاصة في المسائل الخاصة بعد أن بيّن شروط الحج العامة شرع في بيان الشروط الخاصة في المسائل الخاصة ، وهي مسألة الحج عن الغير . يشترط أن يكون الوكيل قد حج عن نفسه ؛ والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سمع رجلا وهو يطوف بالبيت يقول : لبيك عن شبرمة . فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ومن شبرمة ؟ قال : أخي أو ابن عم لي مات ولم يحج . قال : أحججت عن نفسك ؟ قال : (( لا حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )) فدل هذا على أن الوكيل لا يصح أن يقوم بالحج عن الغير إلا بعد أن يؤدي الفرض عن نفسه .
الأسئلة :
السؤال الأول : فضيلة الشيخ : من أخر ركعتي الطواف إلى ما بعد وقت النهي فهل يجوز أن يبدأ بالسعي ، وإذا طال وقت النهي فهل يؤثر طول الانتظار في الطواف والسعي . وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فيجوز تأخير ركعتي الطواف إلى ما بعد وقت النهي ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس ، وعن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس .
وأما مشروعية التأخير فقد جاءت بها سنة راشدة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- حيث أخر ركعتي الطواف إلى ذي طِوَى ، فطاف في حجه طواف الوداع بعد صلاة الصبح ثم أخر ركعتي الطواف حتى أشرقت عليه الشمس وهو في وادي ذي طِوَى ، وهذا الوادي هو جهة الزاهر الآن ، فصلى رضي الله عنه وأرضاه بعد طلوع الشمس ، فدل على مشروعية تأخير ركعتي الطواف إلى ما بعد انتهاء وقت النهي .(4/313)
وأما إذا كان في العمرة فسعى قبل أن يصلي الركعتين ؛ صح سعيه ، ثم يصلي الركعتين بعد طلوع الشمس ؛ لأن تقدمها على السعي ليس بشرط في صحة السعي وليس بواجب ولا ركن، والسعي صحيح ؛ لأنه سعى كما أمره الله ، فيسعى مباشرة حتى لا يفصل بين الطواف والسعي .
وقد اختار طائفة من العلماء الموالاة بين السعي والطواف في العمرة . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني : فضيلة الشيخ : أنا أشتغل في دعوة غير المسلمين فأجد من الكفار من يرغب تعلم في الإسلام ، ويظهر منهم أنهم يريدون أن يسلموا ولكن يترددون ، فهل يجوز أن أعطي من مال الزكاة ترغيبا لهم في الإسلام . وجزاك الله كل خير ؟
الجواب :
إذا كان الكافر يؤلف للإسلام بالمال ؛ جاز إعطاؤه من الصدقات والزكوات ؛ لأن الله تعالى جعل في الزكاة سهما للمؤلفة قلوبهم .
وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أنهم من أصناف الزكاة الثمانية الذين يجب دفع الزكاة لهم، فالمؤلفة قلوبهم يدخل فيهم من كان متذبذباً فإذا أعطي المال انشرح صدره فيعطى ؛ لأن الناس أقسام ، فمنهم من يدخل الإسلام بالرأي والحجة ، ومنهم من يدخل بالقوة والسيف، فإذا رأى العزة للإسلام كما وقع لصناديد قريش لما رأوا أن الإسلام قد ظهر أسلموا ، ثم اطمأنت قلوبهم بعد ذلك ، ومنهم من يدخل بالمال ، وكل أعطاه الله حقه ، وهنا يرد الإشكال : كيف نعطي المال للناس يسلمون بالمال ؟ إذًا إسلامهم للمال وليس لله ؟
والجواب أن الإسلام دين حق ، وهذا الحق لو تأمله الإنسان تأملا صحيحا انكشف له .(4/314)
فإن الإسلام دين حق ، وهذا الحق يمتنع الإنسان من تأمله بسبب فتن الدنيا ، ولكن إذا خلي بينه وبين التأمل والنظر الصحيح أدرك الصواب والحق ، ولذلك لما قيل لعمرو بن العاص : لماذا تأخر إسلامك وأنت أنت ؟ -يعني في العقل والحجا والرأي- فقال : إنا كنا تسوسنا رجالنا يعني كبار السن منا ، وكنا تبعاً لهم في ذلك ، فلما صار الأمر إلينا وتأملنا علمنا أنه الحق ، فقد تأتي شواغل أو أمور تمنع من تأمل الحق من عصبية أو غيرها ، فإذا كان الإنسان في تردد وأعطي المال أعطي مبتغاه فإنه سرعان ما يحب الإسلام للإسلام لا للمال ، فهذا المال يقطع العوارض الدنيوية في حال كفره وضعفه ، والمقصود منه تقويته على أن يتأمل الإسلام بحق ، ولذلك تجد من ألّف قلبه للإسلام قد يعود أقوى ثباتا وغيرة على الإسلام من كثير من أهله ، وهذا عرف في التاريخ وعرف بالاستقراء والتتبع ، فمن الناس من يدخل الإسلام طواعية ، ومنهم من يدخله تأملا ونظرا ، ومنهم من يدخله بالمال رغبة ، وكل له مثال في عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فثمامة بن أثال سيد بني حنيفة سيد من سادات بني حنيفة لما أخذته خيل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأتي به إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وهو سيد في قومه ، قد كان بالإمكان أن يهدده ، وقد كان بالإمكان أن يتوعده ، وقد كان بالإمكان أن يضرب رقبته على الكفر، ومع هذا كله نظر -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- النظرة الصحيحة فعلم أنه رجل على عقل ووعي أن مثله إذا تبين له الحق سرعان ما يقبل، فأمر بربطه في المسجد، فربط في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فصار ينظر إلى الصحابة ، نظر إلى ذلك الرعيل الذي تربىّ بين يدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، نظر إلى شمائل الإسلام وأخلاق الأعزة الكرام ، نظر إلى أخلاق النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وسمته ودله ، في غضبه ورضاه ، في ليله ونهاره ، وصبحه ومسائه ، وأخذه وعطائه ،(4/315)
وبين أصحابه -صلوات الله وسلامه- وفي صلاته وفي عبادته ، نظر إلى جميع هذه الأمور كلها ثلاثة أيام، كل يوم يقف عليه رسول الرحمة -صلوات الله وسلامه عليه- ويقول : ما وراءك يا ثمامة ؟ فيقول له : إن تقتل ؛ تقتل ذا دم ، وإن تعفُ ؛ تعفُ عن كريم لا ينسى ، فلما كان اليوم الثالث نظر إليه صلوات الله وسلامه عليه النظرة الواعية الصادقة فنظر في وجهه أنه يريد الإسلام وأنه يرغبه . فقال : أطلقوا ثمامة ، فلما أطلق رضي الله عنه وأرضاه انصرف إلى حائط عن طواعية وعن اختيار، ولكنها طواعية أخذت بقلبه أشد من أخذ المكره على ما يكره عليه ، من قوة محبته في الإسلام ، طواعية وهو في عزته وأنفته وكبريائه رئيسا في عشيرته وعزيزا في قومه لم يسلم ذليلا ولا مهانا ، فخرج إلى الحائط واغتسل ، ثم جاء إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ليقف إليه ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، والله يا محمد ، لقد كان وجهك أبغض الوجوه إلي ، ودينك أبغض الأديان إلي ، فأصبح وجهك أحب الوجوه إلي ، ودينك أحب الأديان إلي، متى ؟! لما انكشف له الإسلام حقيقة ، لما زال المنافقون والمرجفون والكذابون والغشاشون والنمامون والأفّاكون والمفترون والمشركون والوثنيون الذين لفقوا على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وكذبوا عليه ، فأخذوا يلفقون عن الصحابة ، ويضعون الحواجز بين الناس وبين دين الله -- عز وجل -- ، وهكذا كل صاحب فطرة مستقيمة إذا وقف أمام إنسان صاحب حق وصاحب هدى ، قد يجد العوائق من القيل والقال والترهات والأكاذيب والأراجيف وقول الحساد والنمامين ولكن إذا وقف أمام الحق منصفا صادقا متأملا سرعان ما يعرف الحق ، شاء أو أبى ، ويأخذه سلطان الحق بالقوة إذا سلمت فطرته ، وصدقت عزيمته ، وأراد النجاة من نار الله -- عز وجل -- قبل أن يأخذه الله على الكفر أخذ عزيز مقتدر، فالكفار إذا استبانت لهم الأمور، وانكشفت لهم الحقائق؛ فإنهم إذا كانوا(4/316)
أصحاب عقول مستقيمة أسلموا ؛ وإلا والعياذ بالله قد يكابرون { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } فالذي يعرض عليه الإسلام بالمال ليس معناه أننا نشتري الناس ليسلموا ، وإنما نريد أن نقطع العوائق والعلائق التي تحول بين الناس وبين دين الله -- عز وجل -- تحول بينهم وبين تأمل هذه الأنوار الإلهية التي تخرج من الظلمات إلى النور التي تحول بينهم وبين انشراح الصدر وطمأنينة القلب والاهتداء بهداية الله لكي يصيب الإنسان سعادة لا شقاء بعدها أبدا ، فيعطى هذا المال من أجل أن تزول هذه العوائق وليس معنى ذلك أنه يسلم من أجل أن يأخذ المال، ومن هنا من نظر في التاريخ وسمع العبر كثير ممن أسلموا وألُّفت قلوبهم سرعان ما أخذوا المال في بداية أمرهم ثم تركوه، ومنهم من رد المال ، وأحب الإسلام للإسلام ؛ لأنهم انكشفت لهم الحقيقة ، فإعطاء المال للمؤلفة قلوبهم سهم لهم سهم في الزكاة ، ولهم أن يعطوا من الصدقات ، ولو عرض عليك إنسان يريد الإسلام وتعلم أنك لو أعطيته أو تألفته بالمال أنه يسلم تبادر وتعطيه ما تستطيع ؛ لأنه إذا اهتدى على يدك وبسببك كان لك أجر صلاته وزكاته وحجه وعمرته وإسلامه وإسلام من يسلم على يديه وإسلام من أنجبه من أبنائه المسلمين ، وتلك والله هي التجارة الرابحة ، وتجارة رائجة رائحة .
نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، ونسأله أن يهدينا ويهدي بنا ، وأن يجعلنا هداة مهتدين على طاعته ومحبته ومرضاته .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
باب المواقيت
قال المصنف - رحمه الله - : [ باب المواقيت ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد :(4/317)
فيقول المصنف رحمه الله : [ باب المواقيت ] : المواقيت : جمع ميقات ، يقال : أقّت الشيء يؤقته تأقيتا إذا حدده ، والتحديد من الشرع أصل في العبادات ، ولذلك جعل الله لعبادة الحج والعمرة ميقاتين : ميقات زماني ، وميقات مكاني .
فالعمرة في ميقاتها الزماني شامل عام لجميع السنة إلا ما استثناه بعض العلماء -رحمهم الله- من يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق .
وأما بالنسبة للحج فله ميقات زماني لا يقدم عليه ولا يؤخر عنه على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- لأهل العلم .
وأما الميقات المكاني فهي مواضع محددة حددها رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بالنسبة للآفاقيين ، ولمن مر بهذه المواضع من غير أهلها أن لا يجاوزوها وعندهم نية أن يحجوا ويعتمروا إلا بعد الإحرام منها ، ولأجل هذا التحديد اصطلح العلماء رحمهم الله بتسميته بالمواقيت والميقات الزماني بينته أو أشارت إليه نصوص الكتاب العزيز والميقات المكاني بينته السنة الصحيحة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ومن عادة أهل العلم في باب المواقيت أن يتكلموا عن ميقات الحج الزماني وعن ميقاته المكاني .
فيقول المصنف رحمه الله : [ باب المواقيت ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بمواقيت الحج الزمانية والمكانية وكذلك مواقيت العمرة وجمعها رحمه الله لتعددها واختلافها .(4/318)
قال رحمه الله : [ وميقات أهل المدينة ذو الحليفة ] : الميقات الأول ميقات أهل المدينة وهو ذو الحليفة ، والحليفة نوع من الشجر، وقيل سمي هذا الموضع بذلك ؛ لأنه كانت به شجرة ، ومن عندها وبجوارها كان المصلى الذي صلى فيه رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- من بطن الوادي ، ولذلك قالوا ذو الحليفة ، وقيل إن هذا النوع من الشجر ينبت في هذا الموضع من الوادي وهو وادي العقيق ، ويقال له : الوادي المبارك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال كما في الحديث الحسن : (( إن هذا الوادي مبارك )) يعني وادي العقيق وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح أنه قال : (( أتاني الليلة آت من ربي فقال أهل في هذا الوادي وقل حجة في عمرة )) والميقات ميقات ذوالحليفة هو أبعد المواقيت عن مكة ، ويبعد ما بين أربعمائة إلى خمسمائة كيلومتر من مكة ، وهو على عشر مراحل في عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وموضعه عند نهاية حد المدينة ، فهو بحذاء جبل عير ، وبطن الوادي هو الذي أحرم منه النبي - صلى الله عليه وسلم - والسنة أن ينزل إلى بطن الوادي وأن يغتسل ثم يهل بنسكه بعد صلاة الفريضة كما ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إن تيسر .(4/319)
وأما بالنسبة لهذا الموضع فإنهم اتفقوا على أنه أبعد المواقيت عن مكة، وأنه ميقات أهل المدينة، والأصل في ذلك حديث عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- في الصحيحين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، وهذا الموضع قلنا إنه في بطن الوادي والعبرة بالإهلال به إذا نزف البطن بطن الوادي أو أخذ من طرفه إذا كان مارا بالوادي ، فمروره على أحد طريقين بالنسبة للموجودة الآن إما طريق مكة القديم وإما طريق الذي يسمى بطريق الهجرة اسما لا حقيقة ؛ لأن طريق الهجرة الحقيقي غير هذا الطريق كما هو معروف عند أهل السير ، ولكن هذا الطريق هو طريق الأيسر عند خروج الخارج من المدينة ، والأول هو طريق الأيمن ، فإن مر بالطريق القديم فإنه بمحاذاته للمسجد يشرع له أن يحرم ولا يجوز له أن يجاوز ذلك الموضع ، ثم هناك ابتداء وانتهاء لموضع المحاذاة ، فهل العبرة بأوله أم العبرة بآخره ؟
نص طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- على أنه يتحرى أول المحاذاة للمسجد ، ولو أحرم من آخر المحاذاة عند طرف المسجد من ركنه صح إحرامه ، ونص على ذلك غير واحد من الأئمة -رحمهم الله- سواء كان مروره بالطريق القديم أو الطريق الجديد .
الطريق القديم كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ينزل إلى بطن الوادي ، ثم يرتقي على البيداء ، فهذه البيداء هي المرتفع الذي يحاذي المسجد من الجهة اليمنى للخارج من المدينة ، وهي التي ورد فيها حديث عبدالله بن عمر في الصحيحين عنه -- رضي الله عنه -- أنه قال بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ولما علاها عليه الصلاة والسلام أهل بالتوحيد ولبى .(4/320)
البيداء موضعها يبدأ من عند الموضع الذي فيه الإشارة الآن الذي ينزل منه إلى المسجد ، فهذا المكان العالي هو بداية البيداء ، ثم بعد البيداء في الخط القديم إذا مضى إلى جهة مكة يكون ذات الجيش ، وذات الجيش من منقطع البيداء إلى الجبال التي هي نهاية الأرض السهلة في ذلك الموضع، وذات الجيش هو الذي انقطع فيه عقد عائشة -رضي الله عنها- وحبست رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في القصة المشهورة ونزلت آية التيمم ، فهذا الموضع يقال ذات الجيش ، فإن أخر عن البيداء إلى ذات الجيش وأحرم من ذات الجيش لزمه الدم ، فلابد وأن يكون إحرامه من البيداء محاذيا للموضع الذي أحرم منه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
وأما بالنسبة للطريق الجديد فلا إشكال أنه يكون على سمت المسجد من ابتدائه احتياطا كما ذكرنا إلى نهايته إجزاء على نفس التفصيل الذي ذكرناه في الجهة اليمنى .
أما إذا حاذى بالطائرة فإنه يعتد بمحاذاة المسجد ولم أجد تحديدا دقيقا رغم كثرة سؤالي لبعض الأخوة الذين لهم خبرة وبعضهم يقود الطائرات ، فسألتهم فاختلف تقديرهم للدقائق من الإقلاع إلى محاذاة الميقات ؛ والسبب في هذا اختلاف جهة الإقلاع ، واختلاف السرعة ؛ خاصة عند وجود الريح وعدمه ، ولذلك لا يوضع ضابط معين بالنسبة للوقت ، فتارة إذا أقلع على الجهة المعاكسة للميقات سيستغرق وقت حتى يقلع ثم يرجع إلى سيره ، وهذا يحتاج إلى زيادة ا لدقائق، وهكذا إذا أقلع بخلاف ما إذا أقلع مباشرة على جهة مكة ، وأيضا يختلف في الزمان كما يذكر بعض أهل الخبرة منهم بحسب قوة الريح وضعفه ، وقوة الطائرة وضعفها ، فهذا صعب وضع قدر زماني يحدد به ، لكن يستطيع الراكب أن ينظر فيعتد بالمحاذاة إذا كان من جهة النظر أو تيسر له النظر، أو إذا بلغ أنه بالمحاذاة فإنه يبني على ذلك إذا كان بقول الثقة ، هذا حاصل ما يقال بالنسبة لميقات: ذوالحليفة .(4/321)
ميقات ذوالحليفة يقال له: أبيار علي ، وهو يبعد عن المدينة ما يقارب تسعة كيلومترات ، وهذا الميقات أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه ميقات محدد من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالقول وبالفعل ، فحدده النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالقول ، وقال : (( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة )) وحدده بالفعل حينما أحرم منه -عليه الصلاة والسلام- .
قال رحمه الله : [ وأهل الشام والمغرب ومصر الجحفة ] : وميقات أهل الشام ومصر والمغرب وأهل أفريقيا في الطريق القديم حيث كانوا يأتون من شمال المملكة من أعلى العقبة ، ثم ينزلون برا على جهة ضبا ، ثم يمرون بالجحفة فطريقهم ساحلي غربي ، ولذلك ميقات أهل الغرب هو الجحفة ، وأهل الشام أخذوا حكم أهل الغرب ؛ لأنه كان لهم طريق من جهة الساحل وهو الذي تسبقه العير، وفيه قصة عير قريش المشهورة ، فطريق الساحل هذا إذا أخذه أهل الشام صار ميقاتهم الجحفة ، وأما إذا مروا بالمدينة وصار طريقهم إلى المدينة لا إشكال أن ميقاتهم وميقات المدينة واحد ، وعلى هذا فإن ميقات الجحفة ميقات أهل الشام وأهل الغرب .
والجحفة مأخوذة من اجتحف الشيء إذا أخذه ، قالوا : كان فيها قوم من العماليق، فأرسل الله عليهم السيل فاجتحفهم ، فأخذهم عن بكرة أبيهم ، فسميت الجحفة ، ويقال : لها مهِيْعة ومَهْيَعة وهذا الموضع خراب مهجور؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد وصححها وانقل حماها إلى الجحفة )) فنقلت الحما إلى الجحفة فأصبحت وبيئة ولذلك يتحاماها الناس ويحرمون بحذائها من رابغ ، فهذا الميقات أجمع العلماء على أنه نصي وأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أقته كما في الصحيحين من حديث ابن عباس وعبدالله بن عمر قال عبدالله - رضي الله عنه - : وقت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة .(4/322)
فقوله : ولأهل الشام الجحفة أي وقّت لأهل الشام الجحفة ، فهو ميقات نصي يبعد عن مكة خمس مراحل ، وهو ما يقارب مائتين وكيلو ، وهو ميقات من ذكرنا من جهة الغرب .
قال رحمه الله : [ واليمن يلملم ] : واليمن يلملم ويقال ألملم ، وهو جبل معروف في ذلك الموضع ، ويقال إنه موضع السعدية الآن ويبعد عن مكة بمرحلتين ما يقارب من ثمانين إلى خمس وثمانين كيلومتر وهو ميقات أهل اليمن ، وكانوا في القديم يأتي الحجاج من الصين ومن جاوه ومن ماليزيا عن طريق اليمن وحضرموت ثم يسلكون طريق الجنوب ويكون هذا ميقاتا لهم ولذلك اعتدوه ميقاتا للجنوب .
قال رحمه الله : [ ولنجد قرن ] : ولأهل نجد قرن المنازل . يقال له : قرن الثعالب ، والقرن له أسماء : يطلق على عدة مسميات منها : أعلى الجبل ، وهذا الموضع يقال إنه هو طبعا يسمى الآن بالسيل الكبير، ويبعد عن مكة بمرحلتين ما يقارب من ثمانين كيلومتر إلى خمس وثمانين كيلومتر وهو ميقات أهل نجد ومن جاء من طريق من أهل الخليج .
قال رحمه الله : [ وللمشرق ذات عرق ] : فميقات قرن المنازل وقته رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لأهل نجد كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عباس ولأهل نجد قرن المنازل ، وكذلك أيضا في حديث عبدالله بن عمر وحديث عائشة -رضي الله عن الجميع- فهو ميقات نصي .
قال رحمه الله : [ وللمشرق ذات عرق ] : وللمشرق ذات عرق والعرق هو الجبل ، وهذا الجبل هو المنقطع تهامة وابتداء نجد ويسمى بالضريبة ويقال الخريبات عند الخريبات وهو يبعد مرحلتين أيضا ما يقرب من ثمانين إلى خمس وثمانين كيلومتر ، هذا الميقات هو ميقات أهل العراق ، ومن جاء من جهتهم كأهل فارس وأهل المشرق إذا سلكوا طريقهم وسبيلهم .
واختلف فيه هل وقته النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في الحديث الصحيح أنه وقته لأهل العراق ، وقيل إن الذي وقته عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .(4/323)
والصحيح أنه مؤقت نصا وأن عمر لما سئل أي سأله عن العراق فقالوا : إن قرنا جور عن طريقنا فوقت لهم القرن بحذائها فوقت لهم ذات عرق فوافق توقيته توقيت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقد كان محدثا ملهما -رضي الله عنه وأرضاه- .
هذه المواقيت كلها نصية على الصحيح من أقوال العلماء -رحمهم الله- إلا ذات عرق فالصحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقتها خلافا لمن قال إن عمر هو الذي وقتها ، والصحيح أنها نصية . هذه المواقيت إذا تأملها المتأمل وجد أن منها ما هو بجهة الشمال كذي الحليفة ، ومنها ما هو في جهة الغرب كالجحفة ، ومنها ما هو إلى جهة الجنوب كيلملم ، ومنها ما هو إلى جهة المشرق كذات عرق وقرن المنازل ، وعلى هذا فالمواقيت هذه ينبغي أن ترتبط بجهاتها ، ويقوّي هذا أنه افترق حكم الشامي ما بين مروره من طريق المدينة وما بين مروره من طريق الساحل ، فكل جهة يعتد بالميقات المنسوب إليها ، فمن كان من جهة هي أقرب إلى الشمال اعتد بميقات أهل المدينة ، ومن كان في جهة إلى الغرب اعتد بميقات الجحفة ، ومن كان إلى المشرق اعتد بميقات أهل المشرق، وهكذا بالنسبة لمن كان في الجنوب .
هذه المواقيت ثبتت فيها السنة كما ذكرنا في حديث عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- وحديث عبدالله بن عمر وحديث عائشة -رضي الله عن الجميع- وكلها حديث صحيحة قال عبدالله - رضي الله عنه - : (( وقت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ حتى إن أهل مكة يهلون من مكة )) .(4/324)
فدل هذا الحديث على انقسام الناس إلى من كان خارجا عن المواقيت أو من أهلها كأهل المدينة وإلى من كان دون المواقيت فيما بين المواقيت والحرم ، وإلى من كان من أهل الحرم وهم أهل مكة، هذه ثلاثة أقسام بينها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في هذا الحديث .
القسم الأول يسميه العلماء بالآفاقيين وهم الذين على المواقيت وخارج المواقيت ، ومنهم من يرى أن الآفاقي من كان بين المواقيت والحرم ، لكن الصحيح أنهم يقال لهم أهل الحل وهم الذين بين المواقيت وبين حرم مكة .
والقسم الثالث هم أهل مكة .
فمن كان خارجا عن هذه المواقيت نظرنا إلى جهته وأمرناه أن يعتد بميقات تلك الجهة ، فلو أن رجلا من أهل المدينة أراد أن يسافر إلى جهة الغرب ، ثم أراد أن يحج ويعتمر بعد هذا السفر كأن يسافر إلى جهة الساحل قال أريد : أن أذهب لزيارة أهل أو جماعتي أو صديقي في ضبا ثم بعد ذلك أحرم بالحج ، فنقول إنه في هذه الحالة إذا سافر سفره الأول إلى جهة المغرب لم يتمحض نسكا ، فيجوز له أن يؤخر ميقاته وليس ميقات المدينة ميقاتا له فيؤخر إحرامه إلى ميقات الجحفة فقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال للصحابة : (( خذوا ساحل البحر فأحرموا كلهم إلا أبو قتادة)) وهذا يدل على أن من أسهل من أخذ طريق الساحل أو أخذ جهة الغرب أنه يعتد بميقات أهل الغرب .
وهكذا لو أن شخصا قال: أريد أن أذهب إلى الطائف ثم أحج ، فنقول له يجوز له أن تذهب إلى الطائف بدون إحرام ، ثم إذا أردت الإحرام نزلت عن طريق السيل أو عن طريق وادي محرم فأحرمت وأهللت بالحج أو بالعمرة .
إذا بالعبرة في هذه المواقيت بأهلها إذا كانوا من جهتها ، أما إذا خرجوا عن الجهة أخذوا حكم من مر بالميقات غير ميقاته ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قسم الناس إلى هذه الثلاثة الأقسام .(4/325)
أما من كان دون المواقيت فإنه يجب عليه أن يحرم من موضعه ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ )) فقوله عليه الصلاة والسلام : (( فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ )) يدل على أن من كان موضعه دون الميقات يحرم من موضعه بالحج والعمرة .
ومن أمثلة ذلك في ميقات المدينة من كان دون الميقات كأبيار الماشي والعشيرة ووادي ريم ووادي الفرع والأكحل والفارع كل هؤلاء يحرمون من موضعهم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ )) .
وقوله : (( دون ذلك )) يعني دون المواقيت ، وهذا أكده فعل الصحابة -رضي الله عنهم- فإن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - كان له مزرعة في وادي الفرع ، ثم أنشأ منها النية بالنسك فأحرم من مزرعته ولم يرجع إلى ذي الحليفة ، وهذا يدل على أن من أنشأ النية وهو دون المواقيت أنه يحرم من موضعه .
والنوع الثالث : طبعا كل ميقات يكون من دونه بجهته ، فمثلا بالنسبة للمدينة ما ذكرنا ، بالنسبة للجحفة يكون أهل قديد ؛ لأن قديد إلى جهة الجحفة إلى الغرب ألصق منها من الشمال ، فهؤلاء يحرمون من موضعهم وهكذا أهل خليص وأهل عسفان كل هؤلاء يحرمون من مواضعهم .(4/326)
وأما ما يفعله بعض المتأخرين من أن من إدخال الجحفة وإلزام من حاذى الجحفة ممن كان دون ميقات المدينة فهذا خطأ بين ؛ لأن فيه نصا عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أن من كان دون ميقات المدينة فالعبرة بميقات المدينة فيحرم من موضعه . فأهل الأكحل وأهل الفارع لا يجوز لهم أن يؤخروا إحرامهم إلى محاذاة الجحفة ؛ لأنهم دون ميقات المدينة ، وقد نبهنا غير مرة على هذا التنبيه الموجود في الطريق بعد الفارع هنا ميقات محاذاة الجحفة وبينا أكثر من مرة أن هذا التحديد مبني على قول من قال من الفقهاء أنه يحرم بالمحاذاة إذا لم يكن على طريقه ميقات ، وكلام الفقهاء أنه يحرم بالمحاذاة إذا لم يكن على طريقه ميقات في غير من كان دون المواقيت .
أما من كان دون المواقيت فإن فيه نصا عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لا يلغى بقول الفقهاء ولا بغيرهم ، فيه نص وفعل من الصحابة فانظر رحمك الله إلى عبدالله بن عمر أنه يحرم من وادي فرع ، ثم يمضي حتى يمر الفارع ثم ينزل إلى مكة ، ونقول بعد هذا إن من كان في الأكحل أو كان في الفارع ينتظر حتى يحاذي الجحفة؛ إذا أهل أبيار الماشي ومن كان دون الميقات كأهل الريم والعشيرة لهم أن يؤخروا إلى محاذاة الجحفة وهذا لا يعرف في كلام العلماء -رحمهم الله- المتقدمين ؛ ولذلك هذه المحاذاة خاطئة ، وأرجو من الله أن يكون هناك استجابة لإزالتها ، وتوسع في ذلك حتى إن بعض المحطات هناك تسمى بمحطة الميقات ، حتى إن العوام أو من لا يحسن الفهم يؤخر إحرامه من هذه المواضع كلها التي فيها النص حتى يأتي إلى هذا الميقات المزعوم ، والميقات لا ينبغي أن يسمى به إلا الموضع الذي وقته النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وحدده للناس .(4/327)
فالمقصود من هذا التنبيه على هذا الخطأ . المحاذاة محلها أن لا يكون دون المواقيت وأن لا يمر بميقات . أما إذا كان ممن هو دون الميقات ؛ ففيه نص عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لا مجال لإلغاء هذا النص بقول أحد كائنا من كان .
هذه المواقيت العبرة بها لأهلها كما ذكرنا ، ومن كان دونها يحرم من موضعه . يحرم من موضعه سواء كان من أهل ذلك الموضع أو طرأ عليه النسك وهو في ذلك الموضع ، فلو أن رجلا من أهل المدينة خرج من المدينة العصر ومضى إلى جدة يريد جدة ، فلما صار بين المدينة وجدة عنَّ له أن يحرم بعمرة أو عنَّ له أن يحج من عامه فنقول له : متى ما عزمت على الحج وأنت في هذا الطريق أحرمت من موضعك عند عزمك ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ )) هذا بالنسبة للنوع الثاني .
أما النوع الثالث وهم أهل مكة وهم أهل الحرم فهؤلاء لا يخلو إحرامهم إما أن يكون بحج وإما أن يكون بعمرة ، فإن كان إحرامهم بالحج ؛ فإنهم يحرمون من بيوتهم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( حتى إن أهل مكة يهلون من مكة )) ، ولأن أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- انطلقوا مع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بعد أن تمتعوا بعمرتهم وفسخوا حجهم بالعمرة انطلقوا من رحالهم حاجين ملبين فخرجوا إلى منى وهم ملبون ، وعلى هذا فإن المكي يحرم من بيته ، واستحب بعض العلماء أن يحرم من الحرم. والصحيح أنه يحرم من بيته استحبابا وحكما ، هذا من جهة أهل مكة في الحج.(4/328)
أما بالنسبة لإحرامهم بالعمرة ؛ فإنهم يحرمون من أدنى الحل ، فيخرجون إلى أدنى الحل من أي موضع من مكة ، فلو خرج المكي إلى عرفات وأحرم منها صح ؛ لأنها في الحل وهكذا لو خرج إلى العابدية وأحرم منها صح ، ولا يتعين عليه أن يخرج إلى التنعيم ، ولا يتعين عليه أن يخرج إلى الشميسي الحديبية ، وإنما يخرج من أي موضع إلى أدنى الحل ثم بعد ذلك يحرم منه ، حتى جاء في الرواية عن عائشة : (( فلا والله ما ذكر التنعيم ولا غيره )) ولذلك أمرها أن تخرج إلى أدنى الحل ، فلما أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عائشة أن تحرم من أدنى الحل ؛ دل على أن أهل مكة ميقاتهم من هذا الموضع، والسر في ذلك أنهم يجمعون بين الحل والحرم ، كما أن الحاج يجمع بين الحل والحرم . فالحاج لا يمكن أن يكون حجه إلا بخروج إلى عرفة ، ولذلك يحرم من مكة ثم يخرج إلى الحل، فصار نسكه جامعا بين الحل والحرم، والمعتمر نسكه في مكة من جهة المواضع والأماكن، ليس كالحاج نسكه خارج مكة في عرفات ؛ فحينئذ يحتاج أن يخرج إلى الحل ابتداء فينشئ من أدنى الحل حتى يجمع بين الحل والحرم ، هذا بالنسبة لأحكام المواقيت التي ذكرها المصنف -رحمه الله-.
قال بعض الفضلاء :
عرق العراقي يلملم اليمني وذو الحليفة يحرم المدني
الشام والجحفة إن مررت بها وأهل نجد قرن فاستبني
هذا بالنسبة للمواقيت التي ورد النص بها وأحكامها وأحكام من كان دونها .
قال رحمه الله : [ فهذه المواقيت لأهلها ] : لأهلها : تخصيص أي خاصة بأهلها ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( هن لهن )) فذو الحليفة لأهل المدينة ، والجحفة لأهل الشام ، وقرن لأهل نجد، وذات عرق للعراق ، ويلملم لليمن .(4/329)
قال رحمه الله : [ ولكل من يمر عليها ] : ولكل من يمر عليها وعليه الذي يمر على ميقات غير ميقاته يجب عليه أن يحرم من ذلك الميقات حتى ولو لم يكن من أهل المواقيت كأهل مكة ، فلو أن مكيا خرج من مكة إلى المدينة لطلب علم أو حاجة أو تجارة أو عبادة ثم عنَّ له أن يحج أو يعتمر أحرم من ميقات أهل المدينة ؛ والدليل على ذلك قوله : (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )) .
قال رحمه الله:[ ومن منزله دون الميقات فميقاته من منزله حتى أهل مكة يهلون منها لحجهم ] : هذا بالنسبة للصنفين من دون المواقيت وأهل الحرم من دون المواقيت وهم أهل الحل يهلون من موضعه ، فلو أن رجلا في النوارية أو في التنعيم أراد أن يحرم بالحج أو يحرم بالعمرة أحرم من بيته ومن موضعه ، وهكذا لو كان بمر الظهران أو وادي فاطمة أو الجموم ؛ فإنه يحرم من موضعه ، ولا يجب عليه أن يخرج إلى المواقيت بل عليه أن يحرم من موضعه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ )) .
قال رحمه الله : [ ويهلون للعمرة من أدنى الحل ] : ويهل أهل مكة للعمرة من أدنى الحل ففرق فيهم بين الإحرام بالحج والإحرام بالعمرة .(4/330)
قال رحمه الله : [ ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه ] : بعد أن بين رحمه الله أصحاب المواقيت شرع في بيان من ليس على ميقات ، فإذا كان في موضع ليس من هذه المواضع التي سميناه فإنه إما أن يمر في طريقه بميقات ؛ فحينئذ لا إشكال أنه يحرم من ذلك الميقات، وإما أن لا يمر في طريقه بميقات ، وهذا هو الذي عناه المصنف ، فيعتد بالمحاذاة ، والمنبغي في مسألة المحاذاة أن ينتبه للجهة ؛ لأن عدم ضبط الجهة هو الذي حصل به الخلط عند بعض المتأخرين وتوضيح ذلك: أننا إذا نظرنا إلى هذه المواقيت التي نص عليها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وجدنا الجهة فيها مؤثرة فوجدناها لجهة المغرب كما في الجحفة ، ولجهة المشرق كما في ذات عرق وقرن ، وفي جهة الجنوب كما في ألملم ويلملم ، ولجهة الشمال كما في ذو الحليفة وقد بينا هذا ؛ بناء على ذلك لماذا نقول الجهة حتى لا يحصل الخلط بين الميقات الأبعد والأقرب ، فمثلا الآن من كان طريقه إلى جدة فإنه إذا نظر إلى جهة المغرب فالمنبغي أن يعتد بمحاذاة الجحفة ؛ لأن هي جهته وميقاته ، وإن نظر إلى مسألة القرب إلى الميقات اعتد بيلملم وحينئذ يستطيع حتى أن يحرم من جدة نفسها وهذا هو الذي جعل بعض المتأخرين يخلط في هذه المسألة ، ويقول : إن جدة ميقات ، بناء على كلام الفقهاء هذا ، والواقع أن الفقهاء -رحمهم الله- فصّلوا في هذه المسألة ، ومن هنا كلام بعض فقهاء الحنفية الذي رتب وركب عليه البعض أن جدة ميقات بين فيه بعض أئمته ممن جاء بعرض البحر من غربي جدة فإنه يحرم بمحاذاته للجحفة ، وغربي جدة في عرض البحر إذا قدر المسافة قبل الوصول إلى الميناء بالمسافة التي بين جدة وبين الميقات الذي هو الجحفة أمكنه أن يحرمه في عرض البحر، وهذا ما يسمى بالمحاذاة ، وحينئذ تصح المحاذاة باعتبار الجهة ، وليس مراد العلماء المحاذاة المطلقة ، وإلا حصل الخلط بالتحايل للميقات الأقرب وإلغاء الميقات الأبعد ،(4/331)
فالجهة مؤثرة ، وقلنا إن الجهة مؤثرة ؛ لأن من كان إلى جهة الجنوب فهو أقرب إلى يلملم فيعتد يلملم ، ومن كان إلى جهة الغرب أقرب فإنه يعتد بالجحفة لأنها أقرب إلى جهته ، وهذا هو المنبغي في مسألة المحاذاة .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم ] : ولا يجوز لمن أراد دخول مكة أن يجاوز الميقات إلا وهو محرم ، وهذا مذهب الجمهور؛ واستدلوا بأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن دخول مكة بغير نسك ، وخالف في هذه المسألة الشافعية والظاهرية -رحمهم الله- فقالوا يجوز لمن ذهب إلى مكة وليس عنده نية أن يحج أو يعتمر أن يدخل مكة بدون إحرام ولا يلزمه أن يحرم من هذه المواقيت ؛ وهذا هو أصح قولي العلماء لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال في هذه ا لمواقيت : (( لمن أراد الحج والعمرة )) فجعلها مواقيت محددة لمن أراد الحج والعمرة ، ومفهوم ذلك أنه إذا لم يرد الحج والعمرة كأن يذهب إلى تجارة أو صلة رحم أو طلب علم أو دراسة أو نحو ذلك ؛ فإنه لا يلزمه أن يحرم ويجوز له أن يدخل مكة بدون إحرام .
قال رحمه الله : [ إلا لقتال مباح ] : وهذا مبني طبعا إذا قلنا بقول الجمهور لابد من الإحرام فاستثنوا القتال المباح ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فدخلها وهو حلال ولم يدخلها وهو محرم ، فقالوا إذا كان قتالا مباحا جاز له أن يدخلها وهو حلال أي لا يلزمه أن يحرم .
قال رحمه الله : [ وحاجة تتكرر كالحطاب ونحوه ] : وحاجة تتكرر : لأن الأمر إذا ضاق اتسع فلما ألزموا بالإحرام من الميقات ورد السؤال إذا كانت له حاجة تتكرر فيدخل مكة مرة بعد مرة كالحطابين وأهل النقل كالجمالين في القديم وأهل السيارات الآن ونحوهم استثنوهم ، قالوا إن هؤلاء لو أمرناهم بالإحرام لصارت لهم مشقة ، والأمر إذا ضاق اتسع ، والمشقة تجلب التيسير فييسر لهم ويوسع عليهم .(4/332)
قال رحمه الله : [ ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه ] : ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه وهذا بالنسبة للأصل إن كان آفاقيا فإنه يعتد بميقاته ، وإن كان دون المواقيت أحرم من موضعه من منزله ، أو من حيث أنشأ العمرة ، وإن كان مكيا أحرم بالحج من بيته أو من أدنى الحل في العمرة .
قال رحمه الله : [ وإن جاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ولا دم عليه لأنه أحرم من ميقاته ] : يرد السؤال : لو أن إنسانا مر بهذه المواقيت وهو يريد النسك ثم لم يحرم وتذكر أو نبه فكان التنبيه بعد مجاوزته للميقات فما الحكم ؟ إذا تنبه أو رجع عن قصده بأن كان ينوي أن يحرم دون المواقيت ثم ألغى ذلك ورجع ؛ فإنه لا شيء عليه ؛ لأن إحرامه في الحقيقة وقع من المواقيت ولم يحصل منه إخلال في هذا الإحرام ، وقد فعل ما أمره الله من ا لإحرام بهذه المواقيت ؛ إذا كل من جاوز هذه المواقيت وعنده نية النسك ثم رجع عن المجاوزة ولم يحرم من موضعه دون المواقيت فإنه يسقط عنه الدم ولا شيء عليه .
أما إذا أحرم من موضعه دون الميقات ؛ فإنه يجب عليه الدم سواء رجع أو لم يرجع ؛ لأنه أحرم بالنسك وانعقد إحرامه من غير الموضع المعتد ، وقد خالف ، فيجب عليه ضمان هذه المخالفة بالدم وهو دم الجبران .
قال رحمه الله : [ فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع ] : إذًا من جاوز المواقيت وعنده نية للنسك إما أن يرجع قبل أن يحرم وإما أن يحرم من موضعه ؛ فإن رجع قبل إحرامه فلا شيء عليه ؛ لما ذكرنا ، وإن لم يرجع وأحرم من موضعه ؛ فعليه الدم سواء رجع إلى الميقات ؛ لأنه فات التدارك ، أو لم يرجع .
قال رحمه الله : [ والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات ] : بعد أن بين رحمه الله أن هذه المواقيت متعينة يرد السؤال : هل يجوز أن يحرم قبل الميقات أو لا يجوز ؟ وإذا كان جائزا فهل الأفضل أن يحرم قبل الميقات أو من الميقات ؟(4/333)
أما المسألة الأولى وهي الإحرام قبل الميقات ؛ فجماهير الأئمة من السلف والخلف على جواز أن يحرم قبل الميقات، كما إذا كان في المدينة فأحرم من بيته قبل أن يخرج إلى ذي الحليفة ، أو كان في الطائف فأحرم من بيته بالطائف ولبى قبل أن يمر بوادي محرم أو يمر بميقات السيل فقالوا إنه يجوز له ذلك ولا حرج عليه وإحرامه صحيح .
وذهب بعض العلماء كالظاهرية إلى أنه لا يجوز بعض أئمة السلف إلى أنه لا يجوز له أن يحرم قبل الميقات .
واستدل الجماهير بفعل السلف الصالح -رحمهم الله- من تصحيحهم للنسك قبل الميقات ؛ فقد أحرم عبدالله بن عمر من بيت المقدس ، وكذلك أيضا أحرم عبدالله بن مسعود -- رضي الله عنه -- من القادسية وعمران بن حصين من البصرة وكذلك أيضا أحرم عبدالله بن عامر بن كريز .
فالشاهد من هذا أن الصحابة لما عرض على عثمان أنه من فعل ذلك وكذلك عمر - رضي الله عنه - عتب على عمران أنه أحرم قبل الميقات ولكنه لم يحكم بفساد إحرامه ؛ فدل على أن الإحرام صحيح وأنه يجزيه وأنه ينعقد إحرامه لو أحرم قبل هذه المواقيت ، والمراد بالإحرام الدخول في النسك ؛ لأن البعض يظن أن مجرد لبس الثياب التجرد من المخيط ولبس الثياب هو الإحرام .
العبرة في الإحرام بالنية والدخول في النسك ، فلو أنه كان في فندقه في المدينة فلبس الإحرام ولم يلبِّ ولم ينو فهو غير محرم ؛ إذًا إذا نوى الدخول في النسك فهو المحرم ، فإذا فعل ذلك قبل الميقات صح ، وهل هو الأفضل أم أن الأفضل أن يحرم من الميقات ؟
قولان للعلماء -رحمهم الله- :
منهم من قال : الأفضل أن يحرم من الميقات كما هو مذهب المالكية والحنابلة .(4/334)
ومنهم من قال : الأفضل أن يحرم قبل الميقات ، كما يقول به بعض الفقهاء من الحنفية وغيرهم. واستدل الذين قالوا : إن الأفضل أن يحرم من الميقات بفعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حيث أنه أحرم من ميقات ذي الحليفة ، وقد كان بالإمكان أن يحرم من المدينة ، فلما أخر إلى ذي الحليفة فعل الأفضل ، وما كان بأبي وأمي -صلوات الله وسلامه- عليه أن يترك الأفضل ولا ينبه عليه أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- فدل هذا على أن الأفضل أن يحرم من الميقات .
والذين قالوا إن الأفضل أن يحرم من دون الميقات قالوا : إنه أكثر تعبا وهذا أعظم أجرا ، وقد بينا أن الذين قالوا إن الأفضل أن يحرم من الميقات تمسكوا بالسنة ، وقولهم أقعد وأرجح ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعل ذلك ، وحرص عليه صلوات الله وسلامه عليه في مناسكه ولا يفعل إلا الأفضل ، وإذا فعل المكلف السنة اتباعا للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فالوارد أفضل من غير الوارد ، ومن هنا يقدم إحرامه من الميقات ، وهو أفضل على إحرامه قبل الميقات .
قال رحمه الله : [ فإن فعل فهو محرم ] : فإن فعل فأحرم قبل الميقات فهو محرم لما ذكرنا .(4/335)
قال رحمه الله : [ وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ] : بعد أن بين الميقات المكاني شرع في بيان الميقات الزماني ، وميقات الحج الزماني فيه ابتداء وفيه انتهاء ، فيبتدئ الإحرام بالحج بهلال شوال ، وينتهي بفوات القدر الذي يمكنه به أن يدرك الوقوف بعرفة من قبل بزوغ الفجر من ليلة النحر، وعلى هذا فإنه يجوز له أن يحرم بالحج ليلة العيد عيد الفطر إلى أن يبقى من الزمان القدر الذي يتدارك به الوقوف بعرفة ، فلو كان بجوار عرفة وفي سيارته ثم عنَّ له أن يحج فإنه يتجرد ويجوز له أن يلبي ويدخل إلى عرفة مباشرة ولو قبل بزوغ الفجر بلحظة ، فإذا أدرك هذه اللحظة فإنه حينئذ ينعقد إحرامه ويكون إحرامه بالحج ، وهكذا لو أحرم بالحج ولم يدرك الوقت في ليلة النحر، فإنه في الأصل يصح له أن يحرم على رجاء أن يدرك ، لكن هذا الميقات هو ميقات الابتداء .
أما ميقات الانتهاء فإنه ينتهي بانتهاء شهر ذي الحجة ، وفائدة هذه المسألة إذا أخر طواف الإفاضة فإنه إذا قلنا العبرة بأيام النحر أو عشر بأيام التشريق أو يوم النحر فإنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى آخر أيام النحر لزمه دم على قول ، وإذا أخره عن يوم العيد وأيام التشريق لزمه دم ؛ لأنهم يرون انتهاء الحج بانتهاء أيام التشريق .
والصحيح أنه إذا أخر طواف الإفاضة ولم يخرج عن زمن الحج أنه لا دم عليه ؛ لأن الله تعالى يقول: { الحج أشهر معلومات } وتمامها وكمالها ثلاثة أشهر وهو أقل الجمع .
قال الإمام المصنف رحمه الله : [ باب الإحرام ] : إذا ثبت أن بداية الحج تكون من هلال شوال فلو أن شخصا أحرم بالحج قبل ليلة العيد كآخر يوم من رمضان أو أحرم في أول رمضان أو أحرم في شعبان أو أحرم في رجب فللعلماء قولان :
القول الأول : إن إحرامه فاسد ولا ينعقد لا حجا ولا عمرة ، وهذا مذهب بعض العلماء وبعض السلف رحمهم الله .(4/336)
والقول الثاني : أن إحرامه صحيح ، ثم اختلفوا فمنهم من قال ينعقد للحج ويبقى وينتظر حتى يدخل زمان الحج ، فيبدأ بأعمال الحج من الطواف ، وينتظر الوقوف بعرفة إلى أن يأتي زمانه، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله .
واستدلوا بأن غاية الأمر أنه ميقات زمان فيجوز أن يوقع الشرط وهو الإحرام قبله كما لو توضأ قبل صلاة الظهر قبل دخول وقتها ؛ فإنه يصح وضوؤه ولكنه لا يصلي الظهر إلا بعد دخول الوقت ، وكرهوا له ذلك لقربه من الركن كما ذكروا .
وأما بالنسبة لمذهب الجمهور من حيث الجملة أنه لا ينعقد للحج وينقلب عمرة على الصحيح ؛ لأنه قبل زمانه المعتبر ، وعلى هذا فإنه إذا أحرم قبل ليلة العيد ؛ فإنه يتحلل بعمرته وينتظر إلى دخول زمان الحج .
ومن يتأمل زمان الحج في ابتدائه يجده بين العيدين ، فعيد الفطر هو ابتداء وعيد النحر هو الانتهاء، وهذا لشرف عبادة الحج حيث جعله الله -- عز وجل -- على هذا الميقات المعتبر .
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب الإحرام ] : يقول المصنف رحمه الله : [باب الإحرام]: الإحرام مأخوذ من الحرام ، وأصل الحرام المنع ، والمحرم هو الممنوع ، والإحرام الدخول في الحرمات . يقال : أحرم إذا دخل في حرمات الصلاة .
والمراد بالإحرام في اصطلاح العلماء : نية أحد النسكين أو هما معا .
فمن نوى الحج أو نوى العمرة أو نواهما معا فقد أحرم ، فإن نوى العمرة في غير زمان الحج فلا إشكال فهي نية نسك العمرة ، أو ينوي العمرة في أشهر الحج متمتعا بها للحج ، أو ينوي الحج والعمرة قارنا ، أو ينوي الحج وحده مفردا، كل هذا يسمى إحراما ، فلا يحكم بكون الشخص محرما إلا إذا نوى ، وانعقدت نيته بأحد النسكين أو هما معا .
يقول رحمه الله : [ باب الإحرام ] أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بنية النسك .(4/337)
ومناسبة هذا الباب واضحة ؛ لأنه بدأ ببيان حكم الحج ، فبعد أن بين على من يجب الحج وشروط الوجوب ، ورد السؤال :كيف أحج ؟ فقيل له هناك ميقات زماني وميقات مكاني ، فإذا دخل الميقات الزماني والمكاني سأل بعد دخول وقت العبادة من أين أبدأ ؟ عن صفة الدخول في النسك وبداية النسك ، فيقال له : أحرم ، فيحتاج إلى بيان كيفية الدخول في نسك الحج ، وكيفية الدخول في نسك العمرة ، فهذا الباب مبني على ما قبله ، ولذلك يقع الإحرام بعد الوصول للميقات ، فبعد أن بين أحكام المواقيت شرع في بيان أحكام الإحرام .
قال رحمه الله : [ من أراد الإحرام يستحب له أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ] : استحب له أن يتنظف أن يغتسل ويتنظف ويتطيب : من أراد الدخول في نسك الحج أو العمرة أو هما معا استحب له أن يتنظف أن يغتسل .
أما ا لاغتسال ؛ فلأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث زيد تجرد واغتسل لإحرامه ، وثبت أيضا في الصحيح أنه طاف على نسائه -عليه الصلاة والسلام- ثم اغتسل ، فهذا الغسل ثابت في السنة قولا وفعلا .
أما قولا ؛ فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر أسماء بنت عميس أن تغتسل للإهلال ، وهذا سيأتي أنه لوجود عذر النفاس ، لكنه أصل عند العلماء بالدخول للنسك . السنة أن يغتسل ، وهذا الغسل يصير واجبا ومتعينا إذا كانت المرأة حائضا أو نفساء ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في الصحيح حديث أسماء بنت عميس لما نفست بمحمد بن أبي بكر الصديق أمرها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن تغتسل ، فقال لأبي بكر: (( مرها فلتغتسل ثم لتهل )) وهذا الغسل إذا لم يتيسر ؛ فإنه للعلماء فيه وجهان :
منهم من قال : غسل نظافة لا يقوم التيمم مقامه .
ومنهم من قال : غسل عبادة يقوم البدل مقامه وهو التيمم .(4/338)
فإذا قلنا إن هذا الغسل المراد به النظافة ؛ فإنه حينئذ يكون عبادة معقولة المعنى ، ومن هنا لا يتيمم؛ لأن التيمم لا يزيده نظافة ، وإن قلنا إنه عبادة والمراد به التشريع للأمة على وجه معناه فإنه حينئذ يتيمم لكن التيمم في حال وجوبه أقوى بخلاف ما إذا كان في حال الاستحباب فالمعنى فيه ظاهر. يتنظف بتقليم أظفاره والأخذ من شعره وإزالة الشعث والقذر عن بدنه ؛ لأنه سيتلبس بالإحرام ولربما يكون هناك أيام عديدة كما كان في القديم ، فيحتاج أن يتهيأ لهذا حتى لا يعظم منه الأذية للناس في زحامه لهم وفي المساجد فيتنظف لشرف العبادة ويغتسل ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تجرد لإحرامه واغتسل كما في حديث زيد --- رضي الله عنه - .
قال رحمه ا لله : [ ويتطيب ] : ويتطيب التطيب تفعل من الطيب وسمي الطيب طيبا لطيب رائحته، فالسنة إذا اغتسل أن يتطيب لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أصبح يمضخ طيبا وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : طيبت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لحله قبل حرمه ، وهذا الطيب له صورتان :
الصورة الأولى : أن يقع قبل الغسل ثم يغتسل فلا إشكال في هذه الصورة عند الجميع .
والصورة الثانية : أن يغتسل ثم يتطيب . ففيه الخلاف المشهور ، والصحيح أنه من السنة ولا بأس به ولا حرج .
قال رحمه الله : [ ويتجرد عن المخيط ] : يقول رحمه الله : [ ويتجرد عن المخيط ] : المخيط هو المحيط بالعضو، فيشمل ما كان لأعلى البدن كالفنيلة والقميص ، وما كان لأسفل البدن كالسروال بجميع بأنواعه كالسراويل بجميع أنواعها ، أو كان للجميع كالثوب ، أو كان محيطا بالعضو ولو كان لبعض الأعضاء .
فالتجرد من المخيط هو الأصل ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تجرد لإهلاله واغتسل تجرد من المخيط ، وسيأتي إن شاء الله أن من محظورات الإحرام لبس المخيط .(4/339)
قال رحمه الله : [ ويلبس إزارا ورداء أبيضين نظيفين ] : ويلبس إزارا ورداء وهو ما يسمى بالثوبين ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي وقصته دابته : (( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه )) فالأصل في المحرم أن يحرم في ثوبين : إزار لأسفل البدن يستر عورته ، ورداء لأعلى البدن ؛ تأسيا برسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- .
أبيضين : لأن الأبيض هو أفضل الثياب ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( خير ثيابكم البيض فالبسوها وكفنوا فيها موتاكم )) وقد قالوا إن الحج فيه شبه من الكفن ؛ فاستحبوا لبس الأبيض ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فضله واستحبه للأمة ، فالأفضل لبس الأبيض ، لكنه لو لبس غير الأبيض ؛ فإنه لا يضر ، فلو لبس لونا آخر غير الأبيض لا يعتبر ذلك محرما عليه ولا منكرا عليه ؛ لأنه قد يكون فقيرا ، وليس عنده أن يأخذ ثيابا بيضاء أو لا يجد ثيابا بيضاء ، ولو عنَّ له أن يحرم وليس عنده إلا المناشف كأن تكون عنده منشفة صفراء أو خضراء منشفتين كبيرتين ساترتين فاتزر بإحداهما وتردى بالأخرى ارتدى بالأخرى فإنه لا بأس ولا حرج عليه .
قال رحمه الله : [ نظيفين ] : نظيفين من النجاسة بلا إشكال ؛ لأنه سيصلي وسيؤدي العبادة ويطوف بالبيت، وهذا تشترط كله تشترط له الطهارة ونظيفين من القذر حتى لا يؤذي بهما الناس وهذا على الأكمل والأفضل ، لكن لو ضاق عليه الوقت ولم يتسن له أن يغسل إحرامه فوجد إحراما سبق أنه استعمله وليس فيه نجاسة جاز له أن يحرم فيه هذا على الأكمل والأفضل .(4/340)
قال رحمه الله : [ ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما ] : ثم يصلي ركعتين السنة أن يقع الإحرام بعد الصلاة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أحرم بعد الصلاة وقد أحرم بعد صلاة الفريضة وليس للإحرام ركعتان خاصة بالإحرام كما يظن البعض ، بل إنه يلبي بعد الصلاة سواء كانت فريضة أو كانت نافلة كأن يأتي مثلا في وقت ليس فيه فريضة فيتوضأ أو يغتسل ثم يصلي ركعتي الوضوء ثم يحرم بعدها ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه وقع إحرامه بعد الصلاة .
قال رحمه الله : [ وهو أن ينوي الإحرام ] : وهو أن ينوي الإحرام.
قال رحمه الله : [ ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما وهو أن ينوي الإحرام ] : وينوي عقيبهما وهو أن ينوي الإحرام يحرم عقيب الركعتين اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- هل أهلّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأحرم وهو في مصلاه أو أهلّ وأحرم بعد ما ركب دابته أو أهلّ وأحرم بعد أن رقى البيداء؟ وقد بيّن ابن عباس -رضي الله عنهما- سبب هذا الاختلاف ، وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ثم أهلّ بالتوحيد فأدرك أقوام إهلاله ، ثم لما رقى على دابته أهل فسمعه بعض الصحابة وأدركوا ذلك فقالوا أهل عند ركوبه لدابته ، ثم لما رقا البيداء أهلّ صلوات الله وسلامه عليه وسمعه أقوام فظنوا أنها بداية إحرامه .
فالشاهد من هذا أن السنة أنه يحرم من مصلاه بعد أن يسلم من الصلاة يلبي بحج أو يلبي بعمرة أو يلبي بهما معا ، فيقول : لبيك حجا أو لبيك عمرة أو لبيك عمرة وحجا ، هذا هو الوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والمحفوظ .(4/341)
قال رحمه الله : [ ويستحب أن ينطق بما أحرم به ] : ويستحب أن ينطق بما أحرم به ؛ لما ثبت في الصحيحين عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( أتاني الليلة آت من ربي وقال أهل في هذا الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة )) (( قل)) : أمر . (( عمرة في حجة )) والقول لا يكون إلا بالتلفظ ، فلو أنه لم يتلفظ لم يصدق عليه أنه قائل ، فلما قال له : (( قل )) دل على أن من السنة أن يتلفظ بما أهل به وفي الحديث الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال : كنت تحت ناقة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يمسني لعابها أسمعه يقول : لبيك عمرة وحجا ، فدل على أن السنة أن يتلفظ بما أهلّ به .
قال رحمه الله : [ ويشترط ويقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني ] : الاشتراط يقع في الحج ويقع في العمرة ، ويقع فيهما معا إذا كان قارنا ، ومسألة الاشتراط تكون عند ابتداء الإحرام ، والإنسان له حق في هذا الاشتراط مادام أنه في ابتداء الإحرام ، فلا يدخل الاشتراط بعد الإحرام ، فلو أنه أحرم ودخل في النسك ثم خرج من ميقاته وعنَّ له أن يشترط لم يصح اشتراطه ؛ إذًا الاشتراط يكون عند النية ، وهذا الاشتراط للعلماء فيه قولان :
منهم من قال : إنه لا يشرع .
ومنهم من قال: إنه مشروع .
فالذين قالوا بشرعيته هم فقهاء الشافعية والحنابلة والظاهرية وطائفة من أهل الحديث -رحمة الله على الجميع - .
واستدلوا بما ثبت في الصحيح من حديث ضباعة بنت الزبير -رضي الله عنها وأرضاها- أنها دخل عليها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهي شاكية ، فقالت: يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أهلي واشترطي إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن لك على ربك ما اشترطت )) هذا الحديث دل دلالة واضحة على مشروعية الاشتراط وأنه جائز ومشروع .(4/342)
والذين قالوا بعدم شرعيته قالوا إن الله تعالى يقول : { وأتموا الحج والعمرة لله } والاشتراط يمنع من الإتمام ؛ لأنه إذا وقع الشيء الذي اشترطه ؛ فحينئذ له حق أن يفسخ النسك ، ولا يكون عليه شيء ، ولا يتم ولا يفعل ما يفعله المحصر، فهذا كله خلاف الأصل ، ومن هنا اعتذروا عن الحديث بأنه واقعة عين ، والقاعدة أن قضايا الأعيان لا تصلح دليلا للعموم .
والصحيح ما ذهب إليها أصحاب القول الأول من مشروعية الاشتراط في الحج وفي العمرة وفيهما معا ، ومحله ما ذكرنا .
المسألة الثانية : هل الاشتراط على العموم أو على الخصوص ؟
ظاهر السنة أن الاشتراط ليس على العموم ؛ لأن من تأمل حديث ضباعة وجد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دخل عليها وهي شاكية قبل أن تدخل في النسك ؛ وحينئذ وهي مريضة إذا تكلفت ودخلت في النسك كأن الشرع أعطاها هذا الحق ؛ لأنها من الابتداء مريضة ، أو عندها عذر، فجعل هذا بمثابة الاستصحاب للمعذور، بخلاف ما إذا طرأ عليها العذر بعد الإحرام، فأعدل الأقوال في هذا قول الشافعية وهو أيضا رواية عند الحنابلة أنه يختص بالحالات التي توجد فيها الحاجة ؛ ولذلك القول بعمومه بمعنى أننا نقول يستحب لكل من أتى الميقات أن يقول ذلك فيه إشكال .(4/343)
وجه الإشكال : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دخل على ضباعة وهي مريضة ، وهذا قبل أن ينطلق إلى ذي الحليفة ، وقال لها هذا الكلام ، ثم انطلق مع أصحابه إلى ذي الحليفة ولم يأمر الصحابة أن يشترطوا ، فكيف نقول باستحباب ذلك ، وأنه مع أنه خاطب به ضباعة ، ومن المعلوم أنه دخل على امرأة في بيتها وهي شاكية على حالة خاصة يقوى تخصيص الحكم بها ؛ لأن فيها معنى يقوى أن يخصص به وهو العذر ، والعذر لاشك أنه يقوي تخصيص الدليل ، فقول من قال إنه من كان معذورا ومثل صفة ضباعة يقال له بالاشتراط ونبقي الأدلة الباقية الملزمة بإتمام النسك على ما هي عليه هوأوفق وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى أنه ليس على عمومه ، وإنما يعطى لمن كان على صفة ضباعة ؛ تحقيقا للسنة على ورودها ، وإبقاء الأصل الذي دل على وجوب إتمام النسك على ما هو عليه .
وعلى هذا فالاشتراط لا يكون إلا عند وجود العذر؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعله للمعذور ولم يرد أنه جعله لغير المعذور .
قال رحمه الله : [ وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران ] : وهو أي المحرم يخير إذا أراد الإحرام بين التمتع والقران والإفراد ؛ والدليل على هذا التخيير أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حينما أتى الميقات قال لأصحابه -رضي الله عنهم- : (( من أراد منكم أن يهل بحج فليهل ومن أراد منكم أن يهل بعمرة فليهل ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليهل ،، وهذا التخيير وقع من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في ميقات ذي الحليفة ، فخير أصحابه -رضي الله عنهم- بين هذه الأنساك الثلاثة ، فهو مخير بين هذه الأنساك كلها سواء كانت حجة الإسلام أو كانت حجة نافلة ؛ فإنه يخير بين هذه الأنساك الثلاثة .(4/344)
قال رحمه الله : [ وأفضلها التمتع ] : وأفضل هذه الأنساك الثلاثة التمتع ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تمناه ولا يتمنى إلا الأفضل ؛ ولذلك قال : (( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة )) ، وهذا هو مذهب الحنابلة رحمهم الله وطائفة من أهل الحديث : أن الأفضل من الأنساك الثلاثة هو التمتع .
وذهب الشافعية والمالكية إلى أن الأفضل الإفراد ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أهلّ ابتداء مفردا ؛ ولأن أبابكر وعمر وعثمان من الخلفاء الراشدين داوموا على الإفراد ؛ ولأنه إذا أفرد أتم الحج والعمرة، وقد قال علي - رضي الله عنه - : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك . بمعنى أن تجعل العمرة سفرا مستقلا وللحج سفرا مستقلا ، ولما قال علي ذلك قال عمر : صدق علي فصدقه فاجتمع الخليفتان الراشدان على ذلك .
وذهب الحنفية رحمهم الله واختاره الإمام ابن القيم إلى تفضيل القران قالوا : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قرن حجه ابتداء وانتهاء أما من الابتداء فحديث عمر في الصحيح صريح في ذلك : (( أتاني الليلة آت من ربي وقال أهل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة )) فأمر أن يبتدئ إحرامه بالقران، قالوا فمعنى ذلك أن الله اختار له من فوق سبع سماوات أن تكون حجته قرانا ، ولم يحج إلا حجة واحدة ؛ وقد ثبت القران عنه -عليه الصلاة والسلام- كما هو معلوم عند أئمة الحديث عن أكثر من عشرين صحابيا كلهم أثبتوا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان قارنا . قالوا ولأن القران يتكلف فيه بعد عمرته ، يتكلف فيه فلا يتحلل بعد عمرته ، ففضل على التمتع ؛ ولأن القران فيه زيادة نسك العمرة على الإفراد ، ففضل على المفرد .(4/345)
وهذه المسألة جمع بعض العلماء فيها جمعا حسنا -وهو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله- أن الناس يختلفون فمن كان من الناس يمكنه أن يفرد عمرة بحج وحجه عمرته بسفر وحجه بسفر والأفضل له الإفراد ؛ ولذلك كما قال في الشرح : إن العمرة المفردة أفضل من عمرة التمتع ؛ واستدل بما جاء عن في قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } من تفسير الصحابة -رضوان الله عليهم- بأن الإتمام أن يحرم بهما من دويرة الأهل .
وأما إذا كان يصعب عليه أن يأتي للحج وأن يأتي للعمرة ولا يستطيع أن يأتي للعمرة بعد حجه فالأفضل له أن يتمتع ، وأما إذا كان يمكنه سوق الهدي ؛ فالأفضل له أن يقرن ، وبهذا جمع بين السنن المتعددة ، وهذا القول إن شاء الله هو أولى بالصواب ، لكن الإشكال ليس في تفضيل التمتع ولا في تفضيل الإفراد ولا في تفضيل القران ، فكل من ترجح عنده قول لابأس أن يعمل به مادام أن له سلفا وله دليل ، ولكن الإشكال في جعل هذه الأفضلية بمثابة الإلزام حتى إن الشخص إذا فضل الإفراد أنكر على المتمتع والقارن ، وإذا فضل التمتع أنكر على المفرد والقارن ، وإذا فضل القِران أنكر على المفرد والمتمتع ، وهذا هو المحظور أن يجعل من مسألة التفضيل وسيلة للاستهجان بالغير وتخطئته والإنكار عليه والانتقاص منه ، وهذا لا يعرفه علماء السلف -رحمهم الله- والأئمة بل إن الأمر على السعة فمن ترجح عنده قول من أقوال العلماء -رحمهم الله- له دليله وله حجته فلابأس أن يأخذ بهذا القول .(4/346)
وأما مسألة الإلزام بالتمتع كما يقول به بعض المتأخرين -وهو مذهب ابن عباس- حتى قال بعضهم : إذا كان حجة الإسلام فإنه إذا طاف وسعى أحل شاء أو أبى ، وهذا القول قال ابن عباس فانفرد به وعد من شذوذاته كما شذ في ربا الفضل وكما شذ في مسألة التمتع ، وخالفه في ذلك من هو أعلم منه وأولى بالاتباع وهم الخلفاء الراشدون : فأبوبكر وعمر وعثمان في خلافتهم الراشدة كلها بإجماع العلماء لم يحجوا إلا مفردين .
فالقول بأن التمتع وفسخ الحج بالعمرة واجب إلى يوم القيامة قول ضعيف ، والسنة دالة على ضعفه ؛ ولذلك لما جاء عروة بن مضرس - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، أقبلت من جبل طي أكللت راحلتي وأتعبت نفسي وما تركت جبلا ولا شعبا إلا وقفت فيه قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذا وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه )) وهذا عين الإفراد وقضى تفثه وهذا يدل على أن العموم وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في صبيحة يوم النحر ، وهذا بعد أمره لأصحابه بفسخ الحج بالعمرة ، وأمره عليه الصلاة والسلام بفسخ الحج بالعمرة جاء لسبب عارض وهو التشريع كما لا يخفى ، فقد كانت العرب في جاهليتها الجهلاء تحرّم العمرة في أشهر الحج ، فاحتاج النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن يبطل هذه العادة المختلقة المكذوبة من دخائل الجاهلية والوثنية في تحريم العمرة في أشهر الحج ، وكانوا يقولون : إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر فكانوا يعتقدون ذلك ويرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور؛ ولذلك لما أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الصحابة أن يتحللوا بعمرة قالوا : يا رسول الله، أي الحل ؟ قال: (( الحل كله )) قالوا : أنذهب إلى منى ومذاكرنا تقطر منيا ؟! فلما رأى منهم هذا الاستبطاء قال : (( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة )) مبالغة في إنكار هذا(4/347)
الاعتقاد الجاهلي وإبطال تحريم العمرة في أشهر الحج ، وينبغي وضع النصوص في دلالتها خاصة إذا وجدنا جماهير السلف والأئمة -رحمهم الله- على هذا أن الإفراد جائز إلى يوم القيامة، ومن أراد أن يفرد فليفرد ، وقد قال عمر - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وعلي - رضي الله عنه - وأفتوا به الناس بل كما قال علي - رضي الله عنه - إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، وهذا يدل على جواز الإفراد ، فهل يمكن لهما أن يقولا بشيء منسوخ أو شيء لا يصح حاشا وكلا ! ولذلك يجوز للمسلم أن يفرد وأن يتمتع وأن يقرن ولا ينكر عليه واحد من هذه ؛ إلا أن من تأول تفضيل أحدها عليه أن يتقي الله وأن لا يبالغ في تأويله فينكر على غيره مادام أن له سلفا وله دليل . هذا بالنسبة لمسألة التفضيل في المناسك .
قال رحمه الله : [ ثم الإفراد ] : الذين قالوا بتفضيل الإفراد قالوا إن كل من قال بالتفضيل يجعل الإفراد هو الثاني ، فالذين قالوا بتفضيل التمتع قالوا التمتع ثم الإفراد ثم القران ، والذين قالوا بتفضيل القران قالوا القران ثم الإفراد ، والتمتع قالوا إنه أفضل ؛ لأنه يجمع بين نسكين ، وحينئذ لاشك أن ثواب النسكين ليس كثواب النسك الواحد .
وثانيا أنه يتكلف أعمال العمرة قبل الحج ، وهذا أكثر ، ومن هنا كان أفضل ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تمناه ، هذا بالنسبة لحجة من قال بتفضيله .
ومن قال بالإفراد فقالوا : لما ذكرنا :
أولا : أنه أتم للنسك ؛ وقد قال الله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وفسر الصحابة الإتمام بالإفراد .(4/348)
وأما بالنسبة لكون التمتع مفضولا قالوا لأنه يخل فيما بين النسكين بإصابة الأهل ؛ ولأنه لم يرجع إلى الميقات فيحرم بالحج كان المفروض أن يرجع إلى ميقاته فتمتع وترفه بالنساء وسقط عنه السفر الثاني فصار دمه دم جبران ، قالوا فصار أنقص من الإفراد من هذا الوجه ، وأكدوا أفضلية الإفراد بعمل الخلفاء الراشدين بعد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
والذين قالوا بالقران لما ذكرنا ، وعلى كل حال الجمع بين هذه بالتفصيل الذي ذكرنا من أن أوضاع الناس تختلف ، فمن أمكنه سوق الهدي فالقران له أفضل ، ومن أمكنه أن يأتي بكل منهما بسفر مستقل فالإفراد أفضل ، وأما كما هو حال كثير من الناس الآن بصعوبة خاصة من الآفاقيين إذا كان يصعب عليهم أن يفعلوا ذلك فالتمتع لهم أفضل أن يجمعوا بين النسكين وأن يأخذوا برخصة الله .
قال رحمه الله : [ والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه ] : والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج هذا الشرط الأول ، فلو أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج لم يكن متمتعا إلا إذا أوقع بعد العمرة في غير أشهر الحج وبعضها في أشهر الحج على تفصيل سنذكره .
أما اشتراط كونها في أشهر الحج ؛ فهذا منصوص عليه وظاهر قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } أنها تكون في أشهر الحج المعتبرة .
أما إذا أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج وحج من عامه وأوقع العمرة كاملة تامة قبل دخول أشهر الحج ثم حج من عامه ؛ فإنه ليس بمتمتع إجماعا ، مثال ذلك : لو أن رجلا خرج في رمضان وجاء بعمرة في رمضان ثم رجع إلى أهله أو بقي في مكة ثم حج من عامه ؛ فإنه ليس بمتمتع ؛ وذلك لأن العمرة لم تقع في أشهر الحج ، فيشترط في العمرة أن تكون في أشهر الحج .(4/349)
فأما إذا فعل بعضها في أشهر الحج وبعضها في غير أشهر الحج نظرنا فقال بعض العلماء : إذا وقع بعض العمرة في رمضان وبعضها في شوال العبرة بالطواف ، فإذا ابتدأ الطواف بعد دخول أشهر الحج فهي عمرة التمتع ، وإن ابتدأ الطواف قبل مغيب الشمس من آخر يوم من رمضان فعمرته ليس بعمرة التمتع ، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة -رحمهم الله - ودليلهم في هذا ظاهر؛ لأن الركن الأول للعمرة هو في الطواف فتكون عمرته تامة كاملة إذا وقع طوافها تاما كاملا في أشهر الحج .
والقول الثاني قالوا : إن العبرة بأكثر الطواف وهو مذهب الحنفية ، قالوا إذا طاف أربعة أشواط فأكثر قبل دخول هلال قبل مغيب شمس آخر يوم من رمضان فإنه ليس بمتمتع ، وإن طاف أربعة أشهر وأكثر بعد مغيب الشمس وهو متمتع ؛ لأن العبرة عندهم بأكثر الطواف .
والقول الثالث أن العبرة بالتحلل كما هو مذهب المالكية .
والصحيح القول الأول أن العبرة بالطواف لأنه ركن العمرة فإذا وقعت العمرة بأركانها تامة كاملة بعد دخول أشهر الحج فهي عمرة في أشهر الحج ، وأما إذا وقع بعض أركانها أو ابتدأ الركن قبل مغيب الشمس فقد وقعت في غير أشهر الحج .
هذا الشرط الأول أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج .
الشرط الثاني : أن لا يرجع بعد العمرة إلى بلده ، أو ما يحاذي بلده أن لا يرجع إلى مسافة القصر فأكثر بعد عمرته ، وهذا الشرط دليله قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فبين الله - عز وجل - أن المتمتع لا يكون متمتعا إلا إذا بقي بعد عمرته إلى الحج ؛ وعليه فإنه لو سافر بعد عمرته إلى بلده أو غير بلده فقد قطع النسك الأول عن الثاني ، وحينئذ لم يكن متمتعا بسفره الأول لحجه ، ولا يجب عليه دم التمتع ، فإن أراد أن يتمتع ينشئ عمرة ثانية .(4/350)
وخالف في هذه المسألة طاووس ، فقال : هو متمتع وإن رجع إلى بلده ، واعتبروا خلافه شذوذا كما قال ابن رشد : وشذ طاووس فقال هو متمتع وإن رجع إلى بلده ، وضعف العلماء والأئمة هذا القول أن من رجع إلى بلده متمتع لو حج من عامه .
والصحيح أنه لا تكون العمرة معتبرة في التمتع إلا إذا بقي بعدها بمكة ولم يسافر ، فإن فصل بين العمرة والحج بسفر؛ فإنه في هذه الحالة ينقطع تمتعه ، ويكون مفردا إن حج من عامه .
الشرط الثالث : أن يحج من عامه ؛ وذلك لقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } يجعله متمتعا بعمرته إذا حج من عامه وهذا قول جماهير السلف والأئمة خلافا لمن شذ فقال إنه لو حج من العام القابل كان متمتعا .
والصحيح أن العبرة بنفس الحج من ذلك العام ، هذا مما ينبغي توفره للحكم بكونه متمتعا ، فبيّن رحمه الله أن من شرط التمتع أن يوقع العمرة في أشهر الحج .
قال رحمه الله : [ والإفراد أن يحرم بالحج وحده ] : والإفراد أن يحرم بالحج وحده فيقول: لبيك حجة .
قال رحمه الله : [ والقران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ] : والقران أن يقرن الحج بالعمرة فيقول: لبيك حجة وعمرة ؛ وحينئذ لا إشكال أنه قارن كما فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقال له : قل : عمرة في حجة ، أو يحرم بالعمرة بالحج ثم يردف عليه العمرة يدخل عليه العمرة .(4/351)
قال رحمه الله : [ ولو أحرم بالحج ثم أدخل ] : أن يحرم بالعمرة ثم يدخل عليه الحج فيدخل الأكبر على الأصغر في هذه الحالة يكون قارنا ، فإذا كان معتمرا ثم أردف فهو الحج فهو قارن ، ويكون هذا الإرداف شرطه أن لا يبتدئ بالطواف ، فإذا كان معتمرا ثم أردف العمرة بالحج ثم أردف عليها الحج صح له ذلك ما لم يبتدئ الطواف ، فإذا ابتدأ الطواف ؛ فإنه قد وقع طوافه عن عمرته ، وحينئذ لا يصح له الإرداف ؛ لأن هناك ما يستثنى منها المسألة : المرأة إذا حاضت فإذا حاضت المرأة فإنه يجوز لها أن تدخل الحج على العمرة إذا كانت متمتعة ، والمصنف رحمه الله في المسألة الثانية بين أنه لا يجوز إدخال العمرة على الحج ، وأجاز إدخال الحج على العمرة ، فأجاز إدخال الأكبر على الأصغر ولم يجز إدخال الأصغر على الأكبر ؛ لأنه لا معنى له ولا فائدة من إدخاله ، ولكن بالنسبة لمسألة من أحرم بالعمرة ثم أدخل الحج عليها ؛ فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه أمر عائشة رضي الله عنها أن تبقى بإحرامها ، وقد أحرمت متمتعة فأبقاها على إحرامها ، وصارت قارنة ؛ والدليل على ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- لها كما في الصحيح : لما قالت له : أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج ؟! قال : طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك ، فنقلها من التمتع إلى القران ؛ لأنه يتعذر عليها أن تطوف بالبيت قبل حجها ، وحينئذ تنقلب من التمتع إلى القران لوجود العذر .(4/352)
قال رحمه الله : [ ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة ] : هذا طبعا مسألة الإدخال ، لكنه لو أنه فسخ الحج بعمرة كأن يكون ناويا الحج ثم أراد أن يفسخ حجه بعمرة فيجعل حجه عمرة فأصح القولين في هذه المسألة أنه يجوز له أن يفسخ حجه بعمرته قبل أن يبتدئ بالوقوف بعرفة ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل وأن يجعلها عمرة ، وهذا يدل على أن الحج ينفسخ بالعمرة ، وإنما كان خاصا بأصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- الإلزام وهذا هو معنى قول أبي ذر : متعتان لا تصلح إلا لنا معشر أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- متعة النساء ومتعة الحج يعني الإلزام بفسخ الحج بعمرة .
وأما جواز أن يفسخ حجه بعمرة ؛ فإنه باق على الأصل لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر به الصحابة ويجوز أن يفسخ حجه بعمرة فيتمتع كما لو كان مثلا محرم بالحج مفردا ثم جاءه شخص وقال له الأفضل أنك تتمتع فاقتنع أنه الأفضل فإنه يفسخ حجه بعمرة ، ينوي العمرة ويتحلل بها ثم بعد ذلك يحرم بحجه وعليه الدم .
قال رحمه الله : [ فإذا استوى على راحلته لبى ] : الإحرام بالحج له صورتان :
الصورة الأولى : أن يعين ، والصورة الثانية أن يبهم .
والذي تكلم عليه المصنف -رحمه الله- التعيين أن يعين أنه مفرد أو متمتع أو قارن أو يعين أنه معتمر . فالإحرام إما أن يقع معينا وإما أن يقع مبهما أو ما يسميه بعض العلماء بالمطلق . فإن عين لا إشكال ، أنه يلزمه ما عين ، ويجوز له في المعين أن يغير ويبدل على التفصيل الذي ذكره المصنف ما لم يشرع في الطواف ، وعلى الأصل الذي ذكرناه ، والصور التي بيناها .(4/353)
أما بالنسبة للإحرام المبهم فهو أن يقول : نويت لله ، أحرمت لله ، فإن كان مبهما فيصح إحرامه في قول جماهير العلماء –رحمهم الله – ، لو مر بالميقات وقال : نويت لله ، أو أحرمت لله صح إحرامه ؛ الأصل في ذلك أن عليا - - رضي الله عنه - - جعل إحرامه معلقا ، فلما قدم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في مكة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : بما أهللت ؟ قال : أهللت بما أهلّ به رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فلم يعين . ومن هنا قالوا إنه إذا قال : أحرمت لله ، فقد دخل في الإحرام ولم يبق إلا أن يعين كما علق على - رضي الله عنه - إحرامه بإحرام رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ فدل على أن التعيين بنوع النسك ليس شرطا أن يعلمه المكلف أو يحدده أثناء الإحرام ؛ لأن عليا لم يعلم ما الذي أهل به رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ فصار أصلا في إحرام المبهم وهو قول أئمة الأربعة رحمهم الله .
إذا صار مبهما فإنه يصرفه إلى ما شاء قبل ابتدائه بالطواف على التفصيل الذي ذكرنا للعلماء هل العبرة بابتداء الطواف أو العبرة بأكثر الطواف في العُمَر ؟
الصحيح كما ذكرنا العبرة بابتداء الطواف ويقلبه إلى عمرة ينوي به العمرة أو ينوي به حجا إفرادا أو ينوي به قرانا أو ينوي به عمرة متمعة بها في حجه . قالوا : والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما أتاه علي من اليمن . قاله له : بما أهللت ؟ قال : أهللت بما أهلّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- . فقال له النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : ابق كما أنت ولو أني سقت الهدي لتحللت وجعلتها عمرة ، فدل على مشروعية الإبهام ، وأنه يعينه قبل ابتدائه بالطواف .(4/354)
قال رحمه الله : [ فإذا استوى على راحلته لبى ] : فإذا استوى: يعني ركب . على راحلته : أي على دابته ، فيدخل في زماننا السيارة ، والسنة أن يلبي وهو في مصلاه ؛ لما ذكرنا . فإذا ركب على الراحلة لبى ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ فقال لبيك اللهم لبيك . لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك الملك لا شريك لك ] : هذا اللفظ هو أفضل ألفاظ التلبية وهو الوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو الذي عناه جابر في منسكه بقوله : (( أهل بالتوحيد )) .
لبيك اللهم : قيل : لبى مثنى لبى النداء أي أجاب مرة بعد مرة . أي أنا مجيب لندائك يا الله مرة بعد مرة ، وهذا النداء هو الذي أمر الله به الخليل فقال - سبحانه وتعالى - : { وأذن في الناس في الحج } فقال : أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج كما في حديث الحاكم وغيره . فقالوا إن قوله لبيك اللهم لبيك إجابة لهذا النداء ، وقيل: لبى من ألبّ بالمكان إذا أقام فيه ، فهو يقول: أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة ، وقيل : من لبّ الشيء التلبية من لب الشيء وهو خالصه ، وما كان سالما من الشوائب ، فهو يقول: إخلاصي لك يا الله إخلاصا بعد إخلاص ؛ لأن العبادة لا تقبل إلا من المخلصين ، وقيل غير ذلك ، منها قولهم : المواجهة والاتجاه فتقول : داري تُلِب بدارك أي تواجهها أي وجهتي إليك يا الله وجهة بعد وجهة .
وقوله : [ لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك الملك لا شريك ]: اشتمل على التوحيد ، كما قال جابر - رضي الله عنه - : أهلّ بالتوحيد . والتوحيد قائم على النفي والإثبات. فالنفي في قوله لا شريك لك ، والإثبات :في قوله : لبيك اللهم فهو الإله الحق . - سبحانه وتعالى - الذي لا إله غيره ولا رب سواه ، وهذه التلبية هي الأفضل ؛ لأن هي الواردة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهل يجوز أن يزيد في التلبية ويغير في ألفاظها ؟(4/355)
أصح القولين : قول الجمهور؛ خلافا للظاهرية ؛ واستدل على الجواز بأن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يقولون: لبيك ذا المعارج ، ولم ينكر النبي -- صلى الله عليه وسلم --- صلى الله عليه وسلم - عليهم ذلك وقد أشار إلى ذلك جابر - رضي الله عنه - في منسكه .
في قوله : لبيك اللهم لبيك : التلبية واجبة ، فلو تركها في عمرته ولم يلب أو في حجه ولم يلب فإن عليه دما في أصح قولي العلماء -رحمه الله- .
وقد أُمِر - صلى الله عليه وسلم - بالتلبية وأمر بها أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بها ويبتدأ بالتلبية في النسك كما ذكرنا في مصلاه ، وإذا أخره بعد ذلك ولبى في عمرته ما لم يبدأ باستلام الحجر فلا إشكال ، لكن لو أنه لبى من ابتداء إحرامه فمتى يقتطع التلبية ؟ والجواب : إما أن يكون في حج أو يكون في عمرة ، فإن كان في عمرة قطع التلبية عند ابتداء الطواف ؛ لحديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتمر من جعرانة فلم يزل يلبي حتى استلم الحجر، ففي العمرة يقطع التلبية عند استلام الحجر، وقيل يقطعها عند الحرار عند دخوله مكة كما فعل عبدالله بن عمر ، والأول أقوى .
وأما في الحج فإنه يقطع التلبية عند رمي جمرة العقبة . الانتهاء من رميها كما في حديث ابن خزيمة وأصله في الصحيح أن الفضل - رضي الله عنه --- قال : كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة . وفي صحيح ابن خزيمة : حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة . فهنا يقطع التلبية . والسنة رفع الصوت بها والإكثار منها ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية )) قال أنس - رضي الله عنه - : فما بلغنا فج الروحاء حتى بح أصواتنا .
قال رحمه الله : [ ويستحب الإكثار منها ] : ويستحب الإكثار من التلبية ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لبى ولبى معه أصحابه .(4/356)
قال رحمه الله : [ ورفع الصوت بها لغير النساء ] : ورفع الصوت بها ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا بالتلبية )) لغير النساء : وهذا يدل على أن الأصل في صوت المرأة أنه عورة ، وقد بينا هذه المسألة وقلنا : إن الشرع أمر المرأة إذا رابها شيء في الصلاة أن تصفق ، وهذا يدل على تشديد الشرع في سماع الرجل صوت المرأة ، أو في إظهار المراة لصوتها للرجال. إذا كان هذا في العبادة يقول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء)) ويصرفها من ذكر الله وهي داخلة الصلاة إلى العمل وإلى الصوت الذي لا ذكر فيه لاشك أنه يدل دلالة واضحة على هدي الشرع في عدم تعاطي الأسباب في التساهل في سماع الرجال لأصوات النساء ففي العبادة آكد حتى لا يفتن لأن الرجل مجبول بالميل فطرة إلى المرأة والتأثر بها ولذلك شرع رفع الصوت للرجال دون النساء .
قال رحمه الله : [ وهي آكد فيما إذا علا نشز ا أو هبط واديا ] : إذا علا النشر من الأرض النشز : هو المرتفع من الأرض . وأخذوا من هذا من إهلاله لما رقى البيداء ، فدل على أنه إذا علا النشز يلبي .
قال رحمه الله : [ إذا سمع ملبيا ] : أو هبط واديا بالعكس وهذا ما يسميه العلماء باختلاف الحال وأخذوا هذا ما أثر عن إبراهيم من فعل السلف إبراهيم النخعي رحمه الله من فعل السلف أنهم كانوا يجددون التلبية عند تغير الأحوال من طلوع النشز والجبل وهبوط الوادي ونحو ذلك .
قال رحمه الله : [ إذا سمع ملبيا ] : أو سمع ملبيا .
[ أو فعل محظورا ناسيا ] : إذا تذكر يلبي . هذا بعض العلماء يستحبه ، وليس فيه هناك دليل. الأصل يكثر من التلبية ، ويكون هذا عند اختلاف الأحوال آكد دون تعيين أو تحديد بهذه الأمور التي ذكرها .
قال رحمه الله : [ أو لقي ركبا ] :(4/357)
قال رحمه الله : [ وفي أدبار الصلاة المكتوبة وفي الأسحار ] : كما ذكرنا أنه من فعل السلف رحمه الله .
قال رحمه الله : [ وإقبال الليل والنهار ] .
قال الإمام المصنف رحمه الله : [ باب محظورات الإحرام ] : المحظورات : جمع محظور . والمحظور هو المحرم والممنوع . حظر عليه الشيء إذا منعه . ومحظورات الإحرام أمور حرمها الله على المحرم ، فلا يجوز له أن يتلبس بها . هذه المحظورات متعددة ؛ ولذلك جمعه المصنف -رحمه الله- بقوله : [ باب محظورات الإحرام ] مناسبة هذا الباب لما قبله أنه بعد أن بيّن الإحرام شرع في بيان ما يحظر على المحرم ، والترتيب هنا صحيح ومنطقي ؛ لأن بيان المحظور بعد إثبات ما يوجب الحظر وهو الإحرام .
يقول رحمه الله : [ باب محظورات الإحرام ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بما حظر ومنع منه المحرم بالنسك .
قال رحمه الله : [ وهي تسعة ] : إجمال قبل البيان والتفصيل .(4/358)
قال رحمه الله : [ الأول والثاني حلق الشعر وقلم الظفر ] : حلق الشعر وتقليم الأظفار والطيب وقتل الصيد وتغطية الرأس ولبس المخيط وعقد النكاح والمباشرة والوطء في الفرج هذه تسعة محظورات . ابتدأ بقوله : حلق الشعر ليس المراد تخصيص الحكم بالحلق ، وإنما تأدب العلماء والفقهاء بذكر الحلق ؛ لورود النص به في قوله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم } والمراد بذلك إزالة الشعر كله أو بعضه بالحلق أو النتف أو الحرق كل ذلك محظور على المحرم سواء كان في الرأس أو في اللحية أو في الإبط أو في أي موضع من مواضع البدن مما يترفّه به أو يتجمّل أو هما معا ؛ وعليه فإن إزالة الشعر بأي وسيلة مما ذكرنا توجب الفدية ؛ والأصل في ذلك أن الله تعالى يقول في كتابه : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } فحرم الله -- عز وجل -- إزالة الشعر؛ فدل على أنه محظور من محظورات الإحرام ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر كعب بن عجرة مع كونه محظورا أن يفتدي بحلق شعره، وهذا يدل على أنه محظور ولا يستباح إلا بوجه شرعي .
قال رحمه الله : [ وقلم الظفر ] : قلم الظفر : والأظفار سواء من الرِجْلين أو من اليدين لا يجوز تقليمها للمحرم ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } فجعل المحرم محظورا من إلقاء التفث ، ومن إلقاء التفث أن يقلم أظفاره ، فأحل الله له ذلك بعد التحلل الأول ؛ فدل على أنه قبل التحلل الأول ممنوع منه ، وهذا قول جماهير السلف والخلف والأئمة -رحمهم الله- أن قلم الظفر لا يجوز للمحرم .(4/359)
قال رحمه الله : [ ففي ثلاثة منها دم ] : في ثلاث شعرات منها دم ، وتكون فيها فدية كاملة وتخييرية طبعا ما بين الدم وما بين إطعام ستة مساكين فرقا وهو ثلاثة آصع وبين صيام ثلاثة أيام؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فجعل الله -- عز وجل -- من حلق شعره بمكان الأذى فيه أن يفتدي ، وجعل الفدية على هذا الوجه تخييرية . قال ابن عباس -رضي الله عنهما- : ما كان في القرآن ( بأَوْ ) فهو للتخيير ، وما كان (بثمّ ) فلا يجوز الثاني إلا عند العجز عن الأول . أي أن الترتيب فيه متعين ، وهنا قال تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } وأجمل القرآن الصيام ، وأجمل الصدقة ، و أجمل النسك ، فبينت السنة هذا المجمل ، فقال - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة كما في الصحيحين : (( أطعم فرقا بين ستة مساكين أوصم ثلاثة أيام أو أنسك نسيكة )) فبين عليه الصلاة والسلام المراد بالإطعام والصدقة والمراد بالصيام وهو صيام ثلاثة أيام والمراد بالنسك وهو ذبح شاة على الصفة المعتبرة في الدم الواجب .
قال رحمه الله : [ وفي كل واحد مما دونه مد طعام وهو ربع الصاع ] : هذا فيه خلاف في الواحد : هل يتصدق بالمد أو يتصدق بالقبضة من الطعام ؟ والخلاف فيه مأثور حتى عند المتقدمين -رحمهم الله- والأصل عندهم ثلاث شعرات ؛ لأنها أقل الجمع ، فجعل الله الحظر بصيغة الجمع قال : { ولا تحلقوا رؤوسكم } وقالوا لا يصدق عليه بالشعر بالجمع إلا بثلاث شعرات فأكثر ومن هنا فرقوا بين الجمع وما دونه .(4/360)
قال رحمه الله : [ وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عليه أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء عليه ] : فرّق رحمه الله بين وجود الأذى في الشعر وبين وجود الأذى من الشعر، وبين وجود الأذى تحت الظفر، وتوقف إزالة الأذى على إزالة الظفر وبين وجود الأذى من الظفر نفسه ، فإن كان الأذى من الظفر كأن يكون منكسرا يؤذيه في بدنه أو يدخل في لحمه فيدميه فإنه يجوز له أن يكسره ؛ لأنه يزيد ضرره وليس بمترفه به ، وحينئذ يفترق عمن يتأذى بشيء في شعره فيريد أن يترفه بإزالة الشعر لإزالة ذلك الضرر كما وقع لكعب بن عجرة -- رضي الله عنه -- ، وتوضيح ذلك: أن كعب بن عجرة كان القمل في رأٍسه قال - رضي الله عنه - كما في الصحيحين : (( حملت إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والقمل يتناثر على وجهي وهذا في الحديبية ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ما كنت أرى أي أظن أن يبلغ بك الجهد ما أرى )) ثم قال له : (( أطعم فرقا بين ستة مساكين أو أنسك نسيكة أو صم ثلاثة أيام )) فهنا حلق شعر رأسه من أجل أن يتوصل إلى إزالة ضرر القمل الموجود في الشعر، فالضرر ليس من الشعر وإنما من شيء موجود في الشعر، ففرّق العلماء والأئمة ويؤثر حتى عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- من إجازة قلع الظفر المكسور إذا آذى وأضر في اللحم وأدمى ونحو ذلك ، وفي حكمه أيضا الشعر إذا نبت وأضر في العين أو نزل فآذى في مسيره أو نحو ذلك .
قال رحمه الله : [ الثالث : لبس المخيط إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل ] : لبس المخيط والأصل فيه ما ثبت في الصحيحين في حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلا سأل رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فقال : يا رسول الله ، ما يلبس المحرم ؟ قال : (( لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطع ما أسفله من الكعبين )) .(4/361)
فبين عليه الصلاة والسلام تحريم لبس المخيط ، ثم إذا تأملت هذا الحديث وجدته حظر على المسلم أن يلبس المخيط في أسفل بدنه ؛ وذلك في قوله : (( ولا السراويلات )) وفي أعلى بدنه وذلك في قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( القمص )) وفيما جمع بينهما كما في قوله : (( ولا البرانس )) وعلى هذا يحظر عليه أن يلبس المخيط .
والمخيط هو المحيط بالعضو ، يشمل ذلك السراويلات بأنواعها القصيرة والطويلة ، ويشمل القمص ذات الأكمام أو ناقصة الأكمام كل ذلك محظور بإحاطته بالعضو .
وفي حكمه لبس المخيط أن يكون الرداء والإزار مفصلا كما يوجد في الطقطق الذي يكون له أزارير ، والطقطق موجود في زماننا فمثل هذا لا إشكال في كونه في حكم المخيط ، فلابد وأن يكون متجردا عن المخيط ؛ فحديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أصل في تحريم لبس المخيط على المحرم .
قال رحمه الله : [ إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل ] : إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( السراويل لمن لم يجد الإزار )) وكذلك إذا لم يجد النعلين جاز له أن يلبس الخفين ، فيفتق السروال ويقطع الخفين ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( وليقطعهما أسفل من الكعبين )) وسكوته عن التنبيه عن ذلك في خطبة الحج حجة الوداع لا يقتضي إلغاء الأصل المنصوص عليه ؛ لأن السكوت يحتمل أنه لم ينبه لسبق التنبيه ، ويحتمل أنه حكم مستأنف فتردد بين الأمرين فبقي على الأصل ، والأصل الحظر ، والصحيح كما فصلناه في مذكرة الحج أنه يبقى على الأصل لنص النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على ذلك بالقطع .(4/362)
قال رحمه الله : [ أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه ] : فلو أنه أراد الإحرام وكان في الطائرة وليس عنده مناشف ولا عنده إزار وعنده سروال أحرم في سرواله ، وإذا كان أمكن فتقه من الأسفل مع ستر العورة لا إشكال ، وهذا ذكره العلماء في السراويل بالفتق للأنواع القديمة ، أما الأنواع الجديدة فلا يمكن فيها الفتق ويبقى على حاله ويلبس سرواله ، وهكذا في حكم السروال البنطال يحرم به حتى يجد الإزار .
وأما بالنسبة للفتق فكان هناك نوع من السراويل المرسل وهو الذي يقارب إلى حد الركبتين ، ونص بعض العلماء على فتقه قياسا على الخفين ، والنوع الموجود عندنا ليس كالموجود قديما، ولذلك يحرم في سرواله بدون فتقه .
أما بالنسبة للخفين فلا إشكال في كونه يقطعهما أسفل من الكعبين ؛ لنصه -عليه الصلاة والسلام- على ذلك كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- .
قال رحمه الله : [ أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه ] : وإذا لم يجد النعلين ووجد الخفين جاز له أن يلبس الخفين ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نص على ذلك ويجب علي القطع لما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ الرابع تغطية الرأس والأذنان منه ] : تغطية الرأس ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا تلبسوا القمص ولا العمائم )) والعمامة غطاء الرأس فلا يجوز له أن يغطي الرأس بالعمامة، ولا يجوز له أن يغطي الرأس بالطاقية ، ولا يجوز له أن يغطي الرأس باللفافة ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- منع من تغطية الرأس في موضعين من حديث ابن عمر : الموضع الأول في قوله : (( ولا العمائم )) ، والموضع الثاني في قوله : (( ولا البرانس )) .(4/363)
والبرانس ثياب غطاء الرأس متصل فيها ، ولا تزال موجودة إلى زماننا ، فدل على أن المحرم لا يغطي رأسه ، وأكد هذا عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه نهى أن يغطى رأس المحرم وقال عليه الصلاة والسلام : (( ولا تغطوا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا )) دل على أن المحرم لا يجوز له تغطية رأسه .
قال رحمه الله : [ والأذنان منه ] : والأذنان من الرأس ؛ لحديث عبدالله بن عباس وأبي أمامة وقد حُسّن الحديث بالشواهد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( الأذنان من الرأس )) فلا يغطي الأذنين ولذلك قال بهذا الإمام أحمد -رحمه الله- ؛ إعمالا للسنة ، فأتبع الأذنين للرأس في المسح في الوضوء وكذلك أيضا أتبعهما للرأس في منع الستر .
قال رحمه الله : [ الخامس الطيب في بدنه وثيابه ] : الطيب في البدن ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( ولا تمسوه بطيب )) في الرجل الذي وقصته دابته ، وفي الثياب ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر : (( ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس )) وكل من الزعفران والورس طيب كما هو معلوم ، فدل على حرمة الطيب في البدن وفي الثوب ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث يعلى بن أمية حينما اعتمر من الجعرانة وجاءه رجل عليه جبة عليها طيب أو صفرة من طيب فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( انزع عنك جبتك ، واغسل عنك أثر الطيب )) فدل على أنه لا يجوز للمحرم أن يتطيب ، والنبات ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما يستنبت للطيب ، ويستخرج منه الطيب .
والقسم الثاني : ما ينبت لغير الطيب ، ولا يتخذ منه الطيب ، وهو عكس الأول .
والقسم الثالث : ما ينبت طيبا ، ولا يتخذ منه الطيب .(4/364)
فأصبح عندنا ما يستنبت للطيب ويتخذ منه الطيب ، وما لا يستنبت للطيب ولا يتخذ منه الطيب، وما كان مستنبتا طيبا ولا يتخذ منه الطيب .
فأما ما كان من النبات يستنبت للطيب ويتخذ منه الطيب فكالورد والفل والزعفران ، فهذه يستنبت من أجل أن يتخذ منها الطيب ويتخذ منها الطيب ، فهذا بالإجماع يحرم التطيب به ، ثم إذا تطيب به يستوي أن يكون دُهنا أو يكون شمًّا كالبخور ، أو يكون احتواء كأن يحتويه كما في المبخرة إذا احتواها دون أن يشم ويستوي أن يكون يترفه بهذا الشم كأن تكون عنده حاسة الشم فيستطيب الرائحة ، أو لا يترفه كأن لا تكون عنده حاسة شم فهو محظور من الطيب في كل هذه الأحوال ؛ إلا أنه يرد السؤال في هذا النوع : لو أنه أكله هل يدخل في الحظر أو لا ؟ إذا وضع في الأكل إما أن يستنفذ فتستهلك رائحته وحينئذ لا إشكال في جواز أكله كما في بعض الأحوال في الزعفران إذا وضع مع غيره فاستهلك ، وإما أن تبقى رائحته ويبقى أثره فيبقى على الحظر ؛ لأنه في الأصل متخذ للطيب مستنبت للطيب والمقصود منه ذلك ، وعلى هذا فالمربى التي تصنع من الورد آخذة حكم الورد ، ولا يجوز إذا كان فيها طيب الورد وبقيت فيها طيب الورد ولم تستهلك بأن لم تطبخ طبخا جيدا يذهب الرائحة وأثرها فإنه لا يجوز استعمالها للمحرم .
النوع الثاني : ما ليس مستنبتا للطيب ولا يستخرج منه الطيب ، ومن أمثلة ذلك : نبت المراعي الطيب الرائحة كالشيح والقيصوم والخزامة ونحو ذلك فإنه لا يحظر على المُحْرِم وليس من الطيب المحرَّم ، كانت هذه المراعي موجودة ولم يكن الصحابة -رضوان الله عليهم- يمنعون منها ، ونص الجماهير -رحمهم الله- على أنها لا تؤثر في الإحرام .(4/365)
والنوع الثالث : ما يستنبت لطيبه ولا يستخرج منه الطيب كالريحان ، ومن أشهر أنواع الريحان الفارسي ، وصح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وبعض الصحابة أنه لا بأس به حتى ولو دخل البستان يشم رائحته ويجد رائحته لا يؤثر في إحرامه .
فأصبح هذه الثلاثة الأقسام : ما يستنبت للطيب ويقصد منه الطيب وتستخرج منه الطيب ، مثل الورد والعود ونحو ذلك والزعفران والفل ، وما لا يستنبت للطيب ولا يقصد منه الطيب كنبت المرعى كالشيح والقيصوم والإذخر وكذلك أيضا العَرَار ، وكان من أزكى الروائح كما قال فيه البيت المشهور :
تمتع من شميم عَرَار نجد فما بعد العشية من عَرَار
والإذخر وكان معروفا لكنه لا يقصد منه الطيب ولا يستخرج منه الطيب فهذا لا يؤثر .
وأما بالنسبة للنوع الثالث الذي ذكرناه مما يستنبت للطيب ولكنه لا يستخرج منه الطيب ولا يقصد كالريحان الفارسي ونحوه ؛ فإنه لا يؤثر .
يلتحق بهذا من غير النبات ما كان مقصودا منه الطيب ويستخرج منه الطيب ، مثل ما يستخرج من المسك من الغزال ؛ فإنه محظور ، ولا يجوز استعماله ، وهكذا بقية الأطياب .
الطيب محرم مفردا ومركبا مجموعا مع غيره ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في المحرم : (( ولا تحنطوه )) والحنوط أخلاط الطيب ، فدل على أنه يحظر عليه مجتمعا ومنفردا ، ولما قال : (( ولا تحنطوه )) والطيب مخلوط بغيره دل على أن خلط الطيب وطبخ الطيب إذا بقيت فيه رائحة الطيب أثّر كما ذكرنا في مسألة الأكل فيفرق بين بقاء مادته وأثره وزواله .(4/366)
قال رحمه الله : [ السادس : قتل الصيد ] : السادس قتل الصيد ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } والمراد بالصيد : صيد البر ؛ لقوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما } فنص - سبحانه وتعالى - على تحريم صيد البر خاصة على المحرم ، وبقي صيد البحر حلالا للمحرم ، وما كان بريا بحريا وهو البرمائي ينظر إلى تكاثره وأغلب عيشه ، فإن كان بيضه وتكاثره في الماء أخذ حكم الماء كالضفادع ونحوها وسرطان الماء ، وما كان تكاثره وتواجده في البر أكثر كالسلحفاة ونحوها أخذ حكم البر .
وأما بالنسبة لصيد البر فهو ما توحش وانحاش سواء كان من الدواب كالضباع والوعول المتوحشة وتيس الجبل والتيثل ونحو ذلك والغزال والريم ، أو كان من الطير كالحمام والعصافير كلها محرمة على المحرم .
قال رحمه الله : [ وهو ما كان وحشيا مباح ] : ما كان وحشيا خرج الداجن والمستأنس ، وعليه فلو كان عنده دجاج وأراد أن يذبح دجاجة جاز له ذلك وليس بصيد ، ولو كان عنده حمام داجن وأراد أن يذبحه فيأكله ليس عليه حرج ؛ لأنه ليس بصيد ، فلابد وأن يكون متوحشا .
قال رحمه الله : [ وأما الأهلي فلا يحرم ] : وأما الأهلي فلا يحرم لما ذكرناه فيجوز له أن يذبح الإبل أن ينحر الإبل والبقر وأن يذبح الغنم ولا شيء عليه في ذلك .
قال رحمه الله : [ وأما صيد البحر فإنه مباح ] : وأما صيد البحر فإنه مباح : فيجوز له أن يصيد السمك وأن يصيد الحوت ولا بأس بذلك ولا حرج عليه ؛ لأن الله تعالى يقول : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة } ثم لما أراد أن يحرم قال : { وحرم عليكم صيد البر } فخصص بالصفة في حال الإحرام في قوله : { مادمتم حرما } وخصص المصيد فقال : { صيد البر } فدل على أن صيد البحر لا يأخذ حكم صيد البر .(4/367)
قال رحمه الله : [ السابع : عقد النكاح حرام ولا فدية فيه ] : هذا من حيث الأصل أن يكون صيدا وأن يقصده بالقتل ، يستوي أن يصيده هو أو يعين غيره على الصيد ، والإعانة على الصيد بالإشارة أو إعطاء السلاح ، فإذا أعان على الصيد بالإشارة إليه أو أعطى السلاح للصائد أو أمسك له آلته حتى يرمي ؛ فإنه في جميع هذه الأحوال محرم عليه فعل ذلك ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في قصة أبي قتادة قال : (( هل أحد منكم أعانه ؟ هل أحد منكم أشار إليه ؟ )) فهذا يدل على تأثير المعونة على القتل وعلى الصيد ، واستوى في الحظر أن يصيد أو يعين ، ويستوي في التحريم قتل الصيد وتنفيره ، فلا يجوز له أن ينفر الصيد ، ولا يجوز له أن يقتله ، لكن الفدية خاصة بالقتل، وكذلك يتعلق الحكم بالصيد وببيضه ، فيحظر عليه أن يتعرض للصيد وأن يتعرض لبيض الصيد، وإذا أخذ بيض الصيد أو فقص بيض الصيد أو أتلفه وجب عليه الضمان .
قال رحمه الله : [ السابع : عقد النكاح حرام ولا فدية فيه ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى المحرم أن يَنْكح أو يُنْكح أو يخطب، فلا يجوز للمحرم أن ينكح إذا كان رجلا ، ولا يجوز له أن يُنْكح إذا كان امرأة ، فيحرم النكاح على المحرم رجلا كان أو امرأة ، وهذا النص صريح في الدلالة على التحريم .
وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة -رحمه الله- فقال : إنه يكره ولا يحرم ؛ واحتج بأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نكح ميمونة وهو حلال ، وهو حديث ابن عباس في السنن .
والصحيح مذهب الجمهور من عدة وجوه :
أولها : أن حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عارضه من هو أولى بالاعتبار منه ، فأبو رافع السفير بين رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وميمونة ، وميمونة نفسها صاحبة القصة كلهم أثبتوا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نكحها وهو حلال .(4/368)
وثانيا : أن رواية التحريم من رواية الأكابر، فحديث عثمان في الصحيح ، وإفادة الحل من حديث الأصاغر، وإذا تعارضت رواية الأصاغر والأكابر قدمت رواية الأكابر على الأصاغر، وقد اعترف بذلك ابن عباس نفسه حينما قال : (( أما السنة -كما في الصحيح - فأنتم أعلم بحديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- مني )) فجعل التقديم للأكبر ؛ لأنه أقرب إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأعلم بمواطن التنزيل وأكمل إدراكا لها .
وثالثاً : أن أحاديث الجمهور التي دلت على المنع مشتملة على التحريم ، وحديث ابن عباس يفيد الحل ، والقاعدة : (( إذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر على المبيح )) .
ورابعا : أن أحاديث الجمهور خطاب للأمة القولية ، وحديث ابن عباس فعلي ، والقول مقدم على الفعل ؛ لأنه توجيه للأمة خاصة والفعل يحتمل الخصوصية ، وقد خص الله نبيه بكثير من الخصائص حتى في النكاح ، فلا يبعد أن يكون إذا صح أنه نكحها وهو محرم أن يكون من خصوصياته -عليه الصلاة والسلام-.(4/369)
كذلك أيضا من أوجه الترجيح لمذهب الجمهور على مذهب الحنفية -رحمهم الله- في القول بجواز نكاح المحرم أن قول ابن عباس تزوجها وهو محرم متردد بين أن يكون محرما متلبسا بالنسك وبين أن يكون مراده محرما أي داخل حرم مكة بعد أن انتهى من عمرته ، وهذا أقوى ؛ لأن العرب تسمي من كان داخل حرمات الزمان والمكان محرما ، فيقال للرجل : أحرم إذا دخلت عليه الأشهر الحرم ، ويقال له : أحرم إذا دخل حدود الحرم ، وهذا معروف في لسان العرب ، ومنه قولهم : (( قتلوا ابن عفان الخليفة محرما )). كقول حسان -- رضي الله عنه -- ، ومن المعلوم أن عثمان - رضي الله عنه - قتل في حرم المدينة ، وليس في إحرام الحج ولا في إحرام العمرة ، وكذلك أيضا داخل الأشهر الحرم ؛ لأنه قتل في ذي الحجة -رضي الله عنه وأرضاه - ، فدل على أن العرب تطلق المحرم على من حل بالحرم ، وحينئذ يكون مراد ابن عباس أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ترك مكة مهاجرا ، وتزوج فيها، فدل على أن من هاجر من بلد جاز له أن يتزوج فيها ، وأن الزواج لا يلغي الهجرة ، ويكون مراده من هذا معنى خارجا عن مسألتنا ، وعليه فيقوى مذهب الجمهور بتحريم نكاح المحرم .
لا يجوز له أن يعقد النكاح وإذا عقد النكاح فسد نكاحه على أصح قولي العلماء -رحمهم الله- ولذلك لا يصح أن يكون زوجا، ولا زوجة، ولا وليا لعقد النكاح، ولا شاهدا عليه على أصح قولي العلماء -رحمهم الله- .
قال رحمه الله : [ ولا فدية فيه ] : ولا فدية في النكاح : فلو أنه عقد النكاح على امرأة فإنه لا فدية عليه بهذا الإخلال .(4/370)
قال رحمه الله : [ الثامن : المباشر لشهوة فيما دون الفرج ] : المباشرة محرمة على المحرم ؛ لأن الله تعالى يقول : { الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } فقوله : { فلا رفث } ويشمل رفث الأفعال ورفث الأقوال ، فلا يتكلم الكلام الذي يتغزل به النساء ، ولا يفعل الأفعال التي تثير الشهوة ، ومن ذلك المباشرة في قول جماهير العلماء -رحمهم الله- أنه لا يجوز للمحرم أن يباشر زوجته .
قال رحمه الله : [ فإن أنزل بها فعليه بدنة ] : فلو باشر امرأته فأنزل فللعلماء قولان :
منهم من قال : عليه دم شاة .
ومنهم من قال : عليه بدنة ، والقول بدم الشاة من القوة بمكان .
قال رحمه الله : [ وإلا ففيها شاة وحجه صحيح ] : اختار المصنف -رحمه الله- أن عليه بدنة ؛ وذلك لأنها قاربت الشهوة الكبرى وهي الجماع ؛ لأن المباشرة حصلت بإنزال ، فجعل الإنزال موجبا للبدنة مع المباشرة ، ولم يقتضِ فساد الحج والأقوى كما ذكرنا اعتبار الدم فيها وهو أشبه للأصول خاصة على القول بالتمتع بين نسك الحج والعمرة أن الضمان من الشرع فيه أن الدم فيه دم جبران وهو اختيار بعض العلماء -رحمهم الله- ولذلك سقط عن المكي وقد جعل الإصابة فيما بينهما مضمونة بالشاة .
قال رحمه الله : [ التاسع : الوطء في الفرج ] : الوطء في الفرج موجب لفساد الحج وهو أعظم محظورات الإحرام ، ولذلك يحرم عليه أن يجامع بعد دخوله في النسك ، وإذا حصل منه الجماع بإيلاج رأس الذكر فإنه يحكم بفساد حجه بإجماع العلماء -رحمهم الله- ، وفيه سنة راشدة عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر -رضي الله عن الجميع- .(4/371)
قال رحمه الله : [ فإن كان قبل التحلل الأول فسد الحج ] : إذا وقع الوطء في المكان المعتبر الموجب للفساد كأن يكون قبل الوقوف بعرفة فبالإجماع يوجب فساد الحج ، وفي هذه الحالة يجب عليه أن يتم حجه الفاسد ، وبه قضى بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثم يفترق الزوج عن زوجته في الموضع الذي حصل فيه الإخلال ، وأشار بعض العلماء والأئمة كشيخ الإسلام -رحمه الله- في الشرح إلى أن هذا الافتراق محفوظ عن الصحابة وله معنى نفسي ؛ لأن هذه المواضع التي يحصل فيها الإخلال بحدود الله وانتهاك محارم الله تذكّر وتجدد العهد بالحرام عند المرور بها ، وخشي عليه أنه إذا رجع مع زوجته إلى الموضع أنه يتجدد ولربما لا يؤمن منه أن يصيبها ثانية ، فأخذ عمر -- رضي الله عنه -- وبعض الصحابة ممن قضى بذلك بهذا المعنى ولكن ليس بملزم ، والأفضل أن يقال بذلك احتياطا وصيانة للعبادة منهما .
قال رحمه الله : [ ووجب المضي في فاسده والحج من قابل ] : وجب المضي في فاسده ؛ لأنه قضاء الصحابة -رضوان الله عليهم- كما ذكرنا أنهم أوجبوا على من جامع امرأته أن يتم النسك معها ، ثم عليه الحج من قابل وعليه بدنة ، هذا إذا كان جماعه في الوقت المعتبر الموجب لفساد الحج .
قال رحمه الله : [ ويجب على المجامع بدنة ] : كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة ] : وإن كان جامع بعد التحلل الأول ففيه شاة عليه شاة ، وهذا قضاء بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقد قدمنا في الشروح في شرح المذكرة أني متوقف في هذه المسألة ، والذي اختار المصنف أنه طبعا بالنسبة لحجه حجه صحيح عند الجمهور -رحمهم الله- وعليه شاة ، ويخرج إلى التنعيم ليأتي بطواف الإفاضة في نسك معتبر .
قال رحمه الله : [ ويحرم من التنعيم ليطوف محرما ] : كما ذكرنا .(4/372)
[ وإن وطئ في العمرة أفسدها ولا يفسد النسك بغيره ] : ولا يفسد النسك بغيره أي بغير الجماع ، فلو وطئ في عمرته سواء قبل الطواف أو بعد الطواف وقبل السعي فإنه يحكم بفساد العمرة ويجب عليه أن يتمها ، والحج والعمرة نسكان اختصا بإتمام الفاسد منهما ؛ لعموم قوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } ، وقد أخذ جماهير السلف والخلف أن من أفسد عمرته بالجماع وأفسد حجه بالجماع يجب عليه أن يمضي في الفاسد ؛ لقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وعليه إتمامها سواء أفسد أو لم يفسد للعموم .
قال رحمه الله : [ والمرأة كالرجل ] : والمرأة كالرجل يجب عليها ما يجب على الرجل .
قال رحمه الله : [ إلا أن إحرامها في وجهها ] : يعني أنها تتقي المحظورات التي ذكرنا إلا في مسألة لبس المخيط ، وهي كالرجل لا تتطيب ، ولا تقلم الأظفار، ولا تقص الشعر، ولا تقتل الصيد، ولا يعقد عليها النكاح ، ولا تباشر، ولا تجامع كالرجل ، وأما بالنسبة للباس فإحرامها في وجهها لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا تنتقب المرأة )) .
قال رحمه الله : [ ولها لبس المخيط ] : ولها لبس المخيط ؛ لأن المحظور عليها تغطية الوجه كما ذكرنا لظاهر الحديث عن عبدالله بن عمر -- رضي الله عنه -- في الصحيح .
باب الفدية
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب الفدية ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد :
فيقول المصنف -رحمه الله- : [ باب الفدية ] : هذا الاسم مصطلح شرعي مأخوذ من قوله تعالى: { ففديةٌ من صيام أو صدقة أو نسك } وكثير من المصطلحات أخذها العلماء من نصوص الكتاب والسنة ؛ تأسيا بالوارد .(4/373)
والفدية : الفداء الذي يدفع لكي يفك الأسير من الأسر؛ قال تعالى : { وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها } فالفداء يدفع لقاء الأسير حتى يفك من أسره ، فكأن الإنسان إذا دخل في النسك أصبح ملزما بهذا النسك محرما عليه ما ذكرنا من المحظورات ، فهو يفتدي ويخرج من هذا الضيق إلى سعة الله -- عز وجل -- وتيسيره سبحانه حيث جعل له الفرج والمخرج بهذه الفدية .
وقوله رحمه الله : [ باب الفدية ] : مناسبة هذا الباب لما تقدم واضحة جلية ؛ لأن الفدية مرتّبة على فعل المحظور، فناسب بعد بيان المحظورات أن يبين كيف يفتدي منها .
قال رحمه الله : [ وهي على ضربين : أحدهما على التخيير ] : الفدية في النسك من حج وعمرة على ضربين : إما أن تكون تخييرية ، وإما أن تكون مرتبة .
فأما فدية التخيير فهي التي نص الله -- عز وجل -- عليها ، وهي كما ذكر حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- جاءت بصيغة ( أوْ ) فما كان ( بأو ) فهو على التخيير، إن فعلت أي خصلة منها أجزأك حتى لو انتقلت إلى الأقل مع القدرة على الأكثر فإنه يجزيك.
قال رحمه الله : [ أحدهما على التخيير ] : بمعنى أن المكلف يخيّر، ويقال له : افعل خصلة من هذه الخصال .
قال رحمه الله : [ وهي فدية الأذى واللبس والطيب ] : وهي فدية الأذى واللبس والطيب : وأشار الله تعالى إليها بقوله : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فنص - سبحانه وتعالى - فيها على التخيير، وبين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا التخيير حينما قال لكعب بن عجرة -- رضي الله عنه -- : (( أطعم فرقا بين ستة مساكين أو انسك نسيكة أو صم ثلاثة أيام )) .
فخيرّه -عليه الصلاة والسلام- بين هذه الثلاث .
تكون في الأذى ، مثل: حلق الشعر، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار، وتكون في الطيب ، وتكون في اللباس، وإذا فعل واحدة من هذه المحظورات قيل له: افتدِ وأنت مخيّر في فديتك بين هذه الثلاث الخصال .(4/374)
قال رحمه الله : [ فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين، أو ذبح شاة ] : مخيّر بين هذه الثلاث ، وهي التي ذكرنا : أولها الصيام فيما رتبه المصنف { ففدية من صيام } الصيام يصوم ثلاثة أيام ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال لكعب : (( أو صم ثلاثة أيام )) فإذا صام ثلاثة أيام ولو كان غنيا قادرا على أن يشتري الإطعام صح وأجزأه ، ثم هذا الصيام يصح في أي مكان ، سواء في المكان الذي يفعل فيه المحظور أو غيره ؛ لأن الله تعالى يقول : { ففدية من صيام } ولم يعين مكانا للصوم .(4/375)
قال رحمه الله : [ أو إطعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين ] : الخيار الثاني: أن يطعم ثلاثة آصع ، والصاع أربعة أمداد بمد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ومد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هو ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين، فالغالب في الشخص الذي هو متوسط اليد ليس بكبيرهما ولا بصغير اليدين متوسط اليدين أنه لو أخذ الطعام بكفيه ملأ هذا القدر، هذا القدر يسمى ربع الصاع، ويسمى صاع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو الذي كان يتوضأ به المد، مد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقال له : ربع الصاع، ويقال مد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، اثنان منه يعدلان نصف الصاع، فأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بنصف صاع لكل مسكين، فقال لكعب: ((أطعم فَرَقًا )) والفَرَق في لغة العرب يعادل ثلاثة آصع ، فقال : (( أطعم فرقا بين ستة مساكين )) أي اقسمه بين ستة مساكين ، فإذا كانت الثلاثة الآصع بين ستة مساكين فمعناه أن لكل مسكين نصف صاع ، وهذا يكون من التمر، ويكون من البر، ويكون من الشعير، ويكون من سائر الطعام على ما قدمنا في الزكاة وفي زكاة الفطر، فعلى كل حال يطعم فرقا بين ستة مساكين، سواء كانوا في بلده أخّر إلى أن رجع إلى بلده وأطعم ، أو في المكان الذي فعل فيه المحظور، أو كانوا مساكين الحرم فهو مخير ولا يلزم بمساكين الحرم على خلاف بقية الفدية التي نص الله فيها أن تكون طعاما لمساكين الحرم .(4/376)
هذا الإطعام يعادل ثلاثة آصع بالكيل، وأما الوزن فقد قدمنا غير مرة أن المنبغي المحافظة على الكيل؛ إبقاء للسنة ، وحتى لا ينسى الناس الصاع ، وأما التقدير بالوزن في المكيلات غير معتبر عند أهل العلم -رحمهم الله- ، ولذلك منعوا من بيع الربوي المكيل وزنا ومن بيع الربوي الموزون كيلا ؛ لأنه لا تتحقق بهما المماثلة ؛ ولأن الطعام يختلف في الثقل ، وهذا راجع للوزن ، فلا ينضبط إذا كان مكيلا ، ولو قيل: إن التمر فالتمر أصناف فيه الثقيل وفيه الخفيف ، وقد بينا هذه المسألة ، فلابد من ثلاثة آصع كل مسكين له نصف صاع .
قال رحمه الله : [ أو ذبح شاة ] : أو يخيّر بينهما وبين ذبح الشاة، الشاة ينبغي أن تكون سليمة من العيوب، فلا يجزئ المريض البيّن مرضها ، ولا العوراء ، ولا العرجاء البين ضلعها ، ولا الكبيرة، ولا الهزيلة ، ولا العجفاء كله لا يجزي في هذه الشاة، ينبغي أن تكون سالمة من العيوب ، وأن تكون ثنيا من الماعز وهو الذي أتم سنة ودخل في الثانية ، أو جذعة من الضأن يخيّر بينهما ؛ لأن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني كما بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
والجذع من الضأن ما أتم ستة أشهر، ودخل في الشهر السابع أي أنه دخل في أكثر الحول ، هذه الشاة يذبحها في أي موضع ، ويطعمها للمساكين ، ولا يأكل منها ؛ لأنها صدقة على المساكين، هذا بالنسبة للخيار الثالث وهو الذي عناه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بقوله : (( أو انسك نسيكة )) (( انسك)) يعني اذبح . (( نسيكة )) يعني ذبيحة وهي الشاة .(4/377)
قال رحمه الله : [ وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم ] : وإذا قتل صيدا فجزاؤه مثل ما قتل من النَّعَم ، فالصيد منه ما يعادل الغنم ، ومنه ما يعادل البقر، ومنه ما يعادل الإبل، فيحتاج في مسألة العِدْل إلى حكمين عَدْلين ؛ كما قال تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} فيختار رجلين عدلين في الموضع الذي قتل فيه الصيد ، فلو كان مسافرا بين مكة والمدينة ثم قتل ظبيا أو ريما أو غزالا أو تيس الجبل أو وعلاً أو تيثلاً فإنه يرجع إلى ذوي عَدْل في الموضع الذي هو فيه ، وينظران في صفة المقتول ، وما يعادله من بهيمة الأنعام ، هذا الحكم من ذوي عَدل لا يخلو من حالتين:
إما أن يكون المقتول مما قضى فيه الصحابة ، وفيه سنة عنهم محفوظة ، وآثار عنهم محفوظة .
وإما أن يكون لم يقضِ فيه الصحابة -رضي الله عنهم-.
فإن كان مما قضى فيه الصحابة ؛ فإنه للعلماء فيه قولان :(4/378)
قال بعض العلماء : ما حكم فيه الصحابي وصح وثبتت حكومته فيه تبقى حكومته سُنّة ، ومن أمثلة ذلك: أن عمر -- رضي الله عنه -- قضى في الحمامة بشاة ؛ لأنها تعُبّ الماء ، فينظر في صفات المقتول وما يماثلها من بهيمة الأنعام، فقضى بالشاة في الحمامة مع أن الحمامة لا تماثل الشاة في الحجم ، ولكن تماثلها في الصفة ، فقضى بهذا القضاء ، فقالوا إنه يبقى سُنّة راشدة وحكما باقيا ، وعلى هذا فما قتل من الصيد ينظر فيه : إن كان فيه مما فيه قضاء للصحابة حكم باعتبار قضاء الصحابة ، فهم أعلم وأقرب إلى مواضع التنزيل، وأقدر على تطبيق النص الوارد ، وما كان لا قضاء للصحابة فيه فإنه يبقى مستأنفاً يبقى الحكم فيه مستأنفاً ، فإذا جيء بذوي عَدل ونظروا في الشيء المقتول أول شيء إلى نوعه والصفات التي هو فيها ، وما يعادله من بهيمة الأنعام ، ثم الصفة التي هو عليها ، فالهزيل يماثله ا لهزيل ، والسمين يماثله السمين من بهيمة الأنعام ، والوسط يماثله الوسط ، فلو قضوا بأن عليه شاة ، والمقتول من أجود وأحسن الصيد وأوفره أو كان في زمان الربيع ممتلئا فيقال: شاة حسناء طيبة ، وعلى هذا فإذا قضى العدلان بالمثلي ، مثلا : لو قتل بقر الوحش ، وقضى العَدلان بأن عِدْلها بقرة ؛ فإنه في هذه الحالة يخيّر ويقال له : إما أن تخرج بقرة هديا بالغ الكعبة وتسوقها إلى مكة وتذبحها بمكة طعمة لمساكين الحرم هذا الخيار الأول { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين } أو نقول له في الخيار الثاني: انظر إلى قيمة هذه البقرة ، وهذه القيمة تشتري بها طعاما من تمر أو بر وتطعمه للمساكين، فلو كانت قيمة البقرة خمسمائة ريال، نقول له : أنت بالخيار بين أن تخرج البقرة هديا بالغ الكعبة وتذبحها بمكة طعمة لمساكين الحرم، أو تأخذ الخمسمائة وتشتري بها طعاما ، فلو كان الصاع بخمسة ريالات تشتري مائة صاع ، وتطعم المائة الصاع(4/379)
للمساكين ، هذا الخيار الثاني، أو تصوم عن كل نصف صاع أو ربع صاع يوما هذا الخيار الثالث { أو عدل ذلك صياما } فإما أن يخرج المثلية هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما، فإذا اختار أي واحد من هذه أجزأه ، فأصبح جزاء قتل الصيد تخييرية ، ولكنه يفتقر إلى حكم ذوي العدل ، فإذا حكما بالشيء نظر إلى مثله من بهيمة الأنعام ، ثم بعد ذلك قُدر الطعام ثم قُدر الصيام ثم يقال له أنت بالخيار بين هذه الثلاثة الأشياء : فإن كان اختار الهدي فلابد وأن يسوقه إلى مكة هديا بالغ الكعبة ولا يجزيه أن يذبح في أي موضع ، بل لابد أن يذبحه داخل حدود مكة ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- : (( نحرت هاهنا وفجاج مكة وشعابها كلها منحر ))؛ فلما قال الله تعالى :{ هديا بالغ الكعبة } المراد حدود الحرم ، فإذا بلغ حدود الحرم نحره ، ثم خلّى بينه وبين المساكين هذا الخيار الأول.(4/380)
والخيار الثاني: أن ينظر إلى قيمة هذا الشيء المثلي الذي حكم به ذوا عدل ، فلو فرضنا مثلا : قتل نعامة ، فقضى في النعامة بناقة ، نقول له : إما أن تخرج ناقة هديا بالغ الكعبة ، أو تخرج بقيمتها طعاما ، أو تصوم عدل ذلك ، فلو أخذ الناقة ونحرها خارج حدود الحرم لم يجزه ويجب عليه أن يأخذ مثلها وأن ينحرها داخل حدود الحرم ؛ لنص الله -- عز وجل -- على ذلك ، فأصبحت هذه الفدية التخييرية تختلف عن الفدية الأولى ، فالفدية الأولى الإطعام فيها في كل مكان ، ولكن هذه الفدية الإطعام فيها مخصوص الذبح في الأولى والإطعام في أي مكان ، ففدية الأذى وتغطية الرأس والطيب يذبح الشاة في أي موضع ، وأيضا يطعمها لأي مساكين ، ولكن في جزاء الصيد لابد وأن يكون بمكة ، أن يكون الذبح داخل مكة ، وأن يخص بها مساكين الحرم ؛ لأن هذا هو المعنى من أمره أن يبلغ به الهدي الكعبة ، كذلك أيضا في الإطعام وجدنا فدية الأذى يطعم في أي موضع ، وثانيا أن هذا الإطعام محدد بثلاثة آصع ، وأما في قتل الصيد فالإطعام يكون لمساكين الحرم ، وأيضا يكون غير مقدر ولا مقيد ؛ لأنه تابع إلى قيمة الهدي ، أو عدْل ذلك صياما وهذا هو الفارق الثالث أن الصوم في فدية الأذى محدد بثلاثة أيام ، وأما في جزاء الصيد فإنه ينبني على قدر الإطعام على خلاف بين أهل العلم -رحمهم الله-: في كل هل هو نصف صاع أو ربع صاع؟ فإن قلنا نصف صاع وكانت مائة صاع فمعنى ذلك يكون عدلها مائتي يوم ، ويخيّر بالنسبة للصوم أن يكون بمكة أو يكون بغيرها
قال رحمه الله : [ إلا الطائر فإن فيه قيمته ] : إلا الطائر فإن فيه قيمته ليس له عدل في العصافير والنغاري ، وهذا قول طائفة من العلماء -رحمهم الله- إذا كان المقتول من الصيد ليس له مثلي نظر إلى قيمته ، فلو قتل جرادا نظر إلى قيمة الجراد وعدلها من الإطعام ، ثم الصيام عدل ما يجب عليه من الإطعام ؛ لأنه ليس له مثلي .(4/381)
فالخيار الأول وهو المثلي يتقدر بما فيه شبه يماثل به بهيمة الأنعام ، فتيس الجبل والوعل والثيثل وحمار الوحش والضبا والريم والغزال كلها لها مثلي من بهيمة الأنعام ، أما لو قتل جراداً فهذا الجراد ليس له مثلي من بهيمة الأنعام ، ولا يشبه بهيمة الأنعام ، فيقال له : كم جرادةً قتلت ؟ قال: قتلت عشر جرادات. كم قيمتها في السوق ؟ قالوا : إن هذا القدر من الجراد بخمس ريالات مثلا، يقال له: كم تشتري بخمسة ريالات من الطعام ؟ يقول - مثلا- : صاعين . نقول : إما أن تخرج صاعين صدقة لفقراء الحرم ، أو تصوم عدلها على الأصل الذي ذكرناه ؛ لأنه تعذر فيه المثلي من بهيمة الأنعام .
وهكذا لو أفسد البيض ، فإذا أفسد البيض من الصيد هجم على عش الحمام وأفسد بيضة ؛ فإنه يضمن ، فيُنظر إلى قيمة البيض ، وتُقدّر هذه القيمة بالطعام ، ثم يُؤمر بإخراج الطعام أو الصيام، فينحصر في الخيارين ، هذا كله إذا هجم على الصيد وقتله ، لكن لو أن الصيد هو الذي هجم عليه وتعذّر عليه أن يتلافاه ، كما هو موجود في زماننا إذا قاد سيارته ، ثم كان زمان الربيع وكثر الجراد ، فقتل من الجراد ما لا يحصى ذكر طائفة من العلماء من المحققين أنه إذا كان الصيد في طريقه أو الجراد على فراشه ولا يمكنه أن ينام إلا بقتله ونام فهو كدفع الصائل من الحيوان لا فدية فيه ولا ضمان ، هذا إذا هجم بنفسه ولم يمكنه أن يتلافاه ويتعذر عليه أن يتلافاه ، أما إذا أمكنه تلافيه فإنه يضمن .(4/382)
قال رحمه الله : [ إلا الحمامة ففيها شاة ] : الحكم كله في الصيد ، وعلى هذا ما ليس بصيد فلو أنه قتل السبع فلا ضمان عليه ، ولا تجب عليه هذه الفدية ؛ لأنها خاصة بالصيد ، فلو قتل أسدا أو نمرا السبع العادي فإنه لا شيء عليه ، والسباع العادية يجوز قتلها ولو لم تبدأ الإنسان بالهجوم ، فلو كان في برية ورأى أسدا أو نمرا وقتله فلا شيء عليه يعني يجوز له ذلك شرعا ؛ لأن هذه السباع من طبيعتها أن تعدو، فلا يُنتظر حتى تهجم على الإنسان ، وعلى هذا يحل له قتلها ولو لم تبدأ بالهجوم ، وهكذا الكلب العقور، فلو كان في موضع ثم كان فيه كلب عقور ولم يفاجأ إلا وهو أمامه ولا يمكنه أن يدفعه إلا بقتله يقتله ؛ لأن الكلب العقور يقتل في الحل والحرم ويقتل في الإحرام وغيره ؛ لأجل الضرر وهو الذي يعقر الناس .
وذهب بعض العلماء إلى أنه قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( والكلب العقور )) في قوله : (( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية ، والحدأة والغراب والفأرة والكلب العقور )) إلا أن المراد بالكلب العقور كل سبع عادٍ ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سمى السبع كلبا ، فقال في عتبة بن أبي لهب -لعنه الله وأباه وأمه - الذي كان يؤذي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حتى قيل : إنه بصق في وجه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك )) وهذا الحديث حسنه الحافظ بن حجر في الفتح والشوكاني رحمه الله وغيره .
فقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك )) فلما خرج إلى تجارته في الشام جاء الأسد له من بين أصحابه ، وفي بعض الروايات الذئب ، فشمه حتى استله من بين أصحابه فقتله شر قتلة ، فاستجيبت فيه دعوة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(4/383)
فقال : (( كلبا من كلابك )) فجعل السبع كلبا ، ومن هنا قالوا إن قوله : (( الكلب العقور)) يقتضي أنه لو كان في الإحرام وقتل السبع أنه لا ضمان عليه ويجوز له قتل السبع في مكة وفي غيرها .
قال رحمه الله : [ إلا الحمامة ففيها شاة ] : لقضاء الصحابة -رضوان الله عليهم- ، فإذا قتل حمامة صادها وهو محرم ، أو صاد حمامة داخل الحرم وهو ليس بمحرم ، مثلا : رأى حمامة داخل حدود الحرم فأطلق عليها النار فقتلها ؛ فإنه في هذه الحالة يجب عليه ضمانها بمثلي وهو الشاة ؛ لأن الصحابة -رضوان الله عليهم- قضوا فيها بشاة ؛ لأنها تعُبُّ الماء فأشبهت بهيمة الأنعام .
قال رحمه الله : [ والنعامة فيها بدنة ] : كذلك أيضا قضاء الصحابة ، فالنعامة فيها بدنة ، وينظر إليها متعيّنة بمعنى أنه إذا قتل نعامة كان عِدْلها البدنة فلا يحتاج إلى ذوي عَدْل فلا يحتاج إلى الحكومة ؛ لأنه مضت حكومة الصحابة -رضي الله عنهم- فيها فيحكم فيها بهذا المثلي .
قال رحمه الله : [ ويتخير بين إخراج المثل وتقويمه بطعام ] : ويتخيّر في قتل الصيد بين إخراج المثل: إن كان شاة ؛ فشاة ، أو بقرة ؛ فبقرة ، أو ناقة ؛ فناقة ، فبهيمة الأنعام من : الإبل ، والبقر، والغنم فقط ، هذا مثليّها يخيّر بين أن يخرج هذا المثل من بهيمة الأنعام هذا الخيار الأول؛ لقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة } فبيّن أنه يخرج المثلي من بهيمة الأنعام .
قال رحمه الله : [ وتقويمه بطعام ] : هذا الخيار الثاني كما ذكرنا .(4/384)
قال رحمه الله : [ فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما ] : فيطعم كل مسكين مدا وهو ربع الصاع ، وعلى هذا يكون الإطعام لكل مسكين ربع صاع ، وهذا راجع إلى التقدير بالفدية بالربع؛ كما جاء في حديث سلمة بن صخر البياضي أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما أوتي بعَرْق من تمر- العَرْق هو المِكْتل والمكتل مثل ما يسمى في عرف العامة بالقُفّة الكبيرة والزنبيل الكبير من الخَصَف كان يصنع من الخصف وكان يوضع فيه التمر هذا الزنبيل أو المكتل فيه خمسة عشر صاعاً- فأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سلمة أن يطعمه ستين مسكينا، فمعنى ذلك أن لكل مسكين ربع صاع؛ وعليه قالوا إن الله تعالى لما أوجب على المسلم أن يطعم المساكين، وجعل إطعام ربع الصاع في هذه الكفارة المغلظة مجزئا دل على أن العبرة في إطعام المساكين في قتل الصيد أنه يكون بربع الصاع ، فذهب بعض العلماء إلى أنه يقدّر بنصف الصاع ؛ لأن فدية الأذى جعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيها الصدقة بنصف صاع .
وأجاب الأولون بأن القرآن عبّر بالإطعام وعبّر بالصدقة ، فُقدّم ربع الصاع للتعبير بالإطعام كما في كفارة الظهار .
قال رحمه الله : [ أو يصوم عن كل مد يوما ] : أو يصوم عن كل مد يوما : إذا قلنا لكل مسكين مد فحينئذ يصوم عن كل مد يوماً ، وإن قلنا لكل مسكين نصف صاع فيصوم عن كل نصف صاع يوماً ، ومثال ذلك: لو فرضنا أن قيمة البهيمة تعادل عشرة آصع من التمر؛ فعلى القول الأول يصوم أربعين يوما ؛ لأن العشرة الآصع ربع الصاع عِدْلها أربعون يوماً ، وإذا قلنا على القول الثاني يصوم عشرين يوما ، متفرقة أو متتابعة ولا يلزمه التتابع ، إذا كان عليه عشرون يوماً فإنه يصومها متفرقة ومتتابعة .(4/385)
قال رحمه الله : [ الضرب الثاني على الترتيب وهو المتمتع يلزمه شاة ] : الضرب الثاني على الترتيب : وهو ما أوجب الله في دم التمتع ، والتمتع يشمل التمتع بالعمرة في أشهر الحج ، وأيضا القران ، فمن تمتع بعمرته إلى الحج وجب عليه الدم ، ووجبت عليه هذه الفدية على الترتيب، وكذلك أيضا من قرن ولم يجد ، أو كذلك أيضا من وجب عليه الدم -دم الجبران- فإنه ينتقل إلى فدية الترتيب . يبدأ أول شيء بالدم .
قال رحمه الله : [ يلزمه شاة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ] : لأن الله أوجب على المتمتع الهدي ، وهذا الهدي بالغ الكعبة يعني ينبغي أن يكون بمكة يذبحه وينحره بمكة، فالخيار الأول الشاة في تمتع العمرة وتمتع القران ، فإذا لم يجد الشاة ؛ فإنه حينئذ ينتقل إلى البدن ، وهو صيام عشرة أيام : ثلاثة منها في الحج ، وسبعة منها إذا رجع إلى أهله ؛ والأصل في دم التمتع في متعة العمرة ؛ ولذلك إذا أراد أن يحرم بالحج يقدم إحرامه على يوم عرفة حتى يتمكن من صيام الثلاثة الأيام ، فيحرم ليلة السادس ليصوم اليوم السادس والسابع والثامن، أو يحرم ليلة الخامس ليصوم اليوم الخامس والسادس والسابع ، وإذا عجز عن الصيام قبل يوم عرفة صام الثلاثة الأيام من التشريق ؛ لوجود الحاجة ؛ وقد أمر الله أن تكون في حال إحرامه بالحج أو تلبسه بنسك الحج، فأوجب الله -- سبحانه وتعالى -- في التمتع الدم ؛ فقال تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } فاشتملت الآية :(4/386)
أولا : على مشروعية التمتع في قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } ، وشملت النوعين تمتع المعروف بالعمرة ، ثم يتحلل بعدها ، ثم يحرم بالحج ، والتمتع بالجمع بين الحج والعمرة في نسك واحد ، وهو تمتع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دلت على مشروعية التمتع .
ثانيا : أن هذه المشروعية وقعت على العموم في أهل مكة وغيرهم وهو مذهب الجمهور .
ثالثا : أنها بينت وجوب الدم على المتمتع في قوله تعالى : { فما استيسر من الهدي } وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (( إني قلدت هديي ولبدت شعري فلا أحل حتى أنحر )) فبين أنه قد ساق هديه في متعة القران.
وأما بالنسبة لمتعة الحج المعروفة فظاهر الآية شمولها للعموم ، فيجب عليه الهدي بصفة الشاة التي ذكرنا تكون ثنَْيا من المعز أو جذعة من الضأن سالمة من العيوب ، ويجب ذبحها بمكة ؛ وذلك هو الأصل لقوله -عليه الصلاة والسلام- حينما نحر هديه قال : (( نحرت هاهنا وفجاج مكة وشعابها كلها منحر )) فدل على أن العبرة بذبحها داخل حدود الحرم ، وإذا عجز عن الدم في التمتع ؛ فإنه ينتقل إلى البدل وهو الصيام ، فلا يصح أن يصوم العشرة الأيام وهو قادر على أن يشتري الهدي ؛ لأنه مبني على الترتيب ؛ ولذلك لا يجزئ الثاني مع القدرة على الأول .
قال رحمه الله : [ وفدية الجماع بَدَنة ] : وفدية الجماع بَدَنة كما قضى فيها أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وذكرنا أن من العلماء من قال بالشاة ؛ والصحيح بدنة في مسألة الجماع ، وأما المباشرة بما دون الجماع فقد أشرنا إلى الكلام فيها ، فإن وقع جماع ووجبت عليه بدنة ؛ فإنها تنحر بمكة شأنها شأن الدم الواجب ، فدم الجبران ودم هدي التمتع ودم أيضا فدية الجماع كلها تكون بمكة طعمة لمساكين الحرم سواء كانت من الإبل أو كانت من البقر أو كانت من الغنم .(4/387)
قال رحمه الله : [ فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع ] : فإن لم يجد المجامع البَدَنة فإنه ينتقل إلى البدل فيصوم كصيام المتمتع ، هذا مذهب بعض العلماء : أن الدم الواجب في الجماع والدم الواجب في جبران النسك - من ترك واجبا من واجبات الحج - هذه الدماء إذا عجز عنها ينتقل إلى الصوم ، فيصوم عشرة أيام قياسا على التمتع ، ووجه هذا القياس : أن المتمتع أوجب الله عليه الدم ؛ لأنه كان المفروض بعد انتهائه من العمرة مادام قد دخلت عليه أشهر الحج كان المفروض أنه بعد أن ينتهي من العمرة أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته ؛ لأنه مر بالميقات ناويا للحج والعمرة ، فلما أحرم بالحج من مكة سقط عنه السفر الثاني وجبره بالدم، وهذا الدم دم جبران على أصح قولي العلماء بدليل أن المكي حينما جاء بالحج والعمرة وتمتع أسقط الله عنه الدم ، وهذا يدل على أنه دم جبران ؛ لأن الآفاقي هو الذي يلزمه الرجوع ، وأما المكي فلا يلزمه ، فلما فرّق الله بين حاضري المسجد الحرام من أهل مكة ومن كان في حكمهم وبين غيرهم دل على أن هذا الدم دم جبران في حكم الجبر ، وإذا كان في حكم الجبر فكل دم جبر في فدية أو غيرها يلحق بهذا الدم ، فإن عجز عن أصله انتقل إلى بدله وهو الصيام ، هذا وجه القياس ووجه الإلحاق .
فالخلاصة : أنه يجب دم التمتع ، فإن عجز عنه صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ، وإذا كان عليه دم جبرانا لواجب أو كان دما في فدية جماع ؛ فإنه يقوم به ، فإن عجز عنه صام عشرة أيام كاملة، ويختلف عن المتمتع ؛ لأن صوم المتمتع ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع ، وأما غيره فيصوم العشرة سردا ولا يشترط تتابعها .(4/388)
قال رحمه الله : [ وكذلك الحكم في دم الفوات ] : وكذلك الحكم في دم الفوات : لو أنه خرج من بلده يريد الحج ، ثم إنه لما وصل إلى عرفات طلع الفجر من يوم النحر فلا يمكنه أن يدرك الحج وقد فاته الحج ، ففي هذه الحالة ويتحلل بعمرة وعليه دم ؛ لأن عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- قضى بذلك في قضية هبار بن الأسود -رحمه الله- ، فإنه فاته الحج في خلافة عمر -رضي الله عنه وأرضاه- فقال له عمر: ابق كما أنت ؛ لأنه جاءه يوم العيد ، وكان يظن أن يوم العيد هو يوم عرفة ؛ لأنه تعرفون أن الناس يبنون على الرؤية وتختلف من مكان إلى آخر، فأخطأ ثم جاء في هذا اليوم بعد فوات الحج ، فقال له عمر : ابق كما أنت يعني لازلت محرما حتى تأتي البيت ، فتتحلل بعمرة ، وإذا كان من قابل فاهدِ وحج ، فأوجب عليه الدم هذا هو دم الفوات فإن عجز عنه صام.
قال رحمه الله : [ والمحصر يلزمه دم ] : والمحصَر يلزمه دم ؛ لقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما أحصر عام الحديبية نحر هديه -صلوات الله وسلامه عليه- فدل على أن المحصَر ينحر هديه ويتحلل إذا منع من الوصول إلى البيت وتعذر عليه الوصول إلى البيت فإنه ينحر هديه ويتحلل في موضعه ؛ كما فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عام الحديبية حينما أحصر ومنعته قريش من بلوغ البيت .
قال رحمه الله : [ فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ] : هذا على الأصل الذي ذكرناه أنه عوض وبدل عن دم واجب ، والشرع جعل بدل الدم الواجب صيام العشرة الأيام ، فيقوم مقامها هذا من القياس .
قال رحمه الله : [ ومن كرر محظورا من جنس غير قتل الصيد فكفارة واحدة ] : ومن كرّر محظورا من غير جنس قتل الصيد كأن يكون غطّى رأسه أكثر من مرة أو تطيّب أكثر من مرة فإن عليه كفارة واحدة .(4/389)
قال رحمه الله : [ فإن كفّر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه ] : فإن كانت هذه الكفارة قد فعلها في أول مرة ثم فعل مرة ثانية وجبت عليه كفارة ثانية ، فتجزيه الكفارة الواحدة إن كرر ولم يكفّر ، أما إذا كفّر المرة الأولى أو الثانية بعد الثانية ثم فعل ثالثة ورابعة فعلى الثالثة والرابعة فدية ، فشرط دخول هذه المحظورات في بعضها أن لا يكفر عن الأول سواء اتحد المجلس أو اختلف .
قال رحمه الله : [ وإن فعل محظورا من أجناس فلكل واحد كفارة ] : وإن فعل محظورا من أجناس كأن يكون تطيّب وغطّى رأسه ولبس المخيط هذه أجناس ، كل جنس منها له فديته الخاصة ، فيجب عليه أن يفتدي ، ولو أنه قلّم أظفاره وقصّ شعره ففيها فديتان ، أما إذا فعل المحظور في موضع واحد كما ذكرنا من الطيِْب وتغطية الرأس أو حلق رأسه ولم يكفّر ثم نتف شعر إبطيه ولم يكفّر ثم حلق شعر عانته فهذه ثلاثة من أصل واحد وهو الحلق مادام أنه لم يكفر عن الأول تلزمه كفارة واحدة – فدية واحدة- سواء اتحد الموضع كأن يحلق يبدأ مثلا بقص شعر رأسه ثم بعد ساعة قص الجانب الآخر من رأسه ثم في اليوم الثاني قص جانباً ثالثًا حينئذ عليه فدية واحدة مادام أنه لم يكفر بالفدية في أول مرة .
أما لو كفر بالفدية والمرة فالحكم على الاستئناف ؛ لأن الأول كفارته الفدية الأولى ، فإن فعل بعدها فقد فعل جديدا لم يتعلق به الأول لا بنيّته ولا بعمله فوجبت له كفارة جديدة ، وهذا ما يسمى بالتداخل في الفدية .(4/390)
قال رحمه الله : [ والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه ] : والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي فيه العمد والخطأ ؛ لأنه نقص لا يمكن جبره ، ولا يمكن تلافيه ، من قلّم ظفره لا يستطيع أن يرده ، ولا يستطيع أن يرجع إلى الحال الأصلي. أما من غطى رأسه فيمكنه أن يزيل الغطاء ويرجع إلى الأصل ، ومن لبس المخيط يمكنه أن يخلع المخيط ويرجع إلى الأصل، ففُرّق بين ما يمكنه تلافيه وما لا يمكن تلافيه ، والذي لا يمكن تلافيه أن يحلق الشعر أو يقصّه أو ينتفه ، كذلك أيضا لو قلّم الأظفار ، ولو جامع ، ولو قتل الصيد كلها أمور لا يمكن تداركها ولا تلافيها ، فتجب فيها الفدية ، سواء تعمّد أو كان ناسيا ؛ لأن الضمان في الإخلالات معتبر بغض النظر عن كون الإنسان قاصد أو غير قاصد ، فهذا النوع فيه نقص يجب ضمانه، والضمانات يستوي فيها المتعمّد والمخطئ ، فلو أن شخصا أخطأ ودعس بسيارته مالا وأتلفه كأن يدعس غنما مثلا وهو مخطئ نقول هذا في الضمان ويجب عليك أن تدفع قيمته ولو لم تقصد، فالضمانات لا يشترط في تحمل مسؤوليتها وضمانها القصد يستوي فيها العمد والخطأ ، غاية ما في العمد والخطأ أن العامد يأثم والمخطئ لا إثم عليه ، والمتعمد آثم ؛ لأنه قاصد ، والناسي غير آثم ؛ لأنه لم يقصد ؛ وقد قال الله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وفي الصحيح أن الله تعالى يقول : (( قد فعلت )) أي لا أؤاخذكم بالإثم ، إن نسيتم أو أخطأتم وهذا لا يسقط الضمان ؛ ولذلك أوجب الله في قتل الخطأ الدية فهي ضمان للحقوق ، فإذا كان هذا في الآدميين فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فدين الله أحق أن يقضى )) فحق الله آكد أن يضمن ، فكل إخلال من المحظورات فيه نقص لا يمكن تلافيه فإن عمده وسهوه سِيّان في الحكم .(4/391)
قال رحمه الله : [ وسائر المحظورات لا شيء في سهوه ] : سائر المحظورات لا شيء في سهوه تطيّب ثم تذكر أنه محرم أو غسل يديه بصابون مطيّب ثم تذكّر أنه محرم وأزال الرائحة لا شيء عليه ، ولو غطّى رأسه ناسيا أنه محرم ثم تذكّر وأزال الغطاء عند تذكره لا شيء عليه ، فلو بقي بعد التذكّر ولو لحظة قادرا على الإزالة ولم يزل وجب عليه أن يفتدي .
قال رحمه الله : [ وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إلا فدية الأذى فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق به ] : وكل هدي أو إطعام فإنه في أي موضع ؛ ففي الفدية أمر الله -- عز وجل -- بالنسك ولم يحدد أن يكون بمكة ؛ فدل على أنه يجزيه أن يذبح الشاة في أي موضع ، فلو أنه حلق رأسه لوجود الأذى من قمل أو غير ذلك كما حصل لكعب -- رضي الله عنه -- وأراد أن يفتدي بالذبح ، فقال: أريد أن أذبح الشاة في بلدي . نقول له : لك ذلك ، ولا حرج عليك في ذلك ؛ لأن الله يقول : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } ولم يأمر في هذا النسك أن يكون بمكة ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر كعبا أن ينسك نسيكة وكان خارج الحرم ، ولم يقل له ابعث بها إلى الحرم فدل على أنه يجزيه في أي موضع ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يعين في الفدية أن تكون داخل الحرم ، وهكذا في الإطعام فإنه لو أطعم في بلده وقال: أريد أن أطعم المساكين في بلدي فأعرفهم هناك وهنا لا أعرف المساكين، قلنا له ذلك ، وأما بالنسبة لما استثناه من قتل من جزاء الصيد فيجب أن يكون بمكة ، ويتعين عليه أن يكون بمكة ، واختلف في الدم في الهدي وظاهر السنة ما ذكرناه أنه بمكة ، فبيّن المصنّف -رحمه الله- أنه يستثنى من هذا أن يكون بمكة إذا كان قتل صيد، وما عداه فإنه يكون في أي موضع من هدي وإطعام .
قال رحمه الله : [ وهدي المحصر ينحره في موضعه وأما الصيام فيجزئه بكل مكان ] .
الأسئلة :
السؤال الأول :(4/392)
فضيلة الشيخ : الشخص الذي يصوم صوم قضاء عن رمضان فهل يلزمه إتمام صومه إذا شرع فيه أو أنه أمير نفسه وكذلك النية متى تكون ، وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
هناك مسألة أريد أن أنبه عليها وهي مسألة دجاج البيك ، الذي استقر بنقل المشايخ والدعاة الذين كانوا في الخارج أن الدجاج المذبوح في الخارج في الغرب لا يسمح بذبحه للشركات بالذبح الشرعي المعروف ، ولذلك كان مشايخنا وعلماؤنا ومن أدركنا من أهل العلم يرون أن حكمه حكم الميتة ؛ لأنه يصعق بالكهرباء ، ويدوّخ ويُخْنق ، وتقوم الآلة بقطع الرأس دون تذكية شرعية، هذا الذي نعرفه بنقل المشايخ والعلماء وطلبة العلم الثقات الذين ذهبوا وسافروا ونظروا في بلاد الغرب حيث لا يسمح لهم بهذا الشيء ، لكن بالنسبة لدجاج البيك كنت أنتظر إفادة واضحة، ومكثت قرابة شهرين جاءني بعض الإخوة ببعض الأوراق غير واضحة، كانت في لجنة جاءت وأبدت ملاحظات على الذبح ، ثم لم توجد شهادات توثّق هل عُمل بهذه الملاحظات أو لم يعمل ؟ وتأخر الإخوان - أصلحهم الله – في إحضار هذه الشهادات وأرسلوا لي أوراقا غير واضحة بالفاكس ، وانتظرت خلال الشهرين أحد يأتيني حتى جاء أحد الإخوة –جزاه الله خيرا- بالأمس وأحضر لي شهادات موثقة من مشايخ معتبرين وطلبة علم أرجو أنهم ثقات على أن الذبح شرعي ، وأنه يسمح لهم بالطريقة الإسلامية في أمريكا اللاتينية ، وجاءت بوثائق – في الحقيقة- سرّتني كثيرا ؛ لأن مثل هذا الشيء حينما يكون على الشريعة ومثل هذه الشركة تشترط أن يكون شيئا شرعيا وتحرص على إحضار المشايخ وطلبة العلم ، فهذا سرّني كثيرا ، ولذلك أنا أقول: إن هذا الدجاج حلال ، لثبوت هذه الشهادة بشرط أن يُستمر العمل على هذا الشيء الموجود في هذه الشهادات وبالطريقة التي نُقلت إلي بهذه الوثائق . فأحببت أن أشير إلى هذا ؛ لأنني كنت(4/393)
في الأول أقول : إن أي شيء من الخارج من الدجاج الذي يأتي من الخارج من الغرب لا يذكى ذكاة شرعية ؛ لأن الشهادة كانت عندي موثقة ومن المشايخ الذين سافروا هناك أرضاهم فيما بيني وبين الله ، وكنت أنتظر الإفادة وفي الحقيقة كان من المفروض أن يرسلوا الإفادة عاجلة وواضحة، وسبب التأخير عدم وصولها إلي، أما الآن فقد تبيّن الأمر أنا أقول: إنه حلال وذبحه شرعي ، ويجوز أن يأكله المسلم ولا حرج ولا بأس بذلك .
بالنسبة لما ورد في السؤال من صيام القضاء : إذا صام الإنسان في القضاء فإنه يجب عليه أن يبيّت النية بالليل ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من لم يبيت النية بالليل فلا صوم له )) . ويجب عليه أن يمسك ولا يجوز له أن يفطر ، وليس بأمير نفسه .
وأما قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( المتطوع أمير نفسه)) فإن هذا الحديث حجة على وجوب على إتمام الإمساك ؛ لأنه قال : (( المتطوع )) ومن صام قضاء فليس بمتطوع ؛ لأنه يصوم عن الواجب ، وكذلك أكد ذلك النظر الصحيح ؛ فإن قضاء رمضان منزّل منزلة رمضان ؛ لقوله تعالى: { فعدة من أيام أخر } والقضاء يحكي الأداء فلا يجوز له أن يفطر أثناء يومه في القضاء إلا من عذر والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : أشكل علي أن الحج لا يجب على الكافر ، وقد ذكر بعض أهل العلم بأن الكافر مطالب بفروع الشريعة فما توجيه ذلك . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
هذه المسألة تعرف بهل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أو لا ؟
فمنهم من قال : مخاطبون بالتوحيد أولا ، ثم بعد ذلك يخاطبون بفروع الشريعة .
ومنهم من قال: إنهم مخاطبون بفروع الشريعة ، وقد اتفق الجميع على أنه لا تصح منهم فروع الشريعة إلا بعد أن يؤدوا الأصل وهو توحيد الله .(4/394)
فائدة الخلاف يقول إنهم يعذبون على الكفر، وعلى ترك الامتثال للأوامر بفروع الشريعة؛ واستدلوا بذلك بأدلة : بقوله تعالى : { قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين } فذكر من ذنوبهم فروع الشريعة أنهم ما كانوا يقومون بحق الله -- عز وجل -- في الصدقات والزكوات ، وكانوا يخوضون مع الخائضين ، فهذا كله من فروع الشريعة وليس من أصولها ؛ وعلى هذا قالوا إنهم مخاطبون بفروع الشريعة ، وهذه المسألة معروفة في الأصول ، وكثر فيها الكلام حتى قال بعض أئمة الأصول : (( مسألة طويلة الذيل قليلة النيل)) فالخلاف فيها طويل ، ولكن الفائدة ما فيها فائدة ، حتى قال بعضهم : إن الفائدة فيها قليلة ؛ وعليه فإننا نقول : إنهم مخاطبون بفروع الشريعة مع أصل الشريعة كما ذكرنا . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :فضيلة الشيخ : رجل من المدينة قصد ينبع وهو ناو النسك فهل يلزمه الإحرام من ذي الحليفة أو الجحفة ؛ علما بأنه سيمكث في ينبع أياما أفتونا بارك الله فيكم ؟
الجواب :
من قصد جهة الساحل وغرّب قلنا إن ميقاته ميقات الساحل ؛ ولذلك يعتبر من أهل المدينة الذين يمرون بالجحفة ، وفرق بين من يمر من المدينة بالجحفة قاصدا للنسك بسفره أصلا وبين من يقصد موضعا بغربي المدينة لغير النسك ؛ فحينئذ إذا أراد الزيارة هناك وقصد أهلا في ضبا أو الوجه وذهب إليهم فله أن يؤخر الإحرام إلى أن ينتهي من حاجته ، وهذا هو أصح قولي العلماء والأفضل والأكمل له أن يحتاط فيحرم من المدينة . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع : فضيلة الشيخ : هل جد والد أمي يعتبر محرما لزوجتي أو لا وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(4/395)
نعم . جدك والد الأم محرم لزوجتك ، ولكل امرأة بمجرد أن تعقد عليها يجوز لأبيك وأبيه وإن علا سواء من جهة الإناث أو الذكور، ولأبي أمك وأبيه وإن علا كلهم آباء لك ؛ لأن أب الأم يعتبر أبا للإنسان ، وابن البنت ابنا للإنسان ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في ابن بنته : (( إن ابني هذا سيد )) وقال في الجد قال تعالى : { ملة أبيكم إبراهيم } فيعتبر هؤلاء كلهم محارم للزوجة بمجرد عقدك عليها ، فهم محارم وليسوا بأجانب ، ولا يحل لهم أن يتزوجوا هذه المرأة أبداً ، فهي محرمة على التأبيد . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : إذا اشتد ألم ضرسي في رمضان فهل أفطر . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
لا ألم إلا ألم الضرس ! يقولون : لا هم إلا هم العرس ، ولا ألم إلا ألم الضرس ! ألم الضرس معروف إذا كان ألم الضرس خفيفا يمكن الصبر عليه يجب عليك الصبر، إذا كان قويا شديدا يحرجك ويصل بك إلى درجة الحرج والعنت جاز لك الفطر ، وهذا على الأصل المعتبر عند العلماء أن ما يوجب الحرج ينتقل إلى درجة الحاجة ، والقاعدة (( أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة )) ؛ والدليل على أن مرتبة الحاجة والألم الشديد توجب الرخصة قوله تعالى: { ما جعل عليكم في الدين من حرج } فإذا قلنا لك صم مع وجود هذا الألم الشديد ؛ فإنه حرج وبيّن الله تعالى أنه ليس في دينه حرجٌ ، فيرخص لك الفطر إن أردت الفطر ، ولك أن تصبر حتى ينتهي يومك ثم بعد ذلك تعالج الألم . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : قد يشكو كثير من طلاب العلم عند إقبالهم على طلبه من وجود المضايقات والهموم والمعوقات ؛ ولذلك يشعر البعض بانقطاعه عن العبادة وإقباله على العلم فهل من توجيه تزيل به هذا الإشكال . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(4/396)
فإن الله ابتلى عبده المؤمن في هذه الدنيا ، فهو من غم إلى غم ، ومن همّ إلى همّ ، ومن كرب إلى كرب ، حتى يقف على آخر أعتاب هذه الدنيا ، وقد رفعت درجته ، وعظمت عند الله منزلته، وكُفّرت ذنوبه وخطاياه ، فكم من مهموم مغموم خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وكم من مهموم مغموم رفعت له درجاته في الفردوس من رضوان الله -- عز وجل -- عليه .
هذه الدنيا دار ابتلاء ، ودار مشقة وعناء ، وهي دار الدناءة ، يرفع فيها الوضيع ، ويوضع فيها الرفيع، ويكرم فيها الفاجر، ويهان فيها البر، ويؤذى فيها ولي الله ، فلم يجعلها الله لأوليائه ، ولا جعلها لأصفيائه ، ولا جعلها لأحبابه ؛ إذ يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر فيها شربة ماء )) .
فجعلها الله ابتلاء لأوليائه ، تضيق عليهم بشدائدها ، وتؤذيهم بفتنها ومحنها ، ولا يزال العبد الصابر المؤمن قد وجه وجهه إلى ربه ، وأسلم قلبه لخالقه ، متوكلا على الله ، مفوضا أمره إلى الله، لسان حاله ومقاله : حسبنا الله ، قد استكفى بالله ، فنعم المولى ونعم النصير .(4/397)
هل قرأت في سيرة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، هل رأيته بأبي وأمي -صلوات الله وسلامه عليه- منذ أن أكرم بالرسالة ، فقد صُبّت عليه البلايا ، وأهين في طاعة الله ومرضات الله ، ورأى شدائد الدنيا وأهوالها، وكان كل ذلك كان فيه عليه الصلاة والسلام أصدق ما يكون إيمانا ، وأثبت ما يكون جنانا ، وأوضح ما يكون سبيلا ومنهجا وحجة وبرهانا ، لم يضعف عليه الصلاة والسلام في طاعة ربه ، ولم يجبن ولم يخف ، فما كان عليه الصلاة والسلام إلا ثابت الجنان ، سديد اللسان ، موفقا من العظيم الرحمن -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- ، حتى رأى بأم عينيه عمه مجندلا على الأرض قد بقرت بطنه ، وسالت دماؤه ، وقُطعت أشلاؤه ، ورأى عليه الصلاة والسلام من الشدائد والمصائب حتى فقد البنات وفقد البنين -عليه الصلاة والسلام- وما زاده ذلك إلا حبا لله ورضوانا عن الله ، وما تأمل مسلم ذلك كله فرأى سيرة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في جميع شؤونه وأحواله إلا وجده من كرب إلى كرب ، ومن خَطْب إلى خَطْب ، إن دخل إلى بيته رأى الابتلاء من ربه ، وإن خرج إلى الناس ابتلي في نفسه وفي أصحابه وفي أحبابه ؛ كل ذلك حكمة من الله -- جل جلاله -- حتى وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا ، وقد دنت ساعة الفراق ، فصاحت بنته : واكرب أباه! فقال -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- : (( لا كرب على أبيك بعد اليوم )) .
الكرب في هذه الدنيا سنة من الله للأولياء والأتقياء والصلحاء ، تعضهم الدنيا فيهان ويذل ويضيق عليهم في أمورهم فلا يزيدهم ذلك إلا ثباتا ويقينا وصدقا .
نعم إنها الفتن والمحن التي تظهر بر البر وفجور الفاجر، تظهر صدق الصادقين، وثبات الموقنين، ورباط المرابطين، فتن تشع بها أنوار الإيمان في قلوب الموقنين المحسنين -جعلنا الله وإياكم منهم برحمته وهو أرحم الراحمين-.(4/398)
أخي في الله أعظم نعمة من الله على العبد أن يفوض أمره إلى الله ، وأن يكون عنده اليقين أن أزمّة الأمور كلها بيد الله ، وأن الأمر كله لله ، وأن الله يغلب ولا يغلب ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وأن الدنيا بقضها وقضيضها وكثيرها وقليلها لا تزن عند الله جناح بعوضة ، وأن كل ما يرى من فجور الفجار واعتداء الأشرار على الأخيار وتسلطهم على الصفوة الأبرار، وما يرى هو في طلبه العلم من ضيق الحال وسوء الحال كله ينتهي به إلى رحمة ذي العزة والجلال .
من هذه البلايا خرج الصادقون بصدقهم ، من هذه البلايا خرج الموقنون والمحسنون بثباتهم ، أي شيء تشتكيه هل قرأت أو رأيت أو نظرت ما مر بسلفك الصالح ، ليتك تعلم هذه الكتب التي بين يديك ، وهذه الحروف التي سطرت أمام عينيك، ليتك تعلم كيف سطرت ؟! ومن الذي سطرها ؟! وما الذي رآه من الشدائد والأهوال حتى إن الواحد منهم كان غريبا عن أهله غريبا عن وطنه لكي يحفظ حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- الذي بين يديك ، وكان الرجل منهم ينزوي عن الدنيا وفتنها ومحنها لكي يبلغك آية أو حديثا أو حكما شرعيا ، فيا لله ، من أمة رأت في طلبها للعلم الشدائد بحق ، كان الرجل منهم يرى الموت أمام عينيه ، ولربما وجد الشدائد في نفسه وفي حاله ، أما أنت اليوم فآكل شارب ، آمن في سربك ، معافا في بدنك ، عندك قوت يومك .
أخي في الله في أي لحظة تستطيع أن تضيء المصباح فيشع بيتك نورا ، وكان السلف يضيء الواحد منهم الفتيلة أو يشعل الشعلة فلا يجد إلا ما يكتب به الكلمة أو الكلمتين ثم تنطفئ ، ثم من الذي يجد هذه الشعلة ، وأنت اليوم تخط بالأقلام الملونة وتفعل ما تشاء والصحف بين يديك وكان الرجل منهم لا يجد مدادا يمد به قلمه حتى يكتب .(4/399)
أخي في الله أي نعمة ترفل فيها ، وأي منة تجدها حتى إن العلم أصبح بين يديك نائما على فراشك، تستمع إلى مسجلك فتسمع الأحاديث والعلوم ، وتسمع ما لم يخطر لك على بال ، أي نعمة ستقف بين يدي الله وتحاسب عنها.
يا طالب العلم دع الهموم عنك جانباوانظر إلى سعة رحمة الله عليك وفضله وجميل منته لديك، واعقد العزم ، وتوكل على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم .
اترك عنك هذا التخاذل والتباطل والضعف ، واعلم أنه إن نزلت بك بلايا لن تساوي شيئا مما مر بالأولين، وأنها إذا نزلت بك لن تكون شيئا أمام الأنبياء والصديقين ، فارفع نفسك إلى تلك الصفوة المجتباة ، واعقد العزم على أن تثبت في هذه الفتن وهذه المحن ، وتستمر في كتابة العلم وطلب العلم وتصبر على همك وغمك لعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا .
والله ، ثم والله ، لن ترى في هذا العلم إلا ما تقر به عينك في دينك ودنياك وأخراك إن صدقت مع الله ، وصبرت واحتسبت الأجر عند الله ، فإن هذا العلم عواقبه حميدة ، ونهاياته كريمة ، ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل .
أوصيك أخي في الله :
أولا : أن تكثر من تلاوة القرآن مع التدبر، فإنها تقوي القلوب في الفتن والمحن ؛ خاصة في طلب العلم ، وتجعل لك وردا من الليل لا تتركه .
ثانيا : أن تكثر من الدعاء أن الله يثبتك على طاعته ، وأن يصرف عنك الفتن ما ظهر منها وما بطن .(4/400)
ثالثا : استشعار نعمة الله عليك ، تحس أنك أسعد الناس ، من هذا الذي جلس بين يديك فجلس بين يديك كتاب من كتب مشايخ الإسلام وأئمة الإسلام بين يديك ، كتب يجدها في أي ساعة يأخذ كتاب من شاء من هؤلاء العلماء ، فاحمد نعمة الله -- عز وجل -- عليك ، وحس أنك في نعمة عظيمة ، المشكلة قل أن تجد طالب علم يشكر نعمة الله عليه اليوم ، وتجد الواحد منهم يقول نريد الشيخ أن يجلس معنا أربعاً وعشرين ساعة وهو لا يستطيع أن يشكر حتى لو جلس معه الشيخ ربع ساعة قل أن يقوم من مجلس فيقول : الحمد لله والشكر لله على هذه الربع ساعة ، إن الله تأذن بالزيادة لمن شكر، فاشكر الله حتى يبارك الله لك ، واعرف نعمة الله -- عز وجل -- عليك إذا خطت يدك أو سمعت أذنك أو نظرت عينك حتى تحس أنك في نعمة فتحافظ عليها ، وإياك وأن تخذل أو تضعف ، وأكثر من الدعاء ، وصحبة الصالحين ، وقراءة سيرة العلماء العاملين .
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يصرف عنا وعنكم الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم إنا نسألك إيمانا كاملا ، ويقينا صادقا ، وعلما نافعا ، اللهم خذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا ، اللهم خذ بنواصينا إلى ما يرضيك عنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى ، وألهمنا البر والتقوى ، واجعلنا من أئمة الهدى ، والموفقين للرضى ، يا من جل وعلا ، لا إله إلا أنت سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، والحمد لله رب العالمين .
باب دخول مكة
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب دخول مكة ]:
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد :(4/401)
فيقول المصنف رحمه الله : [ باب دخول مكة ]: دخول مكة حفظت فيه السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وذلك في حجة الوداع ، وفي دخوله -عليه الصلاة والسلام- في عُمَرِه وفي دخوله يوم فتح مكة ؛ ولذلك حفظ أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- السنة وهديه في ذلك الدخول ، ومن هنا اعتنى الأئمة والعلماء -رحمهم الله- ببيان هذه السنن ؛ فقد صح عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما دخل مكة بات بذي طوى ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام اغتسل بعد صلاة الصبح ، ثم مضى إلى البيت ودخل المسجد ، وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحرى السنة ، فإذا دخل في الحج أو العمرة أن يبدأ بالاغتسال ، وهذا الاغتسال فيه فوائد عظيمة : لأنه تستجم به الروح ، وتقوى به النفس ، ولذلك يذهب عن الإنسان الشعث وعناء السفر، ويكون أكمل وأقوى وأقدر على الخشوع وحضور القلب ، ومن عناية الصحابة -رضي الله عنهم- بالسنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنهم راقبوه في جميع شؤونه ، فحفظوا دخوله حتى حفظوا الصفة التي دخل بها ، وحفظوا المكان الذي دخل منه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- كل هذا حرصا على حفظ هذه السنة والهدي للأمة.
يقول المصنف رحمه الله : [ باب دخول مكة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من السنن والآداب التي ينبغي للمسلم أن يراعيها ويحافظ عليها عند دخوله لمكة ، وكيف كان دخول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فيسن ويشرع الائتساء والاقتداء به .(4/402)
قال رحمه الله : [ يستحب أن يدخل مكة من أعلاها ] : يستحب أن يدخل مكة من أعلاها: مكة فيها العالية وفيها السافلة ، وأعلاها من جهة قبور المعلاة ، من جهة المُحَصّب والبطحاء وأسفلها من جهة الحفائر، وهي الجهة الجنوبية إلى الغرب ، وأعلاها الجهة الشمالية إلى الشرق فالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- حينما دخل مكة ما دخلها إلا من أعلاها ، واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذا الدخول بعد ثبوت السنة به ، دخلها يوم الفتح من أعلاها ، ودخلها عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع وفي عُمَرِه كلها من أعلاها ، فاختلفوا في هذا الدخول : هل هو مقصود أو غير مقصود ؟
قال بعض العلماء : دخلها عليه الصلاة والسلام من أعلاها نكاية بالمشركين ، وتصديقا لحسان بن ثابت وذلك حينما قال :
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كَداء(4/403)
وكداء هي الثنية العليا من جهة القبور. فقال حسان قبل فتح مكة هذا البيت ، فصدقه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقال : (( لا تدخلوا مكة إلا من الثنية حيث قال حسان )) لكي يصدق من نصر الإسلام بقوله فلا يكذبه ولا يخذله ، وهذه هي سنته عليه الصلاة والسلام وهديه حتى مع غير المسلم ، حتى إنه عليه الصلاة والسلام لما ذهب إلى الطائف وأراد دخول مكة بعد أن أوذي صلوات الله وسلامه عليه منعته قريش من البيت ، فدخل في جوار المطعم ، وحمل المطعم أبناؤه السلاح وأدخلوا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في ذمتهم وجوارهم ، فلما كان يوم بدر وأخذ أسرى بدر، شفع الناس فامتنع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من قبول الشفاعة ، وضرب رقاب صناديد قريش ، حتى إن عقبة بن أبي معيط حاول أن يستلطف النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فما كان منه إلا أن قتله ، حتى قال له : ما للصبية من بعدي ؟ قال : لك النار ، ثم أمر بضرب عنقه ، ففي هذه الموقف مع شدته يقول للمطعم : لو كان الشيخ حيا يعني أباك فسألنيهم لوهبتهم له ؛ لأنه نصر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأدخله في جواره . فقال : (( لا تدخلوها إلا من الثنية العليا )) .
الوجه الثاني : أن الثنية العليا فيها السوق ؛ ولذلك تعتبر وجه البلد ، والناس الشرفاء والفضلاء ودخول العزة والكرامة الذي لا ريبة فيه يكون الدخول من الأبواب لا من الظهور ، وأبواب المدن أسواقها ؛ ولذلك دخل عليه الصلاة والسلام من أعلاها ؛ لأن في الأعلى السوق ، قالوا فراعى هذا المعنى ولم يدخل من أسفلها .(4/404)
الوجه الثالث : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دخل من جهة المعلاة ؛ لأنها جهة باب البيت ، والملوك تؤتى بيوتهم من أبوابها، وهذا بيت الله -- عز وجل -- بيت ملك الملوك ، فيؤتى البيت من بابه ، وهذا أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله- واختاره بعض شراح الحديث أن هذه الجهة فيها باب البيت ولذلك فضلها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وكان دخوله حتى من باب بني شيبة مراعاة لهذا المعنى ، وقرره الشيخ -رحمه الله- شيخ الإسلام في الشرح أن هذا الدخول مقصود ، وأن هذا الخروج مقصود ، أي أنه كان يدخل من الثنية العليا قصدا ويخرج قصدا لا اتفاقا ولا تيسيرا ولا لسهولة الدخول . قال رحمه الله لأنه لما أراد غزو الطائف والخروج إلى حنين خرج من الثنية السفلى مع أن الأرفق والأخف بالبيت وبه -صلوات الله وسلامه عليه- أن يخرج من الثنية العليا ؛ لأنه بجهة المشرق ، فكونه -عليه الصلاة والسلام- تقصد الخروج مع سهولة الخروج من المعلاة دل على أنه مقصود .
وقال بعض العلماء : إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يقصد ذلك وإنما أراد تكثير الثواب باختلاف طريق الدخول وطريق الخروج .
والأصح أنه دخول مقصود .
هذه الثنية مشرفة على القبور، والآن طريقها لمن جاء من جهة المدينة إذا دخل مع شارع التنعيم يدخل على أسواق العتيبية ، وينحرف شمالا إلى جهة المشرق ، وإذا دخل في آخر أسواق العتيبية وانصب على قبور المعلاة فهو مدخل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهي الثنية العليا .
ثبتت هذه السنة في حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دخل مكة من كداء ، وخرج منها من كدى .
وكذلك عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنه دخل من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى صلوات الله وسلامه عليه .(4/405)
قال رحمه الله : [ ويدخل المسجد من باب بني شيبة ]: ويدخل مسجد مكة من باب بني شيبة؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صحت عنه الرواية أنه دخل من باب بني شيبة ؛ ولذلك استحب العلماء التأسي به -عليه الصلاة والسلام- في الدخول من هذا الباب ، وهذا الباب من جهة الصفا في الجهة الشرقية أقرب إلى الصفا ، والغالب أنه إذا دخل منه استقبل الجهة الشرقية .
قال رحمه الله : [ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل منه ] : هذا بيان للحكم ودليله .
قال رحمه الله : [ فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا ] : هذا الدخول من باب بني شيبة على السنة ، فإن تيسر فالحمد لله ، وهكذا بالنسبة للدخول من الثنية العليا إن تيسر فالحمد لله ، أما إذا لم يتيسر فإنه يدخل من أي موضع ، والأفضل له أن يتحرى السنة حتى يكون ذلك أكمل في الهدي ، وسببا في الرحمة .
قال رحمه الله : [ فإذا رأى البيت رفع يديه ] : فإذا رأى البيت رفع يديه : إذا دخل المسجد فالسنة المحفوظة أن يقول دعاء الدخول عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو في مسجد الكعبة وغيره للداخل أول مرة وغيره ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعله سنة فيقول : بسم الله ، والصلاة والسلام على رسول الله اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، أو يقول: أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الوارد ، وهذه هي السنة في الدخول في كل مسجد ويشمل ذلك المسجد الحرام إلا أن بعض السلف -رحمهم الله- اختاروا للدخول إلى مسجد مكة الدعاء الذي سيشير إليه المصنف -رحمه الله-.
قال رحمه الله : [ وكبر الله ] : وكبر الله : التكبير عند الدخول الحقيقة ليس فيه نص صحيح وكذلك التكبير عند رؤية البيت ، والسنة أن يقول الوارد المحفوظ عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(4/406)
قال رحمه الله : [ وحمده ودعا ] : وحمد الله ودعا : الدعاء عند رؤية البيت كل هذه قال بها بعض العلماء -رحمهم الله- واستحبوها ، ولكن الاستحباب حكم شرعي ، والدخول إلى المسجد فيه سنن صحيحة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وحفظ دخوله -عليه الصلاة والسلام- في حجة الوداع أمام أمته وأصحابه صلوات الله وسلامه عليه ولو اختلف هذا الدخول عن غيره لبيّنه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه فهذا الذي ذكره من رفع اليدين والتكبير والدعاء عند رؤية البيت قال به بعض العلماء ، وفيه آثار لم تصح ، ولذلك البقاء على الأصل المسنون الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هو الذي ينبغي العمل به .
قالوا : يستحب أن يدعو بقوله : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما ومهابة وبرا ، وفي بعض الروايات عن ابن جريج وهي منقطعة : (( وزد مَنْ شرّفه وكرّمه وعظمه ممن حجه واعتمره مهابة وتشريفا وتكريما وبرا )) ولكن هذا الدعاء يروى مرفوعا عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والحديث ضعيف ، بل هو من رواية الكذابين والوضاعين ، ومثل هذه الرواية لا تنجبر ولا تقبل التحسين ؛ لأن شرط الانجبار أن لا يكون من طريق الكذاب والوضاع
وحيث تابع الضعيفَ معتبرُ فحسنٌ لغيره وهو نظر
إن لم يكن لتهمةِ بالكذب أو الشذوذ فانجباره أُبِي
هذا الذي من عنده قد امتضى من حقق الحسنى وجاء المرتضى
فالأصل أن الأدعية والأفعال الخاصة في العبادات أنها توقيفية ، ولا يمكن أن تجعل هذه الأدعية سنة للأمة بروايات الكذابين والوضاعين ، وعلى المسلم أن يأتسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيما صح وورد عنه .(4/407)
أما رفع اليدين عند رؤية البيت ؛ فقد أنكره بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فقد روى الإمام الترمذي -رحمه الله- عن جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أنه سأله المهاجر فقال له : أترفع الأيدي عند رؤية البيت ؟ قال : حججنا مع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أفكنا نفعله ؟! والاستفهام إنكاري أي أننا حججنا مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وما فعله رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ولا فعلناه ، ولذلك لا يشرع رفع اليدين عند رؤية البيت ولا عند الدخول أيضا ، وهذا ترجم له الإمام الترمذي -رحمه الله- في السنن بقوله : باب كراهية رفع اليد عند رؤية البيت .
قال رحمه الله : [ ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرا ] : ثم يبتدئ بطواف العمرة : السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه ابتدأ الطواف ولم يصل تحية المسجد ؛ والأصل في ذلك حديث جابر بن عبدالله وحديث عبدالله بن عمر وحديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنهم- كلهم أثبت أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دخل البيت ثم استفتح بالطواف ولم يسبق الطواف شيء لا من الصلاة ولا من غيره ، فدل على أن السنة أن يحيى البيت بالطواف .
ومن قال من العلماء : إنه يصلي تحية المسجد قبل الطواف فقوله مخالف للسنة ، والأصل أن الطواف نفسه تحية البيت ، وسيصلي بعد الطواف ركعتي الطواف ؛ ولذلك يجزئ هذا الفعل عن التحية كلها .
فالسنة أن يبتدئ بالطواف قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- : إنه أول ما بدأ به أن توضأ عليه الصلاة والسلام ، ثم استلم الحجر، فبينت أنه توضأ لطوافه وللصلاة عقيب الطواف ، ثم استلم الحجر ، فكان أول ما بدأ أن حيى البيت بالطواف .(4/408)
قال رحمه الله : [ فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرا ] : ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرا ، وهذا الطواف ركن كما سيأتي إن شاء الله ، ويبتدئ بطواف العمرة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حينما دخل في عمره ابتدأ بالطواف .
قال رحمه الله : [ أو بطواف القدوم إن كان مفردا أو قارنا ] : أي أنه إذا بدأ الطواف في الحج إما أن يبدأه بطواف عمرة إذا كان متمتعا، أو يبدأه بطواف القدوم الذي يكون للقارن ويكون كذلك للمفرد إن تيسر له قبل الوقوف بعرفة ، فبين نوعية الطواف قبل ابتدائه .
والطواف إما أن يكون طواف عمرة ، وإما أن يكون طواف قدوم ، وإما أن يكون طواف زيارة أو إفاضة ، وهو طواف الركن في الحج ، وإما أن يكون طواف وداع ، أو يكون طوافا في سائر الأوقات طواف نافلة ، أو يكون طوافا منذورا ، هذه أحوال الطواف ، فبين أنه يبتدئ بالطواف إن كان معتمرا فطواف عمرة ، وإن كان حاجا فهو طواف قدوم للقارن والمفرد .
طواف قدوم للقارن كما فعله النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأصحابه الذين كانوا معه قارنين كعلي -- رضي الله عنه -- وطواف عمرة كما فعله أكثر أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خاصة من لم يسق الهدي منهم ، وقد أمرهم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن يتحللوا وأن يجعلوها عمرة ، وأما بالنسبة لكونه في طواف العمرة فلا إشكال بفعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- له .(4/409)
قال رحمه الله : [ فيضطبعه فيجعله وسطه تحت عاتقه الأيمن ] : فيبتدئ بالطواف السنة عند ابتداء الطواف أن يضطبع ، وهذا الاضطباع في بعض الروايات وقع قبل استلام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- للحجر ، والاضطباع ويقال له أيضا التوشح والتأبط هو أن يجعل الرداء تحت إبطه الأيمن ، ثم يرمي بطرفيه فوق عاتقه ، وهذا ما أشار إليه ابن عباس -رضي الله عنهما- في الرواية الصحيحة في عمرة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من الجعرانة ، قال : (( فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم رموا بها على عواتقهم)) فهذا هو الاضطباع يكشف فيه المنكب الأيمن ولا يكشف الأيسر بل يغطى ، وهذا لكي يعين على الرمل؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعله أول ما فعله حينما قال المشركون : يأتيكم محمد وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب ، فنزل الوحي على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بما قالوا في عمرة القضية فأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أصحابه أن يروا المشركين الجلد ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( رحم الله امرءا أراهم من نفسه جلدا )) فاضطبع عليه الصلاة والسلام ورمل وخبّ الأِشواط الثلاثة الأُوَل فهي سنة شرعت بسبب وبقيت إلى الأبد . قال عمر -- رضي الله عنه -- : فيما الرملان وكشف المناكب وقد أطّأ الله للإسلام ومحا الكفر ولكن لا ندع شيئا فعله رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، ومما يدل على بقاء هذه السنة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اضطبع في عمرته من الجعرانة وقد فتحت مكة ، وهذا يدل على أنها سنة باقية وأن زوال السبب لا يقتضي زواله .
يضطبع : هذا الاضطباع قلنا يكون عند ابتداء الطواف ، وللعلماء وجهان :(4/410)
قالوا إنه للطواف ويكون في جميع الطواف ، وقيل: إنه من أجل الرمل ، فعلى القول أنه للطواف لا إشكال أنه يبقى مضطبعا حتى ينتهي من طوافه ، وأصحاب هذا القول قالوا إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اضطبع ولم يحفظ عنه أنه غيّر الاضطباع ، بخلاف الرمل فقد قال عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- خب الثلاثة الأشواط الأول ومشى الأربع ، فذكر اختلاف الحال ، ولم يذكر اختلاف الحال في الاضطباع فرأوا أنه يبقى مضطبعا .
واختار جمع من العلماء رحمهم الله والأئمة أن الاضطباع من أجل الرمل ، وهو من جهة النظر أقوى ، ولذلك يرون أنه من بعد انتهائه من الرمل يغطي كتفه ، والأمر في هذا واسع ، فمن تأول السنة وأبقى كشف الكتف إلى آخر الطواف لا ينكر عليه ، ومن غيّر وستر فإنه لا ينكر عليه لوجود الاحتمال .
قال رحمه الله : [ فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ] : يأخذ الرداء فيجعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن ثم يجمع الطرفين ويرمي بهما على عاتقه الأيسر، والعاتق ما بين مفصل الكتف والرقبة .
قال رحمه الله : [ ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه ويقبّله ] : ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ابتدأ طوافه في حجه وعُمَره -صلوات الله وسلامه عليه- باستلام الحجر، والاستلام للعلماء فيه وجهان :
قيل: مأخوذ من السلام وهو التحية .
وقيل : مأخوذ من السلام وهي الحجارة ؛ لأنه يمسح يده على حجر.
وكلا الوجهين حكاهما العلماء -رحمهم الله- والأئمة . الاستلام أن يضع يده على الحجر وهو بمثابة التحية ثم بعد ذلك يقبّل ؛ فصح الاستلام عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر بن عبدالله وحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهم فبدأ بالاستلام قبل التقبيل ، وهذه هي السنة أن يبدأ باستلام الحجر قبل تقبيله ، وإن قبله ثم استلمه فلابأس ، ولكن السنة أن يقدم الاستلام على التقبيل ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(4/411)
الاستلام البعض يخلط بين الاستلام وبين التمكن من الحجر، فبعضهم يظن أن استلام الحجر هو وضع اليدين على جهتي الحجر من أجل أن يدخل رأسه ، والواقع أن هذا ليس باستلام إنما الاستلام أن يدخل يده داخل الحجر، وحينئذ يكون الاستلام حقيقة ويكون بيده اليمنى بخلاف التمكن من الحجر فإنه يكون غالبا باليدين .
قال رحمه الله : [ فيستلمه ويقبله ] : ويقبله ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- وفي هذه الحالة يكون مقابلا للحجر بكليته ، ومن الأخطاء التي يقع فيها البعض أنهم يأتون من أجل الاستلام في بداية الطواف من جهة الباب فتجدهم يفوتون قدرا مما يجب تحصيله من الطواف ؛ لأن الطواف لا يصح إلا بمسامتة الحجر كُلًّا يعني بالجسم كاملا ، ولذلك قالوا إن السنة أن يقابل الحجر؛ قالوا لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- توجه إلى الحجر؛ لأن الداخل من جهة باب بني شيبة يستقبل الحجر، وهذا التوجه أشبه بالاستقبال في الصلاة ، وهو قبلته ومقصوده البيت . ومن هنا قالوا إنه يستلم الحجر فيكون مسامتا للحجر تماما ، فإن جاء من جهة الباب وجب عليه أن يكون على جهة الاعتدال المسامتة للحجر فيستلم الحجر ثم يقبله ، والتقبيل أن يضع شفتيه على الحجر؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- لأنه قبله وفي الصحيح من حديث عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- أنه قال : (( أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يقبلك ما قبلتك )) . وهذا يدل على أنه رأى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قبله وصح ذلك في حديث جابر بن عبدالله وحديث عائشة وحديث ابن عمر -رضي الله عن الجميع وأرضاهم- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قبّل الحجر.(4/412)
والتقبيل أن يضع شفتيه على الحجر دون إحداث الأصوات والمبالغة في التقبيل وإطالة الوقت واللثم واللحس ونحو ذلك من الأمور التي لا أصل لها ، على المسلم أن يتأسى بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثم لينظر إلى هذا المحدّث الملهم عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- الخليفة الراشد يقول : (( أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يقبلك ما قبلتك )) ، فدل على أن هذا التقبيل ينبغي أن لا يفعله الإنسان إلا في الوارد ، وإذا فعله في الوارد أن يلتزم به صفة الوارد؛ ولذلك ما يفعله البعض من إحداث الأصوات ونحو ذلك من الأمور التي لم تأت عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- مخالفا للسنة ، وعلى المسلم أن يتحرى السنة وأن يتأسى بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ ويقول : بسم الله . والله أكبر ] : بسم الله والله أكبر هذا صح عن ابن عمر عند الطبراني بسند صحيح أنه ابتدأ طوافه فقال : (( بسم الله والله أكبر )) ؛ ولذلك استحبه بعض العلماء -رحمهم الله- وليس فيه شيء مرفوع إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إلا أن ابن عمر بعد أن انتهى من فعله أسند ذلك إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ومن هنا أجاز طائفة من أهل العلم التسمية ، وأما التكبير فلا إشكال في ثبوتها في الأحاديث الصحيحة الأخر أنه كبر عند استلامه للحجر -صلوات الله وسلامه عليه- .(4/413)
قال رحمه الله : [ ويقول : بسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - ] : هذا فيه حديث حسنه بعض العلماء -رحمهم الله- فيه ضعف لكن حسنه بعض العلماء واغتفر قوله عند ابتداء الطواف : (( اللهم إيماناً بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك -- صلى الله عليه وسلم -- )) ومتنه قوي وصحيح ؛ ولذلك قالوا باستحباب أن يبتدئ به عند طوافه أن يقول عند ابتداء الطواف ذلك .
والسنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه كبر واستلم الحجر، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أخذ ذات اليمين وهذا محفوظ في حديث جابر وحديث عبدالله بن عمر -رضي الله عن الجميع- أنه أخذ ذات اليمين .
وذهب بعض العلماء إلى أن أخذه ذات اليمين مقصود منه -عليه الصلاة والسلام- ، ووجهوا ذلك القصد بأن المشركين كانوا إذا قبلوا الحجر أخذوا ذات اليسار وانحرفوا إلى جهة الباب ، ولكنه خالفهم عليه الصلاة والسلام فأخذ ذات اليمين ، ومن هنا إن كان تيسر للإنسان فإنه يأخذ بهذه السنة ، فإذا استلم الحجر انحرف إلى جهة اليمين دون أن يولي البيت ظهره كما هو معلوم ؛ لأن من شرط صحة الطواف أن يجعل البيت عن يساره فلا يوليه قفاه ولا يجعله كله أمامه إلا في مسألة التقبيل التي ورد النص باستثنائها .(4/414)
قال رحمه الله : [ ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره ] : هذه هي الصفة الواردة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الطواف بالبيت ، فالطواف المشروع أن يجعل البيت عن يساره ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس الذي اختلف في رفعه ووقفه : (( الطواف بالبيت صلاة )) ومن نظر وجد أنه يشبه الصلاة من عدة أمور فهو يستقبل البيت عند ابتدائه للطواف ويستقبله أثناء طوافه ثم إنه يستفتح طوافه بالتكبير، وكذلك أيضا يجعل البيت على جهة واحدة وهي يساره ، وكذلك يتطهر كما يتطهر للصلاة ، ونحو ذلك مما فيه مشابهة لأفعال الصلاة ، ومن هنا إذا طاف بالبيت لابد وأن يجعله قبلته ، وقبلته في الطواف أن يجعله عن يساره ، فلا يصح الطواف لو جعل البيت عن يمينه ، فلو طاف سبعة أشواط وقد جعل البيت عن يمينه لم يصح طوافه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أداها عبادة على هذا الوجه .
قال رحمه الله : [ فيطوف سبعا يَرْمل في الثلاثة الأُول من الحجر إلى الحجر ] : فيطوف سبعة أشواط ويرمل من الحجر إلى الحجر : هذا في طواف القدوم في الحج ، وكذلك في طواف العمرة لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعل الرمل فيهما ، ولا يفعل الرمل في طواف الإفاضة ؛ لأنه قد حيى البيت ولذلك فعله النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في هذه الأطوفة ولم يفعله في طواف الإفاضة ، وقد طاف على بعيره صلوات الله وسلامه عليه .
يرمل الثلاثة الأشواط الأول كما صح في حديث جابر بن عبدالله عند مسلم وحديث عبدالله بن عمر في الصحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خب الأشواط الثلاثة الأُول .
والرمل هو الإسراع في المشي ضرب من السير يقال له : الهرولة والرمل ما بين المشي المعتاد وما بين العدو والجري فهو وسط بينهما ، اختلف هل هو مع هز المنكب أو بدون هز المنكب ؟(4/415)
على وجهين للعلماء -رحمهم الله- ، وهذا الضرب من المشي هو ضرب الجلد والقوة كما يفعله في الجيش يفعلونه في الحروب ويفعلونه عند استعراضهم لقوة الجيش ؛ لأنه يدل على الجلد والقوة وفعله النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لهذا المعنى كي يظهر للمشركين أنهم ليسوا أصحاب وهن وضعف -صلوات الله وسلامه عليه-.
يرمل الثلاثة الأشواط الأُول فإن تيسر له الرمل فالحمد لله ، وإن لم يتيسر له ؛ فإنه للعلماء فيه وجهان :
منهم من قال يقتصر على القفز ولو ضاق عليه المكان .
ومنهم من قال يسقط الرمل كلية .
وهذا راجع إلى وجود القفز فيه وعدم وجوده ، وظاهر السنة أنه يقتصر على الهرولة ، ثم من العلماء من قال الهرولة إن كان المكان فسيحا تكون بشدة يعني بأشد ما تكون الهرولة ، وأخذوا ذلك من هرولة السعي وقالوا هما رملان .
والصحيح أن رمل السعي يختلف عن رمل الطواف ، فرمل السعي فيه شدة كما جاء في حديث حبيبة بنت أبي تجرات وكذلك حديث حبيبة بنت شيبة وهو السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وحال هاجر بين الصفا والمروة ليس كحاله عليه الصلاة والسلام في إظهار الجلد في طوافه بالبيت فاختلف الرملان .
قال رحمه الله : [ ويمشي في الأربعة الأخرى ] : ويمشي في الأربعة الأشواط الأخرى ، واختلف العلماء لو كان هناك زحام فإذا اقترب من البيت لم يستطع الرمل ولو ابتعد من البيت استطاع الرمل ، فهل الأفضل أن يقترب من البيت فلا يرمل أو يبتعد عن البيت ويرمل ؟(4/416)
الأقوى أنه يبتعد ويرمل ؛ لأن القاعدة أنه (( إذا تعارضت الفضيلتان المتصلة بالعبادة والمنفصلة قدمت الفضيلة المتصلة على المنفصلة )) وعلى هذا قالوا إن الرمل متصل بالعبادة لأنه بنفس الفعل في طوافه بالبيت بخلاف القرب من البيت والبعد هذا راجع إلى المكان ، لكن هذا يشكل عليه إذا كان في الصف الأول لا يتمكن من التورك في الرباعية ولو تأخر للصف الثاني تمكن من التورك فهل معنى ذلك أن يترك الصف الأول وينتقل إلى الصف الثاني ؟
أجابوا عن هذا وقالوا باختلاف الصورتين ، ففضيلة القرب من البيت ليست نصية ، وفضيلة الصف الأول نصية ، ومن هنا تقدم فضيلة الصف الأول ويسقط ، والفقيه يجد له مخرجا !
قال رحمه الله : [ ويمشي في الأربعة الأخرى ]: يمشي مشيا معتادا إذا بقيت الأربعة الأشواط يمشي مشيا معتادا فلا يخب .
قال رحمه الله : [ وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبر وهلل ] : لا يستلم من البيت إلا الركنان : الركن اليماني ، والركن الذي فيه الحجر الأسود ؛ لأنهما هما ركنا البيت ، وأما بالنسبة لبقية الأركان فإن قريشا تقاصرت بها النفقة فلم تستتم في بنائها للبيت ، ولذلك يبقى من البيت عدة أذرع من الحِجْر كما ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فهذان هما الركنان من البيت وهما اللذان يستلمان في قول جماهير العلماء والأئمة والسلف هذا هو الذي يستلم من البيت وأما الركنان الآخران فإنهما لا يستلمان ؛ لأنهما ليسا هما ركني البيت ؛ لأن البيت لم يكن كما في القصة المشهورة في بناء الكعبة حينما أرادوا أن يبنوها من مالهم وطلبوا المال الحلال فقصرت فيهم النفقة .(4/417)
فالشاهد من هذا أن الاستلام لا يكون إلا للركن اليماني وللركن الذي فيه الحجر الأسود ، ثم ينفرد الركن الذي فيه الحجر الأسود بالتقبيل ، وينفرد بالإشارة عند عجز التقبيل ، وينفرد بتقبيل ما يمسه من محجن وعصا بخلاف الركن اليماني ، فالركن اليماني يقتصر فيه فقط على الاستلام بوضع يده ويكفي فيه ولا يقبل وهو قول جمهور العلماء والأئمة -رحمهم الله- أن الركن اليماني لا يقبل وإنما الذي يقبل الحجر الأسود ، ولذلك قال : لولا أني رأيت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يقبلك فأسند التقبيل إلى الحجر ولم يسنده إلى مكان الحجر وهو الركن ، والفرق بين الركن ومكان الحجر واضح ظاهر، ولما قال : لولا أني رأيت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يقبلك ما قبلتك دل على أنه لا يجوز التقبيل إلا إذا كان هناك ما يدل عليه من السنة ولم يأتِ في السنة التقبيل ولم يأت التقبيل إلا للحجر فدل على اقتصاره على الحجر.
وأما الإشارة تسامح بعض العلماء إن عجز عن الاستلام فإنه يشير وهذا راجع إلى مسألة : هل إشارة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- للحجر قائمة مقام التقبيل أو أن الإشارة قائمة مقام المحاذاة أو أن الإشارة قائمة مقام الركن نفسه ؟
وفي الحقيقة كونها قائمة مقام المحاذاة أقوى ، وهذا مثل أجزاء الصلاة بأضعافها ، ولذلك يشير فيكبر، فجمع بين القول والفعل كما ينتقل من جزء من ركعة إلى ركعة بالقول والفعل .
وفائدة هذا الخلاف أنه إذا كان في الشوط الأخير فسامت الحجر فإنه يشير؛ لأن الإشارة للمحاذاة وهذا يدل عليه قول الصحابي فإذا لم يستلم أشار بيده فدل على أنه جعل الإشارة لمكان المحاذاة وليست عوضا عن التقبيل ولا عوضا عن الاستلام .(4/418)
قال رحمه الله : [ وكبر ] : وكبر : قال : الله أكبر، فيستلم الركن اليماني والاستلام الركن اليماني أن يمسحه ، ولذلك تقال : مسّح بالأركان وهي أركان البيت فإذا وضع يده عليه أو حرك يده كالماسح فإنه يجزيه ، ثم لا يفعل بعد استلام الركن اليماني لا تقبيلا ولا مسحا على الوجه ؛ فإنما يقتصر فقط على وضعها كما هي السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ وهلل ] : ويمشي بين الركنين معناه أنه لا يرمل بين الركن اليماني وبين الركن الذي فيه الحجر الأسود ، وهذه مسألة خلافية .
والصحيح أنه يرمل من الحجر إلى الحجر ؛ وذلك لأن ابتداء الرمل كان من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لكي يظهر الجلد لكفار قريش ، وكان كفار قريش بحذاء قُعَيْقَعان ؛ لأنه كان الشرط بأن يخلوا بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويبن المسجد، فظهروا على الجبل فكانوا من جهة الشامية ينظرون إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولا يتمكنون من رؤيته إلا إذا توارى بالبيت ، فكان إذا وصل الركن اليماني صار مستترا بالبيت ، فمشى عليه الصلاة والسلام فيتقوى بهذا المشي على إظهار الجلد لهم أكثر ، فلما كانت عمرته من الجعرانة كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وعن أبيه أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتمر من الجعرانة فرمل من الحجر إلى الحجر؛ لأنه قد زال المعنى وأبقى السنة على ما هي عليه وزال معنى النظر فأبقى السنة كاملة بأن يرمل الثلاثة الأشواط تامة كاملة وهو أصح الوجهين عند أهل العلم -رحمهم الله-.
قال رحمه الله : [ وهلل ] : كبر وهلل ثم يمشي بين الركنين ويقول المأثور قوله : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أي بين الركن اليماني وبين الحجر الأسود .(4/419)
قال رحمه الله : [ ويقول بين الركنين ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ] : وهذا الدعاء من أجمع الدعاء الوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وكل دعائه من جوامع الكلم -صلوات الله وسلامه عليه- ، وكان أكثر دعاء النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا الدعاء كما صح عن أنس -- رضي الله عنه -- أنه كان أكثر دعاء النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )) .
وللعلماء في تفسير هذه الآية الكريمة لأن الله أثنى على من دعا بها في نسكه للعلماء أقوال : منهم من فسرها بالخصوص ، فقال : الحسنة في الدنيا الزوجة الصالحة ، والحسنة في الآخرة دخول الجنة.
والصحيح أن قوله : (( ربنا آتنا في الدنيا حسنة )) المراد به العموم ، والحسنة تكون حسنة الخير في الدين والدنيا والآخرة ، فهي نكرة تفيد العموم.
ومن خصص من السلف في التفسير فقد ذكر الأئمة والمحققون منهم شيخ الإسلام -رحمه الله- أن ما أثر عن الصحابة -رضوان الله عليهم- وأئمة التفسير من ذكر الأفراد إنما هو تمثيل بالنوع لا يقتضي الحصر في هذا النوع بعينه ، فإذا دعا الإنسان لا يعتقد هذا أن قوله : ربنا آتنا في الدنيا حسنة أنها الزوجة وإنما يقصد العموم .
كان أنس -- رضي الله عنه -- يقول إن أكثر دعاء النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار )) فمن هو السعيد الذي أعطاه في الدنيا حسنة ، وأعطاه في الآخرة حسنة، ووقاه عذاب النار ، هذا أسعد الناس بل إنه الفائز الرابح المفلح { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } فهذا مزحزح عن النار ؛ لأنه يقول : وقنا عذاب النار ومن وقاه الله عذاب النار فقد فاز فوزا عظيما .(4/420)
فالمقصود من هذا أن هذا الدعاء يحرص عليه ، ولذلك نبه العلماء والأئمة أن هذه الدعوة من جوامع دعائه وكلمه -عليه الصلاة والسلام- التي ينبغي الحرص عليها في الحج ، بل قال بعض مشايخنا -رحمهم الله- في الحج وغيره ؛ لأن أنسا -- رضي الله عنه -- كان إذا دعا دعوة دعا بها وإذا دعا بغيرها جعلها مع الدعاء حرصا على هذه الدعوة العظيمة يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
قال رحمه الله : [ ويدعو في سائره بما أحب ] : ويدعو في سائر الطواف بما أحب فليس بملزم بدعاء معين ؛ والأفضل أن يأتسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويتخير جوامع الدعاء من جوامع كلمه -عليه الصلاة والسلام- ومن ذلك قوله بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه كما في الصحيح : (( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر )) ومن أعطاه الله هذه الخمس فقد فاز فوزا عظيما .(4/421)
أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر، فهذا أسعد الناس من أعطاه الله هذه الدعوة : سلامة في دينه وفي دنياه وفي آخرته ، فهذا من جوامع كلمه ومن جوامع دعائه -صلوات الله وسلامه عليه- يدعو بالوارد أفضل ؛ لأنه إذا دعا بالوارد أصابته الرحمة والهداية كما قال تعالى : { واتبعوه لعلكم تهتدون } ، والذين يتبعون النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الأمي لاشك أنهم تصيبهم الرحمة التي وعد الله بها أتباعه -صلوات الله وسلامه عليه- فيأتسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويحفظ الأدعية الجامعة ، يحرص على دعاء الآخرة ، ويجعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله ، ويدعو في الدنيا بما يعينه على صلاح دينه ، ويجعل هذا هو الأساس، وإنك لتعجب أن البعض لا يعرف كيف يسأل ربه -نسأل الله السلامة والعافية- حتى يذهب ويأتي بمن يدعو له ، ثم يجلس يصيح وراءه بكلام لا يعرف معناه ، ولربما يردد يأخذ الكتب التي جعلت فيها الأدعية غير الواردة ، فإن البعض يخصص لكل شوط دعاء ، وهذا لم يثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهذا منكر أن تجعل لكل شوط دعاء ويقال للناس إن هذا مسنون ومشروع ، فهذه الكتب التي تخصص لكل شوط دعاء ينبغي التنبيه على خطئها وتنبيه الناس ، ويقال لمثل هؤلاء : هل تعجز أن تسأل الله صلاح دينك ودنياك ! يا هذا لو أنك طفت بالبيت تقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة لكان ذلك خير الدنيا والآخرة لك ، ثم من هذا الذي عجز حتى كيف يسأل ربه فتجده لا يعرف كيف يسأل الله -- عز وجل -- العفو والعافية ؟! يبدأ بنفسه أولا ، فيسأل الله صلاح دينه ، ويستعيذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وصلاح الدين في تحصيل الفرائض وترك المحارم ، فيسأل الله التقوى والاعتصام بالدين ، ثم يسأل الله السلامة من(4/422)
المنكرات من الشبهات والشهوات، وأن يسلم له دينه وأن يعصمه في دينه كما كان ابن عمر يقول : (( اللهم إني أسألك العصمة في ديني )) فيسأل الله العصمة في دينه ، ثم يسأل الله الزيادة في الدين والخير من التمسك بالكتاب والسنة والاهتداء بهما وأن يحبب كتابه إليه وكلامه إليه ، وأن يجعله مهتديا باتباع سبيله ودينه وشرعه ، واتباع رسله -صلوات الله وسلامه عليهم- يسأل الله هذا ، ثم إذا انتهى من دنياه فلينظر إلى ما أمامه من الآخرة ، فيسأل الله أن يعيذه من القبر وأن يعيذه من فتن القبر ومن عذاب القبر ثم يتقدم إلى الآخرة فيسأل الله -- عز وجل -- أن يسلمه من أهوالها ومن شدائدها وأن يسلمه على الصراط وأن يسلمه واقفا بين يديه حافيا عاريا ، ثم بعد ذلك يسأل الله الدرجات العلى في الجنة ، فهذا كله لا يعجز الإنسان .
أما أن يأخذ كتابا فيقرأه ولا يعرف ما معناه ، ولا يعرف معنى الأدعية ، أو يأتي برجل ينعق ويصيح ، ومن المنكرات رفع الصوت بهذه الأدعية فتجد الخمسين والثلاثين يأتون في المطاف وكأنه لا يجد في حرم الله غيرهم ، ثم يصيحون بصياح شديد ، يشوش على الراكع وعلى الساجد وعلى الطائف بالبيت، كل هذه من البدع ، وفيها إثم كبير أن الذي يرفع صوته بهذه الطريقة التي تشوش على الراكعين والساجدين ، والله ، لقد سمعت أقواما يسعون بين الصفا والمروة ما استطعت أن أصلي وأنا في رواق البيت ، فكيف بالذي يطوف بجواره ، فهذا بعضهم لماّ يأتي ويدعو ويدعون وراءه إذا بهم يدعون بقوة ويصيحون بقوة ؛ والنبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا )) - سبحانه وتعالى - فهو أقرب إلى الإنسان من الحبل الوريد .(4/423)
فالمقصود من هذا أنه ينبغي التأسي بالوارد وترك مثل هذه الأمور، بل إنه ربما يقرأ الكتاب وهو لا يعي معناه ، حتى إنه ربما يكون في العمرة فيقول : اللهم إني أسألك حجا مبرورا وسعيا مشكورا وهو في العمرة !! وبعضهم يقول : لا تدع لنا ذَنَبا . قال بعض العلماء بجواره : إلا قطعته ! فإنه لا يعرف، يتكلم بشيء لا يعرفه، ثم الجبن ينقلب إلى ما هو معروف ومعهود كل هذا سببه الجهل، وسببه الجهل بالله قبل كل شيء ، لقد جهل الناس ربهم ، فلم يعظموه حق تعظيمه ولم يقدروه حق قدره ، الرجل يذهب إلى العمرة وإلى الحج لا يعي أنه وافد على الله وأنه ضيف على الله وأنه ينبغي عليه أن يتهيأ ، يا لله العجب لو أنه ذهب إلى عظيم من عظماء الدنيا ولله المثل الأعلى، لوجدته يسأل كيف يدخل عليه ؟ وماذا يقول ؟ وما هي آدابهم ؟ وما هي عاداتهم ؟ وما هي تقاليدهم ؟ لوجدته يستكثر من ذلك ولا يستقل ويبحث عنه ويفصل فيه بالقليل والكثير وهو داخل على ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ، ولذلك وما قدروا الله حق قدره ، فيأتي الإنسان إلى عمرته وكأنه شيء معهود مألوف ، ولقد كان الرجل من السلف إذا وقف ملبيا خر مَغْشيا عليه من تعظيمه لله -- عز وجل -- ، وكان علي زين العابدين إذا قال : لبيك احمر واصفر ، وأثر عنه أنه غشي عليه -رضي الله عنه وأرضاه- وقيل له في ذلك فقال : أخشى أن يقال لي لا لبيك .(4/424)
فالمقصود من هذا أن الناس سببهم في وقوع هذه البدع والمحدثات والأمور الغريبة العجيبة حتى إنه يأتي للرجل بالمال ويقول له : طوفني ، فيحتاج أن يدعو له ، والدعاء لا يكون مستجابا إلا إذا كان خالصا ومن قلب ، وهذا الذي يدعو يدعو بالمال حتى إنهم يضحكون على الناس وهذا ليس خاصا بالطواف ، هذا كله مما لُبّس فيه على الناس في دينهم حتى إنه بلغ ببعضهم -والعياذ بالله- من الجرأة على الله أنه يأتي ويقول ألفاظا لا أصل لها حتى لربما أدخل الدين بالدنيا ، وبلغ ببعضهم أنه يأتي ويقول له : اللهم إني نويت أن أعطي مزوّري كذا وكذا ريالا كل هذا حتى يضمن سقاط الدنيا وفتات الدنيا فكيف يكون الدعاء من مثل من كان قلبه بهذه المثابة معظماً للدنيا على الدين ومؤثرا ما عند الناس على ما عند الله -- عز وجل -- ، فالمقصود من هذا أن هذه الأدعية وهذه الطريقة غير مشروعة ، والمنبغي للإنسان أن يأتسي بالوارد ، وأن يدعو من قلبه ، ويقال له : ادع لنفسك، وادع لوالديك ، واستغفر للمسلمين ، ولو أنك طفت ولا تقول إلا رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين لخرج ببلايين ملايين الحسنات التي لا يحصيها إلا الله -- جل جلاله -- ، فلو استغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء والأموات وكان له بكل مسلم من الحسنات ما لا يعلمه إلا الله ، كم سيجد من هذه الكلمة الخفيفة على اللسان الثقيلة في الميزان ، فنسأل الله أن يهدينا سواء السبيل .
قال رحمه الله : [ ثم يصلي ركعتين خلف المقام ] : ثم يصلي بعد انتهائه من الشوط السابع ركعتين خلف المقام ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل لكل أسبوع ركعتين ، وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن لكل أسبوع من الطواف ركعتين ، وللعلماء وجهان :
هاتان الركعتان قيل تكون بعد طواف ولا تفصل بطواف آخر .
وذهب بعض السلف إلى التوسعة فيها فقال : لو طاف أسبوعا بعد أسبوع جاز له أن يؤخر ركعتي الطواف للأسبوع الأول ، فيصلي أربعا بعد الأسبوع الثاني .(4/425)
وهذا رخّص فيه بعض السلف كما أثر عن إبراهيم النخعي وغيره ؛ ولكن السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه بعد ما انتهى من طوافه وفرغ صلى ركعتين .
خلف المقام : فتلا الآية : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } فصلى عليه الصلاة والسلام فجعل المقام بينه وبين البيت ، وللعلماء في توجيه ذلك أقوال : قيل العبرة أن يجعل المقام بينه وبين البيت قريبا من البيت ، وقيل قريبا أو بعيدا ، وقيل المسجد كله مقام إبراهيم ، فإذا صلى الركعتين في أي موضع جاز، لكن ينبغي أن يفرّق بين الجواز وبين الأفضل ، فالأفضل أن يفعل ما فعل رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فيجعل المقام بينه وبين البيت ؛ تأسيا بالرسول -- صلى الله عليه وسلم -- ، ثم إذا لم يتيسر له ذلك المكان فإنه يتحرى في التأخر أن يكون المقام بينه وبين البيت حتى ولو كان قريبا من غير جهة المقام ؛ فإنه يختار جهة المقام ؛ لظاهر الآية ؛ ولظاهر فعله -عليه الصلاة والسلام- ، ولا يشترط فعلها في داخل المسجد حتى لو أنه خرج بعد الطواف بغرض أو ظرف ثم صلاها في فندقه أو نُزُله فإنه يجزيه ولذلك أثر عن عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- أنه طاف طواف الوداع بعد صلاة الصبح كما روى مالك في موطئه بسند صحيح وأخر ركعتي الطواف إلى ذي طوى ؛ لأنه كان لا يرى ركعتي الطواف بعد صلاة الصبح ، فأخرها إلى ذي طوى فدل على عدم تعيّن أن يصلي في نفس المسجد ولكن السنة ما ذكرناه ، فإذا صلى الركعتين يقرأ في الأولى منهما بـ{ قل يا أيها الكافرون }وفي الآخرة بـ{ قل هو الله أحد } وهما سورتا الإخلاص اللتان اشتملتا على توحيد الله -- عز وجل -- وأصليه الإخلاص العظيمين : النفي والإثبات ، البراءة من الشرك ، والإقرار بالتوحيد لله -- سبحانه وتعالى -- وبوحدانيته في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته -- سبحانه وتعالى -- . ثبت في الحديث عن جابر أنه صلى فيها عليه الصلاة والسلام ركعتي الطواف وقرأ فيهما(4/426)
بـ{قل يا أيها الكافرون } {وقل هو الله أحد}.
قال رحمه الله : [ ويعود إلى الركن فيستلمه ] : ويعود إلى الركن فيستلم الركن ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما صح عنه في الرواية أنه بعد ما صلى ركعتي الطواف رجع فاستلم الحجر، وفي بعض الروايات أنه شرب من زمزم ثم رجع واستلم الحجر فهذا سنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه ] : ثم يخرج إلى الصفا من باب الصفا وكان موجودا إلى عهد قريب وهو بحذاء الجبل فيخرج إلى الصفا ؛ لأن الصفا كانت خارج المسجد ، فإذا خرج إلى الصفا فالسنة أنه إذا جاء عند أصل الجبل يقرأ الآية { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم } ثم يقول : أبدأ بما بدأ الله به ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تلا الآية ثم قال : أبدأ بما بدأ الله به ثم رقى الصفا ، هذه السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، والصفا والمروة جبلان شرقي الكعبة ، الأيمن منهما إن أصبح البيت وراء الظهر هو الصفا ، والأيسر منهم بحذاء قعيقعان المروة ، والأول عند أبي قبيس .(4/427)
قال رحمه الله : [ ويكبر الله ]: فإذا رقى الصفا استقبل البيت كما في الحديث الصحيح عن جابر -- رضي الله عنه -- وعن عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما-، وجاءت الرواية بزيادة الاستقبال قال نظر إلى البيت فهناك فرق بين رواية : (( استقبل البيت )) ورواية (( نظر إلى البيت )) ومن هنا يتحرى النظر وهي السنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه ينظر إلى البيت إذا أمكن يكون في موضع من الصفا يتمكن فيه من رؤية البيت فيجمع بين الاستقبال والرؤية ، فإن غلب لزحام استقبل إذا لم يتيسر له الرؤية، فالسنة أن يرقى الصفا ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رقاها ، ثم يكبر ثلاث مرات : الله أكبر ، الله أكبر، الله أكبر، ويرفع يديه كما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رفع يديه على الصفا ثم إذا انتهى من التكبير ثلاثا ، قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، فهذا نوعان من التهليل، فيكبر ثلاثا ويهلل مرتين : التهليل الأول التام إلى قوله : وهو على كل شيء قدير، والتهليل الثاني: لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ثم يدعو ثم يرجع مرة ثانية ويقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثم يهلل مرتين ، ثم يدعو، ثم يرجع مرة ثالثة ويكبر ثلاثا ويهلل مرتين ويدعو، فأصبح مجموع التكبيرات تسعا ، ومجموع التهليلات ستا ، والدعاء ثلاث مرات هذه هي رواية جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- في الصحيح -صحيح مسلم وغيره- وهي في منسك جابر –- رضي الله عنه -- واختاره جمع من الأئمة -رحمهم الله- ، ومنهم من اختار أن يكبر سبع مرات ، وفيها رواية ابن عمر -رضي الله عنهما- وهي صحيحة كما في معجم الطبراني ، واختارها طائفة من العلماء -رحمهم الله- ويفهم من كلام الشيخ -رحمه الله- شيخ الإسلام في الشرح(4/428)
الميل إليها ، وقال إن قضية جابر في الصيغة لم تتفق الرواة عليها ، وكذلك أيضا إن السبع متفقة مع الفعل فيتفق القول مع الفعل ، وجمع بينها وبين رواية جابر من وجه آخر فقال لا يبعد أن يكون كبر ثلاثا ثم أعاد التكبير سبعا ثلاثا ثلاثا حتى بلغ السبع وهذا بترجيح رواية ابن عمر على رواية جابر، ولكن مذهب المحققين وطائفة من العلماء -رحمهم الله- أنه يقدم رواية جابر رضي الله عنهما لأن رواية جابر بن عبدالله تمحضت بإثبات النسك، وأما رواية ابن عمر فقد جاءت فيها زيادة الأدعية التي اختارها -- رضي الله عنه -- فلا يبعد أن يكون قد اختار التكبير سبعا .
وبعض العلماء يقول لا يمنع أن يكون خلاف تنوع، بمعنى أن جابراً سمع ذلك منه في حجة الوداع، وعبدالله بن عمر سمع منه ذلك في عُمَره، وهذا جمع حسن حتى أشار إليه شيخ الإسلام -رحمه الله- وهذا الجمع طيب وإذا كان على هذا الوجه فيرد السؤال : هل الأفضل ما في حديث جابر أو حديث ابن عمر ؟ لاشك أنه لو قيل بتفضيل حديث جابر : أولا : لأنه من رواية الصحيح فما في الصحيح مقدم على غيره ، وثانيا : أن حديث جابر متأخر؛ لأنه حفظ ما فعله في حجة الوداع، وثالثا : أن هذا كان خطابا للأمة كلها قصد فيه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- التبيين العام فيقدم على غيره.(4/429)
قال رحمه الله : [ ويكبر الله ويهلله ويدعوه ] : ويكبر الله ويهلله : يكبر الله : الله أكبر الله أكبر على الصفة التي ذكرناها ، ويهلله هناك تهليل ثانٍ في رواية ابن عمر يختلف عن تهليل جابر، فتهليل ابن عمر: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فاتفق مع جابر في التهليل الأول، واختلف معه في التهليل الثاني ؛ لأنه قال : لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولوكره الكافرون ، وأما تهليل جابر لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، وفيه مناسبة ؛ لأنه بالأمس يقف على الصفا فيأمرهم بتوحيد الله ويقول لهم قولوا : لا إله إلا الله ، فانطلق الملأ منهم يكذبونه ويمترون في أمره ويقولون : ساحر كذاب {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق} فكذبوه -عليه الصلاة والسلام- وقال له عمه -وهو من أقرب الناس إليه- : تبا لك ألهذا جمعتنا؟! ويأبى الله إلا أن يَصْدُقَه وعده وأن ينصر عبده وأن ينجز له ذلك الوعد فيدخل عليه الصلاة والسلام ومعه مائة ألف من أصحابه كلهم يفدّيه بنفسه وروحه ، وكلهم يقول: ماذا يقول رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، وماذا يفعل ، ويركب الناس بعضهم بعضا ليروا رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في هديه وسمته ودله وقيامه في عبادة ربه -صلوات الله وسلامه عليه- ، وهذا كله يدل على أن من قام لله مقاما أذل فيه فإن الله سيعزه عاجلا أو آجلا أو فيهما ، والله يحكم ولا معقب لحكمه ، جعلنا الله وإياكم من أوليائه وأنصار دينه وشرعه .(4/430)
قال رحمه الله : [ ويدعوه ] : ويدعو الله -- عز وجل -- كما ذكرنا . الدعاء كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يدعو حتى إن سالما -رحمه الله- قال : كان يملنا ونحن شباب ، وهذا هو حال السلف وحال من عرف أنه بين يدي الله -- جل جلاله -- وليس كحال الله المستعان الضعفاء والبؤساء الذين بمجرد أن يدخل الواحد منهم في العمرة كأنه -والعياذ بالله- في السجن ، يريد أن يخرج منها ويريد أن يتخلص منها ، فتجده بمجرد أن يرقى الصفا يهرول نازلا ولا يستشعر أنه بين يدي الله ووافد على الله ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( الغازي والحاج والمعتمر وفد الله سألوه فأعطاهم ودعوه فأجابهم )) ، فانظر كيف المكانة للحاج والمعتمر، وجعلهم مع الغازي في سبيل الله -- عز وجل -- وهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يدعو ، وعلى الصفا من مظان الإجابة كما ذكر العلماء -رحمهم الله- وهي من المواضع المؤكد والمستحب الدعاء فيها : الطواف ، وعند الرقي على الصفا ، وبين الصفا والمروة كما أثر عن ابن عمر -رضي الله عنهما- ، وكذلك أيضا في الوقوف بعرفة ، وفي المشعر، وبعد رمي الجمرة الصغرى ، والوسطى، كلها مواضع يتحراها المسلم ويحرص فيها على أن يسأل ربه حاجته وخير دينه ودنياه وآخرته ، فيكثر من الدعاء والإلحاح على الله -- عز وجل -- وسؤاله .(4/431)
قال بعض العلماء : إن الصفا والمروة كما نص ابن عباس -رضي الله عنهما- جعلها الله سنة بفعل هاجر، فهاجر سعت بين الصفا والمروة سبعة أشواط ، وهاجر سعت سعي المكروب المنكوب المفجوع المفزوع ، فهي ترى ولدها بين الحياة والموت ، وسألت ربها أن يفرّج كربها فجاءت تسعى تأخذ بالسبب ، فسعت في هذا الموضع السبعة الأشواط ولكنها كانت مؤمنة بالله موقنة بالله كيف وهي وديعة عند الله -- عز وجل -- ، استودعها الخليل ربه فكيف يضيع الله وديعته حاشا وكلا لأن الله لا تضيع ودائعه ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه )) فالله -- عز وجل -- لا تضيع ودائعه - سبحانه وتعالى - ، فلما سعت هذه السبعة الأشواط أبى الله أن يجعل تفريج كربها إلا من تحت قدم ابنها ، ولا يأتي أحد يصب لها الماء يتمنن عليها ، فانظر رحمك الله ، فياليت كل مكروب ومنكوب يستشعر هذا ، وكيف أن الله فرج كربة هذه المرأة ، ثم انظر كيف أنها امرأة والمرأة أضعف من الرجل وهي من الضعفة ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إني أحرج حق الضعيفين كما في صحيح البخاري المرأة واليتيم )) فهي من الضعفاء ، جاء المثال في ضعيفة ومكروبة ومنكوبة لكي يعلم أن من دعا الله بصدق في هذه المواضع أن الله لا يخيبه ، فجعل الله -- عز وجل -- تفريج كربها من تحت قدم ولدها ، وجعلها زمزم الماء الذي لا ينضب والمعين الصافي الذي لا تكدره الدلاء من عظمة الله -- عز وجل -- وهذا كله يدل على أن من سأل الله بصدق وصدق مع الله في هذه المواطن أنه لا يخيبه في رجائه ، جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل .(4/432)
قال رحمه الله : [ ثم ينزل فيمشي إلى العلم ] : ثم ينزل من الصفا ويمشي قاصدا إلى المروة ، ويمشي حتى يصل إلى العلم وهو بداية الوادي بين الجبلين ، فإذا وصل إلى الوادي وانصبت قدماه في الوادي فإنه يسعى شديدا ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سعى شديدا حتى دار إزاره على ركبته -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وهو يقول : (( أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)) فيسعى شديدا ، وهذه هي السنة ، وأثر عن عبدالله بن مسعود -- رضي الله عنه -- أنه لما خب وسعى بين العلمين كان يقول : رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم ، إنك أنت الأعز الأكرم ، واستحبه بعض العلماء ؛ لأنه مأثور عن هذا الصحابي من أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ورضي الله عنهم أجمعين .
قال رحمه الله : [ ثم يسعى إلى العلم الآخر ] : ثم يسعى إلى العلم الآخر يسعى بشدة ، والسعي هنا أشد من السعي في الرمل في الطواف .
ثانيا أن هذا السعي للرجال دون النساء ، وكذلك الرمل في الطواف بالبيت للرجال دون النساء، قال ابن عمر رضي الله عنهما : ليس على النساء رمل ، فدل على أن المرأة لا تهرول ؛ لأنها إذا هرولت انكشفت ، فهذا يدل على تعاطي الأسباب بالستر، فالمرأة لا تهرول في سعيها بين الصفا والمروة ، هذا الموضع مأمور بالسعي ، وهذا معنى قوله : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } يعني بينهما فالباء للظرفية ، وهذا أحد معاني الباء المشهورة:
تعدل لصوقاً واستعن بتسبب وبدل صحابا قابلوك بالاستعلا
وزاد بعضهم ظرفا : فهي للظرفية أن يطوف بهما يعني بينهما أي بين الصفا والمروة ، وهذا الموضع واجب تحصيله ، ولذلك لو انحرف عنه ولم يحصله لم يصح السعي ولم يعتد بذلك الشوط .(4/433)
قال رحمه الله : [ ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل كفعله على الصفا ] : فإذا رقى المروة فعل عليها كما فعل على الصفا ، يستقبل البيت والآن يتعذر رؤية البيت ؛ لأنه لا يمكنه رؤية البيت فيقتصر على الاستقبال ، ثم يرفع يديه ويكبر ثلاثا ويهلل مرتين ويدعو على الصفة التي ذكرناها يفعل على الصفا مثل ما فعل على المروة ؛ لأن جابرا -- رضي الله عنه -- قال ثم فعل على المروة مثل ما فعل على الصفا .
قال رحمه الله : [ ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ] : ثم ينزل ويمشي في موضع مشيه على هذا بيّن المصنف -رحمه الله- أمورا :
أولا : أن الابتداء يكون بالصفا ، وهذا هو فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وقول جماهير العلماء والأئمة وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى جواز أن يبدأ بالمروة كما هو قول ابن خيران والصيرفي وابن بنت الشافعي .
والصحيح ما ذهب إليه الجماهير أنه لو ابتدأ بالمروة أو مشى إلى الصفا سقط ذلك الشوط ولم يعتد به ، وأن عليه أن يبدأ بالصفا ، وأن ينتهي بالمروة ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعل ذلك وقال : (( خذوا عني مناسككم )) ، وأكد هذا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما تلا الآية قال : : (( أبدأ بما بدأ الله به )) فجعلها عبادة متبعا فيها التقديم الوارد في الكتاب ، وهناك رواية في النسائي : (( ابدأوا )) وتكلم بعض العلماء على سندها فإن صحت فلا إشكال بوجوب البداءة بالصفا دون المروة .(4/434)
قال رحمه الله : [ ويسعى في موضع سعيه ] : العبرة بما بين الصفا والمروة ، وعلى هذا فالرقي إلى أعلى المروة والرقي إلى أعلى الصفا ليس بلازم ، فلو اشتد الزحام أو كان مع الإنسان حطمة أو كبار السن أو مريض أو من يجهده الصعود إلى أعلى الجبل فإنه على آخر الصفا ، وآخر الصفا هو منتهى مجرى العربيات الموجودة الآن ، وتحرى العلماء والمشايخ -رحمهم الله- وضع هذا أن يكون عند آخر الحد ، ولذلك كان في الفتوى أنهم يراعون في آخر الحد حتى إذا جاء بل لا يمكن الرقي بالعربية إلى آخر إلى الموضع المعروف من الجبل فهذا الحد هو القدر الذي يبدأ عنده الصفا فلو رقى على طرف الصفا وعلى طرف المروة فقد حصل المكان المأمور بتحصيله .
ثانيا : الأصل أن يكون على قدميه السعي ، فإن احتاج لمرض أو كبر أو ضعف أن يركب العربية ونحوها فإنه يصح سعيه بذلك ، يراعي السعي بين الصفا والمروة على ظاهر النص ، ورخص بعض العلماء في السعي في الدور الثاني ، ومنع منه بعض العلماء وهي مسألة متأخرة نازلة اختلف فيها العلماء -رحمهم الله- فكان بعض العلماء يرى ولا يزال بعضهم من الأحياء -حفظهم الله- يرون أنه يسعى في الدور الثاني وبنوا ذلك على أدلة منها أن الأصل الشرعي يقتضي أن الأعلى يأخذ حكم الأسفل ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من ظلم قِيْدَ شبر من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أراضين )) فجعل الأسفل كالأعلى والأعلى كالأسفل ، وسمعت في الفتوى في إبان حياة سماحة الشيخ عبدالعزيز -رحمه الله- أن العلة أن من ملك أرضا ملك سماءها ، وهذا أصل متفق عليه بين العلماء ، فهو مبني على هذا المعنى في الحديث الذي ذكرناه.(4/435)
ومنع منه بعض العلماء كالشيخ الأمين -رحمه الله- والوالد -رحمة الله على الجميع- ويرون أن البينية تقتضي ظرف المكان ، ففرقوا بين الطواف في الدور الثاني بالبيت وبين السعي بين الصفا والمروة ؛ لأن البينية مقصودة فقال : { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وعلى كل حال من تأول فتوى من يجيز لا ينكر عليه ، ومن أخذ بالاحتياط في دينه فلا ينكر عليه ، والمنبغي أن يحرص الإنسان قدر استطاعته أن يلتزم الوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ما أمكن ، وهذا من رحمة الله -- عز وجل -- لو أن الناس كلهم الآن يسعون في الدور الأول كيف يكون ؟! ولكن الله وسع على العباد ، والاجتهاد من نظر إلى أصول العلماء يرى له مبررات صحيحة ، ولذلك في الطواف في الدور الثاني لم يفرّق فيه بين الدور الثاني والثالث وجعل أعلى الأرض كأسفلها فلا فرق بين الطواف وبين السعي عند من يقول بالجواز .
قال رحمه الله : [ ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط ] : يشترط في صحة السعي أن يكون سبعة أشواط لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتد بالسبع ، ومذهب الجمهور أنها سبع كاملة. وذهب بعض الفقهاء إلى أن العبرة بأكثر السعي أربعة فأكثر وهذا أصل عند الحنفية أن أكثر الشيء يأخذ حكم الكل ، وعلى هذا فإنه يعتد بالأربع فلو فاتته الثلاث أو ترك الثلاث أمكنه الجبر.
ولكن الصحيح ما ذهب إليه الجماهير من أن العبرة بكل الطواف وبكل السعي ، وعلى هذا فإنه لابد وأن يستتم سبعة أشواط ذهابا وإيابا على التفصيل الذي ذكرناه يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة .
قال رحمه الله : [ يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية ] : لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك .(4/436)
قال رحمه الله : [ يفتتح بالصفا ويختم بالمروة ]: هذا هو المحفوظ عنه عليه الصلاة والسلام كما صرح بذلك جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- ، وهناك من العلماء من يقول لابد من الذهاب والإياب يعني الشوط الواحد ذهابا وإيابا - ولذلك قال بعض العلماء : رحم الله فلانا ما حج وما اعتمر أنه لم يحج ولم يعتمر . قال لو حج واعتمر ما قال بقوله . مثل ما يقولون : لو أكل علقة كان ما أفتى بالأربعة عشر شوطا ما هي سهلة-، ومن هنا الصحيح ما ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالسبعة الأشواط الذهاب شوط والإياب شوط ، وهذا هو الذي ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولا يزاد على ذلك .
قال رحمه الله : [ ثم يقصر من شعره إن كان معتمرا وقد حل ] : إذا انتهى من الطواف والسعي فقد تمت عمرته ، وحينئذ يتحلل من العمرة ، فإذا طاف وسعى فحينئذ قد تمت عمرته فيتحلل، فإن كان متمتعا قصّر، فإن كان في عمرة قصر ولم يحلق ، والأفضل لاشك أن الحلق أفضل ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( اللهم ارحم المحلقين - قالها ثلاثا- )) .وهذا يقتضي أن الحلق أفضل ، لكن استثنى العلماء -رحمهم الله- المتمتع لأنه إذا حلق لم يجد شيئا يحلقه في حجه فقالوا إنه يقصر.
والوجه الثاني وهو الأقوى قالوا إن الحج أكبر وأصغر، وإذا تعارضت فضيلتان : فضيلة في موضعين : أحدهما أفضل من الآخر ولا يمكن فعلها إلا في أحدهما قدم الأفضل على المفضول، والحج أفضل من العمرة ؛ ولذلك قال : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } فجعل الحج أكبر و أصغر، ومن هنا قالوا : أن يجعل الأفضلية الحلق للأكبر وهو الحج ولا يحلق إذا كان الوقت قصيرا .(4/437)
قال رحمه الله : [ ثم يقصر من شعره إن كان معتمرا وقد حل ] : ثم يقصر من شعره إن كان معتمرا ، والتقصير ينبغي أن يعم جميع الرأس كما أن الحلق يعم جميع الرأس ، وهو أصح أقوال العلماء -رحمهم الله- ، وقد نهى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن حلق بعض الشعر وترك بعضه ، وكذلك القص بأن يقص البعض ويترك البعض ، بل المنبغي أن يعم بالتقصير ويعم بالحلق ، وهذه هي السنة وينبغي المحافظة عليها ، فيعم شعره بالتقصير، فإذا قصر فقد حل .
قال رحمه الله : [ إلا المتمتع إن كان معه هدي والقارن والمفرد فإنه لا يحل ] : إلا المتمتع المراد بهذا تمتع القران الذي يسوق معه الهدي قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إني قلدت هديي ولبدت شعري فلا أحل حتى أنحر )) فدل على أنه بقى على إحرامه بعد انتهائه من طوافه وسعيه -صلوات الله وسلامه عليه- ؛ وعليه فإنه يبقى ولا يتحلل ، فكل من القارن والمفرد فإنه لا يتحلل في الحج ، بل يبقى على إحرامه حتى يكون يوم النحر فيتحلل .
قال رحمه الله : [ والمرأة كالرجل ] : والمرأة كالرجل فيما مضى من الطواف والسعي وصلاة ركعتي الطواف إلا الرمل كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي ] : قال ابن عمر رضي الله عنهما : ليس على النساء رمل ، فلا ترمل لا في الطواف ولا في السعي .
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب صفة الحج ] : صفة الشيء حليته ، وما يتميز به، وصفة الحج أي ما جاء عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الحج من الأقوال والأفعال ، فشبه هذا الأقوال والأفعال في المناسك ، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصفة الحج، وهذه الصفة تنقسم إلى قسمين : صفة كمال ، وصفة إجزاء .
فأما صفة الكمال فهي الجامعة للأركان والواجبات والشرائط والسنن والمستحبات.(4/438)
وأما صفة الإجزاء فإنها تختص بالأركان وإجزاء المثوبة والعقوبة وهي الواجبات ، ولا تشمل السنن والمستحبات .
والمصنف -رحمه الله- درج في العبادة على تقديم صفة الكمال على صفة الإجزاء ، ولذلك ذكر صفة الصلاة كاملة ، ثم ذكر باب أركان الصلاة وواجباته ، وهنا صفة الحج كاملة ، ثم قال باب أركان الحج وواجباته ، فسيذكر رحمه الله الصفة كاملة كما وردت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في هديه .
قال رحمه الله : [ وإذا كان يوم التروية فمن كان حلالا أحرم من مكة وخرج إلى عرفات ] : [وإذا كان يوم التروية] كان: تامة. [ وإذا كان يوم التروية] وقع وحصل خرج إلى منى : السنة لمن تمتع وتحلل في مكة أن يخرج من مكة محرما إلى منى ؛ وذلك هو فعل أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وشدد بعض العلماء كما أشار شيخ الإسلام -رحمه الله- وقال : الأصول تقويه في تأخيرهم للإحرام والنية إلى منى ؛ والسبب في ذلك أن فعل الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم أحرموا من منزلهم بالمحصب والأبطح وهو منزل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بحذاء خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر، وهذا يدل على أنهم يمضون إلى منى محرمين حتى يكون من العبادة ؛ وهذا أفضل إذ إنه أعجل في الوقت، وأكثر في العمل ، فهو أعظم أجرا وثوابا.
فبعض الناس اليوم بعضهم يأخذ إحرامه إذا كان متمتعا ولا يحرم إلا في منى ، والسنة أن يمضي إلى منى محرما إذا كان متمتعا ، وشدد كما ذكرنا بعض العلماء واختلفوا : هل عليه دم إذا أخر إلى منى أو لا ؟ فذهب بعض العلماء إلى التفريق بين تأخيره إلى منى وتأخيره إلى عرفات ، ووجه ذلك أنه إذا أخر إلى عرفات فقد جمع بين الحل والحرم وحينئذ عليه الدم ، ولكنه في منى داخل حدود الحرم ؛ لأن منى من الحرم ، ولكن ينبغي للمسلم أن لا يقع في هذه الإشكالات، والسنة واضحة في هذا ، فإن الصحابة -رضي الله عنهم- خرجوا إلى منى محرمين .(4/439)
قال رحمه الله : [ فمن كان حلالا أحرم من مكة وخرج إلى عرفات ] : فمن كان حلالا إذا كان يوم التروية ؛ سمي بذلك لأنهم كانوا يحملون الماء إلى عرفات من أجل الري -ري الحاج- ؛ لأن عرفات لم يكن فيها ماء فكانوا يحملون الماء لكثرة الناس في الحج ، فيحتاجون إلى تهيئة الماء قبل يوم عرفة ، فصار اليوم الثامن من ذي الحجة يوم التروية وسمي بهذا الاسم لهذا الفعل الموجود فيه ، والتروية من الري ، والمراد به ري الماء ، والسنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه خرج من منزله بخيف كنانة ، وكان قد ضرب خيمته وقبته -صلوات الله وسلامه عليه- في الخيف حيث تقاسموا على الكفر وخيف بني كنانة ، فخرج عليه الصلاة والسلام وخرج معه أصحابه، ثم إنه عليه الصلاة والسلام صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من صبيحة التاسع بمنى ، هذه هي السنة أن يمضي قبل صلاة الظهر وأن يكون محرما وأن يصلي الظهر بمنى ، ثم يبقى بمنى حتى يصلي العصر والمغرب والعشاء والفجر وهي خمسة فروض ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا على السنة ليس على اللزوم كما سيأتي .(4/440)
قال رحمه الله : [فمن كان حلالا أحرم من مكة وخرج إلى عرفات ] : هو كان من المنبغي أن يقول إذا كان يوم التروية خرج إلى منى أولاً؛ لأنها هي صفة الكمال أن يخرج إلى منى وأن يصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ولكن قد يضيق الوقت فاعتد بقدر الإجزاء وهو الذهاب إلى الركن الأعظم وهو عرفة ، ولكن السنة ما ذكرناه أنه يبيت بمنى ليلة التاسع ، ثم السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه لما أصبح خرج هو وأصحابه ومضى إلى عرفات ، وكان خروجه من طريق ضب ، فخرج من طريق ضب وهو الطريق من الأسفل من جهة جمرة العقبة ، ويجعل بذلك منى ومزدلفة عن يساره وينخرط في هذا الطريق الذي بجوار السقاية – سقاية الزبيدة - ويكون الأخشبان وطريق المأزمين عن يساره أيضا وهو الطريق الأسفل ، فخرج - صلى الله عليه وسلم - إلى عرفات من طريق الضب ، وكان معروفا بهذا الاسم ، وسلكه في ذهابه إلى عرفات ، وفي رجوعه دفع من طريق المأزمين ، وطريق المأزمين هو الذي فيه حدود الحرم ما بين المأزمين الأخشبين اللذين هما حد مزدلفة عند مصب الوادي في أعلى مزدلفة من جهة الحرم ، فسلك النبي -- صلى الله عليه وسلم -- طريقا للذهاب إلى عرفة وطريقا عند الخروج من عرفة –صلوات الله وسلامه عليه - .(4/441)
خرج عليه الصلاة والسلام بعد صلاة الصبح ، وضربت له قبته بنمرة – نَمِرة ونِمْرة ونَمْرة – موضع ما بين حدود الحرم والوادي – وادي عرنة- ، وهذا الموضع يقرب من نصف كيلو خمسائة متر، نزل به النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قبل الزوال وهذه هي السنة ، فدل على أن السنة أن لا يدخل عرفة إلا بعد زوال الشمس ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فضربت له القبة صلوات الله وسلامه عليه وكانت قريش تظن أنه لا يخرج من حدود الحرم وكان هذا من مختلقات قريش ، ويقولون : نحن الحمس ونحن أهل الحرم ، فكانوا لا يخرجون ؛ ولذا قال تعالى : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } وهذه يسميه العلماء من مسائل الجاهلية التي أحدثوها على دين الحنيفية واختلقوها ، هذه مختلقات العرب ، وقد نظم فيها بعض العلماء نظما ، ومنها : مسألة التعشير وهي نهيق الحمار وادّعو أنها من الحنيفية ، وكذبوا وفجروا ، وقد بيّن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه يجب الجمع بين الحل والحرم في نسك الحج ، فنزل عليه الصلاة والسلام قبل الزوال في هذا الموضع ، فلما زالت الشمس أمر بناقته – عليه الصلاة والسلام- القصواء فرحّلت وركبها عليه الصلاة والسلام واستبطن الوادي ثم خطب الناس من بطن وادي عرنة .(4/442)
قال رحمه الله : [ فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين ] فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ، فالسنة للإمام أن يخطب الناس ، وأن يذكرهم بالله –- عز وجل -- وأن يبين شرائع الإسلام ومقاصده العظيمة ، وأن يبين حدود الله ومحارمه ، فيرغب ويرهب ، ويذكر بالله –- عز وجل -- فتكون خطبته جامعة مؤثرة في الناس ، وهذا هو هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولذلك خطب عليه الصلاة والسلام خطبة حجة الوداع فكانت أجمع الخطب لشرائع الإسلام ومقاصده العظيمة ، وكل خطبه – عليه الصلاة والسلام – كذلك ، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه – وقد أمر بناقته فرحّلت ، ثم استبطن الوادي ، ثم خطب وفتح الله له مسامع الناس وهم في منازلهم -صلوات الله وسلامه عليه – وكان مما قال : (( أيها الناس ، اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) ، فاستخدم الأساليب المؤثرة في النفوس الداعية إلى الحفظ والوعي بالسنة والضبط للأحكام والشرائع وكان هديه -عليه الصلاة والسلام- في الحج من أكمل الهدي وأجمله وأعلاه وأسناه ، فمن تأمل أحواله عليه الصلاة والسلام في حجه منها حالة التعليم ومنهجه في التعليم في الحج ، وكيف كان عليه الصلاة والسلام يقرع القلوب ويقرع الأسماع ويدخل تلك القلوب فيؤثر فيها صلوات الله وسلامه عليه بما منحه الله وأعطاه من بليغ المقال وصدق المقام ، فكانت خطبته من أجمع ما تكون وأبلغ ما تكون ، وقد جمع الله له بين أمرين عظيمين ما حصلهما خطيب إلا نفع الله بخطبته ، ولا واعظ إلا نفع الله بوعظه ، ولا متكلم إلا نفع الله بكلامه : أول الأمرين : أنه ما كان لا يقول إلا صدقا وحقا ، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين- فكان كلامه على الحق ، فلا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، فقال فصدق وبر -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- ، أما الأمر الثاني : فكان يتخيّر الكلمات الطيبات الطاهرات(4/443)
المباركات الجامعات ؛ استجابة لأمر الله –- عز وجل -- حيث قال له : { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } فكان قوله بليغا ، سريع التأثير في النفوس ، فبمجرد أن ابتدأ خطبته وقال هذه الكلمة شنّف الأسماع وارتفعت الأبصار إليه -عليه الصلاة والسلام- وخشعت القلوب وأصغت إلى نبي الأمة وهاديها ومعلمها .
وقف عليه الصلاة والسلام على ناقته شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فقال في خطبته الكلمات العظيمة المؤثرة ، فذكّر الناس بالله وبتوحيده وبأصل دينه وشرعه ، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ، وأقام لهم معالم الحنيفية ، وهدم معالم الشرك والوثنية، وأخذ الناس من عبودية الناس إلى العبودية لرب الجنة والناس ، سبحانه وتعالى ، ودعاهم إلى التوحيد ونبذ عبادة غير الله –- عز وجل -- ثم بعد ذلك بين لهم شرائع الإسلام ، فأحلّ الحلال وحرم الحرام ، وبين كمال الدين وتمامه ، وبيّن أعظم الحرمات وأجلها وأخطرها على العبد: (( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض )) . فذكرهم أيضا صلوات الله وسلامه بحرمة الدماء وحرمة الأموال وحرمة الأعراض ، فكل مسلم في كل ساعة ، وفي كل دقيقة ، وفي كل لحظة مطالب أن يتذكر في معاملته مع إخوانه أن يتذكر هذا الموقف العظيم من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حينما يقف موقفا واحدا لم يقف قبله ولا بعده مثله أبدا ، هو الموقف الوحيد ، فما ظنك لو وقف هذا الموقف واختار شيئا ينبه عليه أليس هذا الشيء من أعظم الأشياء وأهم الأشياء ؟(4/444)
الجواب : بلى . ولذلك اختار ماذا ؟ اختار حرمة المسلم أي يوم هذا اليوم أي شهر هذا الشهر ثم قال : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت ؟ قالوا : بلى . قال : اللهم فاشهد )) . فكان يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها عليهم . لكي لا يبقى لمسلم عذر أمام الله –- عز وجل -- إذا اغتاب مسلما أو سبه أو شتمه أو اتهمه أو استباح منه عرضاً فقذفه -والعياذ بالله- ، ولا يبقى له عذر أمام الله إذا استباح دما محرما بدون بيينة ولا برهان ، ولا يبقى له عذر أمام الله إذا أخذه وعمل عنده وكدح عنده الشهور ثم قال له : ليس لك عندي من شيء ، أو أعطاه مالا دينا ثم قال له: لم آخذ منك شيئا ، فإن هذه الدماء والأموال والأعراض كلها حقوق بيّن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عظمها وخطرها ، وقرن الدماء وقرن الأعراض والأموال بالدماء . فهذه حرم عظيمة بيّنها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بين حقوق الزوج مع زوجته ، واختار المقاطع المؤثرة والكلمات الجميلة ، وكل كلامه عليه الصلاة والسلام جميل حري بطالب العلم وحري بالمسلم أن يقرأ هذه الخطبة ، وأن يتأملها ، وأن ينظر ما فيها ، وأن يجمع بين العلم والعمل والتطبيق والدعوة ، فينبه الناس على ما نبه عليه الصلاة والسلام ، ولشرف هذا لمكان ، وشرف الزمان ، وشرف المقام الذي قامه -عليه الصلاة والسلام- فقال هذه الخطبة المؤثرة نزلت عليه آية لو نزلت على اليهود لاتخذوا يومها عيدا كما في الصحيح عن عمر حينما سئل عنها فقال : ألا إني أعلم متى نزلت . نزلت على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يوم عرفة { اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فالسنة أن يصلى الظهر والعصر مع الإمام ، يتحرى هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في صلاة الظهر والعصر مع الإمام هذا أفضل وأكمل ، فإن تأخر ولم يدرك الجماعة فإنه يصلي الظهر والعصر(4/445)
مع ركبه وجماعته ؛ لأن الجمع هنا من أجل أن يتفرغ للدعاء وهو جمع نسك ، ولذلك يشرع للمكي كما يشرع لغير المكي .
قال رحمه الله : [ يجمع بينهما بأذان وإقامتين ] : يجمع بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين كما صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ ثم يروح إلى الموقف ] : ثم يروح إلى الموقف : الرواح يكون في آخر النهار ، فالسنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه خطب الناس ، ونزل وصلى الظهر والعصر بالناس ثم مضى إلى الموقف ، وتفرغ عليه الصلاة والسلام من بعد الصلاة إلى مغيب الشمس للدعاء وسؤال الله –- عز وجل -- من رحمته ، فشرع للأمة أن يحرصوا على هذا الوقت المبارك ، وهو وقت ليس في العام كله مثله ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة )) وما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه الناس من النار من يوم عرفة ، فهو اليوم العظيم الذي ينبغي للمسلم أن يستشعر فضل الله –- عز وجل -- عليه إذ اختاره وافدا عليه ، وحمله في البر والبحر، ورزقه من الطيبات حتى وقف هذا الموقف، وكم من أناس وأمم كانت تتمنى بلوغ عرفة ، فمنهم من مات ، ومنهم من التقمته البحار والقفار، فإذا دخل عرفات أحس بنعمة الله -- عز وجل -- ثم أحس بفضل الله -- عز وجل -- أن بلغه هذا المكان ؛ ولذلك كان السلف الصالح -رحمهم الله- يستشعرون الرحمة من الله بتوفيقه لهم بالوصول إلى هذا المكان . يقول عبدالله بن المبارك -رحمه الله-: (( دخلت على سفيان الثوري يوم عرفة فوجدته مبتهلا يبكي وقد بلّل ثوبه بالدموع . فقلت له : من هو المحروم اليوم ؟ قال : من ظن أن الله لا يغفر لهؤلاء )) . أشقى الناس من ظن أن الله لا يغفر لهؤلاء . فمن الذي جاء بهم من هذه المسافات البعيدة ، ومن هذه الأماكن البعيدة ، ويسّر لهم وحملهم ورزقهم من الطيبات هو–- سبحانه وتعالى - - فهو أهّلهم لهذه النعمة العظيمة والمنة الكريمة فهو يوم(4/446)
العتق من النار ويوم المغفرة .
فالتشاغل بالأكل والتشاغل بالنوم والتشاغل بالأحاديث والقصص والنكت وغير ذلك كل يخالف مقصود الشرع من هذا اليوم ، فهذا اليوم يوم عبادة ، وأدركنا من العلماء والأجلاء من كان على هذه الوتيرة كما ذكر عبدالله بن المبارك عن هذا الإمام من أئمة السلف أنه دخل عليه مبتهلا قد بلل ثوبه بالدموع ، ولقد ر أينا من مشايخنا وعلمائنا ما نتعجب إذا رأينا أحوال الناس عليه اليوم وأدركنا من العلماء والفضلاء من إذا صلى الظهر والعصر تغيّرت حاله ، وأقبل على ربه متذللا متبذّلا على وجهه الخوف ، ويرى على وجهه السكينة والخشوع والتذلل لله ، وشدة الابتهال والدعاء فلا يعرف الناس ولا الناس تعرفه ، مقبل على ربه بصدق ، فهي ساعات الإنابة وساعات الاستجابة ، إذا صدق العبد مع ربه ، وأصابته رحمة الله –- عز وجل -- فهو سعيد، فما يفعله بعض الناس من التساهل و التشاغل ، فشيء عجيب أن الرجل تجده يأتي إلى عرفات حتى إذا جاء وقت الدعاء وجدته يبحث عن سيارته ، ويبحث عن ماذا يفعل في رحله ومأكله ومشربه ورفقته ، وهذا كله من الغفلة ، فعلى الإنسان أن يحرص على كسب هذا الوقت ، وعلى بلوغ أفضل المنازل فيه . جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل . فيجتهد بالدعاء والتضرع لله –- سبحانه وتعالى - - .(4/447)
قال رحمه الله : [ وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( وقفت ههنا وعرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة )) . فعرنة الوادي ليس من عرفات ، ومقدم المسجد الموجود الآن ليس من عرفة ؛ لأنها في بطن عرنة ، ولاشك أنه من التوفيق جعل هذه المقدمة من المسجد لأجل أن يكون المنبر في بطن الوادي ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ومن أحسن ما يكون قفل الأبواب التي تسامت الوادي حتى إذا وقف أحد في داخل هذا الموضع فإنه إذا خرج من بعد المغرب يخرج وقد ألمّ بطرف عرفات ، فمقدمة المسجد ينبغي التأخر عنها بعد الانتهاء من الصلاة ينصرف إلى مؤخرة المسجد حتى يدخل في عرفة ويدعو .
قال رحمه الله : [ ويستحب أن يقف في موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قريبا منه على الجبل قريبا من الصخرات ] : إن تيسر له ذلك . والجبل جبل إلال ، الرقي على الجبل والصعود على الجبل ليس له أصل ، وهذا الجبل لم يرد فيه سنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا قولا ولا فعلا لا بفضله ولا بشرف الرقي عليه ولا فضل الجلوس عليه ، وما يفعله العوام من قصد هذا الجبل والطلوع عليه وأخذ الصور والتذكار، كل هذا بدعة وحدث وبخاصة إن فيه نوعاً من المباهاة، وفيه نوع من التعظيم واعتقاد تعظيم الموضع ولا يجوز تعظيم مكان واعتقاد فضل مكان إلا إذا دل الشرع على ذلك الفضل، وانعقدت النصوص على تلك الدلالة ، فينبغي تنبيه الناس في ذلك . هذا الجبل ليس له مزية وليس له فضل ، ولكن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- استقبل القبلة عند الصخرات أسفل الجبل وجعل حبل المشاة بين يديه صلوات الله وسلامه عليه. ودعا حتى غاب عليه الشمس .(4/448)
قال رحمه الله : [ ويجعل حبل المشاة بين يديه ] : يجعل حبل المشاة بين يديه والحبل إذا مشى الناس في البرية أو في الوادي أو في المقطع من الطريق وأخذوا طريقا واحدا يصبح بينا مثل الحبل ، فترى بياضه من بين الطريق ، فيقال حبل المشاة يعني الطريق الذي يسلكونه قال رحمه الله :[ ويستقبل القبلة ويكون راكبا ] : هذه السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استقبل القبلة ، ويكون راكبا على دابته إن تيسر له ، وإن لم يتيسر فهل يقف أو يجلس ؟ هذا راجع إلى مسألة من جلس على الدابة هل هو جالس أو قائم ؟ فقال بعض العلماء : إنه يقف أبلغ في التضرع، وبعضهم يقول بالجلوس ، والجلوس فيه وجه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دابته وهذا نوع جلوس ، ومن هنا إذا وقف له وجه وإذا جلس له وجه .
قال رحمه الله : [ ويكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير ] : يكثر من التهليل بالتوحيد : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( خير الدعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبي من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)) وهذه المسألة راجعة هل الأفضل الدعاء أو التمجيد ؟ فمن أهل العلم من قال : إنه لو اقتصر على التمجيد لكان أفضل ، فلو أنه اجتهد في كثرة التهليل لله –عع- والتكبير والتعظيم يكون أبلغ واحتجوا له بقول : (( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين)) وأفضل الذكر قول : لا إله إلا الله . وهذا له وجه صحيح من الأصل .
ومن العلماء من قال إن الدعاء أفضل ؛ لأن المقصود دعاء عرفة ، ومنهم من قال باستحباب الجمع بين التمجيد والدعاء ، فيدعو ويجعل في أضعاف الدعاء التهليل والتمجيد لله –- عز وجل -- .(4/449)
قال رحمه الله : [ ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله –- عز وجل -- إلى غروب الشمس ] : هذا الاجتهاد أصدقه وأكمله وأفضله أن يكون بخلوص لله –- عز وجل -- ، فيقف بلا رياء ولا سمعة ، فيتخير المكان الذي ينزوي فيه عن الناس ، ويبتعد فيه عن رؤية أحبابه وأصحابه وأصدقائه إن تيسر له ذلك حتى يكون أقرب للإخلاص ؛ لأنه ربما خشع ودمع وبكى وخضع لله –- عز وجل -- ، ومن هنا جاء في الحديث الذي صححه غير واحد أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)) .
فالإنسان إذا جاء يجتهد في الدعاء يتحرى المكان المناسب للإخلاص والحال الأفضل والأكمل ، فأكمل الناس حالا في دعائه وتضرعه من سأل الله من قلبه موقنا بربه متأدبا في سؤاله ، واختار جوامع الدعاء ، عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- متأسيا بالسنة ، وخشع وخضع لله ، وسأل الله بقلب يعي ويعقل ما يقوله ، وأخذ بالسنة في الدعاء ، فهذا - إن شاء الله - من أرجى الناس للإجابة من الله –- سبحانه وتعالى --.(4/450)
قال رحمه الله : [ ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة عن طريق المأزمين وعليه السكينة والوقار ] فإذا غابت الشمس هذا أول شيء ، وذهبت الصفرة التي تلي المغيب ثاني شيء ، أي أنه لا يعجل بالخروج بمجرد المغيب ، ولذلك قال جابر -- رضي الله عنه -- : (( وانتظر حتى ذهبت الصفرة )) ، وهي تكون بعد المغيب ، فالسنة أن يدفع ، ويكون الدفع بعد دفع الإمام، وانتظار المغيب لمن وقف قبل غروب الشمس واجب ، فلو أنه دفع قبل غروب الشمس ولو بلحظة لزمه أن يرجع ، فإذا لم يرجع إلى أن طلع الفجر فعليه دم ؛ لأنه يجب على من وقف بعد الزوال وقبل المغيب أن يحصل جزءا من الليل في وقوفه ، وهذا لا يعارضه عموم قوله -- صلى الله عليه وسلم -- : (( ووقف بعرفات أي ساعة من ليل أو نهار )) فهذا العموم خصصه الفعل من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حيث بيّن وقوف النهار، وأنه لا يصح قبل الزوال، وأنه يكون إلى مغيب الشمس، ووقع فعله بيانا لواجب فكان واجبا ، وعلى هذا يدفع بعد غروب الشمس ، فالسنة أن يدفع وعليه السكينة والوقار ، يدفع مع الإمام مع جماعة المسلمين؛ لأن للحج إماما ، فينتظر حتى يدفع الإمام فيدفع بدفعه ، ولازالت هذه السنة باقية إلى اليوم والحمد لله ، فإمام الحج أمير الحج هو إمام للحجاج وأميرهم ، فيدفع بدفعه ، وهذا فعل السلف الصالح -رحمهم الله- ومن بعدهم ، فيجعل دفعه بعد دفع الإمام وينتظر حتى يدفع ، ثم يأخذ بالسكينة ، فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يأمر الناس بالسكينة في دفعه من عرفات إلى مزدلفة ، فكان الناس يسرعون ، ويضعون في سيرهم في الإبل ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يسير العَنَق كما في حديث الصحيحين : (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسير العَنَق – وهو ضرب من السير- فإذا وجد فجوة نصَّ )) – والنص فوق العَنَق – ضرب فوق العَنَق فكان آخذ بزمام ناقته القصواء قد شَنَقها ، أي أنه لا يريد أن يرسل لها حتى لا يسرع في السير(4/451)
.
قال رحمه الله : [ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة عن طريق المأزمين وعليه السكينة والوقار ويكون ملبيا ذاكرا ] ويدفع إلى مزدلفة عن طريق المأزمين ، والمأزم هو الجبل ، والمأزمان الأخشبان اللذان يكتنفان حدود الحرم ، قِبَالة المسجد- مسجد نَمِرة- هذا الطريق سلكه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في دفعه من عرفات إلى مزدلفة إفاضته -عليه الصلاة والسلام- وهو سنة أن يسلك هذا الطريق على خلاف بين العلماء –رحمهم الله – هل هو مقصود أو غير مقصود ؟
والأقوى أنه إذا فعل تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه يؤجر ويكون من السنة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خالف بين الطريقين مع أن كِلا الطريقين يمر بمزدلفة ، أحدها يمر بحذائها وهو طريق ضَبّ عند ذهابه ، والثاني يفيض إليها عند المشعر عند رأس جبل قُزَح في نهاية مصب الوادي من بين الأخشبين . فكون عليه الصلاة والسلام يتحراها هذا لاشك أنه لمعنى ، ومن هنا إذا أفاض من مأزمين يكون متأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو أفضل
قال رحمه الله : [ وعليه السكينة والوقار ] : وعليه السكينة : من السكن ، والوقار : من وقر الشيء إذا ثبت ، فيكون ثابتا بعيدا عن كثرة الحركة ، وهيشات الناس ، وفعل العوام ، وهذا لكي يتجانس مع العبادة ، وأفعال العبادات والذهاب إلى العبادة والمضي للعبادة ينبغي أن يكون متناسبا مع العبادة ؛ ولذلك أُمر الخارج إلى المسجد أن يأتي الصلاة بسكينة ووقار ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وعليكم السكينة )) .
فالشاهد من هذا أن عليه السكينة والوقار ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(4/452)
قال رحمه الله : [ ويكون ملبيا ذاكرا لله - عز وجل - ] : ويكون ملبيا ذاكرا لله –- عز وجل -- التلبية في الطريق عند بعض العلماء كما أشار شيخ الإسلام وغيره –رحمة الله عليهم- أن التلبية تكون فيما بين العبادات، لا في أصل المواقف ، ولذلك منع بعض العلماء من التلبية على الصفا ، ومنع بعضهم من التلبية في أثناء الدعاء في مزدلفة ، قالوا : لأنها هي المقصود ، والتلبية تكون في أجزاء الطرق ، ولذلك قال أنس -- رضي الله عنه -- : (( غدونا مع رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- إلى عرفات فمنا الملبي ومنا المهلل ومنا المكبر )) .
وكذلك أيضا قال الفضل بن عباس : (( كنت رديف النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يوم النحر فلم يزل يلبي حتى بلغ جمرة العقبة )) .
فالشاهد من هذا أنهم يرون أنها في الطرق وأجزاء المناسك أنها آكد استحبابا يعني ينبغي عليه أن يحرص على التلبية ، فيلبي في ليلة النحر على أصح قولي العلماء –رحمهم الله – أن التلبية لا تنقطع يوم عرفة .
وذهب بعض السلف إلى أن التلبية يقطعها يوم عرفة .
والصحيح أن التلبية تقطع وتنتهي عند رمي جمرة العقبة ؛ لقول الفضل -- رضي الله عنه -- : (( كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة )) ؛ ولأن عبدالله بن مسعود في ليلة النحر ليلة العيد لبى فنظر إليه الناس ، فقال : سمعت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يقول : هه لبيك نا اللهم لبيك .
فأثبت أن التلبية باقية بعد عرفة ؛ خلافا لمن قال إنها تنقطع يوم عرفة .
والذين قالوا تنقطع يوم عرفة ردوها إلى المعنى أن التلبية إجابة بعد إجابة ؛ ومن بلغ المكان الذي دعي إليه فلا يشرع أن يقول لبيك .
فرأوا أن الحج عرفة ، وعرفة هي الغاية والمقصود ، وهذا النظر يعارض الأثر المرفوع ، ولا اجتهاد مع النص، النص واضح أنه يشرع أن يلبي في دفعه من إفاضته ، وفي دفعه من مزدلفة إلى منى .(4/453)
قال رحمه الله : [ فإذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما] : السنة أن لا يصلي المغرب بعرفة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال لأسامة بن زيد -- رضي الله عنه -- لما قال للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- -وكان رديفه من عرفات إلى مزدلفة- : الصلاة . قال له : (( الصلاة أمامك )) . وهذا يدل على أن السنة أن يؤخر الصلاة إلى أن يصل إلى مزدلفة .
وقال بعض العلماء حتى ولو وصلها بعد منتصف الليل ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( الصلاة أمامك)) فلا مكان لهذه الصلاة في تلك الليلة إلا بمزدلفة .(4/454)
قال رحمه الله : [ يجمع بينهما ] : يجمع بين المغرب والعشاء بأذان وإقامتين كما صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على الأصل في الجمع ، فإذا نزل إلى مزدلفة صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أفاض من عرفات إلى مزدلفة ، ثم لما وصل الشعب الذي دون مزدلفة دخله -عليه الصلاة والسلام- فقضى حاجته وتوضأ وضوءا سريعا - صلوات الله وسلامه عليه- ما ترك الصحابة شيئا حتى صفة الوضوء قالوا إنه خفيف منه عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع ، من دقتهم -رضي الله عنهم- وحرصهم على معرفة ما فعل عليه الصلاة والسلام ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مضى إلى مزدلفة فأمر بلالا فأذّن ثم أقام فصلى المغرب ، ثم جلس بقدر ما قام كل رجل إلى رحله ثم أمره فأقام العشاء ولم يسبح بينهما وعلى إثرهما كما في الصحيحين من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- فلم يصل راتبة المغرب بين المغرب والعشاء لم يسبح بينهما . لم يسبح يعني لم يصل ، لا مثل بعضهم يقول لم يسبح يعني ما قال الأذكار بين المغرب والعشاء ، ثم يأتي باجتهاد عجيب ويقول : إذا جمع يقوم مباشرة حتى قبل الأذكار ! وهذا في الحقيقة ينبغي أن ينتبه لها ، كثير ممن يجمع ، بل حتى إن بعض الأئمة عليهم أن يعلموا الناس السنة ، فإن الجمع ينبغي أن يتريث فيه بين الأولى والثانية بقدر ما ينتهي من الأذكار .
فقوله : ولم يسبّح ليس معناه أنه لم يذكر ؛ لأن التسبيح المراد به الصلاة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، ولذلك قال : لم يسبح بينهما وعلى إثرهما – صلوات الله وسلامه عليه- .(4/455)
فلما جمع صلوات الله وسلامه عليه في مزدلفة كما ذكر جابر ترك قدرا بقدر ما يحط الرحل ثم أمره فأقام ، فصلى عليه الصلاة والسلام بالناس العشاء ، هذه هي السنة حتى ينتهي من الأذكار ، فإذا انتهى من الأذكار أقام الصلاة الثانية ثم صلى ، فلما صلى عليه الصلاة والسلام كان جمعه جمع تأخير ؛ لأن المسافة بين مزدلفة وبين عرفات لا يصل فيها في وقت المغرب غالباً وبخاصة إنه نزل وقضى حاجته – عليه الصلاة والسلام- ؛ ولذلك نص طائفة من العلماء على أن هذا الجمع وقع من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جمع تأخير وليس جمع تقديم .
قال رحمه الله : [ ثم يبيت بها ] ثم يبيت بمزدلفة تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وسيأتي أن هذا المبيت واجب من واجبات الحج ، ويرخص للضعفة والعجزة وكبار السن ومن يفتقرون إليه كالسائقين والخدم ونحوهم ولو كانوا أقوياء أن يدفعوا بعد منتصف الليل ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أذن للضعفة من أهله . قال ابن عباس –رضي الله عنهما- : (( كنت في من قدّم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ))، فيقدم الضعفة من النساء والأطفال والشيوخ وكبار السن ونحوهم كالمريض ونحو ذلك يقدمون توسعة من الله - - عز وجل -- لعباده .
أما غيرهم فإنه يبيت ، وهذا هو أصح قولي العلماء وسيأتي - إن شاء الله - في واجبات الحج ، وهو أصح قولي العلماء ، ولكن للأسف الآن أصبح الذي يتقدم هم الأقوياء والذي يتأخرون هم الضعفة ؛ وإذا ذهب الضعفة وتعجلوا فلربما هلكوا ، وكل هذا بسبب مخالفة السنة ، والعبث ببعض النصوص الصحيحة الواضحة في الدلالة على لزوم المبيت ، ولو أنهم أخذوا بسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لكان في ذلك من الرحمة والرفق بالناس الخير الكثير ، ومرادنا بذلك الذين يذهبون ويتعجلون مع إمكان تأخرهم ، وتيسر التأخر لهم .(4/456)
قال رحمه الله : [ ثم يصلي الفجر بغلس ] : المبيت بمزدلفة من أفضل ما فيه وأكمل ما فيه وأعظم ما فيه الوقوف بالمشعر ، وهو وسيلة للوقوف بالمشعر، حتى إن بعض العلماء يرى أن الوقوف بالمشعر ركن ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من صلى صلاتنا هذه ووقف موقفنا هذه وكان قد أتى عرفات من أي ساعة من ليل أو نهار )) . وإن كان الصحيح أنه ليس بركن ، ولكن انظر كيف العلماء عظموا هذا الأمر في الوارد .
فالشاهد من هذا أن هذا الموقف موقف الدعاء يتركه الإنسان ، ويأخذ برخص الفقهاء ، ويتسامح في أمر حجه وعبادته ، ولربما جاء من مئات الكيلو المترات بل من آلاف الكيلو المترات وقد تحمل المشاق العظيمة وقد تحمل الأهوال والشدائد ، ولا يستطيع أن يصبر الساعة والسويعة حتى يحصل هذا المقام الشريف المنيف لكي يقف بين يدي الله في صبيحة ذلك اليوم المبارك يوم النحر لكي يسأل الله من فضله ، هذا لاشك أنه من الحرمان -نسأل الله السلامة والعافية- .
هذا موقف عظيم ، المشعر موقف عظيم ، وأدركنا العلماء والأجلاء يبكون ويتضرعون ويخشعون لله –- عز وجل -- ، وأثر عن بعض أهل العلم أنه قال : وقفت في هذا الموقف ستين عاما أسأل الله أن لا يجعله آخر العهد ويكون كذلك - يعني أن الله يرده مرة ثانية - وإني لأستحي أن أسأله فرجع فمات من عامه ، حتى قال بعض العلماء : إنه من الأماكن التي يرجى فيها إجابة الدعاء ، ولذلك أمر الله - - عز وجل -- بذكره في المشعر الحرام ، ومزدلفة كلها مشعر ، وأفضل ما يكون الموقف عند المشعر عند جبل قُزَح الذي هو عند نهاية مزدلفة من جهة حدود الحرم من جهة عرفات ، الجبل الصغير ، ولا زال الآن قبلية المسجد هو الأفضل والأكمل أن يقف عنده بحذاء المسجد الأفضل والأكمل أن يقف عنده بغلس .(4/457)
السنة من الإمام أن يغلس فيصلي فجر يوم النحر بغلس ، فغلس عليه الصلاة والسلام وخالف المشركين ، فصلى الصلاة بغلس ثم وقف وتضرع وسأل الله –- عز وجل -- حتى أسفر ، ثم لما أسفر بادر عليه الصلاة والسلام بالركوب ، وكانت العرب والمشركون كانوا يقولون : أشرق ثبير كيما نغير، وكانوا لا يخرجون من مزدلفة إلا بعد طلوع الشمس ، ويمتنعون من الخروج منها ، فيقولون: أشرق ثبير . وثبير هو الجبل المطل على منى ومزدلفة ، فيقولون : أشرق ثبير كيما نغير حتى يؤخرون الدفع إلى حصول الإشراق ، فخالفهم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ودفع قبل طلوع الشمس .
قال رحمه الله : [ ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ويدعو ] : ويقف عند المشعر الحرام إن تيسر له ذلك ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وإن لم يتيسر له فمزدلفة كلها موقف ، فيقف في خيمته ، ويقف في أي موضع نزل في مزدلفة مادام أنه داخل الحدود ، ومزدلفة من طرف الأخشبين عند مصب الوادي عند جبل قُزَح إلى وادي محسر ، وداي محسر طرفه من جبل ذي مَراخ .
وادي محسّر بين جبلين الذي هو دقم الوبر وذي مراخ الذي يقال له المريخات هذا هو نهاية مزدلفة، ولا يعتبر الوادي من مزدلفة ، ومن بات بالوادي فليس بمزدلفة ، ويعتبر وادي محسر الذي حسره الله فيه الفيل عن مكة بين منى وبين مزدلفة فهو نهاية مزدلفة من جهة الوادي ضفة الوادي من جهة مزدلفة وهي الضفة الشرقية وضفة الوادي الغربية هي نهاية منى ، والوادي نفسه ليس من منى ولا من مزدلفة .(4/458)
ودقم الوبر هو الأيمن منهما عند الإفاضة ومعروف ، وكان مساكن الأشراف . ذكروا عن بعض العلماء رحمهم الله -نحن نُروِّح في بعض مجالس العلم- : جاءه بعض الأشراف فقال له : نريد منك أن تعقد لنا عقدا ، هذا قريب من بعض المشايخ -رحمة الله عليهم- فقال : طلبوني من بعد العشاء ثم أخذوه وخرجوا به بعد صلاة العشاء من المسجد الحرام ، قال : فمشينا أكثر من ساعة ، وأنا أقول لهم : أين المكان ؟ فيقولون : رمية حجر ، كلما قال ؛ قالوا : رمية حجر ، قال : فمشيت حتى قاربت منتصف الليل فسمعت صوت المدافع والبنادق ، فأصابني الرعب فإذا بي على الزواج ، فأكرموه وكانت ليلة يقول فيها :
فيا ليلةً ما أشد عناءها تلقينا الكرب فيها من رمية الحجر
إلى أن يقول :
رعى الله سكان البوادي بفضله لاسيما الأشراف في دقم الوبر
فدقم الوبر بحذاء مزدلفة معروف وهو نهاية الحد. فإذا وقف من أي موضع من مزدلفة صح موقفه.
قال رحمه الله : [ ويستحب أن يكون من دعائه : اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق : { فإذا أفضتم من عرفات فاذكرو الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ] : هذا الدعاء ليس فيه شيء مرفوع عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وذكره المصنف هكذا ، لكن الأصل عند أهل العلم –رحمهم الله – أنه لا يجوز تخصيص الدعاء المعين في المكان المعين أو الزمان المعين إلا بأصل شرعي ، ولذلك لا وجه لتخصيص أي نوع من الدعاء في أي موضع من المناسك إلا إذا صحت به الرواية عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- .
وهذا في الحقيقة ليس فيه مرفوع ، لا حديثا ولا أثرا عن الصحابة - رضي الله عنهم - ، ولذلك لا داعي لتحديد دعاء معين ، فيدعو بما فتح الله -- عز وجل - - عليه ، وقد قسم الله –- عز وجل -- الناس إلى :(4/459)
من يقول : ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ، وإلى من يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، فهم الفائزون الرابحون ، يسأل الله –- عز وجل -- من خير دينه ودنياه وآخرته .
قال رحمه الله :[ ويقف حتى يسفر جدا ] : تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، والإسفار طبعا أسفر الشيء إذا بان واتضح ، والغلس اختلاط ظلمة الليل بضياء الصبح ، والغلس يكون في بداية وقت الفجر ، ويستمر يعني يأخذ قدرا على حسب طول الليل وقصره في الصيف والشتاء ، ولذلك كانت النساء يشهدن صلاة الفجر مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ثم ينقلبن إلى بيوتهن كما في الصحيحين ما يعرفهن أحد من شدة الغلس .
وقال جابر -- رضي الله عنه -- لما سئل عن صلاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- المكتوبة ؟ قال : (( الصبح كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يصليها بغلس )).(4/460)
فغلس اختلاط ظلمة الليل بضياء النهار . هذه السنة أن يبدأ صلاة الفجر يغلس بها يعني يصليها في أول الوقت ، ثم بعد ذلك يقف ، ثم بعد ذلك إلى أن يسفر ثم يدفع ، وهذا يدل على مسألة مهمة جدا وهي هذا النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- في سنته وإمامته للناس في الصلاة مراعاته للأحوال ، فإذا كان هناك شيء يدعو إلى التطويل أطال عليه الصلاة والسلام ، ثم فعل من فعله ما يناسب الإطالة ، فإذا كان يقرأ من الستين إلى المائة الآية وينصرف الصحابة ما تعرف النساء من شدة الغلس ، فهذا يدل على أنه يوقع في أول الوقت بخلاف ما إذا طال الفصل بين الأذان والإقامة، فلربما إذا طال الفصل إلى ثلث ساعة إلى نصف ساعة وبخاصة إذا كان يريد أن يقرأ في صبح الجمعة ، وبعض الأئمة يريد أن يحبّر قراءته فيطيل ولربما يكون بعضهم كما في الحرمين يكون قد جاء من الأذان الأول ، فيا ليت عند قصد الإمام للإطالة أن يراعي السنة بالتبكير ، فبدل أن ينتظر نصف ساعة يجعل ربع ساعة ، ثم يقرأ القراءة ويعطي حقه وينصرف مصيبا للسنة ؛ لأن السنة أن ينصرف منها بغلس ، فلما كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عنده الموقف غلّس بالصلاة ، فحصّل فضيلة الصلاة في أول وقتها ، وثانياً حصّل الوقت الكافي في الدعاء ، وحصل مخالفة المشركين بالخروج والدفع قبل طلوع الشمس .
قال رحمه الله : [ ثم يدفع قبل طلوع الشمس ] تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(4/461)
قال رحمه الله : [ فإذا بلغ محسرا أسرع قدر رمية بحجر حتى يأتي منى ] : محسر هو وادي محسر الذي حسره الله فيه الفيل ، وقصة الفيل قصة معروفة وثابتة بالنص كما في سورة الفيل ، فهذا العبث الذي يفعله بعض الكتاب من التشكيك والتوهين في القصة ومكانها وأنها لم تكن بمكة ، ألا شاهت هذه الوجوه الآثمة الظالمة التي لا يقصد في الحقيقة مسألة إثبات القصة أولا ، المسألة وراءها شيء أكبر من هذا كله ، وينبغي لطلبة العلم أن يدركوا هذا ، هناك في الغزو الفكري ما يسمى التشكيك في الثوابت ، والتشكيك في الأصول ، والتشكيك في الثوابت والأصول إذا كانت الثوابت ما تقبل عند المسلمين جدالا لا يعبثون بها ، ولكن يبحثون عن شيء يشكك في مصادرها، ويشكك في كيفية التلقي ، ولذلك تجدهم تارة يتعقبون النصوص ، وتارة يتعقبون طرق الاستدلال بالنصوص، ويأتون إلى أقوال أئمة جهابذة ؛ لأن المراد أنه إذا حصل عند المسلم شكا في هذا الشيء المعروف في سيره وفي الأخبار وفي التاريخ فحينئذ يضع علامة الاستفهام على كل ما يرد في التاريخ ، ومعناه أن تاريخه مشبوه ، ولذلك تجد بعض المتأخرين وللأسف يقول : ينبغي أن نحقق التاريخ وأن نفعل بالتاريخ ، هؤلاء دواوين العلم وأئمة العلم . يقول الإمام أحمد : كنا إذا أتينا إلى التاريخ تسامحنا، ولم يكونوا يطبقون عليه التشديد كما يطبق على الرواية إلا إذا تضمن التاريخ حكما شرعيا فحينئذ ينبغي تبيينه .(4/462)
فالشاهد من هذا أنه ليست القضية التشكيك في القصة ولكن القضية العبث بالمصادر التاريخية وحينئذ تجد كثيرا من الناشئة التي نشأت في هذا الزمان لا تماثل ولا عشر معشار ما كان عليه الأولون من تمسكهم بأئمتهم وبكتب المصادر التاريخية واحترامهم وتوقيرهم وتقديرهم لهذه المصادر ، ومن هنا كان بعض مشايخنا -رحمة الله عليهم- يكره هذا الذي من الإغراق في تتبع القصص في السير والإغراق فيها وتطبيق الصنعة الحديثية حتى أصبح الواحد لما يقرأها فإذا وجد في كتاب تاريخ احتقر هذا الكتاب ، ووجد أن هذا المحقق قد أخرجها سندها معضل أو منقطعة ثم لا ينظر إلى مقصد العلماء من إيرادها كعبرة ، والمراد بها نوع من التأسي ونوع من التأثر ، وليس المراد بها حكما شرعيا .
فالمقصود من هذا أن هذا الوادي هو الوادي الذي حسر الله فيه الفيل ، وأخذهم فيه أخذ عزيز مقتدر ، فقد قصدوا بيته الحرام ، وما قصد جبار هذا البيت إلا قصمه جبار السماوات والأرض ، ولذلك لما جاء هذا الطاغية الآثم وجاء أصحاب الفيل واكتسحوا كل من وقف في وجوههم من قبائل العرب -العرب فرادى وجماعات- وما وقف أحد أمامهم إلا أبادوه والقصة معروفة .
فالشاهد من هذا أنهم لما بلغوا هذا الموضع بالمغمس حسر الله الفيل ، ومنعه من المضي ، ثم أرسل الله عليهم عذابه ، فأرسل عليهم طيرا أبابيل وهو نوع من الطيور، وقيل : هو نوع من الطيور لم يوجد إلا في ذلك الوقت ، وذكر بعض العلماء أنه نوع من العصافير الصغيرة ولا يزال بعض بقاياها بمكة ، وهو شديد الإزعاج ، شديد الصرير، وكان يلقط كل واحد منهم حجرا فيرميه على الرجل من رأسه فيخترمه إلى أسفله فيخرّ ميتا في مكانه ؛ { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }.(4/463)
{كذلك أخذ ربك } ليس إذا أخذ الأفراد ولا الجماعات ولا القرية ولا المدينة { إذا أخذ القرى} {وهي ظالمة } والحال أنها ظالمة . { إن } بالتوكيد { أخذه أليم شديد } وإذا قال الله : أليم فهو الأليم ، وإذا قال الله شديد : فهو شديد .
فالشاهد أن الله حسر الفيل في هذا الموضع وامتنع الفيل من المضي ثم أرسل الله عليه العذاب، فهذا الموضع موضع عذاب ، فلما كان موضع عذاب وبلغه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ضرب دابته وأسرع ، وهذه سنته في مواضع العذاب أنها لا تزار ولا ينزل فيها، فلا تزار إلا بقصد الاعتبار مرورا إذا مرّ بها دون قصد على تفصيل عند بعض العلماء - رحمهم الله - ، ولذلك لما مر بديار ثمود كما في الصحيح في العلا ضرب دابته وأسرع عليه الصلاة والسلام وغطى رأسه حتى قال بعض العلماء كأنه يقول : إني مصدق بعذابهم ولو لم تر عيني ، وهذا من أكمل ما يكون من التوحيد والإسلام لله –- عز وجل -- . فمواضع العذاب قال : (( لا تمروها إلا وأنتم باكون أو متباكون لا يصيبكم ما أصابهم )) ، فلا يشرع زيارتها والجلوس فيها إلا على هذه الصفة إذا مر بها باكيا أو متباكيا متأثرا ، وجعل العلماء –رحمهم الله - ذلك أصلا ، فلما مر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بوادي محسر ضرب دابته وأسرع ؛ لأنه موضع عذاب ، فلا ينزل فيه .
قال رحمه الله :[ حتى يَأْتَي مِنى ] : وهي مشعر ؛ سميت منى لكثرة ما يمنى ويراق فيها من الدماء ، وقيل: لكثرة الناس إذا اجتمعوا فيها ، وقيل: لكثرة الخير ، وما يكون فيها من عطاء الله –- عز وجل -- لعباده.
ومنى : واد فسيح ما بين جمرة العقبة ووادي محسر ، واختلف في جمرة العقبة : هل هي منى أو ليست من منى ؟ على قولين ، والصحيح أنها ليست من منى ، وعليه فلا يسامت الجمرة وإنما يكون قبل الجمرة ، وهذا هو الذي عليه الجمهور – رحمهم الله - .(4/464)
وبناء على ذلك العقبة لا تعتبر من منى ، وأمر عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- الناس أن يتحولوا فيها إلى داخل منى كما جاء عنه -- رضي الله عنه -- فكان يبعث الرجال فيخرجون من نزل وراء جمرة العقبة ، ويأمر من نزل وراء جمرة العقبة أن يدخل إلى منى .
وأما من جهة وادي محسر فقد قلنا ضفة الوادي مما يلي منى هي نهاية منى ، وهذا الوادي ما بين الجبلين: ثبير والصانع . ويقال: الصائح ، والقابل بعضهم يسميه ، هذان الجبلان ما أقبل منهما فهو من منى ، وما أدبر فليس من منى ، وبطون الجبال وسفوحها كلها من منى ، وتعتبر من بات بها فقد بات بمنى ، وذكرت بعض المنشورات أن مساحة منى بهذا القدر تقارب ستة ملايين متر مربع وهي مساحة كبيرة جدا ، هذا الوادي كله يعتبر منى .
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع ، والعمل الصالح ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .
فيبتدئ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف
قال المصنف رحمه الله : [ فيبتدئ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(4/465)
فقد شرع المصنف رحمه الله في هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حينما وصل إلى منى صبيحة يوم النحر، والثابت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما دفع من مزدلفة إلى منى قال للفضل بن عباس - رضي الله عنه - وعن أبيه وكان رديفا معه على الدابة : (( القط لي سبع حصيات )) فالتقط له سبع حصيات مثل حصى الخذف ، وهي الحصاة التي يمكن أن يجعلها بين السبابة والإبهام فيخذف ويحذف بها، فأخذها عليه الصلاة والسلام بكفه ، ثم قال للناس : (( بمثل هذا فارموا وإياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين )) فبين عليه الصلاة والسلام أن السنة أن يكون الرمي بالحصى غير الكبيرة، وهو الحصى التي يمكن أن يخذف ويحذف بها ، وليس المراد بمثل حصى الخذف أن يكون أيضا الرمي بطريقة الخذف والحذف كما يقول البعض ، ولكن المراد أن القدر الذي يرمى به يكون بهذه المثابة ، فالتقطها عليه الصلاة والسلام وحذر الأمة من الغلو .
والغلو: الزيادة ، ولاشك أن الشرع وسط بين الإفراط والتفريط ، وأقام الله نبيه عليه الصلاة والسلام وسنته وهديه بين الإفراط والتفريط دينا قيما ، وهذا الدين الذي قام على السماحة واليسر فيه الكمالات ، وفيه المطالب والغايات ، بل أشرفها وأتمها في هذا الدين ؛ ولذلك وصفه الله بالكمال والتمام ، وهو من كلمات الله -- عز وجل -- ، وقد وصف الله كلماته بالتمام والكمال كما قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } .(4/466)
فحذر الأمة صلوات الله وسلامه عليه من الغلو ، وهذا من توجيهاته في الحج ، فقد اشتملت مواطن عديدة في الحج على مواقف من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- مليئة بالتوجيه ، ولقد تأملت كما تأمل من قبلي من العلماء وتأمل غيري أن أكثر هلاك هذه الأمة بسبب الغلو، ولن تجد إنسانا يجاوز حدود الشرع إلا هَلَكَ وأهلك وضَلّ وأضل ؛ ولذلك حذر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من الغلو ، وإذا أحب الإنسان شيئا فليكن على القصد والاعتدال دون غلو ودون زيادة ، فإذا وفق للعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض فثَمّ شرع الله ، ومن هنا قل أن تجد الطوائف والملل والنحل إلا وجدتها بين الإفراط والتفريط ، وتجد الغلوّ له عامل عظيم في إفساد كثير من معاملات الناس وعباداتهم -نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يسلمنا من الغلو في الدين، وأن يرزقنا القصد والعدل وأن يجنبنا مزالق الهوى وسبل الردى-.
فالتقط عليه الصلاة والسلام سبع حصيات فأخذ العلماء منه مشروعية :(4/467)
أولا : أن السنة التقاط حصى جمرة العقبة من مزدلفة لا من منى ، فالأفضل والأكمل أن يأخذ هذه الحصيات من مزدلفة ، وهذا ليس على سبيل الوجوب ، فلو تعذر عليه أو نسي ثم تذكر بعد دخوله أو أخذها من مزدلفة ثم سقطت وضاعت فله أن يأخذ من أي موضع ، فليست بمتعينة. ثم كذلك أيضا فيه مشروعية التوكيل : أفعال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الحج كانت جميلة جليلة حتى كان إذا تعاطى بعض الأشياء يتعاطاها بنفسه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وربما تعاطاها بالنيابة فوكل غيره ، ومن التوكيل: توكيله للفضل بن العباس في التقاط الحصى وإلا أغلب أموره كانت منه عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان أبعد ما يكون عن الكبر ، وكان أبعد ما يكون عن استخدام الناس ، أو طلب الأمور منهم -صلوات الله وسلامه عليه- إلا إذا علم طيبة أنفسهم ومحبتهم لذلك فجبر خواطرهم -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- ، فوكل الفضل -- رضي الله عنه -- أن يلتقط له سبع حصيات ، وفيه دليل على مشروعية خدمة الأحرار، ثم إنه عليه الصلاة والسلام انطلق إلى منى كما ذكرنا ومر بوادي مُحسّر، فضرب دابته وأسرع ، وهكذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- من بعده إذا مروا بهذا الموضع ضربوا دوابهم وأسرعوا وبينا أن السبب في ذلك أن هذا الموضع موضع سخط وعذاب ، وينبغي للمسلم إذا مر بديار الظالمين أن يبتعد عنها ، وأن يسرع وأن يتعجل كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يصيبكم ما أصابهم )) ؛ ولذلك عتب الله على من نزل منازل الظالمين ؛ فقال تعالى : { وسكنتم مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال } فدفع عليه الصلاة والسلام حتى دخل منى ، ولما دخل منى سلك الطريق الوسطى، والطريق الوسطى كانت من وسط منى تنتهي إلى جمرة الكبرى بخلاف الطريق التي تأخذ بحذاء الجبل حتى تنتهي إلى مسجد الخيف ، فكان هناك طريقان : طريق من أعلى إلى جوار السفح ولا يزال إلى الآن موجودا(4/468)
، وطريق من وسط منى ، وهو الذي فيه المظلات الآن ، ويفيض إلى الجمرة الكبرى فهذا هو الأفضل ؛ تأسياً بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فسلكه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه ، ووصل جمرة العقبة وقد طلعت الشمس وارتفعت ؛ وذكر بعض أهل الحساب والخبرة وبالحساب يمكن عن طريقه معرفة زمان حجه –- صلى الله عليه وسلم -- وتكاد تكون الكلمة متفقة على أنها كانت في الحر أو قريبا من الحر، فيختار بعض أهل العلم بالحساب من الفلكيين أنها كانت في الشهر السادس في شهر آذار، وكان ذلك عند اعتدال الليل والنهار يعني بحيث تكون ساعات الليل والنهار متساوية ، وخرج عليه الصلاة والسلام حتى بلغ الجمرة فرماها بسبع حصيات، فاستبطن الوادي ورماها بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه ، فحي بها منى كما يقول العلماء ، فتحية منى يوم النحر أن يبتدئ برمي جمرة العقبة قبل أن يذهب إلى منزله ومسكنه ، وقالوا إنه كتحية البيت في الطواف يحيي منى برمي جمرة العقبة ؛ وسميت هذه الجمرة جمرة العقبة لأنها كانت عند العقبة ينزل منها السالك إلى مكة ، وكانت إلى عهد قريب موجودة والجمرة في حضن الجبل الصغير الذي عنده العقبة ، ثم أزيل الجبل وهذا الموضع قيل إنه هو الذي وقعت عنده البيعة للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- من الأنصار والتي حضرها عمه العباس –- رضي الله عنه -- في البيعة الأولى والبيعة الثانية .
فالمقصود أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رمى الجمرة جمرة العقبة ، وهذه الجمرة تعتبر الجمرة الكبرى وهي أول الجمرات الثلاث مما يلي مكة ، ثم يليها الوسطى ثم يليها الجمرة الصغرى ، وهي التي تلي مسجد الخيف ، وهذه الجمرة جمرة العقبة هي التي تعرّض فيها الشيطان لإبراهيم –عليه السلام- حينما أراد أن يذبح ابنه إسماعيل –عليه السلام- استجابة لأمر الله -- عز وجل -- في قصة الابتلاء .(4/469)
قال رحمه الله : [ كحصى الخذف ] : فيرميها بسبع حصيات ، فينبغي أن يكون الرمي بالحجر من أي نوع كان ، ولا يرمى بالحديد ولا بالنحاس ولا بالرصاص ولا بالنيكل ولا بالخشب ، واختلف في العقيق واختلف في بعض المعادن ، ولكن الذي عليه العمل أن الرمي لا يكون إلا بالحصى ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( بمثل حصى الخذف فارموا وإياكم والغلو)) فرمى عليه الصلاة والسلام بسبع حصيات ، فالسنة أن تكون سبع حصيات حيث لم يلتقط أكثر منها ، ومن فعل العوام أنهم يلتقطون الجمار كلها من مزدلفة ؛ والسنة أن تلتقط السبع فقط التي يرمي بها جمرة العقبة ، فرمى عليه الصلاة والسلام فرفع يده -عليه الصلاة والسلام- ورمى جمرة العقبة بعد ما استبطن الوادي ، ورماها من أسفلها ، ولم يرمها من أعلى الجبل .(4/470)
قال رحمه الله : [ يكبر مع كل حصاة ]: كان من هديه -عليه الصلاة والسلام- أنه رفع يديه بالجمار، ثم رمى الجمرة ، ولا يقع الرمي رميا صحيحا معتبرا إلا إذا حصل فعل المكلف ووقعت السقوط في الحوض ، والعبرة بالحوض لا بالشاخص ؛ لأن المراد أن هذا القدر الذي بعد الشاخص أن تقع فيه الحصاة بغض النظر عن كونه ضرب الشاخص وهو العمود أو لم يضربه ؛ ولذلك العبرة بسقوط الحصى في هذا الموضع ، ومن هنا لم يزد السلف ولم يغيروا في الأحواض شيئا ، وهذا هو الأصل الذي ينبغي العمل به والتزامه ، وما يقع من الخلل في الرمي فهو من سلوك الناس لا من العبادة ، وفرق بين الخلل حينما ينسب حاشا إلى العبادة وبين أن ينسب إلى سلوك الناس، فعلى الناس أن يلتزموا بآداب الإسلام وبرحمة الإسلام وأن ينضبطوا في سلوكهم وتصرفاتهم ، وأن يضبطوا وأن يعودوا على ذلك ، وأن يعلموا وأن يوجهوا وأن تبذل كل الأسباب ، ولاشك أنه بحمد الله هناك جهود طيبة للعلماء والموجهين وأئمة المسلمين سواء في المملكة أو غيرها في توجيه الناس ، ولكن الإشكال قلة السماع ، وقلة التطبيق ، وكثرة الهوى في الناس ، ومن هنا لا يعتب بحصول أي شيء من الكوارث والأضرار على العبادة ، وفرق بين أن يكون الخلل من العبادة وبين أن يكون من تصرفات الناس كما لا يخفى .(4/471)
المقصود أن هذا الموضع هو الذي تسقط فيه الحصاة ، فلو جاء عند الحوض ورمى داخل الحوض أجزأه ، ولو لم يرم الشاخص كما ذكرنا ، والرمي الأصل فيه رفع اليد ؛ ولذلك نص عليه في الرواية ، ولو أنه رمى بجنبه بدون رفع يده أجزأه؛ لحصول الرمي ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( فارموا )) والعبرة أن يرمي سواء كان بعلو اليد أو كان بمسامتتها للبدن كما أن بعضهم يعسر عليه أو يكون عنده مرض أو مانع من الرفع ، فالعبرة أن تقع الحصاة في داخل الحوض ، وأن يكون وقوعها بفعل المكلف لا بآلة معينة على الوقوع ، ومن هنا فرق العلماء بين سقوط الحصى بفعل المكلف وبين سقوطه بفعل الآخر، وضربوا أمثلة منها لو رمى فوقعت على طرف الحوض ثم أصابتها حصاة ثانية فتدحرجت حتى سقطت في الحوض لم تجز الرامي الأول ؛ لأنها سقطت بفعل غيره لا بفعله نفسه ، فلابد أن يكون السقوط في الحوض من فعل المكلف وليس من فعل آخر؛ وعلى هذا كانت السنة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالرمي ولا يتحقق الرمي إلا بفعل المكلف ، فرمى عليه الصلاة والسلام بسبع حصيات ، فيكبر مع كل حصاة ، فيقول : الله أكبر، إما مقارنا أو بعد الرمي مباشرة ،فإذا قرن فقال: الله أكبر أجزأه ، أو كان بعد الرمي مباشرة أجزأه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رمى وكبر أثناء رميه صلوات الله وسلامه عليه ، والعبرة أن يفرق هذه السبع ، فلو جمعها ورماها دفعة واحدة أجزأته عن حصاة واحدة ، ولا يحتسب بالسبع كاملة ، لابد أن يفرق وأن يكون لكل حصاة رميها .
قال رحمه الله : [ ويرفع يديه في الرمي ] : كما ذكرنا الرفع هذا تأسٍ بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن يرفع يديه ويرمي ، وأما إذا رمى بدون رفع كأن يرمي بجنبه أجزأه ، وهكذا لو رمى بالطرح فإنه يجزيه ولكن السنة ما ذكرنا أنه يرفع يديه ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(4/472)
قال رحمه الله : [ ويقطع التلبية بابتداء الرمي ] : تقطع التلبية في الحج عند ابتداء الرمي في قول جمهور العلماء ؛ لما ثبت في الصحيح عن الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال : ((كنت رديف النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة )). فقالوا إن (( حتى )) للغاية ، والمغيا لا تدخل المراد به حتى رمى أي ابتدأ الرمي ، وجاء في رواية ابن خزيمة في صحيحه : ((حتى رمى آخر حصاة من جمرة العقبة )) وهذا من أحوط ما يكون وإلا الرواية فيها كلام وهي قابلة للتحسين، وعلى كل حال فلو احتاط برمي آخر حصاة من جمرة العقبة كان أفضل أن يقطع عندها التلبية فلو قطع التلبية قبلها أجزأه .
قال رحمه الله : [ ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ] : ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة وهذا في جمرة العقبة ؛ لأن لها موضعا واحدا . كانت الجمرة في حضن الجبل ، ولذلك كان رميها من جهة وليس من كل الجهات بخلاف بقية الجمرات ، وقد أزيل الجبل ووضع بجواره الحائط ، فالرمي يكون من هذه الجهة من بطن الوادي ؛ لأنه موضع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في الرمي كما ذكر عبدالله بن مسعود وقال : (( من هاهنا رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة )) يعني النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيرميها من بطن الوادي .
قال رحمه الله : [ ولا يقف عندها ] : ولا يقف بعد رميه لجمرة العقبة ، والضابط في الوقوف بعد الرمي أن يكون بعده رمي، فيقف بعد رمي الصغرى ، ويقف بعد رمي الوسطى ، ولا يقف بعد رمي الكبرى وهي العقبة لا في يوم العيد ولا في أيام التشريق ؛ لأنه لم يقف عليه الصلاة والسلام إلا بعد رمي بعده رمي ، فاختص ذلك بالجمرة الصغرى والجمرة الوسطى ، فإذا رمى جمرة العقبة انصرف مباشرة كما ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يقف للدعاء .(4/473)
قال رحمه الله : [ ثم ينحر هديه ]: ثم إذا فرغ من الرمي نحر هديه إن كان متمتعا أو قارنا، ثم حلق رأسه ثم طاف ، وأما إذا كان مفردا فإنه يرمي ثم يحلق؛ لأنه ليس عليه دم ، وعلى هذا كانت السنة، فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رمى جمرة العقبة ثم نحر هديه فكان قد أهدى إلى البيت ثلاثا وستين بدنة أتمها علي -- رضي الله عنه -- تمام المائة حينما جاء من اليمن ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام نحر الثلاث والستين بدنة بيده الشريفة -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه- عليه وأتم علي -- رضي الله عنه - - ما بقي، وأمره أن يقوم عليها وأن يتصدق بجلودها وأجلتها -صلوات الله وسلامه عليه- ، وهذا أيضا موضع ثان فيه التوكيل من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في بعض أعمال الحج .
الشاهد من هذا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نحر بُدَنه ؛ ولذلك استحب العلماء للمتمتع أن يتولى نحر هديه بنفسه إن كان معه هدي من إبل أو مما ينحر ويتولى الذبح إن كان مما يذبح كالغنم ونحوها هذا الأفضل والأكمل ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ ثم يحلق رأسه أو يقصره ] : ثم بعد رميه ونحره يحلق الرأس إذا أراد الأفضل والأكمل؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال اللهم ارحم المحلقين فقال في الثالثة والمقصرين أو الرابعة )) على شك من الراوي فدل على أن الحلق أفضل من التقصير ، وعلى هذا فإنه إذا اعتمر أو حج فالأفضل أن يراعي الحلق ، والحلق إنما يكون بالموس الذي يجزّ الشعر أو ما يقوم مقامه.(4/474)
أما إذا كان بالمكائن فإنه ينظر فيه فإن كان لا يبقي خصال الشعر على سطح الرأس شيئا كالموس كان حلقا ، وأما إذا كان يبقي ولو قليلا فإنه تقصير وليس بحلق ، والتقصير يختلف ؛ ولذلك لابد في الحلق من الجز الذي يمر على الشعرة فلا يبقى شيء منها ظاهر على رأس المحلوق ، هذا هو المعتبر في الحلق، وأما إذا بقي أجزاء الشعرة ولو كان أكثرها أو غالبها فقصر الأقل فإنه يعتبر تقصيرا ولا يعتبر حلقا ، والعبرة في الحلق والتقصير أن يستتم الرأس كاملا بالحلق والتقصير، فيحلق جميع الرأس ؛ لأنه لا يجوز حلق بعض الرأس وترك بعضه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن القزع ، والقزع هو فعل اليهود يحلقون بعض الرأس فيحلقون الطرف الأيمن والطرف الأيسر ويوفرون منتصف الرأس وآخر الرأس ، وبعضهم يحلق الطرف الأيمن والأيسر والقفا ثم بعد ذلك يتركون وسط الرأس موفرا ، وهذا من صنيع اليهود ونهي عنه للمشابهة .(4/475)
وهناك قول ثان للعلماء أنه نهي عن القزع للظلم ، وتوضيح ذلك : أن الله أمر المسلم بالعدل حتى مع نفسه ، وأنه إذا حلق رأسه يحلقه كله أو يتركه كله ؛ لأنه إذا حلق بعضه وترك البعض وكان الزمان زمان صيف فقد رفق بالمحلوق وظلم الباقي الذي لم يحلق ؛ لأن الموضع الذي لم يحلق يتضرر في الصيف أكثر من المحلوق ، والعكس لو كان شتاء تضرر المحلوق أكثر من غير المحلوق، ومن هنا نهي الإنسان أن يجلس بين الشمس والظل ؛ لأنه إن كان صيفا ظلم النصف الذي في الشمس ، وإن كان شتاء ظلم النصف الذي في الظل ، ومن هنا نهي عن كون الإنسان يمشي منتعلا برجل واحد ؛ لأنه سيظلم الرجل التي لم تنتعل ، عُلّم المسلم العدل حتى مع نفسه التي بين جنبيه ، ولكي يكون على هذا القصد الذي يراعي فيه الحق حتى لأجزاء بدنه ، فإما أن يحلق كل الرأس أو يترك كل الرأس ، وهذه هي السنة ، فمن أراد أن يحلق أو يقصر في نسك أو غير نسك راعى هذه السنة أن يأتي بالتقصير لجميع أجزاء الرأس فيقصر من أعلاه ومن جوانبه ومن القفا فإذا فعل ذلك حصل التقصير وهذا هو أصح قولي العلماء وهو مذهب المالكية والحنابلة -رحمة الله على الجميع- .
واعتد بعض العلماء بثلاث شعرات تقصيرا وحلقا ، فإن حلقها أجزأه ، واعتد بعضهم بربع الرأس كما هو مذهب الحنفية على الأصل الذي قرّروه في المسح ، وقد تقدم معنا في باب الطهارة والصحيح أن العبرة بجميع الرأس ؛ لأن الله يقول : { ولا تحلقوا رؤوسكم } ولأن السنة دالة على أن الحلق يكون للكل أو ترك الكل .
قال رحمه الله : [ ثم قد حل له كل شيء إلا النساء ] : وصح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه أعطى الحلاق رأسه ، وبدأ بحلق شقه الأيمن قبل شقه الأيسر ، وهذا يدل على مسائل:
أولا : مشروعية التيمن في الحلق والتقصير، فيبدأ بشقه الأيمن لشرفه قبل شقه الأيسر.
ثانيا : إذا كان السنة التيامن ، فهل العبرة بالحلاق أو المحلوق؟(4/476)
توضيح ذلك: أن الحلاق ربما جاء من وجه الإنسان ، وحينئذ يكون يمين الحلاق يسارا للمحلوق، والعكس أما لو جاء من ورائه وحلقه من وراءه فلا إشكال أن يمين الحلاق هو يمين المحلوق ، فإذا جاءه من قبل وجهه فإنه يبدأ بيمينه هو لا بيمين الحلاق ؛ لأنه متصل به مقدم على المنفصل ، وعليه أن يراعي الجهة اليمنى في المحلوق ، فناول شقه الأيمن للحلاق فحلقه ، ثم أعطى شعره -عليه الصلاة والسلام- لأبي طلحة -رضي الله عنه وأرضاه- كما في الحديث الصحيح وقسمه بين أصحابه ليتبركوا بشعره -عليه الصلاة والسلام- ، وهذا لما جعل الله فيه من إثبات معجزة الرسالة ، فهو له عليه الصلاة والسلام بأن يتبرك بشعره ؛ لمكان النبوة والرسالة ، وهذا المعنى خاص به دون غيره -صلوات الله وسلامه عليه- ؛ ولذلك أفضل الأمة من بعده أبوبكر وعمر وعثمان –رضي الله عنهم- حلقوا وقصروا بعد وفاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يفعلوا ذلك ولم يقسموا شعورهم بين الناس ؛ فدل على أن هذا من خصوصياته -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- ، فإذا انتهى من حلق شعره فحينئذ قد تحلل التحلل الأصغر أو التحلل الأول .
قال رحمه الله : [ ثم قد حل له كل شيء إلا النساء ] : بعد الحلق والحلق يكون من الغير لا من الإنسان نفسه ، فلا يجوز للمحرم أن يحلق لنفسه ؛ لأنه لم يخرج من النسك بعد ، ولا يخرج من النسك إلا بحصول الحلق والتقصير؛ ولذلك لا يلي الحلق لنفسه ولا التقصير لنفسه ، وهذا ما تفعله النساء أن تأخذ المقص وتقص شعرها لنفسها ، والمفروض أن يتولى ذلك زوجها وذو المحرم منها فيقص شعرها ، فتتحلل سواء كان محرما أو كان حلالا ، وهو مذهب الجمهور خلافا لمن منع المحرم أن يحلل المحرم ، فيحلق له قياسا على الصيد على محظور الصيد ؛ ولذلك لا يعينه على ذلك والصحيح مذهب الجمهور ؛ لأن الصحابة حلَقَ بعضهم لبعض مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقد كانوا مائة ألف .(4/477)
قال رحمه الله : [ ثم قد حل له كل شيء إلا النساء ] : ثم قد حل له كل شيء إلا النساء كما نص على ذلك أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وفيه حديث مرفوع متكلم في سنده ؛ ولكن معناه صحيح: (( إذا رميتم جمرة العقبة فقد حللتم )) وعن ابن عباس وعمر وعبدالله بن عمر -رضي الله عن الجميع- أنه إذا رمى جمرة العقبة وحلق فقد حل ، وأنه إذا رمى جمرة العقبة فقد حل ؛ وهذا التحلل هو التحلل الأصغر والتحلل الأول يحل له كل شي إلا النساء فيحل له الطيب لما ثبت في الصحيح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : (( طيبت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لحله قبل حرمه ، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت )) .
فقولها: لحرمه قبل أن يطوف بالبيت يعني بعد تحلله -صلوات الله وسلامه عليه- التحلل الأول وقبل أن يطوف بالبيت، وأسند ذلك ابن عباس -- رضي الله عنه -- حينما سأله السائل : هل يتطيب بعد أن يتحلل التحلل الأول ؟ فقال: (( إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تضمخ بالمسك ، أفذلك طيب ؟!)) ينكر على السائل ويستهجن سؤاله . فالمقصود من هذا أنه يحل له الطيب ويحل له تقليم الأظفار ؛ قال تعالى: { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } فأجاز لهم إلقاء التفث ومن إلقاء التفث تقليم الأظفار، فدل على جواز أن يقلم أظفاره بعد أن يتحلل التحلل الأول ، وكذلك يحل له لبس المخيط ، وكذلك يحل له بقية المحظورات كقتل الصيد .(4/478)
وأما النساء ؛ فللعلماء وجهان فيما يحل من النساء . قال بعض العلماء طبعا يدخل في التحلل أنه يحل له حتى عقد النكاح فيجوز له أن يعقد على المرأة إذا تحلل التحلل الأول ، ويجوز له أن يراجع المرأة مع أن المراجعة يجيزها طائفة من العلماء ولو كان محرما ؛ لأن الرجعة استدامة للنكاح وليست بإنشاء للنكاح ؛ قال تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } ووصفه بكونه بعلا للمرأة في العدة مادامت رجعية ، وعلى كل حال يجوز له أن يعقد النكاح ، فيجوز له أن يتعاطى جميع المحظورات فمنها قتل الصيد على خلاف عند العلماء -رحمهم الله- ، ولكن ظاهر الرواية الصحيحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قد حل له كل شيء إلا النساء ، ثم اختلفوا ما الذي يحل للرجل من امرأته بعد التحلل الأول ؟ فقال بعض العلماء : يحل له أن يباشر دون أن يجامع ، بمعنى يحل له أن يقبل وأن يلمس وأن يباشر دون أن يجامع المرأة فيصيبها .
وقال بعضهم : بل إنه يحظر عليه النساء سواء كان بالمقدمات بالمباشرة أو بالجماع ، وهذا أَوْجَه، ومن هنا يمتنع من النساء حتى يطوف طواف الإفاضة ويحصل له التحلل الكامل .(4/479)
قال رحمه الله : [ ثم يُفِيض إلى مكة فيطوف للزيارة وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج ]: ثم يُفِيض إلى مكة ويطوف طواف الركن وطواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة ، وهذا الطواف أجمع العلماء والمسلمون على أنه طواف الركن في الحج ؛ لقوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } فهو طواف الزيارة وطواف الإفاضة وطواف الركن ، فنزل عليه الصلاة والسلام إلى مكة بعد أن رمى جمرة العقبة ونحر هديه وحلق رأسه عليه الصلاة والسلام انطلق إلى مكة فطاف هذا الطواف ، وكان الناس قد ركب بعضهم بعضا وازدحموا على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، فاضطر في هذا الطواف أن يطوف على بعيره -صلوات الله وسلامه عليه- فطاف على بعيره ، وهذا الطواف يحصل به التحلل الكامل ، وحينئذ إذا أتم طواف الإفاضة فقد حل له كل شيء حتى النساء ؛ والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (( أيام منى أيام أكل وشرب وبعال )) والبعال إصابة النساء ، ومن المعلوم أن المراد بأيام منى ما وقع بعد يوم النحر من التحلل الكامل ؛ لأنه قد طاف طواف الإفاضة وهذا على الأصل .(4/480)
وعلى المسلم أن يتحرى سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهديه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- فأكمل الناس في الحج أجرا وأرجاهم قبولا وأحقهم بالبر برا من تأسى بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فطاف طواف الإفاضة صبيحة يوم النحر ولم يؤخره ولم يتتبع بذلك الرخص بل أخذ بهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وطاف طواف الإفاضة ، وحَرِص على إيقاع هذا الطواف في هذا الوقت حتى يصيب السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، واختلفت الرواية عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- هل صلى الظهر بمنى من يوم النحر أم صلاها بمكة ؟ فروى عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه صلى الظهر بمنى أي أنه طاف هذا الطواف طواف الإفاضة ، ثم إنه -عليه الصلاة والسلام- مر بالعباس وهو يسقي الناس من سقاية زمزم فشرب -عليه الصلاة والسلام- من زمزم ثم صعد إلى منى وأدرك بها صلاة الظهر، وهذا على رواية عبدالله بن عمر وأصلها في صحيح مسلم .
ومنهم من قال: إنه صلى الظهر بمكة ، ثم صعد إلى منى ، وهذا هو الذي تقتضيه الرواية في حديث جابر وحديث عائشة -رضي الله عنها- ؛ ومن هنا رجح بعض العلماء أنه صلى الظهر بمكة ؛ لأن راويها اثنان : عائشة وجابر ، وما رواه الاثنان ليس كما رواه الواحد .
وثانيا : أن جابر وصف منسك النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وصفا تاما كاملا حتى فصّل دقائق الأمور ، وقال في وضوئه -عليه الصلاة والسلام- بين مزدلفة وعرفات في الشعب (( وضوءا خفيفا )) أي سريعا وهذا كله يدل على دقة ملاحظة جابر، وقد جاء بالأمر كاملا ، فرجحوا رواية صلاته في الظهر من هذا الوجه .(4/481)
ثم أيضا رجحوه من جهة الزمان ، فقالوا إن حجته -عليه الصلاة والسلام- كانت في حال اعتدال الليل والنهار كما ذكرنا ، والغالب أنه يبقى معه إلى ست ساعات إلى زوال الشمس ما بين طلوع الشمس إلى زوالها ودخول وقت الظهر، فما رواه جابر وعائشة من أنه صلى الظهر بمكة قالوا أقعد وأقرب إلى السنة ؛ لأنه ما كان ليؤذن بمكة ويترك الصلاة ثم يمضي إلى منى ، فالست الساعات قالوا إذا تؤمل دخوله إلى منى من أطرافها، ثم رميه لجمرة العقبة ، ثم بعد ذلك حلقه لرأسه ونحره لثلاث وستين بدنة بيده الشريفة وطُبخت وشَرب من مرقها -عليه الصلاة والسلام- ووقف للناس يسألونه ، وبعد ذلك ذهب إلى مكة وطاف طواف الإفاضة في زحام ما بين مائة ألف كلهم يقول: ماذا يفعل رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ؟ ويقول أنس -- رضي الله عنه -- : ((كنت أنظر أمامي فأرى الناس مد البصر، وأنظر عن يميني وأرى الناس مثل ذلك وعن شمالي ومن روائي ))، فهذه الأمة كلها وهو قد دفع عليه الصلاة والسلام بهم من مزدلفة إلى منى ، ودفع من منى إلى مكة ، ثم بعد ذلك طاف طواف الإفاضة قالوا يبعد أن يتمكن من وقت الظهر في منى ، فرجحوا صلاته بمكة ، وأنه خرج إلى منى بعد صلاة الظهر، ولا يبعد أن الله يبارك لنبيه -عليه الصلاة والسلام- فقد حبس الله الشمس لنبي من أنبيائه ، ولا يبعد أن الله -- عز وجل -- يضع البركة ، وكان بعض مشايخنا يستدل بحديث عبدالله بن عمر على عظيم ما وضع الله من البركة لنبيه -عليه الصلاة والسلام- حتى تمكن من فعل هذه الأشياء وإدراك الصلاة بمنى .(4/482)
قال رحمه الله : [ ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو ممن لم يسع مع طواف القدوم ]: ثم يسعى بين الصفا والمروة وقد تقدمت صفة السعي وبيان هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيه ، يسعى هنا إذا كان متمتعا ؛ لأن المتمتع عليه سعيان : سعي لعمرته وسعي لحجه ، وهذا قول جماهير الأئمة من السلف والخلف -رحمهم الله- أن المتمتع بالعمرة عليه سعيان : سعي لعمرته وسعي لحجه ، وأن قوله : (( دخلت العمرة في الحج )) المراد به جواز إيقاع العمرة في أشهر الحج ؛ لأنه جاء ردا على عقيدة الجاهلية الذين كانوا يقولون : إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، فقد حلت العمرة لمن اعتمر، فبين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن ميقات الحج الذي كان تخصه العرب بالحج قد أصبح للحج والعمرة ، فقد دخلت العمرة في الحج وشبك بين أصابعه ولما قيل له : (( ألعامنا هذا أم للأبد ؟ قال : لا بل للأبد )) .(4/483)
قال رحمه الله : [ أو ممن لم يسع مع طواف القدوم ] : إذا كان متمتعا سعى كما ذكرنا للحج، ويكون سعي ركن كما سيأتي إن شاء الله في بيان أركان الحج والعمرة ، ويكون سعيه الأول أيضا سعي ركن ؛ لأنه للعمرة ، وإذا كان قارنا ففيه تفصيل: إن كان عند قدومه إلى مكة وجد وقتا فطاف طواف القدوم وسعى بعده لم يسع يوم النحر بعد إفاضته ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- طاف بالبيت ولم يسع وقد كان قارنا فسعى سعيا واحدا كما دل على ذلك حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما والرواية على هذا متفقة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يسع إلا سعيا واحدا ، ويؤكد هذا قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة –رضي الله عنها-: (( طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك )) وقد فعلت عائشة هذا السعي ؛ لأنها لم تتمكن من السعي قبل يوم عرفة ، ومن هنا قال المصنف رحمه الله إن القارن إذا لم يتمكن من السعي قبل يوم عرفة كأن يكون جاء على عرفة مباشرة ومعه هديه صح قرانه وحينئذ قالوا إنه يسقط عنه طواف القدوم ثم يطوف طواف الإفاضة ويسعى بعد إفاضته .
قال رحمه الله : [ ثم قد حل من كل شيء ]: وهكذا إذا كانت المرأة حائضاً أو نفساء لم تتمكن أن تطوف قبل يوم عرفة وهي قارنة فإنها إذا طافت للإفاضة وطهرت تسعى بعد الإفاضة سعي الحج فهذا مراد المصنف أن القارن الذي لم يسع قبل عرفة والمفرد الذي لم يسع قبل عرفة والمتمتع كل هؤلاء يسعون يوم النحر، وأما إذا كان مفردا وسعى بعد طواف القدوم أجزأه على أصح قولي العلماء -رحمهم الله- وهو مذهب الجمهور أنه إذا طاف طواف القدوم وهو مفرد ثم سعى بعده أجزأه ؛ لأن العبرة في السعي الركن أن يكون بعد طوافٍ سواء كان فريضة أو كان نافلة .(4/484)
قال رحمه الله : [ ثم قد حل من كل شيء ٍ] : ثم حل له كل شيء حتى النساء كما ذكرنا كما قال تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق } وأكد هذا صريح السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : (( أيام منى أيام أكل وشرب وبعال )) فأجاز إصابة النساء أيام منى على أنه قد طاف طواف الإفاضة وسعى وحينئذ قد خرج وتحلل التحلل الكامل .
قال رحمه الله : [ ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ]: يستحب أن يشرب من ماء زمزم : الزم هو الجمع ؛ قالوا سمي زمزم ؛ لأن الله جمع فيه من الخير والبركة ما لا يجمعه في غيره، وقيل : لأن أم إسماعيل جمعته حينما ضرب جبريل بجناحه فانفجر الماء من تحت رِجل إسماعيل عليه السلام فصارت تجمع الماء وتقول : زم زم زم زم فسمي زمزما لذلك ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح : (( رحم الله أم إسماعيل لو تركتها -يعني زمزم- لكانت عينا معينا )) لأن الله أرسلها فلا تنقطع ولكنها زمت الماء وجمعته ، فهذا الماء المبارك جعل الله -- عز وجل -- فيه من البركة والخصائص ما لا يجعله في غيره؛ وفي الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( إنها طعام طعم وشفاء سقم )) فمن شرب زمزم لكي يطعم كفاه الله جوعه وسد له مسغبته ومجاعته كما حصل لأبي ذر -رضي الله عنه وأرضاه- فقد شرب من زمزم أربعين يوما حتى أصبح الشحم في بدنه ؛ ولذلك قال له النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( وما يدريك أنها طعام طعم وشفاء سقم ؟ )) وقوله وما يدريك إثبات للشيء ؛ لأنه جاء بأسلوب تعرفه العرب كقوله عليه الصلاة والسلام : (( وما يدريك أنها رقية )) وهذا كله لتعظيم الشيء يعني أي شيء عثرت عليه حتى علمت أنه رقية .(4/485)
وهذا الماء يستحب شربه بمكة وبغير مكة ، أما بمكة فلا إشكال فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- شربه بمكة وارتوى منه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- ، وبغير مكة خلافا لمن شدد في حمل الماء من مكة وذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان من هديه أن بعث إلى عتاب بن أسيد وكان أميره على مكة أن يبعث إليه بوقر من ماء زمزم ، وهذا أخذ منه جواز حمل زمزم إلى غير مكة ، وانتقاله إلى غير مكة ؛ والأصل في ماء زمزم أنه للشرب وهل يجوز الاغتسال به ؟(4/486)
قال العباس -رضي الله عنه وأرضاه- أثر عنه أنه كان يقول : (( أما إني فلا أحله لمغتسل وهو لشارب حِلُّ وبِلُّ )) ، واختلف في توجيه ذلك : واختار بعض العلماء أن ماء زمزم فيه مشقة في نزحه وأخذه خاصة في وقت السقاية ، وقد كان هذا فيه صعوبة ، فإذا كان وقت الشدة كانت مقالة العباس في سقايته : لا أحله لمغتسل ؛ لأنهم إذا أصبحوا يغتسلون به ضيعوا ما هو أهم وهو الشرب؛ والأصل في السنة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- شرب من ماء زمزم ، ولو توضأ به فلا بأس ولا حرج، وهكذا بالنسبة لاستعماله كدواء وعلاج ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( طعام طعم وشفاء سقم )) فدل على أنه يجوز التداوي بماء زمزم ، وهذا التداوي بماء زمزم يحتاج إلى عقيدة صادقة وإيمان بالله -- عز وجل -- وصدق اللجوء إلى الله -- سبحانه وتعالى - - الذي لا يعجزه شيء وأمره بين الكاف والنون ، ففي هذا الماء شفاء الأسقام وشفاء الآلام بإذن الله الملك العلام ، الذي لا يعجزه شيء ؛ وقد قال الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح: (( إنه طعام طعم وشفاء سقم )) فلا يجوز لأحد أن يتردد في اعتقاد كون زمزم شفاء ، وقد ثبت ذلك للمسلمين على مر العصور والدهور، فرأوا من عجائب هذا الماء وما وضع الله فيه من البركة وشفاء الأسقام ما لم يخطر على بال ، وقد ذكر بعض مشايخنا -رحمه الله- أنه أصيب بداء أعيا الأطباء وآلمه ألما شديدا قال فدخلت المسجد الحرام ذات يوم وتذكرت حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : (( أنها طعام طعم وشفاء سقم)) قال فارتويت من زمزم وأنا أسأل الله أن يجعله لي شفاء قال والله ما خرجت من عتبة باب المسجد إلا وقد ذهب عني ما أجده ، وهذا كله راجع إلى قوة الإيمان وصدق اللجوء إلى الله -- سبحانه وتعالى -- ، وما يفعله البعض من العبث بالنصوص الشرعية ، وما تلوكه ألسنة المنافقين والمرجفين لا يضر أهل الإسلام وأهل العقيدة السليمة(4/487)
الصافية من ا لشوائب والدخن ولا يؤثر ذلك في المؤمن المعتصم بالله -- عز وجل -- الذي إذا قال للشيء : كن فيكون - سبحانه وتعالى - ومثل هذه التشويشات والوساوس فإنها لا تجدي حتى إنه بلغ ببعض الكتب الطبية كما ذكر لي بعض الثقات من الأطباء أنهم ذكروا داء الكوليرا أنه أصاب في زمان موضعاً من بلاد المسلمين فكانوا يتحدثون بانتشار هذه الكوليرا قالوا إنها انتقلت إلى هذا البلد بسبب الحجاج أنهم نقلوا ماء زمزم وكانت فيه الكوليرا ، ألا شاهت وجوههم ! فيلفّقون هذه القصص المكذوبة المختلقة لكي يضعفوا عقيدة المسلمين بربهم ، وإيمانهم بهذه النصوص الصحيحة ، فالذي يشرب على قوة إيمان وقوة اعتقاد ؛ فإن الله يعطيه سؤله، والله -- عز وجل -- على كل شيء قدير قادر أن يشفي المبتلى وأن يكفي المبتلى ولو لم يستعمل شيئا من الدواء ، فهو قادر أن يشفيه في طرفة عين { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } للعابدين الموحدين قالوا إن العبادة هنا بمعنى التوحيد والإخلاص ؛ فمنه قوله تعالى : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } أي المخلصين الذين لا يلتفتون إلى هذه الدعوى الباطلة الزائفة .
فالمقصود أن زمزم ينفع بإذن الله -- عز وجل -- ويشفي بإذن الله -- عز وجل -- من الأدوية والبلاء الحسي والمعنوي بصدق إيمان والتجاء إلى الله -- عز وجل -- .(4/488)
وكذلك أيضا ثبتت السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالعموم في الانتفاع من زمزم كما في الحديث الحسن ((زمزم لما شرب له )) وعليه فلو شرب زمزم يسأل الله حاجة من خير الدين والدنيا والآخرة فإنه على رجاء خير. قال بعض العلماء : لقد جربنا هذا الحديث فوجدناه حقيقا وصحيحا وإن لم يصح سنده أي أننا جربناه ورأيناه بالحقيقة والتجربة أنهم شربوا زمزم فآتاهم الله ما سألوه وذكر ابن العربي رحمه الله أنه قال : شربت زمزم فسألت الله العلم ففتح الله علي فيه حتى إني ندمت أني لم أكن سألته العلم مع العمل ، فقصص العلماء وأخبارهم في هذا مشهورة ؛ ولذلك ذكروا عن الأئمة والحفاظ أنهم سألوا الله -- عز وجل -- من الخير ووجدوا ذلك صحيحا مجربا وفي التجربة غناء ، ففي زمزم الخير الكثير يشرب منها ويتضلع ويرتوي، والسنة في شرب زمزم أن يشربه قائما ؛ لأن ذلك أبلغ في الشرب ، ومن هنا فرق بين زمزم وغير زمزم في الشرب قائما ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن الشرب قائما ، وقال : (( من شرب قائما فليستقه )) وقال (( إنه شرب معه القرين )) فالسنة عدم الشرب قائما ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه شرب زمزم وهو على بعيره ، فمن يقول إن من على البعير قائم قالوا هذا قيام ، ومن يقول إن من على البعير ليس بقائم يقول إنه ليس بقيام ؛ لأن من على البعير يسدل رجليه في هيئة القائم وصورته ، فقالوا إنه نهي عن الشرب قائما من العلل أنه إذا شرب وهو جالس انضمت أحشاؤه واكتفت أمعاؤه فلم يكن هناك جشع في شرب الماء كثيرا وحينئذ يأخذ على قدر الكفاية ، فتجد الإنسان إذا شرب جالسا يشرب أقل مما لو شرب قائما ، ومن هنا قالوا إنه لمعنى طبي وأشار إليه بعض الحكماء وبعض العلماء رحمهم الله ينقله عن بعض الأطباء أنه أصح في البدن ، فأوصت امرأة أعرابية ولدها فقالت : (( يا بني ، إذا شربت الماء فالزم الأرض، ولا تعجل بالرواح )) ، أي أنها أوصته أن يكون جالسا(4/489)
ولا يكون قائما وأن لا يعجل بعد شربه مباشرة أن يمضي بوجهه فلا يحمدونه طبا . الشاهد فيه أن نهي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قيل إنه لمعنى طبي وقيل: إنه لمعنى شرعي لقوله : (( شرب معه القرين )) ولذلك قال من شرب قائما فليستقئ وجمع بينهما بأنه لا مانع من اعتبار العلتين، فإذا نظر إلى العلة الأولى وهي أن الشرب قائم قالوا إنه يشرب أقل فإن ماء زمزم يقصد منه أن يشرب أكثر، ومن هنا يشرب زمزم قائما ولا يشربه جالسا حتى يكون أبلغ في تضلعه وريه من الماء وشبعه
قال رحمه الله : [ ويتضلع منه ]: ويتضلع منه بمعنى أنه يشرب منه ويزداد من الشرب ، والتضلح غاية الري .
قال رحمه الله : [ ثم يقول : اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك وحكمتك ] : الله أكبر ! لو الله أعطى هذه الدعوة لمن يدعو بها هذا خير عظيم . المحفوظ عن ابن عباس رضي الله عنهما ثلاث كلمات : (( اللهم ارزقني علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء )) أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ذلك وهذه الدعوة تجمع خير الدنيا والآخرة : علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء فهذا خير عظيم وعلى كل حال يشرب ويسأل الله -- صلى الله عليه وسلم -- من خيري الدنيا والآخرة ، وقد بينا أن الدعاء المخصوص في موضع مخصوص لا يحكم ولا يفتى به إلا بسنة وبأصل .
الأسئلة :
السؤال الأول :فضيلة الشيخ : مكي يعمل بعرفة وقد نوى الحج هل يجوز له تأخير الإحرام إلى عصر التاسع بعد نهاية الدوام والعمل . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله. الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد :(4/490)
فإن كانت نية المكي بالحج من مكة لا يخرج منها إلى عرفة إلا وهو محرم ، وإن كانت النية طرأت عليه وجدت عليه بعد أن تلبس بالدوام والعمل وهو في عرفات أو قريب من عرفات فإنه يحرم من موضعه ، وهذا راجع إلى حديث عبدالله بن عباس : (( فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ )) ؛ فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما مضى إلى الطائف وفتح الطائف وكانت غزوة حنين ثم فتح الطائف قسم الغنائم بالجِعرانة ، ثم أحرم من الجِعرانة ، والجِعرانة دون ميقات السيل ؛ لأنه طرأت له في الحل ، فإذا طرأت على المكي أو على الآفاقيّ الحج وأن يحج وهو بجوار عرفة أحرم من موضعه .
أما إذا خرج من مكة إلى عرفات وفي نيته أن يحج من ذلك العام فإن شاء لبس الإحرام مباشرة ثم خرج ، وإن شاء انتهى من الدوام ثم يرجع ثانية ويحرم في الموضع الذي أنشأ وقال بعض مشايخنا رحمه الله يكتفي بطرف مكة جمعا بين الحل والحرم ؛ لأنه أصله . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : لو أن شخصا أطلق النار من داخل الحرم على حمام خارج الحرم أو كان خارج الحرم وأطلق النار على حمام داخل الحرم هل يضمن ذلك . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
هذه المسألة عند العلماء راجعة إلى مسألة خلافية : هل العبرة بالصائد أو بالمرمي وهو الصيد أو بهما معا ؟
والصحيح أن العبرة بهما معا ، وعلى هذا فلو كان أحدهما في الحرم والثاني خارج فإنه يعتبر قتل صيد، فلو رمى من خارج الحرم فيعتبر قتل صيد حرم مادام أنه في داخل الحرم ، وإذا رمى من داخل الحرم حماما خارج الحرم ؛ فقد صاد وهو داخل الحرم حتى إن الحنفية -رحمهم الله- لما قالوا إن العبرة بالصيد استثنوا هذه المسألة تغليبا للضمان ، وقالوا إنه يعتد فيها بالصائد ولا تأثير لكون المصيد والصيد خارجا عن الحرم ؛ إذًا العبرة بأي واحد منهما إذا كان في الحرم وهذا أصل عند العلماء في مسائل الضمان يعتمدونه ؛ صيانة للحرمة والله تعالى أعلم .(4/491)
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : كيف تكون همتي صادقة في طلبي للعلم فلا أتشتت في الشواغل والمشاغل التي تضعفني في طلبي وما هي الأمور التي تعين على حصول المقصود وبلوغ الغاية والهدف المنشود جزيتم خيرا ؟
الجواب :
بسم الله. الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد :
فإن أعظم عطية يعطيها الله -- عز وجل -- لعبده أن يوفقه للخير، وهذا التوفيق للخير إذا صحبه صدق العزيمة، والعزيمة على الرشد، فكان من أهل العزيمة على الرشد فقد أفلح وأنجح، وربحت تجارته عند الله -- عز وجل -- ، ولذلك من الناس من يعرف الخير ولكن ليست عنده عزيمة على الخير، كم من أناس يعلمون فضل قيام الليل فمن هذا الذي يعمل بعلمه فيقوم الليل؟ وكم من أناس يعلمون فضل التسبيح والتحميد والاستغفار وتلاوة القرآن فكم من ساعات عمر لهم أمضوها في هذه الباقيات الصالحات والأعمال والطاعات كل ذلك بسبب حرمانهم التوفيق وعدم وجود العزيمة على الرشد، ولذلك يسأل العبد ربه أن يرزقه عزيمة على الرشد، ويسأل العبد ربه أن يسأله القوة على الخير، ويسأل العبد ربه أن يعيذه من العجز والكسل والخمول .
طالب العلم بحق إذا أراد عزيمة صادقة فليعلم أنه لا يحرك العزائم في القلوب إلا الإخلاص لله -- جل جلاله -- ومن ذاق حلاوة الإخلاص في قرارة قلبه زكت أعماله لربه ، وعندها والله لا يرتاح ولا يستجم في طلبه للعلم إلا بطاعة تلو طاعة ، فإما أن تجده قارئا للعلم أو سامعا للعلم أو كاتبا للعلم أو مسافرا للعلم أو مقيما من أجل العلم حتى يصبح أمره كله في العلم وللعلم ، وهذا كله من توفيق الله -- عز وجل -- ومحبة الله للصادقين المجدين المثابرين الذين صدقوا مع الله فصدق الله معهم .
العزيمة في طلب العلم لا تأتي بالتشهي ولا تأتي بالتمني أساسها الإخلاص ، فإذا نظر الله إلى قلب عبده مخلصا لربه فتح الله عليه أبواب الرحمة ووفقه وسدده وأعانه.(4/492)
الإخلاص مدد وروح قوية تمد العبد من الله بالنصر والتأييد والتوفيق حتى إنه ييسر له العالم الذي يتعلم عليه ، وييسر له مجلس العلم الذي يجلس فيه ، وييسر له العلم الذي يأخذه ، وليطيّبن بذلك العلم حيا وميتا متى ما طاب لربه بالإخلاص لوجهه ، فالله طيب لا يقبل إلا طيبا .
الإخلاص حتى ولو قلت أريد أن أذهب إلى الحرم فقط أن أجلس فيه في درس أو أجلس لقراءة القرآن : الإخلاص ، وما وجد السلف الصالح شيئا حركهم إلى الله أعظم من الإخلاص ، ولا وجدوا عناء ولا مشقة ولا بلاء أعظم من النية ؛ كما قال سفيان الثوري إمام من أئمة العلم والعمل يقول : ما وجدت أشد علي من نيتي إنها تتقلب علي .
يبتدئ طلب العلم فإذا به يرى العلماء وما هم فيه من الإكرام والإجلال فيتمنى أنه في ذلك المكان فيخسر ما بينه وبين الله فيصبح علمه رياء وسمعة .
يبتدئ طلب العلم فيجد أذية الطلاب ويجد منافسة الطلاب ويجد فيتقاعس ويتسخط ويتذمر فيكون مع المخلفين، وقيل اقعدوا مع القاعدين، ثم يأتي إلى طلب العلم فيجد الفتن والصوارف والشواغل والمشاغل، ويجد من يثبطه ومن يخذله فيقال له: أنت كل يوم تذهب إلى الحرم وكل يوم تأخذ هذا الكتاب : هل يأتيك برزق؟! هل يأتيك بوظيفة ؟! هل يأتيك بمال ؟! يجد من يخذله ويقتل هذه المعنويات الصادقة الزاكية التي تريد ما عند الله -- عز وجل -- فإذا به يحسن الظن بالله فيكون الله عند حسن ظنه : (( أنا عند حسن ظن عبدي بي )) فكم فتح الله من خيرات الدين والدنيا والآخرة على أقوام صدقوا لله في هذا العلم .
أخي في الله من أهم ما ينبغي أن تكون عليه الإخلاص لله -- عز وجل -- ، ولو أنك في كل لحظة وفي كل طرفة عين عالجت جميع مصائبك بالعلم بالإخلاص صلحت أمورك .(4/493)
الأمر الثاني مما يعين على شحذ الهمة الصادقة : أن تعرف قيمة هذا العلم ، وأن تعرف ما هو العلم الذي تطلبه ، وأن تعرف فتعلم أن هذا العلم ينتهي بك إلى الجنة ، وأن أقواما أخلصوا في طلب هذا العلم فبوأهم الله الجنة بل بوأهم الله الفردوس الأعلى من الجنة ، وإن أقواما طلبوا هذا العلم لوجه ربهم فصدقوا مع الله في ليلهم ونهارهم وسرهم وعلانيتهم ، وجدوا واجتهدوا وشمروا عن ساعد الجد بعيدين عن الفتن بعيدين عن الشهوات والملهيات وأموال الدنيا ومتاع الدنيا ومغرياتها وفتنها فزكوا علمهم لآخرتهم حتى خبطوا على أبواب الجنة قد رفعت درجاتهم وعظمت أجورهم عند ربهم .(4/494)
هذا العلم لا تكون به العزيمة إلا لما تعرف ما هو هذا العلم الذي تطلبه { تلك الدار الآخرة } التعبير باسم الإشارة للبعيد لعلو المنزلة : أين هي هذه المنزلة ؟ { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } فإذا عرفت ما هو هذا العلم طلبته ، من عرف قيمة الذهب من التجار سهر ليله وكدح نهاره وتذلل حتى للعامل الذي عنده من أجل أن يجد هذا الذهب ، فكيف بمن يجد ذهب الدنيا والآخرة وأعز من ذهب الدنيا وذهب الآخرة وهو رضوان الله -- عز وجل -- - سبحانه وتعالى - ! وليس هناك شيء يبتغى به رضوان الله إلا ميراث الرسل ، وليس هناك أعظم من ميراث الرسل ، تعرف ما هو هذا العلم ؟ فإذا عرفت ما مقدار ما هو العلم لن تجلس مجلسا لأي عالم ولن تقرأ كتابا لأي عالم إلا ترحمت عليه بملء فيك مما تحس من عظيم حسنته عليك حينما علمك كيف تصلي وتزكي وتصوم ؟ وكيف تعامل الناس ؟ ولذلك الغفلة عن هذه الخيرات والغفلة عن استشعار قيمة العلم هو الذي يكسر الهمة وهو الذي يثبط العزيمة ، كل فتن العلم تنكسر وكل محن العلم تذهب وتزول عند المعرفة بقدر العلم وبعلو مكانته ؛ ولذلك تجد طالب العلم منذ أن يخبط قدمه عارفا قدر العلم يستطيع أن يتأدب مع العالم ويتأدب مع طالب العلم ويتأدب مع الناس ويتأدب مع نفسه ويتأدب مع ربه ؛ ولذلك لا يستطيع شيء أن يشغله عن ذلك ، وما حرص الشيطان في تثبيط العبد مثل شغله، فتجد همته ضعيفة بتثبيط الشيطان ، فإن عجز الشيطان عن تثبيطه جاءه بالشغل ؛ ولذلك تجد بعض طلاب العلم يفتن في طلبه للعلم بالشغل، يشغل بشيء حتى في شيء لا يعنيه ، انظر إلى طالبي علم طالب يأتي ويجلس في الكلية وفي الدرس في المحاضرة وفي المسجد فتجده مصغيا منتبها يكتب القليل والكثير يستفيد، وطالب آخر يقول: لماذا يكون الدرس الساعة السابعة والنصف ؟ لماذا لا يكون الساعة الثامنة ؟ ولماذا يكون داخل المحاضرة لماذا لا يكون في(4/495)
الهواء الطلق ؟! ولماذا الشيخ أسلوبه كذا لماذا لا يكون كذا ؟! ولماذا لا يكون درسه في العطلة وغير العطلة ؟! فينشغل حتى يشغله الشيطان بما لا يعنيه ويتدخل حتى في أشياء لا تعنيه حتى -والعياذ بالله- يتردى فيغتاب العلماء ويستزلّ حتى تنكسر همته ويصبح مخذولا -والعياذ بالله- بسبب ذنبه ، تنشغل بما يعنيك وتقبل على هذا العلم صادقا لقد صحب أناس علماء كانوا بحالة حتى كان الواحد منهم في آخر عمره لا يستطيع أن يتلفظ الكلمة فصبروا حتى سمعوا كلام العلم وطلبوا وجدوا واجتهدوا فأخذوا العلم على كل أحوالهم واشتغلوا بما يعنيهم عما لا يعنيهم ، وزكت نفوسهم وسمت باستنفاذ الأوقات كلها في ما يرضي الله -- عز وجل -- ، فاسم بنفسك ، واصدق مع ربك ، وأقبل على العلم مجدا صادقا يبارك الله لك، ويفتح عليك من واسع فضله ، والله ذو الفضل العظيم .
نٍسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب ما يفعله بعد الحل
قال الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- : [ باب ما يفعله بعد الحل ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فقد ترجم الإمام المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة ، والتي تتعلق بالأفعال التي يسن ويشرع للمسلم أن يفعلها يوم النحر وأيام التشريق ولياليه ، وهذا ما يعبر عنه العلماء بما يفعل بعد الحل ، فيشمل ذلك المبيت بمنى ليالي التشريق ، ويشمل ذلك رمي الجمار في اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر واليوم الثالث عشر لمن تأخر، ثم كذلك يشتمل هذا الباب على أحكام طواف الوداع، وكيف يودع الإنسان، فهذا كله يجعله العلماء -رحمهم الله- في هذا الموضع .(4/496)
ومن فوائد هذا التقسيم : أنه يعين طالب العلم على ضبط المسائل، وحصر جملها في مواضع حتى يستطيع أن يتفرغ لكل موضع فيدرسه على حدة ، فهذا لاشك أنه يعين طالب العلم كثيرًا ومن هنا شرع المصنف -رحمه الله- ببيان السنة وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالمبيت بمنى ورمي الجمار .
قال رحمه الله : [ ثم يرجع إلى منى ولا يبيت إلا بها ] : ثم يرجع بعد أن يطوف طواف الإفاضة ويسعى سعي الحج إن لم يكن سعى من قبل إلى منى فيبيت بها . [يرجع إلى منى ] : سميت منى بهذا الاسم من كثرة ما يراق فيها من الدماء ، وقيل في سبب تسميتها أشياء أخر فيها أحاديث ضعيفة ومرويات ضعيفة والأقوى والأشبه أنها سميت بهذا الاسم مراعاة لما يُمْنى فيها من الدماء أي كثرة ما يراق فيها من الدماء من دماء الهدي الواجب أو المستحب . ومنى لها بداية ولها نهاية ، وهذه حدود مكانية ، فهي -أعني مِنَى- شعب بين جبلين، يكتنفها الجبلان : أحدهما ثبير والثاني الصانع أو الصائح كما يسمى الآن ، ويقال لثبير القابل هذان الجبلان هما حد منى من جهتهما . ما أقبل من الجبلين على منى فهو من منى ، وما أدبر فليس من منى ، وأما بالنسبة لحدها من طرفي الشِّعب فأولهما الحد من جهة مكة وهو جمرة العقبة. والصحيح أنّ الجمرة هي النهاية وما بعد الجمرة يعتبر خارجاً عن منى ، وقيل إن العقبة نفسها من منى. والصحيح أنها ليست من منى ، والسبب في ذلك أن الجمرة كانت في حِضْن الجبل الذي فيه العقبة، وهذا الجبل اختلف فيه والعقبة نفسها اختلف فيها هل هي من منى أو لا ؟
والصحيح أنها ليست من منى ولكن الجمرة نفسها فيما سامتها مباشرة وما دونه من جهة المسجد يعتبر من منى ، وذلك أن عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- كان يبعث رجاله يمنع من بات وراء جمرة العقبة ويأمرونه أن يرتحل إلى داخل منى فاعتبر العقبة وما وراءها خارجا عن منى .(4/497)
وأما بالنسبة لحدها من جهة مزدلفة فهو وادي مُحسّر، وضفة الوادي هي نهاية منى من جهة منى ، وضفّته الثانية نهاية مزدلفة من جهة مزدلفة ، والوادي فاصل بينهما وقدر الوادي قدر رَمْيَة الحجر.
وبالنسبة لمنى قيل – بالمقاييس المتأخرة- إن مساحتها في بطن الوادي تقارب من أربعة ملايين متر مربع، وأما بالنسبة لسفوح الجبال سفح الجبل الأيمن والأيسر فتقارب من مليوني متر مربع حتى يصبح الجميع ستة ملايين متر مربع هذا هو محل المبيت وهو مشعر منى المعتبر .
[ يرجع إلى منى فيبيت بها ] : بمعنى أنه لا يبقى بمكة ، وأنه ينبغي عليه أن يبيت بمنى ليلة الحادي عشر، وسيأتي إن شاء الله أن المبيت بمنى واجب من واجبات الحج ، والسبب في ذلك ورود النصوص الدالة على وجوبه . وأما قول المصنف يرجع إلى منى فيبيت بها ؛ تأسياً بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقد قدمنا أنه اختلف هل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلّى ظهر يوم العيد بمكة أو صلاه بمنى ؟ واختلفت روايات الصحابة : فجابر وعائشة –رضي الله عنهما- يثبتان أنه صلى الظهر بمكة ، وعبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- يقول أنه صلى الظهر بمنى ، وهي مسألة مشكلة عند العلماء -رحمهم الله- . لكن إن ثبت أنه صلى عليه الصلاة والسلام الظهر بمنى فيحرص على أن ينتهي من طواف الإفاضة ومن سعيه حتى يدرك صلاة الظهر بمنى؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
وأما العصر فكلهم متفقون على أنه صلى العصر بمنى يوم العيد -عليه الصلاة والسلام- وليست هناك أفعال بعد رميه لجمرة العقبة وإفاضته -صلوات الله وسلامه عليه- بمنى لما رجع إلى منى لم يفعل شيئاً غير أنه -عليه الصلاة والسلام- جلس واختلف في مسألة خطبة يوم النحر، لكن من حيث المشاعر من رمي أو غيره لم يفعل عليه الصلاة والسلام بمنى مشعرا واجبا بعد إفاضته -عليه الصلاة والسلام- .(4/498)
[ ثم يبيت بمنى ] : فلو أنه نزل ليطوف طواف الإفاضة وتأخر بسبب الزحام ولم يستطع أن يصل إلى منى إلا في وقت متأخر من الليل ، فلم يدرك أكثر الليل للمبيت ، فهذا إن كان معذورا وكان تأخيره لطواف الإفاضة لعذر فلا شيء عليه ؛ لأنه تأخر لركن فوت بسببه واجباً ، والتأخر للركن الذي يفوت الواجب لا يوجب الضمان ، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تأخر عروة بن مضرس عن المبيت بمزدلفة بسبب وقوفه عشية عرفة وأدرك الموقف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجاز له ذلك ولم يأمره بأن يضمن المبيت بمزدلفة وهذا استنبطه بعض العلماء -رحمهم الله- عند وجود العذر المؤثر مثل أن تقع بعض الحالات والظروف للركب أو يمرض فلا يستطيع أن يؤدي طواف الإفاضة صبيحة يوم العيد فيتأخر قيامه لطواف الإفاضة إلى ما بعد المغرب ثم ينزل ويحصل الزحام أو مثلا يخرج من مكة بعد أن انتهى من طواف الإفاضة لصلاة المغرب مثلا ثم يحصل الزحام فلا يدخل منى إلا بعد تقريبا منتصف الليل ولم يكن ممن يستطيع المشي حتى يدرك المبيت بمعنى أنه يتحقق فيه أنه عنده عذر فحينئذ اشتغل بركن وهو طواف الإفاضة وسعي الحج إذا كان تأخر بسبب السعي واشتغل بركن عن واجب فرخص فيه العلماء والأئمة طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- وأسقطوا عنه الضمان إذا أدرك ولو القليل من ليلة الحادي عشر ثم يبيت بها وإذا بات بها انتظر إذا أصبح حتى تزول الشمس .(4/499)
قال رحمه الله : [ فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات ] : فينتظر إلى زوال الشمس من اليوم الحادي عشر ولا يجوز له أن يبتدئ رمي الجمرات قبل زوال الشمس؛ لأنها عبادة مؤقتة بزمان مقصود شرعا، فلم يصح إيقاعها قبله، كصلاة الظهر إذا صلاها قبل زوال الشمس، فإنها عبادة مؤقتة؛ والدليل على التأقيت أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أجمعت الروايات عنه أنه ما رمى الجمرات الثلاث قبل زوال الشمس، لا في اليوم الحادي عشر ولا في اليوم الثاني عشر ولا في اليوم الثالث عشر، كل الروايات الصحيحة الثابتة متفقة على أنه عليه الصلاة والسلام في منسكه ما رمى الجمرات إلا بعد زوال الشمس، فينتظر إلى أن تزول الشمس، إما أن يسمع الأذان فحينئذ لا إشكال، أو تكون عنده ساعة يضبط بها الزوال فحينئذ لا إشكال يعتد بها، فيبتدئ الرمي رمي الجمرات قال رحمه الله : [ يرمي الجمرات ] الجمرات الثلاث في الثلاثة الأيام الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، الأولى من الجمرات الجمرة الصغرى وهي التي تلي مسجد الخيف، والثانية الجمرة الوسطى وهي التي بعدها، والثالثة جمرة العقبة وهي الأخيرة، فأصبح ترتيب الجمرات من جهة منى الأولى الصغرى ثم الوسطى ثم العقبة، ومن جهة مكة الأولى العقبة، ثم الوسطى، ثم الصغرى ، والسنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما حفظ في بعض مرويات الصحابة أنه ذهب إلى الجمرات في يوم الحادي عشر والثاني عشر ماشيا وكان ابن عمر يرمي ماشيا ويرجع ماشيا ، وهذا أفضل وأكمل أنه يخرج من منزله بمنى ويمشي إن تيسر له المشي، وإن لم يتيسر له المشي فيجوز له أن يركب ويذهب إلى الجمرات ثم يرميها ، ويستوي أن يرميها راكبا أو واقفا . المهم أنه يقع الرمي بعد الزوال ، فصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه ابتدأ بالصغرى قبل الوسطى والكبرى فقال : رحمه الله يرمي الجمرات .(4/500)
قال رحمه الله : [ فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات ] : كل جمرة من الثلاث بسبع حصيات : أجمع العلماء -رحمهم الله- على أن السنة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حصى الجمرات في يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر أنه رمى كل جمرة بسبع حصيات ، وأن لكل يوم إحدى وعشرين حصاة، لكل جمرة منها سبع حصيات ، هذه هي السنة المحفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يزاد عليها ولا ينقص منها ؛ لأنها عبادة توقيفية ، ولم يلتقط عليه الصلاة والسلام هذه الإحدى والعشرين حصاة من غير منى ، بل كان يلتقطها عليه الصلاة والسلام من منى ، وما يفعله بعض العوام كما نبهنا بالأمس من أنهم يلتقطون كل الجمرات بمزدلفة فهذا لا أصل له ، إنما التقط عليه الصلاة والسلام جمرة العقبة وحدها وهي سبع حصيات . فقال للفضل بن عباس رضي الله عنهما : (( القط لي سبع حصيات )) .(5/1)
قال رحمه الله : [ يبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة ] : يبتدئ بالجمرة الصغرى والصحيح أن الترتيب معتبر في رمي الجمرات، فلابد أن يرميها مرتّبة، فلو أنه رمى الكبرى وهي العقبة ثم الوسطى ثم الصغرى صح رمي الصغرى ولزمه أن يعود فيرمي الوسطى ثم يرمي الكبرى ، صح رمي الصغرى ؛ لأنه معتد به ، ولم يصح رمي الوسطى ؛ لأنها لا تصح إلا بعد الصغرى ولا رمي جمرة العقبة ؛ لأنها لا تصح إلا بعدهما -بعد الصغرى والوسطى- ، فلابد من الترتيب ، وعلى هذا يبدأ بالصغرى التي تلي مسجد الخيف، فيستقبل القبلة على ما نص عليه طائفة من العلماء أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رماها من جهة المسيل وأسهل عليه الصلاة والسلام إن تيسرت له هذه الجهة وإن لم يتيسر له هذه الجهة فمن أي موضع في الجمرة الصغرى يجزيه الرمي؛ لأن المقصود أن يرمي؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يلزم الصحابة من موضع معين، إنما الأفضل والأكمل هذا أن يرمي بسبع حصيات ، مثل حصى الخذف وهو الحصى الذي يمكن أن يضعه الإنسان بين السبابة والإبهام فيقذف ويحذف ويرمي به، فخرج بهذا الحصى الكبيرة، والسؤال : لو أنه أخذ حجرا كبيرا ورمى به الجمار هل يجزيه ؟
وجهان للعلماء :
قال بعض العلماء : لا يجزيه . وقال بعضهم : يجزيه ؛ لأنه رمى وأساء بمخالفة السنة .(5/2)
والأقوى أنه يعيد الرمي؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( بمثل هذا فارموا وإياكم والغلو )) فجعل الزائد غلوا في الدين، والغلو ليس من الدين، وإذا كان ليس من الدين لم يعتد به، وعلى هذا فإنه ليس كالأجزاء المجزئة في مسائل الغلو التي يعتد بها بقدر الواجب ويلغى ما زاد عنه، فالحصى كل لا يتجزأ إذا كانت كبيرا ، ثم إنه خالف رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأحد الأوجه عند العلماء في هذه المسألة أن إسقاط الرمي وعدم الاعتداد به مبني على قاعدة (( أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه )) ، وحينئذ يحكم بعدم صحة رميه من هذا الوجه .(5/3)
قال رحمه الله : [ ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة ] : فيرميها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فحينئذ في الرمي سنتان : فعلية ، وقولية . فالفعلية أن يرمي ويخذف الحصاة ، والعبرة أن يوقعها في الحوض بغض النظر عن ضرب الشاخص وعدمه، فإذا وقعت في الحوض أجزأه ، وأن يكون وقوعها بفعله ، وعلى هذا فإذا حصل الرمي على هذه الصفة صح الفعل ، وأما القول فهو أن يكبر مع كل حصاة ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وإذا أتم السبع فإنه يبني على غالب ظنه واليقين. اليقين أن يأخذ سبع حصيات فيرميها ويعدها ويحصيها وليس عنده أي شك ، وغلبة الظن أن يبني على غالب ظنه بالتقدير، فلو شك هل وقعت الحصاة في الحوض أو خارجة عن الحوض بنى على أنها لم تقع في الحوض حتى يجزم أنها وقعت أو يغلب على ظنه أنها وقعت ، فلو رمى رميا يغلب على ظنه أن هذا الرمي يصادف الحوض أجزأه وإن لم ير بعينه حصاته تدخل في الحوض ؛ لأن هذا صعب ومتعذر أن يراها بين مئات الحصيات خاصة في وقت الزحام ، فإذاً يرمي ويبني على غالب الظن واليقين، فإن استيقن كأن يأتي عند طرف الحوض ثم يرمي فيستيقن من وقوعها في الحوض فلا إشكال، أو غالب ظن كأن يكون بعيدا فيرمي ويقدر ويرى أن هذا الرمي تقع الحصاة به في داخل الحوض، هذان الأمران لا إشكال فيهما، لكنه لو رمى ثم تحرك مع الزحام أثناء رميه، فشك هل جاء في الحوض أو لم تأت؟ فيبني على أنها لم تأت حتى يتأكد من أنها قد أصابت الحوض ؛ إذاً عند الشك يلغي الوقوع وعدمه ويعتد بأنها لم تقع حتى يستيقن أو يغلب على ظنه ، وإن شك هل رمى سبع حصيات أو ست حصيات ؟ بنى على ستّ ؛ لأن اليقين أنه رمى ست حصيات ، ومطالب شرعا أن يبرئ ذمّته بسبع فذمته مشغولة ولا ينفك من هذا الدَّين والحق لله -- عز وجل -- إلا بيقين وغالب ظن فلابد أن يرمي السابعة حتى يبرئ ذمته .(5/4)
قال رحمه الله : [ ثم يتقدم فيقف فيدعو الله ] : ثم يتقدم بعد انتهائه من الرمي ، وعليه أن يتّقيَ الله أثناء الرمي، فلا يزاحم ولا يؤذي ضعفة المسلمين، وعليه أن يتخلّق بأخلاق الإسلام، فلا يفعل الأمور التي تشينه في دينه ، وخاصة في هذه المواطن المشرّفة المعظمة ، فإن منى من الحرم ، ومن أراد فيها الحرام فإن الله يذيقه عذابا أليما -نسأل الله السلامة والعافية- { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } فليتّقِ الله في سمعه، وليتقّ الله في بصره، وليتقِ في حدود الله ومحارم الله، ويتجنب مخالطة النساء، والدخول بين عورات المسلمين، ولا يؤذي ضعفة المسلمين وكبارهم، ولا يتعرض لفتن الناس، خاصة إذا كان فيه وسامة أو غير ذلك، وننبه على ذلك؛ لأنها منكرات انتشرت بين الناس، فالمسلم جاء من أجل أن يصيب الحسنات، وأن يضع ما على ظهره من بلائها وعنائها، فالشقي من حُرم، فمن الشقاء أن يستخف بحدود الله -- عز وجل -- يستخف بمحارم الله -- عز وجل -- في مقام هو أرجى لرحمة الله -- عز وجل -- ، فإذا انتهى من الرمي، السنة أن يأخذ ذات اليسار قليلا يبتعد عن الرمي حتى لا يؤذي الرامي ولا يضيّق عليهم يبتعد عن المرمى وعن الجمرة الصغرى، ويُسْهل بمعنى يأخذ إلى المسيل وهو مجرى الوادي، فهذا يقتضي أن يأخذ يسارا قليلا كما ثبت في السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وكما قال عبدالله بن مسعود : (( من هنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة )) يقصد بذلك جمرة العقبة وكذلك قال حينما رمى وأسهل -- رضي الله عنه -- وأسند ذلك إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال بعض العلماء : من هنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة خص سورة البقرة لأنها لا تستطيعها البطلة، وقيل لأن البقرة فيها أكثر مناسك الحج، وهذا هو الأشبه، ولذلك قالوا في إحدى الروايات في السير أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما كان يوم حنين قال للعباس -وفر عنه الصحابة لأن النبي(5/5)
-- صلى الله عليه وسلم --بوغت بهجوم هوازن وكان معه ما يقارب العشرة الآلاف وفجأة انكشفوا عنه -عليه الصلاة والسلام- لأن الهجوم كان على غبش الليل وعند طلوع الفجر، وكانت هوازن من أقوى العرب في الرمي، وكان الرجل منهم إذا رمى السهم قل أن يخطئ، فَكَمَنت للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثم أمطروا الصحابة بالسهام فجأة على آخر الليل، وهذا يروع الجيش وخاصة إذا بوغت الجيش بالعدو يتفرّق، فتفرّق الصحابة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- -الشاهد- فقال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- للعباس : (( ادع لي أصحاب الشجرة وفي بعض الروايات في السير قال : يا أهل الشجرة يا أهل سورة البقرة ، فلما قال يا أهل سورة البقرة ؛ لأن الله يقول فيها : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } فقالوا إن اختيار هذه السور لمعان فيها ، ومن هنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة فراعى هذا المعنى .
قال رحمه الله : [ ثم يتقدم فيقف فيدعو الله ] : ثم يتقدم عن موضع الرمي يتقدم قليلا إذا كان الزحام قليلا أما إذا كان الزحام كثيرا يتقدم أكثر حتى لا يؤذي الرامين فمن يريد الرمي محتاج لهذا المكان لواجب، والواقف للدعاء يحتاج إلى هذا المكان لسنّة، ولاشك أن الواجب مقدم على السنة، فبعض الإخوة -أصلحهم الله- يأتون ويقفون للرمي قريبا من الحوض، ويؤذون من يرمي، فالمنبغي لهم أن يبتعدوا وأن يوسعوا على الناس؛ لأنه قد تأتي الرفقة فيها الضعفة وفيها النساء وفيها أيا ما كان حتى ولو كان فيها الشاب الجلد فلا أن يضيق على الناس في موضع الرمي .(5/6)
قال رحمه الله : [ فيقف فيدعو الله ] : فيقف فيدعو الله -- عز وجل -- ؛ وقد جاء عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه وقف ودعا كثيرا . يقال إن هذا الموضع من المواضع التي ترجى فيها الإجابة في الحج ، وهي على الصفا ، وعشية عرفة ، وفي المشعر الحرام ، وفي منى بعد رمي جمرة الصغرى والوسطى دون العقبة ، فهذه المواضع يتحرى فيها الدعاء ، وكان مما أثر عن أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن منهم من كان يقول : اللهم اجعله حجا مبرورا ، وسعيا مشكورا ، وذنبا مغفورا ، فكانوا يسأل الله - عز وجل - القبول والصفح والعفو والمغفرة، فيدعو الله - عز وجل - ويسأله وجاء في الرواية أن ابن مسعود أطال الوقوف فيطيل الوقوف في الدعاء .
قال رحمه الله : [ ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك ] : ثم يأتي الوسطى فيرميها كما تقدم في مسائل الرمي .(5/7)
قال رحمه الله : [ ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها ] : إذا رمى الوسطى وقف بعدها أيضا ، ومثل ما ذكرنا في الصغرى ، ثم يمضي إلى جمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات ؛ إذًا لابد من أن يكون الرمي بسبع حصيات، وأن يراعي الترتيب في هذه الجمار، وأن يراعي الوقت المعتبر، فيكون رميه في الوقت والزمان المعتبر، ويبتدئ الرمي كما ذكرنا من زوال الشمس يوم القر وهو يوم الحادي عشر وكذلك يوم النَفْر الأول وهو يوم الثاني عشر، وكذلك في يوم النَفْر الثاني هو الثالث عشر، فأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم العيد: الحادي عشر ويسمى يوم القر؛ لأن الحجاج يستقرون بمنى، والثاني عشر ويسمى يوم النفر الأول، والثالث عشر ويسمى يوم النفر الثاني، ففي هذه الأيام كلها وقت الرمي من الزوال كما ذكرنا، ينتهي وقت الرمي لليوم الحادي عشر من طلوع الشمس من صبيحة الثاني عشر، على أصح قولي العلماء، ولذلك ينتهي رمي جمرة العقبة بطلوع فجر الحادي عشر، وينتهي رمي الحادي عشر بطلوع فجر الثاني عشر؛ لأن كل ليلة انسحبت لما بعدها، قالوا لأن عرفة أصبحت عشيتها بعد، فانسحبت إلى ليلة العيد، وإلا الأصل أن كل يوم ليلتها قبله، إلا في يوم عرفة جعلت عشيته بعد، فلما جعلت عشية عرفة بعد صار العيد أيضا يوم النحر عشيته إلى طلوع الفجر من الحادي عشر، فينتهي رمي جمرة العقبة بطلوع الفجر من الحادي عشر، فكذلك في الثاني عشر وينتهي في الثالث عشر من مغيب الشمس؛ لأنه نهاية المناسك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( أيام منى )) والأيام تنتهي بمغيب الشمس.(5/8)
بالنسبة للرمي في الليل حجته ما جاء عن صفية امرأة عبدالله بن عمر -رضي الله عنها وعنه- لما نفست ليلة العيد، فإنها نفست بمزدلفة، وتأخرت في النفاس ولم تأت منى إلا بعد غروب الشمس، فرمت جمرة العقبة بعد غروب الشمس، فأجاز لها ذلك ابن عمر ولم يأمرها بشيء؛ ولذلك قالوا إن رمي جمرة العقبة يستمر إلى طلوع الفجر، فأخذ منه طائفة من العلماء أن الرمي في الحادي عشر ينتهي بطلوع فجر الثاني عشر، كما أنه يوم النحر ينتهي رمي جمرة العقبة بطلوع الفجر من الحادي عشر، هذا بالنسبة للرمي يعتد به بهذه الصفات أنه يراعي فيه الترتيب ويراعي فيه الزمان وأن يكون الرمي بالحصى فلا يرمي بغير الحصى، فلو رمى بالخشب لم يجزه وبالحديد وبالنحاس وبالرصاص والنيكل كلها لا يجزيه ؛ لأنها ليست من الحصى، وخفف بعض العلماء في الطين اليابس الشديد كالحجر إذا كان مكورا وفي الآجر وهو الطين المسخن بالنار إذا كان صلبا كما في الطوب الأحمر هذا المكسر فتاته أجاز بعض العلماء الرمي به والصحيح أنه لابد من الرمي بالحصى؛ لأنه هو الأصل ولم يرد ما يدل على غيره فبقي على هذا الأصل؛ ولأن رمي إبراهيم كان بالحصى، وعليه فلابد من مراعاة هذه الأمور في الرمي .
قال رحمه الله : [ ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها ] : ولا يقف بعد جمرة العقبة كما ذكرنا، وأصبح الضابط عند العلماء في الوقوف بعد الرمي أن يكون بعد الوقوف رمي ، فإذا كان بعد الوقوف رمي ؛ فإنه يصح الوقوف ، وأما إذا كان لا رمي بعده ؛ فإنه لا يقف ، فجمرة العقبة ليس بعدها شيء يرمى ، وعلى هذا فإنه لا يقف بعد رميه لهذه الجمرة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يقف عندها لا يوم العيد ولا أيام التشريق .
قال رحمه الله : [ ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك ] : ثم يرمي في اليوم الثاني على الصفة التي ذكرناها .(5/9)
قال رحمه الله : [ فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب ] : بالنسبة للرمي ينبغي للمسلم أن يحرص على السنة ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- واتباع الوارد ، ومن ذلك أن يكون رميه لجمرة العقبة يوم العيد، وأن يكون ضحى، وكذلك أيضا بالنسبة لرمي الجمرات البقية في أيام التشريق أن يكون رميه بعد الزوال، والأفضل أن يكون قريباً من الزوال لأن جابراً قال ثم انتظر حتى زالت الشمس رمى جمرة العقبة، ومن هنا قال بعض العلماء أنه يرميها قبل أن يصلي الظهر؛ لأنها مخصوصة لذلك اليوم مبادرة في الامتثال وفضلوا ذلك، بمعنى أنه يبادر ويعجل وهذا وقت فضيلة أن يكون الرمي ما بين الزوال إلى صلاة العصر، ثم يستمر الجواز إلى طلوع الفجر كما ذكرنا، فيراعي السنة والتأسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ما أمكن .
قال رحمه الله : [ فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب ] : فإن أحب أن يتعجل في يومين وهما الثاني عشر والثالث عشر فيخرج بعد رميه للثاني عشر؛ لقوله تعالى : { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى } فهناك أمران : الأمر الأول التعجل، والأمر الثاني التقوى.(5/10)
فأما بالنسبة للتعجل فحقيقته أن يخرج من منى برحله ومتاعه قبل غروب شمس اليوم الثاني عشر، فإذا استتم الخروج من حدود منى في اليوم الثاني عشر قبل غروب الشمس فإنه متعجل، وعلى هذا لا يجب عليه أن يبيت ليلة الثالث عشر، وأما أن يخرج لكي تغيب الشمس ثم يعود ويأخذ رحله ويأخذ متاعه ويحتال على الشرع فليس بمتعجل حقيقة؛لأن الله قال : { تعجل } ولا يكون متعجلا إلا إذا أتم أغراضه ومتاعه وخرج حقيقة ؛ لأن الإنسان إذا بقي له غرض لم يكن متعجلا ، لو خرج ثم رجع لم يكن أصلا خارجاً، إذا خرج الإنسان عن موضع ولا زال متاعه ورحله في الموضع فإنه لم يخرج حقيقة، وإذا لم يخرج حقيقة لم يصدق عليه أنه تعجل ولم يصدق عليه أنه تحقق فيه شرط الشرع ، فالبعض يظن أن تغيب الشمس وهو خارج منى ، وهذا ليس مقصود العلماء وليس هو ظاهر النص ، النص يقتضي أن يحصل منه صفة التعجيل، ولا يمكن التعجيل إلا بالخروج، ولا يتحقق هذا الخروج لمن بقي له متاعه وبقي له غرضه فليس بمتعجل، وعلى هذا فلابد أن يستتم الخروج حتى يصدق عليه أنه فعلا تعجل، وإذا حصل منه التعجل بالخروج كلياً من منى فإنه يحكم بسقوط المبيت ورمي الثالث عشر، كذلك لو أنه ركب سيارته وازدحم الطريق فإنه إذا غابت الشمس ولم يخرج فليس بمتعجل؛ لأن الله يقول: { تعجل} والذي غابت عليه الشمس ولو كان على دابته ولو كان على سيارته ولو كان المتاع على ظهره فإنه لم يتعجل؛ ولذلك لم يفتِ أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولا مَنْ بعدهم من السلف الصالح من القرون المفضلة وغيرهم أن من حمل المتاع على ظهره ثم ازدحم قبل خروجه عند جمرة العقبة مع الناس أنه يجوز له أن يخرج؛ لأنه قد تعجل بوضع المتاع على ظهره . هناك أمران ينبغي التنبه لهما في فقه هذه المسألة ، هناك شيء يسمى النية والقصد ، وهناك شيء يسمى الفعل الظاهر. الأول متعلق بالقلب ، والثاني متعلق بالظاهر، فالذي يريد أن يتعجل لابد فيه من الأمرين: أن(5/11)
يخرج قاصدا للتعجل، وأن يكون معه رحله ومعه متاعه، وعلى هذا فالذي يكون في داخل منى قد خرج بسيارته وعليها متاعه ثم غابت عليه الشمس في الزحام ولم يخرج من منى خرج بنيته ولم يخرج بفعله ، والشرع يصفه بالتعجل، وهذه صفة خاصة تقتضي أنه استنفذ الأسباب والوسائل لكي يخرج من منى في الوقت المعتبر، وعلى هذا لا يكفي أن ننظر إلى الباطن ونلغي الظاهر. فالظاهر أنه في منى ، ولم يتعجل حقيقة ، والذي عليه ضوابط العلماء في التعجل أنه لابد أن يخرج من منى، ولم يُلتفت إلى قضية العذر، وإلا لو كان العذر أنه في الزحام ليس بمتعجل لكان الذي يكون مريضا ولا يستطيع أن يخرج ثم يستطيع بعد المغرب أنه يجوز له أن يتعجل ونحو ذلك من الأعذار والذي يَنْسى أن يخرج ثم يتذكر بعد غروب الشمس فليخرج لأنه عنده عذر؛ إذا ينفتح باب لا يمكن إغلاقه، وعلى هذا لابد من الرجوع إلى الصفة الواردة في القرآن ، عليك أن تتأمل أنه تعجل وهذا يقتضي أنه استنفذ الأسباب والوسائل فمن وجدنا هذه الصفة فيه التي نص عليها الكتاب ونص الله عليها في كتابه فإننا نقول: إنه متعجل، ومن وجدناه بمنى داخل منى برحله ولو كان على سيارته ولو كان عليها متاعه ولو كان معه الركب فإنه لم يتعجل حقيقة .(5/12)
قال رحمه الله : [ فإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت بمنى ] : هذا نصوص العلماء لزمه المبيت لم يفرقوا بين المعذور وغير المعذور، لم يفرقوا بين كونه جمع رحله ولم يجمع رحله ، إنما قالوا إذا غربت عليه الشمس ولم يخرج من منى وجب عليه أن يبيت، وعلى هذا لا مجال للاجتهاد مع ظاهر النص الذي ذكرناه، أنه لابد أن يتعجل حقيقة ، فإذا خرج وحصل منه التعجل حقيقة سقط عنه أمران : الأمر الأول مبيت ليلة الثالث عشر، والثاني الرمي لذلك اليوم، وهو رمي الثلاث الجمرات ، والنبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يتعجل وإنما تأخر، ولذلك قالوا أخذ في منسكه بالأكمل، واختلف العلماء على وجهين : هل الأخذ بالرخصة أفضل أو أنه يأخذ بفعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؟ وإذا تبين هذا فالتعجل رخصة من الله -- عز وجل -- إذا تحقق فيه الشرط الأول وهو التعجل فلا إشكال، يبقى الشرط الثاني وهو قوله تعالى : { لمن اتقى } والتقوى قالوا : أن يخرج من منى متعجلا لا يقصد السآمة ولا يقصد الكراهية للمبيت أي متقيا لله -- عز وجل -- باتباع الرخصة والسماحة واليسر وليس نفورا من الطاعة -والعياذ بالله - وكراهية لها كما يفعله البعض نسأل الله السلامة والعافية فإنه يتعجل ؛ لأنه ضائق ومتضائق من حاله في الحج ، والمحروم من حرم ، فالحج لاشك أنه عبادة تنشرح فيها الصدور وتطمئن فيها القلوب والمؤمن ولي الله المتقي يسعد وهو بين إخوانه في ذكر الله وشكره، ويسعد حينما يكون بين وفود الله والضيوف على الله -- عز وجل -- كما بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن الغازي والحاج والمعتمر وفد الله ، فإذا خرج بالنية الصالحة وهي أنه يريد رخصة الله -- عز وجل -- وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم برخص الله التي رخص لكم )) ويريد السعة والتيسير من الله ويريد سماحة الإسلام ويسر الإسلام فلا إشكال، أما أن يخرج كارها -والعياذ بالله- للمبيت، كارها للرمي به الملل والسآمة(5/13)
فهذا لم يتق الله -- عز وجل -- إذا لابد من الأمرين : أن يتعجل وأن يكون تعجله على التقوى لا على غيرها .
قال رحمه الله : [ فإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت بمنى والرمي من غد ] : فإن غربت الشمس وهو بمنى هذا اليوم يقع الرمي فيه والتعجل قبل غروب الشمس ، والرمي لابد فيه من بعد الزوال، وهذا مذهب جمهور العلماء -رحمهم الله- أن الرمي لا يصح قبل الزوال حتى في يوم النفر، وجاء حديث ضعيف وأثر عن ابن عباس –رضي الله عنهما - أيضا وفيه كلام أنه قال : (( إذا كان يوم النفر وانتفخ النهار فارم وامض )) فقوله : (( إذا كان انتفخ النهار )) أخذ منه بعض الفقهاء أن يوم التعجل يجوز الرمي فيه قبل الزوال، وهذا مذهب ضعيف:
أولا : لأن السنة الصحيحة في حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أثبتت أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ما رمى الجمرات كلها إلا بعد زوال الشمس.(5/14)
وأما ثانيا : فإن سند الحديث الذي احتجوا به ضعيف، ولا يقوى على معارضة ما هو صحيح ولا يثبت بمثله الحكم، فإن قيل بتحسينه فإن الجواب عنه بأن هذا الذي استدلوا به حجة لنا لا علينا ؛ لأن قوله: (( انتفخ النهار)) العرب تقول: انتفخ الشيء إذا قارب الأكثر؛ لأن الشيء فيه نصفه الذي يفصل يعني إذا كان ما دون النصف فهو قليل، وما كان فوق النصف فهو كثير، وما كان نصفا تساوى فيه الأمران، فمتى يكون الترجح يكون عند مجاوزة النصف، والعرب تستخدم أساليب كثيرة، فإذا جاءت في شيء تريد أكمله وأكثره جاءت بصفة تقتضي الزيادة. فقوله (( انتفخ النهار )) لم يقل إذا طلع النهار فلو كان المراد منه بداية النهار لقال إذا طلع النهار لكن قال إذا انتفخ ولا ينتفخ إلا إذا كان امتلاؤه بحجم معتبر، والحجم المعتبر أن يستتم أو يكون قريبا من التمام بمجاوزة النصف؛ وعلى هذا يكون انتفاخ النهار حينما يجاوز شطره وهو منتصف اليوم، وهذا هو الذي جاءت به السنة، وحينئذ ما جاء من الآثار محتملة للوجهين : الوجه الذي يعارض السنة المرفوعة ، والوجه الذي لا يعارض ، وجب صرفه على الوجه الذي لا يعارض ؛ وعليه فقد صحت السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بأنه رمى بعد زوال الشمس فلا وجه لمعارضتها بما هو أضعف .(5/15)
ثانيا : النظر الصحيح ، فإن رمي جمرة العقبة عبادة مؤقتة ، ولذلك كل العلماء حتى بعض السلف الذين يقول بجواز الرمي قبل الزوال لو سألناهم عن الرمي رمي الجمرة قبل طلوع النهار؟ قالوا : ما يجوز . نقول لماذا ؟ قالوا لأنها عبادة مؤقتة ، نقول : إذا تسلمون أنها عبادة مؤقتة . يقولون : نعم نقول هذه العبادة المؤقتة لا يجوز فعلها قبل الزوال كما لا يجوز فعل صلاة الظهر قبل الزوال، كما أُقتت صلاة الظهر بالزوال أقت رمي الجمار من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالزوال؛ لأنه لا معنى أن يعطل مائة ألف نفس معه عليه الصلاة والسلام ويحبسهم نصف يوم كامل لكي يزدحموا في نصف نهار وهم مائة ألف أحوج ما يكونون أن يرموا من قبل الزوال لا معنى لذلك إلا أن نصف النهار معتبر، ثم إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في اليوم الثاني عشر وهو يعلم أن الناس تتعجل، وأن لهم رخصة في التعجل لم يرم في ذلك اليوم إلا بعد منتصف النهار، ما معنى هذا كله ؟! أما مسألة موت الناس في الزحام فهذه مسألة أعطيت أكبر من حجمها أولا أن هذه الملايين التي تحضر وهي في حفظ الله ورحمته وتيسيره ومنه وكرمه تعيش هذه الأيام والأجواء الروحانية فتجدهم في نعمة وفي رخاء وفي ذكر وفي شكر، يتوب المذنبون ويصلح الفاسدون ويقبل المدبرون، فتتغير أحوالهم، حتى إن العصاة المذنبين الذين أتعبوا مجتمعاتهم وأقلقوا أهليهم وذويهم وأقلقوا الناس تصلح أحوالهم في هذه المنازل الشريفة وفي هذه العبادة العظيمة كل مآثر الإسلام في هذه لا يلتفت إليها ، بمجرد ما يموت حاج أو حاجين تجد أعداء الإسلام يصيحون في الشرق والغرب، أمن شفقتهم على حجاج بيت الله ؟! كذبوا . هل هم من رحمتهم لحجاج بيت الله ؟! إنما المراد التشويه والمراد الحسد على هذه النعمة التي أنعم الله -- عز وجل -- بها على المسلمين وأنعم بها على هذا البلد المبارك في رعاية حجاج بيت الله والقيام عليهم ، لا يلتفتون إلا للشيء(5/16)
الذي يجدون فيه مطعنا في الإسلام والمسلمين، فتجدهم كالذباب لا يسقطون إلا على القذر، ثم أمر عجيب تجدهم يفعلون في مواسمهم كما نقول في مبارياتهم ومشاهدهم يموت مئات الأنفس من السكارى ومن غيرهم لا أحد يتكلم ولا أحد يشوش ولا أحد يرجف ، لكن إذا جاء هؤلاء العباد وجاءوا في طاعتهم وفي قربتهم لله -- عز وجل -- التي يتمنى الإنسان أن تحسن خاتمته يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا )) . قال العلماء : موت الإنسان في الحج من علامة حسن الخاتمة . فالشاهد من هذا هذا كله لا يلتفت إليه فهم يموتون في السحيق وفي البلاء وفي الأمور التي تُشين -والعياذ بالله- هذه لا يشوه لكن أن يؤتى بعشرة بعشرين بمائة من بين مليونين نسبة لا يلتفت إليه، وإذا بالدنيا تقوم وتقعد ، على الأعداء أن يقوموا ويقعدوا لكن أن يأتي من طلبة العلم، وأن يأتي من يتتبع الرخص لكي يقول إن هذا سببه كذا وكذا ويذهب يتتبع الرخص، لا. اتركوا الرمي دعونا نكون نجعل للناس توسعة ، لماذا نضيق على الناس؟! لماذا نأمر الناس بالرمي ؟! يقول إن موت الناس عند الجمرات سببه أن نفتي الناس بالرمي بعد الزوال. يا سبحان الله ! أكانت السنة سببا في قتل الناس. لماذا ماتوا الآن وما ماتوا من قبل ؟! ولماذا حصل هذا في هذه السنة ولم يحصل في السنوات قبلها ؟! العبادة لا تضر ولا تؤذي ولم تكن سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهديه شرا على الناس أبدا ، ونعتقد اعتقاداً جازماً لا شك فيه ولا مرية أن الله بعث نبيه عليه الصلاة والسلام رحمة للعالمين ، وأنه لم يبعثه عذابا على العباد ، زهناك فرق بين العبادة التي سنتها الشريعة وبين أفعال الناس وتصرفات الناس ، ولذلك ما يحصل حقيقته ليس في توقيت الفقهاء ولا في فتاوى العلماء ولا في مسائل فقهية حقيقته في سلوكيات الناس وتصرفات الناس وحينئذ ينبغي أن تعالج هذه السلوكيات، وأن تعالج(5/17)
هذه التصرفات، حتى إني في العام الماضي وجدت الناس يجلسون عند الجمرات، منهم من ينام، ومنهم من يفترش الأرض، مع كل ما بذل من الوسائل، وهذا لا نقول إنه في تقصير نرجو من الله أنه فيه خير كثير، بذلته الدولة وبذله من يقوم على الحج، كنا نعاني الأمرين حينما كان الرجل يذهب إلى رمي الجمرات فيجد الناس نائما تحت الجسر، وكلكم رأى هذا من ذهب إلى الحج، فلا يجد طريقا إلا للواحد والاثنين، وهذا موضع رمي، فتجدهم يقتتلون ويدعس بعضهم بعضا ولربما يكون من النساء والفتن في طريق الإنسان لعباده، حتى أراد الله وأزيلت هذه البلية، فجاؤوا وافترشوا جوار الجمرات قبل الجمرات ويمين الجمرات ويسار الجمرات، حتى إلى عهد قريب في العام الماضي مكثت ما بين جمرة العقبة إلى أن أصل إلى أول الجمرات لغرض من بعد المغرب إلى بعد العشاء بنصف ساعة ، قرابة الساعتين من آخر الجمرات؛ لأن الطريق لا يمكن أن يسير فيه إلا واحد أو اثنين، وهؤلاء نائمون ويدفعون الناس. تصرفات الناس هي المؤذية، ويتركون خيامهم ومنازلهم التي يسرت لهم وسهلت لهم وفيها وسائل الراحة وفيها وسائل الاستجمام لكي لا يجدوا إلا هذا المكان، ولا يجدوا إلا هذا المجلس؛ إذا تصرفات الناس، علينا أن نعي الأمور بحقيقتها، ثم يأتي من يقول لا هذا سببه ضيق الحوض نوسع الحوض، سببه ضيق الوقت نوسع الوقت، سببه فتاوى العلماء إذا نبحث عمن يرخص، هذا ليس بعلاج المشكلة ، المشكلة جاءت من تصرفات الناس، فرق بين الخطأ بسبب العبادة وحاشا أن تجد في دين الله وشرع الله الذي وسع الله به على عباده خللا أبدا { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } ما أوحى إلى نبيه عليه الصلاة والسلام ولا سن له إلا الصدق والعدل ولا بعثه إلا رحمة للعالمين؛ فإذاً معالجة هذه المشاكل توجيه الحجاج الذين يأتون إلى الحج، يوجهون من ديارهم حتى إن بعض الجنسيات تعتني بهذه المسألة فتجدهم من أسلم الناس في الحج، كذلك أيضا من الأسباب حينما(5/18)
يرتبط الناس بعضهم ببعض عند رمي الجمرات، فتجد الثلاثمائة والأربعمائة يأتون مع بعضهم، ويتماسكون مع بعض فيأتي هذا الكم الهائل لكي يزحف كل من أمامه، وكأن المسألة قتال، وكأنها معركة وكأنهم قادمون إلى معركة ولاشك أن هذا سيضر بالناس، سيسقط الضعيف ، بل وسيسقط القوي ، لأن القوي إذا واجهه اثنان أو ثلاثة أو أربعة الله أمر بمصابرة اثنين ما بالك إذا جاء ثلاثمائة مع بعضهم ! فإذا لا بد أن ننظر إلى تصرفات الناس وأعمال الناس. الخلل ليس في العبادة ، الخلل من هذه السلوكيات ، حينما يأتي العشرون والثلاثون ويحاطون بأناس أقوياء في بنيتهم كأنهم جاءوا من أجل طرد الناس عن هذه الرفقة هذا لا يجوز ، هذه السلوكيات هي التي تُعالج ، وهذه التصرفات من الناس هي التي ينبغي النظر فيها ، وعلى هؤلاء الذين يأتون إلى الحج أن تعتني بلدانهم بتوجيههم ، وأن تعتني بتربيتهم بآداب الإسلام ، وأن تعرفهم حقوق المسلمين قبل أن يأتوا ، ولاشك أنه أحسنت بعض الدول حينما تصنع بعض الدورات لحجّاجها قبل أن يأتوا إلى الحج حتى إنه في بعض الأحيان يعلموهم كيف يطوفون كيف يسعون، ويثقفون روحيا ، فلو أن كل بلد إسلامي يكون فيه نخبة من أهل العلم ويعتني كل بلد إسلامي وينبه على البلدان أنها تثقف شعوبها وحجاجها لتلافى الناس كثيرا من هذا الخلل ، ثم إذا قمنا بذلك قمنا بما فرض الله علينا ؛ لأن هذا هو الواجب في المسلم ، وإذا كان الحاج بهذه الطريقة فقلّ أن تجد سلوكا خاطئا ، وقل أن تجد العبادة فيها ضرر على الناس .(5/19)
الأمر الأخير : أن هذا أمر معروف ؛ لأن من طبيعة وسنة الله - عز وجل - أن مثل هذه الاجتماعات لا تخلو من وجود ضرر ، ولذلك ينبغي أن لا نتخذ من هذا الضرر السني الكوني طريقة لتغيير شرع الله ، والعبث بالعبادات التوقيفية ، والعبث بالأماكن المحددة ، والعبادات المؤقتة ، بل ينبغي لنا لزوم الأصل، هذا ما أردنا بيانه لعموم البلوى به ؛ خاصة بعد أن وجدنا بعض طلاب العلم من يثرّب على أهل العلم وعلى كبار العلماء وبعضهم ينتقصهم وبعض الكتاب يحاول أن يجعل أخطاء الناس سببها الفتاوى ، وهذا خلط بين القضايا ، وهو صنيع من لا ينصف ، بل علينا أن نتأمل الأخطاء بأسبابها ، ونعالج هذه الأسباب ، وأن نفرق بين شرع الله وبين تطبيق شرع الله ، وهذا هو الذي أردنا أن ننبه عليه لعموم البلوى به .
قال رحمه الله : [ لزمه المبيت بمنى والرمي من غد ] : إذا لم يتعجل لزمه المبيت ليلة الثالث عشر والرمي الأمران ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعجل فبات ثم رمى الجمار ثم نفر صلوات الله وسلامه عليه النفر الثاني في اليوم الثالث عشر .
قال رحمه الله : [ فإن كان متمتعا أو قارنا فقد انقضى حجه وعمرته ]: لزمه المبيت : المبيت يطلق في لسان العرب على مرور الليل على الإنسان ولو كان مستيقظا . يقال : بات إذا مر عليه الليل بغض النظر عن كونه نائما أو مستيقظا ؛ ومنه قوله تعالى : { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } فقوله : { والذين يبيتون } وصفهم بكونهم يبيتون سجدا وقياما وهذا استيقاظ في حال اليقظة وليس في حال النوم ؛ فدل على أن البيتوتة لا تستلزم النوم ، فلو أنه بقي في منى ولم ينم فقد بات ؛ إذًا المراد أن يكون بجرمه وبجسده بمنى بغض النظر عن كونه نائما أو مستيقظا ، ولكن السنة أن ينام إذا حصّل وقتا ينام فيه، فإن جلس في منى هل يتحقق المبيت بجزء من الليل أم لابد من أكثر الليل ؟(5/20)
والصحيح أنه لابد من أكثر الليل ، وإذا قيل أنه لابد من أكثر الليل فإنه يحتسب من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر، ثم يعتد بأكثر النصف بما زاد على النصف ، فلو كانت الشمس تغيب مثلا في الساعة السادسة وأذان الفجر لو فرضنا الساعة الرابعة أصبح الليل عشر ساعات ، فأكثر الليل أن يبيت أكثر من خمس ساعات ، وهل العبرة بآخره أو بأوله ؟ فالآخر لا إشكال فيه وعليه أن يتحراه ، فيجعل الخمس ساعات من قبل فأكثر من قبل الفجر ما أمكنه .
قال رحمه الله : [ والرمي من غد ] : والرمي من غد كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ فإن كان متمتعا أو قارنا فقد انقضى حجه وعمرته ] : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابة تمتعوا وبيّن لعائشة رضي الله عنها أنها في قرانها حصلت الحج والعمرة .(5/21)
قال رحمه الله : [ وإن كان مفردا خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه ]: وإن كان مفردا فإنه يرجع إلى بلده كما يرجع القارن والمتمتع ، ومسألة أن يلزم بعمرة بعد الانتهاء من الحج أو يقال إنه ينبغي له أن يذهب إلى التنعيم ويأتي بعمرة هذا لا دليل عليه ليس هناك دليل على الإلزام ، وأنه يجب له أن يأتي بالعمرة بعد حجه ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم عروة بن مضرس - رضي الله عنه - وقد جاء بالحج وحده ، ومع ذلك لم يأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتي بالعمرة بعد حجه ، فدل على أن العبرة أن يأتي بالحج سواء جاء به مفردا أو قارنا أو متمتعا فلا يلزمه أن يذهب إلى التنعيم ولا إلى أدنى الحل يأتي بعمرة ، لكن لو أراد أن يأتي بهذه العمرة لا ينكر عليه . من اختياره وطواعيته ؛ خاصة من يأتي من بلاد بعيدة فإنه لا يتيسر له أن يأتي مرة ثانية ويتكفّل بكلفة السفر وعناء السفر ومشقته المادية والجسدية ، فلو قال : أنا أتيت بحجي وعلي العمرة فأريد أن أبرئ ذمتي وأؤدي ما علي فلابأس أن يأتي بعمرة ، ولابأس أيضا إذا أراد أن يعتمر عن أبيه الذي لم يعتمر أو عن أمه أو عن قريبه له لم يعتمر إذا وجدت الحاجة . أما أن يقال إنه لابد أن يذهب فلا ، أما إذا وجدت حاجة أن يذهب إلى التنعيم فإنه لابأس بذلك ولا حرج فيه .(5/22)
قال رحمه الله : [ ثم يأتي مكة ويطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ] : ثم يأتي مكة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر هذا إذا كان اعتمر عمرته من التنعيم يعني يأتي بالعمرة بعد الحج إذا وجد لها موجب كما ذكرنا. أما إذا كان قد اعتمر قبل حجه في رمضان أو في الأيام الماضية يؤدي حجه ثم يمكث في مكة للعبادة ؛ لأن المكث في مكة للعبادة أفضل من الإتيان بالعمرة ؛ ولذلك قال هذه الخطوات التي يخرج بها إلى التنعيم أو إلى الحل من أجل أن يأتي بها للعمرة الأفضل أن يستنفذها بالطواف بالبيت ؛ لأن العمرة شرعت لزيارة البيت ، فحينئذ لا يترك الأفضل للمفضول ، ولا يترك المقصد للوسيلة ؛ وعليه أن يبقى بمكة ويتعبد الله - عز وجل - وأن يصيب فضل الصلوات بها وفضل الطواف حتى شدد بعض السلف في خروج المكي للعمرة وقال عطاء وغيره : هؤلاء الذين يذهبون إلى التنعيم لا أدري أيؤجرون أم لا يؤجرون ، حتى ذكر قال إذا ذهب إلى التنعيم فأكثر من ثلاثة أميال وهذه فيها ما لا يقل عن كذا طوفة بالبيت يعني هذه الخطوات التي يمشيها إلى التنعيم لو أنه طاف لحصل بها الدرجات العلى ؛ وعلى هذا فإنه يقتصر على بقائه بمكة ، ويستكثر من الطواف إن كان جالسا بعد حجه.(5/23)
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لما أتم حجه ونزل بالمحصّب وهو البطحاء والأبطح عند الخيف خيف بني كنانة وخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر ، وهذا الموضع هو الذي اجتمعت فيه قريش على أذية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأذية بني عبد المطلب، وحوصروا حصار الشعب المعروف ، فلما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أين تنزل غدا ؟ قال : وهل ترك لنا عقيل من رباع ، سننزل بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر، وهذا الموضع من طرف قبور المعلاة والأبطح والبطحاء والمحصِّب الأبطح هو المسيل مسيل الوادي ؛ لأن هذا مجرى الوادي الذي ينصبّ على جهة الحرم بين الصفا والمروة ؛ لأن الحرم في مجرى وادي { إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } فالحرم في مجرى الوادي ، وهذا الوادي ينصب من أعلى مكة من جهة القبور حتى ينزل على جهة الأسواق الموجودة فوق الصفا ، ثم ينزل بين الصفا والمروة على البيت، فهذا المسيل من جهة قبور المعلاة كان في القديم طبعا مجرى وادي عليه الحصباء فيقال المحصِّب ويقال له البطحاء ؛ لأنها أرض منبطحة ومستوية والعرب تسمي مثل هذا بالأبطح والبطحاء . قال الشاعر :
هذا الذي تعرف البطحاء وطأتَه والبيت يعرفه والحل والحرم .(5/24)
فالبطحاء هو هذا الموضع وهو منزل النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة القصور القديمة نزل عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع ، فبعد أن انتهى من رمي جمرة العقبة نزل هناك ، وهذا النزول ليس من النسك وليس من تمام الحج ، وهي المسألة التي يعبر عنها العلماء بالتحصيب ، فيقولون التحصيب ليس بلازم وليس بشعيرة وليس بمنسك أي أن فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل رفق ، نزل فيه عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه أرفق له ، وهذا هو منزله وليس من تمام الحج ولا من نسكه ولا من شعائره . فالمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل بالمحصب ، واختلفت الرواية قيل إنه في هزيع الليل ، وقيل بعد منتصف الليل على الفجر نزل فطاف طواف الوداع، ثم صدر إلى المدينة عليه الصلاة والسلام قبل أذان الفجر ، وهذا هو المحفوظ عنه عليه الصلاة والسلام في السير والذي ذكره العلماء والأئمة .
قال رحمه الله : [ فإن لم يكن له شعر استحب أن يُمِرّ الموسى على رأسه وقد تم حجه وعمرته ] : طبعا هو إذا تحلل بالحج وأراد أن يأتي بالعمرة بعد الحج على ما ذكر المصنف فإذا كان حلق في حجه ففي هذه الحالة ما يجد شعراً لأن ثلاثة أيام الفاصل وقد تقل إذا تعجل فما يجد شعرا إلا قليلا على قرب منبته فقال : إنه يمر الموس ، فهذا راجع إلى مسألة : إذا لم يكن هناك شعر فهل يعتد بالفعل أو لا يعتد ؟
فقال بعض العلماء : لابد من الفعل ، والواقع في الحقيقة أنه يبقى شيء من أصول الشعر ، ويستقيم جزّه، وفي زماننا أرفق من الزمان القديم ويتيسر إزالته في هذا الزمان أكثر من غيره هذا ليس خاصة بمسألة العمرة لكنه هنا في العمرة لضيق الوقت وإلا قد يتأتى في الشخص إذا فعل أكثر من عمرة .
قال رحمه الله : [ وقد تم حجه وعمرته ] : قد تم حجه وعمرته .(5/25)
قال رحمه الله : [ وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد ] : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف لقرانه طواف الركن وسعى سعي الركن ولم يزد بسعيين فلم يجعل لعمرته سعيا مستقلا ولم يجعل لعمرته مع حجه طوافا مستقلا ؛ فدل على أن القارن فعله كفعل المفرد ؛ والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح (( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عائشة رضي الله عنها لما نفست بكت . قال : مالك أنفست؟! - يعني حضت لأن النفاس اسم من أسماء الحيض ؛ لأن النفس يطلق على الدم -. فقال : أنفست؟! ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت )) عائشة رضي الله عنها جاءت بعمرة فجاءت متمتعة ، فلما كانت بِسَرِف، حاضت فلما حاضت معناه أنها ستجلس أيام عادتها فمستحيل أن تدرك قبل الحج عمرة ؛ لأنها ستطهر بعد الوقوف بعرفة ، ولذلك إذا كان طهرها بعد الوقوف بعرفة قد تعذر عليها أن تأتي بعمرة ، ومن هنا أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ترفض العمرة وأن تصبح قارنة ، فطافت وسعت لما تحللت لما طهرت فقالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج ؟ فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والعمرة كافيك لحجك وعمرتك )) فجعلها في القران لأنها قارنة جعلها في القران تسعى سعي الحج ويجزئ عن سعي العمرة فيندرج الأصغر تحت الأكبر ، وتطوف طواف الحج فيندرج تحته طواف العمرة فيندرج الأصغر تحت الأكبر ، فدل على أن القارن لا يخالف المفرد على ما ذكره المصنف فيفعل أفعال المفرد ويجزيه .(5/26)
قال رحمه الله : [ لكن عليه وعلى المتمتع دم] لكن عليه على القارن دم ؛ لقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } يختلف القارن عن المفرد بوجوب الدم عليه ، فيجب عليه دم والمفرد لا يجب عليه دم ، وهذا الدم جبر الله به نقص الواجب ؛ لأنه كان المفروض أن يأتي بعمرة أولا ، ثم يرجع إلى الميقات ويأتي بالحج من ميقاته فترفه بسقوط السفر الثاني عنه وجمع بين النسكين في نسك واحد فوجب عليه ضمان هذا النقص ؛ والدليل على ذلك أن المكي لما قرن بين الحج والعمرة لا يجب عليه دم ؛ لأنه أهل من ميقاته وجمع بين الحل والحرم فأجزأه لعمرته ، وعلى هذا فإنه يخالف القارن المفرد من جهة وجوب الدم عليه .
قال رحمه الله : [ لقوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } ] : هذه الآية اشتملت على مسائل :
المسألة الأولى : في قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } أنها دلت على مشروعية التمتع ، وهذا محل إجماع على أنه يشرع التمتع ، والتمتع في الحج يكون على صورتين :
صورة العمرة في أشهر الحج ثم يحج من عامه بالشروط المعتبرة .
أو يأتي بالحج مع العمرة في نسك واحد ؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الأول : يسمى بالتمتع .
والثاني : يسمى بالقران . كلاهما تمتع . الآية شملت الاثنين ؛ ودلت على مشروعية الاثنين من حيث الأصل فقال الله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فدل على أن الحج يكون تمتعا.
المسألة الثانية : أن الله لما أجاز التمتع وشرعه لم يفرق بين طائفة وطائفة ، بل قال : {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فشمل أهل مكة وغيرهم ، فأخذ جمهور العلماء من هذه الآية الكريمة أن أهل مكة يتمتعون وأنهم إن تمتعوا لا دم عليهم .
وخالف الحنفية رحمهم الله فقالوا : أهل مكة لا يتمتعون ، وإن تمتعوا فعليهم دم.(5/27)
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأن قوله تعالى : { فمن تمتع } عام شامل لأهل مكة وغيرهم فدل على مشروعية التمتع للجميع .
والمسألة الثالثة : في قوله تعالى : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فدل على أن العمرة تقع في زمان الحج في أشهر الحج ، وعليه فلا تمتع في عمرة سبقت أشهر الحج على التفصيل الذي ذكرناه، فيشترط في التمتع أن تكون العمرة في أشهر الحج ، وأن يوقع عمرته في أشهر الحج ؛ فدل على أنه إذا لم يوقعها في أشهر الحج أنه غير متمتع ، فلو جاء بعمرة في رمضان وانتهى منها فهلّ هلال شوال فبقي بمكة ثم حج فهو مفرد ؛ لأنه لم يتمتع بعمرته إلى الحج حيث إن العمرة لم تقع في أشهر الحج .
إذًا يشترط أن تكون في أشهر الحج { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } المقطع الأول يتعلق بمن يتمتّع مشروعية التمتع ومن يتمتع في قوله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } المقطع الثاني في قوله : { فما استيسر من الهدي } أي عليه الذي استيسر من الهدي فدل على وجوب الدم على المتمتع ، وهذا محل إجماع : أن المتمتع يجب عليه دم سواء كان قارنا أو جاء بعمرة في أشهر الحج ثم حج من عامه واستوفى الشروط ، هذا المقطع الثاني { فما استيسر من الهدي } هذا الإجمال في قوله { الهدي } فصلته السنة أن الهدي لا يكون إلا من بهيمة الأنعام : الإبل والبقر والغنم، فلا يصح أن يهدي غير ذلك .(5/28)
وثانيا : أن هذا الهدي ينبغي أن يكون مستوفيا للشروط ، فسيبينه المصنف رحمه الله في باب الهدي والأضحية وسنتكلم عليها في شروط الهدي ، من كونه : سالما من العيوب ، وقد بلغ السن المعتبرة؛ { فما استيسر من الهدي } هذا الهدي السنة فيه في القارن أن يأتي به من بلده أن يسوقه معه من بلده طبعا من ميقات بلده أو من ميقات الموضع الذي أحرم منه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( لولا أني قلدت هديي ولبدت شعري لحللت ولجعلتها عمرة )) وقال : (( إني قلدت هديي ولبدت شعري فلا أحل حتى أنحر )) فدل على أنه يسوق الهدي معه كما ساق علي - رضي الله عنه - الهدي ؛ ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه من لم يسق الهدي أن يتحلل ويجعلها عمرة ؛ فهذا المقطع { فما استيسر من الهدي } { فما استيسر} ليس على إطلاقه ؛ قد يقول قائل: لو وجدت جذعة من الغنم دون السن المعتبرة هي مما استيسر نقول : لا ، هذا مقيد بما جاء في السنة .
{فما استيسر من الهدي } الهدي يكون من الإبل والبقر والغنم ، الإبل والبقر عن سبع كما جاء في السنة من حديث جابر وغيره يجوز الاشتراك فيها ، والشاة أو الغنم بنوعيه المعز والضأن عن شخص واحد .
{ فما استيسر من الهدي فمن لم يجد } هذا المقطع الثالث ، وهو البدل عن الهدي ، وشرطه عدم الوجدان ؛ فدل على أن من كان قادرا على الهدي لا يجوز له أن يصوم { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } فدلت الآية الكريمة على حكم من لم يجد الهدي للعلماء في قوله تعالى { من لم يجد } وجهان :
الوجه الأول: اعتبار الحال .
والوجه الثاني: اعتبار الصفة ، فهو إذا لم يجد لفقر فلا إشكال أنه يصوم لكن لو كان فقيرا في سفره غنيا في بلده أو فقيرا في يوم ولكن يمكنه غداً أن يحول له المبلغ قالوا إنه في حكم الواجد ، فله أن يتسلف وأن يذبح ، فإذا لم يجد فإنه يكون في حكم غير الواجد كما في الماء إذا وجده الإنسان وعجز عن استعماله.(5/29)
فالشاهد من هذا أن الذي لم يجد الهدي بين الله أن حكمه الصيام ، ثم بين أن هذا الصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع ، هذا هو الأصل أن صيام الهدي في الحج هدي التمتع والقران من عجز عنه أن يصوم ثلاثة أيام في الحج ، فله أن يصوم الخامس والسادس والسابع ، وله أن يصوم السادس والسابع والثامن ، وله أن يصوم أيام التشريق يؤخر الصيام إلى أيام التشريق ، فيصوم الثلاثة الأيام إذا لم يتيسر له صيامها قبل؛ لأنه قال : { في الحج وسبعة إذا رجعتم } أي يصوم سبعة أيام إذا رجع إلى بلده .
{ ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } طيب إذا عجز عن الثلاثة الأيام في الحج ما استطاع فإنه يصوم العشرة كاملة إذا رجع إلى بلده . طيب لو كان آفاقيا ثم جلس في مكة بعد الحج واستقر فيها عنده مثلا مهمة جلس فيها ثلاثة أشهر شهرين يصوم بمكة ؛ لأن قوله : { وسبعة إذا رجعتم } بني على الغالب ؛ لأن الغالب أن الإنسان بعد الحج يرجع ، والنص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه ، فلو سألك شخص وقال : صمت ثلاثة أيام في الحج وأنا بلدي مثلا في الرياض ولكن عندي مهمة في جدة بعد الحج عشرة أيام وأريد أن أصوم الأيام الباقية أو عندي مهمة شهرين أو ثلاثة أيام أو أربعة أشهر أريد أن أصوم ؟ تقول له : صمها ؛ لأن قوله : { إذا رجعتم } خرج مخرج الغالب ، والنص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه .(5/30)
{ ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } هذا المقطع الأخير { ذلك لمن لم يكن } ذلك اسم إشارة للبعيد ، فالأصل فيه ذلك، لكن المراد هنا أنه استخدم اسم الإشارة للبعيد لوجود البدل الذي فصل بين الأصل وبين اسم الإشارة ، فالحنفية أخذوه اسم إشارة للبعيد ؛ فقالوا { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } معناه صدر الآية { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} فقال : {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } هو لمن لم يكن حاضري المسجد الحرام ، فقالوا : إن المكي لا يتمتع ، هذا معنى قولهم في الأول إن المكي لا يتمتع .
والجمهور قالوا نعم ذلك اسم الإشارة للبعيد ، لكنه ليس على ظاهره هنا من أن المراد به صدر الآية ، وإنما الآية جاءت بمشروعية التمتع ، ثم بوجوب الدم ، فلما أوجبت الدم أدخلت بعد وجوبه البدل عن الدم، فلو أنه قال : {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } فلو قال : وهذا لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أو لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لفهم أن البدل وهو صيام الثلاثة الأيام والسبعة إذا رجع خاص بالآفاقي وأنه لا يكون لأهل مكة ؛ فجاء باسم إشارة للبعيد لكي ينتقل عن البدل إلى الأصل لا أنه ينتقل إلى صدر الآية .
الحنفية قالوا عندنا قرينة تدل على أنه أول الآية ؛ لأنه قال : { ذلك لمن } ولم يقل : ذلك على من وهو يقول : { فمن تمتع } والهدي قال : { فما استيسر } فأنت عندك فمن تمتع يعني لك أن تتمتع فيستقيم قوله { ذلك لمن } مع صدر الآية.(5/31)
فرد الجمهور أن لمن اللام بمعنى على ، وهذا معروف في لسان العرب ومنه قوله تعالى : { ومن أساء فلها } وقوله تعالى : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } أي عليها عاكفون فيكون قوله { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } أي ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فاستقام ردها إلى الدم وليس إلى صدر الآية الكريمة. وهذا هو الأرجح هذا حاصل ما ذكر في استشهاده رحمه الله بالآية الكريمة .
قال رحمه الله : [ وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت بطواف عند فراغه من جميع أموره ] : هذا النوع من الطواف يقال له : طواف الوداع ، وهو يكون عند الصدر والخروج ؛ والأصل فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به الصحابة .
كانت العرب إذا انتهت من مناسكها تخرج من فجاج منى وعرفات إلى بلدانها ومنازلها ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزيارة البيت ، وذلك أن الحاج نزل إلى البيت وطاف طواف الإفاضة وبقي اليوم الثاني عشر الحادي عشر والثاني عشر، فاستقبح منه أن يخرج إلى بلده دون أن يزور البيت ، فشرع الله لعباده أن يكون آخر عهدهم بالبيت طوافا .
وأشارت أم المؤمنين رضي الله عنها إلى ذلك بقولها : (( كان الناس يصدرون -يعني يسافرون- من فجاج منى وعرفات . فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافا )) .
فقالت رضي الله عنها : فأُمِروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً وجاء هذا صريحا من قوله عليه الصلاة والسلام : (( اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافا )) .
قوله : (( اجعلوا )) : أولا : دل على مشروعية طواف الوداع .
ثانيا : أنه واجب ؛ لقوله : (( اجعلوا )) والأمر للوجوب .(5/32)
ثالثا : قول أم المؤمنين إلا أنه خفف فيه عن الحائض والنفساء ؛ فدل على أنه واجب ، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله . فلا يخرج إلا بعد أن يطوف طواف الوداع ، هذا بالنسبة لهذا النوع من الطواف أنه واجب ، ويكون وجوبه عند الخروج عند السفر والذهاب إلى البلد والقفول فقال : إذا أراد القفول .
قال رحمه الله : [ وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت بطواف عند فراغه من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت ] : فقال عند فراغه من جميع أموره ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( اجعلوا آخر عهدكم )) فلما قال : (( اجعلوا آخر عهدكم )) دل على أنه لا يكون إلا عند الصدر وعند العزم على السفر، فيرتب أغراضه وشؤونه ثم ينزل ويطوف طواف الوداع ، وعلى هذا لا يأتي بطواف الوداع بمجرد انتهائه من المناسك ثم يرجع ويجلس في منزله ثم يسافر بل عليه أن يجعله عند الخروج حتى يكون آخر العهد بالبيت .
قال رحمه الله : [ فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده ] : اشتغل بعده بتجارة وبيع وشراء أعاده هذا فيه تفصيل ، إذا كانت تجارة المراد بالتجارة طبعا أن يشتغل بالبيع لكن لو فرضنا أنه اشتغل بالشراء فإن اشترى أغراضا للسفر وهي ما تكون في حكم الخروج لم يؤثر، مثال ذلك : لو أنه أراد أن يخرج طاف طواف الوداع ثم ركب سيارته ثم وقف في محطة مثلا يغير للسيارة زيتها كما هو موجود في زماننا وقف في المحطة حتى يأخذ مثلا أغراضه إما للرفقة أو وقف عند مطعم حتى يشتري طعاما غداء أو يأخذ زاد من الطعام له ولأولاده ورفقته لا يؤثر ؛ لأن هذا أصلا في حكم الخروج والتابع تابع ، والمراد به الاستعانة على الخروج فهذا لا يؤثر ، وهكذا لو أنه غيّر في السيارة شيء يستعين به على الخروج كأن يغير إطارها أو نحو ذلك فهذا لا يقطع الوداع ولا يؤثر فيه .(5/33)
قال رحمه الله : [ ويستحب له إذا طاف أن يقف في الملتزم بين الركن والباب ] : الملتزم بين الركن والباب وصف بذلك لأن الإنسان يلتزمه بصدره ؛ وفيه حديث مرفوع عن عمر - رضي الله عنه - (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - التزمه ، وقال : هاهنا يا عمر تسكب العبرات )) والالتزام بالملتزم لا حرج فيه ولا بأس به ولم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما يفعله البعض من تبديع الناس وأذيتهم في هذه الأمور التي تعظم بها شعائر الله ليس بصحيح ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكره ، وكان معروفا وتناقله العلماء والأئمة رحمهم الله ، فإذا ألصق صدره بالبيت فلا بأس عليه ولا حرج ؛ وقد جاءت السنة حتى قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يعوذ عائذ بالبيت )) والحديث صحيح في المهدي لما قال : (( يعوذ عائذ بالبيت )) فالإنسان إذا جاء واستجار بالله - عز وجل - وألصق صدره بالبيت تعظيما لحرمة الله - عز وجل - فهذا من توحيد الله وليس من عبادة البيت وليس من عبادة الحجارة كما يظن بعض الجهلة إنما ينكر الشيء الذي فيه وثنية وفي جاهلية ، أما الشيء الذي يعظم حرمات الله - عز وجل - ويقصد به تعظيم حرمات الله فلا ينكر ؛ وفي الحديث الصحيح في الصحيحين أنهم قالوا : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( اقتلوه )) فدل على أنهم كانوا يعرفون التعلق بالأستار والعياذ بالبيت فلم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أيها الناس لا تفعلوا كذا وكذا كان معروفا وموجودا وكونه صدر من ابن خطل لا نقصد أنه فعل الجاهلي حجة لا إنما نقصد أن هذا الفعل كان معروفا وعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهَ عنه المسلمين ولم يجعله محرّما . فالمقصود أن الحاج والمعتمر إذا فعل ذلك تعظيما لشعائر الله فإنه لا ينكر عليه ولابأس به ولا حرج .(5/34)
قال رحمه الله : [ فيلتزم البيت ويقول اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم اصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي، والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك على ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير ] : هذا الدعاء دعاء مخصوص ذكره المصنف رحمه الله لكن بينّا أنه لا تكون هناك أدعية مخصوصة إلا إذا كانت ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فالدعاء المخصوص في الزمان المخصوص أو في العبادة المخصوصة توقيفي ، لا يؤمر الناس بدعاء مخصوص إلا إذا كان مما شُرع، وهذا الدعاء الحقيقة ليس فيه أثر صحيح ، أُثر عن بعض الصحابة بعض الأدعية لكن المنبغي أن يترك الناس يسألون الله - عز وجل - بما يتيسر، وإذا سأل بالسنة والوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من جوامع الدعاء كما بينّا غير مرة فهو أفضل وأكمل، وليس لأحد أن يضع للناس دعاء خاصا في طواف الوداع، ولا دعاء خاصا في أي طواف من الأطوفة إلا إذا كان هذا الدعاء ثابتا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ وعلى هذا فإنه لا حاجة إلى مثل هذا .(5/35)
قال رحمه الله : [ ويدعو بما أحب ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ] : يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء ؛ لأن لها فضيلة عموما أن الدعاء الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أسباب قبول الدعاء واستجابته الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحاديث في هذا واضحة ؛ ولهذا شرع للمصلي في التشهد أن يبدأ أولا بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يتخير من المسألة ما شاء كما صح بذلك الأثر عنه عليه الصلاة والسلام .
قال رحمه الله : [ فمن خرج قبل الوداع رجع إليه إن كان قريبا ] : فمن خرج قبل أن يطوف طواف الوداع : طواف الوداع واجب على غير مكي، فأما المكي فلا طواف عليه . أما بالنسبة لغير المكي فمن كان فوق مسافة القصر يعني مسافة خمس وسبعين فأكثر إلى ثمانين كيلو فلا إشكال أنه يودع ، لكن من كان دون مسافة القصر وهو في حكم حاضري المسجد الحرام : هل يودع أو لا ؟ الأشبه أنه يودع ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل النص عاما فقال : (( اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً )) فهو خارج ، ومن هنا مادام أنه خارج الحرم الأشبه فيه أنه يودع لعموم النص ، واستثني المكي للإجماع ، وبقي ما عداه للأصل. ولذلك من كان بين المواقيت وبين مكة سواء بلغ مسافة القصر أو لم يبلغ كأهل الجموم ومر الظهران وأهل حَدّه ونحوهم كأهل الكُرّ دون الطائف ونحوهم كلهم يودعون ؛ لأن النص عام واستثني المكي للإجماع.(5/36)
قال رحمه الله : [ وإن بعد بعث بدم ] : وإن بعد بمعنى أنه خرج وتباعد عن مكة ؛ فعليه دم . هذا فيه تفصيل: إن خرج ولم يودع وكان على مسافة القصر فأكثر فالعبرة بمسافة القصر، وإن كان دون ذلك فالعبرة بالابتعاد لكن الأشبه أنه يستقيم رجوعه مادام أنه دون مسافة القصر، فمن كان دون مسافة القصر وخرج ثم تذكّر فله أن يرجع مادام أنه لم يبعد عن مكة ولم يصدر منها صدور المسافر فيرجع ويتدارك هذه المسألة تعرف بمسألة التدارك : ما يمكن تداركه وما لا يمكن تداركه ، فمادام أنه على مسافة القصر فأكثر ولم يبلغ مسافة القصر فيمكنه أن يتدارك أما لو خرج ووصل إلى بيته ووصل إلى أهله ثم أراد أن يرجع نقول : لزمك الدم رجعت أو لم ترجع ؛ لأن المراد أن يكون آخر عهدك بالبيت طوافه وقد وصلت إلى أهلك فلست بمودع وحينئذ يجب عليه الدم .(5/37)
قال رحمه الله : [ إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما ] : لا يجب طواف الوداع على الحائض والنفساء لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أم المؤمنين لما حاضت قال عليه الصلاة والسلام : (( عقرى حلقى أحابستنا هي ؟ ثم قال ألم تكن طافت يوم النحر قالوا نعم قال فلا إذا )) فدل على أنها لا تحبس لأنها طافت طواف الإفاضة ، وقال لها : (( انفري )) يعني اخرجي ولا يلزم عليك طواف الوداع ، ومن هنا دل الحديث على سقوط طواف الوداع عن الحائض ، وكذلك أيضا قالت عائشة رضي الله عنها إلا أنه ((خفّف عن الحائض والنفساء ))، كذلك عن ابن عباس - رضي الله عنه - وأفتى به الصحابة رضوان الله عليهم أن الحائض والنفساء يسقط عنها طواف الوداع ، لكن ما يسقط عنها طواف الركن وهو الإفاضة ، ويجب عليها أن تبقى حتى تطوف طواف الإفاضة ؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- من طواف الركن وهي حائض وقال : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير ألا تطوفي بالبيت )) منع الحائض من الطواف بالبيت فلا يستطيع أحد أن يجتهد ويقول عليها أن تطوف بالبيت ولو كانت حائضاً ، هذا مخالف للنص، ثم جاء النص الذي يؤكد ذلك ويقول : (( عقرى حلقى أحابستنا هي ؟!)) فيقول البعض : والله هي حتى سافر ورحلتها ستأخذها يا سبحان الله ! لو حصل لها أقل خلل في أمورها الدنيوية وحصل أن ضاع لها أي شيء وثيقتها أو شيء لأُخّرت ولبقيت ولو بقيت حتى شهورا ، أما في الركن الذي هو من الركن عبادتها والركن ركن الإسلام هذه ما تؤخّر بل يجب عليها أن تبقى حتى تطهر وتطوف بالبيت ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم على الحائض أن تطوف بالبيت ، فلا يصح منها أن تطوف ولو طافت وهي حائض أثمت ولم يجزها ، وقد تكلم شيخ الإسلام على هذا الأصل في شرط الطهارة والطواف بالبيت ، وبيّن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع الحائض ، وأنه لا وجه لامرأة حائض أن تطوف، ولا يعتد(5/38)
بهذا الطواف في إجزائها بهذا الركن كما في شرحه على العمدة .
قال رحمه الله : [ ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء ] : الاستحباب حكم شرعي ، ولا يستطيع أحد أن يقول : إن هذا مستحب إلا إذا كان ثمَّ دليل يدل عليه ، ولذلك لم يرد دليل بأن من أراد أن يودع أن يقف عند باب مكة ويدعو ؛ لكان ما استطاع أحد أن يدخل ؛ كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ألف لو وقفوا على أبواب الحرم ما استطاع أحد أن يجد بابا يدخل منه . هذه أمور يجب أن يتوقف فيها للوارد . أمر الناس بالوقوف وتخصيص العمل المعين دون نص ويقال : إنه مستحب هذا لا إشكال في عدم قبوله ، بل ينبغي أن يؤمر الناس بالاستحباب بما ثبتت السنة وثبت النص باستحبابه ، وأما هذا فليس هناك دليل يدل على الوقوف عند أبواب المسجد الحرام ومزاحمة الداخلين . أبواب المسجد وطرقات ومنافذ لدخول المصلين والعابدين فوقوفهم يؤذي الناس ويضيّق على الناس بل لو قيل بحرمته لكان قويا خاصة في الزحام ، وقد تقف المرأة فتفتن الناس وقد يقف الرجل فيؤذي النساء ، وعلى كل حال لا يوقف على أبواب المسجد في طواف الوداع .
قال الإمام المصنف رحمه الله : [ باب أركان الحج والعمرة ] بعد بيّن رحمه الله صفة الكمال شرع في الإجزاء ببيان الأركان والواجبات في الحج والعمرة ، فقال : أركان الحج وأتبعها بالواجبات .
الركن ركن الشيء الذي تتوقف عليه في اللغة الركن هو الدِّعامة دعامة الشي ء ، فركن البيت دعامته التي يكون عليها ، والبيت يقوم على الأركان إذا زالت زال البيت ، ومن هنا العبادات تقوم على الأركان إذا لم توجد لم يحكم بوجود العبادة .(5/39)
وهذا المصطلح وضعه العلماء ؛ لأن الشريعة فرّقت بين قول وقول . وفرّقت بين فعل وفعل ، فهناك أفعال جعلتها مؤثرة في العبادة ، وهناك أفعال لم تجعلها مؤثرة في العبادة . وهناك أقوال جعلتها مؤثرة في العبادة وأقوال لم تجعلها مؤثرة في العبادة ، وقد بيّنا هذا في أركان الصلاة وواجباتها ، وكذلك الحج له أركان وواجبات ومستحبات وسنن .
قال رحمه الله : [ باب أركان الحج والعمرة ] : الركن تتوقّف عليه الماهية ، بخلاف الشرط والواجب ، وعلى هذا فإن أركان الحج لا يمكن أن يحكم بالحج إلا بها ، وجمعها لتعددها، وكذلك العمرة لها أركان وجمعها لتعددها واختلافها.
قال رحمه الله : [ أركان الحج : الوقوف بعرفة ] : الوقوف بعرفة وهو ركن الحج الأعظم ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( الحج عرفة )) ، وفي الحديث الصحيح عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي –-- رضي الله عنه -- أن أناسا من نجد أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله ، كيف الحج ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( الحج عرفة من أدرك عرفة ليلة جمع قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج )) هذا الحديث حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة بسند ثابت ، وفيه دليل أن الحج عرفة ، أي ركن الحج الأعظم عرفة ، وقد عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب التعظيم ، ولذلك هذا الركن هو الذي أجمع العلماء على أن الحج يفوت بفواته ، ولذلك يقول العلماء : أنه هو الركن الأعظم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عظمه حتى جعله الحج كله، وليس المراد أن الحج كله في عرفة ، كما يعتقد بعض الجهلة أنه إذا جاء إلى عرفة فالباقي ليس بالواجب، وإنما خرج منه مخرج التعظيم كقوله عليه الصلاة والسلام : (( لا ربا إلا في النسيئة )) . وهي أساليب معروفة في لسان العرب .(5/40)
هذا الوقوف ليس المراد به الوقوف على القدمين ، فإذا دخل عرفات في وقتها المعتبر أي ساعة من ليل أو نهار دخل فيها واقفا أو جالسا أو محمولا أو كان في هذا الموضع ولو مضطجعا ولو منسدحا فإنه يعتد به ويعتبر وقوفا ، لكن أن يكون عاقلا ساعة الوقت المعتبر ، وعلى هذا فإنه يصح وقوف من جلس بعرفة في الزمان المعتبر سواء كان نائما أو مستيقظا ، واشترطنا أن يكون عاقلا فلو كان مجنونا أو سكرانا أو مخدرا لم يصح وقوفه ، وعلى هذا فلو فقد عقله أو أغمي عليه . المغمى عليه فيه قولان ، لكن إذا فقد عقله بالجنون أو بالسكر لم يصح وقوفه ، سواء كان سكره على وجه يعذر به أو على وجه لا يعذر به ، لكن في زماننا مسألة لو أن شخصا سأل : هذا الرجل جاء للحج وقبل يوم عرفة احتيج لعملية جراحية فخدر، فوضع المخدر وجاء يوم عرفة أو وضع المخدر لعلاج أمر ضروري وهو بعرفة لم يكن في الوقت المعتبر وجاء الوقت المعتبر كيف نصحح حج هذا ؟، نقول: إن أفاق قبل انتهاء الوقت المعتبر ولو بلحظة من مخدّره صح وقوفه ، وأما لو بقي في مخدره حتى طلع الفجر من يوم النحر فإنه لا يصح ، وحصل بعض المسائل مرت علينا فإنه ينقل حتى يفيق من مخدّره إذا كان قدر الأطباء أنه يأخذ ساعة ساعتين وبقي على الفجر ثلاث ساعات أو أربع ساعات يمكنه أن يدرك الحج ؛ فحينئذ ينقل ولو بالإسعاف ولو بالسيارة ولو للحظة واحدة يقع بها الوقوف . قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من صلى من صلاتنا هذه ووقف وقوفنا هذا أي ساعة من ليل أو نهار وكان قد أتى عرفات من أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه )) هذا بالنسبة لاشتراط العقل .(5/41)
أما إذا كان الشخص نائما فالنائم لا إشكال فيه ؛ لأن النائم إذا أيقظته يستيقظ ، والمجنون إذا أيقظته لا يستيقظ ، وإذا نبهت النائم ينتبه ، والمجنون والمغمى عليه والسكران والمخدّر لا يمكن أن يرجع إلى عقله و صوابه ، ومن هنا اختلف عن النائم ، ولذلك النائم كما ذكر العلماء وبين العلماء والفقهاء في كتب في قواعد الفقه : يستصحب فيه الأصل ولذلك إذا نام وهو عاقل فهو في حكم العاقل ، ولذلك يطالب بقضاء العبادة في مسألة التكليف ، ولكن يؤمر بالفعل بعد القدرة والتمكن .
الشاهد إذا كان مغمى عليه أغمي عليه إذا صدمته السيارة قبل الزوال ، وقلنا الوقوف يبدأ بالزوال . فلما صدمته السيارة قبل الزوال أغمي عليه وبقي مغمى عليه اختلف العلماء فيه على قولين :
قال بعض العلماء : المغمى عليه يصح وقوفه . وهو مذهب الحنفية و المالكية .
وقيل : لا يصح وقوفه كما هو مذهب الشافعية والحنابلة ، وقد بينا في مسائل العبادات المتقدمة أن المغمى عليه في حكم المجنون ، والسبب في الخلاف هنا هل يلتحق بحكم النائم أو بحكم المجنون ؟ والصحيح أنه في حكم المجنون؛ لأن المغمى عليه إذا نُبه لا يتنبه ، وإذا أوقظ من غيبوبته لا يستيقظ ، فلا يصح قياسه على النائم .
وعلى هذا لابد وأن يكون عاقلا . لا يشترط للوقوف الطهارة ، فيصح الوقوف من الحائض ومن الجنب ومن النفساء ؛ والدليل على ذلك قول عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها : (( اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت )) ؛ ولأن عائشة رضي الله عنها وقفت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حائض، فدل على أنه يصح الوقوف من غير المتطهر ، والأفضل أن يكون متطهرا .
كذلك لا يشترط في هذا الوقوف الطهارة في الثوب والبدن الذي يقف فيه على الأصل الذي ذكرناه في الطهارة من الحدث كما لا تشترط طهارة الحدث لا تشترط طهارة الخبث .(5/42)
وأما بنسبة لوقت الوقوف فأولا أجمع العلماء على أنّ من وقف بعد زوال الشمس إلى أن تغيب الشمس ودفع مع الإمام أن وقوفه صحيح مجزئ معتبر؛ لأنّه وقوف النّبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأصحابه في حجّة الوداع من زوال الشمس بعد الزوال إلى مغيب الشمس وذهاب الصفرة هذا موقف النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وبالإجماع معتبر .
ثانيا: أجمع العلماء على أنه لو وقف بعرفة قبل طلوع الفجر من يوم عرفة أو بعد طلوع الفجر من يوم العيد -عيد النحر- يعني تقدّم على الوقت أو تأخر أنه غير معتد بهذا الوقوف، فلو أنّ شخصا ليلة عرفة ذهب قبل الفجر بنصف ساعة فوقف بعرفة ثم دفع، فليس له حج ووقوفه غير معتد به، ولو أن شخصا ذهب إلى عرفات ولم يصل إلى عرفات إلا بعد أذان الفجر من يوم العيد لم يعتد بوقوفه إجماعا ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فمن أدرك عرفات قبل الفجر فقد أدرك الحج )) وكذلك قال عبدالله بن عمر : (( من أدرك عرفة من ليلة جمع قبل الفجر فقد أدرك الحج )) فإذا كان أدرك ما بعد طلوع الفجر أو أدرك قبل طلوع الفجر من صبيحة يوم عرفة؛ فإنه لا يجزيه .
ثالثا : مما أجمعوا عليه إذا وقف بعد غروب الشمس وقبل طلوع الفجر من يوم النحر أي ساعة ولو للحظة واحدة بعرفة صح ذلك وأجزأه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صحّح وقوف عروة بن مضرس حينما وقف بالليل، وقال : (( وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار)) فوقوف الليل قليله وكثيره سواء حتى ولو للحظة، بل حتى لو ركب سيارته وهو لا يعرف عرفات ثم ذهب السائق ومرّ بداخل عرفة بعد غروب الشمس ولو للحظة ؛ فإنه يجزيه ، فالقصد غير مؤثر؛ لأن المراد أن يكون جرمه وجسمه داخل حدود عرفات في هذا الوقت المعتبر.(5/43)
إذًا ما كان بعد الزوال إلى غروب الشمس موقف بإجماع ، وما كان بعد مغيب الشمس أي ساعة قليلا كان أو كثيرا إلى أن يطلع الفجر موقف بإجماع، فهذان الموضعان محلّ إجماع ، وما كان قبل طلوع الفجر من صبيحة عرفة ليس بموقف إجماعا ، وما كان بعد طلوع الفجر من صبيحة يوم النحر ليس بموقف إجماعا . بقي السؤال : إذا وقف بعد طلوع الفجر من يوم عرفة وقبل الزوال؟
فللعلماء في هذه المسألة قولان، وكذلك أيضا إذا وقف بعد الزوال ودفع قبل غروب الشمس ، ففيه أيضا قولان .
أما بالنسبة لوقوفه بعد طلوع الفجر إلى زوال الشمس وخروجه قبل زوال الشمس فالجمهور على أن وقوفه غير صحيح، وأنه لم يحج ، والواجب عليه أن يرجع ويدرك أي ساعة معتدّ بها على التفصيل الذي ذكرناه ، وإلا كان غير حاجّ ولزمه أن يتحلّل بعمرة شأنه شأن من فاته الحج . من وقف بعد طلوع الفجر وقبل زوال الشمس من يوم عرفة لم يعتد بموقفه ، وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في إحدى الروايتين عن الإمام أحمد وانتصر لها شيخ الإسلام في الشرح .
القول الثاني : أنه يجزيه ، وهي رواية ثانية عن الإمام أحمد .
واحتجّ الذين قالوا بعدم الإجزاء بأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أتى من منى ونزل بنمرة ، ولما نزل بنمرة نزل قبل الزوال، وانتظر حتى إذا زالت الشمس خطب الناس ثم بعد ذلك دخل بالعشي، فدلّ على أن الموقف لا يبدأ إلا عشيته ، دل على أن الموقف لا يبدأ إلا عشية . قلنا إذا وقف قبل الزوال فللعلماء قولان :
قول للجمهور أنه لا يصحّ موقفه ولا يقع حجه .
وقول إنه يصحّ حجه ويعتد به ؛ وعليه دم إذا لم يرجع قبل المغيب على التفصيل في المذهب .(5/44)
القول الأول : للجمهور قالوا لم يصح حجه لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نزل بنمرة ، ونمرة ليست من عرفة إجماعا، وقالوا لا يمكن أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يترك فضل النزول في المشعر والمنسك وهو عرفات وينزل قبل حدوده ويتكلف هذا النزول إلا لأن الوقت لم يحن بعد للعبادة ، ولذلك السنة واضحة في الدلالة على أنه لا موقف إلا بعد الزوال .
ثانيا : أن النصّ دلّ على أنّ عرفة لعشيتها ، وقد جاء النص صريحا أن المباهاة في عشية عرفة ، ومعنى ذلك أن عرفة معتدّ بها بالعشيّ، والعشيّ من بعد منتصف النهار؛ لأن الغَدْوة من أول النهار، والعشي من آخر النهار، ويبدأ العشي من بعد الزوال، فقالوا إن هذا يدل على أنه لا يكون الموقف إلا بعد الزوال، هذا من جهة النص . ومن جهة النظر قالوا إنها عبادة مؤقتة لا تصح إلا بعد الزوال كالرمي، ولذلك لا يبعد أن يكون الوقوف بعد الزوال، وأن يكون الرمي بعد ذلك بعد الزوال، وكأن الزوال حدّ بهذه العبادات، فقالوا لا يصح الوقوف قبل الزوال كما لا يصح الرمي قبل الزوال، كذلك أيضا قالوا قياس ثان هذا من قياس شعيرة على شعيرة في العبادة نفسها وهي الحج ، وقاسوا نظيرا على نظيره من خارج، فقالوا لا يصح الوقوف قبل الزوال كما لا تصح صلاة الظهر قبل الزوال، هذه حاصل حجج الجمهور النقلية والعقلية ، ولذلك قال الأئمة كل من تأمل النقل والعقل ظهر له بجلاء أنه لا موقف في عرفة إلا بعد زوال الشمس وهذا هو القول المعتد به والمعتبر . هذا حاصل ما يقال بالنسبة للوقوف ولزمانه المعتبر .
قال رحمه الله : [ وطواف الزيارة ] : الركن الثاني طواف الزيارة . الطواف بالشيء الدوران ، والمراد هنا دوران مخصوص بشيء مخصوص بنية مخصوصة .
والدوران المخصوص هنا : دوران بالبيت الحرام .
على صفة مخصوصة : من الشرائط المعتبرة للطواف بالبيت .(5/45)
الدوران بشيء مخصوص هو البيت ، والمراد به البيت العتيق ، وهو البيت الذي بناه الخليل –- عليه السلام - - وعليه فلابد في الطواف أن يدخل الحجر وسيأتي بيانه في الشروط .
بنية مخصوصة : وهي نية التقرب إلى الله -- عز وجل -- كما سيأتي في الشروط .
هذا الطواف وهو طواف الزيارة أجمع العلماء على أنه ركن من أركان الحج ؛ والدليل عليه قوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطّوّفوا بالبيت العتيق } فأجمع العلماء على أن قوله : { وليطّوّفوا بالبيت العتيق } المراد به طواف الركن وهو طواف الإفاضة ، وكلهم متفقون على أنه ركن من أركان الحج ، وهذا الطواف هو طواف الركن بالنسبة لمسائله طبعا أول شيء يشترط لكل طواف خاصة إذا كان واجبا النية ، والنية أن يقصد الطواف ويقصد التقرب لله -- عز وجل -- . فالنية فيها : أمران أن يقصد العبادة، فلو أنه دخل وطاف بالبيت يبحث عن صديق فأتم سبعة أشواط ، أو دخل وضاع ابنه فجلس يطوف يبحث عنه ثم نواه عن الإفاضة لم يجزه ؛ لأنه لابد أن ينويه عبادته : القصد ؛ قال تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله } وهذا لم يقصد عبادة الله إنما قصد أمرا دنيويا ، يشترط النية ، ويشترط النية لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) فدل على أنه إذا نوى الإفاضة فهي إفاضة ، وإذا لم ينو إفاضة فليست بإفاضة .(5/46)
الشرط الثاني : أن يكون الطواف داخل المسجد الحرام ، فلا يصح الطواف من خارج المسجد الحرام ؛ والدليل على ذلك قوله تعالى : { وطهرا بيتي للطائفين والعاكفين } فقال : { وطهرا بيتي } والمراد المسجد فدل على أنه لا يصح الطواف في غير المسجد، ويستوي في المسجد بطن المطاف والرُّواق ولو حال بينه وبين البيت حائل مثل أن يحول زمزم وأبنية زمزم في القديم ومقام إبراهيم فهذه حوائل لا تؤثر في الطواف، ولكن الذي يؤثر الخروج عن المسجد، يستوي أن يكون طائفا في الدور الأول أو في الدور الثاني أو الثالث ؛ لأنه طائف بالبيت ودار بالبيت ، وسطح المسجد كأرضه ؛ ولذلك أجمع العلماء على أنه لو صعد إلى سطح المسجد وهو معتكف فإنه لا يبطل اعتكافه ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من ظَلَم قِيْد شبر من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين )) فجعل أسفل الشيء كأعلاه ؛ فدل على أن أعلاه كأسفله ؛ ولأن من ملك دارا ملك هواها ، ولذلك له أن يبني في أدوارها وهذا ملك له، فهذا يدل على أن السقف يأخذ حكم الأرض ويجوز الطواف فيه والأفضل أن يطوف في الأسفل لقوله تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } .
الشرط الرابع: أن يبتدئ بطوافه من الحَجَر، وعلى هذا فلو ابتدأ من دون الحجر لم يصح كأن يبتدئ من عند الباب أو بعد الحجر ولو بخطوة واحدة فإنه يجب عليه أن يرجع ويبتدئ من الحجر؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ابتدأ من الحجر وأمر بالطواف سبعة أشواط، وفعل ذلك وفعله بيان لواجب فهو واجب .
الشرط الخامس: أن يستتم هذه الأشواط السبعة ، فلو أنقص منها خطوة واحدة كأن يطوف وقبل الحجر بخطوة يخرج فإنه يجب عليه أن يتم الشوط الذي انتقصه ولا يصح منه إلا إذا كان تاما .(5/47)
الشرط السادس: الطهارة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( الطواف بالبيت صلاة )) وهذا الحديث صححه غير واحد وقووا رفعه ، ونص فيه على أنه صلاة فيأخذ حكم الصلاة ؛ والصلاة لا تصح بدون وضوء ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم --قال : (( لا يقبل الله صلاة بغير طهور )) ؛ كذلك أيضا من الأدلة على اشتراط الطهارة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- طاف متوضئا كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة عنها -رضي الله عنها- أنه ابتدأ أول شيء بالوضوء ثم استلم الحجر، فما طاف إلا وهو متوضئ ؛ ومن الأدلة أيضا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى الحائض أن تطوف بالبيت؛ لأنها غير متطهرة، فدل على اشتراط الطهارة .
الشرط السابع: ستر العورة ، فلا يصح الطواف من العريان ؛ وفي الصحيحين عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه بعث إلى مكة أبابكر -- رضي الله عنه -- في الحج الذي سبق حجة الوداع ينادي : (( أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان )) فدل على أنه لا يصح الطواف من العاري ، ويعتبر في ستر العورة ما يعتبر في الصلاة وقد تقدم ، فلو طاف وانكشفت عورته أثناء الطواف بطل شوطه أو بطل طوافه وجهان للعلماء على افتراق الأشواط أو استتمام الطواف في كله .
ومما أكد ستر العورة أن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } أنها نزلت في عراة المشركين، كانت المرأة تطوف عارية إذا كانت من الحُمُس، وتطلب الثوب من غير الحُمُس . وتقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فنزل قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } فأمر بالستر للطواف ، فدل على لزومه ولكن قدمنا دلالة الحديث ؛ لأنها أقوى .(5/48)
الشرط الثامن: الموالاة ، فلا يفصل بين الأشواط السبعة بفاصل مؤثر، فإذا أقيمت الصلاة وهو يطوف قطع فصلى ثم رجع إلى المكان الذي قطع منه والأفضل أن يرجع من أول الشوطة، فلو أقيمت الصلاة وهو في الشوط السادس وقف في مكانه فصلى ثم اعتد من المكان، والأفضل أن يرجع إلى الحجر ويلغي ما مشاه ويأتي بالشوط السادس من أوله ، ولكن لو بدأ من موضعه أجزأه ، فهذه كلها شروط ينبغي اعتبارها في الطواف ، وينبغي كذلك أيضا من الشروط أن يكون الطواف بالبيت كله ، فلو أنه اقتطع من الطواف جزءاً مثل أن يدخل بين الحجر وبين الكعبة لم يجزه ؛ لأن في الحجر عدداً من الأذرع تعتبر من البيت ؛ والدليل على اشتراط أن يدخل الحجر قوله تعالى : { وليطّوّفوا بالبيت العتيق } والعتيق هو القديم ، فأمر بأن يستتم البيت بالطواف. هنا مسألة وهي: أن الشاذروان ومعاقد أزر البيت من المعروف أن فيه الحَجر في الأرض تقاصر منه البناء فانسحب إلى داخل البيت وإلا هو استتمامه الشاذروان هذا من البيت ، ولذلك إذا جاء يطوف البعض يرقى على هذا الحجر من أجل أن يقبّل، فإذا احتسب هذا من البيت فحينئذ يكون قد أخل بطوافه ولذلك ينصح هؤلاء أن لا يرقوا على الحجر؛ لأن هذا الجزء أصله من البيت، وكان المفروض أن يكون طوافه من قبل الحجر لا على الحجر، وهذا قد مشى المسافة هذه كلها فتجده على وزرة سترة الكعبة يزاحم الناس ليصل إلى الحَجَر، فتجده قد اقتطع من البيت، ولذلك ينبغي أن يكون طوافه بالبيت تاما كاملا ، وهكذا إذا جاء عند الحِجْر بعضهم يضع يده على الحِجْر طبعا آخر الحجر لا إشكال في ذلك أنه ليس من البيت لكن إذا جاء من أول الحِجْر فإن هذا القدر من البيت، ولذلك يجب أن يستتم البيت بطوافه كما نبه عليها الأئمة -رحمهم الله- هذه كلها شروط معتبرة لصحة الطواف .وطواف الإفاضة ركن من أركان الحج كما ذكرنا .(5/49)
على هذا السعي ليس بركن؛ والصحيح أنه ركن وسيأتي ، والنية لم يعتبرها المصنف ركناً ولكنها ركن وفصّل بعض العلماء فيها ، بأن بعض العلماء أغفلها في الأركان لشبهيتها بالشرطية ، ومنهم من أغفل الشرطية لشبهيتّها بالأركان ، وتوضيح ذلك : أن النية تارة تعامل معاملة الشرط ، وتارة تعامل معاملة الركن ، ومن هنا لو أن شخصًا جاء إلى الميقات ولم ينو لم نقل إنه قد حج ولم نقل إنه قد دخل في نسك العمرة فليس بمعتمر ولا حاج بلا إشكال، فهذا في نفي الدخول، ولو أن شخصاً أحرم بالعمرة في غير رمضان ثم دخل وابتدأ طواف العمرة في شوال لكان متمتعا مع أن النية قد وقعت في غير أشهر الحج قالوا الأول لشبهية الركن ، والثاني لشبهية الشرطية، ومن هنا مسألتها دقيقة ، والتفريق في الموضعين يحتاج إلى فقه ، وهي في شبهيتها بالركنية قوية جدا ، لكن النية يتنازعها أمران : أولها الشبهية بالركنية من ناحية الدخول في النسك ، وشبهيتها بالشرطية من جهة الاعتداد بالدخول في النسك كما ذكرنا من جهة الاعتداد ، وعلى هذا فإن النية في مذهب طائفة من العلماء أنها ركن حتى في المذهب منهم من نص واعتبرها ركنا .
قال رحمه الله : [ وواجباته الإحرام من الميقات ] : الإحرام من الميقات يعني الاعتداد بالميقات وليس مراد الإحرام الدخول؛ لأن الدخول هو النية ، وإنما مراده أن يحرم من الميقات بمعنى أن يعتد بالميقات المكاني؛ وهذا واجب ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( هن لهن )) ومن أحرم من دون الميقات فعليه دم في قول جماهير العلماء -رحمهم الله- وقد بيّنّا دليل وجوب الإحرام من المواقيت في باب المواقيت .(5/50)
قال رحمه الله : [ والوقوف بعرفة إلى الليل ] : والوقوف بعرفة إلى الليل وهي المسألة التي أخرناها في مسألة الوقوف أن من وقف من بعد الزوال ينتظر إلى غروب الشمس بعبارة أخرى أنّ من وقف في جزء النهار عليه أن يمسك جزءاً من الليل، وأن من وقف من الليل لم يعتد له بالنهار، وعلى هذا فلو أنه جاء قبل غروب الشمس بوقت طويل أو قصير أو بعد الزوال في الوقت المعتبر لابد أن ينتظر إلى الغروب ويمسك جزءاً من الليل؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- انتظر حتى سقط قرص الشمس وذهبت الصفرة كما في حديث جابر -- رضي الله عنه -- في الصحيح ، فلو أنه خرج من عرفات قبل دفع الإمام يعني خرج قبل الغروب ولو بلحظة، إذا خرج قبل الغروب فعلى حالتين :
إما أن يرجع وينتظر إلى الغروب ، أو يرجع بعد الغروب ويجلس ولو للحظة ثم يصدر؛ فحينئذ يسقط عنه الدم؛ لأنه تدارك ، وأما إذا لم يرجع وبقي على ما هو عليه فإنه يجب عليه دم ؛ ما الدليل على اشتراط أن ينتظر إلى الغروب ؟ الدليل : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال في حديث عروة بن مضرّس : (( وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار )) فجعل النهار مطلقا ثم قيّده بالسنة ، فقيّده بالسنة ابتداء وقيده بالسنة انتهاء في وقوف النهار، فدل على أنه لا يصح أن يقف قبل الابتداء ولا يدفع قبل الانتهاء ، فإذا دفع قبل الانتهاء لزمه الدم ؛ لأنه قد وقف في الوقت المعتبر، فنقول : من وقف قبل غروب الشمس ولو للحظة صح حجه ؛ لقوله : (( وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار)) ويجب عليه الدم؛ لأنه خالف فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الذي جاء بيانا لواجب فحينئذ يجب عليه الدم جبرانا لهذا النقص الواجب . لكنه إذا خرج ورجع قبل الغروب فلا إشكال إن رجع بعد الغروب ففيه إشكال ، والأوجه أنه يجب عليه الدم إذا رجع بعد الغروب ؛ لأن الاعتداد إلى أن تغرب الشمس .(5/51)
قال رحمه الله : [ والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل ] : والمبيت بمزدلفة فهو واجب من واجبات الحج؛ لأن الله -- عز وجل -- قال : { فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين } فأمر -- سبحانه وتعالى -- بالوقوف عند المشعر، وفسّرت السنة ذلك بالمبيت تمهيدا للوقوف، وبات عليه الصلاة والسلام بالمشعر وهو مزدلفة، وقال : (( خذوا عنيّ مناسككم)) فدل على وجوبه ، وهذا المبيت من العلماء من قال : يجب أن يبيت الليل كله إن أدركه تاما ولا يجوز له أن يخرج قبل الفجر حتىّ يقف بالمشعر .
ومنهم من قال : إذا جاء إلى مزدلفة العبرة أن يبقى ولو للحظة حتى ولو حطّ رحله ثم مشى أجزأه كما يقول المالكية ، ومنهم من يقول إنه ينتظر إلى منتصف الليل كما يقول الشافعية وفي المذهب أيضا هذا القول .
والصحيح أنه إذا جاء قبل الفجر لا يجوز له أن يخرج حتى يقف بالمشعر؛ لأن الله -- عز وجل -- أمر بذكره في المشعر، ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعل ذلك وألزم به الصحابة، ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أذن للضعفة من أهله ، فإذا تأمّلت الحديث الصحيح عن أسماء -رضي الله عنها- قالت : (( أي هنتاه ما أرانا إلا غلّسنا . قالت رضي الله عنها إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للضعن )) يعني النساء والضعفة فقولها : (( أذن )) والإذن استباحة لمحظور، ومن هنا قالوا إنه رخّص للضعفة والعجزة من أهله ، والرخصة استباحة للمحظور، فدل على أن الأصل الوجوب، ولا يرخص إلا للضعفة ومن في حكمهم من الصبيان والنساء وكبار السن والمرضى ومن يقوم عليهم ممن لا يمكن أن يصبر عنه أو يحتاجون إليه من أجل نقلتهم .(5/52)
المبيت بمزدلفة ثم إذا قلنا إنه يرخص فيه للضعفة ، فهل يخرج الضعفة بعد منتصف الليل أو يخرجوا بعد سقوط القمر ؟ قال جمهور القائلين بالمبيت : الشافعيّة والحنابلة قال الجمهور إن العبرة بمنتصف الليل . وقال بعض العلماء -وهو رواية عن الإمام أحمد- : إن العبرة بسقوط القمر، وإذا تؤملت النصوص أن الإذن للضعفة ليس فيه نص يدل على منتصف الليل تحديداً ، ولكن حديث أسماء -رضي الله عنها- أنها قامت تصلي وهو في الصحيح قالت لابنها عبدالله : هل غاب القمر ؟ قال : لا فقامت تصلي ، ثم قالت : هل غاب القمر ؟ قال : لا . ثم قالت في الثالثة: هل غاب القمر؟ قال: نعم. فدفعت . قالوا إن هذا تفسير للرخصة ، وأنها امتنعت من الدفع حتى غاب القمر، ومغيب القمر يكون لبقاء منزلتين من منازل القمر قبل الفجر ، وهذا أقل من ساعتين بالتقدير عند أهل الحساب والفلك لأقل من ساعتين يغيب القمر قبل الفجر، وهو يعادل سبع الليل أو الثلث إذا كان الليل من مغيب الشمس إلى طلوع الفجر فهو السبع للكل والثلث للقدر الذي ذكرناه ، هذا القدر بعض العلماء يقول تبتدئ منه الرخصة ، واعتدوا بمنتصف الليل؛ لأنه ثبت أنه أذن للضعفة ولم يأت ما يفسر، والإذن يكون بعد الدخول في أكثر الليل، وأكثر الليل يبدأ بعد منتصف الليل، ومن هنا قالوا إنه بعد منتصف الليل يجوز له أن يدفع ، والحقيقة أن فعل أسماء فيه تحوط أكثر أن ينتظر للضعفة إلى سقوط القمر .(5/53)
قال رحمه الله : [ والسعي ] : والسعي بين الصفا والمروة : الصحيح أنه ركن من أركان الحج ؛ وقد بيّنا ذلك في قوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } فهي من شعائر الله الواجبة كالوقوف بعرفة، كما أن الوقوف بعرفة من شعائر الحج وهو ركن كذلك أيضا السعي بين الصفا والمروة يعتبر لازما من هذا الوجه . أكدت هذا السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في حديث حبيبة بنت أبي تجرات -رضي الله عنها- وفيها أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سعى بين الصفا والمروة وقال : (( أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا)) فقوله: كتب بمعنى فرض ، فدل على لزومه ، وكذلك أيضا قالت أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- : (( لعمري لا أتم الله حج من لم يسعَ بين الصفا والمروة )) ؛ ولأن الله - عز وجل - قال : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } فجعل تعظيم الشعائر من تقوى القلوب وجعل الصفا والمروة من الشعائر، والتقوى فعل الفرائض وترك المحارم، فدل على أنها فريضة . فالشاهد أن النصوص قوية ؛ وفي الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه أمر من كان من لم يسق معه الهدي أن يطوف ويسعى بين الصفا والمروة أن يجعلها عمرة ، فالسعي في الحج وفي العمرة ركن من أركانهما وهو الصحيح .
قال رحمه الله : [ والمبيت بمنى ] : والمبيت بمنى ؛ وقد قدّمنا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رخّص للعباس أن يبيت بمكة ليالي التشريق من أجل السقاية ، والرخصة استباحة المحظور فدل على وجوب المبيت هذا الدليل الأول .
الدليل الثاني أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بات بمنى ليالي التشريق ووقع فعله بياناً لواجب فهو واجب .
قال رحمه الله : [ والرمي ] : والرمي رمي الجمرات ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رمى جمرة العقبة ورمى الجمرات أيام التشريق ، ووقع فعله بيانا للواجب وهو واجب .(5/54)
قال رحمه الله : [ والحلق ] : والحلق أو التقصير عبر بالحلق للتنبيه على مثله الحلق والتقصير؛ لأنه من النسك وهو أصحّ قولي العلماء .
قال رحمه الله : [ وطواف الوداع ] : وطواف الوداع ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافا )) وهو أمر ، والأمر يدل على الوجوب .
قال رحمه الله : [ وأركان العمرة الطواف ] : الطواف والسعي والنية على التفصيل الذي ذكرناه .
قال رحمه الله : [ وواجباتها الإحرام ] : الإحرام كما ذكرنا الإحرام من الميقات ، وأما الإحرام بمعنى نية الدخول في النسك فقد قدمنا فيه التفصيل لأن فيه خلافاً بين كونه ركنا أو شرطا .
قال رحمه الله : [ والسعي ] : والسعي بين الصفا والمروة ، وقد قدمنا ذلك .
العمرة لابد فيها من الطواف والسعي ، والسعي ركن فيها ، وقد قدمنا الدليل على ذلك .
قال رحمه الله : [ والحلق ] : والحلق والتقصير وهذا يعتبر جعله من الواجبات ؛ والصحيح أن الحلق يعتبر من الواجبات ولا يعتبر من أركان العمرة كما ذكر المصنف رحمه الله .
قال رحمه الله : [ فمن ترك ركنا لم يتم نسكه إلا به ] : فمن ترك ركنا فإنه لا يتم نسكه إلا به : فلو ترك الوقوف بعرفة بطل حجه ؛ هكذا لو فاته الوقوف بعرفة ؛ لأن عمر - رضي الله عنه - أمر هبار بن الأسود حينما فاته الوقوف بعرفة أن يتحلل بعمرة وأن يأتي بحج بدل ، وهكذا بالنسبة لمن تركه قصدا ، وهكذا لو ترك طواف الإفاضة فإنه يبقى في ذمته إلى الأبد، فلو خرج في الحج ولم يطف طواف الإفاضة يرجع إلى طواف الإفاضة ولو بعد عشر سنوات ؛ لأن الله أمر به ، وهو في ذمته ، فإذا جامع فإنه يأتي بعمرة ثم يأتي بالطواف قبل العمرة ثم يتم عمرته وعليه دم .(5/55)
قال رحمه الله : [ من ترك واجبا جبره بدم ] : لأن الواجبات تجبر بالدم ؛ وفي الحديث : (( من ترك شيئا من نسكه فليرق دما )) اختلف في رفعه ووقفه وقد انتزعه ابن عباس -رضي الله عنهما- من آية التمتع وهو انتزاع صحيح وفصلناه في المذكّرة ، فدل على أنه يجب عليه جبره بدم ؛ ولذلك وجب الدم على الآفاقي دون المكي جبرانا للنقص وهو الإحرام من الميقات فدل على وجوب الضمان .
قال رحمه الله : [ ومن ترك سنة فلا شيء عليه ] : ومن ترك سنة فلا شيء عليه : فلو أنه ترك الدعاء بعد رمي جمرة الصغرى أو الوسطى فلا شيء عليه .
قال رحمه الله : [ ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج ] : نعم هذا الفوات ومن فاته الحج فإنه يتحلل بعمرة .
قال رحمه الله : [ فيتحلل بطواف وسعي وينحر هديا إن كان معه وعليه القضاء ] : أما فوات الحج فقد نص عليه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في حديث عروة بن مضرس وحديث عبدالرحمن الديلي رضي الله عن الجميع وأما كونه يتحلل بعمرة كما أمر عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- هبار بن الأسود وعليه دم من قابل؛ لأنه قضاء سنة راشدة أمر بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن تيسر له وإلا فعليه الصوم .
قال رحمه الله : [ وإن أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك ] : لأن العبرة بالناس كلهم، فلو أخطئوا فإن العبرة بجماعة المسلمين فحجهم صحيح .
قال رحمه الله : [ وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحج ] : كما حصل لهبار بن الأسود ظن أن يوم العيد هو يوم عرفة ففاته الحج وحكم بفوات الحج .
قال رحمه الله : [ ويستحب لمن حج زيارة قبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقبري صاحبيه رضي الله عنهما ] : الاستحباب حكم شرعي ، وقد اختلف في هذه المسألة . فالأصل يقتضي أنه لا يشد الرحل لزيارة القبر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )) .(5/56)
وذهب الجمهور إلى الجواز، ونصوا على ذلك في كتبهم كما هو موجود في المناسك، وقالوا إن زيارة القبر ليست للموضع والمكان حتى يلزم فيها ما ذكر.
والصحيح أنه لا تشد الرحال إلا للمسجد، فيقصد المسجد، ثم بعد ذلك يزور النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حتى لو وقع فيها خلاف وقال به بعض العلماء ، فمادام الحمد لله أن هناك زيارة للمسجد، فتقصد بها زيارة المسجد وتخرج بها من خلاف العلماء فلاشك أن هذا السبيل أبين وأحوط لدين الإنسان ، فيبدأ بزيارة المسجد ثم بعد ذلك يسلم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وصاحبيه .(5/57)
والأصل الشرعي يقتضي أن المسلم يأخذ بالاحتياط في دينه حتى يستبرئ ، فالنص بيّن أنه لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والمسجد الأقصى. فيقصد المدينة ويزور مسجدها لفضل الصلاة فيه فالصلاة فيه بألف صلاة ، وعلى من زار المدينة أن يراعي الحرمة والحرمات ، وأن يحرص على الخير والذكر وطاعة الله -- عز وجل -- ، فيبدأ بالمسجد فيصلي التحية ، ثم بعد ذلك يقف يسلم على النبي-- صلى الله عليه وسلم --السلام الشرعي ، ثمّ على أبي بكر وعمر وهما صاحبا رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وهذا هو فعل السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن من أتى المدينة ابتدأ بتحية المسجد ثم سلم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- السلام الشرعي ، وما يفعله بعض الجفاة وبعض الجهلة الذين يزهّدون بعض طلبة العلم حينما يأتون لأول مرة إلى المدينة حتى إن بعضهم يقول لا داعي أن تزور النبي -- صلى الله عليه وسلم -- -والعياذ بالله- يخالف السلف ويزعم أنه يتبع السلف وهو مخالف لهم ، فنحن نقول: زر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الزيارة الشرعية فينبغي للمسلم أن يكون بين الإفراط والتفريط، ولا ينبغي له أن يمنع من شيء مشروع؛ لأن الأئمة والسلف على ذلك حتى ذكر شيخ الإسلام أن من أتى المدينة يعني من غير أهلها ولم يسلم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يزره فقد جاء ببدعة وحدث ؛ لأن المعروف من فعل السلف أنه يحيّي المسجد ثم يسلم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وعلى صاحبيه ، فما يفعله بعض الشذاذ الذين يخالفون جماعة المسلمين وإجماع السلف من زيارة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والسلام عليه بعد الوصول إلى المدينة أمر منكر مردود خاصة إذا عُلّم ، ولقد قال بعضهم يتباهى بذلك يقول : إنه من فضل الله علَيّ أن لي بالمدينة خمسة وعشرين عاما ما وقفت يوما على القبر ! -والعياذ بالله- فالمحروم من(5/58)
حرم فلا ينبغي لبس الحق بالباطل، بل نقول سلم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- السلام الشرعي، ومتى كان السلام على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- منكرا ، ومتى كان السلام على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- شيئا يتبرأ منه ، علينا أن نكون وسطا بين الإفراط والتفريط ، فالسلام على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قربة ولاشك أنه طاعة إذا كان سلاما شرعيا راعى فيه المسلم الآداب الشرعية ، وليتأمل قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( ما من مسلم يسلم عليّ إلا ردّ الله علي روحي فأرد عليه )) فمن هو السعيد الذي يرد عليه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سلامه يرد عليه بالسلام والرحمة والبركة ، ولاشك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يرد بالأكمل والأفضل لأنه مأمور أن يحيّي بأحسن، فالمنبغي أن نتبّع النص الوارد وأن لا يبالغ الإنسان في تزهيد الناس من السلام على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(5/59)
وأيضا هذه المبالغة التي يفعلها بعض أهل البدع والحدث خاصة إذا كانوا من سكّان المدينة كل يوم يذهب وهو يسلم ذاهبا آتيا للسلام على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا خلاف ما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- ولا ينبغي الغلو في هذه المسائل وأخذ الأبناء وأخذ القرابة كل يوم يذهب ويسلم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا ما فعله السلف وفيه غلو والمسلم وسط بين الإفراط والتفريط ، وعليه أن يأخذ بالقصد، ثم إذا سلم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عليه أن يأخذ بالسنة والعدل وأن يتبع الوارد وأن لا يحدث من الكلمات التي لا أصل لها والأسماء التي لم ترد للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيبالغ في سلامه وإطرائه بل عليه أن يتأسى بالسلف الصالح بالسلام الشرعي على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويجزّيه عن الإسلام والمسلمين خيرا على ما قام به من أداء الرسالة وتبليغها -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- وجزاه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته وصاحب رسالة عن رسالته .
سنتوقف إلى بداية الدراسة إن شاء الله . نسأل الله أن يتقبل ويجعله علما نافعا وعملا صالحا .
وأوصي طلاب العلم بضبط المسائل ، وأوصي بتفريغ الأشرطة إن أمكن ، ثم اختصار هذه الدروس بذكر المسألة وحكمها ودليلها ويصبح هذا ملخصا خاصا للطالب .
وليعلم كل طالب علم أنه مسؤول عن ضبط هذا العلم ، والاستكثار من العلم دون ضبطه مسؤولية عظيمة على طالب العلم ؛ عليه أن يضبط هذه المسائل وأن يراجعها وأن يجد ويجتهد في شغل وقته في هذا العلم النافع ويحرص في أثناء مراجعته على ترتيب المسائل ؛ لأن ترتيب المسائل في المذاكرة يعين على الضبط أكثر .
وأهم شيء الإخلاص والجد والاجتهاد مع صدق العزيمة .
نسأل الله بعزه وجلالته وعظمته وكماله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يتقبل منا هذا العلم خالصا لوجهه الكريم موجبا لرضوانه العظيم وأن يغفر لنا ما كان من الزلل والخطأ .(5/60)
الأسئلة :
فضيلة الشيخ : هل للعمرة طواف وداع . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد :
فللعلماء قولان : هل تلتحق العمرة بالحج في طواف الوداع أو لا تلتحق ؟
أصحهما أنها لا تلتحق ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بطواف الوداع للحاج ولم يأمر به المعتمر ، ولم يثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- في عُمَرِه أنه أمر بوداع .
ثانيا أن الذين قالوا بإيجاب طواف الوداع على المعتمر قالوه من باب القياس ؛ قالوا لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال للمعتمر : (( واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )) وهذا الحديث حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه في الصحيح : (( واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك )) المراد به : ترك المحظورات وليس المراد باب المأمورات ؛ لأنه رأى الرجل وعليه جبة عليها صُفْرة أو أثر الطيب، فقال له : (( انزع عنك جبّتك واغسل عنك أثر الطيب واصنع في عمرتك )) فلو كان هذا اصنع المراد به الأفعال والواجبات لكان يجب عليه في العمرة أن يقف بعرفة وأن يبيت بمزدلفة وأن يبيت بمنى وأن يرمي الجمار! فدل على أنه ليس في الأفعال، فكما خرج الوقوف بعرفة وهو من الأفعال والمبيت بمزدلفة وطواف الإفاضة ورمي الجمار وهي من الأفعال خرج طواف الوداع، وعلى هذا يكون قوله عليه الصلاة والسلام: (( اصنع)) أي اتق المحظورات- كما في عمرتك كما تتّقيها في حجّك لأن السياق والسّباق محكمّ، فسياق الحديث وسباقه إنما هما في التروكات وليس في الأفعال، فالاستناد إلى هذا الحديث ضعيف من هذا الوجه وقد ردّه الجمهور لما ذكرنا .(5/61)
الأمر الثاني : مما يدل على ضعف هذا القول الذين قالوا بوجوب طواف الوداع على المعتمر اختلطت عليهم الأقوال، فقال بعضهم إذا صلّى فرضا ، وقال بعضهم إذا صلى ثلاثة فروض ، وقال بعضهم إذا صلى خمسة فروض، وقال بعضهم إذا بات، فهذا الاضطراب يدل على أنه ليس بواجب، لو كان واجبا لجعل له الشرع أصلا ينتهى إليه في تقدير الوقت الذي يجب على المعتمر أن يطوف به طواف الوداع، ولذلك نقول إن طواف الوداع خاص بالحاج ؛ لأن عائشة أشارت إلى ذلك بقولها : (( كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات)) ، فلما طال العهد عن البيت في الحج بيومين كاملين ابتعد فيهما عن البيت هذا المعنى لا يوجد في المعتمر والعبرة بالغالب أن المعتمر إذا انتهى من عمرته يرجع ؛ ولذلك أمر بطواف الوداع في الحج ولم يؤمر به في العمرة ، فهذا هو الصحيح أن المعتمر لا يطوف لطواف الوداع . والله تعالى أعلم .
نسأل الله بعزته وجلاله العلم النافع والعمل الصالح وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
باب الهدي والأضحية
قال المصنف رحمه الله : [ باب الهدي والأضحية ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فيقول المصنف -رحمه الله- : [ باب الهدي والأضحية ] : هذا الباب يتعلق بمسائل الهدي والأضحية . أما الهدي فإنه راجع إلى مناسك الحج والعمرة ، وهو يكون واجبا وغير واجب ، فيكون الهدي واجبا كما في هدي التمتع والقران ، وكذلك جزاء الصيد وفي الإحصار ، فهذه أحوال يجب فيها الهدي .(5/62)
وأما بالنسبة للأحوال التي لا يجب فيها كأن يبعث إلى البيت الحرام هديا منه تطوعا ، أو يسوقه معه هدية إلى البيت؛ كما فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عام حجة الوداع فقد أهدى بأبي وأمي -صلوات الله وسلامه عليه- الهدي الواجب فساق معه هديه ؛ ففي الصحيحين عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( لولا أني قلدت هديي ولبدت شعري لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة )) وكذلك أيضا صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يبعث بالهدي في الحِجَج التي لم يحجها عليه الصلاة والسلام هدية إلى البيت، وهذه من السنن التي أضاعها كثير من الناس إلا من رحم الله ، وفيها فضل عظيم وثواب كريم أن يهدي الإنسان إلى بيت الله -- عز وجل -- تقرباً لله -- سبحانه وتعالى -- ، وقد فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كلا الأمرين : الواجب ، والمستحب .
ويكون الهدي واجبا بالنذر فلو نذر أن يُهدي إلى البيت أصبح الهدي واجبا في حقه .
وأما الأضحية فإنها تكون في وقت الضُّحى ولذلك سميت بهذا الاسم ، والضُّحى أول النهار، فإذا أشرقت الشمس فإنه من بعد إشراقها إلى اشتداد النهار يسمى ضحى، ثم إذا اشتد النهار قبل الزوال يقال له الضَّحى بالفتح، ثم يكون انتصاف النهار، والهاجر، والقيلولة ، فلما كان هذا النوع من القربان يذبح في هذا الوقت المستحب وهو أول النهار وصف بذلك، ولذلك استحب العلماء للأئمة والخطباء في عيد النحر أن يعجّلوا وأن يخففوا على الناس حتى يتمكن الناس من ذبح ونحر أضاحيهم في الوقت المستحب ؛ ففي الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه كان من سنته أن يعجل بالَأضْحى ويؤخر في الفطر والتعجيل بالأضحى لهذا المعنى فسميت الأضحية أضحية لأنها تذبح في هذا الوقت .(5/63)
وجعل المصنف -رحمه الله- أحكام الأضحية تابعة للهدي؛ لأن الهدي هو المتصل بمناسك الحج والعمرة، ومن عادة العلماء والأئمة والفقهاء أن يذكروا النظير مع نظيره والشبيه مع شبيهه ؛ والأصل أن الكتاب كتاب أنه للحج والعمرة ، فناسب أن يبين سنية الهدي والإهداء إلى البيت ، ثم لما يبين الهدي يتكلم على أحكام الأضحية ؛ لأنها تكون في يوم النحر وهو من أيام الحج كما هو معلوم .
يقول رحمه الله : [ باب الهدي والأضحية ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالهدي والأضحية ، والمسلم مطالب أن يعرف أحكام أضحيته ؛ لأن هذه الأحكام يتلبّس بها ولربما يسأل عنها ، وحينئذ يتعلمها ليعمل بها ، ويعلمها الناس .
قال رحمه الله : [ والهدي والأضحية سنة لا تجب إلا بالنذر ] : والهدي والأضحية سنة لا تجب إلا بالنذر بيّن رحمه الله أن الهدي سنة من سنن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهديه ، وهذا في غير هدي القِران، وهدي التمتع، وجزاء الصيد، والإحصار، وهذا لأنها واجبة ولازمة . وأما بالنسبة للمراد هنا فهو ما خرج عن اللزوم ، ولذلك قال : لا تجب إلا بالنذر ؛ واختلف في الأضحية على قولين : أصحهما وأقواهما أن الأضحية واجبة لمن استطاع وقدر على شرائها بوجود قيمة الأضحية فاضلة عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ؛ فهي واجبة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها ، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله )) وأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بذلك ، ولو كانت غير واجبة لخيّر عليه الصلاة والسلام ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال في حديث السنن وحسنه بعض العلماء : (( من وجد سَعة فلم يضح فلا يقربنّ مصلانا )) .(5/64)
وذهب طائفة من العلماء إلى عدم الوجوب وقالوا إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال في الحديث الصحيح : (( إنما ضحى بكبشين أملحين قال في أحدهما : (( اللهم هذا عن محمد وآل محمد ، وقال في الثانية : عمن لم يضح من أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- )) فقالوا إن هذا يدل على أن الأضحية ليست بواجبة .
وقد أجيب عن هذا الاستدلال بأن قوله : (( عمن لم يضح...)) يحتمل أن يكون المراد به من عجز ولم يقدر فجبر الله له ذلك العجز وبلغه بفضله -- سبحانه وتعالى -- وكرمه على أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا الفضل ، فالحديث محتمل ، ومن هنا لا يقوى على صرف الأمر عن ظاهره ، وهذا لاشك أنه أقوى القولين وأحوطهما . ولما سئل عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما وأرضاهما- فسأله رجل عن الأضحية . وقال : يا أبا عبد الرحمن أواجبة هي ؟ فقال له رضي الله عنه وأرضاه : (( ضحى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأبوبكر وعمر وعثمان )) . فرد عليه وقال : يا أبا عبد الرحمن الأضحية واجبة ؟ فرد عليه وقال : (( ضحى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأبوبكر وعمر وعثمان )) . فلما كانت الثالثة وسأله قال له أتعقل ؟! ضحى رسول الله يعني من يترك هذا الشيء الذي فعله رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وفعله الخلفاء الراشدون المهديون من بعده ، وهذا والله هو الفقه في حمل الناس على السنة ، وترغيبهم فيها وحثهم عليها رضي الله عنه وأرضاه .
وبيّن رحمه الله أن الأضحية تجب بالنذر فإن قيل بعدم وجوبها في أصل الشرع فإنها تجب بالنذر. وصورة ذلك : أن يقول: لله علي أن أضحي هذا العام ؛ فحينئذ إذا قلنا إن الأضحية ليست بواجبة فإنه يجب عليه أن يفي بنذره إذا كان مستطيعا .(5/65)
قال رحمه الله : [ والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها ] : كونه يقول : سنة : السنة من هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وقد أهدى عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا إلى البيت ، وتطوع في هديه ، فجمع بين الهدي الواجب والهدي المسنون ، ولذلك نحر بأبي وأمي -صلوات الله وسلامه عليه- ثلاثا وستين بدنة في حجة الوداع ، وأمر عليا -- رضي الله عنه -- أن ينحر ما بقي من الإبل تمام المائة ، وهذا يدل على أنه يجوز ويشرع أن يهدي الإنسان للبيت. فالواجب عليه -عليه الصلاة والسلام- الدم الذي ساقه معه ، وأما ما زاد على ذلك فإنه سنة ، ومن هنا قالوا إن الهدي سنة .
وأما الأضحية سنة بقوله -عليه الصلاة والسلام- وفعله أما قوله فأحاديث منها قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها )) وقوله -عليه الصلاة والسلام- حينما سأله أبو بردة -رضي الله عنه وأرضاه- قال له عليه الصلاة والسلام : (( تجَزيك ولا تَجزي غيرك )) وكذلك أيضا الفعل حيث إنه عليه الصلاة والسلام فعل الأضحية ، فضحى عليه الصلاة والسلام بنفسه، وتولى الأضحية بنفسه -صلوات الله وسلامه عليه- .(5/66)
قال رحمه الله : [ والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها ] : إذا كان عند الإنسان مال يكفيه لشراء أضحية سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم فهل الأفضل أن يتصدق بهذا المال أو الأفضل أن يضحي ؟ هذا مبني على أن الأضحية غير واجبة . أما إذا قلنا إنها واجبة فلا إشكال ؛ لأن التصدق نافلة والتضحية واجبة ، والواجب أفضل من غير الواجب بإجماع العلماء ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( يقول الله تعالى في الحديث القدسي ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )) ، وأجمع العلماء على أن الواجبات أفضل من غير الواجب ، فلو صلى ركعتي الفجر فإنها بالإجماع أفضل من كل ركعتين من النوافل، إذا ثبت هذا الكلام عند المصنف -رحمه الله- والخلاف في هذه المسألة مبني على القول بعدم وجوب الأضحية ، فهل الأفضل أن يتصدق بالثمن أو يضحي ؟ هذا راجع إلى مسألة المفاضلة والمفاضلات بابها ينبغي ضبطه بالكتاب والسنة ؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يفضل قولا ولا عملا إلا بنص شرعي ؛ لأن التفضيل راجع إلى حكم الشرع ، فلا يستطيع أحد أن يقول إن هذا أفضل إلا إذا كان أكثر ثوابا وأعظم منزلة وقربة لله -- جل جلاله -- ، وهذا أمر غيبي يفتقر إلى ورود النص ، ومن هنا تكلم العلماء على قواعد المفاضلة في الأقوال والأعمال ، ثم المفاضلة تكون بين الأركان وتكون بين الواجبات وتكون بين المستحبات والمسنونات ، ثم تكون بين المؤقت وغير المؤقت إلى غير ذلك مما هو معلوم في قواعد الفقه وما بحثه العلماء في هذا الباب . فمسألة التصدق بالمال قال بعض العلماء : التضحية أفضل من الصدقة بالمال بمعنى أنه إذا اشترى الأضحية وذبحها أو نحرها فهذا أفضل من أن يأخذ المال كله ويتصدق به .(5/67)
وقال بعض العلماء : الأفضل أن يتصدق بالمال . أما الذين فضلوا أن يضحي فقالوا : إن هذه سنة مخصوصة بزمان مخصوص ووقت مخصوص ، ففعلها في هذا الزمان المخصوص والوقت المخصوص يقتضي تفضيلها على أي شيء مطلق ؛ ولذلك من قواعد العلماء : (( أن المقيد فيما قيد به أفضل من غير المقيد )) فمثلا أنت إذا كنت في عمل صالح وجاء عن الشرع النص بالقول والعمل يفضل قولا أو فعلا في هذا الوقت ، وجاء نص يفضل قولا وفعلا في عموم الأوقات قُدّم المقيد ومن ذلك الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يوم الجمعة ، حينما قال طائفة من العلماء الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والإكثار منها يوم الجمعة أفضل من غيرها من النوافل ، وهذا مبني على النص ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فأكثروا علي من الصلاة فيه )) فجاء مقيدا بالزمان حتى اختلفوا وقالوا : الأفضل أن يكثر من الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا وقالوا إنه أفضل من أن يكثر من تلاوة القرآن ليس معنى ذلك أن جنس الصلاة أفضل من جنس القرآن أبدا بإجماع العلماء على أن قراءة القرآن هي أفضل وأعظم أجرًا عند الله -- عز وجل -- لكنه لما ورد النص عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالتخصيص فُضّل ، ومن ذلك : مسألة الاستغفار في الأسحار هل الأفضل أن يكثر من الاستغفار أو يقرأ القرآن في السحر في آخر السحر ؟ قالوا إن الله أثنى على المستغفرين بالأسحار، فهذا ذكر مخصوص في وقت مخصوص يفضل للوارد هذا راجع إلى قاعدة تقول : (( الوارد أفضل من غير الوارد )) هذا أمر بديهي لكن مراد العلماء أن الفضائل والمستحبات إذا وردت بخصوص زمان أو بخصوص مكان فإنها مفضلة للورود .(5/68)
وجه هذا التفضيل : قالوا إنه إذا ضحى في يومه فإنه يصيب أجرين : الأجر الأول في كونه ضحى فإنه مال أنفقه وخرج عنه لله وفي الله وفي طاعة الله صدقة وقربة ثم يثاب من جهة المتابعة للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذا مثل مسألة الصلاة بمكة ظهر اليوم الثامن وهو يوم التروية ، فإن الحاج في اليوم الثامن السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه يصعد إلى منى ، صعد وصلى اليوم الثامن الظهر بمنى ، فعلى القول بأن التفضيل خاص بالمسجد نفسه وأن الصلاة بمائة ألف صلاة خاصة بالمسجد نفسه قالوا إنه لو كان بمكة وأمكنه أن يصلي الظهر في المسجد الحرام وأن يصليه في مسجد الخيف أو في مسجد منى فالأفضل أن يصلي في ذلك اليوم الظهر بمنى أو بخيفها ؛ لماذا ؟ لأنه وارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والاتباع يقتضي زيادة المرتبة وعلو الدرجة ؛ لأن الله –- سبحانه وتعالى -- جعل في متابعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أعظم شيء منحه وأعطاه لعباده هو الهداية ، الهداية التي المسلم ولا يصلي صلاته ولا تقبل له الصلاة على الصحيح من أقوال العلماء أن الصلاة إلا بالفاتحة بعينها وهي مذهب الجمهور في كل صلاة وهو يقول : {اهدنا الصراط المستقيم } يسأل الله الهداية . جعل الله أعز شيء وأعظم نعمة وأفضل نعمة وهي نعمة الهداية في متابعة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فقال : { واتبعوه لعلكم تهتدون} فقالوا إن هذه المتابعة تقتضي المفاضلة ، وعلى هذا فالأفضل أن يضحي ، ولاشك أن التضحية متابعة للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أفضل من الصدقة ؛ لأن الصدقة عامة ، والأضحية خاصة ، لكن كل هذا كما ذكرنا على القول بعدم الوجوب .(5/69)
أما مسألة الصدقات في عمومها بعض العلماء يقول قلنا بتفضيل الصدقة ؛ لأن المسكين حينما يأخذ المال يملكه، وإذا ملكه صرفه في منافعه فكان أعظم رفقاً به حينما يأخذ اللحم ؛ لأنه إذا ضحى وأعطاه اللحم فإنه قد جعل الانتفاع خاصا بالأكل ، لكن حينما يعطيه المال جعل انتفاعه أكثر من الأكل ، يستطيع أن يستخدم المال في طعامه وفي شرابه وفي قضاء دينه إلى غير ذلك فقالوا إنه لا يخصه بعمل معين ، ومن هنا فضلوا إعطاء المال على التضحية ، وهذا كله كما ذكرنا محله أن لا يكون هناك وارد .
قال رحمه الله : [ والأفضل فيهما الإبل ] : والأفضل في الهدي والأضحية الإبل ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن )) فجعل مرتبة الإبل أفضل من مرتبة البقر، ومرتبة البقر أفضل من مرتبة الغنم ، ومن هنا قالوا إن الإبل أفضل ما يهدى ، وأفضل ما يضحى به ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل البعير مجزئا عن سبعة ، فالجزور الواحد يجزئ عن سبعة ، فلو أن سبعة أشخاص اشتركوا في شراء بعير وضحوا به أجزأهم ، والشاة تجزي عن الرجل وأهل بيته ؛ كما صح في حديث أبي أيوب -رضي الله عنه وأرضاه- ، وعلى هذا لاشك أن الإبل أفضل ، ولأن الإبل أكبر جسما ، وكذلك أغلى ثمنا ، ومن هنا كانت أفضل من البقر وأفضل من الغنم .(5/70)
قال رحمه الله : [ ثم البقر ] : ثم البقر ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل الرواح في الساعة الثانية من الجمعة كمن ذبح بقرة وهذا فيه رد على من يقول من العلماء إن الإبل والبقر بمنزلة واحدة وهناك من يقول إن ا لإبل والبقر لا تفضيل بينهما إلا من جهة الصفات : أن تكون إحداهما أسمن أو أطيب لحما أو أحسن حالا وصفة في الكمال فحينئذ تفضل أما جنس الإبل والبقر فيجعلهما في مرتبة واحدة ؛ ودليلهم أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل الإبل عن سبعة وجعل البقر عن سبعة فدل على أنهما بمرتبة واحدة .
ونقول : إن السنة دلت على أن البقر دون الإبل على ظاهر قوله : (( من راح في الساعة الثانية فكان كأنما قرب بقرة )) وكون الشرع يجعل الإبل عن سبعة والبقر عن سبعة لا يقتضي أنهما بمنزلة واحدة ، فقد يكون المنزلة واحدة والتفضيل بالصفات كما لو كان أحد البعيرين أسمن وأوفر لحما والثاني دونه ويجزي فإننا نقول: إن كلا منهما يجزئ عن سبعة ولكن التضحية بهذا أفضل من التضحية بهذا ، ولاشك أن الإبل أكبر وأوفر لحما من الغنم ، وعلى هذا فيقدم الإبل على البقر .(5/71)
قال رحمه الله : [ ثم الغنم ] : ثم الغنم والإبل بنوعيها : العراب ، والبختية ، والبقر بنوعيه : البقر ، والجواميس، والغنم بنوعيه : الضأن ، والمعز، فجعل الله -- عز وجل -- في الإبل زوجين ونوعين. فالإبل بالنوعين : العراب ، والبختية، وأفضلها العراب ، والعراب هي التي لها سنام واحد ، والإبل البختية هي التي لها سنامان ، وفضلت العراب ؛ لأنها هي التي أهدى بها رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، والبقر يفضل على الجاموس ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ضحى عن نسائه بالبقر ، وعلى هذا فإن البقر أفضل من التضحية بالجاموس ؛ والجاموس يدخل في هذا بنوعيه ، وكذلك بالنسبة للغنم فالضأن أفضل من المعز؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ضحى بكبشين أملحين أقرنين ، ولأنه أطيب لحما ، وأكثر نفعا ، ومن هنا قدم وفضل على المعز ، ولذلك يجزي منه الجذع ويوفي مما يوفي منه الثني من المعز ، وهذا يدل على أن شأن الضأن أفضل من شأن المعز وإن كان كل منهما يجزئ عن الرجل وأهل بيته .
قال رحمه الله : [ ويستحب استحسانها واستسمانها ]: ويستحب للمسلم إذا أراد أن يضحي أن يستسمن الأضحية وأن يستحسن . أما الاستسمان فهذا راجع إلى حال الكمال في صفة البهيمة إبلا كانت أو بقرا أو غنما ، فالسمين منها أفضل وأعظم أجرا ، ولذلك لما سئل عليه الصلاة والسلام عن أعظم البهائم أجرا عند الله -- عز وجل -- وهذا شامل للأضاحي والهدي قال : ((أنفسها وأغلاها ثمنا عند أهلها )).(5/72)
أنفسها : والنفيس من كل شيء أفضله ، والذي يعز وجوده ، ولذلك السمين أنفس وأحب إلى أهله ، وعلى هذا يعتبر من كرام المال ، وقد تقدم معنا في الزكاة أن الساعي و الجابي لا يأخذ السمينة ؛ لأنها كريمة مال ، فمن كرام المال السمان ، فأحسن وأفضل ما تكون الأضحية إذا كانت سمينة ، وسمنها يزيد في لحمها ، وزيادة في طيبها ، وحينئذ يكون أعظم أجرا إذا تصدق بها ؛ ولأن السمين أغلى ثمنا ، وإذا كان أغلى ثمنا فهو أغلى كلفة ومشقة ، فيكون أكثر ثوابا عند الله -- عز وجل -- ولذلك قال : (( أنفسها وأغلاها ثمنا عند أهلها )) ولاشك أن السمين كذلك .
والاستحسان : الاستحسان يكون في الصفات فإذا كانت حسنة الحال في شكلها وصفاتها فبعض البهائم تكون لها صفات محمودة من الإبل والبقر والغنم إلا أن هذا الاستحسان راجع إلى طيب اللحم ، البهائم يستحسنها أهلها ويستطيبونها وتكون عزيزة عندهم على حسب المقاصد ، فالبهمية إما مركوبة وإما محلوبة وإما مأكولة ، فهذه مصالح الناس في البهائم : مركوبة فيما يركب كالإبل ، فإنها تكون عزيزة في الرَّكوب إذا كانت على صفات معينة ، وتكون كذلك حلوبا ، فإذا أرادها للحليب فإنها تكون عزيزة وغالية عند أهلها بصفات معينة يعرفها أهل الخبرة ، كذلك إذا كانت للأكل ، فالاستحسان هنا من جهة الأكل أن تكون حسنة في حالها وصفاتها ومن جهة الأكل ومن جهة الصفة ، فبين من جهة الأكل بقوله : سمينة بصفة السمن، والاستحسان في الشكل .(5/73)
قال رحمه الله : [ ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني مما سواه ] : بعد أن بين رحمه الله حكم الأضحية والمفاضلة بين أنواعها يتبع هذا أن التضحية والهدي لا يكون إلا من هذه الثلاثة الأنواع : الإبل، والبقر، والغنم ، فلا يضحي بغير هذه الثلاث ، وهذا مذهب الجماهير من السلف والخلف رحمهم الله ومنهم الأئمة الأربعة فلا يضحي بدجاجة ، ولا يضحي بمثلا غزال ولا يضحي بتيثل ولا وعل ، فهذه كلها ليست بأضحية وليست محلا للأضحية ؛ ولذلك خص النبي -- صلى الله عليه وسلم -- المسن من بهيمة الأنعام ، وهذا يخص الإبل والبقر والغنم ، ونص الله - عز وجل - على اعتبار البهيمة يدل على أنه لا يكون إلا من هذا النوع ، فإذا ثبت هذا فإنه لابد وأن يراعى في هذه البهائم سنا معتبرا يراعي سنا معتبرا فلا يجزئ ما نقص عن هذه السن ، وهذا يعتبر من شروط صحة ا لأضحية .
فالشرط الأول : أن تكون من بهيمة الأنعام ، فلا يجزئ من غيرها .
والشرط الثاني : أن تكون قد بلغت السن المعتبر ، والسن المعتبر الثني من المعز ، والإبل والبقر ، فالثني من الإبل هو الذي بلغ الرابعة وطعن في الخامسة ، أتم الرابعة وطعن في الخامسة .
وأما بالنسبة للغنم فإن الماعز يكون ثنيا إذا أتم السنة ودخل في الثانية .
ومن ا لبقر إذا أتم السنتين ودخل في الثالثة .(5/74)
قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن )) وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( إن الجذع يوفي مما يوفي منه الثني )) فعندنا الأصل وما يستثنى، فالأصل أن الثني من الإبل والبقر والغنم واستثنى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- من هذا الشرط - أن يكون ثنيا - الضأن فقط وهو الذي يسمى في عرف العامة اليوم : الطلي الذي له ألية ، فهذا النوع من الغنم يجزئ منه ما أتم ستة أشهر إذا كان جيد المرعى ، قالوا إنه يكون جذعا من الضأن إذا أتم ستة أشهر . وبعض العلماء يقول : إنه لا يكون جذعا إلا إذا بلغ ثلاثة أرباع الحول ، ومنهم من يقول إذا قارب تمام الحول.
والصحيح الذي ذكره بعض الأئمة أنه يختلف بحسب اختلاف المراعي ، ولذلك قد يجذع بإتمام الستة الأشهر إذا كان طيب المرعى ، وقد يجذع في أكثر الحول أو إذا قارب تمام الحول على حسب اختلاف المرعى .
إذًا لا يكون جذعا دون ستة أشهر وهذا هو بيت القصيد أنه أتم ستة أشهر ، ودخل في أكثر الحول . هذا بالنسبة للشرط المعتبر ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رد على أبي بردة -- رضي الله عنه -- حينما ضحى بالعناق وقال له : (( تجزيك ولا تجزي غيرك )) .(5/75)
فيشترط في الأضحية أن تكون بعد الصلاة لا قبل الصلاة ، فجاء أبو بردة - رضي الله عنه - وضحى قبل صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لعيد الأضحى ، وقال كما في الصحيحين : (( فأحببت أن يكون أول شيء يصيب أهلي من طعامها )) فقصد بالتعجيل المبادرة بهذه السنة ، فلما أخبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمره أن يذبح أخرى مكانها فقال : (( ليس عندي إلا عناقا)) وهي أصغر فقال - صلى الله عليه وسلم - له : (( تجزيك ولا تجزي غيرك )) وهذا يدل على أن الأضحية لابد أن تبلغ سنا معتبرة. ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تذبحوا إلا مسنة )) فجعل السن شرطا ، وعلى هذا جماهير السلف والخلف وهو كالإجماع على أن الأضحية لا تجزي والهدي لا يجزي إلا إذا كان قد بلغ السن المعتبرة .
قال رحمه الله : [ وثني المعز ما له سنة ] : ثني المعز ما أتم السنة ودخل في الثانية وعلى هذا إذا أتم السنة ودخل في الثانية جاز أن تُضَحّي بها ، وأيضا لو أن شخصا سألك وقال : علي دم إما في حج مثل أن يكون مثلا فدية حج فأصاب محظورا من محظورات الإحرام فقال: أريد أن أذبح دما فماذا أفعل ؟ تقول له ينبغي أن يكون قد بلغ السن المعتبرة فكل دم واجب على الشرع سواء بالعبادة أو أوجبه على نفسه بالنذر فإنه لابد أن يبلغ السن المعتبر هذه على التفصيل الذي يذكره المصنف في الغنم أتم السنة ودخل الثانية ، ولذلك يقال له الثني.
إذًا يستثنى من الغنم في إتمام السنة الضأن فإنه يمكن أن يضحي به إذا كان دون السنة كما ذكرنا إذا كان جذعا من الضأن .
قال رحمه الله : [ وثني الإبل ما كمل له خمس سنين ] : وثني البقر ما أتم السنتين فإذا أتم السنتين فإنه ثني وحينئذ يجزئ أن يذبحه ، وأن يتقرب به في هدي أو أضحية ، وأما الإبل فما أتم .(5/76)
قال رحمه الله : [ وثني الإبل ما كمل له خمس سنين ] : ما كمل له خمس سنين : هذا راجع إلى مسألة فقهية : هل العبرة في الحد بأوله أو بتمامه ؟ فكلهم متفقون على أنه لا يكون إلا بعد تمام أربع سنوات ، ثم اختلفوا فقال بعضهم : طعن في الخامسة ، وإذا قيل طعن في الخامسة كما ذكرنا في أول الحديث فهو أن يكون في أكثر الحول من الخامسة يعني أتم ستة أشهر وقارب التمام ، وهذا ذكره بعض أهل الخبرة ، ولذلك نجد بعض الفقهاء رحمهم الله اعتمدوا على هذا القول . قالوا طعن في الخامسة .
ومنهم من يقول أتم الخامسة كما قال المصنف -رحمه الله- وهذا كما ذكرنا راجع إلى التفصيل الذي ذكرناه باختلاف المرعى والأحوال .
قال رحمه الله : [ ومن البقر ما له سنتان ] : ومن البقر ما له سنتان كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ وتجزئ الشاة عن واحد ] : وتجزئ الشاة عن واحد ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعلها عن الرجل وأهل بيته كما في الحديث الصحيح أن الشاة كانت تجزئ عن الرجل وأهل بيته فهي في الأصل مجزئة عن المضحي نفسه. وأما بالنسبة لأهل بيته فهم تبع .(5/77)
وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن الشاة لا تجزئ عن أكثر من واحد ، ولو اشترك اثنان في شاة لم تقع عنهما. وعندهم خلاف في مسألة لو أنهما ذبحا على هذه الصفة على من تجزي ؟ هل لأول مُسَمٍّ منهما أو للمالك الحقيقي على تفصيل عند العلماء ؛ لأن هناك أحوالا أن يكون مشتركين استحقاقا كما في الشريكين أن يكونا مشتركين هدية يقول له : أشركك معي تبعا هذا كله فيه تفصيل لكن من حيث الأصل لو اشترك اثنان في شاة أو اشترك أكثر من واحد في شاة لا تجزي إلا عن الرجل نفسه ، ولا تجزي عن أكثر من رجل إلا عن أهل بيته تبعا ، وعلى هذا الأصل فيها عن الشخص نفسه ، وهذا منصوص العلماء رحمهم الله في كتبهم أن الشاة لا تجزي إلا عن الرجل وحده . تجزي عن أهل بيته كزوجته وأولاده ، فإذا كانت له أسرة ولو كانت كثيرة العدد فلو كان عنده أكثر من عشرة أولاد وكلهم في رعايته وهو الذي يقوم عليهم وهو الذي ينفق عليهم وهم تبع له وفي بيت واحد فإنه يضحي بشاة واحدة عنه وعن آله .
وأما بالنسبة للبقر والإبل فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعلهما عن سبعة ، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح أن الصحابة رضوان الله عليهم اشتركوا في الإبل عن سبعة ، وكانت السبعة منهم ينحرون الجزور ويجزيهم .
قال رحمه الله : [ والبدنة والبقرة عن سبعة ] : كما ثبت في حديث جابر -- رضي الله عنه -- وغيره وفي حديث أم المؤمنين عائشة في المسند وغيره عنها رضي الله عنها (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه بالبقر )) فالبقر يحصل فيه التشريك بنوعيه ، وهكذا الإبل .(5/78)
قال رحمه الله : [ ولا تجزئ العوراء البين عورها ] : الاشتراك في التضحية وفي الهدي، فلو مثلا فرضنا أن سبعة أشخاص كل واحد منهم عليه دم فدية في الحج أو ذهبوا في عمرة ولزمتهم الفدية في حلق أو تقصير أو نتف شعر أو تغطية أو طيب أو نحو ذلك من الفدية فلزم كل واحد منهم دم أو أحرموا دون الميقات وهم سبعة فنقول لهم: اشتركوا في بعير على الصفة المعتبرة وانحروه عنكم ، فحينئذ يجزئ عن السبعة ، ولو أن سبع أسر أرادوا أن يشتركوا في أضحية فاجتمعوا واشتروا جزورا أجزأ هذا الجزور عن سبعة بيوت ، وهكذا لو استطابوا البقر فأرادوا أن يأكلوا لحم البقر والحال يصعب أن أحدهم يشتري بقرة فقال نريد أن نشترك في سبعة في هذه البقرة فدفعوا ثمنها أجزأت أضحية عنهم .
إذًا الاشتراك سواء كان من الشخص في واجب أو في غير واجب .
كذلك أيضا ذكر بعض العلماء أن من وجبت عليه الفدية في سبعة أخطاء ، أو مثلا تكررت على وجه لا تتداخل فيه في الأنواع ، فقالوا لو أنه جاء بعمرة سبع مرات وهو يتخطى الميقات ، ولا يحرم من الميقات عالما متعمدا؛ فلزمه الدم قالوا صح أن ينحر الجزور بمكة صدقة على أهل مكة ؛ لأن الدم الواجب في جبران الواجبات في الحج يكون بمكة، فنحر بمكة جزورا أجزأه عن الإخلالات السبعة ، فيحصل التشريك سواء عن الشخص نفسه فيما وجب عليه . شخص قال : والله أنا صعب علي أن أذبح سبع شياه أو وجد أن قيمة سبعة الشياه مثلا بثلاثة آلاف وخمسمائة أمكنه أن يشتري بقرة بألف ريال وهي بنفس الصفات المعتبرة أجزأته عن هذه الإخلالات .(5/79)
هذا فيما يحصل فيه التداخل ، ويحصل فيه التشريك . فالتشريك في الجزور سائغ على هذا الوجه ، لكن لو أن أربعة أشخاص أرادوا عقيقة فكل واحد من الثلاثة مثلا ولد له ذكر والرابع منهم ولدت له أنثى فأرادوا أن ينحروا جزورا نقول: لا ؛ لأن مقصود الشرع هنا بالعقيقة كما ذكر بعض الأئمة -رحمهم الله- بالدم نفسه شاتان متكافئتان عن الذكر وشاة عن الأنثى، وحينئذ لا يحصل التداخل ولا الاجتماع ؛ لأنه يخالف مقصود الشرع ، فيحصل التداخل والتشريك في الدماء الواجبة ، ويحصل التداخل والتشريك في الأضحية ، ويحصل التداخل والتشريك في اجتماع الاستحقاقات حتى ولو كان من شخص واحد أو أشخاص ، فلو كان على أحدهم ثلاث فديات واجبة والآخر عليه أربعة ، فدفع الأول الذي عليه ثلاث ثلاثة أسباع قيمة الجزور، ودفع الآخر أربعة أسباع القيمة مثلا كانت قيمة الجزور سبعمائة ريال فإنه يدفع الأول ثلاثة الأسباع ثلاثمائة والثاني يدفع أربعة أسباع أربعمائة ، وينحران جزورا ويجزي عما يجب عليهما .
الأسئلة :
السؤال الأول : فضيلة الشيخ : من استدان المال لشراء الأضحية لأنه لا يملك النقد وهو مقتدر ، وكذلك من أخذها بالدين هل تجوز له ذلك . وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فيشتمل هذا السؤال على جانبين :
الجانب الأول : أن يكون الشخص مقتدرا وليست عنده سيولة ، مثلا شخص عنده مال لكن ليس من النقدين، وعنده قدرة على أن يشتري الأضحية ، فهل يتسلف السيولة أو أنه يترك الأضحية ؟(5/80)
الجواب : نعم يلزمه أن يضحي ، وعنده قدرة ، وعلى هذا يستوي أن يأخذ المال من الغير ثم يقضيه من ماله بعد ذلك ، أو إذا جاءته سيولة . ومثلا لو أن شخصا عنده بقالة أو عنده سوبر ماركت ويوم الأضحية ما عنده سيولة لكن المال عنده وعنده قدرة وعنده شيء فاضل عن قوته وقوت ولده بحيث لو باعه استطاع أن يشتري به أضحية فنقول له بالخيار : إما أن تبيعه أو تصرف هذه البضاعة على قدر ما تشتري به الأضحية أو تأخذ السيولة من غيرك ثم تضحي فأنت قادر ومستطيع ، فهو بالخيار .
وأما إذا كان عاجزا وأراد أن يستدين من أجل أن يضحي فهذا فيه تفصيل :
أولاً : وقبل التفصيل الذي يذكره العلماء لا يجب عليه أن يفعل هذا إذا كان ما عنده مال أو فقيرا أو معدما فقال : أريد أن أتسلف من أجل أن أضحي كلهم متفقون على أنه لا يجب عليه أن يتسلّف ؛ لأن التكليف شرطه الإمكان ، وهذا ليس عنده { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقال في الآية الأخرى : { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } فهذا ليس عنده قدرة وليس عنده مال ، فلا يجب على العاجز عن الأضحية أن يتسلف ويستدين هذا بلا خلاف بين العلماء -رحمهم الله- إنما الخلاف هل يشرع أو لا يشرع ؟ وهل الأفضل أن يستدين ويصيب فضل هذه السنة أو الأفضل أن لا يستدين ؟
أما من حيث يشرع له أو لا يشرع كان بعض مشايخنا -رحمهم الله -يفصل في مسألة وجود الاستحقاق ، فبعض الناس يكون مثلا قد مضت عليه العشرة الأيام وهي ثلث الشهر وراتبه ثلاثة آلاف ريال ، فمعنى ذلك أنه في حكم من له ألف ريال بيده لكن الثلاثة الآلاف ما تأتيه إلا في آخر الشهر، وحينئذ عنده استحقاق ، فيسوغ له أن يستدين وأن يضحي ، وفي هذه الحالة كانوا يقولون : إن هذا أشبه بالوجوب وأقرب إلى الوجوب ؛ لأنه عنده الاستحقاق وهذا على مسألة الدين هل هو في حكم ما في اليد أو لا ؟ وهو راجع إلى مسألة الزكاة فإن كان غالب ظنه حصوله على هذا المال فلا إشكال .(5/81)
الوجه الثاني : عند بعض العلماء يقول : إنه لا يجب عليه والأشبه أنه لا يلزمه أن يستدين ؛ لأن العبرة بالوقت، ولذلك قالوا لو أن شخصا حج ولم يجد الدم الواجب عليه في حال حجه ولكنه إذا رجع إلى بلده عنده مال قالوا العبرة بحاله في الحج وليست العبرة بحاله في بلده هذا خلاف بين العلماء رحمهم الله والمسألة مشهورة وسبق أن أشرنا إليها في المناسك .
تبقى قضية هل الأفضل أن يستدين أو لا يستدين ؟ فبعض العلماء يفضل أنه إذا استدان كان أعظم لأجره ؛ لأنه يصيب السنة ، ويتأسى بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- في كونه يضحي في ذلك العام ، فقالوا إنه أفضل من هذا الوجه .
ومن أهل العلم من قال إنه ليس بأفضل ؛ لأن الأفضل أن لا يهين الإنسان نفسه ، ولا يذل نفسه بالدين ، ونصوص الشرع تدل على أن المسلم ينبغي أن يصون وجهه عن سؤال الناس ، فقالوا إذا استدان سأل ، ووقع فيما هو مكروه شرعا ، فجعلوه في مرتبة المفضول لا الأفضل .
والحقيقة كلا القولين له وجه ، وهذا راجع إلى مسألة : هل يستدين ليتصدق ؟
والقولان لهما وجه الذي منع له وجه والذي أجاز له وجه . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني : فضيلة الشيخ رجل عنده زوجتان كل واحدة في بيت مستقل هل تجزئه أضحية واحدة وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
آل الرجل في البيتين كالبيت الواحد ؛ لأن قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح في حكاية الهدي أيام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تجزئ عن الرجل وأهل بيته . أهل البيت المراد بهم من تبع الإنسان ولو كان عنده أربع نسوة ، فإنه في حكم البيت الواحد . فالعبرة بالتبعية وليست العبرة بكون هذه الزوجة عندها عيالها والأخرى عندها عيال فكلهم في حكم البيت الواحد . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ إذا كان الابن متزوجاً ولكن يسكن مع والديه في نفس البيت هل تجب أضحية على الأب وأضحية على الابن المتزوج . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(5/82)
الابن المستقل بزواج وأسرة فهذا خارج عن والده في نفقته ، فالوالد ليس بقائم عليه في نفقته لا يعتبر تابعا لوالده وحينئذ تكون أسرتان ، وأهل بيتين لا أهل بيت واحد ؛ لأن الابن قائم على زوجه ، والأب قائم على أولاده، وهذا الابن المتزوج لا يعتبر تابعا للأب إلا في السكن والشكل لكن في الحقيقة وحكم الشرع هذا بيت وهذا بيت ، ولذلك يجب على الابن أن يضحي والأب يجب عليه أن يضحي ، فهنا أضحيتان وليست بأضحية واحدة. والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع : فضيلة الشيخ شخص يرغب في الاعتكاف وفي نفس المسجد حلقة علم طيلة أيام الاعتكاف فهل يمكن أن يدخل نية الاعتكاف تحت نية طلب العلم أو لا يصح . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
الأفضل في المعتكف أن يشتغل بذكر الله -- عز وجل --؛ ولذلك الاعتكاف : حبس المسلم نفسه في المسجد لذكر الله وطاعة الله -- عز وجل -- . وطلب العلم لاشك أنه من طاعة الله ، ولكن هناك فرق بين العبادة وبين طلب العلم ، وقد بين النبي- - صلى الله عليه وسلم -- هذا وقال : (( إن فضل العالم على العابد )) ففرق بين الجنسين. العبادة لها وقت مخصوص وزمان مخصوص، ولذلك لما دخل عليه الصلاة والسلام للاعتكاف دخل في القبة لم يكفه أن يدخل في المسجد، ولم يكتف بدخوله المسجد حتى بنيت له القبة حتى يتفرغ أكمل ما يكون عليه التفرغ .(5/83)
طلب العلم له وقت ، والاعتكاف له وقت ، والأفضل للمعتكف أن يشتغل بقراءة القرآن والذكر وطلب أكمل الأحوال في ذكره لله -- عز وجل -- من الخشوع والإنابة إلى الله -- سبحانه وتعالى -- والتضرع إليه حتى يؤثر فيه اعتكافه ، فهذه عبادة خاصة ؛ ولذلك النبي- - صلى الله عليه وسلم -- دخل إلى القبة ولما تلاحى الرجلان : أبو حدرة الأسلمي رضي الله عنه مع أبي رفع سَجَفة الخباء وقال : يا أبا حذرة هكذا يعني ضع نصف الدين ، ثم قال لأبي : قم فاقضه . فاشتغل بذلك للصلح فلما كان اليوم الثاني قال : أريت ليلتكم هذه . فتلاحى رجلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا ، فبسبب هذه الخصومة وما وقع من هذه الخصومة رفعت ليلة القدر . قال بعض العلماء : ما أعظم بلاء الخلاف والخصومة بين الناس إذا لم يكن على وجه يرضي الله -- صلى الله عليه وسلم -- فإنه بلاء حتى إن الأمة حرمت ليلة القدر بسبب الخلاف في الدنيا ، وهذا بسبب دَيْن كان لأحدهما على الآخر . فالشاهد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل انشغاله بالصلح والقربة أشار إلى أنه كان سببا في فوات حال الأكمل والأفضل وهو معرفة ليلة القدر، فإذا كان هذا لنبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه ورفعت ليلة القدر عنه بالانشغال بصلح وعمل خير فهذا يدل على أن الذهن ينبغي أن يفرغ لذكر الله -- عز وجل -- . ولذلك كان بعض السلف كالإمام مالك –رحمه الله – وهو من أئمة السلف كان يرى أنه إذا دخلت العشر لا يشتغل بشيء غير الذكر والعبادة .
ومن أهل العلم وهو القول الثاني من يقول إن المعتكف يطلب العلم ويقرأ ويراجع ويستدل بحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيح : (( كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود ما يكون إذا كان في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن )) قالوا مع هذا لن يشغله مدارسة القرآن عن حصول الخير والفضل ومدارسة القرآن من طلب العلم .(5/84)
وأجيب عن هذا بأن مدارسة القرآن من النبي- - صلى الله عليه وسلم -- وحيا ليست داخلة في هذا المعنى الذي ذكر في طلب العلم، ولاشك أن المعتكف من حيث الأصل الأفضل له والأكمل أن ينشغل بما انشغل به -عليه الصلاة والسلام- ، ولذلك الأفضل أن ينشغل بالذكر عن طلبه للعلم . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس : فضيلة الشيخ : أرجو من فضيلتكم في بداية هذا العام الدراسي أن تذكّروا طلاب العلم بوصية خاصة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فإن أجمع الوصايا للخير تقوى الله- - عز وجل -- ، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ومن كل بلاء عافية ، ومن اتقى الله ؛ وقاه ، وسدده ووفّقه في أمر دينه ودنياه .
أوصي طالب العلم في بداية دراسته وطلبه للعلم أن يبدأ أول ما يبدأ بحق الله -- سبحانه وتعالى -- ، ومن أدى حق الله على الوجه الذي يرضي الله أحبه الله ، ومن أحبه وفقه وسدده ، ومن وفقه الله وسدده يسر له سبيل القبول ، وإذا يسر له سبيل القبول فقد أفلح ونجح وفاز فوزا عظيما - جعلنا الله وإياكم بمنه وكرمه كذلك-.(5/85)
فأوصي بتقوى الله - - عز وجل - - وأداء حق الله في العلم : وأول حق لله -- عز وجل -- الإخلاص لوجهه ، فمن يقرأ القرآن ويقرأ أحاديث رسول الله- - صلى الله عليه وسلم -- ومن يقرأ في العلوم الشرعية عليه أن يعلم أنها يبتغى بها وجه الله ولا يبتغى بها شيء سواه ، وأن من طلب علما مما يراد به وجه الله لينال بها عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة ، وأن طالب العلم إذا طلب العلم لوجه الله ووقف بين يدي الله -جل في علاه- في آخرته وسأله الله عن قوله وعمله وكان مخلصا لوجهه نجاه الله بفضله وكرمه ، فإذا قال : طلبت العلم لوجهك، وتعلمت لوجهك، وابتغيت ما عندك . قال الله : صدقت . وقالت الملائكة : صدقت . وعندها يقول الله : اذهبوا به إلى الجنة - فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا من الصادقين- .
الأمر الثاني أن هذه الوصية يستصحبها في جميع أموره ، ومن الليلة من الساعة هذه لا يكتب في العلم حرفا ولا يسمع حرفا فضلا عن كلمة عن عبارة إلا وهو يريد وجه الله ، وليعلم علم اليقين أنه ليس له من هذا العلم ولو تبحّر فيه فأصاب منه ما أصاب ليس له منه إلا ما أراد به وجه ربه ، وأن الله سيحاسبه في ذلك ، ولم يخرج من بيته إلى كليته إلى ثانويته إلى دراسته إلا وهو يريد ما عند الله - سبحانه وتعالى - .(5/86)
الأمر الثاني من حق الله - عز وجل - من تقواه : أن يحرص كل الحرص على أن يتعلم ليعمل ، وأن يجعل هذا العلم في قوله وعمله وظاهره وباطنه وسره وعلانيته حتى يزكيه الله بالعلم فيهتدي ، فإذا اهتدى في نفسه جعله الله هاديا مهديا ؛ قال تعالى : { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } . فجعلهم أئمة هداة لما اهتدوا في أنفسهم ، فبدأ الله أول ما بدأ : آمنوا وعملوا الصالحات فهذه هداية في النفس ، ثم قال وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. يبدأ بنفسه ويبدأ بداية صادقة حينما يحس أنه ناقص يرجو الكمال من الله أن يكمل الله نقصه ، وأنه مكسور وأن الله يجبر كسره . يبدأ بنفسه فيحاسبها في القول والعمل والظاهر والباطن ، ألا وإن من أعظم ما يصلح الإنسان من نفسه قلبه ، فلا يصلح في هذا العلم إلا من زكى الله قلبه ، زكاه بسلامة الصدر ، وحب الخير للمسلمين ، ولن يكون طالب العلم كما ينبغي أن يكون طالب العلم إلا إذا نقى قلبه من : الحسد ، والشحناء ، والبغضاء ، واحتقار الناس ، وانتقاصهم ، وسوء الظن بهم ، والتهم، ونحو ذلك من جرائم القلوب ، بل من أسقامها وأمراضها ، فلن يفلح طالب علم مريض القلب ، ولن ينجح طالب العلم حقود أو حسود أو يحتقر الناس أو ينتقصهم أو فيه كبر أو عجب ظن أنه قد أخذ مقاليد الجنة يدخل فيها من يشاء ويخرج منها من يشاء .
ظن أنه مسلط على عباد الله بعلمه بمجرد أن يتعلم الكلمة أو الكلمتين وكأن الناس أسفل منه ، فيحتقرهم وينتقصهم ، ولا يستشعر الرحمة التي بعث بها النبي- - صلى الله عليه وسلم - -فيكون كما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم من التواضع والرفق بالمسلمين ، لن يفلح ولن يصيب الكمال في هذا العلم إلا إذا زكى الله سريرته .(5/87)
وانظر رحمك الله إلى طالب علم أو عالم أو داعية ربى الناس على أن يخافوا الله في إخوانهم المسلمين ، فيبدأ بصلاح قلوبهم كيف يخرج للناس هاديا مهديا ، وكيف يخرّج للناس أمناء رحماء يترسمون هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم --.
لن يفلح في هذا العلم من يحتقر الناس لألوانهم أو يحتقر الناس لأمصارهم وأقاليمهم . أمة مصطفاة بعد الأنبياء وهم ورثة الرسل وهم العلماء وطلاب العلم هم المؤهلون من بعدهم بإذن الله . فالذي يخرج إلى الأمة وعنده هذه الخلفيات وهذه الأمراض والأدران كيف سيكون هاديا مهديا ، وكيف سينتفع بعلمه وهو يحتقر إخوانه وينتقصهم . تبدأ بنفسك وتحاسبها حسابا عسيرا لكي تهتدي ، وليكون طلبك للعلم بداية لصلاح ما بينك وبين الله قبل أن يكون صلاح ما بينك وبين الناس ، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس ، وعندها يكون العلم نافعا .
من الناس من تعلم من العلم القليل فهدي إلى صراط العظيم الجليل -- جل جلاله -- ومن الناس من حمل العلم أحمالا لكي يلقى الله -- جل جلاله -- وقد غضب الله عليه في قلبه وقالبه .(5/88)
إياك أن تطلب العلم قبل أن تهذب نفسك . ابدأ بنفسك فارعها عن غيها ، وكل طالب علم بدأ بالكمالات وتطبيق العلم وإصلاح نفسه لطلب العلم وأن يكون أمينا صادقا لهذه الأمة المرحومة فيخرج إليها بقلب وقالب وجهه مثل قلبه من شيم الإسلام وأخلاق الإسلام ، من التواضع والمحبة والبشاشة واللين والرفق هذا يؤهل طالب العلم للكمال ، فإذا جئت إلى الدراسة وإلى مقاعد العلم فانطلق بهذه الأسس ، لا تنطلق انطلاق الهمج الرعاة الذين لا يفقهون ولا يعلمون ولا يطبقون هذا العلم ، فأنىّ يصيب الفلاح أمثال هؤلاء ؟! ولذلك تجد بعض الناس يبلغ أعلى درجة في العلم وينال أعلى الدرجات وهو يفرّط في أبسط حقوق الإسلام ، فيمر على أخيه لا يسلم عليه ، فلم يزده العلم إلا حرمانا من الخير ، حتى إنه يقول : أنا الدكتور أسلم على أمثال هؤلاء ! يا سبحان الله! لماذا ؟ لأنه لم يزك نفسه قبل طلبه للعلم ، فكيف سيزكي نفسه بعد أن نال الشهادات وارتفع .
عليك أن تتواضع عليك أن تعد أنك هالك إلا أن ينجيك الله ، وأنك تحت رحمة الله- - سبحانه وتعالى - - هذه الأساسيات هي التي يفتح الله -- عز وجل -- بها على طالب العلم .(5/89)
الأمر الثاني في إصلاح ما بينه وبين الله - عز وجل - : أن يشوب هذا العلم العبادة . عيب على طالب العلم يريد أن يتأهل للأمة عالما هاديا وهو لا يقوم الليل ولا يصوم الأيام المفضلة من الاثنين والخميس ، ولا يحرص على صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ويفرّط في السنن الرواتب ، بل ربما حتى تمر عليه الليلة ولا يوتر . عيب على طالب العلم هذا ما يليق بطالب العلم .كيف غدا سينصح الناس ويؤهلهم ، يظن بعض الناس أن العلم أن يتحمل المعلومات ثم يتكلم ، يظن بعض الناس أن العلم هو تلميق العبارات ، وإحسان الخطب وتجميل الكلمات ، لا والله ، العلم ما وقر في القلب وصدقه العمل ، ولو تكلم الإنسان منذ أن ولدته أمه إلى أن يغيّب عن هذه الدنيا بشيء لن يطبقه ولن يعمل منه فلن يضع الله له البركة في قوله .(5/90)
ومن بدأ في طلب العلم بهذه الأساسيات تجده إذا خرج إلى الناس خطيبا أو واعظا أو معلما أو مدرسا لن يتكلم بالكلمة إلا وأذن صاغية وقلوب واعية وجوارح تطبق ما يقول ؛ لأنه صدق مع الله في طلبه للعلم ؛ ولذلك الله عدل ، فمن بدأ طلبه العلم بالعمل والتطبيق زكاه الله علانية كما زكى نفسه لله سره . عليك أن تجتهد وأن تعلم أن الله لا يخادع ، عليك أن توطن نفسك بالصدق والإخلاص والجد في سبيل العلم صعب ، ثم بعد ذلك يحرص على الكمال في العلم ، يبحث عن أعلم ومن يضبط هذا العلم ، وإذا كان في دراسة نظامية يحرص على أن يكون مستمعا مستفيدا أكثر من أن يكون مشاغبا متعاليا متكبرا ، فكم من طلاب علم هم في الفصول رحمة ، وكم من طلاب علم هم في الفصول نقمة وبلاء ، تجده يكثر الجدل حتى يقال إنه مناقش حتى يقال إنه ما شاء الله ضابط تجده يناقش قبل أن يفهم الكلام الذي يقال له ، وتجده يجادل قبل أن يعي الكلام الذي يناقش فيه ويجادل فيه ، وعندها يحرم العلم ، ومن معه يحرم العلم ، وعليك أن تكون حريصا على السماع قال بعض الصالحين لابنه : يا بني كن على السماع أحرص منك على الكلام ؛ لأن الله جعل لك أذنين ولسانا واحدا. الحكيم وطالب العلم له قلب يعي به :(5/91)
أولا افهم ما يقال لك ، ثم بعد ذلك اسأل واستشكل . تحرص على آداب العلم مع مشائخك وأساتذتك وتحرص على أن تتذلل لهم ، ولذلك يقول موسى بن عمران -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا ؟ المتكبر لا ينال العلم ، والذي يدخل الفصل وهو ابن فلان وعلان ما ينال العلم ، إنما يناله المتذلل لله -- عز وجل -- ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن ومدعو له بالفتح ينام على عتبة زيد بن ثابت -- رضي الله عنه - - ويأتي إلى بيته ويأخذ بخطام دابته وإذا بالنهاية لن يقف في مقام إلا فتح الله عليه ، وكما ذل للعلم طالبا أعزه الله مطلوبا ، تقدم الثمن وتضحي . علي زين العابدين شرفا ونسبا سقطت عمامته على أبواب العلماء الذين كان يتلقى عنهم ، وكانوا يزدحمون على أبواب العلماء ، ومثل ما ترى الآن بعض الجهلة إذا رأى طلاب العلم يسألون العلماء يقولون : ما هؤلاء ! يا سبحان الله ! يزدحمون على الأسواق ويتقاتلون فيها ما يقولون ما يفعل هؤلاء ؟! ويزدحمون على سلعة الله الغالية وتجدهم يجدون ويجتهدون يقولون ما فعل هؤلاء ! المعروف منكر والمنكر معروف! تجدّ وتجتهد وليس معنى ذلك أن يتضارب طلاب العلم لا إنما المراد الحرص والشغف ، وكيف كان السلف لا يمنعهم الجد والاجتهاد في الطلب مع علو النسب.(5/92)
الأمر المهم في العلم أن تضبط تقرأ العلم وتراجع و تكتحل السهر والتعب والنصب في مراجعة العلم حتى تكون أمينا على دين الله وشرعه . تحرص على أن تكون في أفضل الأحوال ، وتسأل ربك أنك لا تجلس مجلساً إلا وجعلك الله أفضل من جلس ، ولن تصحب أيّ مدّرس يقف أمامك سيأخذ عنك الانطباع ، فإن استطعت أن تكون كأفضل ما يكون طالب العلم مع شيخه ومع معلمه فاحرص . احرص على ذلك فمن أرضى حملة كتاب الله وخاصة حملة القرآن وحملة العلم أرضاهم في أدبه وسمته وأسئلته ومناقشته واستفادته فإن الله يرضيه حيا وميتا . إذا لم يكن أهل العلم أولياء الله يقول الإمام أحمد فلست أدري من هم أولياؤه . تعين هؤلاء على رسالتهم فكم من علماء وكم من أساتذة أحبوا نفعاً للناس لما وجدوا طلاب علم صادقين ، وكم من طلاب علم حببوا في العلم بأخلاقهم وشمائلهم وآدابهم وزكاة نفوسهم وأعمالهم ، والعكس بالعكس .
فنسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يلطف بنا ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ولا تجزئ العوراء البين عورها
قال المصنف – رحمه الله - : [ ولا تجزئ العوراء البين عورها ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(5/93)
فقد شرع المصنف -رحمه الله- في بيان العيوب التي تؤثر في الأضحية ، وكذلك تؤثر في الهدي ، وكل ما أوجب الله من الدماء كأن يكون في فدية ، أو تركٍ لواجب في مناسك الحج والعمرة ، أو نذر شاة ولم يعينها ؛ فإنه ينبغي أن تكون هذه كلها سالمة من العيوب ، وهي الدماء الواجبة ؛ وقد جاءت السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تبيّن ما لا يجزئ في الأضحية ، وجعل العلماء -رحمهم الله- ذلك أصلاً شرعياً في كل دم واجب أن يكون سالماً من هذه العيوب ، وقد اشتمل حديث البراء بن عازب وحديث علي -رضي الله عن الجميع- وغيرهما على بيان جملة من العيوب ، ومنها ما ذكر المصنف -رحمه الله- من عيب العور . وأصل العور في لغة العرب : النقص ، فإذا كانت عين الإنسان سليمة أبصر بها ، وأما إذا حصل النقص فعَوِرت إحداهما فحينئذ يكون هذا النقص مؤثراً فلا يجزئ أن يضحي بالعوراء البيّن عورها ؛ والأصل في ذلك حديث البراء بن عازب -- رضي الله عنه -- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( أربع لا تجوز في الضحايا : العوراء البيّن عورها )) فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( العوراء البيّن عورها )) سواء كانت العين قائمة موجودة أو استلت العين فأخرجت كل ذلك لا يجزي ، ومحل ذلك أن لا تنظر بإحدى العينين ، فتفقد الإبصار بها ، ويعرف هذا عند أهل الخبرة بجنوحها عند مشيها إلى العين التي تبصر بها ، وبرفعها لصفحة رأسها وميلها إلى العين المبصرة ، وكذلك إذا رعت فإنها ترعى الجهة التي تبصر بها دون الجهة التي لا تبصر منها ، وعلى كل حال فإذا ثبت العور ؛ فإنه موجب لعدم جواز التضحية بالبهيمة سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نص على ذلك قال : (( البيّن عورها )) سواء كانت العين موجودة قائمة أو كانت مستلّة كما ذكرنا أو طمست أو جرحت حتى ذهب النظر والإبصار بها . بقي السؤال : إذا كانت العوراء لا تجزي فهل هذا من باب(5/94)
التخصيص أو المراد به التنبيه على غيرها ؟ قالوا إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بيّن أن العوراء البيّن عورها لا تجزي فمن باب أولى إذا كانت عمياء ، وأما إذا كان بصرها وإبصارها ضعيفاً كالعمَش والعشا فإذا كانت لا تبصر بالليل وتبصر بالنهار فإن مذهب جمهور العلماء أنها تجزيء وأنه يجوز التضحية بها ، وكذلك أيضا إذا كان بها ضعف في الإبصار وتبصر بالعينين ولكن إبصارها ضعيف فإنه يجزئ أن يضحى بها ، وإذا كان بها بياض العينين المؤثر في الإبصار ففيها ضعف إبصار إلا أنه لم يكتسح غالب العين أو لم يجاوز نصف العين ؛ فإنه يجزئ التضحية بها في منصوص كلام أهل العلم -رحمهم الله- .
إذاً لا يجزئ أن يضحي بالعمياء ولا أن يهدي العمياء ولا أن يكون هذا النوع من البهائم في الفدية كل ذلك ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نصّ على أن العوراء لا تجزي فمن باب أولى إذا فقدت الإبصار فإنها لا تجزي .
قال رحمه الله : [ ولا العجفاء التي لا تنقي ] : ولا العجفاء : وهي الكبيرة التي لا مخّ فيها ، والمخ هو الدهن الذي بين العظام وهو معروف يكون في النخاع ، ويكون أيضا في عظام الظهر - الورك-كذلك عضد الكتف ، فإذا كانت كبيرة لا مخّ فيها فإن هذا النقص يؤثّر في اللحم ، والنقص المؤثر في اللحم موجب لعدم الإجزاء في البهيمة . هذا أصل ؛ وعلى هذا قالوا إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نصّ على هذا العيب لكي ينبه على هذا الضابط قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أربع لا تجوز في الضحايا : العوراء البيّن عورها ، والعرجاء البيّن ضلعها ، والكسيرة)) وفي لفظ النسائي وغيره : (( والعجفاء التي لا تَنْقي )) يعني لا مخّ فيها ، فإذا كانت عجفاء أو كبيرة هرمة فإنها لا تجزيء في الأضحية ولا تجزئ في الهدي .(5/95)
قال رحمه الله : [ ولا العرجاء البيّن ضلعها ] : ولا العرجاء إذا كانت عرجاء فإنها لا تجزي ؛ لأن هذا العيب مؤثر ويؤثر في لحمها ؛ لأن العرجاء تَضْعف في المرعى ، وتَضْعف في الأكل ، وتتأخر عن القطيع فيضعف يؤثر هذا على أكلها وعلى موردها ، فإذا كانت عرجاء وقد بان عرجها فإنه حينئذ لا يجزئ أن يضحي بها ولا أن يهدي ولا أن يفتدي ؛ والأصل في ذلك نصّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عليها بقوله : (( والعرجاء البَيّن ظَلْعها)) العرجاء البيّن ظَلْعها . ظَلْعها : الشاة إذا كانت عرجاء والبهيمة من الإبل والبقر إذا كانت عرجاء وعرجها بيّن يستوي فيه أن يكون لكسر أو يكون لشلل ، ونبه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالعرجاء فمن باب أولى إذا كانت مقطوعة اليد أو مقطوعة الرجل ، فهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه ، وهذا عيب مؤثر ، وعليه الإجماع .
قال رحمه الله : [ ولا المريضة البيّن مرضها ] : ولا يجزئ أن يضحّي بمريضة قد بان مرضها ، والمرض يعرفها أهل الخبرة ، فإذا كان بها مرض فإنه لا يجزئ لا تجزئ في الضّحية ولا الدماء الواجبة .
المرض سواء كان بالجوف أو ظهرت أماراته على ظاهر البدن فإنه مؤثّر ولذلك يؤثّر في اللحم ، ولربما كان المرض في البهيمة موجباً للضرر لمن يأكل لحمها ، فلا يجوز أن يضحّي بمريضة قد بان مرضها ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( ولا المريضة البيّن مرضها )) ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة .
أخذ بعض العلماء من هذا دليلاً على أن الجرباء لا يضحى بها ، وهو مذهب جمهور العلماء على أن الشاة أو الناقة أو البقرة إذا أراد أن يضحّي بها وبها جرب أنه لا يجزئ أن يضحّي بها ؛ لأن الجرب نوع من أنواع المرض .
وقال بعض العلماء كما هو مذهب الحنفية وغيرهم : إن الجرباء يجوز أن يضحّي بها ؛ لأن الجرب في الجلد وليس في البدن .(5/96)
وظاهر السنة من جهة المرض أن الجرب نوع من أنواع المرض ؛ ولذلك تدخل في هذا العموم ، والمرض تارة يكون خفيفاً يسيرا وعارضاً يزول ، وتارة يكون مستحكماً في البهيمة ، ولا إشكال لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نص على أن المرض يكون مؤثرا وذلك بقوله عليه الصلاة والسلام : (( المريضة البيّن مرضها )) .
المرض طبعا يؤثّر في أكل البهيمة ، وإذا أثر في أكلها أثر في لحمها ، ولذلك اجتمع دليل الأثر والنظر، وبنى عليه بعض العلماء أن المجنونة من البهائم لا يضحّى بها ، والمجنونة تعرف بإدبارها إذا وضع الأكل يقبل القطيع فهي تدبر، فهذه غالبا المرض الذي معها مؤثّر في لحمها وجمهور العلماء على أنه لا يضحَّى بها .
قال رحمه الله : [ ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها ] : لحديث علي -رضي الله عنه وأرضاه- وقد فسّر راوي الحديث في السنن عند أبي داود والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده بسند صححه غير واحد أن النبي أمرهم أن يستشرفوا . قال رضي الله عنه وأرضاه : (( أمرنا رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أن نستشرف العين والأذن )) فإذا كانت مقطوعة الأذن فإنه لا يجزئ أن يضحي بها ؛ سواء كانت مقطوعة من الأمام وهي المقبلة ، أو من الخلف وهي المدبرة ، أو كان قطعها بالطول وهي الشرقاء أو كان ثقباً فيها كلها لا تجوز في الأضاحي .
قال رحمه الله : [ ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها ] : العضباء مكسورة القرن ، فإذا كسر أكثر القرن فإنه لا يجزئ أن يضحي بها .
وأما إذا كان القرن غير موجود خلقة وهي الجماء فإنه يجوز أن يضحَّى بها ، وهكذا إذا كان قرنها قصيرًا خِلْقة فإنه يجوز أن يضحى بها ، إنما الذي يؤثر إذا كان الكسر لأكثر القرن .
وذهب بعض العلماء إلى أن كسر القرن ليس بمؤثّر في اللحم فيجوز أن يضحى بها ، وهو نقصان في الخلقة .(5/97)
قال رحمه الله : [ وتجزئ الجماء ] : وتجزئ الجماء كما ذكرنا ؛ إذًا هناك فرق بالنسبة للقرناء إذا كسر أكثر قرنها أو كانت عضباء وبين التي لا يكون لها قرن أصلا مثل أن تكون خلقة جماء فإنه يجوز أن يضحًّى بالتي ليس لها قرن ولا يجوز أن يضحى بالمعيبة التي كسر قرنها . والضابط عند من يقول بالتأثير أن يكون الكسر أو القطع قد بلغ الأكثر وهو مجاوزة النصف .
قال رحمه الله : [ والبتراء ] : والبتراء وهي مقطوعة الذنب فيجوز أن يضحي بها .
والصحيح ما اختاره المصنف أنه يجوز أن يضحي بالجماء التي لا قرن لها وبالبتراء ، والبتراء مقطوعة الذنب ؛ لأن قطع الذنب ليس له تأثير في اللحم ، ولذلك يجوز أن يضحي بها سواء كان البتر لأقل الذنب أو لأكثره فإنه يجوز أن يضحي بها .(5/98)
قال رحمه الله : [ والخَصِيّ ] : والخَصِيّ : الخصي يجوز أن يضحى به ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ضحى بكبشين أملحين أقرنين موجوءين . والموجوء هو الخصي . قال العلماء - رحمهم الله - : إن الخصي نقصان في الخِلقة ، ولكن النقصان في الخلقة منه ما هو كمال ومعين على طيْب اللحم فحينئذ يجوز أن يضحى به كما في الخصي ، فقالوا إن الذكر من الغنم إذا كان موجوءاً وهكذا بالنسبة للإبل والبقر يجوز أن يضحى به لأن هذا يطيب لحمه بل قال بعض العلماء إنه الأفضل ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ضحى به ، وأخذ بعض العلماء - رحمهم الله- من تضحية النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالكبشين الخصيين جواز خصْي البهائم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم --- أقر ذلك ولم ينكره ، ولم يمنع الصحابة -رضي الله عنهم- منه ، وقالوا إنه وإن كان فيه تعذيب للحيوان لكنه لمصلحة الآدمي العظمى باستطابة اللحم قالوا فإنه جائز ، ومن هنا نص طائفة من العلماء -رحمهم الله- على جواز خصي البهائم لطيب لحمها لا بقصد التعذيب . أما إذا قصد به تعذيب الحيوان فلا إشكال في تحريمه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن تعذيب الحيوان .
قال رحمه الله : [ وما شقت أُذُنهُا ] : وما شقت أذنها : إذا شقت الأذن فللعلماء قولان :
قال بعض العلماء : إنه لا يجوز أن يضحى بمشقوقة الأذن إذا كان الشق مؤثرًا وهو أن يكون موجباً لسقوط الأذن إذا كان من أعلاها فتسقط على أمامها مقدمها فهي المقابلة ، أو تسقط على إذا كان القطع من وراء الأذن فتسقط على خلفها التي هي مقابلة ومدابرة وأيضا الخرقاء هذا كله يقع بسبب الوسم ، فكانوا يحتاجون إليه لوسم البهائم ، فإذا قطعت الأذن قال بعض العلماء مشقوقة الأذن تختلف عن مقطوعة الأذن، وفرقوا بين المشقوق والمقطوع ، ومنهم من لم يفرق ، فجعل حديث النهي عن المقابلة والمدابرة والشرقاء والخرقاء أصلا في المنع من هذا النوع من الأضاحي .(5/99)
ومنهم من قال إن الأصل جواز التضحية بها ، وتكلم على سند الحديث ، وأجاز أن يضحي بها ، وفرّق بين القطع وبين الشق . وهنا إذا قطع الأذن وكان القطع لكل الأذن فلا إشكال في عدم جواز التضحية بالبهيمة .
وأما إذا قطع أكثر الأذن فقالوا إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر عليا -- رضي الله عنه -- كما في حديث السنن وعند أحمد في مسنده قال: (( أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن )) فدل على أن القطع والشق في الأذن مؤثر، إذْ لا معنى لأمره -عليه الصلاة والسلام- أن يستشرفوا وأن ينظروا العين والأذن إلا بتأثير ذلك في الأضحية وهذا هو الصحيح .
قال رحمه الله : [ أو خَرِقة ] : أو كانت مخروقة الأذن وهي الخرقاء ، فكانوا يخرقون الأذن وسما للقبيلة أو وسما للجماعة أو وسما للبيت حتى تعرف البهائم إذا ضاعت فيحتاجون إلى ذلك ، فيخرقون الأذن فالخرقاء لا يجوز أن يضحي بها على ظاهر حديث علي –- رضي الله عنه -- كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ أو قطع أقل من نصفها ] : أو قطع أقل من نصفها أما بالنسبة للقطع فإن كان لأقل من النصف فلا إشكال فإنها تجزي كما اختار المصنف - رحمه الله- وإذا كان للأكثر وهو ما جاوز النصف فإنها لا تجزي .
أما إذا كانت أذنها صغيرة خِلْقة فإنها تجزئ قولا واحد عند العلماء - رحمهم الله - . وأما إذا كانت سكاء خِلْقة ليس لها أذن فمذهب الجمهور على أنه لا يجوز أن يضحى بها لوجود هذا العيب والنقص .
قال رحمه الله : [ والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى ] : والسنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- نحر الإبل : من الحيوان والبهائم ما يذبح ، ومنه ما ينحر ، ومنه ما فيه موضع للنحر والذبح .(5/100)
فأما الذي ينحر فهو الإبل ، والسنة فيها أن تنحر قائمة لا قاعدة ، وأن تكون مقيدة اليد اليسرى ؛ لأن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- لما مر على الرجل وهو يريد أن ينحر بعيره باركا . قال له رضي الله عنه وأرضاه : (( ابعثها قياماً مقيدةً سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - )) والصحابي إذا قال سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا إشكال أنه في حكم المرفوع ، وعلى هذا فإن ابن عمر - رضي الله عنهما- أنكر على الرجل أن ينحر الإبل قاعدة باركة إلا إذا وجدت حاجة وضرورة لبروكها ؛ فإنه يجوز أن ينحرها باركة ولابأس في ذلك ولا حرج. أما الأصل فإنها تنحر قياما معقولة يد اليسرى فيطعنها في الوهدة وهي أسفل العنق عند مجمعها في البدن فيطعنها ويحرك السّكين ، وبهذا تكون تذكيتها . الأصل في ذلك ما ذكرنا من السنة ، فلو نحرها وهي باركة صح النحر إذا كان على الصفة الشرعية . فالمصنف رحمه الله بعد أن بيّن صفات الأضحية شرع في بيان هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في نحرها .
أما بالنسبة لما يذبح فلا إشكال في الغنم فإنه سيبيّن رحمه الله الصفة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذبحه .
وأما ما يجمع ما بين النحر والذبح فهو البقر ، ففيه موضع للذبح ، وفيه موضع للنحر ، يصح نحره ويصح ذبحه .(5/101)
قال رحمه الله : [ وذبح البقر والغنم على صفاحها ] : وذبح البقر والغنم على صفاحها : فالسنة أن يضجعها ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أضجع الكبش ، وجعل قدمها على صفحته ، ثم سمّى الله - عز وجل - . يضجعه على شقه الأيسر، ويسمي الله - عز وجل - ، فيحد شفرته ويريح ذبيحته ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة -رضي الله عنها- : (( هلمي المدية ، ثم قال لها : اشحذيها بحجر )) ثم ذبح عليه الصلاة والسلام أضحيته . فالسنة في الذبح أن يضجع البهيمة على شقه الأيسر، مقبّلة إلى القبلة ، ثم بعد ذلك يسمي الله - عز وجل - ويتحرى السنة في الرفق بها ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام- : (( إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )) فبيّن عليه الصلاة والسلام أن السنة الرفق بالحيوان المذبوح ، وهذه هي الحقوق التي نادى بها رسول الهدى -- صلى الله عليه وسلم -- والعالم أجمع في دياجير الظلم والظلمات لم يستفق من غفلة ، ولم ينتبه من منام حتى بعث الله - عز وجل - هذا النور، فبين عليه الصلاة والسلام كيف تكون الحقوق حتى للبهائم ، بل إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل الحق حتى للشجر والأخضر في عدم الإفساد في الأرض، فلا تحتاج هذه الأمة لأحد أن يعلمها ، وليس فيها نقص تحتاج لأحد أن يكمّله { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } .(5/102)
عرف المسلمون حقوق الإنسان ، وعرفوا حقوق الحيوان ، وعرفوا حقوق الجماد ، وعرفوا حقوق كل شيء ؛ لأن الله -- عز وجل -- أوحى إليهم بهذا الكتاب الذي ما فرط فيه من شيء ؛ كما قال سبحانه : { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقال سبحانه : { وكل شيء فصلناه تفصيلا } فهنيئا ثم هنيئا لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر يعيش على هذه العقيدة أنه مسلم لا يحتاج لأحد مادام عنده كتاب ربه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - يستنير بهما بالعلماء العاملين الأئمة المهديين من السلف الصالح والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين -جعلنا الله وإياكم ممن تمسك بهما ورزق الثبات عليهما وحبهما والإخلاص في الولاء لهما إنه ولي ذلك والقادر عليه -.
قال رحمه الله : [ ويقول عند ذلك : بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك ] : السنة في الذبح والنحر جامعة بين الأقوال والأفعال ، وهناك ما يتعلق بالذابح ، وهناك ما يتعلق بالمذبوح والمنحور، وقد بينّا بعض الأفعال ، فشرع في بيان السنة القولية أنه إذا أضجع البهيمة وقبّلها فإنه يسمي الله - عز وجل - ويكبره ؛ كما ثبت في الصحيح : (( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : بسم الله والله أكبر )) وأمر الله -- عز وجل -- بالتسمية عند الذبح ، وحرّم كل مذبوح لا يذكر اسم الله عليه ؛ كما قال تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } وقال سبحانه : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق }.(5/103)
فالسنة أن يسمي الله -- عز وجل -- ، وأن يذكر الله -- عز وجل -- عند ذبحه ، ويكبره - سبحانه وتعالى - ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سمى وكبر، ثم يبين إذا كانت أضحية . يقول : اللهم هذه عني وعن أهل بيتي ، وإذا كانت عن صدقة واجبة أو غير ذلك يبيّنه يعينه ؛ لأن النبي --- صلى الله عليه وسلم - في النسك مضت سنته على التعيين ، وإلا الأصل في النية أنها في القلب ؛ ولذلك تلفظ عليه الصلاة والسلام بمكنون النفس وما يقصده عليه الصلاة والسلام في النحر وفي النسك ، ففي النسك قال : (( لبيك عمرة وحجة)) كما في الصحيح حتى ثبت عن أكثر من خمسة وعشرين من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال في حجته : (( لبيك حجة وعمرة )) فتلفّظ بنيته وبين المكنون من صدره.
وكذلك أيضا عند النحر، وقالوا هذا تأكيد للأصل من توحيد لله -- عز وجل -- ؛ لأن الناس كانت في جاهلية، وكانوا يذبحون للأصنام والأنصاب والأزلام ؛ فجاء بها عليه الصلاة والسلام حنيفية سمحة { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له } وقال الله يعلّمه : { فصل لربك وانحر } فجعل النحر له - سبحانه وتعالى - ، فيبدي ذلك ويقول : اللهم هذا منك ولك ؛ كما صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اللهم هذا منك : لأنك ملك الملوك ، ومالك كل شيء ، وبيدك ملكوت كل شيء ، وأنت الذي أغنيت ، وأنت الذي يسرت وسخرت البعير على عظم خلقته ، وما جعل الله في كمال في صورته ، يقوده الصبي بتسخير الله -- عز وجل -- ، ولو هاج البعير كما كان يعرف في القديم على قرية بكاملها قد تفر هذه القرية من صولته وجولته ، ولكن الله سخره ، وذلله وجعل الصبي يقوده ، ولربما يقوده لكي ينحر، وهذا كله من الله -- سبحانه وتعالى --.
اللهم هذا منك : فهو الذي خلق ، ووهب ، ورزق ، وأعطى - جل جلاله - وتقدست أسماؤه .(5/104)
فقال اللهم هذا منك ولك : أي خالصا لك ؛ لأنه لا ذبح إلا لله ، فلا يذبح المسلم إلا لربه ؛ قال { قل إن صلاتي ونسكي } والنسك هو الذبح ؛ لأن من معاني النسك الذبح ؛ كما في الصحيح من حديث كعب بن عجرة -- رضي الله عنه -- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال له : (( انسك نسيكة )) أي اذبح ذبيحة ، فيقول هذا اللفظ : عني وعن أهل بيتي ، وإذا كانت الأضحية وصية من ميت كأن يكون ميت وصى بالثلث أن يضحى عنه ، فيقول : هذه عن فلان ويسميه ، وللأسف أن كثيراً إلا من رحم الله ضيعوا السنة ، ولربما في بعض الأحيان يذبح الذابح ولا يعرف لأي شيء ، ولربما التزمت بعض الشركات وبعض المؤسسات بالذبح عن الناس وللأسف أنهم لا يعرفون إلا أن هذه الشاة هدي أو أن هذه الشاة أضحية ثم لا يبيّن أنها لفلان كما ثبتت السنة أن هذه عن فلان وفلان ولم يسم وإنما تذبح هكذا؛ وهذا كله خلاف السنة . السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال: (( اللهم هذه عن محمد وآل محمد ))-صلوات الله وسلامه عليه- وقال في الثانية : اللهم هذه عمن لم يضحِّ من أمة محمد -صلوات الله وسلامه عليه- فهذا يدل على أنها سنة تعبدية لابد من التأسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيها ، وبيان النية ، وهذان هما الموضعان اللذان استثناهما الشرع .(5/105)
قال رحمه الله : [ ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم ] : ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم : الأصل في الذبح فيه صفة الكمال ، وصفة الإجزاء . أما التذكية فإنها تصح من المسلم البالغ العاقل على خلاف في الصبي المميز، والكتابي تصح منه لكن هذا على صفة الكمال إذا كان مسلما بالغا عاقلا . أما إذا كان مجنونا فإنه لا تصح تذكيته ، وإذا كان كافرا ؛ فإنه لا تصح تذكيته إلا إذا كان كتابيا من اليهود والنصارى وهم الذين استثنى الله - عز وجل - تذكيتهم بشرط أن لا يسمعه يهلّ لغير الله فإذا ذبحها وقال باسم المسيح أو باسم العزير فإنها لا تجزي ، في قول جماهير أئمة السلف والخلف - رحمهم الله- إنما يجزئ ما كان في دينهم وشريعتهم مجزئا ، وهو ما أهل لله - عز وجل - . أما إذا أهل لغير الله به فإنه لا يجوز .
إذًا تذكية المسلم وتذكية الكتابي مجزئة ، وإذا كان تصح التذكية من المسلم والكتابي فلا تصح من المرتد ولا تصح من المجوسي ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال في المجوس : (( سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم )) وكذلك لا تجوز من أن لا ديني -والعياذ بالله- الملحد فإنه لا تجزئ تذكيته ، فإذا كانت من الكتابي والمسلم تصح التذكية ؛ فإنه ينظر إلى الأكمل والإجزاء ، فالأكمل أن ينحرها ويذبحها مسلم ، والإجزاء أن يذبحها الكتابي ، فالأفضل والمستحب أن يتولاها المسلم .(5/106)
قال رحمه الله : [ وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل ] : وإذن ذبح الأضحية أو نحرها أو ذبح الهدي أو نحره صاحبه فهو أفضل ؛ لأنه سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ففيه تأسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ ولأنه يؤجر على هذا الفعل بخلاف ما إذا وكّل غيره أو استأجر من يذبح عنه . فالأفضل أن يتولى الذبح بنفسه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تولى الذبح بنفسه ، وإذا تولاه بنفسه فقد تقرب إلى الله أكثر ، ووحد الله بالذبح له وذكر اسم الله - عز وجل - وأبرأ لذمته وأخلص في عبوديته -- جل جلاله -- ، وإذا كان إماما وصلى بالناس العيد فاستحب طائفة من أهل العلم أن يذبح أضحيته بالمصلى يعني بجوار المصلى في المكان الذي يذبح فيه حتى يبادر ويتبعه الغير، لفعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذا أكمل في الهدي وترجم له بعض أئمة الحديث -رحمهم الله- باستحباب أن يخرج ضحيته وأن يبدأ بها بعد انتهاء الصلاة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تحرى ذلك وهو أفضل وأكمل أن يتولى الإنسان الذبح بنفسه ، فإن ضاق عليه الوقت أو خشي أنه لا يتمكن أو كان لا يعرف طريقة الذبح فله أن يوكّل غيره ولا بأس بذلك ولا حرج ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نحر ثلاثا وستين بدنة في حجة الوداع ، وكان قد أهدى مائة بدنة ، فأمر عليا -- رضي الله عنه -- أن ينحر ما غبر وما بقي ، وهذا يدل على مشروعية التوكيل في الذبح ، والتوكيل في التضحية والتوكيل في الهدي ، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج، فلو أن شخصاً أخل بواجب من واجبات الحج مثل أن ترك الإحرام من الميقات ووجب عليه دم ، أو كان عليه هدي تمتع أو قران حج قارنا أو متمتعا ، أو كانت عليه أضحية ، فنقول له الأفضل أن تتولى بنفسك ، فإذا لم يتول بنفسه أو صعب عليه وأراد أن يوكل فينبغي له أن يوكل من يثق بدينه وأمانته، وأن يوكل من يستطيع أن يقف بين يدي الله -- عز وجل -- ويرضاه وكيلا له في عبادته وطاعته(5/107)
لله -- سبحانه وتعالى -- في نحره وذبحه. أما أن تعطى الوكالة لكل أحد دون نظر دون تروي ودون وجود تزكية ممن يوثق به فهذا لاشك أنه من الإهمال ، وإذا قصر هذا الشخص فإنه سيتحمل الموكل المسؤولية ؛ لأن الوكيل ينزل منزلة الأصيل ، فينبغي أن لا تختار إلا الأمين . البعض يعطي كل شخص ، لو قيل له هذا عليه دم ذهب وبحث عن أي شخص قال : أنت من أهل مكة ؟ قال : نعم . قال : خذ واذبح عني ! هذا لا يجزيك ينبغي لك أن تبحث عمن تثق بدينه وأمانته ، وإذا كنت لا تعرف تسأل من تثق به حتى يدلك عمن تعرف ، ولو كان أمرا من أمور الدنيا لتحرى ، ولذلك كثير من الفتاوى والأسئلة تأتينا عن أناس يعترف البعض فيقول : أخذت مائة رأس ولم أذبح منها رأسا واحدا -والعياذ بالله- وبعضهم يقول : أخذت كذا مال من النقود وبعضهم حتى من طلبة العلم للأسف يقول : على أنني أذبح الهدي عن حجاج بلدي أو عن جماعتي فذبحت ربعها ولم أذبح ثلاثة أرباعها ! ذبحت نصفها ولم أتمكن من النصف ! ذبحتها كلها إلا كذا ! وتأتي تبحث وإذا به قد تقبل من الناس الوكالة دون أن يكون أهلاً دون أن تكون عنده خبرة ، دون أن تكون أن يرتّب أمره ، ولا شك أن مثل هؤلاء مسؤولون أمام الله -- عز وجل -- خاصة إذا نظر إليهم كطلاب علم فهؤلاء عليهم أن يتقوا الله -- عز وجل -- وأن لا يتوكّلوا في شيء إلا وهم ناصحون لأمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- ، وأن لا يغشّوا الناس ، وعلى من يوكل أيضا أن يتحرى . كذلك الشركات حينما تأتي الشركات وتأخذ مليون رأس وهي تعلم أنها لا تتمكن إلا من ذبح مثلا نصف مليون ثم تأتي تبحث عن الفتاوى حتى يرخص لها في الذبح في غير الوقت المعتبر هذا لاشك أنه خلاف النصيحة . على كل مؤسسة وعلى كل شركة وعلى كل جماعة وعلى كل فرد أراد أن يتوكّل عن الغير في أمر لا يستطيعه أن يقول لا أستطيع ، وإذا توكل في أمر يستطيع عن بعض ولا يستطيع عن كله فإنه يأخذ بقدر استطاعته ، وعليه أن يلتزم(5/108)
الورع ، وأن يعلم أن الآخرة خير وأبقى ، وأنه ليس هناك أحد عنده مَسَكَة من عقل ودين وورع يرضى أن يبيع آخرته بعرض من الدنيا، وأن هذا الذي يؤخذ من الدنيا إذا كان كثيراً على وجه لا يرضي الله فإنه قليل ، وإن الله يمحق به البركة؛ فعليه أن يصدق قال - صلى الله عليه وسلم - : (( البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما )) فبين أن البركة بالصدق والبيان والنصيحة ، فدل على أن الله لا يبارك للكذابين ، وأن الله لا يبارك للغشاشين ، فعلى من يريد أن يتوكل في النحر والذبح أن يكون غالباً على ظنه أو مستيقناً أنه يستطيع أن يؤدي هذه الأمانة ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك )) فأمر بأداء الأمانة هذه أمانة وواجب ، وعلى أهل العلم أن لا يعين أمثال هؤلاء من الشركات والمؤسسات أن يأخذوا فوق طاقتهم ، بل عليهم أن يأخذوا في حدود الطاقة ، وإذا أعطيت الفتاوى لهؤلاء أن تتقيد . نحن نقول هذا لأنه تواجهنا أسئلة الناس ومشاكل الناس ، وواجب النصح للأمة أن يقال هذا . لا يجوز العبث بهذه الدماء الواجبة ، وتضييع أوقاتها ، وخاصة إذا كانت مقيدة بزمان أومقيدة بمكان ، بل ينبغي لمن يتوكّل في هذا الأمر أن يتقي الله وأن ينصح ، وأن يؤدي الأمانة على الوجه الذي يرضي الله ؛ وفي الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( أن الأمانة تصور لصاحبها يوم القيامة ويقال له : أد أمانتك فتهوي في نار جهنم، فينزل يلتمسها ثم إذا صعد بها حتى إذا بلغ شفير جهنم ردت عليه فيرجع ثانية - والعياذ بالله - يعذب على قدر ما خان من الأمانة )) - نسأل الله السلامة والعافية - فإذا كان هذا في الأمانات العامة فكيف إذا كان الأمانة في عبادة وفي دين وفي شرط . وعلى طلاب العلم أن ينتبهوا لذلك ، وأن لا يحملوا أنفسهم ما لا يطيقون ، وعليهم إذا أرادوا أن يقوموا بأمر أن(5/109)
يسألوا أهل الخبرة ، وأن يتحروا حدود طاقتهم ؛ نصيحة للأمة ، وبعدا عن تحمل المسؤولية أمام الله -- عز وجل -- .
قال رحمه الله : [ ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد إلى آخر يومين من أيام التشريق ] : ووقت الذبح بعد صلاة العيد لا تذبح الأضحية قبل الصلاة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من نسك قبل الصلاة فشاته شاة لحم )) وقال لأبي بردة لما نسك قبل الصلاة قال : (( اذبح أخرى مكانها )) فدل على أن الذبح لا يصح قبل الصلاة - صلاة عيد الأضحى - وعلى هذا ظاهر السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فإذا ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم ، فإذا كان مثلا أشرقت الشمس على السابعة وتحرى الإمام ثم صلى وانتهى من الصلاة على السابعة وعشر، ثم ذبح قبل هذا الوقت فإنه لا يجزيه وعليه أن يعيد ، وأما إذا وقع ذبحه بعد سلام الإمام وانتهاء الصلاة ؛ فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)) فأجاز الذبح من بعد صلاة العيد .
قال رحمه الله : [ وتتعين الأضحية بقوله : هذه أضحية ] : وتتعين الأضحية بقوله هذه أضحية : إذا أخذ الشاة من السوق يريد أن يضحيها فقال : هذه أضحية ، فلما أخذها وعينها بهذا اللفظ أصبحت معينة ، فإذا عيبت أو أصابها ضرر بعد التعيين صح أن يضحي بها ؛ لأنها قد تعينّت ، وهذه من فوائد أو من المسائل المستفادة من التعيين ، والمعيّن لا يخرج عن غيره ؛ لأنها إذا كانت معينة لا تنصرف إلى نذر، ولا تنصرف إلى هدي ؛ لأنها معينة أضحية ، وهذا من منصوص جمهور العلماء -رحمهم الله- .(5/110)
قال رحمه الله : [ والهدي بقوله هذا هدي وإشعاره وتقليده مع النية ] : والهدي بقوله هذا هدي مثل الأضحية يعيّن والإشعار والتقليد فيأخذ صفحة عنق البعير ويضربه بالسكين أو الموس حتى ينسلت الدم على صفحته هذا إشعار، والتقليد أن يضع القلادة يكون الإشعار للإبل، ويكون التقليد للغنم كما صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : (( كنت أفتل قلائد هدي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فيبعثه إلى الحرم )) فكان يوضع قلادة . فائدة هذا الإشعار والتقليد أن الناس كانوا إذا خرجوا للنسك وضاعت هذه البهائم علم من يجدها أن هذا هدي ، وعلم أنه من الهدي للبيت ، وكانت العرب حتى في جاهليتها الجهلاء تتحامى مثل هذا النوع من الأموال ، فإذا وجدتها تحاشته ، فالأصل أن الإشعار والتقليد يقتضي التعيين ، وإذا قال : هذا هدي ، وأشعره من الإبل وقلده إذا كان من الغنم وقيل في البقر أنها تقلد ، وقيل إن فيها الموضعين يجوز إشعارها ويجوز تقليدها ، فإذا فعل ذلك فقد تعين ، فلا ينصرف إلى غيره .
أما لو أنه اشترى أضحية ، وكانت تحدثه نفسه اشترى شاة تحدثته نفسه على أنها تكون عن دم واجب في الحج أو في العمرة ، ثم قال : لو أني ضحيت بها وأراد أن يصرفها إلى أضحية صح بخلاف الأول ؛ لأنها لم تتعين أضحية ، ولم تتعين هديا .
قال رحمه الله : [ ولا يعطي الجزار بأجرته شيئا منها ] : ولا يعطي الجزار شيئا من الأضحية على أنه من الأجرة ؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن علي -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قال : (( أمرني النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن أقوم على بُدُنِه ، وأن أتصدق بلحومها وأجلتها ، وأن لا أعطي الجزار منها شيئا )) فلا يجوز أن يعطي الجزار من الأضحية ، ولا يجوز أن يعطي الجزار من الهدي شيئا على أنه من الأجرة ، وعلى هذا لو أن الجزار كان مسكيناً أو كان فقيراً وأراد أن يتصدق عليه بنية الصدقة لا بنية الأجرة صح .(5/111)
الممنوع أن يعطيه على أنه أجرة ، لكن مثلا لو جاء وذبح أضحيته وهو جاري وأنا أعلم أنه محتاج أو قريب وأعلم أنه محتاج ، وهذا الدم عليّ واجب للمساكين فأعطيته إياه على أنه صدقة صح ذلك وجاز. فيجوز أن يعطي الجزار على سبيل الصدقة ، وعلى سبيل الهدية والهبة والصلة كما في الأضحية ؛ لأن الأضحية تكون فيها شيء منها للإنسان ، وشيء منها للمساكين ، وشيء منها هدية ، فإذا أعطى الجزار على سبيل الهدية وعلى سبيل الصدقة صح ، فقيد المصنف - رحمه الله - أن يعطيه من الأجرة ، وهذا مبني على الأصل الذي ذكرناه من نهي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لعلي أن يعطي الجزار منها شيئا على أنه من الأجرة، أما بالنسبة للتصرف بها فسيبين المصنف -رحمه الله- الأصل في التصرف في الأضاحي وفي الهدي ، وما ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من إعطاء الناس وتقسيمها ، فقصد من هذا أنه لا يجوز أن يعطي الجزار من البهيمة شيئا .(5/112)
وهنا مسألة وهي : أن بعض العلماء يمنع أن تستأجر شخصا ليعمل عملاً وتكون أجرته من نفس العمل الذي ينتجه ، وهذه المسألة تعرف عند العلماء في باب الإجارة بقفيز الطحان ، وفيها حديث تكلم العلماء على سنده : (( نهى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- عن قفيز الطحان )) قالوا: قفيز الطحان المراد بها أن يقول له : اطحن لي هذا الصاع وخذ ربعه ، أو خذ نصفه ، فقالوا : إنه استأجره فقال له : اطحن وخذ نصفه ، فسيأخذ نصف ما يطحن ، فجعل أجرته من جزء عمله . قالوا هذا نوع من الغرر وهذا يدخل فيه مسائل منها : لو أعطاه السيارة ، وقال له : اعمل بها والكسب بيني وبينك فهذا جزء من العمل . قالوا هذا نوع من التغرير عند من يمنع ، منها مسألة الجزار أن يقول له : اذبح الشاة وخذ جلدها ، أو أجرتك الجلد . فمن العلماء من يمنع هذه الإجارة ، ومنهم من يفصل . فالذين يمنعون يبنون على حديث : (( نهى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- عن قفيز الطحان )) وهذا الحديث ضعيف سندا ومتنا . أما سنده فلا إشكال سنده ليس بقائم وضعيف ، لكن من جهة المتن تكلم فيه بعض العلماء كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية إن من دلائل ضعف هذا الحديث وهو ما يستدل به على ضعف الحديث من متنه أن القفيز لم يكن معروفا في المدينة ، إنما كان عندهم المد والصاع ، والقفيز كان معروفا في المشرق ، فلا يعقل أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يترك هذه كلها ويأتي بشيء لا يعرفه الناس وليس من عرفهم في المكيلات ، فقالوا هذا يدل على ضعف متن هذا الحديث مع سنده ، وعلى كل حال هذا يدل على ضعف سند الحديث بدلالة من متنه . على كل حال المسألة تعرف عند العلماء بمسألة قفيز الطحان ؛ إلا أن من فصّل وقال يجوز أن يستأجر في حال ، ولا يجوز أن يستأجر في حال.(5/113)
فأما الحال الذي يجوز أن يستأجر إذا لم يكن فيه غرر، والحال الذي لا يجوز أن يستأجر إذا كان فيه غرر. قالوا ومن الغرر: أن يقول له : اذبح الشاة ولك جلدها ؛ لأنه لا يدري هل يخرج الجلد سليما أو معيبا ؟ لأنه ربما أثناء السلخ يخطئ فيقدّ الجلد وهذا يضعف قيمة الجلد ؛ ولذلك هو يقدّر أن الجلد في السوق قيمته مثلا عشرون ريالا ، فهو إذا قدّه وقطعه نقصت قيمة الجلد ؛ لأن الجلد إذا قطع سيمنع من الانتفاع به في السقاء بعد دبغه يعني سيؤثر على المنافع المترتبة عليه ، فإذا كان سليما ليس كما لو كان معيبا ؛ وحينئذ إذا قدُّ قد تنزل قيمته إلى عشرة ريالات ، قالوا كأنه قال له : أستأجرك بعشرين أو عشرة أو خمسة عشر على قدر سلامة هذا الجلد ، وهذا نوع من عقود الغرر، وهو أن يردده بين قيم محتملة لا يدرى هل يصيب أعلاها أو أدناها أو أوسطها ، فسيأتي إن شاء تفصيل ذلك في باب البيوع .
وعلى كل حال أن الجزار لا يأخذ من البهيمة شيئا على أنه أجرة .
المسألة الأخيرة : أن التساهل في أخذ جلود البهائم في المسالخ دون إذن من الناس ، وإلزامهم بذلك لاشك أن هذا أمر في محظور شرعي ، وبخاصة إن بعضها صدقات ، فتؤخذ ثم يتاجر بها . فالواجب استئذان أهلها ، والتفريق بين الذبائح التي تكون عبادة ، ولا يجوز بيع أجزاءها ، وبين الذبائح التي هي من أملاك الناس إن شاءوا يتركونها فيملكها آخذها ، وإن شاءوا يبيعونها أو يأخذوا العوض عليها كما هو معروف في الحقوق المالية .(5/114)
قال رحمه الله : [ والسنة أن يأكل ثلث أضحيته ] : والسنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أن يأكل ثلث أضحيته ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( كلوا وتصدقوا واهدوا )) فقوله : (( كلوا وتصدقوا واهدوا )) منقسم على ثلاثة ، فجعل للأكل ثلثا ، وللصدقة ثلثا ، وللهدية ثلثا . وقال بعض العلماء : إنها تقسم على نصفين : نصف له يأكله ويهديه ويتصرف فيه ، ونصف للمحتاجين ؛ لقوله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } فجعلها على قسمين .
والتقسيم ثلاثة أقوى من جهة الكتاب والسنة ؛ لأن الله تعالى يقول : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } وظاهر السنة يدل على التقسيم ثلاثا ، واختار المصنف - رحمه الله - ذلك وهو أقوى .
قال رحمه الله : [ ويهدي ثلثها ] : ويهدي ثلثها : الهدية تكون لغير المحتاج ، وتكون لآل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فيهدي أصدقاءه ، ويهدي جيرانه إذا كانوا غير محتاجين ويتصدق للمحتاج .
قال رحمه الله : [ ويتصدق بثلثها ] : ويتصدق بالثلث كما ذكرنا ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( وتصدقوا )) وقال الله تعالى : { وأطعموا البائس الفقير } فالسنة أنها لا تخلو من صدقة ، لابد وأن يتصدق بشيء منها .
قال رحمه الله : [ وإن أكل أكثر جاز ] : قال علي - رضي الله عنه - : (( وأن أتصدق بجلودها وأجلتها )) أمره عليه الصلاة والسلام أن يقوم على البدن وأن يتصدق بجلودها وأجلتها .
قال رحمه الله : [ وإن أكل أكثر جاز ] : وإن أكل أكثر جاز : يدل على الاستحباب ، لكن لا تخلو الذبيحة من صدقة ، ولا يخلو المسكين من حق فيها ، يبقى القدر المستحب والأفضل ، والذي استحبه بعض العلماء النصف ؛ لأنه أكثر أجرا وأعظم . وظاهر الكتاب فيما يدل على استحباب النصف ومنهم من استحب الثلث على ما ذكرناه في الحديث .(5/115)
قال رحمه الله : [ وله أن ينتفع بجلدها ولا يبيعه ولا شيئا منها ] : وله أن ينتفع بجلدها أن يأخذ هذا الجلد ويدبغه ، ثم يجعله بساطا ، أو مثلا يأخذ الجلد وينتفع بشعره ويغزل ، أو بالوبر الذي على جلد الناقة وينتفع به يغزل خباءا أو يغزل كساء ، فجعل الله -- عز وجل -- في جلود الأنعام منافع عظيمة ، وجعلها دِفئا في الشتاء ، وسِترا في القيظ ، ولو أن الإنسان رجع إلى طبائع الناس حينما كانوا يعيشون على هذه الأشياء لوجد العجب العجاب من حكمة الله -- عز وجل -- وتعليمه لعباده ، وإلهامه سبحانه لهم ما فيه مصالح دينهم ودنياهم وآخرتهم . فالجلود ينتفع بها ، فلو أخذ الجلد ودبغه سقاء فجعله شنا وقربة يستقي بها أو يضع فيها العسل أو السمن أو غير ذلك فلا بأس ولا حرج ، وهكذا لو أنه أخذ الشعر فغزله وانتفع به لنفسه لكن لو أنه جعله فراشا وغطاء في البيت ثم جاء شخص وقال له : بعني هذا الفراش . نقول : لا يجوز ؛ لأنه لا يباع من الأضحية شيء ؛ لما ذكرناه من الأصل الذي ذكرناه ولم يجعلها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عوضا ، ولذلك لم يجز أن تكون ثمنا في الأجرة أجرة للعامل لسعيه وعمله .
قال رحمه الله : [ ولا يبيعه ] : ولا يبيعه لو أنه أخذ جلد الأضحية وجاءه شخص وقال له : بعني جلد أضحيتك هذه ، أو أهدى إلى البيت وأخذ جلود الهدي فقال له شخص : هذه الجلود أشتريها منك بمائة أو بألف لم يجز أن يبيعه لا يجوز بيعه بيع الجلود والأجلة لما ذكرنا .(5/116)
قال رحمه الله : [ ولا شيئا منها ] : ولا شيئا منها : لما ذكرناه ؛ لأنها ليست محلا للمعاوضة ، والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- منع عليا - رضي الله عنه --- أن يعطي الجزار شيئا من الهدي ، وقال : نحن نعطيه من عندنا، فدل على إسقاط المعاوضة والبيع نوع من أنواع المعاوضة ؛ لأن البيع مبادلة المال بالمال ، والإجارة مبادلة المال بالمنفعة ، فلما حرم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على علي - - رضي الله عنه - -أن يعطي من الهدي الجزار شيئا عوضا عن عمله كأجرة دل على أنها ليست محلا للمعاوضة ، فشمل ذلك الإجارة وشمل البيع ، كأنه لا يستحق مالكها أن يبذلها عوضا عن عمل ، فإذا كان هذا في العمل الذي يتعلق بمصلحة الهدي وهو النحر فمن باب أولى إذا لم تكن ثَمّ مصلحة .
قال رحمه الله : [ فأما الهدي إن كان تطوعا استحب له الأكل منه ] : فأما الهدي فإن كان تطوعا استحب أن يأكل منه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أكل من هديه في حجة الوداع ، وشرب من المرق ، وأمر من كل ناقة أن يؤخذ له منها ، ثم طبخت واحتسى من مرقها - صلوات الله وسلامه عليه - ، وأكل منها فدل على أن السنة أن يأكل من الهدي الجائز .
وأما إذا كان الهدي واجبا كجزاء الصيد ودم الجبران ودم الفدية فإنه لا يأكل منه ، وإنما يكون طعمة للمساكين ، فلو أن شخصا أحرم من دون الميقات فوجب عليه أو ترك طواف الوداع ووجب عليه دم الجبران ؛ فإنه لا يأخذ من هذا الدم الواجب عليه شيئاً ولا يأكل منه .(5/117)
قال رحمه الله : [ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من كل جزور ببَضْعَة فطبخت ] : أمر من كل جزور ببضعة. البَضْعَة : القطعة من الشيء قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما فاطمة بضعة مني )) البَضْعة من الشيء القطعة فأمر عليه الصلاة والسلام أن يؤخذ من هذه الجزر من كل جزور ببضعة قطعة ثم وضعت وطبخت كلها وشرب من مرقها - صلوات الله وسلامه عليه- واحتسى منها فدل على أن السنة أن يأكل ويصيب من هديه .
قال رحمه الله : [ فأكل من لحمها وحسى من مرقها ] : وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أيام منى أيام أكل وشرب وبعال )) وكانوا يأكلون ، وسميت أيام التشريق لتشريق اللحم ، فكانوا يأكلون من هديهم ، وهذا كله كما ذكرنا في غير الواجب .
قال رحمه الله : [ ولا يأكل من واجب إلا من هدي المتعة والقران ]: لأنه ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أكله من الهدي .
الأسئلة :
السؤال الأول : فضيلة الشيخ : هل تجزئ الأضحية إذا ذبحت في اليوم الثالث من أيام التشريق . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فأصح قولي العلماء في هذه المسألة أن اليوم الرابع وهو الثالث من أيام التشريق أنه يجزئ الذبح فيه إلى غروب شمسه ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أيام منى - وهي أيام التشريق- أيام منى أيام أكل وشرب وبعال)) .
وذهب بعض العلماء إلى أن الذبح لا يكون إلا يوم العيد ويومان بعده أي المجموع ثلاثة أيام .
والصحيح الأول ؛ لما ذكرنا والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني : فضيلة الشيخ : في بعض المناطق يذبحون أضحية يوم العيد عن فقراء المسلمين اقتداءً بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فهل هذا جائز أو هو خاص به - عليه الصلاة والسلام- ، وإذا كان خاصاً فما النية الفاضلة حينئذ . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/118)
المحفوظ من هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه ضحى عن أمته ، ولذلك قال في الثاني : (( اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- )) وأضحيته كافية منه - عليه الصلاة والسلام - والأفضل أن يصرفها لنفسه أو يصرفها لقرابته ؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه سأله الرجل وقال : (( يا رسول الله عندي دينار ماذا أفعل به ؟ قال : اجعله لنفسك . قال : عندي آخر. قال : اجعله لأهلك . قال : عندي آخر . قال : اجعله في قرابتك . قال : عندي غيره . قال : شأنك به )) فيبدأ الإنسان بنفسه، ثم يثني بقرابته ؛ لأن القريب أولى ، والأجر في حقه أعظم ، ولو كانت عندك أضحية وأنت تعلم أن ابن عمك أو ابن أخيك أو ذي عَصَبة أو ذي رحم منك ليس عنده قدرة يشتري أضحية فالأفضل بدل أن تتصدق بها أن تذهب بها إليه وتعطيه إياها وتقول له : ضحي بها لكي يصيب السنة ، ولكي لا يخلو بيته من هذه الفضيلة ، بل بعض الناس كما قيل في المثل : [ يبرّ خالته ويعق أمّه ] ، فينظر للبعيد ، ويغفل عن أقرب الناس منه ، وهم أعظم أجرا ، وأعظم ذخرا ؛ ولذلك دل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- المتصدق أن يبدأ بالأقربين ، وأن يعتني بذلك ؛ لأنه هو الأفضل والأعظم أجرا ، وإذا أعطى لذي الرحم منه أعطي الأجر من جهتين : أجر الإعانة على الأضحية ، وأجر الصلة والبر ، وقد بيّن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود الصحيح أن لها أجرين : (( أجرالصلة وأجر الصدقة )) ولاشك أن الصدقة صدقة ، والصدقة خير وبركة ولكن الأهم التوفيق في الصدقة ، فليس المهم أن الإنسان يتصدق ، كثير من تصدق وقليل من وفق في صدقته ، فيبحث عن التوفيق ، ويبحث عن السنة وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويتحرى هذا الهدي الكامل .(5/119)
أما إذا قصد أن يسقط عن فقراء المسلمين بهذه الأضحية ؛ فحينئذ نقول له : لا يجوز ذلك ؛ لأنه ليس بوكيل عنهم ولا يصح أن يقوم إنسان عن غيره إلا بوكالة أو بولاية ؛ والنبي -- صلى الله عليه وسلم -- له ولاية على الأمة وله وصاية عليهم -صلوات الله وسلامه عليه- كما قال تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فهو عليه الصلاة والسلام وليهم من بعد الله مولاهم ، إذا ثبت هذا فهذا معنى خاص بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- وليس بغيره .
وأما بالنسبة إذا قصد الصدقة فعلى الوجه الذي ذكرناه أن يبدأ بأقرب الناس منه . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ : هل التسمية والتكبير تكفي لمرة واحدة عند نحر مجموعة إبل أو ذبح مجموعة شياه أو لكل نحر وذبح تكبيرة وتسمية . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
نعم لكل شاة ولكل بهيمة تسميتها ، ولا يجزئ أن يسمي تسمية واحدة عن أكثر من بهيمة ؛ لأن الأصل أنه يجب عليه أن يسمي على كل بهيمة بعينها كما فعل رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في الكبشين ، حيث سمى عليه الصلاة والسلام عليهما .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب العقيقة
قال المصنف رحمه الله : [ باب العقيقة ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(5/120)
فقد ترجم الإمام المصنف - رحمه الله - بهذه الترجمة والتي تتعلق بالعقيقة ، والعقيقة هي : ما يذبح شكرا لله -- عز وجل -- على المولود ذكرا كان أو أنثى ، وهذا الباب له مناسبة بما تقدم من باب الهدي والأضاحي ؛ لأن الهدي والأضاحي دماء شرعها الله -- عز وجل -- لأسباب وموجبات ، والعقيقة دم يتقرب به إلى الله -- عز وجل -- لسبب وموجب ، وهو شكر الله -- عز وجل -- على نعمة الولد ، وهذه العقيقة حق من الحقوق التي تتعلق بالمولود على والده ، فتذبح عن المولود ذكرا كان أو أنثى من الوالد شكرا لله -- عز وجل -- على هبته للولد ، ولاشك أن الله -- سبحانه وتعالى -- هو المتفضل على عباده ، وهو الرزاق ذو القوة المتين يهب لمن يشاء إناثا ، ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ، ويجعل من يشاء عقيما -- سبحانه وتعالى -- فإذا أكرم الله -- عز وجل -- عبده ببقاء نسله وخروج ولده ؛ فإنه يشكر الله -- عز وجل -- ويتقرب إليه بهذا الدم ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( كل غلام مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه )) وقد فُعلت هذه العقيقة من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما ثبت عنه أنه عقّ عن الحسن والحسين ، وثبتت مشروعيتها في السنة وبإجماع أهل العلم -رحمهم الله- وهناك قول ضعيف اعتبره بعض العلماء شذوذا أن العقيقة مكروهة ، ولكن أئمة السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن العقيقة سنة مشروعة .
يقول رحمه الله : [ باب العقيقة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالعقيقة عن المولود .
قال رحمه الله : [ وهي سنة ] : وهي سنة : أي العقيقة ، وهذه السنة من العلماء من قال بوجوبها لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( كل غلام مرهون بعقيقته )) .(5/121)
والجمهور على أنها سنة مؤكدة ، والسنة المؤكدة عند الجمهور تقارب الوجوب ؛ وعلى هذا فإن الأصل يقتضي أن المسلم لا يفرِّط في اتباع هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خاصة وأن تعبير الحديث في قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( مرهون بعقيقته )) يدل على تأكد هذا الأمر ولزومه ، ومن هنا قال جمهور العلماء بكونها سنة مؤكدة تقارب الوجوب لتأكيد السنة عليها بفعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقوله .
قال رحمه الله : [ عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة ] : هذه العقيقة تختلف من الذكر والأنثى في أصح قولي العلماء : فعن الذكر شاتان ، وعن الأنثى شاة واحدة ، وهو مذهب جمهور العلماء على أنه يعق عن الذكر بضعف ما يعق به عن الأنثى ؛ والسنة أن تكون من الغنم ، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على أنه لا عقيقة من غير بهيمة الأنعام ، ومن أهل العلم من قال : تختص بالغنم ولا يقع التشريك في العقيقة في الإبل والبقر .
ومن أهل العلم من رخص في التشريك في الإبل والبقر؛ كما هو مذهب الشافعية وخالفهم غيرهم. والذين منعوا قالوا : إن مقصود الشرع أن يُذْبح على هذا الوجه ، ويتقرب إلى الله -- عز وجل -- بالشاتين عن الذكر والشاة عن الأنثى ، وعلى هذا إذا كان المولود ذكرا فإنه يعق عنه شاتين ، وإذا كان أنثى يعق عنها شاة واحدة .
تكون العقيقة في سابع المولود ، وسابع المولود أن يحتسب يوم ولادته ، ثم يضيف عليه من بعد ذلك ستة أيام ، والعبرة بمغيب الشمس على أصح قولي العلماء . فإن كان قد ولد بعد مغيب شمس يوم احتسب للذي بعده خلافا لمن قال إن العبرة بالفجر، فإن كان قبل طلوع الفجر احتسب للذي قبله ، وإن كان بعد طلوع الفجر احتسب للذي بعده .(5/122)
والأصح والأقوى مذهب الجمهور على الأصل المعتبر أن اليوم تبدأ ليلته بمغيب شمس ما قبله ، وعلى هذا إذا وقعت الولادة بعد مغيب شمس يوم الجمعة أي في ليلة السبت يحتسب سبعة أيام بيوم السبت ويكون يوم الولادة محسوبا فيها ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( تذبح عنه يوم سابعه )) . ونسب السابع إلى المولود ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء -رحمهم الله- أنه يحتسب يوم الولادة ، ويضيف ستة أيام إليه، ثم بعد ذلك يعق في اليوم السابع .
واختلف العلماء - رحمهم الله - في هذا التسبيع هل السبعة الأيام محددة بمعنى أن العقيقة لا تكون قبلها أم أن السبعة الأيام فضيلة واستحباب ، وأن العبرة بولود المولود ، وأنه إذا ولد المولود فإنه يعق عنه ثم لو توفي - فائدة الخلاف أنه لو توفي هذا المولود قبل بلوغ السبعة الأيام فتوفي في اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع فعلى القول بأنه يشترط التسبيع في هذه الحالة لا يعق عنه ، وإن قيل بعدم اشتراطه ؛ فإنه يعق عنه. والأصل في هذا أننا إذا قلنا إن العقيقة شكر لله -- سبحانه وتعالى -- على نعمة الولد فإنها تكون بولادة الولد ، وعلى هذا لو توفي الولد قبل السابع ؛ فإنه يعق عنه على هذا الوجه ، وإن قلنا إنها محددة بقوله - عليه الصلاة والسلام- : (( تذبح عنه يوم سابعه )) على التحديد تكون كالأضحية تفوت بفوات وقتها ولا يعتد بها قبل الوقت المعتبر ؛ ولذلك لو ذبح الأضحية قبل الصلاة كما تقدم معنا لم تجزئه الأضحية ؛ لأن الشرع حدد وقت الابتداء ، فإن قيل إن العقيقة مبنية على هذا التحديد ، وأن هذا التحديد معتبر ، فلا إشكال في أنه لو توفي قبل السابع فإنه لا يعق عنه ، والأشبه أنه يحتاط الإنسان فيعق عنه إذا ولد له المولود شكرا لله -- عز وجل -- على نعمة الولد ، ونعمة الولد حاصلة بمجرد ولادته .(5/123)
قال رحمه الله : [ تذبح يوم سابعه ] : تذبح هذه العقيقة يوم سابعه : إذا كان الوالد قادرا على أن يجد العقيقة . أما إذا كان عاجزاً عن القيمة أو ليست عنده قدرة فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
واختلف العلماء - رحمهم الله - لو كان عاجزا عن العقيقة ثم بعد ذلك قدر قبل بلوغ الغلام أو بعد مدة قبل بلوغ الغلام فهل يعق عنه ؟
قال بعض العلماء : العقيقة متعلقة بالمولود شكرا للنعمة سواء وقعت في السابع أو بعده ، وعلى هذا قالوا إذا قدر بعد ذلك يشتريها ويعق عنه ، وهذا لاشك أنه أفضل وأكمل حتى قالوا : إن الولد نفسه فإنه لو لم يعق عنه شرع أن يعق عن نفسه ، وهذا فيه نظر خاصة وأن من الصحابة من أسلم ولم يأمره النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن يعق عن نفسه ، وعلى كل حال ظاهر قوله : (( مرهون بعقيقته )) يقوي مذهب من قال بالقضاء إن عجز في السابع وتيسر له بعد السابع .
قال رحمه الله : [ ويُحلق رأسه ويُتصدق بوزنه ورقا ] : الأفضل في ذبح العقيقة أن تكون في السابع ، ثم جاء في الحديث تثليث السابع ، فإن لم يتيسر السابع في الرابع عشر ، وإن لم يتيسر الرابع عشر ففي يوم الحادي والعشرين . قالوا إن هذا على فضيلة التسبيع ؛ والأصل في ذلك هذا الخبر أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعلها في السابع ، ثم إذا لم يتيسر ففي الرابع عشر ، ثم إذا لم يتيسر ففي يوم الحادي والعشرين ؛ وعلى هذا فضلت هذه الأوقات الثلاثة .
يحلق رأسه : يحلق رأس المولود ويتصدق بزنته من الورق يعني من الفضة ؛ وهذه سنة عند جمهور العلماء رحمهم الله ؛ وفيها حديث مرفوع عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(5/124)
والشعر حلقه فيه فوائد ، منها : ذكر بعض الأطباء أن حِلاقة رأس المولود تقوي خصلة الشعر ، ودلك الموس أثناء الحلاقة ينمي ويقوي بصيلات الشعر، وقالوا إن هذا من أنفع وأنجع ما يكون ، ثم إن هذه الحلاقة تزيل الوسخ والقذر أو ما علق برأسه أثناء ولادته ، وهي أبلغ نظافة ونقاء وطهارة ؛ ولذلك اجتمع فيها الشرع والطبع ، فهي عادة مستحسنة شرعا وطبعا . وقد نص الأئمة - رحمهم الله - على استحباب ذلك .
يتصدق بزنته من الورق وفيها حديث مرفوع عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وقالوا إن الأنثى آكد من الذكر ، ولكن الحلق للذكر والأنثى .
قال رحمه الله : [ فإن فات يوم سابعه ففي أربعة عشر ] : إن فات اليوم السابع ففي يوم الرابع عشر كما ذكرنا ، وإن فات ففي الحادي والعشرين ، هذا على الاستحباب ، وإلا لو أنه وقع في غير السابع كالثامن والتاسع والعاشر فالإجزاء معتبر ، ولكن الأفضل والأكمل في اتباع السنة على تحسين الحديث الوارد في ذلك .
قال رحمه الله : [ فإن فات ففي إحدى وعشرين ] .(5/125)
قال رحمه الله : [ وينزعها أعضاء ولا يكسر لها عظما ] : هذه العقيقة تنزع بمعنى أنه لا تكسر عظامها، فتنزع من المفاصل، وهذا مبني على الفأل، وقد ثبتت السنة بأن الشرع يحب الفأل، والتفاؤل ضد التشاؤم، والتفاؤل ينبني على حسن الظن بالله -- عز وجل -- ، ولذلك بيّن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وثبت من سنته أنه كان يحب الفأل . فالإنسان إذا كان في سفر وسمع رجلا ينادي ويقول : يا سالم ، تفاءل أن الله يسلمه ، وإذا كان في أمر فسمع رجلا ينادي يا صالح فسمع باسم صالح فتفاءل أن الله يصلح له الأمر ، هذا مستحسن شرعا ؛ لأنه هو الأصل في المسلم أن يحسن الظن بالله ؛ وقد ثبت في السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال يقول الله تعالى : (( أنا عند حسن ظن عبدي بي فمن ظن بي خيرا كان له ومن ظن بي شرا كان له )) فالتفاؤل سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ ولذلك لما كان صلح الحديبية ، وبعثت قريشا من يفاوض إلى أن بعثت سهيلا . سأل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن الرجل الذي بعثته . فقالوا : سهيل . فقال عليه الصلاة والسلام : (( سُهّل لكم )) فسهل الأمر بإذن الله فهذا من الفأل ، حتى ذكر الإمام ابن القيم أنه فقد إحدى الصبية من الرفقة معه في الحج . قال : حتى عجزت عن وجوده ، فلما كنت في الطواف سمعت صائحا يصيح بكلمة وذكرها طيبة قال : وأنا أدعو الله أن أجده فسمعته يصيح بكلمة طيبة فتفاءلت فلم أدر أيهما أسبق أنهاية فألي أم صوت الصبي وهو بجواري ، فحسن الظن بالله -- عز وجل -- من الإيمان بالله والتوكل على الله -- عز وجل -- على خلاف التشاؤم المبني على -والعياذ بالله- سوء الظن بالله -- عز وجل -- والرجم بالغيب، ولاشك أنه من المحرمات لا يجوز للمسلم أن يتشاءم ، بل عليه أن يتفاءل وأن يحسن ظنه بالله -- سبحانه وتعالى -- وهو أرحم الراحمين ، فإذا ذبح العقيقة نزعت الأعضاء جُدُولا كما جاء في الحديث عن النبي -- صلى الله عليه(5/126)
وسلم -- ولا تكسر العظام تفاؤلا بالسلامة وهذا مبني على الفأل كماذكرنا أنه يتفاءل بسلامته وحسن حاله .
قال رحمه الله : [ وحكمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك ] : وحكم العقيقة حكم الأضحية فلا يجزئ إلا ما بلغ السن المعتبرة ، وقد تقدم معنا السن المعتبر في الأضحية ، وما ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من أنه لا يجزئ إلا الثني من المعز، والجذع من الضأن ، فإن شاء ضحى بالضأن ، وإن شاء ضحى بالمعز من الغنم ، والأفضل أن يكون من الضأن ؛ لما ذكرنا من سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهديه ، وأن تكون العقيقة سالمة من العيوب ، فلا تجزئ المعيبة كالمريضة البيّن مرضها ، وكذلك العرجاء البيّن عرجها ، ولا الكبيرة التي لا مخ فيها ، وقد بيّنا حديث البراء بن عازب -رضي الله عنهما- عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في النهي عن التضحية بالمعيبة ، وذكرنا حديث علي -- رضي الله عنه -- أيضا في السنن . فهذا يدل على أنه ينبغي أن تكون العقيقة وما يذبح سالما من العيوب ، يستحب في العقيقة ما يستحب في الأضحية ، أن يكون ثمنها غاليا، وأن تكون نفيسة محبوبة عند أهلها ، ثم هو بالخيار إن شاء ذبح هذه العقيقة وتصدق بها على الفقراء ، وإن شاء ذبحها وطبخها وقسمها على الفقراء ، وعلى أحبابه وأقربائه وجيرانه ، فليست بمتعينة صدقة للفقراء ؛ لأن المقصود من العقيقة شكر نعمة الله -- عز وجل -- ، وثانياً: أن من فوائد العقيقة ثبوت الأنساب للناس ؛ لأن النسب يعرف بالاشتهار، وإذا عَق الإنسان عن ولده عرف أن له ولدا ، ومن هنا تحفظ أنساب الناس ، فإذا أراد أن يدعو أحدا للعقيقة فإنه يبدأ بالأقربين وبالأرحام ، وهذا أدعى أن يعرف القرابة بعضهم بعضا ، وبعد ذلك يثني بغيرهم ، فإذا أراد أن يتصدق بشيء منها فلا بأس ، وإن أراد أن يدعو الفقراء والضعفاء إلى العقيقة فلا بأس ؛ إلا أن بعض العلماء كره صنع الطعام وصنع الوليمة في العقيقة .(5/127)
والجمهور على جواز ذلك ، وأنه لا بأس به ولا حرج ، وهو بالخيار ، إن شاء ذبح وقسم اللحم وإن شاء ذبح وطبخ اللحم وقَسَمه ، وإن شاء ذبح وطبخ اللحم ودعا إليه ، وجمع في دعوته بين الغني والفقير والقريب والجار وذي الرحم ونحو ذلك .
والسنة أن يسمي المولود كما تقدم عن المصنف - رحمه الله - ، وتسمية المولود تكون في سابعه ، وله أن يسميه قبل السابع ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ولد لي الليلة غلام سميته باسم أبي إبراهيم )) وجعل التسمية قبل السابع ، ولكن فرق العلماء بين التسمية المشهورة ، وإذاعة الاسم لأن السابع إذاعة وإشاعة وبين التسمية في الأصل. فقالوا يجوز أن يسمي في أول يوم أو من حين ولادته ، وله أن يؤخر التسمية إلى السابع .(5/128)
والمنبغي للأب أن يختار أفضل الأسماء وأحب الأسماء إلى الله -- عز وجل -- ، وهو اسم عبد الله وعبد الرحمن، فإذا سماه بهذه الأسماء ؛ فإنها أسماء مستحبة ، ويحبها الله -- عز وجل -- كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -- عز وجل -- ، ويبتعد عن الأسماء المستبشعة والمنهي عنها شرعا ، فالأسماء المذمومة تؤذي أهلها ، وقد تكون سببا لكلام الناس فيهم ، وطعن الناس فيهم ، فيختار الاسم الطيب المحبوب الذي ترتاح إليه الناس وأفضلها وأتمها ما ورد الشرع بمدحه من أسماء التعبيد : كعبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد العزيز ، ونحوها من الأسماء المستحبة ، وثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- استحباب هذا النوع من الأسماء ، وإذا سمى بغيرها من الأسماء ولو كانت شديدة ؛ فإنه لا يمنع منه إلا إذا اشتمل على شيء مذموم شرعا ، فكان من عادة العرب أنهم يسمون بالأسماء الغليظة الشديدة ، فإذا سموا الرجل يسمونه باسم غليظ شديد ، وكانوا إذا سموا مواليهم وجواريهم سموهم بالأسماء الرقيقة ، حتى قيل لبعضهم : أسماؤكم مستبشعة ، وأسماء مواليكم حسنة فلم ذلك ؟! يعني لماذا تسمون أنفسكم بالأسماء الغليظة الشديدة ، وتكون لمواليكم الأسماء الرقيقة ؟ فقال : أسماؤنا لأعدائنا ، وأسماء موالينا لنا . يعني أن العدو إذا سمع أن فلان اسمه ذئب أو صقر هابه وفزع منه ، ولذلك قال : أسماؤنا لأعدائنا ، وأسماء موالينا لنا ، فإذا لم تكن هذه الأسماء يعني فيها ما يستبشع فإنه لا ينكر إلا ما دل الشرع على إنكاره ، مثل ما كان فيه تعظيما ، ولذلك ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( إن أخنع الأسماء عند الله رجل تسمى بملك الملوك )) فلا مالك إلا الله -- سبحانه وتعالى -- ملك الملوك ، وجبار السماوات والأرض -- جل جلاله -- وتقدست أسماؤه ، وقالوا أيضا : إن أسماء التزكية ومنها تغيير النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لاسم الجارية من برة ، وهذا فيه خلاف بين العلماء - رحمهم(5/129)
الله - ، والأقوى أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- منع منه في الجواري لأجل إذا سئل : هل عندكم برة ؟ قالوا لا . فيكون فيه معنى مستبشع لا أنه تزكية ؛ لأنه لو كان نهي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لسبب التزكية لحرم التسمية باسم صالح ؛ لأن صالح فيه تزكية ، ولكن المراد به أنه كما جاء في النهي ؛ والحديث صحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى أن يسمي المولى بأفلح ونَجِيح ونحو ذلك؛ لأنه ربما جاء الرجل وقال هل عندكم أفلح ؟ فيقول : لا ما عندنا أفلح، فيكون المعنى مستبشعا ، ومن هنا منع منه ، وهكذا إذا كان فيه التزكية العظيمة بما لا يليق إلا بالله -- عز وجل -- ولذلك لما تكنىّ الرجل بأبي الحكم نهاه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقال له : أعندك ولد ؟ قال: نعم . قال ((أيهم أكبر ؟ )) قال : شريح . قال : (( فأنت أبو شريح )) صلوات الله وسلامه عليه ، فكناه بأبي شريح ، ومنعه من التسمية من أبي الحكم ، وقال : (( إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم)) - سبحانه وتعالى - التعظيم لله - جل جلاله - وتكون الأسماء التي لا تليق إلا بالله -- سبحانه وتعالى -- خاصة به -- عز وجل -- ولا يجوز لأحد أن يتسمى ، ولا أن يتصف بها لأنها له وحده لا شريك له ، فيختار أفضل الأسماء وأحسن الأسماء ، وعلى الآباء والأمهات أن يتقوا الله -- عز وجل -- في أسماء أبنائهم وبناتهم ، وأن يبتعدوا عن تقليد غير المسلمين في استحداث الأسماء المستعارة من غير المسلمين للمسلمين ، والتباهي بذلك والتفاخر ، فعلى المسلم أن يعتز بدينه ، وأن يعتز بنعمة الله -- عز وجل -- ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فيعتز المسلم بإسلامه ، فيسمي بالأسماء المحمودة في الشريعة ، فعنده من أسماء التعبيد كما ذكرنا بل وأسماء الأنبياء ؛ ولذلك لما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فسميته باسم أبي إبراهيم )) ترجم له بعض أئمة الحديث بتراجم متعددة ، فمنهم من جعله دليلا على(5/130)
جواز التسمية بأسماء الأنبياء ، وأن السنة أن يختار أسماء الأنبياء ، ومنهم من قال : وأسماء الصالحين ، الأخيار الصالحين؛ لأن الولد إذا نشأ ، وقد سمي باسم على رجل صالح ، فإن هذا يؤثر في نفسه ، وإذا تذكر أن جده فلان، وأنه سمي على جده فلان ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( سميته على اسم أبي إبراهيم )) فإن هذا يدعوه إلى الائتساء والاقتداء بالصالحين من آبائه ؛ ولذلك وصف الله الأخيار ؛ فقال : { ذرية بعضها من بعض }
إن الأصول الطيبات لها فروع زاكية
فإذا زكت الأصول وطابت طابت فروعها إذا سارت الفروع على نهج الأصول ، فإذا كان الإنسان مسمى على اسم جده ، وكان جده معروفا بالخير معروفا بالاستقامة معروفا بالصلاح حرك فيه باعث الخير ، وحرك فيه أن يأتسي به ، وأن يسير على نهجه .(5/131)
وكذلك أيضا لتنظر إلى المرأة الصالحة والرجل الصالح إذا سمى بنته بأسماء أمهات المؤمنين ، ونشأت تلك البنت ، وعلمت أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - الصديقة بنت الصديق كانت تقول ، وكانت تفعل ، وأن أم المؤمنين جويرية وغيرها من أمهات المؤمنين : خديجة - رضي الله عنهن وأرضاهن أجمعين- كانت تقول وكانت تفعل فإن هذا يدعوها إلى حسن الائتساء والاقتداء ، ولاشك أن في ذلك الخير الكثير، وإن من أعظم ما يكون انهزاما وخذلانا وحرمانا من الخير أن الإنسان ينسى سلفه الصالح ويلتفت المسلم يمينا وشمالا لكي يتلقّف الأسماء الغريبة ، والأسماء التي ربما يتسمى بها غير المسلمين ، ولربما بلغ ببعضهم - والعياذ بالله - أن لا يبالي أن يتتبع أهل المجون والخنا لكي يسمي ابنه بهذه الأسماء الساقطة الهابطة ، فهذا عار وشنار، وإن المسلم عليه أن يعتز بدينه ، وأن يعتز بنعمة الله -- عز وجل -- التي أنعم بها عليه ، ولذلك كم تجد من صلاح وخير وفلاح فيما من ارتبط بسلفه الصالح ، وسار على نهجهم قولا وعملا ظاهرا وباطنا ، وكم تجد من الخذلان والخيبة والحرمان فيمن - والعياذ بالله - تنكب عن هذا السبيل ، وأصبح منقطعا فلا حجة ولا دليل ، وليس له سلف يهتدي به كأنه - والعياذ بالله - قد قطع عن الخير وحرم منه لكي يلتفت إلى السُّقّاط والمُجَّان سواء من الرجال أو من النساء ، فعلى المرأة أن تتقي الله -- عز وجل -- وعلى الرجل أن يتقي الله ، وقد يكون الأب عنده قناعة أن يسمي بأسماء أمهات المؤمنين ، فإذا بالأم تتهكم وتسخر وتتعجب كيف تسمى بنتها في هذا الزمان بخديجة ، وكيف تسمى بنتها في هذا الزمان بعائشة ، وكيف تسمى ببنت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فاطمة . يا لله العجب كان المسلمون يتسابقون إلى ذلك ، ويتفاخرون ويعتزون ، وإذا بهم اليوم ينهزمون ، سلط الله عليكم ذلا كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (( سلط الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا(5/132)
دينكم )) فهذا من الذل للمسلمين أن ينقطعوا عن مراجعة هذا الدين ، وأن يرجع الإنسان إلى أصوله وسلفه الصالح ، فإن الله -- عز وجل -- لما ذكر الصالحين من أنبيائه وصفوته من عباده قال : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } ، فالاقتداء بالأخيار لاشك أنه خير كثير ، ومن فواتح الاقتداء : أن يسمى بأسمائهم ، وأن تحيى أسماؤهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : ((كانوا يسمون -أي من كان قبلكم - بأسماء أنبيائهم )) .
والحديث صحيح فهذا يدل على أن الاسم له تأثير ، وأن الإنسان يتأثر ، وقد ذكر بعض العلماء - رحمهم الله - أن من حق الولد على والده والولد - يشمل الذكر والأنثى- من حق الولد على والده أن يختار له أحسن الأسماء وأفضل الأسماء ، حتى يحرك فيه هذا الخير الذي ذكرنا ، ويدعوه إلى أن يعمل الأعمال الطيبة ، ويبحث عن القدوة الفاضلة في قوله وعمله خاصة إذا كان من سماه من أهله وبيته وأسرته ، وكان من أسرة محمودة ، قد طابت أصولها بما أثر عن آبائه وأجداده من الأعمال الطيبة والأخلاق الكريمة .
الأسئلة :
السؤال الأول : يوجد حديث في المتن لم يقرأ قبل باب العقيقة من أراد أن يضحي فدخل في العشر ، هل من نوى الحج يجوز له في العشر أن يأخذ من شعره وظفره . وبارك الله فيكم ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فهذا الحديث صحيح عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، وفيه يقول : (( إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسنّ شيئا من شعره )) .(5/133)
فيه دليل على أنه إذا أراد أن يضحي وهلّ هلال ذي الحجة فإنه يمسك عن الشعر والظفر ، فلا يقص ولا يحلق الشعر ولا ينتف الشعر، ويبقى كذلك حتى يضحي، فإذا أراد الحج وجاء لأجل أن يحرم ، فالسنة أن يغتسل ، وأن يزيل التفث ، يقلم أظفاره ويأخذ شعره إلا إذا كان عنده نية أن يضحي ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تجرد لإهلاله واغتسل ؛ كما ثبت في حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه وأرضاه - فالسنة أن يتطيّب وأن يطيب بدنه بإزالة التفث وإزالة الأوساخ والقذر ونتف الإبطين ونحو ذلك ، لكن إذا كان عنده نية أن يضحي فحينئذ يتعارض النهي مع السنة ، وإذا تعارض النهي مع غيره قدم النهي، والنهي مقامه أقوى ؛ ولذلك يمسك عن شعره ، ولا يقلم أظفاره ، ولا يقص شعره ولا يحلقه إذا أراد أن يضحي ، وكذلك لو أحرم بالإحرام فإنه لا يفعل هذه الأشياء ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عنها المحرم وغير المحرم ، وهذا يدل على أن المنبغي عليه أن يترك شعره وظفره .
قال بعض العلماء : إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- منع من أخذ الشعر والظفر حتى إذا عتق يعتق كاملا هذا من بعض العلل التي علل بها الحديث ، ولكنها سنة محفوظة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ونحن نمتثل ما جاء في هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وسنته سواء علمنا العلة أو لم نعلمها . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني : أيهما أولى بالصدقة ابن العم أو الخالة أو الجدة من جهة الأم . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/134)
ابن العم لاشك أنه عاصب ، والعصبة لهم حق حتى في النفقة ، فإذا كان ابن عمك وقريبك محتاجا إلى النفقة وليس هناك أحد أقرب إليه منك فيجب عليك أن تنفق عليه ، وتقوم عليه وتحسن إليه ؛ ولذلك ابن العم العاصب له حق عليك واجب وهو آكد من غيره ، وأما ما كان من القرابة من جهة الأم فهم من ذوي الأرحام ، وليسوا في القوة كقوة العصبة ، ولذلك ابن العم ترثه ويرثك ، فهو من العصبة . يأخذ الباقي بعد أصحاب الفروض إذا لم يكن عاصب أولى منه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر )) .
وابن عمك العاصب أحق بالقيام عليك ، وأحق بتغسيلك ، وتكفينك ، والصلاة عليك ، والقيام على أمورك ، وهذا يجعل منزلته مقدمة على غيره . فالعاصب مقدم على غير العاصب .
وأما بالنسبة للخالة ؛ فبرها مستمد من بر الأم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( الخالة بمنزلة الأم )) كما في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وبر الأم مؤكد حتى قُدم على بر الأب بثلاثة أضعاف ؛ كما في حديث الصحيح : (( من أحق الناس بحسن صحبتي ؟ قال : أمك . قال ثم من ؟قال : أمك . قال ثم من ؟ قال: أمك . قال ثم من ؟ قال : أبوك )) .
فهذا يدل على تأكد حق الأم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( الخالة بمنزلة الأم )) فلها حق عظيم في صلتها وبرها .
وأما ابن الخالة فهو دون ذلك؛ ولذلك لا مانع أنك تقسم بينهم ، وتحرص على أن تصل ابن عمك ، وتبر خالتك . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ : ماذا يحل للرجل من مخطوبته من كلام ونظر. أفتونا مأجورين ؟
الجواب :(5/135)
المخطوبة السنة إذا كان الإنسان يعلم أنه إذا تقدم لهذا البيت أنه لا يُرد ، فإن له الحق أن ينظر إلى مخطوبته ، وأن يختبئ لها ، فثبت في الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه أمر عبد الرحمن بن عوف -- رضي الله عنه -- أن ينظر إلى مخطوبته ، وقال : (( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا )) فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا خطب الرجل المرأة واستطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) وقال - صلى الله عليه وسلم - للرجل : (( انظر إليها فإنه أحرى أن يودم بينكما )) .
ومن هنا أجمع العلماء - رحمهم الله – والأئمة على مشروعية نظر الخاطب إلى المخطوبة ، وهذا النظر على حالتين : هناك نظر مرتب وهو الذي يكون ما بين الرجل وأهل المرأة ، وهناك نظر غير مرتب. فالنظر غير المرتب أنه يريد أن ينظر إلى شكل المرأة في طولها وقصرها ونحفها وامتلائها إذا خرجت مثلا إلى السوق أو خرجت إلى عملها أو نحو ذلك فيتخبأ وينظر إليها ، فإن كان النظر غير مرتب ؛ لأن البعض يقول : ما أستطيع أن أتقدم حتى أجد الصفات التي أريدها مبدئيا ، ثم بعد ذلك أتقدم ، فهذا حمل عليه حديث جابر في تخبئه لها . قال : كنت أتخبأ لها . قالوا لأن هناك صفات في المرأة قد لا تظهر في حال دخولها عليه ، فإذا إذا نظر إليها وهي في حال الغفلة ومشى في مشيها وطريقة خروجها يكون أبلغ في معرفة حقيقة المرأة ، فهذا النظر غير المرتب حملوا عليه حديث جابر -- رضي الله عنه -- : (( كنت أتخبأ لها)) فهذا التخبؤ اشترط فيه بعض العلماء وهذا شرط صحيح أنه لا يختبئ للمرأة وينظر إليها إلا إذا غلب على ظنه أنه لا يرد هذا الشرط الأول .(5/136)
وثانيا : أن تكون المرأة خِلْوًا ، يعني ما هي مخطوبة ، ويعلم أنها غير مخطوبة ؛ لأنها ربما تكون مخطوبة لغيره ، ففي طبائع النساء قد يستطيع أن يعرف عجلة المرأة من هدوئها، كمالها في التحفظ من عدم التفاتها في مشيها ، وعدم احتكاكها بالرجال ، وهذا يعرف في أخذ نظرة الغفلة ، بخلاف النظرة المرتبة التي يريد أن يعرف جمالها وصفاتها الخاصة .
أما بالنسبة للنظر غير المرتب فشرطه ما ذكرنا . فإذا تقدم لخطبة امرأة أرسل أمه وأخته ، فنظروا إلى المرأة وأعجبتهم ، وجاءه من أرسله من قرابته بما يحب ، فتقدم خاطبا للمرأة ؛ فإنه يرتب لقاؤه بها بحضور محرمها فلا يختلي بها ، وتكون هذه النظرة نظرة شرعية بمعنى أن لا تكون بخلوة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ألا ليخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما )) وهذا يدل على حرمة اختلاء الرجل بالمرأة الأجنبية ، والمخطوبة أجنبية ؛ ولذلك لا يجوز له أن يختلي بها.
أن يكون مثلا والدها موجودا أو أخوها فتأتي مثلا وتحضر شيئا كالشراب أو ضيافة ضيف، حتى لو جلست قليلا ثم انصرفت فلا بأس ، فهذه النظرة المرتبة ينبغي أن تكون في الحدود الشرعية وبالضوابط الشرعية .
واختلف العلماء - رحمهم الله - في القدر الذي ينظره من المرأة :
منهم من قال إنه ينظر إلى وجهها وكفيها ؛ لأن الوجه يستدل به على الجمال ، ويستدل به على طبيعة بشرة المرأة ، والكفان يستدل بهما على حالها من الخشونة والرقة ونحو ذلك ، وفيهما الغناء ، وهذا مذهب الجمهور .(5/137)
وذهب بعض العلماء كما هو مذهب الحنفية - رحمهم الله - أنه ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها، وعلى هذا نقول : إن الأصل عدم جواز النظر، وأجمع على الوجه والكفين، فيبقى على الأصل المجمع عليه ، ويترك ما عداه . فالوجه والكفان فيهما الغناء ، وما جاز للحاجة يقدر بقدرها ، والحاجة تحصل بالوجه والكفين ، فإذا جلست واستنطقها كأن يسألها مثلا عن شيء بالمعروف سؤالا مقبولا فلا بأس بذلك ولا حرج لكي يعرف عقلها أو يعرف نطقها أو يعرف تمييزها وأراد أن يستجلي أمرا فيها فلا بأس بذلك ، لكن في الحدود التي يراعى فيها الحشمة ، ويراعى فيها الأدب ، ولا يزاد على ذلك .
هذا بالنسبة للنظر إلى المخطوبة ، وتوسع البعض فأصبحت المرأة إذا خُطبت تخرج مع خطيبها ، وتختلي مع خطيبها ، ولربما تصافحه وتلمسه ، ولربما يقبلها - والعياذ بالله - وكأنها زوجته ، هذا كله من المنكرات ، وكله من المحرمات ، ومن حدود الله -- عز وجل -- التي لا تجوز ، وعلى الناس أن يتقوا الله -- عز وجل -- وعلى ذي المحرم أن يغار على محرمه ، وأن يقف عند الحدود الشرعية والضوابط الشرعية ؛ ولذلك كم من المصائب والكوارث حصلت في مثل هذا الانفلات والتسيب ، وعندها يندم من يفعل ذلك في ساعة لا ينفع فيها الندم ، وعلى المسلم أن يتق الله ويتبع سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دون إفراط أو تفريط .(5/138)
كذلك في المقابل تجد من يحرم ما أحل الله ، ويقول : أبدا ما ينظر إلى بنتي ، ولا ينظر إلى أختي ، ولا ينظر إلى قريبتي ، كيف هذا رجل أجنبي! وكيف يدخل عليها وهو ينظر إليها ! لا ما يمكن ؛ لماذا ؟ هذا شرع الله -- عز وجل -- ، وهذه سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والله تعالى يقول : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } ، فعلينا الرجوع إلى السنة والاحتكام إلى هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وسنته في هذا الأمر ، مادام أنها ثبتت السنة فعلينا أن نرضى وأن نسلم { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } .(5/139)
فعلينا التسليم بالسنة ، وما يشدد فيه البعض من أن الخاطب لا ينظر إلى مخطوبته فهذا خلاف الشرع، وتحريم لما أحل الله ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( انظر إليها فإنه أحرى أن يودم بينكما )) وكم من بيوت هدمت ، ونساء طلقت ورملت بسبب هذا الصلف والتعنت والمخالفة للسنة ، فيأتي الرجل ويدخل على امرأة لم يرها ، ولم يُرغَّب في نكاحها ، ولم يعط حق الرؤية فيها ، فإذا به لا يحبها ، ثم يضيق عليها حتى تخالعه ، أو لربما ينكد عليها ويؤذيها انتقاما من أهلها وأذية لهم ، وكل ذلك بسبب مخالفة السنة ، وفيه ظلم للمرأة ؛ لأن الضرر سيحصل على المرأة ، ولربما دخل بها ، وافتضها وأصبحت غير مرغوبة بعد ذلك إذا طلقها ، ولربما دخل بها واستمتع بها الأيام ثم طلقها ، وسبب الطلاق أنها غير جميلة ، ثم إذا طلقت بعد نكاحها بأيام قليلة ساءت الظنون فيها ، فمن الذي يتحمل هذه المصائب ؟! ومن الذي يتحمل هذه البلايا ؟! هن النساء ؛ والسبب في ذلك مخالفة السنة . على الأولياء أن يكونوا وسطا بين الإفراط والتفريط ، وأن يرضوا بشرع الله -- عز وجل -- ، يُمكّن الخاطب من رؤية مخطوبته ، ويمكّن من الرؤية الشرعية التي ليس فيها إفراط ولا تفريط ، وفي الحدود المعتبرة على التفصيل الذي ذكرناه ، ولاشك أن في ذلك الخير للخاطب وللمخطوبة ، والخير كله في اتباع هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وسنته .
جعلنا الله وإياكم من المتمسكين بها ، وثبتنا على ذلك إلى لقائه . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ : أنا أعمل في مكان بعيد عن أهلي فهل يجوز لي القصر إذا قضيت الصلاة الرباعية وأدركتني الصلاة ، فهل يجوز لي أن أقصر الصلاة ولو صليت وحدي . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/140)
هذا فيه تفصيل إذا كان مكان العمل يبعد عن أهلك مسافة القصر، ومسافة القصر عند جمهور العلماء ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي ، والميل واحد وستة من عشرة كيلو متر ، أي ما يقرب ستة وسبعين كيلو متر فهو مسافة القصر ، وما نقص عن ذلك فليس بمحل للقصر؛ والدليل على ذلك قول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الصحيح من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : (( لا يحل لامرأة بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة )) . فجعلها مسافرة مسيرة اليوم والليلة ، فدل على أن ما دون مسيرة اليوم والليلة ليس بسفر ، وأكد هذا أنه خرج إلى أحد ، وخرج إلى بني قريظة ، وهي تبعد عن المدينة الأميال ، وخرج إلى الخندق ، فوجدنا أقل ما سماه الشرع سفرا هو مسيرة اليوم والليلة ، والإبل تسير يوما وليلة وتسير نهارين وتسير يومين قاصدين نهارين وليلتين ويوم وليلة كله بمعنى واحد وهو الأربع والعشرين ساعة ، مسير الإبل يوما وليلة -الأربع والعشرين ساعة- ثمانية وأربعين ميلا والثمانية والأربعين ميل تعادل ماذكرناه من الكيلو متر ، هذا تحديد من الشرع ؛ لأن الشرع سماه سفرا ، لو نقص عن مسيرة اليوم والليلة لنهى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- المرأة أن تخرج عن ما دون اليوم والليلة ، فلما كان مقصود الشرع أن ينهاها عن السفر لوحدها ذكر مسيرة اليوم والليلة ولم يذكر ما دون ذلك ، ومنه بدون محرم ، وهذا يدل على أن مسافة القصر على هذا الوجه ، وأكد هذا فعل السلف ، فإن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما صح عنه أنه سأله السائل وقال : أأقصر إلى مر الظهران - ومر الظهران الجموم ووادي فاطمة الذي يسمى الآن ؟- فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لا ، ولكن إلى جدة وعسفان والطائف ، وكانت جدة تبعد عن مكة مسافة القصر ؛ لأنها قبل اتساع العمران كانت أكثر من ستة وسبعين كيلو، وعسفان تقارب المائة من مكة في القديم ، وأيضا الطائف تزيد على مسافة القصر . فقال حبر الأمة(5/141)
وترجمان القرآن -رضي الله عنهما - قال : لا . أي لا تقصر بمجرد خروجك إلى مر الظهران ، ولكن إلى جدة وعسفان والطائف ، فاعتبر مسافة القصر .
وأما القول كل ما سماه العرف سفرا فالأصل عند العلماء أنه لا يصار إلى التحديد بالعرف إلا عند عدم وجود النص ، فالعرف يصار بالتقدير به إذا لم يوجد نصاً. أما إذا وجد النص فالواجب الالتزام بالنص، ولا يرد إلى العرف إلا بعد عدم وجود النص ، والنص هنا موجود بتسمية هذه المسافة سفراً دون ما دونها فنقول إن من مشى مسيرة اليوم والليلة بهذا القدر الذي عليه جمهور العلماء فإنه يقصر ، وأما إذا ولو كان يسافر يوميا لو كان ذهابه إلى ذلك المكان يوميا فإنه يقصر ويأخذ حكم المسافر، وأما إذا كان دون ذلك فليس بمسافر وحينئذ لا تقصر الصلاة . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع : فضيلة الشيخ : إذا لم يكن الأب له القدرة على ذبح العقيقة عن الغلام فهل له أن يذبح في السابع واحدة ثم في اليوم الرابع عشر واحدة أم لابد أن تكون مجتمعة وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب : هو الأفضل كما ذكر العلماء أن تكون الشاتان مع بعضها ، ولكن إذا لم يتيسر له ذبح الشاتين وذكر على هذا الوجه فلابأس ولا حرج أن تذبح في يوم وتذبح الثانية في اليوم الثاني ، ولكن الأفضل والأكمل أن يعقهما معا . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس : فضيلة الشيخ : سمعت من بعض الناس أنه ينبغي لمن ذبح أضحيته أن يبدأ بأكل الكبد منها ، أهناك ما يدل على ذلك من السنة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/142)
هم استحبوا البداءة بالكبد لما ذكر من أن أول نعيم أهل الجنة ما يصيبون من طعامها زيادة الكبد ، وهذا ذكر بعض العلماء فيه . والحديث صحيح في مسائل بني إسرائيل للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، واستحبوا البداءة بالكبد ويحمد بعض الأطباء الكبد لما فيها من الفوائد ، فإن كان هذا المعنى لمعنى طبي فليس هناك من بأس ، وليس هناك من حرج ، والأمر في هذا واسع ما لم يدخل عن اعتقاد فحينئذ يمنع منه . أما من حيث الأصل فلا بأس أن يبدأ بالكبد أو يبدأ بغيرها . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس : فضيلة الشيخ : تركت ذنبا ما قرابة أربعة أشهر ثم عدت إليه فما السبيل للنجاة من الذنوب وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
لا حول ولا قوة إلا بالله ! لا سبيل إلى النجاة من الذنوب إلا بالله -- جل جلاله -- مقلب القلوب ، وهو وحده سبحانه يهدي من يشاء بفضله ، ويضل من يشاء بعدله ، يحكم ولا معقب لحكمه ، يقص الحق وهو خير الفاصلين .
أخي في الله العود إلى الذنوب له أسباب ، منها : ما يكون بين العبد وربه ، ومنها ما يكون بين العبد والعباد .
فعليك أن تراجع نفسك ، وأن تنظر في السبب الذي دعاك للرجوع والعَوْد ، فإن الله -- عز وجل -- إذا أحب عبده صرف قلبه إلى ما يحب ، وجعله إلى الخيرات سباقا ، ولرحمته تواقا ومشتاقا ، فجعلنا الله وإياكم كذلك.
فالعبد الموفق السعيد هو الذي يوفق للخير، فإذا حرم هذا التوفيق تنكّب عن صراط الله، وساءت أحواله مع الله ومع عباد الله ، وهذا لا يكون ولن يكون إلا إذا غيّر ما بينه وبين الله . { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } وقال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } .(5/143)
فعليك أخي في الله أن تبحث عن الأسباب التي دعتك إلى الرجوع إلى الذنب والمعصية ، فتارة يتساهل الإنسان في قرناء السوء ، وتارة يتساهل في النظر إلى المحرمات ، وتارة يتساهل في سماع المحرمات ، وتارة يتساهل في غشيان أماكن الريبة حتى تزل قدمه - والعياذ بالله - بعد ثبوته .
فالذي أوصيك ونفسي بتقوى الله -- عز وجل -- وأن تبحث عن الأسباب التي تثبتك على التوبة ، وتقوي صلتك مع الله -- عز وجل -- في بقاء الرجوع والإنابة إلى الله -- عز وجل -- وعدم الرجوع إلى الذنب ، ولاشك أن الذنوب يقود بعضها إلى بعض ، ومن أعظم الأسباب التي تضعف التوبة بل ولربما تكون سببا في حرمان الإنسان من التوبة من أعظمها : عقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم ، وظلم الضعفاء ، وغيبة الصالحين وأذيتهم والنميمة ، نقل الكلام عنهم للأذية والوشاية ، فمظالم الناس غالبا ما تحرم العبد التوفيق في الطاعة ، وربما تكون سببا في طمس البصيرة - والعياذ بالله - ؛ وقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن الله تعالى يقول : (( من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب )) إن العبد يكون محافظا على صلاته وطاعته واستقامته في طاعة ربه حتى يعق والده أو يعق والدته ولربما بكلمة واحدة ؛ فالله يقول له : { فلا تقل لهما أف } فيدخل على أمه فيراها على حال لا يرضيه فيقول : أف ، فيغضب الله عليه بهذه الكلمة ؛ لأنه نهاه ربه فلم ينته ، وحرم عليه فلم يحرم ، وعندها يتأذن الله بعقوبته ، ولربما يعق أباه ، ولربما يقطع الرحم فيؤذيهم ويظلمهم ، ولربما يكون مع الصالحين والأخيار فيؤذيهم ويظلمهم ، أو يؤذي جاره ، فمظالم الناس من أعظم الأسباب التي - والعياذ بالله - تنقص الإنسان من حال الخير، وتكون سببا في وقوعه في المعاصي. أيضا من أسباب الرحمة : بر الوالدين ، وصلة الرحم ، والإحسان إلى الناس من أسباب رحمة الله بالعبد، وكم من مذنب خطاء كثير الذنوب والعيوب سترها الله -- عز وجل -- بستره ،(5/144)
وتولاه برحمته ، وشمله ببره وغفر له ما كان من زلله وخطئه بفضله -- سبحانه وتعالى -- ثم بإحسان العبد فيما بينه وبين الناس .
(( مر رجل على غصن شوك فرآه في الطريق فقال والله لأنحينه عن طريق المسلمين لا يؤذيهم فزحزحه عن الطريق فغفر الله له ذنوبه )) لأنه نوى للمسلمين الخير، ولذلك انظر كيف غصن شوك قال بعض العلماء : ليس الأمر في غصن الشوك ، ولكن الأمر بدأ من قوله : (( لأنحينه عن طريق المسلمين )) رجل قلبه متفطر رحمة بالمسلمين ولا يريد الشر لهم ولا يريد الضر بهم ، ويريد أن يرحمهم فرحمه الله -- عز وجل -- ، فإذا نوى أن يحسن لهذه الأمة كلها وأن يزيل هذا الغصن عن طريقهم فزحزحه عن الطريق فغفر الله له ذنوبه .
وفي بعض الروايات : (( فزحزحه الله به عن نار جهنم )) فالعبد إذا ستر الناس ستره الله ، وإذا أحسن إلى الناس أحسن الله إليه ، فالأخذ بأسباب الرحمة . من أسباب الثبات على التوبة ؛ ولذلك تجد بعض الأخيار والصالحين إذا استقام في طاعته لربه فإن الله يثبته ؛ لأنه بمجرد أن يستقيم يبحث كيف يرضي الله -- سبحانه وتعالى -- ، ويستقيم بصدق وحق .(5/145)
الأمر الثالث - كذلك وهو من أسباب الرجوع إلى الذنوب- : احتقار الطاعة ، فالبعض - والعياذ بالله- إذا أطاع ربه حنّ إلى جاهليته ، وأصبح يظن أنه في هدايته قد ضيق على نفسه ، فلربما جاءه إبليس بالشهوة والنزوة فحن إليها ، وكأنه في حال نقص ، ولكن ولي الله المؤمن الصالح . يقول : يا رب عوضتني خيراً ، وإذا جاءه عدو الله يذكره بالشهوات والملهيات استعاذ بالله -- عز وجل -- ورجع إلى ربه، وقال : اللهم إني أعوذ بك من النقص بعد الزيادة ، ومن الحور بعد الكور ، ومن الضلال بعد الهدى ومن العمى بعد البصيرة ، رب تداركني برحمتك ، فيصدق مع الله أنه يريد الهداية ؛ لأنه يحس أنه عثر على ما كان يبحث عنه ، وأنه قد وجد الضال التي طال ما تمناها ، وأنه وجد الراحة النفسية والطمأنينة وانشراح الصدر وثبات القلب ، وأنه ليس هناك أحد أسعد من حاله مادام أنه مُرض لربه -- سبحانه وتعالى -- المهتدي لا يشعر بالنقص ، والشيطان يأتي من الشعور بالنقص ، فإذا أحس أن هناك شهوة ومتعة ولذة ناقصة ، وأن نفسه إلى الآن تحن إليها ، أو شعر أن الهداية منعته من هذه الأشياء رجع إلى ما كان إليه؛ ولذلك إذا أراد الله بعبده خيرا فتح في وجهه أبواب الرحمة ، وشغله بطاعته عن معصيته ، وبمحبته عن ما يسخطه - جعلنا الله وإياكم -كذلك .
فعليك أن تأخذ بهذه الأسباب ، ومن أعظم الأسباب التي تحول بينك وبين الذنب الرجوع إليه : الدعاء. فقل : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .(5/146)
ومن أعظم الأسباب التي تثبت الإنسان على الطاعة بترك المعاصي والثبات على الخير والزيادة من الخير: كثرة ذكر الله -- عز وجل -- ، فمن ذكر الله ذكره الله -- عز وجل -- ، فهو في حرز وحصن حصين من الشيطان الرجيم ، فأهل الهداية والاستقامة الذاكرون لله كثيرا والذاكرات المطمئنون بتلاوة القرآن وبالتسبيح والتحميد والاستغفار قل أن تجد إنسانا لسانه رطب بذكر الله يقع في معصية ، وليس معنى ذلك أنه معصوم ، لكن الله يحفظه من كثير من الشرور والمعاصي { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ، فهذا بالتوكيد { إن عبادي } من هم عباد الرحمن الذين يذكرون الله ، فيتلون القرآن ويسمعون القرآن ويحضرون مجالس الذكر وينتفعون بالذكر ، الخاشعون المخبتون المنيبون .(5/147)
كذلك مما يحول بين العبد والرجوع إلى المعصية الخوف من الله -- جل جلاله -- ، واستدامة هذا الخوف ، فإن العبد يخاف من ذنب يرجع إليه أن يكون سببا في انتكاسته ، ويخاف من ذنب يذنبه بينه وبين الله يكون سببا في سوء الخاتمة . الخوف من الله ؛ ولذلك النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مع علو منزلته ودرجته كان يسأل الله -- عز وجل -- الثبات على الطاعة ويقول : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )) في أعز المواطن وأشرفها وهي لحظة السجود بين يدي الله ، فإذا اهتديت لا تغتر بهدايتك ، ولا تغتر بصلاتك ولا طاعتك ، بل تستديم الخوف من ربك ، كلما ارتفعت درجة العبد في طاعته ازداد خوفه من الله وخشيته من الله ، ووجله من سوء الخاتمة ، ومن تقلب قلبه ومن زيغ القلب ، وهذا هو الذي حمل همه الصالحون فقالوا وهم ضارعون مستغيثون منيبون إلى الله -- جل جلاله -- { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } فذكر الله أنهم تذللوا وتبذلوا وتضرعوا وسألوه سبحانه أن يثبتوهم على طاعته لم يتكلوا على هدايتهم مع أن الله زكاهم بالاستقامة والخير ، فلا تغتر بهداية ولا طاعة ، وعليك أن تخاف من الذنب ولو كان يسيرا ، وعليك أن ترجع إلى الله -- جل جلاله -- .(5/148)
أما الوصية الأخيرة فإذا عاد إبليس عليك بالذنب فهزمت النفس وانكسرت أمام دواعي الشهوات والملهيات فارجع إلى ربك ، وأرغم أنف عدوك اللدود إبليس ، وقل : اللهم إني تائب إليك ، راجع إليك ولو عاد بك مليون مرة ، إذا أذنبت فلا تيأس من رحمة الله ، ولا تقنط من روح الله ، ولا تيأس من روح الله ولا تقنط من رحمة الله ، واستدم صدق الرجوع إلى الله ، بهذا تقتل عدوك ، وينصرك الله - جل جلاله - على هذا الكيد من الشيطان الرجيم ، أنك إذا أذنبت رجعت مباشرة ، وصدقت في الرجوع إلى الله -- عز وجل -- وعندها تبدل السيئات حسنات ، ويتولى عدو الله بالحسرات، ويحثو على رأسه التراب من الغيظ مما رأى من تنزل رحمة الله بك .
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يثبتنا على طاعته وأن يتولانا برحمته. والله تعالى أعلم .
السؤال السابع : فضيلة الشيخ : بعض المسالخ يأخذون الجلود ويبيعونها فهل يجوز لهم هذا البيع وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
هذه الجلود ملك لأصحاب الذبائح ، ولا يجوز لأحد أن يأخذ هذه الجلود إلا بإذن منهم ، فإذا أذنوا بها أخذت ، وإذا لم يؤذنوا فإنها ملك لهم ، ولا يجوز أخذها بدون أن يكون منهم إعطاء على صفة شرعية معتبرة . والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن : فضيلة الشيخ : هل يجوز أن يعق عن الجارية بشاتين وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الشاة ، فيأتسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وكذلك بالنسبة للذكر شاتين ، لكن لو أنه دعا قرابته وزاد عددهم فأراد أن يصنع ثلاث شياه أو أربعة شياه أو خمسة شياه على قصد إكرام الضيف وليس على أنها عقيقة فلا بأس بذلك ولا حرج . والله تعالى أعلم .(5/149)
السؤال التاسع : فضيلة الشيخ : امرأة عليها قضاء ثمانية أيام وقرب شهر رمضان حيث أنها تأخذ علاج ، مستمرة على هذا العلاج في الصباح والمساء ، فماذا يجب عليها حيث أنها تقول عند الصيام يؤثر على صحتها ، وهل يكفي الإطعام . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا كان على المرأة قضاء من رمضان فإنه يكون مؤخرا إلى شعبان ؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - قالت كما في الصحيح : (( إن كان يكون علي صوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني )) فيصبح واجبا موسعا حتى إذا بقي على قدر الأيام من شعبان التي لم تصمها باستثناء يوم الشك فإنه يصبح واجبا مضيقا وحينئذ يجب عليها أن تصوم ، فإذا وافق في هذه الأيام أن حصل عندها عذر ولم تستطع الصوم لوجود العذر، أو لم يستطع الرجل قضاء الصوم لوجود العذر فلا شيء عليه ولا عليها ، وتنتظر حتى تصوم رمضان الثاني ثم تقضي بعد رمضان الثاني ولا شيء عليها وهو قول جمهور العلماء - رحمهم الله-
إنما الخلاف بين أهل العلم إذا أخرت المرأة وأخر الرجل القضاء إلى أن دخل رمضان الثاني بدون عذر، فمنهم من أوجب الإطعام عن كل يوم ربع صاع ، وألحقه بعض الفقهاء بقول عن ابن عمر - رضي الله عنهما - وبعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
ومنهم من قال إنه يأثم وليس عليه إطعام . والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر : فضيلة الشيخ : إني كثيرا عندما أصلي أسرح في صلاتي مع أني أستعيذ بالله وأنفث عن يساري ثلاثا ولكني أستمر في سرحاني . فانصحني يا شيخ . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
لا حول ولا قوة إلا بالله ! نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم من الخاشعين ، من أعظم نعم الله على العبد أن يكون من الخاشعين ، فهم المفلحون ، وهم الرابحون ، إن العبد يصلي الصلاة وهو بجوار أخيه ، كتفه إلى كتفه ، بينهما كما بين السماء والأرض من الأجر والمثوبة على قدر الخشوع .(5/150)
الخشوع هو سر الصلاة ، وهو أساسها وروحها ؛ ولذلك قال نبي الأمة - صلوات الله وسلامه عليه- : (( وجعلت قرة عيني في الصلاة )) جعلت قرة عينه في الصلاة؛ لأنها أعظم المقامات وأشرف المقامات ، حينما يقف العبد بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، يا هذا من الذي تناجيه؟! ومن الذي تصلي بين يديه وتناديه ؟! من هذا الملك الذي تقول بين يديه : الله أكبر ؟! فهو أكبر من كل شيء ، ومن الذي هذا الذي وجهت إليه قلبك وقالبك متخشعا متذللا ومتبذلا؟! تذكر وتفكر أنه ليس لك من صلاتك إلا ما عَقَلت ، وأنه ليس لك من أجرك إلا ما خشعت ، وأنها صلاة إذا سلّمت منها لن تعود إليها أبدا ، وأنها مكتوبة محسوبة خاصة إذا كانت مفروضة .
العبد الصالح الموفّق يأتي بهموم الدنيا ، فإذا وطئت قدمه بيت الله - جل جلاله -- - ودخل المسجد دخله بخشوع وخضوع ، حتى إذا استقبل القبلة فقال : الله أكبر رمى بالدنيا وراء ظهره ، فزال عنه همه ، وزال عنه غمه ، إنها الصلاة التي جعلها الله قرة عين الصالحين ، وسلوة المهمومين والمغمومين .(5/151)
العبد يعيش مهموما مغموما مكروبا لكن لا يصيبه في الصلاة هم ولا كرب ، والدنيا بأشجانها وأحزانها لا يمكن أن تكون إذا وقف العبد بين يدي الله في صلاته صادقاً في موقفه . قف بين يدي الله ، واستشعر عظمة الله -- جل جلاله -- ، وأن الله يسمعك ويراك ، فإذا قلت : الله أكبر واستشعرت أنه ليس هناك أحد أكبر من الله -- جل جلاله -- ، فهو أكبر من كل شيء ، وأعظم من كل شيء -- سبحانه وتعالى -- فإذا قلت : الله أكبر؛ فقد دخلت في حرمات الصلاة ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( تحريمها التكبير )) فإذا قال الإنسان هذه الكلمة ينبغي أن يقولها بعقيدة وإيمان واستشعار ، لو أن بجوارك إنسان عظيم من ملوك الدنيا أو من عظماء الدنيا وأردت أن تصلي لأصابتك الرِّعدة من الهيبة والخشية ، وأخذت تفكر كيف تقف ، ولله المثل الأعلى ، فكيف بملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ومن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه . تقول : الله أكبر بقلبك وبلسانك معتقدا معناها ، مستشعرا عظمة مدلولها ، فمن قال الله أكبر لم يعظم عليه شيء أمام الله -- جل جلاله -- ، فلو كانت عليه هموم الدنيا كلها وقال هذه الكلمة صادقا من قلبه لزالت عنه همومها ، ولو قالها مكروبا منكوبا مفجوعا وهو معتقدا لمعناها لتبددت عنه أحزانها وأشجانها . يقول: الله أكبر ، ثم يقول دعاء الاستفتاح فأثر عنه - عليه الصلاة والسلام- أنه أقر الصحابي ولذلك الصحابي قال لما كبر : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( والذي نفسي بيده لقد رأيت بِضْعا وثلاثين مَلَكا يصعدون بها إلى السماء أيهم يبتدرونها )) كلمات خفيفة في اللسان ، ثقيلة في الميزان ، حبيبة إلى الرحمن، تخشع حينما تعرف ما الذي تقول ، وتستشعر من الذي تقف بين يديه ومن الذي تناجيه ، حتى إذا قرأت فاتحة الكتاب ، وتلوت كلام الله -- جل جلاله -- : { الحمد لله رب العالمين(5/152)
} استفتحت بحمده الذي هو بداية الأمور كما قال تعالى : { وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون } فله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وسرا وعلنا ، وله الحمد على كل حال ، ونعوذ بالله من حال أهل النار ، وله الحمد في السراء والضراء - جل جلاله - تقول : الحمد لله رب العالمين ، ما بقي شيء إلا وهو ربه ومليكه -- سبحانه وتعالى -- .
{ رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } هذه الأسماء الحسنى والصفات العلى التي لو نزلت على الجبال لانهدت ، ولو نزلت هذه الآيات على الرواسي لاندكت ، أفلا تستشعر بها هيبة المقام بين يدي الله -- عز وجل -- وتقولها بإيمان وعقيدة : { إياك نعبد وإياك نستعين } تستشعر وأنت تقول : { الحمد لله رب العالمين } أن الله يقول : حمدني عبدي ، وإذا قلت : { الرحمن الرحيم } قال : أثنى علي عبدي ، وإذا قلت : { مالك يوم الدين } قال : مجدني عبدي ، فأين تنصرف عن هذا الملك ، ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ، فتكون مستشعرا لهذه المعاني ، فإذا قلت : { مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين } قال : (( هذا بيني وبين عيدي ولعبدي ما سأل)) .
فإذا جعلت هذه الآيات تؤثر وتقولها بعقيدة وتستشعر معناها تخشع في صلاتك وتخضع بين يدي ربك، ومما يعين على الخشوع والخضوع الخوف من الله -- عز وجل -- واستشعار الهيبة بين يدي الله -- عز وجل -- .
مما يعين على الخشوع : سؤال الله -- عز وجل -- القلب الخاشع ؛ ولذلك كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع )) .(5/153)
مما يعين على الخشوع في الصلاة : كثرة ذكر الآخرة ؛ ولذلك قال تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } فوصف الخاشعين في الصلاة أنهم موقنون بلقاء يوم القيامة ، فمن وقف بين يدي الله واستشعر أنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة وهو ضجيع اللحد والبلى، مرهونا في قبره ، تحت رحمة الله جل وعلا ؛ هانت عليه الدنيا وما فيها ، وأحس بقيمة هذه الصلاة ، واستشعر أنها نور له في قلبه ونور له في حشره ، ونور له بين يدي ربه .كثرة ذكر الآخرة . وأسباب الخشوع في الصلاة كثيرة ، ولكن نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا من الخاشعين ، اللهم إنا نعوذ بك من قلب لا يخشع ، اللهم إنا نعوذ بك من دعاء لا يسمع ، ومن عين لا تدمع ، ومن علم لا ينفع، ونعوذ بك من هؤلاء الأربع ، واجعلنا من الخاشعين ، واجعل خشوعنا لوجهك خالصا يا رب العالمين ، ثقل موازيننا ، ويسر أمورنا ، واشرح صدورنا ، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
من شريط 54 الى 76
كتاب البيوع
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف –رحمه الله- : [ كتاب البيوع ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(5/154)
فبسم الله نبدأ ، وبالله وعلى الله نتوكل، في هذه الدورة المتعلقة بأحكام البيوع ، وتعتبر أحكام البيوع من أهم الأحكام الشرعية التي ينبغي للمسلم أن يكون على إلمام بها ، ذلك أنه لا يمر يوم على الإنسان إلا وهو بائع أو مشترٍ أو جامع بين البيع والشراء ، فحري به أن يعلم حلال الله الذي أحل له أن يشتريه وأن يبيعه، وأن يعلم حرام الله الذي حرم عليه أن يبيعه أو يشتريه، حتى يطيع الله –- عز وجل -- ، وحري به أن يكون بخاصة إذا كان من طلاب العلم على إلمام بهذه المسائل والأحكام الشرعية التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يبين للناس حلال الله وحرامه ، ويبين لهم شريعته ونظامه، وعندها يعظم أجره ويثقل ميزانه ، فلا أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ، وعظمت حاجة المسلمين، وبخاصة في هذا الزمان حينما طال العهد وطال الزمن عن عهد النبوة، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه كلما تباعد الزمان عن زمانه -عليه الصلاة والسلام- اشتدت وعظمت غربة الدين ، فالأجر عظيم، كما أن الفتن عظيمة فالأجر أعظم منها ، والثواب من الله أكبر .(5/155)
ومسائل البيع منها ما ورد في النصوص، وهي التي يسميها العلماء بالمسائل النقلية السمعية التي بيّنتها نصوص الكتاب والسنة ، ومنها مسائل اجتهادية بناها العلماء والأئمة المجتهدون وألحقت بالمنصوص عليه ، ولاشك أن الإلحاق والقياس عمل به أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وهو حجة في الدين ، بشرط أن تتوفر الشروط المعتبرة في الشخص الذي يقيس، وفي قياسه الذي يبني عليه الحكم الشرعي، فهذان النوعان من المسائل تدور عليهما أحكام فقه المعاملات ، وهناك مسائل تطرأ وتَجِدّ وهي جديدة يتساءل الناس عن حكمها، وحينئذ إما أن يكون لها أصل تُردّ إليه ، وإما أن يجتهد الفقيه في إلحاقها بما تقرر عند أهل العلم -رحمهم الله- في كتبهم الفقهية، فيخرج النازلة على ما نص عليه الأئمة المجتهدون من المتقدمين ، إلا أن الملاحظ في هذا الزمان وجود الاجتهادات المنفلتة التي لا تنضبط بضوابط الشريعة ، ولم تُبنَ على الأصول الصحيحة التي عرفت في كتب أهل العلم –رحمهم الله- ، ولذلك نجد المذاهب الأربعة وضع العلماء لها أصولاً حتى لا يعبث العابثون، ولا يستطيع أحد أن يفتي في دين الله إلا وقد عُرفت فتواه وضبطت ، لأن هذه الأصول التي وضعها العلماء في كل مذهب إذا أفتى أو خرّج مسألة نازلة سئل على أي أصل بنى ، وعلى أي قاعدة أو على أي دليل ، وحينئذ ينكشف ويتبين فقه الفقيه الذي بناه على كلام العلماء، وفقه من يدعي الفقه وليس بفقيه ، ولاشك أن الزمان زمان غربة ، وكل من قرأ كتب العلماء –رحمهم الله- والأئمة بخاصة في باب المعاملات ووجد أن المسائل التي تَجِدّ وتطرأ وكيف يجاب عنها يجد العجب العجاب ، ومن هنا نخلص إلى ما نريد، وهو عظم المسؤولية على طالب العلم، وعظم المسؤولية على كل من يسمع مسائل الشرع والدين ، وهذا لا يختص بالمعاملات لكن المعاملات تعظم بها البلوى ، وتعم بها البلوى ، ومن هنا حري بطالب العلم أن يستشعر الأمانة والمسؤولية، فيضبط هذه(5/156)
المسائل ، وينطلق أول ما ينطلق من المسائل النقلية التي وردت في الكتاب والسنة، ويلم بها، ويضبطها، ثم بعد ذلك يبني عليها ما قرره أهل العلم وأئمة الشأن، ثم بعد ذلك يتوسع حتى يبلغ ما شاء الله له أن يبلغه .
وعلى كل حال أوصي طالب العلم أن يقوم بواجبه تجاه هذه المسائل بضبط العلم كما ينبغي أن يضبط ، وكان من وصايا بعض أهل العلم لطلبة العلم أن طالب العلم يبارك له في علمه متى استشعر أنه إذا درس أي مسألة سيسأل عنها فيجيب ، فإذا مرت بك المسائل وأنت تستشعر أنك ستسأل عنها يوما من الأيام ضبطت العلم وأتقنته ، ولم ترضَ لنفسك أن تضبط بعض الضبط، بل تسمو نفسك إلى معالي الأمور، فتضبط على أتم ما يكون الضبط؛ نصيحة لله ، ولكتابه، ولرسوله –عليه الصلاة والسلام- ولأئمة المسلمين، وعامتهم ، فهؤلاء الذين يجدّون ويجتهدون من طلبة العلم الناصحين، المثابرين هم الأمل وينعقد فيهم الأمل بعد الله -- عز وجل -- في سد ثغور الإسلام في الغد ، ونسأل الله أن يباركهم، وأن يبارك فيهم، وأن يبارك عليهم، وأن يسد بهم ثغور الإسلام، علماء عاملين أئمة مهتدين ، فكم تقرحت القلوب وكم دمعت العيون وكم أشفق الناصحون مما يسمعون من الفتاوى الغريبة والكلمات العجيبة في دين الله –- عز وجل -- ، فنسأل الله أن يتدارك الأمة برحمته وهو أرحم الراحمين .
يقول المصنف –رحمه الله- : [ كتاب البيوع ] : البيوع: جمع بيع ، والبيع مقابلة الشيء بالشيء في معناه العام .
وأما في اصطلاح العلماء فله معنى خاص، سيذكره المصنف -رحمه الله- وهو : مبادلة المال بالمال أو كما قال المصنف : معاوضة المال بالمال ، والمعنى واحد .
قال المصنف –رحمه الله- : [ كتاب البيوع ] : البيوع في شريعة الله –- عز وجل -- تنقسم إلى قسمين :
بيوع أحلها الله ، وبيوع حرمها .(5/157)
وكل من البيوع التي أحلها والبيوع التي حرمها تنقسم إلى أقسام ، ومن هنا قال المصنف : [ كتاب البيوع ] لكي يشير إلى البيوع بأنواعها كأنه يقول : في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق ببيان البيوع المشروعة والممنوعة .
وفي قوله –رحمه الله- : [ كتاب البيوع ] : قال : كتاب البيوع ولم يقل: باب البيوع ، ومن عادة العلماء والأئمة أنهم لا يقولون : كتاب البيوع إلا إذا كانت المادة والمسائل التي تنطوي تحت هذا الباب أو تُضمّ لهذا الباب كثيرة ، فإذا كانت كثيرة قالوا: كتاب فلا يقولون: كتاب السواك مثلا ، وإنما يقولون: كتاب الصلاة ، كتاب البيوع وقد تقدم معنا .
والبيوع دل على مشروعيتها دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وكما اجتمعت هذه الأدلة النقلية كذلك دل دليل العقل على جوازه ومشروعيته .
أما كتاب الله فإن الله –- سبحانه وتعالى -- قال في كتابه : { وأحل الله البيع } وهذا نص صريح في جواز البيع وإباحته ؛ لأن صيغة { أحل الله } أُحِل أحْلَلْنا من صيغ الإباحة كما قرره علماء الأصول ، وكذلك قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ووجه الدلالة : أن الله أحل أكل المال إذا كان بتجارة، وهذه التجارة وجد فيها الشرط المعتبر وهو الرضى ، فدل على حل التجارات المشروعة وهي من البيوع .(5/158)
وقال الله –- عز وجل -- في آية الجمعة : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } فقوله تعالى : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } قوله : { ابتغوا من فضل الله } أمر أي اطلبوا فضل الله ، وهذا الأمر جاء بعد حظر وتحريم في قوله : { وذروا البيع } لأن (( ذروا وذر )) من صيغ التحريم ، والأصل عند العلماء كما هو مقرر في الأصول أن الأمر بعد الحظر يعود إلى ما كان ، فدل على أن الأصل في البيع حله وإباحته ، ولذلك لماّ حرمه الله ؛ حرمه بعد أذان الجمعة ، فدل على حله في غير هذا الوقت ، وهذا ما يسميه العلماء بالمنع من البيع لوجود الوقت المستحق لما هو أهم ، فالوقت وقت الجمعة مستحق لصلاة الجمعة، وهي أهم؛ لأن المقصود من الخَلْق عبادة الله ، ومعاملات الدنيا تبع ، ولذلك قال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } فحرم الله البيع في الوقت المخصوص ، وأذن به على العموم .
وكذلك في قوله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } فقوله : { ليس عليكم جناح } نفي الحرج ونفي الجناح من صيغ الإباحة ، وفي قوله : { أن تبتغوا فضلا من ربكم } نزلت فيمن يريد الحج والتجارة، كانوا في القديم يسافرون إلى مكة، فينوون الحج وينوون التجارة مع الحج، فأباح الله ذلك وأحله لعباده ، فدل على مشروعية التجارة ، وبهذا اجتمعت الآيات في كتاب الله في الدلالة على مشروعية البيع وجوازه .(5/159)
وأما سنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فقد دلت السنة القولية والفعلية والتقريرية على إباحة البيع وجوازه ، فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بيّن جواز البيع فقال –عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما )).
وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لحَبّان - رضي الله عنه - : (( إذا ابتعت فقل لا خلابة ولي الخيار ثلاثا )) ، والأحاديث القولية في هذا المعنى كثيرة .
وأما بالنسبة للسنة الفعلية فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- اشترى حائط اليتيمين، وبنى عليه حجراته ومسجده -صلوات الله وسلامه عليه- .
وكذلك اشترى من جابر بعيره كما في الصحيح، واشترط عليه جابر حملانه إلى المدينة .
وأما السنة التقريرية فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أتى إلى المدينة والسوق قائمة يتبايع الناس فيها، فلم يحرم عليهم سوقهم ، ولم يمنعهم من التجارة ، وإنما بيّن لهم أن هناك بيوعا فيها ظلم أو أذية أو إضراراً وأنها لا تجوز ، وما عداها فهو حلال ولا حرج فيه ، فاجتمعت السنة قولا وفعلا وتقريرا على حِل البيع وجوازه .
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز البيع ، وأنه من العقود الشرعية المباحة .
وأما بالنسبة لدليل العقل فقد يسأل طالب العلم لماذا يذكر العلماء الأدلة العقلية مع وجود الأدلة النقلية ؟(5/160)
وهذا راجع لأمور منها ومن أهمها : أن الاستدلال على مشروعية العقد قد تحتاج إليه لمسلم، وقد تحتاج إليه لغير المسلم، فقد يجادلك رجل كافر ويقول: لماذا الشريعة الإسلامية تبيح البيع ؟! فلا تستطيع أن تقول له الدليل قوله تعالى وقوله عليه الصلاة والسلام ودليل الإجماع؛ لأنه ينكر هذه الأشياء ، فيقول لك: أثبت لي عقلا أن الشريعة حينما أحلت البيع أنها مصيبة، أو أن هذا منهج تشريعي سليم وصحيح، فحينئذ تبين له بدلالة العقل .
ودلالة العقل حاصلها كما ذكر العلماء أن الإنسان تتعلق مصلحته بشيء في يد غيره ، ولا يمكن لذلك الغير أن يعطيه ذلك الشيء، فشُرع البيع تحقيقاً للمصلحة ودرءاً للمفسدة والضرر .
وشرح ذلك وتوضيحه: أن الإنسان تتعلق مصلحته بما في يد الغير ، فأنت مثلا تحتاج إلى سيارة لكي تنتقل بها لمصالحك، وهذه السيارة ليست موجودة في يدك، وإنما هي موجودة في يد غيرك ، أو تحتاج إلى أرض زراعية لكي تزرعها ، أو تحتاج إلى ثوب تلبسه أو طعام تأكله، فالإنسان بطبيعته تتعلق حاجته بما في يد الغير ، فمن ناحية تشريعية إما أن تقول الشريعة الإسلامية للناس: خذوا كل شيء تحتاجون إليه من بعضكم، فحينئذ يؤذي الناس بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا ، وإما أن تقول : يا صاحب الحاجة، لا تأخذ حاجتك من أخيك فتتعطل مصالح الناس ، ولكن جاءت بالوسط والعدل فقالت: خذ حاجتك من أخيك بحقها ، ودائما الشريعة تأتي بالوسط، الذي هو بين الإفراط والتفريط، فشرع الله البيع، وحصل بهذا الشرع العدل بين الناس، أن تأخذ الشيء بحقه .
والبيع لاشك أن فيه حِكَمًا عظيمة، ولم يبح الله لعباده إلا ما فيه الخير لهم ، ولم يحرّم عليهم إلا ما فيه شرٌّ في دينهم أو دنياهم أو أخراهم أو جامع بين هذه الشرور في الدين والدنيا والآخرة .(5/161)
وذكر العلماء –رحمهم الله- أن الأصل في البيع أنه مباح ، لكنه يصير حراما كبيع الخمر والميتة والخنزير، ففي الصحيحين عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- أنه خطب عام الفتح فقال : (( أيها الناس، إن الله ورسوله حرّما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام )) فهذا بيع محرم.
وقد يكون البيع واجبا كأن يكون لإنقاذ نفس محرمة ، أو يريد أن يشتري دواء لإنقاذ نفس فلا يجوز للبائع أن يمتنع من بيع الدواء بل يجب عليه .
وقد يكون مندوبا إذا حصّل به مصلحة كأن يشتمل على صلة رحم أو إحسان أو بر ونحو ذلك فيرتقي إلى الندب .
ويكون مكروها إذا اشتمل على أمر مكروه أو بيع شيء مكروه، فهو تعتريه الأحكام الخمسة كعوارض ، أما الأصل فإنه مباح .
يقول المصنف –رحمه الله- : [ كتاب البيوع ] .
قال رحمه الله : [ قال الله تعالى : { وأحل الله البيع } ] : يقول المصنف –رحمه الله- قال الله تعالى : { وأحل الله البيع } :(5/162)
أولا : هذا من أدب المصنف أنه قدم كتاب الله وكلام الله –- سبحانه وتعالى -- ، وهذه ميزة من مميزات كتب العلماء والفقهاء –رحمهم الله- أنهم ربما يذكرون النصوص ، ولكن في الأصل يتركون شرح الآيات لكتب التفسير ، وشرح الأحاديث لكتب الحديث ، وفي كتب الفقه يُذْكر الفقه ملخصا ، ولكي تدفع الشبهة لأن البعض يقول كتب الفقهاء ما فيها إلا كلام الرجال ، وهذا لاشك أن الجاهل بالشيء عدو له ، وإلا من قرأ كتب الفقهاء لا يستطيع أن يقول هذا الشيء ، بل كتب الفقهاء –رحمهم الله- وبخاصة المتون الفقهية من قرأها وألمّ بها وبالأخص كتب المتقدمين هي مبنية على الأحكام الشرعية ، بل بالاستقراء والتتبع إذا تتبّعت بعض المتون وجدت أن أبواب الحديث تُرَتّب كترتيب أبواب الفقه ، وهذا يعرفه من اشتغل بالفقه وألمّ به ، ولاشك أن كتب الفقهاء ليست محض أقوال الرجال ، وانظر إلى هذا الإمام كيف يستفتح بقول الله –- عز وجل -- ، ومن منهجه أنه يذكر الآية والحديث ، وهذه الآية من سورة البقرة من آخر ما نزل من كتاب الله –- عز وجل -- ، وقيل: إن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ما عاش بعد آية البيع والربا إلا مدة وجيزة -صلوات الله وسلامه عليه- .(5/163)
{وأحل الله البيع } أحل من صيغ الإباحة ، وقوله تعالى : { أحل الله البيع } يقول علماء الأصول: إنها من الصيغ الصريحة، والصيغ الصريحة هي أقوى الصيغ ، وفي قوله : { أحل الله البيع } دليل على أن الأصل في البيع أنه مباح وأنه حلال ، ولذلك أي بيع يختلف فيه العلماء هل هو حلال أو حرام نقول: الأصل حل البيع حتى يدل الدليل على تحريمه ، ثم انظر رحمك الله في هذه الآية الكريمة كيف جاءت بهذا الأسلوب حينما بيّن الله –- عز وجل -- الحل والإباحة أطلق فقال : { أحل الله البيع } ، ولكن في التحريم قال : { حرم الربا } فخصص، عمم في قوله : { أحل الله البيع } وخصص في قوله : { حرم الربا } لكي نعلم أن ما أحل الله لعباده أكثر مما حرم، ولو جاء شخص يقول لعالم أو مفتٍ: أنت تحرم على الناس! وهو يحرم بدليل الكتاب والسنة، نقول له : إنما حرم الله أقل مما أحل ، ولذلك الذي أحله جعله عاما { أحل الله البيع } ، لكن في التحريم خصص ، وهذا يدل على أن البيوع المباحة أكثر من البيوع المحرمة . هذه فائدة .
الفائدة الثانية : أن الله لا يحرم بيعا إلا لسبب ، ومن هنا حرم بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة؛ لما فيه من الغرر وخدع الناس ، وأكل أموالهم بالباطل ، وحرم البيع بعد أذان الجمعة؛ لأنه يفضي إلى مفسدة دينية من إضاعة الصلاة ، وحرّم بيع المسلم على المسلم ؛ لأنه يفضي إلى الشحناء والبغضاء والقطيعة والتهاجر بين المسلمين ، وهذه مفسدة تؤثر في أخوة الإسلام ومصلحة الجماعة .
فالشاهد أنه ليس هناك محرّم إلا وراءه سبب يدعو إليه، ونحن على التسليم لربنا، علمنا السبب أو لم نعلم ، فالله يحكم ولا معقب لحكمه ، سواء علمنا السبب أو لم نعلمه، لا نملك إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .(5/164)
{ وأحل الله البيع وحرم الربا } في هذه الآية إشكال معروف عند العلماء هل هي مجملة أو مبينة تكلمنا عليها بالتفصيل في شرح البلوغ ، والخلاصة أنها مبينة وليست بمجملة، وأنها أصل في حل البيوع حتى يدل الدليل على التحريم .
الفائدة الثالثة : استفتح المصنف –رحمه الله- بهذه الآية لكي يقرر حِل البيوع، وأن الأصل جوازها ، وقد أشار في روضة الناظر -وهو كتابه في الأصول- إلى ترجيحه للقول بأنها ليست بمجملة وأنها عامة، ومن هنا نفهم أن استفتاحه يقصد منه بناء الأصل في البيوع .
الفائدة الرابعة والأخيرة : لماذا نقول : إن الأصل حل البيع قبل أن ندرس كتاب البيوع ؟ من أهم ما ينبغي في دراسة الفقه أي باب تدرسه أن تعلم أصله ، وتعلم دليل الأصل ، وتعلم المستثنى من هذا الأصل ، ووجه استثنائه ، فإذا جمعت هذه الأمور لم يشكل عليك شيء بإذن الله في الفقه ، أي باب من أبواب الفقه في العبادات والمعاملات تدرس ما هو الأصل فيه ، ثم تأخذ دليل الأصل ، ثم هل استثنى الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- من هذا الأصل شيئا ، وما هو الدليل على الاستثناء ، ومن هنا استفتح المصنف –رحمه الله- بالآية، فأشار إلى هذا أن الأصل في البيع الجواز والحل كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ والبيع معاوضة المال بالمال ] : يقول رحمه الله : [ والبيع ] : أي حقيقة البيع عندنا معشر الفقهاء : مبادلة المال بالمال ، المبادلة : مفاعلة ، والمفاعلة في لسان العرب تستلزم وجود شخصين فأكثر، كالمشاتمة والمخاصمة، فلا تكون من شخص واحد ، فلما قال مبادلة أشار إلى طرفي العقد البائع والمشتري .
مبادلة : المبادلة من البدل، والبدل هو العوض، تقول: هذا بدل من هذا أي عوض عنه ، والمعاوضة هي المبادلة ، فهذا عوض من هذا أي بدل منه وقائم مقامه .(5/165)
قوله رحمه الله : [ مبادلة المال بالمال ] : المال كل شيء له قيمة، كل شيء له قيمة يسمى مالا، لكن الناس والعامة يخصون المال بالذهب والفضة، فيطلقونها على النقود كالريالات والجنيهات ونحوها ، لكن في الأصل المال كل شيء له قيمة ، ولذلك النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في قصة الثلاثة النفر: (( الأعمى، والأقرع، والأبرص. قال الأعمى حينما جاءه المَلَك في صورته التي كان عليها فقال له : ابن سبيل منقطع. قال: دونك الوادي، وكان ماله من الغنم دونك الوادي فخذ منه ما شئت، والله لا أرزؤك اليوم من مالي شيئا، فقد كنت فقيراً فأغناني الله، وكنت أعمى فرد الله علي بصري )) . فقال: (( لا أرزؤك اليوم من مالي )) فسمى الغنم مالا ، فقال له المَلَك : (( أمسك عليك مالك )) وهذا يدل على أن المال لا يختص بالذهب والفضة ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته...)) ثم ذكر صاحب الإبل وصاحب البقر وصاحب الغنم وصاحب الذهب والفضة، فدل على أن المال كل شيء له قيمة ، وأنه لا يختص بالذهب والفضة، ومن هنا قال العلماء : سمي المال مالا لميل النفوس إليه، ولذلك النفوس تميل إليه وتهواه ، ولذلك قالوا :
رأيت الناس قد مالوا
ومن ليس عنده مال
... إلى من عنده مال
فعنه الناس قد مالوا
ما يميلون للمسكين والفقير ، إنما يميلون لمن عنده الدراهم ، فإذا تكلم أنصتوا وإذا أمر أطاعوا .
رأيت الناس قد مالوا
... إلى من عنده مال
فسمي مالا لميل النفوس ، وهذا فطرة من الله، زُيِّن للناس حب الشهوات ، ولذلك إذا أعلى الله درجة العبد جعل الله المال تحت قدمه، فجعل الآخرة مبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله، وكانت الدنيا في صغار في عينيه، فلم يبال بها أقبلت أو أدبرت .
فالمال كل شيء له قيمة سواء كان من الذهب أو الفضة أو من غيرهما .(5/166)
مبادلة المال بالمال عند العلماء تقسيم للأموال حيث قسموها إلى قسمين :
فهناك أموال توصف بكونها أثماناً ، وهناك أموال توصف بكونها مثمونات .
فالثمن من الأموال هو الذهب والفضة ، لا يقول العلماء الثمن إلا إذا كان في ذهب أو فضة ، فإذا قالوا بيع الأثمان أو زكاة الأثمان فهي زكاة الذهب والفضة فقط .
والنوع الثاني من الأموال: المثمن، والمثمن كل شيء له قيمة من غير الذهب والفضة ، كالثوب والسيارة والأرض كلها تسمى أموالا لكنها من المثمونات ليست من الأثمان ، ومن هنا تنقسم المثمونات إلى قسمين :
إما أن تكون من العقارات .
وإما أن تكون من المنقولات .
فالعقار يختص بالأرض كالأراضي الزراعية والمخططات والدور السكنية كلها تسمى عقارات ، ولذلك تقول: فلان يبيع العقار معناه أنه لا يبيع إلا الأراضي والمخططات ، وهذا مصطلح عند أهل العلم –رحمهم الله - ، فإذا قالوا يجوز هذا في بيع العقار اختص ببيع الدور والأرضين ، وإذا قالوا : هذا شرط في صحة في بيع العقار اختص بالدور والأرضين . سمي العقار عقارا من العَقْر، والعَقْر في لغة العرب: الحبس، فتقول: عقره إذا حبسه ، ومنه الحديث الصحيح في الخمس الفواسق : (( يقتلن في الحل والحرم)) في حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- : (( والكلب العقور )) قالوا سمي عقورا؛ لأنه يقف في طريق الناس فيحبسهم عن مصالحهم ، فالعقار أحد نوعي المثمونات .
والنوع الثاني: المنقول، والمنقول كل شيء له قيمة من غير الأثمان والعقارات ، فإذا قال العلماء: هذا مثمن منقول فهو كل ما عدا العقارات والذهب والفضة ، فيشمل هذا السيارات والأكسية والأغذية كلها منقولة؛ لأنها تنقل ، وعند العلماء –رحمهم الله- إذا قالوا البيع مبادلة المال بالمال يشمل بيع الثمن بالثمن، وبيع المثمن بالمثمن والمثمن بالثمن، فثلاث صور عند أهل العلم –رحمهم الله- لهذه المبادلة التي ذكرها المصنف –رحمه الله- .(5/167)
إما أن يكون البيع بيع ثمن بثمن، مثل في زماننا صرف الدولارات بالريالات ، فالدولار رصيده ذهب والريال رصيده فضة، فأنت تبادل الفضة بالذهب فهذا بيع ثمن بثمن ، ويسمى بيع صرف .
وإما أن تبيع بمقابلة مُثمن بمثمن كأن يبادله سيارته بسيارته ، أو قلمه بقلمه ، أو كتابه بكتابه؛ لأن هذه كلها منقولات ، فيسمى بيع المقايضة .
وإما أن يبيع المثمن بالثمن كأن يبيع السيارة بعشرة آلاف ريال ، السيارة مثمن من المنقولات في مقابل العشرة الآلاف ريال ثمن من الفضة ، هذه كلها صور في الأصل هي ثلاث : ثمن بثمن ، ومثمن بمثمن ، وثمن بمثمن ، لن تجد بيعا على وجه الأرض يخرج عن هذه الثلاث الصور .
فائدة معرفة طالب العلم لهذا التصور قبل الدخول في الأحكام أنك إذا تصورت البيوع كلها تستطيع بعد ذلك أن تقول هذا حلال وهذا حرام ، وهذه ميزة الشريعة الإسلامية عما وضعه البشر ؛ لأن الشريعة الإسلامية كمال، ولذلك تجد الفقه الإسلامي يتعاطى مع العقود بالشمول ، ولكن ما يضعه البشر يطرأ ويجدّ شيئا فشيئا ، فتجد فيه النقص ، فتجد العلماء قبل الدخول في البيوع يعطون صور البيوع عامة؛ لكي يبينوا البيوع المباحة والبيوع المحرمة ، ولن تجد بيعا يخرج عن هذه البيوع ، بغضّ النظر عن كونه بيعاً مباحاً أو بيعا محرماً .
يقول رحمه الله : [ والبيع معاوضة المال بالمال ] : أي أن البيع عندنا معشر الفقهاء هو مبادلة المال بالمال ، لماّ قال : مبادلة المال بالمال أخرج مبادلة المال بالمنفعة فلا يسمى بيعا، مثل: الإجارة ، حينما تأتي لشخص وتقول له : أريد أن أسكن في بيتك في عمارتك في شقتك سنة بعشرة آلاف ، فأنت دفعت المال في مقابل منفعة وهي السكنى ، فهذا يسمى إجارة ، لكن إذا قلت له : أريد أن أشتري بيتك أو عمارتك فأنت تشتري الذات وتبادل المال بالمال .(5/168)
كذلك أيضا أخرج مبادلة المال بالمال (معاوضة المال بالمال) أخرج عقد النكاح؛ لأنه مبادلة المال بالمنفعة، ولذلك قال الله –- عز وجل -- في عقد النكاح قال : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } فجعل النكاح من عقود المعاوضات ؛ لأنه يدفع المهر مقابل الاستمتاع بالمرأة ، ولكن هذا المال في مقابل منفعة، وليس في مقابل مال، فلا يسمى بيعا ، لماذا تذكر هذه القيود في كتب الفقهاء وبخاصة يقولون عند تعريفاتهم: نخرج كذا ، وهذا قيد يخرج كذا ؛ لماذا ؟ لئلا يحصل العبث بالمصطلحات الشرعية ، وطالب العلم الذي يتقن التعريفات الاصطلاحية يستطيع أن يميز كثيرا من الخلط الذي يقع في الأجوبة والفتاوى ، لأنه قد يصف عقدا ما بكونه هبة وضوابط الهبة لا تنطبق عليه ، وقد يصفه بكونه بيعا وضوابط البيع لم تتوفر فيه ، وحينئذ طالب العلم من الأهمية بمكان أن يعتني بالتعريفات الاصطلاحية ، وإذا قرأ التعريف الاصطلاحي يقرؤه كاملا ، ولا يحس أن هذه الكلمات التي ذكرها العلماء ضرب من الحشو ، هذه الكتب ألفت في زمن العلماء ، ولذلك لا يضعون شيئاً خارجا عن المقصود إلا انتقدوه ، ومن هنا كانت الشروح والحواشي لكي يعقب الماتن ويعقب الشارح ولا يترك أحد؛ صيانة لهذا الدين من العبث ، فهذه التعريفات مهمة جدا ، نقول هذا لأن بعض طلبة العلم الآن –أصلحهم الله- يمرون على العقود بتعريفاتها دون تأنٍّ وتروٍّ وضبط لهذه التعريفات ، فبين رحمه الله ضابط البيع حتى لا يحصل الخلط بين العقود الشرعية فقال: حقيقة البيع معاوضة المال بالمال .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : هل يجوز الأكل في المطاعم حتى الإشباع أو لا يجوز أفتونا . جزاكم الله خيراً ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(5/169)
فسيأتي -إن شاء الله- أن من شروط صحة البيع أن لا يشتمل على الغرر سواء كان في الثمن أو المثمن أو في المثمونين إذا كان عقداً على مقايضة (بيع المقايضة) .
ينبغي أن يكون المبيع معلوما ً، فإذا كان مجهولاً لم يصح بيعه ، فجهالة القدر تمنع من صحة عقد البيع؛ والدليل على ذلك نصان: أحدهما عام ، والثاني خاص .
فأما العام فحديث ابن عمر –رضي الله عنهما- في الصحيح أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن الغرر . والغرر هو المجهول .
وأما الدليل الخاص فحديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- في صحيح مسلم أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الحصاة ، بيع الحصاة كانوا في القديم يأخذ الرجل حصاة، ويقول للمشتري: ارمِ هذه الحصاة أبيعك من أرضي ما انتهت إليه حصاتي بعشرة ، بمائة ، فقدر الأرض مجهول، وسيرمي، ولا ندري هل يرمي قريبا أو بعيدا، فقدر المبيع مجهول ، الطعام حتى الإشباع مجهول القدر ، ما ندري، قد يأكل قليلا ، قد يفتح الله عليه، فيأكل حتى الإشباع، فالمشكلة أن هذا غرر بالبائع وغرر بالمشتري ، والغرر في البائع أكثر ؛ لأنه غالبا مثل هذه العقود يخمن أنه لا يأكل إلا في حدود الأغلب ، ولذلك الأصل يقتضي عدم جواز بيع مجهول القدر ، وهذا يتخرّج على ما قرره العلماء من بيع المجهول ، فلا يجوز الغذاء حتى الإشباع ، ما هو الحل ؟ الحل لك أن تدخل، وتأخذ قدر الطعام الذي تريد ثم تأتي للمحاسب كما في البوفيه وغيره بعد ما تأخذ القدر الذي تريد تأتي للمحاسب وتقول مثلا هو يقول لك بعشرة تأخذ هذا القدر ثم تقول له: أشتري منك هذا بعشرة وتعطيه إياه ، أما أن يقول لك ادخل وكل حتى الإشباع ، لا ، لكن أن تأخذ قدرا معينا وتقول: أنا أشتري منك هذا بعشرة ؛ حينئذ أصبح معلوما، وانتفت عنه الجهالة فصحت ، وعلى المسلم أن لا يتبايع بمثل هذه العقود المحرمة ، وما أحله الله فيه غناء عما حرم. والله -تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :(5/170)
فضيلة الشيخ : ما حكم شم الطيب إذا كان الإنسان ليس عنده نية لشرائه . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
هذه هي المشكلة . يقولون في لسان العرب: القلاّش ، القلاّش يأتي إلى السوق ولا يريد أن يشتري، فيأتي في صباح رب العالمين مثلا يريد أن يفطر فيمر على الباعة يأخذ من هذا لقمة كأنه يذوق، ثم يذهب إلى هذا ويأخذ منه لقمة فلا ينتهي من السوق إلا وقد ملأ الله بطنه ! فهذا يسمى القلاّش ، فما يجوز يعني الذي أعطاه هذا القدر أعطاه من أجل أن يشتري ، فإذا علم أنه لا يشتري النصيحة للمسلم حتى لماّ يعرض عليك وأنت مار تقول له: أنا ما أريد أن أشتري ، فإذا قال لك: لا . خذها انظر إليه ، فإن وجدته عاملا فهو وكيل ، والوكيل ليس له حق البذل إلا لمصلحة ، البعض من العمال يمد لك الشيء يريد أن تشتري فإذا قلت له : ما أريد ، يستحي ، فيقول لك: خذ ، فحينئذ تتورع وتمتنع ، فلا يجوز للمسلم أن يأكل من مال أخيه، وهو يظن أن أخاه يريد أن يقنعه بالسلعة ، مثل العسل يحتاج إلى ذوق ، ومثل بعض الأطعمة تحتاج إلى أكل منها أو شرب منها، إذا علم أنه لا يأخذ فإنه لا يستحل ذلك ولو كان قليلا ، فإن هذا القليل الذي يراه يسيرا في عينه ثقيل في ميزان ربه { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا نظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين } فالذي يدخل السوق وهو لا يريد أن يشتري يعرض عليه لاشك أنه فيه ضرر ، وحتى الطيب حينما يضع لك الطيب هذا القدر يؤثر في المبيع وبخاصة إذا كان عاملا فلا تأخذ منه شيئا إلا وعندك الرغبة في الشراء ، وإذا أمكنك أن تشمه في موضعه فهذا أحسن أبلغ في الورع وهو ترك ما لا بأس به خوف الوقوع فيما فيه بأس . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :(5/171)
فضيلة الشيخ : رجل يجد في قلبه قسوة لم يعهدها حتى لقد أصبح تثقل عليه صلاة الجماعة إذا كان نائما ، وتتفلت منه التكبيرات الأولى ، فبم تنصحونه . أثابكم الله وما علاج ذلك. جزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
الله المستعان . الشكوى إلى الله ، أعظم مصيبة يصاب بها الإنسان في هذه الدنيا مصيبة الدين ، ومصيبة الدين من دلائلها النقص بعد الزيادة ، والحور بعد الكور ، والضلال بعد الهدى ، والعمى بعد البصيرة ، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يعيذنا من الحور بعد الكور ، ومن النقص بعد الزيادة ، ومن العمى بعد البصيرة ، ومن الضلال بعد الهدى ، ولذلك ورد في الأثر في سورة المؤمنون حينما نزلت أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأعطنا ولا تحرمنا )) .
النقص في الدين لاشك أن له أسبابا، قد يبتلى الإنسان بحرمان الطاعة والخير بسبب المعصية، والمعاصي تقفل باب الرحمة عن العبد -والعياذ بالله- ويحجب عن كثير من الخير ، فالصدر ينشرح بطاعة الله وينقبض بمعصية الله ، وإن العبد ليصبح أو يمسي منشرح الصدر، لو عرضت عليه أعمال البر لكان إليها سبّاقاً توّاقاً مشتاقاً ، ولكن ما إن أصاب نظرة إلى حرام أو كلمة من الآثام حتى -والعياذ بالله- ينتكس حاله ، والله تعالى يقول في كتابه : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }.
من أعظم أسباب الانتكاس والنقص بعد الزيادة وحرمان الخير: الظلم ، فظلم الناس في حقوقهم وغمطهم حقوقهم وأذيتهم والإضرار بالمسلمين من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب وتجعلها مظلمة -والعياذ بالله- ، وقد يصاب العبد بدعوة مظلوم قد تكون سببا في سوء الخاتمة -والعياذ بالله- ، وقد يعادي وليا من أولياء الله، فيخدعه ويؤذيه ويضره، فيؤذنه الله بحرب فيسلبه الله ما أعطاه من الخير والبر، فيصبح في الشقاء بعد السعادة -والعياذ بالله- . الذي يريد الخير مستديما عليه:(5/172)
أولا : أن يسأل الله أن يثبته على الطاعة والهدى .
وثانيا : أن يأخذ بالأسباب فلا يغتر بطاعته وهدايته .
وثالثا : أن يقفل عن بابه باب الأذية للمسلمين ، فعندها سيبارك الله له في كل خير وبر ، فما طرق باب خير إلا فتحه الله في وجهه ، ولا سلك سبيل بر إلا يسره الله عليه ، فهؤلاء هم خيرة الله من خلقه، وهم الصالحون المصلحون الذين سلمهم الله وسلم منهم . فإذا أراد الإنسان أن يسلم من هذه المصائب من النقص عليه أن يكثر من الدعاء أن يثبّته الله على الطاعة ، ولذلك علم الله أولياؤه وعباده ما يدعونه به من الدعوات الطيبة المباركة ، ومنها ما ذكر الله عن عباده الصالحين أنهم يقولون : {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب }، فنسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا، بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة وهو الوهاب .(5/173)
فإذا أراد الله بالعبد الخير رزقه أن يكثر من الدعاء، وأن لا يغتر ، بعض الأخيار يغتر بخيره ، فينظر إلى العصاة فيزدري بهم فيصاب بالعجب، فيتغير ما بنفسه، كان في بداية هدايته واستقامته يقول: لا حول لي ولا قوة ، وإذا به فجأة -والعياذ بالله- يحس أن عنده من الحول والقوة ما يستطيع أن يكون به مهتديا أو يكون به طالب علم أو يكون به على خير وبر فعندها يسلبه الله –- عز وجل -- ما هو فيه من الخير والبركة ، فعليك أن تنظر من أين أوتيت ؟ إما فيما بينك وبين الله ، وإما فيما بينك وبين الناس، أبدا لا يظلم الله أحدا { إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون } فعليك أن تراجع نفسك ، وأن تنظر ولاشك ولا مرية أنه ما من عبد يصاب بمصيبة ويسأل الله –- عز وجل -- أن يغفر له بلاء وذنبا سلط الله هذه المصيبة عليه وينصح لنفسه أن يعرف السبب إلا ألهمه الله وأعانه ، إن يصدق الله يصدقه ، فأنت ابحث الذي عليك أن تعلمه أن الله لا يظلمك ، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، واستجمع هذه الأمور فيما بينك وبين الله ، وفيما بينك وبين الناس ، قال سفيان الثوري –رحمه الله- : أوتيت فهم القرآن، وكان من أئمة التفسير والفقه –رحمه الله- وله أقواله في تفسير القرآن وفي الفقه والأحكام ، يقول: فأذنبت ذنبا فحُرِمته، وفي بعضها فقبلت الصرة فرفع عني ما كنت أجده من الفتوى والفهم ، وقال أيضا غيره من أئمة السلف : أذنبت ذنبا فحرمت قيام الليل ستة أشهر ، وابتلي محمد بن سيرين بالدين، فأصبح مديونا حتى سجن في الدين ، وكان أنس بن مالك يحب محمدا –رحمه الله- حتى إنه أوصى إذا توفي لا يغسّله إلا محمد بن سيرين الإمام التابعي الجليل ، فلما توفي أنس كان في السجن حتى أخرج من السجن من أجل أن يغسّل ويكفّن أنس –- رضي الله عنه -- ، الشاهد أنه قال ذات يوم : أعرف الذنب الذي ابتلاني الله بسببه بالدين، قلت لرجل قبل أربعين عاما أو عشرين(5/174)
عاما : يا مفلس، فابتلاني الله بالدين ! لا يظلم الله أحدا ، فالذي يريد أن يغير الله ما به فيكرمه بفضله ومنه عليه أن يتوب ويرجع إلى الله –- عز وجل -- وأن يعلم أن الطاعة والخير والبر لا يكون إلا بفضل الله –- عز وجل -- ، فيتفقد المظالم فيما بينه وبين الله ، وفيما بينه وبين الناس ، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يلهمك الرشَد ، وأن يلهمنا جميعا ذلك .
أما الأمر الأخير فلاشك أن الزمان زمان فتنة ، وكثرة الفتن في الزمان تضعف المطيع عن طاعته ، ولكن لتعلم أنه مهما عظمت الفتن ومهما كثرت أن الله أعظم منها ، وأن الأجر من الله أكبر ، وأن الثبات على الطاعة في زمان الغربة أصدق ، ولربما لحظة من الطاعة في زمان الغربة أعظم عند الله أجرا وثوابا من غيره ، فانظر رعاك الله إلى هذه الأمور التي توطّن بها نفسك على الصبر ، والمؤمن القوي هو الثابت في دين الله الذي يثبت على طاعة الله مهما رأى من النقص يحاول أن يستكمل ، فأوصيك إن وجدت بابا حُرِمته من الخير فابحث عن باب آخر، حاول أن ترجع إليه ، فإن وجدت أنك لم توفق فيه فاطلب بابا غيره، فإن للجنة أبوابا وليس لها باب واحد ، ولذلك قال { حتى إذا جاؤوها وفُتِحَت أبوابها } وفي قراءة { وفُتِّحَت أبوابها } وفي الصحيح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في العبد إذا توضأ أسبغ الوضوء وتشّهد قال : (( إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء )) والله تعالى يقول : { فاستبقوا الخيرات } فمن العجز والضعف أن يكون طالب علم ثم يبتلى بالنقص فيترك طلب العلم ويترك غيره ، ولكن إذا حرمت جانبا من الخير فاطلب غيره ، وإن الله يحب منك ذلك ، وعندها تقهر عدوك اللدود إبليس وتهينه وتذله ، وعندها تكبح جماح النفس الأمارة بالسوء، وتصونها عن الغي والردى حينما تلتمس أبواب رحمة الله –- عز وجل -- فتجدها أمامك مفتحة ميسرة ، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجبر كسرنا ، وأن يرحم ضعفنا(5/175)
إنه ولي ذلك وهو ربنا . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : أمي –حفظها الله- منذ أن ولدت وهي لا تسمع ولا تتكلم ولا تعي كثيرا حتى إنها تصلي صلاة سريعة وتحتاج إلى مساعدة لكي تقيم الصلاة ، فهل يجوز لي أن أعتمر عنها . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
أولا : نسأل الله أن يعظم أجر والدتك، وأجر المبتلين من المسلمين ، وأوصيك أن تسلو مهما رأيت حال أمك في الضعف والبلاء ، وأن تسأل نفسك سؤالا : ترى فيه عظيم نعمة الله على أمك ، فأنت وإن رأيتها لا تسمع ولا تتكلم فانظر كم من امرأة متكلمة هوت في نار جهنم بلسانها ، وكم من امرأة تسمع ابتليت بغضب الله في سمعها ، فاحمد الله مهما كان البلاء، لكن تحس أن الله يريد بأمك خيرا، وهذا يقطع حزن الشيطان ، لأن الشيطان دائما يريد أن يحزن الذين آمنوا ، فإذا نظرت في الوالد أو الوالدة أو في قريب أو حبيب ما لا يسر فتسلّ ، واعلم أن الله يعلم وأنت لا تعلم ، وكم من أصم أبكم عند الله بمكان ، ولذلك انظر إلى السنوات التي مضت والسنين التي انقضت وهي مكتوبة في صحيفة عملها لكي تنشر أمام عينها فترى عظيم أجرها عند ربها ، لا يعلم ما لأهل البلاء من الأجر عند الله إلا الله وحده، وصدق الله إذ يقول : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } ومن أسعد الناس يوم القيامة بين يدي الله هم أهل البلاء ، فإذا رأيت هذا لا تحزن على والدتك ولا تتألم ، وهذا سلوى لكل مؤمن مبتلى .(5/176)
الأمر الثاني : ما سألت عنه فإن كانت الوالدة تعقل فحينئذ لا إشكال ينظر في عبادتها ، والوكالة عنها فيما تدخله الوكالة كالعمرة والحج ، فإن كانت تعقل وتعي ويمكنها أن تذهب للحج والعمرة فلا يحج عنها ولا يعتمر ؛ لأن القادر المستطيع لا يحج عنه ولا يعتمر ، ولكن إذا كانت عاجزة أو لا تستطيع نعم ، أما إذا كانت تستطيع فالبر منك أن تأخذها معك، وأنت تذهب بها فتعتمر وتحج ، وهذا من أبر البر لك ، وأسأل الله أن يبلغك برها ورضاها ، وأوصيك بها أن تصبر على تعبها وعنائها لأن الوالدين دائما إذا ابتليا بالبلاء احتاج الولد إلى أن يعزى بالصبر وأن يوطن بالصبر ، فاصبر رعاك الله فإنه باب من أبواب الجنة ، ونعمة من الله تغبط عليها إن صدقت مع الله في البر لوجهه وابتغاء مرضاته ، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من البارين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : إذا كنت مسافرا ودخلت مع إمام مقيم في الركعة الثالثة من صلاة العشاء وأنا أصلي المغرب فماذا أفعل . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/177)
لا يصح أداء المغرب وراء العشاء ، ولا العشاء وراء المغرب، إلا في صورة واحدة استثناها بعض العلماء أن يصلي المغرب وراء مسافر يصلي العشاء يقصر، فرخص فيه بعض أهل العلم -رحمهم الله-. أما الأصل في الاقتداء بالصلاتين أن لا تختلف صورة الصلاتين ، فالمغرب ثلاثية والعشاء رباعية، وأما القول بأنك تصلي وراء العشاء، فإذا صلى الإمام الثالثة جلست للتشهد هذا قول ضعيف، وجمهور العلماء على أنه لا يصح أن يصلي المغرب وراء العشاء، ولا العشاء وراء المغرب؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) وفي لفظ : (( فلا تختلفوا عليه )) وهذا من الاختلاف على الإمام ومخالفة الإمام ، فبعضهم يجلس حتى إذا كان في الثالثة تشهد وسلم ، ومنهم من يتشهد ويطيل في التشهد حتى يجلس الإمام في التشهد ويسلم معه قياسا على صلاة الخوف ، وهذا قياس ضعيف ؛ لأن صلاة الخوف خرجت عن القياس ، وما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس ، ولأن صلاة الخوف شرعت لسبب وهي خاصة به وغيرها لا يوجد فيه ذلك السبب . والله –تعالى- أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : احتلمت وصليت الفجر ثم انتهيت من الصلاة ثم رأيت الاحتلام فصليت مرة أخرى ، فما رأيكم في هذا . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فإن شاء الله بالنسبة للدورة ستكون يوميا من بعد صلاة العصر إلى قبل المغرب بقليل، ثم من بعد صلاة المغرب إلى العشاء خلال الأسبوع القادم ما عدا يوم الأربعاء لدرس جدة إلى يوم الخميس القادم، فيوم الخميس القادم سيكون الدرس كالعادة بعد المغرب ، فقط بعد العصر أو بعد المغرب يوميا ما عدا هذين اليومين إلا أن يوم الخميس سيكون بعد المغرب كالعادة، وإن شاء الله سنبدأ بعد الصلاة مباشرة بإذن الله - عز وجل - .(5/178)
ما ورد في السؤال أولا : هناك تنبيه في الأسئلة الشرعية وهو أن البعض يقول : ما رأيكم وما هي وجهة نظركم ! ينبغي أن يعلم أن المسائل الشرعية ليست بآراء ، ولذلك ما كان مستنبطا من الشرع وكان استنباطه صحيحا من الأهل مثلا ما ننقل عن العلماء والأئمة –رحمهم الله- في المسائل ، أو ورد به النص صريحا هذا لا يقال له رأي ، ولذلك تقول : ما هو الحكم الشرعي ؟ الأحسن أن يقال ما هو الحكم الشرعي ؟ فإذا كانت المسألة خلافية كان بعض العلماء يتسامح في قوله : فما قولكم يعني ما هو القول الذي تختارونه من خلاف العلماء ، لكن المعروف أن يسأل عن الحكم الشرعي ، ننبه على هذا ؛ لأنه انتشر وبخاصة في الآونة الأخيرة قول : ما هي وجهة نظركم ؟ والعجب أن البعض يأتي ويسأل الشيخ ويقول له : نريد وجهة نظركم ثم يأتي ويقول : عندي مداخلة عندي وجهة نظر ، فعلينا أن ننتبه أن مسائل الشريعة ليست سوقا مبتذلا لكل أحد ، ومن سأل عن الحكم الشرعي فالواجب على العالم أن يتقي الله، وعلى المسؤول أن يتقي الله ، وأن ينصح للأمة وأن يجيب عما يعلم بدليل واضح يدل على صحة نسبة الحكم إلى الشرع .(5/179)
في هذه المسألة : من صلى وهو على جنابة ولا يعلم أنه جنب ؛ فإنه لا إثم عليه ؛ لأنه أخطأ ، وقد نفى الله –- عز وجل -- المؤاخذة في الخطأ كما في الصحيحين أنه لماّ نزل قوله تعالى : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال الله : قد فعلت . فلا إثم عليه ، ويجب عليه ضمان حق الله وهو إعادة الصلاة، ومن هنا الخطأ يوجب سقوط الإثم ، لكن لا يوجب سقوط الضمان ، وهذا في حقوق الله وفي حقوق العباد ، ومن هنا لو أخطأ فقتل وجبت عليه الدية ولكنه لا يأثم ، وعليه فيجب عليك أن تعيد الصلاة وقد أعدتها فأحسنت ، وقد أثر عن عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- أنه صلى بالناس الفجر ، ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف كما روى مالك في موطَّئه ، فجلس على الساقية ( القنطرة ) فنظر إلى فخذه فرأى أثر الاحتلام ، فقال - رضي الله عنه - : (( ما أراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت )) فأعاد الصلاة ولم يأمر الناس بالإعادة ، وهذا يدل على أن الجنب إذا لم يعلم بجنابته أن صلاته فاسدة، ويجب عليه إعادة الصلاة . والله –تعالى-أعلم .
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ : حلفت في نفسي على شيء أن لا أنظر إليه ، ثم إني نظرت إليه ، فهل علي كفارة يمين . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
أولا : على المسلم إذا حلف أن يعظم الله –- سبحانه وتعالى -- ، وبخاصة إذا كان أمرا محرّما عليه حلف أن لا يفعله، أو أمرا واجبا عليه حلف أن يفعله ، فعليه أن يعظّم الله –- عز وجل -- ، ومن عظّم الله –- سبحانه وتعالى -- فإن الله سيجعل له خير الدين والدنيا والآخرة ، فأوصيك بأنك إذا حلفت اليمين بعد اليوم أن تحلف على شيء يغلب على ظنك البر به ، فلا تجعل الله عرضة لأيمانك .
الأمر الثاني : يجب عليك أن تكفّر عن هذا الذي فعلته ؛ لأنك حلفت أن لا تنظر وقد نظرت ، مادام أنه قد وقع ما حلفت عليه ؛ فإنه يجب عليك أن تكفّر كفارة اليمين . والله-تعالى- أعلم .(5/180)
كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ، ثلاثة تخييرية ، فإن عجزت عن هذه الثلاثة تصوم ثلاثة أيام ، وأما الإطعام والكسوة فمن أوسط ما تطعم وتكتسي، وتأخذ الوسط للمساكين ، فلو نظرت إلى أسرة فيها عشرة أشخاص وأعطيتهم طعام العشرة أجزأك ، وهكذا لو فرقتها بين عشرة متفرقين تطعم أو تكسو أو تعتق رقبة ، فإن عجزت عن الثلاثة تصوم ، وما يفعله بعض العامة من الصوم مباشرة لا يجزي، بل إنه لا يكون الصوم إلا بعد العجز عن الإطعام .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تابع كتاب البيوع
قال المصنف –رحمه الله- : [ كتاب البيوع ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(5/181)
فقد شرع الله –رحمه الله- في النصف الثاني من الفقه ، وهذا النصف يتعلق بأبواب المعاملات، ويعتبر هذا النصف من أهم ما ينبغي لطالب العلم أن يعتني به بعد العبادات، وقد رتب العلماء –رحمهم الله- والأئمة كتب العلم على هذا الترتيب، فابتدؤوا بحق الله –- جل جلاله -- وذلك ببيان أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج وما يتبع ذلك من مسائل العبادات، ثم يتبعون ذلك بكتب المعاملات وأبوابها ، ولاشك أن هذا الترتيب صحيح ومعتبر ، ولذلك درج عليه الأئمة –رحمهم الله- في كتب الفقه والحديث ، وقدموا العبادات لأن الأصل في خلق الناس أنهم خلقوا لعبادة الله ، وهذا هو الأصل والأساس ، وأما باب المعاملات فإنه باب مهم ، ويحتاج إليه المسلم في أخذه وعطائه وبيعه وشرائه وسائر ما يكون من معاملته لإخوانه ، ولاشك أن المسلمين في كل زمان ومكان محتاجون إلى من يعلم أحكام البيع ومسائل البيع ، يحتاج المسلم إلى فقه البيع لنفسه حتى يعلم ما أحل الله له فيأخذه ، وما حرم عليه فيجتنبه ، يحتاج المسلم إلى معرفة أحكام البيوع ومسائلها حتى لا يطعم طعمة من حرام يقذفها في جوفه فتمنع استجابة دعوته وتحرمه القبول في عبادته ، وتكون بلاء على أهله وماله وولده ، وكذلك يحتاج المسلم إلى معرفة أحكام البيوع ومسائله خاصة إذا كان من طلاب العلم وأهل العلم لكي يبين للناس شرع الله ويهديهم بإذن الله إلى صراط الله ، فكم وقف الناس حائرين غير مهتدين إلى معالم الدين في مسائل البيع والشراء ، وكم من نوازل نزلت حارت في بيان أحكامها عقول العلماء ، وكم من مسائل جدت وطرأت فالناس في حاجة ماسة إلى من يتقن أبواب البيع ، وعظمت الحاجة واشتدت حينما كبرت الإجابات والفتاوى التي لا تتقيد بالأصول الشرعية ولا تراعي الضوابط المرعية، ولذلك اختلط الحلال بالحرام والتبست مسائل الشريعة والأحكام بسبب قلة أهل العلم الذين يتقنون هذا الباب ويحسنون الصدر فيه والورد ، ويعلمون فيه نصوص(5/182)
الشريعة الواضحة البينة التي أحل الله فيها حلاله وحرم فيها حرامه ، وبين بها شرعه ونظامه ، ما أعظم المسؤولية اليوم عليك طالب العلم وأنت تستمع إلى آيات التنزيل وإلى أحاديث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- التي تبين لك حلال البيع وحرامه ، ما أحوج الأمة إليك أن تسهر عينك وأن تتعب وتجد وتجتهد لكي تكشف معالم الحق وتبين للناس الحقيقة حتى يعظم عند الله أجرك ويثقل ميزانك وعندها توفق وتهدى لسبيل المرسلين في الدلالة إلى معالم الهدى والدين .(5/183)
مسائل البيع مسائل سهلة صعبة قريبة بعيدة فهي سهلة إذا سهلها الله ، وقريبة إذا قربها الله ، فهيأ تلك النفس المؤمنة لكي تستمع إلى قول الله وقول رسوله –- صلى الله عليه وسلم -- ، هي قريبة وسهلة لمن رزق قلبا واعيا يعي عن الله ورسوله ، ويفقه عن الله ورسوله –- صلى الله عليه وسلم -- ، هي قريبة وسهلة لمن بنى كل مسألة وكل حكم على نور من الكتاب والسنة ، ولاشك أن أئمة العلم ودواوين العلم من السلف الصالح والتابعين لهم بإحسان تعبوا كثيرا وبذلوا شيئا عظيما من أجل بيان الحق في هذه الأبواب ، ومن قلب كتب العلماء واكتحلت عينه بتلك المآثر العظيمة التي كانت للسلف الصالح –رحمهم الله برحمته الواسعة- ومن تبعهم فإنه يدرك بجلاء فضل السلف على الخلف في حفظ هذا الدين وبيانه والدلالة على نصوص الشرع في مسائله وأحكامه ، كثير من الخلط في مسائل العلم سببه التعصب والهوى والاغترار بالنفس، ومسائل المعاملات مزالقها خطيرة ، ومن تجرد للحق وأنصت واعتدل على صراط الله –- عز وجل -- وسبيله فتح الله له أبواب الهدى ، ويسر له سبيل المحبة منه سبحانه والرضى ، جعلنا الله وإياكم من أهل ذلك ووفقنا لتلك المسالك ، فكثير إلا من رحم الله من الذين يتتبعون الرخص ويريدون أن يبرروا واقعهم ويسايروا الناس في معاملاتهم حكموا على الشريعة بما يعيشون ، فأصبح الحلال ما ألفوه ، وأصبحوا تتبعون في كلام العلماء ونُقُول أهل العلم ما يبرر ما يتعامل به الناس ، فأصبح الحكم لمعاملات الناس وليس لله الواحد القهار ، وأما من وفقه الله وسدده وألهمه الهدى وجعله من أهله فإنه ينشرح صدره ويطمئن قلبه فيبدأ أول ما يبدأ بما دل عليه دليل الكتاب والسنة وبما قاله أئمة العلم المشهود لهم من السلف الصالح وأئمة الاجتهاد الذين تأهلوا للنظر ، وأخذ هذه المسائل مرتبة فابتدأ بالمسائل المنصوص عليها قبل المسائل المجتهد فيها ، وابتدأ في المسائل المنصوص عليها بالمسائل التي صحت(5/184)
نصوصها قبل المسائل المختلف في ثبوت أحاديثها ونصوصها ، وابتدأ بالمسائل التي اتضحت دلالاتها على المسائل التي خفيت دلالتها ، حتى إذا أتقن الأصول وضبط النقول وعلم هذه الأمور المهمة وابتدأ بالصفاء والنقاء وأصل تأصيلا صحيحا انطلق بعد ذلك إلى ما وقع فيه الاجتهاد من الأئمة الراسخين فنظر إلى من يوثق بدينه ، وعلمه وضبطه من السلف الصالح من أئمة الهدى فأخذ عنه ما استنبط لأنه أهل للاستنباط ، ولزم الأدب مع السلف وتأدب مع أهل العلم وأحس أنه طالب علم لم يتأهل بعد لكي يبين دلالة دليل وقوته من ضعفه وقبوله من رده حتى إذا ارتوى من ذلك المعين الصافي وأخذ من النصوص ما أخذ وأخذ من كلام العلماء ما استنارت به بصيرته بعد ذلك انطلق لكي يتفهم خلاف العلماء ، وابتدأ أول ما ابتدأ وقلبه مخلص لله –- جل جلاله -- ، يبحث عن الحق وبغيته الحكمة أنّى وجدها أخذها لا ينظر للحق بالرجال ، ولا يقيم المعلم لمن يقوم عليه ، ولكنه ينصف ويتجرد للحق ، غايته أن يعرف أين الصواب وما هو الأقرب إليه حتى يعتقده ويلقى الله يوم يلقاه نقي السريرة متجردا للحق والهدى ، ولذلك لا تمضي عليه فترة حتى يوفق لسبيل العلماء الأمناء ، نعم يوفق لضبط العلم ويوفق لفهم العلم ، ويوفق لجمع العلم ، وإذا وفق لهذه الأمور شرح الله صدره فخرج للأمة أمينا على دينها أمينا على حلال الله وحرامه لا يقول في مسألة ولا يتكلم في مسألة إلا وعنده حجة ودليل يدل على صدق قوله وأمانته في نقله وبعده عن الهوى ، وأما من طمس الله بصيرته والعياذ بالله فإنه يبحث عن الرخص فعنده العلم والفقه أن يقال له هذا الحلال وعنده الجمود والتشدد أن يقال له هذا حرام ، فلا يبحث عن دليل يدل على الحلال أو على الحرام ، وإذا تبينت له نزلت به المسائل خاصة ممن بلي بالبحث دون وجود الأهلية تنزل به المسألة من مسائل المعاملات والله لو عرضت على أئمة الراسخين في العلم لجثا الواحد منهم على ركبتيه خوفا(5/185)
من الله أن يتكلم فيها ، فتجده يصول فيها ويجول ، ويؤصل ويقعد وينظر دون هدى من الله ودون بينة ودون خوف ودون ورع ودون أمانة ودون إنصاف يتجرد ، نعم أصبح بحث المسائل في البيوع أن يسأل عن مسألة التي يحتاج الناس إلى حكمها ، فإذا وجد مسألة يحتاج الناس إلى حكمها انطلق لكي يبحث عمن يقول بجوازها ، فإذا وجد وجها عند الشافعية أو قولا عند الحنفية أو رواية عن الحنابلة أو قولا عند المالكية قال هي حلال ، وأخرج للأمة حكما شرعيا لأنها حلال على الوجه عند فقهاء كذا أو على الرواية عند فقهاء كذا دون أن يعرف هذه المسألة التي يبحث عنها ما هو أصلها ومن أين خرجت ، فقل أن تجد في الشرع مسألة إلا وجد لها أصلا في كتاب الله وسنة رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، فإذا به يبحث عن أقوال الرجال ، وياليته يبحث في كتب الفقهاء بضوابط الفقهاء ، فكم من أقوال عند الحنفية لا يفتى بها ، وكم من أقوال عند المالكية تحكى فقها ولا تحكى بالفتوى ، وكم وكم ، فتجده يبحث عن شيء يتشبث به سواء كان صحيحا أو كان ضعيفا كان مقبولا أو مردودا ، وهذا لاشك كان منه من البلاء على الأمة ما الله به عليم ، فما من عالم رباني استنار قلبه بنور الكتاب والسنة فينظر في مثل هذه الفتاوى ومثل هذه التخريجات والتعليلات إلا تقرح قلبه غيرة على دين الله –- عز وجل -- ، المسائل في المعاملات دقيقة جدا وكان العلماء والأئمة –رحمهم الله- لا يتكلمون عن مسألة إلا وقد ضبطوها وعرفوا حدودها وأنواعها وأحوالها وكيف يتعامل الناس بها ، ولذلك ما من طالب علم ولا عالم اكتحلت عينه السهر في تقليب دواوين العلم وكتب العلم لكي يرى ذلك التراث العظيم الذي خلفه السلف الصالح إلا وجده مبنيا على تصور كامل دقيق مبني على كلام أهل الخبرة ، والله إنك لتعجب فكم من أمثلة في كتب الفقه تدل على أمانة العلماء وتدل على دقة أهل العلم ، وتدل على نصحهم لله ولكتابه ولرسوله –- صلى الله عليه وسلم(5/186)
-- ولأمة المسلمين وعامتهم ، فعلى سبيل المثال في العبادات لو جئت إلى باب الحج وكتاب الحج سل عن أي طعام أو شراب وسل عن أي نبات أو شجر فيه طيب منع منه المحرم ثم سل هل هو من المحظورات أو غير المحظورات ، قل أن تجد شيئا إلا وجدت جوابه في كتب العلماء، فإذا فتحت باب المحظورات محظورات الإحرام في الكتب المطولة كروضة الطالبين مثلا ونظرت إلى محظور الطيب ونظرت إلى النبات الذي في أصله يتخذ للطيب ، وإلى النبات الذي يتخذ للأكل والشرب ويكون الطيب فيه تبعا ولا يكون أصلا ، ونظرت كيف هذا الفقيه يتكلم وكأنك أمام عطار قد أتقن علم العطارة ، تتعجب ما الذي دعاه إلى ذلك غير خوف الله والنصيحة للأمة ، وما الذي كشف له هذا الشيء غير الانطلاق للأصول الصحيحة الشرعية ، فإن الله وصف هذا الدين بالكمال { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ومن نعم الله –- عز وجل -- ومن كمال دينه أنه ما من فقيه ينطلق من فقه الكتاب والسنة ورعاية الأدلة إلا كانت نظرته شاملة ، وكان فحصه للأمور على أقرب ما يكون للكمال إن لم يكن الكمال بعينه ، وهذا موجود في كثير من الأمثلة ، محظور قتل الصيد حينما يتحدثون عن السباع المؤذية وغير المؤذية والقاتلة وغير القاتلة حينما تنظر إلى تأصيل العلماء وضوابطهم في مسائل عديدة من العبادات والمعاملات تدرك جليا أن هذا الدين لا تنفع فيه الفتاوى الناقصة ، ولا ينفع فيه أنصاف طلبة العلم وأنصاف العلماء الذين يبحثون عن الشيء وفي الشيء بحثا ناقصا ، ولذلك تجد العلماء الربانيين وحملة الدين بحق هم أصدق الناس إذا تكلموا ، وأوضح الناس إذا بينوا لأنهم لا حول لهم ولا قوة ، ولكنهم استعانوا بحول الله وقوته ، الأمانة في ضبط مسائل المعاملات ، فكم من مسائل الآن تحكى على كتب أهل العلم تبنى على مسائل عند أهل العلم ليست منها ولم يقصد العلماء الأولون أن يخرج من هذه المسائل عليها ، بل وصل الأمر(5/187)
إلى أخذ مصطلحات قديمة وتسمية معاملات حديثة باسمها حتى أصبح الخلط والعبث ، فإذا جاء من تناظره في هذه المسائل تريد أن تقعد أو تؤصل وجدته بعيدا عن ضوابط أهل العلم وعن الأصول التي وضعها أهل العلم في مثل هذه المعاملات ، والذي دعانا لهذا أن تهيئ لطالب العلم الشعور بهذه المسؤولية والأمانة ، ونهيئ لطالب العلم الشعور بالحاجة الماسة لبيان الحق والهداية إليه والدلالة عليه بإذن الله وتوفيقه ، وهذا لا يكون إلا بتوفيق الله –- سبحانه وتعالى -- ومعونته ، وعلينا جميعا أن نتواصى بحب الحق، وأن يبتعد كل من يكتب في مسائل المعاملات عن تبرير واقع الناس ، وأن يبحث للأمة عن دينها ، وأن يبين لها نصوص ربها في كتاب الله ونصوص نبيها –عليه الصلاة والسلام- في سنته الصحيحة ، ويبين المسائل ويكشفها ، ومما أدرك عليه أهل العلم –رحمهم الله- أنهم يحرصون في مسائل المعاملات خاصة إذا نزلت على عدم الاستعجال في الفتوى وعدم التسرع في بيان هذه المسائل، وهذا لاشك أنه من نعم الله على العبد ، فكم من مسائل تنزل في العبادات والمعاملات نرى أهل العلم الراسخين هم أبعد عن التسرع فيها فتجدهم ينتظرون فهمها وتصورها وضبطها ، وعندها يزلزل المؤمن ويزلزل طالب العلم ويقال له إلى متى أنت ساكت ، وإلى متى لا تتكلم وأنت لا تعتني بواقعك وأنت وأنت ، فهو صابر حتى تنجلي المسائل وتنكشف وعندها يخرج الحكم واضحا بينا لا لبس فيه ولا خلط ، توضيح ذلك أن هناك مسائل إذا نزلت بالناس فإنها في أول نزولها تكون على صفة وحال ، وإذا تعاطاها الناس واستعملوها ربما تذرعوا بها إلى الحرام ، ولربما احتاجت الأمة خاصة عوامها أن يضبطوا بضوابط حتى لا يسترسلوا بالحلال إلى الحرام ، ولا يتوصلوا بالفتوى بالحلال إلى ما حرم الله ، يظهر هذا جليا حينما تقرأ في فقه الأولين تجد أحدهم إذا أفتى في مسألة يعطيك المسألة ويبين لك دليلها ثم ينبه على أمر قد يطرأ ويجد فيها لأنه ما(5/188)
استعجل في فتواه ، وما أعطى الناس حل الشيء وسكت ، وإنما انتظر وتريث وهذا هو الرسوخ في العلم ، والله –- جل جلاله -- شهد أن العلم على مراتب وأهله على درجات وأثنى على من مكنه الله فيه فقال سبحانه : { لكن الراسخون في العلم } فوصفهم بالرسوخ ، وهذا لا يكون إلا بالثبات والتعبير بالرسوخ تدل على أن هناك ما يزلزل ، وأن هناك ما يشتت الذهن ، وأن هناك ما يؤذي العالم وهناك من يستعجله ، ولكن فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ، فأهل العلم لا يستعجلون حتى تتضح المسائل وتخرج لأن العالم الرباني يبحث عن فتوى تنير للناس سبيلهم وطريقهم ، والفتوى لا تستغل ، والفتوى لا تنتهى إلى ما لا تحمد عقباه ، وعلى كل حال التوفيق من الله ، والمعونة من الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ومنبع الخير كله في الإخلاص لله في طلب الحق والجد والاجتهاد في تحصيله ، وأخذ العلم عن أهله ، فثلاثة أمور ما يسرها الله –- عز وجل -- لأحد من عباده إلا أفلح ونجح في علمه أن يخلص لله ، وأن يريد وجه الله –- سبحانه وتعالى -- ولا يبتغي شيئا سواه ، ثم بعد ذلك يأخذ العلم عن أهله ، قالوا إن من أصدق الدلائل في طالب العلم إذا أراد أن ينصح لأمة محمد –- صلى الله عليه وسلم -- أنك تجده لا يجلس ولا يأخذ العلم إلا ممن يوثق بعلمه وضبطه ، فهذه من أول دلائل النصح للأمة ، وأما الأمر الثالث بعد الإخلاص وأخذ العلم عن أهله فالجد والاجتهاد والصبر والتحمل والتجمل حتى يضبط المسائل ولا يستعجل ولا يستخفه الغير ، وكم من دارس لمسائل المعاملات استعجل فخرج للناس قبل أن ينضج فهمه وقبل أن يكتمل تصوره ، ونحن لا نقول أن يحجر على طلبة العلم أن يخرجوا ، وأيضا لا نقول أن يفتح الباب على مصراعيه ، فكل من جلس عند شيخ في متن فقهي وقرأ بابا من المعاملات فقد أذن لنفسه أن يفتي ، لا وألف لا لأن هذا ضرره عظيم وبلاؤه على الأمة وخيم أن يخرج طالب العلم قبل التمكن ،(5/189)
ولذلك إذا خرج أنصاف المتعلمون كانوا يقولون ما ضر الإسلام إلا العابد الجاهل ونصف الفقيه ، فأنصاف المتفقهين يقعدون ويؤصلون وينظرون ، حتى إنك لتجد بعض طلبة العلم إذا قرأ بابا ووجد قاعدة جميلة ينطلق إلى علم القواعد ويؤصل ويقعد قبل أن ينطلق إلى النصوص التي بنيت عليها هذه القواعد ، فتجده يؤصل ويقعد ويحسن الكلام في كثير من المسائل ، ولكن لا يحسن تخريجها من الدليل ومعرفة أصلها في كل باب من أبواب البيع سنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذه السنة بينت أصلا في كتاب الله –- عز وجل -- ، أو جاءت في أصل مع أصل في كتاب الله –- عز وجل -- ، فقد يجتمع في الباب دليل الكتاب والسنة، وقد يأتي دليل السنة وحدها ولذلك حينما تنظر في كتب المحدثين تجد الأبواب الذي وضعها علماء الحديث في البيوع متجانسة مع الأبواب الذي وضعها الفقهاء في كتب الفقه ، وهذا معروف بالاستقراء والتتبع ، وهذا يدل على أن الفقه مبني على الدليل ، أما القواعد والنظريات والضوابط هذه مسألة ينبغي أن يعلم طالب العلم أنها لا تكون إلا بعد ضبط الفقه ، لأن القواعد جمع لشتات المسائل التي حصلها في الفقه ، فبعد أن فهم المسائل وعرف أدلتها يحتاج إلى أشياء تجمع له هذا الشتات، فاجتمع هذا الشتات تحت أصل أو قاعدة ، وقد يكون في الباب الواحد ضابط ، فتأتي الضوابط لكي تجمع له مسائل عديدة وفروعا عديدة يحسن أو يحسن الرجوع إليها عند الحاجة ، أما أن يأتي ولذلك ما كان العلماء يدرسون علم القواعد كعلم مستقل ، كانوا يدرسون الفقه في المتون وفي النصوص وفي كتب الحديث لأنه هو الأصل والأساس ، وعلم القواعد كان للندرة وللنخبة من أهل العلم ويستعين به بعد الله –- عز وجل -- الفقهاء المفتون والقضاة والمعلمون ، ومن هنا يكون نصف الفقيه تجده يبحث عن القواعد إذا استحسنها حتى إنك لربما تجد طالب العلم يفرح في بعض مجالس العلم أن تشرح له قاعدة نسأل الله السلامة والعافية(5/190)
في أشد من فرحها أن تشرح له آية من كتاب الله ، أو حديث من سنة رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذا ليس بعلم وليس بفقه وليس بتأصيل صحيح ، على طالب العلم أن يبدأ بصغار البيوع ومسائل البيوع ، وأن يكرر هذه المسائل وأن يضبطها وأن يفهمها وأن يحسن جمعها والنظر فيها حتى إذا ألم بها انطلق إلى غيرها ، وعليه أن يبدأ بالمسائل وأدلتها قبل القواعد والضوابط والأصول التي نبه عليها أهل العلم –رحمهم الله- وعلى كل حال فإن جماع الخير كله في تقوى الله -- عز وجل -- ومن خلصت نيته لله -- عز وجل -- سدده الله في طلبه ، ووفقه الله في طلبه ، وكثير من البلاء الذي نزل بالخلف وفارقوا فيه سنن السلف سببه كما ذكره غير واحد من أهل العلم ضعف الإخلاص عند الخلف وقوة الإخلاص عند السلف حينما كان الرجل لا يتعلم إلا لله ولا يبتغي إلا ما عند الله –- عز وجل -- ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يلهمنا الصواب وأن يحسن لنا العاقبة والمآب وأن لا يجعل الحق ملتبسا علينا فنضل وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : صفة صلاة الخوف في الأحاديث الواردة كانت في السفر ، فكيف إذا كان الأمر في الحضر هل تكون على صورتها في السفر . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فقد تقدم معنا شرح صفات صلاة الخوف ، وكما ورد في السؤال نعم أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- صلى صلاة الخوف في السفر ولم يصلها في الحضر ، وذكر ابن القصار –رحمه الله- من أئمة المالكية صاحب كتاب رؤوس المسائل أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- صلاها عشر مرات ، واختلفت صلاته ، لأنه قد تكون الغزوة الواحدة أكثر من مرة ، وقد تقدم أن العدو له حالتان في صلاة الخوف :(5/191)
إما أن يكون في جهة القبلة ؛ فحينئذ خلاف العلماء في صفة صلاة الخوف قليل .
وإما أن يكون العدو في غير جهة القبلة ؛ وحينئذ اختلفت الروايات والصفات عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، والجمهور على أن أي صفة ثبتت عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في صلاة الخوف أنه يصلى بها ، و من أقوى ما ورد طبعا حديث ابن عمر في الصحيح عنه –رضي الله عنهما- وحديث صالح بن خوات ، اختار الإمام أبو حنيفة وأصحابه حديث ابن عمر ، واختار الجمهور حديث صالح بن خوات عن سهل بن أبي حتمة وفي رواية البيهقي عن أبيه ، وفي بعض الروايات عمن شهد صلاة الخوف مع النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذه الصفة ذهب إليها جمهور العلماء ، أما بالنسبة لصفتها في حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- الذي اختار الإمام أبو حنيفة فإن الإمام والقائد يقسم الجيش إلى طائفتين ، طائفة تقوم بإزاء العدو ثم يصلي بالطائفة الأولى ركعة ثم إذا انتهى من السجدتين في الركعة الأولى تقوم هذه الطائفة إلى نحر العدو وتحرس الثغر ، يقومون بأسلحتهم كما بين الله في كتابه ، وتأتي الطائفة الثانية التي لم تصل ، ففي في حديث ابن عمر أدرك الطائفة الثانية رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- قائما في الركعة الثانية فدخلوا معه فصلى بهم ركعة ، ثم رجعت هذه الطائفة فتشهد النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وسلم ، فرجعت الطائفة الثانية إلى الثغر وجاءت الطائفة الأولى وقضت ركعة ثم سلمت ثم رجعت وقامت الطائفة الثانية وقضت ركعة وسلمت ، هذه الصفة اختارها الإمام أبو حنيفة –رحمه الله- ، أولا لأن روايات ابن عمر اتسقت وهي أقوى حتى إن الإمام البخاري في صحيحه قدم حديث ابن عمر على غيره ، ولذلك كان تقديمه من جهة الأثر ، وحديث صالح بن خوات له أكثر من رواية وصفته عن سهل بن أبي حتمة –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قسم الجيش إلى طائفتين فقامت طائفة معه وصلى بهم ركعة ثم(5/192)
قامت بعد الركعة وأتمت لنفسها كالمسبوق ثم سلموا ثم قاموا إلى الثغر فجاء إخوانهم وأدركوا النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وهو في الركعة الثانية قد طول قراءته فدخلوا معه فصلى بهم عليه الصلاة والسلام ركعة تامة ثم جلس للتشهد وطول، فقامت الطائفة الثانية وقضت ركعة ثم أدركت النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في التشهد ، ثم اختلف الجمهور والإمام مالك –رحمه الله- من جهة والإمام الشافعي وأحمد من جهة أخرى ، فالإمام مالك يرى أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لم ينتظرهم على الرواية التي رواها واختارها ليس فيها انتظار من النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لهم وإنما تشهد وسلم ، لأنه يرى أن الإمام يتبع ولا يتبع غيره ، وأما بالنسبة للشافعي وأحمد –رحمهم الله- فأخذوا بالرواية فسلم بهم ، فهذه الرواية نصت على أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- انتظرهم وسلم بهم ، وهي أقوى أثرا ونظرا ، أما أثرا فبالرواية ، وأما نظرا فالأصل في المأموم أنه مرتبط بالإمامة ، وحينئذ قوي مسلك من قال إنه ينتظرهم ، هاتان صفتان هي التي وقع فيها الخلاف بين العلماء إذا كان العدو في غير جهة القبلة ، أما إذا كان العدو في جهة القبلة فإن الإمام يقسم الجيش صفين ، وإذا كان المكان ضيقا قسمهم إلى أربعة صفوف أو إلى ثمانية صفوف بحيث يجعله يقبل القسمة ، فيصلي بهم ثم يركع فيركعون جميعا كما في حديث جابر بن عبدالله في صحيح مسلم ، فركع فركعوا معه ، وكذلك حديث أبي عياش الزرقي –رضي الله عنه وأرضاه- في غزوة عسفان وأرض بني سليم قد فعلها في الموضعين ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لما ركع ركع الصفان معه ثم رفع فرفع الصفان ، ثم لما انحدر إلى السجود انحدر معه الصف الأول فسجد عليه الصلاة والسلام السجدتين ثم قام الركعة الثانية وقام معه الصف الأول ثم انحدر الصف الثاني وسجد ثم أدرك النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في الركعة الثانية ، ثم تقدم الصف الثاني مكان الصف(5/193)
الأول وتأخر الصف الأول مكان الصف الثاني للعدل ، وفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى ، فلما سجد السجدتين وجلس للتشهد انحدر الصف الثاني وسجد السجدتين فتشهد فسلم بالجميع ، هذا كله في صلاة سفرية ، أما ما ورد في السؤال إذا كانت حضرية ، فإذا كانت حضرية فحينئذ يجعل الرباعية كل ركعتين بمثابة ركعة من رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، فيصلي بالطائفة الأولى ركعتين ثم تنصرف إلى العدو إذا كان يختار حديث ابن عمر ، أو تقوم وتتم ركعتين ويكون هو مطولا في الركعة الثالثة على ظاهر حديث صالح بن خوات ، فإذا جاءت الطائفة الثانية صلى بهم الركعتين الثانية الأخريين ثم بعد ذلك قامت فأتمت لنفسها على ظاهر حديث صالح بن خوات ، أو انصرفت حتى تأتي الطائفة الأولى فتقضي ركعتين ثم تأتي الطائفة التي بعدها وتقضي الركعتين ، فهو نفس الذي يقع في السفرية يقع في الحضرية ، فصلاة الخوف لا يشترط فيها وجود الجيش ، ممكن أقل ما تكون صلاة الخوف لثلاثة أشخاص ، فلو أن ثلاثة أشخاص كانت عندهم مهمة مثلا أو عندهم عمل أو عندهم أمر خطير يخافون على أنفسهم فيه لابد أن يبقى أحدهم حارسا؛ فحينئذ إن كان الذي يخافونه في وجوههم مثل ما ورد في حديث جابر –- رضي الله عنه -- في رواية الصحيحين حينما كان العدو وحديث أبي عياش الزرقي حينما كان العدو في وجه القبلة فيصلي بالاثنين وراءه ، فإذا ركع ركعاً معه وإذا سجد انحدر أحدهم وبقي الآخر ، وبعض مشايخنا –رحمهم الله- قال الأفضل أن يصلي الاثنان عن يمينه ، ولكن هذا ضعيف ، قال لأنه يخشى أن يكون منفردا خلف الصف ، لأنه لم يسجد مع أخيه ، وهذا ضعيف لأن الآخر قائم معه في الصف ، هذا إذا كانوا ثلاثة ، فيسجد ثم إذا قام الاثنان بعد انتهاء الركعة الأولى نزل وسجد هذا وأتم صلاته ، وصلاة الخوف تكون للجماعة وتكون للعدد القليل ، وفي صلاة المغرب يصلي للركعتين الأوليين وتنصرف الطائفة الأولى أو تتم(5/194)
لنفسه على الخلاف في حديث صالح وحديث عبدالله بن عمر ، ويصلي ركعة بالطائفة الثانية فتأتي بالطائفة الثانية ثم تنصرف على ظاهر حديث ابن عمر أو تتم لنفسها على ظاهر حديث صالح بن خوات ، فإذا لا إشكال سواء كانت صلاة الخوف في الحضر أو السفر فالحكم فيها واضح ، وأخف ما تكون إذا كان العدو في جهة القبلة ، إلا أن مسألة إذا كان العدو في جهة القبلة مسألة تقدم الصف الثاني وتأخر الصف الأول عند طائفة من أهل العلم اختيارية بمعنى أنهم لو أرادوا أنهم لا يتقدمون ويبقون فلهم ذلك ، والأمر ليس به إلزام ولا وجوب . والله- تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : مسافر لم يصل المغرب وأدرك صلاة العشاء جماعة في المسجد فماذا يصنع . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
المغرب لا تصح وراء العشاء ، والعشاء لا تصح وراء المغرب ، لأن الرباعية لا تصح وراء الثلاثية ، والثلاثية لا تصح وراء الرباعية ؛ لأنه الأصل في جواز اقتداء المخالف في صلاة غير صلاة الإمام أن تتحد صورة الصلاتين ، فعلى القول بجواز اختلاف الصلاتين بين الإمام والمأموم كما هو مذهب الشافعية والحنابلة يشترطون اتحاد صورة الصلاتين ، فالظهر تصح وراء العصر ، والعصر تصح وراء الظهر ، ولكن لا تصح المغرب وراء العشاء ؛ لأنه إذا صلى الإمام أربعا سيضطر إلى أن يجلس ولا يتبع إمامه ، وحينئذ تختلج الصلاة والعكس لو صلى وراء إمام يصلي المغرب وهو بنية الصلاة فسيضطر إلى الجلوس بين الثالثة والرابعة ، وليس بين صلاة العشاء جلوس بين الثالثة والرابعة ، وعلى هذا فإن جماهير السلف والأئمة –رحمهم الله- على أنه لا يجوز أن يصلي المغرب وراء العشاء ولا العشاء وراء المغرب .(5/195)
تستثنى مسألة وهي : أن يأتي في جمع التأخير في السفر أو جمع التقديم ويجد إماما مسافرا يريد أن يصلي العشاء وهو يريد أن يصلي المغرب ، فخفف بعض العلماء لأنه سيجلس للتشهد ويسلم الإمام فيقوم يقضي ركعة بعد سلام الإمام ، خفف فيها بعض العلماء –رحمهم الله- والأمر فيها أيسر . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : ما هي السبع الطوال ، ولماذا سميت بهذا الاسم . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
السبع الطوال هذه من أقسام القرآن ، السبع الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم الطواسيم ، ثم الحواميم ، ثم المفصل .
حلفت بالسبع اللواتي طولت
وبالمثاني سميت وكررت
وبالحواميم التي قد سبقت
... وبالمئين بعدها قد أمرت
وبالطواسيم التي قد ثلثت
وبالتفاصيل التي قد فصلت
السبع الطوال التي هي البقرة ، آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأعراف ، والأنعام ، والتوبة ، والأنفال على أنهما سورة واحدة ، وبعض العلماء أنهما الأنفال أن التوبة لا تلتحق ، سميت بذلك لطولها ، هذا مصطلح عند العلماء ، ويقال إنه معروف حتى عند الصحابة –رضي الله عنهم وأرضاهم – وفيه القصة المشهورة حينما اختصم إلى عمر –- رضي الله عنه -- في قصة المرأة حينما قالت :
ألهى خليلي عن فراشي مسجده وليله نهاره ما يرقده
القصة المشهورة قال :
زهّدني في فرشها ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع الطول
فسميت بذلك لطولها ، وقالوا إن زيدا –- رضي الله عنه -- كما في الرواية الصحيحة حينما أنكر على مروان قال: ولقد كان رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- يصلي في المغرب بأطول الطوال ، فهذا مصطلح عند العلماء –رحمهم الله- في تسميتها . والله-تعالى– أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين )) هل هو متخصص برمضان . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/196)
هذا عام وليس خاص في رمضان فإن من قام بهذا القدر لم يكتب من الغافلين ، سواء كان في رمضان أو غيره ، وهذا يدل دلالة واضحة على فضل قيام الليل ، وأنه فيه خير كثير للعبد أن لا يكتب في ديوان الغافلين ولا يزال يرتقي من مائة آية إلى ألف آية ، حتى إذا بلغ الألف كتب من المقنطرين ، فالمحروم من حرم ، فنسأل الله بعزته وجلاله أن لا يحرمنا من فضله ، فيحرص المسلم على أن لا يبيت ليلة إلا وقد قرأ من كتاب الله –- عز وجل -- ما يطمئن به قلبه ، وما ينشرح به صدره ، ويستجم به فؤاده وهو خير له في دينه وديناه وآخرته ، خاصة إذا وفق في القيام في الأسحار وبكاء الأسحار ومناجاة الواحد القهار في ظلمة الليل أقرب ما يكون إلى الإخلاص وأبعد ما يكون عن الرياء يبث إلى الله حزنه وهمه وغمه فلاشك أن قيام الليل فيه خير كثير ، ومن خيره أنه إذا قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يعيننا على ذلك . والله -تعالى- أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : توفي والدي ولدي أم وإخوة ، وأنا أكبرهم وأريد الذهاب إلى خارج مدينة جدة لطلب العلم الشرعي ، فما نصيحتكم لي ، فهل أذهب أو لا . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/197)
إذا توفي الوالد فإخوتك الصغار أيتام ، ومن أبر البر لوالدك أن تحسن لإخوانك وأن تحرص على القيام على شؤونهم ورعايتهم ، وهذا من أعظم ما يكون برا لأبيك ، ومن أعظم الأسباب التي يوفقك الله فيها في أمور دينك ودنياك وآخرتك أن توفق لبر الوالدين وأن توفق لصلة الرحم لأن أقرب ذوي الأرحام إليك هم إخوانك وأخواتك ، ثم انظر كيف جمع الله لك الفضائل من رضى الأب في ذريته ، ورضى الأم حينما تنظر إلى ضعفها وانكسار جناحها بموت بعلها وفراق زوجها وإلى برك لإخوانك وإلى كفالة اليتيم حينما تضم إخوانك إليك ، وتشملهم بعطفك وحنانك وبرك وإحسانك وتصبر وتصابر وتحتسب الأجر عند الله ، فليس هناك رعاية ليتيم أعظم عند الله أجرا من رعاية اليتيم القريب، وليس هناك رعاية يتيم أعظم بركة وأعظم خيرا من رعاية اليتيم الأخ والأخت ، فهم ليس لهم بعد الله إلا أنت ، خاصة إذا كنت أكبر إخوانك فإنهم غالبا ما ينظرون إليك نظرة الأب ، وخاصة إذا الله وفقك ، وأسأل الله أن يوفقك أن تكون قويا في معونتهم وأن تشمر عن ساعد الجد والاجتهاد ، وأن تتوكل على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم في الإحسان إليهم .(5/198)
السفر إلى خارج جدة لطلب العلم خير وبركة ، وأخير منه أن تلزم رجل أمك وأن تبرها ، والدليل على ذلك أن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- كما في الصحيح من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص أتاه رجل من اليمن فقال يا رسول الله أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد ، فهو يريد أن يكون مع النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يتعلم منه ، ويأخذ عنه وليس هناك علم يؤخذ عن معلم أبرك ولا أفضل ولا أكمل من أخذه من رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ومع ذلك كان السؤال : أحي والداك ؟ قال نعم ، قال : ففيهما فجاهد، فانظر رحمك الله كيف رد رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- الرجل إلى والديه ، فما بالك إذا كان الوالدان حيين أمره أن يرجع إليهما ، فإذا كان الوالد قد توفي فالوالدة أشد ما تكون حاجة ، وأشد ما تكون محبة لقرب ولدها منها ، فلا تجمع لوالدتك بين مصيبتين ، وبين بليتين فراقها لبعلها وفراقك لها ، وإن الله –- عز وجل -- ذكر في كتابه قصة يعقوب لكي يعتبر أولوا الألباب ، فيعقوب –عليه السلام- من أولي العزم، ومع ذلك على أحد القولين ومع ذلك عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن وتولى يبكي ويشتكي إلى ربه ما يجد من الحزن والألم لفراق ابنه ، لم يذكر الله قصة امرأة تفقد ولدها ، إنما ذكر قصة رجل .(5/199)
فذكر الله قصة يعقوب حينما فقد ابنه يوسف –عليهما السلام- وهو يعلم أن يوسف سيعود إليه ، ومع ذلك تولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ، هذا الذي ذكره الله في كتابه لرجل يعلم أن ابنه سيعود إليه والرجل أكثر صبرا من المرأة بطبيعة الخلقة وبما فيه من القوة ، فما بالك إذا كانت المرأة تفقد ولدها ويبتعد عنها ولدها فلاشك أنها أشد عناء وتعبا وبلاء، ولذلك جعل الله للأم من الحق ما لم يجعله للأب ، جعل برها مضاعفا على بر الأب ، فجلوسك عند أمك ورعايتك لإخوانك الأيتام وكفالتك لهم أفضل وأعظم أجرا لك ، فإن أصبحوا بحاجة بحيث يتضررون بخروجك فإنه يجب عليك البقاء ، وأما طلب العلم فيمكنك أن تطلب العلم وأنت في الموضع الذي أنت فيه ، ولا يجب عليك أن تخرج مادام أنه قد وجد غيرك ممن تحصل به الكفاية ، وعلى هذا فأوصيك ونفسي بتقوى الله والإحسان إلى أمك ورعايتها وإلى إخوانك وأخواتك الأيتام وغير الأيتام تحرص على أن تكون لهم نعم الأخ لإخوانه ، أسأل الله بعزته أن يوفقك لذلك . والله –تعالى- أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : يريد بعض الناس أن يكون الحساب بدخول الشهر وخروجه بديلاً عن الرؤية ، فكيف نرد عليهم . وجزاكم الله خيراً ؟
الجواب :(5/200)
نرد عليهم بما ثبتت به السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، وليس لمؤمن أن يقدم أو يؤخر مادام أنه قد بين الكتاب وبينت السنة الحكم ، فينبغي لنا الرضى والتسليم ، الحساب الفلكي لا يعول عليه في دخول رمضان وخروجه ، ولا في المسائل الشرعية في دخول الأشهر كما نص عليه أهل العلم وهو قول جماهير السلف والخلف ، وأما الدليل فهو السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في الصحيحين أنه قال : (( إنا أمّة أميّة لا نكتُب ولا نحسُب الشهر هكذا وهكذا )) فأشار في المرة الأولى ثلاثين وأشار في المرة الثانية تسعا وعشرين فخنس الإبهام ، هذا الحديث بين فيه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن الواجب علينا أن نرى الهلال ، وأن نتراءى الهلال ، فالشهر تارة يكون كاملا وتارة يكون ناقصا ، وعلى هذا فالحساب الفلكي غير معتد به ، ويكاد يكون كالإجماع حتى ألف بعض الأئمة في ذلك ومنهم الإمام ابن العابدين له رسالة حكى فيها إجماع السلف والخلف ما عدا قول ابن سريج من الشافعية ، مع أن قول ابن سريج –رحمه الله- مقيد بالنسبة لصاحب الحساب نفسه ، ويحكى هذا القول عن مطرف بن عبدالله بن الشخير من التابعين ، ولكن هذا القول مصادم للسنة ، وجماهير السلف والخلف بحمد الله على أنهم على الرؤية الشرعية .(5/201)
السؤال لماذا ألغي الحساب ؟ البعض يريد أن يفرض يعني هم يرون أنه لا يمكن للأمة أن تتقدم إلا إذا أصبحت تثبت أمورها بالحساب ، والأمر ليس كذلك ، هذا من سماحة الشريعة ، ومن يسر الشريعة ، والشريعة إذا وضعت الأحكام لا تضعها لزمان واحد ، ولا تضعها في فترة يتيسر فيها الحساب ، ولا تضعها في بيئة قد يتيسر فيها الحساب ، جاءت بشيء ميسر للبدوي والحضري للقريب وللبعيد ، جاءت بشيء ميسر في الأمصار الغنية والفقيرة الأمصار المتعلمة والأمصار الجاهلة يقف على جبل أو على نشز من الأرض ليرى الهلال فإن رآه فالشهر ناقص وإن لم يره فالشهر كامل والحمد لله ، أي يسر أعظم من هذا اليسر ، من الذي يريد أن يضيق على الناس ، الذي يلتزم بالسنة ويجعلها على هذه الشمولية في كل زمان ومكان ، أو الذي يريد أن يأتي لهم بالحاسب ، ثم من هم هؤلاء الحساب الذين يتفقون على قول واحد ، ومن هم هؤلاء الحساب الذين يسيرون على نهج واحد ، فإذاً علينا أن نأخذ بيسر الله –- عز وجل -- ونأخذ بالسنة ، ولاشك أنه إذا صح الدليل وثبت بحكم وجب العمل به ، وأما مسألة الاختلاف كون الأمة تختلف في دخول رمضان أو خروجه فهذه مسألة بالعكس هذه شرف للأمة الإسلامية وفضل للأمة الإسلامية ، ويا سبحان الله تعدد الأقوال في المناقشات والمناظرات يدل على فضلها إلا إذا كان من الشريعة ، فإذا كانت الشريعة أذنت بهذا الاختلاف فهو مذموم ، ثم تقام الدنيا وتقعد ، لماذا يعيدون ، لماذا لا يعيدون في يوم واحد ، في مسائل تافهة ولا يبحث فيها لأنها محسومة انتهت ، أما الذي يريد أن يثيرها ويبلبل حولها وينعق حولها ويثرب على الناس والأمة الإسلامية جاهلة؛ لأنها تختلف ، سبحان الله يختلف غيرها فخلافهم يدل على أنهم أناس متحضرون ، وإذا اختلف المسلمون دل على أنهم منحطون منذمون ، لأنهم ينظرون نظرة النقص وينظرون نظرة العيب ، وصدق الله : { ولا ينبئك مثل خبير } فإنهم كما قال تعالى : { ودوا ما(5/202)
عنتم } أي ودوا عنتكم ، فالله لو جمعت الأمة عن بكرة أبيها على حساب واحد لقامت الدنيا وقعدت بماذا تجتمعون والقطر الفلاني يفترق عن القطر الفلاني يوما ، ولماذا تتفقون والقطر العلاني يخالف القطر العلاني بيومين، بعض الأحيان يكون الخلاف بيومين كاملين ، فإذا لا نلتفت إلى مثل هذه الأمور ، علينا أن نتبع السنة والأمر واضح والحمد لله ، ولا يلتبس إلا على من كان عنده ضعف في الفهم ، وإلا هو والحمد لله محسوم وكلام العلماء ، وتكاد المذاهب الأربعة كلها متفقة على أن العبرة بالرؤية لا بالحساب . ونسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والبيع معاوضة المال بالمال
قال المصنف –رحمه الله- : [ والبيع معاوضة المال بالمال ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فيقول الإمام –رحمه الله- : [ والبيع معاوضة المال بالمال ] : تقدم معنا شرح هذه العبارة ، وأن المصنف -رحمه الله- أخرج بها عقود المعاوضات من غير البيع ، وقد اختلفت عبارات العلماء –رحمهم الله – في تعريف البيع .
فالمصنف –رحمه الله- ذكر هذا التعريف، وأضاف إليه في بعض كتبه كما في المغني: تمليكا ، البيع معاوضة المال بالمال تمليكا ، وبعض العلماء كما هو عند الشافعية : تملّكا وتمليكا .(5/203)
المراد من هذا أن البيع في اصطلاح الفقهاء يقع على مبادلة لأنه قال: معاوضة أي مبادلة المال بالمال بقصد التمليك ، فهناك مبادلة المال بالمال لا يقصد بها التمليك ، ومن أمثلة ذلك: القرض ، فإن الإنسان إذا اقترض من أخيه مائة ريال مثلا فإنه يردّ عند انتهاء الأجل مائة أخرى، هي عوض عن المائة الأولى ، فحينئذ حصلت معاوضة مال بمال ، لكنه لا يقصد في القرض التمليك ، ومن هنا أضاف بعض العلماء إلى هذا التعريف قولهم: تمليكا ، وبعضهم فصّل فقال تملّكا بالنسبة لك، وتمليكا بالنسبة للغير ، فأنت إذا بعت سيارة مثلا بعشرة آلاف تقصد أن تملك العشرة الآلاف وأن تمُلّك السيارة ، ولو بعت مزرعة أو عمارة بمائة ألف قصدت أن تملِك المائة ألف وأن تملّك العمارة أو السيارة أو غير ذلك .
إذًا البيع يقوم على التملّك والتمليك ، هذا بالنسبة لتعريف الحنفية والشافعية والحنابلة متقارب للبيع ، الحنفية قالوا :مبادلة المال بالمال بالتراضي كما في الكنز، فقالوا: مبادلة المال بالمال بالتراضي الباء للمصاحبة أي مصحوبا بالرضا ، وذلك لأن الله يقول : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } فأضافوا قيد الرضى ، وهذا ميزة من مميزات تعريف الحنفية –رحمهم الله- .
الشافعية قالوا : مبادلة المال بالمال تملّكا وتمليكا .
الحنابلة قالوا : معاوضة المال بالمال هذه التعاريف كلها متقاربة، والمعنى فيها واحد وإن كان بعضهم أضافوا قيد التمليك، فامتازت تعريف الحنابلة والشافعية بإضافة التمليك لإخراج عقد القرض ، وكذلك امتاز تعريف الحنفية بإضافة قيد التراضي .
أما المالكية فقد عرّفوا البيع بقولهم : عقد معاوضة على غير منافع ولا متعة لذة ذو مكايسة ، هذا التعريف عند المالكية هو معنى التعريف عند الشافعية والحنابلة والحنفية –رحمة الله على الجميع- .(5/204)
وفي الحقيقة أن هذه التعاريف يقصد منها : إدخال ما هو من المعرَّف في المعرَّف ، وإخراج ما ليس من المعرَّف عن المعرَّف ، وهذه هي مهمة المعرِّف ، وعلى كل حال مقصودنا من هذه التعاريف الوصول إلى حقيقة العقد الشرعي لا أقل ولا أكثر .
يقول رحمه الله : [ البيع معاوضة المال بالمال ].
قال رحمه الله : [ ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب ] : قوله : البيع معاوضة المال بالمال يحسن أن نبين أركان البيع ، أركان البيع ثلاثة عند الجمهور :
أولا : العاقدان ، وثانيا : محل العقد . وثالثا : الصيغة .
لا يمكن أن يوجد البيع إلا بعد وجود هذه الثلاثة الأركان : العاقدان ، ومحل العقد ، والصيغة ، فإذا وجدت هذه الثلاثة الأركان وجد البيع.
والركن تتوقف عليه ماهية الشيء ، لا يمكن أن يوجد الشيء إلا إذا وجدت أركانه ، لا تستطيع أن توجد الغرفة إلا إذا وجدت أركانها ، والبيت لا يمكن أن يوجد إلا إذا أقيمت دعائمه وأركانه ، فأركان عقد البيع هذه لا يمكن أن يوجد البيع إلا بها ، فإذا تخلفت أو بعضها لم يوجد البيع .
قولهم : العاقدان ، العاقدان هما البائع والمشتري ، والإنسان بائع من وجه ومشترٍ من وجه حتى ولو ذهبت تشتري سيارة فأنت بائع من وجه ومشترٍ من وجه آخر ، ولو ذهبت إلى السوق تريد أن تبيع شيئاً فأنت تبيع من وجه وتشتري من وجه آخر ، ولذلك جعلوا البيع من الأضداد .(5/205)
الأركان تتوقف عليها الماهية ، ولا يمكن أن توجد حقيقة الشيء إلا بوجود أركانه ، الشروط لا تتوقف عليه الماهية، وإنما تتوقف عليها الصورة الشرعية، إن كانت بالوجوب وجوبا ، وإن كانت بالإجزاء إجزاءً ، وإن كانت بالصحة صحة ، فمثلا لا يمكن أن نصف الصلاة بكونها شرعية إلا إذا وجدت فيها الطهارة ؛ لأنها شرط صحة ، وكذلك أيضا لا نحكم بلزوم الصلاة صلاة الظهر إلا إذا دخل الوقت فزالت الشمس ، فهو شرط وجوب ، ولا يمكن أن يجزئ الحج إلا إذا وجد البلوغ فهو شرط إجزاء ، إذا الشروط بمثابة التتمّات لكنها تتوقف على صورة الشرع على حسب نوعية الشرط، ولكن الركن تتوقف عليه الماهية .
الركن الأول : العاقدان ، وهما البائع والمشتري ، يشترط في البائع والمشتري ثلاثة شروط لا يمكن أن نصحح عقد بيع من بائع ومشترٍ إلا إذا تحققت فيه هذه الثلاثة الشروط :
الشرط الأول : أن يكون مكلّفا .
والشرط الثاني: أن يكون مختارا .
والشرط الثالث : أن يكون غير محجور عليه .
هذه الثلاثة الشروط تشترط في البائع وتشترط في المشتري ، فلا نصحح بيعا إلا إذا كان البائع مستجمعا لهذه الشروط ، ولا نصحح شراء إلا إذا كان المشتري مستجمعا لهذه الشروط .
الشرط الأول: أن يكون مكلّفا ، التكليف يتحقق بالبلوغ والعقل .
وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل
إلى آخره...(5/206)
إذا أن يكون بالغا عاقلا ، فلا يصح بيع المجنون ولا شراؤه ، فلو أن مجنونا توفي أبوه فترك له إرثا فورث مليون ريال، اشترى بها عمارة لم نصحح شراءه ، ترك له عمارة وباعها قال: بعت عمارتي عليك يا فلان، نقول: هذا بيع باطل ، لا يصح ، إذاً العقل وفي حكم المجنون من فقد عقله بالسكر فلو أن سكرانا باع أو اشترى لم يصح بيعه وشراؤه على أصح قولي العلماء في مسألة تصرفات السكران القولية ؛ والدليل على ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فبيّن أن السكران لا يعلم ما يقول ، وأما من ألزمه ببيعه وشرائه عقوبة له على السكر نقول العقوبة لها باب محدد شرعا ، وهو الحد الذي أمر الله بإقامته عليه ولا يعاقب بغير الحد الشرعي؛ لأنه زيادة على الوارد .
إذاً لا يصح بيع المجنون ولا شراؤه ، ولا بيع السكران ولا شراؤه ، وهكذا في حكم المخدَّر سواء كان تخديره على وجه يباح شرعا مثل في العملية الجراحية لو أفاق منها وهو في حال الخدر قبل أن يفيق منها، فجاءه شخص فاشترى منه بيته ، أو اشترى منه أي شيء لم يصحح العقد ، يشترط أن يكون عاقلا ، وأن يكون بالغا ، فلا يصح بيع الصبي ولا شراؤه ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم الصبي حتى يحتلم )) فلو باع الصبي شيئا أو اشترى لم يصح من حيث الأصل ، لكن الصبي ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يكون صبياًّ غير مميز .
والقسم الثاني: أن يكون صبياًّ مميزا .
والفرق بين المميز وغير المميز بالسن في قول طائفة من العلماء أو بالوصف، فإن أردت أن تفرق بين المميز أو غير المميز بالسن فقولان :
قيل خمس سنوات وقيل سبع وهو الصحيح لورود السنة : (( مروا أولادكم بالصلاة لسبع )) فدل على أنهم قد اختلف حالهم عن ما قبل السبع .(5/207)
وثانيا : التمييز بالوصف، قالوا : المميز هو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب ، فإذا قيل له : بكم تبيع هذه ؟ يقول بعشرة ، فيقال له مثلا : بتسعة ، يقول : لا ، ما أبيع بتسعة ، فهو يفهم الخطاب ويحسن الجواب .
الصبي غير المميز سواء قلنا بضابط السن أو بضابط الوصف لا يصح بيعه وشراؤه وجها واحدا . الصبي المميز له حالتان :
الحالة الأولى : أن يتصرف من عند نفسه فيبيع ويشتري ، مثلا ولد أو صغير عنده شيء، أعطاه إياه أو اشتراه له والده فأخذه وباعه فنقول : إنه إذا باع من عند نفسه من العلماء من طرد الأصل وهذا إعمالا للأصل ، ومنهم من أوقفه على نظر وليه ، وهذا ما يسمى بالعقود الموقوفة .
والصحيح أنه لا يصح تصرفه بدون إذن حتى ولو كان مميزا ، أما إذا أذن له وليه مثلا قال له : اجلس يا بني في الدكان، وهذه قيمتها عشرة ، وهذه قيمتها عشرون ، أو اجلس في مكاني هذا وبع هذا الشيء بعشرين ، هذا يسمى مأذون له بالتجارة ، وكذلك إذا كان بائعا ، وقد يؤذن له بالشراء ، يعطى المبلغ أن يذهب إلى بقالة لكي يشتري مثلا غسيلا للثياب، فيعطى مثلا ريالين وقال مثلا اشتر مثلا تايد ، فيأتي إلى صاحب البقالة ومعه الريالان ويقول: أعطني تايد ، هذا إذن بالشراء ، فالصبي المأذون له بالتجارة أصح قولي العلماء صحة بيعه وشرائه إذا كان فيما أذن له ، وهذا كما هو مذهب الحنفية، وأيضا منصوص عليه في مذهب الحنابلة، ويقول به بعض أصحاب الشافعية .(5/208)
فالشاهد من هذا أنه إذا كان مأذونا له بالتجارة صحّ ، والدليل على صحة بيعه وشرائه عند الإذن قوله تعالى : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } فهذه الآية الكريمة نزلت في اختبار المحجور عليه للصِّغَر ، وسيأتي إن شاء الله بيانه ، فبينت أن الصبي إذا قارب البلوغ والصبية إذا قاربت البلوغ وهم اليتيم واليتيمة يعطى المال لكي يشتري حوائجه ، فينظر كيف يشتري ، هل يغبن أو لا ؟ حتى ينظر هل فيه رشد أو لا ؟ فيعلم ثم يقال له اذهب واشتر فيختبر ، وهكذا الطفلة اليتيمة تختبر بما تشتري من لوازمها في ثيابها أو متاعها أو تفصل أشياء في بيتها ثم تبيعها ثم تُختبر في هذا البيع ، فإن باعت دون ضرر وأحسنت الأخذ لنفسها إذا اشترت وأحسنت الإعطاء في غيرها إذا باعت فهي رشيدة ، فالله أمرنا أن نختبرهم .
وقوله : { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } وهذا يدل على أنه ينبغي أن يختبر عند مقاربة البلوغ حتى إذا بلغ النكاح رشيدا أعطي ماله ؛ لأنه لا يصح لنا أن نتصرف في مال الرشيد إلا بإذنه ، إذاً معنى ذلك أنه لابد أن يكون الاختبار قبل البلوغ ، وإذا كان الاختبار قبل البلوغ فلابد من إذن له، ولا يمكن أن يصح الاختبار ويقع إلا إذا صُحح بيعه وشراؤه ، فدل على أنه إذا كان مأذونا له صح بيعه وشراؤه . إذًا الشرط في الصبي المميز أن يكون مأذونا له بالتجارة ، أما إذا كان غير مأذون له بالتجارة أو كان غير مميز فبيعه وشراؤه غير صحيح .
الشرط الثالث : أن يكون غير محجور عليه ، والحجر المنع في لغة العرب ، ومنه قوله تعالى : { ويقولون حجرا محجورا } وسمي الحجر حجرا ؛ لأنه يمنع الطائف مما بقي من البيت ولم يُبنَ ، وكذلك سمي العقل حجرا ؛ لأنه يمنع صاحبه عما لا يليق ، ومنه قوله تعالى : { هل في ذلك قسم لذي حجر } أي لذي عقل يمنعه عما لا يليق به . الحَجْر المنع .(5/209)
أما في الاصطلاح : فهو منع نفوذ تصرف قولي لا فعلي في الأموال ، وبعضهم يقول : إن الأدق أن يقال : المنع من اعتبار التصرفات القولية المالية ، منع اعتبار التصرفات القولية : مثل البيع والشراء .
المحجور عليه ينقسم إلى قسمين :
إما أن نحجر على الإنسان لمصلحة نفسه ، وإما أن نحجر عليه لمصلحة غيره ، والمحجور عليه لمصلحة نفسه ثلاثة أنواع : الصبي ، والمجنون ، والسفيه . هؤلاء الثلاثة أمرنا الله أن نمنعهم من التصرف في أموالهم لمصلحة أنفسهم .
والنوع الثاني : المحجور عليه لمصلحة غيره ، هؤلاء كلهم سواء كان الممنوع المحجور عليه لمصلحة غيره كالمفلس، وهو الرجل الذي أصبحت ديونه أكثر مما يملك، ولو كان عنده تجارة وعنده أموال مادامت الديون أكثر من ماله الموجود أو رأس ماله الموجود فإنه إذا سأل غرماؤه أو أصحاب الدَّين أن يحجر عليه حجر عليه ، فيمنع من التصرف في ماله فيبيعه القاضي ويسدد ديونه ، والأصل في ذلك حديث الصحيحين : (( من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس )) وسيأتي إن شاء الله الكلام على ذلك . فهؤلاء إذا باع أحدهم أو اشترى كيتيم باع داره التي ورثها عن أبيه أو اشترى بالمال الذي ورثه عن أبيه لم نصحح بيعه ولا شراءه ، المجنون كما تقدم ، السفيه وهو الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء لغيره ، فالسفيه لو باع واشترى لم يصح بيعه ، ولذلك قال تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } فحجر الله على السفيه ، ومنع تصرفه في المال ، وأمرنا أن نأخذه على يده ، وتصرف السفيه والمجنون والصبي والمفلس بالبيع والشراء موقوف على إجازة الولي ؛ لأن أصل الحجر خوف الضرر ، وإذا انتفى الضرر فرأى الولي المصلحة أمضاه وإن لم ير مصلحة ألغاه وسيأتي تفصيله في الحجر ، إذاً يشترط في صحة البيع أن يكون البائع والمشتري عنده أهلية التصرف لئلا يكون محجورا عليه ، هذه ثلاثة شروط : أن يكون مكلفا ، أن يكون مختارا ، أن يكون غير محجور عليه .(5/210)
الاختيار ضد الاضطرار والإكراه ، فالمكرَه غير مختار؛ لأنه يدفع إلى شيء لا يريده ولا يرضاه ، وكل من أكره على البيع أو أكره على الشراء لم يصح بيعه ولا شراؤه ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .
دلت الآية الكريمة على أن من أكره على أعظم شيء من الأقوال وهو الكفر أنه لا يؤاخذ ويسقط قوله أي ما قاله من الكفر ، فمن باب أولى أن تسقط الأقوال الأُخَر ، فالمكره لا يصح بيعه ولا يصح شراؤه ، ويشترط أن تتحقق شروط الإكراه ، فالقاضي إذا رُفعت إليه قضية بيع وقال البائع أو المشتري: أنا مكره على البيع ، أو مكره على الشراء يتحقق من الشروط : أولا أن يهدد الإنسان ، وثانيا : أن يكون هذا التهديد بما فيه ضرر عليه ، وثالثا : أن يكون الضرر أعظم مما يطلب منه ، ورابعا : أن يغلب على ظنه أن الضرر سيحدث ، وخامسا : أن لا يمكنه دفع هذا الضرر بأن يستنجد أو يستغيث أو غير ذلك ، وسادسا : أن يكون الإكراه بظلم لا بحق ، وسابعا : أن يكون الإكراه في الظاهر دون الباطن، بمعنى أن يبيع غير راض في باطنه ، فإن كان في باطنه راضيا بالبيع ويحب البيع نفذ عليه بيعه ، إذاً يشترط فيه أن يكون باطنه مخالفا لظاهره لقوله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن} فإذا كان مطمئنا بالبيع أو مطمئنا بالشراء راضيا به فلا إشكال ، والأصل في هذا الشرط قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } والإكراه يفسد به الرضا وينعدم ، ومن هنا لا يصح بيع المكره ولا شراؤه ، يشترط أن يكون بظلم ، فإذا أكره بحق على البيع والشراء صح البيع والشراء ، أكره بحق من أمثلته ما ذكر العلماء لو أن القاضي أو ولي الأمر احتاج أن يوسع مسجدا تضرر الناس ببناء يضايق هذا المسجد ، فحينئذ طلب من صاحب البناء أن يبيع ، قال : ما أبيع ، طلب منه أن يتنازل للمسجد قال : ما أتنازل ، فحينئذ تضررت الناس ، يتدخل فيكرهه ويبيعه وهو مكره ويصح البيع ، ومما أثر عن(5/211)
عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- أنه أجبر العباس على أن يبيع بيته لتوسعة المطاف بمكة ، وهذا أصل عند العلماء في المناقلة في العقار عند وجود الضرر العام ، ولا يكون هذا إلا في الأضرار العامة ، أما إذا كان الإنسان جاء ويريد أن يأخذ أرض إنسان مهما كانت المبررات فليس له أن يكره على أخذ ماله ، وأي مال أو أرض بيعت بالإكراه لم يصح بيعها ، أو أخذت بالإكراه لم يصح أخذها، حتى ولو أعطاه قيمة المثل ، وحتى لو زاده عن قيمة المثل ؛ لأن الرضى بالعقد لابد من حصوله ولابد من وقوعه ، يشترط في البائع أن يكون راضيا ، وعليه فإذا لم يتحقق الرضى وأكره على البيع أو الشراء لم يصح بيعه ولا شراؤه ، الثلاثة الشروط لابد من توفرها في كلا المتعاقدين البائع والمشتري .
الركن الثاني : وهو محل العقد ، ومحل عقد البيع هو المحل الذي ترد عليه صيغة البيع ، وهي الإيجاب والقبول ، فإن الإيجاب والقبول يرد على شيء فيقول له : بعتك سيارتي ، فَوَرد على السيارة بيعا بعشرة آلاف ثمنا ، فورد على مثمن وثمن ، هذا المحل وهو محل عقد البيع يشترط فيه خمسة شروط للحكم بصحته واعتبار البيع شرعا :
الشرط الأول : أن يكون طاهرا .
الشرط الثاني : أن يكون فيه نفع .
الشرط الثالث : أن يكون مملوكا للمتعاقدَين .
والشرط الرابع : أن يكون مقدورا على تسليمه .
والشرط الخامس : أن يكون معلوما . هذه خمسة شروط .
الشرط الأول : أن يكون طاهرا ، والثاني : أن يكون فيه نفع ، أو كما يقول بعض العلماء : أن يكون مالا متقوِّما شرعا أي له قيمة من ناحية شرعية ، والشرط الثالث : أن يكون مملوكا للمتعاقدَين كل واحد من المتعاقدين بحسبه ، بمعنى أنه الذي يبيع أو يشتري يكون مالكا له ، والشرط الرابع : أن يكون مقدورا على تسليمه ، والشرط الخامس : أن يكون معلوما .(5/212)
الشرط الأول : أن يكون طاهرا ، الطهارة ضد النجاسة ، وقد تقدم معنا في كتاب الطهارة بيان حقيقتها ، أن يكون طاهرا فلا يصح بيع النجس ، والأصل في ذلك حديث جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- في الصحيحين أن النبي –- صلى الله عليه وسلم - - لما خطب عام الفتح قال : (( إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام )) هذه الأربعة الأشياء: نجسة حسا أو نجسة معنى ، والنجاسة الحسية تستلزم النجاسة المعنوية من حيث الأصل ، فالنجس الحسي في الميتة والخمر والخنزير ، أما الميتة والخنزير بالإجماع نجاستهما ، وأما الخمر فكما قال الأئمة الخلاف في طهارتها شاذ ، وقد بينا في كتاب الطهارة وفي الفتاوى أكثر من مرة الأدلة من الكتاب والسنة على نجاسة الخمر، وأنه قول جماهير أهل العلم –رحمهم الله- وأن الخلاف ضعيف ، ولذلك عبر فيه بالشذوذ ، قال ابن رشد : إلا خلافا شاذا في الخمر أعني في طهارتها ، وشيخ الإسلام في المجموع قال : الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة . ولم يحك قولا مخالفا توهينا للقول بالطهارة .
فالشاهد أن هذه الثلاثة نجسة حسا ، حرم بيع الميتة والخمر والخنزير ، ثم قال : والأصنام ، والأصنام نجسة معنى كما قال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } وهو رجس المعنى؛ لما فيها من الشرك، وهي معبودات الكفار ، فالشيء النجس لا يجوز بيعه؛ لأن السبر والتقسيم في هذا الحديث أثبت أن العلة هي النجاسة ، وبه قال جمهور العلماء –رحمهم الله- بعدم صحة بيع النجس .
الأشياء غير الطاهرة : إما نجسة عينا، أو متنجسة غير طاهرة ، إما أن يكون نجساً عينا ، أو يكون متنجسا ، فإن كان نجس العين فكالميتة والخنزير فإنه نجس العين ، والكلب على أصح قولي العلماء –رحمهم الله- لحديث الولوغ، فهذا لا يجوز بيعه بلا إشكال .
وأما المتنجس وهو الذي أصله طاهر، ثم أصابته النجاسة فعلى قسمين :(5/213)
إما أن يكون مما يمكن إزالة النجاسة عنه وتطهيره ، وإما أن يكون مما لا يمكن تطهيره .فالذي يمكن تطهيره مثلا كالثوب، فالثوب إذا أصابته نجاسة فهو متنجس ، فلو أن شخصا عرض ثوبا متنجسا ونحن نقول : يشترط أن يكون المبيع طاهرا ، نقول : المتنجس يجوز بيعه بشرط أن يبيّن أنه نجس لأن نجاسته عارضة ، وهذا طاهر في الأصل ، والنجاسة فيه عارضة وداخلة ويمكن إزالتها ، فلو باعه ثوبا أو سكينا ذكّى بها متنجسة أو سيفا قتل به وجاهد وأصابته الدم المسفوح النجس أو نحو ذلك صح ؛ لأنه يمكن إزالة النجاسة ، وهكذا كما ذكروا لو باعه رخاما متنجسا أو حجرا متنجسا أو خشبا متنجسا صح البيع ويبيّن .(5/214)
الحالة الثانية : أن يكون مما لا يمكن إزالة النجاسة منه ، وهذا طبعا راجع إلى خلاف بين العلماء –رحمهم الله- في باب إزالة النجاسة ، ففي قول بعض العلماء : اللبن والدبس لا يمكن تطهيرهما ، مع بقاء العين؛ لأنه يفسد ، ولذلك يقولون لا يمكن تطهيره مع بقاء عينه لأنه إذا بيع سيباع على أنه لبن وفيه نجاسة فلا يصح البيع ، لأن تطهير اللبن يكون بصورة المكاثرة ، والتطهير بالمكاثرة أن تصب ماء أكثر من النجاسة التي في اللبن ، فإذا خالط الماء النجاسة الموجودة في اللبن رفع النجاسة ؛ والدليل على ذلك حديث الأعرابي، فإنه لما بال في المسجد أمر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن يصب عليه ذنوب من ماء ، فالذنوب أكثر من البول ، فدل على أن الماء الطهور أكثر من النجاسة يرفعها، وهذا ما يسمى بالتطهير بالمكاثرة ، فإذا جئت تطهر اللبن بالمكاثرة أفسدته ، وهو اُشتري على أنه لبن ، هذا وجه يعني عدم صحة البيع فيه أنه لا يمكن تطهيره مع بقائه لبناً ، وهو اُشتري على أنه لبن ، وهو متنجس فلا يصح ، وهكذا الدِّبْس والخل كل هذه الأشياء بالتجربة ذكروا على أنها لا يصح بيعها مقصودة دِبْسا ولبنا وخلا وهي متنجسة ، هناك نوع اختلف فيه هل يمكن تطهيره أو لا يمكن تطهيره ؟ وهو الزيت، والزيت إذا وقعت فيه نجاسة اختلف العلماء هل نجاسته نجاسة ممازجة أو نجاسة مجاورة ؟
والصحيح أن نجاسته نجاسة مجاورة وليست بنجاسة ممازجة ، لأن كل واحد يعلم أن الزيت إذا وقع فيه الماء أو وقع فيه البول –أكرمكم الله- أو النجاسة فإنه يبين عنه، ويبقى في طبقته (طبقة النجاسة) لكن المماسة للنجس والمجاور إذا التصق بالنجاسة أثّر .
ليس المجاور إذا لم يلتصق
في اللون والطعم بالاتفاق
... يضر مطلقا وضر إن لصق
كالريح في معتمد الشقاق(5/215)
وقد تقدم معنا في باب الطهارة ، فهذا مجاور ملاصق ، فإذا صبت النجاسة في الزيت ، فالزيت ينفصل، لكنه يحكم بكونه متنجسا ، فالعلماء اختلفوا في هذا الزيت المتنجس بنجاسة المجاورة هل يمكن تطهيره أو لا ؟ فالذين قالوا إنه يمكن تطهيره وهو قول أيضا حتى في مذهب الشافعية والحنابلة قالوا يُطهّر بالغسل والطبخ ، كيف يغسل الزيت ؟! يغسل الزيت قالوا : أن تصب ماء أكثر من النجاسة التي وقعت ، وحينئذ ينفصل الماء عن الزيت فيسحب الماء ويبقى الزيت ، وهذا طبعا أهل الخبرة يفعلونه ، فإذا فُعل ذلك طهر الزيت ، لأن النجاسة لاصقت وجاورت طبقة الزيت العليا فإنها في هذه الحالة إذا سحبت بقي الزيت قد مس طاهرا بعد نجس ، وطُهّر بالمكاثرة فأصبح كما لو صب فيه الماء ثم سحب منه فإنه لا يضره ، هذا بالنسبة للغسل .
أما الطبخ فقالوا : إنه إذا وقعت النجاسة في الزيت يغلى الزيت ، فإذا غلى الزيت فإنه يتبخر ما فيه ، وحينئذ يبقى الزيت وتتبخر النجاسة ، فعلى القول بأن تبخُّر النجاسة طهارة وهو أصل عند بعض العلماء وعند الحنفية ، ومنها مسألة إذا بال في مكان ثم جاءته الشمس طهرته بالتبخر ، فحينئذ يحكم بطهارته .
إذاً الشاهد عندنا النجس العيني لا يجوز بيعه ، والمتنجس إما أن يقبل التطهير وإما أن لا يقبل التطهير، فإن قبل فلا إشكال ، وإن لم يقبل فحينئذ يحكم بعدم جواز بيعه فاختلف العلماء في بيع الزيت المتنجس من هذا الوجه .
إذا قلنا إنه يشترط في المبيع أن يكون طاهرا لم يصح بيع النجاسات ، وعليه فإنه لا يجوز بيع الزبل النجس ، وهي فضلة الآدمي، وفي حكمه السماد النجس الآن ، فإذا كان مستخلصا من النجاسة والعذرة أو من الصرف الصحي وهو نجس ووضع لاستصلاح النبات لم يجز بيعه ، وهو مذهب جمهور العلماء : المالكية في المشهور والشافعية والحنابلة -رحمة الله عليهم- ، إذاً يشترط في المبيع أن يكون طاهرا .(5/216)
الشرط الثاني : أن تكون فيه منفعة وهو ما يعبّر بعض العلماء بكونه مالا ، ومنهم من يقول أن يكون متقوِّما أي ذا قيمة شرعا ، بمعنى أن الشرع لا يسقط عنه المالية ، كما في آلات اللهو والأصنام ونحوها، فكونه أن يكون فيه منفعة ، فإذا كانت فيه منفعة جاز بيعه ، لكن الذي لا منفعة فيه إما أن يكون لقلته ، وإما أن يكون لخسّته وحقارته فلا يجوز بيعه ، طيب ما لا منفعة فيه لقلته مثل: حبة الرز حبة الأرز قليلة ، ولذلك ذكر العلماء -رحمهم الله- لو شخص قال : أبيعك حبة الرز هذه بنصف ريال ، نقول : إن هذا ليس محل بيع ، لأن حبة الرز ما فيها أصلا منفعة تذكر ، وعليه يقولون تنتفي المالية للقلة ، كحبة الأرز مثل حبة الدقيق وما أشبه ذلك ، أو تنتفي المالية للخسة، مثل: الحشرات فما من أحد يدفع ماله مقابل الحشرات وهي طاهرة، ولكن ليست لها قيمة ، فإن كانت هذه الحشرات فيها منافع مثل: الدود الذي يكون العلق الذي يسحب المكروبات من الجسم ونحو ذلك ، أو الحشرات التي تعطى غذاء للطيور جاز بيعها في قول بعض العلماء –رحمهم الله- ؛ لأنها أصبحت لها منفعة ولها قيمة، وهكذا إذا كانت علاجا مثل ما ذكرنا في العلق ، فهي وإن كان ليس لها منفعة في الأصل ، ولكن في أفراد الصور قد توجد فيها منفعة ، إذا قلنا يشترط في المبيع أن يكون فيه نفع خرج الذي فيه ضرر كالسم، فلا يجوز بيع السموم بجميع أنواعها ، لكن إذا بيع القليل منها للعلاج والتداوي جاز في قول جمهور العلماء -رحمهم الله- ؛ لماذا ؟ لوجود المنفعة فيها ، وهذا في بعض الأحوال والصور ، حتى كانوا يستخدمون قليل السم ترياقا ، فيأخذ قليل السم حتى إذا أوذي بالسم لم يضره السم ، وقد يفعل كما ذكر الإمام النووي -رحمه الله- أن يسقى به الكافر حتى يقتل فيشترى من أجل قتله في حال المحاربة ونحو ذلك في الصور التي توجد فيها حاجة عامة أو خاصة .(5/217)
الشاهد من هذا يشترط في المبيع أن تكون فيه منفعة ، أما إذا قلنا فيه منفعة ، فالمنفعة لابد أن تكون مقصودة ، بمعنى أن العقلاء يقصدونه ، فخرجت المنفعة التي يفعلها السفهاء يقول لك هذه منفعة، فتجد الرجل يشتري حيوانا محنطا بسبعمائة ريال ! أو يشتري ثعلبا محنطا بألف ريال أو حية محنطا بألف ريال ! ما هي المنفعة أن يأتي بثعلب ويضعه في بيته ؟! هل يوجد عاقل أو العقلاء يفعلون هذا؟! وما المنفعة أن يأتي ويضعه في سيارته كمنظر ؟! ما فيه منفعة يقصدها العقلاء ، إذاً يشترط في صحة البيع أن يكون فيه منفعة أو فيه نفع يقصده العقلاء ، يعني بمعنى أن يكون نفعا مقصودا .(5/218)
الشرط الثالث : أن يكون مملوكا للمتعاقدين كل بحسبه ، الشيء الذي يباع ويشترى يشترط في صحة بيعه وشرائه أن يكون مملوكا : أولا تدخله الملكية ، وثانيا : أن يكون الذي يتصرف فيه مالكا أو له وجه شرعي في هذا التصرف في البيع والشراء ، فإذا لم يكن مالكا له وليس له ولاية ولا عنده إذن ببيعه لم يصح بيعه، وفيه مسألة الفضولي وستأتي إن شاء الله ؛ الأصل في ذلك قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ومن باع أو اشترى مال أخيه بدون وجه حق فقد خالف نص الآية الكريمة ، إذًا لا يجوز أن يبيع ويشتري مال غيره ، وثبتت السنة بهذا في أحاديث منها حديث ابن عمر –- رضي الله عنه -- حسنه غير واحد في السنن أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه )) لا يحل وهذا يدل على حرمة البيع وعدم صحته ، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام كما في خطبة حجة الوداع : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ...)) الحديث ، فلا يصح البيع إذا باع الإنسان ملك غيره بدون إذن ولا وكالة ولا ولاية على ذلك المال وعلى ذلك الغير ، في هذا طبعا الأصل يشمل الثمن والمثمن ، فلو أن شخصا أخذ سيارة إنسان وقال: أريد أن أذهب بها إلى البيت ثم في الطريق باعها أو أعطاه عشرة آلاف ريال وقال له : خذ هذه العشرة ضعها عندك حتى آتيك فاشترى بها سيارة أو اشترى بها أرضا على أنها لهذا الشخص أو باع سيارة فإنه لا يصح البيع ولا يصح الشراء، والأدلة على هذا واضحة .(5/219)
أما الشرط الرابع : وهو أن يكون المبيع مقدورا على تسليمه ؛ لأنه إذا كان معجوزا عن تسليمه فقد غرّ البائع المشتري ، وغرر به أي باعه بيعا فيه خطر عليه ؛ لأن السلعة يحتمل أن يأخذها، ويحتمل أن لا يأخذها ، ويحتمل أن يحصل عليها ويحتمل أن لا يحصل عليها ، وهذا هو الغرر ، الغرر هو : بيع مستور العاقبة ، يعني يبيعه شيئاً مستورةً عاقبته ، يعني لا ندري هل يتحصل أو لا يتحصل عليه ؟ فإن كان معجوزا عن تسليمه فقد غرّره وهذا بيع الغرر ، ولذلك نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع السمك في الماء والطير في الهواء ؛ وهو حديث ابن مسعود المشهور وفيه كلام حسّنه بعض العلماء ، لكن الأدلة الشرعية دالة على عدم صحة بيع المعجوز عن تسليمه ؛ لحديث ابن عمر في الصحيح عنه –- رضي الله عنه -- : (( نهى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- عن الغرر )) والأصل في قوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } دال عليه لأنه إذا عجز عن تسليمه ولم يستلمه المشتري فقد أكل ماله بالباطل ، إذاً يشترط في صحة البيع أن يكون المبيع غير معجوز عن تسليمه ، وبعضهم يقول: مقدورا على تسلّمه وتسليمه.(5/220)
الشرط الأخير : وهو أن يكون معلوما ، والمعلوم طبعا بالتعيين وبالقدر وبالصفة ، بالتعيين فلا يصح أن يقول له : أبيعك سيارة من سياراتي ، وأبيعك أرضا من أراضيّ ، أو عمارة من عماراتي؛ لأنه إذا كانت عنده سيارات متعددة الصفات وقيمها مختلفة وقال له : أبيعك سيارة من سياراتي ظن المشتري أنها النوع الجيد ، فيصرفه إلى الرديء ويقول له : أنا أبيعك سيارة من سياراتي وهذه من سياراتي ، وهذا عين الغرر ، كذلك أيضا لو قال له : أبيعك شاة من غنمي كما في القديم ، والأصل في ذلك بيع الحصاة في بعض صوره فُسر بأن يرمي الحصاة على أي شاة تقع فيحتمل أن تقع على الجيدة ويحتمل أن تقع على الرديئة ، إذاً لابد أن يكون العلم بالتعيين ، يعيّنه إذا كان ردده بين أشياء ، فإن كانت الأشياء كلها بمستوى واحد عنده ثلاث سيارات، وكلها على صفة واحدة وقيمتها واحدة وقال له : أبيعك واحدة من هذه السيارات صح ، وفي زماننا قد تأتي مثلا لموديل معين من السيارات كالموديلات الجديدة وله ألوان مختلفة ، ولكن السعر واحد والصفات واحدة ، فيقول لك : أي واحدة من هذه السيارات لك بمائة ألف ، ردّدك ولم يعين إحداها ولكنها مستوية في صفاتها صح ، وسيأتي إن شاء الله ، شرط التعيين أن يكون العلم بالتعيين تزول الجهالة بالتعيين .(5/221)
كذلك أيضا بالقدر فيقول له : أبيعك من أرضي خمسة أمتار ، مائة متر في مائة متر ، يحدد الطول والعرض ، يحدد قدر المبلغ ، فلو جاءه بكيس من المال فيه ذهب أو فيه فضة وقال له: بعني سيارتك بما في هذا الكيس لم يصح ، لأنه مجهول القدر ، فلابد أن يحدد القدر ، والأصل في ذلك أيضا حديث : (( نهى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- عن الغرر )) لأنه إذا كان مجهولا فهو من بيع الغرر ، ولأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الحصاة ، وفي الجاهلية كانوا في بيع الحصاة يقول البائع للمشتري : أبيعك من أرضي ما انتهت إليه الحصاة بمائة ، ثم يأخذ الحصاة ويرميها فقد يكون المكان قريبا وقد يكون بعيدا ، وهذا عين الغرر ، إذًا يكون بالقدر وترتفع بتعيين القدر ، وكذلك أيضا بالصفة ، في الصفة طبعا أن يكون موصوفا هذا إذا كان غائبا ، بعضهم يقول : إنه لابد من الرؤية للمبيع يكون مرئيا إلا إذا كان يعرفه قبل هذا فلا إشكال، فلا يصحح بيع الغائب ، والجمهور على صحة بيع الغائب ، تقول: عندي أرض في المدينة على شارعين شارع كذا وكذا ، عندي مثلا سيارة وهي غير موجودة في مجلس العقد من موديل كذا، وسرعتها كذا، مشت كذا تعطيه الصفات ، عندي طعام مثلا تمر برحي أو سكري من السنة ، من العام الماضي ، فاخر، رديء ، وسط ، يصفه ، يصف المبيع ، يصفه بالوصف المعتبر سلما كما سيأتي بما ينضبط به في السَّلَم ، وبهذا الوصف بما ينضبط به في السلم لاشك أنه يخرجه عن الجهالة، وإذا وصفه وصفا معتبرا صح البيع وكان له خيار الرؤية ، وسيأتي إن شاء الله بيانه ، إذاً لابد في المبيع أن يكون معلوما ، ويعلم جنسه ، ونوعه ، وقدره وصفته بما يتميز به عن غيره ، بقي عندنا من هذه الأركان الثلاثة ركن الصيغة وهو صيغة عقد البيع ، البيع له صيغة والصيغة عند العلماء : هي الإيجاب والقبول ، لكن الإيجاب وحده لا يكفي، والقبول وحده لا يكفي، وهما لا يكفيان إلا إذا ارتبط أحدهما(5/222)
بالآخر ، ولذلك لما يقول العلماء الصيغة يعرِّفونها بقولهم : ربط الإيجاب بالقبول ، فإن كان على بيع فصيغة بيع ، وإن كان على إجارة فإجارة ، وإن كان على نكاح فنكاح إلى آخره ...، إذًا هذا الربط يشترط أن يكون على الإيجاب والقبول ، الإيجاب: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ، القبول: قبلت ، رضيت ، اشتريت ، هذا كله مبني على قوله بعت ، فارتبط الإيجاب بالقبول ، يشترط طبعا أن لا يقع الفاصل. أولا الصيغة تكون بالماضي ، وتكون بالمضارع وتكون بالأمر ، تكون بالماضي كقوله: بعتك سيارتي بعشرة آلاف ، ويقول الآخر : اشتريت ، تكون بالمضارع يقول له : أبيعك سيارتي بعشرة آلاف، والآخر يقول: أشتريها بعشرة آلاف هذا مضارع ، الأمر: بعني سيارتك بعشرة آلاف ، خذها بعشرة آلاف . هذه ثلاث صيغ ، أقوى هذه الصيغ : صيغة الماضي ، صيغة الماضي هي الصيغة القوية ووجه قوتها ؛ لأن التعبير بالماضي يفيد تحقق الشيء على وجه لاشك فيه ولا مرية ، ولذلك عبرت العرب بالماضي في إثبات الشيء وتحققه ، فليست هناك صيغة أقوى من صيغة الماضي ، ولذلك حكي الإجماع عليها وحدها لقوتها ، ومما يدل على قوة هذه الصيغة أن الله تعالى عبّر بها عن الشيء المستقبل فقال : { أتى أمر الله فلا تستعجلوه } فقال: أتى فيما سيأتي ؛ تحقيقا لوقوعه لأنه كابروا في الساعة وامتروا وشكّوا في بعث الناس بعد موتهم ، فجعل الله في ذلك كأنه وقع، لكي يستنبط ويعلم كل من يقرأ هذه الآية أن الوقوع متحقق حتى كأنه حصل وكان ، فلا شك فيه ولا مرية ، فالصيغة بالماضي هي أقوى الصيغ ، في المضارع إشكالات لأنه بعض الأحيان يقول : أتبيعني سيارتك ؟هل تبيعني سيارتك ، بكم تبيعني سيارتك ؟ إذا قال له : أتبيعني سيارتك ؟ قال : أبيعكها بعشرة آلاف ، يقول الآخر : قبلت ، إذا قال له : بكم تبيع سيارتك ؟ قال : بعشرة آلاف ، قال : قبلت ، هل يقع البيع ؟ الجواب : لا ، فيه خلاف ، أو قال له: بكم تبيع سيارتك ؟ قال : بعشرة(5/223)
آلاف ، بكم تبيع عمارتك ؟ قال : بمليون؟ بكم تبيع مزرعتك ؟ قال: بمليونين ، قال : قبلت ، بعض العلماء يقول : وقع البيع ، والصحيح أنه لا يقع البيع حتى يرد البائع ويقول: بعتكها بمليون؛ لماذا ؟ لأن قوله : بكم تبيع؟ سؤال يحتمل ممن يجيب أن يجيب على فرض لو أنه يريد أن يبيع ، لكنه ما يريد أن يبيع ، في بعض الناس يأتيك ويقول: سيارتك هذه بكم ؟ يعني لو كنت تريد أن تبيعها بكم تبيعها ؟ فتقول بعشرة آلاف ، بخمسة آلاف وأنت لا تريد البيع حقيقة ، وإنما تريد الإخبار ، ولذلك لا يكفي في الاستفهام بقوله: بكم تبيع؟ أن يقال بلزوم العقد ، وبخاصة على مذهب المالكية والحنفية الذين يقولون بلزوم العقد بمجرد الصيغة ، بالنسبة لصيغة عقد البيع طبعا هي ركن من أركان البيع ويقال إنها أقوى الأركان حتى إن الحنفية –رحمهم الله- يرون أن الصيغة وحدها هي الركن في هذه العقود وهي تستلزم طبعا الموجب والقابل ، وتستلزم محلا يرد عليه الإيجاب والقبول فاستلزمت بقية الأركان ، وهذا يعني طبعا خلاف بعض الأحيان حتى الجمهور لا يعبّرون هنا عبروا عن المتعاقدين ، لكن لما تأتي مثلا في الحج تأتي في الصلاة ، في الحج لما يقولون: أركان الحج مثلا الوقوف بعرفة ، طواف الإفاضة ، والسعي ، والإحرام، ما يقولون والحاج ، فلا يأتون بالفاعل ، واعتذروا عن هذا بأنه يستلزم ، ولذلك إن هذا الاستلزام كما يقع في العبادات يقع في المعاملات ، هذه أركان البيع الثلاثة التي لا يمكن أن يقع البيع إلا بها .(5/224)
إذا وجد العاقدان ووجد محل العقد وهو المبيع فإن البيع لا يقع ما لم يقع الصيغة ، والصيغة تكون قولية وتكون فعلية ، فصيغة الأقوال ما قدمنا بثلاثة أنواعها ، والصيغة الفعلية تكون من الطرفين أو من واحد منهما ، الصيغة الفعلية مثل أن تدخل بقالة فترى مثلا طعاما كالحليب كتب عليه بعشرة ريالات تأخذ الحليب وتمضي إلى المحاسب وتدفع العشرة ولا تتكلم ، فهو يأخذ العشرة وأنت تأخذ الحليب دون أن يقول: بعت ودون أن تقول: اشتريت ، هذا يسمى عند العلماء : بيع المعاطاة ، وبيع المراوضة ، بيع التعاطي ، وجمهور العلماء على انعقاد البيع به .
ينعقد البيع بما يدل
... على الرضى وإن تعاطى الكل(5/225)