فالرجل يخرج من بيته غافلا عن ربه ، بل إن من هناك من يخرج من بيته إلى صديقه وحبه ليقابله بالمسجد ، فنية مقابلته لحبه وصديقه قد تذهب معها الصلاة أو استشعار أنه ذاهب إلى الصلاة - نسأل الله السلامة والعافية- والمحروم من حرم ، فعلى المسلم أن يستشعر هذه الآداب الباطنة ، ومن أعظم الأعمال : أعمال القلوب ، وأعمال القلوب أسرار بين العبد وربه ، بها ترفع الدرجات ، وبها تلقى المحبة في قلوب المؤمنين والمؤمنات .
أعمال القلوب { إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً } فالله ينظر إلى قلوب العباد ، فسبحان مقلب القلوب والأبصار، فالإنسان يجدد النية ، وإذا أراد أن يخرج إلى الصلاة يستشعر عظمة هذه العبادة ، ومن هنا كان السلف الصالح - رحمهم الله - قبل أن يذهبوا أو يقولوا أو يتكلموا نظروا إلى قلوبهم . قال سفيان الثوري - رحمه الله - : (( ما وجدت أشد علي من نيتي ، إنها تتقّلب عليّ )) فالقلوب تتقلب ، ومن هنا قعد الشيطان للإنسان بالرصد في هذا الأدب العظيم ، وهو أدب الباطن : أن تكون نيته ومقصده وسبب خروجه والسبب الباعث لكي يخرج إلى المسجد وجه الله ، وابتغاء ما عند الله ، حتى إنه يتمنى من قرارة قلبه أو لو خرج إلى بيت ربه لا تراه عين ، ولا تسمع به أذنه ولا يخطر على قلب بشر أنه ذهب وأدى عبادة الله .
ومنهم من يذهب إلى المسجد فيؤدّي فريضة الله ، ثم يمرّ بالسوق فإذا قيل له أين كنت ؟ فيقول :كنت في السوق أشتري كله حياء وخجلا أن يدلي على الله بنعمته وبمنته - - سبحانه وتعالى - - .(2/237)
فالنية الخالصة هذا أدب باطن ، ومن الآداب : آداب ظاهرة ، مثل : عدم الإسراع في المشي ، وهو ما نهى عنه عليه الصلاة والسلام ، ومثل عدم التشبيك بين الأصابع إذا خرج إلى الصلاة ، لا يشبك بين أصابعه ، ومنها: الحرص على السكينة والوقار أثناء المشي ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أمر بذلك للأمة ، هذا كله ما جمعه قوله : [ باب آداب المشي إلى الصلاة ] ومن هنا نجد عناوين الفقهاء - رحمهم الله - ترتبط بالسنة .
قال : [ باب آداب المشي ] : لأن أكثر الأحاديث تعلقت بالمشي والخروج . لا يختص الأمر بالمشي ؛ لأن هناك الآداب تتعلق بمطلق الخروج ، ولكن المشي هو روح الصلاة وأساسها ، وإلا لربما كان الإنسان محمولا ، ولربّما أخذ بعربيته ، فاجتهد أن يصل إلى بيت من بيوت الله - - عز وجل - - ، فكل هذه الآداب التعبير بالمشي يراد به مراعاة السنة الواردة عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ، وإلا فالآداب ما تختصّ بالمشي ، وإنما تشمل الظاهرة والباطنة .(2/238)
[ يستحبّ المشي إلى الصلاة بسكينة ووقار ] : يستحبّ المشي إلى الصلاة بسكينة : من سَكَن الشي إذا لم يتحرك ، والعبد الخاشع يستديم السكون ، ويقول المصنف - رحمه الله - : [ يستحبّ المشي إلى الصلاة بسكينة ] أي لا يمشي مشي العجل، ومشي القلق ، وإنما مشي الهوينة؛ كما أثنى الله - - عز وجل - - على أوليائه وصفوته من عباده ؛ فقال سبحانه : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً } والمشي على الأرض هونا وسكينة يدل على كمال عقل الإنسان ، وكان يستدلون على رجاحة عقل الإنسان وثقله ورزانته بمشيه ، فإن المشي قد يدل على خفة العقل ، مثل : الإسراع في المشي ، واستدامة الهرولة ، ونحو ذلك هذا يدلّ على خفة الإنسان ، ما لم يكن سبب داع إلى ذلك ؛ فإن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أسرع كما ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - في المواطن التي تدعو إلى الإٍسراع ، لكن الأصل العام أن السكينة تدل على العقل والرزانة ، وقد يسرع الإنسان إلى مجلس علم ، وقد يسرع للقاء محب ، فيهرول له احتفاء لإظهار الاحتفاء ، ومن هنا الإسراع في مواطن يليق بها الإٍسراع محمدة ، والخمول والتواني والهوينة في مواطن تقتضي الإسراع مذمّة ، فلو أن إنساناً مقبلاً على مجلس علم أو مقبلاً على مكان فيه يريد أن يحصل فيه أمرا فيه سعادة دينه فأقبل بجد ونشاط وهمة دل على ذلك على شرف المقصود ، والعكس بالعكس ، لكن في هذا الأصل وهو ذهابه للمسجد أن يمشي بسكينة ووقار؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( وأتوها ، وعليكم السكينة )) فقال : (( اتوها وعليكم السكينة )) أمر من النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ندب فيه الأمة إلى أن تأتي بسكينة .(2/239)
وقوله رحمه الله : [ بسكينة ووقار] : الباء للمصاحبة ، أي مصاحبا للسكينة ، ومصاحبا للوقار، وقال: [ الوقار] : من وَقَر الشيء إذا سكن أيضا ، وقيل: السكينة في الأفعال ، والوقار في الهيئة والسمت والدلّ ، فلا يدمن التلفت ، ولا يدمن إظهار الأفعال من تحريك يديه ، ونحو ذلك مما تليق بالحال الكامل ، وبحال المقصد الشريف الذي يذهب إليه .
[ ويقارب بين خطاة ] : ويقارب بين خطاة ؛ لتكثير الأجر، وهذا يقتضي أن يكون المشي قليلا لا سريعا ، وورد في هذا حديث زيد بن ثابت - - رضي الله عنه - - عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما قارب بالخطى ، وعلّل ذلك بعظم الأجر فالمقاربة بين الخطى تزيد من الأجر والثواب .
[ ولا يشبّك أصابعه ] : ولا يشبّك بين أصابعه بأن يدخل بعض الأصابع في بعض ، والتشبيك في الأصابع له ثلاثة أحوال :
إما أن يكون قبل الصلاة ، وإما أن يكون أثناء الصلاة ، وإما أن يكون بعد الصلاة ، فهذه ثلاثة أحوال للتشبيك بين الأصابع .
فأما التشبيك بين الأصابع قبل الصلاة ، وأثناء الصلاة ؛ فمنهي عنه شرعا ، وقد قيل : إنه من أحوال اليهود في صلاتهم ، ونهي عنه ؛ لعدم مشابهتم ، وقالوا : إن التشبيك من اشتباك الأمور، وكره من هذا الوجه ، ولكن السنة ثابتة عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالنهي عن التشبيك بين الأصابع إذا خرج إلى الصلاة قال : (( إذا عمد أحدكم إلى المسجد فلا يشبّكنّ بين أصابعه فإنه في صلاة )) فلما قال : (( فلا يشبّكنّ بين أصابعه فإنه في صلاة )) دل على أن العلة في النهي عن التشبيك بين الأصابع كونه في صلاة ، ومن هنا أخذ العلماء منه الحكمين: أنه لا يشبك أثناء ذهابه إلى الصلاة ؛ لأن الحديث نصّ على هذه المسألة، ولا يشبّك أثناء صلاته ؛ لأنه نهي عنه قبل الصلاة؛ لأنه في حكم المصلي ، ولهذا جمع الحديث النهي عن الأمرين ، فلا يشرع له أن يشبك قبل الصلاة ، ولا أثناء الصلاة .(2/240)
قبل الصلاة وهو خارج من بيته ، أو مثلا صلى تحية المسجد وجلس ينتظر إقامة الصلاة لا يشبك بين أصابعه ، وكثير من الناس - إلا من رحم الله - يغفل عن هذا فتجده إذا انتهى من السنة الراتبة شبك بين أصابعه ، فالتشبيك منهي عنه شرعا قبل الصلاة ، وأثناء انتظار الصلاة ، وأثناء فعل الصلاة .
وأما بعد الصلاة ؛ فإنه إذا قضيت الصلاة لا بأس أن يشبك ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة )) فدل على أن النهي لكونه في حكم المصلي، ومن باب أولى إذا كان مصليا، فيفهم من ذلك أنه إذا لم يكن في صلاة شبك بين أصابعه؛ وثبتت بهذه السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - أنه قال : (( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه )) صلوات الله وسلامه عليه وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - - رضي الله عنه - - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما صلى بالناس إحدى صلاتي العشي - والشك من الراوي - قال : (( فسلم من ركعتين ، ثم قام إلى جذع ، فشبك بين أصابعه كالغضبان )) فهذا بعد الفراغ ؛ لأنه يظن أن الصلاة انتهت ، فدل على جواز التشبيك بعد الصلاة ، وإن كان قد وقع منه عليه الصلاة والسلام بين الركعتين الأوليين والأخريين لكن لظن انتهاء الصلاة فدل على جواز التشبيك بين الأصابع بعد الانتهاء من الصلاة .(2/241)
[ ويقول : بسم الله الذي خلقني فهو يهدين الآيات ... إلى قوله إلا من أتى الله بقلب سليم ] : بسم الله لأنه لا أبرك من اسم الله - - عز وجل - - ، فما كان في قليل إلاّ كثّره ، ولا كان في يسير إلا باركه ، ومن قال : بسم الله حفظ من الله ؛ ولذلك قال - سبحانه وتعالى - : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّك }وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( وتبارك اسمك )) ، فالبركة موجودة في اسم الله - - عز وجل - - ، ومن قال : بسم الله فرّ الشيطان عنه ، وخسئ عدو الله ، وضعف سلطانه على الذاكر لله- - عز وجل - - باسمه المبارك ، ومن هنا شرع الله التسمية ؛ دفعا للسوء ، ودفعا للضرر، وطلبا للبركة والخير، ودفعا للشيطان ، ومن هنا شرعت التسمية عند الأكل والشرب ، وشرعت التسمية في الركوب ، حتى حكى الله عن نبيه نوح : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } .
وهذه التسمية شرعت في كثير من أعمال المسلم ؛ لما فيها من البركة والخير.
وقوله : بسم الله ثبت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه ذكر اسم الله عند الخروج عموما - عليه الصلاة والسلام - أنه ذكر اسم الله - - عز وجل - - ، وكذلك في حديث أم سلمة أنه إذا أراد أن يخرج قال : (( بسم الله توكّلت على الله اللهمّ أعوذ بك أن أَضلّ أو أُضل أو أَزلّ أو أُزلّ أو أَجهل أو يُجهل عليّ )) فهذا يدل على مشروعية التسمية عند الخروج ، فيكون عند الصلاة آكد .(2/242)
وقوله : [الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ - وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ - وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ - وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ - وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ - رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ - وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ - وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ - وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ - يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ] : هذه طبعا كلمات إبراهيم الخليل - عليه السلام - وذكرها الله - - عز وجل - - في سورة الشعراء ، ولكن لم يثبت عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، ولم يثبت دليل شرعي بذكر هذه الآيات عند الخروج ؛ ولذلك لا يشرع ذكرها ؛ لأن تخصيص الذكر من القرآن أو من الأذكار ، أو العدد المعين بالزمان المعين على الوجه المخصوص لا يكون إلا بدليل ؛ لأنّ الغالب أن الأصل في الناس أنهم لا يفعلون ذلك إلا قربة لله - - عز وجل - - ، ولا يكون التقرب إلا بما شرعه الله - - عز وجل - - ، نعم لك أن تقول هذه الآيات ، وتدعو الله - - عز وجل - - بدعاء الخليل عليه السلام في أي وقت شئت، لكن إذا قال: قُلها عند الخروج ، قُلها عند الدخول ، قُلها عند الاختبار، قلها عند الضرر؛ حينئذ خصص والشرع عمم ، وجعل لنا أن نأتسي بالأنبياء ، وأن نقتدي بهم { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فما ورد عنهم من الهدى نهتدي بهم ، وما كان مطلقا أطلقناه ، وإن كان مقيدا قيدناه بما قيده به الشرع؛ ولذلك لا وجه لتخصيص هذه الآيات ، وذكرها عند دعاء الخروج .(2/243)
[ ويقول : اللهم إني أسألك بحقّ السائلين عليك ] : ويقول : اللهمّ إني أسألك بحقّ السائلين عليك . الباء للتعدية : أي اللهم إني أسألك حق السائلين عليك ، ولذلك الفعل : سأل يتعدى بنفسه ، ويتعدى بحرف الجر، والمراد هنا أسألك بحق السائلين عليك ؛ لأن الله - - عز وجل - - جعل الإجابة لمن سأله ؛ فقال سبحانه : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } وقال : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم } . والله - - عز وجل - - ليس عليه حق ، ولكنه تكرم سبحانه وتفضّل ، وجعل ذلك للعبد إذا سأله مخلصا موقنا من قلبه قائما بحق السؤال وحقوقه أن يستجيب له سبحانه ، فهذا حق السائل ، وعلى هذا يكون المراد به أنه يسأل الله الإجابة ، ويرجوه ويؤكد هذا السؤال بأن الله - - عز وجل - - أخذه على نفسه - - جل جلاله - - كما أخبر في كتابه-سبحانه - فيقول : اللهم إني أسألك حق السائلين عليك أي أسألك أن تعطيني ما وعدته السائل من إجابة الدعاء .
[ وبحق ممشاي هذا ] : وبحق ممشاي هذا إليك : المراد به الممشى إلى الصلاة ، وحينئذ يكون من باب التوسل بالعمل الصالح ، فإن التوسل إلى الله - - عز وجل - - بالأعمال الصالحة مشروع ، وليس بممنوع ،كأن يتوسل إلى الله بالإيمان به ، ويتوسل إلى الله - - عز وجل - - بفعل الصلاة والزكاة والصوم والحج والصدقات وبر الوالدين وصلة الرحم وتفريج كربات المكروبين ... فيقول : اللهمّ إني أسألك ببري لوالدي ، اللهم إني أسألك برضا والدي عني - يعني بما فعلت من طلب رضاهما - ، ونحو ذلك ؛ كل هذا مما ثبتت به الأدلة ، ومنها : حديث الثلاثة في قصة الغار ، وهذا هو التوسل المشروع .(2/244)
والمسلم يتأمل وينظر ليس هناك أعظم ولا أكبر ولا أجل - بإجماع العلماء كلهم - وسيلة أعظم عند الله - - سبحانه وتعالى - - ولا زلفى أعظم من أسماء الله وصفاته ، ومن سأل الله - - عز وجل - - بالأسماء الحسنى والصفات العلى ؛ فإنه قد سأل الله - - عز وجل - - بالعظيم الذي لا أعظم منه ؛ لأن أسماء الله - - سبحانه وتعالى - - وصفاته هي التي أمرنا أن ندعو بها، { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } ، فحينئذ يبحث المسلم عن أعظم وأجل وأكبر ما يكون من القربة والوسيلة إلى الله وهو أسماء الله وصفاته .
وكذلك أيضا يتوسل إلى الله بالأعمال الصالحة ؛ لثبوت السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بهذا .
والتوسل بالأعمال الصالحة يزيد من الإيمان بالله - - عز وجل - - ؛ لأنها لن تكون صالحة إلا إذا كانت قربة لله - - عز وجل - - فهو إذا سأل الله ببره لوالديه رأى أن الأمر كله راجع إلى الإيمان بالله ؛ لأنه إذا سأل الله ببره لوالديه ؛ فاستجاب الله دعاءه ، وفرج كربه ، ولطف به ؛ فإن هذا معناه الإيمان بأن الله - - سبحانه وتعالى - - يحب هذا العمل الصالح وهو بر الوالدين وهذا يدعوه إلى أن يطيع الله - - سبحانه وتعالى - - ، وأن يستكثر من أعمال الخير، ويزيد من صلته بالله - - عز وجل - -.(2/245)
فالمكروب إذا فرج كربه بسبب تعلق قلبه كطبيعة بشرية بذلك السبب لا أن السبب هو المؤثر، ولكن ينظر إلى أهمية هذا السبب فهو إذا وجد الأعمال الصالحة زلفى وقربة بينه وبين الله ، والله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } فإذا نظر إلى الأعمال الصالحة كيف تكون خيرا له في دينه ودنياه رجى عند الله - - عز وجل -- ما هو أعظم في آخرته ، فهذا هو التوسل المشروع : أن يتوسل إلى الله - - عز وجل - - بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وبالأعمال الصالحة ؛ لثبوت السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بذلك .
[ فإني لم أخرج أشرا ] : فإني لم أخرج أَشَرا وأَشِرا ولا بطرا أَشَرا ولا بَطَرا أشِرا ولا بطِرا كلاهما ذكرهما العلماء - رحمهم الله - لم أخرج أشرا : الأشر قيل هو أشد البطر، والبطر: كفران النعمة ، فالرجل الأشر والبطر هو الكافر بنعمة الله - - عز وجل - - ، وجاء في حديث الزكاة : (( ولم يتخذها أشرا )) يعني بطرا وكفرانا لنعمة الله - - عز وجل - - والبطر هو :كفران النعمة . البطر: كفران النعمة ، فالبطران هو الكافر لنعمة الرحمن ؛كما قال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } . أي أنهم كفروا نعمة الله - - عز وجل - - كما قال تعالى : { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } فبين أن أسباب هلاك القرى إنما هو كفران النعمة ، وبيّن في الآية الأخرى وصفهم بالبطر،فدل على أن البطر هو كفران النعمة ، وبهذا فسر الإمام ابن الأثير - رحمه الله برحمته الواسعة .(2/246)
[ولا رياء ] : أي لم أخرج رياء أي أقصد أن يراني الناس ، فهو خرج للصلاة والعبادة ، والمنافقون هم الذين يخرجون ويصلون ويقومون بالصلاة رياء { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } نسأل الله السلامة والعافية .
[ ولا سمعة ] : ولا سمعة : طلبا أن يسمع الناس أنه خرج ، لم أخرج رياء ، ولا سمعة ، لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا رياء : تقدير لم أخرج رياء ولا سمعة ، فهو خرج من بيته والجنة والنار بين عينيه ، فيناجي ربه أنه لم يخرج من أجل أن يراه الناس ، ولذلك لن يكون صادقا في هذه الكلمة إلا إذا تمنى أنه يذهب إلى المسجد ويرجع دون أن يراه أحد ، وعندها يستوي مدح الناس وذمهم ، ويستوي علم الناس به وجهلهم بحاله ، بل إن من عباد الله الصالحين من يكره أن يطلع على العمل الصالح منه ، بل حتى ربما اتهم نفسه أنه لم يصدق مع الله - - عز وجل - - حتى ابتلي بنظر الناس إليه ، بخلاف - والعياذ بالله - من يعمل الأعمال وهو يريد أن يراه الناس ، فيخرج مبكرا إلى الصلاة ؛ لأنه يعلم أن في طريقه قوما يرونه ، فإذا رأوه أثنوا عليه بالصلاح ، وقالوا ما شاء الله فلان مبكر إلى الصلاة ، ثم اليوم الثاني إذا قيل له : والله سمعنا جارك يقول : إنك ما شاء الله محافظ على الصلاة ، وأنك تخرج مبكر اهتز قلبه ، وانشرح صدره ،(2/247)
وفرح { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } وما علم المسكين أنه بهذا قد أحبط عمله ، وأنه قد أذهب أجره ؛ لأنه خرج لمدح الناس ، ولأجل أن يراه الناس ، ولأجل أن يذكره الناس ، لا لله - - عز وجل - - ، فهذا شأن أهل الحرمان - نسأل الله السلامة والعافية - ، ولذلك إذا أراد الله بعبده خيرا هيأ له كل أسباب الإخلاص ، وكل أسباب التوجه إلى الله - - سبحانه وتعالى - - بعدم طلب الرياء ، بعدم محبة الرياء ومحبة السمعة ، بعدم طلب الرياء أن يراه الناس ، وبعدم محبة السمعة : (( ومن راءى راءى الله به ومن سمّع سمع الله به )) يعني من عمل العمل الصالح من أجل أن يراه الناس راءى الله به يوم القيامة ، وفضح على رؤوس الأشهاد ؛كما أخبر - سبحانه وتعالى - عن اليوم الذي يبعثر فيه ما في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور، إن ربهم بهم يومئذ لخبير، فالكذب على الناس يقع في الدنيا ، ولكن في الآخرة أبدا { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } ، { بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ } ويحصل ما في الصدور، من : رياء ، وسمعة ، وطلب للجاه ، فإذا خرج إلى الصلاة ينزع من قلبه ، خرج إلى الصلاة ينزع من قلبه هذا أن يراه الناس ، أو يسمع بخروجه ، ولا يفرح بذلك بل يكره ذلك ويتمعر ويتألم ويخاف على نفسه ، ولذلك أهل الجهل - نسأل الله السلامة والعافية - يريد أن يمدح ، حتى بما لم يفعل كما أخبر الله - - عز وجل - - ، وأن هؤلاء لا تحسبنهم بمفازة من العذاب الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا - نسأل الله السلامة والعافية - بل إن الجهلة الذين يجهلون الله - - عز وجل - - وبعض العوام يقع منهم شيء عجيب من هذا فنسأل الله السلامة والعافية .(2/248)
[ خرجت اتقاء سُخْطك ] : خرجت اتقاء سُخْطك وابتغاء مرضاتك : السَّخط والسُّخط - والعياذ بالله - هو أشد ما يكون من عقوبة الله لعبده ، فإن الله إذا سخط عبده مقته ، وأصبح ممقوتا عند خلقه وعباده ، ونزع الرضا والمحبة له من قلوب الخلق ، فأظلم قلبه وقالبه - والعياذ بالله - ، ومن سخط الله - - عز وجل - - عليه في الدنيا والآخرة كان من الهالكين ، أي خرجت اتقاء سَخَطك ، وسُخْطك رواية ابن ماجه.
خرجت اتقاء سخطك : قيل المراد به : دخول النار، وأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ذكر هذا لبيان أنه يطلب مرضاة الله - - عز وجل - - ، ويطلب النجاة من غضبه وعقابه بالنار، فقال : اتقاءه : الاتقاء أي أجعل هذا الخروج وقاية لي من سخطك ، وفي هذا دليل على فضل الخروج إلى المسجد ؛ لأن هذا أصله حديث حسنه الحافظ ابن حجر وغيره وإن كان في رواية ابن ماجه ضعف حتى قال صاحب الزوائد إنه مسلسل بالضعفاء ، لكن له شواهد .
الشاهد أن قوله: اتقاء سخطك : أي أجعل هذا الخروج وقاية لي من سخطك ، وهذا يدل على فضل الخروج إلى الصلاة ، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات:كثرة الخطا إلى المساجد )) فالخروج إلى المساجد له فضيلة عظيمة، ومنها: أنه يتقي به العبد سخط الله-- عز وجل --(2/249)
وفيه دليل أيضا على أن العمل الصالح وقاية للعبد من سخط الله ، فكما أن العمل السيئ طريق إلى سخط الله - - عز وجل - - نسأل الله السلامة والعافية - نسأله بعزته وجلاله أن ييسرنا لليسرى ، وأن يجنبنا السوء والعسرى ، فقال : خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك : فالعبد ما بين الرغبة والرهبة ، والرغبة فيما عند الله ، والرهبة هو الخوف من عذاب الله وسخط الله ، وهذا هو حال السلف وحال الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن بعدهم أنهم عبدوا الله - - عز وجل - - طلبا لجنته ، وخوفا من ناره ؛ خلافا لمن يقول : يعبد الله لذاته ، وإنما يعبد الله - - عز وجل - - اتقاء سخطه وابتغاء مرضاته ، وهذا ما أثنى الله - - عز وجل - - به في كتابه في أكثر من آية على عباده الصالحين أنهم { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ، فهم يخافون من عقاب الله وعذابه، ويرجون رحمته . فالشاهد من هذا أنه بين أنه يرجو رحمة الله ، ويخشى عذابه .(2/250)
[ وابتغاء مرضاتك ] : قوله : اتقاء سُخْطك ، وابتغاء مرضاتك : هما جناح السلامة : الخوف والرجاء، لا يمكن للإنسان أن يكون خائفا لا يرجو، ولا راجيا لا يخاف ، فمن فعل ذلك فقد هلك ، فمن رجا هذا حال الآمنين من مكر الله - - عز وجل - - ، وقال : لا خوف ، فإنه يسترسل في حدود الله ومحارم الله ويقول : ربك غفور رحيم الله - - سبحانه وتعالى - - ،كريم عفو ! فهذا حال أهل الرجاء الذين لا ينظرون إلا في الرجاء فيما عند الله وليس لهم لله – - عز وجل - - في قلوبهم هيبة ولا خوف ، إن الله - - سبحانه وتعالى - - يردعهم ويكفّهم عن معاصي الله ، وإما أن يكون على خوف ، فيذكر النار، ويذكر القبر، ويذكر الجحيم، ودائم الاشتغال بعذاب الله - - عز وجل - - وينسى رحمته التي وسعت كل شيء ، وينسى حلمه ، وكرمه ، وجوده ، وإحسانه ، وبره ، ولطفه بعباده ، وعندها يكون من القانطين ، بل المنبغي الأمران،كما قال أئمة السلف : هما جناح السلامة ، يطير بهما المؤمن ، ويطير بهما ولي الله إلى الله ، بالخوف والرجاء ، فإذا أرادت النفس أن تأمن من مكر الله - - عز وجل - - وغلبت جانب الرجاء ردعها بالخوف ، وذكّرها نارا تلظّى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، وأوقفها على نار الله ، حتى كأنها تنظر إلى جحيمها وزفيرها ، وإذا خافت ووجلت وأصبح القبر بين عينيها ، وصارت إلى الأعمال الصالحة ؛ فقد نجت فإذا زاد الخوف ، وأصبح ينسى رحمة الله - - عز وجل - - ، ويغفل عن رحمة الله - - عز وجل - - تذكّر سعة رحمته - - سبحانه وتعالى - - ، وأنه ألطف به من والده ، ومن ولده ، ومن الناس أجمعين .(2/251)
فإذا لابدّ من الأمرين : الخوف والرجاء ، ومن جمع بينهما فقد فاز فوزا عظيما ، ومن هنا قال : اتقاء سُخْطك وابتغاء مرضاتك ، ولن تجد في كتاب الله - - عز وجل - - خوفا إلا قرن برجاء ، ولن تجد رجاءً إلا قرن بخوف ، ولن تجد رحمة إلا قرنت بعذاب ، ولا جنة إلا بنار، ولا نار إلا بجنة ، حتى يكون العدل الذي قامت عليه ، وتقوم عليه السماوات والأرض ويصلح به حال العبد في الدنيا والآخرة . فقال : اتقاء سُخْطك وابتغاء مرضاتك .
[ أسألك أن تنقذني من النار ] : أسألك أن تنقذني من النار : ولا يمكن لأحد أن ينجو من نار الله إلا بالله ، وما من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر إلا وسأل الله من قرارة قلبه أن ينجيه من النار { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز } أسألك أن تنقذني من النار ؛ لأنه لا يمكن أن ننجو من النار بحولنا ولا بقوتنا ، ولكن الله سبحانه هو الذي ينجي من ناره ، ومن سخطه ومن غضبه ، فقال : أسألك ، ولا يسأل سواه ، ولا يمكن أن يحقق رجاء العبد إلا هو - - سبحانه وتعالى - - .
أسألك أن تنقذني من النار ، فنسأل الله العظيم أن يكتب لنا ولكم ذلك .
[ وأن تغفر لي ذنوبي ] : وأن تغفر لي ذنوبي : والغفر أصله : الستر ، وغفران الذنوب كأن الله إذا محا عن العبد ذنبه ، أصبح الذنب وجوده وعدمه على حد سواء ،كأن لم يكن ، ولذلك عُبّر بالمغفرة .
أسألك أن تغفر لي ذنوبي: هذه السنة أن يسأل الله -- عز وجل -- المغفرة والعفو والصفح ، وما أكثر ذنوب العبد ، وإلى الله المشتكى، ومن هنا قال - - صلى الله عليه وسلم -- : (( إن تغفر اللهم تغفر جماً، وأي عبد لك ما ألمّ )) .(2/252)
[ إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ] : إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت : فلا تغفر الذنوب بحول الإنسان ولا بقوته، ولكن تغفر بالله -- سبحانه وتعالى -- وحده، وهذا كما أشار إليه في الحديث الآخر حديث أبي بكر -- رضي الله عنه -- : (( اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) وقال تعالى : { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ } من : بمعنى لا ، أي ولا يغفر الذنوب إلا الله ، وقال ولا يغفر الذنوب إلا أنت - سبحانه وتعالى - .
قال رحمه الله : [ فإن سمع الإقامة لم يسعَ إليها ] : فإن سمع الإقامة لم يسع : يعني لم يشتد في مشيه .
قال رحمه الله : [ لقول رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - : (( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ، وأتوها وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا )) ] هذا الحديث في الصحيحين ، وجاء من حديث أبي هريرة وحديث أبي قتادة - رضي الله عن الجميع - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - نهى عن الإسراع عند الإقامة ، إذا أقيمت الصلاة نهي عن الإسراع هذا يدل على أن من كان خارج المسجد يسمع الإقامة ، وهذا يدل على أن قفل المكرفونات ( مكبرات الصوت ) عند الإقامة مخالف للأصل ؛ لأنهم لو كانوا لا يسمعون الإقامة ما قال : (( فإذا أقيمت فلا تأتوها وأنتم تسعون )) لأن هذا خطاب لمن هو خارج المسجد وليس لمن هو بداخل المسجد ، ومن هنا كان بعض العلماء يقول : إن بلالا كان يقيم عند باب المسجد، وهو إحدى الأوجه عند العلماء - رحمهم الله - في إقامة بلال ، وحملوا عليها قوله : (( لا تسبقني بآمين )) لأنه كان يقيم عند باب المسجد ويبادر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالتكبير، وهي المسألة المعروفة في متى يكبر الإمام تكبيرة الإحرام ؟(2/253)
الشاهد من هذا أن المصنف - رحمه الله - بيّن هذا الأدب وهو عدم الإسراع في المشي إذا سمع الإقامة، وهو صريح السنة عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - نهى عن الإسراع . وبه قال طائفة من أئمة السلف من الصحابة - رضوان الله عليهم - والتابعين ، وكرهوا أن يسعى الإنسان عند سماع الإقامة .
ورخّص بعض العلماء في السعي عند سماع الإقامة ؛ لإدراك تكبيرة الإحرام السعي القليل ، بحيث يكون قريبا من الصفوف ، فيشتدّ قليلا دون أن يكون شكله وهيئته مخالفا للأصل ؛ واحتجّوا بحديث النسائي عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما كان في قباء ، وعجل إلى صلاة المغرب ، فسمع الإقامة ، ومر بالبقيع فأسرع رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - للصلاة أي لصلاة المغرب .
ومن هنا جاءت الرواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- ، وأيضا عن بعض الصحابة -رضوان الله عليهم - : منهم عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه وأرضاه - أنه كان ربما خفّ قليلا عند الإقامة ، يعني إذا كان قريبا من الصف أو نحو ذلك ، ولكن ظاهر السنة المنع .الإسراع النسبي الذي ليس فيه هرولة يمكن أن يحمل عليه ما ورد من السنة ، وما ورد عن الصحابة - رضوان الله عليهم - ؛ جمعا بين النهي الذي فيه السعي وهو الهرولة ؛ لأنه لا تأتوها وأنتم تسعون أي الهرولة .
وأما الإسراع النسبي فإنه لا يعتبر من الهرولة ، ومن هنا يحمل فعل الصحابة - رضوان الله عليهم - على هذا الوجه أو نبقى على السنة ونقول بعدم الاشتداد ، ونقول ما فعله الصحابة يحتمل أنه لم يبلغهم الحديث عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وهذا أحوط وأسلم .(2/254)
قال رحمه الله : [ وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ] : وإذا أقيمت الصلاة : فلا يسعى ، وإذا أقيمت الصلاة فلا يصلي غير المكتوبة ، إذا أقيمت الصلاة فلا يسعى هذا عند الإقامة ، فهل إذا أذّن المؤذن يكون الحكم كذلك ؟ لو أن شخصا سمع الأذان وهو في بيته وخرج وأسرع من أجل أن يدرك الصف الأول قبل الإقامة .
من أهل العلم من قال : نهى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - عن الإسراع عند الإقامة فمن باب أولى عند الأذان ، وذلك من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه ، وهذا معنى صحيح ، ولأن المعنى في كلتا الحالتين واحد ، ومن هنا قال: (( فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة )) فدل أن المقصود أن يأتي الصلاة وعليه السكينة، وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ، هذا هو حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - : (( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة )) وقد دخل عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح في صلاة الفجر، ورأى رجلا استفتح الصلاة بعد الإقامة ، فلما سلم عليه الصلاة والسلام ، قال : (( يا هذا بأي الصلاتين اقتديت أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا )) انفتل عليه الصلاة والسلام من صلاة الصبح ، وقد رأى رجلا صلى بعد الإقامة ، فجاء وسارّ الرجل ، فأقبل الصحابة على الرجل ، وقالوا له ماذا قال لك رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ؟ قال : قال لي : (( يوشك أن يصلي أحدكم الصبح أربعا )) فهذا كله من الإنكار منه - عليه الصلاة والسلام - لمن يصلي النافلة منشغلا بها عن الفريضة والمكتوبة .(2/255)
أما لو أقيمت فلا يجوز له أن يبتدئ بتكبيرة الإحرام للنافلة بعد الإقامة ، بمجرّد ابتداء الإقامة يحرم عليه أن ينشئ صلاة غير الصلاة المكتوبة ، فلا ينشئ تحية المسجد ، ولا ينشئ رغيبة الفجر، وإن كان بعض أهل الرأي يقول إنه يصلي رغيبة الفجر ولو كان الإمام في الركعة الأولى ، وهذا من أشد ما يكون مخالفة للسنة ، ولهدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، فعلى هذا يأتسي برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، ويتقيد بالوارد ، فإنه إذا أقيمت الصلاة لا صلاة إلا المكتوبة، وعلى هذا لو أنه أحرم بصلاة الظهر قضاء ، بين الأذان والإقامة ، فأقيمت صلاة العصر لزمه أن يتم المكتوبة ؛ لأن الظهر مكتوبة ، وكما أن العصر مكتوبة ، فيتمها ثم يدرك الجماعة .
قال رحمه الله : [ وإذا أتى المسجد قدم رجله اليمنى في الدخول ] : أما بالنسبة لمن أقيمت عليه الصلاة وهو في صلاة النافلة ففيه تفصيل :
من أهل العلم من قال لا يقطع صلاة النافلة بل يخففها ، ويدرك صلاة الفريضة .
ومنهم من قال : إذا غلب على ظنه أنه يدرك الإمام في ركوعه ، وقيل : في تأمينه فإنه يتم الصلاة النافلة، ثم يدركه ، وقالوا إنه لا يقطعها لقوله سبحانه : { وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } والصلاة عمل ، وقوله فإذا صلى لا يقطع صلاته ، بل عليه أن يتم الصلاة ، وهو مذهب من يقول إن الشروع في النوافل يصيرها فرائض على ظاهر هذه الآية الكريمة ، ومنها الصلاة . فقالوا : لا يقطع .
والصحيح أنه إذا غلب على ظنه ركوع الإمام أنه يقطع ، ويدخل ، أما إذا كان قريبا من التسليم ؛ فإنه يتم. أيضا يرد السؤال : إذا أراد أن يقطع ، وكان في نافلة فهل يقطع هكذا أو يقطع بالتسليم ؟(2/256)
سبق أنْ بينا : أن السنة إذا أراد أن يقطع صلاته أن يسلم منها ، إلا إذا أحدث ، إذا أحدث بطلت صلاته ، لكن إذا كان في صلاته وأقيمت عليه الصلاة ، وأراد أن يدرك الفريضة ؛ فإنه يسلم ، ويكتب له أجر ما عمل؛ ذلك أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )) فلمّا قال : (( تحريمها التكبير )) دل على أن كل من كبر تكبيرة الإحرام لا يخرج منها إلا بالسلام ، وقوله - - صلى الله عليه وسلم - -: ((تحريمها التكبير)) دل على أنه في حرمة ومن كان في حرمة لا يخرج عنها إلا بمحل ، ثم قال - - صلى الله عليه وسلم - - : (( تحليلها التسليم )) وهذا عام ، تامة أو ناقصة، ومن هنا يسلم ، وهذا مذهب جمهور العلماء - رحمهم الله - والأئمة ؛ خلافا لبعض أهل الرأي الذين قالوا إنه يخرج منها بصنعة ولا يسلم ، يعني يعتبر كأنه خرج وينوي في قرارة قلبه الخروج فقد خرج ، وهذا ضعيف ؛ لأنه دخل إلى الصلاة بنية ، وهي باطن ، وظاهر وهو التكبير ، ولذلك النية عند بعض العلماء ركن ، والتكبير ركن ، فإذا قال : يخرج من الصلاة فقط بالنية ؛ فإنه خالف الأصل ، ولذلك لا يخرج من الصلاة إلا بنية وبتسليم ، كون التسليم الأولى ركناً من أركان الصلاة ؛ لأن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( تحليلها التسليم )) فإذا قال : يخرج من هذا النية غلب الباطن على الظاهر، والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - بين أن الخروج من الصلاة بظاهر وباطن كما أن الدخول فيها بظاهر وباطن ، وهذا موجود في العبادات ، حتى إن الحج إذا خرج منه قبل تمامه ؛ فإنه يخرج منه بالتحلل والهدي ،كما فعل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في صلح الحديبية ، فلم يقتصر على مجرد الخروج بالنية ، وهذا مذهب لبعض العلماء - بعض المتأخرين - يغلب الباطن على الظاهر، وعند الفقهاء هذا ضعيف ؛ لأن ما قصد الشرع فيه الأمرين لابد من اعتبارهما معا ، وعلى هذا المذهب نجد من يفتي(2/257)
مثلا بأنه خرج من المسجد وفي نيته أن يعود مباشرة لم يصل تحية المسجد ، وهذا الالتفات إلى النية تغليب للباطن على الظاهر، مع أن الشرع علق تحية المسجد على الظاهر لا على الباطن؛ فقال -- صلى الله عليه وسلم -- : (( إذا دخل أحدكم المسجد )) فعلقه بالظاهر وهذه المسألة معروفة عند العلماء في مسألة اجتماع الظاهر والباطن ، وتغليب الباطن على الظاهر، وتغليب الظاهر على الباطن ،كما أشار إليه الإمام الشاطبي - رحمه الله - في الموافقات في كتابه النفيس : (المقاصد) فنحن نعمل الظاهر والباطن بما أعمل الشرع فيه الأمرين ، ونعتد بأحدهما ، ونغلب ما غلبه الشرع سواء كان ظاهرا أو باطنا .
الأسئلة
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : إني أحبك في الله ، ما حكم الانتقال بالنية في الصلاة من الفريضة إلى فريضة أخرى أو من إتمام إلى قصر وهل يجوز الجمع بين النوافل في نية واحدة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فهذا السؤال اشتمل على عدة مسائل :(2/258)
المسألة الأولى : انتقال بالنية من فرض إلى فرض . قال بعض العلماء : تبطل الصلاة ، إذا انتقل من صلاة العصر إلى صلاة الظهر، أو من صلاة الظهر إلى صلاة العصر بطلت الصلاة ، لا تصح ظهرا ولا عصرا ، وتبطل الصلاة فلا تقلب نافلة . هذا مذهب بعض العلماء ، قالوا : - مثلا - لو أن شخصا جاء ودخل وراء الإمام في صلاة العصر، وتذكر أنه لم يصل الظهر، فقلب نيته إلى الظهر في السابق أو العكس ، وهو قلب النية إلى اللاحق ،كأن يدخل وراء الإمام في العصر بنية الظهر ظانًّا أنه لم يصل الظهر، ثم تذكر أنه صلى الظهر، فانتقل بنيته من السابق وهو الظهر إلى اللاحق وهو العصر، أو من الأولى إلى الثانية ، في كلتا الصورتين من أهل العلم من قال : لو أنه نوى الظهر وتذكر أنه صلى الظهر أثناء الصلاة ولو بعد تكبيرة الإحرام بثانية مادام أنه انتهى من تكبيرة الإحرام ونوى وكان قد نوى عند تكبيره للإحرام الظهر ثم أراد أن يقلب إلى العصر ؛ فإنه قد التغى الظهر بإلغائه ، ونوى أنه ما يريد الظهر، فبطلت ظهرا ، ولم تنقلب عصرا ؛ لأنه ما تصح النية للفريضة إلا عند تكبيرة الإحرام ، أن يستأنف الصلاة من ابتدائها ناويا الظهر أو ناويا العصر ، وهذا لم يستأنف ؛ فبطلت الأولى بالإلغاء ، وبطلت الثانية بقصور الإنشاء . الأولى بالإلغاء ، والثانية بقصور الإنشاء ، أي أن إنشاءه جاء قاصرا،كان المنبغي أن يكون إنشاءه مع تكبيرة الإحرام ، وقبل الفراغ منها على الأصل الذي قررناه أن النية تكون مقارنة لتكبيرة الإحرام ؛ لأنها ركن الصلاة ، فركن الأولى وقعت للصلاة غير الصلاة التي يريدها، فبطلت الأولى للإلغاء وبطلت الثانية لقصور الإنشاء .
يبقى السؤال : هل تنقلب نافلة ؟ قالوا لا ؛ لأنه لم ينوها نافلة ، فهذا وجه من قال تبطل نافلة وفريضة ، فحينئذ يستأنف الصلاة .(2/259)
ومن أهل العلم من قال : إنه إذا ألغى الأولى التغت بإلغائه ، وإذا نوى الثانية بطلت لعدم الاعتداد بها ، وبقيت نافلة ؛ لأنه دخل في حرمات الصلاة ، فتصح له نافلة ، والإعمال أولى من الإهمال ، وهنا عندنا عبادة صحيحة متوفرة فيها الشروط وصحيح أنه نواها قالوا كمن صلى صلاة الظهر، يظن أنه ما صلى الظهر، فلما سلم منها تذكر أنه صلاها ، وقعت له نافلة ، وأجر عليها نافلة ، فلا فرق بين كونه يتذكر في الأثناء أو بعد الانتهاء ، وهذا المذهب الأخير أقوى أنها تنقلب له نافلة .
المسألة الثانية : الانتقال من الإتمام إلى القصر، أو من القصر إلى الإتمام ، توسعة في السؤال ، إذا انتقل من القصر إلى الإتمام لا بأس : جاء مثلا في طريقه في السفر في المحطة ، وأقام الإمام الصلاة - وبالمناسبة الأفضل أن الإنسان يدخل بنية القصر في السفر- ، فإذا كان الإمام قصر فلا إشكال ، فإن أتم فلا بأس أن ينشئ نية الإتمام؛ لأن الزيادة لابأس بها كونه ينشئ نية الإتمام لا يؤثر ولا يضر ، فحينئذ يكون الانتقال من الأدنى إلى ما هو أعلى منه على الوجه المعتبر؛ لأنه قد يكون الانتقال من الأدنى إلى الأعلى ممنوعا منه كأن ينوي الأصغر إلى الأكبر، لكن لو أنه نوى الإتمام ، قالوا : ألزم نفسه بأربع ركعات ، فإذا أدخل نية القصر؛ فإنه حينئذ يريد أن يلغي ما وجب عليه ، فيكون الأمر أضيق ، وهذا ما يمنع فيه من انتقال الأدنى إلى الأعلى ، لكن لو أنه نوى القصر، ثم أراد الإتمام فلا بأس ، ولذلك الأحوط في السفر أنك تنوي القصر، فإذا كان إماما مسافرا وقصر فلا إشكال ، وإذا أتم أتممت، وهذا هو الأظهر .
السؤال الثاني :
وهل يجوز الجمع بين النوافل في نية واحدة ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(2/260)
فمسألة الجمع بين النافلتين في نية واحدة أو الثلاث في نية واحدة : الشرط فيها أن يكون الأدنى دون الأعلى أي تحت الأعلى ، وأن يتحقّق مقصود الشرع : شرطان لابد من وجودهما . فأما الأدنى تحت الأعلى ، مثل: أن ينوي أن يتوضأ ثم يريد أن يصلي ركعتي الوضوء ، والوقت ضيق ، فيما بين الأذان والإقامة في الظهر، فينوي راتبة الظهر واندراج ركعتي الوضوء تحتها ، فيؤجر من الوجهين ، وممكن أن يجمع بين ثلاث نوافل ، فينوي - مثلا - ركعتي الوضوء , وأن يستخير الله - - عز وجل - - بعدها ، وأن تكون راتبة للظهر. الشرط تحقق فإن راتبة الظهر أقوى من ركعتي الوضوء ؛ لأن سنن الرواتب آكد ، وندب الشرع لها آكد ؛ ولأنها متصلة مقيدة بالفرائض ، ومن هنا كانت أفضل من غير المقيد ، ومنهم من قال : المقيد أفضل من المطلق ، والراتب أفضل من غيرها .
فالشاهد من هذا أنه نوى الراتبة ، ثم أدرج تحتها الوضوء ، لمكان الإطلاق في الوضوء ، وأدرج تحتها الإستخارة لمكان الإطلاق .
فائدة هذه النية : أنه يؤجر من ثلاثة أوجه ، بحيث ينوي في قرارة قلبه أنه لولا ضيق الوقت لصلى للوضوء ركعتين مستقلتين ؛ تكثيرا للأجر والثواب ، وأنشأ للاستخارة صلاتها ؛ طلبا للفضيلة ، وصلى للراتبة ، مختصة بنيتها لحصول الأجر والثواب على ما أتم وأكمل الوجوه . هذا بالنسبة للاندراج : يشترط أن يتحقق مقصود الشرع، فمقصود الشرع في ركعتي الوضوء أن يصلي بعد وضوئه ، ومقصود الشرع في الاستخارة أن تكون بعد نافلة، (( فليركع ركعتين من غير الفريضة )) فدل على جواز قصدها ، ودل على جواز استتباعها للمقصود ، والراتبة كما هو محفوظ في حديث أم المؤمنين وابن عمر - رضي الله عن الجميع - ، فعلى كل حال هذان الشرطان إذا توفّرا صحّ الاندراج والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : يعتقد بعض الناس في ليلة النصف من شعبان أنها تقدر فيها المقادير فيخصّونها بأذكار وأعمال فما حكم ذلك وجزاكم الله خيرا ؟(2/261)
الجواب :
ليلة النصف من شعبان لم يرد دليل واضح على أنها تقدر فيها المقادير، أو تنسخ فيها الآجال والأعمار، ذلك من خصوصيات ليلة القدر ؛كما نص الله - - عز وجل - - في كتابه وقوله : { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا } قيل : إنها ليلة النصف ، والصحيح أنها ليلة القدر؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ، فما ورد في سورة الدخان فسرته سورة القدر، والمجمل يحمل على المبين ، ومن هنا أقوى أنواع التفسير تفسير القرآن بالقرآن ، فالصحيح في هذا أن ليلة القدر هي التي تكتب فيها المقادير من حول إلى حول ، وتنشر في صحائف ملائكة كما ورد عن الصحابة - رضوان الله عليهم - عن بعض أصحاب النبي - - صلى الله عليه وسلم - - هو مذهب جمهور المفسرين - رحمهم الله - .
ليلة النصف من شعبان لم يرد عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه خصّها بذكر معين ، أو بصلاة معينة ، أو أمر الأمة أن يعتقدوا فيها اعتقادا معينا ، بحيث تخص بالعبادات ، هي ليلة لها فضيلة ، ذكر بعض العلماء ، وعن الإمام أحمد رواية في فضلها ، ولكن حتى ولو كانت ذات فضل لا تخص بعبادة ، فليلة الجمعة بالإجماع أنها أفضل ليالي الأسبوع، ومع هذا أجمع العلماء على أنها لا تخص بقيام ، ولا يخص نهارها بصيام ؛ كما في الصحيح عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه نهى عن صوم يوم الجمعة .
وأما تخصيصها بأذكار وأوراد وأدعية تقال في ليلة النصف من شعبان فهذا لم يشرعه الله - - عز وجل - - .(2/262)
على المسلم دائما أن يبحث عما قاله رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، وأمر به ، وشرعه للأمة ، حتى يلقى الله - - عز وجل - - بالإتباع لا بالابتداع ، وحتى يلقى الله - - عز وجل - - بعمل صالح يرجو ثوابه من الله - - سبحانه وتعالى - - ، لم يرد عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - حديث صحيح بتخصيص ليلة النصف من شعبان بدعاء المزعوم في ليلة النصف من شعبان ، وتخصيصها بقيام ، أو تخصيص نهارها بصيام .
على المسلم أن يتبع هدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، ولا يجوز لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يضع للأمة أذكارا وأدعية أو يعلم أولاده ، أو يعلم أسرته أو يأمر أسرته أن تقوم فتدعو بدعاء مخصوص ، يعلمهم الحدث في دين الله - - عز وجل - - .
عليه أن يأخذ بالوارد ، وإذا جاءه أي شخص بشيء ، فليسأل هل هذا ثابت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أو لا ؟ أما أنه يكون تبعا لكل أحد فهذا مهلكة ، ولا يعبد الله إلا بما شرع ، ومحبة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - تقتضي اتّباعه، ولزوم سنّته - بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه - ، ولذلك يقتضي عدم الزيادة في الدين ، وعدم الإحداث لهذه الأذكار والأدعية.
نسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
تابع باب آداب المشي إلى الصلاة ، وباب صفة الصلاة
قال المصنف رحمه الله : [ وإذا أتى المسجد قدم رجله اليمنى في الدخول وقال : بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي باب رحمتك ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد :(2/263)
فقد ذكر الإمام المصنف -رحمه الله- هذا الأدب، من الآداب المتعلقة بدخول المساجد، حيث بيّن أن هناك سنّة فعليّة وسنّة قولية عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --.
فأما السنة الفعلية في الدخول إلى المساجد فإنه يقدم رجله اليمنى ويؤخر رجله اليسرى، وإذا خرج منها فعل العكس؛ وفيه حديث الحاكم في مستدركه، ويشهد لهذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- : (( أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يعجبه التيمن في طهوره وتنعله وترجله وفي شأنه كله )) .
ومن هنا استحب العلماء والأئمة -رحمهم الله- لظاهر حديث الحاكم حديث أم المؤمنين عائشة تقديم الرجل اليمنى عند الدخول، وهذا من إجلال بيوت الله -- عز وجل -- وتأخير الرجل اليسرى، و أما عند الخروج فإنه يؤخر اليمنى ويقدم اليسرى .
ووجه ذلك : أن المسجد أشرف من خارج المسجد؛ والدليل على أنه أشرف؛ قول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( أحب البلاد إلى الله مساجدها)) . فإذا كان الموطن أشرف فإنه يقدم اليمنى عند دخوله، ويؤخر اليسرى عند الدخول، ويقدم اليسرى عند الخروج، ويؤخر اليمنى عنده أيضا، وهذا مبني على ما ذكرناه من تشريف اليمين على اليسار، وقد تقدم معنا في الطهارة وأصول الشريعة دالة عليه .
وأما السنة القوليّة فإنه يقول الدعاء المأثور، أما التسمية، فإنه يسمي الله؛ لأن الدخول إلى المسجد كالدخول إلى البيت؛ وقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ندب الأمة إلى تسمية الله -- عز وجل -- عند الدخول، ومن ذلك حديث الدخول، وأن الشيطان يتنحى عن العبد .(2/264)
فهذا أصل عام عند العلماء -رحمهم الله- في الدخول، ولا شك أن المسجد أشرف ما دخل، وأحق ما يذكر الله -- عز وجل -- عند دخوله، فيقول : بسم الله ، وهذا أبلغ ما يكون في دحر عدو الله إبليس -عليه لعنة الله - عز وجل - -والصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم --؛ تشريفًا وتكريمًا له ؛ ولذلك قال العلماء : إن الله رفع قدر نبيه -عليه الصلاة والسلام- ودلت على ذلك هذه الشعيرة العظيمة، فالأذان حينما ينادى بالصلاة تذكر الشهادة للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالرسالة تشريفا له وتكريما، وهذا معنى قوله تعالى : { ورفعنا لك ذكرك } فإنه ذكر عليه الصلاة والسلام بأشرف المواطن، وأحبها إلى الله -- عز وجل -- وأشار الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيميه وغيره من العلماء أن هذه من المواطن التي فضلت فيها عليه الصلاة والسلام، وهذا التفضيل الوارد المسنون، ويتذكر المسلم فضله على الأمة -صلوات الله وسلامه عليه- فهو عند سماعه للأذان يذكر عليه الصلاة والسلام، وإذا دخل المسجد صلى على النبي -- صلى الله عليه وسلم --، وإذا صلى التحية فإنه يصلي على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في تشهده، وإذا قام إلى الصلاة تذكر هدي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في: تكبيره، وقراءته، وقيامه، وركوعه، وسجوده، وجميع حاله، فأسعد الناس به -صلوات الله وسلامه عليه- أعلمهم بسنته، وألزمهم بتلك السنة؛ تطبيقا وعملا -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه-.(2/265)
فقوله : (( اللهم افتح لي أبواب رحمتك )) لأن الإنسان إذا دخل المسجد فإنه يتنافس مع عباد الله، ولذلك يسأل الله العظيم من فضله، وأن يجعله أسبق الناس لكل خير، ويجعله أعظم الناس أجرا وفضلا وذخرا في كل ما يكون من الله -- عز وجل -- لعباده، حتى إن العبد الموفق بمجرد ما تطأ قدمه المسجد ينكسر قلبه لله، وكأن لسان حاله يقول : اللهم لا تجعلني من المحرومين، وكأنه يقول : اللهم لا تجعلني أشقى عبادك في هذا المكان بالحرمان؛ لأنه يخاف من ذنوبه التي تحول بينه وبين رحمة ربه، فشرع له أن يسأل الله : اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا فتح الله على العبد أبواب رحمته لن يستطيع أحد أن يغلقها كائنا من كان؛ إذا فتح الله أبواب الرحمة لا يستطيع حسود ولا حقود ولا قوي ولا ضعيف أن يحول بين العبد وبين رحمة ربه –سبحانه- فـ{ ما يفتح الله من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده } - سبحانه وتعالى - .
فالمقصود أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- شرع هذه السنة القولية أن يدعو ربه أن يفتح له أبواب رحمته، ومن هنا نبه بعض العلماء -رحمهم الله- والأئمة على أنه ينبغي للإنسان إذا دعا بهذا الدعاء الوارد أن يدعو بحضور قلب، ويقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك صدقا من قرارة قلبه، فبعض الناس قد يدخل المسجد، واعتاد أن يقول هذه الكلمة ولكنه يقولها باستشعار، وكأنه يحس أنه يتنافس مع غيره، ويرجو من الله أن يجعله أسعد الناس في هذا الجمع، وإذا نظر إلى المصلين انكسر قلبه، وكأنه يرجو من الله أن لا يجعل منزلته أدنى المنازل، وأن يجعله أسبق الله إلى رحمته وفضله وكرمه -- سبحانه وتعالى --.
ومن هنا إذا دخل العبد بهذه السنن القولية والفعلية، وتذكر هدي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- دخل المسجد بحضور قلب، وبخشوع وخضوع، وإنابة إلى الله -جل وعلا- وذل وكان ذلك أدعى ما يكون بفوزه برحمة الله -- عز وجل --.(2/266)
[ افتح لي أبواب رحمتك ] : فمن أوّل الدلائل على أن الله فتح رحمته للعبد أن يخشع قلبه عند دخول المسجد، ومن أصدق الدلائل على أن الله فتح له أبواب رحمته أن ترى الإخلاص في قوله وعمله، فبمجرد أن تطأ قدمه بيت الله -- عز وجل -- ينسى كل شيء، ويخلف الدنيا وراء ظهره بهمومها وغمومها وأشجانها وأحزانها، ويقبل على الله فيحس أن الله -- عز وجل -- أصابه برحمته، فمن أصدق الدلائل على أن الله فتح على العبد أبواب رحمته : خشوعه، وإخلاصه، فإذا حضر قلبه، وجاء ليصلي فوجد أنه مقبل على الله صدقا : (( أن تعبد الله كأنك تراه )) وهكذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعون لهم بإحسان، إذا دخلوا المساجد خضعوا وخشعوا وأنابوا إلى ربهم، وما من عبد يدخل بيت من بيوت الله -- عز وجل -- مخلصا لله، منيبا إلى الله، فوالله، لو حمل هموم الدنيا على ظهره لتولت وراءه، وذهبت عنه أشجانها وأحزانها، وجعل الله بيوته منازل رحمته، فكم من عبد دخلها شقيا، وخرج منها سعيدا، وكم من عبد دخلها مهموما مغموما فخرج منها منشرح الصدر مجبور الخاطر، وكم من عبد دخلها خائفا وخرج منها آمنا، وكل هذا يدل على فضل المساجد، وفضل بيوت الله، وأنها منازل الرحمة وصدق رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - إذ يقول : (( أحب البلاد إلى الله مساجدها )) فهي منازل الرحمة -نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا فيها من أحظ عباده برحمته -.(2/267)
[ وإذا خرج قدم رجله اليسرى، وقال ذلك؛ إلا أنه يقول وافتح لي أبواب فضلك ] : وفي الصحيح:(( اللهم إني أسألك من فضلك )) إذا خرج من المسجد، يقدم رجله اليسرى، ويؤخر اليمنى؛ لشرف المسجد كما ذكرنا، ثم يقول : (( اللهم إني أسألك من فضلك)) يسأل الله من فضله؛ لأن الله - عز وجل - يقول : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } فيسأل الله -- عز وجل -- من فضله . اختلف العلماء في قوله : ((اللهم إني أسألك من فضلك )) هل المراد به أمور الدنيا ومصالح الدنيا، ولذلك قال الله - عز وجل - : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } فأمر بالتجارة بعد انتهاء الجمعة، فقال بعض العلماء: إن قوله : اللهم إني أسألك من فضلك يعني أسألك رزقا حلالا، وأسألك كسبا طيبا، وأسألك أن تيسر لي أمور دنياي، فالمراد به أن يحصل على ما يعينه على أمور دنياه، وهذا يدل على سمو هذه الشريعة، وأن الإسلام دين عمل، وأنه ليس بدين الرهبنة والمسكنة، فإن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، ولذلك كان عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- يضرب من يجلس في المسجد، ويأمرهم أن يخرجوا ليطلبوا رزقهم، ويقول لهم : إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة .(2/268)
فالإسلام ليس بدين الرهبنة، ولا بدين الزهد الكلي في الدنيا إلى درجة أن يعرض الإنسان عن الأسباب، ولكن ساعة العبادة ساعة عبادة وساعة الدنيا، يأخذ منها الإنسان ما يستعين به على البلغة، فيصون وجهه عن ذل السؤال، ويحفظ نفسه عن الناس؛ لأن الشدة هي الحاجة للناس، فيقول : اللهم إني أسألك من فضلك، وهذا دليل على أنه يجوز للمسلم أن يسأل الله من أمور الدنيا ما يستعين به على طاعته، وتنكفّ به شرور هذه الدنيا وفتنها. وقال بعض العلماء : اللهم إني أسألك من فضلك، عام شامل للدين وشامل للدنيا، وظاهر الآية الكريمة في سورة الجمعة خصت للمقابلة، ولكن اللفظ هنا عام وهذا يمكن أن يكون من أقوى القولين: أنه عام ، وأن الإنسان إذا قال : اللهم إني أسألك من فضلك يسأله على سبيل العموم، فضل الدين والدنيا والآخرة- ونسأل الله العظيم من واسع فضله-
ثم انظر إلى قوله :اللهم إني أسألك من فضلك؛ لأنه ليس هناك أحد يستوجب على الله شيء، فكل ما أعطى -- سبحانه وتعالى -- ما هو إلا محض فضله ومنته -- سبحانه وتعالى --، ليس لأحد على الله حق أن يفرض عليه -- عز وجل -- أن يعطيه ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم، وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا أدى فرض الله -- عز وجل -- وإذا أدى ما أوجبه الله عليه أنه حري به أن يبارك له في رزقه، وأن يعطى من الله -- عز وجل -- المعونة على دنياه .
قال المصنف رحمه الله [ باب صفة الصلاة ] :
الشرح :
يقول المصنف -رحمه الله- : [ باب صفة الصلاة ] : الصفة حلية الشيء وما يتميز به عن غيره.(2/269)
وقوله : [ الصلاة ] : تقدم تعريفها، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بكيفية الصلاة، فيما ثبت عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فقد أمر الله بالصلاة في كتابه، وبيّن بعض أركانها، ولكن بينها رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بسنته، فبين عدد الصلوات، ومواقيت الصلوات، وبين -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- كيف يؤدي المسلم صلاته تامة كاملة، بين ذلك بقوله، حينما نصح المسيء صلاته، وقال له : (( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة وكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما )) .
وبين ذلك -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- بفعله، فصلى بأصحابه -صلوات الله وسلامه عليه- حضرا وسفرا، وصلى بهم ليلا ونهارا، وصلى بهم عليه الصلاة والسلام فأتم صلاته وأكملها على أحسن الوجوه وأتمها- بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة.
فأسعد الناس في صلاته، وأولاهم بالقبول من ربه، من إذا صلى كأنه ينظر إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في صلاته، فيقوم كقيامه، ويقرأ كقراءته، ويركع كركوعه، ويرفع كرفعته، ويعتدل كاعتداله، فقد وصف الصحابة -رضوان الله عليهم- صلاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على أتم الوجوه وأكملها، وبينوا وقوفه، وركوعه، وسجوده، وجلوسه، وجميع هيئاته، حتى أصابعه في الصلاة صلوات الله وسلامه عليه، وبصره -عليه الصلاة والسلام- وما تركوا شيئا من سنته، فجاءتنا هذه السنة بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك .(2/270)
ومن هنا وجب على المسلم أن يعرف هذه السنن، وأن يعرف هذه الصفة الواردة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ثم هذه الصفة فيها ما هو ركن، لا يمكن أن تصح الصلاة بدونه، وفيها ما هو واجب، وفيها ما هو مستحب، وفيها ما هو مسنون، كل هذا اشتملت عليه الصفة، وهذه ما يسمونها بالصفة الكاملة، والمصنف -رحمه الله- سيذكر صفة الصلاة الصفة الكاملة الواردة في مجموع الأحاديث عنه -عليه الصلاة والسلام- ومن هنا يعتني الفقهاء -رحمهم الله- بوضع أبواب الفقه على وفق ما ورد من السنة، ومن قرأ الحديث وقرأ الفقه وجمع في فقهه بين الأثر والنظر يعرف ذلك جليا، ومن جهل ذلك طعن في كتب الفقهاء؛ لأنه لا يعرف ما هي، وإلا فكتب العلماء -رحمهم الله- بالتتبع والاستقراء والمتون المعروفة للأئمة انضبطت بالسنة، وتتبعت ما ورد عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --، وفي هذا الموضع يذكر المصنف -رحمه الله- صفة الصلاة .
ذكر هذا بعد أن بين شروطها التي تسبقها، وهذا فيه تأسي بالسنة، فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال للمسيء صلاته: (( إذا قمت إلى الصلاة، فأسبغ الوضوء، واستقبل القبلة ثم كبر)) فأمر بالشرائط قبل أن يصف له الصلاة ومن هنا ذكر المصنف باب الشروط ثم ذكر باب الأذان والإقامة باب المشي إلى الصلاة قبل باب الصفة لأنه يسبق دخول المسجد يسبق صفة الصلاة وقوله الصلاة يشمل الصلاة المفروضة والصلاة النافلة إلا ما دل الدليل على التفريق فيه بين النافلة والفريضة .(2/271)
[ وإذا قام إلى الصلاة قال : الله أكبر ] : وإذا قام إلى الصلاة في الفريضة أو النافلة قال : الله أكبر ؛ لأن الله تعالى يقول : { وربك فكبر } فأمر - سبحانه وتعالى - بتكبيره عند ابتداء الصلاة ، وكذلك قال - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر )) وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : (( كان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يستفتح الصلاة بالتكبير )) أي لقوله : الله أكبر ، وأجمع العلماء -رحمهم الله- والأئمة على سنية ومشروعية استفتاح الصلاة بالتكبير .
المسألة الثانية : هذا التكبير يعتبر ركنا من أركان الصلاة ويسميه العلماء -رحمهم الله- بتكبيرة الإحرام، ويسمونه التحريمة ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم )) حديث علي عند أصحاب السنن عدا النسائي -رحمهم الله- جميعا وهو حديث صحيح ، فقالوا إنها تسمى التحريمة لظاهر السنة ؛ لأنه إذا قال : الله أكبر فقد دخل في حرمات الصلاة، ويدخل المسلم في حرمات الصلاة في الفريضتين، وسنة .
أما الفريضتان فالنية وتكبيرة الإحرام .(2/272)
وأما السنة فرفع اليدين تأسيا برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وسيأتي وصفهما ، ولذلك أثر عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة أن الإمام الشافعي -رحمه الله- حينما ذهب إلى بغداد ودخل المسجد رأى غلاما يصلي فأسرع في صلاته ، فناداه الإمام الشافعي، وقال له : يا هذا إنك لن تحسن أن تصلي، فارجع فأعد صلاتك، فرجع وصلى، فعتب عليه رحمه الله وقال له : إني أخاف أن يعذب الله هذا الوجه بالنار، فذهب هذا الشاب إلى - قيل الإمام محمد بن الحسن وصاحبه - كانا جالسين في المسجد، وقال لهما : هل تعيباني في صلاتي شيئا ؟ قالا : لا . قال : إن هذا يقول : إني أخاف أن يعذب الله هذا الوجه بالنار، إنه عتب علي في صلاتي، قال له : اذهب إليه، وقل له : بماذا أدخل في صلاتي ؟ فقال رحمه الله : قل لهما بفريضتين وسنة، هذا موضع الشاهد، فريضتان : النية، وتكبيرة الإحرام . انظروا كيف العلماء يخاطب بعضهم بعضا، ما قال بالنية والتكبيرة والسنة، هذا جواب البسطاء، وإنما مثلما يلغز يلغز له الآخر، فعرف أنه إمام وأنه عالم، وهذا جواب العلماء - رحمهم الله برحمته الواسعة - فقوله بفريضتين فريضة ظاهرة وباطنة، الفريضة الباطنة : النية، والفريضة الظاهرة : التكبير وهي تكبيرة الإحرام، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه على أنها ركن من أركان الصلاة .(2/273)
المسألة الثالثة : لا يصح الدخول في الصلاة إلا بقول : الله أكبر، وهذا مذهب الحنابلة والمالكية، وأجاز الإمام الشافعي - رحمه الله - وأصحابه أن يقول : الله الأكبر، ولم يفرق بين كونه أكبر والأكبر، فالتعريف والتنكير المعنى فيهما واحد، ومن هنا قال : يصح أن يقول : الله أكبر، والله الأكبر، وذهب الحنفية - رحمهم الله - وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبه محمد - رحمة الله على الجميع - على أنه يصح أن يدخل بكل شيء فيه تعظيم لله - - عز وجل - - فيصح أن يقول: الله أجل، والله أعظم، ويصح أن يقول : الرحمن أكبر، والرحمن أجل، ونحو ذلك لما فيه تعظيم لله، واستدل بقوله تعالى : { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } قال : ذكر اسم ربه فصلى فكل من ذكر اسم الله تعظيما وإجلالا لله يصح أن تنعقد به صلاته، والصحيح ما ذهب إليه الأولون، وهو أنه لا يصح الدخول إلا بقوله : الله أكبر؛ لأنه لفظ توقيفي، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( تحريمها التكبير )) وأل في التكبير للعهد ، والمعهود منه عليه الصلاة والسلام أنه ما زاد ولا نقص على قوله : الله أكبر، ولذلك لا يصح أن يدخل في الصلاة إلا بقوله : الله أكبر، هذه هي السنة المحفوظة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وجاءت بها الأحاديث المتواترة عنه عليه الصلاة والسلام أنه كبر ودخل في صلاته .
المسألة الرابعة : لا يصح أن يدخل بغير اللغة العربية لمن يحسنها، فلا يصح أن يكبر بلغة غير عربية، أو تترجم بلغته ،فيكبر ويدخل في صلاته، بل يعلم التكبير، فإن عجز عن التكبير فإنه يدخل بمطلق الذكر إذا عجز عن التكبير على الأصل عند العلماء، بشرط أن يكون الوقت ضيقا لا يسع التعليم، أما إذا وسع الوقت أن يعلم فيجب عليه أن يتعلم ويدخل باللفظ الوارد التوقيفي .(2/274)
المسألة الخامسة : لابد في هذا التكبير في قوله : الله أكبر أن يأتي بها قائما في الفريضة، فلو أنه قالها وهو قاعد ثم وقف لم يصح، إلا إذا كان معذورا لا يستطيع القيام، وهنا نقول : إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر )) فأولاً : يقوم ثم يكبر. ومن هنا من الأخطاء عند بعض الناس أنهم يقوم وعند القيام يقول : الله أكبر قبل أن يستتم قائما، وعند العلماء خلاف إجزاء هذه التكبيرة .
ومن الأخطاء الموجودة أنك ترى بعض كبار السن والضعفة يأتي ويقوم في الصف ثم يجلس على الكرسي ويكبر ، وبإمكانه أن يكبر قائما، وهذا ركن من أركان الصلاة لا تنعقد الصلاة إلا به، ولذلك ينبغي أن يأتي به قائما إذا كان يستطيع القيام، وتتعجب يأتي يحمل الكرسي يجره من آخر المسجد، ثم يأتي ويفتح الكرسي، ثم يجلس عليه ويكبر وهو جالس، فالعافية عنده منذ أن دخل المسجد لا تزول إلا عند القيام للصلاة ! هذا لا يمكن أن تصح صلاته، لا تصح تكبيرة الإحرام إلا وهو قائم، فإن عجز وضعف عن القيام قعد، هذه أمور يجب أن يعلمها الناس، فالبعض يظن أنه مادام أنه يجوز له أن يصلي قاعدا أن الأمر على الإطلاق، بل ينبغي أن يعلم هؤلاء، وأن يدلوا لأن الأمر عظيم، وهذا الركن هو الذي يدخل المصلي في صلاته وتنعقد به صلاته، وعلى هذا فلابد من أن يأتي به على وجهه .
كذلك أيضا المسألة الخامسة : يكبر مصاحبا للنية، يعني ينوي الصلاة الفريضة تكون النية مقارنة للتكبير وهذا هو الأصل وإذا كان ذلك فإنه إذا سبقت النية التكبير وفصل بين التكبير والنية بفاصل مؤثر لم تصح ومن هنا ذكرنا الفاصل المؤثر الغريب مثل الأكل والشرب ومنه الوضوء في قول طائفة من العلماء رحمهم الله وعلى هذا فإنه ينبغي أن تتصل نيته بتكبيرة الإحرام .(2/275)
قال يقول الله أكبر فلو أنه قالها في نفسه ولم يتلفظ بها لم يصح لأن الله يقول لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقول : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر )) ومن هنا قال تعالى : { وربك فكبر } وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر )) فلا يصدق على الإنسان أنه كبر إلا إذا تلفظ ومن هنا يخافت بها قالوا بقدر ما يسمع نفسه فإن كان أصم حرك شفتيه مما يكون به النبس وعلى كل حال لا يصح أنه يأتي ويقول الله أكبر في سره بل لابد وأن يتلفظ بها لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أمر بأن يكبر ولا يكبر إلا بالتلفظ .
[ يجهر بها الإمام وبسائر التكبير ] : يجهر بها الإمام حتى يسمع من وراءه، وبسائر التكبير: التكبيرات التي في الصلاة كتكبيرة الركوع، وتكبيرة السجود، وتكبيرة الرفع من السجود، وتكبيرة الجلوس للتشهد، وتكبيرة القيام للركعة الثانية والثالثة، كلها يسميها العلماء تكبيرات الانتقال، فهناك نوعان من التكبير في الصلاة:
النوع الأول: تكبيرة الإحرام، وهي الأعظم، والركن .
والنوع الثاني: تكبيرات الانتقال، وهي التي ينتقل بها من ركن إلى ركن، كتكبيره من القيام إلى الركوع، وتكبيره من الرفع من الركوع القيام بعد الركوع إلى السجود، وقد ينتقل من واجب إلى ركن، كما في تكبيره في القيام من الجلسة -جلسة التشهد- إلى الركعة الثالثة، فإن الجلوس للتشهد واجب، فهو ينتقل من واجب إلى ركن وقد ينتقل من ركن إلى واجب كما لو كان ساجدا ثم السجدة الثانية من الركعة الثانية في المغرب والعشاء، فإنه ينتقل من ركن وهو السجود إلى واجب وهو الجلوس للتشهد الأول .(2/276)
هذا التكبير يسميه العلماء تكبيرات الانتقال : يجهر الإمام بتكبيرة الإحرام، وعلى الإمام إذا كبر تكبيرة الإحرام أن لا يمدها، ولا يمطط، ولا يبالغ فيها. قالوا: لأن الإمام إذا مد الإحرام الذي هو تكبيرة الإحرام ومد السلام يعني مطط في السلام عرض صلاة الناس للبطلان؛ لأن هناك من الناس من يستعجل، فإذا مد في التكبير بادره غيره فكبر قبله فبطلت صلاته، ولا تنعقد صلاة المأموم إلا إذا كبر بعد إمامه، وكره له أن يوافق الإمام، ومن هنا قال العلماء: تحرم مسابقته، وتكره موافقته . تحرم مسابقة الإمام، وتكره موافقته أن يكون فعله معه؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( إذا كبر فكبروا )) .
[ يجهر بها الإمام ] : حتى يسمع من وراءه، وإذا كان العدد كثيرا بحيث لا يمكن أن يسمع الصف الخامس والسادسة الإمام شرع لرجل يقف في الصف الثالث والرابع أن يرفع صوته بتكبير الإمام، حتى يسمع من وراءه؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه لما خرج في مرض الوفاة -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه-، وصلى كان أبوبكر يسمع الناس تكبيره، ومن هنا قالوا إذا كان العدد كثيرا لا يسمع تكبيره فإنه يشرع التبليغ من ورائه .
[ ليسمع من خلفه ] : اللام للتعليل، أي من أجل أن يسمع من خلفه . إذا قلنا : إن الإمام يرفع صوته ليسمع من خلفه فمعنى ذلك أن الجهر قدر الحاجة، يعني يرفع بقدر ما يسمع، ولا يزيد عن ذلك، ومن هنا من الأخطاء الموجودة أن البعض إذا جاء متأخرا، وأحدث جماعة في المسجد، وصلى باثنين وثلاثة، تسمعه يصيح، يشوش على الجالسين في المسجد، كأنه ليس في المسجد غيره ! وهذا خطأ عليه أن يرفع بقدر ما يسمع من وراءه، حينما يكون صوته منخفضا، وجهره نسبيا معتدلا، يمكنه من الخشوع أكثر، وهو أرفق بنفسه، وبه يتحصل المقصود .(2/277)
[ ويخفيه غيره ] : يعني غير الإمام يخفي التكبير، وهنا أيضا ننبه على أن بعض الناس إذا جاء يصلي ويقف بجوارك وهو مؤتم يرفع صوته بالتكبير، فيشوش على من معه من المأمومين، ولربما كبر بإزعاج، حتى ولو كان منفردا، وهذا يدل على أن المنبغي أن يخفي إذا كان مأموما؛ لأنه ليست هناك حاجة أن يرفع صوته، وقالوا: يكبر المنفرد والمأموم بقدر ما يسمع صوته هذا هو الأصل عند العلماء -رحمهم الله- .
[ ويرفع يديه عند ابتداء التكبير ] : ويرفع يديه : تأسيا برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - عند ابتداء التكبير، رفع اليدين في تكبيرة الإحرام مجمع على أنه سنة من سنن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ،كل الروايات اتفقت عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه دخل في الصلاة فرفع يديه في تكبيرة الإحرام .
ومن هنا قال العلماء : إنها بلغت الروايات مبلغ التواتر، حتى لقد روى عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - هذه السنة برفع اليدين أكثر من ستين صحابيا، ولذلك اعتبر الأئمة -رحمهم الله- من أمثلة المتواتر رفع اليدين في تكبيرة الإحرام، وكما أشار إلى ذلك صاحب الطلعة رحمه الله بقوله :
ثم من المشهور ما تواتر وهو ما يرويه جمع حظرا
كذبهم عرفا كمسح الخف رفع اليدين عادم للخُلْف
وقد روى حديثه من كَتَبا أكثر من ستين ممن صَحِبا
فقوله: رفع اليدين أي رفع اليدين في تكبيرة الإحرام، عادم للخلف لم يختلف لم تختلف الرواية عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في رفع اليدين في تكبيرة الإحرام، ولذلك أجمعوا على سنية الرفع، وليس هناك أحد يقول بعدم رفع اليدين، ويشرع هذا في الصلاة المفروضة، وصلاة النافلة، وفي التكبير الأولى من تكبيرات الجنائز، وهكذا بقية الصلوات يشرع أن يرفع يديه، وهذا الرفع لليدين فيه صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون رفعهما حذو منكبيه .(2/278)
والصورة الثانية : أن يكون الرفع حيال الأذنين، فجاءت الرواية عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه رفع يديه حتى حاذى بهما منكبيه، وهي رواية ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيحين .
وكذلك أيضا في حديث أبي حميد الساعدي وقد كان بحضور عشرة من أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، وكذلك حديث وائل بن حجر، والأحاديث فيها كثيرة، حتى قال الإمام الشافعي: إنها أكثر عن اثنى عشرة من أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - كلهم على أن الرفع كان حذو المنكبين .
والمنكب : ما بين الرقبة وعظام الترقوة . بعضهم يقول : ما بين الرقبة، بعضهم يقول : ما بين عظم الترقوة ومفصل العضد، مع هذا المفصل إلى عظام الترقوة هذا كله منكب، فرفع عليه الصلاة والسلام حتى حاذى منكبيه، كما جاءت الرواية الصحيحة .
وجاءت الرواية الصحيحة أيضا في حديث مالك بن حويرث في الصحيح - رضي الله عنه وأرضاه - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - رفع يديه حيال أذنيه حتى حاذى بهما أذنيه ,.
وجمع بينهما في حديث وائل بن حجر في رواية أبي داود بأنه كان الرفع حتى حاذى بهما منكبيه، وكان إبهامه حيال أذنيه، أنه رفع عليه الصلاة والسلام يديه حيال منكبيه، حتى حاذى بإبهامه فروع أذنيه .
هذا يدل على الجمع، ولذلك يستحب الإمام الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد - رحمه الله - والرواية الأخرى تقديم حديث المنكبين على حديث فروع الأذنين .
والجمع بينهما أولى، بأنه يرفع يديه حتى يكون بطن الكف محاذيا للمنكب، وطرف الإبهام محاذيا للأذن بجهة المقاربة، وبهذا يجمع بين الروايات الواردة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في الرفع .
والأمر في هذا كله واسع، يعني الخلاف فقط في الأفضلية، وإن رفع إلى منكبيه مرة، ورفع حيال أذنيه مرة لا بأس ولا حرج، إذا قيل بأنه السنة التنوع أو خلاف التنوع .(2/279)
[ إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه ويجعلهما تحت سرته ] : المصنف -رحمه الله- جاء بهما على التخيير بمعنى أنه إن شاء رفع إلى منكبيه، وإن شاء رفع إلى فروع أذنيه، والأمر في هذا واسع كما ذكرنا.
[ويجعلهما تحت سرته ] : إذا انتهى من الرفع ونزلت يداه، فإن السنة أن يقبض، بأن يجعل اليمنى على اليسرى، هذه السنة أن يجعل يمناه على يسراه، وهناك وجهان لجعل اليمنى على اليسرى، قيل: يجعل باطن اليمنى على ظاهر اليسرى، ويكون قابضا بإبهامه والوسطى على رسنه هذا الوجه الأول، يستحبه بعض العلماء - رحمهم الله - .
وبعضهم يقول -وهو مذهب الجمهور-: إنه يكون كفه عند مجمع الكف مع الساعد عند الزندين، ويكون أطراف أصابعه على ساعده، وهذا ورد في حديث وائل بن حجر - - رضي الله عنه - - في الرواية الثانية .
والأول يقتضي إطلاق وضع اليمنى على اليسرى، فكلاهما له أصل من السنة . من وضع الكف على الكف فلا إشكال، وإن قدمها حتى كادت الكف في المفصل، ثم كانت بقية يده على ساعده فلا حرج، ثم بعد ذلك من العلماء من قال: يسحب الكفين إلى جهة قلبه أو يجعلهما في المنتصف لم يرد حقيقة شيء يحدد أن يجعلهما على قلبه، كما يقول بعض العلماء -رحمهم الله- إنما قالوا إن هذا من باب التشريك.
والحقيقة ليس في هذا شيء، ولا نستطيع أن نجعل للناس شيئا نفضله على شيء إلا بسنة واردة خاصة في العبادات، ونلتزم بالوارد عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه وضع يديه على صدره، هذا الوارد عنه -عليه الصلاة والسلام- يبقى قضية الأحوال في بعض الأحيان يضيق على الإنسان المكان، فيضطر إلى سحب يده حتى لا يؤذي من بجواره، وتنسحب إلى جهة قلبه فلا بأس ولا حرج؛ لأنها على صدره سواء من جهة اليمنى أو في جهة اليسار على حسب ما يقتضيه الحال .(2/280)
وأما قوله : [ تحت سرته] : فهذا فيه حديث علي - - رضي الله عنه - - من السنة :أن يجعلهما تحت السرة، ولكن فيه ضعف، وهي رواية عن الإمام أحمد -رحمه الله- في الكفين أن اليدين تكون تحت السرة، وهو قول الحنفية - رحمهم الله - .
والصحيح أنهما تكونان على الصدر، والروايات في هذا صحيحة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه وضع يديه على صدره بأبي وأمي، والسنة أن يجعل اليمنى على اليسرى، ولا يجعل اليسرى على اليمنى، وقد جاء في حديث ابن مسعود أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قلب كفيه، وهذا الأصل وهو وضع اليمين على الشمال ذهب الجمهور والأئمة من السلف -رحمهم الله-.(2/281)
وعند أصحاب الإمام مالك -رحمه الله- أنه يرسل يديه، واعتمدوا في ذلك في مسائل ابن القاسم في قوله : سألت مالكا عن القبض، فقال : لا أعرفه، ولا بأس به في النفل، وأكرهه في الفرض، فقالوا : إن هذا يدل على الإسدال، والواقع أن هذه العبارة من المدونات تحتاج إلى تحرير، ومن هنا قال بعض الأئمة : إنها لا تدل على السدل الذي يفعله المالكية؛ لأنه يقول : سألت مالكا عن القبض؟ فقال :لا أعرفه . هل يعقل وهو يقول في الموطأ باب وضع اليمين على الشمال؛ إذا معنى ذلك أن القبض أمر زائد على وضع اليمين على الشمال، وهذا من فقه الإمام مالك - رحمه الله -، وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - شدة تحري الإمام مالك، وأن أصول أهل المدينة - رحمهم الله - في تتبع السنة من أقوى الأصول، وعنه أخذ أهل الحديث السنة كالإمام الشافعي والإمام أحمد - رحمهم الله - من الأئمة، فإنه كان رحمه الله شديد التحري للسنة، فكأنه يرى أن السنة وضع اليمين على الشمال، وأن القبض وهو جر الإبهام إلى الوسطى؛ لأن هذا القبض فيه نوع من الراحة والاعتماد، ولذلك إذا جرب أنك وضعت اليمين على الشمال دون أن تقبض تجد تعبا خاصة إذا طال القيام فتجد الراحة إذا قبضت، وذلك بتحصيل طرف الإبهام مع طرف الوسطى، فالإمام مالك في القبض القبض شيء ووضع اليمين على الشمال شيء آخر، ولذلك قال لا بأس به في النافلة، وأكرهه في الفرض؛ لأنه يرى جواز الاعتماد في النافلة على العصي ونحوها، ومن هنا حرر ذلك على سبيل الاعتماد والرفق، لا أنه ينكر هذه السنة المحفوظة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وهو الذي وصى إذا وجد قوله يعارض قول رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أن يضرب بقوله عرض الحائط ،رضي الله عنه وأرضاه، فليس لأحد أن يقدم بين يدي الله ورسوله -صلوات الله وسلامه عليه- فالأشبه أن الإرسال لا أصل له، وإن كانوا قد اعتذروا بهذه العبارة، فإن السنة صحيحة في وضع اليمين على الشمال،(2/282)
وفيه ما لا يقل عن ثلاثين حديثا ما بين صحيح وحسن وضعيف، وكلها تشير إلى أن السنة وضع اليمين على الشمال، وفي السنة : (( أمرنا -أي معاشر الأنبياء- أن نأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة )) ومن هنا في هذا الحديث : (( أن نأخذ بأيماننا على شمائلنا في الصلاة )) استدلوا به على القبض، وهو جر الإبهام إلى طرف الوسطى؛ لأنه قال أن نأخذ، والأخذ لا يكون إلا بالقبض؛ لأنك ما تأخذ الشيء إلا إذا قبضت عليه، وقال: (( نأخذ بأيماننا على شمائلنا )) وهذا يدل على مشروعية القبض الذي أشرنا إليه .
[ ويجعل بصره إلى موضع سجوده ] : إذا كان قائما ثبتت السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه رمى ببصره إلى موضع سجوده، واختلف العلماء والأئمة :
قال بعض العلماء : أنه يرمي ببصره قِبَل وجهه، أي قبلته؛ لأن الله يقول : { فول وجهك شطر المسجد الحرام } فقال : يؤمر أن ينظر أمامه، ولا ينظر إلى موضع سجوده على ظاهر الآية، وقالوا: إن الأمر أكثر إذا كان بمكة فإنه ينظر إلى الكعبة، ولا ينظر إلى موضع سجوده إذا كان قائما.
وفي السنة الصحيحة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه كان يرمي ببصره إلى موضع سجوده قائما؛ لأن هذا أبلغ في الخشوع، وأكمل في حضور القلب، ولذلك يقدم هذا القول على قول من قال إنه ينظر أمامه .وحديث أم المؤمنين حينما ذكرت خشوع الناس، بينت أنهم كانوا لا تجاوز أبصارهم مواضع الأرض، ثم بعد ذلك سلب الخشوع، فأصبحوا ينظرون أمامهم، ثم سلب الخشوع -والعياذ بالله- حتى أصبح الرجل ينظر يمينا وشمالا -نسأل الله السلامة والعافية-، فالخشوع الأكمل أن ينظر في موضع سجوده .
[ ثم يقول : سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك ] : ثم يقول هذا دعاء الاستفتاح، وصف بذلك لأن المصلي يستفتح به صلاته، وقد ثبت دعاء الاستفتاح في السنة الصحيحة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في أكثر من حديث .(2/283)
وانقسمت هذه الأحاديث إلى ثلاثة أنواع من الاستفتاح :
النوع الأول : ما كان دعاء محضا، وفيه حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (( قال يا رسول الله : أرأيت إسكاتك -لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان إذا كبر يعني تكبيرة الإحرام سكت هنية- فقلت: يا رسول الله، -بأبي وأمي- أرأيت إسكاتك ما بين التكبيرة والقراءة ما تقول :؟ قال : أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد )) هذا دعاء محض وهو النوع الأول من الاستفتاحات: أن يكون الاستفتاح بالدعاء المحض .
النوع الثاني من الاستفتاح : أن يكون بالتمجيد المحض، ومنه ما اختاره المصنف -رحمه الله- وهو حديث عمر - - رضي الله عنه - - وعائشة، وفيها أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يستفتح الصلاة بقوله : (( سبحان اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك )) فهذا ليس فيه دعاء .
والنوع الثالث من الاستفتاحات : ما جمع بين الدعاء والتمجيد، وهذا ما وقع في حديث علي - - رضي الله عنه - - في استفتاحه الطويل : (( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين )) هذا التمجيد .(2/284)
وفي قوله : (( اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنوبي هنا كله تمجيد لله - - عز وجل - - ثم قال اغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني شرها وسيئها لا يصرف عني شرها وسيئها إلا أنت - هذا دعاء محض-... ثم قال : لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك )) وهذا تمجيد محض ، ومن هنا جمع حديث علي - - رضي الله عنه - - ما بين دعاء وبين التمجيد، وكله خلاف تنوع وليس بخلاف تضاد، إن شاء استفتح بالدعاء، والحقيقة أنه أقوى، وهو قول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يستفتح به، وإن شاء استفتح بالتمجيد المحض كما اختار المصنف فهو وجه؛ لأن عمر - - رضي الله عنه - - علمه الناس على المنبر، وإن شاء استفتح بما جمع بينهما، ولكن إذا كان إماما لا يطول على المأمومين؛ لأنه إذا استفتح بحديث علي طَوّل .(2/285)
[ ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ] : هذا الاستفتاح سنة، ومحله ما بين التكبير والقراءة، فلو سها عنه وابتدأ الفاتحة لم يرجع إليه؛ لأنه لا يجوز ترك الركن لتحصيل السنة؛ لأنه إذا شرع في الركن والفاتحة لا يرجع إلى الاستفتاح، ثم هذا الاستفتاح يقوله إن وسع الوقت منفردا أو وسع الوقت مأموما، وسع الوقت مأموما مثلا دخل وراء الإمام في صلاة المغرب، فكبر بتكبيرة الإمام للإحرام، والإمام سيسكت لدعاء الاستفتاح، فتقول دعاء الاستفتاح، ولكن لو أنه جاء والإمام يقرأ بالفاتحة فإنه لا يقرأ دعاء الاستفتاح؛ لأنه قد فات مكانه، ولو اشتغل بدعاء الاستفتاح ترك الواجب من الإنصات، ودعاء الاستفتاح سنة، ولا يجوز ترك الواجب لسنة، ثم إنه إذا أدرك الإمام قبل الركوع في السرية يترك دعاء الاستفتاح إذا خاف أنه لا يتمكن من قراءة الفاتحة، فمثلا لو غلب على ظنه سمع تكبيرة الإمام، ودخل من باب المسجد، وأراد أن يدرك الصفوف الأول، وهو يعلم أنه ما بقي إلا بقدر قراءة الفاتحة، فإذا كبر وراء الإمام يقرأ الفاتحة مباشرة، لأنه لو قرأ دعاء الاستفتاح ستذهب عليه الفاتحة . ومن هنا لو أنه قرأ دعاء الاستفتاح وركع الإمام وركع وراءه دون قراءة الفاتحة لزمه قضاء الركعة؛ لأنه أدرك وقتا يمكنه أن يقرأ فيه الفاتحة، فوجبت عليه الفاتحة على الأصل، ومن هنا دعاء الاستفتاح يشرع تركه في هذه المواطن
[ ثم يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ] : لأن السنة إذا أراد أن يبتدئ القراءة أن يستعيذ قبل البسملة فيستعيذ بالله - - عز وجل - - أولا، واللفظ المختار قوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وفي حديث أبي سعيد الخدري : (( من همزه ونفخه ونفثه )) والأمر واسع، ولكن الأفضل أن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن الله يقول : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } ومن هنا قال الناظم :(2/286)
ولفظه المختار ما في النحل وقد أتى الغير عن أهل النقل
يجوز أن يستفتح بغيره، لكن اللفظ المختار والأفضل أن يستفتح بما في سورة النحل؛ لأن الله أمر به.
ومن أهل العلم من قال :لا يستعيذ أثناء الصلاة، وهو قول بعض العلماء كما قال بعض النظام :
ولتستعذ إذا قرأت واجهرا مع استماع وابتداء للدرى
لا مخفيا أو في الصلاة كانا ندبا وفي العمر الوجوب بانا
فقال إنه في الصلاة لا يستعيذ .
والصحيح أنه يستعيذ بالله - - عز وجل - -، وثبتت السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بذلك :
أولا : لعموم القرآن في عموم القرآن في قوله تعالى : { فإذا قرأت القرآن } ولم يفرق بين صلاة وغيرها .
وثانيا : للسنة الواردة عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وهي نص في موضع النزاع .
وإذا استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ؛ وجهان للعلماء : هل يكرر الاستعاذة في كل ركعة أو يكفيه أن يستعيذ في الركعة الأولى ؟
الذين قالوا : إن الركوع والسجود لا يقطع؛ لأنه من جنس ذكر الله - - عز وجل - - رأوا أن دخول الذكر المستصحب مستصحب لا يقطع، قالوا: لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قرأ في قيام الليل ،فمر بآية الرحمة فسأل الله من فضله، ومر بآية عذاب فسأل الله - - عز وجل - - أن يعيذه من النار، فدل على أن الذكر لا يقطع، ومن هنا قالوا إنه إذا قام إلى الركعة الثانية كأنه في حكم القارئ، فيبدأ مباشرة بالبسملة؛ لأنه طبعا في الركعة الثانية لابد من البسملة؛ لأنها في ابتداء السورة -سورة الفاتحة-.
قوله : [ ثم يقول بسم الله الرحمن الرحيم ] : هذه سنة أنه يسمي عند بداية قراءة الفاتحة .
بسمل وجوبا عند كل السور عدا براءة وذا في الأشهر(2/287)
وكانت السنة في الفصل بين السور ما يعرفون انقضاء السورة وابتداء السورة في الوحي على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - إلا بالبسملة، فيبسمل عند ابتدائه لقراءة الفاتحة، ويبسمل أيضا عند قراءة السور سواء كان في التواريح أو التهجد (قيام الليل)، أو جمع في الركعة الواحدة بين السورتين، فإنه يفصل بينهما بالبسملة، ولكن لا يجهر بالبسملة على السنة كما سيأتي، وإن جهر في بعض الأحيان فلا ينكر عليه؛ لأن له أصلا.
[ ولا يجهر بشيء من ذلك ] : ولا يجهر بالاستعاذة، لا يجهر بالبسملة، والاختيار أن الجهر بالبسملة له وجه ولا ينكر على من فعله؛ لأنه هنا منع من ذلك على ظاهر الحديث الذي اختاره -رحمه الله- .
[ بقول أنس - - رضي الله عنه - - : صليت خلف النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ] : هو لفظ فكلهم : (( يستفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين )) وهذا الحديث فيه اختلاف في إثبات البسملة ونفيها، وأيا ما كان فالأعدل أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - - بسمل حتى أسمع نفسه، والذين نفوا نفوا الجهر، والذين أثبتوا بينوا أنه كان يستفتح السورة بالبسملة .
والشافعية يرون أن البسملة آية من الفاتحة ولابد من الإتيان بها .
والصحيح أنها ليست آية؛ ودليلنا على ذلك الحديث الصحيح : أن الله تعالى يقول : (( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال :الحمد لله رب العالمين؛ قال الله : حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين ... )) الحديث فقال قسمت الصلاة وذكر الفاتحة بالحمد مباشرة، ولم يذكر التسمية فدل على أن التسمية ليست آية، وما ورد في رواية الدارقطني أو غيره بإثبات التسمية في هذا الحديث ضعيف وشاذ ومردود عند العلماء -رحمهم الله- .(2/288)
[ ثم يقرأ الفاتحة ] : وهي فاتحة الكتاب؛ سميت بذلك لأن الله استفتح بها كتابه، وهذه التسمية شرعية يعني واردة بالنص؛ وذلك في قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وأسماء سور القرآن منها ما هو توقيفي ورد في الشرع وسميت بالنص الصحيح، ومنها ما هو اجتهادي وذكره السلف من الصحابة والتابعين، وعلى كل حال هذه السنة أنه يقرأ الفاتحة بعد دعاء الاستفتاح، وسنبين أحكام الفاتحة -إن شاء الله- عند بيان الأركان .
[ ولا صلاة لمن لم يقرأ بها إلا المأموم ] : ولا صلاة لمن لم يقرأ بها هذا نص حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) : (( وأيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج )) فهذا يدل على أنه يجب على المصلي أن يأتي بفاتحة الكتاب .
واختلف العلماء : هل هذا على سبيل العموم أم أن هذا العموم يوجد ما يخصصه ؟(2/289)
منهم من قال : إنه على سبيل العموم، وأصح أقوال العلماء : الفاتحة ركن من أركان الصلاة على المنفرد والإمام والمأموم، فكل من صلى يجب عليه أن يأتي بفاتحة الكتاب سواء كانت الصلاة جهرية أو سرية؛ ودليلنا على هذا العموم أن الحديث في الصحيحين نص على لزوم الفاتحة في كل صلاة، ولكل مصل، يقول عليه الصلاة والسلام : (( لا صلاة )) نكرة في سياق النفي، وهذا تفيد العموم بإجماع العلماء -رحمهم الله- : (( أيما صلاة )) أي من صيغ العموم عند علماء الأصول كما هو مقرر في علم الأصول : (( أيما صلاة )) صلاة نكرة : (( لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ))لم يفرق رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في هذه الأحاديث الصحيحة التي لا غبار عليها في لزوم الفاتحة لكل مصل، ولم يفرق بين إمام ومأموم، ثم جاء ما يؤكد أنها في المأموم لازمة حينما قال : (( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي )) فجعل الصلاة لا تكون إلا بالفاتحة، وهذا كله يدل دلالة واضحة على أنه يلزم المأموم بقراءتها كما يلزم الإمام والمنفرد؛ لأن الإمام لا يحمل عن المأموم الفاتحة، وأكد هذا قوله -عليه الصلاة والسلام-: (( إنكم تقرؤون وراء إمامكم؟ قالوا : نعم )) لأن الصحابة كانوا في بداية التشريع إذا سمعوا النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقرأ قرؤوا بقراءته، فقرؤوا الفاتحة، ثم قرؤوا وراء الفاتحة، فإذا قرأ مثلا قل أعوذ برب الناس قرؤوا وراءه قل أعوذ برب الناس لأنهم يظنون أن المأموم يفعل ما يفعله الإمام؛ فقال : (( إنكم تقرؤون وراء إمامكم ؟ قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب )) وهذا يدل على أن فاتحة الكتاب مستثناة للمأموم وأنه يجب عليه أن يأتي بها .
وأما حديث : (( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)) ؛ فيجاب عنه من وجوه:(2/290)
الوجه الأول : من ناحية السند، فإن هذا الحديث تكلم عليه جمهور أئمة الحديث وضعفوه، وعلى القول بأنه حسن بناء على الشواهد فإنه لا يعارض ما في الصحيحين، بل لا يعارض ما هو صحيح فضلا عما في الصحيحين والقاعدة أنه إذا تعارض ما في الصحيحين مع غيره قدم ما في الصحيحين على غيرهما .
الوجه الثاني : من جهة المتن، فإن قوله : (( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)) وعندنا حديث : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)) احتمل قراءته كلها واحتمل قراءة الإمام بعد الفاتحة والجمع بين النصين أولى من العمل بأحدهما وترك الآخر، فنقول حديث : (( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )) إن حملناه على العموم عرضنا به عموم الحديث الآخر، وإن قلنا : إن المراد به قراءة الإمام فيما بعد الفاتحة، وهذا معناه من قوله: (( ما لي أنازع القرآن )) فإن هذا في غير الفاتحة لا في الفاتحة ؛ لأن غالبا ما يكون الرد والتشكيك للإمام فيما وراء الفاتحة لا في الفاتحة؛ لأن الفاتحة واضحة بديهة . ومن هنا قالوا : إن الأشبه أن يحمل حديث من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة على الوجه الثاني الذي لا يعارض به ما هو أصح منه وأقوى دلالة، وعند علماء الأصول أن أي نص إذا تردد بين معنيين : أحدهما يعارض ما هو أقوى منه وأصح وأصرح، والثاني لا يعارض وجب صرفه للذي لا يعارض، فنحن إذا حملنا : (( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )) على ما بعد الفاتحة لم يعارض حديث : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وهذا لا يشك فيه؛ لأن الناس في بداية التشريع سيقرؤون سواء الفاتحة وغير الفاتحة، فيحتاجون إلى حديث وتنبيه وسنة من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - تمنعهم مما زاد عن الواجب، وهذا معنى قوله : (( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )) هذا هو الأشبه، ومن هنا يترجح قول من قال بوجوب قراءة الفاتحة عموما، وهو مذهب طائفة من الصحابة -رضوان الله(2/291)
عليهم- .
قال رحمه الله [ فإن قراءة الإمام له قراءة ] : للحديث .
قال رحمه الله : [ ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وفيما لا يجهر فيه ] : يقرأ الفاتحة في سكتات الإمام: سكتته بعد التأمين، وقبل القراءة، وسكتته بعد القراءة وقبل الركوع، وقد حفظ عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه سكت قبل الركوع، ولم يصل ركوعه بالقراءة . هذه هي السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، فيستحب أن يقرأ يعني المأموم إذا أراد أن يقرأ يقرأ في سكتات الإمام .
قال رحمه الله : [ ثم يقرأ بسورة تكون في الصبح من طوال المفصل ] : ثم يقرأ بسورة؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن )) وصحت السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه كان إذا فرغ من الفاتحة قرأ ما تيسر معه من القرآن .
فبعد أن بين المصنف -رحمه الله- سنية قراءة الفاتحة ولزومها شرع في بيان هدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فيما يقرأ، وللنبي - - صلى الله عليه وسلم - - سنن محفوظة في قراءته للصلوات الخمس .
وقوله : [ من طوال المفصل ] : المفصل : مأخوذ من الفصل، وأصل الفصل : القطع، وسمي المفصل مفصلا لكثرة الفواصل فيه، والقرآن جزئ وحزب وقسم إلى أقسام ،وهذه الأقسام كان بعضها موجودة على عهد الصحابة -رضوان الله عليهم-، وكانوا يحزبون القرآن كما في حديث أوس بن حذيفة - - رضي الله عنه - - في قصة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - مع وفد ثقيف .
والقرآن فيه الطُوَل وهي السبع، ثم بعد ذلك المئين، ثم بعد ذلك المثاني، ثم بعد ذلك المفصل، فهذه أربعة أقسام لكتاب الله - - عز وجل - - .
أولها: الطوال ، ثم بعد ذلك المئين ، ثم بعد ذلك المثاني، ثم بعد ذلك المفصل.(2/292)
فأما الطوال وهي السبع السور الطوال من كتاب الله - - عز وجل - - فهي : البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأعراف، والأنعام، وسورة الأنفال مع التوبة؛ لأنهم كانوا يرونهما كالسورة الواحدة، ولذلك لم يفصل بينهما بالبسملة .
ومن العلماء -رحمهم الله- من أئمة القرآن من يحذف التوبة والأنفال، ويدخل يونس فهذه السبع الطول، وهي التي كانت معروفة حتى في عصر الصحابة وفيه قصة المعروفة :
زهدني في فرشها ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع الطول
إني امرئ قد رابني وجل
فالسبع الطول هذه، والمحفوظ في تحزيب الصحابة كما جاء في السنة أنهم يحزبون القرآن ثلاثا، وخمسا، وسبعا، وتسعا، وإحدى عشر، وثلاثة عشر، ثم المفصل، هكذا جاءت الرواية فإذا قلنا: ثلاثا وخمسا هذه ثمانية، وسبعا وتسعا ستة عشر، وثمانية وستة عشر أربع وعشرون، ثم أحد عشر وثلاثة عشر أربع وعشرون، أربع وعشرون وأربع وعشرون ثمانية وأربعون سورة ثمانية وأربعون سورة، ثمانية وأربعون سورة اشتمل عليها ما قبل المفصل، ومن هنا قوي قول من قال إن المفصل يبدأ بـ (ق) وهذا على تحزيب الصحابة -رضوان الله عليهم-.
منهم من قال : يبدأ بالحجرات، وقد اختلف في بدايته على أكثر من عشرة أقوال :
قيل: إنه يبدأ بـ {إنا فتحنا }وقيل : بالحجرات، وقيل بـ (ق) وقيل: بالذاريات وقيل: بتبارك وقيل : بالرحمن وغير ذلك من الأقوال التي ذكرت، لكن الصحيح أنه يبدأ بـ (ق) وسنذكر إن شاء الله بإذن الله - - عز وجل - - تفصيل العلماء في هذا التحزيب، وبيان سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في قراءته في المجلس القادم -إن شاء الله- .
الأسئلة :
س : فضيلة الشيخ : ما معنى قوله - - صلى الله عليه وسلم - - : (( فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا )) وما الفرق بين فأتموا واقضوا . وجزاكم الله خيرا ؟
بسم الله. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد :(2/293)
هذا الحديث حديث أبي هريرة في الصحيح : (( وما فاتكم فأتموا )) هي رواية الأوثق، وهي الرواية الأقوى : (( وما فاتكم فأتموا )) وعليها ثقات الرواة عن الزهري، وهم أضبط في هذه الرواية .
وأما رواية :(( وما فاتكم فاقضوا )) فإنها رواية الأقل، ولا ترقى إلى رواية : (( فأتموا )) في القوة، ومن هنا قدمت رواية : (( فأتموا )) على رواية : (( فاقضوا )) قدمت من وجهين :
من جهة السند؛ لقوة الرواة وكثرتهم.
وقدمت من جهة المعنى؛ لأن الإتمام القضاء يستعمل بمعنى الإتمام، فتقول: قضى بمعنى أتم، ومن هنا قدمت رواية : (( فأتموا )) على رواية : (( فاقضوا )) ويكون الصحيح أن كل من صلى وراء إمام يعتبر صلاته مع الإمام هي الأولى، رواية : (( فأتموا )) معناه أنك تجعل صلاتك مع الإمام هي الأولى، فإذا أدركت في المغرب ركعة تضيف إليها ركعة جهرية، ثم تجلس للتشهد وتأتي بركعة سرية، ولو أدركت في العشاء ركعة أتيت بركعة جهرية، ثم جلست للتشهد ثم أتيت بركعتين سريتين هذه رواية : (( فأتموا )) .
رواية : (( فاقضوا )) العكس تجعل صلاتك مع الإمام هي الأخيرة، وتقضي ما سبق فتبدأ بركعتين جهريتين إن فاتتك ركعتين في المغرب تبدأ بركعتين جهريتين ولا تجلس إلا بعد الركعتين .
ومن العلماء من جمع بين الروايتين فقال: يتم الأفعال ويقضي في الأقوال، كما هو عند المالكية فيجعل صلاته هي الأولى في الأفعال، ويجعل صلاته هي الأخيرة في الأقوال، فيجمعون يلفقون بين المذهبين .
والواقع أن الأقوى رواية : (( فأتموا )) فيرجح أن تجعل صلاتك مع الإمام هي الأولى؛ لأنها أقوى سندا وأقوى متنا؛ لأن القضاء يستعمل بمعنى الإتمام كما قال تعالى :{ فإذا قضيت الصلاة } يعني تمت : { فإذا قضيتم مناسككم } يعني أتممتموها وحينئذ تكون رواية أتموا أرجح فتحتسب صلاتك مع الإمام هي الأولى وتبني على هذه الصلاة . والله تعالى أعلم .(2/294)
س : فضيلة الشيخ : هل من كلمة في أدب طالب العلم أثناء جلوسه بين يدي شيخه وفي مجالس العلم وهل يكره الاستياك والاعتماد أثناء الجلوس وجزاكم الله خيرا ؟
أما الاستياك أثناء مجلس العلم فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، واحد يشتغل بالمسواك في فمه، حتى أنا لو أرى أحدا يستاك يتشتت ذهني، ولذلك أرجو الذي يريد أن يستاك أن لا يجلس في وجهي، وإذا رأيت أحدا في وجهي يستاك أرجوك أن تنصحه؛ لأني ما أستطيع أن أركز، ما يستطيع الإنسان أن يركز وهو يعبث بالسواك والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقول : (( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت )) وأنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر عد الاشتغال عن العلم ذهابا لأجر الجمعة، مع أنه يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب عليه والسنة واجبة، فمابالك بالسنة المستحبة، فهذا ليس موضع سواك أن يجلس الإنسان في مجلس العلم في وجه الشيخ أو العامي يستاك هذا الحقيقة من الأمر يعني ما نعرفه في مجالس العلماء - رحمهم الله - .
ومن هنا ينبغي تعظيم العلم، وتوقير العلم، فإذا جلس الإنسان في مجلس العلم أول شيء عليه أن ينصت؛ لأن الله - - عز وجل - - أمر بالإنصات للعلم، وواجب على كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينصت للحق خاصة إذا تليت عليه آيات الله، وأحاديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وذكر كلام العلم المستنبط من الكتاب والسنة .
ثانيا أن يحضر قلبه، وأن يعلم كل طالب علم أنه مسؤول أمام الله عن كل كلمة سمعها، والله، ما حضرت مجلسا من مجالس العلم فسمعت حكما إلا حملته أمانة في عنقك أن تبلغه من وراءك، وأن تعلمه من جهل ولا يحسب الإنسان أنه يجلس في مجالس العلماء للاستكثار، فإن مثل هذا يستكثر من حجج الله - - عز وجل - - عليه.
الشعور بالمسؤولية فهذا من الأدب الكامل، ومن فعل هيأ نفسه لمعالي الأمور، فانضبط وحصل العلم على أتم الوجوه وأكملها .(2/295)
كذلك أيضا من الأمور التي ينبغي على طالب العلم أثناء مجلس العلم : أن لا يشغل ذهنه بكثرة الالتفات، ولذلك كان أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - إذا جلسوا بين يدي النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أطرقوا حتى كأن على رؤوسهم الطير، ومن خفة طالب العلم أن يكون في مجلس العالم فيرى شيئا حدث في المسجد فيلتفت يمنة ويسرة، ثم الذي وراءه يلتفت، ثم الذي وراءه يلتفت وكان أصحاب النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يطرقون حتى كأن على رؤوسهم الطير، لو زلزلت الأرض ما انصرفوا عن قول الله وقول رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - أدبا وحياء مع العلم، حتى قال بعض العلماء : عجبت ممن يجلس في مجالس العلماء ولا يستشعر هذه العظمة، حتى ولو سمع صراخا في المسجد التفت يمينا وشمالا .
والله أحق أن يعظم فهذا من خفة الإنسان في مجلس العلم أن يلتفت يمينا وشمالا، أو يرى رجلا قام أو قعد يلتفت إليه، يلتفت إلى كلام الله وكلام رسوله، فيطرق برأسه ويصغي بأذنه، كان أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - إذا جلسوا في مجلس رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أطرقوا حتى كأن على رؤوسهم الطير.
وقال سهل لقريش : إني ما رأيت أشد حبا من أصحاب محمد لمحمد، والله ما كلمهم إلا أطرقوا حتى كأن على رؤوسهم الطي،ر وهذا أبلغ ما يكون في ا لأدب، وأكمل ما يكون في مجالس العلماء.
كذلك أيضا ينبغي على طالب العلم في مجلس العلم : أن لا يشغل غيره ، فالطالب مع الطالب لا يشغل الطالب عن سماع العلم.
وأيضا عليه أن يكون على أكمل الحالات، ما يجلس ينام، ولا يتثاءب عليه أن يكون على أكمل الحالات في مجلسه لا يمد رجله، ولا يستخف بالعلم، إنما يجلس جلوس من يوقر العلم، ويجل العلم، وإذا كان المكان ضيقا لم يتفسح ولم يتعال على إخوانه من طلاب العلم، وإنما جلس جلوس الرفقة والمحبة .(2/296)
كذلك عليه في مجلس العلم : أن يحسن الإشكالات والسؤال، وأن يضبط ذلك، وأن يكتبه، وأن يقيده، هذا مما أحب أن أنبه عليه، وإلا فالآداب كثيرة، وجماعها تقوى الله - - عز وجل - - .
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا حسن الخلق وأن يتمم أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا بمكارم الأخلاق التي لا يهدي لأحسنها إلا هو إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك علىنبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تابع باب صفة الصلاة
قال المصنف -رحمه الله- : [ ثم يقرأ بسورة تكون في الصبح من طوال المفصل ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد :
فبعد أن بين المصنف -رحمه الله- لزوم قراءة الفاتحة، شرع في بيان ما يقرأه المصلي، وتشرع قراءته بعد سورة الفاتحة، وقد ثبتت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- السنن في قراءته بعد الفاتحة، فأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن السنة في الصلاة السرية والجهرية أن يقرأ عقب الفاتحة إذا كان في الركعتين الأوليين من الثلاثية والرباعية، وبقية الصلاة كصلاة الفجر فإنه يقرأ فيهما، فصح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قرأ مما تيسر من القرآن بعد الفاتحة، وهذا القدر زائد عن الواجب، ولذلك لو أنه سها ولم يقرأ بعد الفاتحة فركع فصلاته صحيحة، وهل يسجد سجود السهو أو لا؟ إن قيل : بالسجود في المسنون شرع، وإلاّ فإنه لا يجب عليه سجود السهو .(2/297)
وبين المصنف -رحمه الله- أنه يقرأ في الصبح بسورة من طوال المفصل، كنا قد ذكرنا أن القرآن حزبه الصحابة -رضوان الله عليهم- والتابعون، وكذلك اصطلح على أسماء يجزّأ فيها القرآن أجزاء على حسب طول السور وقصرها، وعلى حسب طبيعة السور من ناحية الفواصل، فالمفصّل سمي بذلك لكثرة الفواصل فيه، وآياته ليست بالطويلة بالنسبة لما قبله، وقد قسم القرآن إلى : الطول، وإلى المئين، وإلى المثاني، والحواميم، والمفصل، فهذه أقسام لكتاب الله -- عز وجل -- فالطول هي السبع : البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأعراف، والأنعام، والأنفال مع التوبة؛ لأنهم كانوا يحتسبونها بمثابة السورة الواحدة، ولذلك لم يجعلوا بينهما بسملة، هذه السبعة الطول، وصفت بذلك لطولها، وقد جاء أيضا في السنن عن الصحابة -رضوان الله عليهم- وصفها بذلك : (( أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يقرأ بأطول الطوليين )) التي هي سورة الأعراف، وهي من أطول هذه السبعة الطول، ووصفت بذلك لكثرة آياتها، ولطول المفاصل فيها؛ لأن أكثرها مدنية والآيات المدنية تمتاز بطولها؛ لأن الغالب عليها أنها آيات تشريع وأحكام، ولذلك أطول آية في كتاب الله آية الدين، وهي مدنيّة بإجماع .
فالسور المدنية والآيات المدنية غالبا ما تكون آياتها طويلة، والسبع الطول ورد في قصة عمر المشهورة في قصة الرجل حينما اشتكته امرأته في تقصيره في حقها فقال :
زهدني في فرشها ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع الطول
إني امرؤ قد رابني وجل(2/298)
فالسبع الطول هذه، ثم بعد الطول المئين، وهي تقارب مائة آية، قد ينقص بعضها عن ذلك، ولكن أكثرها من المائة فما فوق، وهذه المئين تشمل السور التي بعد السبع الطول، طبعا تشمل : يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم ، والرعد، والحجر، وإن كان هذه الثلاثة تختلف عما قبلها والنحل إلى الإسراء والكهف، ثم بعد ذلك المثاني ووصفت بذلك قيل : المثاني إنها دون ذلك يعني الأولى تقارب مائتين آية، والمثاني إلى مائة آية، تزيد قليلا أو تنقص عنها .
المثاني قيل : لأنه سمي فيها ذكر الأنبياء، وقصص الأنبياء بعد أن ذكرت في الطول، ويشمل ذلك طبعا : سورة الكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحج، والنور، والمؤمنون، وأيضا سورة الفرقان، والشعراء، والقصص، والعنكبوت، إلى الحواميم، ثم بعد ذلك المفصّل .
هناك تحزيب ثان للصحابة -رضوان الله عليهم- وهو الوارد في حديث أوس بن حذيفة أنهم كانوا يحزّبون القرآن ثلاثا، وخمسا، وسبعا وتسعا، وإحدى عشر، وثلاثة عشر، من هذا الحديث أخذ العلماء أن المفصّل يبدأ من سورة ( ق ) .(2/299)
فقوله -رحمه الله- : [ من طوال المفصّل ] : المفصّل يبدأ بسورة ( ق ) على الصحيح من أقوال العلماء -رحمهم الله-، وهناك من قال : الحجرات، ومنهم من قال : الفتح، ومنهم من قال : الرحمن، ومنهم من قال : الواقعة، ومنهم من قال : تبارك، ومنهم من قال : عمّ، أكثر من عشرة أقوال في بداية المفصل، ولكن الصحيح أنه من بداية ( ق ) ؛ لظاهر حديث أوس، فإذا تأمّلنا أنهم كانوا يحزّبون القرآن ثلاثا وخمسا وسبعا وتسعا وإحدى عشر وثلاثة عشر : المجموع ثمانية وأربعون سورة، فثلاث هي : البقرة، وآل عمران، والنساء، ومن أهل العلم من يسقط النساء ويدخل المائدة، والخمس هي : المائدة، والأعراف، والأنعام، والأنفال، والتوبة، هذه خمس سور، ثم السبع بعد ذلك وهي : يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل، فهذه سبع، ثم بعد ذلك التسع يحزّبونها من : سبحان، أو سورة الإسراء، ثم الكهف، ثم مريم، ثم طه، ثم الأنبياء، ثم الحج، ثم المؤمنون، ثم النور، ثم الفرقان، فتنتهي بسورة الفرقان، هذه التسع، ثم الإحدى عشر تبدأ بالشعراء، ثم النمل، ثم القصص، ثم العنكبوت، ثم الروم، ثم لقمان، ثم السجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس، هذه إحدى عشر سورة، ثم بعد ذلك الثلاثة عشر الثلاثة عشر سورة طبعا تبدأ بالصافات، وتنتهي بالحجرات . الصافّات، ثم بعدها ( ص)،والزمر، وغافر، وفصلت، ثم الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، ثم محمد، والفتح، والحجرات، هذه ثلاثة عشر سورة، هذا التحزيب الوارد في حديث أوس بن حذيفة يدل على أن المفصل يبدأ من سورة ( ق ) ؛ لأن الثلاث والخمس : ثمانية، ثم السبع والتسع : ستة عشر، ثمانية وستة عشر : يصبح المجموع أربعا وعشرين سورة، الأربع والعشرون سورة أضف إليها تحزيب الإحدى عشر مع الثلاثة عشر أربع وعشرون فيصبح ثمانية وأربعين سورة، المجموع لهذا التحزيب عن الصحابة -رضوان الله عليهم- .(2/300)
فبين هذا أن المفصّل يبدأ من سورة ( ق ) وهو أقوى الأقوال وأصحها، وأكّد هذا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى في الفجر بـ ( ق ) ، ثم المفصل هذا، قسمه العلماء إلى ثلاثة أقسام : اتفقوا على نهايته بالناس، ومنهم من جعل له طوال المفصّل، وأوسط المفصل، وقصار المفصّل .
فطوال المفصل اختلف في بدايته ونهايته أيضا على أقوال، وهكذا الأوسط على حسب الاختلاف في نهاية الأطول، ولكن أعدل الأقوال وهو قول ابن معن وأشار إليه غير واحد من أئمة القراءات وعلوم القرآن إلى أنه يبدأ بـ (ق) وينتهي بـ (عم) هذا طوال المفصل، ثم من عم إلى (والضحى) أوسط المفصّل، ثم من الضحى إلى آخر القرآن قصار المفصّل .
المصنف -رحمه الله- يختار أنه في صلاة الفجر يقرأ من طوال المفصّل؛ والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يطيل في صلاة الفجر، وفي الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- : (( أنه كان يقرأ في صلاة الفجر ما بين الستين إلى المائة آية )) وهذا يعني قدر تقريبي من جابر -رضي الله عنه وأرضاه- .(2/301)
وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يطيل في صلاة الصبح، وأنه كان ينفتل منها حينما يعرف الرجل جليسه، بمعنى أنه كان يدخل في صلاة الفجر في أول وقت الفجر وهو الغلس والصبح يقول جابر -- رضي الله عنه -- : (( والصبح كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يصليها بغلس )) وعائشة -رضي الله عنها- تقول كما في الصحيحين : (( كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يصلي الصبح فيشهد معه النساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلى بيوتهم ما يعرفن من شدة الغلس )) فإذا كان النبي --- صلى الله عليه وسلم - يستفتح صلاة الصبح بغلس، وكان يقرأ من الستين إلى المائة آية، والغلس هو اختلاف ظلمة الليل مع ضياء النهار، فلا تعرف فيه الأشياء، ولا تتميز، وما كان يسلم من صلاته -عليه الصلاة والسلام- إلا حين يعرف الرجل جليسه، كما في حديث أبي برزة في الصحيحين، بمعنى أنه إذا نظر إلى من بجواره عرفه وعرف وجهه داخل المسجد، وفي حديث عائشة : (( ما يعرفن من شدة الغلس )) إنما هو في الرؤية البعيدة، وعلى هذا فمعناه أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يبكّر في صلاة الصبح فيقرأ من الستين إلى المائة آية، ولكن الانتظار في صلاة الصبح إلى النصف الساعة . بعض الأئمة يجلس إلى الساعة إلا ربعاً، إلى الساعة إلا ثلثاً ثم يريد أن يصلي صلاة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ويطوّل بالناس، هذا خلاف السنة في الأفضل، الأفضل أنه يبتدئ بغلس، ولذلك يستحب في يوم الجمعة إذا كان يريد أن يصلي بسورة الجمعة والإنسان أنه يبتدئ بغلس، فبدل أن يقيم بعد نصف ساعة يقيم بعد ربع ساعة، بعد اثنتي عشرة دقيقة، وهذا فيه رفق بالناس، ومن الناس من يأتي من الأذان الأول، ومنهم من يبكّر، فإذا جلس ينتظر الصلاة، وربما اضطره ذلك إلى انتقاض وضوئه أو حصول الحرج عليه . فالشاهد من هذا أن السنة إصابة أول الوقت في الصبح، وقد نبهنا على هذا أكثر من مرة .(2/302)
ولكن المصنف -رحمه الله- يقول : يقرأ من طوال المفصل، وقد صح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قرأ بسورة ( ق والقرآن المجيد )، وهذا على أنها من طوال المفصّل، ويجوز أن يقرأ بقصار المفصل، وإنما الأفضل والسنة أن يقرأ بطوال المفصل، وأن يطيل في القراءة، وأثر عن عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- أنه صلى بالناس بسورة يوسف في صلاة الفجر، حتى بلغ قوله : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } جعل يبكي حتى سمع نشيجه من الصف الثالث -رضي الله عنه وأرضاه-، فهذا يدل على أن السنة -سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم --، وسنة الخلفاء الإطالة في صلاة الصبح، ثم لا يمنع هذا أن يخفف، فيصلي مثلا بقصار المفصل أو أوسط المفصل، وقد جاء بحديث (( سبح اسم ربك الأعلى )) و (( هل أتاك حديث الغاشية )) وهي من أوسط المفصل، وثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قرأ بالزلزلة، قرأها في صلاة الصبح في الركعة الأولى والركعة الثانية، حتى ظن بعض الصحابة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أخطأ في هذا يعني أنه كرر السور خطأ، والواقع أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كررها عمدا، حتى يبين للناس عدم لزوم التطويل، وأيضا يبين للناس أنه لا بأس أن يكرر السورة نفسها، وأن الأمر ليس بمتعين، يبين لهم الجواز، وهذا فقه السنن أن بعض الناس إذا سمع السنن جعلها فرضا واجبا، وبالغ فيها وغلا، فالسنة لها قدر، قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، واجبة لازمة، وقد تكون غير لازمة، ومن فقه الأئمة والعلماء - رحمهم الله - أنهم ينبّهون الناس قالوا : إن قراءته للزلزلة تنبيها للناس على أنه لا يتعين أن يخالف بين الركعتين، وأنه لا بأس أن يقرأ نفس الآيات التي قرأها، وهذا رفق بالأمة؛ لأن هناك من الناس من لا يحفظ من القرآن إلا القليل، وإذا شرع له أن يكرر نفس الذي قرأه، فإن هذا أوسع وأرفق .(2/303)
وصح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه استفتح بالصلاة -صلاة الفجر-، فسمع بكاء الصبي فقرأ : { إنا أعطيناك الكوثر } ثم قال : (( إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه )) ومن هنا السنة التخفيف على الناس كما سيأتي .
هذا بالنسبة لصلاة الصبح أنه يقرأ فيها بطوال المفصل .
قال بعض العلماء : إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أطال القراءة في صلاة الصبح، وذلك لفضلها، وشرفها، وعظيم النفع والخير فيها؛ وذلك من وجوه :
أولا : من ناحية نقلية، قوله تعالى : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } قيل : إن النزول الإلهي يستمر إلى نهاية القراءة في صلاة الصبح، وقوله : { مشهودا } أي أنه من الله -- عز وجل -- وهذا أمر عظيم وفضل عظيم في قراءة الصبح وقيل : { مشهودا } تشهده الملائكة، وهو أصح القولين؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: (( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، يجتمعون في صلاة الغداء -التي هي الصبح-، وصلاة العشي -التي هي صلاة العصر- )) .
وهذا الفضل الأول : فضيلة شهود الملائكة، وفرّع العلماء عليه مسألة مشهورة وهي : أن من أهل العلم من فضل سماع القراءة في صلاة الصبح على الصف الأول، طبعا في القديم لم يكن يوجد المكرفونات أو آلات الأجهزة التي تبلغ قراءة الإمام، فاختلفوا : هل الصف الأول البعيد الذي لا يسمع معه قراءة الإمام أفضل أم أنه يأتي وراء الإمام في الصف الثاني والثالث ؟(2/304)
فقال بعض العلماء : إن إتيانه وراء الإمام في الصف الثاني والثالث يسمع القراءة أفضل من أن يصلي في الصف الأول إذا تباعد على وجه لا يسمع القراءة، قالوا : لأن فضل قراءة الفجر، والثاني عظم الأجر فيها أنه يسمع القرآن، وثالثا : أنها راجعة إلى ذات الصلاة؛ لأنه يؤثّر فيه الخشوع، ويؤثّر فيه حضور القلب، وذلك ربما غير من حياته، وربما أمر أو نهي بأمر الله أو نهيه، بخلاف ما إذا صلى في الصف الأول فإنه يحصل فضيلة المكان. والفضيلة عند العلماء فيها قاعدة : أن الفضائل المتصلة بالصلاة مقدمة على الفضائل المتعلقة بزمانها أو مكانها أو وسائلها، فالشاهد من هذا أن العلماء فضلوا قراءة الفجر من هذا .(2/305)
الوجه الثالث : في تفضيل قراءة الفجر أن الإمام والناس يقومون من النوم، وحينئذ يكونوا القلب أكمل حضورا، وأكمل خشوعا، والنفس أكمل استجماما، فهي أوعى لكتاب الله، وأوعى لكلام الله، فالنفع أعظم، ومن هنا طالت القراءة في الفجر أكثر من المغرب والعشاء، فإن المغرب والعشاء يكون الناس في حال تعب، وإتيانهم من مشاغل الدنيا، فلذلك طالت قراءة الفجر وقصرت قراءة المغرب والعشاء بالنسبة لصلاة الفجر، وهذا بالنسبة لما يشرع ويسن في القراءة، وأن الشرع قصد من هذه القراءة بلاغ الناس وتنبيه الناس، ولذلك اختار النبي - - صلى الله عليه وسلم - - السور الجامعة، وكل كتاب الله - - عز وجل - - سوره جامعة؛ سواء طوالها أو قصاره، فلربما جاءت السورة من أربع آيات أو خمسة آيات تجمع مقاصد القرآن كلها، وهذا مما أعجز فيه القرآن وهو مما يدل على أنه معجزة من المعجزات العظيمة، فكان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يختار في صلاة الفجر السور المؤثرة، ففي يوم الجمعة اختار سورة ((السجدة)) و((هل أتى)) ؛ لأن فيهما التبكير ببداءة الخلق، وإثبات توحيد الربوبية لله - - عز وجل - - بأنه خلق الخلق، وأنه قادر على الإعادة، والإحياء بعد الموت، وهو الذي تنازع فيه الرسل مع أقوامهم أنهم كذبوا البعث بعد الموت، فجاءت الآيات مذكّرة بهذه المقاصد العظيمة التي من أجلها اعتنى القرآن في كثير من المواطن وآياته بها . يشرع له أن يقرأ من طوال المفصل .(2/306)
[ وفي المغرب من قصاره ] : ويقرأ في المغرب من قصار المفصل، فالسنة وردت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - التخفيف في صلاة المغرب، ووردت عنه أنه قرأ بالأعراف، وقرأ بالطور، وقرأ بالمرسلات -صلوات الله وسلامه عليه- ، وهذا يدل على أن الأمر على سبيل السنية، وليس على سبيل الفرض والوجوب، حتى إن أم المؤمنين ميمونة -رضي الله عنها- لما سمعت القارئ يقرأ المرسلات ذكرت أنها آخر ما قرأ رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في آخر صلاة صلاها يعني صلاة المغرب في مسجده -صلوات الله وسلامه عليه- بأصحابه، فهذا يدل على أنه إنما هو على سبيل الفضيلة، وأكد العلماء - رحمهم الله - هذا بأن المغرب وقت يأتي الناس فيه من عناء ومن تعب، ولذلك يخفف عليهم حتى لا يكون فيه نفرة، وهذا من جهة المعنى في المناسبة .
يقرأ في المغرب من قصار المفصل، وقصار المفصل : من الضحى إلى آخر القرآن، هذا من قصار المفصل كما ذكرنا، وورد عنه -عليه الصلاة والسلام- مما يدل على صحة ما ذكره المصنف أنه قرأ في صلاة المغرب بـ ( قل يا أيها الكافرون ) و ( قل هو الله أحد ) و( قل يا أيها الكافرون ) و ( قل هو الله أحد) بالإجماع من قصار المفصل، وهذا يدل على أنه يشرع قراءتها أي قراءة قصار المفصل والمناسبة فيها ظاهرة .
[ وفي سائر الصلوات من أوسطه ] : وفي سائر الصلوات يعني بقية الصلوات الظهر والعصر والعشاء من أوسط المفصل؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ : (( أفتّان أنت يا معاذ، ثم قال : هلا قرأت بـ (( سبح اسم ربك الأعلى )) (( والليل إذا يغشى )) وكل من سبح والليل على القول بأن سبح يبتدئ أوسط المفصل قيل : من المرسلات وقيل : من عبس وقيل: من سبح يصبح حينئذ من أوسط المفصل .(2/307)
وكذلك أيضا إذا قيل إنه يبدأ بـ ( عم ) فإنه يدخل في أوسط المفصل، وقد أمر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالليل إذا يغشى ، وبـ (( الضحى والليل إذا سجى )) و (( سبح اسم ربك الأعلى )) وهذا يدل على أن أوسط المفصل في صلاة العشاء؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم - أهل قباء اشتكوا معاذا في صلاة العشاء، وأمره النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أن يقرأ بـ ( سبح اسم ربك الأعلى ) و ( والليل إذا يغشى ) و ( والشمس وضحاها ) أمره أن يقرأها في صلاة العشاء، قال : (( هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها )) فهذا كله من أوسط المفصل، ومن هنا في صلاة العشاء يقرأ في أوسط المفصل .
وفي صلاة الظهر والعصر يقرأ بالثلاثين آية في صلاة الظهر بين الركعتين كما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- ونصفها في صلاة العصر، وهذا كله قريب من أوسط المفصل، إلا أنه في صلاة الظهر يقرأ في الأخيرتين بسورتي الإخلاص، هذا بالنسبة لهدي النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في قراءته في الصلاة، لكن هناك أمور ينبغي التنبيه عليها في القراءة في الصلاة :
أولا : بالنسبة للمنفرد يتتبع ويتحرى السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -، ومن تحرى السنة الواردة عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أجر بأجرين : أجر العمل، وأجر المتابعة للنبي - - صلى الله عليه وسلم - -، ثم إن تتبّع السنة فيه رحمة، وفيه هداية للإنسان، كما أخبر الله - - عز وجل - - أن اتباع النبي - - صلى الله عليه وسلم - - طريق للهداية، وقل أن تجد إنسانا يحب السنة، ويتعلم السنة ويطبقها إلا وجدته على هدى وعلى صراط مستقيم - جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل - .
ثانيا : إذا كان الإنسان إماما، فعلى الأئمة أن ينتبهوا لأمور مهمة في الإمامة بالناس والقراءة :(2/308)
أولها : قضية الإخلاص لله - - عز وجل - -، فإن المقصود من القراءة في الصلاة التأثر بالنسبة للقارئ، والتأثير للغير بالنسبة للسامع، وإذا كان الإمام يتقي الله - - عز وجل - - في قراءته، ويقصد وجه الله - - سبحانه وتعالى - - لما يتلوه من آيات، نفع الله بقراءته، وفتح الله عليه، ولربما سمعه الضال فاهتدى، والعاصي فتاب، ولربما غيرت من حياة الإنسان في سلوكه وقومت منهجه وسددت قوله وعمله، وقد كثر في هذا الزمان -إلا من رحم الله- الاشتغال بأشكال القراءة عن مضمون القراءة، فالاشتغال بالتمطيط والتغني والزيادة والتكلف في نغمات القرآن إلى درجة قد تخرج الحروف عن صفاتها وعن مستحقاتها، وهذا لا شك أنه خلاف السنَنَ.(2/309)
فأولا : الإخلاص بأن الله لا يبارك بقول إنسان ولا عمله إلا بالإخلاص، وإن مما يعين الإمام على الإخلاص أن يتّقي الله ويتذكر أن الذي قدّمه على الناس هو ربه، وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وأن الله مطلع على ضميره وقلبه في قراءته، وأنه -والله- لو رزق أجمل النغمات وأجمل الأصوات وأعطي مزمارا من مزامير آل داود ولم يرد وجه الله كان في سفال في قراءته؛ لأن الله لا يحب المرائين، ولا يحب أن يشرك معه غيره (( من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )) ، فبمجرد ما يخرج من بيته يخرج بخوف ووجل، يسأل الله الإخلاص، ولينظر كم له من الأجر إن عمل لله، وماذا يجد عند الناس إن عمل لغير الله، وليعلم أنه سيبقى في هذا المحراب أو مقدّما على الناس مدة معدودة ولصلوات محدودة لا يجاوز فيها أجلا كتبه له ربه، ولا يتعدى فيها قدرا وضعه له ربه، فهذه من البلايا التي عظمت في هذا الزمان الاشتغال بالتمطيط والاغترار بكثرة الحضور حتى إن المصلين يذهبون يبحثون عن النغمات -إلا من رحم ربك- والصلاة ما جعلت لهذه الأشياء الشكلية، إنما نزل القرآن للعمل { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } فهذا هو المقصود الأعظم، ولا تدبر إلا بإخلاص، ولا تدبر إلا بإرادة وجه الله - - عز وجل - - .
ثانيا : مما يعين على الإخلاص براءة الإمام من حوله وقوته، فإذا خرج إلى الصلاة مع أنه متمكن من الآيات التي يتلوها يخرج ولا حول له ولا قوة إلا بالله - - عز وجل - -، فهذا مما ينفع الله به في التلاوة، ويجعل لها أثرا في القلوب وفي النفوس .(2/310)
كذلك أيضا مما ينصح به عدم الإطالة على الناس . النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يقرأ بـ (( السجدة )) و (( هل أتى )) ، فلربما جلس يمطط في القراءة ويتنغم ووراءه كبار السن والضعفة والحطمة والمرضى، ووراءه أهل الظروف وأهل الحوائج، فعليه أن يطبق السنة بطريقة تحبب الناس السنة، وأن لا يطبق السنة على وجه ينفر الناس من السنة . كانت قراءة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - على أتم وأفضل وأجمل وأجل ما تكون عليه القراءة، فرتل كتاب ربه ترتيلا، فكان عليه الصلاة والسلام يطيل فما يمل في إطالته، ويخفف فما يخل في تخفيفه -عليه الصلاة والسلام-، وهذا هو القصد والسنن .(2/311)
وانظر رحمك الله حينما يسمع بكاء الصبي فيقرأ : { إنا أعطيناك الكوثر } إمام قلبه مع المأمومين شفقة ورحمة -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه-، فمن كان في تطبيقه للسنة يتحرى تحبيب الناس في السنة، وترغيبهم فيها، فهو المبارك الموفق، وإذا كان الإمام يدخل لمحرابه ويرقى منبره لا يبالي بأحد يطيل في خطبته ويطيل في صلاته، وإذا قيل له : يا أخي، اتق الله لا تنفر الناس . قال : أبداً، الذي يريد أن يصلي فيصلَّ، والذي لا يريد أن يصلي فلينصرف ! صلى رجل بالناس فخطب خطبة الجمعة ثلاث ساعات في شدة الصيف، في رمضان، فقالوا له : اتق الله -- عز وجل -- ، وقرب وقت العصر، قال : ماذا ؟ أنتم جالسون وأنا الذي أتعب ! يعني أنا الذي أصيح، وأنا الذي أتعب وأنتم جالسون ما عليكم كلفة، وهل هي القضية أنك تتعب أو نجلس، القضية قضية سنة، وترغيب وتحبيب واتباع، فإذا شعر بحالة من وراءه الإمام كان مخلصا، وكان يحرص على تحبيب الناس للسنة، وطبق هذه السنن على شكل يحبب فيه الناس إلى الصلاة وراءه جمع القلوب، ورغّبها في الوقوف بين يدي الله - - عز وجل - -، وأكد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما اجتمعت سننه : قولا وفعلا على تقديم التخفيف على الناس على الإضرار بهم، فهو عليه الصلاة والسلام يقول لمعاذ - ومن معاذ في فضله ونبله أحد القلائل الذين جمعوا كتاب الله في زمان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ومع ذلك يقول له : (( أفتان أنت يا معاذ !! )) وماذا فعل معاذ؟! معاذ كان يقرأ وقراءته من أجمل القراءات -رضي الله عنه وأرضاه- ومع هذا كان يقرأ من أجل أن يؤثّر في الناس وينفع الناس، وهو الذي يتحمل المشقة، يصلي العشاء مع النبي - - صلى الله عليه وسلم - -، ثم ينطلق إلى قومه، فقال له النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( أفتان أنت يا معاذ !! )) .(2/312)
وانظر رحمك الله كيف اختار النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أسلوب قوي بليغ في الزجر والتقريع والتوبيخ، الفتنة من أعظم شيء، وهو أن يفتن الناس عن دين ربهم، فجعل فعل معاذ موجبا للفتنة؛ لأن الرجل انقطع عن الصف وأتم لصلاته، وجاء إلى معاذ حتى قالوا : إنه منافق فاتهم في دينه، فجاء إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - واشتكى إليه وقال : يا رسول الله إنا أصحاب حرث وزرع وإن معاذاً يصلي معك العشاء الآخر ثم يأتينا بالليل وذكر له أنه استفتح بسورة البقرة . فالشاهد من هذا أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال له : (( أفتان أنت يا معاذ !! )) .
ثانيا : صحت عنه السنة أن رجلا جاء واشتكى إليه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه-، وقال : إني ما أصلي ورأى فلان مما يطول بنا فما كان يقول أبي مسعود - - رضي الله عنه - - والله ما رأيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أشد غضبا من موعظته تلك، وقال - أي في الموعظة - : (( أيها الناس، إن منكم منفرين، إن منكم منفرين، إذا أم أحدكم بالناس فليخفف فإن وراءه الكبير والسقيم والضعيف وذا الحاجة )) .(2/313)
عاش مع الناس في أشجانهم، عاش مع الناس في ظروفهم، فالذي يدخل المحراب لا يرى إلا نفسه، ولا يرى إلا هو، ولربما صلى بالناس الجمعة والناس في شدة الحر، في شدة وهيج الشمس وهو تحت المكيف وفي البراد يخطب النصف ساعة في ذروة الصيف، والناس تحت وهيج الشمس، فمثل هذا ينبغي إذا نظر إلى سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه كان يقرأ بالجمعة والمنافقين في صلاة الجمعة، فإذا كان يقرأ بالجمعة والمنافقين والجمعة مع المنافقين صفحتين يكون صفحتين ونصف، صفحتين ونصف وهو يقول : (( من مئنة فقه الرجل قصر خطبته وطول صلاته )) فإذا كانت الصلاة صفحتين ونصف كم تكون الخطبة ؟ الآن لو يأتي بعشر ورقات يقلبها، ثم يقف عند كل عبارة تحتاج إلى وقفات، وربما خرج عن المكتوب إلى الملفوظ، وهذه الأمور يعيش فيها كأنه يخاطب نفسه، فعندها يتألم الناس ويتأثر الناس، وكم رأينا من حوادث يعني يضيق بها الناس ذرعا، الكلام المختصر المؤثر في الخطب، القراءة الموجزة المؤثرة الخاشعة التي هي من قلب، يتفقد الناس بالسنة بين حين وآخر، يطبق السنة بطريقة ينظر فيها إلى أحوال الناس استطاعتهم وقدرتهم ومحبتهم، وليس معنى هذا أننا نترك السنن من أجل الناس، وأيضا ليس معنى هذا أن نطبق على طريقة تنفر الناس؛ لأن السنة جاءت للترغيب لا للتنفير، وعلى الأئمة عليهم مسؤولية كبيرة أمام الله - - عز وجل - - نسأل الله لهم المعونة والتوفيق -، وينبغي التناصح في مثل هذا .(2/314)
فالسنة من ناحية القول والفعل على التخفيف، والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلى في بعض الصلوات مثلا قرأ في الفجر كما ذكرنا بـ ( السجدة ) و ( هل أتى ) فما معنى ذلك ؟ ما قال الراوي : ما كان يقرأ في الفجر إلا (( السجدة )) و (( هل أتى )) في فرق بين قوله : ما كان يقرأ إلا كذا وبين قوله : كان يقرأ، فالإنسان يختار الوقت المناسب، ويختار قدرة الناس واستطاعة الناس، فإذا كان في حيه الضعفاء، ولربما كان أشد الناس ملازما للمسجد كبار السن والضعفاء ترفق بهم، وأحسن إليهم، فإذا كان على هذا الوجه لا شك أنه سيصيب السنة .
السنة قولا وفعلا : القولية في قوله : (( إذا أمّ أحدكم بالناس فليخفف )) فهذا نص صحيح صريح يدل على أن التخفيف هو الأصل .(2/315)
وحديث أنس : (( ما رأيت أخف ولا أتم صلاة من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - )) هذا في الوصف العام، ولذلك لو أن شخصا قال : ما رأيت أخف ولا أتم صلاة من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يأتي ويصلي بالناس الأعراف ويقول : والله هذا أخف وأتم؛ والدليل على أن مقصود النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالحديث الأول غير مقصود بفعله أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الصبح وسمع بكاء الصبي قرأ : { إنا أعطيناك الكوثر } فهنا معنى لا أخف ولا أتم صلاة : أي أنه يخفف في الموضع الذي يناسبه التخفيف، ويتم عليه الصلاة والسلام في الموضع الذي يناسبه الإطالة . أحببنا أن ننبه على هذا؛ لأنه عمت به البلوى، وبالأخص إذا كان التطويل على وجه فيه حظوظ للنفس مثل ما ذكرنا من التنغيم والخروج عن السنن في القراءة، وعلى الأئمة أيضا أن يتقوا الله - - عز وجل - - في عدم التلحين والتطريب الذي يخرج الحروف عن صفاتها، ولذلك الأصل عند العلماء جواز أن يقرأ القرآن ويحسن قراءته بالقرآن كما أثنى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على الصحابة -رضوان الله عليهم- على أبي موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود، وقال في أبي موسى الأشعري : (( لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود ))، وقال لعبد الله بن مسعود حينما مر فسمعه يقرأ القرآن في المسجد ثم سمعه يدعو فقال له : (( سل تعطَ سل تعطَ )) وهذا يدل على شرف أهل القرآن، وعظيم منزلتهم عند الله - - عز وجل - -، حتى إن رسول الأمة - - صلى الله عليه وسلم - - وقف على هذا الصحابي الذي جمع القرآن فأثنى عليه، وبشره بهذه البشارة فقال : (( سل تعطَ )) وجعل هذا بعد إتقانه للقرآن، ولذلك قال في نفس الليلة (( من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما نزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد)) فهذا يدل على شرف القراءة، لكن هذا التحسين للقرآن يشترط أن لا يخرج الحروف عن صفاتها، والأصل عند العلماء أنه يجوز التلحين -تلحين القرآن-(2/316)
دون أن يخرج الحروف عن صفاتها أو يعتدي في تلحينه :
اقرأ بلحن العرب إن تجود وأجز الألحان إن لم تعتد
فالأصل أن لا يعتدي، يعني يجاوز الصفات المعتبرة والحدود المعتبرة في القراءة .
[ ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء ] : ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء، هذه هي سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : الجهر أن يسمع نفسه إذا كان منفردا، ويسمع من وراءه إذا كان إماما، فيسمع نفسه مثلا لو صلى لوحده الفجر يقرأ الفاتحة وسورة بقدر يسمع قراءة نفسه، ولا يبالغ بالرفع؛ لأن هذا قد يمنعه من الخشوع، وإنما يكون على السَنَن إذا كان لوحده يسمع نفسه، وإذا كان إماما يسمع غيره، يجهر بالقراءة في صلاة الصبح؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - جهر بها وفي الأوليين من المغرب والعشاء، وأما الظهر والعصر فكلتاهما سرية لا جهر فيهما .
[ ويسر فيما عدا ذلك ] : في الأخريين من الظهر ثبت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في صلاة الظهر أنه ربما رفع صوته بالآية يسمعها لأصحابه -صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا فيه عدة فوائد :
منها قيل : إن هذا الرفع يدفع عن المأموم ظن السهو؛ لأن الإمام إذا طول ربما ظن المأموم أنه سها، ولذلك يقوم حتى يقول القائل إنه قد نسي عليه الصلاة والسلام، فيدفع عن المأموم ظن السهو، وهكذا في الركوع والسجود، فإذا رفع صوته ببعض الأذكار أسمع دفع هذا الظن .
ثانيا : أن الرفع بالآية والآيتين قد يكون لمحض الخشوع، فلا يملك الإنسان نفسه، كما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قرأ بسورة الأنبياء، وأنه خشع عليه الصلاة والسلام وبكى في آخر الآية، ثم ركع أدركته السعلة فركع عليه الصلاة والسلام .(2/317)
وكذلك أيضا هذا الرفع لبيان الجواز، ومن هنا أخذ منه بعض العلماء أن الجهر والإسرار سنة، بحيث أنه لو أخطأ جاء في صلاة الظهر، وقال : الله أكبر، ثم قرأ دعاء الاستفتاح ثم قال : الحمد لله رب العالمين جهرة، أو العكس فقرأ مثلا في صلاة المغرب الفاتحة فسمعوه يقرأ سرا فسبحوا له فانتبه في نصفها، يرفع من الموضع الذي نبه فيه، مثلا قال : { الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم } ثم قيل له : سبحان الله، فانتبه فقال : { مالك يوم الدين . إياك نعبد وإياك نستعين } فترك الجهر بأول السورة، أو ربما ترك الجهر بالفاتحة كاملة ونبه بعد الفاتحة، في هذه الحالة إذا قيل إنه ليس بواجب لا يلزمه سجود السهو، على أن السنن لا يسجد له، وسيأتي في سجود السهو -إن شاء الله تعالى- .
إذاً هذا الجهر لما جهر عليه الصلاة والسلام وأسمع بالآية والآيتين في صلاة الظهر دل على أنه مسنون وليس بواجب، على أصح قولي العلماء -رحمهم الله- .
ويشرع أن يرفع صوته ببعض الآيات وبعض الأذكار؛ تعليما للناس، فإذا كانت الصلاة سرية ورفع صوته ببعض الآيات؛ تعليما للناس بعض السنن أو بعض ما يقرأه في -مثلا- الأخريين من الظهر يرفع صوته قليلا بسورتي الإخلاص حتى ينتبه الناس على أنه لا يقتصر فيهما بالفاتحة، وهذا هو المحفوظ في صلاة الظهر، وقاس بعض العلماء العصر على الظهر، فقال : يقرأ في الأخيرتين من العصر بسورة الإخلاص، والأشبه أنه يقتصر على الوارد، وأن القياس ضيق في هذا، وأن التعبديات مجال القياس فيها ضعيف، والمحفوظ في سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كما في حديث ابن عباس - - رضي الله عنه - - وغيره أنه ما كان يقرأ بعد الفاتحة شيئا في الأخريين، وأنه كان يقتصر على الفاتحة، وجاء الحديث في سورتي الإخلاص في الظهر فاستثنيت من هذا الأصل .(2/318)
والجهر والإسرار الحكم فيهما واحد أنه سنة، وعلى هذا لو صلى ( الظهر ) مثلا وجهر خالف السنة، لو أنه ترك الجهر في صلاة الفجر لم يسجد سجود السهو على القول بعدم الوجوب .
وإذا قيل بأن السنن تجبر بالسجود، يفصل فيه : إن تركها سهوا سجد، وإن تركها عمدا لم يسجد .
[ ثم يكبر ويركع ويرفع يديه كرفعه الأول ] : [ثم يكبر] السنة أنه إذا فرغ من القراءة يسكت هنية؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يفصل بين قراءته وبين تكبيره للركوع، وهذه هي سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وهي إحدى السكتات في قيام الإمام.
يسكت هنية بما يترادّ به النفس إليه، ثم يكبر فيركع، والسنة أن يبتدئ تكبيره وهو قائم واقف، وينتهي تكبيره عند انتهاء الانحناء لظهره؛ حتى يستغرق الانحناء الذكر فيكون هذا الموضع ما بين الركنين هو الانتقال من ركن القيام إلى ركن الركوع مشتملا على الذكر، والركوع ركن من أركان الصلاة كما سيأتي، ودل عليه دليل الكتاب في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا } وقوله تعالى : { واركعوا مع الراكعين } وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه.
والسنة عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - دالة على فرضية هذا في قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته : (( ثم اركع )) فهذا يدل على وجوبه ولزومه، ولأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ما صلى إلا ركع -حاشا صلاة الجنازة- .
السنة أن يكبر لركوعه، وهذا التكبير هو أول تكبير الانتقال في الصلاة، وقد ذكرنا: أن الصلاة لها نوعان من التكبير:
النوع الأول: تكبير الركن وهو تكبيرة الإحرام .(2/319)
والنوع الثاني: التكبير الواجب، وهو الذي ينتقل فيه من ركن إلى ركن ومن ركن إلى واجب ومن واجب إلى ركن، فينتقل فيه من ركن إلى ركن، مثل: تكبير القائم للركوع القيام ركن والركوع ركن، فينتقل من ركن إلى ركن، وينتقل فيه من ركن إلى واجب كما لو إذا كبر في صلاة الظهر بعد السجدة الثانية من الركعة الثانية لكي يجلس في التشهد، فإن الجلوس في التشهد واجب من واجبات الصلاة، ولذلك جبره النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بسجدتي السهو كما في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة -رضي الله عنه وعن أمه وأبيه-، ينتقل المصلي من الركن وهو السجود إلى واجب وهو التشهد الأول، وينتقل من واجب إلى ركن كما لو إذا كبر للركعة الثالثة في صلاة المغرب، فإنه يكون في التشهد الأول هو واجب، وينتقل منه إلى القيام للركعة الثالثة وهي ركن ، فهذه يسميها العلماء تكبيرات الانتقال .
الأصل في الركوع لا يكون ركوعا إلا إذا قصده، بمعنى أنه يحني رأسه قاصدا الركوع، ومسألة القصد في الركوع والهوي إلى السجود مسألة أشار إليها العلماء والأئمة في المطولات، ومقصودهم بها : أنه يكون السبب الباعث للانحناء هو تحصيل هذا الركن لا شيء آخر، وصورة الشيء الآخر: أنه يكون قائما فيحدث أمر يفزعه فينحني فيكبر، فالانحناء للخوف، أو يكون مثلا في حال عدو يخشى من عدو فهو قائم يصلي في بيته، ثم مر به العدو فخاف منه فحنى، وقد قارب الركوع فهذا الانحناء لخوف، ومن هنا لا يصح ركوعه، ولابد أن ينحني بقصد الانحناء، وهكذا في الخرور والهوي للسجود، لا يقعان عبادة إلا بالقصد؛ وهذا أصل تمييز الأفعال، وإذا انحنى فإن الركوع يتحقق بالإمالة، بانحناء الظهر وبلوغ الكفين إلى الركبتين؛ وقد أمر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بذلك بقوله : (( ثم اركع حتى تطمئن راكعا )) .(2/320)
هذا الأصل في هذا الركن وأنه يحصل ركبتيه بيديه، فلو أنه انحنى انحناء لا تصل فيه الكفان إلى الركبتين بحيث يستطيع أن يلقمهما، بحيث وصلت أطراف أصابعه إلى أول الركبة، فإنه لا يعتبر انحناء ركوع إلا إذا كان مريضا، أو معذورا فإنه يعذر ويخفف عنه .
إذًا الأصل أنه ينحني حتى يُلْقم بطن كفه، ويكون على ركبته، كما سيذكر المصنف -رحمه الله- في صفة الركوع، فهو الانحناء الكامل للركوع فلا يعتبر منتقلا من القيام إلى الركوع إلا إذا وصل إلى هذا القدر، ومن هنا ذكر الأئمة أن من كان واقفا، ثم انحنى في صلاة الفريضة من دون حاجة، فحنى ظهره فإذا وصل الانحناء إلى ضابط الركوع؛ فإنه حينئذ يحكم بتأثير هذا الانحناء في قيامه، وأما إذا لم يصل إلى ضابط الركوع فليس بالانحناء لأنه مازال تابعا لركن القيام، وعليه فإنه لابد وأن يلقم كفه على ركبتيه، وسيبين المصنف -رحمه الله- الصفة الواردة في السنة .
[ ثم يضع يديه على ركبتيه ] : ثم يضع يديه اليدان: مثنى يد، واليد تطلق في الشريعة ويراد بها من أطراف الأصابع إلى مفصل الكتف عند المنكب، هذا الإطلاق الكامل لليد، وتطلق ويراد بها إلى المرفقين، كما في الوضوء، وتطلق ويراد بها الكفان، والكف من طرف الأصابع إلى مفصل الزندين مع باطن الكف.(2/321)
المراد باليدين هنا هذا القدر، وهو أن يجعل باطن كفه على ركبتيه، وهذه الصفة طبعا عليه الأئمة الأربعة -رحمهم الله- وهي إحدى الصفتين في صفة الركوع الصفة: الأولى يقال لها صفة التطبيق، وكانت في أول الإسلام إذا ركع الراكع طبق يديه، وجعل يديه على بعضهما: اليمنى على اليسرى، ثم ركع وجعلهما ما بين الركبتين تعظيما لله - - عز وجل - - ، وهذا يفعله بعض الناس في عظمائهم، كان معروفا في الجاهلية، وإلى الآن أنهم يعظمون عظماءهم بهذا الانحناء، فكان في أول الإسلام الركوع على هذا الوجه: أنه يركع، فيجعل كفه اليمنى إلى كفه اليسرى مجتمعتين متقابلتين، ثم يضعهما ما بين ركبتيه، وهي صفة ا لتطبيق الواردة في حديث علي بن أبي طالب وحديث عبد الله بن مسعود – رضي الله عنهما - قيل إنها هي الصلاة المكية، ثم نسخت في التشريع المدني، والسبب في هذا أنه لما كان النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في مكة، كان يحب موافقة أهل الكتاب ؛ لأنه في مواجهة المشركين، ومن هنا كان اليهود يطبقون، فشرع التطبيق، ثم نسخ ذلك بأمره -عليه الصلاة والسلام- بالأخذ بالركب، وذلك بوضع الكف على الركبة، فإذا وضع الكف على الركبة فالسنة أن يفرق بين أصابعه، فيلقم كفه ركبته هذه هي السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في الكف قال : (( يضع يديه على ركبتيه )) إشارة إلى هذا .
ومن أهل العلم -رحمهم الله- من قال : إن هذا خلاف تنوع، وليس فيه ناسخ ومنسوخ فلو أنه ركع وطبق بين يديه؛ فإنه يجزيه، ولكن ظاهر حديث سعد وأمره -عليه الصلاة والسلام- في حديث عمر يقتضي أنه قد نسخ هذا وأنه لابد من وضع الكفين على الركبتين .
[ ويفرج أصابعه ] : يفرج أصابعه كما جاء في حديث وائل -رضي الله عنه وأرضاه- في صفة ركوعه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- .(2/322)
[ ويمد ظهره ] : ويمد ظهره : بعد أن فرغ من صفة الكفين، شرع في صفة الظهر، فالسنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه مد ظهره وجاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- : (( أنه لم يشخص رأسه ولم يصوبه )) فكان رأسه -عليه الصلاة والسلام- مستويا مع ظهره، حتى ولو أنه صب الماء على ظهره لم ينقلب، من اعتدال ظهره -صلوات الله وسلامه عليه- هذا بالنسبة للظهر، فلا يجعل الظهر مقوسا ولا يطأطئ رأسه فينحدر فيصبح جهة الرأس والكتفين أخفض من منتصف الظهر وآخره، بل عليه أن يسوي بين الجميع، هذه هي السنة المحفوظة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وهذا من أكمل ما يكون في الركوع ومن فعل ذلك فقد أصاب هدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وسنته وهو أحرى بالقبول، لكن لو كان مريضا أو معه داء في كفه فلا يستطيع أن يضعها على ركبته أو معه داء في ظهره ولا يستطيع أن يعدل ظهره أو معه تقوس ولا يستطيع أن يشد ظهره حتى يمد فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، يحني ظهره إلى القدر الذي يستطيع، ويسقط عنه أمران، في مقام الرخص في الركوع والسجود هناك أمران:
الأمر الأول: ما يسمى بالمتعذر، المتعذر هو الذي لا يستطيع الشخص أن يقوم به .
والأمر الثاني: المحرج، وهو الذي إذا قام به وصل إلى درجة الحرج والعذاب والعنت، ولربما شغل عن صلاته من الألم والضيق .(2/323)
كلا الأمرين ما تعذر وما أوصل إلى الحرج ليس من شرع الله، ما تعذر لأن الله لا يكلف نفسا ما ليس في وسعها، ولذلك قال تعالى : {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فمثلا المشلول لا يستطيع أن يركع ولا يستطيع أن يقوم فهذا متعذر في حقه لا يستطيع، والمريض الذي به مرض بحيث أنه لو طالبناه أن ينحني انحناء مستويا أو يلقم كفه على ركبته في بطن كفه حروق مثلا لو أنه جاء يلقمها تألم ولا يستطيع، أو على ركبته الحروق لو وضع كفه عليها تألم، إذا كان يستطيع باليسير من الألم قلنا السنة باليسير، لكن إذا كان ألما محرجا فالله يقول : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } ولذلك الرخص لها مقامات: مقام التعذر وهي الضرورة، ومقام الضيق والحرج وهو الحاجة، وهذا تجعله ضابط معك في الرخص أنه إذا سأل السائل عن شيء لا يستطيعه هذا مقام ضرورة ما يستطيع فالشيء المتعذر لا يكلف به أو سأل عن شيء فيه ضيق وحرج وهي المشقة المقدور عليها بالحرج والضيق فليست من شرع الله في شيء لأن الله يقول : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال : { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فلو كلفنا هذا المريض أو محروق الكف أو محروق الركبة أن يفعل هذه السنة تامة كاملة لحصل له الحرج، والله - - عز وجل - - بين أنه ليس من شرعه؛ إذا هذه السنن إذا أمكن الإنسان أن يأتي بها، وإذا لم يمكنه فإنه لا يكلف إلا ما في وسعه .
[ ويجعل رأسه حياله ] : ويجعل رأسه حيال ظهره يعني يستوي الرأس مع الظهر، فلا يكون الرأس مطأطأ ولا مشخصا، إنما عليه أن يجعل الرأس مستويا مع الظهر .(2/324)
[ ثم يقول : سبحان ربي العظيم ثلاثا ] : بعد أن فرغ وهذا من دقة المصنف - رحمه الله - يعني هذا متون الفقه التي هي آراء كلها تمشي مع السنة، يعني يقول لك من يقرأ متون الفقه هذا يقرأ فقط آراء! يدقق الفقهاء -رحمهم الله- مع الوارد ومن هنا فرغ رحمه الله من السنة المتعلقة بالأفعال وشرع في سنن الأقوال، وهذه ميزة قراءة الفقه أنه يعطي يعني ملكة في ترتيب الأفكار، هناك طبعا سنة التوتير لليد فإذا ركع يوتر يده، وهذا يعين على اعتدال الظهر واستوائه . طبعا الوتر والقوس، الوتر على استقامة، والقوس على الانحناء، فهو لا يقوس يده إذا ركع وإنما السنة أن يجعلها على استقامة، وهذا يعين على مد الظهر واستقامة الظهر، فهذه هي السنة بالنسبة المتبقية في سنن الأفعال.(2/325)
أيضا هناك مذهب طائفة من العلماء أنه إذا ركع رمى ببصره إلى قدميه حال ركوعه،يحفظ فيه بعض الآثار ويقولون: إن هذا أكمل في لخشوع، وإذا كان قائما رمى بصره إلى موضع سجوده، وإذا ركع رمى ببصره إلى قدميه، ولكن لا أحفظ شيئا صحيحا ثابتا عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - على حسب علمي، بعضها متكلم في سنده لكن شيء ثابت وصحيح عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في هذا، من حسن إسناده أو أرى في هذا شيء فإنه يعمل به. الشاهد من هذا أنه يركع على هذه الصفة [ثم يقول]: أي إذا فرغ من السنة الفعلية الواقع أن السنة الفعلية تسبق السنة القولية؛ لأن أول شيء يعتدل اعتدال الراكع على الوجه المعتبر، فإذا تم ركوعه على الوجه المعتبر بدأ بالأذكار؛ لأنه قبل أن يستتم راكعا فهو فيما بين الركنين، وما بين الركنين ليس فيه إلا التكبير، ومن هنا ينتبه في السنن القولية: أن منها ما يتعلق بالركن، ومنها ما هو ذكر بين الركنين، فالتكبير للركوع بعض الناس بمجرد ما يحني ظهره يقول: سبحان ربي العظيم، مستعجل! حتى يمكن قبل ما يمد ظهره وقبل أن يفعل شيء يقول : سبحان ربي العظيم . بعضهم يرفع رأسه من الركوع حتى ينفرق عن كونه وهولا يزال يقول : سبحان ربي العظيم يلاحظ في الانتقال ما بين الركنين، أن ما بين الركنين له ذكر مخصوص، عند الانحناء والسقوط التكبير، وعند الرفع التسميع، ولذلك يشرع أن يقول : سمع الله لمن حمده أثناء انتقاله من الركوع إلى الوقوف، فإذا استتم واقفا قال: ربنا ولك الحمد، كل شيء له ذكره وله سنته، ولذلك يقتصر على الوارد، فيقول رحمه الله : [ثم يقول] وثم للترتيب، وهذا تأكيد منه من دقته -رحمه الله- أنه لا تقال الأذكار أذكار الركوع إلا إذا حصل على الوجه المعتبر على السنة، فإذا استتم راكعا قال سبحان ربي العظيم؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } فإنها لما نزلت قال عليه الصلاة والسلام : (( اجعلوها في ركوعكم(2/326)
)) وقال عليه الصلاة والسلام : (( أما الركوع فعظموا فيه الرب)) وقوله : سبحان ربي العظيم هو الوارد والأفضل والأكمل وقوله فعظموا فيه الرب جاءت سنن أخرى واردة أيضا في قوله : (( سبوح قدوس رب الملائكة والروح )) وكذلك قوله : (( سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي )) الأصل أنه يعظم الله - - عز وجل - - والتعظيم الأفضل ما يكون بالوارد يقول: سبحان ربي العظيم السنة أن يأتي بها ويكررها .
الأسئلة :
س : فضيلة الشيخ : إني أحبك في الله . هل يشرع قراءة دعاء الاستفتاح في الصلاة على الميت ؟
بسم الله. الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد :
فإنه لا يشرع أن يقول دعاء الاستفتاح في الصلاة على الميت؛ وذلك لأن حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فصّل هدي النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ، وأنه قرأ الفاتحة، ولم يذكر قراءته لدعاء الاستفتاح، وعلى هذا مذهب جماهير العلماء والأئمة -رحمهم الله- على أنه لا يشرع استفتاح في الصلاة على الجنازة. وأحبك الله الذي أحببتنا من أجله. والله تعالى أعلم .
س : فضيلة الشيخ : ألا يرجع في تحديد القبلة في السفر إلى أمير السفر، وهل يطاع في الاجتهاد ولو كان فيمن معه من عنده اجتهاد . وجزاكم الله خيرا ؟
الأمير في السفر له حدود وضوابط، والبعض يظن أن أمير السفر يتحكم في كل شيء، حتى في العبادات، والواقع الأمر يحتاج إلى نظر، فما كان من جنس العبادات، مثل: القبلة، إذا كان أمير السفر رأى أنها ذات اليمين ورأى الشخص الآخر أنها ذات اليسار؛ فإنه لا يصلي وراءه، وكل يعذر، وهذا كمال في الشريعة ويسر في الشريعة والحمد لله، ولا يلزم أن يتابعه؛ لأنه يعتقد أنه يصلي إلى غير القبلة، ومن هنا لا يلزم بمتابعته، وإنما يصلي على اجتهاده، على ما قررناه في مسألة اختلاف المجتهدين.(2/327)
وهكذا بالنسبة لمسائل الأحكام الشرعية: البعض إذا كان في السفر مثلا وترجح عند الأمير شيء في مسألة الصلوات والأذكار يلزم بها من وراءه، والواقع أنها ليس بملزم، ومن هنا ينبغي التفريق بين كون الأمير من أجل المصلحة المسافرين والرفقة حتى لا يتشتتوا إذا كان ركبا ثلاثا فأكثر، فإنه يجمع قولا في قوله، فيطيعونه في مسائل الارتحال والنزول مصالح الرفقة .
أما مسائل العبادات لها أحكام خاصة لا علاقة لإمارة الأمير في السفر بها. والله تعالى أعلم
س : فضيلة الشيخ : ما حكم ترديد الأذان خلف جهاز التسجيل أو المذياع وجزاكم الله خيرا ؟
يشرع أن يردد الأذان كلما سمع؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )) فمن سمعه مسجلا أو سمعه مباشرة فقد سمعه، هذا من حيث الأصل، لكن لا يؤذن للصلوات أذانا شرعيا بالجهاز، الأذان الشرعي التي تبرأ به الذمة لابد وأن يكون بالمؤذن الشرعي، وليس تسجيلا، لكن مثلا في المحلات أو الصالات صالات السفر أرادوا أن ينبهوا الناس على أن الوقت وقت الصلاة حضر في الإذاعة مثلا إذا حضر وقت الصلاة أرادوا أن ينبهوا الناس وضع الأذان من باب التذكير بالوقت لا بأس به، ولا حرج من باب التذكير بالوقت، ولكنه لا يجزي عن الأذان الشرعي، أذان المسجد الشرعي لابد في كل بلد أن يوجد فيه مؤذن شرعي يسقط به الفرض عن البقية كما بيناه في باب الأذان .
ومن هنا من حيث التذكير لا بأس لا بأس أن يكون هناك أذان يذكر به الناس في السوق، يذكر الناس به في أماكن تجارتهم وبيعهم وشرائهم وغفلتهم، في صالات السفر لا بأس أن يوضع التسجيل لا بأس بذلك ولا حرج وتردد وراءه؛ لأنه مؤذن وداخل في العموم . والله تعالى أعلم .
س : فضيلة الشيخ : الرحمة صفة من صفات الرحمن - - جل جلاله - - فهل أخبرتنا عن هذه الرحمة وخاصة عندنا تصيب المسلمين في عرصات يوم القيامة وجزاكم الله خيرا ؟(2/328)
هذا سؤال عظيم! من يتحدث عن رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟! وعلى السائل أن يترفق بالمسئول، فيختار شيئا معينا محدودا يمكن للإنسان أن يجيب، ومن يستطيع أن يتحدث عن رحمة الله التي وسعت كل شيء؟! رحم بها المعذب فنجا من عذابه، والمكروب نفس عنه كربه، والمهموم والمغموم أزيل عنه همه وغمه، والله أعلم بمقدار رحمته بعباده وخلقه، رحمته التي وسعت كل شيء، ورحم بها العبد وهو في ظلمات ثلاث، لا يسمع به أحد، ولا يراه أحد، ولا يعلم حاله أحد إلا الله وحده لا شريك له، وأجرى له الشراب وأطعمه وسقاه في تلك الظلمات، ولطف به، ثم أنشذ عظمه، وأنبت لحمه سبحانه، وخلقه وصوره وبراه، وجعله تحت لطفه، لو أن المرأة الحامل ضرب بطنها ضربة لأسقطت جنينها ولربما ماتت، فرحمه بحفظه وكلاءته أعظم من رحمة أمه وأبيه به.
ثم أخرجه سبحانه إلى هذه الدنيا فتكفل برزقه، وتكفل بسعادته، وتكفل له بأمره كله، وعلى الله فليتوكل المتوكلون.
ثم رحمه - - سبحانه وتعالى - - فرزقه عينا يبصر بها، وسمعا يسمع به، ويدا يبطش بها، ورجلا يمشي عليها .
رحمه فخلقه في أحسن تقويم، ولم يجعله زاحفا كالثعابين، ولم يجعله يمشي على أربع كالدواب، ولكن جعله على أتم الصور وأكملها وأحسنها وأجملها، حتى إذا استقام عوده، واشتد أوده، أجرى له الأنهار، وأخرج له الثمار، وخلق له الليل والنهار، ولطف به في العشي والإبكار، حتى إذا بلغ أشده، رزقه نور العقل والبصيرة، فعرفه الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وعرفه الصواب من الخطأ، ثم أرسل له رسله، وأنزل له كتبه، وخاطبه سبحانه فأمره ونهاه، وذكره ووعظه، فكل هذا من رحماته - - سبحانه وتعالى - - .(2/329)
فهداه بهدايته، ورزقه العقل الذي لن يستطيع أحد أن يعلم مقدار نعمة الله - - عز وجل - - على الإنسان به، وإذا أراد الإنسان أن يدرك شيئا قليلا من هذا العقل فلينظر إلى من سلب هذا العقل، كيف يعمل ما لا يعمله الطفل في صباه وصغره، فرزقه الله نور البصر، ثم رزقه نور البصيرة، ثم أنعم عليه بالنعم التي تترى عليه، قلب الإنسان فيه مادة لو زادت واحد في المائة أو نقصت واحد بالمائة مات من ساعته .
ما هذه الرحمة التي أمسك الله - - عز وجل - - بها الإنسان، ثم كل ما في هذا الوجود من أجله {وسخر لكم ما في السماوات والأرض جميعا منه} كله من أجل أن يقول: لا إله إلا الله ويعتقدها، ويعمل بحقها وحقوقها ولا يناقضها، ولا يكون ضدها، وأن يطيعه سبحانه أن يطيع أنبياءه ورسله. هذا فقط في الإنسان، فما بالك بغير الإنسان.
فرحمة الله - - عز وجل - - ولذلك قال سبحانه : { ورحمتي وسعت كل شيء } فهو أرحم الراحمين وهو إله الأولين والآخرين؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين )) .
الله أعلم مقدار رحمته بخلقه، والله لو علم الإنسان مقدار رحمة الله - - عز وجل - - به فخر ساجدا لله شاكرا منذ أن تلده أمه حتى تفارقه المنية على أطول ما يعمر به معمر ما بلغ ذرة من فضل الله - - عز وجل - - عليه .
فالحمد على رحمته، والحمد لله على لطفه، ولا تزال ولن يزال العبد يقلب في رحمة الله، البصر لو سقطت فيه ذرة لأذهبت، لو سقطت فيه ذرة كل ما اكتشف من العلوم التي وبحث الباحثون اكتشفوا جديدا من رحمة الله - - عز وجل - - ما لم يخطر للإنسان على بال .(2/330)
يستعين الإنسان أن يفنى بصره في طرفة عين، لو نثر نوع من الذر في الجو لأعمى أبصار الناس، وبعض المواد لو نشرت لأخذت أسماعهم، وبعضها لو نشرت لأهلكت جهاز التنفس، ولربما أهلكتهم، كل هذا أين اللطف وما هذه اللطف وما هذه الرحمة التي وسع بها سبحانه كل شيء؟!.
وأما رحمته يوم القيامة فهذه نؤخرها إلى مقام آخر.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحمنا برحمته، اللهم ارحمنا رحمة تغنينا عمن سواك، اللهم ارحمنا رحمة تغنينا بها عمن سواك، اللهم ارحمنا رحمة تغنينا بها عمن سواك، اللهم ارحمنا رحمة تجمع بها شملنا، وترحم بها ضعفنا، وتجبر بها كسرنا، وتصلح بها فسادنا، وتهدينا بها من الضلالة، وترشدنا بها من الغواية، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين .وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تابع باب صفة الصلاة
قال المصنف - رحمه الله - : [ ثم يقول : سبحان ربي العظيم ثلاثا ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ؛ أمّا بعد :(2/331)
فقد تقدّم معنا أن الركوع يشتمل في هيئته ومضمونه على قول وفعل ، فصحّت عن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - الأحاديث في صفة ركوعه قولاً وفعلاً ، فبعد أن فرغ المصنّف - رحمه الله - في بيان صفة الركوع الفعليّة ، وبماذا يتحقّق الركوع شرع في بيان السنن القوليّة ؛ لأنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما ركع ذكر ربّه - - عز وجل - - ، ومن هنا أجمع العلماء - رحمهم الله - على أنّ للركوع أذكارًا خاصّة به ، والصحيح أنّه يقال : أذكار الركوع ، ولا يقال : دعاء الركوع ، ولذلك بعض كتب الأذكار تقول : دعاء الركوع ، وهذا خطأ ؛ لأنّ الركوع نهي عن الدعاء فيه وعن قراءة القرآن ، وأما السجود فإنّ له أذكارًا وله دعاء ، وهذا على القول بأن الأذكار المخصوصة بالتمجيد والتعظيم لله - - عز وجل - - ، ولذلك استشكل بعض العلماء قوله - - صلى الله عليه وسلم - -: (( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي )) في ركوعه وسجوده ؟ وأجيب عن ذلك بأنه وقع تبعا ولم يقع قصدا ، ويجوز في التبع ما لا يجوز في القصد ، وهذه قاعدة لها نصوص دلّت عليها في الشريعة .
يقول رحمه الله : [ يقول : سبحان ربي العظيم ] الأصل في ذلك أنّ النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما نزل عليه قوله تعالى : (( { `?TQY‰W©WTE gy`?@†Y? ??YQT?WO gy~YA¹W?<?@… (74) } قال : اجعلوها في ركوعكم )) فشرع للمصلّي إذا ركع أن يقول : سبحان ربّي العظيم ، وشرع له أن يعظم الله - - عز وجل - - ، ولذلك صح عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، وهذا من تعظيم الله - - عز وجل - - ، أثنى على الله بما هو أهله فنزهه ، وكذلك صحت عنه - عليه الصلاة والسلام - الأذكار كقوله : اللهم لك ركعت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، وهذا من الثناء على الله - - سبحانه وتعالى - - ومن تعظيم الله - - عز وجل - - .(2/332)
يقول : سبحان ربي العظيم ، وهذا الذكر وهو قول : سبحان ربيّ العظيم واجب من واجبات الصلاة ، - وسنبين دليل ذلك - لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( اجعلوها في ركوعكم )) وهذا أمر ، والأمر يقتضي الوجوب ، ومن ركع ولم يقل : سبحان ربي العظيم ننظر فيه : إما أن يترك التسبيح متعمّدا فتبطل صلاته ؛ لأنه ترك واجبا من واجبات الصلاة متعمّدا ، ومن ترك واجبا من واجبات الصلاة بطلت صلاته ، وإمّا أن يترك سبحان ربي العظيم نسيانا ، فإذا نسيها فإنّه يجبر بسجود السهو - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - .(2/333)
[ ثم يرفع رأسه قائلا : سمع الله لمن حمده ] : السنّة أن يكون الركوع فيه تطويل أو فيه إطالة ، فَيُعَدِّل بين أركان الصلاة ، شريطة أن لا يشقّ على من وراءه ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان قيامه ، فركوعه ، فاعتداله ، فسجوده ، فجلسته بين السجدتين قريبا من السواء ، وهذا يدل على أنه قدر المستطاع لا يقتصر على قوله : سبحان ربي العظيم ثم يرفع ، ولكن يحاول أن يطمئنّ في ركوعه ، وأن يأخذ كلّ عظم موضعه ، وأن يستقرّ في ذلك الركوع على الوجه التي تتحقّق به الطمأنينة ؛ وحينئذ تركع أعضاؤه على الوجه المعتبر ، وأدنى الكمال ثلاث ، وأعلى الكمال سبع على ما ذكره العلماء - رحمهم الله - والأشبه أنه يعدل بين الأركان وهو الكمال الوارد عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ، وإذا كان في قيام الليل ركع ، فأطال ركوعه كطول قيامه ، أو قريبا من طول القيام تأسّيًا برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في تعديل الأركان ، ثم ليستشعر الإنسان وليستشعر العبد الذليل أنّه خاضع واقف بين يدي ربه ، وأن الله يحبّ منه هذه الذلّة ، وأن الله يحبّ منه هذا الانكسار ، ومن ركع لله واستشعر أنه راكع بين يدي الله ، وأنها ذلة في مقام عز، ومهانة في مقام كرامة ، وأن الله يحب منه ذلك ؛ فإنه يهون عليه ركوعه ، ويتلذّذ وهو راكع بين يدي الله يثني على الله بما هو أهله ، خاصة في قيامه في الليل والنوافل يعوّض ما يكون في الفرائض ، فإنه في الفرائض قد يكون مع الجماعة أو قد يكون إماما للجماعة فيضيق عليه الوقت في إطالة الركوع ، فيطيل ركوعه في نوافله وفي قيامه بليله ، حتىّ كان عبد الله بن الزبير لربمّا ركع فوقع الطير على ظهره من طول خشوعه - رضي الله عنه وأرضاه - وهذه عبادة الخاشعين ، عبادة الصادقين ، ومن عرف مقامه بين يدي الله - - عز وجل - - أعطى ذلك المقام حقه .(2/334)
ومن هنا الثناء على الله ، وتمجيد الله ، وتعظيم الله في الركوع بكثرة التسبيح ، ومن أحب الأذكار إلى الله التسبيح ، ومن هنا جعله الله وسيلة بين يدي عفوه ومغفرته ، ولذلك تجد دعاء المغفرة مقرونا بالتسبيح ، حتى إن كفّارة المجلس : سبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت رب اغفر لي { uüW †W?WTE ? gŒHTWUR?J?A¹?@… UKV… J?:‚? W?HTV?XM… :‚PV?MX… ?Œ?KV… ??W?WHT™`‰TS? ?QYTT?MX… ?Œ?S{ W?Y? fûkYUY?HTJ?A¹?@… (87) } { ???????????? ????????? ???????? ?????????????????????? ?????????? ????? ??????????????? ??? فقرن التسبيح بالاستغفار ، ولذلك الملائكة قُدْسه سبحانه أثنت عليه ، فسبّحت ومجدت سبحانه وهو أهل لذلك ، ووردت النصوص الصحيحة في السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه كانت الملائكة إذا سألهم ربهّم سبّحوا ، فقالوا : سبحانك ، وإذا كان الأمر لا يليق به سبحانه قالوا : سبحانك أنت وليّنا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ .(2/335)
ومن هنا تعظيم الله - - سبحانه وتعالى - - في الركوع بالتسبيح يستشعر الإنسان ما معنى سبحانه ؟ أي أنزّه الله - - عز وجل - - عن كل ما لا يليق به ، ولذلك جعل الله التسبيح على صفات فقال : { IS?WT?HTW™?T‰S? u?V?HTTTW?WT?Wè †QWUW? fûéR?X£pT ST? (18) } وقال : { W?HTW™pTT‰S? J?Y/@… u?V?HTTTW?WT?Wè †QWUW? WUéR?X£pT ST? (68) } وقال : { ??????????? ?????? ?????? ?????????? ????? } وقال : { W?HTW™`T‰S? ??YQT?WO Jg‡WO Y?PV¥Y?<?@… †QWUW? fûéSEY±WT? } وقال : { W???????????? ???????????? ?????????? ???? ????? ?????? ?????????? ????????????? ????? } وقال سبحانه دليلا مستشهدا بعظمته وجلاله { S?TQY‰W©ST? S?TV? ?.WéHTWUQW©?@… S?`T‰J?©?@… ?³`OKKV‚ô@…Wè ?W?Wè QW&?X?~YE } فالكثير من المصلّين إلا من رحم الله يقول : سبحان ربي العظيم ، سبحان ربي العظيم ، ليعلم ما معنى سبحان ربي ؟ وما معنى العظيم الذي هو أعظم من كل شيء ؟ ولذلك ما من مكروب ، ولا منكوب ، ولا ذي حاجة ، ولا فاقة ، ولا شدّة يصلي إلا ذهب عنه همّه وغمّه متى عقل صلاته ؛ لأنه تحيط به الهموم والغموم والكروب ، فإذا ركع وقال : سبحان ربي العظيم أصبح كلّ شيء حقيراً أمام عظمة الله - - جل جلاله - - ولو أطبقت عليه الدنيا بأسرها في كيد ، أو حسد ، أو حقد ، أو أذية ، أو ضرر بمجرد ما يركع بين يدي ربه ويقول : سبحان ربي العظيم ، كان - صلى الله عليه وسلم - في قيامه في الليل يقول : سبحان ذي الجبروت والملكوت والعظمة ، سبحان ذي الجبروت ، من هو جبار السماوات والأرض ، فالإنسان إذا ركع بين يدي الله يعرف ما معنى سبحان ربي العظيم ، وليعلم ما معنى العظيم الذي هو أعظم من كل شيء ، تعاظم سبحانه فوق كل شيء ، ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يستشعر في ركوعه معنى هذه الكلمة ، وأن لا يقتصر الأمر على قوله : سبحان ربي العظيم وهكذا ، كم من مصل يصلي وله في صلاته مثاقيل الحسنات ،(2/336)
وينفتل منها بالمغفرات والرحمات ، ولربما انفتل من صلاته كيوم ولدته أمه ، حينما يعقل كل ذكر ، ويعلم ما معنى كل كلمة ، وما الذي جعل السلف الصالح - رحمهم الله - يصلي الواحد منهم فلا يدري عن البلية تنزل حتى في بيته الذي يصلي فيه من خشوعه وحضور قلبه ، وصلى مسلم بن يسار فسقط المسجد ، وقال الناس : مات مسلم ، مات مسلم ، ثم دخلوا المسجد فسلم من صلاته قال : والله ما علمت أن المسجد سقط إلا حينما سلمت من صلاتي ، وهذا كله من حضور القلب حينما يستشعر ما معنى الآيات التي يتلوها ، والتسبيح الذي يسبحه ، ونركز على هذا لأن الناس يحتاجون إلى من يذكّرهو ، وعلى الأئمة وخطباء المساجد وطلاب العلم بين الفينة والأخرى أن يذكّروا الناس بأذكار الصلوات ؛ لأنها مهمّة جدا ، وأن يعلّموهم ما معنى التسبيح ، وما معنى التكبير حينما يدخل في صلاته ، فهذه من أذكار الصلوات المهمّة وهي التسبيح ، فإذا ركع قال : سبحان ربي العظيم ، يقول هذا إذا استتمّ راكعا ، فلا يبتدئ بأذكار الركوع حتى يستقرّ راكعًا ؛ لأنها مختصّة بالهيئة وهي هيئة الركوع ، ومن هنا قلنا : ما بين انخفاضه وانحناؤه واستتمامه راكعا الذكر الخاص بالتكبير ، ثم إذا ركع سبّح الله - - عز وجل - - وعظّمه ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أما الركوع فعظّموا فيه الرب )) نقول : إنه يشرع تعظيم الله بما هو أهله ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( خشع لك وجهي وسمعي وبصري وما استقل به قدمي )) يعني كلّي خشعت لك سبحانك ، وهذا من تعظيم الله - - جل جلاله - - ويعظم الله - - سبحانه وتعالى - - بأسمائه وصفاته ، ومن هنا قال : سبحان ذي الجبروت والملكوت سبحانه - - جل جلاله - - ، فيثني على الله بما هو أهله ، فإذا أراد الأفضل والأكمل وهذا من أفضل ما يكون للمصلي أن يتبع الوارد ، فما ورد عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقوله بحضور قلب ، فهذا أعظم لأجره وأثقل لميزانه - وقد(2/337)
بينا هذا في فضل المتابعة - .
[ ثم يرفع رأسه قائلا : سمع الله لمن حمده ] : ثم يرفع رأسه من الركوع ، المراد يرفع رأسه لأنه إذا رفع رأسه رفع صدره وبقية ما خفضه في ركوعه ، وليس المراد يرفع رأسه فقط ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ثم ارفع حتى تعتدل قائما )) وليس المراد رفع الرأس فقط - كما هو معلوم - إنما المراد أن يرفع نصفه الأعلى الذي حناه بين يدي الله - - عز وجل - - .
يرفع رأسه قائلا : سمع الله لمن حمده ، سمع الله لمن حمده ينبغي أن تكون أثناء الرفع ، ولذلك من الخطأ أن البعض ينتظر حتى يقف ويقول : سمع الله لمن حمده ؛ لأنه إذا وقف هناك أذكار أخرى غير التسميع ، فهناك التسميع ، وهناك التحميد ، فالتسميع للرفع ، والتحميد للقيام ، ومن هنا لا ينتظر حتى يرفع رأسه ، حتى إن بعض الأئمة لا يقول : سمع الله لمن حمده إلا بعد أن يقف حتى يسمع في المكرفون ، وهذا خطأ ، عليه أن يجعل الذكر من بداية الرفع حتى يستتمّ معتدلا ، هذه هي السنة ، يرفع رأسه حال كونه قائلا : سمع الله ، قيل : سمع بمعنى استجاب ، استجاب الله دعاء من حمده . قيل : من حمده يعني وحده ، فهو سبحانه يخص الموحدين بإجابة دعائهم ، وإن كان يجيب الدعاء حتى من الكافر ، لأنه يجيب دعاء عباده سبحانه ، يجيب دعاء الكافر استدراجا له للخير إذا كان سببا في هدايته ، ويجيب دعاء الكافر استدراجا له للعذاب والنقمة إذا كان مصرا على كفره ، فهو يقول : سمع الله لمن حمده أي استجاب الله دعاء من حمده ، قيل : من وحده ، وقيل : من حمده يعني أثنى عليه ، ولذلك من أسباب قبول الدعاء أن يستفتحه بحمد الله والثناء عليه ، وهذه من أسباب استجابة الدعاء أن يبدأ بالحمد والثناء عليه سبحانه بما هو أهله ، ثم يسأل الله حاجته .(2/338)
قال : سمع الله لمن حمده ، وهذا ما يسميه العلماء التسميع ، وهو واجب من واجبات الصلاة ، والدليل على وجوبه المقابلة في قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( فإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد )) فلما أوجب على المأموم إجابة هذا دلّ على أنّها واجبة على الإمام والمنفرد أن يقولا : سمع الله لمن حمده - وسيأتي أن وجوب التسميع خاص بالإمام والمنفرد ، وأن المأموم لا يقول : سمع الله لمن حمده - لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( فإذا قال : سمع الله لمن حمده ، فقولوا : ربنا ولك الحمد )) وهذا ما يسميه العلماء بالتقسيم ، والتقسيم لا يقتضي المشاركة - كما هو مقرر في الأصول - .
ومن هنا يقولون : إنه يجب على المأموم أن يقول : ربنا ولك الحمد فقط ، بالنسبة للواجب عليه ، وأما التسميع فليس بواجب .
ثم يقول : سمع الله لمن حمده ، فإذا اعتدل انتهى هذا الذكر ، فلو نسي أن يقول : سمع الله لمن حمده حتى وقف ؛ فإنه يسجد سجود السهو ولا يقوله وهو قائم ، قالت عائشة - رضي الله عنها - فرفع رأسه من الركوع ثم قال : سمع الله لمن حمده ، فلما اعتدل قال : ربنا ولك الحمد ، فهذا يقتضي أنه ذكر القيام ، أو الاعتدال بعد الركوع أن يقول : ربنا ولك الحمد - كما بيّناه - ، وفائدة ما ذكرناه أنه إذا كان التسميع للانتقال صار كالتكبير ، ومن هنا لا يشرع بعد أن ينتقل إلى الركن البعدي ؛ لأنه ذكر فيما بين الركنين ، وإذا دخل في الركن البعدي المنتقل إليه فقد سقط التدارك ، ومن هنا لا يتداركه .(2/339)
[ ويرفع يديه كرفعه الأول ] : هناك الهيئة ، ابتدأ بالهيئة الفعليّة أنه إذا وقف رفع يديه كرفعه الأول ، وورد في السنة أنه أخفض قليلا من تكبيرة الإحرام ، رفع يديه - عليه الصلاة والسلام - حال رفعه من الركوع ، كما في الصحيح من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وغيره : (( أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان إذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه )) وهذه سنة جمهور العلماء على أنها من سنن الصلاة أنه يرفع يديه عند الرفع من الركوع .
وذهب الحنفية - رحمهم الله - إلى أنه لا يرفع يديه ، وهنا فائدة وهي : أنّ الحنفية - رحمهم الله - يرون أن الرفع في أثناء الصلاة منسوخ ؛ واحتجوا بقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شُمس بُهم اسكنوا في الصلاة )) فقالوا : أمر بالسكون في الصلاة ، فهذا الرفع كانوا يرون أنه في السنة القبلية الأولى ، ثم نسخ بقوله : (( اسكنوا في الصلاة )) .
والصحيح : أن قوله - عليه الصلاة والسلام - في صحيح مسلم : (( ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيل شُمس بُهم اسكنوا في الصلاة )) أنه محمول على التشهد ، فإنهم كانوا في التشهّد يسلّم بعضهم على بعض ، ويرفع يديه بالإشارة ، يشير بعضهم إلى بعض بالسلام ، فنهاهم النبي - - صلى الله عليه وسلم - - عن ذلك وأمرهم بالتحيات التي إذا سلموا فيها لم يبقَ عبد صالح في السماوات ولا في الأرض إلا أصابته دعوتهم .(2/340)
ومن هنا نسخ رفع اليدين في التشهّد أثناء ذكر السلام ، واقتصر على السكون كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( اسكنوا في الصلاة )) ومن هنا نجد الحنفيّة لا يرون رفع اليدين للركوع ، ولا يرون رفع اليدين للرفع من الركوع ، ولا يرون تحريك الإصبع في التشهّد ؛ لأنهم يرون أن قوله : (( اسكنوا في الصلاة )) أصل ، وهذا تأويل لهم للسنة ، ولهم حجّة ، ليس مرادهم أنهم ردّوا السنة ، عندهم وجه كعذر لهم ، ولكن نقول : إن هذا العذر أصح منه ما ثبتت به السنة ، وأقوى من باب العمل بالأحاديث كما وردت، فهذا ورد في أمر خاص عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فيقيّد به .
[ فإذا اعتدل قائما قال : ربنا ولك الحمد ، ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ] : قال رحمه الله : [ فإذا اعتدل قائما ] : إذا اعتدل قائما هذا هو الركن البعدي الذي يلي الركوع ، جمهور العلماء والأئمة - رحمهم الله - على أن الاعتدال عن الركوع ركن من أركان الصلاة ، وأنه لا تصح الصلاة لمن لا يقيم هذا الركن ، وعلى هذا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا ينظر الله إلى رجل لا يقيم صلبه من الركوع )) فصح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه أمر بهذا الركن ، وقال للمسيء صلاته : (( ثم ارفع حتى تعتدل قائما )) فهذا بالنسبة للهيئة المتعلقة بالأفعال ، إذا وقف واستتم قائما فإنه يقول : الأذكار القولية ، فقال رحمه الله : ثم يقول ، إذاً معنى ذلك أن التحميد يكون حال القيام - كما ذكرنا - ولا يكون حال الرفع من الركوع .
يقول : ربنا ولك الحمد ، هناك صفات :(2/341)
ربنا لك الحمد ، ربنا ولك الحمد ، اللهمّ ربنا ولك الحمد ، اللهم ربّنا لك الحمد ، فهذه أربع صيغ واردة في التحميد ، وهذا الخلاف في السنة خلاف تنوع ، أي واحدة منها جاء بها أجزأه ، والخلاف بين العلماء - رحمهم الله – في أيها أفضل : هل الأفضل أن يقول : ربنا لك الحمد ، أو ربنا ولك الحمد، اللهم ربنا ولك الحمد ، اللهم ربنا لك الحمد ؟
والصحيح أن قوله : اللهم ربنا ولك الحمد أفضلها ، أولا : قوله : اللهم ربنا ؛ لأنها أفادت معنى زائدا ، لأنه يقول : اللهّم ربنا ، أي أنت ربنا ، ولك الحمد تصبح جملة زائدة ، بخلاف قوله : ربنا لك الحمد ، ومن هنا قالوا : إن وجود الواو في قوله : ربنا ولك الحمد ، اللهم ربنا ولك الحمد يفضل الصيغتين على ما قابلهما من إسقاط الواو ؛ لأن فيه معنى زائدا ، هذا وجه التفضيل ، والحديث صحيح بهذا ، وأفضلها قوله : اللهم ربنا ولك الحمد ، اللهم ربنا ولك الحمد ذكر في القيام ، ثم يتبعه بقوله : ملءَ أو ملءُ ، كلاهما صحيح على الحالية وعلى الوصفية ، ربنا ولك الحمد ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ما بينهما - ولم يذكر هذه الزيادة - وملء ما شئت من شيء بعد ، أحقّ ما قال العبد ، وكلنا لك العبد ، أهل الثناء والمجد ، لا مانع لما أعطيت . هذا بالنسبة للرفع من الركوع ، وله أن يقول : حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ، مباركا عليه - كما ورد في السنن - وأما الرجل حينما قال : قال - صلى الله عليه وسلم - : (( والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعا وثلاثين ملكا يبتدرونها إلى السماء )) وهذا يدل على فضلها ، فإذا قال هذا وأثنى على الله - - عز وجل - - وحمده يستقيم عوده ، يعني يقف قائما بقدر ما تتحقق الطمأنينة أو بقدر ، قدر الإجزاء أن يقول : ربنا ولك الحمد ، أو ربنا لك الحمد ، فإذا وقف بمقدار ما يقول : ربنا ولك الحمد فقد حصل الركن ، واستتمّ الواجب ، ثم بعد ذلك له أن يسجد ، ولكن إذا أراد أن يثني على الله - - عز وجل - -(2/342)
ويأخذ بالسنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فالأكمل والأفضل أن يثني على الله بهذا ، وفي قوله - بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه - : (( ملءَ أو ملءُ السماوات والأرض )) أخذ منه بعض العلماء أن الأعمال توزن في عرصات يوم القيامة .
ومن أهل العلم من قال : إن الذي يوزن هو العبد ؛ لأن من العلماء من قال : يوزن العمل ، ومنهم من قال : يوزن العامل ، ومنهم من قال : يوزن الاثنان ، وهذا هو الصحيح ، فيوزن العامل ؛ ودليله حديث ابن مسعود في الصحيح حينما …ضحك الصحابة لما تحرّكت الريح وكشفت ساقيه ، فضحك الصحابة ، نظر بعضهم إلى بعض فضحكوا ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أتضحكون من دقّة الساقين لهما أثقل في الميزان من جبل أحد )) وهذا أثبت أنّ العامل يوزن ، وأكّده العكس في النفي في قوله تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } عن الذين كفروا ، وقيل : إن الذي يوزن هو الأعمال ؛ ودليله هذا الحديث: (( ملء السماوات )) وهذا يدل على أنها تملأه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض )) وقبلها : (( الحمد لله تملأ الميزان )) فقوله : (( تملأ الميزان )) يدل على أن الذي يوزن العمل ، فلما دلت النصوص على وزن العامل ووزن العمل قلنا بوزن الاثنين ؛ لأن عرصات يوم القيامة كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - وغيره مختلفة ، فتارة يوزن العمل وتارة يوزن العامل ، وهذا هو الصحيح .(2/343)
[ ويقتصر المأموم على قول : ربنا ولك الحمد ] : هذا هو الصحيح ، وهو مذهب الجمهور ، يقتصر المأموم على قوله : ربنا ولك الحمد ، فلا يقول : سمع الله لمن حمده ، والإمام يجمع بين التسميع والتحميد ؛ والدليل على ذلك ما تقدم أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( فإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا ولك الحمد )) فلما قال : (( قولوا )) لم يقل إذا قال : سمع قولوا مثل قوله ، وإنما قال : فإذا قال فقولوا ، وهذا يسمى عند العلماء بالتقسيم ، والتقسيم لا يقتضي التشريك ، تقول : إذا فعل فلان فافعل كذا ، إذا فعل كذا فافعل كذا ، كقوله - مثلا- إذا قام فاقعد ، لا يقتضي أنك تقوم مثله وتقعد ، إنما المراد أنك تقعد إذا قام أخوك ، وهذا يقتضي المقابلة ، ولذلك يكون التقسيم يقتضي المقابلة ، ولا يقتضي المشاركة ، فلما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا ولك الحمد )) قال الجمهور : إنه لا يقول المأموم : سمع الله لمن حمده ، وقال الحنفية : إنه يقول المأموم سمع الله لمن حمده ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) فقالوا : إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده ، يقول المأموم : سمع الله لمن حمده يقول : ربنا ولك الحمد ، والصحيح ما ذكرناه لظاهر السنة .(2/344)
[ ثم يخر ساجدا مكبرا ولا يرفع يديه ] : ثم يخرّ إلى السجود ، وهو الركن الذي يلي ركن الاعتدال من الركوع ، ركن القيام والاعتدال من الركوع يليه ركن السجود ، والأصل فيه قوله تعالى : { †W?QST?KV†H;TTWT? fUT?Y?PV?@… N…éS?W?…ƒ? N…éS?W{`O@… N…èS?S•??@…Wè } فأمر بالسجود وهو ركن من أركان الصلاة ، وهذا الركن أيضا دل عليه دليل السنة في قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا )) فأمر عليه الصلاة والسلام بالسجود ، وصح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه ما صلى إلا سجد ، وهذا السجود يشترط فيه - طبعا - إذا سجد أن يكون هويه إلى السجود مقصودا ، مثل ما ذكرنا في الركوع ، فلو أنه كان قائما بعد الركوع ، ثم سمع شيئا أفزعه ، أو رأى عدوا فخاف منه فهوى إلى السجود من الخوف ، وليس لأجل السجود ؛ فإنه يلزمه أن يقوم ثم يسجد ؛ لأن القصد للهويّ معتبر ، وهذا نص عليه الأئمة - رحمهم الله - ثم إذا هوى إلى السجود يخر فيقدم يديه على ركبتيه ، فيكون أول ما يقع على الأرض يداه ، وقد بينا في الشروح وجه ترجيح تقديم اليدين على الركبتين، وأن حديث وائل الذي استدل به على تقديم الركبتين فيه ضعف، وحديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --: (( لا يبرك بروك البعير )) طبعا اختلفت الرواية التي يقدّم يديه على ركبتيه وركبتيه على يديه ، فلنقل: إن الروايتين متعارضتان ، أو الوجهان متعارضان ، فإن الحديث القدر المشترك فيه الذي لا إشكال فيه عند الطرفين أنه نهي عن الخرور كخرور البعير ، فوجدنا أن ركبتي البعير في يديه ؛ لأن البعير أول ما يبرك يبرك بركبتيه ، فيضع ركبتيه على الأرض ، ثم بعد ذلك يلقي بيديه ، وهذا موجود في الحيوانات ، وبعض الأئمة قال : إنه لا يعرف أن ركبتي البعير في يديه ، والواقع أن أئمة اللغة ذكروا هذا ، وهم الحجة في هذا ، ولذلك ذكر صاحب الصحاح الجوهري ، وهو من أئمة اللغة ممن يحتج به ، وصاحب لسان العرب محمد بن مكرم بن(2/345)
منظور الإفريقي - رحمه الله - وهو ممن يحتجّ به ، ونقل هذا القول أيضا عن الأصمعي وهو من أئمة اللغة على أن ركبتي البعير في يديه ، وكلهم متّفقون على أن أول ما يقع منه هذا القدر الذي يسمى بالركبة ، والذين يقولون : ينزل على ركبتيه يقولون : إن هاتين يدا البعير وليستا بركبتيه ، والواقع أن الركبتين هو أول ما يقع البعير ، أول ما يضعه على الأرض ركبتاه - وذكرنا في شرح السنن وجه هذا التقديم - ولذلك هذا المعنى وهو القدر الذي نهي عنه وهو مشابهة المصلي لبروك البعير متفق عليه عند الجميع ، على أن المنهي عنه أن يبرك بروك البعير ، فلما رجعنا إلى أئمة اللغة وقلنا : إن الروايات بينها تعارض فلننظر إلى كلام أهل اللغة ، وهم المعوّل عليهم في هذا ، فقد أثبتوا أن أول ما يقع من البعير هو ركبتاه ؛ وحينئذ لا يكون من المصلي تقديم الركبتين على اليدين ، وإنما يقدم يديه على ركبتيه - وبينا هذا وبينا وجه الترجيح برواية ابن عمر - رضي الله عنهما - وغيرها - وعلى هذا فإنه يقدم يديه ، ثم بعد اليدين الركبتين ويسجد على الصفة الشرعية .
[ ويكون أول ما يقع على الأرض منه ركبتاه ثم كفاه ثم جبهته وأنفه ] : هذا على القول الذي ذكرناه ، ويرون التدرج في هذا يبدأ بركبتيه ، ثم بعد ذلك يداه ، ثم جبهته ، ثم أنفه ويستقر بعد ذلك على الأرض ، وإذا قام كان أول ما يقوم منه يرفع جبهته وأنفه ، ثم كفيه ، ثم يرفع ركبتيه ، وهذا فيه مشقة ، ولذلك يعني من حيث الأصل ما ذكرناه أنه يبدأ في هويّه على الصفة التي اخترناها ، وبينا وجه ترجيحها في شرح الزاد والترمذي .
[ ويجافي عضديه عن جنبيه ] : هذه المسألة فيها تقريبا ثلاثة أقوال :
قول بتقديم الركبتين - كما اختاره المصنف - رحمه الله - .
وقول بتقديم اليدين - كما ذكرنا - .(2/346)
وقول بالتخيير بينهما - كما هو رواية عن مالك وأحمد - طبعا - عن الإمام مالك رواية في القول الأول ، وكذلك الإمام أحمد ، وعنه رواية أيضا بتقديم اليدين ، فالشاهد من هذا أن فيها تقريبا ثلاثة أقوال :
ومن أهل العلم من قال بتقديم الركبتين ، ومنهم من قال بالتخيير بينهما ، والمصنف - رحمه الله - اختار القول الأول .
[ ويجافي عضديه عن جنبيه ] : إذا سجد للسجود هيئة ، والسجود من أحب الأعمال إلى الله -- سبحانه وتعالى - -، وأعظمها وسيلة وقربة لله - - عز وجل - - حتى إن العباد في شدّة موقفهم الذي صح عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أن الله ما غضب غضبا مثل ذلك اليوم وهو يوم القيامة ، جعل الله تنفيس كربة العباد أولهم وآخرهم بفضله سبحانه ، ثم بفضل السجود بين يديه ، ومن هنا يسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - تحت العرش قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فيفتح الله عليّ بمحامد يلهمنيها ساعة إذ ثم يقال : يا محمد ، ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفّع )) وهذا يدل على فضل السجود ، ومن هنا جعل الله السجود مغفرة للذنوب { W£WEpTç?WT?T`?@†WTE IS?QWT?WO QW£W?Wè †_?Y{…WO ?‡†WT?KV…Wè " (24) †WT??£TWEWç?WTE IS?TV? } فداود عليه السلام لما استغفر ربه وسجد غفر الله له ذنبه ، وأثنى الله - - عز وجل - - على عباده الذين يخرّون للأذقان سُجّدًا ، والسجود من أحب الأعمال ، وإذا سجد العبد واستشعر أثناء سجوده فضل هذه العبادة ، وذلّته بين يدي الله - - عز وجل - - ومحبة الله - - عز وجل - - لهذا العمل فإنه يدعوه إلى أن يكون حاضر القلب ، خاشعا بين يدي الرب في حال سجوده ، وكم من ساجد رفع رأسه بمغفرة ، وكم من ساجد رفع رأسه بدرجة ؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنك لن تسجد لله سجدة إلا حطت عنك بها خطيئة ورفعت بها درجة )) وهذا يدل على فضل السجود، حتى إن بعض العلماء قال : الأفضل في الصلاة كثرة السجود ، فيرون تخفيف القيام(2/347)
وكثرة السجود .
والصحيح : أن الأفضل في الصلاة طول القيام ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صح عنه حينما سئل أي الصلاة أفضل ؟ قال : (( طول القنوت )) ، فالشاهد بيان فضيلة السجود قبل أن ندخل في أحكامه ، إذا عرف فضيلة السجود ، فللسجود هيئة شرعيّة لابد للمصلي أن يأتي بها في صلاته فريضة كانت أو نافلة ، فقد أُمر العبد أن يسجد على سبعة أعظم ، كما في الصحيح من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم )) ومن سجد على هذه السبعة الأعظم فقد سجد ، وهي الجبهة ، والأنف ، واليدان ، والركبتان ، والقدمان ، فإذا سجد على هذا الوجه فإنه لن يكون ساجدا حتى يتمكن من الأرض ؛ ولذلك قال النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( أَبْدِ عضديك وجافي عن جنبيك وادّعم على راحتيك فإنك إن فعلت ذلك سجد منك كل عظم )) وحينئذ لا يمكن أن يكون السجود تاما كاملا إلا بالادّعام ، وللعلماء وجهان :(2/348)
منهم من يقول : يكفي وصول هذه الأجزاء إلى الأرض دون ضغط - الادّعام هو الضغط - وظاهر السنة في قوله : (( ثم ادّعم على راحتيك )) يدل على أنه لابدّ من الضغط النسبي ، وليس المراد به الضغط ، إنما يضغط ضغطا نسبيّا فرعوا عليه أنه لابد من مماسة هذه الأعضاء للأرض ، وعلى هذا لو كان يسجد على قطن ، أو هوى على حائل بينه وبين الأرض يُمَكّن نفسه من هذا المسجود عليه ، فيضغط حتى يستطيع أن يتمكّن من السجود كما أمره الله - - عز وجل - - ، ولا يكفي أن يضع الجبهة أو يضع دون أن يكون هناك تمكن ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في حديث ابن عمر أمره بذلك ، وقال : (( ادّعم على راحتيك فإنك )) (( وأبْدِ عضديك عن جنبيك - يعني باعدهما - فإنك إن فعلت ذلك سجد منك كل عظم )) كذلك أيضا حال السجود ، إذا هوى إلى السجود ينبغي أن يُمَكن نفسه وجسده وما استقلّ عليه قدماه من السجود ، ويُمَكّن ما معه من الثوب والشعر ، والثوب نهي عن كفّ الثوب ، ذلك أنه إذا أرادوا أن يسجدوا كانوا يجمعون ثيابهم ؛ لأنهم يريدون أن لا تتّسخ بالأرض ، والشرع مقصوده أن يسجد حتى بثوبه ، ومن هنا لا يجمع ثيابه ، وهذا أبلغ ما يكون في الذلة لله - - عز وجل - - فإنك إذا رأيت الرجل يرمي بنفسه ساجدا بين يدي الله بشحمه ولحمه وثوبه الذي عليه فقد سجد سجودا تاما، لأنه إذا جمع الثوب لن يسجد إلا على بعض الثوب ، ولكن قصد من هذا أن يسجد سجودا تاما كاملا ، ومن هنا نهي عن كفّ الثوب وكفّ الشعر ، قيل نهي عن كفّ الثوب لأنه إذا كفّ الثوب وشمّره ، فإذا سجد لربما بدت ركبتاه ، وانكشف بعض المأمور بستره عند من يقول : إن الركبة عورة ، وقيل - وهو الأقوى - : إن الكف من أجل عدم السجود ، وأما كفّ الشعر فكانوا يدهنون شعورهم، وكانوا لا يجزّون النواصي إلا في النسك ، ولذلك لما ذكر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - الخوارج قال : (( سيماهم التحليق )) فكانت الشعور وكان النبي - -(2/349)
صلى الله عليه وسلم - - شعره يضرب بين منكبيه - صلوات الله وسلامه عليه - فكانت شعورهم طويلة ، فإذا أراد أن يسجد والشعر مدهون ما يريد أن ينزل الشعر إلى التراب ، ويتسخ كما يظن ، فماذا يفعل ؟ يضع كفّيه على شعره ، ويكف شعره عن أن يسقط على الأرض ؛ وحينئذ يفوّته السجود على الكفّين ، وعلى هذا لابد من وأن يسجد وأن يُمَكّن أعضاءه ، وأن يترك ثوبه على هذه الحال ؛ لأنه أبلغ في سجوده .
في زماننا - مثلا - لو أنه سجد في غترته ونحوه فإنه يُمَكن على السجود ، ولا يجمع ثوبه ، ولا يجمع لباسه مبالغة في الذلة والتقّرب لله - - عز وجل - - .
السجود يكون بتمكين الجبهة من الأرض : والجبهة فيها ثلاث جهات :
طرفا الجبهة - وهما الجبينان - ، ووسط الجبهة .(2/350)
الذي قررّه الأئمة وحررّه بعض المحققّين أن المقصود وسط الجبهة ، وأنه لا يسجد منحنيا لأن هذا يحرف أيضا الأنف عن السجود ، ومن هنا يسجد على جبهته يُمَكّن وسط الجبهة من السجود ، وإذا كان على قطيفة يشرع له أن يسجد على الأرض مباشرة ، ويشرع له أن يسجد على حائل ، خلافا لأهل البدع الذين يبحثون عن البلاط ، وعن الحصى ، يسجدون عليها - والحمد لله الذي أنقذنا من ضلالاتهم - فيبحثون عن البلاط ، والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - سجد - بأبي وأمي - على الأرض ، وسجد على الحصير ، وسجد على الفرش ؛ وفي الحديث الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال لعائشة : (( ناوليني الخمرة )) وكانت له القطيفة وهي الخمرة التي يسجد عليها - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا من الرفق والسماحة؛ لأن الحصى ربما جرحت لكثرة السجود ، فترفق عليه الصلاة والسلام وأخذ برخصة ربه ، فكانت له قطيفة قطعة من القماش يسجد عليها إذا اعتكف في المسجد ، فقال : (( ناوليني الخمرة )) وهي القطيفة التي كان عليه الصلاة والسلام يسجد عليها ، فيجوز أن يسجد على الفراش ، ويجوز أن يسجد على الحصى ، أو على الأرض مباشرة ، أو على حائل ، ينبغي أن يكون أعلى الجسم وهو الرأس والصدر أسفل من العجيزة ، فلا يكون السجود إلا بوضع الرأس في مستوى أخفض من العجيزة ، فإذا ارتفع رأسه في سجوده وكان أعلى من عجيزته لم يكن ساجدا ، كما لو سجد على عتبة أعلى منه يحصل هذا في الزحام ، فإنه إذا جاء في الزحام ربما بعضهم يصلي في الدرج فيسجد على الدرج التي فوقه ، وحينئذ يكون رأسه أعلى من عجيزته ، وهذا لا يعتبر سجودا ، لأن السجود الشرعي يكون رأسه أخفض من عجيزته فعل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وهذا هو الذي ورد في الشرع ، ومنه مسألة السجود على ظهر الإنسان ، يقولون : في الزحام إذا سجد على ظهر الإنسان ، وهذه المسألة في الحقيقة يعني لا نرى عذرا حتى ولو كان اشتد الزحام للشخص أن يصلي(2/351)
على ظهر إنسان ، فيسجد على ظهره ، أو يركع على ظهره ؛ لأن مثل هذا المنبغي عليه أن يخرج من مكان الزحام ويصلي في مكان متسع ، ويصلي كما أمره الله - - عز وجل - - ، أما أن نبحث عن الرخص هذا ليس بصحيح ، وأن يضيع أركان الصلاة ، وتضيع هيئة الصلاة على وجه غير معتبر ، ولا يمكن أن يتفق مع الأصول ، ومن هنا يخرج إذا كان داخل المطاف يخرج عن المطاف ، يحتاط قبل الصلاة بوقت ، ومن قصر يلزم بعاقبة تقصيره ، فلا يصلي على هذه الحالة ، وإنما يخرج إلى مكان يتمكّن فيه من السجود كما أمره الله - - عز وجل - - .(2/352)
يشترط أن يكون رأسه أخفض من عجيزته - كما ذكرنا - فإذا كان أعلى لم يصح السجود ، وإذا استويا لم يصح ، ثم إذا استويا لم يصح اختيارا ، ويصح اضطرارا بالمرض ، كما لو كان مريضا ولا يستطيع أن يحني ظهره في سجوده على القدر الذي يكون فيه الرأس أخفض من العجيزة ، فإذا كان على هذه الحالة سجد بالقدر الذي يصل إليه ، أو ينصحه الأطباء أن يكون انحناؤه بقدره ، فإذا كان استويا اضطرارا أو بسبب المرض فإنه معذور ، واختلف العلماء : لو أن الإنسان منع أن يسجد خوفا على بصره كما في العمليّات الجراحيّة إذا عمل عملية في عينه أو عينيه يمنع من السجود ، وقد يقول الطبيب : إذا سجد يذهب بصره ، فبعض السلف - رحمهم الله - شدّد في هذه المسألة وقال : يسجد ولو ذهب بصره ، وقيل : إن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال له الطبيب : لا تسجد وإلا ذهب بصرك ، فسجد فذهب بصره ، هذه إحدى الأقوال التي قيلت في سبب ذهاب بصره ، وقال بعض العلماء : إن بصره ذهب لأنه لا يرى أحد الملائكة إلا عمي بصره ، وكان - رضي الله عنه - قد رأى جبريل - كما في الصحيح – (( حينما دخل ابن عباس مع أبيه العباس وسلم العباس فلم يرد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - عليه ، ثم سلم ثانية فلم يرد ، ثم سلم ثالثة فلم يرد ، فانصرف العباس منكسر الخاطر ، فقال له : ما بك ؟ قال : إني أسلم على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يا بنيّ فلا يرد عليّ ، قال : ألم تر إلى الذي يناجيك ؟ قال : ما رأيت، ثم أتى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وقال : يا رسول الله ، إني دخلت عليك فسلمت ثلاثا فلم ترد ، وزعم ابني أن معك رجلا يناجيك ، قال : أو قد رآه ؟ قال : نعم ، قال : ذاك روح القدس )) في بعض الروايات أنه قال : أنه لا يؤمن بصره ، ومحفوظ هذا عن الصحابة الذين رأوا الملائكة يوم بدر أنه كفت أبصارهم ، يعني في الغالب أن لا يسلم له بصره ، لكن مما ذكره العلماء في هذه المسألة أن سبب ذهاب(2/353)
بصره أنه سجد وكان به مرض في عينه .
الصحيح : أنه إذا خاف وقال له طبيب عدل يوثق بقوله ، ولذلك لا يقبل قول الطبيب الكافر في الديانات ، ومن هنا كان أئمة السلف إذا استطبوا عند اليهود والنصارى ومنعوهم من الصوم لا يقبلون قوله . أطباء المسلمين لأن شهادتهم مطعون فيها ، ومن هنا إذا قال له طبيب يوثق به : لا تسجد وإذا سجدت يؤثر هذا على بصرك ، أو يؤثر على قلبك ، أو يؤثر على عملية جراحية وفيها ضرر ؛ فإنه لا بأس أن يترك السجود ، وأن يسجد بالقدر الذي يقول له الطبيب .
أن يكون عجيزته أرفع من رأسه لو أنه صلى على كرسي ، فإذا صلى على كرسي لمرض وأمكنه أن ينحني للسجود ، فإذا كان أمكنه أن يضع جبهته على طاولة أو نحو ذلك فنص الأئمة - رحمهم الله –على أنه يمكن جبهته ؛ لأنه جزء من المأمور به في السجود ، وأمكنه ذلك فيفعله ، وحينئذ لا يحصل المقصود من ارتفاع العجيزة على الرأس ، لأن هذه صورة مستثناة ولها أصل في السنة ، كما في صلاته - عليه الصلاة والسلام - على راحلته يومئ إيماء بركوعه وسجوده .(2/354)
أما بالنسبة للكفين واليدين فالمأمور في السجود أن يضعهما على الأرض ، وأن يضغط عليهما ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( وادّعم على راحتيك )) والراحتان هما بطن الكفين ، فيدّعم عليهما ، ويكونان على الأرض ، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعضهم : إذا سجد - مثلا - سجود التلاوة أو كان يقرأ في المصحف ، فإنه إذا أراد أن يسجد وهو في قيام الليل يقرأ في المصحف عند السجود يكون ممسك بالمصحف ، فيقلب كفه ويسجد ، فتجد كفه اليمنى أو اليسرى حاملا فيها المصحف ويقلبها فيسجد على ظهر كفه لا على بطن كفه ، ومن هنا نقول لهؤلاء : إنهم إما أن يضعوا في مكان المقرأ ويسجدوا بالكفين ، وإما أن يوضع المصحف قائما ثم يضع أصبعه في الموضع المقرأ فإذا سجد وقف المصحف واستتمت الأصابع على الأرض ، لابد من تمكينها من الأرض حتى تسجد كاملة ، وضعك للأصابع ولراحتك على الأرض سجود ، أثناء السجود سجود ، لأن كل عضو سجوده بحاله ، فالكفان سجودهما أن يستقرّا على الأرض ، وأما إذا كان مقطوع اليدين فإنّه يصل طرفا يديه - كما ذكر العلماء - إذا كان من المفصل إلى الأرض ، لأنّ هذا من السجود ، ولا يسقط عنه السجود ، فيسقط عنه القدر الذي عذر فيه إذا قطعت كفّه ، وأمّا بالنسبة للركبتين فلابدّ من أن تكونا على الأرض مستقرّتين حتى يقع عليهما السجود ، والقدمان السنة فيهما أن يستقبل بأطراف الأصابع القبلة ، وأن يضغط عليهما حتى يتمكّن من السجود ، فإذا استقبل بهما القبلة فإنّ هذا يمكّنه أكثر في الضغط ، ويمكّن الجبهة من الوصول إلى الأرض على الوجه المعتبر ، وهذا أتمّ ما يكون في السجود أن تكون أطراف أصابع القدمين إلى القبلة ، ويضغط عليهما حتّى يتمكّن من السجود ، فإذا سجد وضع رأسه بين كفّيه واستقبل بأطراف أصابعه القبلة تأسّيا برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، ثمّ جافى بين عضديه وجنبيه ، حتّى ورد عنه - عليه الصلاة والسلام - أنّه لو مرّت(2/355)
بهمة فإنّها تسلك من بين يديه ، وكان الصحابة كما في حديث البراء يشفقون على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - من شدّة مجافاته ، وهذه المجافاة إذا كان الإنسان إماما أو منفردا، أما إذا كان مأموما وبجواره من يصلّي فإنّه إذا ذهب يجافي يؤذيه ، ومن هنا يجافي بالقدر الذي لا يؤذي من بجواره ، ويحاول أن يبعد عضديه عن جنبيه إلاّ في شدّة الزحام ، فلا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها ، ويرفع ساعده عن الأرض ؛ لأنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - نهى عن افتراش السبع ، فلا يضع الساعدين على الأرض، بل يجب عليه رفعهما عن الأرض ، وهذا هو المعتبر في السجود ، فقد نهى النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - عن الانبساط انبساط الكلب وافتراش السبع ، كلّ هذه من هيئات الحيوانات التي نهي عنها في الصلاة وصحّت في النهي عنها سنّة النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - .
[ وبطنه عن فخذيه ] : فيجافي بطنه عن فخذيه ، وهذه التخوية ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا سجد جخّ ، والجخّ لا شكّ أنّه يمكّن من السجود أكثر ، فيكون فيه المجافاة والمبالغة في المجافاة على درجة يعني لا تزعج المصلّي وتذهب عنه خشوعه ، ويبعد بطنه عن فخذيه ، والاستعانة بالركب التي وردت عن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما اشتكوا له طول السجود في الصلاة ، قال : استعينوا بالركب ، أي أنّ الركب تحمل فيجعل ثقله على الركب ، وهذا يعني من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يؤكّد معنى التخوية والمجافاة ، وأنّه ينبغي للمصلّي أن يبعد بطنه عن فخذيه ، وعضديه عن جنبيه امتثالا لأمره - صلوات الله وسلامه عليه - بذلك .
[ ويجعل يديه حذو منكبيه ] : حذو المنكبين وقيل : يقدّمهما حتّى يسجد بينهما ، ورد عنه - عليه الصلاة والسلام - أنّه سجد بين كفّيه ، وأيضا وضعهما حيال منكبيه ، كلّه وارد ، ولكنّ الأشبه أنّه يسجد بين كفّيه .(2/356)
[ ويكون على أطراف قدميه ثم يقول : سبحان ربي الأعلى ثلاثا ] : يكون على أطراف قدميه يعني أنه يستقبل - طبعا - الأصل أنه لو وضع أطراف القدمين على الأرض حصل المقصود ، ونقول : حصل المقصود لأنه قال : (( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم وذكر منها القدمين )) هذا قدر الإجزاء ، بحيث لو سجد ووضع أطراف قدميه على الأرض فقد تمّ سجوده ، لكنّ الأكمل في السجود أن يستقبل بأطراف الأصابع القبلة ، وحينئذ قدر الإجزاء وقدر الكمال ، أخذنا قدر الإجزاء من حديث ابن عباس، وأخذنا قدر الكمال من صفة سجوده - عليه الصلاة والسلام - ، فلو كان في أصابعه مرض أو عاهة ، أو لا يستطيع أن يستقبل بها القبلة لوجود جروح أو حروق فإنه بقدر ما يستطيع ، فإذا ماسّ بهما الأرض أجزأه ، وتكون المماسّة مباشرة وبواسطة ، تكون مباشرة كما إذا لم يكن هناك حائل من شراب أو خفّ ، فإذا كان هناك خفّ فإنه يضغط على أطراف أصابعه حتّى تكون على الأرض ، وحينئذ يكون ساجدا على أطراف أصابعه .
[ ثم يرفع رأسه مكبّرا ] : ثم يرفع رأسه من السجود مكبّرا ، السنّة في السجود أن يقول : سبحان ربّي الأعلى وبحمده كما صحّ عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ذلك ؛ ففي الحديث الصحيح عنه أنّه لماّ نزل قوله تعالى : { X?QY‰W? ?y`?@… ??YQT?WO ?V?`?VK‚ô@… (1) } قال : اجعلوها في سجودكم )) فالسنة أن يقول في السجود : سبحان ربي الأعلى ، ويجتهد أيضا في السجود في الدعاء ؛ لأنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( أما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم )) وفي الحديث الصحيح عنه أنه قال : (( أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا كان ساجدا )) فهذا يدلّ على فضيلة الدعاء في السجود ، وأنه من مظانّ الإجابة ، ولذلك يتحرّى الإنسان في أموره التي يحتاج إليها مظانّ الإجابة ومنها الدعاء في السجود .(2/357)
[ ويجلس مفترشا ] : ثم يرفع رأسه من السجود مكبّرا يعني قائلا : الله أكبر ، فإذا انتهت الصفة الفعليّة والقوليّة للسجود يرفع رأسه مكبّرا حتى إذا استتمّ جالسا ، فهذا الركن البعدي بعد السجود وهو الجلسة بين السجدتين ، والأصل في كونه ركنا - كما سيأتي - قوله - عليه الصلاة والسلام - للمسيء صلاته: (( ثم ارفع رأسك حتى تطمئنّ جالسا )) فهذا يدل على ركنيّة الجلوس بين السجدتين ، وحديث المسيء صلاته اشتمل على الأركان ، والأصل فيه أنه جاء لبيان الأركان ، وتجب الطمأنينة وهي ركن في هذا الركن - كما سيأتي إن شاء الله - أن الطمأنينة في الأركان معتبرة ، فصح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه رفع رأسه من سجوده وافترش ، الافتراش أن يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى ، كما ثبت في الصحيح من حديث أمّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنه قدّم رجله اليسرى ونصب رجله اليمنى صلوات الله وسلامه عليه ، فهذه السنة ، وهناك الافتراش ، وهناك التورّك، والتورّك فيه ثلاث صفات :
الصفة الأولى : أن يجعل أطراف أصابع رجله اليسرى تحت ساقه الأيمن ، واختلف في موضعها على ثلاث صفات :
قيل : أن يجعل أطراف الأصابع قريبا من الركبة .
وقيل : يؤخّرها .(2/358)
وقيل : أن يجعل أطراف الأصابع بين الساق والفخذ ، هذه ثلاث صفات في التورّك ، والذي ثبتت به السنة في الصحيح من حديث عائشة - رضي الله عنها - إنما هو الافتراش وفي جلوسه - عليه الصلاة والسلام - بين السجدتين ، والتورّك جاء في حديث ابن الزبير وغيره ، والافتراش أقوى من ناحية الأحاديث وأشهر ، ولذلك من العلماء من اختار الافتراش مطلقا كالحنفيّة ، ومنهم من اختار التورّك مطلقا كالمالكيّة ، ومنهم من فصّل بين الثنائيّة والرباعيّة ، أو الجلوس الذي يعقبه سلام في الرباعيّة والثلاثيّة فيما فيه التشهّدان ، أو الجلوس الذي لا يعقبه سلام فاختار الافتراش في الجلوس الذي لا سلام بعده في كلّ ما فيه تشهدان ، والتورّك في الجلوس الأخير فيما فيه تشهّدان ، واختار الافتراش في الثنائيّة، والتورك عنده في الرباعية ، فهذه مذاهب العلماء - رحمهم الله - في مسألة الافتراش والتورّك ، ولكن السنة في الافتراش قوية جدا ، والاختلاف هنا اختلاف تنوع ، يعني لو أنه صلى مفترشا لم ينكر عليه ، ولو صلى متوركا لم ينكر عليه ، ولو جمع بينهما على الصفة التي ذكرناها في تأويل السنن فهذا أحسن وأفضل ، وهذا كله جائز سواء افترش أو تورك .(2/359)
[ فيفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويثني أصابعها نحو القبلة ويقول : رب اغفر لي ثلاثا ] : بعد أن بيّن صفة الجلوس الفعلية شرع في الذكر وهو أن يقول : رب اغفر لي ، صحّ عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال : رب اغفر لي ، رب اغفر لي ، وهذا عند العلماء وجمهور الأئمة عندهم قاعدة وأصل أنه حيث جاء الذكر بالدعاء دل على أن الموضع موضع دعاء ، ولذلك ذكروا مواضع الدعاء في الصلاة : السجود ، وما بين السجدتين ، والتشهد ، هذه مواضع الدعاء في الصلاة ، يجتهد فيها الإنسان في الدعاء ، ويتخير الوارد ، فصح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : رب اغفر لي ، رب اغفر لي ، هذا الذي سمع منه ، ولما سمع منه أنه قال : رب اغفر لي دل على أن الأصل الدعاء ، ومن هنا نص العلماء وجمهور الأئمة كما نقله شراح الحديث على أنه موضع دعاء ، فيقول : رب اغفر لي ، والأفضل الوارد ، ولذلك جاء في السنن أنه قال : (( اللهم اهدني وارحمني وارفعني وانفعني واجبرني وعافني وارزقني )) صح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال هذا بين السجدتين ، ولم يقتصر على قوله : رب اغفر لي ، وعلى هذا أصبح موضع دعاء ، ومسألة رب اغفر لي ولوالدي الدعاء للوالدين في الصلاة سواء في السجود أو بين السجدتين لم يقل أحد ببدعيته ، إلا بعض المتأخرين ، وهذا من عجيب ما يقال تبديع الدعاء للوالدين في الصلاة ، بعض أئمة السلف يستدل بقوله تعالى : { X XUKV… ?£TR?`®@… ?Y? ??`T?W?Y?VHéY?Wè J??V?XM… SOkY±WU<?@… (14) }كما هو قول الأوزاعي وغيره من أئمة السلف المحتج بهم في العصور المفضلة ، يقول : أن يصلي فيدعو فيشكر ربه في الصلاة ويدعو لوالديه ، وهذا يحتمله النص ، وهو من تفسير إمام من أئمة السلف ، والأوزاعي - رحمه الله - من فقهاء السلف - رحمهم الله - ويقال له : فقيه الشام ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه في الإمام ابن قدامه : ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من(2/360)
الموفق ، وهذا لجلالة علم الأوزاعي ، حتى ذكر عنه أنه أفتى في أكثر من ثلاثين ألف مسألة من علمه - رحمه الله - فهو يختار هذا القول وهو من أئمة السلف وله أصل في الكتاب ، والتبديع يكون لما لا أصل له ، وهذا له أصل (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه )) فإذا دعا له ولوالديه فلا بأس ولا حرج ، ولا شك أن من أعظم الناس حقا عليك هم الوالدين ، ومن هنا الدعاء للوالدين في الصلاة قربة، ومستحب ومرغب فيه وأصول الشريعة دالة عليه لما قال تعالى : { X?`T?W?Y?HWé<?@†Y?Wè $†_T?HTW©`?XM… } يعني حتى إن الله علمنا أن ندعو للوالدين { OSTIWè Jg‡WQO †WUS?`UW?`O@… †WUV? ?Y?†W~TQWT?WO …_OkYç?W² (24) } الله يأمر بالاستغفار لهما والترحم عليهما ونأتي نقول لمن يدعو لهما بدعة ، إنما البدعة الإيجاب حينما يقول : إنه يجب ؛ لأن الأحكام الشرعية تفتقر إلى دليل ، ومن هنا نريد أن نفرق بين المسألتين ، فبعض طلاب العلم يأخذ بعض الفتاوى من المتأخرين ولا يحسن تطبيقها ، ولا يحسن فهمها ، فالإلزام بالشيء في موضع مخصوص دون دليل يدل على تخصيص هذا الموضع بدعة ، لكن من حيث الأصل إذا يريد أن يدعو له ولوالديه في سجوده أو بين السجدتين فلا بأس بذلك ولا حرج ، وهو تحت الأصل العام المرغب فيه في الدعاء للوالدين .
الأسئلة :
س : فضيلة الشيخ : صليت الفريضة منفردا ثم بعد ذلك وجدت جماعة ، فهل لي أن أكرر صلاتي مع الجماعة . وجزاكم الله خيرا ؟
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(2/361)
فلا يشرع تكرار الفريضة مرتين ، إلا فيما دل الدليل على جوازه ، ومما دل عليه الدليل أن يصلي الإنسان في مسجد ثم يحضر في مسجد ثان فإنه إذا أقيمت الصلاة في المسجد الثاني متأخرة ؛ وجب عليه أن يدخل مع الجماعة ؛ لأن الشرع منع من الشذوذ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا )) ومنها أن تؤخر الجماعة الصلاة عن وقتها ، فيصلي في بيته الصلاة لوقتها ثم يحضر مع الجماعة فيصلي ولا يقول إنه صلى قال - صلى الله عليه وسلم - : (( صل الصلاة لوقتها ثم صلها معهم ولا تقل إني صليت )) فهذا مما وردت السنة باستثنائه ، وأما ما عدا ذلك فإنه نهي عن تكرار الصلاة مرتين ؛ ففي حديث ميمونة - رضي الله عنها - : (( نهى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - أن تعاد الصلاة مرتين )) فلا يشرع تكرار الصلاة دون هذه الأحوال التي دلت الشريعة على استثنائها ، وإذا كانت الجماعة التي ذكرت جماعة المسجد الأساسية تصلي معها ، إذا كانت جماعة أحدثت بعد الجماعة الأولى لا تصلي معهم ، لست ملزما بهذه الجماعة ، وإنما يصلي معهم من لم يصل على ظاهر حديث أبي بكر - - رضي الله عنه - - في السنن . والله تعالى أعلم .
س : فضيلة الشيخ : ما حكم الائتمام بالإمام خارج المسجد في البيوت والصفوف غير متصلة مع أنه يسمع الإمام من مكبر الصوت . وجزاكم الله خيرا ؟(2/362)
لا يشرع لأحد أن يصلي خارج المسجد والصفوف غير متصلة ، خاصة إذا كان لا يرى الإمام ، ولا يرى من يقتدي بالإمام ، فإذا اتصلت الصفوف إلى بيت الإنسان فله أن يصلي حتى ولو صلى في الدور الأول أو الثاني مادام أنه يطل على المسجد ، بشرط أن تتصل الصفوف إلى حد بيته ، ويكون بيته مطلاّ على المسجد ، ولذلك صح عن أنس - - رضي الله عنه - - أنه صلى على بيته مطلاّ على المسجد ، في هذه الحالة إذا امتلأت ساحات المسجد وبيته ملاصق للمسجد ؛ فإنه إذا اتصلت الصفوف إلى بيته صح أن يصلي مادام أنه يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام ، وهكذا بالنسبة للصفوف خارج المسجد فإنه يتحرى الصف الخارج من المسجد حتى يرى به أفعال من يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام ، فيصلي في الصفوف الخارجة من المسجد على وجه يتحقق به اتصال الصفوف ، وأما إذا كانت متقدمة على الإمام أو خارج المسجد على وجه لا اتصال فيه فلا يصلي فيها ، وإنما يتحرى الصفوف الخارجة من الأبواب التي تكون بعد الإمام متصلة بمن يرى الإمام أو من يقتدي بالإمام ، والله تعالى أعلم .
س : فضيلة الشيخ : هل يشرع للمصلي أن يجمع بين أنواع دعاء الاستفتاح . وجزاكم الله خيرا ؟
هذه المسألة من أهل العلم من قال : يجوز أن يجمع بين الدعائين ولا بأس بذلك ولا حرج لأنه وارد .
ومن أهل العلم من قال : يشرع له دعاء واحد ، وهذا هو الأشبه والأقرب للسنة أنه يقتصر على دعاء واحد ، إما أن يمجّد تمجيدا محضا ، أو يدعو دعاءً محضا ، أو يأخذ بالاستفتاح الجامع بين الدعاء والتمجيد ، وهذا اختاره بعض الأئمة كالإمام ابن القيم - رحمه الله - وغيره على أنه لا يجمع بين دعائين في الاستفتاح ، كما لا يكبر مرتين ، كذلك لا يجمع بين دعائين إذا تمحض دعاؤه على سبيل التعبد والقربة على وجه مخصوص .(2/363)
أما الذين قالوا بالجمع قالوا : إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أقر الصحابي حينما قال : الله أكبر كبيرا ولم ينكر عليه ذلك ، فدل على أن الأمر المراد به التوسعة والذكر لله المطلق ، فإذا جمع بين ذكرين فقد حقق المقصود ، والأشبه الأول كما ذكرنا . والله تعالى أعلم .
س : فضيلة الشيخ : أنا مدرس في إحدى المدارس وفي وقت صلاة الظهر أقوم بترتيب طلابي وقد يركع الإمام الركعة الأولى وأنا لم أدخل معه في الصلاة وأدخل معه إذا ركع فهل هذا الفعل صحيح لأنه تفوتني قراءة الفاتحة . وجزاكم الله خيرا ؟(2/364)
الواقع أن الواجب عليه أن يدخل وفرض عليه أن يدخل مع الإمام بما يدرك به الفاتحة ولا يتأخر ، أصلا هو كونه لا يكبر تكبيرة الإحرام فيه إشكال ، هل يجوز له أن يتخلف عن الجماعة ويشتغل بتسوية صفوف الطلاب وتنظيم الطلاب ويترك ما هو فرض عليه ، هذه مسألة تحتاج إلى نظر ، بعض العلماء يفتي إذا كان رجل من أهل الحسبة خصص لهذا الأمر يتخلف لأمر الناس بالصلاة ونحو ذلك ، لكن يتعين عليه الدخول بما يدرك به الركن - وهو قراءة الفاتحة - ، فإذا لم يبق إلا قدر قراءته تعين عليه الدخول ، ولا يمكن أن يشتغل بغيره على ضياع حق الله - - عز وجل - - في حق نفسه ، ومن هنا يجب عليه قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ابدأ بنفسك )) فأمر العبد أن يبدأ بحق الله في نفسه ، وخطأ غيره ليس مسئولا عنه ، هذا من حيث الأصل الشرعي ، وهو مأمور بالصلاة لنفسه ، خاصة إذا كان مع أطفال صغار يعني يعبثون في الصلاة ليس من المعقول نقول له : اذهب ورتب الأطفال هؤلاء على وجه يضيع فرض الله - - عز وجل - - في حق نفسه ، ولربما تفوته الركعة الأولى ، ومنهم من لا يدخل مع الإمام إلا في الركعة الأخيرة ، فكل من تأخر عن الإمام وأمكنه أن يدخل بالقدر الذي يحصِّل به الفاتحة وركع الإمام فركع معه لزمه قضاء الفاتحة ؛ لأنه أدرك وقتا يمكنه أن يقرأ فيه الفاتحة ، ومن هنا لا يعتبر من أهل الرخصة إلا إذا تعذر عليه أن يدرك القدر الذي يقرأ فيه الفاتحة ، وهذا أمكنه أن يدرك ، ولا رخصة إلا إذا تعذر عليه هذا هو الأشبه .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح ، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم ، موجبا لرضوانه العظيم . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ثم يسجد الثانية كالأولى
قال المصنف رحمه الله : [ ثم يسجد الثانية كالأولى ] :
الشرح :(2/365)
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فلازال المصنف - رحمه الله- في معرض بيانه لصفة الصلاة ، حيث بيّن هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والمشروع في حق المصلي إذا سجد السجدة الأولى، ثم بيّن هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في المصلي إذا رفع رأسه وجلس بين السجدتين، وبعد أن انتهى منهما .
قال رحمه الله : [ ثم يسجد الثانية كالأولى ] : أي يسجد المصلي السجدة الثانية من الركعة الأولى، ويفعل في هذه السجدة مثلما فعل في السجدة الأولى، والسجدة الأولى بينّا أن هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيها مبني على الأقوال وعلى الأفعال، فمراده أن يسجد كالسجدة الأولى فيفعل ما سبق كأن يجافي بين عضديه وجنبيه، ويجافي أيضا بين فخذيه وبطنه ، ويدّعم على راحتيه ، ويكون رأسه بين كفيه مستقبلا القبلة بأطراف أصابع يديه ، وكذلك أيضاً بينا الهدي في السنة القولية من الذكر الوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من التسبيح ، فيسجد كما تقدم بيانه في السجدة الأولى .(2/366)
قال رحمه الله : [ ثم يرفع رأسه مكبرا ] ثم يرفع رأسه إلى الركعة الثانية قائماً مكبراً إذا كانت الصلاة ثنائية أو رباعية أو ثلاثية ، وأما إذا كانت وتراً فلا إشكال أنه يجلس للتشهد ، وسيأتي في صفة الجلوس للتشهد [ ثم يرفع رأسه مكبرا ] فيه دليل على أن تكبيرات الانتقال أثناء الركوع والسجود والرفع من السجود والقيام إلى الركعة كل هذا ينبغي أن يكون التكبير مقارناً للفعل، وهذا مبني على أصل عند العلماء -رحمهم الله- أن الانتقال من الركن إلى الركن يشرع فيه ذكر، فتارة يكون بالتكبير كما هو الأغلب، وتارة يكون بغير التكبير كالتسميع ؛ وصح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : سمع الله لمن حمده لما رفع رأسه من الركوع ، وبين ذلك أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وغيرها . قالت : (( فلما استتم قال : وهو قائم ربنا ولك الحمد )) فدل على أن الانتقال من الركن إلى الركن له ذكر مخصوص ، ومن هنا استحب العلماء - رحمهم الله- أن يبتدئ التكبير عند ابتداء الرفع ، وأن يكون انتهاؤه من التكبير عند انتهاء الرفع ، وأكدوا هذا في الأئمة ؛ لأن الإمام من الناس: من يسمع صوته ولا يرى شخصه ، ومنهم من يرى شخصه ولا يسمع صوته ، وحينئذ إذا كان القول مقارناً للفعل لم يسبقه المأموم، فلو كان الذي يصلي وراء الإمام أعمى أو كان في صفوف بعيدة لا يرى الإمام أو كان خارج المسجد متصل الصفوف يعلم بأفعال الإمام ويسمع صوته أو يعلم بأفعاله ولكنه لا يرى شخصه ، ومن هنا يقترن القول بالفعل لهذا الأصل .
قال رحمه الله : [ وينهض قائما فيصلي الثانية كالأولى ] : هذا النهوض إلى الركعة الثانية ، وإذا نهض إلى الركعة الثانية فوجهان لأهل العلم - رحمهم الله- :
منهم من قال : يرفع مباشرة ولا يجلس جلسة الاستراحة .(2/367)
ومنهم من قال : يسنّ له أن يجلس جلسة الاستراحة ، فالذين قالوا إنه يرفع قائماً ولا يجلس جلسة الاستراحة قالوا إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال للمسيء صلاته [ ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائما ] : قالوا فأمره أمر الحتم والوجوب ، والأصل في هذا أن المسلم مأمور أن يقوم من سجدته الثانية إلى ركعته الثانية ولا يفصل بينهما إلا بما دل الدليل عليه دون وجه احتمال مؤثر ، فقالوا لما أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- المسيء صلاته أمر إلزام دل على أن الأصل أن يقوم مباشرة ولا يجلس ، وهذا هو مذهب الحنفية والمالكية وطائفة من أهل العلم - رحمهم الله -.
ومنهم من قال: إنه يجلس جلسة الاستراحة وهي جلسة خفيفة ، فقالوا إنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية التي ذكرنا يرجع قليلا كالجالس للتشهد ثم يقوم مباشرة ، وهذه سميت جلسة الاستراحة ؛ لأن المصلي يستريح فيها ويستجم وهي خفيفة جدا ؛ واستدلوا على مشروعيتها بحديث مالك بن الحويرث -رضي الله عنه وأرضاه - أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إذا كان في الوتر من صلاته جلس هنيهة ثم استتم قائماً صلوات الله وسلامه عليه ، والأحاديث التي وصفت صلاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عند الأكثرين كلها لم تشتمل على جلسة الاستراحة ، ووردت جلسة الاستراحة في حديث مالك بن الحويرث وحديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه وأرضاه - في بعض رواياته ، وحديث المسيء صلاته ، ولكن حديث المسيء صلاته الرواية فيها ضعيفة كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر -رحمه الله - في الفتح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمره أن يجلس جلسة الاستراحة ولكنها لم تصح ، وقال أصحاب هذا القول إن مالك بن الحويرث وصف صلاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأنه جلس هذه الجلسة ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( صلّوا كما رأيتموني أصلي )) في نفس حديث مالك بن الحويرث -- رضي الله عنه -- فدل هذا على مشروعية الجلسة .(2/368)
ورد الأولون على هذا الدليل بأن مالك بن الحويرث -- رضي الله عنه -- متأخر الإسلام ، وهذا لا يختلف فيه اثنان أن مالك بن الحويرث كان قدومه على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في هجرة الوفود بعد فتح مكة ؛ وقد ثبتت الرواية الصحيحة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في حديث أم المؤمنين عائشة أنه قد أسن وأخذه اللحم ، وبينت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن هذا الكبر قد أثر حتى في صلاته ويؤكد هذا أنه في صلاة الليل كان يقعد حتى إذا بقي قدر مائة آية وقف وقام صلوات الله وسلامه عليه ، وبين - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله فقال : (( لا تسبقوني إني قد بدنت )) فثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه بدن في آخر حياته وأنه ثقل ، وأنه أخذه اللحم ، فلما خاطب الأمة في حديث المسيء صلاته : (( ثم ارفع حتى تعتدل قائما )) جاء حديث مالك بن الحويرث محتملا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعلها للارتفاق والشبهة ظاهرة من حاله ومن مجموع السنن بالاستقراء فإننا نرجع إلى الأصل ، وهذا فيما يسميه العلماء ما اختلف بين سنيته لعارض وبين سنيته المطلقة ، فمادام أن السنة قد بينت أن الأصل في المصلي أن ينتهض وأن يقوم مباشرة وألا يفصل بين الركنين إلا بدليل بيّن قَوِي القول الذي يقول إنها سنة في حق العاجز والمحتاج ولكن غيرهما يبقى على الأصل الذي حفظ من هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في صلواته ، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس ، وأشار إليه المصنف بقوله : [ ثم ينهض ] فالأقوى أنها تشرع في حق العاجز أو المنهك ، قد تكون منهكا متعبا مجهدا فتستجم بها قليلا أو يكون لعارض مرض بالإنسان فيجلس جلسة الاستراحة هنيهة ثم يقوم .(2/369)
قال رحمه الله : [ فإذا فرغ منهما جلس للتشهد مفترشا ] : فإذا فرغ منهما : أي من الركعتين على الصفة التي ذكرناها . جلس مفترشا: الجلوس : يكون للتشهد الأول ويكون للتشهد الأخير ، وإذا كان الجلوس للتشهد الأخير، فإما أن يكون في صلاة رباعية أو ثلاثية أو ثنائية أو وتر. فبين رحمه الله أن الأصل في جلوس التشهد أن يجلس مفترشاً وصورة الافتراش أن يفرش رجله اليسرى فيجلس بأليته عليها ثم ينصب رجله اليمنى ويجعل أطراف أصابع رجله اليمنى مستقبلا بها القبلة . هذه هي السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما جاء في حديث أبي حميد الساعدي وحديث أم المؤمنين عائشة وغيرهما - رضي الله عن الجميع - فالأصل في الجلوس للتشهد والجلوس بين السجدتين هذه الجلسة ؛ لأنها هي المحفوظة من هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وحفظ في جلوسه في صلاته على هذه الصفة .
فقوله : [ ويجلس مفترشا ] أي على هذه الصفة إذا كانت الصلاة ثنائية إذا جلس للتشهد الأخير فيها كصلاة الفجر والسنن الرواتب ، وكذلك إذا كان وترا .
أما إذا كانت الصلاة رباعية أو ثلاثية أي مشتملة على جلستين فيفرق بين الأولى والثانية ، وهذا من حكمة الشرع ؛ لأن هذا يعين المصلي على فهم صلاته وعدم دخول الشيطان عليه ، فيفرق بين جلسته للسلام وبين جلسته للقيام ؛ لأنه إذا جلس الجلسة الوسطى التي تكون في الثلاثية والرباعية فإنه يحتاج أن يقوم ، فقوي من جانبين : معنوي ، وحسي .
أما المعنوي فإن هذا يدفع وسوسة الشيطان ودخله ؛ لأن صورة الفعلين واحدة ؛ لأنه سيجلس للتشهد الأول ، وسيجلس للتشهد الأخير، فيدخل عليه الشيطان ، وهنا يوسوس عليه هل هو في التشهد الأول أو الثاني ؟ فجاء في شرع الله -- عز وجل -- ما يدفع دخول الشيطان على المصلي بالتفريق بين الجلستين .(2/370)
وثانيا : حسي ؛ لأن الذي يجلس لكي يقوم ينبغي أن يكون على حالة تعينه على القيام ، ومن يجلس لكي لا يقوم يهيأ أو يوسع له في حالته حتى يرتفق ، فإذا جلس جلوسا لكي يقوم فالأقوى أن يكون مفترشا ؛ لأن هذا يعينه على القيام ، ولكنه إذا جلس متوركا صعب عليه القيام أكثر من الافتراش، ومن هنا قوي الأثر والنظر على ترجيح مذهب من يقول بالتفصيل ، وأن السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- كما في الأحاديث الأصل أنه يجلس جلسة الافتراش، وعليه فإنه يجلس للتورك كما جاء في الصحيح من حديث عبدالله بن الزبير وغيره وحديث أبي حميد الساعدي إذا كان في القعدة الأخيرة، وأثبت فيها أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جلس في الجلسة الأخيرة على التورك ، ففُرّق بين التشهد الأول والثاني ، فإذا جلس في الرباعية أو في التشهد الأول من الرباعية أو الثلاثية أو في الثنائية أو في الوتر فإنه يجلس مفترشاً .
قال رحمه الله : [ ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ] : ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى هذا الوضع له صورتان :
الصورة الأولى : أن تكون أطراف الأصابع عند الركبة .
والصورة الثانية : أن يلقم بكفه ركبته ، فوسع بعض العلماء وقال على الفخذ مطلقا ، سواء قارب الركبة أو لم يقاربها .
قال رحمه الله : [ ويده اليمنى على فخذه اليمنى ] : أما اليمنى فتختلف عن اليسرى ؛ فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صح عنه أنه عقد باليمنى في التشهد، وأنه جعل لها هيئة تخالف اليسرى، وأن السنة ثبتت عنه بعدم التشريك بين اليمنى واليسرى حال التشهد، ويدل على ذلك حديث السنن حينما رأى رجلاً يشير بأصبعيه فقال له : (( أَحِّد أَحِّد )) فدل على افتراق اليمنى عن اليسرى في جلسة التشهد ؛ وعليه فإنه إذا جلس للتشهد يفرّق بينهما .(2/371)
أما لو جلس بين السجدتين فلا تفريق ، وأنه يجعل أصابع اليمنى واليسرى عند ركبته ، أو يلقم أو يجعل الكفين على الفخذين . هذه ثلاث صور، وأشار إليها الأئمة وشراح الحديث كالإمام الشوكاني وغيره ، ووردت بها السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في أحاديث متفرقة ، فإذا جلس بين السجدتين فإنه تكون هيئته تخالف هيئة التشهد ، وهذا قول جماهير السلف والأئمة - رحمهم الله - والأئمة الأربعة على أنه لا يشير بين السجدتين، وأن أحاديث الإشارة بين السجدتين لا يصح الاستدلال بها ؛ لأن الإطلاق فيها مقيد، وكونه يقال إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يشير بأصبعه في صلاته هذا مطلق مقيد ومعروف مثل هذه الإطلاقات لا تصلح وإلا لاستدل به من يقول إنه لو سجد يشير بإصبعه أيضا إذا دعا ؛ لأنه قال: يشير في صلاته، وكذلك إذا صلى وقبض فجاء ذكر الله فإنه يشير بها على الإطلاق، فإذا معنى ذلك أن هذا الإطلاق إما مقيد وإما باق على إطلاقه ، فلما جاء حديث : (( أَحِّد أَحِّد )) وهذا في التشهد وجاءت الروايات معتنية بذكر هذه الصفة وحقيقتها في التشهد لا قبل التشهد فهمنا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يفعل ذلك في التشهد لا في غيره ، وأن المطلقات قصد بها كما تقول: كان يقرأ الفاتحة في صلاته (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) فإننا نجزم بأنها في القيام وليست في الركوع ولا في السجود ولا في الرفع من الأركان ؛ لأن هذه المطلقات مقيدة ، ومن هنا المجمل يحمل على المبيّن ، وما جاء في إطلاق مجمل يحمل على المفصل المبين . وجماهير السلف والأئمة - رحمهم الله - على أنه لا يحرك إصبعه بين السجدتين، ويقوّي هذا أن السنة منعت من الحركة في الصلاة قال (( اسكنوا في الصلاة )) فالإشارة نوع حركة ، فلما جاءت في موضع مخصوص على صفة مخصوصة وجب التقيد بذلك الوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ويؤكد أن الصحابة - رضوان الله عليهم- اعتنوا(2/372)
ببيان هذه الصفة في حال مخصوص وهو جلوسه للتشهد والدعاء .
قال رحمه الله : [ يقبض منها الخنصر والبنصر ] : يقبض من اليمنى الخنصر والبنصر والوسطى، وللوسطى فيها وجهان :
بعض العلماء يرى التحليق ، ثم يشير بالسبابة .
ومنهم من يرى القبض فيصبح المقبوض ثلاثا ، ثم من أطلق القبض ، ومنهم من قيده عند أصل الإبهام على اختلاف في صفة العدد في لسان العرب؛ لأن الحديث جاء أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عقد بها وأشار ثلاثا وخمسين، فهذا كله على اختلاف في حقيقة هذا العقد.
ومنهم من يرى أن التحليق فيه إشارة إلى العقد، وقد فصلنا هذا في شرح الزاد ، وعلى كل حال فالسنة على أن اليمنى تختلف عن اليسرى في حال التشهد، وأن السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثبتت برفع أصبع اليمنى، فجمهور العلماء على مشروعية الإشارة بالأصبع، والمراد بالأصبع هنا السبابة ، وأن هذه الإشارة تختص باليمنى دون اليسرى ، وقد أجمع على المنع من الإشارة بالأصبعين من اليدين، واختلف في حال الإشارة هل تكون هذه الإشارة مع التحريك أو بدون تحريك ؟ وهذا على صورتين في التحريك :
فالتحريك الأول : أن يكون يمينا ويسارا .
والتحريك الثاني أن يكون خفضا ورفعا .(2/373)
فمن أهل العلم طبعا من حيث السنة الجمهور على أن السنة الإشارة بالسبابة خلافا للحنفية في أحد الأوجه الثلاثة عندهم في المذهب . خلاف الإمام أبي حنيفة عنه أحد الأوجه أنه لا يشير ويعتذر له -رحمه الله- بأنه لم تبلغه السنة أو رجح حديث النهي عن الحركة في الصلاة على هذه السنة. والصحيح أنه لا تعارض بينهما ، أما بالنسبة للجمهور على أنه يرفع ويشير بإصبعه ، ثم اختلفوا : فمنهم من قال إنه يرفع ويحرّكها يمينا وشمالا كما هو في مذهب المالكية ، ومنهم من قال إنه يحرّكها رفعا وخفضا كما هو في مذهب الشافعية -رحمهم الله- ، ومنهم من يقول بالإشارة دون تحريك كما هو اختيار الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه ، واختارها جمع من أصحابه وهي الأقوى من حيث السنة والدليل ؛ لأن روايات التحريك معارضة بالأصل ، وفيها كلام ، ومطلق الإشارة أقوى في الثبوت من التحريك ، ومن هنا من ترجّح عنده التحريك لا ينكر عليه ، ومن ترجّح عنده التسكين بالإشارة لا ينكر عليه ، واستحب بعض العلماء أن تكون منكّسة ، ومنهم من يرى أن تكون شديدة، أي في رفعه أن تكون شديدة ، وهي أيضا رواية عن الإمام أحمد - رحمة الله عليه - من أئمة السلف. فالمقصود من هذا أن السنة أن يشير؛ والسنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه كان يرمي ببصره إليها أي إلى الأصبع أثناء الإشارة بها عند الدعاء .(2/374)
قال رحمه الله : [ ويحلّق الإبهام مع الوسطى ، ويشير بالسبابة في تشهّده مرارا ] وهذا يدل على أنه يحرّكها بالرفع والخفض وهي الإشارة ، وهذه الإشارة إذا قلنا بمشروعية التحريك بها فقد أخذوه من قوله : يدعو بها ، وفي الحقيقة قوله : يدعو بها أعم من أن يكون دالا على التحريك أو عدم التحريك، فالذين يمنعون من التحريك يقولون : الأصل عدم التحريك ، فلما جاء أنه يشير بها وأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خاطب الصحابي : (( أحِّد أحِّد )) وأن هذا المعنى في الثبوت أقوى ؛ لأن المراد أن يسأل الله وحده لا أحدا سواه .
أما التحريك فإنه لمقاطع الدعاء ، (( وأحِّد أحِّد )) تشير إلى معنى الوحدانية ، وهذا يقوي مع الأصل من السكون (( اسكنوا في الصلاة )) هذا أصل عام قالوا نبقى على الأصل ، فلما جاء الحديث محتملا للوجهين أبقينا الوجه الذي لا يعارض وبخاصة إنه جاء ما يشهد له بقوله : (( أحد أحد )) فإنه في هذه الحالة إذا أشار بأصبعه كان أبلغ أنه يسأل الله وحده ، فاجتمعت في الدلالة على دعائه لله وحده حاجته ومسألته وما يدعو به أنه متوجه إلى الله -- سبحانه وتعالى -- وصورة الفعل بخلاف المقاطع ، فإن المقاطع تكون عندها للقصد وللدعاء ، فهذا وجه ترجيح من يقول إنه يثبتها وهو اختيار الإمام أحمد -رحمة الله عليه- واختيار طائفة من أصحابه وبعض أئمة الحديث يميل إلي أنه يقتصر على الإشارة ، فإذا ثبت هذا القول يبقى لا إشكال فيه .(2/375)
منهم من يرى -أصحاب هذا القول- أنه يشير إشارة واحدة أنه يبتدئ الإشارة عند ابتداء الدعاء. ومنهم من يرى أنه يبتدئ الإشارة عند قوله : أشهد ألا إله إلا الله وهو الأقوى ، ويؤكده حديث الأمر بتوحيد الإشارة : (( أحِّد أحِّد)) فعند قوله : أشهد ألا إله إلا الله يبتدئ بالإشارة ، ويؤكده كما ذكرنا حديث (( أحِّد أحِّد)) لأنه في هذا المعنى لما أشار بإصبعه دل على أنها تكون عند شهادة التوحيد ، وشهادة التوحيد تقتضي أن يكون وترا لا شفعا ، ومن هنا أنكر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على الصحابي الجمع بين الأصبعين، فقوي قول من يقول إنها تكون بدايتها عند التشهد.
عند التشهد لهذا الحديث ، وتكون مستمرة إلى الدعاء ؛ لقوله : (( يدعو بها )) فأصبح بهذا المعنى يجتمع الحديث الأول مع الحديث الثاني ويكون مستمراً إلى أن ينتهي من تشهده فيسقطها ثم يسلم. على هذا الوجه في التشهد الأول إذا قال : أشهد ألا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا عبده ورسوله قام، وقطع الإشارة، وأما بالنسبة للذين قالوا إنه يدعو بها ويحرّك فلهم وجهان : من قال بالرفع والخفض فاختار بعض المحققين من شراح الأحاديث أنه يكون في مقاطع الدعاء ، فهو يقول : اللهم اغفر لي وارحمني ، وتب علي ، فقوله : اللهم اغفر لي يشير عند بداية طلب المغفرة ، ويشير عند الاسترحام، ويشير عند طلب التوبة، فكلما ابتدأ المسألة أشار، فهذا معنى أنه يدعو بها مراعياً للمقاطع .
قال رحمه الله : [ ويقول التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد ألا إله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله ] : ويقول التحيات لله : هذه صفة التحيات الواردة في حديث ابن مسعود -- رضي الله عنه -- وهي أقوى الصفات الواردة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ورجحها بعض السلف والأئمة - رحمهم الله- :
أولا : لقوة ثبوتها ، فهي مما اتفق عليه الشيخان .(2/376)
وثانيا : أن ابن مسعود قال علمني رسول -- صلى الله عليه وسلم -- ، وكفي بين كفيه ، إشارة إلى الاتصال وإلى القرب ونفي الواسطة ، وهناك طبعا ما يشهد لها من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما- أيضا ، وجاءت ألفاظ أخرى كما في تشهد أبي موسى الأشعري ، وكذلك التشهد عن ابن عباس، وكذلك تشهد عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- الذي علمه الناس على المنبر الذي رواه مالك في موطئه ، والذي عليه العمل عند المحققين أن أي صفة من التشهد ثبت وصحت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا ينكر على من قال بها ، ولكن الأفضل عند طائفة من العلماء هذه الصفة لما ذكرنا، لكن لو جاء بأي صفة : التحيات لله والصلوات والطيبات، التحيات الطيبات الصلوات، التحيات المباركات والصلوات الطيبات، التحيات لله الزاكيات لله الصلوات لله الطيبات لله كلها ألفاظ صحيحة وثابتة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولا حرج أن يقول واحدة منها .
قال رحمه الله : [والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ] : شرحنا ألفاظها في شرح الزاد .
قال رحمه الله : [ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ] : هنا ينتهي التشهد ، وسمّي التشهد تشهدًا ؛ لاشتماله على الشهادة ، وهناك أمران : التشهد وهو الأمر الأول ، والدعاء وهو الأمر الثاني ؛ وبناء عليه فإنه إذا طُلِبَ من المصلي أن يتشهد فإن نهاية التشهد عند قوله : أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، فإن كان التشهد موضعا للدعاء بعد ذلك يصلي على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- - صلى الله عليه وسلم - لأمرين :
أولا : أنها دعاء اللهم : صل على محمد .(2/377)
وثانيا : لأنها استفتاح للدعاء ؛ وقد ثبتت الأدلة بفضيلة سبق الدعاء واشتماله على الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فهناك فرق بين التشهد وبين الدعاء ، فالتشهد الأول يشتمل على هذه الصفة ، وينتهي عند قول المصلي : أشهد ألا إله إلا الله في بعض الروايات زيادة : (( وحده لا شريك له ))، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، ثم إذا كان تشهدا أخيراً أضاف الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والدعاء .
قال رحمه الله : [ فهذا أصح ما روي عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في التشهد ] : فهذا أصح : وأفعل تقتضي اشتراك اثنين فأكثر في صفة ، وما وصف بالأفعل فهو المقدم وهو المميز ، وقال : أصح ؛ لأنه مما اتفق عليه الشيخان ، وهذا من أعلى الصحيح .
أعلى الصحيح ما عليه اتفقا فما روى الجفعيُّ فردا ينتقي
فمسلم كذاك بالشرط عُرِف فما لشرط غير ذين يَكْتَنِفْ.
فالمتفق عليه هو أعلى الصحيح .
وثانيا : أن ابن مسعود نفى الواسطة ، وأحاديث الصحابة منها ما هو مباشر ومنها ما هو بواسطة، فلما نفى الواسطة قال : (( علمني رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- )) .(2/378)
وثالثا : بيّن الاحتفاء ، حتى إن بعض العلماء يقول في قوله : (( وكفي بين كفيه )) زيادة على أنه يريد أن يحبوه بأفضل ما يحبى وبأحسن وبأجمل، ولذلك اعتنى ابن مسعود بهذا ، وابن مسعود من الفقه والمعرفة – رضي الله عنه وأرضاه – (( كُنَيّفٌ مُلِيءَ علما )) كما يقول عنه علي -- رضي الله عنه -- ويقول عمر - رضي الله عنه - : (( أتسألوتني وفيكم صاحب السوادين )) فلما قال : (( كفي بين كفيه )) له معنى مع أن صفات الصحابة كثيرة لكن كونه يعتني في هذه الحالة على أنّ كفه بين كفيه يدل على أنه قصد شيئا، وفي هذا رد على من يبدّع الناس البعض يقول إذا سلم ورأى أنه يسلم بكفّين أن هذا بدعة على كل حال ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه جعل كف ابن مسعود بين كفيه ، ما يستطيع أحد أن يقول إنه بدعة لأن التبديع صعب ، ولكن نقول إن السنة المطلقة والمعروفة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مد الكف ولكن إذا احتفى أحد بأحد فوضع كفه بين كفيه فلا يقال : إنه مبتدع ينتبه لهذا .(2/379)
قال رحمه الله : [ ثم يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ] : هذه إحدى الصفات في الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، والصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثبت فيها حديث كعب بن عجرة – - رضي الله عنه -- في الصحيحين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- علّم الصحابة الصلاة عليه، وأفضل ما تكون الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الصلاة عليه -- صلى الله عليه وسلم -- بالوارد . ومن هنا القاعدة كما نبه عليه الأئمة في قواعد الفقه : أن الوارد أفضل من غير الوارد ، فهذه الصفة تسمى بالصلاة الإبراهيمية ، وجاءت على أكثر من سبع صفات صححها الأئمة - رحمهم الله- أي واحدة منها جائزة ، ولكن هذه الصفة في حديث كعب بن عجرة وفيها صفة أخرى بقوله : (( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد )) دون تكرار إنك حميد مجيد في المقطعين، وكذلك أيضا بزيادة إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وهناك الصفة التي أشار إليها المصنف بذكر آل إبراهيم، وعلى كل حال إذا صحت وثبتت الصفة فأي صفة ثابتة يشرع أن يصلي بها على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ] : هذا طبعا يكون في التشهد الثاني لا في التشهد الأول :
أولاً لأن التشهد كما ذكرنا ينتهي عند قوله : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
ثانيا أن السنة صحت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه كان إذا جلس في التشهد الأول كأنه على الرَّضْف وهي الحجارة المحماة إشارة إلى سرعة قيامه -عليه الصلاة والسلام- ، ولاشك أن إضافة الصلاة تختلف عن هذا .(2/380)
وثالثا : أننا وجدنا الشرع يفرّق بين التشهد الأول والتشهد الثاني، بأن التشهد الأول بالإجماع لا يشرع فيه الدعاء من حيث الأصل العام، والتشهد الثاني هو محل الدعاء ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ثم ليتخير من المسألة ما شاء )) فلما فرّق الشرع بين التشهد الأول والتشهد الثاني ودلت السنة على أن موضع الدعاء هو التشهد الثاني واختلف في الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يرد ما هو واضح الدلالة في كونه يتشهد في التشهد الأول لزم وضعها في التشهد الثاني لا في التشهد الأول ؛ لأنها من جنس الدعاء وليست من جنس التشهد ، وعلى هذا فإنه يقتصر على قول : أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وبخاصة إن حديث الرضف وسرعة قيام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في تشهده الأول دال على أنه لا يجمع بين التشهد والصلاة .
قال رحمه الله : [ ويستحب أن يتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ] : ويستحب هذه الأربعة الكلمات : أن يستعيذ بالله -- عز وجل -- من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر، ومن عذاب النار؛ ثبتت وصحت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم -- في الصحيح ، ولا إشكال في كونها سنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه تعوذ بالله من هذه الأربع: فتنة المحيا، ومن فتنة الممات، فأثبت - صلى الله عليه وسلم - أن العبد يفتن في حياته ويفتن في مماته - نسأل الله بعزته وجلاله ولطفه ورحمته أن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن- ، وأن العبد قد يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، فيفتن عند موته.(2/381)
وكذلك أيضا فتنة الممات حينما يحال بينه وبين أن يختم له بخاتمة حسنة، كأن يختم له بخاتمة السوء -والعياذ بالله- فيفتن عند موته - والعياذ بالله - ، فيظلم قرابته في وصيته ويجور، أو يوصي بمحرمات أو ببدع أو بمحدثات، فيكون مفتونا والعياذ بالله عند موته .
وكذلك أيضا فتنة القبر وهي سؤال الملكين وما يكون من الفتنة بالعذاب؛ لأن الفتنة تطلق على معنى الافتتان في الدين، وما يكون من دخن الشبهات والشكوك، وتكون الفتنة بمعنى العذاب، تطلق بالمعنيين ، وتطلق على معنى خاصّ وهي الشرك قال تعالى : { والفتنة أشد من القتل } هذا بمعنى الشرك وتطلق على معنى عام كقوله عليه الصلاة والسلام : (( تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن )) فجعلها عامة ، وتطلق على معنى العذاب كقوله تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } فالفتنة تطلق على عدة معان ، فالحديث جاء عاما فهو شامل لجميع هذه الفتن ؛ قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- كما ثبت عنها لما دخلت عليها يهودية فاستطعمتها فأطعمتها ، فقالت اليهودية : (( أعاذك الله من عذاب القبر ففزعت عائشة -رضي الله عنها- من قولها ، فلما دخل عليها النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ذكرت له ذلك فقال لها عليه الصلاة والسلام: (( هل شعرت أنه أوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو أشد )) وفي الحديث الصحيح أيضا : (( فما رأيت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر )) .
فالمقصود من هذا أن العبد يتخيّر من المسألة ما شاء ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( ثم ليتخير من المسألة ما شاء )) هذه المسألة الأولى أنه يشرع له الدعاء بعد الانتهاء من التشهد ، وأن الأصل أن يدعو بما شاء ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( ثم ليتخير من المسألة ما شاء )).(2/382)
المسألة الثانية : إن كان مخيرا فليتخير الوارد ، وهو أفضل وأكمل لاشتماله على جوامع الدعاء، كهذه الأربع التي جمعت خير الدين والدنيا والآخرة ، وقال يستحب وهو مذهب الجماهير خلافا للظاهرية الذين قالوا بالوجوب وحديث : (( ثم ليتخير )) يدل على صرف الأمر من الوجوب إلى الندب والاستحباب كما هو مقرر في الأصول .
واختلف العلماء : هل يدعو بشيء من أمر الدنيا ؟ الجمهور على الجواز، والحنابلة على المنع ، ومنعوا لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس )) وقالوا الدعاء بالدنيا من كلام الناس كأن يقول : اللهم ارزقني سكنا صالحا، اللهم ارزقني أرضا ، أو اللهم ارزقني مالا ، المهم أنهم قالوا إنه لا يسأل شيئا من أمور الدنيا من مصالح الدنيا المحضة .
والصحيح أنه يجوز له أن يسأل سواء كان من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة أو مما جمع الأمرين ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( ثم ليتخير من المسألة ما شاء )) وأن قوله عليه الصلاة والسلام : (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس )) إنما هو كلام الناس الممنوع لا المشروع، فلما جاء الإذن بأن يدعو دعاء مطلقا وهذا يشمل ما كان بالدنيا أو الآخرة ؛ فإنه يعتبر من الكلام في الصلاة المأذون به ، وليس من الكلام المحرم.
ثم إن قوله : (( كلام الناس )) المراد به ما عارض الصلاة .(2/383)
قال رحمه الله : [ ثم يسلم عن يمينه : السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك ] ثم يسلم عن يمينه السلام : عليكم ورحمة الله ، وعن يساره كذلك ، وبهذا تختم الصلاة ، ثم يسلم لقوله عليه الصلاة والسلام : (( تحليلها التسليم )) والسلام له صفات ، منها : هذه الصفة وهي أقوى الصفات وأفضلها ، ومنها أن يسلم عن يمينه : السلام عليكم ورحمة الله ، وعن يساره السلام عليكم، ومنها أن يسلم تسليمة واحدة ، فيقول عن يمينه : السلام عليكم ، ثم إذا سلم للعلماء وجهان : أنه يبتدئ السلام مستقبلا للقبلة ؛ لأنه في حرمات الصلاة ، ولا يكون خارجا إلا بالتسليم ، وعليه فإنه يبتدئ السلام مستقبل القبلة ثم يلتفت ، فأصبح في السلام قول وفعل .
فأما القول فهو قوله : السلام عليكم ورحمة الله ، وفعل فهو الالتفات . أحدهما ركن ، والثاني سنة، ولذلك لو قال : السلام عليكم ورحمة الله ولم يلتفت بالإجماع خرج من صلاته ، وأن الالتفات هو السنة ، وعلى هذا قالوا : إن الالتفات يخرج عن الصلاة يعني الأصل أن لا يلتفت ؛ ولذلك بيّن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ، فهؤلاء الذين يقولون إنه يسلم قِبَل وجهه وهو مذهب بعض السلف -رحمهم الله- يقولون : إنه في حرمة ولا يكون خارجا منها إلا بعد حصول التحلل وهو التسليم ، ومن هنا يبتدئ السلام قبلته ثم يلتفت ، والذين قالوا إنه يبتدئ السلام على القبلة وينتهي عند عطفه لهم وجه من ظاهر السنة الواردة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وكان الصحابة يحبون ذلك ، يصلون عن يمينه عليه الصلاة والسلام لانصرافه إليهم ، وقالوا لا بأس ولا حرج أن يسلم ، وأن يكون التفاته مقارنا لقوله .(2/384)
والحقيقة القول بالمقارنة لاشك أن له وجهاً من السنة ، ولكن الإشكال الذي نريد أن ننبه عليه أن البعض يبدع من يراه يسلم قبل وجهه ثم يلتفت ، وهنا ننبه على أنك تبدع في نفسك وتمتنع من شيء ترى أن السنة لا تدل عليه نعم ، لكن أن تبدع غيرك باعتقادك فلا ، مادام أن له سلفا وله وجه من الدليل ، وهذا أصل عام ، فليس لأحد رأى أحدا يجلس جلسة الاستراحة يأتيه ويقول له : أنت مبتدع؛ لأن العبرة باعتقاده لا باعتقادك ، وكما أنك تعتقد أن السنة تركها كذلك هو يعتقد أن السنة فعلها ، وليس لأحد أن يأتي لرجل يراه مثلا يقبض بعد الركوع يقول: له أنت مبتدع ؛ لأن هذا يتعبد الله بما ترجح له ، وهذا يتعبد الله بما ترجح له ، وهذا ما يسميه العلماء لا إنكار في المختلف فيه : أن يثبت النص في دلالته في الكتاب والسنة أو فيهما ، وتكون الدلالة صحيحة ، ويكون هناك من أئمة السلف أو من أهل العلم أو من أهل الاجتهاد من أخذ أو انتزع هذا الدليل دون شذوذ وخرق للإجماع هذا أصل عند العلماء في أن من سلك هذا المسلك لا ينكر عليه وله وجه ، وهو ما يعبر عنه العلماء بلا إنكار في مسائل الخلاف .(2/385)
قال رحمه الله : [ وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين نهض بعد التشهد الأول كنهوضه من السجود ] : نهض بعد التشهد الأول إلى الركعة الثالثة في الرباعية والثلاثية كنهوضه من السجود وعلى هذا يبتدئ التكبير عند النهوض وينتهي إذا استتم قائماً . يعني هناك أمران : الأمر الأول النهوض ، وهو فعل ، والأمر الثاني القول وهو التكبير ، فالسنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بمجموع الأمرين، كما سبق في نهوضه من سجوده ، فإذا نهض فالسنة أنه يكبر ، وللعلماء وجهان : فالجمهور على أنه يجوز له أن يعتمد على يديه ، منهم من أطلق ، ومنهم من قيّد استحبابا للسنة ، فالذين أطلقوا قال على يديه يستوي أن تكون معجونة ويستوي أن تكون مبسوطة أي يعتمد على يديه يكون الاعتماد على يديه ، ومنهم من قيّد بترجيح حديث العجن ، فيرى أنّه يستجمع يديه كالعاجن قيل المراد بالعاجن كالعاجز فالوجه هذا يقوم على حديث مالك بن الحويرث -- رضي الله عنه -- ، وكذلك أيضا حديث العجن .
الذين قالوا إنه يقوم على صدور قدميه هي رواية أبي داود في السنن وهي في صفة صلاة النبي -- صلى الله عليه وسلم --، ويستحبها الإمام أحمد - رحمه الله- ، والأول للجمهور ، وعلى كل حال إن قام على يديه فله وجه من السنة ، وإن اعتمد على صدور قدميه ، واعتمد على فخذيه ، وقام فلا بأس ولا حرج .
الذين قالوا إن اعتماد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان لعجز ، ومن هنا إذا وجدت الحاجة يعتمد على يديه ، وأما إذا لم توجد حاجة فلا ، لهم مغزى من الناحية الفقهية قالوا إنه لما ترددت السنة في حديث الاعتماد على اليدين مع أن حديث العجن فيه كلام معروف ، والخلاف في ثبوته مشهور عند أهل العلم، وكثير من العلماء لا يرى ثبوته ، لكن على القول بتحسينه والعمل به فإنهم يقولون يحتمل أن هذا كان لوجود حاجة كما جلس عليه الصلاة والسلام جلسة الاستراحة .(2/386)
الذين قالوا إنه لا يعتمد على يديه يقولون إن النظر يقوّي الأثر ؛ لأنّ المعتمد على فخذيه وصدور رجليه يكون في حالة مناسبة لعدم الزيادة في الفعل، ولذلك تراه يقوم مباشرة ينهض ويصدق عليه صفة النهوض أنه نهض من الواجب الذي هو الجلسة بين السجدتين إلى الركن وهو القيام ، لكن قالوا: إن العجن والاعتماد على اليد شبه انحناء وهي زيادة حركة وزيادة فعل ، ولذلك تجد بعض العلماء يرجّح القيام على الصدور؛ لأنه أقوى من جهة النظر، وعلى كل حال مسائل الرواية والأثر إذا ترجّح عند الإنسان أو وجد من أهل العلم من يصحّح سنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثابتة فلا مانع أن يعمل بها، إنما لا ينكر على غيره إذا رآه يرى وجهاً آخر له من السنة ما يشهد له ، فالذين قالوا بالاعتماد على الفخذين والقيام مباشرة أقوى من جهة الأثر والنظر ، والذين قالوا بالاعتماد على اليدين لهم وجه من السنة ، من فعل هذا يتأوله فلا بأس عليه ولا حرج ، ومن فعل هذا يتأوله فلا بأس ولا حرج.(2/387)
قال رحمه الله : [نهض بعد التشهد الأول كنهوضه من السجود ] هذا النهوض ينبغي أن ينبه على مسألة هناك فرق بين النهوض وبين الدخول في الركن، فعندنا ثلاثة أشياء : جلسة التشهد الوسطى ويسمى التشهد الأول، وركن وهو الوقوف إذا استتم قائما في الركعة الثالثة، وما بينهما وهو الواسطة الانتقال، فلا يمكن أن نقول: إن المصلي دخل في ركن القيام إلا إذا استتم قائما فينبغي له أن يطبق سنة القيام في حال القيام ، وسنة القعود في حال القعود ، وسنة النهوض في حال النهوض، ويجعل السنة كما وردت ، فالثابت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه نهض مكبرا ، إذاً ينهض ويكبر، فليس هناك من زيادة أفعال وهو رفع اليدين في حال الجلوس؛ لأنه لم يدخل في الركن بعد ، فهو لازال جالسا ، إذا كان في حال التشهد هناك رواية تكلم عليها الطحاوي وبيّن أنه ابتدأ التكبير وهو قاعد وليس رفع اليدين، والسنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه رفع اليدين عند الدخول في الركن، ولذلك لما دخل في ركن القيام رفع يديه -عليه الصلاة والسلام- ، فلا يصدق عليك أنك دخلت في الركعة الثالثة إلا إذا استتمت قائما، ومن هنا هذا التكبير جاء عن ابن عمر -- رضي الله عنه -- في الرواية الصحيحة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعله للركن وهو الركعة الثالثة، فهذه الرواية عن ابن عمر صحيحة وثابتة ويقوّيها النظر، ومن هنا روايات أنه كان يرفع يديه وهو جالس للتشهد والكلام عليها مشهور تعارض ما هو أصح منها وتعارض النظر؛ لأنه لا يصدق عليك أنك دخلت في الركن إلا إذا استتممت قائما، فعلى هذا السنة ألا يرفع يديه إلا إذا استتم قائما، وقد تجري بعض الروايات كصنعة حديثية لكن إذا جرت كصنعة حديثية للتحسين وجاء ما هو أصح منها وجاءت دلالة النظر المستنبط من الأثر بالاستقراء والتتبع هذا هو الفقه أننا نعمل ما ثبتت به السنة أن لكل ركن سننه، وما ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فليس(2/388)
هناك عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رفع لليدين وهو في خاتمة التشهد لأي شيء ؟ سيقول لابتداء الركعة الثالثة نقول : لا يصدق أنك في الركعة الثالثة إلا إذا استتممت قائما، ولذلك لو سئل هذا عن رجل فاته التشهد الأول ترك التشهد الأول وأراد أن يقوم وتذكر قبل أن يقف يقول يرجع ؛ ما الدليل على رجوعه ؟ لأنه ملزم شرعا بالتشهد الأول ولم يدخل بعد في الركن فدل على أن الوسيط بين الركن والواجب لا يحكم له بكونه آخذاً حكم الركن ولا يحكم بكونه آخذا حكم الواجب هو وسيط ، فالانتقال للوصول للركعة الثالثة وعلى هذا لو رفع يديه لا يرفعهما إلا إذا استتم قائما ؛ لأنه في هذه الحالة يكون قد شرع في الركن كما أنه لا يرفع يديه كما ثبتت السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في ركوعه إلا إذا استتم قائما ؛ وعليه باستقراء السنة وتتبعها نقول إن الحديث ولو حسن بعض العلماء إسناده كصنعة حديثية لكننا إذا نظرنا إلى مجموع السنن وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وما استنبط منها من النظر قوي أثرا ونظرا ألا يرفع يديه بعد فراغه من التشهد الأول إلا إذا استتم قائماً على ظاهر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيح .
قال رحمه الله : [ ثم يصلي ركعتين لا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئا ] : ثم يصلي ركعتين الثالثة والرابعة إن كان رباعية أو ركعة إن كانت ثلاثية كالمغرب . لا يقرأ فيها بعد الفاتحة شيئا : كما ورد في السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الأخريين ، واستثنى من هذا ما ثبتت السنة فيه بصلاة الظهر أنه كان يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص ، بـ{ قل يا أيها الكافرون } وبـ {قل هو الله أحد } فإنه يشرع أن يقرأ في الأخريين من صلاة الظهر خاصة .
وقال بعض العلماء بالقياس فقاس عليهما الأخريين من صلاة العشاء ، وقاس عليهما الأخرى من صلاة المغرب ، فقال: إنه يشرع أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة .
والصحيح الأول التزاما للوارد .(2/389)
قال رحمه الله : [ فإذا جلس للتشهد الأخير تورك فنصب رجله اليمنى وفرش اليسرى وأخرجها عن يمينه ] : هذه صفة الجلوس للتشهد الثانية وهي التي تسمى عند العلماء بالتورك ، وللعلماء -رحمهم الله- فيها أقوال :
القول الأول : أنها مشروعة في جميع الصلاة سواء كان في التشهد الأول أو الثاني ، وسواء كان التشهد بعده سلام أو تشهد لا سلام بعده هذا يختاره بعض العلماء كالمالكية وغيرهم.
ومنهم من قال [ وهو القول الثاني ] : إنها لا تشرع مطلقا إنما يشرع الافتراش وهو أفضل وهو المقدم أن ينصب رجله اليمنى ويفرش رجله اليسرى .
ومنهم [ وهو القول الثالث ] من أخذ بالسنة ففصّل فقال كما تقدم معنا إن كانت الجلسة للتشهد الأول افترش، وهكذا إذا جلس بين السجدتين، وإن كانت الجلسة للتشهد الأخير فإنه يتورك .
وقد سبق الإشارة إلى هذا ، وهذا هو أعدل الأقوال وفيه جمع بين السنن الواردة، إذا ثبت أن التورك مشروع وبيان مكان شرعيته ؛ فإنه يرد السؤال عن صفة التورّك ؟
الصفة الأولى : أنه ينصب رجله اليمنى ويجعل أطراف الأصابع مستقبلا بها القبلة ، ثم يجعل قدمه اليسرى تحت ساق قدمه اليمنى ، وعلى هذا تكون القدم تحت الساق وتحت الفخذ ، وهذه يقوّيها ظاهر رواية البخاري في صحيحه .
أيضاً فيه صفة أخرى صحيحة وهي ثابتة أيضا في الصحيح أنه ينصب رجله اليمنى ثم اختلفوا على وجهين :
منهم من قال : ينصبها وبطنها إلى الأرض أي لا يستقبل بأصابعه القبلة ويجعل بطنها إلى الأرض .
ومنهم من قال : ينصبها النصب المعتاد ثم يُدخل قدمه بين ساقه وفخذه كما في ظاهر رواية مسلم في صحيحه ، وهذه الصفة تكون القدم اليسرى بين ساق اليمنى وبين الفخذ وهي صعبة وصعب أن تحدث في حال الضيق للمأمومين وهي متيسرة للإمام أكثر من تيسّرها للمأموم ، وتحتاج إلى جهد وجلد وكلها صحيح بالاستقراء والتتبع أنه لا بأس بفعل هذه ولا بأس بفعل هذه مادام أن النص قد احتمل الكل .(2/390)
قال رحمه الله : [ ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما ] : كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ فإذا سلم استغفر الله ثلاثا وقال : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ] : فإذا سلم : أي انتهى من السلام ؛ لأن العرب تقول : فإذا فعل إذا أتم الفعل تقول: إذا صليت فاذكر الله ، وتقول: إذا فعلت وتقصد أثناء الفعل كقولك: إذا أذنت فترسل إذا قرأت فرتل ، وتقول : إذا فعلت عند ابتداء الفعل (( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم )) إذا توضأت فسم أي إذا ابتدأت الوضوء فسم ، فهنا قوله : إذا سلم يعني إذا أتم السلام قولا وفعلا ، فبيّن السنة والهدي عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه استغفر بعد صلاته كما ثبت في الصحيح أنه كان يستغفر بعد الصلاة ، وفسّر ذلك الأوزاعي بقوله : أستغفر الله ، أستغفر الله .
كذلك أيضا من هديه - عليه الصلاة والسلام- أنه قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام، والرواية صحيحة بهذا عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وما يقوله بعض العامة : وإليك السلام خطأ ينبغي تنبيههم عليه ؛ لأن الله -- عز وجل -- هو السلام ومنه السلام -- سبحانه وتعالى -- ولا يحتاج أن يدعو له العبد بالسلامة -- سبحانه وتعالى -- فهو السلام ومنه السلام .(2/391)
وقوله : استغفر الله ثلاثا ، وقال اللهم أنت السلام هذه السنة في أدبار الصلاة ، وثبت في الحديث الصحيح : (( يا معاذ والله إني لأحبك فلا تدعن كلمات تقولهن دبر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )) ، ويقول : الباقيات الصالحات : يسبح الله ثلاثا وثلاثين ، ويحمده ثلاثا وثلاثين ، ويكبره ثلاثا وثلاثين ، ثم يقول تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، فإذا قال ذلك غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر ، وهذا فضل عظيم وخير كثير، فينبغي للمسلم أن يحرص عليه.
يقول هذا على وجهين : إما أن يتيسر له الجلوس في مصلاه ، فحينئذ لا إشكال فهو يقوله : دبر الصلاة، وإن استعجل للقيام فلا بأس أن يقوله بعد انصرافه مباشرة متصلا بالصلاة لوجود الحاجة، فينوي في قرارة قلبه أنه لولا هذه الحاجة لقالها في مكانه ؛ لأن الملائكة تستغفر وتصلي عليه مادام في مصلاه كما في الصحيح من حديث أبي هريرة : (( لا تزال الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه : اللهم اغفر له اللهم ارحمه )) فلا يبادر بالقيام مباشرة ، وهذا خير عظيم وفضل كبير من الله -- عز وجل -- للعبد .
[ باب أركان الصلاة وواجباتها ] : الأركان جمع ركن ، والركن يعود إلى ماهية الشيء وهو دعامة الشيء وما يقوم عليه ، ولذلك إذا وجد الركن وجد الشيء ، وإذا لم توجد الأركان لم يوجد الشيء كما هو مشاهد في المحسوسات .
وأركان الصلاة وواجباتها الواجبات : جمع واجب ، والواجب يطلق على معنى اللازم ، تقول : يجب عليك هذا أي يلزمك ، وتقول : وجب الشيء إذا ثبت أي إذا سقط ، وقد تقدم معنا هذا فيما مضى.
المصنف رحمه الله يقول : أركان الصلاة وواجباتها : صفة الصلاة صفتان : صفة كمال ، وصفة إجزاء .
أما صفة الكمال فهي التي تقدمت معنا تشتمل على الأركان والواجبات والسنن والمستحبات .(2/392)
وأما صفة الإجزاء فتشتمل على الأركان والواجبات، وهي التي لا تجزئ صلاة العبد إلا بها بحيث لو ترك متعمدا ركنا أو واجبا حكم ببطلان صلاته . وأما إذا تركها ناسيا فإنه يمكنه التدارك في حال ولا يمكنه التدارك في حال على تفصيل سنذكره - إن شاء الله تعالى- . هذا حاصل قوله : باب أركان الصلاة وواجباتها.
مناسبة هذا الباب : أن العلماء - رحمهم الله- بعد فراغهم من صفة الكمال يذكرون صفة الإجزاء لطالب العلم في خاصته تكليفاً وللناس تعليماً وإرشاداً ، فأنت بعد هذه الصفة ستسأل ما هو اللازم منها وما هو غير اللازم حتى تفرق بين ما يجب عليك فعله وبين ما لا يجب عليك فعله ، وأيضا تفرق بين ما يوجب بطلان صلاتك وما لا يوجبه ، وأيضا إذا سئلت تستطيع أن تقول : إن هذا الفعل نسيانه مؤثّر وهذا الفعل نسيانه غير مؤثّر ، وأن هذا القول نسيانه وتركه عمدا يوجب بطلان الصلاة، وأن هذا الفعل والقول نسيانه وتركه عمدا يوجب عدم البطلان . هذا مهم جدا ، ولذلك يعتني الفقهاء - رحمهم الله - يقول قائل : طيب الكل ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فلماذا نفرق بين هذا وهذا ؟ وجدنا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بأقوال وأمر بأفعال ، ووجدناه يقول أقوالا لم يلزم بها ، بل إنه ما اطلع عليها إلا أفراد من الصحابة ، فعلمنا أن ما كان تشريعاً للأمة وجه فيه الخطاب وألزم به لا يأخذ حكم ما لم يلزم به ؛ إذ لا يعقل أن يكون مثلا ذكر معين مثلا يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قالها في سجوده فلو قلنا إن هذه الصفة كلها لازمة يصبح قوله : يا مقلب القلوب ركن من أركان الصلاة ، فلو أن مصليا صلى ولم يقله لبطلت صلاته ، وهذا لا يقول به أحد ، والإجماع منعقد على أنه غير وارد ؛ إذا ثبت هذا فهذا معنى كون العلماء يقولون : ركن ، وواجب ، وشرط ؛ لأن الشرع فرّق في هذه السنن وليس هذا من البدع والحدث ، نفرق بتفريق الشرع ، ولا مشاحة في الاصطلاح أن نقول هذا واجب(2/393)
وهذا غير واجب ؛ لأن السلف كانوا يفهمون ذلك سليقة ، والعلماء وضعوه ضبطا وحاجة ، فالبعض يقول : إن السلف ما كانوا يعرفون هذا ركن أو واجب ! وابن عباس ما كان يقول : هذا ركن هذا واجب وهذا شرط صحة وهذا شرط إجزاء ! نقول : هذا كان يعلم بالسليقة وعلى هذا نقول : إن السنة فرّقت ، ثم هذا الواجب اللازم وجدنا النبي -- رضي الله عنه -- يرجع إلى شيء منه رجوعا محتّما ملزما ووجدناه في شيء آخر يجبره ، فعلمنا أن الأول لا يمكن جبره إلا بالإتيان به، وعلمنا أن الثاني يمكن جبره ببديل، كيف ؟ وجدناه -- صلى الله عليه وسلم - - في إحدى صلاتي العشي كما في الصحيحين والشك من الراوي عن أبي هريرة ، فصلى ركعتين ثم سلم ، قال وقام إلى الجذع وشبك يديه كالغضبان فهاب الصحابة أن يكلموه ، (( فقال ذو اليدين : أقصرت الصلاة أو نسيت ؟! قال: ما كان شيء من ذلك . قال : بلى ، قد كان شيء من ذلك . فسأل الصحابة فقالوا : صدق ذو اليدين ))، فرجع عليه الصلاة والسلام إلى مصلاه بعد أن فارق المصلى ورجع إلى صلاته بعد أن سلم ثم فعل الركعتين تامتين كاملتين ، ووجدناه -- صلى الله عليه وسلم -- يصلي بالناس الظهر فيقوم من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة دون أن يجلس، فسجد السجدة الثانية من الركعة الثانية كان المفروض أن يجلس للتشهد وهو حديث عبدالله بن مالك بن بحينة -- رضي الله عنه -- وعن أبيه وعن أمه في الصحيح، فلما قام سبح له الصحابة، وهذا من الأفعال اللازمة في الصلاة التي ما تركها عليه الصلاة والسلام وهو التشهد الأول فوجدناه -عليه الصلاة والسلام- قام فسبح له الصحابة فنبهوه إلى هذا النقصان فأشار إليهم أن قوموا يعني اتبعوني، فترك فعلا من أفعال الصلاة، ثم لما أراد أن يسلم سجد عليه الصلاة والسلام ، لما انتظر الناس سلامه سجد سجدتي السهو، فجبر النقص ببديل، وأما في قصة ذي اليدين فلم يجبره إلا بالفعل، فعلمنا أن الأول لا يمكن أن يسوى بالثاني مع أن(2/394)
هناك أفعالاً مشتملة على أقوال، فعلمنا أن في السنة أشياء لازمة وأشياء غير لازمة ، ثم اللازم ما هو محتم للصلاة لابد للمكلف أن يأتي به ، ومنها ما يمكن جبره بسجود السهو، فقيل للأول ركن، وقيل للثاني واجب، ووجدنا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول أشياء مستحبة مندوبة يقولها في صلاته عليه الصلاة والسلام في خاصته ، ويطلع البعض عليها بل كان يفعلها حتى في بعض الأحيان التي لا يتيسر الاطلاع للبعض خاصة عليها ، ومع هذا لم نَرَ أنها تشريع عام للأمة إذ لو كانت تشريعا عاما للأمة لم تأت على هذا الوجه ، ففرقنا بتفريق السنة ، وهذا هو الفقه في الدين ، أن تتبع السنة ، وأن تميز بينها ، وأن تعطي كل صفة حقها ، سواء كانت من الأقوال أو الأفعال .
قال رحمه الله : [ باب أركان الصلاة وواجباتها ] هذا يشتمل على صفة الإجزاء .
قال رحمه الله : [ أركانها اثنا عشر ] : أركان الصلاة الضمير عائد إلى الصلاة اثنا عشر إجمال قبل التفصيل والبيان : القيام مع القدرة ، وتكبيرة الإحرام ، وقراءة الفاتحة ، والركوع ، والرفع من الركوع، والسجود والجلوس بين السجدتين، التشهد الأخير، والجلوس له ، والتسليم والطمأنينة ، والترتيب ، هذه كلها أركان ، وثبتت الأدلة في الكتاب والسنة بها وسنبينها - إن شاء الله تعالى - .(2/395)
هذه الأركان لا يمكن أن تصح الصلاة ولا يحكم باعتبار الصلاة إلا بوجودها ، فالقيام لا يمكن أن تصح صلاة إنسان قادر على القيام جالسا ، تكبيرة الإحرام لا يمكن أن يحكم بالصلاة ولا بالاعتداد بها إلا بتكبيرة الإحرام كما سنبينه - إن شاء الله - ونبين دليله ، الركوع ، الرفع من الركوع، السجود ، الجلسة بين السجدتين ، قراءة الفاتحة ، التشهد الأخير، الجلوس له ، السلام ، الطمأنينة، الترتيب ، هذه الاثنى عشر لا يمكن أن حكم بصحة الصلاة واعتبارها إلا إذا وجدت تامة كاملة ، وقد جمعها حديث المسيء صلاته ، ولذلك الأركان أجمع العلماء - رحمهم الله - على أن أجمع الأحاديث للأركان إلزاما لا صفة ؛ لأن أحاديث صفة الصلاة هي التي جمعت الأركان والواجبات؛ لكن إلزاما هو حديث المسيء صلاته كما حكى الإجماع ابن رشد في بدايته .
قال رحمه الله : [ القيام مع القدرة ] : القيام : الوقوف ، وقد تقدم ضابط القيام ، وبيّناه حينما فصلنا في أحكامه ، فصفة الأركان تقدمت ، لكن هنا نتكلم على دليل كونها ركنا قال تعالى : { وقوموا لله قانتين } فأمر بالقيام أمر إلزام ؛ وقال - سبحانه وتعالى - : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } وقال : { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } فجعل الصلاة مبنية على القيام؛ وفي الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال لعمران -رضي الله عنه وأرضاه- : (( صل قائما )) وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن القيام ركن من أركان الصلاة ، هذا الركن يكون ملزما به عند القدرة ، فإذا لم يكن قادرا فإنه ليس بواجب ولا لازم ، إما أن يعجز عنه كلية كالمشلول ، وإما أن يعجز عنه عجز يصل إلى الحرج ؛ فحينئذ ليس من شرع الله ، فيرخص له أن يصلي على الصفة التي يقدرعليها. القيام مع القدرة . القيام : طبعا قلنا الاستتمام في الانتصاب يخرج عن حد القيام بالانحناء، والانحناء له صورتان :(2/396)
انحناء مؤثر ، وانحناء غير مؤثر.
فإذا بلغ بانحنائه صورة الراكع قال بعضهم أن يقارب اللَّقْم للركبتين ، فإذا انحنى انحناء بحيث تستطيع الكفان أن تُلَِْقما الركبتين فحينئذ انتقل من كونه قائما إلى كونه راكعا ، فلو كان في الصلاة ثم عبث فانحنى من دون حاجة هذا الانحناء متعمداً فإنه يحكم ببطلان صلاته ؛ لأنه خرج عن الركن ، وزاد في الصلاة ، وأما إذا كان العكس كذلك أيضاً طرداً لهذا الأصل ، كأن يريد أن يقوم لكي يكبر تكبيرة الإحرام نحن نقول القيام عند القدرة معناه أن تكبيرة الإحرام لا تصح إلا من قائم إذا كان قادرًا على القيام ما يصح أن يكبر تكبيرة الإحرام قاعداً إلا في صلاة النافلة ، أما الفرض فلا يصح منه البتة أن يكبر تكبيرة الإحرام إلا إذا استتم قائماً ، ومن هنا بعض العامة بمجرد أن يكبر الإمام تكبيرة الإحرام تجده جالساً ثم ي يفز قائما وقبل أن يستتم قائما يقول : الله أكبر ، وبعضهم يكون قاعدا ثم يقوم يريد أن يكبر قبل أن يستتم قائما ، لابد في تكبيرة الإحرام في الفريضة أن يكون قائما .
[ القيام عند القدرة ] هذا ركن بالنسبة لصلاة الفريضة . أما النافلة فليس بركن فيها ، فله أن يصلي قاعدا وهو قادر على القيام ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم )) ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلّى على بعيره النافلة وهو قاعد على بعيره في حكم الجالس .(2/397)
القيام عند القدرة : إذا كان ركنا هذه الركنية لتكبيرة الإحرام لازمة ، للفاتحة إذا كان لقراءته للفاتحة يقرؤها قائما فلا إشكال ، لكن لو أن الشخص عنده مرض ، ولا يستطيع أن يقف إلا بعض الركن ليس كل الركن؛ فحينئذ نلزمه بالقيام على قدر ما يقرأ الفاتحة ، حتى إن بعض مشائخنا - رحمه الله- يقول من يعجز عن استتمام قيامه لا يستطيع أن يقوم إلا بقدر الفاتحة لا يقرأ دعاء الاستفتاح إذا صلى لنفسه ، أو صلى وراء الإمام؛ لماذا ؟ لأن الفاتحة ركن ، والقيام للركن معتبر ومقدم على القيام للسنن والمستحبات . دعاء الاستفتاح مستحب ، ويؤكد هذا لو أنه جاء مسبوقا وخاف أن الإمام يركع وكبر وراءه ما يقرأ دعاء الاستفتاح ؛ لأنه ملزم بالفاتحة ، ولا يشتغل بالسنة على وجه يضيع به الركن، وهذا ينبغي أن ينتبه له ، وعليه نقول إن القيام هذا المراد به تحصيل ما أمر الله -- عز وجل -- من الصلاة قائما ، فإن عجز عنه كلا أو جزءاً فإنه ينبغي مراعاة الأصول أن يكون قيامه للأركان مقدماً على مراعاة السنن خاصة في الأذكار القولية .
قال رحمه الله : [ الثاني : وتكبيرة الإحرام ] : تكبيرة الإحرام تقدم معنا وسبب تسميتها تكبيرة الإحرام ؛ لأنه يدخل بها في حرمات الصلاة .كونها ركنا الدليل على ركنيتها :
أولا : قوله - عليه الصلاة والسلام- : (( تحريمها التكبير )) وقوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبر )) ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ما صلّى صلاة إلا وكبر تكبيرة الإحرام، هذا كله يدل على كونها ركنا من أركانها ، ما صلى صلاة دون أن يستفتحها بالتكبير، فلو أنه جاء وسها عن التكبير فقبض يديه، ثم قرأ الفاتحة لم يكن مصليا ، لا يحكم بكونه دخل في الصلاة إلا بتكبيرة الإحرام ، ولو شك هل كبّر أو لم يكبر فالأصل أنه لم يكبر؛ لأنه ينبغي أن يدخل إلى الصلاة بيقين أو في حكم اليقين وهو غلبة الظن لا شكا .(2/398)
قال رحمه الله : [ الثالث : وقراءة الفاتحة ] : الثالث قراءة الفاتحة : وهي فاتحة الكتاب وقد تقدم معنا التفصيل في صفة الصلاة ؛ الدليل على ركنيتها قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وقوله - عليه الصلاة والسلام- : (( أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج )) وهذه الركنية شاملة للإمام والمأموم والمنفرد ، ويجب على المصلي أن يقرأها وراء إمامه ، وقد ذكرنا هذا وبينا دليله ، وتسقط قراءتها إذا أدرك الإمام راكعاً ، أو أدركه قبل الركوع بوقت لا يسع للفاتحة ، فدخلت بمجرد وصولك إلى الصف انتهى الإمام من القراءة في العشاء أو في الفجر أو في المغرب ويريد أن يكبر، فبمجرد ما كبرت تكبيرة الإحرام كبر للركوع فلم تدرك وقتا لا لقراءة الفاتحة ولا لجزء منها ، أما لو أدركته قبل الركوع فإنه يجب عليك أن تقرأ إن كان للفاتحة كاملة لزمتك كاملة، وإن كان لبعضها لزمك ما تستطيع، فلو أنه أدرك قبل الركوع قدرا يمكّنه من قراءة الفاتحة فأهمل وقرأ دعاء الاستفتاح فركع الإمام وركع معه ولم يقرأ الفاتحة لزمه قضاء الركعة ؛ لأنه ترك الركن لمستحب على وجه لا يعذر به شرعا ، فلزمه أن يقضي الركعة ؛ لأنه ترك تأويل وليس بترك تعمد ، فيلزمه قضاؤها تامة كاملة .
قال رحمه الله : [ الرابع : والركوع ] : الركن الرابع : الركوع ؛ قال تعالى : { واركعوا مع الراكعين } وقال تعالى : { اركعوا واسجدوا } فهذا يدل على أن الركوع ركن ، ولأن الركوع متصل بالماهية ، وبيّنّا ضابط الركوع وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيه ، وأجمع العلماء على أن تكبيرة الإحرام والركوع من أركان الصلاة ، والفاتحة في قول جماهير السلف والأئمة رحمهم الله هي ركن على تفصيل عندهم في هذا .(2/399)
قال رحمه الله : [ الخامس : والرفع منه ] الركن الخامس الرفع من الركوع : أن يرفع رأسه من ركوعه حتى يستتم قائماً وقد تقدم هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في ذلك ؛ والدليل على كونه ركنا قوله عليه الصلاة والسلام : (( ثم ارفع حتى تعتدل قائما )) فأمره أن يرفع ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ما صلى صلاة فركع إلا رفع من ركوعه ، وداوم على هذا الرفع ولم يتركه ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه من الركوع )) فهذا كله يدل على أن الرفع من الركوع يعتبر ركنا من أركان الصلاة. الحقيقة بعض العلماء قال بدل الرفع القيام بعد الركوع ؛ لأنهم يرون أن الركن راجع للقيام وليس لقضية الرفع ، وهذا صحيح ؛ لأن الأصل القيام ، تجوزوا فيه فقالوا الرفع من الركوع ولكن مرادهم القيام وهذا معنى قوله : (( لا ينظر الله إلى من لا يقيم صلبه من الركوع )) وأما الانتقال بينهم هذا طبعا واسطة وإما بين ركن وركن وإما بين واجب وواجب وإما بين ركن وواجب يسبق الركن الأكبر ويتأخر الأصغر أو يسبق الأصغر ويتأخر الأكبر على التفصيل المعروف ، أما من حيث الأصل الركن متعلق بما بعد الركوع .
قال رحمه الله : [ السادس : والسجود على السبعة الأعضاء ] السجود هو الركن ؛ لقوله تعالى : { واسجدوا } فهذا أمر، والأمر للوجوب واللزوم الذي يشمل الركنية وغيرها ؛ لأن الأمر إذا رجع إلى الماهية كان ركنا ؛ لأنه لا يصدق عليه أنه مصلٍّ إلا إذا سجد ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال للمسيء صلاته وهو يبيّن له الصلاة التي لا يمكن أن يعتد إلا بها : (( ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا )) وذات السجود إذا حصل السجود هو الركن، ثم تبقى الواجبات لتحقق السجود الشرعي فهذه فيها تفصيل عند أهل العلم -رحمهم الله- وقال المصنف : السجود على السبعة الأعظم ، وهو اختيار البعض التشديد في السجود على السبعة الأعضاء .(2/400)
قال رحمه الله : [ السابع : والجلوس عنه ] : فأصبح للسجود دليل القرآن { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } فقال اسجدوا أمر ، وهذا يدل على اللزوم .
ثانيا : أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- للمسيء صلاته ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا .
ثالثا : مداومة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
رابعا : الإجماع ، أجمع العلماء على أن السجود ركن من أركان الصلاة ، وقد بينّا حقيقة السجود ، في السجود ما لا يقل عن سبعين مسألة فقهية في حقيقته وماهيته ومتى يكون السجود ، لكن من حيث الأصل هذا ، على كل حال السجود ركن عند الجميع ، وذكرنا كثيراً من المسائل في الصفة وبينا هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لكن كونه لازما وركنا اجتمعت فيه أدلة الكتاب والسنة والإجماع على الوجه الذي ذكرناه .
قال رحمه الله : [ السابع : والجلوس عنه ] : الجلوس عن السجود ، وبعضهم يقول : الجلسة بين السجدتين ، والجلوس عنه تعبير صحيح . الرفع من السجود يتوصل به إلى الركن وهو الجلوس بين السجدتين ؛ والدليل عليه أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- للمسيء صلاته : (( ثم ارفع حتى تطمئن جالسا )) هذا يدل على أنه لازم ؛ لأنه في معرض بيان الأركان ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ما صلى صلاة إلا جلس بين السجدتين، ودليل النظر ؛ لأنه لا يمكن أن يسجد السجدة الثانية إلا بالفصل بينها وبين السجدة الأولى ، وعلى كل حال الدليل ظاهر في كونها ركنا من أركان الصلاة؛ لأنه فعل متعلق بالماهية .(2/401)
قال رحمه الله : [ الثامن : والطمأنية في هذه الأركان ] : الطمأنينة ضد العجلة ، ولا يمكن أن يحكم بكون الصلاة شرعية إلا إذا تحقق فيها هذا الركن ؛ لماذا جعل العلماء الطمأنينة ركناً ؟ الطمأنينة هي ليست مختصة بركن معين ، ولكنها شاملة لأركان الصلاة ، فمن هنا يختلف هذا الركن عن غيره، والسبب في كونه ركنا من أركان الصلاة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال للمسيء صلاته : (( ارجع فصل فإنك لم تصل )) فجعل فوات هذا الواجب موجبا لبطلان الصلاة (( فإنك لم تصل )) فدل على أنها ركن، ومن هنا تفرّق بين الأوامر . يعني البعض يقول : ما الدليل على أن الطهارة لا تصح الصلاة إلا بها ؟ قد أمر بالطهارة ولكن تصح صلاة من نسيء الطهارة ، نقول قوله : (( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )) لأنه قد يأتي الأمر بالوجوب لكنه لا يدل على بطلان الفعل عند فقده، فلما يأتي بنفي الفعل يقوّي إما شرطية الصحة يكون علامة الصحة ، وإما أن يكون ركنا من الأركان، ولذلك صارت المراتب في الوجوب واجب لا يوجب فواته البطلان خاصة في حال النسيان، وواجب هو علامة على صحة الفعل إن وجد، علامة على بطلانه إن لم يوجد ، فهذا إما شرط وإما ركن ، وهذا معنى قول العلماء : شرط وجوب ، وشرط صحة ، فالنوع الأول من شروط الوجوب، والنوع الثاني من شروط الصحة ، وشرط الصحة مؤثر، وقوته في التأثير ظاهرة ، تارة يكون مؤثرا بإطلاق، فيشمل الساهي والناسي والمتعمد ، وتارة يغتفر في حق الساهي والناسي يغتفره بعض العلماء ولا يغتفر في المتعمد والكل لا يغتفره في المتعمد ، فهنا لما قال : (( ارجع فصل فإنك لم تصل )) دل على أن سبب إعادة الصلاة عدم وجود الطمأنينة ، ومن هنا صارت الطمأنينة ركنا من أركان الصلاة لا يحكم بصحة الصلاة إلا بوجوده، ثم هذا الركن يكون في الفرائض والنوافل بخلاف بعض الأركان التي تقدمت معنا ، تكون في الفرائض ولا تكون في النوافل ، فتكبيرة الإحرام(2/402)
في الفريضة والنافلة، وقراءة الفاتحة في الفريضة والنافلة والركوع والرفع منه والسجود والرفع منه والطمأنينة هذه كلها في الفرائض والنوافل ، لكن بالنسبة للقيام ركن في الفريضة دون النافلة على ما ذكرناه .
الطمأنينة تحصل بتمام الفعل . من العلماء من حد لها قدراً من الزمان فجعل لكل فعل وارد له ذكر معين أنه يحصّل قدر هذا الذكر، فمثلا : إذا رفع رأسه من الركوع يطمئن قال بعضهم بقدر ما يرجع كل فقّار إلى موضعه كما قال في صفة صلاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( ثم رفع حتى رجع كل فقّار إلى موضعه )) فقالوا إذا رجع كل فقار إلى موضعه فقد حصل الركن ، فتأتي الطمأنينة بعد حصول الركن ، ومن هنا تحتاج إلى تقدير، قال بعضهم يقدر بالزمان بحيث لا يستعجل بالهوي ، ومنهم من قال يقدر بالذكر الوارد ، لكن هذا الثاني صعب، يعني مثلا إذا كان في السجود يقول بقدر سبحان ربي الأعلى ولا تحصل الطمأنينة بأقل منه ، وهذا فيه إشكال ، لكن الطمأنينة هي راجعة إلى عدم الاستعجال، وأما أن يكون لكل ركن ذكره فهذا صعب ؛ لأن بعض الأذكار قد تطول ، ومن هنا الجزم بأنها لكل فعل بقدره مشكل ، يعني مثلا الآن : لو أن شخصا رفع رأسه من الركوع واستتم قائما ، ولم يقل: ربنا ولك الحمد ؛ لأنه إذا استتم قائما يقول : ربنا ولك الحمد ، فوقف قائما بقدر قوله : ربنا ولك . يعني تقول عشر ثوان ، ربنا ولك الحمد خمس عشرة ثانية مثلا ، فهو جلس إلى قدر عشر ثوانٍ ، العشر الثواني تتحقق بها الطمأنينة ، استتمام الطمأنينة يقول: ربنا ولك الحمد فعلا إذا قالها باستقرار لكن لو قال : ربنا ولك هذا قدر يعني لو أنه رفع قال ربنا ولك ، ثم رجع هوى صدق عليه أنه قد استتم القدر المعتبر الزائد عن الركن المطلوب، لكن وضع حد معين في هذا صعب، إنما نقول إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رأى المصلي لم يعتدل في أركانه بمعنى أنه بمجرد ما يرفع يهوي ، وعلى هذا لم يقم صلبه كما ينبغي ،(2/403)
وبمجرد ما يسجد يرفع ، وبمجرد ما يجلس بين السجدتين يهوي ؛ فحينئذ معناه أنه ما حصّل ولا قدر الاستبقاء على الركن الفعلي بعد وجوده ، وأما أن يوضع ضابط بقدر الذكر فهذا مشكل ؛ لأن لازم هذا أن تختلف الطمأنينة من ركن إلى ركن ، والواقع أن الطمأنينة أمر زائد عن القدر الذي يحصل به الفعل كما ذكرنا في الرفع من الركوع والرفع من السجود لو أنه رفع من السجود حتى استتم رفعه فمكث هنيهة بحيث لا يدرك إتمام سؤال المغفرة ثم سجد نسيانا صحت صلاته ؛ لأن الطمأنينة حصلت ولم يحصل بالذكر كاملا ، وإلا كيف يحكم بكون الإنسان ناسيا لقوله: رب اغفر لي ، قد يكون بالقدر الذي هو دون قدر قوله : رب اغفر لي ، يشمل ما إذا كان قدر رب اغفر لي ، وما كان دونه ، وهذا نبه عليه بعض مشائخنا - رحمهم الله - ، وكان بعض علماء الأصول يقرره ، وهي مسألة كان يستشكلها بعض العلماء ؛ لأن وضع ضابطاً معيّناً يحتاج إلى أصل ؛ ولذلك الطمأنينة هي أن يحصل الفعل ثم يحصل بعده ركود . اطمأنّ الشيء إذا ركد ، ولم يحصل منه فعل ولا استعجال بمجرد حصول القيام كاملا والجلوس كاملا ، وعلى هذا فلو حصّل هذا القدر حكم بكونه مطمئناً .
قال رحمه الله : [ التاسع : والتشهد الأخير ] : التشهد الأخير وهو ركن من أركان الصلاة ؛ لأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالتشهد ، ولأنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه ما صلى صلاة إلا تشهد فيها .(2/404)
قال رحمه الله : [ العاشر: والجلوس له ] : الجلوس للتشهد الأخير هذا ركن من أركان الصلاة ، فلا يحكم بصحة الصلاة إلا إذا تشهّد وجلس للتشهّد ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر به المسيء صلاته ثم قال : (( ثم ارفع رأسك حتى تستوي جالسا )) وأمره أن يرفع وأن يستوي جالسا ؛ لقوله : (( حتى تستوي جالسا )) ثم أمر بالتشهد في هذا الركن ، ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- داوم عليه ، وذلك قول جماهير العلماء - رحمهم الله - على لزومه وفرضيته .
قال رحمه الله : [ الحادي عشر : والتسليمة الأولى ] : الحادي عشر التسليمة الأولى ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )) فدل على أن السلام ركن ، والتسليمة الأولى هي الركن ، والثانية سنة ، وفائدة هذه المسألة : أنه لو سلم التسليمة الأولى ، ثم مرت امرأة قبل أن يسلم التسليمة الثانية ، وهو منفرد أو إمام بينه وبين قبلته بين السترة وقلنا بقطع الصلاة بمرور المرأة صحت صلاته ، ولو أنه سلم التسليمة الأولى وقبل أن يسلم التسليمة الثانية انتقض وضوؤه صحت صلاته إذا نوى بها الخروج من الصلاة طبعا التسليمة الأولى نية الخروج من الصلاة ، وينبني عليها إذا سلم الإمام التسليمة الأولى ثم قام المسبوق ليتم صلاته لم ينكر عليه ؛ لأنه مأمور بإتمام صلاته، والتسليمة الثانية سنة في حق الإمام ، وهو ليس ملزما بمتابعة الإمام فيها ، فشرع أن يشتغل بما هو واجب متصل به ، وعلى هذا لا ينكر على من قام بعد التسليمة الأولى من تسليمة الإمام .(2/405)
قال رحمه الله : [ الثاني عشر : وترتيبها على ما ذكرنا ] : وترتيب الأركان على ما ذكرنا ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بها مرتبة كما في الصحيح من حديث المسيء صلاته ، ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- داوم على ترتيبها، والإجماع على أنه لا يصح سجود قبل ركوع ، فلو أنه صلى فكبر تكبيرة الإحرام فقرأ الفاتحة وما تيسر ثم سجد ثم قام وركع بطلت صلاته إذا تعمد ؛ لأنه ملزم بالإتيان بهذه الأركان مرتبة على الصفة التي ذكرناها ، فلا يسبق ركن ركنا ، فالترتيب بين الأركان ركن هذا عند العلماء . الترتيب بين الأركان ركن ، ومنهم من جعل الترتيب شرطا للصحة ، والترتيب بين الواجبات واجب، والترتيب بين السنة والسنة مسنون .
قال رحمه الله : [ فهذه الأركان لا تتم الصلاة إلا بها ] : لا تتم أي لا تجزئ ؛ لأن الإتمام يطلق على معنى الإجزاء ؛ والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام بعد أن وصف الصلاة للمسيء صلاته (( إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك )) تمت تمام إجزاء يعني فتبرأ ذمتك بفعلها هذا يسمي تمام الإجزاء ، أما تمام الكمال فهذا فيه أن يراعي ما ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على الكمال .
قال رحمه الله : [ وواجباتها سبعة ] : وواجبات الصلاة : سبعة .(2/406)
قال رحمه الله : [ التكبير غير تكبيرة الإحرام ] : هذا ما يسميه العلماء بتكبيرات الانتقال وقد أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- به المسيء صلاته في تكبيره لركوعه وسجود ورفعه من السجود فدل على وجوبه ، فلو أنه صلى وحنى للركوع ناويا للركوع ونسي أن يقول : الله أكبر فإن هذا التكبير للانتقال يكون ناسيا له غير مدرك له إذا دخل في الركن البعدي، ويمكنه تداركه إذا لم يصل إلى حد البعدي ، مثال ذلك: لو أنه هوى للسجود ونسي أن يكبر فما تذكر إلا بعد أن وطئ الأرض حينئذ يسجد سجود السهو؛ لأنه لا يمكنه التدارك وهو ذكر للانتقال، فهذا الواجب متعلق بالانتقال، لكنه قبل أن يصل للأرض تذكر يقول : الله أكبر، يتدارك أما لو سجد فإنه قد فاته حينئذ يلزم بأذكار السجود وليس التكبير منها ، ومن هنا قال بعض العلماء في صورة اجتماع الزيادة والنقص في السهو في الأقوال قال : أن يكون جاهلا ثم يسجد ويتذكّر تكبيرة السجود وهو ساجد فيقول : الله أكبر ثم يسبح ؛ فحينئذ نقص؛ لأنه لم يكبر، وزيادة لأنه كبر في سجوده وليس في السجود تكبير ، فاجتمعت الزيادة والنقص، هذه من صورها في الأقوال. على كل حال تكبيرات الانتقال واجبة إذا تركها عمدا بطلت صلاته، إذا تركها سهوا جبرها بسجود السهو إلا أن يكون وراء الإمام ، فلو صلى وراء إمامه وكبر الإمام للركوع فنسي وركع ثم تذكر أثناء ركوعه أنه لم يكبّر للركوع حمل الإمام عنه ذلك السهو؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( الإمام ضامن )) والضمين هو الحميل .(2/407)
قال رحمه الله : [ والتسبيح في الركوع والسجود مرة مرة ] : الواجب الثاني التسبيح في الركوع والسجود مرة مرة ؛ دليله في الركوع لما نزل قول الله تعالى : { فسبح باسم ربك العظيم } قال عليه الصلاة والسلام : (( اجعلوها في ركوعكم )) (( اجعلوها )) أمر ، في ركوعكم دل على وجوب التسبيح في الركوع ، ولما نزل قوله تعالى : { سبح اسم ربك الأعلى } قال : ((اجعلوها في سجودكم)) ((اجعلوها )) أمر ، والأمر للوجوب فدل على وجوب التسبيح في السجود .
التسبيح في الركوع والسجود أن يقول مرة واحدة سبحان ربي العظيم مرة واحدة سبحان ربي الأعلى وما زاد فهو كمال وفضل .(2/408)
قال رحمه الله : [ والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع ] : والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع : التسميع أثناء الرفع ، والتحميد إذا استتم قائما كما ذكرنا ؛ لأن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- قالت : ثم قال قائما : ربنا ولك الحمد فجعل في التحميد بعد القيام ذكرا متعلقا بما بعد الركوع ، والتسميع أثناء الرفع من الركوع ؛ الدليل على وجوب التسميع والتحميد قوله عليه الصلاة والسلام : (( فإذا قال : سمع الله لمن حمده ؛ فقولوا : ربنا ولك الحمد )) فأمرهم ، والمقابل آخذ حكم ما قابله ؛ لأن التقسيم يقتضي هذا الأصل ، فلما كان المأموم لا يجمع بينهما أمر بإجابة الإمام في واجب، فصار وجوبه في المأموم مشيراً إلى وجوبه في حق الإمام ، ولأنه تعلق ذكرا في الموضع فاستوى أن يكون ما قبل وقوفه وما بعد الوقوف ، فشرّك العلماء في أصح القولين على وجوب الاثنين من هذا الوجه . فلو أنه رفع رأسه من الركوع ولم يقل : سمع الله لمن حمده وتذكر وهو قائم فقال : ربنا ولك الحمد ولم يقل : سمع الله لمن حمده سجد للسهو، وهكذا لو أنه رفع رأسه ونسي فقال : ملء السماوات وملء الأرض ، ونسي أن يقول : سمع الله لمن حمده ، وأن يقول : ربنا ولك الحمد يكون محمدا في قوله : لك الحمد وملء السماوات والأرض ، ولا يكون مسمعا لفواته منه فيسجد سجود السهو. إن كان مأموما فنسي التحميد؛ فإنه يحمل الإمام عنه كما ذكرنا في الواجبات، وإن كان منفردا وجب عليه التسميع والتحميد واستدركه لسجود السهو، فإن تعمّد أن يرفع رأسه غير مسمع ولا محمد منفردا بطلت صلاته ، ولو رفع رأسه من الركوع وراء الإمام وترك أن يقول : ربنا ولك الحمد ، وترك التحميد متعمدا بطلت صلاته ، هذا حكم الواجب أن تركه متعمدًا يوجب بطلان الصلاة في المنفرد والمأموم والإمام .(2/409)
قال رحمه الله : [ وقول : ربي اغفر لي بين السجدتين ] : وقول : ربي اغفر لي بين السجدتين، فبين السجدتين ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه ذكر فيها ، فللعلماء طريقتان : الطريقة الأدق والأقوى: الدعاء بين السجدتين ، هذا هو الأقوى ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثبت عنه قول : ربي اغفر لي ، وغيره : من اهدني وارحمني وعافني وارفعني واجبرني ، فدل على عدم التعين ، لو جاء النص : استغفروا بين السجدتين كقوله : (( اجعلوها في ركوعكم )) (( اجعلوها في سجودهم )) ؛ لصح واستقام .
قولوا : ربنا ولك الحمد ، هذا جاء بعد الركوع نقول واجب ، لو جاء قولوا : بين السجدتين ربي اغفر لي لتعين ، ولذلك من دقة بعض العلماء يقول: الدعاء بين السجدتين، ومنهم من جعل الوارد متعينا فقال : جلس النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بين السجدتين واستقرأنا السنة في جميع الصلوات وجدنا ما بين الركن والأركان كلها مشتملة على أذكار واجبة فصار واجبا ، ووجدناه يقول : ربي اغفر لي ؛ فتعين أن يقول : ربي اغفر لي بين السجدتين .
والحقيقة الأقوى أن يقال : الدعاء بين السجدتين ، فإذا دعا بين السجدتين أجزأه ، والأفضل أن يتبع الوارد كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ والتشهد الأول ]: والتشهد الأول : التشهد الأول أخرجوه من الركنية إلى الوجوب ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما قام عنه أمر الصحابة أن يتبعوه ، فأسقطه بالسهو ، ولا يسقط الركن بالسهو، بدليل أنه في قصة ذي اليدين رجع ، فلما لم يرجع وقد داوم عليه وأمر به - عليه الصلاة والسلام- دل على كونه واجباً دون الركن ، ومن هنا جبره بسجود السهو يدل على أنه من الواجبات وليس من الأركان .(2/410)
طبعا دليل الجبر حديث عبدالله بن مالك بن بحينة -- رضي الله عنه -- وعن أمه وأبيه في الصحيحين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى صلاة الظهر ثم قام للركعة الثالثة فسبح له القوم فأشار إليهم أن قوموا - صلوات الله وسلامه عليه- فهذا يدل على أن التشهد الأول واجب وليس بركن .
قال رحمه الله : [ والجلوس له ] : التشهد الأول قلنا فيه فعل وقول . الفعل الجلوس، والقول الذكر، فإذا نسي القول هذا واجب، وإذا نسي الفعل والقول فهذا واجب، ومن هنا يكون سجوده - عليه الصلاة والسلام- للسهو مرة واحدة بسجدتين يدل على أن من تكرر منه السهو في الواجبات يجزيه أن يسجد مرة واحدة ، وهذا قول الجماهير، فلو نازع كما يقول البعض وهو قول شاذ إنه يكرر بتكرر السهو وكان يتعجب منه بعض مشايخنا يحاج بحديث عبدالله بن مالك بن بحينة فإن فيه جلوساً وفيه ذكرا للجلوس، فلما سجد - عليه الصلاة والسلام- سجدتين دل على تداخل الجبر في الواجبات .
قال رحمه الله : [ والجلوس له ] : الجلوس للتشهد الأول .
قال رحمه الله : [ والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير ] : لأمره عليه الصلاة والسلام بها ، ولأن موضع الصلاة في التشهد الأخير قلنا لأنها دعاء ، ولا تكون في التشهد الأول .
أما من يرى أنها تكون في التشهد الأول فيرى بعضهم وجوبها في التشهد الأول والثاني .
والصحيح أنها سنة ، وسنة واجبة في التشهد الثاني وليس في التشهد الأول ؛ لحديث كان عليه الصلاة والسلام وهو حديث صحيح (( كان - صلى الله عليه وسلم - في جلوسه في التشهد الأول كأنه على الرضف )) الحجارة المحماة استعجاله في قيامه عليه الصلاة والسلام .(2/411)
وثانيا لأنها من جنس الدعاء ، ولم يثبت حديث معين على أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قالها في التشهد الأول ولذلك من جنس الدعاء وليس من جنس التشهد ، فنحن استقرينا الشرع وتتبعناه فما كان من الأدعية ووضعناه في موضعه ، وما كان من جنس التشهد ألزمنا به في موضعه سواء كان في التشهد الأول أو الثاني ، فهي واجبة في التشهد الثاني دون التشهد الأول ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : ((قولوا اللهم صل على محمد )).
قال رحمه الله : [ فهذه إن تركها عمدا بطلت صلاته ] : فوافقت الركن ، يوافق الواجب الركن أن كلا منهما عند العلماء من الفروق ، والفروق أن تعرف المكان المتفق عليه والمكان الذي يخالف يختلف فيه الأمران.
اتفق الركن والواجب في كون كل منهما مأمورا به شرعا ، لكون كل منهما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه ، يختلفان في كون الأول لا يقبل الانجبار وهو الركن والثاني يقبل الانجبار ، وهناك فوارق أخرى ، لكن هذه من فروقها .
قال رحمه الله : [ فهذه إن تركها عمدا بطلت صلاته ] : يعني الواجبات قولية كانت أو فعلية إن تركها عمدا يصلي ولا يسبح في ركوعه يصلي ولا يسبح في سجوده مع علمه بالوجوب حكمنا ببطلان صلاته فريضة كانت أو نافلة ، يصلي منفردا ولا يسمّع ولا يحمّد حكمنا بطلان صلاته متعمدا صحيحة يصلي ولا يكبر تكبيرة الانتقال متعمّدا سواء وراء الإمام أو منفرداً حكمنا ببطلان صلاته الواجب تركه متعمداً يجب البطلان .
قال رحمه الله : [ وإن تركها سهوا سجد لها ] : وإن تركها سهوا سجد لها لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بسجود السهو، ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تركها وسجد سجود السهو لتركها فنتبع الوارد .(2/412)
قال رحمه الله : [ وما عدا هذا فسنن لا تبطل الصلاة بعمدها ولا يجب السجود لسهوها ] : فما عدا هذا فسنن : مثلا لو أن إنساناً ترك القراءة بعد الفاتحة فإنها سنة صلى العشاء فقرأ الفاتحة ثم ركع صحت صلاته ولكنه ترك الأفضل والأكمل ، وهكذا لو أنه رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ولم يقل : ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد قلنا صلاتك صحيحة ولكن فاتك الأفضل والأكمل .
قال رحمه الله : [ ولا يجب السجود لسهوها ] : ولا يجب السجود لسهو هذه الأشياء ، فأصبح في صفة الكمال ثلاثة أشياء : أركان ، وواجبات ، ومستحبات .
فالأركان والواجبات حكمها ما تقدم، والسنن والمستحبات إن تركها عمدا وسهوا : تركها عمدا صحت صلاته ، وتركها سهوا لا يسجد لها للسهو .
اختلف العلماء في هذه المسألة :
قال بعض العلماء : السنن إذا داوم عليها وتركها عن غفلة سجد لها للسهو ، وهذا مذهب من يقول: إن سجود السهو هو تدارك للغفلة مع كونه جبرانا للنقص .
وبعض العلماء يرى: أن سجود السهو لا يكون في المستحبات والمسنونات .(2/413)
وهذا المذهب أقوى ؛ لأن الواجب لا يكون جبرا للمسنون من حيث الأصل ؛ لأن القوي لا ينبني على الضعيف ، وعلى هذا فالأشبه أنها تختص بالواجبات وبخاصة إن السجود يكون قبل السلام فيحتاج أن يزيد سجدة وأن يزيد الفعل وأن يزيد القول وهذا ضعيف ، والأقوى أنه لا يسجد العكس لا تنقلب السهو على صورة السنة ما لم يقصده مثلا ، لو أنه كان من عادته أن يجلس جلسة الاستراحة وظن نفسه في الركعة الأولى ظن نفسه في الركعة الثانية فجلس جلسة الاستراحة يظنها الركعة الثانية ثم قام تذكر فقام فحينئذ إن قلنا : إنها جبر للسهو لزمه أن يسجد للسهو مع أن الموضع موضع جلسة الاستراحة لكنه لم يقصد ذلك ، من هنا جبر فصار جبرا للسنة وهذا الذي يلغز به البعض يقول : إنه في الأصل لا تجبر السنن فعلى قول من يقول لو قال بشرعية جلسة الاستراحة وجلس لها على أنها للتشهد ثم تذكر فقام انقلبت عند بعضهم الاستراحة ولم يسجد السهو وعلى القول الثاني يقول : إنه يسجد للسهو ؛ لأنه جلسها على أنها واجب ولم يجلس على أنها سنة ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما الأعمال بالنيات )) .
قال الإمام المصنف رحمه الله : [ باب سجود السهو ] : سجود السهو جبران للنقص ، ورحمة من الله -- عز وجل -- يسّر بها على عباده ، ثبتت مشروعيته في السنة ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر به وفعله، ووقع منه -عليه الصلاة والسلام- في حديث ذي اليدين وحديث المغيرة بن شعبة وحديث أبي هريرة ، وكذلك حديث ابن عباس ، وحديث أبي موسى الأشعري في الصحيح، وحديث أنس - رضي الله عن الجميع - فهذه الأحاديث دلت على مشروعية سجود السهو ، والإجماع منعقد على مشروعية سجود السهو .
السهو يكون للنقص ويكون للزيادة ويكون للشك .(2/414)
فأما كونه في الزيادة فينبغي أن تعلم أنه يكون في زيادة المشروع لا في زيادة الممنوع ، وفي زيادة ما كان من جنس الصلاة من الأقوال والأفعال لا من غيرها ، وعلى هذا يسجد للسهو إذا زاد سجدة ، أو زاد ذكرا في غير موضعه كالتسبيح بدل التسميع، أو التكبير بدل التسميع ، فهذه زيادة ذكر قول في غير موضعه ، لكن من جنس ما يشرع في الصلاة، وتكون الزيادة في الأفعال :كأن يسجد ثلاث سجدات ، أو يركع ركوعين ، ونحو ذلك.
وأما بالنسبة للنقص فإنه يكون للأركان وللواجبات وللسنن والمستحبات .
فأما نقص الأركان فلا يجبر للسهو كما ذكرنا ، ونقص الواجبات يجبر للسهو ، ونقص السنن والمستحبات تقدم فيه التفصيل .
دلت السنة على مشروعية سجود السهو في الزيادة ؛ لحديث ذي اليدين عنه -عليه الصلاة والسلام- وكذلك حديث الصحيحين حينما صلى الرباعية خمسا ، فقيل : (( يا رسول الله ؛ أزيد في الصلاة؟!)) ودلت السنة على سجود النقص كما في حديث عبدالله بن مالك بن بحينة -- رضي الله عنه -- وحديث المغيرة بن شعبة -- رضي الله عنه --كلها صحيحة ، ودلت السنة على سجود الشك في حال الشك ، والاشتباه والتردد كما في حديث ابن عباس وحديث أبي موسى الأشعري كلها صحيحة - رضي الله عن الجميع -.
قال رحمه الله : [ والسهو على ثلاثة أضرب ] : إجمالٌ قبل البيان والتفصيل.(2/415)
قال رحمه الله : [ أحدها زيادة فعل من جنس الصلاة ] : [ زيادة فعل من جنس الصلاة ]: زيادة فعل، مثل : أن يزيد الركوع فيركع مرتين ، أو يزيد السجود فيسجد ثلاث مرات ، هذه زيادة فعل وهو الركوع من جنس الصلاة ( من ) بيانية هذا الركوع معتبر من جنس الصلاة ، وعلى هذا لو أشار ورفع يده فهذا فعل ليس من جنس الصلاة ، لو حرك شيئا بجواره هذا فعل ليس من جنس الصلاة ، لو مثلا سجد فسقط المصحف من جيبه وخاف أن يأتي أحد يمتهنه فرفعه إلى جيبه ليس من جنس الصلاة فلا يسجد للسهو ، هناك فعل من جنس الصلاة ، وهناك فعل من غير جنس الصلاة، والسهو يشرع للفعل الذي هو من جنس الصلاة .
قال رحمه الله : [ كركعة أو ركن ] : وكذلك زيادة القول من جنس المشروع في الصلاة كأن يقرأ الفاتحة مرتين ، أو يكبر للركوع أو السجود مرتين أو يُسَمِّع مرتين ، هذا كله من جنس زيادة قول من جنس الصلاة .
قال رحمه الله : [ فتبطل الصلاة بعمده ويسجد لسهوه ] : فتبطل الصلاة بعمده : لو أن شخصا صلى وركع مرتين فقلنا له : لم ركعت - رحمك الله - مرتين ؟ قال : هكذا فعلت . تعلم ؟ قال : نعم أعلم . نقول : بطلت صلاتك ، وعلى هذا تبطل الصلاة بزيادة هذا الفعل ولو كان في الأصل من المشروع في الصلاة ، لكن الشرع لم يشرعه على هذا الوجه فكان وجوده وعدمه على حد سواء يعني لا يعتد به ، لكنه لما تعمده في الصلاة أوجب بطلانها فزيادة الأركان تعمدا يوجب البطلان ، إذا زاد في صلاته ركنا متعمدا عالما حكم ببطلان صلاته ، ولا يجبر بالسهو ؛ إذا يشترط في الزيادة شرطان :(2/416)
أن تكون من جنس أفعال الصلاة وأقوالها . أولا ذكرنا أن يكون من جنس الصلاة ، فإذا زاد حركة اليد مثلا الأشياء التي هي ليست من جنس الصلاة أو تكلم مثلا ساهيا كما حدث عن حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه وأرضاه فإننا نحكم بأنه إذا كان هذا المغتفر سهوا لا شيء عليه فصلاته صحيحة لكن لا يجب عليه أن يسجد سجود السهو . أن يكون من جنس أفعال الصلاة وعلى هذا فالزيادة لشيء ليس من جنس الصلاة لا يشرع له سجود السهو .
قال رحمه الله : [ فتبطل الصلاة بعمده ويسجد لسهوه ] : فتبطل الصلاة بعمده : إذا يشترط شرطان :
أولا : أن يكون من جنس الصلاة .
والثاني : أن لا يكون عامداً . قلنا : أن يزيد على سبيل السهو لا على سبيل العمد .
قال رحمه الله : [ وإن علم وهو في ركعة زائدة جلس في الحال ]: أولا : حكم الزيادة نوعيتها في التأثير ، متى يمكن التدارك ، ومتى لا يمكن التدارك ؟ هذه كلها أولا وثانيا وثالثا .
إذا زاد فإنه ينبغي له إذا علم أن يمتنع من الزيادة ، وأما الاستمرار في الزائد فلا يجوز له وجها واحدا عند أهل العلم - رحمهم الله- فلو أنه شك في ركوعه فركع ثم تبين له أن قد ركع يرجع وتذكر وهو منحني قبل أن يستتم راكعا وجب عليه أن يمتنع ؛ لأنه لا يشرع له ذلك.
كذلك أيضا إذا أمكنه التدارك بالأفعال في النسيان وسيأتي - إن شاء الله تعالى - مسألة التدارك يذكرها العلماء في الزيادة والنقص .
بعض الأحيان يمكن التدارك وبعض الأحيان لا يمكن التدارك ، فإن أمكن التدارك أسقط سجود السهو في بعض الأحوال ولم يسقطه في بعض الأحوال ، ومن هنا المصنف - رحمه الله - اعتنى بهذه المسألة فقال رحمه الله .(2/417)
قال رحمه الله : [ وإن علم وهو في ركعة زائدة جلس في الحال ]: وإن علم : قام للركعة الخامسة في الظهر ، أو الثالثة في صلاة الفجر ، فإذا قام وتذكّر أنه في الخامسة وجب عليه أن يجلس مباشرة ، وإذا قام للخامسة فتذكر بعد قراءة الفاتحة كاملة وجب عليه أن يجلس ، ولو تذكر أثناء قراءته يقطعها ويجلس ، هذا راجع إلى أصل ، وهو أن الشرع ألزمه أن يسلم من صلاته ، وهذا خارج عن الصلاة ، فعُذِر حال سهوه ولم يعذر بعد علمه ، إنما يتم المشروع لا الممنوع ، فلما علم صار ممنوعا عليه أن يتمه ، رجع إلى الأصل أنه فعل زائد موجب لبطلان الصلاة ، فإذا علم ورجع مباشرة لم تبطل صلاته لكن لو علم واستمر حكم ببطلان صلاته .
إذا المتعمد للزيادة تبطل الصلاة بعمده ، إما أن يتقصد العمد فلا إشكال ، أو يطرأ يعني يكون في العمد ، ثم يطرأ علمه فإن استمر وتمادى حكم بالبطلان ، وإن رجع لم يحكم بالبطلان .
قال رحمه الله : [ وإن علم وهو في ركعة زائدة جلس في الحال ] : فإن علم وهو في ركعة زائدة جلس في الحال وسجد سجود السهو؛ إذا زاد ركنا يتحقق بصورة الركن . قوله : رجع في الحال لا يسقط سجود السهو ، فهو إذا كان في صلاة الفجر ثم قام للركعة الثالثة يظنها الثانية ، فإن علم أثناء الركعة الثالثة فأحكام :(2/418)
أولا : يجب عليه أن يجلس مباشرة ؛ لأن الله فرض عليه أن يتشهد، ولم يفرض عليه أن يتم قيامه، فحينئذ يجب عليه أن يرجع ، إذا رجع فقد زاد ركنا وهو القيام ، وإن قرأ الفاتحة فقد زاد ركنين : قولي ، وفعلي ، وإن ركع فقد زاد ثلاثة أركان : الذي هو القيام ثم الركوع ركنان فعليان وركن قولي وهو قراءة الفاتحة . إذا علم في هذه الأحوال كلها يجب عليه أن يجلس هذا أول حكم ، وأن يشتغل بالوارد وهو إتمام التشهد الفرض ، أو إذا كان قد قال التشهد كما في صلاة الظهر قال: التشهد ثم قام ، يتم الصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والدعاء ثم يسلم ، هذا فرض عليه أن يرجع ويتم ما فرض الله عليه .
ثانيا : يجب عليه أن يسجد سجود السهو ؛ إسقاطاً لهذه الزيادة .
قال رحمه الله : [ وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد ] : وإن سلم من نقص طبعا الدليل على هذا النوع الأول وهو الزيادة ؛ ما ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه صلى الرباعية خمسا ، فقيل: يا رسول الله ! أزيد في الصلاة ؟! قال : لا . قيل : صليت خمسا ، فسجد عليه الصلاة والسلام ، ثم قال : (( إنما أنا بشر مثلكم ... الحديث )) فدل هذا على مشروعية سجود الزيادة بعد السلام .
أولا : مشروعية سجود السهو .
ثانيا : مشروعيته للزيادة .(2/419)
ثالثا : أن سجود الزيادة يكون بعد السلام لا قبل السلام ؛ هذا الحديث الأول . الحديث الثاني حديث ذي اليدين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو في الصحيحين برواية أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى إحدى صلاتي العشي قام إلى جذع وشبك بين أصابعه كالغضبان ، فهاب القوم أن يكلموه وفيهم أبوبكر وعمر ، فقام رجل يقال له ذو اليدين فقال : يا رسول الله ! أقصرت الصلاة أم نسيت ؟! قال: ما قصرت وما نسيت . وفي بعض الروايات ما كان شيء من ذلك . قال : بلى قد كان شيء من ذلك ، فسأل الصحابة . فقالوا : صدق ذو اليدين ، فرجع فصلى ركعتين ، قال : وأنبئت عن عمران أنه قال : ثم سجد سجدتين بعدما سلم ، فهذا صريح في أن الزيادة يكون سجودها بعد السلام هذا من جهة الأثر .
من جهة النظر أن الزيادة ليست من جنس الصلاة ، وإنما هي خارجة عن الصلاة ، فيناسب أن يكون سجودها بعد الصلاة لا أثناء الصلاة ، وأما النقص فهو بخلاف ذلك .
قال رحمه الله : [ وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد ]: إن سلم من نقص: نقص الواجبات : قولية ، أو فعلية ، نسي التكبير أو نسي التسميع أو نسي التحميد أو نسي الدعاء بين السجدتين ثم تذكر قبل أن يسلم ، من نسي له صورتان :
الصورة الأولى : أن يتذكر قبل السلام .
والصورة الثانية : أن يتذكر بعد السلام ، فإن تذكّر قبل السلام لزمه أن يسجد ؛ لحديث عبدالله بن مالك بن بحينة -- رضي الله عنه -- في الصحيحين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما ترك الجلوس بين التشهد الأول سجد قبل السلام ؛ فدل على أن الواجبات تجبر قبل السلام لا بعد السلام ، ومن جهة النظر أن النقص متصل بالصلاة فينبغي أن يكون جبره قبل التسليم ، وإن تذكّر بعد السلام طبعا هذا ما لا يمكن تداركه يعني قبل السلام فحينئذ هذا الذي بوسعه أن يرجع فيسجد للسهو. وسجود السهو بعد السلام في النقص على صورتين :(2/420)
- إما أن يكون في مصلاه قبل أن يتحول ، صلى المغرب فنسي التسميع والتحميد وما تذكر إلا بعد السلام واشتغل بالأذكار ثم تذكّر أنه لم يسمّع ولم يحمّد فحينئذ يكبر ويسجد ويسلم .
- وإما أن يتذكر بعد قيامه من مصلاه فمادام أنه في المسجد شرع له أن يسجد سجود السهو ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ذُكّر بالنقص بعدما قام من مصلاه فرجع إلى مصلاه وجبر .
فالأصل أن الصلاة متصلة ببعضها فلما جاءت السنة باستثناء صورته قائما عن موضع مصلاه والصورة داخل المسجد جعل جمهور العلماء أنه يتدارك مادام داخل المسجد ، فإذا تذكرت وأنت داخل المسجد فلك شبه من هديه عليه الصلاة والسلام كما في قصة ذي اليدين وعلى هذا يشرع لك أن تجبر على هذا الوجه مادمت في المسجد.
أما إذا خرج عن المسجد فلا فإنه في هذه الحالة لا يمكن التدارك ، ثم الذي في المسجد إما أن يفصل، وإما أن لا يفصل، يعني إذا فصل كأن يفصل بصلاة ، فإذا فصل بصلاة إما فريضة أو نافلة ، بعض العلماء يرى أنه لا فصل سواء كان من جنس الصلوات أو من جنس الأذكار.
ومنهم من قال :إنه يتدارك ما لم يفصل ، والسنة ليس فيها يعني الذين يقولون لو فصل بصلاة مثلا صلى الظهر ونسي التسميع في صلاة الظهر ثم سبّح وحمّد وهلل وقال أذكار الصلاة ثم قام وجاء بالسنة الراتبة وتذكر بعد انتهائه من السنة الراتبة فإن قلنا : الفصل مؤثر سقط سجود السهو ، وإن قلنا لا يؤثر فإنه يسجد سجود السهو .
والحقيقة لو سجد أفضل ؛ لأنه أول شيء فيه أمر بالسجود ، فالأصل أنه ملزم به ، وفيه استثناء من الشرع أن الفاصل بغير الصلاة كقيامه وتشبيكه بين أصابعه وكذلك التشبيك حتى منهي عنه في الصلاة وقد فعله -عليه الصلاة والسلام- ومع ذلك لم يقطع به التدارك للصلاة والسجود لم يكن فاصلا بينه وبين الصلاة أن يسجد لزيادته للتسليم الزائد ، فدل على أنه لا يقطع حتى ولو صلى الراتبة حتى ولو قال أذكار الصلاة البعدية .(2/421)
قال رحمه الله : [ ولو فعل ما ليس من جنس الصلاة استوى عمده وسهوه ] : نعم لأنه فعل ما ليس من جنس الصلاة كما ذكرنا كما لو رفع يده يحك جسمه أو رفع كتابا أو حرّك شيئا .
قال رحمه الله : [ فإن كان كثيرا أبطلها ] : يستوي عمده وسهوه وإن كان كثيرًا أبطلها هذه الحركة في الصلاة ، حركة في الصلاة إن كانت لمصلحة الصلاة فلا إشكال ، والحركة لمصلحة الصلاة مثل : أن يستر عورته ، يتحرك حركة لإصلاح ثوبه لاستحكام الستر ، ومن ذلك فعله عليه الصلاة والسلام حينما لبس الرداء أثناء صلاته - عليه الصلاة والسلام- ويدخل في هذا إذا سدل مثلا في الإحرام منهي عن السدل في الصلاة وهو في الإحرام في الرداء مثل الإحرام فلو صلى وطبعا السنة أن يرمي ولا يسدل لأنها هيئة لا تليق الإنسان لو دخل على عظيم من عظماء الدنيا ما يدخل كاشفا صدره بالمناسبة حديث فتح النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لثوبه ثابت فيه الحديث في نفس الرواية فتح من أجل أن يرى خاتم النبوة على كتفه ؛ لأنه كان كزر الحجلة ففيه معنى لا يوجد في غيره ، وهذا من سنن العادات التي دل الدليل على اختصاصه بها . أما أن يأتي إنسان أمرد أو فيه فتنة ويفتح صدره ويقول سنة ما يمكن هذا أبدا . السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه على حال الكمال هي التغطية والستر ، وامتن الله بالستر والزينة فجعله زينة للمسلم ، فكيف وهو واقف بين يدي ربه ، فلو أنه أثناء الصلاة مثلا صلى فوضع طرف الرداء على كتفه فلما سجد سقط صار سدل وقد نهي عن السدل فتحرك حركة لمصلحة الصلاة أو مثلا سقط السترة فأقامها وقد أمر بالسترة هذه من مصلحة الصلاة ، هذه حركة لمصلحة الصلاة. وأيضا فيها إشارة الإمام للمأمومين وقد فعلها -- صلى الله عليه وسلم -- إذا كانت لمصلحة الصلاة إما أن تتصل بالمصلي وإما أن تكون لغيره، وإن كانت لغيره إما أن يتصل به في عبادة كالإمام مع المأمومين والمأمومين مع الإمام، كما قالوا لو أن إماما(2/422)
على كتفه نجاسة لا يراها وتقدم المأموم من أجل أن يريه النجاسة أو يطلعه عليها حتى يستخلف أو يأتي مكانه أو يبعده حتى يصلي مكانه هذه لمصلحة الصلاة متصلة بالغير مقصودة ومرادة .
وتكون في الواجبات وتكون تلافيا للمنهيات هذه حركة لمصلحة الصلاة ، ويشرع للمصلي أن يفعلها لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعل هذه الأفعال لمصلحة الصلاة .
النوع الثاني من الحركة : دفع الضرر هي ليست من مصلحة الصلاة أن يدفع الضرر كأن يرى حية وأجاز النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قتل الأسودين في الصلاة : الحية ، والعقرب ، لو أنه مرت عليه حية وقتلها في الصلاة بدون عمل كثير يخرجه عن كونه مصليا صحت صلاته ولم يؤثر فيه ذلك .
من أدلة ذلك أيضا ما ثبت في الصحيح لما جاء الشيطان إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بشهاب من نار قال : (( فذعته حتى سال لعابه على يده - صلوات الله وسلامه عليه- )) فهذا دفاع عن النفس فدافع عن نفسه أثناء الصلاة لكن ليس من مصلحة الصلاة إنما هذا لمصلحته هو .
وتكون لمصلحة الغير كحمل الطفل ، وفي الحقيقة عند التأمل من يلاحظ يجد أن السنة كلها تدور حول المحافظة على الصلاة ، وأن هذه الأفعال كلها لو قال قائل إنها لمصلحة الصلاة لصح قوله ، فأنت إذا تأمّلْتَ الذي ذكره العلماء وجدته فِقْها يعود إلى هذا الأصل :(2/423)
أولا : أن السنة قالت : (( إن في الصلاة لشغلا )) فدل على أن المصلي لا يشتغل بغير الصلاة ، فكل ما جاء من هذه السنن لو تأمل المتأمل لوجده ينصب لإعانة المصلي على صلاته ، مثلا : أما ما فعله لصلاته فلا نتكلم فيه ؛ لأنه دال على هذا الأصل ، لكن ما قيل إنه خارج عن الصلاة كفتحه الباب أثناء صلاته ، وحمله لأُمامة ؛ ومقاتلته للشيطان فلا إشكال فيه ؛ لأن فتح الباب القارع سيقرع عليك وسيشوش عليك في الصلاة ، وفي هذا لو فتحت الباب سلمت من إزعاجه ، وسلمت من انشغال النفس بالانصراف إلى هذا القارع ، المرأة إذا حملت صبيها معها أو حملت طفلها سلمت من تشويش الشيطان : الولد خرج ، صار به شيء ، جاءه شيء ، فهو لم يحمل - صلى الله عليه وسلم - من غير فائدة بل حمل لأنه هناك من يحتاج لهذا الحمل تشريعا للأمة ، فحمله لأن هناك جنساً من المصلين كالمرأة بل حتى الرجل في بيته لو غابت المرأة أو انشغلت عن الطفل لو عبث سيشغله عن صلاته وسيشغل المرأة عن صلاتها، فحمل الطفل لكي تدفع مفسدة أعظم لتحقيق مصلحة الصلاة بذاتها .
كذلك أيضا ذعته للشيطان لأنه يصلي ولا يمكن الصلاة إلا باستبقاء النفس فصار أصلا مستتبعا فعند التأمل الحقيقة ينظر لأن جميع هذه السنن استدلوا بها لا تخرج عن كونه يعين المصلي على صلاته والأشبه أن يبقى على الأصل الذي يمنع من فعل أي شيء غير الصلاة .
إذا قلنا بقول الجمهور إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعل هذه الأفعال صار فيه إشكال وهو أن الله تعالى يقول : { قوموا لله قانتين } فأمر بالسكون .
ثانيا: أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( إن في الصلاة لشغلا )) إذًا كيف؟ قالوا: نحمل هذه الأشياء على كونها يسيرة : فتح الباب ليس بمشكل، يعني حركته ليست كثيرة، حمل الطفل ليس بكثير، يحمله ويصلي يكمل صلاته ، فمن هنا احتاجوا أن يفرقوا بين اليسير وبين الكثير وجعلوه من سماحة الشريعة.(2/424)
أما على الأول فلا إشكال إعمالا للأصل وطرداً للأصل ، والفقه إبقاء الأصل على ما هو عليه ، وعلى هذا لو كنت تصلي مثلا في النافلة وتحركت حركة يسيرة لإصلاح ثوب أو نحوه اغتفرت ؛ لأنها في حق الوارد لا تساوي شيئا ، وهكذا لو أصلح رداءه أو أصلح عباءته أثناء الصلاة على الأصل المطرد ؛ لأن السنة اغتفرت ما في حكم هذا وما دونه وعليه فلا يؤثر .
قال رحمه الله : [ وإن كان يسيرا كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في حمله أمامة وفتحه الباب لعائشة فلا بأس به ] : فالمصنف يطرد الثاني وهو للجمهور ويقويه سماحة الشرع ويسره .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : من كان في صلاته مشغولا بعطاس وسعال ومنعه من التكبير للانتقال إلى حتى انتقل إلى الركن البعدي فماذا عليه ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فالذي يمنع من القول أو الفعل لعارض حتى يفوت مكانه يشرع له سجود السهو ؛ لأن العجز في حكم النسيان ، وهذا ما يسميه العلماء بأصل العذر ، وهكذا لو منع لوجود العطاس أو نحوه فلم يستطع أثناء الفعل ؛ فإنه يلزمه أن يسجد سجود السهو ؛ ضمانا لهذا النقص ، ويكون عذرا موجبا لعدم المؤاخذة ، ويكون كالنسيان . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : إذا أطال الإمام في التشهد الأول فهل نكمل ما ورد في التشهد الثاني حتى يقوم الإمام أم نسكت بعد التشهد الأول حتى يقوم الإمام . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
إذا أطال الإمام اقتصر على التشهد الأول ؛ لأنه لا يشرع بعد قوله : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شيئ آخر ، فتبقى على هذا الأصل حتى يكبر الإمام ؛ لأن هذا الموضع ما فيه غير هذا الوارد تقتصر على الوارد وعليه فإنه لا يشرع أن يزيد شيئا آخر ؛ لأن هذا ليس بموضعه ولا محله. والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :(2/425)
فضيلة الشيخ : إذا زاد المصلي وعلم بالزيادة هل يعود بتكبيرة أو لا . جزاكم الله كل خير ؟
الجواب :
إذا زاد المصلي وعلم بزيادته هل يعود بتكبيرة أو لا ؟ الجواب: لا يعود بتكبيرة ، مثال ذلك : لو أن شخصا مثلا قام للركعة الخامسة والواجب عليه بعد السجدة الرابعة أن يجلس للتشهد فقام ، فإذا جاء يجلس ما يقول : الله أكبر ، -وهذا سؤال طيب في الحقيقة - يعني إذا علم أنه أخطأ يقول : الله أكبر ويرجع ، ما يشرع له أن يقول : الله أكبر ؛ لأنه هو الآن يجب عليه أن يجلس للتشهد ويتم الأذكار ، وعلى هذا لا يكبر ؛ لأن هذه زيادة وعليه فإنه يجلس مباشرة ولا يرجع للتكبير؛ لأن التكبير الأول هو الذي انتقل به من ركن السجود إلى ركن جلسة التشهد فيكفيه ويجزيه فلا يزيد شيئا آخر لم يشرع . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : قولنا : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك هل يقال بعد السلام أو قبل السلام . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(2/426)
الجمهور على أنه بعد السلام وليس قبل السلام ، وقوله : (( تقولهن في دبر كل صلاة )) الدبر يكون من الشيء ويكون تبعا للشيء ، ولما ظهر أنها من الأذكار البعدية تكون بعد السلام ؛ والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بيّن في الباقيات الصالحات : وهي التسبيح والتحميد والتكبير ، قال: (( تقولهن دبر كل صلاة )) مع أن التسبيح والتكبير والتحميد بالإجماع بعد السلام ؛ فدل على أن كلمة دبر وإن كانت تصدق على ذات الشيء ؛ لأن دبر الشيء من الشيء يمكن أن تطلق في الشرع على ما بعد الصلاة، ويراد بها ما هو قريب منها ؛ " لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه" ، ومن هنا وصفت بكونها دبرا ؛ لأن الشيء تقول : في دبره إذا كان متصلا به ، وتقول : دبره إذا كان بعده ، فلما كان بعده كأنه جاء عقيبه مباشرة فأشبه أن يكون أن يصدق عليه هذا الوصف فتقول : فلان دبر فلان جاء فلان دبر فلان بمعنى أنه جاء الأول جاء الثاني ، وعليه فإن الوصف بكونه دبرا لا يستلزم أن يكون قول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك أثناء الصلاة ، وإنما يكون بعد السلام وهو الأشبه والأقوى. والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : إذا مات الزوج عن زوجته ولم يدخل بها فهل عليها عدة . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(2/427)
نعم هذه المسألة فيها حديث بروع بنت واشق - رضي الله عنها وأرضاها- عبدالله بن مسعود سئل عن هذه المسألة فقال - رضي الله عنه - : أقول فيها برأيي ولم يكن قد بلغته السنة ، أقول فيها برأيي فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان : لها مهر مثلها لا وكص ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث ، فقام له معقل بن سنان - رضي الله عنه وأرضاه- وقال : أشهد أنك قضيت فيها بقضاء رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حتى يعرف من ينتقص العلماء والأئمة ، فهذا الصحابي قضى بهذا القضاء فوافق قضاء النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقل أن يُعرف الإنسان بضبط العلم وتتبع السنن والآثار ويعرف فيه الإخلاص والتجرد للسنة والحق ويخطئ الحق هو يخطئ وبشر لكن غالبا ما يوفّق ؛ لأن هذا الصحابي سدد بتوفيق الله -- عز وجل -- قال : إن كان صوابا فمن الله ، وجاء القضاء مثل ما ثبت في السنة ، وهذه كلها فتوحات من الله -- عز وجل -- على أهل الصدق ، ومن صدق مع الله صدق الله معه ، تجرد للحق ومحبة الحق ، والحرص على السنة وعلى أن يكون الإنسان يريد الصواب ، ولو كان خلاف ما يهواه وما يريده ، فإذا تربى على هذا الشعور جعله الله مسددا ملهما ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا ، ثم قال حتى تصبح على قلب على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض )) قالوا إن كان من أهل العلم عرضت عليه فتن العلم فتجده يتعصب لرأيه فتأتي السنة بخلافه هل يتجرد للحق أو لا يتعصب للشيخ وتأتي السنة بخلافه هل ينصر الحق أو لا ينصر لاتباع الشيخ يهوى شيء ويأتيه شخص يقول له ثبت على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول على العين والرأس فلا يزال يتتبع الحق يتتبع الحق لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض فيلهم الخير ويسدد ويوفق وقال : (( أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله)) برئ من الحول والقوة(2/428)
((وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، لها مهر مثلها لا وكص ولا شطط وعليها العدة -عدة الحداد- ولها الميراث فقال معقل: أشهد أنك قضيت فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق امرأة منا)) فدل على أنها إذا عقد عليها ولم يدخل بها أنه يجب عليها الحداد لأنها في حكم الزوجة { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } وهذه زوجة ولم يشترط الله الدخول والزوجة يصدق عليها زوجة بمجرد العقد فيجب عليها أن تحد الحداد أربعة أشهر وعشرا وكذلك لها المهر ؛ لأنها مُكّن يعني ليس عندها من مانع وجاء هذا العذر خارجا عن يدها واستحق حقها بالعقد وأيضا لها الميراث فترثه كما ترثه زوجته وإن كان له زوجات شاركت الزوجات على الأصل المقرر الربع إن لم يكن له ولد والثمن إن كان له ولد .
الضرب الثاني :النقص كنسيان واجب
قال المصنف رحمه الله : [ الضرب الثاني :النقص كنسيان واجب ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فيقول المصنف رحمه الله : [ الضرب : الثاني النقص كنسيان واجب ] الضرب الثاني من أضرب سجود السهو : النقص أي ينتقص المصلي من صلاته ، وهذا النقص كما ذكرنا على سبيل السهو والنسيان، وإذا كان النسيان إما أن يكون لركن أو واجب أو سنة ، وقد تقدم أن نسيان الركن يوجب الرجوع إليه ما لم يدخل في الركعة التي تليه وسيأتي تفصيله ، أو يكون النسيان متعمدا فيوجب بطلان الصلاة وإذا كان نسيانا لا يمكن تداركه فإنه في هذه الحالة يقضي ركعة تامة كاملة .(2/429)
أما بالنسبة للذي معنا هنا فهو نقصان الواجب ، وهو الذي يسجد له للسهو ؛ والدليل على ذلك حديث عبدالله بن مالك بن بحينة -- رضي الله عنه -- وعن أمه وأبيه في الصحيحين فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يجلس التشهد الأول فصار تركا للفعل وهو الجلوس وتركا للقول وهو لفظ التشهد ، ومن هنا شرع إذا ترك واجبا من الأقوال أو الأفعال أن يسجد للسهو سواء تمحض كأن يكون واجبا واحدا أو اشترك بأن يتكرر ، فالحديث أصل في جميع ذلك .
قال رحمه الله : [ فإن قام عن التشهد الأول فذكر قبل أن يستتم قائما رجع فأتى به ] : [ فإن قام عن التشهد الأول] سجد السجدة الثانية من الركعة الثانية فالواجب عليه أن يجلس للتشهد الأول وهو التشهد الأوسط فنسي فقام فهو إما أن يستتم قائما ولا يتذكر إلا بعد استتمامه قائما ، وإما أن يتذكر قبل استتمامه قائما فحينئذ إن وقع التذكر قبل أن يستتم قائما لزمه الرجوع للواجب الذي فرض الله عليه، وهو أن يتشهد كما أمره الله؛ وعليه فإنه لو فارق الأرض ولم ينتصب أوده أو تهيأ لمفارقة الأرض ؛ فإنه في جميع ذلك يجب عليه الرجوع ؛ والدليل أنه مخاطب بالجلوس وليس مخاطباً بالقيام ، فلما خاطبه الله أن يجلس وجب عليه أن يرجع امتثالا لما أمره الله به ، وقد صلى عليه الصلاة والسلام فجلس بعد السجدة الثانية من الركعة الثانية في الرباعية والثلاثية ، فوجب عليه أن يتبّع هذا ، فإذا استتم قائما وانتصب عوده فإنه لا يعود ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سبح له الصحابة ، وقد استتم قائما فأشار إليهم أن قوموا ، وهذا هو الأقوى أن العبرة باستتمامه قائما ، وعلى هذا فإنه يعود ما لم يستتم قائما.(2/430)
قال رحمه الله : [ وإن نسي ركنا فذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى رجع فأتى به وبما بعده ] : وإن نسي ركنا : شخص صلى ولم يركع فسها وسجد مباشرة ، قرأ الفاتحة والسورة ثم سها وكبر للسجود ؛ فحينئذ يجب عليه إذا تذكّر وهو ساجد أن يقوم ، ثم يأتي بالركوع ويرفع من ركوعه ثم يسجد ويتم صلاته ويسجد للزيادة ؛ لماذا ؟ لأن الله فرض عليه أن يركع قبل أن يسجد وهو قد سجد قبل أن يركع فوجب عليه أن يرجع لما أمر الله به ، وهو أن يأتي بالركوع قبل سجوده . هذا يسمى عند العلماء بالتدارك ، يقع للمنفرد ، ويقع للمأموم ، وعلى كل حال يجب عليه الرجوع ما لم يدخل في الركعة الثانية ، فإن دخل في الركعة الثانية انقطع التدارك فلا يمكنه أن يتدارك ؛ فإنه إذا فاته الركوع فسجد ثم رفع من السجدة الأولى ثم سجد السجدة الثانية ثم قام ، فإذا قام واستتم قائما فقد دخل في الركعة الثانية ؛ وحينئذ توجه عليه الخطاب أن يبدأ بركعة جديدة ، وليس عنده تدارك في الركعة الماضية ، فقد مضت ركعته الماضية ناقصة من ركنها ، فسقطت وألغيت ، ووجب عليه أن يأتي بركعة تامة كاملة ؛ لأن الركن لا يمكن تداركه ، وقد فات بالدخول في الركعة الثانية ؛ الدليل أنه إذا سجد قبل أن يركع وجب عليه أن يرجع لما أمره الله به فيتدارك ، وهذا كله في الركعة المستقلة؛ لأن الشرع جعل لكل ركعة حكمها ، فلما أمكنه التدارك تدارك ؛ سواء كان في الأقوال ، أو في الأفعال ، فلو أنه سها فلم يقرأ الفاتحة فقرأ سورة ثم ركع أثناء الركوع تذكر أنه لم يقرأ الفاتحة رجع ووقف وقرأ الفاتحة كما أمره الله ؛ لأن هذا الركن الذي يفعله وهو الركوع أو الرفع من الركوع وإن تكرر لاغ لعدم وقوع ما قبله ، والشرع ألزمه بما قبله ، فوجب عليه أن يعود إليه ، والخطاب متوجه إليه أن يعود إلى الفاتحة فيقرأها ، ومتوجه إليه أن يعود إلى الركوع فيركع قبل أن يسجد ؛ وعليه فإنه يتدارك مادام في نفس الركعة ، فإن قام للركعة(2/431)
الثانية فقد استقل ؛ ولذلك أشار النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إلى هذا الأصل بانفصال الركعات ، وجعل قيامه للركعة الثالثة موجبا لسقوط التشهد فيما بين الركعتين الثانية والثالثة ، فدل على أن الركعة تنفصل عن الركعة ، وعلى هذا فإذا دخل في الركعة الثانية سقط التدارك .
يتدارك الأركان القولية كما في قراءة الفاتحة ، ويتدارك الأركان الفعلية كما في الركوع أو السجود ما لم يدخل في الركعة الثانية ، فإن دخل في الركعة الثانية ؛ فإنه يجب عليه أن يتم الركعة الثانية ، ثم يأتي بركعة مستقلة .
أما لو أنه سجد السجدة الأولى من الركعة الثانية في الظهر، وجلس بين السجدتين فظن نفسه في التشهد الأول فتشهد ، ثم تذكر أنه لم يسجد السجدة الثانية ؛ فإنه يكبر للسجود ويسجد ، ثم بعد ذلك يرجع للتشهد الأول ؛ لأن التشهد الأول السابق لم يقع في موقعه فألغي ، ثم يعود إليه ويتمه، ويتم التشهد ، ثم يقوم للثالثة ويسجد للزيادة . هذا حاصل ما يسمى في مسألة التدارك في الأركان .
قال رحمه الله : [ وإن ذكره بعد ذلك بطلت التي تركه منها ] : وإن ذكره بعد ذلك : أي بعد شروعه في الركعة التي تلي الركعة التي سها فيها ، فإن كان الركن في الأولى ، وذكر وهو في الثانية ، أو بعد دخوله في الثانية كما ذكر المصنف ؛ لزمه قضاء ركعة تامة ، هذا يُسمى بالتدارك وعلى هذا محل التدارك أن لا يدخل في ركعة بعدية ، فإن دخل في البعدية وجب عليه أن يعيد الركعة تامة ؛ لأنه إذا نسي ركن الفاتحة فلا تصح الركعة بدون فاتحة ، وإذا نسي الركوع فلا تصح الركعة بدون ركوع، وإن نسي السجود فلا تصح الركعة بدون سجود ، هذه أركان لا تجبر بسجود السهو ؛ وعليه أراد المصنف أن ينبه بهذا أنها لا تجبر إلا بفعلها ، أو بقضاء الركعة تامة إن لم يمكن فعلها ، وفعلها مشروط بإمكان التدارك، فإن لم يمكن فإنه يقضي ركعة تامة كاملة .(2/432)
قال رحمه الله : [ وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات فذكر في التشهد سجد في الحال فصحت له ركعة ] : هذا تطبيق لما مضى ، نسي السجدة الثانية من الركعة الأولى ، ثم مثلها من الركعة الثانية ، ثم مثلها من الركعة الثالثة ، ثم مثلها من الركعة الرابعة . في كل ركعة ما كان يسجد إلا سجدة واحدة ، ثم تذكر وهو في التشهد ، تشهد ثم تذكر ، نقول : أسقط التشهد في الركعة الأخيرة يسقط ؛ لأنه وقع بين السجدتين في غير موضعه ، فيسقط ، فيعود للسجود ويسجد ، فتصح ركعته الأخيرة ، وبطلت ركعته الأولى ؛ لأنه ترك منها ركنا ولم يمكنه التدارك بالدخول في الثانية ، ثم بطلت ركعته الثانية ؛ لأنه ترك منها ركنا ولم يمكنه التدارك بالدخول في الركعة الثالثة ، وبطلت ركعته الثالثة ؛ لأنه ترك منها ركنا ولم يمكنه التدارك بدخوله في الركعة الرابعة ، فوجب عليه أن يتم صلاته ؛ وعلى هذا فإن الأصل أن ينظر المصلي إلى تطبيق أمر الشرع ، فأمر الشرع أن الأركان مرتبة كما تقدم معنا دليل الترتيب في أمره - عليه الصلاة والسلام - للمسيء صلاته عند بيانه لأركان الصلاة ، وفي فعله ومداومته أوقعها مرتبة ، فنقول له : تتدارك هذا الترتيب ما لم تدخل في ركعة مستقلة ، فقد جعل الشرع لكل ركعة ما تستقل به من أحكامها القولية والفعلية ، فإن دخلت في ركعة فقد سقط التدارك لما نُسي في الركعة التي قبلها وعلى هذا ، فإذا نسي السجدات في هذه الصورة صحت ركعته الأخيرة ؛ لأنه لم يدخل في ركعة بعدها ، ولا إسقاط فيها ، بل حتى ولو أنه كان في التشهد الأخير ، بل لو سلّم من صلاته فإنه في هذه الحالة يسجد بعد السلام ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يعتبر السلام قاطعا للصلاة كما في حديث ذي اليدين ، ورجع لأركان الصلاة وركعاتها فحينئذ يرجع ويسجد ثم يقوم ويستتم ما بقي من صلاته .(2/433)
قال رحمه الله : [ ثم يأتي بثلاث ركعات ]: ثم يأتي بثلاث ركعات ؛ لأن الأولى ألغيت والثانية والثالثة كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ الضرب الثالث الشك ] : الشك : استواء الاحتمالين : أن تصلي فلا تدري هل قرأت الفاتحة أو لم تقرأ ، هل ركعت أو لم تركع، ويكون الاحتمالان مع بعضهما ، فإن أمكن ترجيح أحد الاحتمالين فهذا ترجيح يسمّى غالب ظن . فالراجح غالب ظن ، والمرجوح ظن ووهم .
والشك لا يكون في مسائل التحري، يعني إذا أمكن الإنسان أن يتحرّى وأن يعرف غالب الظن فقد انتقل عن الشك ، فهو عنده أمارات وعلامات يدرك بها ترجيح أحد الاحتمالين ، فإذا رجح أحد الاحتمالين لم يكن شاكّا ، ولذلك حديث التحري في حديث ابن مسعود فيما وجدت فيه الأمارة والعلامة ، وحديث : (( إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى)) عند استواء الاحتمالين .
فالأمر بالتحري هو الأصل أن المسلم يتحرى الصواب ، ويتحرّى غالب الظن فإن تعذر عليه ذلك فحينئذ يبني على اليقين وسيأتي .
قال رحمه الله : [ فمتى شك في ترك ركن فهو كتركه ] : إذا هناك الحالات التالية :
الحالة الأولى : أن يصلي المصلي عالما مستيقنا ما صلاه ، وهذه مرتبة اليقين .
الحالة الثانية : أن يصلي وقد غلب على ظنه فعل ما أمره الله بفعله ، وهذه تسمى غلبة الظن .
الحالة الثالثة : أن يستوي عنده الاحتمالان ، فلا يدري هل فعل أو لم يفعل .
الحالة الرابعة : أن يضعف الاحتمال ، فالحالة الثالثة تسمى شكاًّ، والحالة الرابعة أن يضعف الاحتمال فيكون غالب الظن في عدم الفعل ، والظن المرجوح في الفعل ، وهذا ما يسمى بالوهم.
هذه أربع مراتب للعلم :
الوهم من واحد في المائة إلى تسع وأربعين في المائة ، وهو الظن المرجوح .
الثانية الشك : وهو استواء الاحتمالين، خمسون في المائة لا مزية لأحدهما على الآخر .(2/434)
الثالثة : غلبة الظن ، وهو الغالب ، وبعضهم يقول الظن بناء على أنه مرجوح ، وهي من إحدى وخمسين في المائة إلى تسع وتسعين في المائة .
والرابع : اليقين الذي لا شك معه ولا مرية ، وهو مائة في المائة .
صلى فقال : آمين ، ثم جاءه الشيطان وقال : ما قرأت الفاتحة هو الآن متأكد أنه قرأه ويجزم جزما لا شك عنده ولا مرية هذا لا إشكال فيه ، رفع رأسه من الركوع ذاكرا أنه ركع فجاءه الشيطان قال له: لم تركع وحينئذ هو على يقين ، وهذه مرتبة لا إشكال فيها .
الحالة الثانية : أن يكون عنده غالب ظن ، مثلا : لو أنه رفع رأسه فعند قوله : ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أثناء ذكره الأذكار بعد الركوع جاءه الشيطان : ركعت ولم تركع ليس عنده استذكار حقيقي لكن عنده غلبة ظن بالأمارات والقرائن أنه قد ركع لوجود دلالة بالذكر البعدي .
وهاتان المرتبتان : اليقين ، وغلبة الظن ، لا إشكال في العمل بهما وأنك في صلاتك تبني على ما استيقنت وتبني على ما غلب على ظنك ولا إشكال في هذا ، والإجماع منعقد ، ومن هنا قالوا : (( الغالب كالمتحقق )) يعني من كان عنده غلبة ظن كمن جزم .(2/435)
إذا استوى الاحتمالان فإنك تبني على الأصل ، الأصل أنك مطالب بقراءة الفاتحة ، وبالركوع وبالسجود ، فإذا شككت هل فعلت أو لم تفعل ؟ الأصل أنك لم تفعل والخطاب متوجه عليك وذمتك مشغولة بمعنى أنك مديون وفي ذمتك أن تقرأ الفاتحة وأن تصلي وأن تركع وأن تسجد ، فإذا شككت هل صليت أو لم تصل في الصلاة كلها ؟ هل صليت الظهر أو لم تصل ؟ فعندنا يقين أن ذمتك مشغولة بصلاة الظهر بدخول وقته ، وأنت تشك هل أديت هذا الحق أو لم تؤد ؟ نقول : يجب عليك أن تؤديه ، فالأصل أنك لم تؤد حتى تستيقن أو يغلب على ظنك . هذا بنسبة للصلاة ، فإن شك في الصلاة نفسها هل قرأ الفاتحة أو لم يقرأها ؟ فالله فرض عليه قراءة الفاتحة مادام أنه ليس على يقين ، وليس على غالب ظن ، لازالت ذمته مشغولة أنه لم يقرأها فيجب عليه أن يقرأ ، وهكذا بالنسبة لو كان قائما فشك هل ركع أو لم يركع ؟ فالأصل أنه لم يركع واليقين أنه لم يركع حتى يستيقن خلافه وهكذا في بقية الأركان القولية والفعلية : من شك هل فعل أو لم يفعل بنى على أنه لم يفعل حتى يتيقن .
قال رحمه الله : [ فمتى شك في ترك ركن فهو كتركه ] : فمتى شك في ترك ركن كقراءة الفاتحة أو الركوع أو السجود كأنه ترك ، فنقول : يجب عليك أن تأتي به ، ما لم يكن الشك مستنكحا له معه وسواس ؛ فحينئذ يبني بالدلائل ولو كانت قريبة جدا ، كل ذلك قطعاً للوسوسة ، وهذا ذكره بعض الأئمة فيبني عليها ويلغي الوسواس ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فليقل آمنت بالله ولينته )) .
فالوسوسة حتى بعض الأطباء يثبت هذا أن من أقوى علاجاتها قطعها وعدم الاسترسال معها ولا يغيبظ الشيطان في الوسوسة مثل قطعه .
قال رحمه الله : [ ومن شك في عدد الركعات بنى على اليقين ] : من شك في ترك ركن أو فعله فهو كتركه هذا بالنسبة للركن كقراءة الفاتحة والركوع والسجود .(2/436)
من شك في الركعة كلها هل ركع أو لم يركع هل هو في الثانية أو في الأولى أو في الثالثة أو في الثانية، أو في الثالثة أو الرابعة ؟ بنى على الأقل ؛ لحديث أبي سعيد -- رضي الله عنه -- في الصحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم --: قال : (( إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاثا بنى على اثنتين فإن لم يدر أثلاثا صلى أو أربعا بنى على ثلاث ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان ما صلاه أربعا فالسجدتان ترغيما للشيطان وإن كان ما صلاه خمساً فالسجدتان تشفعانها )) وقد تقدم معنا بسط هذه القاعدة في مسائل الطهارة : أن العلماء اتفقوا على قاعدة (( اليقين لا يزال بالشك )) فإذا شك هل صلى واحدة أو اثنتين فهو على يقين من واحدة وشك من اثنتين فيبني على الواحدة ، وإذا شك هل صلى ثلاث ركعات أو ركعتين فهو مستيقن أنه صلى ركعتين شاك في الركعة الثالثة ، وذمته مشغولة بأنه مطالب بفعل أربع ركعات تامة أو ثلاث ركعات تامة فيجب عليه أن يأتي بالركعة وأن يبني على الأقل ، ثم يجب عليه أن يسجد سجدتين قبل السلام ؛ ولذلك اعتبرت هذه الحالة ضربا من ضروب السهو وهي أن يشك ، فإذا شك في ركن فعله أو لم يفعله كأنه تركه على أنه لم يفعله ، وإذا شك في عدد الركعات بنى على الأقل ، ثم سجد سجدتين قبل السلام ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم )) وهذا الموضع جاء جزما عند الجميع أن الشك سجوده قبلي وليس بعديا ، وهذا يقوّي أن السجود فيه قبلي وبعدي ؛ ولذلك لما قال : (( ثم ليسجد سجدتين قبل أن يسلم )) دل على أن السنة فيها ما هو قبلي وما هو بعدي ، وإلا لقال : ثم ليسجد سجدتي السهو ، وهذا كما ذكرنا أن الصحيح التفريق بين الزيادة والنقص ، وأن الشريعة فيها ما هو قبل السلام وفيها ما هو بعد السلام، وأن مذهب من قال كله قبل السلام أو كله بعد السلام مرجوح .(2/437)
قال رحمه الله : [ إلا الإمام خاصة فإنه يبني على غالب ظنه ] : إلا الإمام خاصة فإنه يبني على غالب ظنه؛ لأنه وراءه من ينبهه ، وإذا صلى الإمام وبنى على غالب الظن إما أن يوافقه من وراءه فلا إشكال، وإما أن يخالفوه، فإذا خالفت الإمام وخالفت الجماعة إمامهم وكان الإمام يظن أنه في الركعة الثالثة من الظهر والواقع أنه قد صلى الظهر أربعا تامة فقام للخامسة ؛ فالواجب على المأموم الذي عنده يقين أو غلبة ظن أن الإمام قد زاد أن يبقى في تشهده ، وأن يترك الإمام يأتي بركعته الزائدة ؛ لأن الإمام يتعبد الله -- عز وجل -- بغالب ظنه ، والمأموم يتعبد الله بغالب ظنه ، فلا يجوز للإمام أن يسلم وهو يعتقد أن صلاته ناقصة ، كما لا يجوز للمأموم أن يأتي وراء الإمام بركعة يعلم أنها زائدة في الصلاة ؛ لأنه أُمر بمتابعة الإمام فيما شُرِع لا فيما مُنِع ، وهو ممنوع من الزيادة ؛ إذاً لو قال لك قائل: ما الدليل على أن المأموم لا يتابعه ؟ قل له : لأنه مأمور شرعا بأربع ولم يؤمر بخمس ، فإن قال لك: (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) تقول : في المشروع لا في الممنوع .
أما بالنسبة للإمام فقد أمر أنه إذا شك هل صلى ثلاثا أو أربعا يبني على ثلاث ، فبنى على ثلاث بيقينه وقام من أجل أن يبرئ ذمته ، فهو مأمور بأمر الشرع أن يأتي بواحدة ، هذا بسنة وهذا بسنة .(2/438)
طيب هل يسلم المأموم ؟ نقول : لا بل يبقى ؛ لأن الشرع في مثل هذه المسائل الخارجة عن الأصل أوجب على المأموم أن يبقى حتى يتم الإمام صلاته ؛ ففي صلاة الخوف كما سيأتي صلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في إحدى صفاتها الكثيرة منها أنه صلى بإحدى الطائفتين ركعتين وهم في السفر، فانتظرت حتى إذا قارب التسليم قام عليه الصلاة والسلام فجاءت الطائفة الثانية فصلى بها ركعتين ، وبقيت الطائفة الأولى على تشهدها تطيل التشهد والدعاء ، حتى أتم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالطائفة الثانية الركعتين فسلم بكلتا الطائفتين ، فدل على أن المأموم لا ينقطع عن إمامه ، وأنه مادام في دعاء التشهد ولو طال لا ينقطع فضله ، فإن سلم فمذهب طائفة من العلماء وهو الصحيح أنه تصح صلاة المأموم إذا سلم ، ولكن لا ينال فضل الجماعة ؛ لماذا ؟ لأن صلاته قد انقطعت بخروجه عن الإمام وانقطاعه عنه ، وعلى هذا لا يسلم بل ينتظر الإمام حتى يتم لنفسه ، فإن عرف الإمام خطأه ورجع مباشرة فلا إشكال ، أو رجع بعد ركن أو ركنين فلا إشكال سلم معه وإن أطال حتى أتم الركعة فإنه ينتظر حتى يسلم . هذا بالنسبة للإمام إذا خالفه المأموم .(2/439)
طيب إذا كان المأموم مسبوقا وأدرك ثلاث ركعات من الظهر وسها الإمام فقام لخامسة شرع للمأموم المسبوق أن يتابعه؛ لماذا ؟ لأن المسبوق مأمور أن يصلي أربع ركعات ، وحاصل ما في الأمر أن الإمام عذر بالخامسة للظن والشبهة ومأمور شرعا أن يبني على اليقين من ظنه ؛ وحينئذ قام الإمام لركعة مشروعة ، والمأموم متابع له في المشروع لا في الممنوع ؛ لأنه مأمور أن يصلي وراء إمامه ، وليس عنده مانع من الزيادة ؛ فصلاته حينئذ تامة فيسلم مع إمامه ؛ فإن سجد الإمام للشك قبل السلام سجد معه المأموم ؛ لأنه لا يضره هذا السجود ، كما أن الإمام يحمل عن المأموم فإن المأموم يحتمل من إمامه ما عذر من خاصة نفسه ، كما لو سها الإمام في نفسه هو ولم يسهُ معه المأموم شرع للإمام أن يسجد ويسجد المأمومون معه.
إذًا يصلي الإمام يتم الخامسة ويتابعه على ذلك المسبوق بركعة فأكثر ، ويسجد مع الإمام إن سجد الإمام قبل السلام للشك ، والصلاة صحيحة من هذا ومن هذا . أما من كانت صلاته تامة فينتظر حتى ينتهي الإمام من جميع ذلك فيسلم مع الإمام .
قال رحمه الله : [ ولكل سهو سجدتان قبل السلام إلا من سلم عن نقص في صلاته ] : ولكل سهو سجدتان قبل السلام إلا من سلم عن نقص في صلاته : هذا مذهب من أشرنا إليه أن بعض العلماء يرى أن السهو كله قبل السلام؛ لحديث عبدالله بن مالك بن بحينة ، ومنهم من يرى أن كله بعد السلام لحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين ، ومنهم من جمع بين الأحاديث وهو الصواب إن شاء أن الزيادة بعد السلام والنقص قبل السلام ويؤيده ظاهر الأحاديث الواردة في الزيادة والنقص .(2/440)
قال رحمه الله : [ والإمام إذا بنى على غالب ظنه ] : على المذهب الذي يقول إن السجود كله قبل السلام كما هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد يرد الإشكال لو سلم عن نقص في صلاته كأن يسلم وقد ترك التشهد الأول ولم يتذكر سجود السهو قبل السلام ؛ فإنه يسجد بعد السلام ، فأشار المصنف إلى أنه في هذه الحالة يتدارك .
وشرط التدارك عندهم قلنا المشهور عند العلماء الوجهان :
منهم من يرى طول الفاصل وقصره .
ومنهم من يرى أنه مادام في المسجد وهو أقوى من جهة دلالة ظاهر السنة .
قال رحمه الله : [ والإمام إذا بنى على غالب ظنه ] : كذلك الإمام إذا بنى على غالب ظنه ثم تبين له بعد السلام أنه انتقص من الصلاة فإنه حينئذ يسجد بعد السلام ، مثلا : لو أنه رفع رأسه من الركوع ونسي أن يقول : سمع الله لمن حمده ، ورفع المأمومون رؤوسهم وقالوا : ربنا ولك الحمد ؛ فحينئذ يكون الإمام قد نسي واجبا ؛ الأصل يقتضي أن يسجد قبل السلام ، فلما تشهد نسي بانياً على غالب ظنه أن صلاته كاملة ثم لما سلم تبين له أنه قد انتقص من صلاته ؛ فإنه يسجد بعد السلام .
قال رحمه الله : [ والناسي للسجود قبل السلام ] : كذلك .
قال رحمه الله : [ فإنه يسجد سجدتين بعد سلامه ثم يتشهد ويسلم ]: ثم يتشهد ويسلم هذا على القول بأن السجود بعد السلام فيه تشهد وتسليم، وقد ذكرنا هذه المسألة وبسطناها في شرح الزاد وبينا أن الصحيح أنه لا يتشهد ، وأن السجود الذي بعد السلام لا تشهد فيه ، وأن الواجب في سجود السهو إنما هو سجدتان فقط .
قال رحمه الله : [ وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه ] : وليس على المأموم سجود سهو : إذا صلى المأموم وراء إمامه فليس عليه إذا سها في نفسه .
هناك الصور الآتية :
الصورة الأولى : أن يسهو الإمام ويسهو المأمومون معه .
الصورة الثانية : أن يسهو الإمام ولا يسهو المأمومون .
والصورة الثالثة : أن يسهو المأموم دون الإمام . ثلاث صورة .(2/441)
فإن سها الإمام مع المأمومين لزم الجميع سجود السهو بلا إشكال ، فيسجد الإمام ويسجد المأمومون معه ؛ إعمالا للأصل ، وهم تبع لإمامهم .
الصورة الثانية : أن يسهو الإمام ولا يسهو المأموم ، فلو أن إماما ركع بالناس، ونسي أن يقول: سبحان ربي العظيم في ركوعه ، أو نسي أن يقول : سبحان ربي الأعلى في سجوده ؛ فقد سها ونقص من صلاته ، والمأمومون صلاتهم تامة ركعوا فسبحوا ، فالتسبيح واجب من واجبات الصلاة ، فيجب عليه أن يسجد للسهو يسجد الإمام ويتبعه المأموم ؛ لأنه أمر بمتابعة الإمام ، وصلاة المأموم مرتبطة بصلاة الإمام فيتبعه .
أما إذا حصل العكس وهو أن يسهو المأموم ولا يسهو الإمام وهي الصورة الثالثة كأن يرفع الإمام رأسه من الركوع فيقول: سمع الله لمن حمده ، فينسى المأموم ويسهو فلا يقول : ربنا ولك الحمد ، أو كبر الإمام للسجود فسجدت دون أن تكبر ، هوى الإمام للسجود فهويت معه ونسيت أن تقول : الله أكبر؛ أو قام للركعة الثالثة أو الرابعة فنسيت أن تقول : الله أكبر قمت معه دون أن تتلفظ بالتكبير فقد سهوت وراء الإمام ولكن الإمام لم يسهُ في هذه الحالة فإنه يجب عليك أن تتبع الإمام ولا تسجد والإمام يحمل عنك ؛ واستدل العلماء - رحمهم الله - على ذلك بما ثبت في حديث أبي هريرة عنه - رضي الله عنه - أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن )) .
وقوله : (( الإمام ضامن )) الضمين هو الحميل ، والمراد بذلك أنه يحمل سهو المأموم ، وإذا سها عن الواجبات حمل الإمام عنه .
قال رحمه الله : [ ومن سها إمامه أو نابه أمر في صلاته فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء ] : ومن سها إمامه أو نابه أمر في صلاته فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء : وهذا حديث السنن وهو حديث صحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء )) ونهى عن هيشات الأصوات.(2/442)
وهذا الحديث مناسبته أنه يتعلق بالسهو عند التنبيه ، فإذا حصل من الإمام خلل سُبح له ، فلو أنه سجد قبل أن يركع يقول المأموم : سبحان الله ، فإذا علم الإمام خطأه بالتسبيح فلا إشكال ، وإن احتاج المأموم أن يتكلم مباشرة مثلا سجد الإمام فقال له : سبحان الله ما عرف الإمام ماذا يريد منه؟ فقال له : اركع . بعض العلماء يقول يتلو آية : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا } لكن هذا فيه إشكال؛ لأنما هو فقط من باب قالوا إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والاستغفار وقراءة القرآن )) قالوا فيقرأ شيئا من القرآن ، وهذا فيه إشكال خاصة إذا كان في موضع لا يقرأ في مثله القرآن .
الشاهد من هذا أنه يقول له : اركع ؛ ودليلنا على أن المأموم يتكلم بالخلل والخطأ مباشرة حديث ذي اليدين فإن النبي- - صلى الله عليه وسلم -- باشره الصحابي وقال : (( يا رسول الله ! أقصرت الصلاة أو نسيت ؟! قال : ما قصرت ولا نسيت . قال : بلى ، قد كان شيء من ذلك )) فالذين يستدلون على أن المأموم يجوز له الفتح المباشر يقولون: إن ذا اليدين تأكد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم ينزل عليه تشريع مستأنف ، وأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حصل منه السهو في صلاته ، ومع هذا نبهه مباشرة وسأل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الصحابة فقال : أصدق ذو اليدين ؟! فتكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وجود احتمال بنقصان الصلاة فقالوا: نعم كل هذا يدل على مشروعية الكلام أثناء الصلاة لمصلحتها .(2/443)
إذًا يسبح إن تنبه الإمام للتسبيح ، وإن لم يمكنه أن يتنبه باشره بالكلام ، فقال له : اقرأ الفاتحة ، جاء وكبر وقال : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } قال له : سبحان الله ظن أنه يصحح له رجع لأول السورة { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } فإن قلت له : سبحان الله سيكرر تقول له : اقرأ الفاتحة . فقال له : اقرأ الفاتحة قال له اركع واسجد ؛ فإنه معذور لأن التسبيح لا ينبهه وشرع التسبيح للتنبيه ؛ وحينئذ قد يزيد التسبيح خللا في الصلاة ، وعليه فإنه يجوز له أن ينبهه مباشرة، والتصفيق للنساء لما قال : التصفيق للنساء فيه فوائد :
المسألة الأولى : أن المرأة تصفق . قالوا التصفيق أن تضرب ببطن كفها اليمنى مثلا على ظهر كفها الأخرى اليسرى فتصفق بهذه الطريقة . هذه المسألة .
المسألة الثانية : أنه يشرع للمرأة أن تنبه كما يشرع للرجل .
المسألة الثالثة : أن قوله عليه الصلاة والسلام : (( التصفيق للنساء )) يدل دلالة واضحة على أن صوت المرأة فيه فتنة ، وأن الشريعة أمرت بتعاطي الأسباب للتحفظ من هذه الفتنة ، بل أخذ منه طائفة من أهل العلم أن هذا يدل على أن صوت المرأة عورة ، وأنها لا تتكلم مع الرجال ولا تخاطب الرجال إلا من حاجة ، وهذا استنباط صحيح ووجهه : أنه لا يمكن أن يعدل عن ذكر الله ، وتؤمر المرأة أن تصفق بيدها وتحرم من هذا الذكر إلا لسبب وهو دفع مفسدة أعظم ، وهذا شيء جبلي فطري ميل الرجل للأنثى؛ وحينئذ جعلت الشريعة السياج وأمرت بتعاطي الأسباب حتى إن المرأة تنقل من ذكر الله إلى التصفيق ولا يسمع صوتها ؛ الأمر الذي يدل على أن من أمر المرأة أن لا تتكلم أو لا تكلم الرجال إلا من حاجة أن قوله صحيح ، وله وجه من الشرع ، ويدلّ حتى دلالة الفطرة ؛ ولذلك المرأة لا تأمن أن تتكسر في سؤالها أو في كلامها أو في خطابها للرجل خاصة إذا استرسل من العامة وغيره .(2/444)
وقد أدركنا من أهل العلم من يتحفظ حتى من أسئلة النساء فلا يجعلهن إلا على وضع لا يسمعهن الرجال ما أمكن؛ كل هذا إعمالا للشرع لأنه لا يمكن أبدا أن الشريعة تحرمها من هذا الفضل وهو ذكر الله أن تقول : سبحان الله إلا وله مفسدة أعظم ، وهذا يدل دلالة واضحة على هذا الأصل الذي ذكرناه .
قوله : (( سبح الرجل وصفقت المرأة )) هذا يشمل أيضا الأمر الطارئ مثلا لو أن شخصا قرع عليك الباب وأنت تصلي تقول : سبحان الله أو قرع على المرأة وهي تصلي صفقت فهذا يشمل التنبيه على الخطأ ، ويشمل التنبيه على الأمر، ولو أن امرأة تصلي وطفلها اقترب من نار أو اقترب من شيء فيه ضرر وبجانبها زوجها ساه عنه فصفّقت بيدها أو هو يقول: سبحان الله تنبيها لها فالرجل يسبح والمرأة تصفق سواء كان في التنبيه على الخلل في الصلاة أو غيره .
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب صلاة التطوع ] : التطوع تفعل من الطاعة والمراد بذلك زيادة الطاعة والخير والصلاة مفروضة ونافلة ، فلما كانت الفريضة في الأصل هي الطاعة الواجبة على المكلف كان فعل النافلة زيادة في هذا التطوع ، ولذلك سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من الصلاة بهذا الاسم، فتسمية الفقهاء لباب صلاة التطوع للنوافل تسمية صحيحة شرعية ومصطلح شرعي ؛ والدليل على ذلك لما سأل ضمام - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شرائع الإسلام ؟ قال : (( خمس صلوات قال هل علي غيرها ؟ قال : لا إلا أن تطوع )) فجعل ما سوى الفرائض تطوعا فصارت الصلاة من غير الفريضة تطوعا .
باب صلاة التطوع : التطوع مقيد ومطلق ، والمقيد هو الذي قيده الشرع بأسباب قبلية أو بعدية أو أثنائية ، ويكون جماعة ، ويكون فرادى .(2/445)
والمطلق هو الذي أطلقه الشرع ، فالنافلة تكون مطلقة ، فلو أن إنسانا على وضوء وطهارة أراد أن يصلي لله قربة وطاعة فهذا متنفل نافلة مطلقة ، ويكون مقيدا كالسنن الرواتب يصلي قبل الظهر أو بعد الظهر أو يصلي بعد المغرب أو بعد العشاء أو قبل الفجر، هذه رتبها الشرع وقيدها ، وقيدت بأسباب قبلية كأن يتوضأ فيصلي ركعتي الوضوء ، أو أسباب تكون من بعدها كأن يصلي النافلة ، ثم يستخير ، ونحو ذلك من التقييدات الواردة في الأوصاف الشرعية في الصلوات .
يقول رحمه الله : [ باب صلاة التطوع ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصلاة النافلة سواء كانت ليلية أو نهارية .
قال رحمه الله : [ وهي على خمسة أضرب أحدها : السنن الراتبة ] : السنن الراتبة : رتّب الشيء إذا جعل بعضها تلو بعض ؛ وسميت سننا راتبة لأن الشرع رتبها فجعلها قبل الفريضة أو بعد الفريضة أو جمع بين ما قبل وبعد ، فرتبها قبل الفريضة كما في رغيبة الفجر ، ورتبها بعد الفريضة كما في سنة الراتبة في المغرب والعشاء ، ورتبها قبل وبعد كما في راتبة الظهر قبلية وبعدية .
وسنن الرواتب هي من آكد النوافل ؛ وفيها حديث ميمونة في صفة صلاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لها وحمل عليها قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم المؤمنين : (( من صلى لله في يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا أو بيتا في الجنة )) قيل : أنها السنن الرواتب. وفائدتها عظم الأجر في طاعة الله - عز وجل - ؛ لأن العبد يعظم ثوابه ويعظم أجره إذا تنفل وزاد عن ما فرض الله عليه .
وثانيا ً : فهي زيادة من الخير والأجر والثواب ، وليس هناك طاعة وقربة أعظم ثوابا ولا أجرا بعد توحيد الله -- عز وجل -- من الصلوات قال - صلى الله عليه وسلم - : (( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )) فهي من أفضل الطاعات والقربات .(2/446)
كذلك أيضا فهي تزيد العبد ثوابا وتزيده أيضا قربا من الله -- عز وجل -- ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال يقول الله تعالى : (( ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل )) وهي الطاعات وليس الأمر خاصا بالصلوات النوافل فإن كانت في الصلاة صلاة نافلة تكون في الصدقات وتكون في غيرها (( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه )) وهذا يدل على أن الذي لا يقتصر على قدر الفريضة وإنما يسمو بنفسه إلى الزيادة أنه في طريق إلى محبة الله له - جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل- .
الأمر الثالث : أن سنن الرواتب من فوائدها : أنها تهيئ العبد للصلاة المفروضة ؛ ولذلك إذا دخل في صلاة الظهر فإنه يدخل من هموم الدنيا ومعه هموم الدنيا في تجارته وعمله ووظيفته ، مهموم النفس مكسور الخاطر، فإذا صلى ركعتين استجمت نفسه واستجمت روحه ؛ ولذلك كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يتهيأ بالأصغر للأكبر والأكمل ، وكان يستفتح قيام الليل بركعتين خفيفتين . قالوا حتى يقوى على أن يصلي الركعة الواحدة ما يقارب أكثر من جزئين هذا يدل على أن المسلم إذا هيأ نفسه للطاعة كانت نفسه أنشط ، والسنن الراتبة القبلية تهيئ لفعل الفرائض ، وانظر الفرق بين الشخص الذي دخل وصلى الراتبة ، ومنهم من يدخل قبل الأذان فيصلي تحية المسجد ، ثم يجلس يذكر الله -- عز وجل -- والملائكة تصلي عليه ، ثم يصلي الراتبة ثم لا تزال الملائكة تصلي عليه مادام في مصلاه ، ثم تقام الصلاة فيقوم لها بانشراح عظيم .
انظر إلى هذا وانظر إلى الذي يأتي الصلاة عن دبر، فيأتي وقد ركع الإمام الركعة الأولى أو فاتته الركعة الثانية أو فاتته الركعة الثالثة ولربما يأتي في التشهد قبل تسليم الإمام . انظر إلى حال هذا وانظر إلى حال هذا ، فلاشك أن البون شاسع فشرع الله النوافل لما فيها من هذه الفوائد العظيمة.(2/447)
ثم إن النافلة من فوائدها أنها تجبر النقص؛ كما في الحديث الصحيح : (( إن أول ما يحاسب عنه العبد من عمله الصلاة )) ثم إن كانت ناقصة قال الله لملائكته : (( انظروا هل لعبدي من تطوع )) فجبر به نقص الفريضة قال - صلى الله عليه وسلم - : (( وكان سائر عمله على ذلك )). فهذا فيه دليل على فضل النافلة وأنها تجبر نقص الفريضة ويكمل بها ما كان في الفريضة من نقص .
قال رحمه الله : [ وهي التي قال ابن عمر - رضي الله عنه - عشر ركعات حفظتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل الفجر حدثتني حفصة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين ] : وهي التي قال ابن عمر -- رضي الله عنه -- عشر ركعات حفظتهن من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- السنن الرواتب أفضلها وآكدها ركعة الرغيبة وهما ركعتا الفجر سنة الفجر القبلية ودل على فضيلتها وأنها آكد قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح : (( لا تدعوها ولو طلبتكم الخيل )) ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- داوم عليها سفرا وحضرا فلم يكن يترك رغيبة الفجر حتى في السفر وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام لما عرّس عند قدومه من غزوة تبوك وفاتته صلاة الفجر لما عرس بوادي القرى وفاتته صلاة الفجر قام بعد طلوع الشمس فأمر بلالا فأذن ثم صلى ركعتي الرغيبة ثم أمره فأقام فصلى ركعتي الفجر وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها )) على أحد الأوجه في تفسيرها ، وهذه الرغيبة هي آكد السنن الرواتب ، وفعلها - صلى الله عليه وسلم - في بيته ، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى أتاه المنادي بالصبح فقام فصلى الصبح واضطجع ؛ لأنه كان يصلي بالليل، وصلاة الليل كان يصلي أربعا لا تسألوا عن حسنهن وطولهن - صلوات الله وسلامه عليه - ، وهذا القيام من(2/448)
طبيعة النفس أنها تتعب وتضنى فلو أنه واصل قيام الليل بصلاة الفجر فإن هذا يؤثر فيه وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول : (( إن لنفسك عليك حقا )) فأعطى نفسه الحق ، ولأنه إذا قام للفريضة بعد أن استجم بهذه الضجعة فإن هذا يعينه على الفريضة أكثر وعلى الخشوع فيها ، ومن هنا فعل - صلى الله عليه وسلم - هذه الرغيبة ، ثم اضطجع ثم قام إلى صلاة الفجر ، فعلها في بيته ، وهذه هي السنة فإن كان يريد الصفوف الأول وبكر لصلاة الفجر صلاها في المسجد ، وهكذا إذا أذن عليه الفجر وهو في المسجد صلاها في المسجد .
هذا بالنسبة لرغيبة الفجر، وتقضى بعد طلوع الشمس خروجا من الخلاف ؛ لورود النهي بعد صلاة الصبح ، فإن تعسر عليه أن يصليها فقد جاء في بعض النصوص ما يدل على استثنائها صراحة فتستثنى من النهي ، وأما الأفضل والأكمل فإنه ينتظر إلى طلوع الشمس فيصليها بعد طلوع الشمس ويقضيها.
الثانية : راتبة الظهر وهي قبلية وبعدية ، والأفضل والأكمل في راتبة الظهر أن تكون أربع ركعات قبلية وأربعاً بعدها ، وقيل أربع قبلية وركعتان بعدها ، وقيل العكس وفي الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من صلى قبل الظهر أربعا -وفي بعضها- وبعدها أربعا لم تمسه النار )) وإذا صلى الأربع له أن يصليها ركعتين ركعتين فإن ضاق عليه الوقت وخشي أن تقام الصلاة والصلاة بعضها فلا بأس لكن لا يجلس للتشهد الأول .(2/449)
وأما بالنسبة لراتبة المغرب فإنها تكون بعدية ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى بعد المغرب راتبه كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الذي معنا يصلي ركعتين بعد صلاة المغرب ويصليها في البيت ، فإن كان جالسا في المسجد لطلب علم أو نحو ذلك ولم يرجع إلى بيته أو سيرجع إلى مكان لا يتيسر له أن يصليها صلاها في المسجد إنما هو للأفضل والأكمل ، فالأفضل في الرواتب أن تكون في البيت ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( إن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )) فإذا صلى المغرب صلاها في بيته، فإن كان في المسجد وأراد أن يرابط صلاها في المسجد ولو تعذر عليه أن يصليها بعد المغرب لحضور درس علم أو محاضرة وأراد أن يؤخرها إلى ما بعد العشاء فهذا أجازه طائفة من مشايخنا - رحمة الله عليهم - ؛ واستدلوا له بالسنة ؛ لأن طلب العلم أفضل من العبادة ؛ وقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه دخل على أم المؤمنين بعد صلاة العصر وصلى راتبة الظهر فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها : (( يا رسول الله رأيتك تصلي ركعتين لم أرك تصليهما من قبل )) قال : (( هما سنة الظهر أتاني وفد عبد قيس فشغلاني عنها آنفا )) فترك الراتبة للاشتغال بالدعوة والاشتغال بالعلم النافع تعليم الناس، فالبعض من العوام يرى بعض طلبة العلم بعد صلاة المغرب يقتربون للدروس فينكر عليهم يقول : هؤلاء يتركون السنة ، وهذا خطأ ؛ لأن لهم وجهاً من سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في تفضيل العلم على العبادة ، ومادام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ترك راتبة الظهر إلى ما بعد العصر وهو وقت نهي وقضاها فلأن يجوز له أن يؤخّر راتبة المغرب إلى ما بعد العشاء في وقت لا نهي فيه من باب أولى وأحرى ، وعلى كل حال السنة في المغرب أن تكون بعدية.(2/450)
وأما العشاء فهي بعدية أيضا تصلي بعد العشاء ركعتين ، وهذه السنن على الصفة التي ذكرناها رغائب وفضائل ينبغي للمسلم أن يحرص عليها فلو فاتته فإنه يقضيها تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ ويستحب تخفيفهما ] : ويستحب تخفيفهما : تخفيف رغيبة الفجر .
قال رحمه الله : [ وفعلهما في البيت أفضل ] : وفعلهما فعل الراتبة . في البيت أفضل بل فعل النوافل كلها في البيت أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام : (( صلوا في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )) وهذا الحديث قاله النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مع اجتماع فضائل لا تجتمع لغيره ، فقد اجتمع في هذا الحديث الذي خاطب فيه الصحابة في قيام رمضان خاطبهم به في العشر الأواخر وهذه فضيلة الزمان داخل مسجده وهذه فضيلة المكان مؤتمين به ؛ لأنه خشي أن تفرض عليهم وهذه فضيلة الإمامة ؛ لأن الصلاة وراء النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لها مزية وفضل ، وعلى هذا أمرهم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن يصلوا في بيوتهم مما أكد أن الراتبة والنوافل الأصل فيها أن تصلي في البيت ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إذا صلى أحدكم فليجعل من صلاته في بيته فإن الله جاعل له من صلاته في بيته خيرا )) وكذلك أيضا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تجعلوا بيوتكم قبورا )) .
قال رحمه الله : [ وكذلك ركعتا المغرب ] : كذلك ركعتا المغرب يصليهما في بيته .(2/451)
قال رحمه الله : [ الضرب الثاني : الوتر ] : الوتر ضد الشفع ، والأعداد إما وترية وإما شفعية ، والمراد بقوله (( الوتر )) صلاة الوتر ، وقد شرعها الله للأمة فقد ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء والفجر )) وهي الوتر وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( أوتروا أهل القرآن )) وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من لم يوتر فليس منا )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( الوتر حق ومن لم يوتر فليس منا )) فاجتمعت السنة على فضيلة الوتر .
ومن أهل العلم من قال في قوله تعالى : { والفجر وليال عشر والشفع والوتر } المراد به وتر الصلاة .
والصحيح أن الآية المراد بها القسم بالله -- عز وجل -- وبكل شيء من غير الله ؛ لأن قوله :{ والشفع والوتر } الوتر هنا المراد به الله -- عز وجل -- والأشياء الوترية لأن الله أراد أن يقسم قسما عظيما بكل شيء ، وهذا هو مذهب بعض المفسرين أن الآية عامة ، وكل شيء إما وتر أو شفع ، وعلى هذا قالوا لم يبق شيء ، وتكون الآية على العموم أفضل من حملها على الخصوص .
وأما بالنسبة لفضل الوتر فاستنباطه من السنة أقوى من الأحاديث التي وردت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهي كافية في فضله ، لكنهم يذكرونها للدلالة على فضيلة الوتر .(2/452)
والوتر وقته ما بين صلاة العشاء إلى الفجر ، وجمهور العلماء على أنه مستحب ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما سئل عن الصلاة المفروضة قال : (( خمس صلوات قال هل علي غيرها ؟ قال لا إلا أن تطوع )) فدل على أن الوتر تطوع؛ لأنه من غير الصلوات الخمس ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن قال : (( فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة )) ولم يذكر الوتر ، وهذا في آخر حياته عليه الصلاة والسلام فدل على أن الوتر سنة وليس بواجب .
إذا ثبت هذا فإن وقت الوتر ما بين صلاة العشاء إلى الفجر أي بعد أن يصلي العشاء وعليه فهو من صلاة الليل ، وللعلماء وجهان :
منهم من قال : العشاء وقتا وفعلا ، فالوتر يبتدئ بعد العشاء وقتا وفعلا ، وعلى هذا فلا يكفي دخول وقت العشاء حتى يصلي العشاء ، ولا يكفي صلاة العشاء إذا لم يدخل وقتها .(2/453)
المسألتان لا يكفي دخول وقت العشاء ما لم يصلها كما لو كان في المدينة فأذن العشاء وصلى الناس وفاتته صلاة العشاء فأراد أن يصلي الوتر ثم يصلي العشاء ؛ نقول: صلِّ العشاء ثم صلِّ الوتر ولو دخل الوقت ، ولا يكفي الفعل دون الوقت ، فلو كان مسافرا وجمع بين المغرب والعشاء تقديما ؛ فإنه لم يدخل وقت العشاء فلما قال : (( جعلها لكم ما بين صلاة العشاء إلى الفجر )) دل على أنها فعلا ووقتا ، وهذا هو أقوى الأقوال في المسألة ؛ وعليه فإنه يتحرى في الجمع إلى دخول وقت العشاء ، فلو جمع جمع تقديم ينتظر حتى يدخل وقت العشاء ويغيب الشفق فيصلي الوتر ، وينتهي وقت الوتر بطلوع الفجر في قول جماهير العلماء - رحمهم الله- ولا يقضيه بين أذان الفجر والإقامة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( أوتروا قبل أن تصبحوا )) وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : (( صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة )) إذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة فهذا يدل على أن الوتر لا يفعل بعد طلوع الفجر ، ثم إذا فاتته ولم يمكنه أن يفعله قبل الفجر فإنه يصليه بعد طلوع الشمس ؛ لقوله : (( ما لم تزل الشمس )) ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من نام عن حزبه من الليل فصلاه ما بين طلوع الشمس إلى زوالها )) فجعل وقت القضاء لصلاة الليل هذا الوقت ما بين طلوع الشمس إلى زوالها (( كتب له كأنما صلاه في ساعته)) يعني في ليلته كتب له كأنما صلاه في ليلته ، هذا الحديث في صحيح مسلم وغيره يدل على أن قضاء الوتر يكون ما بين طلوع الشمس إلى الزوال ، وأنه إذا أذن الفجر يمسك عن الوتر ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( أوتروا قبل أن تصبحوا )) وما ورد عن بعض الصحابة فإنه لا يعارض السنة المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قول الجماهير .(2/454)
قال رحمه الله : [ وأقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ] : وأقل الوتر ركعة ؛ لأنه أقل ما أوتر به -- صلى الله عليه وسلم -- ولقوله عليه الصلاة والسلام : (( فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة )) فهذا أقل ما ورد قولا وفعلا لم يرد أقل من الركعة الواحدة هذا أقل الوتر، فلو أن شخصا في سفر وأراد أن يصلي ركعة واحدة يوتر بها فإن له ذلك ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صح عنه كما في حديث أبي سعيد أنه قرأ في ركعة واحدة سورة النساء ثم ركع وأوتر وسلم وقال : (( أتعجبون مما صنعت ؛ فقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كما فعلت )) وهذا في السفر؛ لأنه في السفر أوسع الأمر من الحضر ؛ لأن الحضر يتحرى السنة فيوتر بثلاث تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- لمداومته على ذلك ، ولو أوتر بواحدة فلا ينكر عليه كما لو ضاق عليه الأمر فقام قبل طلوع الفجر بدقائق لا يمكنه أن يصلي ثلاثا فصلى ركعة واحدة يوتر بها فلا بأس ولا حرج ، لكن في الاختيار يتبع الوارد أنه لا يوتر بأقل من ثلاث في الحضر لكن لو أوتر بواحدة اختيارا في الحضر أجزأه إنما نتكلم عن المستحب من الذي داوم عليه - عليه الصلاة والسلام -.(2/455)
قال رحمه الله : [ وأقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ] : أكثره إحدى عشرة بالوصل لو وصل الصلاة ببعضها فالمحفوظ عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه صلى ولم يجلس إلا في آخر صلاته وهو الوتر ، وثبت عنه أنه صلى إحدى عشرة ركعة في قيام الليل ، فأخذوا منه أن أكثره إحدى عشرة ركعة ، وإذا وصل الركعات ببعضها كأن يكون مثلا عنده عادة يقرأ ثلاثة أجزاء أو أربعة أجزاء لو أنه ركع وسجد أثناءها لو أنه جلس للتشهد وسلم أثناءها فإنه يضيق عليه الوقت وحينئذ تتعارض عنده فضيلتان : فضيلة قراءة القرآن وفضيلة الجلوس للتشهد والسلام ، فتقدم فضيلة القراءة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أفضل صلاة الليل قال : (( طول القنوت )) فجعل إطالة القراءة وجنس القراءة مقدم على بقية أفعال الصلاة في قيام الليل ، فمن هنا إذا تعارض الأمران : أراد أن يطيل المقرأ فإنه يسقط التشهد والتسليم ويصل الركعات ببعضها حتى يجلس في آخرها كما ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في حديث أم سلمة وغيرها فقد أوتر بثلاث وبخمس وبسبع وبتسع لم يجلس إلا في آخرها صلوات الله وسلامه عليه .
قال رحمه الله : [ وأدنى الكمال ثلاث بتسليمتين ] : وليس معنى هذا أن أكثره إحدى عشرة ركعة أنه لا يجوز أن يصلي أكثر من إحدى عشرة ركعة لا أحفظ حسب علمي وتتبعي لكلام العلماء سنوات عديدة من السلف خلال القرون المفضلة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة الأربعة ولا من غيرهم خلال القرون المفضلة أحدا قال : إن الزيادة على إحدى عشرة ركعة في صلاة الليل بدعة ومردودة ومحرمة . يقولون : الأفضل إحدى عشرة ؛ لأن هذا الذي ثبت في السنة في حديث أم المؤمنين عائشة كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة ، فيقولون هذا الأفضل والأكمل أن تتأسى بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- تصلي إحدى عشرة ركعة .(2/456)
أما إذا زدت على إحدى عشر فنصوص القرآن والسنة القولية والفعلية والتقريرية كلها على أن الأمر واسع في قيام الليل ؛ قال تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك } وقال تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه } هذا النص إذا تأملته مطلق { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا } ليس هناك تحديد بعدد معين هذا ظاهر القرآن ؛ لأن عند الاستدلال تتتبع دليل الكتاب والسنة وترجع في المختلف فيه إلى النص ، فنص القرآن مطلق ونص السنة قول وفعل وتقرير. السنة القولية يسأل عليه الصلاة والسلام عن صلاة الليل كيف يصلي الليل ؟ قال : (( صلاة الليل مثنى مثنى ، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة )) هنا وقت بيان لو كانت الزيادة على إحدى عشرة ركعة لا يجوز لقال ولا تزيد على إحدى عشرة ركعة قال : (( تصلي مثنى مثنى فإذا خشيت الفجر فأوتر بواحدة )) هذا نص صريح واضح ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
كذلك أيضا السنة القولية : (( إن أخاك رجل صالح فليعنّي على نفسه بكثرة السجود في الليل )) ما قيده بعدد معين ، فكل ما ورد من السنة القولية في صلاة الليل لم يلزم فيه بعدد معين ، وقد دخل المدينة لم يعرفوا حتى كيف صلى قيام الليل يقول كما في صحيح عند مسجد قباء أتوه الآن داخل المدينة لم يروه كيف يصلي ولم يعلموا عدد صلاته بالليل : (( أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا جنة ربكم بسلام )) هذه السنة القولية المطلقة .(2/457)
السنة الفعلية أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى إحدى عشرة ركعة كما قالت عائشة : (( كان لا يزيد في رمضان ولا غيرها على إحدى عشرة ركعة )) وجاء في حديث ابن عباس -- رضي الله عنه -- ثلاث عشرة ركعة وخمس عشرة ركعة ، وليلة عائشة من بين ليالي من بقية النساء ، قد نام ابن عباس رضي الله عنهما مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عند ميمونة رضي الله عنها، وهي رأت ما رأته عندها في بيتها ، وكم من سنن حتى إن الصحابة وألف بعض العلماء مستدركات على أم المؤمنين ؛ لأنها كانت تتحدث عما رأت ، وهذا لا يقتضي أنه تحديد ، نحن نتكلم على التبديع أن يقول : الزيادة على إحدى عشرة ركعة بدعة بمعنى أنه يأثم، وبمعنى أنه لا ثواب له في فعله ، والقرآن يبين أنه مطلق مخير .
أما كوننا نقول : الأفضل كل السلف متفقون على أن إحدى عشرة ركعة في اتباع الوارد أفضل هذا الذي قاله الأئمة وقرروه أن الإحدى عشرة ركعة أفضل ، أما أن يقال إن من زاد على إحدى عشرة ركعة مبتدع، وأنه إذا فعل هذه الزيادة عليه إثم وليس له ثواب ، فهذا خلاف الأصل .(2/458)
حديث عائشة رضي الله عنها : (( كان لا يزيد في رمضان ولا غيرها على إحدى عشرة ركعة )) وصف فعل، ووصف الأفعال لما هو متعين متعين ، ووصف الأفعال لما هو مطلق مطلق؛ بمعنى أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اختار هذا من إطلاق فنقول : إنه أفضل ، ووصف الأفعال فيما هو مطلق أفضل ، ووصف الأفعال فيما هو مقيد متعين متعين مقيد ، مثلا لما يأتي من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بيان للحج تقيد ببيانه عليه الصلاة والسلام ، لو قيل بهذه القاعدة : (( أن المطلق يحمل على المقيد )) فنحمل إطلاق الأدلة في الكتاب والسنة الأدلة المتكاثرة على أنه محمول على المقيد كان لا يزيد من فعله عليه الصلاة والسلام فمعنى ذلك أنه لا يصلي بالليل إلا مثل ما صلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا يزيد ولا ينقص ؛ لأنه لازم التقييد هذا ، لا تزيد ولا تنقص ، فلا يصح لأحد أن يقوم من الليل بأقل من إحدى عشرة ركعة : (( كان لا يزيد )) لا يزيد ولا ينقص يتعين عليه هذا الشيء ؛ لأنك تراه أنه مقيد ، فإن تسامحنا في النقص قلنا لازم هذا أن تقول في كل ما أطلقه الشرع من الصدقات والنفقات أن لا يفعل المكلف إلا ما تصدق به النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأعطاه ، وهذا لا يقول به أحد . قاعدة منخرمة ، ولذلك أنا اجتهدت وتعبت أن أجد أحدا خاصة في القرون المفضلة يقول : إنه لا تجوز لأن البدعة معناه لا يجوز .(2/459)
أما أن نقول إن الأفضل مثل ما قال أئمة العلم وشراح الأحاديث قالوا إن السنة والأفضل أن يلتزم الوارد ويصلي إحدى عشرة ركعة في ليله يتبع هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويفعل كما فعل صلوات الله وسلامه عليه هذا لا يختلف اثنان فيه ، لكن بدعة ! لا . ويخرج من المسجد ويفوت على نفسه فضيلة الصلاة مع الإمام والنبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة )) ، فإذا به يفوت ويعارض هذه السنة التي قصد منها تكثير سواد المصلين وراء الأئمة ، وينصرف عن صلاته معتقدا أنه لو صلى يأثم هذا يحتاج إلى دليل واضح ، يعني يقول : لا تزيدوا على إحدى عشرة ركعة والله لو قالها بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه ما قدمنا ولا أخرنا على ذلك من شيء ، لكن هذا أمر واضح بيّن أن الإحدى عشرة ركعة أفضل ، لكن ليس معنى ذلك تأثيم من زاد على إحدى عشرة ركعة بأن نقول : إنها بدعة وأنه آثم وأنه قد جاء بشيء لا يشرع ، والنص في الكتاب والسنة كله مطلق وواضح في دلالته . يقول الرجل كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - : كيف أصلي بالليل ؟ جاء وقال : والله هذا سؤال عن الكيفية ، دعونا من هذه الاجتهادات عندك نص واضح رجل لا يعرف كيف يصلي كيف أصلي بالليل ؟ قال له : (( صلاة الليل - وهذا عموم حتى ولو كان السؤال خاصا هذا عموم صلاة الليل كيفية وعددا - صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة )) وهذا نقول لأنه كل يؤخذ من قوله ويرد ، ولا يعاب على أحد أن يقرر مذهب جماهير السلف والأئمة والخلف ، وأن يبين لطلبة العلم ما فيه دلالة الأرجح والأكثر في الكتاب والسنة ، والذي دعانا إلى هذا أن البعض يشنع في الزيادة على إحدى عشرة ركعة ، فقول المصنف أن الإحدى عشر هي أكثر شيء ليس على التعيين بحيث يأثم من زاد على إحدى عشرة ركعة ، ونقول : إن المسجد الذي يصلي أكثر من إحدى عشرة ركعة أنه يتعاطى بدعة ، وإن من نظر(2/460)
في كلام الإمام مالك رحمه الله والإمام أحمد والرواية موثقة عن هذين الإمامين الجليلين أنهم أدركوا في عصورهم وهم في القرون المفضلة وهم يصلون أكثر من إحدى عشرة ركعة ، بل كانوا يصلون ستا وثلاثين ركعة في مكة ، وكانوا في المدينة ثلاثا وعشرين ركعة والروايات في مذهب مالك من قرأه وقرأ كلامه يعلم هذا .
طيب إذا كان هذا في عصر السلف لم يقل واحد من أهل العلم أنهم ابتدعوا ، ولم يقل لهم اخرجوا من فضل المسجد النبوي الذي فيه الصلاة بألف صلاة لكي يذهب إلى مسجد يصلى فيه ، هذا التكلف بحيث إن الإنسان يعتقد أنه أفضل مما صلى ، هذه أمور تترك فيها نصوص واضحة ، هذا الذي جعل أنه لابد من البيان والتوضيح ، ومن نظر غيرة عن السنة أنه يريد أن يذهب إلى دلالة واضحة فيها الغيرة .
أما ظاهر الأدلة وأكثر الأدلة في الكتاب وفي السنة مذهب جماهير العلماء والأئمة والأئمة الأربعة كلهم متضافر الكلام بينهم على أن الأفضل أما أنه يقال : إنه محرم وأن الإحدى عشرة متعينة حتى إن الرجل يقال له تعال صلِّ في البيت الحرام يقول لا أريد أن أصلي في المسجد الذي يصلى فيه إحدى عشرة ركعة ! ويقال له : مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : لا . لا أصلي فيه ! يصلون ثلاثا وعشرين ركعة هنا الإشكال . الإشكال الاعتقاد وهذا وراءه تبعات عظيمة ؛ لأنه إذا كان يرى أن هذه الأمة كلها على خطأ ، وأنها تفعل البدعة تأتي يعني أمور لا نحتاج إلى بيانها حتى من ناحية منهجية يؤثر ويجعل عند الإنسان جرأة على تخطئة الغير ، نحن نريد أن نرجع إلى نص الكتاب والسنة ونجد هذه الإطلاقات واضحة بينة .(2/461)
لو دل دليل على عدم الزيادة قلنا : لا يجوز . قالت : (( كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة )) نقول : الأفضل الإحدى عشرة ركعة ، مع أنه ثبتت الثلاثة عشر ركعة وثبتت عنها الخمس عشرة ركعة ، وهذا اختلاف تنوع وليس باختلاف تضاد ، هذا الذي نريد أن ننبه عليه ونحب أن ننبه عليه على أنه ليس معنى كلام المصنف أنه لا تجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة ، ولو كانت الزيادة بدعة على إحدى عشرة ركعة لردها أئمة السلف ، وقدكان الإمام مالك من أشد الناس ردعا للمبتدعة وكراهية لهم .
والإمام مالك يقرر أنه في زمانه كانوا في المدينة يزيدون إلى ثلاث وعشرين ركعة ، وشيخ الإسلام يقول : إن المدينة إلى عصر مالك لم تدخلها بدعة قط . ما عرف عنها إلى عصر مالك وهو عصر قريب ليس بين الإمام مالك وبين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إلا رجلان : مالك عن نافع عن ابن عمر ، ومع ذلك يصلى في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في عصر السلف الصالح والقرون المفضلة ومع ذلك لم يمنع الناس ولم يحرم عليهم ذلك .
الأمر الثاني : أن في عهد مالك ثبت نقل ثلاث وعشرين ، فلو ضعفت سندا فإنه يسميه العلماء نقل الكافة عن الكافة . ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - في كلامه في رسالة نفيسة التي استلت من مجموع الفتاوى أن عمل أهل المدينة في الأمور الظاهرة التي تتوفر الدواعي لنقلها محفوظ ، ولذلك رواية الثلاث والعشرين لما جاء ما يعضدها أنه إلى عصر مالك وجد ذلك وحكي عنه فإن هذا يقوي أن الأمر متوارث.
والمقصود من هذا كله أنه لا يعاب على من زاد على إحدى عشرة ركعة.
من الناس من يحفظ القرآن ويستطيع أن يطيل المقرأ وحينئذ يستطيع أن يطيل المقرأ إلى إحدى عشرة ركعة فيصيب السنة .
من الناس من حفظه قليل ولكن يستطيع أن يزيد في عدد الركعات .(2/462)
ومن الناس العكس ، فالأمر يختلف باختلاف أحوال الناس ، فإن سئلت عن الأفضل قلت السنة والأفضل الإحدى عشرة ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أما أن يقال لا يجوز ونعتقد أن من صلى في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ومسجد الكعبة أنه على حال مرجوح وأن الأفضل أن يترك هذه المساجد المفضلة وأن يترك جماعة المسلمين فيها والله تعالى يقول : { لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } ويقول : { أحق أن تقوم فيه } أي تصلي فيه المراد به قيام الصلاة أحق أن تقوم فيه نقول لا الأحق أن تصلي في مسجد يصلي إحدى عشرة ركعة هنا الخلل .
فالمقصود من هذا نعطي النص دلالته ، وإن كان نصا واحدا وغيره أقوى منه من النصوص المتكاثرة في الكتاب والسنة فإنه مقدم .
قال رحمه الله : [ وأدنى الكمال ثلاث بتسليمتين ] : أدنى كمال الوتر وليس أدنى الوتر أدنى الوتر ركعة ، أدنى الكمال ثلاث بتسليمتين هذا أفضل شيء . تصلي ركعتين {بسبح} وبـ {قل يا أيها الكافرون} ، ثم يصلي ركعة بسورة الإخلاص ، وهناك صفات أخرى لكن الأفضل والأكمل أن يصلي ركعتين بتشهدين يسلم منهما ، يسلم من الركعتين منفصلة، ويسلم من الركعة منفصلة ولا يصل الاثنتين بالوتر إلا إذا أسقط التشهد الأول بمعنى أنه لا يشبهها بصلاة المغرب بمعنى يصلي ويتشهد ثم يقوم للثالثة إذا أراد أن يصلها يصلها بدون أن يجلس للتشهد ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى بثلاث وبخمس أوتر بثلاث وبخمس أو بسبع لا يجلس إلا في آخرهن .
قال رحمه الله : [ ويقنت في الثالثة بعد الركوع ] : يقنت : يدعو . في الثالثة بعد الركوع : قبله يجوز قبل وبعد وروى الإمام محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل الأصل في ذلك وأنه لا بأس أن يقنت قبل الركوع أو يقنت بعد الركوع كل جائز وسنة .(2/463)
قال رحمه الله : [ الضرب الثالث : التطوع المطلق ] : القنوت الأفضل فيه الوارد : وهو حديث الحسن - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه القنوت أن يقول : (( اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت )) .
ومن الوارد : (( اللهم لك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار مُلْحِق ، اللهم قاتل الكفرة من أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك )) .
فإذا قنت بالوارد فهو أفضل وأما قنوت الفريضة فإنه يتقيد بالحاجة ، ولا يجوز فيه الزيادة عن الحاجة. أما قنوت الوتر يدعو فيه بما أراد من خيري الدنيا والآخرة .
قال رحمه الله : [ الضرب الثالث: التطوع المطلق ] : الضرب الثالث من ضروب التطوع أن يكون مطلقا لا يتقيد كما في السنن الرواتب والوتر على أنه وتر للنوافل؛ لأن بعض العلماء يرى أن الوتر للفرائض والنوافل والسنن الرواتب مقيدة بالفرائض كما ذكرنا القبلية والبعدية وجامع بينهما .
قال رحمه الله : [ وتطوع الليل أفضل من النهار والنصف الأخير أفضل من الأول ] : تطوع الليل أفضل من النهار : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن أن أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل ، فقيام الليل أفضل؛ ولأن الله امتدح أهله .
فُضل قيام الليل من عدة وجوه :
أولها : ثناء الله في كتابه على أهله .
وثانيا : وعده بالحسنى والجزاء لهذا الفعل { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } فجعل هذا المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون مقرونا بصلاة الليل ، وهذا من أعظم الفضل وأعظم النول والعطاء من الله -- سبحانه وتعالى -- .(2/464)
وأما الأمر الثالث : فإن صلاة الليل صلاة خفية فإن الناس لا ترى قائم الليل غالبا وهو سر بينه وبين ربه ، وقل أن يحافظ على قيام الليل إلا الصادق المخلص لوجه الله -- سبحانه وتعالى -- فهو الذي لا يراه أحد ولا يشعر به أحد غالبا .
رابعا : أن قيام الليل يكون في حال الراحة والاستجمام فهو يؤثر ما عند الله على راحة نفسه وحظوظ نفسه ؛ وفي الحديث الحسن أن الله تعالى يقول لملائكته حينما يقوم العبد يصلي بالليل : (( يا ملائكتي عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه ؟ - نائم مع زوجته ما الذي أقامه - فيقولون : يرجو رحمتك ويخشى عذابك - أي أنه قام لوجهك صادقا في قيامه - فيقول الله : أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي )) فقيام الليل فضله عظيم ، وهو أفضل من صلاة النهار .
قال رحمه الله : [ والنصف الأخير أفضل من الأول ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بين أن الثلث الأخير ينزل فيه الله -- عز وجل -- نزولا يليق بجلاله وكماله وعظمته إلى السماء الدنيا وينادي : هل من داع فأستجيب دعوته ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ هل من سائل فأعطيه سؤله ؟ حتى ينبلج الفجر.
الشاهد من هذا أن هذا الوقت فُضّل:
أولا : لورود النص .
وثانيا : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- داوم عليه في آخر الأمرين ؛ ولذلك كان يوتر في أول الليل ووسطه . قالت أم المؤمنين : (( وانتهى وتره إلى السحر )) فمعنى ذلك أنه انتهى في آخر الأمر إلى آخر الليل ، وتفضيل آخر الليل .
وثالثا : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سئل أي الدعاء أسمع ؟ قال : (( جوف الليل الآخر )) ، وقال للصحابي: (( إن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن )) هذا كله يفضل آخر الليل .(2/465)
قال رحمه الله : [ وصلاة الليل مثنى مثنى ] : شفعية أي أنه يسلم من شفع إلا إذا أراد الوتر أوتر، فيصلي أربعا متصلة مثنى مثنى المراد بها أن تكون زوجية ؛ لأن المثنى هو ما صحت قسمته على الاثنين يعني مثلا يصلي ركعتين ويسلم، يقوم بركعتين ويقوم بأربع وست وثمان وعشر فيكون تسليمه من الشفع أو فعله لها على الشفع يعني شفعية ؛ فقوله عليه الصلاة والسلام : (( صلاة الليل مثنى مثنى )) أنها تكون شفعية في التسليم حتى يوتر ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام بعد ذلك : (( فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة )) يصلي ركعتين ركعتين ، أو أربعا متصلة ، أو ستا أو ثمانيا ؛ كل ذلك جائز أن يكون العدد شفعياً ، والمراد بقوله : مثنى مثنى المنع من الوتر وتكراره على سبيل التكرار بمعنى أنه لا يسلم من الوتر إلا في وتره ؛ لقوله في الحديث الآخر الذي يفسر هذا : (( لا وتران في ليلة )) لأنه إذا أوتر وترين فقد شفع .
قال رحمه الله : [ وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم ] : وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم في النافلة ، وأما في الفريضة فلو صلى قاعدا فعلى حالتين :
إما أن يكون معذورا فأجره كامل ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا مرض العبد أو سافر كتب له عمله )) وإن كان غير معذور فصلى قاعدا لم تصح صلاته ؛ لقوله : (( صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم )) في حديث الصحيح يدل على أن الأفضل أن يصلي قائما، فإن لم يستطع صلى قاعدا ، وإذا أراد أن يصلي قاعدا وهو مستطيع القيام فلا يفعل ذلك إلا في النافلة ؛ لأن الفريضة كما تقدم معنا القيام فيها ركن .
قال رحمه الله : [ الضرب الرابع : ما تسن له الجماعة ، وهو ثلاثة أنواع ] : ما تسن له الجماعة من النوافل وهو ثلاثة أنواع إجمال قبل البيان والتفصيل .(2/466)
قال رحمه الله : [ أحدها التراويح وهي عشرون ركعة بعد العشاء في رمضان ] : التراويح مأخوذة من الراحة ؛ لأنهم كانوا يصلون ويطيلون في الصلاة ، فكانوا يتروّحون فتارة يتروحون بين كل تسليمة وتسليمة من كل ركعتين كما يفعل أهل المدينة وبعضهم كانوا يتروح بالطواف كما يفعله أهل مكة والقصة في ذلك مشهورة ومعروفة حتى في الروايات عن الإمام أحمد والإمام مالك من نقل أصحابهم وهي موثقة مشهورة .
فالشاهد من هذا أنها سميت تراويح لوجود الراحة والاستجمام ، وكان السلف يطيلون في قيامهم وكانت صلاتهم بالتراويح فيها تشبه بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولذلك وصفت عائشة رضي الله عنها قيامه فقالت : ((كان يصلي أربعا لا تسألوا عن حسنهن وطولهن )) فيقرأ البقرة وآل عمران والمائدة في ركعة واحدة حتى إنه همّ الصحابي بأمر سوء قيل : ما هممت قال هممت أن أنصرف وأدعه من طول القيام وهذا لا يطيقه كل أحد .
فالشاهد من هذا أنهم كانوا يقومون الليلة على هذا فيتروحون يحتاجون إلى الراحة ، فسميت تراويح من أجل هذا ، قوله رحمه الله : [ وهي عشرون ركعة ] ا كان المنبغي أن يقال وهي إحدى عشرة ركعة على المنقول كما ذكرنا عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، لكن المداومة على ثلاث وعشرين مع اعتقادها وتعينها والإنكار على من خالفها والإلزام بها بدعة . نقول : أبدا ما نزيد على ثلاث وعشرين ولا ننقص عن ثلاث وعشرين هذا بدعة ؛ لأنه نفس الحكم ليس هناك تحديد من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولا تحديد في الكتاب والسنة ، فالمسألة بين الإفراط والتفريط: إذا صلى ثلاثا وعشرين وقصد بها أن يخفف على الناس من إحدى عشر ركعة أنه لو صلى إحدى عشر ركعة احتاج أن يطيل قيامه فجعلها ثلاثا وعشرين وقال : إن هذا له أصل من فعل السلف ولم يعيّن ولم ينكر على من زاد أو نقص فإنه لا بأس بذلك ولا حرج .(2/467)
بقي اعتراض أن يقال طيب : كونهم التزموا الثلاث وعشرين في القيام . نقول : إن التزام العدد المعين في القيام له أصل من السنة ؛ بدليل أنه كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة ؛ فدل هذا على جواز أن يحدد المسلم لنفسه شيئا يستديم عليه ؛ لقوله في السنة الأخرى لما سئل عليه الصلاة والسلام عن أحب العمل قال : (( ما كان ديمة )) فجعله مداوما عليه العبد فلا بأس أن يداوم على عدد معين لا يعتقد فضله إلا بنص؛ كأن يداوم على إحدى عشرة ركعة لاعتقاد الفضل لورود النص ، لكن لو داوم على ثلاث وعشرين على خمس وعشرين على خمس عشرة على سبع عشرة وأراد أن يثبت له ذلك لأنه يتناسب مع ما يقرأه من الأجزاء وكان ورده فلا بأس وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من نام عن ورده )) وفي اللفظ الآخر في صحيح مسلم : (( من نام عن حزبه )) وهذا كان السلف يحزبون القرآن ويجعلون له ترتيبا معينا ، فإذا جعل له ترتيباً لا يعتقد فيه فضيلة ومزية بعينه فلا بأس ولا حرج .
إذاً لا يجوز أن يعتقد أنه لا تراويح إلا بهذا العدد تعيينا ، لا الإحدى عشر ولا الثلاث والعشرين ، لكن لو أردنا أن ندل الناس على الأفضل فنقول : إحدى عشرة أفضل من أن نقول ثلاث وعشرون ، فلو قلنا إن التراويح إحدى عشرة ركعة ؛ فهذا تأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .(2/468)
أما الاعتذار عن قول المصنف ثلاث وعشرون فهو للرواية ، كأنه رأى أن هذه السنة لما فعلت في عهد عمر - رضي الله عنه - وجمع عمر الناس وجاءت الرواية عن السائب أنه جمعهم على أُبي جمع الناس على ثلاث وعشرين وهذه الرواية إن كان فيها انقطاع كصنعة حديثية وجاء ما يشهد لها من أسئلة السلف والمرويات عنهم ؛ فإن هذا أصل عند أهل العلم رحمهم الله على أنه لا بأس ؛ لأنه في عهد عمر - رضي الله عنه - وهذه سنة عمرية ، أقرهم عمر على ذلك وثبتوا على ثلاث وعشرين فاستحبوه ، خاصة عند الحنابلة بفعل الصاحب أو قوله أو إقراره بشيء من سكوت الصحابة عن ذلك يقوّي هذا ، فجعلوه مستحبا لا بمعنى الإلزام ، فإذا قُصد منه الإلزام فهو بدعة ولا يشك في هذا أنه لا يصح لأحد أن يلزم الناس بعدد لم يلزمه الشرع به ؛ وعليه يفصّل في هذه المسألة من هذا الوجه .
قال رحمه الله : [ الثاني صلاة الكسوف ] : الثاني مما تشرع له الجماعة صلاة الكسوف ، فصلاة الكسوف تصلى جماعة وتصلى فرادى في اختيار طائفة من أهل العلم ؛ والدليل على جواز صلاتها جماعة وفرادى السنة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في الصحيحين : (( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم )).
(( فصلوا )) فهذا خطاب للأمة جماعة وفرادى . وأما مشروعية الجماعة فيها فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف جماعة ، فيشرع أن يصليها منفردا كما لو كان في الصحراء أو في سفر ورأى الشمس كسفت ورأى القمر مخسوفا فإنه يصلي وحده ولا بأس بذلك ، أو أراد أن يصلي في بيته، وعلى القول بأنه إذا انتهت الجماعة شرع أن يصلي الناس فرادى حتى ينجلي ؛ كل هذا لا بأس به ولا حرج.
وأما السنة من فعله عليه الصلاة والسلام فإنه صلاها جماعة ، ونودي بالصلاة جامعة ، وهذا يدل على أنه يجمع لها .(2/469)
قال رحمه الله : [ فيكبر ويقرأ الفاتحة ] : فيكبر في صلاة الكسوف والخسوف ، ويقرأ الفاتحة ؛ كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وقد سمى الكسوف صلاة ؛ لأنه قال : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وسمى الكسوف صلاة تعين أن يصلي صلاة الكسوف بالفاتحة ، وأنها لا تصح بدون فاتحة .
قال رحمه الله : [ وسورة طويلة ] : ويقرأ سورة طويلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طوّل في صلاة الكسوف .
قال رحمه الله : [ ثم يركع ركوعا طويلا ] : يقرأ قراءة طويلة هذا يختلف باختلاف أحوال الكسوف والخسوف ، والانتباه للكسوف والخسوف، فإذا كان الزمان طويلا أطال المقرأ ، ويجعل صلاته متناسبة مع قدر الكسوف إن أمكن معرفته ، وهذا بالسنن الظاهرة وليس من رجم الغيب .(2/470)
وأشار شيخ الإسلام رحمه الله في المجموع إلى مسألة معرفة وقت الكسوف والخسوف ، وأن هذا يمكن أن يجري بالحساب ؛ لأن الله قدر الأشياء ، وعلم باستقراء السنة الكونية معرفة ذلك ، لكن هذا لا يمنع أن يكون الزمان زمان فساد فيوافق الكسوف ذلك الفساد ، فيكون تخويفا من الله لعباده ، وعلى كل حال يطيل المقرأ ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطال المقرأ ، وكذلك يطيل الركوع ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطال ركوعه في الركعة الأولى ، وهذا أطول ما يكون في الركعة الأولى ، ثم إذا رفع رأسه من الركوع الأول من الركعة الأولى قرأ بعده وخفف المقرأ عن الركوع الأول، وتكون قراءته قبل الركوع الثاني أخف قليلا من قراءته قبل الركوع الأول هذه هي السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ثم بعد ذلك ركع عليه الصلاة والسلام ، ثم سجد ثم قام فقرأ دون القراءتين في ركعته الأولى ، ثم ركع ثم رفع ثم قرأ دون مقرئه الأخير ، ثم ركع عليه الصلاة والسلام وجعل الركوع متناسبا مع المقرأ - صلوات الله وسلامه عليه - هذه هي السنة : أنها أربعة ركوعات في ركعتين بأربع سجدات ثم يتشهد ويسلم .
قال رحمه الله : [ ثم يرفع فيقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون التي قبلها ثم يركع فيطيل دون الذي قبله ، ثم يرفع ثم يسجد سجدتين طويلتين ، ثم يقوم فيفعل مثل ذلك فتكون أربعة ركوعات وأربع سجدات ] : المنبغي أثناء الكسوف وأثناء الخسوف أن يحقق العبد مقصود الشرع ، ومقصود الشرع الخوف ، وإن رؤية هاتين الآيتين دون أن يتأثر الإنسان ودون أن يخاف دليل على موت القلب وضعف الإيمان فيه ؛ لأن الذي يؤمن بالله يخاف من آياته ؛ كما قال تعالى : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } فإذا قسا القلب فإنه لا يتأثر بهذه الآيات ، ولكن إذا عظم الإيمان في القلب وعرف العبد عظمة الله - سبحانه وتعالى - وكملت هيبة الله في قلب العبد خاف .(2/471)
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا هبت الريح دخل وخرج وتغير حاله حتى إنه يعرف من حاله الخوف ، فيقال له في ذلك فيقول : أخشى أن تكون مثل ريح عاد أي أنها ريح مهلكة والعياذ بالله ، وهذا كله من عدم الأمن من مكر الله وشدة الخوف من الله - سبحانه وتعالى - .
فالواجب أن يعرف المسلم أولاده وزوجه وأهل بيته الخوف وأن ينشر هذا الخوف في أولاده ، وللأسف أن يوجد من ضعاف الإيمان من ينزع من الناس هذا الخوف ، ويجعل إعلان حدوث هذه الآيات بطريقة يقول ينبغي أن نسل من قلوب الناس الخوف ، فهو يسل ما قصد الشرع وجوده؛ لأن الناس إذا خافوا سلموا ، وإذا سلموا أمنهم الله بأمانه ، وحفظهم إذا نزل البلاء أن يعمهم جميعا فيسلم أهل الخوف بتسليم الله لهم ، فمن خاف الله - عز وجل - واتقاه ؛ فإن الله يحفظه خاصة إذا نزلت المصائب والكوارث ، فإن أهل الخوف يحفظهم الله - عز وجل - بعزته وقدرته ولطفه .
فينبغي أن يحقق مقصود الشرع من وجود الخوف ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يخوف بهما عباده )) فدل على أن المقصود من هذه الآيات التخويف ؛ وقال سبحانه في كتابه : { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } وتشرع هذه الصلاة للأسباب التي وردت السنة بها وهي خسوف القمر وكسوف الشمس .
قال رحمه الله : [ الثالث صلاة : الاستسقاء ] : تشرع الصلاة لخسوف القمر وكسوف الشمس ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لا ينخسفان ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلوا )).(2/472)
وتشرع الصلاة كذلك لآيات التخويف كالزلزلة وفيها عن عمر - رضي الله عنه - ، ولها أصل يقول به طائفة من السلف، ولكن لا تشرع لغير آيات التخويف ، فمثلا ما حدث في القريب من جريان المشتري بين الشمس وبين الأرض لا يعتبر موجبا لصلاة الكسوف . فالبعض صلاها ، وهذا لا يعرف له أصل من كلام العلماء رحمهم الله . هم ذكروا الآيات آيات التخويف كالزلزلة ، وصلى بعض السلف في المطر الليلة المظلمة العاتية التي فيها الريح العاتية التي يخشى منها العذاب والبلاء ، هذه هي التي تشرع فيها الصلاة أشبه باللجوء إلى الله - سبحانه وتعالى - والتضرع إليه - جل جلاله - .
أما بالنسبة لهذه الآية التي يمكن حتى لا ترى إلا بوسائل مكبرة ويراها خاصة الناس ليست هي من الآيات الظاهرة ليست هي من آيات التخويف ، وعلى هذا لا يظهر صواب صلاة الكسوف ؛ لأنه صلاة خاصة تشرع كما ورد النص : (( لا ينخسفان ولا ينكسفان )) فهي لخسوف القمر وكسوف الشمس ، فإذا حصلت آيات التخويف شرع أن تصلى .
قال رحمه الله : [ الثالث صلاة الاستسقاء ] : الاستسقاء استفعال من السقيا وهو طلب السقيا ، والمراد طلب الغيث والمطر من الله - سبحانه وتعالى - .(2/473)
شرعت هذه الصلاة بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما صلى بالناس ، وقد اشتكوا إليه الجدب، فوعدهم عليه الصلاة والسلام ، وخرج إلى المصلى ، وكان مصلاه في شرقي المسجد إلى جنوبه وهو المعروف الآن بمسجد الغمامة ، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى المصلى ، وأخرج له منبره فخرج كما قال ابن عباس : (( متبذلا متضرعا متخشعا )) أي لله - عز وجل - ، فصلى بالناس صلاة الاستسقاء ، ثم تضرع وسأل الله - عز وجل - ، فما نزل من منبره إلا والغيث على رؤوس الناس ، فلما أصابهم الغيث أسرعوا إلى الكَنّ أي الشجر ونحوه حتى يسترهم من المطر ، فلما رآهم كذلك ضحك عليه الصلاة والسلام حتى بدت نواجذه وقال : (( أشهد أني رسول الله )) هذه السنة حفظت في عهده عليه الصلاة والسلام أنه استسقى بالناس ، فتشرع لسبب وهو وجود القحط والجدب ، فإذا حصل الجدب والقحط أمر الناس بالصدقة والاستغفار والتوبة ووعدهم ، وهذه السنة كانت فيمن قبلنا ، فاستسقى موسى بقومه، واستسقى الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوات الله وسلامه عليه ، وجاء شرعنا بهذه السنة ، وجاءت السنة بطريقة خاصة في الإسلام بالصلاة على هذه الصفة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(2/474)
قال رحمه الله : [ وإذا أجدبت الأرض واحتبس القطر خرج الناس مع الإمام متخشعين متبذلين متذللين متضرعين ] : إذا أجدبت الأرض : قحط الناس واحتبس المطر إذا معنى ذلك أنها تشرع لسبب ، ولا تشرع إلا عند وجود هذا السبب : الجدب والقحط ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في الاستسقاء كما في الحديث الصحيح : (( إنكم شكوتم إلي جدب دياركم وتأخر المطر عنكم عن إبانه )) يعني عن زمانه ، وأكثر ما يكون هذا في الزمان الذي جعله الله للغيث ، وهي المواسم التي بقدرة الله - عز وجل - يكون فيها الغيث ، فإذا لم يأت فيها الغيث . فالمؤونة للناس فلهم أن يشتكوا إلى الإمام ويخرجوا مع إمامهم، ولذلك تشرع هذه الصلاة مع الإمام ولا يفعلها أفراد الناس فيذهب كل شخص يجمع مجموعة ويذهب يصلي يستسقي بهم؛ لأن هذه الصلاة للجماعة تضرع لله يخرجون متذللين متبذلين. البِذْلة أي أنهم لا يلبسون لباسا ذا حال كيوم الجمعة والعيدين، وإنما هو لباس البذلة يعني فيه تذلل لله - سبحانه وتعالى - وإظهار للفاقة والمسكنة، فلا يخرج الإنسان بأحسن ما يجد من الثياب، وإنما يخرج بثوب البذلة الذي لا يضر من يصلي معه، ولو خرج بثوب مهنته الذي يستره؛ لأن هذا أبلغ في دلالة الفقر والفاقة لله - عز وجل - والمراد أن يجتمع القول مع الفعل ومن هنا ابن عباس رضي الله عنهما يقول : (( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستسقاء متبذلا )) يعني لباس البذلة ليس بذي حال كحاله في يوم الجمعة أو حاله في العيدين، فيخرج الناس على هذه الصفة .(2/475)
البعض يخرج إلى صلاة الاستسقاء وهو متطيب متعطر وكأنه في يوم الجمعة أو يوم عيد هذا يوم تضرع ويوم تبذل، والفقير إذا رأى الغني القادر على المال بإذن الله - عز وجل - يراه في هذا اليوم قد لبس لباس بذلته أحس بذلة هذا المخلوق للخالق، وظهر من حال الناس استكانتهم وتضرعهم لله - عز وجل - . ومن هنا وصف ابن عباس رضي الله عنهما رسول الأمة بأنه كان متبذلا يعني لباسه لم يكن بذي حال ، بل كانت هيئته عليه الصلاة والسلام موافقة مع هيئة الافتقار لله - عز وجل - .
متخشعين: يكون فيهم الخشوع، والسنة أن تصلى في بَرّ إن تيسر خارج العمران؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مصلاه، ويجوز صلاتها في المساجد فيخرجون، والخروج فيه إظهار الفاقة أيضا، وفيه تأسٍّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالأنبياء من قبله من كان يخرجون للاستسقاء؛ لأنهم إذا خرجوا وظهروا على العمران كان حالهم حال شكوى، وشعر الناس بشدة الأمر، ويخرجون معهم الصغار والضعفاء ويخرج معهم من عرف بالصلاح والخير من العلماء والأخيار لكي يظهروا لله - عز وجل - فاقتهم، ولاشك أنه إذا اجتمع دلالة القول والحال فإن الله أرحم بعباده منهم بأنفسهم - جل جلاله - وتقدست أسماؤه.
فوصف الخروج بأنه خروج تبذل وخشوع المراد به أن يجتمع الحال والمقال على الشكوى والفاقة لله - عز وجل - .
قال رحمه الله : [ فيصلي بهم ركعتين كصلاة العيد ] : فيصلي بهم الإمام ركعتين كصلاة العيد .(2/476)
قال رحمه الله : [ ثم يخطب بهم خطبة واحدة ] : ثم يخطب بهم خطبة واحدة من العلماء من قال إنها خطبة ، ومنهم من قال: إنها سؤال ودعاء، والمحفوظ عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه رقى المنبر وصلى بالناس ركعتين، ثم رقى المنبر وحمد الله - عز وجل - فقال: (( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، ثم استسقى فقال: إنكم شكوتم إلي جدب دياركم وتأخر المطر عنكم عن إبانه، وإن الله أمركم ووعدكم بالإجابة، واستسقى عليه الصلاة والسلام فقال: (( اللهم اسقنا غيثا مغيثا عاما طبقا سحا غدقا عاجلا غير آجل ولا رائث، تنبت لنا به الزرع وتدر لنا به الضرع، سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا غرق ولا هدم )) فما فرغ عليه الصلاة والسلام من سؤاله وتضرعه حتى نزل الغيث وحول رداءه عليه الصلاة والسلام، فما نزل من منبره إلا والغيث على رؤوس الناس -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- .
قال رحمه الله : [ ويكثر فيها من الاستغفار وتلاوة الآيات التي فيها الأمر به ] : تكون الخطبة تضرعا وابتهالا لله - عز وجل - كما هو اختيار طائفة من العلماء ، ومن هنا نبه المصنف إلى هذا المعنى أنه يكثر فيها من الاستغفار والتضرع وسؤال الله - عز وجل - الرحمة واللطف بعباده .(2/477)
قال رحمه الله : [ ويحوّل الناس أرديتهم ] : يحوّل الرداء فيجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، وهذا من باب الفأل، والفأل محمود شرعا: أن الإنسان يتفاءل ويحسن ظنه بالله؛ لأنه من حسن الظن بالله؛ قال - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى : (( أنا عند حسن ظن عبدي بي فمن ظن بي خيرا كان له )) فهو إذا حوّل رداءه يتفاءل أن الله سيحول الحال، من حال الضيق إلى حال السعة، ومن حال القحط والجدب إلى حال الغنى واليسار، ولا يعلم كثير من الناس الآن ما هم فيه من النعمة حتى إن البعض يخرج للاستسقاء ولا يشعر، ولكن والله لو أنه كان صاحب حرث وزرع أو كان في باديته مع بهائمه وأنعامه، لا يجد ما تطعم البهيمة، وكيف يمسي والآن الناس يأتيهم الشعير من الخارج والأرزاق تأتيهم، لكن لو أن الناس شعروا كيف يكون القحط، وكيف تكون مؤونته، وكيف يكون حاله، يعرف الإنسان كيف إذا استسقى ربه، وسأل ربه يسأله بصدق وإخلاص، الناس اليوم في غفلة حتى إن بعضهم -نسأل الله السلامة والعافية- يأتي إلى الاستسقاء وهو لا يفكر هل ينزل الغيث أو لا ينزل؛ لأنه لا يشعر، لا يعرف الهمّ إلاّ من يكابده، الذي يعرف حقيقة هذا الشيء بل يجد عناءه وضره، فتفاءل عليه الصلاة والسلام بتحوّل الحال، فإذا ضاقت الحال بالإنسان وأصبح القحط وانقطعت السبل تنقطع السبل وتتأخر الأرزاق حتى إن الناس في بعض أزمنة القحط لا يستطيعون أن يجدوا حتى ما يسد الرمق، وقد يوشكون على الهلاك والموت، وبلغ حتى في بعض القحط أنه -والعياذ بالله- ربما تؤكل الكلاب والقطط ولا يستعيب الناس في ذلك من شدة ما يجدون -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا القحط بلاء عظيم فيحتاج إلى تضرع صادق وسؤال صادق يجتمع فيه دلالة الحال والمقال، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحيي في قلوب أصحابه حسن الظن بالله - عز وجل - ، فلما خرج إلى الاستسقاء دعا ربه واثقا مستيقنا صلوات الله وسلامه عليه، ثم تفاءل بصورة(2/478)
الحال، فحوّل رداءه أمام أصحابه -صلوات الله وسلامه عليه- فكأنه يفتح أبواب الأمل عليهم أن الله سيحول ما بهم، وهذه هي السنة أنه يحول رداءه فيجعل ما على يمينه يسارا .
قال رحمه الله : [ وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا ويؤمروا أن ينفردوا عن المسلمين ] : إن خرج معهم أهل الذمة كاليهود والنصارى لم يمنعوا أن يستسقوا؛ لأن الكل فقير إلى الله - عز وجل - لا دليل على أننا نمنعهم أن يدعو الله - عز وجل - ويستسقوه،ولكن ينفردون عن المسلمين، ولا يكونون مع المسلمين؛ تمييزا للمسلمين عنهم، ويستسقي المسلمون لوحدهم ولا تكن لهم منة ظاهرة .
قال رحمه الله : [ الضرب الخامس : سجود التلاوة ] : الضرب الخامس: سجود التلاوة، وهو من التطوع، فبعد أن فرغ من الطاعة الكاملة في الصلاة سواء كانت جماعة أو فرادى شرع رحمه الله في أجزاء الصلاة كسجود التلاوة، وهو السجود الذي يشرع في تلاوة القرآن، قد سجد عليه الصلاة والسلام في تلاوته للقرآن، وسجود القرآن توقيفي، فليس لأحد أن يسجد عند آية إلا ما سجد فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحفظت هذه السجدات في السنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال رحمه الله : [ وهو أربع عشرة سجدة ] : هذا السجود ليس بواجب، وإنما هو مستحب؛ ولذلك قرأ عمر - رضي الله عنه - السجدة على المنبر ، فنزل وسجد فسجد الناس معه، ثم لما كانت الجمعة الثانية قرأ سجدة أيضا فتهيأ الناس أن يسجدوا فقال : (( على رسلكم، إنما أردت أن أُعْلِمَكُم أنها ليست بعزيمة )) أي ليست بواجبة، فالسجود مستحب وليس بحتم ولا واجب .
سجود التلاوة : السجود الذي يشرع بسبب التلاوة .
قال رحمه الله : [ وهو أربع عشرة سجدة ] : وهو أربع عشرة سجدة، وقيل: خمس عشرة سجدة، والخلاف في سجدة " ص " وبعضهم يقول إحدى عشرة سجدة .(2/479)
الأولى في الأعراف، والثانية في الرعد، والثالثة في النحل، والرابعة في الإسراء، والخامسة في مريم، واثنتان في الحج في أول الحج وآخر الحج، ثم سجدة الفرقان، ثم سجدة النمل، ثم سجدة السجدة، ثم سجدة فصلت، ثم سجدة النجم، ثم سجدة الانشقاق، ثم سجدة العلق . هذه أربع عشرة سجدة أقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - عبدالله بن عمرو بن العاص القرآن وسجدها، والخامسة عشرة سجدها أيضا وهي سجدة (ص) وكان بعض الصحابة رضوان الله عليهم يستدل على سجدة (ص) {فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } فهذه السجدة يستدل لها بقوله تعالى : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وداود ممن أمر بالاهتداء به والاقتداء ، وعلى كل حال هذه خمس عشرة سجدة، تعتبر من عزائم السجود، اختلف طبعا في سجدتي الحج أسقط الإمام أبو حنيفة رحمه الله برحمته الواسعة السجدة الثانية منهما { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } وأبقى سجدة (ص) فصارت له أربع عشرة سجدة، فالخلاف بين الجمهور وبين الإمام أبي حنيفة في السجدة الثانية من الحج. عند الجمهور يسجد وعنده لا يسجد. وفائدة الخلاف في الصلاة أنه إذا كان في الصلاة وكان لا يرى أنها سجدة لا يسجد؛ لأنه إذا سجد في هذه الحالة يكون زاد ركنا وتبطل صلاته، وهذا وجه؛ لأنه إذا كانت السجدات يعتقدها يفعلها وما لا يعتقده لا يفعله حتى لا يؤدي إلى بطلان صلاته.
قال رحمه الله : [ ويسن السجود للتالي ] : للتالي الذي يقرأ القرآن. يسن له أي ليس بواجب .(2/480)
قال رحمه الله : [ المستمع دون السامع ] : ويسن للمستمع أن يسجد دون السامع. المستمع طبعا يلقي بسمعه ويطلب سماع الشيء هذا مستمع. وأما السامع فإنه من يقع الشيء في أذنه من القول سواء يريده أو لا يريده فهو سامع، ومن هنا لو أن شخصا مر بعزف محرم معازف محرمة مر في الطريق فسمعها لم يأثم، لكنه إذا استمع إليها وأصغى وطلبها أثم، وقد جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان يمر بالسوق، فتسمع المعازف فيضع أصبعيه في أذنيه، ثم يقول لنافع مولاه: هل انقطع الصوت؟ فيقول: لا بعد حتى يجاوز السوق. فيقول: انقطع الصوت؟ فيرفع أصبعيه مع أن نافعا كان يسمع، هل انقطع الصوت؟ وإنما تورع ابن عمر وتعاطى الكمال وجعل نافعا على حد الجواز وهو أن يكون سامعا ولم يكن رحمه الله مستمعا، فهناك فرق بين السامع وبين المستمع، ولذلك لو أنه ألزم الإنسان بمنكر فجلس عند قوم يغتابون ولا يمكنه أن يقوم، فجلس في مكان عمل ومحتم عليه أن يجلس في هذا المكان، وهذا يغتاب أو يسب أو يشتم ولا يمكنه أن يسكته ولا يمكنه أن يتعرض له فهو سامع من غير مستمع، لا يلقي لهذا الكلام بالا ولا يستمع إليه فلا يأثم فهو سامع من غير مستمع، فيشرع للمستمع للقرآن دون السامع فلو كانوا في حلقة يستمعون سجد القارئ وسجد من معه، فإذا لم يسجد القارئ لم يسجد المستمع دون التالي لابد وأن يكون التالي ساجدا حتى يسجدوا معه، وأما بالنسبة للسامع فإنه لا يسجد أي لا يتبعهم في سجوده وإن أراد أن يسجد معهم بعد ما سمع فلا بأس .
قال رحمه الله : [ ويكبر إذا سجد وإذا رفع رأسه ثم يسلم ] : ويكبر عند سجوده وإذا رفع من سجوده سواء كان في الصلاة أو غيرها على أصح قولي العلماء رحمهم الله وفيه حديث أبي داود في تكبيره عليه الصلاة والسلام .(2/481)
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها ] : يقول المصنف رحمه الله : باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها : صلاة الفريضة تقدم أن لها ميقاتا وبينا مواقيت الصلوات الخمس، صلاة النافلة لها ميقات بأن الشرع منع المصلي أن يصلي النافلة في هذه الأوقات، فجاءت عكسية عن صلاة الفرض، فصلاة الفرض يطلب أن يصلي فيها ، وأما صلاة النافلة فإن الأصل جوازها في كل وقت إلا ما خصها الشرع وهذه من الفوارق بين الفرائض والنوافل .
باب الساعات : جمع ساعة .
التي نهي عن الصلاة فيها : أي جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصح عنه أنه نهى أن يصلي فيها المصلي النوافل .
قال رحمه الله : [ وهي خمس ] : وهي خمس: إجمال قبل البيان والتفصيل هي ثلاث إجمالا خمس تفصيلا الإجمال تقول من بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس وارتفاعها قِيْد رمح، ومن بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس ، وحين يقوم قائم الظهيرة وهو منتصف النهار، هذه ثلاثة أوقات. إذا فصّلتها تقول مثلا من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس هذا وقت، ثم من بعد طلوعها إلى أن ترتفع قِيْد رمح، فاحتاجوا لذلك؛ لأنه نهى عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت يظن البعض أنها تجوز النافلة نقول: لازال المنع ساريا إلى أن ترتفع قِيْد رمح، وهذا سنبين دليله، ثم إذا صلى العصر حتى يبتدئ الغروب، ومن غروبها إلى أن تستتم الغروب أو إلى الاصفرار، من الاصفرار إلى أن يستتم الغروب هذان وقتان، وأثناء انتصاف الشمس في كبد السماء .(2/482)
أما الوقت الأول وهو من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس فالحديث فيه في الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (( شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس )) . وكذلك ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس )) . وأما النهي أثناء الطلوع فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان)) فجعل وقت الطلوع ممنوعا، ثم نظرنا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يصلي بعد طلوع الشمس، فوجدناه يتحرى طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح بدليل صلاة الأضحى، فإن صلاة عيد الأضحى تكون من بعد طلوع الشمس، وهذا بالإجماع ابتداؤها، فإذا كانت بعد طلوع الشمس فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في الحديث الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه كان يعجّل الأضحى، ويؤخر الفطر، يؤخر الفطر حتى يتمكن الناس من إخراج زكاة الفطر؛ لأنها تنقطع بالصلاة، ويعجل الأضحى؛ لأنه إذا صليت الصلاة في أول وقتها تمكن الناس من أن يضحوا في الوقت المستحب، وهو الضحوة، والضُّحى إلى الضَّحى ما قبل الزوال بما يخرج من ساعة أو ساعة وزيادة على حسب الصيف والشتاء، فالضُّحى هذا وقته محدود وهو وقت فضيلة ذبح الأضحية، ولذلك سميت عيد الأضحى؛ لأنها تذبح الضحايا فيفضل أن تكون في هذا الوقت، فالناس تحتاج إلى كسب هذا الوقت أن تذبح وتصيب السنة، فعجل عليه الصلاة والسلام الأضحى، لما عجل والصحابي قال : عجل كان عليه الصلاة والسلام يعجل الأضحى ويؤخر الفطر وجعله من السنة . نظرنا إلى التعجيل معناه أنه سيصل إلى أقصى حد الذي هو بداية وقت الجواز، وثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى الأضحى والشمس على قِيْد رمح، وصلى الفطر والشمس على قيد رمحين، فصار التأخير والفارق بينهم بقيد رمح(2/483)
واحد، فدل على أن الطلوع منهي عنه، ولا ينتهي وقته؛ لأنه قال : إذا طلعت فجعل وقت الطلوع منهيا عنه، ولم يفعل عليه الصلاة والسلام بعد الطلوع معجلا إلى أقصى حد إلا في حدود قِيْد الرمح، وإذا ارتفعت الشمس قيد رمح وهذا يأتي في الأرض المنبسطة بحيث لو نظر إليها رأى سمتها من الأرض إلى ارتفاعها عن الأرض بقِيْد الرمح، وذكر بعضهم -بعض أهل الخبرة- يقول: إنه لو كان على أرض منبسطة، وقد أطأ رأسه إلى الأرض وأراد أن يرفع بصره إليها لابد أن يلامس حاجب الشمس، وهذا يحتاج إلى إنسان عنده خبرة، وجرّبته في بعض الأحوال فيها شيء من المقاربة إلا إذا صعب عليه التطبيق لكن هذا ما ذكره البعض عن أهل الخبرة، هذا قِيْد الرمح أن يكون ما بينه وبين الأرض قِيْد رمح وهذا هو وقت ابتداء الجواز هذا بالنسبة للطلوع .
أما بالنسبة إلى ما بعد العصر فإنه يمنع من الصلاة بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وأثناء الغروب حتى يستتم غروبها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس .(2/484)
وأما بالنسبة للوقت الثالث وهو انتصاف الشمس في كبد السماء فثبتت السنة فيه في حديث أبي مسعود عقبة بن عامر البدري -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة )) يقوم قائم الظهيرة يعني أن الظل يمسك عن الحركة فإذا مشت الشمس من المشرق إلى المغرب إلى أن وصلت إلى منتصف كبد السماء أو منتصف النهار في ذلك اليوم تقف، وهذا الوقوف بقدر لحظات ثم تتحرك تزول وإذا زالت تحركت لأنه زال الشميء إذا تحرك هذا الذي تقف فيه هي ساعة كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( فإذا قام قائم الظهيرة فأمسك، فإذا كانت الشمس في كبد السماء فأمسك الصلاة )) لأنه قال له : (( فإذا طلعت الشمس فصل فإن الصلاة حاضرة مشهودة -والحديث صحيح- فإذا انتصف النهار -أي انتصفت في كبد السماء- فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها أبواب جهنم )) أي ساعة عذاب، ولذلك يمسك عن الصلاة فيها، وظاهر النهي العموم سواء في يوم الجمعة أو غيرها، واستثني يوم الجمعة بحديث ضعيف قال به الإمام الشافعي وعن الإمام مالك -رحمه الله- في النقل عنه أنه كانوا في المدينة يرى الناس يصلون في هذا الوقت ولم ينكر، وكره أن يصلي فهو لم يأمر به ولم ينكر؛ لما رأى من فعل الناس عليه؛ والصحيح اتباع السنة في عمومها أن النهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عام وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) وقد نهى عن الصلاة في هذا الوقت ولم يقل إلا يوم الجمعة والأصل في العام أن يبقى على عمومه .(2/485)
قال رحمه الله : [ بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تزول، وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب، وإذا تضيفت حتى تغرب، فهذه الساعات لا يصلى فيها تطوعا ] : لا يصلى فيها التطوع: إذاً لما قال لا يصلى فيها التطوع كأنه جاء بهذا الباب ميقاتاً للصلاة التطوع. الأصل في صلاة التطوع أنها في الليل والنهار وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فإذا صليت العشاء فصلِّ فإن الصلاة حاضرة مشهودة -أي تحضرها الملائكة وتشهدها الملائكة- ثم إذا صليت الفجر فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس فإنها تطلع بين قرني شيطان ، ثم صل فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى ينتصف النهار فأمسك عن الصلاة فإنها ساعة تسجر فيها أبواب جهنم، ثم صلِّ فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى تصلي العصر )) هذا يدل على أن التطوع الأصل فيه جوازه إلا الأوقات التي سمى الشرع وهي الثلاث الخمس بالتفصيل كما ذكر المصنف رحمه الله .
قال رحمه الله : [ إلا في إعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد وركعتي الطواف بعده ] : إلا في إعادة الجماعة في المسجد إذا أقيمت الصلاة : فالأصل في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس الفجر بخيف منى، فرأى رجلين لم يصليا في القوم قال : (( علي بهما فأتي بهما ترعد فرائسهما قال: ما منعكما أن تصليا في القوم ؟ قالا : صلينا في رحالنا . قال : إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما المسجد فصليا فإنها لكما نافلة )) فأمرهما بإعادة الصلاة في المسجد مع الجماعة، وهذا فيه فوائد :(2/486)
أولا : (( قالا صلينا في رحالنا )) فأخذ منه جمهور العلماء رحمهم الله على أن المسافر لا يجب عليه شهود الجماعة حتى على القول بوجوب الجماعة هذا نص واضح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على الصحابي أنه صلى في رحله قد كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، ولأن الله أسقط عن المسافر نصف الصلاة وهي الركعتان؛ لأن السفر غالبه مشقة، فمن باب أولى أن تسقط عنه الجماعة، نبهنا على هذا لأن البعض ينكر على بعض المسافرين إذا لم يصلوا مع الجماعة إذا نزلوا، ولكن الحديث واضح وقد نزل عليه الصلاة والسلام بخيف منى الثلاثة الأيام -صلوات الله وسلامه عليه- ونزوله نزول استقرار وليس خاصا بحال نزول الارتحال المعروف الذي يكون في أثناء المحطات ونحوها بل هو نزول استقرار؛ لأن خيف منى نزل عليه الصلاة والسلام فيه في أيام التشريق -صلوات الله وسلامه عليه- ، وإذا أسقط الله عن المسافر نصف الصلاة وأسقط عنه الجمعة وهي أعظم من الجماعة فمن باب أولى هذه الأمور؛ لأن الشرع نظر إلى أن السفر فيه مشقة وعناء فخفف عن المسافر من هذا الوجه .(2/487)
الأمر الثاني: أنه إذا حضر مع الجماعة صلى معهم، وهذا من محاربة الإسلام للشذوذ، فإن مساجد المسلمين وأهل السنة إذا حضرت يصلى مع الإمام ولا ينفرد عنه، حتى إن المأموم إذا جاء مسبوقا يدخل مع الإمام إن كان في ركوع فركوع وإن كان في سجود فسجود، وهذا هو المعروف في مساجد المسلمين وأهل السنة حتى جاء أهل البدع قطع الله دابرهم فأصبحوا يقطعون صفوف المسلمين ويقوم بعضهم والإمام ساجد ويركع والإمام قاعد -قاتلهم الله - فيما يفعلونه من إفساد جماعة المسلمين والتشويش على عباد الله وأولياء الله في بيوت الله - عز وجل - وإلا ما عرف ما أدركنا من فعل المسلمين أنهم يصلون مع الجماعة ولا يشذ أحد عن الجماعة ، وقال له : ((إذا حضرت الصلاة فصلها لوقتها ثم صلها معهم ولا تقل إني صليت )) كل هذا حتى لا يتهم الإنسان بالشذوذ ويستبرئ لدينه وعرضه، ومحاربة للشذوذ عن جماعة المسلمين، فالأصل يقتضي أنه لو صلى في رحله لا يعتذر، إنما يصلي مع الجماعة، فاشترط أن يكون في مسجد الجماعة، فلو أنه صلى في مسجد ثم جاء إلى قوم في بر وهم جلوس فهذا ليس بمسجد، فإن كانوا جماعة كاملة وصلوا فإنه يصلي معهم في قول بعض العلماء بناء على قوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا صليتما في رحالكما )) ومنى ليست باستقرار، وكان الوالد رحمه الله وبعض المشايخ يقول مشايخنا يقول : لا، بل إن صلاته عليه الصلاة والسلام صلاة استقرار عليه الصلاة والسلام؛ لأن منى كان به السكن، والأصل يقتضي أنه لا تعاد الصلاة، وقد جاء في حديث ميمونة رضي الله عنها ((أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تعاد الصلاة مرتين )) الأصل تقتضي أنها ما تعاد الصلاة لكن لأجل جماعة أمر بإعادتها فيعيدها ولو صلى في رحله سواء صلى منفردا في رحله أو صلى مع جماعة أخرى، ثم حضر الجماعة الثانية فقال : (( إذا أقيمت)) أي يلزمه أن يكون مع الجماعة .(2/488)
قال رحمه الله : [ وركعتي الطواف بعده ] : وركعتي الطواف بعده أي بعد الطواف فللعلماء فيها قولان :
فمن أهل العلم من قال إنها مستثناة من النهي.
ومنهم وهو مذهب بعض الصحابة كعائشة وغيرها -رضي الله عنها- وهو مذهب الشافعي وأيضا في مذهب الحنابلة مذهب طائفة من أصحاب الإمام أحمد رجحوه .
ومنهم من قال البقاء على الأصل وهو مذهب الجمهور، وفيه سنة عمريّة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه طاف بعد صلاة الصبح وأخر ركعتي الطواف إلى ذي طوى -وذي طِوَى وطُوَى وطَوَى- الوادي الذي يعرف الآن بالزاهر، معناه أنه طاف طواف الوداع ثم لم يصل ركعتي الطواف في المسجد وانتظر حتى طلعت الشمس ، فرجح هذا الخليفة الراشد النهي على الأمر.
وأما حديث : (( يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف وصلى بالبيت أي ساعة شاء من ليل أو نهار)) فإن هذا الحديث عام وحديث النهي خاص والمراد به ؛ لأن الأحاديث تحمل على دلالتها حديث : (( يا بني عبد مناف )) بيان لأنهم كانوا سَدَنَة البيت مسؤولين عنه فأمروا بتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقوموا بواجبهم من رعاية البيت فالعموم واضح فيه لم يأت بخصوص هذا الوقت المنهي عنه فقال : (( لا تمنعوا أحدا طاف وصلى بالبيت أي ساعة شاء من ليل أو نهار )) فهذا أصل لا يمنع أن يخصص منه ما ورد النص فيه بعينه فجاء النص لا صلاة بعد الصبح ولا صلاة بعد العصر والقاعدة أولا من ناحية الثبوت حديث (( يا بني عبد مناف )) دون حديث الصحيحين (( لا صلاة بعد صلاة العصر )) فالجمهور رجحوا حديث الصحيحين لقوته سندا .
ثانيا : أن العموم مخصص .
وثالثا : أن القاعدة (( إذا تعارض النصان الحديثان عمل الخلفاء الراشدون أو أحدهما بأحد النصين كان مرجحا له )).(2/489)
ورابعا : أن صلاة الركعتين في باب الأمر، والامتناع من الصلاة بعد الصبح في باب النهي؛ فإذا تعارض الأمر مع النهي قدم النهي على الأمر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا )) فجعل مرتبة النهي مقدما هذه كلها مرجحات للجمهور، وهي في مسألة صلاة الأسباب عموما، وعلى كل حال من صلى يتأول حديث (( يا عبد مناف )) لا ينكر عليه ومن ترك الصلاة حتى تطلع الشمس خروجا من الخلاف واستبراء فلا حرج ولا عتبى عليه .
قال رحمه الله : [ والصلاة على الجنازة ] : كذلك الصلاة على الجنازة والصلاة على الجنازة هي من أخف ما يكون؛ لأن الصلاة على الجنازة لا ركوع فيها ولا سجود، والنهي عن الصلاة بعد العصر، والصلاة بعد الصبح إنما هو لخوف مشابهة المشركين؛ لأنهم يسجدون للشمس عند طلوعها ويسجدون للشمس عند غروبها، فُنهي أثناء الطلوع وأثناء الغروب ونهي بعد صلاة الصبح من باب النهي عن الوسيلة ، وعلى هذا صلاة الجنازة لا ركوع فيها ولا سجود، فكان أمرها أخف، وهناك عن بعض الصحابة استثناء لها فهي أخف من صلاة الركوع والسجود .
قال رحمه الله : [ وقضاء السنن الرواتب في وقتين منها وهما بعد الفجر وبعد العصر ] : على الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الفجر في رغيبته؛ لأنه جاء النص باستثناء بعينه (( لا صلاة بعد الصبح إلا ركعتي الفجر )) على خلاف ونزاع في دلالته، ولذلك قلنا الأفضل بعد طلوع الشمس وأما بعد صلاة العصر ففيها حديث أم المؤمنين في وفد عبد القيس لما شغل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الراتبة .(2/490)
قال رحمه الله : [ ويجوز قضاء المفروضات ] : ويجوز قضاء المفروضات بعد الصبح وبعد العصر، فلو أنه تذكر أنه لم يصل العشاء فصلى العشاء ثم صلى الفجر في هذا الوقت فلا بأس حتى ولو كانت الشمس تطلع أو تغرب يجوز له أن يصلي الفريضة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر )) فجعل حتى وقت النهي نفسه مستثنى فيها الفريضة وهذا نص جاء عينا على الوارد والتخصيص فيه ظاهر.
وكذلك أيضا في صلاة العصر قال : (( من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر)) وهذا مذهب جمهور العلماء خلافا للإمام أبي حنيفة النعمان عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : هل يجوز صلاة النافلة على الراحلة في الحضر . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد :
فهذه المسألة لم يرخص فيها إلا الأصطخري وأيضا عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة.
أما جماهير السلف والأئمة على أنه لا تصلى النافلة في الحضر على الراحلة، وأن صلاة النافلة على الراحلة مخصوصة في السفر؛ لأن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - كما في الصحيحين قال : (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته إلا المكتوبة ، وكان يوتر عليها )) . وأما بالنسبة للحضر فإنه لا يصلي إلا على الأرض، ولذلك ما خرج عن الأصل فهو رخصة يقيد بالوارد، ورد عنه عليه الصلاة والسلام في السفر فبقي ما عداه على الأصل . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : إذا أدركت الركوع الثاني من الركعة الأولى في صلاة الخسوف فكيف أقضيها وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
فيها وجهان أن العبرة في الركعة الأولى بإدراك الركوع الثاني، وهذا هو أقوى ما يكون، وإن احتاط فهو أفضل، لكن من حيث الأصل أن العبرة بالركوع الثاني هو المعتد به فيهما . والله تعالى أعلم .(2/491)
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : إذا كانت صلاة الكسوف تصلى في حالة الخوف كالزلزلة ونحوها فإذا جاء الزلزال في وقت نهي، فهل نصلي أو لا وكذلك صلاة الاستسقاء وجزاك الله كل خير ؟
الجواب :
لا تصلى في أوقات المنهيات سواء بعد الفجر أو بعد العصر، وإنما يقتصر على الاستغفار والصدقة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( صلوا وادعوا وتصدقوا حتى ينكشف ما بكم )) والرواية في الصحيح في الأمر بالصدقة والاستغفار، فإذا تعذرت الصلاة لورود النهي فإنه يقتصر على الصدقات، وهذا مذهب الجمهور خلافا لبعض العلماء الذي يرى أنه تصلى ذوات الأسباب في هذين الوقتين. والله تعالى أعلم لأن البعض يقول قليل حدوث هذا يعني قل أن يحدث لكن ممكن أن يحدث إذا استمر .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : من ترك الرواتب وغيرها متعمدا فهل له أن يقضيها. وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
الترك إنما يكون في النسيان، ويكون متعمدا لعذر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعمد ترك راتبة الظهر؛ لأنه شغل عنها فهذا قصد ليس نسيانا ولا سهوا وقضاها، فالعمد يشمل ما إذا كان لسبب وعذر أو بدون عذر، فإذا كان عمدا بدون عذر ففي النفس منه شيء .
أما إذا كان عمدا بعذر فهذا هو الذي وردت به السنة: أنها راتبة مخصوصة بما قبل أو بما بعد . جاء السنة أنها تصلى بعدية وتصلى في غير وقتها لعذر سواء كان عمدا أو نسيانا، وعلى هذا فإنه يتقيد بالوارد وهو الأشبه . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : هل لصلاة الكسوف خطبة وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
صلاة الكسوف فيها خلاف : هل يخطب لها أو لا يخطب ؟ وفيها قولان للعلماء رحمهم الله .(2/492)
والسبب في ذلك أن إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما توفي كسفت الشمس، فصار بعضهم يتكلم أن الكسوف لا يقع إلا لموت عظيم أو ولادة عظيم على عادة أهل الجاهلية، فكذب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وبيّن أنهما آيتان من آيات الله - عز وجل - يخوف الله بهما عباده، وهذا فيه رد للعقائد الفاسدة مثل أن يعتقد البعض أنه لا تنكسف الشمس في سنة إلا ويموت عظيم من عظماء الدنيا، وهذا ليس بصحيح وعلى هذا السنة جاءت لإنكار هذه البدع والمحدثات والمختلقات من أمور الجاهلية، فبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان ولا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، لما حصل هذا صار عند العلماء إشكال: هل النبي - صلى الله عليه وسلم - قصدها خطبة أو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يوجه لسبب عارض؟ فمن يقول: إن الأصل في الخطبة أنها لا تكون إلا لسبب وهنا شككنا فرجعنا إلى الأصل.
ومن رأى أنه خطب عليه الصلاة والسلام وبيّن ذلك، فإن معناها أنها خطبة فيشرع أن يخطب بعد صلاته .
من هنا يحتاط بعض أهل العلم إذا صلى الكسوف فإنه بعد الانتهاء من الصلاة يذكر الحديث ويذكّر بها تخويفا للآية ولا يزيد، فلا يجعلها خطبة مقصودة، ولا يتركها حتى لا يفوت المقصود، ولا يزال يعني حتى ولو أنه قال هذا الكلام في زمان لا يزال نسأل الله العافية بعض ضعفاء الإيمان يعتقدون مثل هذه الاعتقادات أنه إذا حصل الكسوف لابد أن يحصل أمر عظيم فاستدامة تذكير الناس بهذا ما فيه بأس ولا حرج فيه . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : ما الدليل على أن التسليم الأولى ركن والثانية سنة . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(2/493)
الدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )) فجمهور العلماء على أن الفرض هو التسليمة الأولى؛ لأنه قال : (( تحليلها التسليم )) ومن سلم التسليمة الأولى فقد خرج من صلاته لأنه قد سلم.
أكد هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم تسليمة واحدة؛ لأن التسليم جاء على أربع صفات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم، السلام عليكم . هذه أربع صفات كلها واردة في السنة فلما اقتصر على تسليمة واحدة وصحت وقال بها طائفة من أئمة السلف فُهِم من هذا أن الفرض هي التسليمة الأولى وعليه فإنه إذا سلم تسليمة الأولى فقد خرج من صلاته .
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ : ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تعجزوا في الدعاء، فإنه لا يهلك على الله إلا هالك )) وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
أظن لا تعجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يستجاب لأحدكم ما لم يعجل )) يقول: دعوت ولم يستجب لي التعجل في الدعاء أن الشخص يدعو المرة تِلْو المرة ثم لا يجد الشيء الذي يطلبه قد حصل، ولا يجد الشيء الذي يخاف منه قد زال فعندها -نسأل الله السلامة والعافية- يضعف إيمانه ويقول: دعوت دعوت ... فلم يستجب لي فبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن على المسلم أن يصبر فما من داع يدعو الله - عز وجل - إلا أعطاه الله إحدى ثلاث :(2/494)
إما أن يستجيب دعاءه كرما منه وفضلا - سبحانه وتعالى - ، وإما أن يدفع عنه من السوء مثل ما دعا ، وإما أن يؤخرها له ثوابا في الآخرة، أو درجة في الآخرة، فالله كريم، والكريم لا يمكن أن يمنع سائله أو يرد سائله، بل إنه يحب من عبده كثرة الإلحاح وكثرة الدعاء مهما دعوت فإنك رابح غير خاسر ومهما دعوت فإنك فائز برحمة الله - عز وجل - ، إما أن يدفع عنك السوء أو ترفع درجتك ، فإذا لم تجد الإجابة فأنت قد فزت بأحد الحسنيين: أن يدفع الله عنك سوءاً لو علمت لقلت إن هذا خير من أن تستجاب لي دعوتي، قد يدفع عنك سوء عظيم هو أعظم مما تدعو بطلبه، والعجلة باستبطاء أمر الله - عز وجل - لا ينبغي للمؤمن، بل على المؤمن أن يحسن ظنه بالله - عز وجل - فكم من بلايا نزلت بالإنسان أخر الله جلاءها وذهابها فكان في التأخير الخير العظيم للإنسان، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وكم من نكبات ومصائب وملمات صلحت بها أحوال الأبناء والبنات، حينما أخر الله استجاب الدعوات، فكم من بلية نزلت بالإنسان في بيته وأسرته وماله وولده فدعا أن يرفع الله يرفعها فأخر الله استجابة الدعاء فتأثر الأبناء والبنات وتأثرت الزوجة وأصبح هو يتلهف كلما سمع زوجته تشتكي ثم ويجد أبناءه يشتكون ويتألمون وإذا بمفاسد كانت عندهم قد زالت وصلحت أحوالهم لما تأخرت الإجابة عنهم، فعلى الإنسان أن يرضى لا يزال المؤمن في حسن ظن بالله - عز وجل - حتى ينال حسن العواقب في أمور دينه ودنياه وآخرته، لا يسيء أحد الظن بالله - عز وجل - فهو أرحم بك من نفسك التي بين جنبيك، وأرحم بك من أبيك وأمك، فلو تأملت هذا الحليم الرحيم الكريم الذي هو أرحم بك من نفسك لنفسك حينما يؤخر عنك الشيء إذا بك تستبشر تقول أبدا ما أخر عني إلا وهو يريد بي الخير، فلا تزال تقول ذلك بلسان حالك ومقالك حتى يرفع الله درجتك، فتمتحن المرة الأولى وتؤخر الإجابة ثم دعوة ثانية تؤخر ثالثة وأنت تقول لها إن شاء الله خيراً(2/495)
وترضى وترضى حتى تكتب من الموقنين؛ لأنه وصل بك أنك تدعو الله - عز وجل - وعندك يقين أن الله ما يخيبّك حتى ولو تأخر عنك البلاء سنوات وقرون.
إن من الناس من عادت عليهم البلايا بالخيرات، ونعم لم تخطر لهم على بال .
إن من الناس من يشتري رحمة الله وهو يتخوّض في البلايا من أخمص قدمه إلى شعرة رأسه فلم يزدد بذلك إلا محبة من الله - جل جلاله - ولم يزدد من الله إلا رفعة يكون في عمله يكون في تجارته يكون في بيته يكون في أهله يصاب في جسده، فيأتيه البلية يأتيه المرض فإذا به منشرح الصدر مطمئن القلب واثق بالله - عز وجل - فلا يزال ذلك الضيق يتوسع ويفسح له حتى يصبح من أسعد الناس بهذا البلاء، ثم تمر السنة تلو السنة لو علم ما له عند الله في هذا البلاء وهذه السنوات لتمنى أن حياته كلها في هذا البلاء، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، فلا يستعجل أحد على الله - عز وجل - . من هذا الذي يستعجل من علم أنه حكيم عليم فهو أعلم وأحكم، من يستعجل من هو الحليم الرحيم فهو أحلم وأرحم، ترى بابنك المرض فيتقطّع قلبك وتتألم فادع الله - عز وجل - والسنة أن تدعو والسنة أن تبتهل، بل لو استطعت في كل لحظة: اللهم اشف أمي، اللهم عافها، اللهم اشف أبي، اللهم عافه في كل لحظة قل ذلك لكن يبقى قلبك التوحيد والإيمان والاستسلام واليقين والاستحسان والرضا بالله - جل جلاله - فكم من سقيم مريض يحمل على الأيدي صابرا محتسبا راضيا بالله أسعد من ذي قوة سويّ مريّ في عافية وهو في كرب لا يعلمه إلا الله - عز وجل -.
من قال إن السعادة بالأجساد فقد كذب، ومن قال إن السعادة بالأموال فقد كذب، ومن قال إن السعادة ببناء المباني وتشييدها والغنى والبذخ فقد كذب، فكم من أقوام زهقت أنفسهم بأموالهم، وكم من أقوام عذبوا بأجسادهم ، فما في إلا الرضا
فلست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد(2/496)
السعيد حينما يحمل على الفراش لا يتحرك منه ساكن مشلولا من أخمص قدمه إلى شعرة رأسه تقول له كيف حالك ؟ يقول : الحمد لله في نعمة في خير ، هذا والله هو السعيد .
والشقي الذي ينعم الله عليه صباح مساء في صحة وعافية وغنى وثراء ومال وبنين يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء، وكل خير بين قدميه قل أن يقول: الحمد لله، هذا هو الشقي الذي أنساه ماله وكفر بنعمة ربه وربما نسب إلى نفسه الحول والقوة، فإذا لا تستبطئ ولا تستعجل، بل أحسن الظن بربك وتوكل على الحي الذي لا يموت، واعلم أن البلاء خير للعبد إذا حمد الله (( عجبت -انظروا إلى نبي الأمة - صلى الله عليه وسلم -- عجبت -ويأتي بهذا الأسلوب وإذا تعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء فهو العجب- عجبت لأمر المؤمن -ليس أمر الناس ولا أمر كل أحد لأمر المؤمن التوحيد الإيمان اليقين- لأمر المؤمن الذي امتلأ قلبه بالله ولم يمتلئ بغيره الذي امتلأ قلبه بالمال بمجرد ما يخسر في تجارته يا ويلة يا ثبوره لا ينام ليلته ولا يرتاح ولا يهنأ؛ لأن قلبه مملوء بالدنيا، لكن مملوء القلب بالله . عجبت لأمر المؤمن الموحد الخالص في توحيده ويقينه حينما يعلم أن الله كتب عليه وقدّر المقادير ونسخ الآجال ونسخ الأعمار وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، يعلم أن الله قدّر الأشياء وكتبها، فعندها إذا نزل به القدر ونزل به البلاء وأحلت به المصيبة قال: الحمد لله الحمد لله راضياً عن الله - عز وجل - الحمد لله على كل حال .
((عجبت لأمر المؤمن إن أمره )) إن بأسلوب التوكيد إن أمره كله خير لكن بالإيمان .
((إن أصابته -فسر ذلك- إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له)) فالصبر والاصطبار والمصابرة درجات عظيمة يقول عمر - رضي الله عنه - : (( وجدنا ألذ عيشنا -ومع ذلك يقول: ألذ ما وجدنا عيشنا بالصبر)) .(2/497)
وجرب تدعو فلا تؤخر عنك الدعوة ما نقول لا تستجاب تؤخّر فرق بين أن لا تستجاب وتؤخر؛ لأن التأخير شيء وعدم الاستجابة شيء آخر، فإذا تأخرت عنك الإجابة رضيت بالله - عز وجل - هنا الامتحان، الإيمان ما هو بالتشهي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل، صدّقه التوحيد ليس دعاوى زائفة يقول: أنا موحد إنما يطبق ذلك لما ينزل عليه البلاء، ويعلم أنه من الله يقال كيف حالك ؟ يقول: الحمد لله بخير، معه المصائب يحيط به وبأهله وبأولاده وماله، فيدعو الله المرات والكرات، بل إنه يدعو الله في مظان الإجابة في السجود وأدبار الصلوات المكتوبات وفي الأسحار فتؤخر عنه الإجابة فيأتي عدو الله إبليس يقول: أنت من أنت ؟ كيف تقول إنك يعني تطيع الله؟ وانظر كيف الله - عز وجل - ما يعطيك الإجابة أنت حقير أنت كذا أنت يخذله عدو الله، وعندها يأتي الامتحان القاسي للعبد فيقول: اخسأ عدو الله، الله أرحم بي من نفسي الذي بين جنبي ويرى ابنه يتقطع بالأمراض وبالأسقام وبالبلايا يأتيه الشيطان ويقول له: كيف وأنت ملتزم وأنت على خير وأنت على طاعة وانظر فلان الغني كيف أولاده في صحة وعافية وكيف أولاده ينقلون إلى المستشفيات وإذا به يأتيه بمتاع زائل وظل حائل لكي يحول بينه وبين ربه لكي يقذف في قلبه شبهة من الشبهات تفسد إيمانه وتضعف يقينه؛ فإذا به بقوة الإيمان { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } اخسأ عدو الله، الله أرحم بولدي مني ، تأمل ونظر أن الله الذي أخرج ولده من الظلمات الثلاث، وأن الله - عز وجل - قادر أن يسلبه الروح بين طرفي عين، وأقل ذلك أقل حتى من غمضة العين ، فالله على كل شيء قدير، ومع ذلك رحمه وأبقاه بين يديه، فلا يزال ينزل عليه البلاء فيزداد حسن ظن بالله ، ويزداد محبة لله وتوكل على الله، وهنا الامتحان، وهنا البر والإحسان، وعندها ترفع درجته، وتعظم منزلته، ويحبه الله فالله يحب من عباده الصابرين.(2/498)
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا من الصابرين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب الإمامة
قال المصنف رحمه الله : [ باب الإمامة ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ؛ وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
يقول المصنف -رحمه الله - : [ باب الإمامة ] . يقال : أمّ الشيء إذا قصده ، والإمام في لسان العرب هو المقدم في كل شيء ، سواء كان في أمور الدين أو كان في أمور الدنيا ؛ ولذلك فسر قوله تعالى : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } أي بمن اتبعوه سواء كانوا متبعين في هدى أو متبعين في ضلالة .
فالإمام هو المقدم الذي يُتْبع ، ولما كانت الصلاة قد شرع الله –- عز وجل -- فيها الإمامة بأن يصلي بهم أحدهم، فهو المقدم الذي يأتمّون بأفعاله وأقواله ، ومن هنا وصفت صلاة الجماعة بهذا الوصف .
قال في لسان العرب : إن الإمام مأخوذ من الأمام ، وهو الخط الذي يخط في أول الدار فيبنى عليه ، وهو داخل في المعنى الذي سبقت الإشارة إليه .
والإمامة في الصلاة ترتبط فيها صلاة مصلٍّ بمصل آخر على وجه مخصوص . فارتباط صلاة المصلي وهو المأموم بمصل آخر وهو الإمام ، سواء كانوا اثنين أو كانوا أكثر من ذلك على صفة مخصوصة كما يقول بعض العلماء . وبعضهم يقول : بشرائط مخصوصة . وهي الشرائط المعتبرة لصحة الإمامة وسيبينها المصنف رحمه الله .
شرع الله الإمامة في الصلاة بكتابه فقال - سبحانه وتعالى - : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } .(2/499)
وكذلك أيضا شرعها بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته القولية والفعلية والتقريرية ، أما بالنسبة لسنته القولية فأحاديث كثيرة ، منها : قوله عليه الصلاة والسلام : (( يؤم القوم أقرؤهم بكتاب الله )) وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا حضرت الصلاة فأذنا وليؤمكما أكبركما )) . وكذلك بسنته الفعلية حيث صلى بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه بأصحابه وأمّهم . وكذلك أيضا صلى بابن عباس في جوف الليل وصلى معهم ابن مسعود - رضي الله عنه - ، والأحاديث عنه عليه الصلاة والسلام في أفعاله وإمامته كثيرة.
وأما بالنسبة للتقرير فقد أقرّ الصحابة -رضي الله عنهم- حينما قدّموا أبا بكر - رضي الله عنه - كما في الصحيحين أنهم قدّموا أبا بكر - رضي الله عنه - حينما تأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقباء يصلح بين حيين من بني عوف .
وكذلك أقر الصحابة - رضي الله عنهم - حينما قدموا عبدالرحمن بن عوف حينما تأخر عنهم عليه الصلاة والسلام في رجوعه من غزوة تبوك كما في قصة الشِّعب في الصحيح .
وأجمع العلماء – رحمهم الله - على مشروعية الإمامة والجماعة . وهي من أجل القرب وأعظم الطاعات لما فيها من إحياء سنن المرسلين وإماتة بدع المضلين ، ولما فيها من الخير العظيم ، والثواب الكبير، الذي جعله الله لصلاة الجماعة .
يقول المصنف رحمه الله : [ باب الإمامة ] أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالإمام والمأمومين في حال قيامهم بصلاة الجماعة . يستلزم هذا بيان صفات الإمام المعتبرة التي اعتبرها الشرع، وهي صفات الإجزاء التي لابد من وجودها حتى يحكم بصحة الإمامة ، ككونه: مسلما عاقلا ، وكذلك أيضا كونه ذكرا إذا أمّ الرجال، وكونه قادرا على أداء الأركان ، وكذلك صفات الكمال: كأن يكون أقرأ أو أفقه أو أكبر سنا كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- .
وفي هذا الباب يتعرضون لبعض المسائل المترتبة على الإمامة .(2/500)
قال رحمه الله : [ روى أبو مسعود البدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ]: صدّر المصنف رحمه الله بهذا الحديث ، وهذا الحديث يعتبره العلماء أجمع الأحاديث في صفات الأئمة في التقديم ، وهو حديث ثابت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه هذا الصحابي الجليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )) .(3/1)
يشتمل هذا الحديث على جملة من الصفات يراعى فيها التقديم للإمامة، وهذا يدل على خطر الإمامة وأهميتها ، وأنه لا يجوز أن يقَلَّدها كل أحد ، فكم من خير انتشر، وكم من برّ ظهر، حينما تقلدها العلماء والأمناء والصلحاء الأتقياء الذين يعرفون حقوق الإمامة ، وكانت على هيبة وجلال، وتحفّظ وكمال، حينما كانت لأهلها ، وكم أُحيي من سنن المرسلين ، وأميت من بدع المضلين، حينما كان أئمة المسلمين، على جلال وكمال ووقار وورع وفضل، فهاب الناس المحراب والمنبر ، وأعطوا الإمامة حقها وقدرها بهذه الصفات النبوية الواردة في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكم أحيي من البدع، وأميت من السنن، وكم حصل من المفاسد والشرور، وضُيق على الناس في صلاتهم ووقوفهم بين يدي ربهم، حينما تقلدها الجهال والمتنطعون والمشددون والمنفّرون الذين وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم منفرون للأمة في صلاتهم وفي حال موقفهم بين يدي ربهم . فاعتنى العلماء – رحمهم الله – بصفات الإمامة لأهميتها ؛ يقول عليه الصلاة والسلام مقررا لهذا الأصل وهو خطر الإمامة، وأنها منصب شريف منيف لا ينبغي أن يتقدم له كل أحد: (( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )) فقدّم ((لكتاب الله ))، واختلف العلماء في هذا الحرف على وجهين: فقال بعض أهل العلم المراد بقوله : (( أقرأ )) أكثرهم حفظا للسنة . واستدلّوا بقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( وليؤمكم أكثركم قرآنا )) كما في الرواية الأخرى . وهي حديث عمرو بن سلمة في الصحيح : (( وليؤمكم أكثركم قرآنا )) فقالوا : العبرة بكثرة الحفظ .
وقال بعض العلماء : إن المراد بقوله : (( أقرؤهم بكتاب الله )) أكثرهم إتقانا وضبطا للتلاوة والأداء ولو كان أقل حفظا . فهو أقرأ أي أضبط للقراءة لمعرفته لحقوقها ومستحقّها، فيؤدي تلاوة القرآن على وجهها.
والأول أقوى من جهة الأثر ؛ لأن قوله : (( أكثركم قرآنا )) دال على التفضيل من جهة الكثرة .(3/2)
وفائدة الخلاف : إذا كان أحدهم أكثر ضبطا للتجويد والتلاوة ولكنه أقل في الحفظ كأن يكون حافظا لجزء من القرآن ويكون الآخر حافظا لجزءين أو ثلاثة ولكنه أقل في صفات التجويد الكاملة وليست اللازمة ؛ لأن التجويد فيه صفات لازمة في أداء صفات الحروف على وجهها المعتبر .
المقصود من هذا أن قوله عليه الصلاة والسلام : (( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله )) أي أكثرهم قراءة للقرآن وأخذا للقرآن .
قال رحمه الله [ روى أبو مسعود البدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ] : فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة استدل به على أن الأكثر حفظا للقرآن مقدم على الأفقه والأعلم بالأحكام ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة والجمهور على تقديم الأفقه والأعلم بأحكام الصلاة .
وذهب طائفة من أهل العلم إلى تقديم الأقرأ والأكثر حفظا للقرآن .(3/3)
والذي يظهر من ظاهر هذا الحديث تقديم الأقرأ والأكثر حفظا للقرآن . ولكن ضُعّف الاستدلال بهذا الحديث بتقديم الصحابة - رضي الله عنهم - لأبي بكر - رضي الله عنه - حينما تخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلح بين حيّين من بني عوف ، وكان أبوبكر - رضي الله عنه - أفقه من غيره ممن هو أقرأ كأبي بن كعب - رضي الله عنه - . فلما قدّموا أبا بكر - رضي الله عنه - استدل به الجمهور ولو كان أبوبكر - رضي الله عنه - من ناحية ضبط القرآن وقراءة أُبي وضبطه للقرآن فهو أعلم بكتاب الله؛ والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أُرْتَج عليه في الصلاة قال : (( أفي الناس أُبيّ ؟ )) فهذا حظ أعطيه أُبي بن كعب - رضي الله عنه - والتفضيل في الصفة واحدة لا يقتضي التفضيل من كل الصفات كما هو مقرر ومعلوم. فهي منقبة من المناقب جاءت على وجه خاص . مثل حذيفة كان عنده السر، واحتاج عمر - رضي الله عنه - أن يعرف هل كان ممّن سمّى له النبي - صلى الله عليه وسلم - أو لم يسم ؟ فهذا لا يقتضي تفضيل حذيفة على عمر - رضي الله عنه - . فالمقصود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الصحابة على تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - كما في الصحيح حينما جاء بلال - رضي الله عنه - فقال لأبي بكر - رضي الله عنه - : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - تأخر فتقدم فصل بالناس .
ثانيا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا في مرض الوفاة ، فقدّم أبابكر - رضي الله عنه - ، وهذا آخر الأمرين بفعله عليه الصلاة والسلام . فلو قال قائل : إنه قصد منه الخلافة عارضه الحديث الصلح بين حيين من عوف حينما تأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه قُدم أبوبكر - رضي الله عنه - وأقر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التقديم ، فقوّوا من هذا الوجه تقديم الأفقه والأعلم بالسنة .(3/4)
وأجابوا عن قوله : (( يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله )) بأن الصحابة - رضي الله عنهم - كان الأقرأ أفقه للسنة ، وذلك لأنه ما كانوا يقرؤون عشرة آيات كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - حتى يتعلموا حلالها وحرامها فهذا يدل على أنهم جمعوا بين القراءة وبين علم الأحكام .
قال رحمه الله : [ فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ] : فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة : الهَجْر أصله الترك ، والمراد بالهجرة: الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام ، وهي باقية حتى تطلع الشمس من مغربها ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها )) فهذا يدل على أن الهجرة باقية ، وقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : (( لا هجرة بعد الفتح )) قاله بمكة لكي يقطع الهجرة الخاصة وهي الانتقال من مكة إلى المدينة ، فهو خاص جاء على وجه خاص ، والسياق السباق يؤيد خصوصه، وحديثنا لا يدخله النسخ وهو قوله : (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة )) لأن النسخ لا يدخل في الأخبار كما هو مقرر في علم الأصول ، وعلى هذا فالهجرة فضيلة من الفضائل ، ومنقبة عظيمة للإنسان أن يترك بلده وأهله ووطنه لله وفي الله ، مهاجرا إلى الله ورسوله –- صلى الله عليه وسلم -- ، ولو أدركه الموت فأجره على الله -- سبحانه وتعالى -- فإذا هاجر اثنان تقدم هجرة أحدهما على الآخر فالسابق له حظ السبق، وهذا يدل على فضل السبق للهجرة، ولذلك فضّل الله - عز وجل - المهاجرين على الأنصار، وجعل لهم منزلة، وكان عمر - رضي الله عنه - في العطاء ، إذا جاء العطاء يقدم المهاجرين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأنصار، ويقدم قدماء المهاجرين على المتأخرين، ثم كذلك أيضا كان إذا نزل في الحج بمسجد الخيف جعل المنازل التي تلي المسجد للمهاجرين، ثم جعل من ورائهم الأنصار، وهذا كله تفضيل(3/5)
شرعي لأسباب شرعية ، ((فأقدمهم هجرة)) فكان الصحابة تختلف هجرتهم منهم من سبق ومنهم من تأخر، فقُدم السابق .
[ (( ولا يؤمن الرجل في بيته)) ] : ولا يؤمن الرجل في بيته أي لا يؤم الإنسان غيره إذا كان صاحب البيت، وهذا يدل على أن لصاحب البيت حقا، فهو المقدم في الإمامة ، وهذا التقديم للإمامة لسبب خاص، وله وجوه عديدة: أنه إذا كان داخل البيت فإن هذا أبعد من الحرج، أولا أنه صاحب سلطان؛ لأنه سلطان خاص داخل بيته .
وثانيا: أنه ربما لو تقدم الغريب لم يعلم بأحوال البيت، فلربما ضيّق عليه، وربما أطال في الصلاة فأضر به في مصالحه في بيته، ومن هنا جعل لصاحب البيت الأعلم لأحوال البيت أن يتقدم ، وهذا ملكه وسلطانه، وهذا في اعتبار الشريعة لليد .
[ ولا في سلطانه ] : ولا في سلطانه كأن يكون في مزرعته، أو يكون بين جماعته، أو قبيلته، أو في عمله وإدارته، فالمقدم في الإدارة إذا كان عنده علم بالإمامة ويستطيع أن يصلي بالناس ولا يخل بالحقوق والواجبات والأركان فهو صاحب الحق في عمله وهو المقدم، فيتقدم ويصلي بهم ، وهكذا إذا كان في مزرعته مع عماله وحشمه وخدمه فهو المقدم عليهم، وهو الذي يصلي بهم، وهل هذا الحق في السنة أصلي قابل للانتقال أو أصلي لا ينتقل؟ توضيح المسألة : أنه لو كان صاحب بيت ثم أراد أن يقدم غيره فهل ينتقل الحق لهذا الغير الذي قدم أو أنه صاحب حق في ذاته ؟ فإذا امتنع من التقدم جعل الحق بالصفات الشرعية فيقدم الأقرأ ؟ وجهان للعلماء -رحمهم الله- .
[ ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ] : ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه : التكرمة في البيت للعلماء فيها وجهان :
الوجه الأول : أنه أحسن المجلس في الهيئة .(3/6)
والوجه الثاني: أنه صدره الذي تنكشف به عورة الدار، والمراد بالوجه الأول أحسنه، المجالس فيها أماكن مفضلة يجعلها صاحب البيت لمن يريد إكرامه، كأن يكون والدا له أو قريبا له حق كبير عليه كعمه وخاله ونحو ذلك، أو يكون إنساناً له فضل عليه أو يكون إنساناً له مكانة، فيريد أن يزداد في إكرامه فيجلسه على هذا المكان الأفضل، وحينئذ قد يكون الأفضل في وجه الباب، وقد يكون منزويا عنه، فعلى هذا الوجه لا يستلزم أن يكون في قبالة الداخل أو مطلعاً على عورة الدار .
الوجه الثاني يقول : إن صدر المجلس هو الذي إذا دخل يكون في وجهه، وهو تكرمة الدار ، وغالباً أن هذا الصدر الذي يكون في الوجه أنه كانت البيوت صغيرة والرجل قد لا يملك إلا حجرتين أو غرفتين ، فيكون مدخله إلى بيته مقابلاً للصدر ، ومن هنا يتأذى صاحب البيت بالجلوس على التكرمة .(3/7)
فعلى الوجه الأول إذا قلنا إنها المكان الأفضل، فالجلوس في المكان الأفضل يؤذي صاحب الدار ؛ لأن صاحب الدار يريد أن يكرم شخصاً وهذه داره وهذه تكرمته ، فهناك أناس لهم عليه حقوق فيريد أن يفضلهم على غيره؛ لأنهم فضلوه وأكرموه ، فيريد أن يرد المعروف والشريعة أمرت برد المعروف وإكرام من أكرم، فإذا جاء كل من هبّ ودبّ، ويجلس على تكرمته آذى صاحب الدار في حقه ، ومن هنا جعلت الشريعة لصاحب الدار حقا جعلت له الحق أن يجلس على التكرمة من يشاء، فلا يجلس على هذه التكرمة إلا بإذن صاحب الدار، إذنه أن يأخذه فيجلسه، أو يقول له : اجلس في صدر المجلس، أو تعال هنا ، الإذن القولي ، والإذن الفعلي، الإذن القولي : تعال هنا، اجلس في صدر المجلس ، والإذن الفعلي: أن يأخذه بيده ويجلسه في صدر المجلس، والسنة لمن دخل المجالس أن يجلس حيث ينتهي به المجلس ؛ لأنها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن رفعوك فهذا فضل من الله - عز وجل - ، فاحمد الله على فضله واشكر لمن تفضل بذلك الفضل، وإن لم يرفعوك فقل : هذا مكاني، وهذا قدري، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه، فلم يتعال على الناس ولم يستكبر. هذه السنة أن يجلس حيث ينتهي به المجلس ، وللأسف أن هذه السنة أضاعها كثير إلا من رحم الله ، ولما كان الناس يحفظون هذه الصدور ومجالس التكرمة لأهل الفضل كان الناس على خير، وعُرف حق ذي الحق.(3/8)
أما في هذه الأزمنة المتأخرة فقلّ أن تدخل في مناسبة أو تدخل في دعوة فتنظر أهل الفضل أو تستطيع أن تميز بين مراتب الناس، حتى إنك لتجد صغار السن يتصدرون المجالس وكبار السن في أطراف المجالس، ولربما يدعا كبير السن من أجل أن يهان لا من أجل أن يكرم، فيأتي ذا الشيب المسلم ويأتي الذي له الحق من أهل العلم والفضل، فتجد ذا الشيب المسلم من الضعفاء يأتي فقلّ أن يجد من يرحّب به، وقلّ أن يجد من يحتفي به، ثم إذا جاء يجلس تواضعا منه وتكرما فجلس في طرف المجلس قلّ أن يجد من يلقي عليه التحية والسلام -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا كله من موت المكرمات في القلوب، وذهاب العقل الذي كان يردع الناس عن نسيان فضل أهل الفضل، فهؤلاء لهم حق ولهم قدر، ومن العيب والعار على صاحب دعوة أن يدعو الناس من أجل أن يهينهم، وأن يهين أهل الفضل، فالدعوات للإكرام، فإذا كانت المجالس لا يميز فيها لفضل أهل الفضل لم يجد الناس لذي القدر قدره، ولذلك انظر إلى حال الناس في سنوات مضت وحالهم الآن، حتى تعلم كيف السنة لما نهت أن يجلس على التكرمة أن هذا النهي يتضمن الخير الكثير للناس، فكان الناس في القديم وأدركنا إذا جئنا إلى المناسبات فلا نجد في صدور المجالس إلا حفظة كتاب الله - عز وجل - والعلماء والشرفاء والفضلاء، ومن لهم سابقة ومن لهم مزية أو من عُرف بالكرم ومن عُرف بستر العورات وتفريج الكربات، فكان الناس يحفظون لأهل الفضل فضلهم، وكان الناس أسبق ما يكونون إلى الخير، وإلى الله المشتكى، فنسأل الله أن يصلح الأحوال، فمن دعا الناس إلى إكرامه وإلى دعوته عليه أن يشدد في هذا الأمر؛ إحياء للسنة، وأن يردع هؤلاء السفهاء والصغار أن يتقحّموا فيجلس على صدور المجلس، وهناك من هو أولى منهم، فإذا جاء يجلس في صدر المجلس يقول له : اجلس في المكان الفلاني وعلمه السنة . يقول له : لا تجلس على التكرمة ، أو يأخذه بيده ويجلسه في المكان الذي يليق به .(3/9)
أما أن تصبح دعوات الناس لا يعرف بها فضل أهل الفضل، وتنسى هذه السنن، وكل يجرؤ على الجلوس في التكرمة فهذا لا شك أنه يفوّت على الناس مصالح عظيمة من أداء الحقوق إلى أصحابها . فقال : ((لا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ))أي تكرمة صاحب الدار .
قال رحمه الله : [ وقال لمالك بن الحويرث وصاحبه إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمّكُما أكبركما )) ] إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما : فيه دليل على مشروعية الأذان للجماعة قلّت أو كثرت . المسألة الثانية : فيه دليل على وجوب الأذان ؛ فليؤذن وهو أمر وجوب ، والأمر الثالث : فيه دليل على مشروعية الأذان في السفر؛ لأنهما كان قد خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأوصاهما بهذه الوصية ولم يفرّق بين سفر وحضر، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل إذا كان في البادية أن يؤذن ولو كان وحده ؛ قال: (( إني أراك تحب الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك فأذن فإنه لا يسمع صوتك حجر ولا شجر ولا مدر ولا جن ولا إنس إلا شهد لك يوم القيامة )) فهذا يدل على فضل الأذان ، وأن السنة فيه أنه يكون للجماعة قليلة كانت أو كثيرة، بل حتى يكون للإنسان وحده .
(( وليؤمكما أكبركما )) فيه دليل على مشروعية الإمامة ، وهي المسألة الثالثة ، فيه دليل على أن الإمامة تنعقد باثنين، وأنها لا يشترط فيها الثلاثة، وأن الرجل مع الرجل أو المرأة مع الرجل جماعة ؛ لأنه قال: (( وليؤمّكُما )) فخاطب اثنين فدل على أن الجماعة تحصل باثنين .(3/10)
وقوله : (( أكبرَكما )) : فيه دليل على التقديم بالسن ، وفيه دليل على رعاية الشريعة لكبار السن ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم )) فجعل في الصلاة التي هي من أعظم القربات وأجلها بعد توحيد الله - عز وجل - أن يقدم للإمامة فيها الأكبر سنا، وهذا من إعطاء أهل الحقوق حقوقهم، ولاشك أن كبير السن له فضل وحق ، ومن هنا ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( كبر كبر )) وهذا يدل على أن الشريعة تراعي السن وتعطيها حقها؛ ولذلك جاء في حديث مالك بن حويرث أكبرهم سنا ، وفي بعضها أقدمهم سنا .
قال رحمه الله : [ وكانت قراءتهما متقاربة ] : وكانت قراءة مالك وصاحبه متقاربة وهذا يحتج به من يقول إن التقديم بالسن بعد التقديم بالقراءة والفقه، وإذا لا يعارض هذا الحديث حديث أبي مسعود عقبة بن عامر الذي تقدم معنا .
قال رحمه الله : [ ولا تصح الصلاة خلف من صلاته فاسدة إلا لمن يعلم بحدث نفسه ولم يعلمه المأموم حتى سلم ] : يقول رحمه الله : ولا تصح الصلاة خلف من صلاته فاسدة هذا شروع في بيان شرائط الإمامة أنه يشترط أن يكون الإمام على طهارة بالمثال الذي ذكره رحمه الله فلا يصح أن يصلي وراءه؛ لأنه إذا كان الإمام محدثا فصلاته فاسدة وعلم بحدث نفسه أو كان عليه نجاسة في ثوبه أو بدنه أو مكانه عالما بها غير معذور بالتلبس بها ، فإذا أراد أن يتقدم للإمامة فتشترط فيه الطهارة ، ويشترط فيه الإسلام فلا يصح إمامة الكافر إجماعا ، ويشترط فيه العقل فلا تصح إمامة المجنون إجماعا، ويشترط فيه الذكورة فلا تصح إمامة المرأة إلا لامرأة مثلها يكاد يكون كالإجماع وخرقه داود ، وسيأتي بقية الشروط ومنها هذا شرط ( شرط الذكورة ).(3/11)
فالشاهد من هذا أن الصلاة لا تصح خلف من صلاته فاسدة، ولذلك يشترط أن تكون صلاته صحيحة في حق نفسه ، وعلى هذا فلو كان محدثا وتقدم ليصلي بالناس وهو يعلم أنه محدِث والناس يعلمون أنه محدث فالصلاة فاسدة ، مثال : لو أنه رأى رجلا قضى حاجته ، أو انتقض وضوءه كأن يكون خرج منه الريح ، ثم أقيمت الصلاة وجاء وتقدم يريد أن يصلي بهم ، وهو يعلم أنه محدث فقال له : أنت محدِث ، فلم يتوضأ ، ولم يتطهر، وأراد أن يصلي ؛ لا تصل وراءه ؛ لأن صلاته فاسدة والإمامة باطلة ، فإذا كانت فاسدة في حق نفسه وعلم بفسادها مثل المحدث أو كان عليه نجاسة ، تلبس بالنجاسة في ثوبه وبدنه ومكانه فلا تصح صلاته ؛ ولذلك أمر بالتطهر في الثوب ؛ { وثيابك فطهر} والبدن ؛ (( إغسلي عنك الدم ثم صلي )) والمكان كما في حديث النعلين ، وحديث الأعرابي لما بال في المسجد، فصب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه الماء للطهارة . فإذا أخل بهذا الشرط وقال له : إن المكان الذي تصلي فيه فيه بول ونجاسة . وقال : لا . سأصلي به فهو عالم بالنجاسة . إلا إذا كان ما فيه بول . وامتنع . ونفى أن يكون في المكان بول فهذا عنده تأويل وعنده شبهة ، لكنه إذا كان يعلم أن النجاسة موجودة وصلى عليه فإني لا أصلي وراءه ؛ لأن صلاته فاسدة في حق نفسه ، وهكذا إذا كان في ثوبه أو كان في بدنه . فقال : رحمك الله على ثوبك النجاسة أو على بدنك ، فأصر وأراد أن يصلي والحال ما ذكر ، يمتنع من الصلاة وراءه ؛ لأن صلاته فاسدة في حق نفسه . فإذا كان لا يعلم وصلى بالناس ناسيا للحدث الأصغر أو ناسيا للحدث الأكبر كأن تكون عليه جنابة ثم نزل وصلى بالناس الفجر وهو لا يعلم أنه جنب ثم تبيّن له بعد انتهاء الصلاة أنه محدِث فللعلماء قولان مشهوران : جمهور العلماء على أن الصلاة صحيحة، واستدلوا بحديث أبي هريرة عند البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الأئمة : (( يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم(3/12)
ولهم ، وإن أخطأوا فلكم وعليهم )) . وجه الدلالة : (( فإن أخطأوا فلكم )) : أي صلاتكم صحيحة . (( وعليهم )) أي عليهم خطأهم ، وهذا في خطأ العذر على الصفة التي ذكرناها .
ثانيا : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كما روى مالك في الموطأ صلى بالناس الفجر وهو جنب لا يعلم ، ثم لما صلى الفجر انطلق إلى مزرعته بالجرف غربي المدينة إلى شماليّها وكانت له مزرعة ، فلما جلس على الساقية ، رأى على فخذه أثر المني ، فقال - رضي الله عنه - : (( إنا إذا أصبنا الودك لانَت العروق ، ما أراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت )) . فقام - رضي الله عنه - واغتسل ، وأعاد الصلاة ولم يأمر الصحابة ولا من رواءه بإعادة الصلاة ، فلو كانت الصلاة فاسدة لأمر الناس أن يعيدوا صلاتهم . قال من صلى ورائي الفجر فليعد صلاته . ولكنه لم يأمر من معه أن يعيدوا الصلاة ، فصلاتهم صحيحة ، وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله.
قال رحمه الله : [ فإنه يعيد وحده ]: إذا يشترط عدم علمه بالحدث ، سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، وثانيا : عدم علم المأمومين ، وأن يكون العلم بعد انتهائه من الصلاة ، فإن علم أثناء الصلاة ، أو تذكر أثناء الصلاة صح ما مضى ، وسحب رجلا يستخلفه أو انسحب من الناس ، فأتم كل واحد منهم لنفسه صلاته ، لوجود العذر؛ لأنه كما صح كلها لعدم العلم فإن جزءها صحيح ، وحينئذ يستقبل الناس ما علموا . أما لو طرأ الحدث أثناء الصلاة ، فإنك تنوي مفارقتها إذا لم يستخلف، كأن يحدِث وهو يصلي بالناس فحينئذ تنوي مفارقته إذا لم يستخلف ، أما إذا استخلف فلا بأس .(3/13)
قال رحمه الله : [ ولا تصح خلف تارك ركن ] : الشرط الثاني : القدرة على أداء الأركان ، فلا تصح وراء تارك للركن ، كمن لا يستطيع الركوع ، أو لا يستطيع السجود، فهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله أنه لا يصلَّى وراءه ، والأركان تكون قولية وفعلية . فهو معذور في حق نفسه وغيره لا يعذر؛ لأن صلاته مبنية على صلاته ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) .
وقال بعض العلماء : يصح ذلك ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الإمام : (( وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون )) . وهذه المسألة فيها تفصيل وحاصله : أن العلماء رحمهم الله تعارضت عندهم الأحاديث ، فجاء في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن الإمامة إذا صلى جالسا صلى وراءه الناس جلوسا ، وهذا يدل على صحة الصلاة وراء إمام عاجز عن الركن ، لأن القيام ركن ، ودليل ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيح عنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : سقط من على فرس فجحش شقه الأيمن ، فصلى في مشربة له فصلى وراءه الصحابة قياما وهو جالس ، فلما انفتل من صلاته قال : (( لقد كدتم تفعلون فعل الأعاجم بملوكها )). ثم قال : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا )) إلى أن قال : (( فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين )) ، فهذا يدل على أنه يصح أن يأتم بالإمام وهو عاجز عن أداء الأركان ؛ لأن الإمام عاجز عن القيام ، والقيام ركن كما ذكرنا . وإذا كان يصلي جالسا فإنه يترك القيام ويترك الركوع والرفع من الركوع فهذه ثلاثة أركان فعلية ومع هذا صحت الصلاة وراءه ، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي وراءه جلوسا أجمعين .(3/14)
الحديث الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مرض لما مرض مرض الوفاة صلى جالسا وأبوبكر يأتم به قائما، فالصحابة قيام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس، فبعض العلماء الذين لا يرون أن يصلي المأموم وراء إمام تارك للركن قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إمام راتب فيستثنى، وطرأت إمامته؛ لأنه لم يبتدئ الصلاة من بدايتها ؛ لأن أبابكر - رضي الله عنه - كبر بالناس ودخل في الصلاة ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء عليه الصلاة والسلام معناه طرأت إمامته ، وحديث أنس - رضي الله عنه - من بداية الصلاة ، ففرقوا بين الأمرين ، وقالوا هذا الحديث ناسخ ، منهم من يقول إنه ناسخ لحديث : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حياته ، فصلى الصحابة وراءه قياما ، فيستثنى لوجود العذر. ومنهم من يقول : إن الإمام هو أبوبكر - رضي الله عنه - وهو الأصل، ثم طرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا استثني، وعليه يكون هذا ناسخا للحديث الذي تقدم كما يقول الحنفية ، واستدل الحنفية رحمهم الله وهم الطائفة الثانية التي لا تصحح إمامته على هذا الوجه بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يؤم أحد جالسا بعده ، والحديث ضعيف (( لا يؤمن أحد جالسا بعدي )) ، ولكنه حديث ضعيف .
وجمع الإمام أحمد بين هذه الأحاديث بالشروط الذي ذكرها المصنف رحمه الله :
أولا : أن يكون الإمام راتباً ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو إمام الصحابة وراتبهم ، والإمام الراتب هو الذي يقدم من الجماعة الحي، أو يرتبه الإمام للصلاة بالناس كأن يعيّن للإمامة ونحو ذلك .
وثانيا : أن يطرأ عليه العذر فلو أنه استفتح الصلاة قائما، ثم بعد ذلك جاءه مرض أو جاءه عذر لا يستطيع أن يقف فجلس فإنهم يتمّون قياما وراءه . أما أنه لو ابتدأها من بدايتها فيحمل عليه حديث أنس الذي تقدم معنا .(3/15)
قال رحمه الله : [ فإنهم يصلون وراءه جلوسا إلا أن يبتدئها قائما ثم يعتل فيجلس ] : فإنهم يصلونها وراءه جلوسا جمع رحمه الله بين السنن والأحاديث ، فقال : إذا صلى الإمام جالسا صلى وراءه الناس جلوسا ؛ لحديث أنس - رضي الله عنه - : (( فصلوا جلوسا أجمعين )) وأما إذا طرأ عليه الجلوس فجعل أبابكر - رضي الله عنه - في مرض الوفاة هو الذي كبر تكبيرة الإحرام، وقد كبر قائما وهو صحيح، ثم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حق من حقوق الإمام الراتب فصارت الإمامة إليه فطرأ العذر. أما استفتاح الصلاة فكان على القيام ففرق رحمه الله بين أن يطرأ الجلوس أثناء الصلاة ؛ لأنهم استفتحوها قياما فيتمونها قياما ، وأما هناك فقد استفتحوها جلوسا فيتمونها جلوسا .
قال رحمه الله : [ فإنهم يأتمون وراءه قياما ] : للحديث الذي هو حديث مرض الوفاة ، فقد صلوا وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - قياما ، لكنه لو ابتدأها جالسا كما ذكرنا في حديث أنس فإنهم يبتدئونها جلوسا ، ولذلك أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صلوا قياما وراءه .(3/16)
قال رحمه الله : [ ولا تصح إمامة المرأة ومن به سلس البول والأمي الذي لا يحسن الفاتحة أو يخل بحرف منها ] : ولا تصح إمامة المرأة : هذا شرط الذكورة إذا كانت تؤم الرجال؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )) وقد تقدم عليه الصلاة والسلام ولم يقدم امرأة في حياته عليه الصلاة والسلام لكي تؤم الصحابة ، وكذلك أيضا لم يتقدم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن في أسفارهن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بالحَشَم والرجال الذين معهن وكُنّ أفضل وكُنّ أعلم ومع ذلك جَعَلْن الإمامة للرجال، وهذا يكون كالإجماع أن المرأة لا تؤم الرجال، وهذا من تفضيل الله - عز وجل - للرجل على المرأة ؛ لأن نصوص الكتاب والسنة كلها تدل دلالة واضحة على تفضيل الذكر على الأنثى ؛ وذلك لقوله تعالى : { وليس الذكر كالأنثى } ولأن الله خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، ثم جعل التكريم له، ثم بعد ذلك خلق منه زوجه، وجعل المرأة تبعا للرجل، وهذا التفضيل لا يقتضي الإهانة والإذلال للمرأة، بل هي خلقة الله وفطرته التي ينبغي لكل مؤمن ومؤمنة أن يسلم بها خلافا لبعض الذين يشوشون على الشريعة الإسلامية، ويقولون إنها تمتهن المرأة وهذا كله من المخالفة للنصوص الواضحة في الكتاب والسنة، فتفضيل الرجل على المرأة واضح في الأدلة ولا إشكال فيه، فإن الله خلق الرجل وخلق منه المرأة ليسكن إليها فهي تبع للرجل؛ ولذلك جعل الله التكريم للرجال، فالنبوة في الرجال، وجعل الإمامة في الرجال، وهذا لأصل خلقة من الله وفطرة من الله - عز وجل - ؛ لأن المصالح لا تستقيم بهذا ، فهي خلقت تبعا للرجل وليس في هذا غضاضة وليس فيه مهانة ؛ لأنك إذا وجدت العالم والجاهل، وتجد أيضا العلماء تتفاوت مراتبهم، فبعضهم أفضل من بعض، فكون هذا أعلم وهذا دونه في العلم لا يقتضي أن الذي دونه في العلم مهان، فليس معنى التفضيل للإهانة(3/17)
، وهذه خلقة وفطرة ومن هنا ينبغي التسليم للشرع والفطرة التي فطر الله - عز وجل - عليها الناس وعدم القبول بهذه الأهواء التي يشوش بها على نصوص الشرع، ونصوص الشرع واضحة ، ومن تفضيل الرجل على المرأة : تقديمه في الإمامة ، ولذلك الرجل هو المسؤول عن الجمعة والجماعات وليست على المرأة جمعة ولا جماعة، وليس عليهن هذه الأمور، ولسن ملزمن بها ، فالشاهد من هذا أن المرأة لا تؤم الرجال، ولأنها إذا أمت فتنت غيرها ، وإن صالحة في نفسها فقد يفتن الغير، وعلى هذا فإن الإمامة شرطها الذكورة ، وهذا هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقدم الرجال وأمر بتقديم الرجال .
وقوله : [ لا تصح إمامة المرأة ] : يستثنى أن تؤم المرأة نساء مثلها، فيجوز للمرأة أن تؤم النساء مثلها على أصح قولي العلماء، وهو مذهب الشافعية والحنابلة والحنفية على الكراهة والمالكية على التحريم والمنع ؛ واستدلوا بحديث أم ورقة الشهيدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لها أن تؤم أهل دارها كما في سنن أبي داود وهذا يدل على مشروعية إمامة المرأة للنساء .
قال رحمه الله : [ ومن به سلس البول ] : ولا تصح إمامة من به سلس البول ؛ لأن صلاته يعذر بها في حق نفسه، فلا تنبني عليه صلاة غيره ، وهم أهل الأعذار، كمن به سلس البول، أو سلس المذي أو سلس الريح، فقالوا هذا معذور في حق نفسه، ولا يعذر في حق غيره؛ لأن الرخص لا يتجاوز بها محالها. ومن أهل العلم من أجاز له ذلك ؛ لإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لإمامة المتيمم للمتوضئ ، وفي هذا الاستدلال نظر كما لا يخفى ، فهناك فرق بين استتمام الطهارة بالبدلية وبين نقصانها بالعذر، وعلى كل حال ينبغي لكل من به سلس أن لا يتقدم صيانة لصلاة الناس .(3/18)
قال رحمه الله : [ والأمي الذي لا يحسن الفاتحة أو يخل بحرف منها إلا بمثلهم ] : الأمي نسبة إلى الأم، والأمية، وصف شرف لهذه الأمة، فلا تمحى ولن يستطيع أحد أن يمحها؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنا أمة أمية)) وقال تعالى : { هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم } البعض يظن أن الأمية تستلزم الجهل وهذا خطأ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمي وهو أعلم من في الأرض، فكون الإنسان لا يقرأ ولا يكتب نسبة إلى الأم لا يستلزم الجهل، ولذلك الأعمى لا يقرأ ولا يكتب وقد يكون من أعلم الناس، فالأمية نسبة إلى الأم أنه لا يقرأ ولا يكتب، وليس نسبة إلى الجهل، فهناك فرق بين الأمية وبين الجهل، وعلى هذا فهذا وصف شرف خلافا لمن يكابر من بعض المعاصرين وصف شرف للأمة ؛ لأن الله يقول: { هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة } فالأمية لا تستلزم الجهل، الجهل شيء والأمية شيء آخر، فالأمية أن لا يحسن القراءة والكتابة، وسع في معناها وتجوّز في معناها في بعض الأحيان في الإخلالات ومنها قولهم في المصطلح الفقهي والمصطلحات الفقهية أن لا يحسن الفاتحة، فالأمي هو الذي لا يحسن الفاتحة أو يخل في الحرف حتى إن بعضهم توسع في هذا فقال لو أبدل حرفا بحرف مثل أن يكون أرت أو ألثغ أو فأفاء ونحو ذلك فإنه لا يؤم إلا مثله، فإذا كان يبدل الحروف بعضها ببعض أو كان يخل بهذه الحروف فلا يحسن قراءتها فعليه أن يتقي الله وأن لا يؤم المسلمين، وإنما يُقدَم من يحسن الفاتحة فهذا بالنسبة لهذا الشرط من أهل العلم من قال إنه يفرق بين أن يكون عاجزا عن أداء الحروف لمرض في لسانه ونحو ذلك وبين أن يكون عاجزا عنها لجهل، ففرّقوا بين أن يكون لسانه أرت أو ألثغ وبين أن يكون بجهله وهذا مشكل، السبب الذي جعل العلماء يؤكدون هذا أن الفاتحة ركن، ومن هنا لو تأمل الإنسان الأئمة خاصة في المساجد(3/19)
العظيمة والجامعة إذا صلى وراءهم الجهال والعوام يأتمون ويتأثرون بقراءتهم وأفعالهم، فإذا وجدوهم يصلون ويقرؤون الفاتحة يخلون والفاتحة هي من أشهر ما يكون وهي ركن الصلاة القولي فإذا وجدهم يبدلون الحروف أو يخلون بالحروف انطلقوا إلى قومهم فصنعوا مثل ما سمعوا ؛ لأنهم يرون أن هذا إمام ولا يفرقون بين كونه معذورا أو غير معذور، ولذلك السواد الأعظم والأكثر الجهال والعوام، فلو قُدم للإمامة من لا يحسن الفاتحة ربما تُعُلّم الإخلال بالفاتحة من الأئمة، ولاشك أن هذه الصفات حينما يشدد فيها الأئمة لها أسبابها ، والأئمة مقتدى بهم فينبغي أن تكون صفاتهم على الوجه الذي تؤدى فيه الأركان على الصفة المعتبرة، سواء كانت قولية أم فعلية . استدل العلماء على هذا بقوله عليه الصلاة والسلام : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) قالوا : إن الأصل يقتضي أن يقرأ فاتحة الكتاب على وجهها، فإذا كان يريد أن يصلي بالناس فإنه يحمل الإمام عن المأمومين الفاتحة خاصة عند الحنابلة أن المأموم لا يقرأ الفاتحة وراء الإمام ويحمل عنه الإمام في الجهرية، فإذا كان الأمر كذلك فمعنى هذا أنه قد ترك الركن لقيام الإمام به، والإمام لم يقم به على وجهه، ولذلك قالوا لا يؤم إلا مثله، ولا تصح صلاة من يبدل حرفا بحرف في الفاتحة أو لا يحسن قراءة الفاتحة بأن يلْحن فيها لحنا مخلا، واللحن المخل هو الذي يغير المعنى، كأن يقرأ قول الله تعالى صراط الذين أنعمتُ بدل قوله تعالى صراط الذين أنعمتَ عليهم فإن أنعمتُ تخل بالمعنى وتؤثر، أما إذا كان الإخلال يسيرا لا يغير المعنى فإن القراءة لا تتأثر ولا تبطل صلاة من رواءه .(3/20)
قال رحمه الله : [ ويجوز ائتمام المتوضئ بالمتيمم ] : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - حينما صلى بأصحابه وهو متيمم وهم متوضؤون ، وعلى هذا فلو أن الإمام أصابته جنابة وعجز أن يغتسل وتيمم وأراد أن يصلي بأصحابه صحت صلاته .
قال رحمه الله : [ والمفترض بالمتنفل ] : على أصح قولي العلماء يجوز للمفترض أن يأتم بالمتنفل؛ لحديث معاذ - رضي الله عنه - وأرضاه أنه كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم ينطلق إلى قومه بقباء فيصلي بهم العشاء، هو متنفل وهم مفترضون، وهذا يدل على أنه يصح أن يؤم المتنفل المفترض .
وذهب الحنفية والمالكية ووافقهم الحنابلة إلى عدم الصحة؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - .
والصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى معاذا - رضي الله عنه - عن إطالة الصلاة ولم ينهه عن أن يصلي بهم متنفلا وهم مفترضون، ولم يأمره بأن يترك الإعادة . هناك رواية : (( إما أن تصلي معنا وإما أن تصلي بقومك)) وهي ضعيفة . يستدلون بها على أن المتنفل لا يؤم المفترض . فالصور كالآتي في الإمامة :
- أن يؤم المفترض المفترض .
- وأن يؤم المتنفل المتنقل .
- وأن يؤم المفترض المتنفل
- والعكس أن يؤم المتنفل المفترض .
فأما إذا أمّ المفترض المفترض فعلى صورتين : أن يؤمه في نفس الصلاة فبالإجماع الصلاة صحيحة إذا توفرت فيها كأن يصلي الظهر وراء إمام يصلي الظهر ، مفترض بمفترض في نفس الصلاة مع اتحاد الصلاة ، أو يؤمه في غير الصلاة فحينئذ تنقسم إلى قسمين : أن يؤمه في غير الصلاة مع اتحاد الصورة أو يؤمه في غير الصلاة مع اختلاف الصورة .(3/21)
يؤمه بصلاة تخالف صلاته مع اتحاد الصورة كالظهر مع العصر ، فلو أن إنسانا نام عن صلاة الظهر واستيقظ والإمام يصلي بالناس العصر، دخل وراءه فصلى الظهر بنية الظهر والإمام يصلي بالناس العصر؛ فحينئذ فرض وراء فرض مع اتحاد صورة الصلاتين واختلاف الصلاة ، في هذه الحالة تصح على أصح قولي العلماء رحمهم الله مع اتحاد صورة الصلاتين . العكس أن يكون اختلاف صورة الصلاتين كأن ينام عن صلاة المغرب ثم يستيقظ والإمام يصلي العشاء فحينئذ لا يصح ائتمامه به ؛ لأن هذا سيؤدي إلى الإخلال بالصلاة ؛ لأنه يلزمه أن يجلس بعد الثالثة ، والإمام سيقوم بعد الثالثة ، فإما أن يخالف الإمام وهو منهي عن مخالفة الإمام ، وإما أن يزيد ركعة فحينئذ تبطل صلاته ، وعلى هذا لا يصح أن يصلي المغرب وراء العشاء ولو أدرك الإمام في الأخريين لانعكاس صورة الصلاة ، ومن هنا اشترط عند ائتمام المفترض بالمفترض عند اختلاف الصلاة اتحاد صورة الصلاتين . أما إذا أمّ المفترض بالمتنفل فبالإجماع يجوز كأن تصلي الظهر ثم تأتي في مسجد لم يصلِّ فتقام الصلاة فيلزمك أن تصلي معهم ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا حضرت الصلاة فصلها ثم صلها معهم ولا تقل إني صليت )) كما في الصحيحين فأمر أبا ذر - رضي الله عنه - أن يعيد الصلاة، وقد صلاها فريضة، فهو يعيدها نافلة فأتم المتنفل بالمفترض وبالإجماع يجوز ، وأما بالنسبة للعكس وهو أن يكون الإمام متنفلا والمأموم مفترضاً فهي صورة المسألة : كأن يصلي العشاء ثم ينطلق فيجد جماعة لم تصل العشاء فيصلي بهم العشاء ، الأفضل والأكمل أن يصلي بهم أحدهم خروجا من الخلاف ، وهذا ما يسميه العلماء بفقه الإمامة ، أن يكون الإمام حريصا على أن يؤدي صلاته وإمامته على وجه لا خلاف فيه ، فيستبرئ لدينه وعرضه ، ويحمل الناس على الكمالات ، ولذلك أدركنا من العلماء والأئمة والمشايخ من يوصي بهذا، ومنهم من تقلد الإمامة عنده رخص في الصلاة لا يفعلها عند(3/22)
الخلاف، كل هذا حتى ينصح لعامة المسلمين في صلاتهم، فلا يصلي بهم على وجه فيه خلاف حتى تكون صلاتهم على الوجه المعتبر. فالصحيح أنه يجوز ائتمام المفترض بالمتنفل؛ لحديث معاذ - رضي الله عنه - .
قال رحمه الله : [ وإذا كان المأموم واحدا وقف عن يمين الإمام ] : إذا كان المأموم واحدا وقف عن يمين الإمام شروع في بيان موقف المأموم مع الإمام وموقف المأمومين مع الإمام ، إذا كان المأموم واحدا ذكرا وقف عن يمين الإمام ؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في الصحيح لما بات عند خالته ميمونة رضي الله عنها قال : (( فقمت فصنعت مثل ما صنعت ، فجئت فقمت عن يساره أي عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذني وأدارني عن يمينه )) فتكلف النبي - صلى الله عليه وسلم - إدارته عن يمينه وحرّكه في الصلاة فدل على أن الوقوف في اليمين لازم ؛ لأنه لا يمكن أن يحركه هذه الحركة إلا لأمر لازم وواجب، فدل على أنه لا يقف المأموم إلا عن يمين الإمام، والإجماع منعقد من حيث الجملة على أن المنفرد يقف عن يمين الإمام ابتداء ، وهذا كله إذا كان ذكرا سواء كان بالغا أو صبيا . أما إذا كان بالغا لحديث جابر - رضي الله عنه - ، فإنه جاء وقام عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح، أو كان صبيا كحديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيح لما بات فقام عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - فأداره عن يمينه . أما إذا كان أنثى أو خنثى فإنه يقف وراء الإمام ؛ لحديث أنس في الصحيحين في قصة أم حرام بنت ملحان رضي الله عن الجميع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم : (( قوموا فلأصلّ لهم )) قال أنس : (( فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من خلفنا )) فجعل المرأة تصلي لوحدها في الخلف فإذا صلت المرأة مع زوجها تأخرت خلفه أو صلت البنت مع أبيها تأخرت خلفه فلا تصلي معه ولا بجواره .(3/23)
قال رحمه الله : [ فإن وقف عن يساره أو قُدامه أو وحده لم تصح ] : هذا موقف المأموم مع الإمام إذا كان بدأ بالإمام بأقل العدد وهو الواحد ، فالواحد يقف عن اليمين ، فإن وقف عن اليسار أو وقف قُدام أو وقف وراء لوحده لم تصح صلاة المأموم ، وعند الحنابلة لم تنعقد الجماعة ، فينوي أنه منفردا الإمام في هذه الحالة ولا ينوي أنه إمام ، في هذه الحالة أبطل صلاة من على اليسار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدار ابن عباس، ولا يكون هذا إلا لتلافي الخلل؛ فدل على أن الصلاة لا تصح في اليسار، وإلا كان تركه عليه الصلاة والسلام، ولا تصح قُدامه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) فجعله وراء الإمام ولم يجعله أمامه ، ولأن الصحابة لم يتقدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - البتة إلا في حالة واحدة وهي أن يصلي الإمام في مسجد الكعبة، فيجوز أن يتقدم عن الإمام في غير جهة الإمام، فيكون أقرب إلى الكعبة، وهذا مذهب الجماهير: أنه لو صلى الإمام بين الركن والمقام في جهة الباب يجوز لمن في جهة الحجر ويجوز لمن كان بين الركنين ويجوز لمن كان في غربي المسجد أن يصلي أقرب من الإمام إلى البيت فهذه غير جهة الإمام، يعني لا يحفظ فيها خلاف لا أعرف فيها خلافا أنه يجوز أن يتقدم إنما الخلاف هل الصف الأول هو الذي وراء الإمام دائرا من جميع الجهات أو أسبق إلى البيت والثاني أقوى في غير جهة الإمام فهو الأسبق ؛ لأنه صف مشروع وهو الأسبق والمقدم ، هذه ثلاث مسائل : إن كان عن يساره بطلت، أو أمامه بطلت؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) وهذا لم يأتم بالإمام ، والائتمام يكون في الصورة كما يكون بالمتابعة، إذا صلى وراءه وحده فهو منفرد خلف الصف، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لوابصة ابن معبد - رضي الله عنه - كما في الحديث الذي صححه غير واحد وهو حديث السنن لما صلى وراء الصف(3/24)
وحده ((استقبل الصلاة - أي أعدها - فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف )) فهو إذا صلى وراء الإمام وهو وحده فمعنى ذلك أنه منفرد خلف الصف . هذه أربع جهات : إن وقف عن يمينه صحت ، وإن وقف أمامه أو عن يساره أو خلفه بطلت ، ولا يتقدم المأموم عن الإمام إلا إذا صلى جماعة في مسجد الكعبة، لكن إذا وقف عن يمينه فهل يساويه أو يتأخره قليلا عنه ، وهي مسألة المحاذاة والتأخر، أصح القولين أنه يتأخر قليلا فلا يجعل الكعب مع الكعب ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص وقال : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) وهذا الحديث استدل به حتى الجمهور على المنع من التقدم على الإمام، فدل على أنه ليس خاصا بالمتابعة في الأركان والواجبات، بل هو شامل للمتابعة الصورية ، وقد قرر أئمة اللغة منهم الإمام ابن منظور رحمه الله في اللسان أن الإمامة مأخوذ من الأمام فلما قال : (( إنما جعل الإمام )) دل على التقدمة ، وعلى هذا فلو ساوى الإمام لم يكن مؤتما به ؛ لأن المؤتم يتأخر ويكون تبعا لا مساويا ولا متقدما، فعلى هذا يحتاط بالتأخر قليلا فلا يجعل الكعب عند الكعب . قال بعض أئمة الحديث وترجم له بعض شراح الحديث بأنه يقف بحذائه ؛ لحديث ابن عباس أنه أداره عن يمينه ، ولكن هذا الحديث أعم من موضع النزاع ؛ لأن قوله : (( فأداره عن يمينه)) لم يفصل هل هو كعبه بكعبه مسامتا له أو متأخرا عنه قليلا ، فعلى هذا لا يقوى على معارضة النص القوي في دلالته على لزوم المتابعة حتى في الصورة والموقف .(3/25)
قال رحمه الله : [ إلا أن تكون امرأة فتقف وحدها خلفه ] : إذا قلنا إنه يتأخر فلماذا نقول : إن الذي وراء الإمام تبطل صلاته ؟ لأنه منفرد ، فما هو قدر التأخر المعتبر ؟ الضابط عند العلماء في التأخر عند من يقول ببطلان صلاة المنفرد خلف الصف يقول إذا تأخر عن الصف بقدر القدم فإنه حينئذ يكون في حكم المنفرد لأنه ليس في الصف أصلا ، وعلى هذا فلا يتأخر إلى آخر عقب الإمام بحيث تأتي أصابعه عند عقبها إنما يتأخر تأخرا قليلا بحيث لو جاء العقب بعد العقب والكعب بعد الكعب ولو باليسير أجزأه هذا هو الذي يقصده العلماء رحمهم الله .
قال رحمه الله : [ إلا أن تكون امرأة فتقف وحدها خلفه ] : لحديث أم حرام بنت ملحان وهو حديث أنس في الصحيحين الذي تقدمت الإشارة إليه .(3/26)
قال رحمه الله : [ وإن كانوا جماعة وقفوا خلفه ] : وإن كانوا جماعة : الجماعة الاثنان فأكثر، وقفوا خلفه : وهذا هو أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما وقف جابر عن يمينه ثم جاء جباّر دفعهما عليه الصلاة والسلام وراءه من خلفه عليه الصلاة والسلام ، فدل على أن الاثنين يقفان وراء الإمام، ولا يقفان عن يمينه ويساره ، والاثنان فأكثر السنة ثابتة على أن موقفهما وراء الإمام؛ لحديث جابر وجبار أن جابرا صلى عن يمين النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء جبار فدفعهما وراءه عليه الصلاة والسلام؛ ولأن الصحابة لما كانوا أكثر من اثنين كانوا يقفون صفا وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأما بالنسبة للقول الثاني في المسألة فقد ذهب الحنفية إلى أن الاثنين يقف أحدهم عن يمينه والثاني عن يساره ، واحتجوا بصلاة عبدالله بن مسعود بصاحبيه علقمة ومسروق ، الصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وأجيب عن هذا الحديث بأنها صلاة مكية ، وهذا كثيرا ما يقع في مرويات ابن مسعود - رضي الله عنه - الذي تمسك بها بعض العلماء كالحنفية رحمهم الله وخالفوا بها الأكثرين وهم الجمهور، فإن صلاة الاثنين أحدهما عن يمين الإمام، والثاني عن يساره صلاة مكية ، ولذلك لما ركع طبق وهي صفة الصلاة التي كانت قبل الهجرة وحفظها ابن مسعود وفعلها، والصحيح أنه يصليان وراءه ولا يصليان بحذائه .(3/27)
قال رحمه الله : [ فإن وقفوا عن يمينه أو عن جانبيه صح ] : فإن وقفوا عن يمينه كأن يكون المكان ضيقا وصلى اثنان عن يمين الإمام صحت الصلاة لوجود الحاجة ، وهكذا لو وقفوا عن يمينه ويساره عن جانبيه بعض الأحيان يضيق المكان فيتقدم الإمام قليلا ثم يقفون عن يمينه ويساره ويبقى الذي وراء الإمام فراغا لكنه لا يقطع الصف لأنه ليس فيه انفهاق يسع لصلاة الشخص كاملا وخاصة في حال ضيق المكان كما يحدث في السفن ما يستطيعون أن يذهبون إلى مكان آخر ويريدون أن يصلون جماعة ، أو الأماكن الضيقة وفي حال الحج ونحو ذلك فحينئذ تصح ماداموا أنهم وقفوا عن يمينه وعن يساره جماعة فإن الصلاة صحيحة ، إنما الإخلال لمن صلى عن يسار إذا صلى عن يساره مع إمكان اليمين، وبعض المتأخرين يظن أن هذا على إطلاقه فيبطل صلاة الجماعة حينما تمتد الصفوف وتمتلئ الأمكنة فيحتاج ويضطر بعض المصلين أن يصلوا عن يسار الإمام يأمرهم بالإعادة ، والصحيح أنه لا إعادة عليهم ، وأن موقفهم صحيح ، صلوا لوجود الضرورة والضيق ، فصلوا عن يساره وهذا الموقف معتبر ؛ لأنه ليس موقفا منفردا عن يسار الإمام اختيارا، وإنما وقفوا جماعة عن يساره اضطرارا، والفرق بين المسألتين واضح .
قال رحمه الله : [ فإن وقفوا قدامه أو عن يساره لم تصح ] : لما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ وإن صلت امرأة بنساء قامت معهن في الصف وسطهن ] : لحديث أم سلمة رضي الله عنها، وعليه عمل السلف رحمهم الله أن المرأة تصلي وسط النساء، وهذه صفة خاصة إذا صلت المرأة بالنساء فإنها تصلي وسطهن، وهذا للستر وهو أبلغ ما يكون في الستر، ومما تختلف فيه إمامة المرأة عن إمامة الرجل .(3/28)
قال رحمه الله : [ وكذلك إمام الرجال العراة يقوم وسطهم ] : إذا كان الإمام عاريا مثلا غرقت سفينة فخرجوا عراة من البحر وليس عندهم قدرة على أن يستتروا ففي هذه الحالة إذا أرادوا أن يصلوا جماعة فإن إمامهم يصلي بينهم وسطهم ولا يتقدم ؛ لأنه إذا تقدم استضر بانكشاف عورته ، وإذا تعارض حق الله وحق المخلوق قُدم حق المخلوق ، ومن هنا يصلي وسطهم مبالغة في الستر .
قال رحمه الله : [ وإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء قُدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء ] : إذا اجتمع رجال ونساء وصبيان ونساء وخناثى قدم الرجال ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم الرجال، ويقدم في الرجال أولوا الأحلام والنهى . ثانيا بعدهم الصبيان كما قال أنس - رضي الله عنه - : (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل الرجال ثم الصبيان ثم النساء )) يقدم الصبيان بعد ذلك ، ثم الخناثى للشك في كونهم ذكورا أو أناثا ، فهم بين الجنسين فيصلون وراء الصبيان؛ لأنهم لم يتمحضوا ذكورا ولم يتمحضوا أناثا لاحتمال الذكورة والأنوثة ، فيكونون بين الرجال والنساء، ثم بعد ذلك النساء ، وهذا الترتيب الأول مسنون محفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصف الرجال ثم الصبيان ثم النساء وأدخل الخناثى للأصل أنهم اتفقوا وأجمعوا على أن الخنثى في الأصل أنثى حتى يثبت أنه ذكر ، وعلى هذا فالخنثى يكون بين الرجال والنساء لوجود الشبهة فيه، ويكون النساء في الأخير اتباعا للسنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . يقدم الرجال أما الصبيان فإن كان الصبي مميزا وسبق في أطراف الصفوف وجاء في أطراف الصفوف الأول فإنه لا يؤخر؛ لأن هذا حقه، ومن سبق إلى شيء فهو أحق به، فإذا كان صبيا مميزا وينضبط في الصلاة ويؤدي الصلاة كما ينبغي فلا إشكال، أما إذا كان صبيا يتلاعب أو لا يحفظ الصلاة فهذا لا يقام في الصف، إنما يقام بعيدا عن الصف حتى لا يقطعه، والبعض يأتي بالصبي يعبث(3/29)
ثم يجلسه بجواره فهذا يقطع الصف، فالمنبغي أن يجعله أمامه أو قريبا منه حتى لا يقطع صفوف المسلمين بوجود مثله ؛ لأن هذا وجوده وعدمه على حد سواء ، وهو يشوش بأفعاله وحركاته على من بجواره ، وهو لا يعقل الصلاة. فالصبي يكون في الأطراف لا بأس لكن لا يكون وراء الإمام مباشرة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( ليليني أولوا الأحلام والنهى )) فأمر أن يليه أولوا الأحلام ، ولأن الإمام قد يطرأ عليه شيء يوجب الاستخلاف فينبغي أن يكون وراءه أهل العلم ونحو ذلك مما يمكن استخلافهم .(3/30)
قال رحمه الله : [ ومن كبر قبل سلام الإمام فقد أدرك الجماعة ] : لأن إدراك الجماعة نوعان إدراك فضيلة وإدراك حكم ، فأما إدراك الفضيلة فقد دل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمسا وعشرين ضعفا ، وذلك أنه إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة ....الحديث)) فجعل الفضيلة على الخروج ، ومن هنا ثبت في حديث السنن عنه وصححه غير واحد : (( من عمد إلى مسجد فوجد قومه قد صلوا كتب له مثل أجرهم )) فهذا من حيث إدراك الفضل، وأما إدراك الحكم أنه يعتبر مدركا للحكم فإنه لا يكون مدركا لحكم الجماعة أي أنه مأموم إلا إذا أدرك ركعة فأكثر أي أدرك الركوع الأخير فأدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه منه ، ويتضح ذلك في صلاة الجمعة ، فإنه لو أدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركوع الأخير في الجمعة فإنه يضيف ركعة ، وقد أدرك الجمعة ، وأما إذا أدركه وقد رفع رأسه من الركوع فإنه يصلي أربع ركعات ؛ لأنه لم يدرك الجمعة فيصليها ظهرا ، فهناك إدراك فضيلة ، وإدراك حكم ، فأما إدراك الفضيلة فإنك لو كبرت قبل تسليم الإمام فإنك تدرك فضيلة الجماعة الأولى؛ لأن الجماعة الأولى سابقة في الوقت ، وبين الجماعة الأولى والثانية من الوقت كما بين السماء والأرض ؛ ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( إن العبد ليصلي الصلاة وما يصليها في وقتها ولما فاته من وقتها خير له من الدنيا وما فيها )) ولذلك أمر كل من جاء ولو متأخرا ولو قبل سلام الإمام بلحظة أن يدخل (( فما أدركتم فصلوا )) وإذا انقطع عن أن يكبر شذ عن الجماعة وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدخول في الجماعة ولو كان قد صلى وقال للرجلين : (( ألستما بمسلمين ؟! )) منعا للشذوذ عن جماعة المسلمين، واجتهد بعض أهل الرأي من الحنفية وكذلك بعض المتأخرين يميل إليه يقول : ينتظرون(3/31)
ويقفون ويحدثون جماعة ثانية ، وهذا من الشذوذ لا شك ، ومعارضا لهذا الرأي للنص الواضح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ما أدركتم فصلوا )) . ولم يفرق بين كونهم مدركين لها تامة أو على الأخير، فعلى هذا يدركون فضيلة الجماعة الأولى، فإدراك الفضيلة بالتكبير قبل سلام الإمام، فإذا انتهى من ( أكبر ) قبل أن يبدأ الإمام بالتسليم فقد أدرك فضيلة الجماعة الأولى، إذا أراد أن يحدث جماعة ثانية يقول للذي معه إذا جاء متأخرا صلِّ بجنبي فإذا سلم الإمام ائتم بي ؛ لأنه منفرد ، وحينئذ يكون أدرك فضيلة الجماعة الأولى وأدرك الجماعة بفضيلة الجماعة بائتمام الغير به .
قال رحمه الله : [ ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة وإلا فلا ] : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من أدرك الركوع فقد أدرك السجود )) وقال : (( من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة )) وهذا يدل على أن مدرك الركوع مدرك للركعة ، ويدل عليه حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - رفيع بن الحارث أنه لما أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - راكعا ركع ثم دب إلى الصف فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( زادك الله حرصا ولا تعد )) ولم يأمره بإعادة الركعة، فدل على أن إدراك الركوع إدراك للركعة .
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب صلاة المريض ] : باب صلاة المريض : المرض ضد الصحة، والمرض خروج البدن عن حد الاعتدال، ويكون المرض حسيا، ويكون خلقيا، كالأمراض النفسية، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصلاة المريض، فقد خص الله المريض بجملة من الأحكام تيسيرا منه - سبحانه وتعالى - ورحمة .(3/32)
قال رحمه الله : [ والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى جالسا ] : والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى جالسا ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمران بن حصين رضي الله عنهما : (( صل قائما فإن لم تستطع فجالسا )) فجعل العجز في المرض ؛ لأنه كانت به بواسير - رضي الله عنه - ، فأجاز له أن يصلي قاعدا إذا عجز عن القيام، وإذا عجز عن القيام ففيه تفصيل : وإما يعجز عن القيام كلية فلا إشكال ، وإما أن يعجز عن القيام في حال دون حال كأن يمكنه أن يقوم للحظات ثم يدركه الإعياء فيجلس؛ فحينئذ يكبر تكبيرة الإحرام ويلزمه أن يكبرها قائما، ويقف بقدر ما يستطيع حتى يأتيه العذر فيجلس، وأما ما يفعله البعض فتجده يأتي إلى أن يقوم في الصف وهو قادر على القيام، فيجلس على كرسيه ويكبر تكبيرة الإحرام ويصلي الجماعة وهو قاعد مع إمكانه أن يقوم ويكبر تكبيرة الإحرام قائما، بل بعضه يستطيع أن يقرأ الفاتحة وهو قائم، فمثل هذا ينبه عليه، بل بعضهم يجر كرسيه من طرف المسجد إلى الصف الأول وهو في عافية الله، حتى إذا جاء للصلاة جلس على كرسيه ويقول : إنه مريض هذا ما يصح ينبغي ضبط هذه الضوابط بالأصول الشرعية : إن العذر يقيد بما هو مؤثر وموجب للرخصة ، وعلى هذا إذا كان يمكنه أن يقف ويكبر تكبيرة الإحرام نقول له : كبر تكبيرة الإحرام وأنت قائم ؛ لأن الله فرض عليك القيام، فإن عجز بالكلية فلا إشكال وإن استطاع في حال دون حال نظرنا فإن كان الحال يمكنه من قراءة الفاتحة لزمه أن يقرأ الفاتحة قائما ثم يجلس إن شاء ، وإن كان لا يستطيع ذلك فإنه لا يكلف إلا ما في وسعه فيكبر تكبيرة الإحرام ثم يجلس أو يكبر جالسا إن لم يستطع نهائيا .
قال رحمه الله : [ فإن لم يُطِقْ فعلى جنبه ] : إذا كان لا يستطيع القيام فجلس ، الجلوس له صفتان :
الصفة الأولى : أن يجلس جلسة التشهد سواء مفترشا أو متوركا .(3/33)
والصفة الثانية : أن يجلس جلسة المتربع، فهل إذا صلى جالسا يتربع أو يجلس جلسة الافتراش، وجهان للعلماء أصحهما وأقواهما أنه يجلس جلسة الافتراش ؛ لأنها ألصق بالصلاة ، وهذا اختاره بعض الأئمة كالإمام الطبري رحمه الله وغيره في التهذيب ويميلون إليه ، وهذا من باب الترجيح بالمجانسة ؛ لأن هذا من جنس المشروع، لكن إذا كان يؤذيه أن يجلس مفترشا أو لا يستطيع فيجلس متربعا ، أما أن يجلس متربعا وهو قادر على الافتراش فهذا في النفس منه شيء يتبع الجلسة الواردة ؛ لأنها جلسة الصلاة وهيئة الصلاة فيجلس عليها .
قال رحمه الله : [ فإن لم يُطِق فعلى جنبه ] : فإن لم يطق الجلوس فعلى جنبه وهي ضجعة مثل ضجعة الميت في القبر يكون على شقه الأيمن مستقبل القبلة ، هذا معنى على جنب ، وهي هيئة شرعية ومن هنا يقوّي من قال إنه يجلس مفترشا أو متوركا على المتربع كما قالوا في الجنب إنه يراعي الصفة الشرعية فيكون على شقه الأيمن مستقبلا القبلة ، إن لم يمكن قلبه على شقه الأيمن كأن تكون به جروح أو حروق وقال على شقه الأيسر يصلي على شقه الأيسر؛ لأنه قال على جنب، فجعل الجنب مأمورا به وحينئذ يصلي على جنبه ويُقَبّل القبلة، فإن لم يطق لا يستطيع قائما ولا جالسا ولا على جنب فإنه يصلي على ظهره، وإن لم يستطع صلى بالإيماء يعني ما يستطيع أنه يكون على حال يكون على حال مختلا مثل بعض نسأل الله السلامة والعافية الإصابات أو قد يكون في حال –مثلا- يجرى له عمل جراحي أو شيء لا يستطيع خلال ساعتين وهي وقت الصلاة أو خلال ساعة وهو وقت الصلاة إلا أن يكون معوجا أو مختلا في هيئته أو جلسته فإنه يصلي على حاله . هذا بالنسبة للمريض . الأصل في ذلك قوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فدل على أن المكلف يكلف ما في طاقته وهذا الذي في طاقة المريض .(3/34)
ثانيا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمران بن حصين رضي الله عنهما كما قدمنا : (( صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب )) في قوله : (( صل قائما )) دليل على مسائل :
أولا : فرضية القيام في الصلاة .
وثانيا : أن المريض لا يقال له : صل قاعدا مباشرة؛ لأنه يخاطب مريض، فقال : (( صل قائما فإن لم تستطع )) فمعنى ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - راعى في المرض أن يكون مؤثرا في القيام من كل وجه حتى ينتقل إلى الوجه الثاني وهو الجلوس ، فإذا كان قادرا على القيام في حال دون حال صلى قائما ثم جلس عند طريان العذر على التفصيل الذي ذكرناه .
(( فإن لم تستطع فقاعدا )) دليل على مشروعية صلاة القاعد عند العجز عن القيام، (( وإن لم تستطع فعلى جنب )) دليل على مشروعية أن يصلي على جنبه عند العجز .
قال رحمه الله : [ فإن شق عليه فعلى ظهره فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما ] : إن شق عليه فعلى ظهره مثل ما يحدث في المستشفيات يكون المريض مثلا على ظهره مستلقيا على ظهره فيقول له مثلا الطبيب لا تتحرك كما في حالات الكسور فإذا صلى على ظهره فلا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يمكن أن يرفع صدره وجزعه الأعلى بأن يسند فحينئذ يستند حتى يكون إلى القبلة بأن يرفع مثلا كرسيه أو سريره في هذه الحالة يرفع وهو على ظهره لكن يرفع إلى القبلة وتكون القدمان إلى جهة القبلة .(3/35)
الحالة الثانية : أن يتعذر ذلك أو يصعب أو يمتنع أو يقول الطبيب : لا يرفع ؛ فحينئذ يصلي ووجهه إلى السماء ؛ إذًا هناك حالتان إذا كان على ظهره : إما أن يمكن رفع ظهره كما في تقبيل الميت ؛ لأن الميت تقبل على هذا الوجه ، ويرفع صدره قليلا وهي إحدى الصورتين في تقبيل الميت ، فيرفع بحيث يكون صدره إلى القبلة ؛ لأنه في حال الجلوس يكون على القبلة ، فإذا عجز تكون أقرب صورة للظهر إلى القبلة هي أن يرفع صدره ، وهذا يختارها كثير من العلماء نسبت إلى الجمهور رحمهم الله أنه يرفع صدره قليلا ، فإذا عجز فإنه يصلي ووجهه إلى السماء .
قال رحمه الله : [ فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما ] : إذا كان يصلي جالسا فإما يمكنه أن ينحني لركوعه وسجوده فحينئذ ينحني ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى جالسا انحنى كما في صلاته على بعيره كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في صلاة السفر كان يومئ بالركوع والسجود فدل على أن الجالس يومئ بالركوع ويومئ بالسجود، فإذا قلنا بالإيماء يكون سجوده أخفض من ركوعه، فإذا كان يمكنه أن يسجد سجودا تاما فلا إشكال، وأما إذا لم يمكنه أن يسجد سجودا تاما كما ذكر المصنف فيومئ فإن قلنا بالإيماء أبعد في السجود أكثر من الركوع وفصل بين الركوع والسجود كما قال : وكان سجوده أخفض من ركوعه أي أنه ينحني ويومئ للسجود أكثر.
قال رحمه الله : [ وعليه قضاء ما فاته من الصلوات في إغمائه ] : فإن كان في حال الإيماء لا يستطيع الركوع والسجود كما ذكرنا يومئ بجذعه فإن لم يستطع الإيماء بالجذع يومئ برأسه، فإذا أراد الركوع حنى رأسه قليلا ثم رفع ، ثم أراد السجود حنى إلى أقصى ما يستطيع حنيه .(3/36)
إذًا هناك حالتان في الإيماء : أن يستطيع أن يحني جذعه فحينئذ يجعل السجود أخفض لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على دابته، وإما أن يتعذر عليه أن يحرك جذعه فحينئذ يومئ برأسه ، والإيماء بالرأس أن ينظر إلى أقصى ما يصل إليه الرأس خفضا فيجعله للسجود ثم يجعل ما فوق ذلك للركوع .
قال رحمه الله : [ وعليه قضاء ما فاته من الصلوات في إغمائه ] : هذه مسألة المغمى عليه للعلماء فيه وجهان :
من أهل العلم من قال : المغمى عليه مكلف وفي حكم النائم يقضي ما فاته .
ومنهم من قال غير مكلف ولا يلزمه قضاء ما فاته وهو الصحيح وهو مذهب الجمهور من حيث الجملة والدليل على ذلك أن المغمى عليه أشبه بالمجنون ؛ لأن النائم إذا أيقظته يستيقظ ، والمغمى عليه إذا أيقظته لا يستيقظ ، وهذا عذر خارج عن إرادته ، والأطباء يقررون أنه يؤثر في عقله ، وحينئذ يؤثر في تكليفه وفي آثار مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضها محسَّن، وهذا يدل على أن المغمى عليه في حكم المجنون، وعلى هذا فإنه لا يجب عليه قضاء الصلوات ولا يلزمه فعلها إذا أفاق خلافا لما اختاره المصنف ، ولذلك الذين قالوا بالقضاء اضطربت أقوالهم، فمنهم من جعل القضاء في اليسير دون الكثير، وجعله في حكم المكلف إذا كان إغماؤه دون اليوم، ومنهم من جعله خمسة فروض، ومنهم من جعلها ثلاثة أيام وفيها آثار عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما ، والصحيح ما ذكرناه أن المغمى عليه في حكم المجنون طال إغماؤه أو قصر .(3/37)
قال رحمه الله : [ وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر وبين العشاءين في وقت إحداهما ] : هذه المسألة تعرف بمسألة الجمع بين الصلاتين للمرض ، والجمهور على أنه لا يجمع بين الصلاتين بعذر المرض، وهو الصحيح ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض فلم يجمع ولم يأمر الصحابة بالجمع في المرض، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما (( جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير مطر ولا سفر )) فهذا الحديث المراد به الجمع الصوري ، وقد فعله ابن عباس - رضي الله عنه - في خطبته كما في صحيح مسلم ، ولذلك كان يخطب الناس فقام رجل وقال : (( الصلاة ! )) فسكت عنه ثم قام للمرة الثانية ثم قام للمرة الثالثة فقال له ابن عباس : (( أتعلمنا بالصلاة لا أم لك ! )) وهذا يدل على حرص السلف على حفظ مكانة العلم والعلماء حتى لا يستطيل الجهال ، فأغلظ له هذا القول مع أن الرجل يأمر بالمعروف ، فقال له: (( أتعلمنا بالصلاة لا أم لك ! )) وهذا شأن من ينكر على العلماء ومن هو أعلم دون أن يستبين دليلهم، جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين ، أخر - رضي الله عنه - الظهر إلى آخر وقتها ثم نزل فصلاه فدخل وقت العصر فصلى العصر، فهذا جمع صوري ، وقوله : (( أراد أن لا يحرج أمته )) ؛ لأن الذهاب بعد صلاة الظهر ثم الرجوع مرة ثانية لصلاة العصر وتحين صلاة العصر وانتظاره فيه حرج ؛ ولأن هذا النوع من الجمع لا يكون إلا عند الحاجة، مثلا لو أن أناسا في شركة أو مؤسسة أو في عمل أو موظفون في إدارة عندهم مشكلة أو مرتبطة بهم مصالح لو قاموا عن هذه المشكلة يحتاجون أن يرجعوا من جديد ويستضرون فهؤلاء نقول لهم : أخروا الظهر إلى آخر وقتها حتى إذا بقي قدر ما تصلى نزلوا فصلوا جماعة فدخل وقت العصر، فيقيمون فيصلون العصر عند وجود الحاجات، والشريعة شريعة كاملة تراعي الأحوال والظروف ، فمثل هذه الظروف تحصل في الحضر كثيرا ، وخاصة على(3/38)
مستوى الجمع، فابن عباس - رضي الله عنه - كان يخطب في الكوفة لأمر عظيم لا يستطيع قطعه ، فأتم ما هو فيه من توجيه الناس وإرشادهم وإعلامهم حتى انتهى مما يريد ومما يقصده ، وبعد ذلك أقام الصلاة فصلى الظهر ثم أمر فدخل وقت العصر فصلاها ، فهذا جمع صوري ؛ لأنه صورته صورة الجمع ، والحقيقة أن كل صلاة أديت في وقتها .
الدليل الثاني : ما ثبت في حديث الترمذي الذي حسنه الإمام البخاري وصححه بعضهم يقول : إنه صحيح لغيره وبعضهم يقول : إنه حسن . في أمره عليه الصلاة والسلام للمرأة المستحاضة التي قالت : (( إني أثجّ ثجا )) قال : (( أنعت لك الكرسف . أي القطن . قالت : هو أشد من ذلك يا رسول الله))، إلى أن قال عليه الصلاة والسلام : (( فإن قويت أن تؤخري الظهر فتصليها ثم تصلي العصر )) تصليهما معا بمعنى أن تؤخري ، يعني أن تؤخري إلى آخر الوقت ثم تصلي فجعل للمستحاضة وهو نوع مرض ، بل إنه مرض فيه مشقة ؛ لأنه أصل انفجار العِرق في المستحاضة اختلال للصحة ؛ ولذلك هو مرض من هذا الوجه وفي حكم المريض ، ولذلك العلماء يقيسون على المستحاضة كثيرا من مسائل المرض خاصة في السلس ونحوها . فالمقصود من هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالجمع بين الصلاتين صورة . فدل على أن هذا الجمع الصوري مقصود شرعا وله مكان في الشرع ، يقع للأعذار الخاصة كما في المستحاضة ، ويكون حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الأعذار العامة . وهذا مذهب جماهير العلماء رحمهم الله . وإلا لو قلنا إن حديث ابن عباس - رضي الله عنه - على ظاهره من جواز الجمع لأصبحت الصلوات ثلاث صلوات . ما على الرجل إلا أن يصلي الظهر والعصر مع بعضهما ، ثم يصلي المغرب والعشاء مع بعضهما ، ثم الفجر لوحده ، وهذا لا شك إنه مخالف للنص : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} وأمره عليه الصلاة والسلام في كل صلاة أن تصلَّى في وقتها ، وعلى هذا نجمع بين النصوص ، ونعمل السنة كما(3/39)
وردت ، ونتبع جماهير السلف الصالح رحمهم الله فيما قرروه .
فالشاهد أن مسألة المرض كان الصحابة يمرضون وحصل لهم من المرض ما حصل من الضيق والعناء والتعب ومع ذلك لم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجمع في المرض ، وهذا مع عموم البلوى به ، وأيضا أن الأدلة التي استدلوا بها لم تسلم من الرد ؛ لأنهم استدلوا بحديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، وحديث ابن عباس - رضي الله عنه - في الجمع الصوري وليس في الجمع الحقيقي ، ولذلك لم يسلم حمله على المرض ، فيبقى الأصل ، والفقه أن تبقى على الأصل حتى يدل الدليل الصحيح الذي يقوى على الإخراج من الأصل ، فما ذكروه من الجمع من المرض مذهب مرجوح ، والصحيح أن المريض لا يجمع ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل الأمة في التشريع وبيان الأخذ برخص الله وقد قال للأمة : (( عليكم برخص الله التي رخص لكم )) لم يجمع في مرضه ولا مرة واحدة ، وقد اشتد عليه المرض حتى أغشي عليه، ويغتسل بعد إغمائه ثم يغشى عليه - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع مرة ثانية ويغتسل ، وهذا من شدة ما كان يجده عليه الصلاة والسلام ومع هذا لم يجمع بين الصلاتين ، وعليه فإن المريض لا يجمع بين الصلاتين في أصح قولي العلماء ، وإنما له أن يؤخر الأولى إلى قرب وقت الثانية ثم يصليهما معا صورة لا حقيقة وحكما .(3/40)
قال رحمه الله : [ فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند فعلها ] : فإن جمع في وقت الأولى شُرط نية الجمع عند فعلها إذا أراد أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر ينوي أنه جامع بين الظهر والعصر . النية الأصل فيها قول عليه الصلاة والسلام : (( إنما الأعمال بالنيات )) ، وهذا أصل الذي ذكره في الشرط في الجمع يبقى حتى في السفر، أنه إذا أراد أن يسافر فارتحل بعد أن تزول الشمس أخذ بالسنة ، فيصلي الظهر والعصر فيقدم العصر في وقت الظهر ، ويقدم الثانية في وقت الأولى ، فينوي الجمع ؛ لأنه لا يصح الجمع إلا بالنية .
هذه النية للعلماء فيها وجهان : بعض العلماء يقول : إنها لازمة . فلا يصح جمع الثانية إلا وكان قد نوى عند ابتداء صلاته الأولى ، فلا يجمع الثانية إلى الأولى إلا إذا كان قد نوى عند الابتداء .
ومنهم من لا يرى شرطية ذلك وهو أقوى . يقولون : مثلا هو مريض وأراد أن يجمع بين الظهر والعصر له صورتان :(3/41)
الصورة الأولى : أن ينوي أن يجمع بينهما قبل أن يشرع في صلاة الظهر فلا إشكال . إذا جاء يريد أن يصلي الظهر ونيته أن يجمع بين الظهر والعصر ما فيه إشكال تحقق الشرط . لكن لو أنه صلى الظهر ثم عنّ له أن يضيف لها العصر فهو في الابتداء لم ينوِ، قالوا : لا يصح؛ لأنه لم ينوِ قبل أن يحرم بالأولى وهذا مرجوح ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين ، ولم يأمر الصحابة كما في يوم عرفة لم يأمرهم أن ينووا وهم في الظهر أن يجمعوا العصر إليها ، وجمع بين المغرب والعشاء في صلاة العشاء في مزدلفة لكنها تأخيرا ولما قال له الصحابي : الصلاة ؟! قال : (( الصلاة أمامك )). فنبهه على الجمع تأخيرا ولم ينبهه عليه تقديما فدل على التفريق بين الحكمين ؛ لأن الاستدلال بيوم عرفة ينازع البعض بأنه ابتداء التشريع ، فيرد عليهم بجمعه ليلة مزدلفة حيث نبه على أنه سيجمع وقال : (( الصلاة أمامك )) . لكي يكون هناك نية عند التأخير فالتأخير أشد من التقديم ؛ لأن التأخير إخراج الصلاة عن وقتها بترك فعلها في الوقت المأمور به شرعا .
قال رحمه الله : [ واستمرار العذر حتى يشرع في الثانية منهما ] : أن يستمر عذره بالمرض حتى يشرع في الصلاة الثانية المجموع إليها . فلو أنه مثلا نوى أن يجمع وهو مريض ثم زال المرض بعد أن انتهى من صلاة الظهر لا يجمع صلاة العصر ؛ لأن العذر لم يستمر إلى الشروع في الثانية ، يشترط عنده أن يكون العذر عذر المرض الموجب للجمع مستمرا إلى الثانية ، وللعلماء في هذا تفصيل في مسألة الجمع ، منهم من يشترط إلى دخول الوقت الثانية وله وجه ، كما سيأتي في تجمع السفر .
ومنهم من يرى أن العبرة بالشروع .(3/42)
الفرق بين القولين لو شرع في صلاة العصر الثانية المقدمة ثم زال عنه العذر أو سلم منها وزال عنه العذر قبل دخول وقتها أجزأه ؛ لأن العبرة في الفعل بالشروع لا بتمام الفعل وهي مسألة معروفة في القواعد : هل العبرة بالابتداء أو العبرة بالانتهاء ؟ الذي هو هل العبرة بالشروع أم بالانتهاء ؟ لها مسائل عديدة ، منها : لو أنه تيمم ثم رأى الماء أثناء صلاته هل العبرة بابتداء الصلاة أو انتهائه ؟ تقدم معنا في الطهارة الإشارة إليها .(3/43)
قال رحمه الله : [ وأن لا يفرق بينهما إلا بقدر الوضوء ] : وأن لا يفرق بين الأولى والثانية هذا شرط ثالث إلا بقدر الوضوء عدم التفريق بين الصلاتين المجموعتين ؛ لأنهما كالصلاة الواحدة ، ويكاد يكون كالإجماع أنه إذا طال الفصل المؤثر أن الجمع لا يصح ، وأما إذا كان الفاصل يسيرا فضبطه بعض العلماء بما أشار إليه جابر - رضي الله عنه - في الصحيح في منسكه في حجة الوداع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب ثم أناخ كل منا راحلته يعني ترك الناس حتى أناخوا وهو حط الرحل كما يقول العلماء ثم أقام فصلى العشاء . هذا القدر المغتفر فيما بين الصلاتين ؛ لأن هناك قاعدة " أن ما خرج عن الأصل وجاء على الرخصة يقيد بالوارد" هذا السبب أن العلماء يجعلون هذه الشروط ، وليست هي شروط أهواء، إنما جاءت على الوارد ، فلما جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصلاتين لم يفصل بينهما بفاصل مؤثر قالوا ينبغي أن يكون الجمع على هذه الصورة حتى يصدق عليه أنه جمع شرعي ، ومن هنا ينبغي أن يتقيد بالوارد ، الذي ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فصل بقدر ما أحط كل منهما رحله ، فلا يفصل بفاصل مؤثر حتى قال بعض العلماء أن منه الأكل والشرب ، فلو أنه صلى المغرب ثم تناول عشاءه ثم بعد ذلك قام وصلى العشاء قالوا هذا يؤثر في الجمع عليه أن ينتظر حتى يدخل وقت العشاء ، فيصلي العشاء ، ولا يصح الجمع مع وجود الفاصل؛ لأنه لم يجمع الصلاتين ، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الأكل بين الصلاتين المجموعتين . فعلى كل حال هذا مذهب لبعض العلماء وهو الذي استنبطوا بسببه هذه الشروط . هذه الشروط استنبطوها حتى تكون صورة الجامع فيما خرج عن الأصل؛ لأن الجمع خارج عن الأصل على الصفة الواردة ؛ وحينئذ يكون قد أدى الرخصة على وجهها.(3/44)
قال رحمه الله : [ وإن أخر اعتبر استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية ] : إذا أراد أن يجمع جمع تأخير يشترط أن يستمر عذر المرض وعذر السفر إلى دخول وقت الثانية ، فإذا علم أنه يدخل المدينة في السفر قبل أذان العصر فإنه لا يصح له أن يجمع جمع تأخير ، وذلك لأنه إذا دخل المدينة لزمه أن يقضي صلاة الظهر ؛ لأنه قد أصبح مقيما ولم يصبح مسافرا ، ومن هنا إذا أراد أن يؤخر يغلب على ظنه أن يبقى العذر ويستمر العذر إلى دخول وقت الثانية ، وهذا شرط صحيح؛ لأن جمع التأخير ينبغي أن يكون العذر فيه مستمراً إلى دخول وقت الثانية يعني إلى الأذان .
قال رحمه الله : [ وأن ينوي الجمع في وقت الأولى قبل أن يضيق عن فعلها ] : هذا الشرط الثاني أن ينوي الجمع في وقت الأولى قبل أن يخرج وقتها ؛ لأنه يفرق بين من ترك الصلاة وبين من أخذ بالرخصة؛ لأنه إذا لم ينو الجمع ومضى عليه وقت الظهر كله وهو في السفر ولم يصلِ فهو غافل عن صلاته ناس للصلاة ، وليس بجامع ولا في حكم الجامع ، ولا ينوي نية الجمع ، وهذا من التفريق في الصفات الشرعية ، ففي الشرع من هو ناس للصلاة ، وفي الشرع من هو تارك لها عمدا، فلم يصلها في وقتها عمدا ، من نسي الصلاة ؛ فإن النسيان صفته أن يذهل عن الشيء ، فإذا سافر وخرج من المدينة وأذن عليه أذان الظهر بعد ما خرج من المدينة وراح في سفره ، ثم لم يشعر وقد أذن عليه صلاة العصر، نقول: هذا ناس، فإذا جاء يصلي سيبدأ بصلاة الظهر ثم يصلي العصر معها ، فليس بجامع ولا ينوي الجمع ، وهذا صحيح لأنها صفات شرعية ، من ترك الصلاة ذاهلاً ناسيا نطبق عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )) ، فتكون صلاته على سبيل النسيان ، فلا ينوي الجمع ؛ لأنه ليس بجامع ، لأن الشرع لم يعط الرخصة على هذا الوجه .(3/45)
أما إذا تركها عمدا وتساهلا هذا لا إشكال فيه ، وإما أن يتركها عمدا وقصدا لكي يجمعها مع الثانية؛ فحينئذ ينوي في وقت الأولى أنه يريد أن يجمع الأولى مع الثانية ، وعلى هذا فإذا أذّن عليه أذان الظهر قال: سأجمع إن شاء الله حينئذ إذا دخل عليه وقت العصر ولو ذهل طيلة الوقت ثم دخل عليه وقت العصر وأراد أن يصلي فهو جامع ؛ لأنه نوى أن يؤخر الأولى إلى وقت الثانية ؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما لكل امرئ ما نوى )) فأخذوا منه أن من نوى شيئا كان له ومن لم ينوه لم يكن له . هذا أصل عند العلماء من نوى شيئا كان له ؛ لقوله : (( إنما الأعمال بالنيات )) ومن لم ينو شيئا لم يكن له . ذاك منطوق وهذا مفهوم . ((إنما الأعمال بالنيات)) منطوقها أن من نوى شيئا كان له ومفهومها أن من لم ينو شيئا لم يكن له .
قال رحمه الله : [ ويجوز الجمع للمسافر الذي له القصر ] : ويجوز الجمع للمسافر الذي له القصر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في السفر كما في حديث معاذ ، فجمع بين الظهر والعصر وجمع بين المغرب والعشاء.
وأجمع العلماء على أن الجمع في أربع : فيجمع بين المغرب والعشاء ويجمع بين الظهر والعصر ، وأن الفجر لا تجمع لا إلى ما قبلها ولا إلى ما بعدها . فالجمع يختص بهذه الصلوات ، والجمع بين الصلاتين في السفر قول جمهور العلماء - رحمهم الله - ، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبتت به السنة .
فكان إذا ارتحل قبل أن تزول الشمس في الظهر أخر الظهر إلى وقت العصر فجمع جمع التأخير ، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس أخّر المغرب إلى وقت العشاء فجمعهما أي جمع جمع تأخير .
وأما إذا ارتحل وحرك دابته أراد أن يسافر ويرتحل وقد زالت الشمس ودخل وقت الظهر قدم العصر إلى وقت الظهر فصلاهما معا .(3/46)
وكذلك أيضا إذا أراد أن يرتحل بعد غروب الشمس قدم العشاء إلى وقت المغرب فصلى المغرب وجمعها معه ؛ فقد جاء عن الصحابة رضوان الله عليهم تطبيق هذه السنة ؛ فقد روى النسائي وغيره في سننه أن عبدالله بن عمر أرسلت إليه امرأته صفية أنها في آخر أيام الدنيا وأنها مقبلة على الآخرة وكانت في مزرعته بوادي الفرع المعروف ، فروى الراوي أن ابن عمر لما جاءه خبرها ركب على دابته فأذن عليه المؤذن فصار يستحث من معه على الصلاة حتى أخرها فصلاها بعد دخول وقت العصر، وكذلك المغرب والعشاء ونسب ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا يدل على أنها سنة محكمة ؛ لأنه عمل بها الصحابة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ خلافا لمن منع من الجمع ، وخلافا لمن منع أيضا أحد نوعي الجمع ، فأجاز التأخير ولم يجز جمع التقديم .
والصحيح أنه يصح الجمع تقديما وتأخيرا .
قال رحمه الله : [ ويجوز في المطر بين العشاءين خاصة ] : ويجوز في المطر بين العشاءين خاصة : فيه حديث من السنة الجمع بين المغرب والعشاء في المطر ، وهذا الجمع جمع خاص بسبب المطر ؛ ويؤكده حديث ابن عباس : (( جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير مطر ولا سفر )) فدل على أن المطر من الأعذار ولكنه يختص بالمغرب والعشاء لشدة المؤونة والعناء فيهما أكثر من النهار ، فهذا على الصفة في الغالب، فالجمع يكون بين العشاءين ولا يكون بين الظهر والعصر في أصح قولي العلماء - رحمهم الله - .(3/47)
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب صلاة المسافر ] : المسافر مأخوذ من السفر، قالوا أسفر الشيء إذا بان واتضح ، والسفر سمي سفرا ؛ لأنه يسفر عن حقيقة الإنسان وأخلاقه من الصبر والجلد والتحمل ، فلا يظهر الإنسان على حقيقته إلا في حال المؤونة والمشقة ومنها السفر ؛ ولذلك لما شهد شاهد عند عمر - رضي الله عنه - كما روى البيهقي في سننه قال له عمر - رضي الله عنه - : (( إني لا أعرفك فاذهب وائتني بمن يعرفك يعني يزكيك ؛ لأن الله يقول : { ممن ترضون من الشهداء } لابد أن يكون القاضي يعرف الشاهد بالعدالة أو يزكى عنده بها . فجاء رجل يزكيه . فقال : ما تعرف عنه ؟ قال : أعرف عنه الخير أعرفه بالخير أو لا أعلم عنه إلا خيرا . فقال له : أأنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه ؟ قال : لا . قال : هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على صدق الرجل وأمانته ووفائه ؟ قال : لا . قال : هل سافرت معه ؟ قال : لا . قال : اذهب فإنك لا تعرفه ، وقال للرجل: ائتني بمن يعرفك . فأصبح السفر يجلي حقيقة الإنسان في أخلاقه وتحمله وجلده وإيثاره وصبره ، فسمي سفرا من هذا الوجه.
وقوله : [ باب صلاة المسافر ] لما كان للسفر أحكام خاصة في الصلاة ناسب أن يعتني العلماء بذكر أحكامه في باب مستقل ، فقال رحمه الله باب : [ باب صلاة المسافر ] أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالصلاة في حال السفر .(3/48)
قال رحمه الله : [ وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا وهي مسيرة يومين قاصدين وكان مباحا له فله قصر الرباعية خاصة ] : بيّن رحمه الله بهذا شرط القصر للصلاة في السفر ، وهو أن تكون المسافة مسافة سفر ، بيّنها أنها أربعة فراسخ وهي بريد ، فالبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ستة عشر ميلا . هذه المسألة راجعة إلى ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم )) .
وجه الدلالة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف المرأة بأنها مسافرة إذا قطعت مسيرة اليوم ، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه خرج دون اليوم ، فخرج إلى الخندق ، وخرج إلى أحد ، وخرج إلى قريظة وهي على أربعة أميال من المدينة ، ومع هذا لم يقصر الصلاة ، فثبت بهذا أن أقل ما سمي في الشرع سفرا هو مسيرة اليوم، فثبت أن ما دون اليوم ليس بسفر لخروجه إلى أحد وخروجه إلى بني قريظة وهم خارج المدينة برازا ومع ذلك لم يقصر الصلاة ، فدل على أن ما دون اليوم ليس بالسفر ، وأن من خرج إلى مسيرة اليوم أنه مسافر؛ لأن الشرع يريد أن يمنع المرأة من أقل ما يصدق عليه أنه سفر فقال : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة .. )).
وفي هذا الحديث فائدتان :
الفائدة الأولى : أن التحديد يكون بالزمان ، ويكون بالمكان . بالزمان يوم مسيرة يوم أن تسافر مسيرة يوم ، وبالمكان مسيرة ، وعلى هذا لو كانت المسافة التي تقطعها المرأة ويقطعها الرجل بعيدة تقطع في الزمان القليل فهو سفر ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق عليه سفر قال : (( مسيرة يوم )) فلو ركبت الطائرة من منطقة إلى منطقة خلال نصف ساعة وهي على بعد ثلاثمائة أربعمائة كيلو فهو سفر؛ لأنها مسيرة ، فإن ضاق الزمان رجعنا إلى المكان ؛ لأن الشرع سماه سفرا ، وإن ضاق المكان رجعنا إلى الزمان؛ كما في الجبال الشاهقة ونحوها .(3/49)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل في وصف السفر الزمان والمكان ؛ أكد هذا هدي السلف الصالح فإن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن لما سئل عن قصر الصلاة إلى الجموم مر الظهران الذي هو وادي فاطمة الآن من مكة إلى وادي فاطمة فسئل - رضي الله عنه - عن قصر الصلاة إلى الجموم ؟ فقال : (( لا ولكن إلى جدة وعسفان والطائف )) جدة كانت على مسيرة يوم ؛ لأنها كانت قرابة خمسة وسبعين كيلو قبل أن يتسع العمران أما الآن فليست على مسافة سفر ؛ لأنها اتسع العمران في جدة ومكة وقصر ما بينهما، لكن في زمان ابن عباس رضي الله عنهما كان الذي بينهما يقارب خمسا وسبعين كيلو ؛ لأنه مسيرة يوم وليلة ، فهذا يدل لما قال ولكن إلى جدة وعسفان وطائف فلم يجعل مطلق الخروج سفرا؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بأهل مكة إلى منى وإلى عرفات وهي خارج الحرم ولم يأمرهم بقصر الصلاة. صحيح أنه أمر بإتمام الصلاة بمكة كما في الفتح قال : (( أتموا الصلاة فإنا قوم سفر )) ورواية حجة الوداع ضعيفة والأولى حسنها بعض أهل العلم فسكت عن التنبيه لسبق التنبيه عليه في مكة ، ومن هنا يتمون وراء الإمام ، وجمعهم جمع نسك ، ومن هنا جمع أهل مكة في عرفات وجمعوا عشية مزدلفة ولم يجمعوا بمنى ؛ لأن هناك مقصود للنسك ، وفي يوم عرفة يراد به التفرغ للدعاء ، وفي المشعر أن ينام مبكرا ثم بعد ذلك يتفرغ للدعاء في المشهد لكنه للنسك ، وعلى هذا فإنه لابد من مسافة السفر فإذا قطع مسافة سفر فهو مسافر، وإن كان دونها فليس بمسافر ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل مطلق خروجه من المدينة سفرا ، وقد بعث الصحابة في بعض الأماكن ولم يأمر بقصر الصلاة ولم يجر عليهم أحكام السفر فيما دون مسافة اليوم والليلة .
فالشاهد من هذا أن من يقول إن تحديد العلماء لليوم والليلة إنما هو بالأهواء والآراء ، وأنه لا دليل، هذا ليس بصحيح.(3/50)
العلماء رحمهم الله الجمهور لما قالوا إنه لابد من مسافة للسفر هذا شيء باستقراء الشرع . قالوا ما وجدنا الشرع يسمي السفر سفرا إلا في مسيرة اليوم والليلة ، وما معنى قوله : أن تسافر مسيرة يوم وليلة هو يريد أن يمنعها أن تسافر وحدها ، فجاء وسمى هذه المسيرة سفرا ، فنحن ندين الله أن هذه المسيرة سفر ؛ لأن الله ورسوله سماها سفرا ، هذا ليس بأهواء بل هو من النص .
قال بعضهم : إن العلماء حدوا الأميال وعلى هذا لو أنه نقص من الميل خطوة ما يقصر الصلاة لو أتم الميل يقصر الصلاة نقول : وما العيب في ذلك وما الحرج ، إذا قيد الشرع وأعطي حدا مستنبطا من الشرع لو نقص شعرة نقول بنقصانه وإن تم فهو تام . ألا ترى الرجل في مكة لو خطا خطوة واحدة داخل حدود الحرم لا ينفر صيده ولا يعضد ولا يختلى خلاه ، ولو خرج خطوة فليس في الحرم ينفر الصيد ويصيد ؛ إذا هذه تقديرات شرعية ليس فيها من غضاضة على أهل العلم ولا منقصة لهم وليست محلا للتهكم بل هي مستنبطة ولها ما يدل عليها ، والجمهور قائلون بهذا مسيرة اليوم والليلة زمانا أو مكانا .
قدرت هذه المسيرة بسير الإبل ؛ لأنه قال مسيرة ، فجاء الفقهاء لكي يبينوا للناس أحكامهم والناس فيهم ضعف في الأزمنة المتأخرة أما في الأزمنة المتقدمة فلهم علم باللغة وأحوال تساعدهم على معرفة النصوص، فكلما تأخر الزمان ضعفت مدارك الشريعة ، بل حتى لما حددوا هذه التحديدات وجدنا من لا يحسن حتى ضبطها، فما بالك إذا لم يحددوا بها ، فوضعوا هذه التحديدات معونة على الوصول إلى الحق .(3/51)
وجدوا أن الإبل تسير في اليوم والليلة هذه المسافة ، وهي مسافة الأربعة البرد يوما وليلة أو نهارين أو ليلتين اليوم والليلة الأربع والعشرين ساعة . النهارين اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة يصدق عليهما نهاران نهار اثنا عشر ساعة والنهار الثاني اثنا عشر ساعة أربع وعشرون ساعة أو ليلتان لأنهم إذا قالوا ليلتين أو نهارين مرادهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن النهار اثنتا عشرة ساعة )) مرادهم عند الاعتدال فنهاران تامان أربع وعشرين ساعة أو ليلتان تامتان أربع وعشرون ساعة أو يوم وليلة هذا الذي أخذ من الشرع. نظر فوجد أن البعير في الزمان المعتدل الذي ليس فيها هيجان الرياح وليس بمحمل بالثقل سيره المعتاد في هذا الزمان أنه يسير بريدا واحدا أربعة فراسخ أي ستة عشر ميلاً ، وعلى هذا قالوا إنه يقصر في هذا القدر .
البريد أربعة فراسخ والفرسخ ثلاثة أميال .
إن البريد من الفراسخ أربع وفرسخ فثلاثة أميال فلتسمعوا
فالمجموع أصبح ستة عشر فرسخا وثمانية أربعين ميلا .
فالمقصود من هذا أن لا يعاب على العلماء رحمهم الله هذه التقديرات إذا كان لها أصل . إضافة إلى أن الصحابة رضي الله عنهم طبقوا هذا ، فابن عباس رضي الله عنهما يسأل عن مر الظهران ، مر الظهران وادي فاطمة في القديم يبعد ما لا يقل عن ثلاثين إلى أربعين كيلو عن مكة ؛ لأن مكة كان وادي طوى خارج مكة الذي هو الزاهر الآن ، فإذا حسبت من أطراف مكة من الحفائر أو بعد الحفائر بقليل حتى تستتم إلى الجموم أطراف الجموم ومر الظهران ما لا يقل عن خمسة وثلاثين كيلو ، ومع هذا قال لا وهي خروج ، وفعلا من يخرج لها يتعنى ومع ذلك قال : لا أي لا يقصر الصلاة لم يجعل مطلق الخروج سفرا هذا وجه تقدير العلماء بهذا القدر .(3/52)
وقدر في زماننا ما بين سبعين تزيد قليلا اثنين وسبعين كيلو إلى ثمانين كيلو ، فهذه المسافة هي السفر فإذا احتاط إلى ثلاث وسبعين أو خمس وسبعين كيلو فهو أفضل وهي مسيرة اليوم والليلة غالبا .
قال رحمه الله : [ وكان مباحا له فله قصر الرباعية خاصة ] : الشرط الأول : مسافة السفر ، والشرط الثاني أن يكون السفر مباحا ؛ لأنه إذا كان معصية لم يجز له أن يستبيح الرخص ؛ لأنه مأمور أن يرجع عن سفره فهذا السفر لا يعتد به الشرع؛ وعليه لا يستبيح الرخص ولا يقصر الصلاة ، ولكن إذا حصل له ضرورة لفقد ماء أو نحوه تيمم لسبب آخر. أما الرخص فلا تستباح للمعاصي وكان مباحا أي كان سفره مباحا ، ولما قال : مباح : شمل سفر التجارة أن يسافر للتجارة أو يسافر للنزهة أو السياحة في الوجه الشرعي المباح يريد أن يروح عن أهله وولده فسافر إلى نهر أو سافر إلى بلد في ترويح لأهله بالمباحات ونحو ذلك هذا سفر مباح .
نص رحمه الله على السفر المباح من باب أولى إذا كان السفر واجبا كأن يسافر لحج فريضة فيقصر، أو مندوبا إليه كأن يسافر لتفريج كربة مسلم ؛ فإنه مندوب إليه ، أو يريد أن يعود مريضا في بلد آخر يسافر ، وهنا ننبه على أن البعض يخلط بين مسألة شد الرحال وبين مسألة السفر للقرب ، فالسفر للقُرب ليس بمحظور ، وشد الرحال للأماكن لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد أي للمواضع ، وليس المراد أن يسافر للقُرب كأن ي يسافر لبر والدين أو عيادة مريض أو طلب علم ونحو ذلك فيفرق بين المسألتين .
فالشاهد أنه يقصر الصلاة في السفر المباح والواجب والمندوب ، وكذلك لو كان السفر مكروها لا يصل إلى التحريم .
قال رحمه الله : [ إلا أن يأتم بمقيم ] : إلا أن يأتم بمقيم فيتم الصلاة وراءه ، إذا أدرك الصلاة تامة لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - : (( مضت السنة أن يتم المسافر وراء المقيم )) وهذا هو الأصل إذا أدركها من أولها فإنه يتم الصلاة وراءه .(3/53)
قال رحمه الله : [ أو لم ينو القصر ] : أو لم ينو القصر : ذهب بعض العلماء إلى أن الأصل في الصلاة أنها ركعتان فهي الأصل ، والإتمام عارض .
ومنهم من عكس فقالوا الإتمام هو الأصل والقصر عارض . وهذه هي مسألة النية ، واستدل لها بقول أم المؤمنين عائشة في الصحيح : (( فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر)).
ومن هنا قالوا يشترط إذا أراد القصر أن ينوي ، إذا أراد أن يصلي ينوي .
ومنهم من نظر إلى الحال فقال لا تشترط النية ولاشك أنه إذا نوى استبرأ لدينه وعرضه ، والقول بأن الأصل في الصلاة ركعتان يضعف النية ، لكن من حيث الأدلة نظرا يقوى اعتبار النية ؛ ولذلك إذا صلى فإنه ينوي القصر؛ إعمالا للأصل وخروجا واستبراء لدينه .
قال رحمه الله : [ أو ينسى صلاة حضر فيذكرها في السفر ] : أو ينسى صلاة حضر فيذكرها في السفر : فإنه يجب عليه وهو في حال السفر أن يتمها ، يعني مثلا خرج أذن عليه الظهر وخرج ونسي أن يصلي الظهر، وكان خروجه بعد دخول وقت العصر، فصلاة الظهر نسيها أو مثلا نسي العشاء ولم يصلّه ثم لما جاء الفجر نوى أن يسافر، فتذكر وهو مسافر أنه لم يصلِّ العشاء فتذكر رباعية في السفر أما إذا تذكر ثنائية كالفجر فلا إشكال ، إذا تذكر الرباعية في السفر أتمها ؛ لأنها واجبة عليه أربع ركعات ، والقضاء يحكي الأداء ، فهو مأمور بأداء حق الله - عز وجل - عليه ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فدين الله أحق أن يقضى )) ودين الله أربع ركعات عليه فيؤديه كاملا .
العكس لو كان مسافرا ثم تذكر حضرا فالشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل ؛ وهذه قاعدة لها أدلتها ، وأشرنا إليها في حديث عدي - رضي الله عنه - بالأمس ، فإذا شك في الرخصة وهي إسقاط الركعتين والأصل أنه يصلي أربعا ؛ فحينئذ يقضيها أربعا ؛ لأن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل، فالأصل في الثنائية في السفر رباعية فيجب عليه أن يصليها أربعا .(3/54)
قال رحمه الله : [ أو صلاة سفر فيذكرها في الحضر فعليه الإتمام ] : لما ذكرنا . فهذه المسألة ومسألة من سافر وقد مسح على خفيه ثم أقام أو مسح وهو مقيم ثم سافر كلها ترد إلى قاعدة الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل ، وهذه استبراء للدين .
قال رحمه الله : [ وللمسافر أن يتم والقصر أفضل ] : وللمسافر أن يتم : الدليل على أن القصر ليس بواجب، والقصر أفضل ؛ تأسيا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد قصّر الصلاة ولم يتمها .
وهذا هو أصح قولي العلماء رحمهم الله للمسافر أن يتم صلاته مثلا لو جئت تصلي بجماعة وهؤلاء الجماعة مقيمون فلو صليت صلاة المسافر عبثوا في صلاتهم وحصل التشويش فتصلي بهم أربعا من باب أنك تخشى أن تفسد عليهم صلاتهم فيتكلمون ويلغطون فأنت لست في مسجد مثل زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - محدود تستطيع تنبههم أو جئت تصلي وجاءت جماعة كثيرة وغلب على ظنك أيضا أنك إذا سلمت يحصل خلل نفس الشيء أردت أن تتم تتم ، وحينئذ يكون الإتمام لسبب وإلا في الأصل اتباع السنة والوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح : (( عليكم برخص الله التي رخص لكم )) فالله رخص لنا أن نصلي الرباعية ركعتين، فنلتزم بهذه السنة ولا نزيد إلا لسبب وموجب .(3/55)
قال رحمه الله : [ ومن نوى الإقامة أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم ] : هذه المسألة متى يتم المسافر الصلاة ؟ إذا قدم المسافر إلى بلد لا يدري هل يخرج غدا أو بعد غد في القريب فإنه يقصر مدة إقامته ولو طالت فلو قال : أخرج غدا بعد غد وهو متردد كأن تكون عنده تجارة أو مصلحة يقصر الصلاة ما شاء الله ولو جلس شهور ، وهذا شبه إجماع بين العلماء - رحمهم الله - وأثر عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه صلى ستة أشهر في فتح تستر في غزو الصحابة رضوان الله عليهم في الفتوحات وهو يقصر الصلاة لأنهم محاصرون لتستر فلا يدرون تفتح اليوم أو غدا فهم نازلون ولكن هذا النزول قد يطرأ في أي طارئ يخرجون منه ؛ حمل عليه دليل هذا الأصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث بتبوك سبع عشرة ليلة يقصر الصلاة ، فلما نزل على تبوك . تبوك كانت أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - ماء يرده المسافرون لم تكن مدينة ، فكانت مورد ماء فنزل عليه عليه الصلاة والسلام بالجيش وأرسل العيون على بني الأصفر الذي هم الروم لكي يأتوه بالأخبار ، هل هناك جيش أو لا ؟ فهذه العيون التي أرسلها لا يدري عليه الصلاة والسلام هل تأتي غدا ؟ هل تأتي بعد غد ؟ يعني أرسلهم من أجل أن يستجلوا حقيقة الأمر فالقول بأنه يعلم أنهم سيمكثون أكثر من أربعة أيام مكابرة ، هو لا يعلم قد يأتي بعد ساعة يقول له الروم بحذائك أو بجوارك وهو لا يعلم الغيب صلوات الله وسلامه عليه إلا ما أطلعه الله - عز وجل - .
فالشاهد من هذا أنه لا يشك أحد أنه لا يعلم مدة جلوسه على تبوك ، فصار يقصر الصلاة وهو جالس حتى استتم هذه المدة . فهذه السنة عند خفاء المدة ، وهي أصل قضية صلاته بتبوك وقصره بسبع عشرة ليلة وقيل أكثر من ذلك .(3/56)
الصورة الثانية : أن ينزل على الماء أو ينزل على المدينة أو القرية وهو يعلم مدة نزوله ، أو طالب يريد أن يدرس في موضع شهورا ثم يرجع ؛ فحينئذ إما أن ينوي أكثر من أربعة أيام ، أو ينوي أقل منها ، فإذا نوى أربعة أيام فأكثر فإنه يتم بمجرد نزوله ، وإذا نوى أقل من أربعة أيام فإنه في حكم المسافر .
إذًا ما الدليل على وضع الأربعة الأيام فاصلا بين الإتمام والقصر ؟ ما ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رخص للمهاجرين أن يبقوا بمكة ثلاثة أيام . المهاجر في حكم الشرع إذا ترك بلدا لا يجوز له أن يرجع فيقيم فيها ؛ لأنه ترك شيئا لله فلا يرجع فيما تركه لله ؛ ولذلك الصحابة ما سكنوا مكة ولا أقاموا بها بعد هجرتهم ، فلما توفي سعد بن خولة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح في الصحيح : (( لكن البائس سعد بن خولة يرثو له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة لأنه مهاجر )) ثم قال عليه الصلاة والسلام : (( اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم خاسرين )) فرثا له أن فاته الأجل فدل على أن الأصل أن لا يبقى في المكان الذي هاجر منه ، هذا دلت عليه السنة على أنه لا يبقى ولا يقيم في المكان الذي هو فيه إذا ثبت هذا فمعنى ذلك لما رخص له في الثلاثة الأيام ولم يرخص له في اليوم الرابع فهمنا من هذه السنة أنهم في اليوم الرابع يكونون في حكم من أقام ؛ ولذلك الشرع قد يأتي بالشيء صريحا ، وقد يأتي به ضمنا ، فلما جعل الأربعة الأيام فاصلا بين أن يقيم وبين أن لا يقيم وما دونها ليس بإقامة وإذا وصل إليها فهو مقيم رخّص للمهاجرين ثلاثة أيام ؛ دل على أنه في اليوم الرابع يكونون في حكم المقيم ، فأخذ من هذا طائفة من أهل العلم رحمهم الله أن الأربعة الأيام غير يوم الدخول والخروج تكون تامة فاصل بين الإقامة وعدمها .
هذا هو أصح قولي العلماء .(3/57)
ومن أهل العلم من رجع إلى احتساب عدد الصلوات ، فجعل إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل خروجه لمنى يوم التروية اليوم الثامن ؛ لأنه قدم لصبح الرابع عليه الصلاة والسلام ، وأيضا في رجوعه وقفوله فجعلوا العدد بعدد الصلوات كما ذكر المصنف رحمه الله .
والصحيح ما ذكرنا أن العبرة بالإقامة بالأيام وليست بعدد الصلوات .
قال رحمه الله : [ وإن لم يُجْمع على ذلك قصر أبدا ] : وإن لم يُجْمع على ذلك يعني ما يدري المدة التي يقيمها . أما إذا علم المدة تامة كأن يعلم أنه سيجلس شهراً أو شهرين ، ولكن لا يعلم هل هي ثلاثة شهور أو أربعة لا يدخل في هذا . بعض الطلبة يأتي للدراسة أو يسافر للدراسة في الخارج فيمكث شهورا ثم يقصر الصلاة . يقول : لا أعلم المدة ، والعلماء يقولون الذي لا يعلم المدة يقصر ، وهذا جزما يعلم أنه سيبقى أكثر من أربعة أيام ، إنما المرخص له فيما لا يعلم الخروج . يقول : أخرج اليوم أخرج غدا كما في فتح تستر ؛كان الصحابة رضوان الله عليهم لا يعلمون تفتح غدا أم بعد غد أم تفتح بعد شهور ما وقع جزم بمجاوزة المدة الفاصلة بين القصر وعدمه ، وعلى هذا يفرق بين من يعلم عند قدومه أنه سيجلس حتما ما زاد عن الأربعة كطالب علم إذا جاء لطلب علم في مكان أو عنده دراسة بالأشهر بالأسابيع أو عنده دورة بالأسابيع فهذا حتما يعلم ولو كان لا يعلم عين المدة التي سيقيمها لكنه يعلم أنه سيجاوز المدة الشرعية التي ضبط بها الفرق بين المقيم والمسافر ، فأصبح هناك ثلاثة أنواع :مسافر ، ومقيم ، وفي حكم المقيم .(3/58)
والخلاف في حكم المقيم . أما المقيم فلا خلاف فيه ، وأما المسافر فلا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في حكم المقيم . ما هو ضابطه ؟ والرجوع إلى ضوابط الشرع أولى ؛ لأننا إما أن نقول إن كل من سافر يقصر مدة سفره ، وهذا من أصعب ما يكون ، فإن الرجل يسافر يجلس في مكان وهو يعلم أنه يجلس فيه الشهر والشهرين والثلاث والأربع فعلمنا حتما خطأ هذا فطلبنا والتمسنا من الشريعة التقدير الأقرب فوجدنا أنها تفرّق بين المقيم حقيقة والمسافر حقيقة بما هو قسيم ثالث ، فهو في حكم المقيم فليس مسافر من كل وجه ولا بمقيم من كل وجه وهو من نوى أن يجلس في بلد أكثر من أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج . قلنا غير يوم الدخول والخروج ؛ لأَنّنا وجدنا السنة تستتم الثلاث ، وتحكم بالدخول بالرابع إذا معنى ذلك تكون الأربع تامة ولا تكون تامة إلا بإلغاء يوم الدخول ويوم الخروج لو سافر للتدريس في قرية ، فمشى يوم الجمعة ووصل يوم الجمعة قبل غروب شمسه فحينئذ تحسب السبت تسقط الجمعة وتحسب السبت والأحد والاثنين والثلاثاء فهذه أربعة أيام ، فإن سافر يوم الأربعاء قبل غروب شمسه فهو مقيم أو نوى أن يسافر يوم الأربعاء قبل غروب الشمس فهو مقيم لكنه لو سافر وقدم بعد غروب شمس يوم الجمعة فقد دخل في السبت أو قدم بعد صلاة العشاء ليلة السبت أو قدم بعد صلاة الفجر، فالسبت يلغى تاما وتستأنف الأحد الاثنين الثلاثاء ثم تنظر الأربعاء هل سيسافر بعد غروب الشمس فتستتم له الأربعة الأيام أو تكون سفره بعد انتهاء الدوام فهي دون الأربع فيقصر إذا نوى بعد انتهاء دوامه وقبل غروب شمس يوم الأربعاء ويتم إذا نوى بعد غروب الشمس ، هذا من حيث الأصل ، وإذا قلنا إنه نوى الأربعة الأيام يتم بمجرد الدخول يعني إذا دخل القرية انقطع عن حكم السفر ولزمه الإتمام .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : هل يسجد للسهو إذا تدارك . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(3/59)
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
إذا كان في التدارك صورة الزيادة سجد ، مثلا الآن لو أن شخصا نسي الركوع وهوى للسجود ثم تذكّر قبل أن يدخل في الركعة الثانية رجع فركع ، ثم رفع ، ثم سجد السجدتين ، ثم أتم صلاته فيسجد سجود زيادة ؛ لأنه زاد السجود والجلوس منه إذا كان سجد أكثر من سجدة ، وعلى كل حال يكون في حكم الزيادة ، والأغلب في مسائل التدارك أنها فيها زيادات والله تعالى أعلم .
أما إذا كان التدارك المراد به أنه وقف ثم نسي الركوع ، فأراد أن يسجد فلما انحنى قبل أن ينتقل إلى ركن الركوع قبل أن يصدق عليه أنه راكع تذكر فتدارك يجب عليه أن يرجع ثم يركع .
صورة المسألة : شخص يصلي فسها قرأ الفاتحة وقرأ ما تيسر ثم ظن نفسه أنه بعد الركوع ، فأراد أن يسجد فهوى يريد السجود طبعا إذا هوى إلى قدر الركوع فقد زاد ركنا ؛ لأن الانحناء إلى قدر الركوع ركن ، وهو الذي يوجب فساد الصلاة ولذلك لو كان واقفا في الفريضة ثم حنا يريد أن يحمل شيئا من الأرض وهو في الفريضة إلى قدر الركوع فسدت صلاته إلا إذا كان في ضرورة يدفع بلاء أو عَمِل عملا لكن من دون حاجة ومن دون ضرورة ، فإذا هوى يريد أن يسجد فتذكر أنه لم يركع هنا المسألة .(3/60)
إذا تذكر أنه لم يركع قبل أن يصل إلى الركوع يرجع أو إذا وصل يرجع ؛ لماذا ؟ لأن هذا الهوي كان للسجود لا للركوع ، والأصل في السجود والركوع هناك مسألة تسمى عند العلماء القصد إلى الركوع والسجود ، وهو مذهب طائفة من العلماء أنه لا يصح ركوعه إلا بالقصد ، فحينئذ لما قصد السجود فهذا هوي لغير المأمور به شرعا ؛ لأن السجود لاغ ، وليس موضع سجود هنا ، فهو هوي لاغ ، فلابد له أن يرجع حتى يقصد الهوي، ومن أمثلتها كما ذكروا لو أصابه فزع فرفع رأسه من الفزع ثم قال : أكمل للجلسة بين السجدتين قالوا يرجع هذا كله من أجل أن تكون عبادته مقصودة شرعا ؛ لأن هذا الرفع كان لفزع ليس من الصلاة ولم يكن عبادة وهو مأمور أن يصلي العبادة أركانا وانتقالا بينها ، وهذا أشار إليها الأئمة رحمهم الله في المطولات في الفروع. فالشاهد التدارك إذا لم يحصل به الانتقال إلى ركن وتحقق الزيادة لا يسجد مثلا لو أنه تذكر ورجع يعني أراد أن يسجد وتذكر أنه عليه الركوع فرجع مباشرة ثم ركع ، هذا الهوي الذي دون الركوع لاغ ولا يجب له سجود السهو ؛ لماذا ؟ لأنه لم يصل إلى حد الزيادة المؤثرة والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : إذا سلم تسليمة واحدة ثم تذكر أنه لم يركع هل يجب أن يكبر تكبيرة الإحرام ثم يستمر أو يستمر بدون أن يكبر تكبيرة الإحرام . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(3/61)
إذا سلم من صلاته لابد وأن يرجع مكبرا ؛ لوجود الفاصل ؛ لأن التسليم غير التكبير، لكن لو تذكر النقص أثناء التشهد قبل التسليم فالتكبير يجزيه ؛ لأنه تكبير انتقال للرفع من السجود صادق على الجلوس وصادق على القيام ، ولذلك من تذكر وهو في التشهد الأخير يظن أنه قد تمت صلاته وبقيت له ركعة يقوم مباشرة .لا يقول : الله أكبر ؛ لأنه تكبيرة لجلوس التشهد وإن قصد به جلوس التشهد لكنه هو في الأصل تكبير انتقال كما ذكروا في هذه الحالة ، فيسقط عنه جلوسه ويجب عليه أن يقف وحينئذ لا يكبر، هذا بالنسبة إذا ما تذكر قبل السلام .
أما إذا تذكر بعد السلام فالسلام لا ينقل إلى الركعة الثالثة ، لكن التكبير ينقل ، ومن هنا يرجع مكبرا؛ لأن التكبير الأول ألغي بدخول السلام ، ففات بدخول الأجنبي ، وحينئذ يجب عليه أن يكبر كما يقول العلماء انقطع تكبيره يعني انقطع تكبير الجلوس لوجود السلام والفاصل بينه وبين الركن .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : أصلي الليل ولله الحمد وأقرأ من المصحف فهل في ذلك شيء . كذلك تصلي زوجتي خلفي دائما وذلك لأنها تعاني من وسواسا قهريا في الصلاة فهل في ذلك شيء وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
أسأل الله أن يشفيها ويشفي مرضى المسلمين أجمعين . أما ما سألت عن قراءة المصحف فجرى عليه العمل أنه لا بأس به ولا حرج وهو من الحركة لمصلحة الصلاة كما لو أراد أن يختم القرآن في قيام الليل، أو أراد أن يقل خطؤه ويكون حافظا للقرآن لكن ما يريد أن يخطئ، فيريد أن يقرأ القرآن كاملا وقرأ من المصحف لا بأس لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تأمر مولاها ذكوان أن يصلي بها، بالمصحف وكان يقوم بهم بالمصحف يقوم بهن بالمصحف فدل على أنه لابأس ولا حرج من القراءة بالمصحف ، وأن هذا لا يؤثر في الصلاة ، وعلى هذا يجوز لك أن تصلي بالمصحف ، ولكن عليك أن تنتبه لمسائل مهمة ، منها :(3/62)
أنك مثلا إذا أردت أن تسجد والمصحف في يدك فعليك أن تراعي السجود على السبعة الأعظم وأن تسجد على كفك ، فإما أن تضع المصحف على الأرض وتحتاط قبل الصلاة بوضع شيء إكراما لكتاب الله - عز وجل - ، وإما أن تضع أصبعك في مكان المقرأ ثم تجعل القرآن قائما وأصبعك في موضع المقرأ وتكون راحتك على الأرض وهذه هي إحدى الطريقتين اللتين يمكن للإنسان أن يصلي بهما في المصحف والبعض يضع المصحف تحت إبطه لكن المشكل أنه إذا سجد لا يتمكن من المجافاة ، وإن كان التمكن منها بسيطاً لكن لابأس لو وضعه لكي يحقق السنة أكثر ، لاشك أنه يُخوّي ويجافي ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جخ في سجوده صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى كل حال يجوز لك أن تصلي بالمصحف ، ولا بأس بذلك ولا حرج فيه والله تعالى أعلم .
لا بأس المرأة تقوم مع زوجها الليل يبارك الله لها ولزوجها ، فنعم الرجل ونعم المرأة : (( رحم الله امرءاً قام من الليل فأيقظ أهله فإن أبت نضح في وجهها الماء ، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء )) هذه رحمة من الله - عز وجل - ، ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فإما خبر أنه ستصيبهم الرحمة ، ولاشك أن المصلي مرحوم ؛ لأن الصلاة رحمة من الله للعبد ، وإما أن تكون دعوة من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أصابته دعوة من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مرحوم - جعلنا الله وإياكم ذلك-.(3/63)
فالمقصود أن هذا من أفضل ما يكون يبارك الله للرجل في زوجته حينما يأمرها بطاعة الله - عز وجل - ، وحينما يجتمع معها في طاعة الله ، وأي بيت ذلك البيت الذي اجتمع فيها الزوجان تحت سقف واحد يذكران الله - عز وجل - ، ويذكران الله - عز وجل - بأفضل وأحب ما يكون إليه وهو الصلاة التي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )) فهي خير العمل وخير الطاعات وخير القربات ، فإذا قام مع زوجه فلا بأس بذلك ولا حرج بأن يصلي بها وأن تتبعه في صلاته . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :فضيلة الشيخ : ما حكم صلاة الجماعة وهل يتعين المسجد أو يجزي صلاة الرجل مع الرجل في سوقه أو بيته وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
صلاة الجماعة على أصح قولي العلماء وجوبها ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه الرجل فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد يلاومني أنه تكون الظلمة والسيل والمطر فهل لي من رخصة ، فرخص له النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لما تولى قال له : أتسمع النداء ؟ قال : نعم قال : أجب فإني لا أجد لك رخصة .
فهذا يدل على تأكد صلاة الجماعة ولزومها ؛ واستدل لها بقوله تعالى : { فإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } فأمر الله أن تقوم الطائفة والجماعة ، وهذا في أشد الأحوال والظروف وهو صلاة الخوف ، فدل هذا على لزومها وأنه يجب على المسلم شهودها إلا إذا كان عنده عذر فلا بأس ولا حرج أن يتخلف عنها كالسفر والمرض ونحو ذلك . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : هل صلاة الليل سرا أو جهرا وهل القنوت سرا أو جهرا وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(3/64)
صلاة الليل تصح سرا وتصح جهرا ؛ والأفضل أن تكون جهرية يرفع الإنسان فيها صوته بقدر ما يسمع نفسه ويزيد قليلا ؛ لأن الله تعالى يقول : { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } ، وأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مر على عمر - رضي الله عنه - فقال له : (( اخفض وقال لأبي بكر - رضي الله عنه - ارفع ؛ لأن أبابكر - رضي الله عنه - كان يسر ويقول : أسمعت من يناجي ، وعمر كان يرفع بقوة وكان يقول أوقظ الوسْنَان وأطرد الشيطان ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخفض ؛ لأنه إذا خفض قويت النفس على الخشوع أكثر، فقويت على تدبر الآيات أكثر؛ لأن إجهاد النفس برفع الصوت يؤثر في التدبر . ومن هنا جاءت الشريعة وسطا بين الإفراط والتفريط ، والأكمل والأفضل في هذا الحال أن يكون بين الجهر العالي وبين الإسرار المخافت والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ : هل السنة أن يحافظ الإنسان في السفر على قيام الليل وطول المقرأ وماذا لو كان مع رفقة له وخاف الرياء وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
أما من حيث الصلاة صلاة الليل في السفر فلا بأس بها ولا حرج وإن كان غالب حال النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قيام الليل في السفر، ولكن أثر عن بعض الصحابة ورفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي سعيد في السنن فإذا صلى في السفر لا ينكر عليه .(3/65)
فقولك : إنك تخاف الرياء على نفسك إذا كانت نفسك ضعيفة فلا بأس أن تترك وتنوي ذلك أنك تخاف الرياء وتخاف العجب نفسك ضعيفة ما تأمنها نعم من حقك هذا ؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، وأصول الشريعة دالة على هذا، فمفسدة الرياء عظيمة ولأنه إذا قام على هذا الوجه لم يكن له أجر كان عليه وزر ، والقيام للأجر لا للوزر بمعنى أنه لا يأمن أن يغتر فيعجب ، فكأنه يعصي الله - عز وجل - من حيث يظن أنه يطيعه ، فمثل هذا ليس من الطاعة والقربة هذا وجه أن بعض العلماء شدد إذا غلب على ظنه أنه يفتن في دينه .
وأما إذا كان الإنسان يخاف هذا خوفا فهذا من الشيطان تصلي ولا عليك ، ووطن نفسك بالإيمان بالله - عز وجل - والثقة والقوة والاعتصام بالله - جل جلاله - وعدم المبالاة بالناس ، وأكمل الناس إخلاصا من لم يبال بالناس حوله ، وإن من الناس من رزقه الله الإخلاص فإن صلى أو تزكى أو تصدق أو أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر استوى عنده أن يكون بين الناس أو يكون وحده ، فهذه من علامات الإخلاص وأمارات الإخلاص ، والشيطان يتسلط على بعض الصالحين والأخيار أنه كلما أراد خيرا يقول : لا . لا يقولون إنك تريد الرياء أو يمكن تعجب بنفسك ما عليك جاهد ؛ والله تعالى يقول : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } فجاهد ، صلِّ وحاول إذا وجدت عجبا أن تستغفر الله وأن تدعو الله - عز وجل - ، فكم من عبد قام الليلة فحبب إلى الناس قيام الليل فله مثل أجورهم ، فما صلوا إلا كان لهم مثل أجرهم ، ولا ائتم بهم قوم إلا كان لهم مثل أجوره ، هذا فضل عظيم فجاهد رحمك الله واجتهد والله يعينك وأنت على باب خير فاحتسب .(3/66)
وأما كونك تترك للظنون الضعيفة فلا ، إنما تجتهد وتوطن نفسك بالثقة بالله - عز وجل - والله لا يخيبك ، وهذا في كثير من الطاعات ، البعض لا يصلي بالناس ، والبعض لا يخطب الجمعة ، البعض لا يفتح درسا يخاف الرياء هذا كله يعني ينبغي أن يضبط بضوابط الشرع . هناك الخوف المحقق والغالب ، وهناك الخوف الموهوم .
والخوف المحقق والغالب إما أن يمكن دفعه وإما أن لا يمكن دفعه ، وحينئذ إذا أمكن الدفع وجب عليه الدفع خاصة إذا كان تعين عليه أن يصلي أو يخطب أو يوجه لشدة الحاجة إليه .
وأما ما يعين الإنسان على عدم المبالاة بالرياء ، ما الذي عند الناس ؟ ماذا عند الناس ؟ من هم هؤلاء الناس؟ الذين يحيون من الموت ويشفون من الأسقام والآلام ؟! من هم هؤلاء الناس الذين هدوك من الضلالة أو أرشدوك من الغواية ؟!
فالفضل كله لله - جل جلاله - وهذا الذي أمامك لا يملك لك نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، عبد من عباد الله الضعفاء ، ولربما أصابه العجب بك فرماك بعين كانت بلاء عليك في دينك ودنياك وآخرتك، ما الذي يطلب الإنسان من وراء هؤلاء؟! وإذا خاف من الرياء فعليه أن يتذكر عظمة الله - جل جلاله - ، وعليه أن يتذكر ما عند الله - سبحانه وتعالى - ، وإذا وطن نفسه بالإيمان والتوحيد والإخلاص وارتقى إلى مراتب اليقين سدده الله ووفقه وأعانه وثبته .
أما إذا تقاعس وامتنع فكثير من الخيرات تحبس على الناس ، وكثير من المنافع تحبس على الناس فهذه الظنون الفاسدة ، فعلى كل حال ينبغي لك أن تعالج نفسك ، وأن تنظر فيما هو أصلح لك في دينك ودنياك وآخرتك .
أولا : اجتهد في قيام الليل إذا سهل عليك حضرا وسفرا ، فإنها نعمة عظيمة من الله - جل جلاله - ، وإذا أعطاك الله نعمة ؛ فكن أحرص الناس على أن تحافظ عليها .(3/67)
ثانيا : إذا جئت في السفر ووجدت فتنة وأمكنك أن تجاهد في دفعها فاجتهد رحمك الله في دفعها، وليكن عندك شعور أن الله معك ، ومن كان الله معه فنعم المولى ونعم النصير ، ولتعلم أن هذه الوساوس من كيد الشيطان والله أخبر أن كيد الشيطان كان ضعيفا ، فإن غلب على ظنك أنك لا تقوى على دفعها ولا تقوى على مجاهدتها فخذ بالسلامة وانو في قرارة قلبك أنك تخاف على دينك فحينئذ يعوضك الله بالأجر والمثوبة .…
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
باب صلاة الخوف
قال المصنف رحمه الله : [ باب صلاة الخوف ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فيقول المصنف -رحمه الله- : [ باب صلاة الخوف ] : هذا النوع من الصلوات شرعها الله -- عز وجل -- في كتابه وبسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهديه ، وهو نوع من الصلوات المخصوصة في الأحوال المخصوصة ، وهي حالة القتال ، ويلتحق بحالة القتال حالة الخوف ، ومن هنا كان التعبير بالخوف أعم وأشمل .
وأطلق العلماء -رحمهم الله- على هذا النوع من الصلوات أنه صلاة خوف ؛ لأن السبب الداعي إليها هو الخوف من المشركين أو الكفار أن يأخذوا المسلمين على غرة .(3/68)
والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان بين مكة والمدينة بعسفان ، والتقى بالمشركين فصلى صلاة الظهر بهم رضي الله عنهم وأرضاهم ، فلما رآهم المشركون قد صلوا ندموا أنهم لم يركبوا القوم أثناء الصلاة، وأخذ بعضهم يلوم بعضا ، وقالوا : لو أنكم هجمتم عليهم فقتلتموهم أثناء صلاتهم وأصبتم منهم هذه الغرة لكان خيرا لكم ؛ فنزل الوحي على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، فلما كانت صلاة العصر ، صلى عليه الصلاة والسلام هذه الصلاة ، وذلك بعسفان بين مكة والمدينة على بعد مرحلة من مكة .
فالشاهد من هذا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى هذه الصلاة ، فشرعت للأمة ؛ والصحيح قول جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين : أن هذه الصلاة لا تختص بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولا بزمانه ؛ خلافا لمن قال من بعض أئمة التفسير وبعض العلماء والفقهاء إنها خاصة بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ لقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } ؛ فقال هذا خاص بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- والصحيح أنها عامة ؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
وثانيا : أن فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تشريع للأمة ما لم يقم الدليل على خصوصيته به صلوات الله وسلامه عليه .
وثالثا : أنه قد ثبتت السنة الراشدة عن علي -- رضي الله عنه -- أنه صلى هذه الصلاة بعد وفاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فدل على أنها سنة ماضية باقية للأمة وليست بخاصة برسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- .
هذه الصلاة لها ما لا يقل عن ثماني عشرة صفة ، ووردت فيها أحاديث في الصحيحين ، وفي أحدهما، وفي الصحاح في غير الصحيحين .(3/69)
والعلماء والأئمة والمحققون على أن كل صفة صلاها رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وصحت عنه أنه يجوز أن تصلى بها ؛ والسبب في هذا الاختلاف أن أحوال صلاة الخوف تتأثر بجهة العدو ، فتارة يكون العدو بين المسلمين وبين القبلة ، وحينئذ يكون الأمر أخف ، فيستطيع أن يصلي الإمام فيقسم الجيش إلى صفين أو أربعة صفوف كل صفين يعتبر قسما فيصلي بهم، يصلي بالطائفة الأولى يكبر بهم جميعا تكبيرة الإحرام ، ثم يركع بهم جميعا ، ثم يرفع بهم جميعا ، ثم يسجد بالصف الأول الذي يليه إن كانوا صفين ، ولا يسجد الصف الثاني ، بل يبقى بالسلاح يقظا إذا هجم العدو يدفعه ، فإذا سجد الصف الأول السجدتين ، وقام الإمام للركعة الثانية نزل الصف الأخير وسجد ، ثم بعد ذلك أدرك الإمام في القيام ، فالثابت عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه لما سجد الصف الثاني وأتم سجوده وقام للركعة الثانية تأخر الصف الأول إلى مكان الصف الثاني ، وتقدم أصحاب الصف الثاني إلى مكان الصف الأول ؛ عدل من الله -- عز وجل -- ، وانظر كيف الشريعة تراعي العدل حتى في الصلاة في شدة الخوف ، ولا تفضل طائفة على طائفة ، ولا جماعة على جماعة ، ومن هنا وجب أن يستووا ، وكان أحق أن يكون الاستواء في المقام بين يدي الله -- عز وجل -- ، والناس سواسية في هذا ؛ ولذلك نجد العلماء والأئمة يقول إن لم يستوِ الناس في بيوت الله والمساجد لما يتكلم على مسألة الحجز للأمكنة وتفضيل بعض الناس يقول إذا لم يستووا هنا فأين يستوون ؟! فانظر كيف رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في شدة الخوف وهو يعدل بين الناس صلوات الله وسلامه عليه ، فتقدم الصف الثاني إلى مكان الصف الأول وتأخر الصف الأول إلى مكان الصف الثاني حتى يصيب السبق للركوع والسجود مع الإمام كما أصابه الصف الأول ، ولكي يتأخر الصف الأول كما تأخر الصف الثاني في الركعة الأولى ، فيركع الإمام بالصف الثاني الذي صار أولا ويركعون(3/70)
جميعا يركع معه الصف الأول أيضا ثم يرفع بهم جميعا ، ثم ينحدر الإمام بهم ساجدا بالصف الأول الذي كان ثانيا في الركعة الأولى ، فإذا سجد السجدتين هوى الصف الثاني وسجد السجدتين وتشهد وسلم الإمام بالجميع .
هذه الصفة فيها حديث جابر بن عبدالله في الصحيحين عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وطبعا وقعت في عسفان وفي بني سليم ، وكلتا الغزوتين كان فيها المشركون بين القبلة وبين رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، وفيها حديث جابر بن عبدالله وأبي عياش الزرقي - رضي الله عنهم جميعا - : جابر في الصحيحين وحديث أبي عياش صحيح وثابت وهو في السنن .
بالنسبة لهذه الصفة أولا يدخل الجميع وراء الإمام بتكبيرة الإحرام ، ويركع بهم الركعة الأولى حتى يرفع من الركوع ، وهم يتّبعونه في ذلك ؛كلهم معه ، ثم تمتاز بنزول الصف الأول دون الصف الثاني للسجود الأول والثاني من الركعة الأولى ، ويبقى الصف الثاني كما ذكرنا واقفا ، ثم بعد ذلك يسجد الصف الثاني ، ثم تمتاز بالتقدم والتأخر بالحركة فيها ، فيتقدمون ويتأخرون ، ثم يتشهد بالجميع ويسلم بالجميع .
في هذه الصفة يلاحظ أن الصلاة كاملة من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ومن الصحابة وراءه ، أي أن الإمام يصلي الصلاة على صفتها وحالتها ، غاية ما في الأمر التقدم والتأخر والحركة من المأمومين .(3/71)
الصفة الثانية : أن يكون العدو في غير القبلة ، الأولى أن يكون بينه وبين القبلة ، والصفة الثانية أن يكون في غير القبلة . إذا كان العدو في جهة غير جهة القبلة هي المشكلة، وهي التي تحتاج إلى عمل، وتأتي على صفات ، منها ما سيذكره المصنف واختاره الإمام أحمد حديث صالح بن خوّات عمن شهد مع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- صلاة الخوف . هذه الصفة فيها أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قسم الجيش إلى طائفتين : طائفة تقوم بإيزاء العدو ، وطائفة تقوم معه فيصلي بهم ركعتين تامتين ، ثم اختلفت الرواية : ففي بعضها أنه تشهّد وسلم بالطائفة الأولى ، ثم قامت الطائفة الأولى تحرس ، وقام عليه الصلاة والسلام وصلى بالطائفة الثانية ركعتين .
في هذه الصفة تكون للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- أربع ركعات الصلاة تامة ويضاف إليهما ركعتان نافلة من الإمام ، وهي التي يحتج بها الشافعية على جواز ائتمام المفترض بالمتنفل ؛ لأن المرة الثانية لما صلى عليه الصلاة والسلام كان متنفلا ، والفريضة هي المرة الأولى، فهذا من الحجج على صحة صلاة المفترض وراء المتنفل . والجمهور يجيبون بأنه للضرورة .
الشاهد من هذا على هذه الصفة : ميزتها أن الصلاة تقع تامة كاملة وليس فيها حركة أثناء الصلاة. الطائفة الأولى تأتي وتصلي ركعتين تامتين ، وتأتي الطائفة الثانية وتصلي ركعتين تامتين ، لا تحرك في الصلاة ولا اختلاف .
الوجه الثاني من هذه الصفة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى ركعتين ، ثم قام للثالثة بعد التشهد، فسلمت الطائفة الأولى ، فهنا تفارق الطائفة الأولى الإمام فتسلم ؛ وفيه دليل على أن المأموم ينفصل عن الإمام عند العذر.(3/72)
وفيه أحاديث تدل على هذه السنة عند وجود الحاجة ، فأتمت لنفسها وسلمت فقام - صلى الله عليه وسلم - إلى الركعة الثالثة، وطول في قراءته وقيامه ، فجاءت الطائفة الثانية فأدركت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الركعة الثالثة بخلاف الوجه الأول أدركته لكي يصلي بهم من جديد ، وأما هنا فتدركه في الركعة الثالثة ولا زالت صلاته الأولى متصلة ، فيصلي بهم ركعتين ، ثم يتشهد ثم يسلم .
هذه الصفة يكون العدو فيها في غير جهة القبلة .
هناك صفة أخرى وهي الوجه الثالث لهذه الصفة إذا كان العدو في غير جهة القبلة فقسّم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الجيش قسمين فصلى بالطائفة الأولى ركعة ، ثم قام للركعة الثانية فقامت الطائفة الأولى ووقفت بإزاء العدو ، ثم جاءت الطائفة الثانية وأدركته في الركعة الثانية بالنسبة له وهي الأولى بالنسبة لها ، فصلى بهم عليه الصلاة والسلام بالطائفة الثانية ركعة تامة كما صلى بالأولى، ثم جلس للتشهد ، فقامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها على أحد الأوجه ، وفي الوجه الثاني أنها قامت كما قامت الطائفة الأولى إلى العدو ، وجاءت الطائفة الأولى وأتمت ركعة وأدركت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في التشهد ، ثم سلم عليه الصلاة والسلام فقامت الطائفة الأولى إلى العدو ، ثم رجعت الطائفة الثانية وصلت ركعة ثم تشهدت وسلمت . هذه الصفة أيضا من الصفات .(3/73)
أي صفة وردت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في صلاة الخوف وهذه أشهر الصفات الواردة الصحيحة ، وهناك صفات أخر ؛ لأن الصلاة صلاة الخوف فيها وارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وفيها مركب على الوارد ؛ لأن الوارد كله في السفر ، وقد تقع صلاة الخوف في الحضر ، فلو حاصر العدو المسلمين في ديارهم وهم مقيمون ونزل بأرض من أراضي المسلمين وهم مقيمون فيها وكانت الصلاة رباعية ، ستنقسم الصفات على نفس الصفات الثنائية ، وتختل باختلالها كما اختلت في الثنائية ؛ فحينئذ تتركب تكون هناك صور واردة وصور مركبة على الوارد ؛ لأن الكل مشروع .
فالإمام أحمد -رحمه الله- وطائفة من السلف يقولون كل صلاة صلى عليها رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- صلاة الخوف فهي جائزة ؛ اتباعا للسنة .
الشرط أن يكون الحديث صحيحا صح الحديث عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بها ، فالسنة يعمل بها ، وعلى ذلك فإن أي صفة من هذه الصفات أو المركبة عليها فإن المبني على الصحيح صحيح ؛ فإنه يصح فعله لم يرد في صلاة المغرب ، وردت في الرباعية قسم الصلاة المقصورة وعلى هذا تلتحق بها صلاة الفجر ما فيها إشكال ؛ لأن الرباعية والفجر صورتهما في السفر واحدة ، ويمكن تطبيق السنة عليهما ، إنما يختل في حال الحضر أن تنقلب الثنائية رباعية وترجع إلى الأصل ، وكذلك في المغرب ، وذكر بعض العلماء أن المغرب لم ترد فيه صفة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأثر عن علي -- رضي الله عنه -- أنه ليلة الهرير صلى صلاة المغرب صلاة الخوف وفيها وجهان منها أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة واحدة ومنها أن يصلي بهم الركعتين الأوليين ويجعل قسمة الصلاة على الركعتين الأوليين أو يعكس .(3/74)
قال رحمه الله : [ وتجوز صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ] : وتجوز صلاة الخوف: تشرع للمسلم ؛ لأن الله تعالى يقول : { فإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } فانظر كيف في القرآن كل شيء حتى تعليمات الجهاد { ما فرطنا في الكتاب من شيء } أمة ما تحتاج إلى أحد أن يعلمها ، ورتب الله -- عز وجل -- هذه الصلاة هذا الترتيب الدقيق المبني على رعاية الجهاد وحال المجاهد وحال القتال ، وعلى رعاية الحرمة للصلاة ؛ وجاء شرع الله على التمام والكمال وهو كذلك { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } - سبحانه وتعالى - .
فهي جائزة ومشروعة بدليل الكتاب وجائزة ومشروعة بدليل السنة الأحاديث : حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيحين ، وحديث جابر بن عبدالله ، وحديث صالح في رواية صالح بن خوات عمن شهد صلاة الخوف مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وغيرها من الأحاديث كحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- كلها تدل على مشروعية صلاة الخوف .
قال رحمه الله : [ والمختار منها أن يجعلهم الإمام طائفتين ] : والمختار يعني المفضَّل .
قال رحمه الله : [ والمختار منها أن يجعلهم الإمام طائفتين : طائفة تحرس ، والأخرى تصلي معه ركعة ، فإذا قام إلى الثانية نوت مفارقته وأتمت صلاتها وذهبت تحرس ] : هذه الصفة هي المشهورة التي اختارها الإمام أحمد في حديث صالح بن خوات عمن شهد صلاة الخوف مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(3/75)
تركناها لعرض المصنف لها حاصلها أنه يقسم الجيش قسمين ، والظاهر أن هذه الصفة إذا كان العدو في غير جهة القبلة ؛ ولذلك يقسم الجيش قسمين ، فيصلي بالطائفة الأولى ركعة ثم يثبت قائما فتتم لنفسها ثم تتشهد وتسلم وتقوم بإزاء العدو ، وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم الركعة الثانية ، ثم بعد ذلك إذا انتهى هو من الركعة الثانية التي هي أولى بالنسبة للطائفة الثانية قامت الطائفة الثانية وأتمت لنفسها ، وأطال التشهد ثم بعد ذلك تشهد بهم وسلم ، هذه الصفة جائزة ومشروعة ولا بأس بها ولا حرج ؛ لأن السنة صحيحة بها .
قال رحمه الله : [ وجاءت الأخرى فصلت معه الركعة الثانية فإذا جلس للتشهد قامت فأتت بركعة أخرى وينتظرها حتى تتشهد ثم يسلم بها ] : معنى ذلك أنه يطيل في التشهد ؛ فأصبحت الإطالة عنده في الركعة الثانية حتى تدركه الطائفة الثانية إذا قام للركعة الثانية، ويطيل في التشهد حتى تدركه لركن التسليم ، وهذا كله جائز لثبوت السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- به .
وقوله : [ المختار ] هذا إذا كان العدو في غير جهة القبلة.
ومن أصحاب الإمام أحمد من قال إنه اختيار مطلق سواء كان العدو في جهة القبلة أو لم يكن .
والصحيح الأول .
قال رحمه الله : [ وإن اشتد الخوف صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وإلى غيرها ] : إذا كانت صلاة الخوف فإنها تقع على صورتين :
إما أن تكون على وجه يمكن فعل الصلاة على الصفة التي ذكرناها .
وإما أن لا يتيسر ذلك ؛ فلا يستطيع المسلمون أن يجدوا وقتا كافيا لكي ينقسموا والعدو يضربهم ولو أنهم تفرغوا للصلاة ولو على هذه الصفات سيقتلون لا محالة أو سيحصل عليهم ضرر كبير؛ فإنهم في هذه الحالة صلوا رجالا أو ركبانا هذه المسألة الأولى . أي أنهم لا يجتمعون فيصلي كل واحد منهم على حاله .(3/76)
الأمر الثاني : أنهم يصلون على حالتهم سواء تيسر لهم الركوع أو لم يتيسر لهم ، تيسر لهم السجود أو لم يتيسر لهم، كل هذا مراعاة للخوف، فإذا كان مراعاة للخوف تقيد به ، فيصبح نقول لهم : صلِّ منفردا تركع وتسجد إن أمكنك . قال الخوف أشد فأستطيع أن أركع لكن ما أستطيع أن أسجد نقول له : اركع ولا تسجد ، فإن قال : لا أستطيع أن أركع ولا أسجد . الآن بعض الأجهزة يقف عليها لو أنه غفل عنها لحظة واحدة تدمر أمم مثلا لو أن بعض الأجهزة تكون دفاعا مثلا للقصف الجوي أو شيء لو أن الإنسان غفل عنها لحظة واحدة تهلك أمم بهذا القصف ، هل نقول له : صل اركع واسجد والأمم تهلك ! نفس المعنى الذي حفظ الشرع به الأنفس بهذه السنة النبوية عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وشرّعها للأمة هو الموجود في قولنا حينما نقول يصلي وهو على جهازه ، فيذكر الله -- عز وجل -- فيقول مثلا : الحمد لله رب العالمين يقرأ ويفرغ من الفاتحة وما تيسر ثم يقول : الله أكبر وهو على جهازه ولو ذهل أثناء قراءته للفاتحة يقطع قراءته ويتم ما هو عليه ويعمل ما يريد على قدر استطاعته وطاقته { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } دين سمح ومرن ورحمة ، وهذا كله من لطف الله بعباده ، ثم انظر كيف يلطف الله بعباده ويسر لهم وهم في هذه الحالة الشديدة الصعبة فهو الذي شرع لهم الجهاد، ثم هيأ لهم الأسباب لكي يكبتوا أعداء الله -- عز وجل -- ، ولكي يقطعوا شأفتهم ، ولكي يصلوا إلى ما يريده الشرع من المقصود من حسن النكاية في العدو ودفع الضرر عن المسلمين ، وهذا هو عين المرونة في الأحكام والتشريع ، وكله يدل على كمال الشريعة ووفائها ، ولا شك أنه لا أتم من الله ولا أكمل ولا أحسن حكما لعباده -- جل جلاله -- وتقدست أسماؤه .(3/77)
فإذا اشتد الخوف هذه الحالة جاءت فيه السنة في حديث عبدالله بن أنيس -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بعثه إلى خالد بن سفيان الهذلي ، وكان خالد بن سفيان تمرد وعزم على قتل النبي -- صلى الله عليه وسلم --، فأرسل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عبدالله بن أنيس إليه ولقيه بعرفة ، فلما أقبل عبدالله بن أنيس على خالد حضرت الصلاة ، وعلم خالد أنه لو صلى أمامه فركع وسجد عرف أنه من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فلم يكن منه إلا أن صلى إيماء ، فكان يومئ ولا يركع ولا يسجد حتى انتهى إليه ، فجاءه فقال : من أنت ؟ قال: رجل من العرب ، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل حتى تقتله . قال : هذا هو ما أفكر فيه هذه الساعة. فقام يساره ، قال : حتى أصبت منه غرة فركبته وضربت عنقه .
فالمقصود أنه صلى بالإيماء ؛ لأنه يطلب ، وهذا ما يسميه العلماء صلاة الطالب والمطلوب ، وشرطها شرط الجواز أن يكون بحق لا بظلم ، يعني مثلا يتبع يطلب رجلا فيه ضرر على المسلمين ، مثل خالد بن سفيان بكون النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أرسله ليقتله، يطارد قتلة ، يطارد في مخدرات أناس يعني شرهم وبلاؤهم على الأمة عظيم ، فإذا توقف عن مطاردتهم كان ضررهم على المسلمين ؛ فحينئذ يطاردهم ويصلي فيركع ويسجد إيماء ويسقط عنه فعل الصلاة على صفتها لوجود الحاجة وتقديرا لظرفه كما صلى عبدالله بن أنيس -- رضي الله عنه -- في هذه المهمة التي بعثه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيها لقتل خالد بن سفيان ، وفعل هذا الفعل ولم ينكر عليه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ذلك .(3/78)
فيشترط فيها أن يكون الطالب والمطلوب على حق ، هكذا لو طلبك عدو ، فلو كان الإنسان معه أهله أو عرضه أو جاء شخص يريد أن يقتله ظلما وزورا ففر منه ، فإن فراره على هذا الوجه فرار بحق وليس بظلم ، لكن لو كان مجرما ومفسدا في الأرض وأراد أن يفر حتى لا يؤخذ فلا يشرع له أن يصلي هذه الصلاة ، وهذا معنى قول العلماء : " إن الرخص لا تستباح بالمعاصي " ؛ لأن هذا الفرار على هذا الوجه غير مشروع ، فلا يؤذن له بالرخصة ؛ وعليه فإنه يشترط أن يكون بوجه حق لا ظلما فعلى هذا إذا حصلت الحاجة والضرورة بأن يكون طالبا أو مطلوبا أو يكون في شدة الضرب والقتال كما قال تعالى : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } فإنهم كانوا يصلون وهم يضربون بالسيوف على الخيل ، ويصلون وهم يضربون بالسيوف وهم على الأرض في حال المسايفة كما هو معلوم وهو ظاهر آية البقرة ، فعلى كل حال يشرع أن يصلي المصلي في حال شدة الخوف على حالته ولا بأس ولا حرج عليه في ترك الركوع والسجود وأن يومئ إيماء في صلاته .
قال رحمه الله : [ وكذلك كل خائف على نفسه يصلي على حسب حاله ويفعل كل ما يحتاج إلى فعله من هرب أو غيره ] : هذا هو لأن الله تعالى يقول : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } فإذا خاف على نفسه أو عرضه معه زوجته معه نساؤه وجاء في طريق فجاء من يريد أن يعتدي عليه أو على عرضه ففر منه وحضرت الصلاة ولو أنه نزل ليصلي أدركه فقتله أو اعتدى على عرضه ولو أنه بقي في سيارته فخرج عليه وقت الصلاة .
أما إذا كان لا يخرج وقت الصلاة ويمكنه أن يفر قبل خروج وقت الصلاة فلا إشكال ؛ إنما الكلام إذا كان الأمر استمر أو غلب على ظنه أن يستمر حتى ينتهي وقت الصلاة ؛ فإنه يصلي على حالته لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
قال الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- : [ باب صلاة الجمعة ] : الجمعة مأخوذة من الاجتماع؛ سميت بذلك لأن الله أمر فيها باجتماع المسلمين للذكر من الخطبة والصلاة .(3/79)
وهذه الصلاة شرعت بكتاب الله كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } .
فبيّن - سبحانه وتعالى - أن المسلم ملزم بصلاة الجمعة ، وأن الواجب عليه أن يجيب داعي الله ، فيشهد خطبة الجمعة والصلاة ، وهذا اليوم يوم عيد الأسبوع للمسلمين ، جعله الله -- عز وجل -- عيدا للمسلمين في الأسبوع، فجمع الناس في كل يوم خمس مرات في أحيائهم ومحلاتهم ، وجمعهم في الأسبوع مرة في جمعهم، وجمعهم في السنة مرة في حجهم، كل هذا له مقاصد عظيمة.
فصلاة الجمعة هي صلاة مخصوصة على صفة مخصوصة، فعلها رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وشرعها للأمة وأجمع العلماء -رحمهم الله- على فرضيتها .
يقول رحمه الله : [ باب صلاة الجمعة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الفقهية التي تتعلق بصلاة الجمعة من أحكام الجمعة ، ومن تلزمه الجمعة ، ومن لا تلزمه ، ومن صفة الجمعة ببيان صفة خطبة الجمعة، وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيها ، وما ينبغي للإمام أن يراعيه حتى تكون خطبته على الكمال، أو تكون على الإجزاء .
كذلك أيضا ما ينبغي للمأموم من السعي لصلاة الجمعة ، وما ينبغي له قبل الجمعة ، وما ينبغي له أثناء الجمعة.
كذلك أيضا بيان السنن والآداب والمستحبات في هذه الصلاة .
قال رحمه الله : [ كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة ] : كل من لزمته المكتوبة وهو المسلم العاقل البالغ الذكر بالنسبة للجمعة والجماعة فلا تلزم الجمعة والجماعة الأنثى وكذلك أيضا الحر . فلا تلزم الجمعة العبد كما سيأتي . الصحيح المقيم المستوطن .(3/80)
يقول رحمه الله : [ كل من تلزمه المكتوبة ] : وقد تقدم معنا في الصلاة المكتوبة على من تجب ، فالذي تجب عليه الصلاة المكتوبة تجب عليه صلاة الجمعة ، ثم لصلاة الجمعة شروط خاصة ، وعلى هذا انقسمت إلى قسمين : شروط عامة وهي شروط الصلاة المكتوبة وهي المفروضة ، وأما بالنسبة للشروط الخاصة فهي الشروط التي ينبغي توفرها في الحكم بلزوم الجمعة خاصة.
فليس كل من لزمته المكتوبة تلزمه الجمعة ؛ فلذلك سيستثني المصنف -رحمه الله- . مثلا المكتوبة تلزم المرأة لكن الجمعة لا تلزم المرأة . المكتوبة تلزم المسافر لكن لا تلزم الجمعة المسافر .
المكتوبة هي المفروضة الصلوات الخمس العلماء -رحمهم الله- في كتب الفقه يذكرون الأصول العامة ثم بعد ذلك يذكرون الصور الخاصة وشروطها ويبنون في شروط الصور الخاصة على الشروط العامة، فمثلا لو جئت إلى البيع يذكرون الشروط العامة للبيع ، ثم يأتون في بيع السلم ويقولون يشترط لصحة السلم ما يشترط في البيع ، ويزيد عليه أن يكون إلى أجل معلوم ، وبكيل أو وزن معلوم إلى غير ذلك. هذا من بناء الخاص على العام يعني يجعلون العام أصلا ثم بعد ذلك يزيدون عليه الشروط الخاصة المكتوبة لها شروط فهذه الشروط التي تقدمت معنا في الصلاة يزاد عليها شروط الجمعة الخاصة بها ؛ وعلى هذا فليس كل من لزمته المكتوبة تلزمه الجمعة ، لا العكس فمن لزمته الجمعة لزمته المكتوبة .
قال رحمه الله : [ إذا كان مستوطنا ببناء بينه وبينها فرسخ فما دون ذلك ] : إذا كان مستوطنا هذا شرط زائد من الشروط ، فلا تجب الجمعة على أهل العمود وهم أهل الخيام البدو الرحل ، فالبدو الرحل لا تلزمهم الجمعة ولا يستقرون في موضع ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جمّع في المدينة ؛ ولذلك الأصل أن يصلي صلاة الظهر ، فلا نخرج عن صلاة الظهر ونلزم بالجمعة إلا على الوجه الوارد .(3/81)
والوجه الوارد إنما هو في المدن والعمران والقرى وما في حكمها من الهجر المستقرة ، وأما بالنسبة لأهل العمود الذين لا يستقرون فإنه لا تلزمهم الجمعة إذا كانوا بدو الرحل . الرحل لا يستقرون في مكان إذًا يشترط الاستيطان وهذا معتبر للزوم الجمعة .
قال رحمه الله : [ إذا كان مستوطنا ببناء بينه وبينها فرسخ فما دون ذلك ] : هذا الشرط الثاني بينها وبينه فرسخ . بينه وبينها فرسخ يعني بينه وبين طرف المدينة فرسخ .
الفرسخ ثلاثة أميال ؛ وعلى هذا فإنه إذا كان على مسافة ثلاثة أميال يلزمه أن يجيب ويحضر الجمعة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أوجب الجمعة على أهل العوالي ، وكانوا يشهدون مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وهم على هذه المسافة هذا الدليل الأول .
لأن الفرسخ تقريبا هو ما بين ثلاثة أميال إلى أربعة أميال ؛ والحديث صحيح ثابت كما هو مشهور في حديث عائشة -رضي الله عنها- في شهود أهل العالية مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
ثانيا : أنه بالاستقراء والتتبع كما يقول أهل الخبرة أن المنادي إذا نادى وكان صيّتا فإن صوته في الزمان الذي لا تتحرك فيه الريح والزمان الساكن يبلغ هذه المسافة غالبا الثلاثة الأميال ، فكل من كان بينه وبين طرف المدينة وليس المسجد ؛ لأن المسجد قد يكون داخل المدينة ، والمدينة واسعة يمكن أن تشمل ثلاثة أميال فليست العبرة بالمسجد نفسه إنما العبرة بطرف المدينة ، فمن طرف المدينة من كانت على مسافة ثلاثة أميال فإنه يجب عليه أن يشهد الجمعة ، والميل واحد وستة من عشرة كيلومترات ؛ وعلى هذا فإذا وصل إلى هذا القدر فإنه يجب عليه أن يشهد الجمعة ويحضرها هذا معنى قوله من كان بينه وبينها فرسخ .(3/82)
قال رحمه الله : [ إلا المرأة والعبد والمسافر ] : إلا المرأة المرأة لا تجب عليها الجمعة ليس عليها جمعة ولا جماعة ، وهذا بإجماع العلماء -رحمهم الله- أن المرأة لا تلزمها الجمعة تسقط عنها وعلى هذا فتختص الفرضية بالرجال دون النساء .
قال رحمه الله : [ والعبد ] : والعبد لأن العبد مشغول بخدمة سيده ، والغالب أن يكون في حفظ المتاع وحفظ الأموال ؛ وفي هذا حديث طارق بن شهاب : (( لا جمعة على مملوك ومسافر وامرأة ومريض )) .
متن هذا الحديث صحيح ؛ وعليه فإن العبد يقول جماهير العلماء -رحمهم الله- والأئمة من السلف والخلف : إنه لا تلزمه الجمعة لكن لو صلاها أجزأته .(3/83)
قال رحمه الله : [ والمسافر ] : المسافر لا تجب عليه الجمعة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سافر ولم يصل جمعة في السفر ، فسافر في سفراته عليه الصلاة والسلام الأسابيع ، ومن هنا لم يقل العلماء بشرعية الجمعة للمسافر على سبيل اللزوم ، وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه خطب الناس يوم عرفة ، ومعه أهل مكة ، ومع ذلك لم يجمع بهم صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا يدل على أنه لا يشرع للمسافر أن يجمع لا يجب على المسافر أن يجمع أثناء سفره ، وإذا صلى الجمعة فلا بأس ، وإن احتاط بنية الظهر بدل الجمعة فهذا أفضل ، وعلى كل حال ليس على المسافر جمعة ، وهنا ننبه على خلل أو قول مرجوح : إن البعض يقول : لا يشرع للمسافر أن يجمع العصر مع الجمعة ، هو أصل المسافر لا جمعة له ، فمن أين جاءت مسألة أن يجمع العصر مع الجمعة ، فقال : لأن الفقهاء يقولون يجمع بين الظهر والعصر ولم أجد أحدا من أهل العلم على حسب كلامه يقول بالجمع بين الجمعة والعصر . طبعا لن يقولوا الجمع بين الجمعة والعصر ؛ لأن المسافر لا يجمع ، فهذه من الاستنباطات العجيبة . على كل حال الجمع بين الظهر والعصر أصل ، والسنة واضحة في الدلالة عليه في الجمعة وغيرها . في يوم الجمعة وغيره . وكون الفقهاء يذكرون الظهر والعصر ولا يذكرون الجمعة والعصر مراعاة لهذا الأصل؛ لأن المسافر لا يجمع لكن لما صار عند المتأخرين تساهل حتى إن بعضهم يفتي بأن من كان مسافرا ونزل يجب عليه أن ينزل ويصلي مع الناس الجمعة هذه كلها أمور لم تضبط بالضوابط المحفوظة عند أهل العلم والمقررة عندهم أن المسافر لا جمعة عليه ، فإن لم يصح حديث طارق بن شهاب فقد صحت السنة من هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- المتظافر الذي لا يختلف فيه اثنان أنه لم يصل جمعة في سفره ، ولو كان للجمعة فضل أن يصليها المسافر لصلاها لأهل مكة يوم عرفة ومع ذلك لم يصلها جمعة ، ولما اختلف الصحابة : هل صلاها جمعة لأنه خطب(3/84)
وصلى هل هي جمعة أو ليوم عرفة ؟ قال الصحابي : أجهر في الصلاة أم أسر ؟ قال : أسر . فإذاً ليست بجمعة لأن الجمعة جهرية فصلى بالناس الظهر والعصر يوم الجمعة بعرفة من أجل النسك ، وجمع السفر أقوى من جمع النسك ، ومع ذلك جمع في يوم الجمعة لوجود العذر ، وعذر السفر والحاجة إلى عذر السفر أقوى عند العلماء -رحمهم الله- ، ولذلك جمع السفر أقوى من جمع النسك في صفة السفر . فالقول أنه لا يجمع بين الجمعة والعصر قد نقول إن الإنسان يراعي الخلاف نعم ، وقد عندما نسأل نقول : يراعي الخلاف ، نعم . لكن ليس معنى هذا صحة الأصل الذي بني عليه أو تصحيح الأصل الذي بني عليه ، فإن الاعتذار بكون العلماء لا يذكرون الجمع بين الجمعة والعصر مبني على أن المسافر لا يصلي الجمعة .
قال رحمه الله : [ والمعذور بمرض ] : والمعذور بمرض إذا كان مريضا سقطت عنه الجمعة ؛ وذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في حديث طارق بن شهاب أسقط الجمعة عن المريض .
وأجمع العلماء -رحمهم الله- على أن المريض لا تجب عليه الجمعة إذا كان المرض يمنعه من الشهود ؛ فقد جاء عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه اعتبر هذه الرخصة ولازمها حينما سمع الصارخ على ابن عمه وهو ذاهب إلى الجمعة ترك صلاة الجمعة وذهب إليه ، وهذا يدل على أن المريض ومن يحتاج إليه المريض ، لو احتاج المريض حاجة كأن يكون والد الإنسان أو والدته محتاج جدا بأن يكون قريبا منه أو غيرهما يكون معه المرض بحيث لو يحتاج إلى أن يكون أحد بجواره فيخشى عليه الموت أو يخشى عليه الضرر العظيم يجلس بجواره ويترخص بترك الجمعة .
هكذا الطبيب لو كان عنده عملية جراحية أو تعرض أحد لحادث واحتاج إلى تدخل طبي وجاء في وقت صلاة الجمعة يذهب وينقذ هذه النفس المحرمة وتسقط عنه الجمعة .(3/85)
المريض ومن احتاجه المريض ، وهذا أصل عام دلت النصوص على اعتباره ؛ وقد بين - سبحانه وتعالى - نفي الحرج في التشريع ، ولاشك أن المريض إذا شهد الجمعة يتعرض للحرج ، ولذلك لا يؤمر بشهودها ولا يلزمه الشهود .
قال رحمه الله : [ أو مطر ] : أو مطر إذا كان هناك مرض يحول بين المصلي وبين المسجد فأخذ بعض العلماء من أمره -عليه الصلاة والسلام- المنادي أن ينادي الصلاة في الرحال دليلا على أنه يجوز التخلف عن صلاة الجمعة إذا كان المطر مضرا بهم .
أما إذا كان مطرا يسيرا فإنه في هذه الحالة يبقى على الأصل من وجوب شهود صلاة الجمعة .
قال رحمه الله : [ أو خوف ] : أو خوف إذا كان هناك خوف على النفس كما ذكرنا فهو في حالة المرض ، أو خوفا على النفس إذا خرج كأن يوجد عدو يتربص به لو خرج يصلي الجمعة يقتله أو يأخذه ، أو خاف على عرضه عنده زوجة وهو في بلد مثلا ليس هناك أحد يحفظها أو قريب يحفظها أو غلب على ظنه أنه لو ذهب للجمعة أن هناك من يتربص أو يؤذي عرضه أو جاء بسيارته ومعه عرضه لو نزل يصلي الجمعة يخشى من يعتدي على عرضه هذا خوف على العرض ، أو خوف على المال كما ذكرنا في العامل في القديم كان العبيد والإماء يقومون على الأموال والغالب شغلهم بخدمة أصحاب الأموال ، وهكذا في زماننا لو استؤمن على أرض أو استؤمن على مكان أو كان مسؤولا على حراسة مكان فلو خرج إلى صلاة الجمعة فإنه في هذه الحالة يسرق متاعه أو يؤخذ ماله فإنه يشرع له أن يتخلف .(3/86)
وأدركنا أهل العلم -رحمهم الله- يرخصون في هذا أن الخوف يشمل الخوف على النفس كما لو غلب على ظنه أن يعتدى عليه في الطريق إلى الجمعة ، أو هناك من يتربص به سواء كان الضرر في جسده أو الضرر لأمور تترتب على شهود الجمعة ، وهي غالبة أو متحقق منها ، أو يخاف على أهله وعرضه كما ذكرنا ، أو يخاف على ماله ، كل هذا يجوز له أن يتخلف عن الجمعة ؛ لأنه سيصلي ظهرا وصلاة الظهر أداء للفريضة ، لكن الإشكال أن الشهود شهود الجمعة لا يلزمه بوجود هذه الأعذار ، وهذه الأعذار بعضها يسقط ما هو أعظم من ذلك فمن باب أولى أن يسقط الشهود للجمعة .
قال رحمه الله : [ وإن حضروها أجزأتهم ولم تنعقد بهم ] : وإن حضروها حضروا صلاة الجمعة أجزأتهم لو أن المسافر حضر وصلى أجزأته ، وسقطت عنه فريضة الظهر ، ولو أن المرأة شهدت الجمعة أجزأها ، وسقطت عنها الفريضة ، ولو أن المريض تكلف وتكبد وحضر أجزأته ، ولو أن الخائف على نفسه وماله وعرضه حضر أجزأته وسقطت عنه صلاة الظهر ، لكن مسألة الانعقاد إذا كان قيل باشتراط العدد لم يحتسب به في العدد ؛ لأنها لا تلزمهم في الأصل ، وعلى هذا لو حضر تسع وثلاثين من الرجال قلنا إن العبرة بالأربعين وحضر الأربعون كان أحد الأربعين عبدا مملوكا أو كان مسافرا فإنه لا يتم به العدد ، وعلى هذا لا تنعقد الجمعة ، فتصح له وتجزيه ، ولكن لا يستتم العدد به .
قال رحمه الله : [ إلا المعذور إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به ] : إلا المعذور مثل ما ذكرنا الخائف على نفسه وعرضه إذا حضر لأنه في الأصل تخفيف ، هنا ليس تخفيف إسقاط وإنما هو تخفيف توسعة بخلاف المرأة فإن التخفيف تخفيف إسقاط ، وهكذا المملوك تخفيف إسقاط ؛ فحينئذ إذا حضر الخائف على نفسه فإنه يعتد به وهكذا المريض يعتد به .(3/87)
قال رحمه الله : [ ومن شرط صحتها فعلها في وقتها في قرية ] : ومن شرط صحة الجمعة : الوقت ؛ فللجمعة وقت ؛ لقوله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } وهو من زوال الشمس في قول جمهور العلماء .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة إذا زالت الشمس ، ولا مانع أن يكون ابتداؤه للخطبة على الزوال يعني بمجرد أن ينتهي الزوال مباشرة ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء وفصّلنا في هذه المسألة وبيّنا أن الصحيح هو ابتداء وقتها من الزوال ، وأحاديث تقدمها على الزوال محتملة فيبقى على الأصل ؛ قال تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } ولم يفرق بين الجمعة وغيرها .
وكذلك ثبتت السنة من هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس كما في الصحيحين . وأما وصف الصحابة أنهم ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد صلاة الجمعة ، وأنهم يروحون وليس للجدار ظل فهذا محتمل ؛ لأن المدينة من يعرفها يدرك أن المراد بقوله : " ليس للحيطان ظل " أي ظل ذي بال يستظل به ، وهذا لا يمنع أن الجمعة وقعت بعد الزوال خاصة إذا نظرت إلى كون النبي-- صلى الله عليه وسلم -- كان يخفف الخطبة ، وكان صلوات الله وسلامه عليه صلاته أطول من خطبته .(3/88)
الجمعة والمنافقين كم تستغرق من الدقائق ، ونظرت إلى أن الخطبة أخف منها لا يبعد أنه يبتدئ بعد الزوال فلو جلس ما يقدر بثلث ساعة بالكثير فإنك إذا خرجت بعد الزوال بثلث ساعة لا تجد في المدينة للحيطان ظل ، وهذا واضح جلي والعمل دائما عند العلماء أن الأحاديث محتملة خاصة في أوصاف الصحابة لو جاءت السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جمعوا قبل الزوال لجمعنا لو جاء من صريح قوله -عليه الصلاة والسلام- بإجازة الجمعة قبل الزوال جمعنا ، لكن لما جاء نص القرآن بلزوم الوقت { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } أي محددا لا يجوز التقدم عليه ولا التأخر عنه ، ثم جاءت تعيينه بقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } أي أن صلاة الظهر وما يقوم مقامها لا تصح قبل دلوك الشمس ؛ لأن الآية عامة في يوم الجمعة وغيرها ؛ والشرع إذا أرادت الاستثناء يستثني قال - صلى الله عليه وسلم - : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) وقال تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } كان بالإمكان يقول إلا يوم الجمعة لكنه قال { أقم الصلاة لدلوك الشمس } دلوك الشمس زوالها ، فدل على أن الصلاة في منتصف النهار جمعة كانت أو غيرها لا تكون إلا بعد الزوال ، وجاءت السنة أيضا محتملة ؛ لأن الأحاديث التي جاءت من وصف الصحابة جاء ما يعارضها عن بعض الصحابة أنه كان يجمع بعد الزوال ؛ وعلى هذا فإنه لا يصح فعل الجمعة قبل الزوال على أصح قولي العلماء -رحمهم الله- .
قال رحمه الله : [ في قرية ] : في قرية كما ذكرنا البنيان ، وعلى هذا أهل الخيام لا تصح منهم الجمعة؛ لأنهم مطالبون بالظهر وليسوا مطالبين بالجمعة ، وفي الجمعة يسقطون ركعتين من الظهر ؛ ولذلك يبقون على الأصل لأنه لم يثبت الدليل على أن الرحل وأهل العمود يصلون الجمعة .(3/89)
قال رحمه الله : [ وأن يحضرها من المستوطنين بها أربعون من أهل وجوبها ] : هذه مسألة العدد وأخذوها ممن بقي مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حينما انصرف الناس في خطبة الجمعة ؛ وفيه حديث لو صح إسناده لكان حجة ، فيتوقف النظر على ثبوته ، فلو ثبت لكان هذا القول حجة ، ولكن لا يلزم بالأربعين إلا إذا ثبت الدليل ، ولا أعرف دليلا قويا على اللزوم بالأربعين ، لكن لما كانت الجمعة فيها إسقاط للركعتين يحتاط المسلم للناس ويحتاط لنفسه فلا يقدم على هذا الأمر إلا على وجه بين فيصلي؛ لأن الأربعين شبه قول جماهير السلف والخلف على صحة الجمعة بها .
والفقه أن الإنسان يؤدي صلاته على هذا الوجه بما تستبرئ به الذمة ، وفصلنا في هذه المسألة وبيناها في شرح الزاد .
قال رحمه الله : [ وأن يتقدمها خطبتان ] : أن يتقدم الصلاة خطبتان ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة أنه خطب خطبتين ، فجلس بين الخطبتين ، وكان جلوسه يسيرا ، وعلى هذا قالوا : السنة أن يخطب خطبتين كما خطب صلوات الله وسلامه عليه .
قال رحمه الله : [ في كل خطبة حمد الله تعالى والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقراءة آية والموعظة ]: ثبتت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه ، وهذا هو الأصل في خطبه أنه كان يستفتحها بالحمد بحمد الله والثناء عليه ، ثم إن الخطبة المقصود الأعظم منها : التذكير بالله ، فبينت النصوص الأصول العامة للخطبة في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } المقصود الأعظم أن تشتمل على ذكر الله .(3/90)
ثانيا : أن يكون هذا الاجتماع على الذكر محققا لمقصود الشرع من رسالة الرسل وهي البشارة والنذارة ؛ كما قال تعالى : { رسلا مبشرين ومنذرين } فكل كلام من ذكر الله اشتمل على الأمر بما أمر الله به والنهي عما نهى الله عنه فهو رسالة الرسل لأنها البشارة والنذارة . البشارة بالأمر بطاعة الله وما رتب الله على الطاعة من ثواب والنهي عن معصية الله والتحذير منها ببيان ما بيّن الله من عقاب . إذا اشتملت الخطبة على البشارة والنذارة مستفتحة بحمد الله والثناء عليه ؛ فإنها خطبة تامة كاملة . هذا بالنسبة للأصل وتجزي ، لكن اتباع الوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من التفصيل في الخطبة ، وأن يكون موضوع الخطبة تاما كاملا يفصل فيه تفصيلا كاملا لاشك أن هذا هو السنة والأفضل والأكمل .
أما حد الإجزاء أن تكون الخطبة مشتملة على البشارة والنذارة مستفتحة بحمد الله والثناء عليه - سبحانه وتعالى - .(3/91)
قال رحمه الله : [ ويستحب أن يخطب على منبر ] : بعد أن بيّن ما يلزم في الخطبة شرع في بيان المستحبات ، فالمستحب في الخطبة أن يخطب على منبر ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يخطب على جذع ، لما أراد أن يبني مسجده كان حائطا ليتيمين ، وكانت فيه جذوع النخل بقايا بستان ، فأمر بالجذوع فوضعت ورصت في القبلة قبلة المسجد ، وكان منها هذا الجذع الذي يستند إليها أثناء الخطبة ، فلما كثر عليه الناس أرسل كما في حديث سهل بن سعد الساعدي -- رضي الله عنه -- في الصحيحين إلى امرأة من الأنصار قال لها : (( انظري غلامك النجار فليصنع لي أعوادا أكلم عليها الناس )) فقام هذا الغلام وصنع منبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من شجر الغابة ، فصنعه على ثلاث درجات ، فوضع المنبر في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فقام عليه ، فلما قام عليه حنّ الجذع ، وقيل سمع منه الصوت ، وقيل منه صوت كالحنين فنزل عليه الصلاة والسلام فالتزمه ، فسكن الجذع ، وهذا من معجزاته -صلوات الله وسلامه عليه- ، وإذا كان الجذع يحنّ إليه عليه الصلاة والسلام وتكمن المحبة حتى من الجذع فكيف بمن شرفه الله باتباعه ، وشرفه الله -- عز وجل -- بهذا الخير الذي أجراه الله على يديه -صلوات الله وسلامه عليه- إلى يوم الدين فإنه أولى بالمحبة ، والحنين إلى سنته ومتابعته ولزوم طريقته ومنهجه ، فحن الجذع ؛ لأن كل شيء من مخلوقات الله الجامدة والنباتات يريد طاعة الله -- عز وجل -- ، وهذا الجذع مع كونه جمادا لكن الله -- سبحانه وتعالى -- جعل فيه هذا ، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء - سبحانه وتعالى - ولا يعجزه ، فصدر منه هذا الصوت فالتزمه - صلى الله عليه وسلم - .(3/92)
فالشاهد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صار يقوم على هذا المنبر من ثلاث درجات ، وكان يقوم في الدرجة الثالثة صلوات الله وسلامه عليه ، فلما اتخذ المنبر دل على أن المقصود أن يسمع الناس خطبته ، فدل على شرعية أي وسيلة تعين على وصول الخطبة وسماع الناس لها ، فيدخل في ذلك المذياع والوسائل التي جعلها الله -- عز وجل -- وسخرها في زماننا ؛ أخذوا منه شرعية أن يخطب على مكان عال ، لكن الذي نقول السنة أن يكون منبرا ؛ والسنة في هذا المنبر أن تكون درجاته إلى المصلين لا إلى غير المصلين ؛ لأنه منبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ويستقبل فيه الناس بصعوده ثم يستقبل به الناس ؛ والسنة في المنبر أن يكون على يمين المصلى لا عن يساره ؛ لأن منبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان كذلك ، وكان إذا خطب كان مصلاه عن اليمين ، وهذا وجه عند بعض العلماء -رحمهم الله- ، فيخطب على منبر ، ويجوز أن يكون على أكثر من ثلاث درجات لوجود الحاجة ، وهذا ما فعله السلف -رحمهم الله- ، وكان منبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في المسجد حتى زيد فيه ثم احترق في سنة ستمائة وأربع وخمسين حين احترق مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(3/93)
السنة أن يخطب على منبر ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، واتباعا لسنته ، وعلى هذا ما يفعله البعض يأتي بكرسي في المسجد ثم يخطب الإمام قائما ثم يجلس على الكرسي لاشك أنه مخالف للسنة أن يكون على مكان عال ، فالسنة أن تكون خطبته على مكان عال ، إلا إذا كان المسجد صغيرا وفيه عدد الجمعة ، وقيل بأنه مشابه لحال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قبل وجود المنبر ، فهذا له وجه في التخريج ، لكن السنة أن يكون على منبر ؛ والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال كما في الصحيحين : (( انظري غلامك النجار فليصنع لي أعوادا أكلم عليها الناس )) فكأنه يقول : صنعت الأعواد لأكلم عليها الناس ، فدل على أنه يكلم الناس على المنبر ، وهذه هي السنة ، وأن المنبغي أن يكون الإمام على المنبر أثناء الخطبة .(3/94)
قال رحمه الله : [ فإذا صعد أقبل على الناس فسلم عليهم ثم يجلس وأذن المؤذن ] : ثم إذا صعد أقبل على الناس فسلم عليهم يكون دخول الإمام على وقت ابتداء الخطبة للمسجد ، وهذا هو فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهذا هو معنى قول الصحابي : (( إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يجمع ، وأقول هل الشمس زالت أو لا )) وهذا راجع إلى نكتة لطيفة ذكرها بعض شراح الحديث والأئمة : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يجعل ابتداء الخطبة قريبا جدا من الزوال ، ولاشك أن معرفة زوال الشمس خاصة في القديم بعدم وجود الساعات أمر دقيق جدا ، فالصحابي رجع إلى الحدس والتخمين حتى أنه عليه الصلاة والسلام وهو عن طريق الوحي وهو أعلم بالوقت الذي يبتدئ فيه الزوال ؛ فنظرا لوجود الدقة من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- لكن غيره لا يستطيع يقول : كأنها الزوال لأنها مقاربة جدا من وقت الذي هو انتصاف النهار، فتكون السنة دخول الإمام للمسجد وصعوده المنبر على ابتداء الخطبة ، فإن كان بيته بعيدا وصعب عليه أن يأتي على وقت وخشي أن يعطّل في الطريق أو نحو ذلك وبكّر وجد عذر فلا بأس ولا حرج؛ لأن هذا هو السنة والأفضل ، إذا صعد المنبر السنة أن يستقبل الناس ويسلم عليهم ؛ وللعلماء وجهان:
من أهل العلم من قال : يسلم الإمام عند دخوله للمسجد ، ثم يسلم الثانية على المنبر .
ومنهم من قال : لا يسلم إلا على المنبر .
والسنة تدل على أن من دخل المسجد يبتدئ بالتحية أولا قبل أن يسلم على الناس ، وهذا استثني ، ولذلك كان بعض العلماء يقول : إن دخول النبي-- صلى الله عليه وسلم -- على ما ذكرنا يعني على انتصاف النهار كان جلوسا في وقت النهي وعلى هذا سقطت عنه التحية فصار دليلا على عدم لزوم تحية المسجد في أوقات الكراهة ، فلا يضر أن يكون سلامه على انتصاف النهار وجلوسه في ذلك الوقت ، وهذا لا يؤثر في الجمعة ؛ لأن العبرة بابتداء الخطبة .(3/95)
فالشاهد من هذا على هذا الوجه يقولون : إنه ابتدأ السلام في حال النهي ، فاستوى أن يجلس أو يسلم ، لكن إذا كان في حال غير النهي يبدأ بتحية المسجد قبل أن يسلم على الناس ؛ والدليل على أن التحية قبل السلام أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في حديث المسيء صلاته لما صلى جاء إلى النبي-- صلى الله عليه وسلم -- وسلم عليه، فقال : (( وعليكم السلام ارجع فصل فإنك لم تصل )) وفي بعض الأحاديث لم يرد عليه السلام قال له : (( ارجع فصل فإنك لم تصل )) فدل على أن السنة أن يبدأ بالتحية قبل السلام ، والبعض الآن إذا دخل المسجد يسلم قبل أن يصلي التحية ، وهذا خلاف السنة .
ولذلك قرر العلماء أن من دخل مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن يبدأ بتحية المسجد قبل أن يسلم على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو أعظم الخلق حقا -صلوات الله وسلامه عليه- ، فابتداء الناس بالسلام قبل التحية مخالف للأصل والسنة .
فالشاهد من هذا أنه يبدأ بالسلام ، هل يسلم مرتين أو يسلم مرة واحدة ؟ الأشبه بظاهر السنة أنه يسلم مرة واحدة ؛ وذلك عند رقيه للمنبر ؛ واتباعا للسنة والوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما ذكر المصنف -رحمه الله- .
قال رحمه الله : [ ثم يقوم الإمام فيخطب ثم يجلس ثم يخطب الخطبة الثانية ] : يأخذ المؤذن في الأذان بعد جلوس الإمام ، ويسبق هذا الأذان الأول الذي سنّه عثمان -رضي الله عنه وأرضاه- .
وأجمع عليه السلف -رحمهم الله- فيؤذن الأذان الأول سواء وجدت الحاجة أو لم توجد ، وهناك سنن تبقى بعد زوال أسبابها ، فمثلا : الآن الرمل شرعت لإغاظة المشركين وإظهار الجلد وهو باقي إلى قيام الساعة ؛ قال عمر -- رضي الله عنه -- : (( فيم الرملان وكشف المناكب وقد أطأ الله للإسلام ولكن لا ندع شيئا فعله رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- )) .(3/96)
فقد تشرع بعض السنن لأسباب ثم تزول أسبابها فتبقى مع زوال أسبابها ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )) .
هذا أذان سنّه عثمان -- رضي الله عنه -- لم ينكر عليه أحد من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وهم ممن أمر باتباع سنته ، فلما سُن وشرع لم يأت أحد من السلف فيقول مثلا المساجد الصغيرة لا يؤذن فيها والمساجد الكبيرة يؤذن فيها ويفرق ، أو يقول مثلا إذا كان في المسجد الذي لا يحتاج إليها والمدينة التي لا يحتاج فيها إلى أذانين فهو بدعة ، وإن كان في كذا فهو سنة ، أخذ السلف هذه السنة على ما هي عليه ، والرفق فيها موجود في كل زمان ومكان ، فإن الناس يرتفقون بهذا الأذان الثاني ، فهو سنة وأمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين ومنهم عثمان -رضي الله عنه وأرضاه- إلا إذا كان أحد يشكك فإن عثمان من الخلفاء الراشدين فهذا مذهب مهجور ، أما أهل السنة والجماعة على أن عثمان -- رضي الله عنه -- من الخلفاء الراشدين وأن سنته سنة راشدة وهي أربعون سنة خلافة راشدة بنص النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فعثمان وعلي -رضي الله عنهما- لاشك أنهما من الخلفاء الراشدين ؛ فعليه فإنه ينبغي العمل بهذه السنة وعدم التشويش فيها ، ويسعنا ما يسع السلف الصالح -رحمهم الله- والأئمة ، فيأخذ المؤذن بالأذان الأول ، ثم يأتي الخطيب ويرقى المنبر ويسلم فيؤذن المؤذن بالأذان الثاني .(3/97)
قال رحمه الله : [ ثم يقوم الإمام فيخطب ثم يجلس ثم يخطب الخطبة الثانية ] : ثم يقوم فيخطب : أولا : مشروعية القيام أثناء الخطبة ، وأن الخطبة لا تكون من الجالس ؛ ولذلك قال تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما } فدل على أن الخطيب الأصل فيه أن يكون قائما ، وعلى هذا فلا يخطب جالسا ، ومن هنا منع بعض العلماء أن يخطب المشلول ونحوه ، والحقيقة هناك مقاصد للشريعة عظيمة ، والأئمة إذا كانوا على صفة الكمال هابت الناس المنابر ، وهابت الناس الكلام الذي يقال ، وشعرت بأهمية الجمعة وتأثيرها في النفوس ، كان - صلى الله عليه وسلم - إذا رقى المنبر احمرت عيناه، وانتفخت أوداجه يصيح كأنه منذر جيش صبّحكم ومسّاكم ، تحس الناس بهيبة الخطبة ، وتحس بمقام الخطيب ، وأنه يتكلم من قلبه ، فتصغي إليه وتتأثر بكلامه ؛ ولذلك لا ينبغي أن يكون حاله موافقا لهذا الحال ، فهو جالس ليس كما هو قائم ، ومن هنا خطب عليه الصلاة والسلام قائما ولم يخطب جالسا ، والسنة أن يكون الخطيب قائما فيخطب الناس وهو قائم ثم يجلس كما جلس رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- للفصل بين الخطبة الأولى والثانية .
قال رحمه الله : [ ثم تقام الصلاة فينزل فيصلي بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ] : الأصل في هذه الخطبة أن يراعي الخطيب تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية من دلالة الناس على الله ، والأخذ بمجامعهم إلى طاعة الله ومرضاة الله ، وأعظم الخطباء أجرا من اتبع السنة وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- :(3/98)
فأولا : ينبغي أن لا يرقى المنبر إلا من هو أهل للخطبة ، فإذا علم أنه ليس بأهل أو لم يجد من يرشحه لهذه الخطبة ويشهد أنه كفء من أهل العلم والأمانة ؛ فعليه أن يتقي الله في أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- ، وأن لا يغش المسلمين ، فالذي يرقى المنبر وهو ليس بأهل للخطبة ، وليس بأهل لتوجيه الناس ، ويرقاها بالحماس ، ويرقاها بمدح الأفراد ومن لا يوثق بتزكيته من أجل أن يقف على المنبر ويقول ما شاء أو يسخر هذا المنبر من أجل الثناء على نفسه ، أو من أجل أن يقول كلاما فيجمع الناس ويكون أكثر شعبية فهذا كله من الغش والزور ، وعواقبه وخيمة ونهاياته أليمة ، وينبه طلاب العلم على ذلك حتى ينبهوا غيرهم ، وأيضا يرتدعون في أنفسهم ، ولا عليك إذا رأيت الناس أن يسترسلوا أن تحفظ نفسك وأن تزمّها بزمام الورع وتقوى الله -- عز وجل -- .
ولاشك أن هذه المنابر عرف الناس وعرف السلف الصالح ومن بعدهم قدرها لما تقلدها الأئمة والصلحاء والأتقياء علما وعملا ، وكان الرجل إذا رقى المنبر فقال : اتق الله نفذت إلى القلوب ، وهزت المشاعر ، فتاب العصاة ، وأقبل البعيدون واستغفر المذنبون ، ورجعوا إلى الله بصدق ، فيأتي الخطيب ويقف على المنبر فيذكّر الناس فتنظر الناس إلى حاله ، وتنظر إلى مقاله ، فتجده بأحسن الأحوال ، وأصدق المقال ، فتحبه وتحب الكلام الذي يذكّر به ، وتحب النصح والتوجيه الذي يقوله ، فسرعان ما تجد هذه الخطب كالغيث إذا أرسل إلى الأرض الطيبة ، فكم أصلح الله من فساد في الأمة، وكم قوّم من اعوجاج ، وكم سدّد من طريق ؛ كل ذلك بفضله سبحانه ثم بفضل ألسنة الصدق التي رقيت المنابر ، فعلمت الناس أمور دينها ، ودلّتها على شرع ربها ، وحبّبتها في الخير ، ونفّرتها من المعصية والشر .
ومن هنا ينبغي أن يكون حال الخطيب على الأكمل من ناحية العلم والأهلية والكفاءة .(3/99)
وثانيا : من ناحية العمل بما يقول ، من الخطباء من لم يخطب في شيء عصى الله به ، ومنهم من لم يخطب في شيء يعلم أنهم مقصر فيه ، فبينه وبين الله أنه لم يأمر بشيء لم يفعله ، ولم ينه عن شيء فعله من لزومه للحق وخوفا من أن يمقته الله وهو على منبره ، ومن النصح لأمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- ، وأن يكون حاله على الكمال ، والأكمل أن تكون الخطبة مرتجلة ، ومن هنا نص العلماء على أن الخطيب يرتجل ، والخطبة بالورقة جائزة لكنها تنقص من المقام ، وفي الغالب أن الناس تتأثر أكثر بالخطيب حينما يقوم ويرتجل ويعي ما يقول ، وتكون خطبته قصدا ، ومن هنا تجد كلامه مؤثرا خارجا من قلبه، ويفتح عليه ربه مما تيسر .
فالخطيب ينبغي أن يهيئ نفسه أن يكون على حالات الكمال ، وأن لا يتشتت بالناس ، وأن لا يذهب بهم يمينا وشمالا .
ومن الخطباء من إذا رقى المنبر نسي نفسه ، ونسي الناس ونسي أن وراءه الضعيف ، وأنه يصلي وراءه الشيخ الكبير ، ويصلي وراءه ذو الحاجة ، فلم يتق الله ، فأصبح يهيم في كل واد ، فيطيل ويكرر ويعيد حتى تمل الناس الخطبة ، ويحصل منهم السآمة ، وهذا نوع من أنواع التنفير .(3/100)
التنفير ليس بشرط أن يكون الإنسان فظا غليظا بل إن الأفعال تنفّر ، وإطالة الخطب والكلام الممجوج أو الكلام الذي لا يليق بالمنبر ينفّر الناس ، ومن هنا من نظر في حال الناس اليوم ونظر في حال الناس حينما كانت المنابر لأهلها ورجالها وقرأ في خطب السلف الصالح -رحمهم الله- كيف أن الخطبة لبعضهم لا تتجاوز ثلاثة أرباع الصفحة لكنها تكتب بماء الذهب ، وكل كلمة تجد فيها من العبر الشيء الكثير ، وخطبة الجمعة تنصبّ على الكتاب والسنة وهما الأصل ، بل أن يأخذ في القصص والحكايات والأخبار والتواريخ ، بعضها قد يكون حتى خارج عن المقصود ، وقد يخطب في خطبة قصة رجل ولو كان عالما من علماء الأمة يذكر ترجمته في الخطبة ، ولاشك أن الصلحاء والأخيار هم قدوة ، لكن لا أظن أن كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يصبح فيهم غناء حتى يذهب الخطيب يمينا وشمالا ، فإذا تكلمت مثلا عن عبدالله بن المبارك فنعمت العين بذكر سيرته وترجمته ، ولكن لتعلم أن عبدالله بن المبارك يوما من الأيام كان جالسا في الخطبة ، وأن أعظم منه قال الله وقال رسوله -عليه الصلاة والسلام- ، فهذه لما تذكر صفات الرجال ليس كما تذكر صفة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وهديه ، وهذا أصل ليس في الخطبة ، بل في كل شيء وأذكر ذات مرة أنه قيل لي تكلم عن أخبارك في الدعوة، ونريد منك محاضرة عن حالتك في الدعوة . فقلت لهم : أقترح أن يكون العنوان هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في دعوته ، فقالوا : هذا أمر واضح ، قلت : هذا الواضح نريده ، وهل في الشرع إلا الواضحات البينات . الفاتحة كم مرة نقرأها ، الفرار من هذه البدهيات المعروفة وعدم لزومها هو المشكلة اليوم . قال : لا نريد قصصك وأخبارك ، والله ، ثم والله ، إن العبد ليستحي من الله أن يخرج له شريط يسمع له الألف والألفان وهو يتحدث عن نفسه ، أو ليس من النصيحة أن يتحدث عن هدي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم(3/101)
-- لكي يرجع بمثاقيل الحسنات ، ولكي يخرج ناصحا للأمة بدل أن يتحدث عما كان يفعله ويقوله ، ليس معنى ذلك أن هذا حرام ، لا . لكن ينبغي للإنسان أن يسمو إلى الأعلى والأكمل والأسمى ولو كان هذا جائزا علينا أن نسعى للنصيحة في الأكمل ، والناس إذا أصبح الخطباء والعلماء والمشهورون يتكلمون بقال الله وقال رسوله -عليه الصلاة والسلام- عرفت الناس أنهم ما تبوؤوا هذا المكان إلا من أجل قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام ، ولكن إذا تحدثوا بالقصص والأخبار أصبح كل طالب علم يرى شيخه يتحدث بالأخبار يولع بالأخبار ، فيحس أن شيخه ما وصل إلى هذه المنزلة إلا بالأخبار ، هناك شيء يرجع إلى شعور الناس ، والخطب ينبغي أن يركز فيها على النصيحة ، وأن تكون النصيحة في بعض الأحيان تأخذ آية واحدة من كتاب الله -- عز وجل -- لو جلست من طلوع الشمس إلى غروبها بل إلى انبلاج الفجر ما استطعت أن تحيط بما في هذه الآية من المعاني والحكم والأحكام والأسرار { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } .(3/102)
هذه الكلمات الطيبات المباركات الحرف بعشر حسنات ، هذا الخير العظيم الذي ينصرف عنه الخطيب يمينا وشمالا ويجلس في القصة ساعة إلا ربعا أو نصف ساعة ، لو قال مجموعة من الأحاديث ومجموعة من الآيات لهزت القلوب إلى ربها ، ولو ألقاها من صميم قلبه لبلغت إلى داخل القلوب { إن في ذلك لذكرى } ثم انظر كيف أسلوب القرآن ذلك ما قال إن هذا ولم يقل إن في القرآن { إن في ذلك } وذلك اسم إشارة للبعيد ، قالوا : فرفع منزلة القرآن ومنزلة الكلمات الطيبات وهي كذلك عالية رفيعة لما فيها من الأثر العظيم والمقام الشريف الكريم ، إذا نطقت بالآية خشعت القلوب بنطقها، وإذا وعظت في كتاب الله فقد نطقت فصدقت فبررت ، فليس هناك أكمل في الخطبة ولا في الموعظة ولا أجمل في عينك ولا أعظم وقعا في صدرك من خطيب يقول قال الله ومن خطيب يذكّر بسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فهذا أمر ينبغي أن يعتنى به ، وليس الأمر في الخطبة ، بل في كل شيء لكن الخطبة هي المقام، فينبغي للخطيب أن يركز في خطبته على هذا الأساس ، والسبب في هذا أنه تسلط على المنابر أناس ما عندهم علم إلا من رحم الله ، وأناس مولعون بالغرائب ، وبعضهم مولع أن يسمع الناس شيئا يسليهم يا سبحان الله ! الناس سبعة أيام وهي تعيش في هذه الدنيا في الأحزان والأشجان والآلام والأفراح والأتراح تركت أموالها وتركت تجارتها وتركت الربح وتركت خير الدنيا وتركت المال والأهل والولد وجاءت إليك لكي تسمع كلام الله لكي تسمع تذكرها بالله -- عز وجل -- ، والله إن الخطيب الذي يخاف الله ويراقبه ليشفق على نفسه فقل : سبحان الله هذه الأمة كلها خرجت من أجل أن نذكّرها بالله -- عز وجل -- ، هذه الأمة كلها تخرج ويقال لها : لا يستطيع الواحد أن يقول لأخيه بجواره أنصت ولو قالها للغا ، كل هذا من أجل أن يسمع للخطيب ، فما معنى ذلك معناه أن كل حرف بحسابه ، معناه أن كل كلمة مسؤولة ، معناه أن كل جملة وعبارة ينبغي(3/103)
أن تبلغ المقصد ، وأن تنتهي إلى الغاية ، وأن يكون المنشود بدل أن يخرج إلى الخطيب يمينا وشمالا ، نعم إذا أحس بهذا الإحساس دمعت عينه ، فبكى وأشفق على نفسه أن يرقى منبرا لكي ينصح الناس ، وإذا رقى إليه برئ من الحول والقوة أن ينمّق العبارات والكلمات ، وأخذ يبحث عن شيء هو النجاة من نار الله والمسؤولية بين يدي الله ، هذه الألوف التي تجتمع ، هذه الآذان التي تنصت الملائكة تأتي وتقف على أبواب المسجد ، تكتب المبكّرين للجمعة ، فإذا حضر الخطيب ورَقِيَ المنبر طووا الصحف واستمعوا إلى الذكر ، ماذا يكون لو أن الإنسان الخطيب استشعر هذا طووا الصحف وأنصتوا للذكر أن الملائكة تستمع إليك ، هل وجدت في مشارق الأرض ومغاربها على مر العصور والدهور يجتمع المليون أيام الحج ما لا يقل عن المليون بعض الأحيان إذا جاءت الجمعة قبل يوم التروية يصلى في بيت الله الحرام في المسجد الحرام ممكن ما يقارب المليون هؤلاء كلهم إذا قال المؤذن : لا إله إلا الله فوقف الخطيب كلهم ينصتون ، هل وجدت على وجه الأرض هذه من يجمع عشرة آلاف بل من يجمع ألفا ويستطيع أن يسكتهم في لحظة واحدة . إنه الله -- جل جلاله -- وتقدست أسماؤه ينصتون ؛ لماذا ؟ لشيء عظيم معناه أن الأمر ليس تنميق كلمات أو البحث عن قصص أو سيرة فلان أو علان ، مسؤولية عظيمة . الناس جاءت محترقة المذنب والعاصي والمطيع والمتقي البر الفاجر والقوي والضعيف ، آكل أموال الناس ظلما وزورا والمرابي والآكل لأموال اليتامى والعاق لوالديه والقاطع للرحم والبار وقائم الليل وصائم النهار جاءوا كلهم لكي تثبت هذا على طاعته ، وتأخذ بحجز هذا بإذن الله -- عز وجل -- عن معصية ربه . ما هو كلام أو عبارة ولذلك لما استهان الناس بهذا الأمر العظيم قل أثر الخطب ، فمن لا يعرف مسؤولية الخطبة لا يستطيع أن يصل إلى الخير فيها ، ولا يستطيع أن يبلغ الكمال ، ولكن من استشعر المسؤولية والأمانة عندها يعرف ما الذي(3/104)
يقول ، ويستحي من الله أن تمضي هذه الثواني فضلا عن الدقائق دون أن تكون بحقها وفي طريقها ، فيقول القول السديد ، ويحرص على أن تكون موعظته بليغة ، وأن يكون في مقام المسؤولية ؛ ولذلك وعى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ذلك ، وكان في أعلى المراتب وأسناها وأجملها فلما رَقِيَ إلى المنبر كان حاله على أعظم الحالات . ما كان حاله يخاطب الناس ببرود ، ولا كأنه جاء مثلا يتحدث معهم في محاضرة في كلية ، إنما خطب فاهتز المنبر من خطبته ، احمرت عيناه ، وانتفخت أوداجه ، وظهر الغضب في وجهه ، معناه أنه أمر عظيم يقول الصحابي : " كأنه منذر جيش " كانت العرب إذا رأى أخوف ما تخاف إذا رؤي الجيش وهو يدخل على المدينة ؛ لأن الجيش يكتسح الناس ويدخل عليهم وهم في مدنهم وقراهم فهذه من أصعب الحالات وأشدها ؛ ولذلك النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما أراد أن يبين عظم رسالته قال : (( أنا النذير العريان )) وذلك أنه إذا رأى الجيش من بعيد ما يستطيع أن يصيح ولا يبلغ صوته فيأخذ ثوبه ويلوح به حتى إنه قد يعري أعلى جسده فيأخذ الرداء فقال : (( أنا النذير العريان )) إذا فعل هذا علموا أن وراءه خطبا ، وأن هناك عدوا سيأتيهم ، وإذا به عليه الصلاة والسلام يقف يقول الصحابي مما رأت عيناه وسمعت أذناه من خطب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وحاله أنه كان على هذه الحالة الشديدة المفزعة المقلقة ، من ينظر إلى الخطيب وقد احمرت عيناه وانتفخت أوداجه وعلا صوته أحس أن الكلام الذي يقوله كلام عظيم .(3/105)
فإذاً ينبغي للخطباء أن يعيدوا النظر في أساليبهم وطرقهم وأن يستشعروا المسؤولية ، وإذا تقلد طالب علم شيئا من هذا فإن الواجب عليه أن يقوم بهذه الأمانة ، وأن يرعى هذه المسؤولية ، ولاشك أن الأثر واضح ، فمن خرج من بيته إلى منبره صادقا مع ربه ، ناصحا لأمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- في نصيحته وأدائه لأمانته سرعان ما تخرج الكلمة منه ولربما يخطب الخطبة بالكلمات المعدودة الموجزة ، ولكن يخرج العاصي تائبا ، ويخرج البعيد راغبا طالبا ، فكم من عصاة تابوا وكم من مذنبين أنابوا حينما وقف الصادقون على المنابر ، وحينما تكلموا بصدق وبحق ، وكانت كلماتهم بالنصوص المؤثرة ، ولا يشترط أن تكون الخطبة كلها آيات وأحاديث يستطيع الإنسان أن يأخذ آية واحدة وأن يجعل حديثه فيها ، وأن يأخذ حديثا واحدا من سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأن يجعل خطبته فيها .
المهم أن يكون المنبر لله لا لأي شيء سواه ، من قال لما قال الله فقد صدق وبر في قوله ، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يملأ قلوبنا بكتابه وبسنة رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- حتى نستغني بهما عما سواهما، وأن يرزقنا السنة والتمسك بها خاصة عند فساد الأمة .
قال رحمه الله : [ ثم تقام الصلاة فينزل فيصلي بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ] : إذا خطب يشرع أن يدعو في خطبته ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- أنه أتاه الأعرابي فدخل من نحو باب القضاء كما في رواية الصحيح واستقبل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهذا فيه فوائد ، منها :(3/106)
أنه أخذ منه بعض العلماء أنه يقوم الخطيب في وجه الناس ولا يلتفت يمينا وشمالا ؛ لأن الأعرابي لما أراد أن يطلب من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الاستسقاء يقول أنس فأتاه حتى وقف أمامه فاستقبل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان ينظر أمامه ، فلو كان يتلفت في خطبته ما احتاج أن يتكلف أن يأتي من غربي المسجد باب القضاء كان غربي المسجد من جهة الخوخات إلى منتصف المسجد حتى يواجه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذه هي السنة ، فمن فوائد الحديث أن لا يلتفت .
ومن فوائده أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يدعو في خطبته ؛ لأنه لو لم يكن يدعو في خطبته لما جاء الصحابي يسأله أن يدعو ويستسقي ، فدل على أنه كان من السنة أنه كان يدعو في خطبة الجمعة صلوات الله وسلامه عليه ، فإذا أقيمت الصلاة فانتهى من الخطبة وأتمها نزل من المنبر وصلى بالناس .
قال رحمه الله : [ ثم تقام الصلاة فينزل فيصلي بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ] : يصلي بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة : وهي السنة الصحيحة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه كان في صلاة الجمعة يجهر في قراءته ، وكان يقرأ " بالجمعة والمنافقين " و "بسبح اسم ربك الأعلى" و "هل أتاك حديث الغاشية " كما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- .
قال رحمه الله : [ فمن أدرك معه منها ركعة أتمها جمعة وإلا أتمها ظهرا ] : من أدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركوع من الركعة الثانية فحينئذ قد أدرك الجمعة ، وأما إذا رفع الإمام رأسه من الركوع فإنه يتمها ظهرا كما لو أدركه بعد الرفع من الركوع أو أدركه في السجود الأول أو الثاني من الركعة الثانية أو بين السجدتين من الركعة الثانية أو في التشهد فإنه يتمها ظهرا يصلي أربع ركعات ؛ لأن الصلاة تدرك بالركعة ولا تدرك بتكبيرة الإحرام حكما .(3/107)
أما فضلا تاما كاملا بتكبيرة الإحرام ، أما حكما فكل حكم الجماعة وحكم الجمعة إذا أدرك ركعة فأكثر ؛ ما الدليل ؟ قوله عليه الصلاة والسلام : (( من أدرك ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر )) هذا يدل على أن الشريعة فرّقت في الإدراك وعدمه بالركعة ، وهذا أقل ما ورد في الاجتزاء فصار الحكم لا يدرك إلا بالركعة .
قال رحمه الله : [ وكذلك إن خرج الوقت أو نقص العدد وقد صلوا ركعة أتموها جمعة وإلا أتموها ظهرا ] : نعم إن خرج الوقت انقلبت إلى القضاء قبل أن يصلوا فإنهم حينئذ يصلونها ظهرا ، وإذا خرج الوقت أثناء الصلاة ففيه خلاف هل العبرة بالتكبير أو العبرة بالركعة الأولى أو بإدراك ركعة في الوقت ؟ وهذا ظاهر السنة يدل عليه أن العبرة بإدراك الركعة ، فإذا أدركوا ركعة قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فقد أدركوا الجمعة .
طول الخطيب أو تأخر وخطب متأخرا ، بعض الخطباء ما شاء الله تبارك الله خطب أحدهم فجلس إلى الساعة الثالثة ظهرا في رمضان فقالوا أطلت علينا ! قال : أنا الذي أتعب أنا الذي أتكلم وأنتم جالسون فبعض الخطباء يطيل فإذا وصل إلى حد العصر إلى صلاة العصر ودخل وقت العصر قبل أن يصلي فلا إشكال أنهم فاتتهم الجمعة وإن دخل الوقت أثناء الصلاة فيه تفصيل فإن كانوا قد أدركوا ركعة فقد أدركوا الجمعة ، وإن لم يدركوا الركعة بمعنى أنه كبر للركوع قبل أن يصير ظل كل شيء مثله فقد أدرك الجمعة ، فلو كان مثلا أذان العصر على ثلاث وأربعين دقيقة وكبر للركوع في ثمان وثلاثين أو تسع وثلاثين دقيقة فقد أدرك مادام تكبيرة الركوع وقعت قبل هذه الدقيقة فقد أدرك ، لكن لو وقع التكبير بعد الدخول وبعد صيرورة ظل كل شيء مثله فحينئذ يتمونها ظهرا يصلونها أربعا وتكون سرا .(3/108)
قال رحمه الله : [ أو نقص العدد ] : أو نقص العدد على القول باشتراط العدد كما سبق فيصبح نقصان العدد مؤثرا فتنقلب ظهرا فإذا حصل النقص قبل الإدراك للصلاة على الصفة التي ذكرناها فإنهم يتمونها ظهرا وتنقلب إلى الصلاة الأصلية وهي صلاة الظهر .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز أن يصلي في المصر أكثر من جمعة واحدة ] : ولا يجوز أن يصلى في المصر أكثر من جمعة واحدة هذا هو الأصل أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يأذن لأهل قباء ولا أبوبكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي بل قرر الأئمة أن المدينة في زمان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- والخلفاء الراشدين والقرن الأول والقرن الثاني والثالث التي هي القرون المفضلة لم يصل فيها أكثر من جمعة واحدة ، وأن أول تعدد للجمعة وقع في الإسلام كان في عهد هارون الرشيد ، وذلك حينما كانوا في بغداد يقسمهم النهر نهر دجلة ، فالذين هم في شط النهر نصف المدينة في طرف النهر ونصفها في الطرف الآخر ، فيحتاج أهل النصف الأبعد أن يدخلوا إلى المدينة يوم الجمعة فيزدحمون على الجسر ، وكان معروفا جسر بغداد فكان الناس يتساقطون حتى إن بعضهم يموت فيحصل الزحام الشديد لإدراك الجمعة يوم الجمعة فيحصل القتل ويحصل أذية الناس بعضهم ببعض ، فسأل هارون الرشيد القاضي أبا يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة فأفتاه أن يصلي أهل الشطر الثاني الجمعة وأن يعيدوها ظهرا لأن مقصود الشرع حينما تكون الخطبة واحدة ولا تتكرر الجمعة يصدر الناس عن قول واحد وإذا خطب من المدينة كلها عن موضوع واحد وكان خطيبا مؤثرا خرجت الناس يوم الجمعة بموعظة واحدة وبرأي متفق عليه بين الناس وحينئذ يعتني الناس كلهم بهذا الأمر ، أما إذا تشتتوا بين خطباء وبين أكثر من خطيب فيهم من يحسن ومن لا يحسن لاشك أن هذا يفوّت المقصود من ناحية المعنى .(3/109)
أما من ناحية الشرع فإن الجمعة بدل عن الظهر وجاءت على الصفة الواردة في السنة ولذلك لا تكرر الجمعة يوم الجمعة ، وإنما يقتصر على المسجد الجامع فإن وجدت حاجة فإنها تكرر لكن تكرر بقدر الحاجة .
أما كل أصحاب حي بنوا حيا لهم أو مخططا لهم فقالوا : لماذا نذهب إلى الحي الفلاني ؟ ولماذا ننتقل إلى حي فلان ؟ دعونا نصلي الجمعة في حينا فهذا لاشك أنه لا تصح معه الجمعة تكرار الجمعة بدون سبب خاصة إذا قصد المضارة . كيف نذهب إلى حي فلان ! وكيف ننتقل إلى بني فلان هل نصلي عندنا جمعة نأتي بخطيب ونصلي في مسجدنا فتجد بعض الأحيان الخطيب يشوش على الخطيب يعني ما بينهم شيء يعني المسافة قريبة جدا ، وهذا كله من التنافس والتساهل في تكرار الجمعة فإن تعددت على هذا الوجه الذي هو التساهل والترك للسنة ومخالفة الشرع فللعلماء أقوال :
منهم من قال : العبرة بالقديم ؛ لأن الجديد استحدث عليه ودخل عليه فلا يعتد به قالوا فإن تعددت فالجمعة للقديم ؛ وقد قال الله تعالى : { لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه } فجعله مؤسسا على التقوى لأنه ما جاء هؤلاء صلوا الجمعة وبنوا مسجدهم على التقوى ولم يجمعوا مضارات بالحي الفلاني أو العلاني ، فأسسوا مسجدهم على التقوى ، وجمعتهم أسس المسجد وأسست الصلاة التي هي على التقوى ، وأيضا { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } فجعل الأحقية للسابق فهذا وجه كون بعض العلماء يقول إن تكررت فالجمعة للقديم والعتيق ، وهذا الحقيقة هو أعدل وأصوب الأقوال ؛ لأن الجديد قد اعتدى على القديم ، ولاشك أن الحق للأسبق والأقدم .
الأصل يقتضي أن لا يجوز التكرار ، وأن يكون التكرار عند وجود الحاجة ، فإذا وجدت الحاجة قيد التكرار بها .(3/110)
من أهل العلم من يقول : العبرة بتكبيرة الإحرام في المسجد الذي يكبر تكبيرة الإحرام هو الجمعة وما عداه ليس بجمعة يصلي ظهرا لكن الحقيقة النفس تميل إلى أن العبرة بالمسجد الأقدم فهو أحق وإن تأخر .
قال رحمه الله : [ إلا أن تدعو الحاجة إلى أكثر منها ] : إلا أن تدعو الحاجة إلى أكثر من جمعة كما ذكرنا ، والقاعدة : "وما أبيح للحاجة والضرورة يقدر بقدرها" .
قال رحمه الله : [ ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل ] : ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل ترتيب في الأفكار ، بعد أن انتهى ما ينبغي للخطيب والإمام يوم الجمعة شرع فيما ينبغي من السنن ويستحب ويطلب في حق المأمومين والمخاطبين .
قال رحمه الله : [ ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل ] : هذا هو أحد قولي العلماء في المسألة : أن غسل الجمعة مستحب .
والصحيح أن غسل الجمعة واجب ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل )) وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( غسل الجمعة واجب على كل محتلم )) فهذا يدل على وجوب الغسل يوم الجمعة ، وأنه في مقام اللزوم وليس في مقام التخيير .
قوله عليه الصلاة والسلام : (( غسل الجمعة واجب ...)) يدل دلالة واضحة على أنه يجب عليه أن يغتسل.
يستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل هذا الغسل عند الذهاب والرواح للجمعة، وهذا أكمل ما يكون؛ لأن المقصود من هذا أن يتهيّأ للاجتماع لإخوانه فلا يؤذيهم برائحته؛ لأن المساجد تزدحم وتعلو الزهومة؛ ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- إن الأمر بالغسل كان من أجل هذا المعنى فيكون الغسل مقاربا للرواح على الأكمل ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل ...)) .(3/111)
ثانيا : يجوز أن يسبق الرواح والذهاب إلى الجمعة على وجه لا يؤثّر في الإنسان؛ لأنه في بعض الأحيان وبعض الأحوال وبعض الأشخاص وبعض الظروف يكون قليل الزمان مؤثرا ، والعكس في حق آخرين، وعلى هذا فإنه يراعي أن يكون نظيفا ورائحته طيبة لقرب وقت الاغتسال.
أما لو اغتسل بعد طلوع الشمس ولم يتغير فلا بأس؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( غسل الجمعة )) ، والجمعة من طلوع الشمس يبتدئ الرواح إليها لحديث التبكير والرواح : (( من راح في الساعة الأولى ...الحديث)) على أصح وجهين عند العلماء رحمهم الله .
قال رحمه الله : [ ويلبس ثوبين نظيفين ويتطيب ويبكر إليها ] : بعض العلماء يقول يجوز له أن يغتسل للجمعة من الليل وهذا ضعيف؛ لأن العبرة بالنهار، وحديث عائشة : (( كان الناس يغشون الجمعة من العالية، وكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عمال أنفسهم،فكانوا إذا أتوا المسجد علت منهم زهومة فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسلوا)) فدل على أن المقصود للجمعة والاجتماع، فضعف أن يغتسل من الليل؛ لأن هذا يفوّت المقصود.
كذلك أيضا قال بعضهم الغسل لليوم نفسه، وعلى هذا يستوي فيه المسافر، ويستوي فيه من تجب عليه الجمعة، ومن لا تجب عليه؛ لأنه لليوم .
والصحيح أنه لمن تلزمه الجمعة، وإذا كان للجمعة فحينئذ يكون قبل الجمعة لا بعد الجمعة، فيكون الاغتسال قبل صلاة الجمعة لا بعدها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إذا أتى أحدكم الجمعة ...)) فهذا يدل على أن العبرة به قبل الجمعة لا بعدها .(3/112)
قال رحمه الله : [ ويلبس ثوبين نظيفين ] : ويلبس ثوبين نظيفين: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الجمعة عيدا؛ ولذلك شرع فيها الاغتسال والتطيب، وأمر أن يتطيب وأن يتهيأ لها، فهي عيد الأسبوع، وهو أفضل الأيام؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - الذي اختاره الله لهذه الأمة فقال عليه الصلاة والسلام : ((خير أيام الأسبوع يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه أهبط منها، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا من خيري الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه )) .
وفي الحديث : (( نحن اللاحقون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب )) سبقونا في الزمان، ولكنا سبقناهم في الفضل، الناس لنا تبع فجعل الله - عز وجل - لهذه الأمة الجمعة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (( اليهود غدا والنصارى بعد غد )) .
فهذا اليوم يوم اختاره الله لهذه الأمة والنصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعظمه وأنه من خصائص هذه الأمة المحمدية، حيث فضلها الله فأضل عنه من قبلنا وهدانا إليه وجعلهم تبعا لنا . فاليهود يوم السبت عيدهم، والنصارى عيدهم الأسبوعي يوم الأحد، فمن هنا شرع أن يكون على أحسن الحالات لشهود الصلاة والاجتماع بالمسلمين، فيغتسل قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من غسّل واغتسل )) فدل على أنه يراعي حال الكمال، بلبس أحسن ما يجد من الثياب، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحسين الحال لشهود الجمعة فيدخل في ذلك الهيئة والشارة .(3/113)
قال رحمه الله : [ ويتطيب ويبكر إليها ] : ويتطيّب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الرواح للجمعة : (( ثم مسّ من طيب أهله )) فدل على مشروعية التطيب يوم الجمعة، وأن السنة إذا ذهب إلى صلاة الجمعة أن يتطيب، يشمل هذا طيب الدهن طيب البخور، ولكن الأفضل والأكمل أن يتطيب بطيب الدهن؛ لظاهر قوله : (( مس طيبا ))، فالذين يقولون بأنّ البخور كالطيب بالدهن قالوا: إن من مس طيبا خرج مخرج الغالب، ولذا قال من طيب أهله وإذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، فلو كان العطر الذي يتطيب به ذوات الروائح أو البخ مما ليس فيه الكحول ونحو ذلك مما هو محظور على المصلي أن يتلبس به مما فيه نجاسة فلا بأس أن يكون من الطيب الطيار أو الطيب السائل كل ذلك مشروع .
قال رحمه الله : [ فإن جاء والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما ] : أيضا مما يستحب التبكير؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من بكّر وابتكر ومشى ولم يركب وغسّل واغتسل ودنا وأنصت غفر له ما بين الجمعة والجمعة وزيادة ثلاثة أيام )) يشرع التبكير؛ قد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة كأن كمن قرّب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة كان كمن قرّب دجاجة الحديث...)) .(3/114)
فهذا يدل على فضيلة التبكير وقوله : (( من بكّر وابتكر ...)) الابتكار افتعال من البكور فكرر العبارة وجاء بزيادة المبنى وهذا يدل على زيادة المعنى وهو زيادة التبكير في التعجيل، ولأن التبكير إلى الجمعة حرص على الخير، فأسعد الناس يوم الجمعة من بكّر إليها وتعاطى السنن في بكوره إليها من الاغتسال والطيب والتنظف ثم خرج إليها بسكينة ووقار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ((فأتوها بسكينة ووقار)) فبين أن السنة إتيان الجمعة بسكينة، ولا يكثر من الحركة ووقار أي حال يدل على استشعار هيبة العبادة وفضل المقصد الذي يقصدها، فالأفضل والأكمل أن يراعي هذه الأمور في خروجه، فهناك آداب للجمعة قبل الخروج إليها، وهناك آداب أثناء الخروج إليها، وهناك آداب حال الخروج إليها، فيراعي حال الكمال في هذا كله، ومراعاة حال الكمال تزيد في الأجر والثواب، فإذا مشى إلى الجمعة ولم يركب فأجره ماشيا أعظم من أجره راكبا، وإذا مشى ولم يركب؛ فإنه يحوز فضيلة المغفرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( مشى ولم يركب )) وكل هذا يدل على الاستحباب لهذه الصفات الواردة في السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال رحمه الله : [ فإن جاء والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما ] : هذه الآداب أثناء الخطبة إذا دخل المسجد، هناك آداب تسبق دخول المسجد مما ذكرنا من الاغتسال والطيب ولبس أحسن ما يجد والسكينة والوقار والمشي وعدم الركوب، فإذا دخل المسجد حرص أن يكون قريبا من المنبر، دنا فيكون في الصفوف الأُول وهذا أفضل وأكمل .(3/115)
ثانيا : أنه يصلي ركعتين ولو كان الإمام في خطبته على أصح قولي العلماء رحمهم الله ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من دخل المسجد والإمام يخطب أن يصلي ركعتين يتجوّز فيهما ، فدل على أنه السنة أن يصلي تحية المسجد؛ ولقوله عليه الصلاة والسلام : (( قم فاركع ركعتين )) أمر الصحابي أن يقوم فيركع ركعتين لماّ جلس ولم يصل تحية المسجد، فدل على أنها لا تسقط أثناء خطبة الجمعة، هذا من الآداب عند دخوله للمسجد: أنه لا يتخطّى الرقاب، وأن يحرص على الأكمل في الصفوف الأول دون أذية لإخوانه المسلمين؛ لأن تخطي الرقاب أذية؛ قال - صلى الله عليه وسلم - للرجل : (( اجلس فقد آنيت وآذيت )) آنيت: تأخرت، وآذيت: أي إخوانك بتخطي الرقاب، فبعض الناس أصلحهم الله يأتي متأخرا ولا يحلو له أن يصلي إلا في الصف الأول، فيزحم هذا ويؤذي هذا، ولربما ما يخرج به من السيئات أكثر مما يناله من الحسنات من أذيته لإخوانه المسلمين، وهذا لا يجوز، عليه أن يتعاطى الأسباب بالبعد عن أذية إخوانه المسلمين، فإذا صلى الركعتين أنصت من خطبته إن كان الإمام يخطب .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز الكلام والإمام يخطب ] : ولا يجوز الكلام والإمام يخطب: ينصت ولا يتكلم، ولا يعبث بيده كأن يعبث بالحصى أو بالمسبحة، وكان بعض مشايخنا يقول : العبث بالمسواك وكان يكرهه حتى في مجالس العلم؛ لأن الله لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه.(3/116)
السنة الإنسان إذا جلس يستمع الذكر أن يكون على حال الأكمل من السكينة والوقار فلا يحرك يديه ولا يعبث في جسده، إنما يكون على حال المتأثر المنتفع بالمواعظ؛ لأن الخطيب يعظ الناس، وبعض الناس يقبل على الخطيب إذا كان الخطيب مؤثّرا ويتشاغل عنه إذا خرج عن التأثير وهذا خطأ؛ لأنه مأمور بالإقبال على الخطيب إقبالا تاما كاملا، فأعظم الناس يوم الجمعة من خشع لله قلبه، واستمع وأنصت وتأثر بما يقال له، وعقد العزم على فعل ما أمر به من طاعة الله، وعلى ترك ما نهي عنه من معصية الله، فهذا بخير المنازل، فالناس يجلسون في مسجد الجمعة، وكتف الرجل إلىكتف الرجل بينهما في خطبة الجمعة كما بين السماء والأرض، كما أنهم يتفاضلون في الصلاة يتفاضلون أثناء الخطبة، وكما أنهم يتفاضلون أثناء الخطبة في سماع الذكر يتفاضلون في مجلس العلم، يتفاضلون في المحاضرات يتفاضلون أثناء النصائح، كل من بلغ درجة الكمال لا يمكن أن ينصرف قلبه ولا قالبه إذا ذُكّر بالله - عز وجل - ، بل إن الرجل الصالح يستمع إلى الموعظة تكرّر عليه مئات المرات تأثره في المرة المائة قد يكون أشد من تأثره في المرة الأولى؛ لأنه كلام الله أو كلام رسوله عليه الصلاة والسلام الذي لا يمل، وكلما استمع تجدد الإيمان في قلبه، وكلما استمع أحب وازداد شوقا إليه، والفاتحة كم مرة تقرأها في صلاتك؟ حتى تصبح شعائر الدين عقيدة راسخة في قلبك لا تتزعزع، فمنهم من يقول هذه الخطبة تكرر؛ وقد كان - صلى الله عليه وسلم - ما حفظت سورة (ق) من فمه إلا من تكراره على المنبر يوم الجمعة ، وما حرص أعداء الإسلام اليوم على شيء مثل بث روح التجديد؛ لأنهم وجدوا المسلمين يتشبثون بأشياء متمسكين بها تكرر عليهم في عقائدهم من الثوابت في دينهم في عقائدهم وأحكامهم، كرّر عليهم فلم تمل الآذان من سماعها ولا سئمت القلوب من التبكير بها ، لكن حينما جاء من يريد كل يوم خطبة وكل يوم شكل وكل يوم عبارة وكل يوم(3/117)
أسلوب وكل يوم طريقة، وإذا بك تجد الخطيب يتفنن في طرقه، كل يوم يذهب يمينا وشمالا وكأنه جاء من أجل أن يمتع هؤلاء السامعين. عليك أن تعلم أن أحسن وأفضل وأجمل ما يكون في مجالس الذكر في خطبة الجمعة في العلم النافع أن تكون مصغيا إصغاءا تاما كاملا حتى إنك إذا جلست مع إخوانك غبطت من وجدته يسكن أكثر من سكونك ويصغي أكثر من إصغائك؛ لأنك تستشعر أن الله يسمعك ويراك . هذه عبادة هذا دين والإنصات له أجره والخشوع له أجره، فأسعد الناس يوم الجمعة من كان في أكمل الأحوال إنصاتا وأسعد الناس في كل مجلس ذكر وفي كل مجلس علم من كان أكمل الناس إنصاتا ومعرفة ووعيا؛ ولذلك وجدنا العلماء وفي مجالس العلماء الذين أدركناهم وجدنا من طلبة العلم نماذج كانوا أكمل ما يكونون إنصاتا وإصغاء . يقول بعض السلف : إن الرجل ليحدّثني الحديث فأصغي إليه قد سمعته كأني لا أعرفه إن الرجل يحدثني الحديث فأصغي إلى الحديث الذي يقوله من ذكر الله فكأني ما أعرف هذا الحديث وقد سمعته قبل أن تلده أمه بعشرين سنة، لكنه حديث. حديث قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام حديث يذكر بالله فلا يسأم ولا يمل، ولذلك حينما تعلم أن هذا الكلام الذي يقال يرضي الله تصغي إليه، وتتمنى أنك إذا كنت في مسجد أو في حلقة ذكر أنك بأعلى المنازل إصغاء إليه .
إن هذه الكلمات والمواعظ والخطب كما أن قائلها مثاب فالمستمع إليها مثاب، وكما أن قائلها على مراتب ودرجات فالمستمعون على مراتب ودرجات.
أدركنا من طلبة العلم من كان من أكمل الناس خشوعا، وكنا نغبطهم أثناء الجلوس بين يدي مشائخنا وعلمائنا نغبطهم على السمت والدل والخشوع، لا يلتفتون ولا ينصرفون ويحرصون على أن يضبطوا وأن يتقنوا ، والله ما خرجوا للأمة إلا في أحسن الأحوال، ووجدنا أن الله فتح عليهم بعد أن خرجوا أكثر مما فتح على غيرهم مما كان هو دون ذلك .(3/118)
إذا ذكّر الإنسان بعلم وخير في خطبة الجمعة يكون في أحسن الأحوال والمراتب والمنازل ولو كان يعرف الحديث.
وأدركنا علماء أجلاء من مشائخنا رحمة الله عليهم يجلس الواحد منهم في خطبة الجمعة حتى إنه كان بعض الخطباء يكرر بعض الخطب فلا يملك أن يبكي وتذرف عيناه من خشية الله - عز وجل - ، وهو من العلماء وقد يفوق من يخطب، لكن هذا كلام الله، وهذا دين الله وهذا شرع الله ،ويحس أن بهذا أنه يتذلل لله، وأنه يستمع لذكر الله - عز وجل - وهذا هو الأكمل والأفضل في يوم الجمعة، وأن يكون المنصت والمستمع للخطبة بأحسن الأحوال وأكملها وأتمها، وإذا فعل ذلك رجع إلى بيته قرير العين بالله.
أسعد الناس يوم الجمعة من أتم السنن واتّبع الهدي الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فطبقه كان السلف الصالح بعضهم حتى ينسب البلاء الذي يصيب يوم الجمعة إلى التقصير في السنة، حتى إن أحدهم ترك سنة من السنن فلما خرج إلى الصلاة انقطع شسع نعله قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، تركت السنة فعاقبني الله، فكانوا يستشعرون مسؤوليتهم عن هذه السنة؛ لأنهم علموا ومن علم ليس كمن جهل، ولما ضيع الناس هذه الأمور وأصبح الرجل يذهب إلى الجمعة رجع كما ذهب، ولربما رجع وهو بحال أسوأ منه مما ذهب -نسأل الله السلامة والعافية-.
أما الصادق المؤمن يخرج من بيته بهذه السنن والآداب فيرجع وهو بخير المنازل عند الله ما أسعد الناس يوم الجمعة، وإن أقواما يرجعون يوم الجمعة من صلاتهم قد يكون الواحد منهم كيوم ولدته أمه مما نال من الخير والفضل والرحمة والبركة والمغفرة والرضا، ولربما يتزلف ويتقرب إلى ربه ويتذلل ويتبذل ويتضرع وينصت إلى الذكر كأحسن المنازل حتى تصيبه رحمة لا يرى العذاب بعدها أبدا، ولربما يحبه ربه فيهدى إلى ساعة الإجابة ولربما يحبه ربه فيخشع لله قلبه وتذرف من خشية الله عيناه في المواعظ ويتأثر بها فيقوم إلى صلاته وقد فتحت أبواب السماوات لدعواته .(3/119)
هذه منازل عظيمة فالإسلام ليس بالتشهي ولا بالتمني ولا بالتعالي، فإذا دعيت إلى ذكر الله استشعر بأي شيء دعيت، ولكن {سيذكر من يخشى } وما أعظم هذا الرب وأحلمه، لو دعا إنسان من أعيان الدنيا وعظمائه إلى كلام يريد أن يقوله وفي مكان فاجتمعت له الناس وجدت الرجل يحاسب نفسه قبل أن يشهد هذا الاجتماع بأسابيع، ثم إذا حضر احتسب الكلمات ثم هذه الكلمات تجده يتفاعل معه ويتأثر معه، ولله المثل الأعلى، هو الذي أحياك، وهو الذي يميتك، وهو الذي يطعمك وهو الذي يسقيك، وهو الذي ينصرك وهو الذي يواليك وهو الذي علمك، وهو الذي أدبك وهو الذي فضلك وهو الذي شرفك وهو الذي كرمك على كثير ممن خلق وفضلك عليهم تفضيلا ، فيذهب الإنسان إلى موعظته وذكره وبيته فيرجع كما ذهب، فأسعد الناس يوم الجمعة من استشعر هذه المعاني ومضى إلى صلاة الجمعة بهذا بخاصة إذا كان من طلاب العلم، فبعض طلبة العلم إذا سمع خطبة في الصبر حديث تجد بعض يقول: إن الصبر واضح طيب والخشوع واضح والصلاة واضحة والزكاة أصبح الإسلام كله واضحا وتجده يقال تعال إلى محاضرة، والله إيش عنوانها قال: الصبر قال إن شاء الله بإذن الله نشوف يعني فيها قولان إما يحضرها أو لا . إما وقد يقول لك من البداية يا أخي نريد فيه جديداً تعال جيب محاضرة في شيء يولعون فيه من الغرائب فتجد الأمة جاءت، مع أنه قد يجد وأمامه الشخص والشخصان ويكون هذا الكلام تفتح له أبواب السماوات ولو مله أهل الأرض فإن لله ملائكة سياحين فضلاء يغشون حلق الذكر، خطب الجمعة ليست بالعبث فالذي يريد تحقيق هذه السنة يكون بأكمل المنازل وأفضلها استماعا للذكر؛ لأن هذا الذكر لما تحسّ بهيبة الإسلام وتحسّ أنه شيء يدعوك إلى الله من عظمت في قلبه خشية الله عظم في قلبه كل شيء يذكّره بالله، ولذلك تجده لا يرفع الناس بأموالهم ولا مناصبهم ولا مراتبهم ولكن بالله - عز وجل - ، فإذا وجد أحد ينصحه أو يذكره بالله أصغى له أو تأثر له(3/120)
وأحب أن يكون بأحسن المنازل، يستمع الألوف ويكتبون عند الله - عز وجل - أن فلانا حدث وأن فلانا خطب وأن فلانا حاضر وأن فلانا دعا وأنه شهد دعوته وخطبته وكلامه فلان وفلان وفلان وفلان وأن فلان كان من أخشع الناس قلبا وأن فلان كان من أصرف الناس قلبا والعياذ بالله كل شيء مكتوب ما في شيء عبث فلا تزال تستشعر هذه الأمانات والمسؤوليات وتراعي هذه الأمور حتى تبوأ أحسن المنازل وأفضلها عند الله - عز وجل - بالاستشعار.
يخرج المؤمن الصالح يوم الجمعة وهو يحس أنه خرج بالله ويتمنى ويرجو من ربه أن يرجع إلى بيته أحسن حالا مما ذهب إليه، وعندها يحس بقيمة المواعظ ويبكر لها ، وتجده يتألم إذا فاتته أي درجة أو منزلة فإذا جاء إلى مسجد الجمعة فوجد في المسجد رجلا ربما بكى، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون سُبقت يريد أن يكون أسبق الناس إلى الله، ويريد أن يكون أعجل الناس له فإذا كان هذا السبق في الأماكن والمنازل كذلك في الاستماع والتأثر، لو أنه جلس في الخطبة يستمع ومر شيء يشغله تجده يحترق في قلبه كيف أن هذا الذي شغله أنزله عن مرتبة الكمال، فعندها يطأطئ رأسه ويصغي بأذنه ويستمع بقلبه ويتأثر بما يقال له هذا أحسن، هذا هو الذي ينبغي لطالب العلم أن يستشعره أن الفضائل والنوائل والأجور والثواب يوم الجمعة موقوف على الخشوع وموقوف على التأثر وموقوف على العمل بالمواعظ، فإذا قمت من المسجد وقد سمعت موعظة كاملة وفي قرارة قلبك أن تعمل بما سمعت بلغك الله أجر العامل ولو لم تعمل إذا حيل بينك وبينه بعذر، ومن هنا بيّن المصنف رحمه الله ما ينبغي على السامع من الإنصات والتأثر وعدم الانشغال؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت )) واللغو من الباطل، وجاء ما يفسر هذا اللغو لأنه نقصان الأجر في الجمعة .(3/121)
وعن أبي - رضي الله عنه - أنه شهد الجمعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة (( تبارك )) وسأله أبو سعيد متى نزلت هذه السورة ؟ فسكت حتى قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة، فقال: سألتك فلم تجبني ، فقال له ليس لك من الجمعة إلا ما تكلمت به ، فانطلق أُبي فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال له: صدق أُبي ليس لك من الجمعة شيء إلا ما تكلمت به، وهذا يدل على أنه لا يجوز الكلام والإمام يخطب، فإن تكلم الذي بجوارك رخص السلف أن يسكته بالإشارة . قال بعض العلماء : إذا نهي أن تسكته وهو أمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب منعت أن تتكلم فمن باب أولى ما دون ذلك ، وعلى هذا قالوا : لا يرد السلام، ولا يشمّت العاطس، وإنما يردّ في قلبه ونفسه ولا يتكلم ولا يلفظ، ويجوز له أن يسكت المتكلم بالإشارة فيشير إليه أن يسكت .
ومن أهل العلم من قال بلزوم الورع بعدم الإشارة والعبارة .
قال رحمه الله : [ إلا الإمام أو من كلمه ] : إلا الإمام يجوز له أن يتكلم مع الناس؛ قال: ((أصليت؟ قال: لا . قال: قم فاركع ركعتين)). وقال للرجل الذي تخطى الرقاب : (( اجلس فقد آذيت )) هذا الإمام يتكلم أو من يكلمه؛ لأنه قال : (( أصليت ؟ قال : لا )) وكذلك أيضا دخل الأعرابي إلى المسجد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب كما في حديث أنس في الصحيحين فقال : (( يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا )) فتكلم لكن كلامه كان مع الإمام .
أخذ العلماء من هذه السنن استثناء الإمام متكلما ويكلمه الغير أنه إذا دعا الإمام شرع للمأموم أن يؤمن؛ لأنها مقابلة، وحينئذ يجوز له أن يؤمّن، فإذا دعا الإمام شرع له أن يؤمّن ؛ لأنه ليس من اللغو بل من الحق وهو من الإمام يدعو من أجل أن يؤمن على دعائه والصحيح أنه يؤمّن في نفسه ولا يتلفظ .
الأسئلة :
السؤال الأول :(3/122)
فضيلة الشيخ : كم الوقت المشروع بين الأذان الأول للجمعة والأذان الثاني. وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أمّا بعد :
فاختلفت عبارات العلماء في هذا من حيث الأصل هو الوقت يسير؛ لأنهم كانوا يقولون إن الأذان الذي استحدث عند الزوراء أيام عثمان كان عند خروج عثمان أو دخوله للمسجد، ثم يكون الأذان الثاني بين يدي الخطيب، وعلى هذا يكون الفاصل قليلا .
وبعض أهل العلم قال : إذا كان هذا هو المعنى وتنبيه الناس يشرع أن يكون بفاصل طويل حتى يتهيأ الناس للجمعة .
والأول أقرب للأثر، وقد يسوغ أن لا ينكر على الثاني لأنّ له وجها . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : هل للجمعة سنة قبلية أو بعدية ومتى تكون إذا كانت ومكانها. وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
السنة أن يصلي بعد الجمعة لا قبلها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل راتبة قبل الجمعة، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى أربعا بعد الجمعة، وأيضا ركعتين بعد الجمعة، والأكمل أن تكون أربع ركعات، وأن في بيته يصليها في البيت، وإذا صلى في المسجد فله وجه من السنة أن يصلي ركعتين في المسجد وأن يصلي ركعتين في بيته أو يصلي الأربع في بيته كل ذلك له أصل من السنة . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : ألا يكون حديث ابن عباس رضي الله عنهما دليلا على رجحان صحة صلاة المنفرد خلف الصف حيث أن ابن عباس رضي الله عنهما أثناء إدارته من اليسار إلى اليمين لابد أن يكون خلف الإمام لحظة من الزمن وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(3/123)
هذا ضعيف؛ لأن ابن عباس عندما أدير وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُدَر وهو يفعل الصلاة أي لم يفعل دون الصف ركنا. تكبيرة الإحرام وقعت عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا يدل على أن من صلى عن يسار الإمام لا تبطل صلاته في قول الجمهور؛ لأنه كبر تكبيرة الإحرام، لكن أجابوا عنه بأنه عذر بالجهل لاستئناف التشريع.
والشاهد أنه يصح الاستدلال أن لو صلى ابن عباس ركعة وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن الذي حصل أنه أداره من ورائه -عليه الصلاة والسلام-، وهذه الإدارة في جزء الركن وليس جزء مؤثرا في الركن؛ لأنه حال القيام ؛ ولذلك لو جئت تنفرد وراء الصف وكبرت تكبيرة الإحرام وقبل أن تركع الإمام جاء معك أحد ما تبطل صلاتك؛ لأنه ما استتمت في الركعة وراء الإمام، وعلى هذا فما وقع لابن عباس جزء من جزء من الركعة ، وهو جزء من القيام، وعلى هذا لا يقوى الاستدلال بهذا الحديث على صحة صلاة المنفرد خلف الصف . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : هل يجوز أن يأتم بالمسبوق . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(3/124)
المسبوق ارتبطت صلاته بالإمام، ولا يصير المسبوق إماما إلا في حال الاستخلاف . المسبوق مأموم وارتبطت صلاته بالإمام، والمأموم لا يصير إماما إلا بالاستخلاف، وعلى هذا فإنه لا يجوز أن يجعل المأموم إماما إلا إذا لم يدرك المسبوق مع الإمام شيئا، مثلا جئت مع رجل ودخلتم والإمام في التشهد أو دخلتم بعد رفع الإمام من الركعة الأخيرة من الركوع في الركعة الأخيرة، فقلت: صل عن يميني فإذا سلم الإمام ائتم بي أو يا فلان ويا فلان أنتم إذا سلم الإمام فارجعا ورائي وأنا إمامكم صح إذا سلم الإمام تتقدم ويصلون معك لا بأس بذلك؛ لأنكم منفردون، وعلى كل حال لا يصح للمأموم أن يصير إماما، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم الصلاة بين مأموم وإمام، وقال : (( إنما جعل الإمام ليؤتم به )) وعلى هذا فالمأموم الذي ارتبطت صلاته بإمامه حمل الإمام الأول ولا يصح أن يكون حاملا محمولا .
أما إذا لم يدرك شيئا فلم يحمل الإمام عنه، ولذلك ما حمل عنه الفاتحة وهي ركن الصلاة الأعظم في الركعة، ولم يحمل عنه ركعة فأكثر فلم يصح أن يصير إماما . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : كيف يكون إدراك الركعة بالركوع، وإذا وضع يديه إلى ركبتيه قبل أن يسبح رفع الإمام رأسه فهل يكون مدركا للركعة . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
إذا دخلت مسبوقا والإمام في الركوع فقد أدركت الركعة إذا انتهيت من (الراء) من (أكبر) وقلت: الله أكبر قبل أن يبدأ الإمام (بالسين) من (سمع) هذا هو الإدراك أن تقول: الله أكبر وتنتهي من التكبير قبل أن يبدأ الإمام بالتسميع.
أما لو أنك كبّرت وقبل أن تستتم التكبير قال الإمام: سمع الله لمن حمده فتبقى واقفا؛ لأنك لم تدرك الركوع؛ وحينئذ لم تكن مدركا للصلاة.(3/125)
أما لو قلت: الله أكبر ولو رأيت الإمام يرفع ولكنه ما نطق بالتسميع وقلت أنت: الله أكبر؛ سبقته وانتهيت من التكبير قبل أن يتلفظ فحينئذ صحت لك الركعة فالعبرة بما ذكرنا . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : لقد أتينا من مكة لحضور الدورة والصلاة في المسجد النبوي فأيهما نقدم في النية لإدراك الأجر الكثير . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
هذه المسألة فيها عبادة وفيها علم ، ولاشك أن نية العلم أفضل .
من سافر وهو يريد طلب العلم ويريد عبادة كالصلاة مثلا ، لو أنه يدرس في مكة أو يطلب العلم في مكة، فسافر من بلده إلى مكة: هل ينوي فضل مكة وفضل الصلاة فيها في مسجدها فيشد الرحل لفضيلة المكان أو يشد الرحل لفضيلة العبادة (عبادة العلم) ؟ ولاشك أن العلم أفضل، مرتبة العلم أفضل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر )) فلاشك أنك إذا خرجت لعلم وعبادة تُقدّم نية العلم على العبادة؛ لأنها أفضل وأشرف وأكمل .
ثانيا: أنها تكون هجرة كهجرة الصحابة عام الوفود للعلم ،وهذا التشبه بالسلف الصالح وتأسي بالصحابة رضي الله عنهم؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع )) . ونية طلب العلم أعظم تنوي نية طلب العلم وتجعل غيرها تبعا؛ لأن الأفضل يقدّم على المفضول . والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ : لو أن رجلا نام عن صلاة الجماعة ثم استيقظ فهل الأفضل أن يصلي الجماعة بزوجته أو لا يلزمه ذلك . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(3/126)
لا . اللزوم شيء ، والأفضلية شيء آخر، ما يلزمه أن يصلي جماعة مع زوجته، إن شاء الزوجة تصلي لوحدها ويصلي هو لوحده ، والمرأة لا تلزمها جماعة إذا قلت يلزم أن يصلي مع زوجته فقد يلزمك الزوجة بالجماعة وألزمته إذا كان مريض البيت أن يصلي جماعة مع زوجته وهذا ما نعرف أحدا يقول به، وليس هناك دليلا يدل عليه يعني على اللزوم أن يجمع بأهله .
ثانيا: الأفضل نعم، الأفضل أن يصلي جماعة فإذا فاتته الجماعة في المسجد جمع أهل بيته وصلى بهم فهذا أفضل وأكمل تحصيلا لفضيلة الجماعة والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
فضيلة الشيخ : هل إذا أدخلني رجل بيته هل أستأذنه أن يريني أين أجلس إذا لم يشر إلى المكان الذي أجلس فيه . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :(3/127)
هي السنة أن تمضي إلى أخريات القوم، فإذا دعاك إلى مكان آخر فقدمك وفضلك فهذا تكرمة منه فيجوز؛ لأنه أذن لك بذلك، وتنصح له فإذا وجدت في المجلس من هو أولى وأحق فاهمس في أذنه أو تخاطبه وتقول له: فلان حافظ للقرآن يجلس في الصدر، فلان من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرم فيجلس في الصدر، فلان كبير السن؛ لأن هؤلاء لهم حقوق شرعية، مثلا: إذا كان من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ننبه على الأشياء التي يجهلها الكثير، وقد ذكر بعض أهل العلم أن من إكرام آل النبي - صلى الله عليه وسلم - إكرامه في المجالس إذا جاءك أحد من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - تجلسه في صدر المجلس وتفرح به وتحتفي به أكثر من غيره (( إنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها )) فالناس اليوم يدخل عليهم الأشراف وآل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يبالون بهم أقبلوا وأدبروا والمحروم من حرم، فهؤلاء من لحمة أعيننا، وتاج رؤوسنا من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - .كان الصحابي يفرح ويهش ويبش، دخل علي زين العابدين علي بن حسين على جابر - رضي الله عنه - بعد ما كف بصره، فانتسب له فأخذ جابر يد علي فوضعها على حلمته في صدره فصار يتحسسها ويبكي من حبه لآل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لو فعلت هذا قال: والله في عرق .... ؛ لأنه جُهِلت السنة ما عاد في تطبيق ثم يأتي واحد من يشكك في أنساب الناس، يقول فين آل البيت فين خلاص الأرض ما عاد فيها آل البيت، وإذا جيئ له واحد من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت النسب، قال : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم } الذي قال لك : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } قال : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } وقال: { ما ينطق عن الهوى } والذي قال ما ينطق عن الهوى قال : (( يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها )) . فكما شرف أهل الدنيا بأهل التجارات والأموال والمناصب والمراتب والوظائف فشرّف مجلسك بآل(3/128)
النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعد، وهذا محبة لله وفي الله، فإن كان على صلاح عظم حقه، وعظم فضله وشرفه، وإن كان عنده بعض التقصير وذكّرته أنه يكرم بالدين أعطيته رسالة في قلبه وكلّنا بشر نصيب ونخطئ .
المقصود إذا كان إنسان له حق تنبهه، وقل له: فلان يجلس في الصدر، فلان قرّبه للصدر، يكون كبير سن تقول: اجعل كبار السن يأتون في الصدر تنبه على الأفضل. أن السنة أن تجعل حيث ينتهي بك المجلس، ولو كان الإنسان من العلماء والفضلاء يتواضع.(3/129)
كان سفيان الثوري -رحمه الله- وهو إمام العلم إمام في العلم علما وعملا وصلاحا في زمانه رحمه الله برحمته الواسعة، وكان إذا جلس في المجالس يأتي إلى آخر القوم، ثم يجلس فيضم رجليه كأنه رجل منهم من التواضع، ولكنهم جلسوا مع الناس لا كالناس، رفع الله أقدارهم فعزّوا وبزّوا وسادوا الدنيا علما وعملا، فما رفعتم ثيابهم ولا مناصبهم ولا أموالهم ولا تجارتهم رفعهم العلم والعمل، فهؤلاء هم الذين يرفعون ويقدّرون، إذا كان مجلسك في البيت يجلس في مجلس الشرف والتكرمة من كرمه الله أكرمك الله، وبارك لك في بيتك وبارك لك في مجلسك وبارك لك في عمرك مع ما ينتظرك من الثواب عند الله، ولن تكرم في الله إلا أكرمك الله، فإذا كان عندك في مجلسك ترتب في مجلسك تجعل لكبير السن مكانه، لحافظ القرآن مكانه، للعالم مكانه، لطالب العلم مكانه، أدركت رجلا من أعيان أهل المدينة وكان يأتيه كبارهم لما توفي الوالد رحمه الله وكان رجلا يحب أهل العلم -نسأل الله أن يغفر له ويرحمه ويرحم جميع موتى المسلمين- ما ذكرت إلا ترحمت عليه مما رأيت فيه من إعزاز أهل العلم بشكل غريب، حتى إنه جاء ذات مرة من سفر وكان مريضا فجاءه الناس على اختلاف مراتبهم ومناصبهم، وأجلس على كرسي وكان مريضا في آخر عمره رحمه الله، فلما أجلسوا حوله عِلْية القوم. قال الشيخ: فلان موجود في المجلس الناس على اختلاف مراتبهم، فطلب من أحد المشايخ من طلبة العلم كان صغير السن ولكنه حافظ للقرآن له علم. فقال: إيتوني بكرسي، وطلب له كرسيا عن يمينه، ثم التفت إليه وأخذ يسأله عن مسائل من التيمم هو يعرفه أنه يعلمها ويعرفها، ولكن أراد أن يرفع قدره وأن يجلسه بجواره؛ لأنه رآه جالسا تحت أناس من علية القوم من أهل المناصب والمراتب، جاء به أمام الناس، وأجلسه على كرسي بجواره، وسأله عن مسائل أجزم أنها يعرفها ويعلمها، ومع ذلك أراد أن يشرّف العلم وأهله، فنسأل الله أن يرحمه برحمته الواسعة وأن يجزيه(3/130)
عنا خير الجزاء .
فالمقصود من هذا أن الإنسان الذي يريد أن تكون حياته حياة طيبة صالحة؛ فليجعل أموره كلها لله - عز وجل - . المجالس إذا جاء أحد يريد أن يجلسك في المجلس وكنت تريد السنة تجعل في أخريات القوم، فإن أخذك إلى صدر المجلس وتعلم من نيته أنه يريد إعزاز العلم وتشريفه إن كنت من طلاب العلم أو يريد مقصدا صحيحا أجبته .
أما إذا كان يريد غرضا دنيويا وأنت تعلم أن هناك من هو أحق منك تمتنع، لك حق أن تمتنع قل: لا. ما أجلس، وتصر على رأيك وتمتنع حتى يرضى، فإن أبى فالسنة أن تجلس حيث يجلسك، فالسنة أن يجلس الضيف حيث يجلسه صاحب الدار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب صلاة العيدين
قال المصنف -رحمه الله - : [ باب صلاة العيدين ]
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فيقول المصنف -رحمه الله- : [ باب صلاة العيدين ] تعتبر صلاة العيدين من الصلاة التي تفعل في الجماعة ، ومن عادة العلماء -رحمهم الله – ذكر باب صلاة العيدين بعد باب صلاة الجمعة ، والسبب في ذلك كثرة الأحكام المتفرّعة على صلاة الجمعة ، وارتباط العيدين بالوصف مع صلاة الجمعة في كون الجمعة عيداً للأسبوع وكون العيدين عيدًا في السنة .
والعيدان مثنى عيد ، سمي العيد عيداً ؛ من العود والتكرار ، وهذه الصلاة شرعت بدليل الكتاب والسنة وإجماع العلماء .(3/131)
وأما الكتاب فإن الله تعالى يقول : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى {14} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية الكريمة : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } أي زكى زكاة الفطر. { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى {14} وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ } أي بالتكبير {فَصَلَّى } أي صلى صلاة عيد الفطر، وعلى هذا الوجه تكون الآية الكريمة أصلاً في مشروعية صلاة عيد الفطر، وأما عيد النحر فقد استُدلّ له بقوله سبحانه : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } قالوا إن قوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } أي صلاة عيد الأضحى. { وَانْحَرْ } أي انحر الذبيحة التي هي النسك ، وهذا قول لبعض العلماء -رحمهم الله- وإن كان الصحيح عموم الآية : أي اجعل صلاتك ونحرك لله -- عز وجل -- لا شريك له كما هو ظاهر الآيات الأُخر كما في قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيك لَهُ} لكن العلماء -رحمهم الله- استأنسوا بأقوال المفسرين؛ لأن الآية محتملة، وعلى هذا فقد دلت الآية الأولى على مشروعية صلاة عيد الفطر والثانية على مشروعية صلاة عيد الأضحى.
وأما السنة فقد اجتمعت قولاً وفعلاً من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ففي الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( إنه كان لكم في الجاهلية يومان تلعبون فيهما وقد أبدلكم الله بهما خيرا منهما يوم النحر ويوم الفطر )) فهذا يدل على مشروعية العيدين عيد النحر وعيد الفطر.
وكذلك ثبتت السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في الصحيح من حديث أم عطية -رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( أمرها أن تخرج العواتق وذوات الخدور والحُيّض وقال: وأما الحُيّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين )) .(3/132)
وصح عنه -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين وغيرهما فعله لصلاة العيد وخطبته في يوم الفطر ويوم الأضحى ، فهذا كله يدل على مشروعية صلاة العيدين بالسنة قولاً وفعلاً .
وأما الإجماع فقد أجمع العلماء –رحمهم الله – على مشروعية صلاة عيد الفطر والأضحى ، ومشروعية الخطبة لهما .
يقول رحمه الله : [ باب صلاة العيدين ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بصلاة العيدين من حيث الشهود، وما ينبغي أن يكون عليه المصلي، وما ينبغي أن يكون عليه الإمام ، وصفة الصلاة وصفة الخطبة ، وما كان من هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في خطبته يوم الفطر وخطبته يوم الأضحى، وما يُسَنّ فعله في جميع ذلك .
قال رحمه الله : [ وهي فرض على الكفاية ] : كونها فرضاً ؛ لأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ قيل: أُخذ من قوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ } قالوا : هذا أمر ؛ وقد بينا أن هذا عام .
والوجه الثاني : قول أم عطية -رضي الله عنها- : (( أمرنا رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحُيّض . قال : وأما الحُيّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة المسلمين )) فهذا يدل على اللزوم ؛ لأنه أمرهم أن يخرجوا العواتق وذوات الخدور والحيض ، ولا شك أن هذا اليوم يوم من أيام الإسلام والمسلمين ، فينبغي أن يكون المسلم حريصاً على شهود الخير فيه .(3/133)
قال رحمه الله : [ إذا قام بها أربعون من أهل المصر سقطت عن سائرهم ] : فرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين ، ثم البعض يفصّل فيه حسب الفرائض ومقصود الشرع منها، وإن كان هناك عدد معين يشترطه الشرع فحينئذ يلزم وجود الكفاية بهذا العدد ، فلما قالوا إن الجمعة يشترط لها العدد الأربعون، قالوا إنه إذا صلى صلاة العيد أربعون فصاعدًا سقط الإثم عن الباقين وإلا أثم الجميع ، ولو ترك أهل بلدة صلاة العيد من دون عذر أثموا جميعا ، لأنهم تركوا المأمور به من سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ ووقتها من ارتفاع الشمس قِيْد رمح إلى الزوال ] : بعد أن بيّن حكمها شرع في بيان وقتها ، فهذه الصلاة لها وقت مخصوص . ابتداء الوقت من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى زوال الشمس وهو النهائي، فلا تُصلَّى أثناء طلوع الشمس ، ولا تُصلَّى قبل طلوع الشمس ، ولا بين الفجر وبين طلوع الشمس ، وهذا بالإجماع ، إنما تُصلَّى بعد طلوع الشمس ، وبارتفاع الشمس قِيْد رمح ، لأننا ذكرنا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن الصلاة أثناء الطلوع ، ولما انتظر في صلاة العيد إلى أن ارتفعت الشمس قِيْد رمح دل على أن وقت النهي يتقيّد بقيد الرمح ، وعلى هذا يبتدئ وقت الجواز لصلاة الضحى وصلاة الإشراق إن جلس إلى إشراق الشمس بعد طلوع الشمس وارتفاعها قِيْد رمح ، وارتفاعها قِيْد رمح يكون ما بين الثلاث الدقائق إلى الأربع الدقائق، إذا وصل الأربع الدقائق حتما وغالبا أنها تصل إلى قِيْد رمح من بعد بداية الإشراق ، وأما النهائي فهو إلى زوال الشمس .(3/134)
فائدة هذه المسألة : أنها لا تصح الصلاة قبل عيدًا ولا تصح بعد عيداً ، فلو جاء الخبر لمن صامه في رمضان يوم الثلاثين ظانين أن الشهر كامل ثم جاء العدلان وشهدا أنهما رأيا الهلال وتأخرت شهادتهما إلى ما بعد الزوال فثبت عند الناس أو جاءهم الخبر بعد زوال الشمس فحينئذ للعلماء وجهان : منهم من قال: يقضون في اليوم التالي وهو أقوى وفيه آثار ، ومنهم من قال: إنها تسقط لأنها معينة ليوم العيد - يوم عيد الفطر - والأول أقوى . فيصلون اليوم الثاني . وأما بالنسبة لما بين طلوع الشمس بعد قيد رمح إلى الزوال لو جاء الخبر في هذا الوقت فإنه يمكن أن يصلّوا ، يرجعون إلى بيوتهم و يتجهّزون لصلاة العيد ثم يصلي بهم الإمام .
والسنة تعجيل الأضحى وتأخير الفطر ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يعجل الأضحى؛ لكي يتمكن الناس من ذبح أضاحيهم في الضُّحَى فيصيبون وقت الفضيلة ، وتأخير الفطر إلى قِيْد رمحين ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان يصلي الفطر والشمس على قِيْد رمحين ، والأضحى والشمس على قِيْد رمح ، قالوا : لأنهم في عيد الفطر يحتاج الناس إلى وقت أطول بين صلاة الفجر وصلاة العيد حتى يتمكنوا من إخراج زكاة الفطر، لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من أداها – يعني زكاة الفطر- قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة)) ، فجعل أمد زكاة الفطر وصدقة الفطر قبل الصلاة ، فإذا صلى الإمام انتهى وقت أداء زكاة الفطر ، فمن هنا يعطي الإمام فرصة للناس فأخرها صلوات الله وسلامه عليه إلى قِيْد رمحين ولا يزيد ولا يؤخر الناس عن هذه السنة ؛ ولذلك عَتِب الصحابة – رضوان الله عليهم - ذلك حينما صلوا وراء من أخرها حتى إن بعض الصحابة لما تأخر بعض الأئمة في صلاته قال: إن كنا على عهد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قد فرغنا هذه الساعة . من تخفيفه -عليه الصلاة والسلام- وتيسيره على الناس .(3/135)
كذلك أيضاً ينبغي أن يحصّل هذا الوقت وقت الفضيلة ، فإذا كان في عيد الأضحى يعجّل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الصلاة ويوقعها على قِيْد رمح ، فإن هذا معناه أنه يقصد تمكين الناس من الأضحية، وهذا يقتضي أن تكون خطبة الأضحى خفيفة، وإن كان الناس لهم أن ينصرفوا بعد الصلاة، ولكن ما يفعله بعض الأئمة من الإطالة المجحفة بالناس، وبخاصة إن العيدين فيهما الزحام الشديد وتضرر الناس وفيهم العوائل والضعفة من الصبيان، فالناس يتضررون بهذا ، وتخفيف الخطبة وتكون الخطبة مركزة وتخفيف الصلاة على الناس لاشك أن هذا يعينهم على محبة الصلاة وعلى التأثر والانتفاع بالخطيب . أما أن يطيل إطالة مجحفة فلا . حتى إن بعضهم يجلس في خطبة الأضحى ما يقرب من الساعتين وهو يخطب، وفي بعض البلدان تستمر أكثر من ساعة ونصف كعادة ، وهذا كله خلاف السنة ، ما جاء الشرع إلا بالتيسير والسماحة وتحبيب الناس لعبادتهم وتيسيرها لهم . فصلى عليه الصلاة والسلام على هذا الوجه ، وخفف على الناس في عيد الأضحى لكي يدركوا وقت الفضيلة وأخّر الفطر لكي يحصّلوا أداء القيام بما فرض الله عليهم من أداء الزكاة ، وهذا يدل على إعانة الناس على الخير في صلاة العيدين .(3/136)
قال رحمه الله : [ والسنة فعلها في الصحراء ] : والسنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه فعلها في الصحراء ، وكان يخرج له منبره - عليه الصلاة والسلام- إلى المصلى، وهو مكانه غربي المسجد إلى الجهة الجنوبية جهة مسجد الغمامة . كان مصلى لرسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- للعيدين والاستسقاء . فكان عليه الصلاة والسلام كان إذا صلى الفجر أُخْرج له منبره وخرج الصحابة -رضوان الله عليهم - وهكذا في القرون المفضلة كانت منطقة براز وخلاء فاضية فكانوا يخرجون ويصلون فيها. أثر عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وعن الصحابة أنهم كانوا إذا سلم الإمام فجر العيد نهضوا مبكرين إلى المصلى لكي يصيب السنة من أدائها خارج العمران ، وإن صلوها داخل المسجد فلا بأس ولا حرج .
قال رحمه الله : [ وتعجيل الأضحى وتأخير الفطر ] والسنة تعجيل الأضحى لما ذكرنا أن الأضحية تقع في الوقت المستحب ، فيتمكن من ذبحها أو نحرها في الوقت المستحب ، وتأخير الفطر لكي يتمكن الناس من أداء زكاة الفطر ، وإغناء الفقراء عن السؤال وإعانة المساكين على عدم سؤال الناس يوم العيد .(3/137)
قال رحمه الله : [ والفطرُ في الفطر خاصة قبل الصلاة ] : صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه أكل قبل أن يغدو إلى المصلى ، وصح عن أصحابه -رضوان الله عليهم- وعُدّ من السنة في يوم الفطر أن يفطر قبل خروجه إلى الصلاة ، فإن لم يتيسر أن يرجع بعد الصلاة إلى بيته وأخذ معه التمرات فأصابها في المصلى فلا بأس تحقيقاً للسنة، وهذا من تعجيل الإستجابة والطاعة لله -- سبحانه وتعالى -- ، ويتعجب المؤمن كيف هو ثلاثين يوماً أو تسعاً وعشرين يوماً وهو يمسك في هذا الوقت فسبحان من حرم الطعام بالأمس وأحله اليوم كل هذا يمتثل بها أمر الله -- عز وجل -- ويستجيب به للشرع . السنة أن يفطر قبل غدوّه إلى المصلى إذا كان في بيته، وإذا لم يتيسر له وأراد أن يصيب فضيلة الصفوف الأُول أو يبكر أو كانت الصلاة في المسجد نفسه فإنه يفطر على تمرات أو على أي شيء لكن التمر من السنة ويصلي مع الإمام، وأما في الأضحى فالسنة أن يجعل فطره على أضحيته، فلا يأكل قبل الأضحى حتى يأكل من أضحيته؛ تأسياً بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(3/138)
قال رحمه الله : [ ويسن أن يغتسل ويتنظف ] : شرع رحمه الله في بيان السنن التي يفعلها المصلي يوم العيد . السنة أن يغتسل ويتنظّف ويتطيّب فقد صح عن عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- أنه فعل ذلك اغتسل يوم العيد وتنظّف وتطيّب ، وصح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وثبت عنه في روايات قوّاها غير واحد من العلماء حتى ارتقت من الحسن إلى الصحيح لغيره، ومنه من يقول إنها حسن لغيره في اغتساله -عليه الصلاة والسلام- للعيد ، ومن أهل العلم من جعله مبنيا على الجمعة، فإنهم قالوا إن العيد يجتمع فيه الناس والجمعة يجتمع فيها الناس وقد أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالغسل يوم الجمعة حتى لا يتأذى الناس حال اجتماعهم، ولكن السنة وردت، وصحت عن أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن أكثر من واحد ومن أشهر من جاءت الرواية عنه: عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- وكان من أشد الصحابة لزوماً للأثر واتباعاً للوارد -وإن كانوا كلهم كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم- لكنه كان يشدد في ذلك؛ تحريا للسنة واتباعا لها، فكان يغتسل ويتنظف ويتطيب.
التنظف مثل أن يحلق عانته، وينتف إبطه، ويقلم أظفاره يعني يحصّل السنن؛ لأن هذه مشروعة في كل وقت، لكنها تتأكد عند المناسبات ؛ تحصيلاً للشرع ومبالغة في حصول النقاء .
وأما الاغتسال فإنه يغسل بدنه، وأما الطيب فإنه يمس الطيب في ثوبه وبدنه .(3/139)
قال رحمه الله : [ فإذا حلت الصلاة تقدم الإمام فصلى بهم ركعتين بلا أذان ولا إقامة ] والأفضل أن يخرج إليها ماشياً ، وقد جاء في الأثر المرفوع من السنة المشي إلى المصلى ، وهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- التكبير والاغتسال والمشي إلى المصلى . هذه ثلاث سنن حكاها بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنها تفعل يوم العيد. أن يغدو إلى المصلى ماشياً لأن أجره أعظم وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( دياركم تكتب آثاركم )) فهذا أفضل، فيغدو من طريق ويرجع من طريق آخر . وإذا غدا غدا مكبرا ، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يخرج إلى المصلى مكبرا حتى يرى الإمام، فإذا رؤي الإمام قطع التكبير وهذا بالنسبة للفطر ، ينقطع التكبير برؤية الإمام ولا يكبر بعد ذلك كما صح عن عبدالله بن عمر-رضي الله عنهما-، والرواية عنه صحيحة أنه كان يكبر حتى يأتي الإمام، فإذا أتى الإمام إلى المصلى قطع التكبير .
والسنة أن يشتغل بالتكبير وذكر الله -- عز وجل -- كما سيأتي من المصنف -رحمه الله- حتى يبتدئ الصلاة، فإذا حضرت الصلاة أي جاء وقتها تقدم الإمام فصلى بالناس، وتكون بدون أذان وبدون إقامة . وقال بعض العلماء ينادى لها: الصلاة جامعة ، وهذا ضعيف ؛ فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يناد لصلاة العيدين، والسنة أن يقوم الناس مباشرة إلى الصلاة حتى بدون تنبيه أن يقوم مباشرة فيقول الإمام : استووا . وإذا قال : استووا علم الناس أن الإمام قد حضر وبخاصة في المساجد التي قد لا يرى فيها الإمام من الزحام . فإذا قال : استووا علم أن الإمام يريد أن يصلي . فهذه هي السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه لم يؤذّن ولم يقم لصلاة العيدين .(3/140)
قال رحمه الله : [فإذا حلت الصلاة تقدم الإمام فصلى بهم ركعتين بلا أذان ولا إقامة ] : تقدم فصلى بهم ركعتين بلا أذان ولا إقامة : صلاة العيدين متفق على أنها ركعتان وهذه هي السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- . بلا أذان ولا إقامة : كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ يكبر في الأولى سبعا بتكبيرة الإحرام وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة القيام ]: هذه صفة صلاة العيدين ، أنه يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة إلى ما يقرب من عشرة أقوال ، لكن أقوى ما ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا . أنها سبع في الأولى وخمس في الثانية سوى تكبيرة الإحرام . فهذه السنة وردت في حديث عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وأبي هريرة وأبي واقد الليثي وكذلك عن عائشة وعبدالله بن عمرو بن العاص وحسّنت بالشواهد، وهي أقوى الصفات الواردة ، وإذا قلنا إنها سبع فإذا كبر تكبيرة الإحرام قرأ دعاء الاستفتاح بعدها، ثم بعد ذلك يكبّر التكبيرات الباقية . وإذا كبّر التكبيرات فالسنة أن يكون تعوّذه وابتداؤه للقراءة بعد التكبيرة الأخيرة، ولا يتعوّذ بعد تكبيرة الإحرام، لأن القراءة يَشرع فيها بعد انتهاء التكبير، ثم إذا كبر في صفات الأفعال رفع يديه وفيها روايات . هل يقبض أو يَسْدل وجهان مشهوران للعلماء . الجمهور على أَنّه يضع يمناه على يسراه أثناء التكبيرات، والحنفية وغيرهم -رحمهم الله - على أنه يُسْدل .(3/141)
والصحيح أنه يضع يمينه على شماله، فيأخذ يُسراه بيمينه على صدره كما جاءت السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الصلاة، فقد أُمِر معاشر الأنبياء بذلك . والأدلة عامة شاملة لصلاة العيدين وغيرها، وعن بعض الصحابة بعض الآثار في الذكر بين التكبيرات، وإن سكت فحسن، ولو قال كما ورد في الأثر : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا، فلا بأس، ثم إذا انتهى من التكبير شرع في القراءة ، وأما بالنسبة للركعة الثانية فلا إشكال أنه يكبر تكبيرة القيام ثم يكبر بعدها، ويرفع يديه في تكبيرة الإحرام والتكبيرات الأُوَل، ولا يرفع يديه في تكبيرة الانتقال حينما يقوم من السجود إلى الركعة الثانية لا يرفع يديه؛ لأن السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في مداومته عدم الرفع في هذا الموضع، ثم يرفع يديه للتكبيرات لتقيّد الرفع بالتكبير، وعلى هذا تختصّ صلاة العيدين بهذه الصفة المحفوظة .
قال رحمه الله : [ ويرفع يديه مع كل تكبيرة ويحمد الله ويصلي على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بين كل تكبيرتين ] : لم يحفظ شيئاً مرفوعاً في هذا عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، والوارد عن بعض السلف في التكبير كقوله: الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلا .
قال رحمه الله : [ ثم يقرأ الفاتحة وسورة يجهر فيهما بالقراءة ] : ثم يتعوّذ بعد انتهاء التكبير في الركعة الأولى، ويبسمل ويقرأ الفاتحة ، وهذا على الأصل العام ؛ لأنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، ثم يقرأ بعد ذلك بسورة، حفظ عنه -عليه الصلاة والسلام- قراءته بـ (( سبح اسم ربك الأعلى)) و(( هل أتاك حديث الغاشية )).(3/142)
قال رحمه الله : [ فإذا سلم خطب بهم خطبتين ] : فإذا سلم من صلاته وأتم الركعتين خطب بالناس خطبتين، السنة أن تكون قراءته جهرية؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جهر في صلاة العيدين، وهذا انتزع منه أن الجهر لا يختص بصلاة الليل؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى بالنهار وجهر، وهذا يدل على أن الأمر في سعة، وهو يرجح مذهب من قال: إن الجهر والإسرار في الصلاة سنة وليس بواجب لازم .
قال رحمه الله : [ فإذا سلم خطب به الخطبتين ] : إذا سلم من صلاته وأَنْهَاها خطب بهم خطبتين كما حفظ عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يخطب ثم يجلس ثم يقوم ويخطب خطبة ثانية كالحال في خطبة الجمعة، والسنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأبي بكر وعمر وهي المحفوظة والتي عليه العمل في الأصل أن تكون الصلاة قبل الخطبة ولا تقدم الخطبة على الصلاة ، قدمت في زمان بني أمية وأثر عن عثمان قالوا من أجل أنه كان الصحابة -رضوان الله عليهم- يقومون، وكان الناس يقومون ولا يجلسون ؛ لأن بعضهم كان يسب علياًّ -- رضي الله عنه -- فكانوا إنكارا للمنكر ينصرفون عن هذه الخطب لوجود المحظور فيها. السنة أن تكون الخطبة بعد الصلاة، وهذا هو المحفوظ عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ولا يشرع التكبير بين الخطبة وبين الصلاة، وبعض الناس إذا انتهت الصلاة قام يكبر مرة ثانية ، السنة أن يسكتوا كما ذكرنا عند دخول الإمام ثم بعد ذلك يقوم الإمام ويخطب خطبة العيدين .(3/143)
قال رحمه الله : [ فإن كان فطرا حثهم على الصدقة وبيّن لهم حكمها ] : إن كان فطرا حثهم على الصدقة . الصدقة هنا أريد بها صدقة الفطر كما يعبر بعض العلماء وفيه إشكال؛ لأن صدقة الفطر انتهى وقتها، فكان بعض الشراح وبعض العلماء يعتذر بأن بيان هذه الصدقة في هذا اليوم مناسب لكي يستقبل الجاهل في أعياده الأُخر ويحفظ السنة فلا يضيّع أحكامها، فيعتذر للعلماء على أن المراد بالصدقة هذا الوجه ، وأما إذا أريد بها عموم الصدقة وهو السنة فعلا ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثبت عنه في الصحيح أنه أتى النساء في يوم العيد فقال : (( تصدّقن ولو من حليكن؛ فإني أريتكن أكثر حطب جهنم . قلن: وَلِمَ يا رسول الله ؟ قال : بكفركن . قلن : يكفرن بالله ؟! قال : لا ، وإنما يكفرن العشير ... الحديث )) فهذا يدل على الترغيب في الصدقة . قال بعض العلماء : لأنه يوم فرح ، فقد تنكسر قلوب الفقراء والضعفاء ولذلك شرعت زكاة الفطر؛ سداً لحاجة الضعفاء لكن هذه الزكاة قد لا تغني الضعفاء والفقراء ، فيناسب أن ينبه الإمام الناس على الصدقات والرحمة بالضعفاء حتى يشاركوا الأغنياء فرحة يومهم ، هذا وجهه . وأما بالنسبة للأمر بالصدقة فهو منتزع من حديث بلال -- رضي الله عنه -- وإن كان على وجه خاص للنساء لكن الأصل فيه عام من حيث اختيار السنة للترغيب في الصدقة والتذكير بالله -- عز وجل -- .
قال رحمه الله : [ وإن كان أَضْحى بيّن لهم حكم الأُضْحية ] : وإن كان أضحى بين لهم حكم الأضحية وهذا له أصل في السنة فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال في خطبته يوم النحر : (( من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم ومن لم يذبح فليذبح باسم الله )) فهذا يدل على أنه يعتني الإمام ببيان أحكام الأُضْحية حتى يتلافى الناس الخطأ والخلل في أضاحيهم ذلك اليوم .(3/144)
قال رحمه الله : [ والتكبيرات الزوائد والخطبتان سنة ] : والتكبيرات الزوائد والخطبتان سنة : أما بالنسبة للتكبيرات الزوائد فلو أن الإمام سها فكبر تكبيرة الإحرام ثم بدأ بقراءة الفاتحة فحينئذ شرع في الركن فلا يتدارك وهي سنة ، وكذلك لو أنه قام فنسي التكبيرات ثم شرع في قراءة الفاتحة سقطت عنه التكبيرات لعدم إمكان التدارك ؛ لأن موضعها ما بين تكبيرة الإحرام وركن القراءة ، فإذا شرع في الركن لا يرجع للسنة ، وأما بالنسبة لسجود السهو فعلى الوجهين : إن قلنا السنن يسجد لفواتها سجد قبل السلام لفوات التكبير، وإن قلنا إن السنن لا يسجد لفواتها وهو أظهر وأقوى لم يسجد سجود السهو، فلو أنه صلى وترك التكبيرات سهواً فإنه لا يجب عليه أن يسجد وإن سجد على القول الآخر فإنه لا ينكر عليه ؛ لأن له وجها .
والخطبتان ولذلك لا يجب على الناس أن يبقوا لسماع الخطبة ، فلو أنهم انصرفوا لم يأثموا بالانصراف، وهذا من توسعة الله -- عز وجل -- على عباده ، فالأصل أن العبرة بالصلاة ، ولذلك قال: أمرهم أن يخرجوا العواتق من أجل الصلاة لشهود الصلاة .(3/145)
قال رحمه الله : [ ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها في موضعها ] : الأفضل للمسلم أن ينتظر وأن يشهد الخطبتين كاملتين ؛ لما فيهما من الدعاء ، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليشهدن الخير ودعوة الناس )) فأمر بإخراج الحيض والحائض لا تصلي، وتعتزل المصلى والصلاة ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : (( وأما الحُيّض فليعتزلن الصلاة وليشهدن الخير ودعوة الناس )) فهذا فضل عظيم وخير عظيم لا ينبغي للمسلم أن يزهد فيه ، وكان الناس في عهد قريب يعظمون أمر الخطب وشعائر الإسلام ولو كانت من السنن، وبعض طلبة العلم إلا من رحم الله وبعض الناس يكون علمه وبالا عليه، فهو إذا تعلم أنها سنة تساهل فيها مع أننا نجد من العامة من إذا علم أنها سنة تشبثّ بها ، وهذا المنبغي لطالب العلم ومن هو قدوة ألا يبكّر بالخروج بل ينتظر ويسمع الخطبة والذكر لينتفع به ثم يشهد الدعاء، ودعوة المسلمين عظيمة ، الله -- عز وجل -- كريم لا يرد من سأله، فإذا كان في جماعة الناس ومع الناس فلا شك أن هذا خير عظيم ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أزكى )) وقال: صلاة ، والصلاة تشمل الصلاة المعروفة والدعاء ، فدعوة الجماعة خير عظيم ، فلا ينبغي الزهد في هذا ثم إن خروج الناس بكثرة من بعد الصلاة توهين للأئمة والمنبغي إذا ما عندهم شيء أن ينتظروا إلا أصحاب العوائل وأصحاب الظروف، فلا ينبغي أن يكون الإنسان زاهدا في الخير بل يحرص في يوم العيد أن يكون أعظم الناس أجرًا في شهوده .(3/146)
قال رحمه الله : [ ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها في موضعها ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يصل قبل العيد ولم يصل بعده في المصلى، وعلى هذا فلو رجع إلى بيته وأحب أن يتنفل فلا بأس ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: (( ثم صل-أي في الليل- فإن الصلاة حاضرة مشهودة ، فإذا صليت الفجر فأمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس فإنها تطلع بين قرني شيطان فيوشك أن يسجد لها، ثم إذا طلعت صل فإن الصلاة حاضرة مشهودة حتى يقوم قائم الظهيرة)) ، فبيّن جواز الصلاة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ، لكن لما حفظ عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من هديه أنه لم يتنفل قبل العيدين ولم يتنفل بعدها في المصلى بقي بعد خروجه من المصلى على الأصل أنه يصلي إذا أراد ولا حرج عليه في ذلك إذا رجع إلى بيته وأراد أن يصلي أو يذكر الله -- عز وجل -- فلا بأس ولا حرج .
قال رحمه الله : [ ومن أدرك الإمام قبل سلامه أتمها على صفتها ] : للعلماء أقوال في هذه المسألة : أولاً : إما أن يقال إن صلاة العيدين صلاة مخصوصة على صفة مخصوصة لا تفعل إلا جماعة ، وحينئذ لا يقضيها على صفتها إذا أدركها إلا إذا أدرك ركعة فأكثر هذا الوجه الأول وتقويه الأصول .(3/147)
ثانيا: أن يقال إن صلاة العيدين شرعت في هذا الوقت للجماعة وللأفراد، وهذا قوي من جهة الأثر عن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- أنه كان يُجَمّع بأهله ويصلي بهم صلاة العيدين، فعلى هذا الوجه يصبح للأفراد وللمجتمعين، فإذا فاتته جماعة قضاها منفرداً على صفتها، فتخرج هذا القول على ما أثر من الصحابة، ثم قالوا إذا أدركه قبل السلام إن قلنا بالإدراك منهم من يقول: العبرة بالسلام ومنهم من يقول: العبرة بالركعة ، والقول بالعبرة بالركعة أقوى من جهة النص؛ لأن (( من أدرك الركوع فقد أردك الركعة ، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة ))؛ كما جاء مرفوعاً عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فلو أدركه بعد الرفع من الركوع للسلف -رحمهم الله- قولان :
منهم من يقول: إنها تقضى على صفتها كما ذكرنا .
ومنهم من يقول: إنها لا تقضى على صفتها.
ومنهم من يقول: يصلي ركعتين كصلاته العادية .
ومنهم من يقول: يصلي أربع ركعات ، وهو مأثور عن بعض السلف من الصحابة -رضي الله عنهم-.
والأمر في هذا واسع؛ لأنه لا شيءَ مرفوع عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يحسم المسألة ، من صلاها أربعا إذا فاتته فله وجه، قيل: إنها بدل عن صلاة الضحى فيشرع لها الأفضل وهو أربع ركعات كما في الحديث القدسي : (( لا تعجزني بأربع ركعات من أول النهار أكفك آخره )) وهي أدنى الكمال وإن صلى ركعتين على صفتها له وجه من الأثر عن أنس -- رضي الله عنه -- وإن صلى ركعتين عاديتين فهذا لوجود الشبهة عدم وجود المرفوع ، وكل له وجهه .(3/148)
قال رحمه الله : [ ومن فاتته فلا قضاء عليه ] : ومن فاتته فلا قضاء عليه هذا على القول الذي ذكرناه أنها تقضى على الصفة المخصوصة، إما أن تقضى أربعاً، وإما أن تقضى على صفتها، وأما إذا أدركها بعد السلام فإنه يجلس في المصلى على القول بأن المصلى لا تحية له، وينصت للخطبة، وإن قيل إن المصلى يأخذ حكم المسجد إذا كان محفوظاً ومصاناً فلا شك أنه يصلي تحية المسجد ثم ينصت .
قال رحمه الله : [ فإن أحب صلاها تطوعا إن شاء ركعتين وإن شاء أربعا وإن شاء صلاها على صفتها ] : كما ذكرنا ، ولذلك المصنف جعل الأمر على التخيير لتعدد الأصول في هذا عن الصحابة -رضوان الله عليهم- ، وأيضا عن الأصل الذي يقتضي عدم أدائها إلا على الصفة الواردة .(3/149)
قال رحمه الله : [ ويستحب التكبير في ليلتي العيدين ] : يستحب التكبير في ليلتي العيدين: أما ليلة عيد الفطر؛ فإن الله تعالى قال : { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } فأمر - سبحانه وتعالى - بالتكبير بعد كمال العدة، وكمال العدة هنا المراد بها إكمال شهر رمضان، وشهر رمضان إن كان ثلاثين يوما فلا إشكال، وإن كان تسعة وعشرين فهو كامل ولو كان تسعة وعشرين؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة )) فقوله عليه الصلاة والسلام : (( شهرا عيد لا ينقصان رمضان )) أي أن شهر رمضان من صامه تسعة وعشرين كتب الله له أجر ثلاثين يوماً إذا ثبتت الرؤية بالنقص ، وعلى هذا فلو رئي الهلال ليلة الثلاثين فإنه يبتدأ التكبير بالرؤية ، أما إذا كان الشهر تاماً ثلاثين يوما فيكبرون بمجرد غروب الشمس؛ لأن الله قال : { وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } فجعل التكبير بعد تمام العدة مباشرة، وتمام العدة يكون بغروب شمس آخر يوم من رمضان؛ وعليه فيسن التكبير ليلة العيد إلى الغدو إلى المصلى حتى يرى الإمام، فإذا رأى الإمام قطع التكبير كما ذكرنا ؛ لأنه هو المحفوظ عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وفيه شبهة المرفوع لأنه ما فعل ذلك إلا وكان يفعله على زمان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(3/150)
أما عيد الأضحى فإن التكبير يشرع من فجر يوم عرفة ؛ الأصل في ذلك حديث أنس في الصحيح عنه -- رضي الله عنه -- في حجة الوداع : (( غدونا مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إلى عرفة فمنا المكبر )) فبين أنه كبروا في فجر يوم عرفة ، وفيه آثار عن علي وعمر وابن مسعود -رضي الله عن الجميع- حتى إن الإمام أحمد عده كالإجماع أن الصحابة هؤلاء مع أنه لم يحفظ إنكاره في هذا التكبير على هذا الوجه . ويكبر من فجر يوم عرفة ويكبر فجر يوم النحر ثم يكبر بعد ذلك أدبار الصلوات؛ لأنه محفوظ عن السلف الصالح من الصحابة -رضي الله عنهم- وله أصل من الكتاب في قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ }.
قال رحمه الله : [ ويكبر في الأضحى عقب الفرائض في الجماعة من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق ] : كما ذكرنا في تفسير قوله تعالى : { وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } قيل: إنها أيام التشريق ، وجرى عليه العمل عن الصحابة كما روى مسندًا إليهم ، وكذلك جرى عليه العمل في القرون المفضلة دون نكير .(3/151)
قال رحمه الله : [ إلا المحرم فإنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق ] إلا المحرم : المحرم لا يصلي صلاة عيد الأضحى كما هو معلوم ، ولذلك قالوا : إن للمحرم أن يكبر كما ذكرنا عن أنس -- رضي الله عنه -- أنهم كانوا يكبرون مع غدوهم وهم غادون مع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إلى عرفة . والوجه الثاني أنه يبتدأ من ظهر يوم النحر وهذا التكبير المقيد، وأما التكبير المطلق فإنه يبدأ بهلال ذي الحجة: { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } قال إنها عشر من ذي الحجة، فيبتدئ بهذا التكبير المطلق، وعليه حمل تكبير ابن مسعود -- رضي الله عنه -- في ليلة النحر بمزدلفة، وكذلك تكبير أنس -- رضي الله عنه -- في الغدو إلى المصلى، فمن يرى أنه يبتدئ التكبير المقيد بظهر يوم النحر يرى أنه ليست عليه صلاة عيد الأضحى، وحينئذ يبتدئ تكبيره المقيد من أول صلاة بعد تحلله وإتمامه للنسك؛ شكرا لربه، فيبتدئ التكبير بعد ذلك، لكن محفوظ عن الصحابة -رضي الله عنهم- التكبير المطلق ونسبته للرفع.
قال رحمه الله : [ وصفة التكبير شفعا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ] : يكون شفعا على الصفة التي ذكرها، وفيها آثار: ويكون وِتْرا كقوله : الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد ، وعلى كل حال أي صفة من التكبير حفظت فهي أفضل وإن لم تحفظ بقيت على الأصل العام .
قال الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- : [ كتاب الجنائز ] :(3/152)
الجنائز : جمع جنازة ، تطلق على الميت ، وتطلق على السرير المحمول عليه الميت ، وكتاب الجنائز كتاب عظيم اشتمل على جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالموتى، وما ينبغي أن يصنع بهم. من العلماء من يذكر أحكام عيادة المريض، ثم يتبع ذلك بأحكام الاحتضار، ثم ما يشرع بعد موت الميت، من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وما يشرع من التعزية بعد الدفن، وكلها أحكام تتعلق بالجنائز، وقد جاءت الشريعة ببيان هذه الأحكام والمسائل كما صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في سننه القولية والفعلية -صلوات الله وسلامه عليه-.
وكتاب الجنائز كثير من أهل العلم -رحمهم الله- من يؤخره إلى آخر كتاب الصلاة ، والمناسبة في هذا ظاهرة . يقول رحمه الله : [ كتاب الجنائز ] أي سأذكر لك في هذا الموضع جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالميت .(3/153)
قال رحمه الله : [ وإذا تيقن موته أغمضت عيناه ] : السنة إذا عاد الإنسان مريضا أن يفسح له في الأجل كما صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويقول له: مثلا تطيب إن شاء الله ، يمد الله في عمرك كما قال - صلى الله عليه وسلم - لسعد : (( لعلك أن تعمر فينتفع بك أقوام ويستضر بك آخرون )) كما في الصحيح وقد تحقق ذلك معجزة للنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فأعز الله به دينه ، وأعلى به كلمته ، وجرت على يده من الفتوحات العظيمة ما لا يخفى. فأفسح له في الأجل فالمريض يفسح له في الأجل، فإذا جاء إلى المريض حتى ولو كان مرضه ميئوسا منه أمّله، فإن الله على كل شيء قدير، ولقد مرت بي حوادث رأيت أناسا قطع الأطباء أنهم موتى، وجزموا بأنهم لا يعيشون، بل دخلت على رجل يقارب الثمانين وقد يئس الأطباء منه تماماً، وأملنا في الله -- سبحانه وتعالى -- وليس معناه أننا مستجابو الدعوة، ولكن نقول: إن هذا من الله وليس منا ، فكنا ننظر مع الناس أنه منتهي وأنه سيموت والعمر بيد الله -- عز وجل -- وإذا به إلى ساعتنا وإلى يومنا هذا أكثر من خمس سنين يقارب فوق التسعين وهو حي يرزق، فما يستطيع أحد أن يقدم شيئاً أخّره الله، ولا يستطيع أحدا أن يؤخر شيئا قدمه الله، ودخلنا على كثير من الناس يعني أذكر أشخاصا أكثر من عشرة فعلا جزم الأطباء بموتهم وشاء الله -- سبحانه وتعالى -- أن يمدهم في أعمارهم، لكن هذا شيء نؤكد به أن اليأس والجزم بأخبار الأطباء وتحتمها أمر مخالف للشريعة، لا يجوز لأحد أن يقطع بموت أحد أو بحياته إلا بنص ودليل شرعي؛ لأن الآجال والأعمار بيد الله فهو -- سبحانه وتعالى -- الذي يعلم متى تموت ومتى تقبض الروح ، ولا يستطيع أحد أن يحدد لأحد أجله، بل قد يموت الطبيب ويعيش المريض، فالله على كل شيء قدير، فكم من مريض مدّ له في عمره ، وكم من صحيح مات حتى من غير علة ، فالشاهد من هذا أنه يُفْسح للمريض في الأجل ويؤمّله؛ لأن طول العمر(3/154)
وإطالة العمر وفسح الأجل فيها حسن ظن بالله، وحسن الظن مطلوب شرعاً ، ولأن المسلم إذا مُدّ له في عمره ازداد من الخير وازداد من الطاعة، ولذلك يسن ويفضّل أن يفسح للميت في أجله على هذا الوجه، فإذا حضر الموت لقنه فيقول بجواره بلطف : لا إله إلا الله ، يلقنه شهادة التوحيد؛ لأنها من علامة حسن الخاتمة ، (( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة )) فيعين أخاه المسلم على ذلك، ويقولها بجواره حتى تقوى نفسه، ويذكّر حال غفلته، فإذا تيقن موته ونزل به أمر الله الذي لا يدفع، أمر الله الذي إذا نزل بالجبابرة وبالأكاسرة فقصم جبروتهم والجبروت لله، وأرغم أنوفهم وأذلهم للواحد القهار، هذا المنتهى الذي لا يستطيع أحد أن يؤخره أو يقدمه، بل هو لله الواحد القهار، وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، ودخل أحد القواد العظماء على أحد الخلفاء وهو يحتضر فرأى عينيه قد شخصتا، ورأى سيده في ذلك الروع العظيم فما ملك أن سقط مغشيا عليه، ثم أصابته سكتة فمات من ساعته، فهذه مواقف تزلزل فيها القلوب، وتذعن وتسلم لله علاّم الغيوب، وبيّن الله -- سبحانه وتعالى -- عظمته وجبروته فقال : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ } هذه هي الساعة التي يؤمن فيها الكافر ويوقن بها الفاجر؛ لأنها الساعة العظيمة، فهذه ساعة عظيمة يحتاج المسلم أن يثبت أخاه فيه بشهادة التوحيد حتى يكتب له خاتمة الإيمان، وتكون خاتمته حسنة، فإذا تيقن موته أغمضت عيناه ، المنبغي أولا إذا كان قريباً للميت أو صديقاً أو حبيباً أو ولياًّ أن يسترجع وأن يحتسب عند الله الأجر والثواب، فكل خلف في الله منه عوض خاصة إذا كان عزيزاً عليه أن يكون الله أعز عليه من كل شيء، ومن أحسن ظنه بالله في شيء كُسِر فيه جبر الله كَسْرَه، وفي شيء يفوته أخلف الله عليه بأحسن(3/155)
الخلف، ومن هنا يسترجع ويقول المأثور: (( إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها)) وقالتها أم سلمة فقالت : ومَنْ خيرٌ من أبي سلمة ؟! فأبدلها الله خير خلقه وصفوته من عباده- صلوات الله وسلامه- عليه يغمض عينيه ويحتسب المصاب عند الله -- عز وجل -- .
ثبت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه أمر بتغميض عيني الميت ، وقال : (( إن الروح يتبعها البصر )) فالسنة أن يغمض عينيه .
قال رحمه الله : [ وشد لحياه ] : وشَدّ لحياه حتى لا يبقى فمه مفتوحاً ثم إذا أدخل في قبره دخلت فيه الهوام، والميت يستبشع انفتاح فمه فيشد لحياه : ويضع الخرقة من على رأسه أي من تحت اللحيين يشد بهما اللحيين حتى يقفل فم الميت .
قال رحمه الله : [ وجعل على بطنه مرآة أو غيرها كحديدة ] : يضع على بطنه شيئاً ثقيلاً نوعاً ما حتى لا ينتفخ؛ لأن الميت ينتفخ إذا مات، فيضع عليه مرآة أو يضع عليه حديدة أو شيء من الخشب الثقيل نوعا ما حتى يمنع البطن من الانتفاخ .(3/156)
قال رحمه الله : [ فإذا أخذ في غسله سترت عورته ثم يعصر بطنه عصرا رفيقا ] : هذه السنن الأولى تشرع بعد الموت وقبل التغسيل: تغميض العينين، شد اللحيين، وضع المرآة على البطن، وكل هذه لمصلحة الميت؛ لأننا مأمورون بالإحسان إلى إخواننا، وهذا داخل تحت أصل شرعي من الإحسان للميت؛ لأنه إذا لم يشد لحياه كما ذكرنا يتأذى ويستبشع منظره وحاله، وكذلك أيضا بدخول الهوام إلى فمه في القبر، وأما بالنسبة للمرآة كما ذكرنا لئلا ينتفخ، فإذا شرع في غسله : الأصل أنه لا يلي تغسيل الموتى إلا من عنده علم بصفة الغسل، ولا ينبغي أن يتولاه كل أحد حتى لا يخل بحق المسلم في تغسيله، وتغسيل الميت فرض على الكفاية ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (( اغسلوه بماء وسدر )) هذا أمر، والأمر للوجوب، ولقوله -عليه الصلاة والسلام- لأم عطية : (( اغسلنها بماء وسدر )) فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، وحينئذ تغسيل الميت واجب، ويتعلق هذا الواجب أول ما يتعلق بوصيّه من أوصى إليه الميت أن يغسل، وقد وصى أبوبكر ووصى عمر ووصى الصحابة -رضوان الله عليهم- ، من وصي فله الحق وهو المقدم على غيره كما سيأتي ، فالأصل أن لا يلي التغسيل إلا من عنده علم ومعرفة بأحكام الغسل .(3/157)
قال رحمه الله : [ فإذا أخذ في غسله سترت عورته ] : فإذا أخذ في غسله ستر عورته : إما أن يجرده من الثياب وحينئذ يضع عليه ما يستره ثم يغسله من تحت الثوب الذي يستره، أو يضع على عورته موضع العورة ما يستره، كأن يضع إزارًا ثم يجرده من الثوب والفنيلة أو يبقي السروال عليه إذا كان السروال ساترا غير اللون الأبيض الذي ينكشف عند الغسل، فيجرده من الثياب التي على صدره . طبعا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يجرد، وإذا أمكن تغسيله تغسيلا كاملا مع بقاء قميصه وفنيلته أعالي البدن فهذا أكمل، يفعل مع أهل الفضل؛ لأن لهم حقاً إذا غلب على الظن أن تغسيلهم يكون على الوجه المعتبر، والأصل العام أنه إذا أراد أن يجرده فإنه يجرده إلا مما على عورته أو يستر عورته، ثم يجرده من أعالي البدن وأسافل البدن، ويبقي العورة المغلظة وما هو قريب منها مستورا ، فإذا جرده ابتدأ بتغسيله .(3/158)
قال رحمه الله : [ ثم يعصر بطنه عصرا رفيقا ] : ثم يعصر بطنه عصْرًا رقيقا : عصر البطن لإخراج ما هناك من الفضلة ، يعصره عصرا رقيقا يضغط على البطن حتى يخرج الفضلات من الأمعاء إن احتاج كما يقول بعض العلماء واختاره بعض الأئمة أن يرفع صدره قليلا ثم يعصر، يكون العصر بعد الرفع ؛ لأن هذه يسهل الإخراج أكثر، وإن عصر وهو على طاولة أو على موضعه فلا بأس بذلك ولا حرج ، وعند العصر كانوا يستحبون أن يكون المكان مجمّراً أو مبخّراً فقط من أجل الرائحة؛ لأنه يراد إكرام الميت، وإكرام الميت أنه ما يوضع على شيء يستبشع منه، ولاشك أن حرمة الميت ميتا كحرمته حيا؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة : (( كَسْر عظم المؤمن ميتا ككسره حيا في الإثم )) فجعل للميت حرمة فالميت يتأذى ويتضرر إذا خرج منه الشيء الذي يتأذى منه الناس، فمن هنا يستر بهذا الشيء، فكان البعض أثناء الغسل يجمّر حتى لا يشعر الناس باختلاف حال الميت وخروج الروائح منه ويتأذون بذلك ، هذا من النصيحة للموتى ودفعا للضرر .
قال رحمه الله : [ ثم يلف على يده خرقة فينجيه بها ] : ينجيه من الأذى الخارج فيضع على يده خرقة، وهذه الخرقة حتى لا تمس اليد العورة ، والعورة محرّمٌ النظر إليها، و محرّمٌ لمسها، و محرّمٌ الإيلاج بها إلا لمن أذن الله له كالزوج مع زوجته فيما أحل الله -- عز وجل -- وهو موضع الحرث . الشاهد أن لمس العورة لا يجوز من الأجنبي إلا عند الضرورة كالطبيب ونحو ذلك ، لكن هذه الضرورة حين يكون هناك ما يدعو، وهذا أصل عام عند العلماء ، ومن هنا قالوا إن إزالة الأذى من الدبر ومن الفرجين ممكن مع وجود الحائل، فيبقى أو تبقى المباشرة والمس على الأصل المحرم، ولذلك تحفظ عورته .(3/159)
قال رحمه الله : [ ثم يوضئه ] : ثم يوضئه بعد ما ينظف القبل والدبر. والأصل أن الغسل انتزع من قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( اغسلوه بماء وسدر )) وقال : (( اغسلنها )) كلمة : (( اغسلوه )) (( اغسلنها )) هذا مصطلح شرعي، فلما كان مصطلحا شرعيا رُجِع في تفسيره إلى السنة، فوجدنا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في السنة يبدأ بغسل الفرجين وتنظيف الموضع كما في حديث عائشة وميمونة -رضي الله عنها- قبل غسله التام، ومن هنا أخذ العلماء أن الميت يبتدأ بتنظيف مواضع الأذى منه قبل أن يشرع في تغسيله، فإذا انتهى من تنظيف الفرج بالطريقة التي ذكرنا شرع بعد ذلك بمواضع الوضوء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( اغسلوه )) (( واغسلنها )) وقد توضأ عليه الصلاة والسلام قبل غسله .(3/160)
الدليل الثاني وهو الصريح في قوله-عليه الصلاة والسلام- لأم عطية : (( وابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها )) فقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها )) يدل على أن السنة في تغسيل الميت أن يبدأ بأعضاء الوضوء ، وهذا تقديم شرف لا تقديم تكليف بحتم وإلزام ؛ لأنه قال : (( بميامينها وبأعضاء الوضوء منها )) ولأن الميت قد سقط عنه التكليف فدل على أن تقديم أعضاء الوضوء والميامن إنما هو للفضيلة والشرف ، وعلى هذا فلو أنه غسّل الميت تغسيلاً تاماً ولم يعِ هذه السنة أو ضاق عليه الوقت ولم يستطع أن يوضئه وغسله تغسيلاً كاملاً مرة واحدة كما يحدث في بعض الأحوال الطارئة أو الأحوال المستعجلة؛ صح تغسيله ، كما في الغسل المجزئ والغسل الكامل، وقد تقدم معنا في باب الغسل، فالأكمل والأفضل أن يغسله على الصفة الكاملة؛ فالغاسل مأمور فيه بأمور ينبغي أن يحرص عليها، منها: أن يراعي الكمال في غسله، فمن الكمال: أن يبدأ بأعضاء الوضوء، وإذا بدأ بأعضاء الوضوء بدأ بغسل الوجه، فلا مضمضة ولا استنشاق، فلا يدخل في فمه الماء ولا في أنفه، وإنما يبدأ بغسل وجهه، ثم بأعضاء الوضوء فيوضّيه، فإذا انتهى من أعضاء الوضوء بدأ بغسل رأسه .(3/161)
قال رحمه الله : [ ثم يغسل رأسه ولحيته بماء وسدر ] : ثم يغسل رأسه ولحيته بماء وسدر: السدر أبلغ في التنظيف والنقاء ؛ ولذلك شرع في الغسل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( اغسلوه بماء وسدر )) وقال: (( اغسلنها بماء وسدر)) عليه الصلاة والسلام في ابنته زينب لما توفيت رضي الله عنها وأرضاها، يبدأ بالغسل بالماء ثم يتبعه الماء والسدر، والسدر مثل الصابون وله رِغْوة ، فيبدأ أول شيء بالرِّغوة، ويبدأ بغسل وجهه وشعر رأسه والرأس والوجه مقدم على غسل بقية البدن لشرفه وفضله، ومن هنا في الوضوء عبادة الوضوء يبدأ بغسل وجهه وهذا لشرف هذا الموضع ، وقد نهى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن لطم الصور، فيبدأ بالوجه لشرفه ثم بعد ذلك يغسل شعره ورأسه .(3/162)
قال رحمه الله : [ ثم شقه الأيمن ثم الأيسر ] : بعد ما ينتهي من غسل الرأس يبدأ بشقه الأيمن فيقلبه على شقه الأيسر، ثم يصب الماء على شقه الأيمن، إذا صب الماء على شقه الأيمن من أجل أن يجري الصابون أو تجري رَغْوة السدر، فيبدأ بتنظيف يده ويتفقد ما بين الأصابع، ثم يتفقد الإبطين والرفغين والمرفقين من البطن والظهر، ثم يدعك الجنب كاملا يبدأ بأعلاه إلى أسفله حتى ينتهى من الجنب الأيمن، فإذا انتهى من الجنب الأيمن بالرِّغوة صب الماء بعد ذلك، فأولا الرِّغوة مثل الصابون فيحتاج أول شيء إلى الماء الطهور يصبه حتى يصيب غسل البدن ثم بعد ذلك الرِّغوة لأن الرِّغوة لا تقوى إلا بعد وجود الماء وهي أنفع وأقوى في التنظيف والغَسْل، فإذا لم يجد رغوة السدر أخذ الصابون ودعكه به، ثم بعد ذلك نظفه بالماء القَراح، ثم قلبه على شقه الأيسر وفعل به مثل ما فعل بشقه الأيمن؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- (( بدأ بشؤون رأسه -بعد أن توضأ وغسل وجهه- حتى قالت أم المؤمنين : حتى إذا ظن أنه روّى أصول شعره -يعني شعر الرأس- أفاض الماء على شقه الأيمن، ثم أفاض على شقه الأيسر، ثم تنحى فغسل رجليه )) كما في حديث ميمونة -رضي الله عنها- .(3/163)
قال رحمه الله : [ ثم يغسله كذلك مرة ثانية وثالثة يمر في كل مرة يده ] : الغسلة الأولى والثانية والثالثة هذه كلها مستحبة يعني الغسلة الثالثة والرابعة والخامسة مستحبة ويتأكد استحبابها عند الحاجة . الواجب غسلة واحدة منقية، فلو كان مثلا في صحراء والماء قليل، أو يعز وجود الماء الغسلة الواحدة المنقية، فطبعا أحوال الناس تختلف والأجساد تختلف، وقد بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا الاختلاف كما في حديث أم عطية في الصحيحين عنها رضي الله عنها أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما دخل عليهن في غسل ابنته قال : (( اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك)) فجعل الأمر راجعاً إلى نقاء البدن ونظافته ، فإذا كانت تحصل بالثلاث فغناء وكفاية بالخمس الأجساد تختلف، وقد يكون الميت متسخا وجسمه يحتاج إلى غسل أكثر، وقد يكون نظيفا ولا يحتاج إلى أن تزاد الغسلة الخامسة، فتكون وترا ثلاثا أو خمسا أو سبعا فلما قال: (( ثلاثا )) قال بعدها : (( خمسا )) ولم يقل أربعا ، ولما قال : (( خمسا )) قال : (( أو سبعا )) ولم يقل السادسة فدل على أن الوتر مستحب في هذا .
قال رحمه الله : [ فإن خرج منه شيء غسله وسده بقطن ] : فإن خرج منه شيء : يخرج من الدبر شيء . [ غسله ] غسل الدبر، وسد الدبر إما بقطنه يضع قطنة تمنع الخروج فإن صعب تعاطى الأسباب لسده كالطين الحر .
قال رحمه الله : [ فإن لم يستمسك فبطين حر ] : فإن لم يستمسك الخارج فبطين حر .
قال رحمه الله : [ ويعيد وضوءه ] : ويعيد وضوءه بعد الخارج . هذا على أحد الأوجه وبعض العلماء يرى أنه لا يعيد لأن الوضوء ليس مقصودا إنما قدم لشرف الأعضاء ، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس في قوله : (( ابدأن بميامنها وبأعضاء الوضوء منها )) .(3/164)
قال رحمه الله : [ وإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس أو إلى سبع ثم ينشفه بثوب ] : فإن لم ينقَ وهذا يدل على أن الزيادة في الغسل عند وجود الحاجة إذا تنقى الميت وتنظف وطاب جسده بالغسل ثلاثا؛ فإنه حينئذ لا إشكال في أنها يكتفى بها ، فإن وجد أنه يحتاج إلى غسلة رابعة غُسِّل الرابعة ثم أضيفت الوتر الخامسة، فإن احتاج بعد الخامسة إلى سادسة غسّل السادسة وزيد الوتر طلباً للاستحباب لظاهر السنة .
قال رحمه الله : [ ويجعل الطيب في مغابنه ومواضع سجوده ] : بعد أن ينتهي من تغسيله للعلماء وجهان: منهم من قال: ينشفه حتى يستطيع وضعه على الكفن، ومنهم من قال: ينتظر نَشْفَهُ ، وهذا راجع إلى مسألة خلافية في الغسل : هل الأفضل أن يتنشف بعد الغسل أو لا ؟ وظاهر الحديث عن ميمونة -رضي الله عنها- لما أتت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالمنديل بعد الغسل لم يُرِدْه وجعل ينفض الماء بيده ، واختلف العلماء في هذا : الذين يقولون بتفضيل عدم التنشيف ، منهم من يقول فعله اتفاقا، ومنهم من قال فعله قصدا أي رد المنديل، والذين قالوا فعله قصدا استدلوا بالسنة أن المؤمن إذا توضأ تحاتت خطاياه وذنوبه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، والغسل كالوضوء نوع من الطهارة ، فقالوا امتنع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- من أن ينشف طلبا لهذه الفضيلة الكاملة ؛ لأن الذنوب تتحاتّ مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، ومن هنا وهذا أقوى في الحقيقة بالنسبة للغسل في المكلف في حق نفسه ، أما الميت ففيه نظر يعني له وجه -هذا التخريج له وجه- ، لكنه لا يخلو من نظر ، فالشيء الذي فيه نظر قد يصح من وجه ولا يصح من وجه آخر، فليس هو باطلاً كلا ولا مقبولاً كلا؛ لأننا إذا نظر إلى انقطاع التكليف بالميت فهذا يقتضي الإسناد بفعل المكلف نفسه بخروج الذنوب مع آخر قطر الماء من فعل المكلف، وإن نظر إلى أنها عبادة متعلقة بالميت، ويقوم بها إخوانه يستقيم القول وهذا ما يتردد فيه الأصلان،(3/165)
فالذي يمتنع من تنشيف الميت بعد غسله إن كان الوقت يسع أن ينتظر حتى ينشف مثل أن يوضع في مكان وتكون هناك مراوح أو يكون المكان بارداً وينشف بنفسه فلا إشكال، أما في الحالات التي يتضرر بإبقائه بالماء كما في شدة البرد يتجلّط بها الجلد ويتغير؛ فإنه يبادر بتنشيفه ، حتى إن في بعض المناطق الباردة جدا والماء ما يغسل به إلا وهو حار فإذا بقي بعد هذا قد يتجمع الماء منه ، وهذا قد يفسد الأكفان كما هو معلوم . الخلاصة أن من أهل العلم من قال إنه لا ينشف للأصل الذي ذكرناه، ومنهم من يرى تنشيفه ، فإذا نشفه يكون التنشيف قبل وضعه في الكفن، ثم يوضع الكفن ، تأتي مرحلة التكفين هنا تنتهي مرحلة التغسيل، هناك أمور ينبغي التنبيه عليها في التغسيل :
أولا : أن يكون عالما بالأحكام الشرعية، فالتغسيل ما فيه تشدد ، أو البعض يصفه بصفة خاصة معينة، ويأتي بأقمصة وبطرق محددة يلزم بها الغاسل، الذي ورد في السنة نفعله كما ورد، والمبالغة في هذه الأشياء، والمبالغة في طريقة التغسيل بالماء والسدر ونحو ذلك هذه ما لها أصل إلا شيء يقصد منه تحقق الطهارة كقول أن تكون هناك غسلة بالماء القَرَاح فهذه أشياء اشترطها العلماء تحقيقا لمقصود الشرع، أما أن يكون الإناء عن يمينه وأن يغترف منه بالوتر ونحو ذلك من الأمور المرتبة المعينة، فهذا إذا لم يكن له أصل فإنه ليس بوارد ولا ملزم به الغاسل ، فالسنة أن يتتبع الوارد الذي ذكرناه .
ثانيا : أن المغسل ينبغي له أن يكون ناصحا في تغسيله للميت، وأن يحسن إلى أخيه الميت، رجلا كان أو امرأة، فإذا غسل الرجل الرجل نصح له فنظفه، وطيبه بأحسن ما يكون، التغسيل بأحسن ما يكون التنظيف والتطهير، كذلك المرأة إذا تولت تغسيل الميتة .(3/166)
الأمر الثالث : عليه أن يستر العورة، فإذا اطلع على عيوب أثناء تغسيله سترها، وإن اطلع على محاسن نشرها؛ وبخاصة إذا كانت تدعو إلى الخير ، من هذا أن يكون حال الميت تكون في الميت عيوب في جسده لا يعلم بها أحد ، فيجب عليه سترها، ما يقول: والله، ظَهْر فلان فيه كذا ، أو جسده فيه كذا ، من الأمور التي كانت مستورة ، فلا يظهر العيوب الجسدية ، ولا العيوب التي -لا قدر الله- قد يحصل ما يسوء أثناء التغسيل أو أثناء التكفين، من رأى مصارع الظالمين رأى ما لا يسرّه ، ومن رأى مصارع الصالحين ونهايتهم الطيبة رأى ما يسرّه ، ولقد حضرت بعض الأخيار والصالحين في تغسيله فلا ترى وحشة الأموات، بل والله، تغسل وأنت تستشعر نوعاً من السعادة والراحة العجيبة، وهذا من فضل الله-- عز وجل -- عليهم ، وأذكر بعض الفضلاء الصالحين الذين كانوا معروفين بحبهم لأهل العلم وإكرامهم لأهل العلم، ومعروفا بكثرة الصدقات، وبسلامة الصدر ومحبته للمؤمنين، حضرت تغسيله فرأيت وجهه أكثر من عشرين سنة وأنا أراه مع الوالد -رحمه الله- ما رأيت أجمل منه وجهاً بعد تغسيله، والله كأنه قطعة من الشمس أو القمر من النور الذي في وجهه، وترى الأنس وتتمنى أنك تستمر في رؤية هذا الوجه بعد أن غسل ووضعناه في الكفن فرأينا شيئاً عجيباً ترى وجهاً يتهلهل كالقمر ونوراً وانشراحاً وأنساً، وهذا من فضل الله –- سبحانه وتعالى -- على عباده وأوليائه ، وقد رأيته في رؤيا فقلت له : كان رحمه الله يوصيني بطلب العلم على الوالد وكنت صغير السن فكان يقول لي : الزم الوالد ، واحرص على طلب العلم ، يا بني لا تلعب -كنت صغير السن- ولا تعبث واحرص ، فلما رأيته بعد وفاته -رحمه الله- ، إذا به يوصيني بالعلم كحاله في حياته، ثم قلت له : ما فعل الله بك ؟ فو الله الذي لا إله إلا هو قال لي بالحرف الواحد متبسّما مليئا بالفرح والسرور: من الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون ، وهذه من البشائر الطيبة لأولياء(3/167)
الله وأهل طاعته، من عرف بحبه للناس ومحبة الخير لهم، وسلامة الصدر، وعدم أذيتهم، وعدم الإضرار بهم، ومحبتهم لأولياء الله من العلماء والصالحين فهو أولى الناس بالخير ما دام محبا للخير ، فهذه من البشائر .
البشائر الطيبة التي تكون في حسن الخاتمة ونحوها لا بأس أن يتحدث بها، وأن تنشر بين الناس لكي يثبت أولاده وأبناؤه وذريته من بعده على منهجه حينما يرون أعماله الصالحة كيف آلت به بعد فضل الله إلى العاقبة الحميدة والعكس بالعكس ، فأهل الشر والفساد لا تؤمن لهم العواقب الوخيمة؛ ولذلك جعل الله الأمور بعواقبها ؛ فقال سبحانه : { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } وقال سبحانه: { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } فمهما رأيت من ذل وألم وهمّ وغمّ لأولياء الله في الدنيا فوالله لن يخرجوا منها إلا وهم أعزة من ذلهم ، كرماء من مهانتهم ، رفعاء مما وضعوا فيه ، ما داموا على طاعته واستقامته، فالعبرة بالخواتم، فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عاش وهو يقال له الساحر والصابيء والكذاب والمفتري حاشاه - صلوات الله وسلامه عليه – ومات وهو سيد الأولين والآخرين ، وكذلك أيضا سوء العاقبة بالظلم كما قال تعالى : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } فالله يملي ويمهل ويكيد كيدا، ولكن كيد الله محكم واقع في موقعه -- سبحانه وتعالى -- فمن الكيد أنه يجعل عواقبهم وخيمة ، فترى وجوههم مظلمة ، وأحوالهم بئيسة ، ونهايتهم تعيسة ، يتمنى الإنسان أن لا يراها ، ولا يسمع بها . نسأل الله السلامة والعافية . ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن لا يؤخرنا إلى شر ، وأن يحسن خواتمنا ، وأن يجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتيمها .(3/168)
لا يجوز أن يتحدث بالعورات التي يطلع عليها ، وهذا أصل عام في المسلم أنه ينبغي ستره ، وهنا ننبه على قضية لأن العلماء من عادتهم في المناسبات أن ينبهوا على بعض الأمور المهمة مما أرى ومما أسمع وأشاهد كثيرا في الناس إلا من رحم الله قلة الأمانة ، وقلة الأمانة ، منها : عدم حفظ الأسرار، يتولىّ تغسيل الميت فيطّلع على عورة وإذا بها في اليوم التالي تنشر في الدنيا كلها، ويأتي ويصحبك ويجلس معك في المجلس وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( المجالس بالأمانة )) فتأتمن على الكلمة والكلمتين لا تلبث أن تجدها في الدنيا قد انتشرت ، وإن كان من الناس هذا مستغرباً فمن الأخيار ومن الصالحين ومن طلبة العلم أغرب ، قل أن تجد إنسانا في هذا اليوم أميناً وبالأخص على أسرار المؤمنين وعوراتهم، حتى إنه يأتي ويصلي في المسجد، فيصلي وراء الإمام فيطيل الإمام يجلس وراء هذا الإمام السنوات العديدة وهو يصلي وينتفع بصلاته ثم يوم من الأيام يطول فينقلب إلى أهله ويقول: اليوم طول علينا الإمام . هب أنها خطيئة من الإمام ما تستطيع أن تستره ، ما تستطيع أن تقول خيراً في أخيك المسلم ، أين النصوص في ستر المسلم ؟! أين النصوص في محبة المسلم لأخيه المسلم ؟!يجلس مع أخيه الصالح فيقول له : والله، يحدث كذا بيني وبينك ، ثم ينتقل إلى صاحبه فيقول له : والله بيني وبينك ، فلان قال لي بيني وبينك وأنا أقول لك بيني وبينك ؟! لا السر محفوظ، ولا العورة مستورة، ثم يزعم أنه خير وأنه صالح ، فإن جاءه نكبة من الله أو نقمة في نفسيّته أو انتكاسة في هدايته قال: والله ، ما أدري ما الذي أصابني ، فهو يتهتك ويضيع حقوق الله -- عز وجل -- وقد تكون عورات مؤلمة ومؤذية وبخاصة لأولياء الله -- عز وجل -- وأهل طاعته ، فهذه الأمور ينبغي التنبه لها . يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( حفظ العهد من الإيمان )) بينك وبين أخيك عهد وبينك وبين من ائتمنك عهد . الزوجة تعطي(3/169)
زوجها سرا ثم ما يلبث أن يهددها ، يقول: إن لم تسكتي أخبر أهلك ، الزوج يعطي الزوجة سرا ثم ما يلبث أن تهدده ، وتقول: إن لم تسكت أخبر أهلك ، وهي لا تعلم أنها تقود نفسها إلى نار جهنم ؛ لأن الأمانة هذه يوم القيامة تصور بصاحبها ولو كانت كلمة واحدة من السر ؛ إذا قال لك أخوك : هذا سر فإنها أمانة ، ويوم القيامة تصور وترمى في نار جهنم ، فمن أدى أمانته ؛ سلم ، وأما ما لم يؤد أمانته ؛ فينزل فيقال له: أد أمانتك، فينزل كما ثبت في الصحيح لكي يحمل الأمانة على ظهره حتى إذا بلغ على شفير جهنم يحملها من النار، ثم يصعد حتى إذا بلغ شفيرها تردت، فرجع يتردد فيها على حسب عظم هذه الأمانة التي خانها . السر أمانة ، المجلس أمانة ، العورة أمانة ، كل هذه أمانات ، فمن يغسّل الموتى مؤتمن ، ولذلك العلماء يقولون : ينبغي أن يكون المغسّل أميناً حافظاً للسر، وهذا المنبغي للصالح أن يكون حافظاً لحقوق إخوانه المسلمين عموما . قلنا هذا لعموم البلوى به ، ولذلك حتى إنك لتجد الرجل يصحب الرجل وتجده معه بالسنوات وبالعمر وقد يشيب رأسه وهو معه ثم إذا جلس مع أحد لا يجد إلا أن ينتقي أخطاء هذا الصاحب وينتقي عوراته؛ لكي يصبح مقيّما له ويبين سلبياته وإيجابياته، هذه أمور ينبغي التنبه لها ، ففي الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه إذا ضُرب الصراط على متن جهنم قامت الأمانة والرحم على جنبتي الصراط ، الأمانة والرحم ، معنى ذلك أنه لا يستطيع أن يجوز الصراط خائن للأمانة ؛ لأن خيانة الأمانة كبيرة ، والكبيرة تورد النار، وقطع الرحم فهذان أمران ينبغي لكل من يلتزم بشرع الله أن يضعهما نصب عينيه ، وإذا دخلت بيتاً أو زرت صديقاً أو قريباً واطلعت على عورة داخل البيت عليك أن تحفظ سر أخيك المسلم، وأن لا تتباهى في المجالس ، بعض الناس لا يحلو له أن يتصدر المجلس إلا إذا جاء بالخبر الغريب والقول العجيب وبخاصة إذا كانت هذه الأسرار في(3/170)
فتاوى الناس أو في حقوقهم العامة أو مصالحهم العامة في الوظائف فيأتي الإنسان في وظيفته يقول : والله اليوم جاني في المكتب فلان عنده القضية الفلانية وجاءني علان عنده المسألة الفلانية ، وولد فلان صار عليه الحادث الفلاني أو حصل له كلها أسرار وأمانات، فإذا الشاهد من هذا نبهنا عليه لعموم البلوى به ، فهو في الموتى آكد، فينبغي حفظ عورة الميت ، إذا رأى شيئاً يسره حمد الله ، وإذا رأى غير ذلك سترها، أثر عن بعضهم أنه غسّل من ابتلي بشرب الخمر -والعياذ بالله- ومنهم من غسّل من ابتلي بالحشيش -والعياذ بالله- ومنهم من ابتلي بشرب الشيشة وذكر بعض الثقات أنه غسّل رجلا ابتلي مسرفا بشرب بعض المحرمات، قال : فغسلته وطيبته ثم بعدما انتهيت إذا بي أشم الرائحة مما يشربه -والعياذ بالله- ويتعاطاه ، فإذا بها أنتن ما تكون ، ومنهم من تولى دفنه ، فلما أوسده في قبره قال فإذا بالقبر رائحته كلها -والعياذ بالله- برائحة الشيشة ، وهذا شيء يروّع قلب المؤمن، وفيه عبرة والحوادث عجيبة، ولو أذن لبعض الذين يتولون دفن الموتى وتغسيلهم أن يتحدثوا لأصاب الناس العجب، والسعيد من وعظ بغيره ، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يجبر كسرنا، وأن يرحم ضعفنا، وأن يستر عيبنا إنه ولي ذلك .
قال رحمه الله : [ ويجعل الطيب في مغابنه ومواضع سجوده ] : المغابن مثل تحت الإبطين والرفغين والفخذين وتحت الركبة هذه يضع فيها الطيب؛ لأن النتن فيها أكثر، فيضع الحنوط الذي هو أخلاط الطيب للموتى وهذا أبلغ، وتطيب مواضع السجود لشرفها وفضلها، وأثر أيضا عن بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- الأمر بذلك .(3/171)
قال رحمه الله : [ وإن طيبه كله كان حسنا ] : وإن طيب الجسد كله كان حسنا ؛ لأنه أكمل وأفضل . الطيب للموتى في تكفينهم مشروع ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عباس في الرجل الذي وقصته دابته يوم عرفة فمات : (( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه )) وفي بعض الروايات : (( ولا تمسوه بطيب ؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا )) فمنع من الطيب أن يطيبوه لكونه محرما فدل على أن الأصل في الميت أنه يطيب ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في ابنته زينب لما غسلت : (( واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور )) فأمر أن تطيب .
قال رحمه الله : [ ويجمر أكفانه ] : يجمر أكفان الميت فيجعل فيها الطيب والبخور تبخر، وهذا لأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن من ولي أمر أخيه المسلم بتغسيله وتكفينه أن يحسن إليه ، وهذا من الإحسان إليه أن يجمر الأكفان يطيبها .(3/172)
قال رحمه الله : [ وإن كان شارباه أو أظافره طويلة أخذ منها ولا يسرح شعره ] : أما بالنسبة للكافور ذكر بعض العلماء أن له خاصية أنه يطرد الهوام ، ولذلك يكون أبلغ في بقاء الجسد أكثر في القبر، وأن لا يسرع إليه الفساد، وأما بالنسبة للأخذ من الشارب وخصال الفطرة فللعلماء فيها وجهان : بعض العلماء يقول يترك الميت كما هو، وهذا أشبه بالأصل، ومنهم من يقول: إنه يقص شاربه، وينتف إبطه، وتحلق عانته، واختلفوا في العانة الذين قالوا بجواز الأخذ على قولين، بالنسبة لتقليم الأظفار وقص الشارب ونتف الإبط هذه الأمر فيها أخف عند من يقول بالأخذ، لكن العانة اختلفوا فيها على وجهين : منهم من قال بجواز حلقها ، ومنهم من لا يرى جواز الحلق ، وهذا كله راجع إلى الأمر بالإحسان إلى الميت، وهل يشمل هذه الأشياء أو لا ؟ فالذين يقولون إنه لا يمس يقولون إنهم مأمورون أن نترك الميت كما هو وأن لا نتصرف فيه ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أسرعوا بالجنازة )) وأمرنا أن نقوم بها على حاله وهذا هو الأصل ، والذين قالوا إنها تؤخذ أخذوا بالأمر بالإحسان ، ومن أحسن الإحسان تحقيق خصال الفطرة ؛ لأنه كما يأخذها في حياته يشرع أخذها بعد مماته .
قال رحمه الله : [ ولا يسرح شعره ] : ولا يسرح شعره وقد جاءت عن أم المؤمنين عائشة أنها أنكرت ذلك ، ومن أهل العلم من قال بمشروعية التسريح، وهذا من تعارض الأصلين كما ذكرنا وفي المرفوع بأمره بالإحسان ما يقوّي أنه يرد شعره ويسرح .
قال رحمه الله : [ والمرأة يضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل من ورائها ] : لوروده في السنة في حديث أم عطية -رضي الله عنها- في ابنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثلاثة قرون تجمع شقه الأيمن والأيسر والوسط ثم ترمى وراء ظهرها ، وقيل: قرن لمنتصف الرأس وقرن لشقيه ثم يرمى وراء ظهر المرأة .(3/173)
قال رحمه الله : [ ثم يكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها بيض لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال: (( إنها أطيب وأطهر وكفنوا فيها موتاكم )) فالأبيض هو أفضل الكفن وأحسنه، وتكون نظيفة نقية، وإن اختلفت في النظافة والنقاء ، فللعلماء وجهان : منهم من يقول: إن أفضلها يلي الميت؛ لأنه إحسان إليه، ويكون ما دون ذلك بعد، وقيل إن أحسنها يكون من الخارج، فلو كانت هناك ثلاثة أثواب، ثلاث لفائف الجيدة منها واحدة على القول الأول نجعل الرديئة أسفل ثم ما دونها فوقها ثم الجيدة في الأعلى حتى تلي جسد الميت، وعلى القول الثاني نجعل الجيدة مما يلي الناس هي الأفضل ثم الثانية ثم الثالثة، والقول بأنها توضع مما يلي الناس من أجل إكرام الميت .
قال رحمه الله : [ ليس فيها قميص ولا عمامة ] : لأن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (( كفن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة )) وهذا بالنسبة للاحتساب؛ لأنه قد غسل عليه الصلاة والسلام في قميصه، وهذا الأصل أنه يكفن ولا توضع عليه العمامة على رأسه ولا يعمم الرجل بخلاف المرأة يكون عليها خمار لرأسها ثم إذا وضعت هذه اللفائف يدرج فيها الميت، تُلَفّ اللفة الأولى تطبق ثم الثانية ثم الثالثة ثم يجعل الزائد من جهة الرأس الزائد يجعل من جهة رأس الميت ويعقد .
قال رحمه الله : [ يدرج فيها إدراجا ] : كما ذكرنا .(3/174)
قال رحمه الله : [ وإن كفن في قميص وإزار ولفافة فلا بأس ] : إذا كفن في قميص هذا لأعلى البدن، وإزار مثل الفوطة، ومثل إزار الإحرام، أو يكون عليه سروال وفنيلة ، الفنيلة للصدر والأعلى وبخاصة إذا كانت كمها متصلة لليد وهي في حكم القميص والإزار للأسفل ثم يلف بلفافة ويكون الثوب الثالث، وهذا لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل ستر أعلى البدن ثوبا جعل أسفل البدن ثوبا فقال : (( كفنوه في ثوبيه )) فجعل الإزار ثوبا والرداء ثوبا وعلى هذا قال يحتسب، والأفضل أن يكون لفائف كما حفظ عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في كفنه هذا أفضل شيء في الكفن، أن يكون ثلاثا ليس فيها قميص ولا عمامة، وأثر عن أبي بكر -- رضي الله عنه -- أنه شدد في ذلك وقال : (( إن الحي أحوج إلى الثوب من الميت )) من زهده -- رضي الله عنه - وأرضاه- والأصل يقتضي اتباع السنة والوارد لكن فعل أبي بكر يدل على الجواز .(3/175)
قال رحمه الله : [ والمرأة تكفّن في خمسة أثواب في درع ومقنعة وإزار ولفافتين ] : بدرع ومقنعة وإزار ولفافتين هذه خمسة أثواب، وإن كفنت في ثلاثة أكفان تدرج فيها فلابأس وهو اختيار طائفة من العلماء -رحمهم الله- ؛ لأن الإشكال في الحديث في حديث أم عطية رضي الله عنها في رفعه إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولا شك أن الصفة التي ذكرها : الدرع للصدر، والإزار لأسفل البدن، والخمار للرأس المقنعة، وكذلك اللفافتين تلف فيها بعد هذه الأثواب المفصلة على البدن فيصبح المجموع خمساً ؛ وقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه أعطى أم عطية حَقْوَة ، وقال : (( أشعرنها إياه )) وهذا من خصوصياته -عليه الصلاة والسلام- في ثوبه من بركته -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وقال : (( أشعرنها إياه)) يعني اجعلن هذا الحقو شِعَارا فليس بينه وبين جسد بنته شيء ، وهذا من خصوصيّاته -عليه الصلاة والسلام- ، ودليل على أن ما يتصل به عليه الصلاة والسلام له فضل، وأمر أن يوضع لها ثم لو أنه كان هناك مثلا عليها من اللباس لأسفل البدن كالإزار ولأعلاه مثل الدرع يقوم مقام القميص بالنسبة للرجل ثم بعد ذلك تلف في لفافة هذه ثلاثة أثواب أو ثلاث لفائف مباشرة فهي ثلاثة أثواب أو يوضع لها الدرع والإزار والمِقْنعة وتلف في لفافتين فهذه خمسة أثواب الأمر في هذا واسع . الخلاف هل تكون ثلاثة أثواب أو لابد من الخمس ؟ فإن صح الحديث فلا إشكال بالخمس وهو اتباع للوارد، والقول إذا صح الحديث لا يعترض عليه بأن المرأة تساوي الرجل إلا فيما دل الدليل ؛ لأننا نقول بالعكس بل دلّت الشريعة على أن ستر المرأة أقوى من ستر الرجل ، فلا مانع أن يختلف الحكم هنا .(3/176)
قال رحمه الله : [ وأحق الناس بغسله والصلاة عليه ودفنه وصيه في ذلك ] : من وصى الميت أن يغسله أو وصاه أن يغسله ويصلي عليه أو وصاه أن يغسله ويصلي عليه ويدفنه يتولى دفنه الأصل أنه لا يوصي إلا لمن كان من أهل السنة والعلم بالسنة ؛ تحرياً للسنة واتباعاً لها وله أن يوصي بالشهود ويقول إذا حضر أجلي فليشهدني فلان يكون من أهل العلم ويريد أن يطبق السنة بين أناس جهلة أو أناس عندهم بدع ومحدثات، فيخشى أنهم يحدثون هذه البدع فوصى أن يكون مثلا فلان من أهل بيته من قرابته من طلبة العلم من الأخيار من الصالحين من أهل العلم أراد أن تُحْي السنة وأن تمات البدعة فيوصي أهله وأولاده أنهم يدعون فلانا وأنهم يسمعون كلامه وأن يتبعوا ما يوصيهم به مادام أنه من أهل العلم؛ فهذا أبلغ في تحري السنة وله أصل، فإن أبابكر -- رضي الله عنه -- وصى أن تغسّله أسماء بنت عميس زوجه -رضي الله عنه وعنها- ووصى أن يصلي عليه عمر -- رضي الله عنه - وأرضاه- فوصى بأن يكون التغسيل لزوجه ووصّى بأن تكون الصلاة لعمر -- رضي الله عنه -- وكذلك وصى عمر أن يصلي عليه صهيب وابنه عبدالله بن عمر مكانه في الفضل لا يخفى، لكن وصى بأن يصلي عليه صهيب فقدم الإسلام على الرحم والنسب، وكذلك أيضا وصى الصحابة -رضوان الله عليهم- فعائشة –رضي الله عنها- وصّت بأن يصلي عليها أبو هريرة -- رضي الله عنه -- صاحب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وحِبّه وكذلك وصى أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- أن يغسله محمد بن سيرين إمام التابعين وكان مسجونا في الدَّين فأخرج من السجن فغسل أنساً وكفّنه وصلى عليه، وما زال العمل على ذلك عند أهل العلم -رحمهم الله- بالوصية أن يغسلوا ويكفنوا إن وسع الأمر هذا ولم يكن فيه إحراج على من يوصى إليه ، فالوصية لا تكون فيها محاباة ، ولا يقصد بها الإضرار والإهانة ، فالبعض يوصي أن يغسله فلان من الخؤولة لكي يغيظ أبناء عمه ، وممن يوصي ابن عمه الأبعد(3/177)
لكي يغيظ ابن عمه الأقرب، وهذا من قطيعة الرحم، فعليه أن يتقي الله وأن يكون لوصيته أصل شرعي وغرض صحيح من تحري السنة، وأن يكون من أهل الفضل كما فعل الصحابة بعضهم مع بعض -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين- وعلى هذا لا يجوز أن يتخذ حتى إن بعض العلماء يقول من علامة سوء الخاتمة الجور في الوصية والإضرار فيها قال إن هذا من سوء الخاتمة؛ لأن بعض المعاصي إذا فعلت في الوصايا اقتضت دخول النار وبخاصة إذا كانت من الكبائر كقطيعة الرحم وعقوق الوالدين أو يوصي بأمر فيه ظلم وحملوا عليه قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )) على أنه دخول أهل التوحيد لا دخول الخلود، فقالوا يسبق عليه الكتاب مثل أن يجور في وصيته، مثل أن يظلم، مثل أن يوصي وصية بقطيعة رحم فهذه كبيرة ، وهذه الكبيرة تقتضي دخوله للنار فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها سواء كان دخولا أبديا إذا ختم عليه بالكفر -والعياذ بالله- أو دخولا لذنب ومعصية من الكبائر شاء الله أن يعذبه بها ، فعليه أن يتقي الله ، ولا يوصي إلا بسبب شرعي ؛ أما إذا وجد في القرابة والعصبة من هو قائم بهذا فيقدمه ، فلاشك أنه أولى حتى يصل رحمه، ويطيّب خواطر الرحم، وهذا فعل أكثر الصحابة -رضوان الله عليهم- .(3/178)
قال رحمه الله : [ ثم الأب ] : الأب لأن منزلة الأب مقدمة على المنازل كلها من جهة العصبة، فالأب هو المقدم، ولذلك يحجب الإخوة ، والأب فضله أعظم من فضل الابن فقدم الأب على الابن وقال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ } فقدم الآباء على الأبناء ، فدرجة الآباء في العصبة أقوى من درجة الأبناء من هذا الوجه ، فيصلي عليه أبوه ، يشمل الأب ثم أبوه وإن علا إذا تمحّضَ بالذكور وهو أب الأب وإن علا دون أب الأم وهو الجد من جهة الأم ، أو من أدخل الأنثى كأب أم الأب وهذا جد ولكنه ليس بمتمحض للذكور، المراد به الأب العاصب سواء كان مباشرا وهو أبوه أو كان غير مباشر وهو جده ؛ لأن الله سمى الجد أبا فقال : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} فيقدم الأب ثم الابن؛ لأنه فرعه ، فيقدّم في الصلاة عليه على إخوانه الأشقاء وإخوانه من الآباء وإخوانه لأم وعلى أعمامه وعلى أخواله وسائر قرابته من العصبة وغيرهم، ثم بعد الابن الأخ الشقيق يقدم أخوه الشقيق في الصلاة عليه إذا لم يوجد أب ولم يوجد ابن أو وجد ابن لا يصلح للصلاة عليه فيقدم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ الشقيق، ثم ابن الأخ لأب وعند بعض العلماء الأخ الشقيق، ثم ابنه، ثم الأخ لأب، ثم ابنه ، وبعد درجة الإخْوة؛ لأن الأخ يشارك من جهة الأقرب وهو الأب؛ ثم العم لأنه يشارك في أصل الأصل ، فالأخ يشارك في الأصل المباشر والعم يشارك في أصل الأصل وهو الجد، ولذلك العم هو من شارك الأب في أحد أبويه أو فيهما معا كالعم الشقيق أو أحدهما كالعم لأب أو لأم ، فيقدم الأخ الشقيق ثم الأخ لأب ، ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب ، ثم العم الشقيق، ثم العم لأب ثم ابن العم الشقيق ثم ابن العم لأب، ثم الأقرب فالأقرب من العصبة . فلو وجد ابن ابن عم وابن عم قُدم ابن العم على ابن ابن العم منزلته أقرب والقوة واحدة وهي العمومة . العصبة من جهة العمومة على كل حال هذا ترتيب(3/179)
للعصبة والأولياء ميراثا واستحقاقا , والكلام في العم الشقيق والعم لأب كالكلام في الأخ الشقيق والأخ لأب هل منزلة أبنائهم بعدهم مباشرة أو بعد من يساويهم في الرتبة ؟
قال رحمه الله : [ ثم الجد ثم الأقرب فالأقرب من العصبات ] : ثم الأقرب فالأقرب من العصبات لما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ وفي غسل المرأة الأم ] : تقدم في غسل المرأة الأم ثم أمها وإن علت بمحض الإناث ؛ لأن القوة مستمدة من جهة الرحم الأمومة، ثم البنت ، فالبنت تقدم على الأخت، فلو وجدت بنت وخالتها قدمت البنت في التغسيل على الخالة إذا اشتجروا لكن لو أن البنت تنازلت فحينئذ تقدم الخالة ولا بأس أن يشترك الجميع وهذا محفوظ حتى في غسل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- علي وعباس حينما توليا تغسيل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ ثم الجدة ثم الأقرب فالأقرب من نسائها ] : على التفصيل الذي ذكرناه .
قال رحمه الله : [ إلا أن الأمير يقدم في الصلاة على الأب ومن بعده ] إلا أن الأمير يقدم في الصلاة على الأب فمن بعده يعني يقدم على القرابة كلهم ؛ أما على الوصي فلا ، فالظاهر من فعل السلف الصالح أن الوصي مقدم ولذلك وصت أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها-أبا هريرة فصلى - رضي الله عنه - مع وجود الأمير وهذا هو الحق الخاص، وحينئذ لما يوصي أن يصلى عليه شخص فهو أولى بالصلاة عليه من غيره ، لكن لو أنه احتاط في وصيته وكان الإمام الجامع للمسجد العام فالأفضل أن يترك الصلاة إليه ، لكن لو عين وصيا فالأصل يقتضي أن الوصيّ مقدم على الأمير وغيره؛ لأنه قد وصى وهو أحق .(3/180)
قال رحمه الله : [ والصلاة عليه يكبر ويقرأ الفاتحة ] : والصلاة على الميت يكبر تكبيرة الإحرام وهذا إجماعا ويقرأ الفاتحة على الصحيح وهو مذهب الجمهور؛ لثبوت السنة في ذلك في حديث ابن عباس وغيره ، ولعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وصلاة الجنائز صلاة ، فيقرأ الفاتحة وعلى هذا لا يقرأ دعاء الاستفتاح ولا يشرع الاستفتاح في صلاة الجنائز ، وقد قال به بعض الفقهاء من أصحاب الإمام أبي حنيقة وشنع عليهم البعض ولا حق لهم في التشنيع . لك أن ترجح قولا لكن أن تستهجن به وتقول هذا من البدع فليس بصحيح ؛ لأن أصحاب الإمام أبي حنيفة الذين قالوا بدعاء الاستفتاح بنوا على عموم حديث عائشة: (( كان إذا استفتح الصلاة ققال سبحانك اللهم )) وهذه صلاة كما تحتج بقوله : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وسميت الصلاة على الجنازة صلاة . قالوا بهذا القول والمنبغي لطالب العلم أن يتحفظ من أذية السلف والعلماء والأئمة وتبديعهم في الأقوال المحتملة في المسائل الخلافية الفرعية لا يشنع فيها هذا التشنيع ويهوّل هذا التهويل وبخاصة إذا جهل الإنسان الدليل .
قال رحمه الله : [ ثم يكبر ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ] ثم يكبر التكبيرة الثانية فيصلي على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو المحفوظ من صفة صلاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في السنة المرفوعة في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- فيصلي على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الصلاة الإبراهيمية لقول النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( قولوا اللهم صل على محمد )) هذا هو الأصل، وإن تعذر عليه أو لا يستطيع أو لا يحفظها صلى عليه أقل ما يصدق عليه أنه مصلّ عليه -- صلى الله عليه وسلم -- فلو قال: اللهم صل على محمد صح .(3/181)
قال رحمه الله : [ ثم يكبر ويقول : اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا ] : هذا الدعاء : اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا ، هذا محفوظ من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- في دعائه –عليه الصلاة والسلام – للميت . وأيضا حفظ من دعائه في حديث عوف بن مالك وكلاهما صحيح في قوله –عليه الصلاة والسلام- - : (( اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد وفي بعض الروايات : (( بالماء والثلج والبرد )) ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، اللهم إن كان محسنا فزد له في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه )) . هذا كله من اختلاف الأنواع . وأنه لا بأس إذا جاء بهذا الدعاء أو بهذا الدعاء أو جمع بينهما . والعبرة عند العلماء – رحمهم الله عليهم - بأقل ما يصدق عليه أنه دعاء حي لميت ، فإن عجز عن حفظ هذا الدعاء فقال : اللهم ارحمه اللهم اغفر له أجزأه .
ومذهب الحنابلة والشافعية وطائفة على أن صلاة الميت على هذا التقسيم .
ومن أهل العلم من قال: إن صلاة الميت شفاعة ، فيشرع فيها الدعاء ، ويقتصر فيها على الدعاء للميت ، ولا يلزم هذا الترتيب وظاهر السنة الوارد مما ذكره المصنف رحمه الله : الفاتحة في التكبيرة الأولى ثم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التكبيرة الثانية ثم الدعاء للميت في التكبيرة الثالثة .
[ إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير . اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته فتوفه عليهما ] اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان هذا اللفظ المرفوع عنه –عليه الصلاة والسلام – وأعذه من فتنة القبر وفي بعض الروايات : (( أو عذاب النار )) وفي بعضها : (( من فتنة القبر )) (( وأعذه من فتنة القبر وعذاب النار )) على التشريك .(3/182)
[اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ] هذا دعاؤه في حديث عوف بن مالك حتى قال عوف -- رضي الله عنه -- وددت أني ذلك الميت لما سمع : (( اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس )) دعاء عظيم ، ولذلك يشفع أخوه المؤمن لأخيه المؤمن بهذا الدعاء وهذا يدل على عظمة الإسلام وأخوة الإسلام التي لم تنقطع حتى بعد الموت فهو يشفع له هذه الشفاعة ، فما من مسلم يقوم عليه أربعون يشفعون له إلا شُفّعوا ، لو صلى عليه أربعون فقط أوجبوا ، وهذا من رحمة الله -- عز وجل -- ولطفه لعباده.
[ وأبدله دارا خيرا من داره ] وهي دار الآخرة . هذا من الإشارة إلى أن يكون من المؤمنين السعداء وهم الذين جعل الله لهم الاخرة ، ولذلك قال الله - سبحانه وتعالى - : { تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} فالأصل أن الله -- سبحانه وتعالى -- جعل للمؤمنين الدار الآخرة، فبمجرد قبض أرواحهم وانتقالهم من دنياهم فقد ولى عنهم الغم والهم ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - حينما حضرته الوفاة ونزلت به سكرات الموت قالت فاطمة : واكرباه ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا كرب على أبيك بعد اليوم )) .
فقال : (( أبدله دار من داره )) لأن الله جعل الدار الآخرة للمؤمن خيراً من الدنيا ، ففيها يجبر الله كسره، ويعظم أجره، ويجزل مثوبته، ويعوضه عن متاع الدنيا الزائل ونعيمها الحائل، ووسخها وقذرها هذه الدار الملعونة الملعون من فيها إلا ذكر الله وما والاه .(3/183)
وهذه الدار التي هي أحقر ما تكون حتى إنها لو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى فيها الكافر شربة ماء ، فلذلك دعا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بهذه الدعوة لكي يعلم كل مؤمن أن الدار الآخرة خير وأعظم { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } خير وأبقى فهي الباقية الكاملة فإذا ولى المؤمن فإنه يولي إلى السعادة التي لا شقاء بعدها أبدا، وإلى النعيم المقيم والرضوان العظيم { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ }، فإذا تولت الدنيا عن المؤمن ظن الناس أن الميت مسكين، وجلسوا يبكون عليه حسرة من بكى عليه بكاء أخوة وشفقة وعطف فلا إشكال، لكن أن يظن أن حاله سيكون أبأس فهذا من الجهل بالله ؛ لأن الله يقول : { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }. وأثر عن مالك بن أنس -- رضي الله عنه -- رحمه الله أنه لما حضرته الوفاة وهو إمام من أئمة المسلمين في العلم والعمل لما حضرته الوفاة غُشي عليه ثلاثة أيام وأفاق يوم الأربعاء فقيل: كيف أانت يا أبا عبدالله ؟ فقال : ما أراني إلا ميتاً يعني أرى أني قد نزل بي أمر الله ولكنكم ستعاينون من رحمة الله ما لم يخطر لكم على بال .(3/184)
فقال : [ أبدله دار خيرا من داره ] وهذا هو حال المؤمن أن الله يبدله داراً خيرا من داره ، يهان في الدنيا فيكرمه الله في دار الآخرة ، ويذل في الدنيا فيعزه الله في الآخرة ، حتى إنه يهان بين زوجه وأهله وولده فإذا انتقل إلى الحور العين كان ما أعد الله له مما لم يخطر على قلب بشر، فبين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه يبدل دار خيرا من داره دار صدق لا كذب فيها، ودا ر حق لا باطل فيها. { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} فهي الدار ونعم الدار، فينتقل المؤمن إلى خير وأخير وأفضل حتى إن ولي الله المؤمن لو خُير عند نزع روحه وقد رأى منزلته بين أن يرجع إلى الدنيا وأهله وولده وبين ما أعد الله من النعيم لاختار الموت على أن يرجع إلى أهله وولده، وهذا من عظيم ما أعد الله . { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا } الكبير من الله ليس بالسهل الذي يقول عنه الله كبير فهو كبير : (( أعددت لعبادي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر )) هذا مع أنه وصف النعيم في القرآن، وهذا يدل على عظم ما أعد الله من النعيم، فيستبشرون برحمة الله ، ولذلك أثر عن السلف انه انشرحت صدورهم عند قبض أرواحهم وهذا رسول الأمة يقول : (( اللهم الرفيق الأعلى )) وخيّر بين الدنيا وبين أن يلقى ربه فاختار ربه فبكى أبو بكر -- رضي الله عنه - وأرضاه- كما في الحديث الصحيح .
فقوله : (( أبدله دار خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله )) وهذا إشارة إلى ما يكون من إكرام الله للمؤمن في الآخرة كما قال تعالى : { وزوجناهم بحور عين } فهو النعيم المقيم والمقام الكريم من أكرم الأكرمين - سبحانه وتعالى --- .(3/185)
[ وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه ]: وفي بعض الألفاظ زوجة . وزوجا خيرا من زوجه هذا بالنسبة للرجل، وأما المرأة فيقتصر على قوله : وأبدلها داراً من دارها؛ لأن المرأة لا تكون إلا لزوج واحد . واختلف العلماء إذا توفيت ولها أكثر من زوج ، وكان قد تزوجت أكثر من زوج فتوفوا عنها ولم يطلقوها ، وأما إذا طلقت ، ففارقها الأول وتزوجها الثاني فلا إشكال عافها وعافته وتفرقا، وأغنى الله كلاً من سعته، لكن لو أنه توفي عنها زوجها الأول كما حدث لأم سلمة وقد نكحت بعده ثلاثا أو أربعا كما حدثت لأسماء بنت عميس -رضي الله عنها- تزوجت بأكثر من صحابي . قال بعض العلماء : إنها تخير لمن تكون في الآخرة . وقال بعض العلماء : إنها تكون لأفضلهم وأحسنهم خلقا . وهذا فيه فضل الخلق الحسن . في حديث أم سلمة -رضي الله عنها- في صحيح ابن خزيمة أنها سألت النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقالت: المرأة تكون لأكثر من زوج لمن هي يوم القيامة يا رسول الله ؟ قال : (( هي لأحسنهم خلقا )) . فدل على فضل حسن الخلق .
فقوله في المرأة يقول : أهلا خيرا من أهلها ودار ا خيرا من دارها ، وأما الرجل فيقول: زوجا خيرا من زوجه مع ما سبق .
[ وجوارا خيرا من جواره ] : وهو جوار رب العالمين ؛ ولذلك جاء في المرفوع : (( اللهم فلان بن فلان ابن عبدك وابن أمتك في جوارك وذمتك )) ، فأثبت أن الميت في جوار الله -- عز وجل -- ولذلك يشرع هذا ؛ لأنه من الوارد يقال في جواره .
قال الشاعر :
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
والميت انتقل إلى جوار الله وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام : (( اللهم الرفيق الأعلى )) [ وزوجا خيرا من زوجه ] : في الرجل دون المرأة .(3/186)
[ وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار وافسح له في قبره ونوره له فيه ] : هذه الدعوة محفوظة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه دخل على أبي سلمة --- رضي الله عنه - وقد قبض فسمع الصوت في الدار فقال : (( لا تدعو على أنفسكم فإن الملائكة يؤمنون )). ثم قال عليه الصلاة والسلام : ((اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره ونور له فيه )) . فهذه دعواته المباركة الطيبة -صلوات الله وسلامه عليه- . (( اللهم اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المهديين ، واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونور له فيه )) وهي دعوات عظيمة ، وهكذا كانت دعاءه -عليه الصلاة والسلام- من جوامع الكلم .
قال رحمه الله : [ ثم يكبر ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه ] : فلا يدعو بين التسليم والتكبيرة الأخيرة وإن دعا فلا بأس .
قال رحمه الله : [ ويرفع يديه مع كل تكبيرة ]: وهذا الرفع فيه وجهان .لم يحفظ عن الرسول -- صلى الله عليه وسلم -- مرفوعا ، وحفظ عن ابن عمر-- رضي الله عنه -- موقوفاً ، وابن عمر عرف باتباع السنة واتباع النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فمن يقول بشرعيته يقول إن ابن عمر لم يفعل هذا إلا تأسياً بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فمن رفع لا ينكر عليه ومن لزم الأصل لا ينكر عليه ، وإن رفع أحيانا وترك أحيانا فلا بأس .
قال رحمه الله : [ والواجب من ذلك التكبيرات والقراءة والصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ] : التكبيرات كما تقدم في تكبيرات الانتقال، وتكبيرة الإحرام لا إشكال في ركنيتها، والصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ؛ لقوله : (( قولوا : اللهم صل على محمد )) وقد صلى في صلاته على الجنازة فبقيت على الأصل.(3/187)
قال رحمه الله : [ والصلاة على النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأدنى دعاء حي للميت] أدنى : أقل ، نقول : الأفضل الوارد ، فإن لم يحفظ دعا بأي بدعاء هذا أصل عند العلماء -رحمهم الله- أنه إذا دعا صار الموضع موضع دعاء . نقول الأفضل الوارد إن تعذر عليه الوارد دعا بالمعنى العام . يعني إما أن يطبق السنة لفظا ومعنى أو يطبقها معنىً إن عجز عن اللفظ . أدنى دعاء حي على ميت كقوله : اللهم ارحمه اللهم اغفر له اللهم تجاوز عنه ونحو ذلك .
قال رحمه الله : [ ومن فاتته عليه الصلاة صلى على قبره إلى شهر ] : هذا هو أحد أقوال العلماء -رحمهم الله- في مشروعية الصلاة على الميت بعد دفنه . وفيه حديث المرأة السوداء التي تقم المسجد ، وللعلماء فيه وجهان : منهم من قال بالجواز مطلقاً ، تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، فيجوز أن يصلى على كل مقبور إذا لم يحضر صلاته كأن يكون مسافرا ثم يقدم فيصلي عليه في قبره إلى شهر، ومنهم من قال إن هذا خاص ؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : (( لما صلى على المرأة السوداء : إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم )) وهذا ظاهر الحال أنه فعله مع المرأة السوداء ولم يفعله مع غيرها ، لأنهم احتقروا وتقالوا شأنها فصلى عليها -- صلى الله عليه وسلم -- وأما إذا كان غائبا فلم يحفظ عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه إذا قدم من السفر يقف على قبور الصحابة الذين قبضوا أثناء سفره وقد توفي عدد من الصحابة أثناء غيابه -عليه الصلاة والسلام- وأسفاره فلم يحفظ أنه قام على قبورهم وصلى عليهم بعد دفنهم . فالقول بأنها قضية عين أقوى وأقرب للصواب -إن شاء الله- ، وإن تأول القول الثاني فلا ينكر عليه .(3/188)
قال رحمه الله : [ وإن كان الميت غائبا عن البلد صلى عليه بالنية ] : الميت الغائب تشرع الصلاة عليه؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- في صلاته –عليه الصلاة والسلام- على أصحمة النجاشي ، ففي الصحيحين عنها -رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نعى النجاشي فقال : (( توفي اليوم عبد صالح)) ثم قام فصفهم فصلى بهم عليه وهذا من صلاة الغائب . فللعلماء في تطيبق هذه السنة ببيان الأصل في ورودها أوجه :
منهم من قال: أصحمة النجاشي كان بأرض غير أرض الإسلام ، فلا يصلى صلاة الغائب إلا على من مات في بلد لا يصلى عليه فيه. وبقي ما عدا هذه الصورة الواردة على هذا الوجه الخاص عل الأصل العام أنه لا يصلى عليه .
ثانيا : منهم من قال: إن أصحمة كان له فضل على المسلمين مع كونه في بلد غير مسلم لكن كان له فضل؛ ولذا في الحديث الصحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : ( إن بالحبشة ملكا لا يظلم عنده أحد)) فأمر أصحابه أن يتحولوا إلى الحبشة ، فمن كان له فضل على المسلمين فألحقوا به العلماء وأئمة العدل الذين لهم فضل على الإسلام والمسلمين إذا توفوا يصلى عليه صلاة الغائب وحكى الحافظ ابن كثير في البداية عن السهيلي الإجماع على أن هذا أقرب إلى الخصوص وأنه لا يفعل إلا في الأحوال الخاصة ، وإذا كان ممن له فضل على المسلمين وعظم بلاء أو توفي في موضع لا يصلى عليه فإنه يشرع أن يصلى تحقيقا لصورة السنة الواردة في قضية النجاشي وإلا ما كان عليه الصلاة والسلام في سفره كذلك حينما كان في حضره ينزل عليه الوحي بوفاة أصحابه ما كان يصلي عليهم صلاة الغائب وما فعل ذلك إلا في حالة خاصة وعلى صورة خاصة فتقيد بالوارد وهذا أشبه وأقوى .(3/189)
لأن الناس توسعوا في هذا ، الرجل تموت أمه في بلد إسلامي أو تموت في الرياض وهو في المدينة يقوم ويصلي عليها صلاة الغائب ، بعض الأحيان يأتي لإمام المسجد ويقول: والله أمي سافرت للعلاج وقد يكون بلدا إسلاميا توفيت أريد أن تصلي عليها صلاة الغائب فيقول: قوموا نصلي على أم فلان . هذا كله مما يخالف أو لا يتفق مع الأصل العام الذي يقتضي أن ما جاء على صورة خاصة في السنة يقيد بالوارد . وتوسع الناس في هذا في النفس منه شيء ، لكن بالنسبة للقول الذي قال بمشروعية الصلاة على الغائب له وجه لا ينكر عليه، إنما نقول إن الأشبه والأقرب تطبيق السنة كما وردت .
قال رحمه الله : [ ومن تعذر غسله لعدم الماء ] : ومن تعذر غسله لعدم الماء : لم يوجد الماء يمم .
قال رحمه الله : [ أو الخوف عليه من التقطع ] : أو الخوف عليه من التقطع أو الفساد كما في المحروق إذا توفي بالحرق إذا غُسّل يتعفن ويصدأ جلده وينتن، والمجدور، ومن به مرض معدٍ يضر، هذا بالنسبة للضرر على الميت، وقد يضر بالحي المغسِّل ، كأن يكون به مرض معدٍ يعني بالاستقراء وشهادة أهل الخبرة أنه لو تولى أحد تغسيله يستضر فحينئذ يممّ ، يمم بالتراب على كفيه ، ثم يضرب الغاسل كفيه على الأرض أيضا ثم يمسح وجهه ، فيمسح وجهه أولا ثم يضرب ضربة ثانية إذا أراد أو الضربة الأولى فيمسح بها كفيه على ما ذكرنا في صفة التيمم الكاملة والمجزئة الكاملة ضربتان والمجزئة ضربة واحدة للوجه والكفين على ظاهر قوله -- صلى الله عليه وسلم -- كما في الصحيحين : (( إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا )) . فضرب بهما الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه .
قال رحمه الله : [ كالمجدور والمحترق ] : المجدور من به الجدري ، والمجدور يتضرر ويضر غيره ، والمحترق كذلك يتضرر في نفسه .(3/190)
قال رحمه الله : [ أو كون المرأة بين رجال أو الرجل بين نساء فإنه يمم ] : المرأة لا يغسلها الرجل إلا الزوج ، لأن عليا -- رضي الله عنه -- غسل فاطمة في محضر الصحابة ولم ينكر عليه وهو مذهب الجمهور ؛ ولأن أسماء بنت عميس غسّلت أبا بكر -- رضي الله عنه -- وأوصى أن تغسله وهذه سنة راشدة . فالمرأة تغسل الرجل وفيه حديث عائشة –رضي الله عنها- مرفوعا : (( لو أنك مت لغسلتك وكفنتك )) وكذلك الأصل يقتضي أن الزوجية قائمة وعلى هذا يجوز له أن يتولى تغسيل زوجته.
أما لو توفيت المرأة وليس لها زوج وليس هناك نساء فإنها تُيَمم ، ييمّمها محارمها إن وجدوا ، يقومون بتيميمها، ثم بعد ذلك تلف في الثياب ويصلى عليها .
انظر رحمك الله كيف راعت الشريعة حرمة العورات والسوءات ، وانظر هذا الحال في وجود عبادة التغسيل ولا يستطيع ابنها الذي هو محرم أن يتولى تغسيلها ، فما بالك باستهتار الناس اليوم من دخول النساء للكشف عند الضرورة وغير الضرورة ، وما بالك في الكشف عن العورات واستباحة السوءات حتى عند بعض الأطباء من دون حاجة ، وأقل ما تجد المرأة من ألم في المواضع المحرمة والمغلظة وإذا يستباح النظر واللمس والإيلاج ولربما يوضع اللولب المحرم فيستبيح النظر والإيلاج والمس الذي محارم دونها من الأمور العظيمة ما الله به عليم .
وقد تفحص المرأة فحصا وقائيا ليس بضرورة ولا حاجة فيستباح النظر إلى الفرج ولمسه ولربما الإيلاج فيه، وهذه امرأة يحتاج إلى تغسيلها وتكفينها فإذا بهذا كله يسقط لعدم وجود المرأة من مثلها؛ لأن الجنس مع الجنس ضررها أخف . ولا يستطيع قريبها أن يليها .(3/191)
أما المسألة الثانية : فمن البدع والمحدثات أن الابن يتولى تغسيل أمه كما يفعل البعض ، المرأة يغسلها النساء ولا يغسلها الرجل لا أبوها ولا ابنها ما دام أنها بالغة ، وهذا أصل ينبغي أن ينتبه له، وينبه هؤلاء الجهلة حتى إن بعضهم يقول من بره لأمه أنها ما يغسلها غيره ، فالله لايطاع من حيث يعصى ، الرجل لا يغسل المرأة وإنما يغسلها النساء فينبغي تنبيه هؤلاء الجهال وتعليمهم .
قال رحمه الله : [ إلا أن لكل من الزوجين غسل صاحبه ] : لما ذكرنا ، وهو أصح قولي العلماء، سواء الزوج مع الزوجة ، أو الزوجة مع الزوج . وفرق الحنفية -رحمهم الله- وخالفوا في المسألة ، فرخصوا للرجل أن يغسل المرأة دون العكس ، لكن السنة دالة على ذلك في حديث عائشة -رضي الله عنها- عند ابن ماجه وصححه غير واحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( لو أنك مت لغسلتك وكفنتك )) فهذا يدل على أن الزوج يغسل زوجته ، ولأن عليا -- رضي الله عنه -- غسل فاطمة بعد وفاتها والعكس لأن أسماء بنت عميس غسلت أبابكر -- رضي الله عنه -- وهذا الذي يشدد به الحنفية فيقول بموت الزوج تنقطع الزوجية . والصحيح أنها لا تنقطع بالموت، وعلى هذا يجوز للزوج أن يغسل زوجته والزوجة أن تغسل .
قال رحمه الله : [ وكذلك أم الولد مع سيدها ] : لأنها في حكم الزوجة ، وهي تعتق عليه بعد موته، فيرد الإشكال : هل لا يزال قائم الحق أو ليس بقائم ؟ كالموت بالنسبة للزوج مع زوجته واختار المصنف -رحمه الله- مذهب طائفة أن أم الولد تستبيح تغسيلها لوليها . طبعا هي الأمة التي تسرّاها وليها وهي تنجب، فإذا أنجبت صارت أم ولد تعتق عليه بعد موته، فإذا مات صارت حرة لأن الولد سيرث أباه، وحينئذ لا يكون مالكا لأمه، فأم الولد تعتق بعد وفاة السيد.(3/192)
قال رحمه الله : [ والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل ولم يصل عليه ] : والشهيد قتيل المعركة لم يغسل ولم يصلّ عليه لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما استشهد الصحابة يوم أحد قال عليه الصلاة والسلام : (( زمّلوهم في ثيابهم فإني شهيد لهم يوم القيامة )) أي أشهد لهم بين يدي الله أنهم قتلوا في سبيله . فالشهيد لا يغسل؛ لأن دم الشهيد أثر فضل فيبقى عليه ويلقى الله -- عز وجل -- بدمائه ويجمع بثيابه التي عليه، فإن كان عليه السلاح نزع السلاح منه وتبقى ثيابه إلا إذا كان تقطعت الثياب أو كشفت عورته فيضاف له ذلك . هذا الشهيد هو شهيد المعركة سمي شهيدا؛ إما لأن الملائكة تشهده عند قتله كما في الصحيح عن جابر -- رضي الله عنه -- أنه لما قتل أبوه صار يكشف الثوب عن وجهه ويبكي فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ابكه أو لا تبكيه مازالت الملائكة تظله حتى رفعته إلى السماء)) فقيل سمي شهيدا ؛ لأنه يُشْهد له بالخير، وقيل: لأن الملائكة تغسله أو تشهد تغسيله إلى غير ذلك مما ذكره ا لعلماء، لكن الشهيد الذي يعنيه العلماء يشترط له الشروط :
الشرط الأول: أن يكون قد قتل في سبيل الله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) فلا يقاتل عصبية ولا حمية ولا تحت راية عُمّية يعني يقاتل في أرض ليس فيها ولي أمر المسلمين وليس فيها راية جهاد إسلامي فهكذا عُمّية وهذا فيها وعيد شديد -والعياذ بالله- يوم القيامة من قتل تحت راية عُمّية، ويقتل صابرا مقبلا غير مدبر؛ لأن التولي عن الزحف أمره عظيم إلا إذا كان في كرّ وفر فهذا مرخص فيه .(3/193)
والأمر الثالث: حتى تسري عليه أحكام الشهيد من عدم تغسيله والصلاة عليه أن تكون وفاته وقبض روحه في أرض المعركة فلو سحب وحمل من أرض المعركة أو نقل ولو نقلة واحدة وهو حي ثم مات مباشرة فحينئذ يغسل ويكفن ويصلى عليه كما فعل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بسعد -- رضي الله عنه -- الذي اهتز عرش الرحمن لموته -- رضي الله عنه -- فإنه انتقض عليه جرحه الذي ضرب به بسهم في يوم الخندق، فسأل الله إن بقي شيء من قتال قريش أن يمد في عمره وإن لم يبق أن تنتقض عليه جراحه فانتقض عليه جرحه فمات، فأصل الموت من الغزو من القتال لكنه لم يمت في ساحة المعركة، هذا بالنسبة للشهيد لا إشكال فيه .
أما درجات الشهداء: فالمبطون شهيد والحريق شهيد والميت في الهدم شهيد والغريق شهيد والنفساء شهيد والمقتول ظلما شهيد، أما المقتول في قتال أهل البغي والعدوان والظلم فللعلماء وجهان :
منهم من قال: إن من قتل في قتال أهل البغي يعتبر شهيدا لا يكفن ولا يغسل ولا يصلى عليه ، وهذا في الحقيقة النفس تطمئن إليه أكثر، وأثر عن علي -- رضي الله عنه -- وأثر عن بعض الصحابة أنهم نزلوه منزلة الشهداء كما في قتال الخوارج، وهذا هو الأشبه أنهم لا يغسلون ولا يكفّنون إذا ماتوا في حال المواجهة، وهو الذي تطمئن إليه النفس، وتردد الإمام ابن قدامة -رحمه الله- في المسألة في المقتول في البغي والبغاة، ولاشك أنه من أعظم الجهاد والقتل في سبيل الله أن يقتل في قطع دابر المحاربين لله ورسوله فلاشك حتى إن بعض السلف يرى أن الشهادة في قتال المعتدين على حرمات المسلمين أعظم من الشهادة في سبيل الله؛ لأن الشهادة في سبيل الله جهادها جهاد طلب والشهادة في دفع هؤلاء جهادها جهاد الدفع، وجهاد الدفع أعلى مرتبة؛ لأنه آكد وجوبا من جهاد الطلب وهذا استنباط لطائفة من أئمة السلف -رحمهم الله- والنفس تطمئن إليه .(3/194)
فالشاهد من هذا اختلف في هذا النوع من الشهداء والأقوى والأقرب أنهم يعاملون معاملة الشهداء بشرط أن لا يموت حمية ولا عصبية؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) .
قال رحمه الله : [ وينحى عنه الحديد والجلود ثم يزمّل في ثيابه ] : يزمل يجمع في الثياب كما هو لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال في شهداء أحد : (( زملوهم في ثيابهم فإني شهيد لهم يوم القيامة )) .
قال رحمه الله : [ وإن كفن بغيرها فلا بأس ] : كفن بغيرها بعض الأحيان مثل ما ذكرنا أثناء الضرب تتشقق ثيابه وقد تنكشف عورته فلا بأس بذلك ولا حرج أما إذا كانت ساترة فإنه يجمع بثيابه كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( زملوهم في ثيابهم )) فهذه هي السنة والوارد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ والمحرم يغسل بماء وسدر ] : والمحرم يغسل بماء وسدر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( اغسلوه بماء وسدر )) فالسدر للتطييب والتنظيف والماء للغسل .
قال رحمه الله : [ ولا يلبس مخيطا ] : أما بالنسبة للطيب فلا يوضع في الماء، فلا يغسل المحرم بالصابون الذي فيه طيب، إنما يغسل بصابون الزيت ونحو ذلك مما لا طيب فيه، والسدر كما ذكرنا يضرب فتخرج رغوته مثل الصابون ثم يدعك بها بدنه كالحال في تغسيل الميت إلا أن الفرق فقط أن هذا يطيب وهذا لا يطيّب وهو المحرم؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ولا تمسوه بطيب )) وقال : (( ولا تحنطوه )) .
قال رحمه الله : [ ولا يلبس مخيطا ] : ولا يلبس مخيطا يعني لا يجعل عليه قميص ولا الثوب المفصل ، المخيط هو المحيط بالعضو فيشمل السراويل والقميص، وكذلك أيضا غطاء الرأس كالبرانس والعمامة؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ولا تغطوا رأسه )) .(3/195)
قال رحمه الله : [ ولا يقرب طيبا ولا يغطى رأسه ] : قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ولا تمسوه بطيب )) وقال : (( فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا )) والمحرم لا يطيّب؛ قال - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي أحرم بالعمرة : (( واغسل عنك أثر الطيب )) وقال : (( ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران والورس)) فلا يطيّب المحرم في كفنه ثياب الكفن ولا يطيب في بدنه ويكفن في الثوبين الإزار والرداء .
قال رحمه الله : [ ولا يغطى رأسه ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ولا تغطوا رأسه )) المحرم محرم عليه غطاء الرأس وقال: (( ولا تلبسوا القمص ولا العمائم )) والعمامة غطاء الرأس .
قال رحمه الله : [ ولا يقطع شعره ولا ظفره ] : ولا يقطع شيء يقص من شعره سواء كان على الرأس أو كان في الإبطين أو العانة كالحال في المحرم ولا يقلم أظفاره .
قال رحمه الله : [ ويستحب دفن الميت في لحد ] : ويستحب دفن الميت في لحد؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اختلف فيه الصحابة، كان بعضهم يلحد للميت، وبعضهم يضع الميت في الشق، فكان أهل مكة يضعون الموتى في الشق، وأهل المدينة يلحدون، فلما اختلفوا أرسلوا إلى القابرين فسبق الذي يلحد فعلموا أنه خيرة الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام- وهو أفضل أي أن اللحد أفضل من الشق .
قال رحمه الله : [ وينصب اللبن عليه نصبا كما صنع برسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ] : اللحد يكون في وسط القبر الشق يكون في وسط القبر، الشق يحفر ثم يشق في وسط الحفرة ثم يغطى ويردم أما اللحد فإنه يكون في جنب القبر مما يلي القبلة أو يقابلها يحفر في الجنب يحفر ثم يحفر في جنبه وهو موجود في المدينة ومعروف .
قال رحمه الله : [ وينصب اللبن عليه نصبا كما صنع برسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ] : كما ذكر. ينصب اللبن على اللحد فيسد كاملا كما صنع برسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- الحكم ودليله .(3/196)
قال رحمه الله : [ ولا يدخل القبر آجرّا ولا خشبا ولا شيئا مسته النار ] : هذا من باب الفأل، وكان السلف الصالح كما أثر عن إبراهيم النخعي وهو من أئمة السلف ودواوين العلم يكرهون أن يدخل في القبر شيئا مسته النار الآجر الطوب –اللبن- المحمّى بالنار مثل الطوب الأحمر المصمت الموجود في زماننا هذا ما يوضع في القبر فلا يوضع في القبر يءئ مسته النار من باب الفأل .
قال رحمه الله : [ ويستحب تعزية أهل الميت ] : ويستحب تعزية أهل الميت لفعل رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فقد عزى آل جعفر -رضي الله عنهم وأرضاهم- عزاهم في مصابهم صلوات الله وسلامه عليه لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مر على المرأة وهي تبكي على القبر فقال: (( اصبري أمة الله )) فدعاها للصبر وعزاها ، والتعزية تشتمل على تصبير أهل الميت وعلى الدعاء للميت فإذا قال له : أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك قد جمع بين الأمرين فهي تعزية للحي بالصبر ودعاء للميت بحسن العاقبة والمغفرة والعفو ونحو ذلك، وليس فيها لفظ مخصوص . أما قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( إن لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، فلتصبر ولتحتسب )) هذا ورد على سبيل التصبير قبل الدفن، والتعزية إنما تكون بعد الدفن ، معروف أنها أرسلت إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- تريد أن يشهد وفاة ابنه إبراهيم فأصر عليه الصلاة والسلام ثم قال: (( مرها فلتصبر ولتحتسب إن لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار )) وهذا بالنسبة لما قبل الدفن والتعزية تكون بعد الدفن لا قبل الدفن، ولذلك الإشكال في إلزام الناس بها . بعضهم يقول ما تعزي إلا بهذا إن لله ما أعطى وله ما أخذ نعم تريد أن تقول له إن لله ما أعطى وله ما أخذ هذه تعزية تثاب عليها وتؤجر، ولها أصل من الوارد، لكن أن تلزم الناس بها وتقول لا تعزية إلا بهذا اللفظ هي لم تأت في صورة التعزية الواردة بعد الدفن، فكون الشرع أطلق يبقى(3/197)
على إطلاقه ويبقى الأصل العام، الدعاء للميت والترحم على الميت، وهذا هو ما نص عليه أئمة العلم ودواوين العلم وهو المحفوظ .
قال رحمه الله : [ والبكاء عليه غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بكى ودمعت عيناه وقال : (( إن القلب ليخشع وإن العين لتدمع وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون )) فهذا يدل على أنه لا حرج أن تدمع عين الإنسان، وأن يبكي، وقد بكى الصحابة -رضوان الله عنهم- لوفاة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وبكى الفضلاء والصلحاء
اثنان لو بكت الدماء عليهما عيناك حتى يؤذنا بذهاب
لم يبلغ المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحباب
النفس لا تستطيع أن تصبر يعني إلى درجة أن تمسك عن دمع عينها، فالله خفف على عباده وبين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن هذا لا يعذب به وهو دمع العين، وإنما يعذب باللسان وبما وقر في القلب من التسخط على القضاء والقدر ونحو ذلك من الأمور المحظورة التي لا تجوز، كالنياحة والصراخ ونحو ذلك . أما عذاب الميت ببكاء أهله عليه فورد ببعض بكاء أهله عليه وببكاء أهله عليه، فإما أن يكون على ظاهره ببكاء أهله عليه فيحمل على من وصى؛ لأن النص يدل على أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فإذا وصى كان من سعيه هذا وجه، وهو أقوى الأوجه في الجواب .
الوجه الثاني ببعض بكاء أهله عليه إذا كان على سبيل النياحة .
والوجه الثالث: إذا علم أنهم سيبكون وسينوحون ولم ينههم عن ذلك، هذه لأجل التقصير، وعلى كل حال فالبكاء من حيث الأصل لا بأس به ، لكن لما ورد النص مفسرا لنوعية البكاء كما أثر في الصحابية لما حضرت وفاة صحابي قالت: يا جبلاه يا كذا يا كذا فلما أفاق من غشيه ، قال: ما قلت شيئا إلا لكزت وقيل لي هل أنت كذلك ؟ هذا وجه .(3/198)
وهناك وجه أنه يعذب بأنه يكشف الله له في قبره حزن أهله عليه فيحزن ، فيكون العذاب هنا ليس على ظاهره . فهناك وجهان إما أن يكون على ظاهره ففيه الأوجه التي ذكرناها أنه يعذب بناء على أنه وصى، بناء على أنه سكت ورضي، وإما أن يكون على غير ظاهره يعذب بمعنى أنه يحس ببكاء أهله عليه بطريقة الله أعلم بها؛ لأنه من أمور الغيب فيحزنه ذلك ويقلقه ، وحينئذ يشمل عموم البكاء على ظاهر الحديث، فيندب لأهل الميت أن لا يكثروا من البكاء على الميت حتى لا يحزنوه والقول بأنه إذا وصى أو علم بأنهم سيفعلون وتركهم أقوى وأولى .
قال رحمه الله : [ ولا بأس بزيارة القبور للرجال ] : ولا بأس بزيارة القبور ولو قال تستحب زيارة القبور لكان أفضل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة )) .
قال رحمه الله : [ ويقول إذا مر بها أوزارها: سلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم نسأل الله لنا ولكم العافية ] : كلا الدعاءين ثابت وصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه زار القبور وترحم على أهلها واستغفر لهم، بل كان - صلى الله عليه وسلم - يقوم في ظلام الليل إلى البقيع ويمر على أهله فيترحم ويدعو لهم، وهذا يدل على سنية الزيارة، وأنه يشرع للمسلم أن يزور الميت زيارة الميت فيها خير للزائر بالاتعاظ والاعتبار، وفيها خير للمزور بالدعاء والترحم والاستغفار، وهذه الزيارة الشرعية التي تقوم على الدعاء للميت والاستغفار له واتباع الوارد وترك البدع والمحدثات والأصل يقتضي أنها مستحبة لقوله : (( فزوروها )) قال لا بأس ولا بأس تقتضي أنه مباح .(3/199)
قال رحمه الله : [ وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك ] : هذه المسألة تعتبر في هبة الثواب والصدقة للموتى، ولا تخلو العبادات إما أن تكون بدنية محضة كالصلاة والصوم، أو مالية محضة كالصدقات، أو جامعة بين المال والبدن كما في الحج والعمرة، فإن كانت من جنس العبادات البدنية المحضة فالأصل يقتضي عدم جوازها إلا ما دل عليه الدليل: لا يصلي أحد على أحد ، ولا يهب صلاته لأحد حيا كان أو ميتا؛ لأنه متعلق بعين الشخص وهي عبادة بدنية إلا إذا حج أو اعتمر فإنه يصلي ركعتي الطواف تبعا لا استقلالا ويجوز في التبع ما لا يجوز في الاستقلال، وهناك قول شاذ عن إسحاق بن راهويه -رحمه الله- من أئمة السلف بجواز الصلاة، واحتج له بالحج والعمرة، والجواب ما تقدم أن من صلى في الحج والعمرة ركعتي الطواف تبعا لا أصلا . أما العبادات المالية المحضة مثل أن يتصدق بطعام وينويه عن ميته أو يتصدق بأرض زراعية يجعل خرافها ونتاجها فقد ثبتت به السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في صحيح البخاري وغيره من حديث سعد أنه جعل حائط الخراف لأمه -رضي الله عنها وأرضاها- لما توفيت فقال وجعل لها حائط الخراف فيتصدق ببستانه ويتصدق بمزرعته صدقة على أمواته أو على والديه فلا بأس بذلك ولا حرج وهو مأجور، وأما بالنسبة للعبادات المشتركة بين المال والبدن فالأشبه أن يقتصر بها على الوارد ورجح غير واحد من العلماء التخفيف فيها ، فله أن يحج ويعتمر ويكرر الحج والعمرة .(3/200)
والصحيح أن الأفضل أنه يقتصر فيها على الوارد، إذا لم يحج الميت حج عنه وإذا لم يعتمر اعتمر عنه وإلا اشتغل بنفسه بحجه وعمرته ودعا لموتاه ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- لما سأله الرجل هل بقي من بري لوالدي شيء أبرهما به ؟ قال عليه الصلاة والسلام : (( الصلاة عليهما والاستغفار لهماوصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما )) هذا حاصل ما ذكر في مسألة الصدقة عن الأموات، وظاهر السنة الإكثار من الدعاء والترحم والاستغفار؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر به الولد مع والديه، فالرجل يقول: هل بقي من بري لوالدي؟ فلو كانت الأعمال بدنية وهبة ثواب الأعمال البدنية جائزة لدله النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على ذلك، إنما دله على الصدقات، وما في حكمها من الدعاء .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
من شريط 40 الى 44
كتاب الصيام
باب أحكام المفطرين في رمضان
قال المصنف – رحمه الله - : [ باب أحكام المفطرين في رمضان ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
ترجم الإمام المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة والتي تتعلق بأهل الأعذار في رمضان ، وهذا من الترتيب المنطقي، ومن تسلسل الأفكار الصحيح ؛ لأنه بعد أن بيّن لنا من يجب عليه الصوم شرع في بيان المعذورين ، وهؤلاء المعذورون دلت النصوص في الكتاب والسنة على إباحة الفطر لهم فقال : [ باب أحكام ] الأحكام: جمع حكم ، والحكم إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه .
وأما في اصطلاح العلماء : فهو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء أو التخيير أو الوضع . وهذا يشمل الأحكام بنوعيها : الشرعية ، والوضعية .(3/201)
فأما بالنسبة لقولهم : على جهة الاقتضاء أو التخيير فشمل خمسة أحكام : وهي الوجوب ، والندب ، والحرمة، والكراهة ، وقولهم : أو التخيير المراد به الإباحة ، فهذه خمسة أحكام ؛ لأن الاقتضاء : إما اقتضاء فعل ، أو اقتضاء ترك ، والأول والثاني كلاهما إما أن يكونا على سبيل اللزوم أو على سبيل غير اللزوم .
فقولهم : أو الوضع هذا يشمل الصحة والفساد ، ونحو ذلك : الشرط ، والسبب ، مما لا دخل للمكلف فيه ، ووضعه الشرع كعلامة وأمارة ، ونصّبه على ذلك .
فلما قال المصنف : [ باب أحكام ] : إذا كان هذا تعريف الحكم فمعنى ذلك أنه سيتكلّم على وجوب الفطر على من يجب عليه الفطر وعلى من يندب له الفطر، وعلى من يحرم عليه الفطر، وعلى من يكره له الفطر، وعلى من يباح له الفطر. والواقع أنه قد يخصّ بعض هذه الأحكام دون بعضها ، ولذلك هناك من يجب عليه أن يفطر، فالمريض الذي إذا غلب على الظنّ أنه إذا صام يموت ويهلك كما إذا كان بعد عملية جراحيّة أو كان الإنسان في حالة وضع خطيرة لو صام هلك ؛ يحرم عليه أن يصوم ؛ لأنه في هذه الحالة يلقي بنفسه إلى التهلكة ، وكذلك يجب عليه الفطر، وحينئذ يكون حكم الفطر واجبا .
وقد يكون الفطر مستحباًّ في حق الإنسان وهو أفضل كما لو سافر فلحقته المشقّة وبإمكانه أن يصوم ، فإذا ضيّق عليه السفر في صومه وأصبح في حرج وضيق وشدة وصبر على ذلك ؛ صحّ صومه ، ولكنّه مع الكراهة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - حينما صام حتى بلغ كراع الغميم وأفطر عليه الصلاة والسلام، وهذا بعد صلاة العصر، فلما دعا باللبن وأفطر قيل له إنّ بعض الصحابة لازال صائماً قال : (( أولئك العصاة ، أولئك العصاة )) فحينئذ قالوا : إن هذا عصاة الأمر قيل ، وليس المراد أنه واجب عليهم ، لكنه يكره والأفضل له الفطر .(3/202)
وكذلك أيضا يكون هناك أحكام ذكرها المصنف في هذا الباب من حيث الصحة والفساد؛ فنظرا لاشتمال الباب على عدة أحكام متنوعة جمعها بقوله: [ باب أحكام ] .
والمفطرون : جمع مفطر، والمراد بالفطر أنه ضد الصوم إذا كانت حقيقة الصوم الإمساك عن شهوتي البطن والفرج فالفطر الإخلال بهذا الإمساك ، إما أن يصيب شهوة البطن أو يصيب شهوة الفرج فيحكم بفطره ، فإذا أخلّ كان مفطرًا .
[ باب أحكام المفطرين في رمضان ] : وهذا هو الأصل وهو صيام الفرض ، وينبني على رمضان قضاء رمضان ، وقد ينبني على أحكام الفطر عموما الصيام النافلة والمباح .
كأنه يقول رحمه الله في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالفطر في رمضان .
[ ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام ] : يباح : أي أنه للتخيير ، وهذا أحد قولي العلماء في المسألة : من أهل العلم من قال : يجب على المسافر والمريض أن يفطر.
وجمهور العلماء على أنّه يباح ولا يجب .
وخالف في هذا الظاهريّة وبعض السلف -رحمهم الله- ويقال عن بعض أهل الظاهر وليس كلهم قالوا بذلك ، فالشاهد من هذا أن الفطر في السفر والمرض من العلماء من أوجبه وألزم به المكلف، ومنهم من خير المكلف، فقال بإباحته ، ومذهب الجمهور أن من سافر مخيّر، وأن من مرض مخيّر ما لم يصل به المرض إلى الخوف على نفسه ؛ فحينئذ يتعيّن عليه الفطر؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله عن تعذيب هذا لنفسه لغني )) وإذا ثبت هذا فإن أصحّ قولي العلماء -رحمهم الله- الجواز والتخيير، ومن هنا عبّر المصنّف -رحمه الله- بقوله : [ يباح ] ولم يقل يجب الفطر، وإنما قال يباح أي أنك مخيّر، إنما يرد السؤال : هل الأفضل أن أفطر أم الأفضل أن أصوم ؟ وهذا ما سيذكره -إن شاء الله تعالى- بعد بيانه للفطر في السفر والمرض .(3/203)
فقال رحمه الله ويباح الفطر في رمضان لأربعة أصناف أو أنواع أو أشخاص المراد بهذا الإجمال قبل البيان والتفصيل ، أي أن الله أحلّ لهؤلاء الأربعة أن يفطروا ، وهؤلاء الأربعة منهم : من يفطر ويلزمه القضاء ولا تلزمه كفارة ، ومنهم من يفطر ويلزمه القضاء مع التكفير، ثم يختلفون إلى قسمين أو إلى نوعين :
منهم من تجب عليه الكفّارة المغلّظة كمن أفطر بالجماع .
ومنهم من تجب عليه الكفارة مخففة كالحامل إذا أفطرت خوفا على نفسها على ولدها فإنها تقضي وتكفر؛ لأن العذر ليس متصلا بها ، وإنما متعلّق بمصاحب .
فالكفارة تكون مغلّظة ، وتكون غير مغلّظة .
ومنهم من يفطر ولا يقضي وهو الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه ، فإنه يفطر ولا يلزمه القضاء . فهذه أصناف المفطرين : فمنهم من أوجب الله عليه القضاء ولم يوجب عليه غير القضاء إلا إذا تأخّر في القضاء إلى رمضان آخر دون عذر فجمهور العلماء وهو محكي عن بعض الصحابة يلزمونه عن كل يوم ربع صاع وهو المد النبوي ، ومنهم من لا يوجبه ، والعمل به أحوط وأسلم. هذا بالنسبة لمن يفطر ويقضي كالحائض والنفساء تفطر وتقضي ، وكالمسافر يفطر ويقضي ولا يجب عليه كفّارة .
والنوع الثاني يفطر ويقضي ويكفّر، فهذا إن كان فطره بالمغلّظ كالجماع في نهار رمضان، أفطر بجماعه ووجبت عليه الكفّارة المغلّظة ، ووجب عليه قضاء اليوم الذي أفطر فيه .
ومنهم من يفطر ويقضي ويكفر كفارة دون المغلّظة وهي المخففّة : أن يطعم عن كلّ يوم مدًّا أو نصفاً ، فإن تطوع فهو خير له ، وهي المرأة الحامل والمرأة المرضع إذا كان عذر الفطر متعلّقا بمصاحب لا بها بأن خافت على ولدها الرضيع أو خافت على جنينها إذا كانت حاملاً ، فإنها تفطر وتقضي وتكفّر، فيلزمها القضاء للأصل وتلزمها الكفّارة وهي إطعام المد لكون العذر تعلق بالغير لا بها محضا .(3/204)
ومنهم من يجب عليه التكفير ولا يجب عليه القضاء ، وهو المريض الذي لا يرجى برؤ مرضه، والشيخ الهرم ؛ لأن الله نقلهما إلى الإطعام . هذه أربعة أصناف للمفطرين في نهار رمضان .
[ أحدها : المريض الذي يتضرر به ] : المريض الذي يتضرّر به : أحدها المريض : المرض ضد الصحة ، والمرض هو خروج البدن عن حد الاعتدال ، فإذا اعتدلت في الإنسان طبائعه كان صحيحا ، وإذا غلبت إحدى الطبائع ؛ فإنه ينتقل من حدّ الاعتدال إلى السقم والمرض .(3/205)
والمرض ينقسم إلى أقسام ، ومن هنا هو في الأصل إما أن يكون المرض يؤثر فيه الصوم ، وإما أن يكون المرض لا يؤثر فيه الصوم ، فمن جرح إصبعه يوصف بكونه مجروحا ومريضا حتى إن بعض السلف كان يترخص به كما أثر عن ابن سيرين في قصته المشهورة -رحمه الله- ، لكن هناك من هو مريض ويتأثّر بمرضه إذا صام . فأما إذا كان المرض لا يتأثر بالصوم كالصداع الخفيف وألم البطن الخفيف المحتمل والجروح والقروح ونحو ذلك التي لا تتضرر بالصوم فهذه جماهير السلف والخلف على أنه يجب عليه أن يصوم ؛ لأن الأصل أنه مطالب بالصوم ، ولذلك يجب عليه الصوم ولا يعتبر هذا عذرا له ، أما إذا كان الصوم يؤثر في المرض ، فإما أن يكون يفضي به إلى الهلاك وهو ما يعبر عنه بعض العلماء أن يتعذّر عليه الصوم بحال ، بمعنى أنه لا يمكنه أن يصوم إلا إذا كان يريد أن يموت فهذا وجها واحدا عند العلماء -رحمهم الله- يفطر ويتعيّن عليه الفطر لإنقاذ نفسه ولا يجوز له أن يعذب نفسه ولا أن يلقي بنفسه إلى التهلكة ، يدخل في حكم هذا بالتبع الاستصحاب للعذر أن يكون المرض يمكنه أن يصوم مع المرض لكن أعطي دواء لهذا المرض يستوجب الفطر، وحينئذ يتعلق بفطره يكون الفطر لإنقاذ نفسه من هذا المرض الذي قد يشفي به إلى الهلاك ، فحينئذ يفطر فإذا كان المرض لا يمكن للإنسان أن يصوم معه بحال تعين عليه الفطر. وأما إذا كان المرض لا يفضي به إلى الهلاك وإنما يفضي به إلى الحرج والمشقة والضيق ؛ فإنه يخير بين الفطر وبين الصوم ، ثم يكون الفطر أفضل له على حال ، ويكون الصوم أفضل له في حال أخرى .
أما الدليل على أنه يباح للمريض أن يفطر؛ فقوله - سبحانه وتعالى - : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وقوله - سبحانه وتعالى - : { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فهاتان الآيتان نصتا على العذر بالمرض ، وهذا يدلّ على أن المريض معذور شرعا .(3/206)
وكذلك أيضا أجمع العلماء -رحمهم الله-على أن المرض يبيح الفطر، وعلى هذا اجتمع النص والإجماع ، ولا خلاف بين أهل العلم في كون المرض عذرا ، إنمّا الخلاف هل يجب عليه أن يفطر عموما أو يكون مخيرا على التفصيل الذي ذكرناه .
أما بالنسبة للمريض من حيث الأصل ؛ فالمرض في الشرع عذر ورخصة وموجب للتخفيف ، ولكنه في الصوم العلماء توسّعوا فيه أكثر من بقية العبادات ؛ لأنه في الصوم يتصل بالدواء ، ويتصل بالطعام والشراب ، ومن هنا لا يشترط كون المرض قضية المرض ذاتها ، بل إن استعمال الأدوية لعلاج المرض هذا أيضا مؤثر، ومن هنا نجد السلف الصالح يعبرون عن مسألة زيادة المرض، فإن الإنسان إذا كان مريضا وأمكنه أن يصبر ولكن صومه يزيد المرض ويؤخر البرء فمذهب طائفة من العلماء أن تأخير البرء عذر، وهذا حرره غير واحد ومأثور عن بعض السلف الصالح -رحمهم الله- من الصحابة والتابعين وحتى عن بعض أئمة الاجتهاد كالإمام أبي حنيفة والإمام مالك والشافعي وأحمد -رحمة الله على الجميع-، وهو أيضا أصول الشريعة تقتضيه حتى وقد تكلم عليه شيخ الإسلام -رحمه الله- في المجموع ، وذكروا أنه عذر في التيمم في الغسل، كما لو كان مزكوما فإن شدة الزكام محرجة ومؤذية ومضرة ، وقد تسترسل وتتأخر فتوقع الإنسان في الحرج، فحينئذ لو أعطي دواء لعلاج ولا يمكن إلا بأن يفطر أثناء يومه رخص له في هذا الدواء ؛ إذًا الفطر ليست قضية أن يأكل ويشرب للبدن ، بل قد يكون الفطر لاستعمال الأدوية ونحو ذلك من العقاقير فإنه يستعملها ؛ لأن موجب الرخصة وهو المرض بغض النظر عن كون الأذى موجود في المرض نفسه أو كون يريد هذا الدواء فيفطر به من أجل أن لا يتأخّر عليه البرء ونحو ذلك من الأسباب .(3/207)
[ أحدها المريض الذي يتضرر به ] :. وقوله : [ المريض الذي يتضرر به ] : يعني الصوم ، فالباء سببية . المريض الذي يتضرر بسبب الصوم يباح له أن يفطر، ومفهوم هذا -والمفاهيم معتبرة في المتون الفقهية- أنه إذا كان لا يتضرر بالصوم ؛ فإنه يجب عليه أن يصوم ، فلو كان عنده مرض لا يؤثّر فيه الصوم نقول له أنت باق على الأصل ويجب عليه أن تصوم كما ذكرنا في الصداع الخفيف وألم الإصبع وألم الرِّجْل الذي لا علاقة له بالأكل والشرب وليس له من دواء يؤخذ هذا يجب على صاحبه أن يصوم .
[ والمسافر الذي له القصر ] : والمسافر الذي له القصر : المسافر يباح له الفطر ؛ والأصل في ذلك الكتاب والسنة والإجماع : فإن الله –تعالى- قال : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر } وقال في الآية الأخرى : { فمن كان مريضا أو على سفر } وهذا يدلّ على أن السفر رخصة ؛ لقوله بعد ذلك : { فعدة من أيام أخر } فجعل حكمه أن ينتقل للأيام الأخر إن أفطر .
والمسافر إما أن يكون سفره مأذونا به شرعا مثل أن يسافر لحج واجب ، مثل أن يسافر لعمرة واجبة عليه ، أو يسافر برًّا لوالديه ، أو يسافر لأمر نذر لعمرة منذورة أو نحو ذلك من السفر الواجب، فإذا سافر لواجب أو سافر لمندوب كصلة رحم ونحو ذلك فلا خلاف بين العلماء أنه يرخص له . وأما إذا سافر لمحرّم فمذهب طائفة من العلماء أنه لا يستبيح الرخصة ؛ لأنه مأمور بالرجوع من هذا السفر، وحينئذ يبقى على الأصل إذ لا يعقل أن الشريعة تقرّه على هذا المنكر وتعطيه الرخصة فتعينه على التقوي على الحرام ، وهذا هو أعدل الأقوال أنه لا يرخّص له إلا إذا تضرر فيكون الرخصة من باب الضرر لا من باب المعونة على السفر المحرّم .(3/208)
وأما بالنسبة للسفر المباح كأن يسافر للنزهة أو يسافر للصيد المباح ؛ فللعلماء وجهان أصحّهما أنه يرخص له ولو كان سفره مباحا ما لم يقصد بهذا السفر المباح التذرّع للتلاعب بصيام رمضان، فيعامل بنقيض قصده ؛ لأن الأمور بمقاصدها وحينئذ يخرج عن حد الرخصة .
أما بالنسبة للأصل ؛ فإنه يباح له ؛ لأن الله أطلق السفر فلمّا قيّد بالحرام لورود النص بقي المباح على الأصل .
إذًا المسافر إما أن يسافر سفرا مأذونا به شرعا فلا إشكال في ثبوت الرخصة في حقّه ؛ والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سافر لعمرته وترخّص في هذا السفر، وإما أن يسافر سفرا غير مأذون به شرعاً فالواجب عليه أن ينقطع عن هذا السفر وأن يرجع ولا يمكن للشرع أن يعينه على حرام ؛ لأن هذا من التناقض ، والشرع ينّزه عن التناقض .
وثالثاً : أن يسافر لأمر مباح فأصحّ قولي العلماء أنه يرخص له ولا بأس له أن يفطر .
المسافر يستبيح الرخصة إذا كان على سفر؛ فقال تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر } وجمهور السلف والأئمّة -رحمهم الله- أنه لا يكون على سفر إلا إذا أسفر، وأسفر إذا بان ، والمراد بذلك أن يخرج عن العمران وهذا مما يستفاد من لفظ الآية الكريمة ؛ لأن المكلّف فيه نية وهو باطن وفيه ظاهر وهو فعل، فإذا كان قد خرج وفي نيته بهذا الخروج أن يسافر؛ فإننا نحكم بمجرد خروجه عن آخر العمران بأنه أسفر، وحينئذ تستباح رخص السفر من الصلاة قصر الرباعية إذا أذن عليه الأذان وهو خارج المدينة ووجبت عليه السفريّة ، وكذلك الفطر يجوز له أن يفطر في سفره ، لكن قبل ذلك لو نوى ؛ فالنية وحدها ليست كافية ؛ لأن الله قال: { على سفر } وهذا يشمل الظاهر والباطن وهذا مذهب الجمهور ؛ ودليلنا أثر عن بعض الصحابة أنه إذا وضع الإنسان متاعه في رحله وعزم الذي هو أنس -- رضي الله عنه -- وغيره أيضا أجيب عن هذا كما حرره غير واحد ومنهم الإمام ابن قدامة وغيره بوجهين :(3/209)
الوجه الأول : أن يقال إن الصحابي وهذا ثابت كما جاء في قصة عدي يجتهد في فهم السنة وقد ينسبها ، لمّا قيل له : من السنّة . قال : إنها سنة قال : نعم ورفعها ونسبها إلى السنة ، قالوا إنه إذا فهم النّص على ظاهره نسبه للسنة ؛ لأنه من اجتهاده في الفهم ، فكان يفهم من قوله : { على سفر } أنه بمجرد نيته أنه مسافر مع أننا وجدنا صريح السنة دالة على أن الرخص لا تستباح بالنية ، ومن أقوى ما يدل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صلى الظهر بالمدينة أربع ركعات في حجة الوداع ، وصلاها بذي الحليفة ركعتين مع أنه بالإجماع أصبح ذلك اليوم وفي نيته أن يسافر بل قدم الناس من خارج المدينة وهم يريدون الحج ، حتى قال جابر: امتلأت بهم سكك المدينة كلهم يريد أن يرى كيف يحج رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --؛ فإذا لا إشكال في كونه ناويا للسفر ومع ذلك لم يستبح رخص السفر، وانتظر حتى أسفر عن المدينة ونزل بذي الحليفة فصلى العصر ركعتين ، فجعل الرخصة بعد البروز والخروج ، وهذا ما يقتضيه النظر الصحيح ؛ وعلى هذا فإنه لا يستبيح الفطر إلا بعد خروجه من المدينة ، وحينئذ يكون على سفر ظاهرا وباطنا ، وأما الاقتصار على الباطن فهذا اجتهاد ؛ ولذلك عدي -- رضي الله عنه -- فسر الآية على غير ظاهرها ، وردّ عليه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا التفسير، فعندنا إذا فسّر الصحابي نصا وجاء من السنة ما يخالفه وجب الرجوع إلى تفسير السنة ، فلما لم يعمل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- النية وحدها واكتفى بالفعل والظّاهر وجمع مع الباطن الظاهر ولم يكتف بالباطن وحده ؛ دل على أن الرخص لا تستباح بمجرد نية السفر لا في الصلاة ولا في الصوم ، ومن هنا نقول إنه لا يستبيح الرّخصة ويفطر إلا إذا أسفر وخرج .(3/210)
المسافر يباح له الفطر في السفر وعلى هذا إذا خرج من الليل ثم أصبح مسافرا فوجه واحد عند العلماء أنه يفطر، ولو خرج أثناء النهار وكان قد نوى السفر طارئاً فمن أهل العلم من ألزمه بإتمام يومه ، وظاهر النص أنه يباح له الفطر سواء خرج وفي نيته أن يصوم أو لم يخرج على تلك الصفة أنه يباح له أن يفطر، ومن هنا قالوا إنه لو بات ليلته ينوي أن يفطر إذا كان عنده نية للسفر حتى يخرج من الخلاف، وعلى كل حال فإن النص ظاهر وواضح الدلالة على أنه يستبيح الرخصة مادام أنه على سفر .
الأصل يقتضي أنه يفطر مادام في السفر، فإذا قدم الحضر لزمه الإمساك ، وهذا على ما ثبت في الصحيح عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث أنس -- رضي الله عنه -- أنهم خرجوا مع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فمنهم الصائم ومنهم المفطر، فلم يزل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ثم نزلوا إلى كراع الغميم وهو بطرف جدة فأفطر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأفطر صحابته معه قال : (( فلم يزل مفطرا حتى دخل مكة )) وهذا يدل على أنه استباح الرخصة وهو على السفر أي على حالة السفر، فإذا قدم إلى الحضر فإنه في هذه الحالة يمسك إلا إذا وجد عنده عذر يبيح له الفطر فإنه يفطر، وهذا قول جمهور العلماء -رحمهم الله- أنه إذا نزل في الحضر فإنه يمسك ولا يفطر .
هناك وجه ثان أنه يباح له الفطر ولكن لا يفطر أمام الناس، ولا يفطر في عيون الناس ، والأول أحوط .(3/211)
[ فالفطر لهما أفضل وعليهما القضاء ] : فالفطر للمريض وللمسافر أفضل ، قال بعض العلماء: الفطر واجب كما ذكرنا ؛ لقوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فطائفة من أهل الظاهر والسلف الصالح فسروا الآية الكريمة بأن المسافر والمريض نقله الله من رمضان إلى عدة من أيام أخر، وحينئذ يجب عليه أن يفطر في رمضان إذا أصابه عذر المرض أو السفر، ولا يجوز للمسافر عندهم أن يصوم ، وإذا صام لم يجزه صومه .
وذهب جمهور العلماء والأئمة إلى أنه يجوز له أن يفطر ويجوز له أن يصوم ؛ لأن السنة الصحيحة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ثابتة بذلك ، فقد خرج عليه الصلاة والسلام في سفره ثم كان معه الصحابة منهم الصائم و منهم المفطر. قال أنس -- رضي الله عنه -- : (( فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم )) أي ليس الصائم يعيب على المفطر ، ويقول له مثلا : أنت أفطرت ، ولا المفطر يعيب على الصائم فيقول له : أنا أخذت بالرخصة وأنت تشدد على نفسك ، فكل منهم على حاله . قالوا فهذا يدل على أنها رخصة تخييريّة وليست إلزاميّة ، وهذا القول هو أقوى الأقوال ؛ لأن السنة واضحة في الدلالة على أنه يباح للإنسان أن يفطر في السفر وليس بمتعين عليه ، وقد ذكر الله المرض والسفر كعذرين وحكمهما واحد .
ومن الأدلّة أن النبي- - صلى الله عليه وسلم -- لما سئل كما في الصحيحين ، قال له أبو حمزة -رضي الله عنه وأرضاه- عمرو بن حمزة -رضي الله عنه وأرضاه- قال : يا رسول الله ، إني أطيق الصوم في السفر . فقال له النبي -- صلى الله عليه وسلم --: (( إن شئت فصم وإن شئت فأفطر )).(3/212)
فخيره النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بين الصوم وبين الفطر. وقال بعض العلماء : إن هذا التخيير فيه تفصيل ، فظاهر حديث عمرو وحديث النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه كان بهم الجلد والقوة ، فقال : إني أطيق الصوم في السفر فخيره ، فدل على أنه إذا كان لا يطيق الصوم في السفر ويصل به الأمر إلى الحرج ؛ فالأفضل له الفطر، ويؤكد هذا أنه لما صام في شدة الحر عليه الصلاة والسلام حتى بلغ كراع الغميم وسقط الناس أفطر عليه الصلاة والسلام فراعى الرخصة لوجود الحرج والضيق. فنقول المسافر له حالتان :
الحالة الأولى : أن يصل به الصوم إلى الحرج والمشقة والضيق ، فالفطر في حقه أفضل .
وأما إذا كان لا يصل به الأمر إلى الحرج والضيق ويمكنه أن يصوم ؛ فللعلماء وجهان :
منهم من قال : الفطر أفضل؛ لأنه أخذ بالرخصة ، ويقولون إن الأخذ بالرخصة جاءت به السنة : (( عليكم برخص الله الذي رخّص لكم )) وحديث : (( إن الله يحب أن تؤتى رخصه )) ضعيف السند لكنه صحيح المتن إذا ثبت هذا ولذلك قال : (( عليكم برخص الله )) وهذا فيه نوع من التشديد بالرخصة أن يقبلها العبد ويعمل بها .
وقالوا وخاصة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ليس من البر الصيام في السفر)) فقوله : (( ليس من البر )) قالوا الكامل والأفضل أن يصوم في السفر، ومن هنا قّووا أن يكون مفطرا لا صائما .(3/213)
وذهب طائفة من العلماء إلى أن الأفضل أن يصوم وهذا هو الصحيح والأقوى أنه إذا لم تلحقه المشقة الأفضل أن يصوم ؛ لأنه يبرئ ذمته ؛ ولأنه مسارعة للخير، ولأن الرخصة ليست إلزامية، فليس هناك دليل يدل على اللزوم ؛ ,لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صام في سفره ، فكون النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يصوم مع وجود الرخصة دل على الأصل والأفضل أن الإنسان يراعي براءة الذمة ، وأن هذا أولى وأحرى ، فلما بلغ به الجهد ما بلغه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- أخذ برخصة الله ، فقلنا بالتفصيل : إن كان في سفره مرتاحا وفي الطائرة أو نحو ذلك أو في السيارة أو به جلد وقوة وصبر أو تعود الصوم في السفر نقول له الأفضل أن تصوم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صام ما لا يقل عن سبعة أيام من عشرة أيام ؛ لأن كراع الغميم فيها مرحلة واحدة باقية على مكة ؛ لأنه بحذاء عسفان ، وهذا يقوي ؛ لأنه صائم خلال ثمانية أيام أو تسعة أيام التي قبل وصوله إلى مكة كلها وهذا يقوّي أن الصوم هو الأفضل ، ولأنّه إبراء للذّمّة والإنسان لا يضمن أن يتمكّن من قضاء الصوم أو لا يتمكّن ؛ فحينئذ نقول الأفضل أن يبرئ ذمّته .(3/214)
بقيت مسألة أخيرة وهي : أن بعض الناس يقول الآن نحن في طائرات وفي سيارات ومرفّهون فلا رخصة في السفر، وهذا ليس بصحيح ، ولذلك منع الناس من الفطر في السفر لوجود وسائل الترفيه مخالف لشرع الله ؛ لأنّ الله اطّرد هذا الوصف بغض النظر عن النادر، ومن هنا نقول إن الرخص والأحكام الشرعية تتعلق بالغالب في الأوصاف لا بالنادر، فالغالب في السفر المشقّة، فإن وجد نادر لم يلتفت إليه، كما أن الغالب في لمس المرأة الشهوة والخلوة بها فتنة والسفر معها بدون محرم فتنة ، فلو أنها كانت عجوزا أو كبيرة أو غير مشتهاه والرجل صالح ديّن يغلب على الظن أنه لا يقع في الفتن لا نقول : يجوز لك ؛ لأن الشرع وضع القاعدة للغالب ، فالصور النادرة هذه لا عبرة بها ، وهذه الصورة التي في عصرنا نادرة أربعة عشر قرناً ما وجدت فيها وسائل الترفيه هذه، فجاءت أحكام الشريعة على غالب الأسفار في سائر الأعصار ولم تلتفت إلى خصوص الحال فيسقط هذا ولذلك الالتفات إلى الصور النادرة بّين العلماء أنه ليس من الفقه وليس هو الذي تنضبط به أحكام الشريعة ، ومن أنفس من تكلّم على هذه المسألة الإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس قواعد الأحكام ، وعلى هذا نقول ليس لك أن تتحدث برخصة الله -- عز وجل -- فتقيّدها والله أطلقها فنحن نقول الرخصة باقية لكل مسافر .
ثانيا : نقول لهم من قال لكم إن المسافر مرتاح في وسائل الترفيه ؛ هذا لأنهم ينظرون إلى ترفّهه ظاهرا ولا ينظرون إلى عذابه النفسي، فإن المسافر معذّب نفسياًّ بفراقه لأهله ، بل إن هذه الوسائل العصريّة قد يكون فيها من الخوف من الضرر والبلاء أكثر من غيرها ممّا سبق ومن هنا لا يقبل هذا العذر .(3/215)
ثالثا : أن مسألة الرخصة يعني هم يقولون إن هذا الترفيه يوجب البقاء على الأصل . نقول لهم : قد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- في أزمنتهم يوجد التّرفيه وهناك الأغنياء والأثرياء والعظماء لم نجد من فقهاء الإسلام من فرّقوا بين من يسافر مترفّها ومن يسافر غير مترفّه ، ولذلك هذا التفصيل والتفريق لا أصل له في الشرع ، وإنما نبهنا عليه لأن بعض العوام ينكر على من يراه من طلبة العلم أو من يراه يأخذ برخصة الله وهذا خلاف شرع الله أنه لا ينكر على من أخذ برخصة الله التي رخص له ولو كان على ترف أو على سفر لا مشقّة فيه ولا عناء .
[ وإن صاما أجزأهما ] : وإن صاما أجزأهما إشارة إلى القول المخالف أنه إذا صام لم يجزه وأنه يتعين عليه الفطر، فالصحيح أنه مأذون له بالفطر، ولو صام أجزأه صومه ؛ والدليل على ذلك السنة ، فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- صام في سفره فدل على أنه يجزيه .
[ الثاني : الحائض والنفساء تفطران وتقضيان ] : الحائض والنفساء أوجب الله عليهما الفطر ولا يجوز لهما أن يصوما ، والحائض هي المرأة التي أصابها الحيض ، والحيض دم يرخيه رحم المرأة لغير فساد ولا نفاس .(3/216)
فخرج بقولنا : فساد دم الاستحاضة والنفاس دم الولادة ، وإذا حاضت المرأة وجب عليها أن تفطر، فتفطر أيّام عادتها وأيّام حيضها وهذا بإجماع المسلمين ، وإذا صامت لم يجزها الصوم ، بل قال بعض العلماء وهو مذهب صحيح إنها لو صامت وهي حائض تأثم شرعاً فلا يجوز لها أن تصوم حال حيضها بل يجب عليها الفطر، وهكذا النّفساء ؛ لأنّ حكم النّفساء حكم الحائض وبإجماع العلماء على أنّ النفساء لا تصوم ، قالت عمرة بنت عبد الرحمن -رحمها الله- كما في الصحيحين لعائشة -رضي الله عنها- : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ فقالت: أحروريّة أنت ؟! قالت: لا . وإنمّا أسأل . قالت : (( كنّا على عهد رسول الله- - صلى الله عليه وسلم -- يصيبنا الحيض، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )) .
فدلّ على أنّ الحائض تؤمر بالقضاء وتؤمر بالانتقال إلى العدّة من أيام أخر ولا يجزيها أن تصوم رمضان .
[ وإن صامتا لم يجزهما ] : وإن صامتا لم يجزهما الصوم كما ذكرنا ، بعض العلماء يرى أنّهما تأثمان بذلك .
[ الثالث : الحامل والمرضع ] : الثالث : الحامل والمرضع .
[ الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا ، وإذا خافتا على والديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا ] : هذا النوع من أهل الرخص له صور :
الصورة الأولى: أن تكون المرأة الحامل والمرضع تخاف كل واحدة منهما على نفسها إن صامت .
الصورة الثانية : أن تخاف على الولد ولا تخاف على النفس ، فهي حامل وصحتها طيبة قادرة على الصوم ، ولكن تخاف أنها لو صامت يتضرّر الجنين أو أخبرها الطبيب أن الجنين في وضع معيّن وعليها أن تفطر؛ لأن لا يتضرّر بصومها .
الصورة الثالثة : أن يجتمع العذران ، فتخاف على نفسها وتخاف على ولدها ، فهذه ثلاث صور: أن يكون الخوف على الجنين والرضيع ، وهذا عذر منفصل لا متصل .
الصورة الثانية : أن يكون الخوف على النفس ، وهذا متّصل لا منفصل.(3/217)
والثالثة : أن تجمع بين العذرين ، فتخاف على نفسها وتخاف على ولدها ، فالحامل إذا كان في بطنها الجنين تخاف هذا الخوف يثبت بقول الطبيب ، ويثبت بغالب الظنّ أو بالمعرفة وبالخبرة ، فإذا قال الطبيب أو قالت المرأة التي عندها معرفة وخبرة إنها لا تصوم، وأنهّا لو صامت يتضرر الجنين الذي في بطنها ، أو أثبت الطبيب أنها لو صامت يتضرر الجنين الذي في بطنها ، ويكفي قول الطبيب العدل الواحد ؛ فحينئذ يحكم بالرخصة إذا كان مأمونا فإنه يحكم بالرخصة فيجوز لها أن تفطر .
أما المرضع فعندها ولد ترضعه ، والولد يحتاج إلى حليبها ، فإذا صامت قلّ حليبها ، وحينئذ يتضرر الولد ، وصحّتها طيّبة لو صامت فعذرها منفصل عنها فإذا كان العذر منفصلا في كلتا الحالتين تفطر كل واحدة منهما؛ مراعاة لهذا العذر، ويجب عليها أن تقضي ؛ لأنها أفطرت ، ويجب عليها أن تطعم لانفصال العذر عنها، هذا بالنسبة إذا كان العذر متعلقا بالجنين وبالولد الرضيع .(3/218)
وأما إذا كان متعلقا بها نفسها ؛ فهي لو صامت صحتها لا تساعدها بسبب الحمل، فالحمل أجهدها وأنهكها، فإذا صامت تضرّرت وخافت على نفسها أو كانت مرضعة وجسمها لا يساعدها على الصوم فلو صامت أثناء الإرضاع خافت على نفسها ؛ فحينئذ يكون العذر متّصلا بها لا منفصلا عنها . الجنين ليس به علاقة قد يكون الجنين يمكن أن يصبر ويمكن أن يتحمّل ولا يضره الصوم ويقول الطبيب لا يضره ولكن العذر متعلّقًا بها هي ، في هذه الصورة إذا خافت على نفسها ولم تخف على جنينها أفطرت وقضت ولا يلزمها الكفّارة ؛ لأن العذر متصل بها فأشبهت المريض ، وحينئذ تفطر كما لو أن الإنسان أصابه الجهد ولم يستطع أن يكمل صومه يجوز له أن يفطر، فلو أنّ شخصاً مثلا نام البارحة ولم يتسحّر نام عن سحوره وكان يظنّ أنّه يتمكّن من القيام للسحور ثم لما استيقظ النهار خاصة أيام الصيف التي يطول فيها النهار أجهد حتىّ سقط ولربما وصل الجهد الشدة فهذا يفطر، والعذر متعلّق به ، وجهد الحامل وجهد المرضع في حكم هذا ، ولذلك يجب عليه القضاء عند الجميع ولا يجب عليه أن يكفّر، فحكمه كحكم المريض إذا أصابه المرض أبيح له أن يفطر وعليه القضاء وليس عليه كفارة ولا إطعام ، وعلى هذا نقول الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما فإنه تفطر كل واحدة منهما ولا يجب عليها أن تكفر، لا يجب عليه إلا القضاء. أما لو اجتمع العذر فيها وفي الولد فإنه في هذه الحالة ليس عليها إلا أن تفطر وتقضي فقط؛ لأن عذرها المتعلق بها موجود سواء تمحض أو اشترك ، فأصبحت هذه الصورة منحصرة على صورتين : صورة فيها القضاء دون التكفير، وصورة فيها التكفير مع القضاء .
فالصورة التي فيها القضاء دون تكفير فهي الصورة التي يكون فيها العذر في المرأة تخاف على نفسها تمحّض العذر أو اشترط مع الخوف على الولد ، فحينئذ ليس عليها إلا القضاء ؛ لأن المهم أن يكون عندها عذر، فإذا كان عندها عذر أسقط الكفارة .(3/219)
وأما بالنسبة إذا كان عذر الخوف على ولدها وانفصل عنها ؛ فإنّها حالة توجب القضاء مع الكفّارة ، فرجعت هذه الثلاث الصور إلى الحكمين ، بهذا قضى طائفة من أصحاب النبي- - صلى الله عليه وسلم -- وفسر به ابن عباس -رضي الله عنهما- آية : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } وطردها في المرأة الحامل والمرضع .
[ وإن صامتا أجزأهما ] : وإن صامتا أجزأهما : فلو أنّهما استمرّتا في الصوم فالحامل قالت : أريد أن أصوم صامت؛ أجزأها ، والمرضعة قالت : أريد أن أصوم مع وجود هذه الأعذار وصامت؛ فإنه يجزيها ؛ إعمالا للأصل .(3/220)
[ الرابع : العاجز عن الصيام لكبر ] : النوع الرابع من المفطرين في رمضان العاجز عن الصيام لكبر، هذا النوع يجب عليه الإطعام ولا قضاء عليه ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} فبين - سبحانه وتعالى - أنّ الذي يجد الطّاقة والجهد والمشقة في الصوم أنّه يباح له أن يفطر، وفي حكمه المريض الذي لا يرجى برء مرضه مثل من ابتلى بفشل كلوي وتعذّر أو وصل إلى سنّ لا يمكن علاجه أو كان معه مرض في القلب مزمن وليس له علاج ولا يرجى له برء لتأخر السن أو نحو ذلك ؛ فهؤلاء يعتبرون معذورين، كل منهم يجب عليه أن يطعم عن كلّ يوم مسكين، فإذا أطعم مسكينا ؛ فهذا هو الواجب في حقه سقط عنه الصوم ؛ لقوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } وفي بعض القراءات : يطيقونه يطّيّقُونه ويَطّوّقُونه هذا كله ذكر أئمة التفسير -رحمهم الله- أن المراد به الجهد والمشقّة على أن الآية محكمة وليست منسوخة ومأثور هذا عن بعض أصحاب النبي- - صلى الله عليه وسلم -- في تفسيرها ، وعلى هذا نقول : إن الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه من المرض يجب على كل واحد منهما أن يطعم عن كل يوم مسكيناً، هذا الإطعام يكون بعد الفطر إذا أفطر في اليوم أطعم ، ولكن لا يسبق الصوم ، فلو أن شخصاً جاء في بداية رمضان فأخرج إطعام الثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما فإنه لا يجزيه إلا بعد وجود سبب الوجوب ، إذا وجد الإخلال فحينئذ يكفّر ويطعم بعد فطره ، ولكن لو أنه أخر الإطعام إلى آخر الشهر وأخرجه دفعة واحدة فهذا مأثور عن بعض أصحاب النبي- - صلى الله عليه وسلم -- كأنس بن مالك -- رضي الله عنه -- وهذا الإطعام يأتي على صورتين :
الصورة الأولى : أن يعطي المسكين ، وهذا إعطاء التمليك وهو معروف مطّرد في الكفّارات .(3/221)
والصورة الثانية : أن يهيّئ الطعام ويعدّ طعاماً ويدعو إليه المساكين ، إذا أعطى المسكين المد أو نصف الصاع على القول الثاني ؛ لأن الكفارات بعضهم يرى أنه يطعم مدا ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتبره في الكفارة ، ولذلك في كفارة الجماع في نهار رمضان أعطي الرجل مكتلا ، وهذا المكتل عرق من التمر قال سعيد بن المسيب كان فيه خمسة عشر صاعا والخمسة عشر صاعاً على ستين مسكين لكل مسكين ربع صاع ، والمراد بالصاع الذي هو صاع الفطر الذي يخرج في آخر رمضان يقسم على أربعة إن قلنا لكل مسكين ربع صاع ، والوجه الثاني أن الإطعام يكون بنصف صاع ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتبره في فدية الأذى ؛ والله تعالى يقول : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } فجعلها بنصف صاع، قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين لكعب بن عجرة : (( أطعم فرقا بين ستة مساكين )) والثلاثة الآصع بين ستّة مساكين معناه لكلّ مسكين نصف صاع، فللعلماء هذان الوجهان ربع صاع ونصف صاع والأفضل أن يطعم نصف صاع والأفضل أن يزيد؛ لأن الله يقول : { فمن تطوع خيرا فهو خير له } فبين أن الزيادة في الإطعام أفضل ، وإذا زاد في الإطعام هل يوصف كل بالوجوب أو قدر الإجزاء وجهان حكاهما الإمام ابن رجب في القواعد، وإذا قلنا يوصف الكل بالوجوب ينبغي أن يتوفّر فيمن أخذ الزيادة شرط الحاجة والفاقة من فقر ومسكنة ، وإذا قلنا لا يوصف الكلّ بالوجوب سقط ذلك هذا من فوائد الخلاف في هذه المسألة . يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان على التمليك ، إذا لم يكن على التمليك يصنع طعاما ويدعو عشرة مساكين أو ثلاثين مسكينا في آخر الشهر، ويطعمهم وجبة كاملة في اليوم ، قالوا هذا يجزيه وأثر عن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- والأوّل أحوط وهو الذي يقرّره العلماء والجماهير، وهو أبرأ للذمة أن كل يوم يخرج عنه فيخرج عن هذا القدر المعتبر في الإطعام .(3/222)
[ أو مرض لا يرجى برؤه ] : وهكذا إذا كان المرض لا يرجى برؤه مثل ما ذكرنا مثل الفشل الكلوي – أعاذنا الله وإياكم - ونحو ذلك مما يتعذر معه الصوم ، ويكون المرض لا يرجى برؤه ؛ لأنه إذا كان المرض يرجى برؤه ؛ فإنه حينئذ نقول له : أفطر وانتظر زوال المرض ، واقض ما أوجب الله عليك من صوم ، فمثلا لو أن شخصاً عمل عمليّة جراحيّة عنده مرض وتعالج من هذا المرض وعملت له عملية جراحية فإنه يفطر في هذا رمضان ، ثم بقي بعد هذه العملية خمسة أشهر أو ستة أشهر، فإنه إذا كان معه هذا المرض نقول له أفطر ويلزمك القضاء ؛ لأنّ مرضك يرجى برؤه ، وحينئذ المريض له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون مرضه مما لا يرجى برؤه ، فإنه يطعم ولا يجب عليه القضاء .
وإما أن يكون مرضه يرجى برؤه ؛ فإنه لا يطعم ويجب عليه القضاء على الأصل ؛ لأنّ الله يقول : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فإن كان مرضه يرجى برؤه انتقل إلى عدة من أيام أخر .
[ فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا ] : فإنّه يطعم كلّ واحد منهم ، المريض الذي لا يرجى برؤه والشيخ الكبير أو العاجز عن الصيام يطعم عن كلّ يوم مسكيناًَ .(3/223)
[ وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير ] : قال رحمه الله : [ وعلى سائر ] : سائر من ألفاظ العموم يعني على جميع من أفطر القضاء لا غير ، يعني من غير هؤلاء ، فمن تعمد الفطر في نهار رمضان يجب عليه القضاء لدخوله تحت هذا العموم ، وإذا قلنا بأنه يجب عليه القضاء يرد السؤال : هل قضاء رمضان يجب فيه التتابع أو لا يجب فيه التتابع ؟ فعن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن من قضى رمضان يجب عليه أن يتابع ، وأن يصوم كصيام رمضان، فإذا أفطر ثلاثة أيام متتابعة يقضيها متتابعة ، وإذا أفطرها متفرّقة قضاها متفرّقة، قالوا بوجوب التتابع إن حصل الفطر؛ واحتجّوا ببعض الأحاديث الضعيفة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بعضها مرسل وبعضها ضعيف الإسناد ، حيث إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بسرد الصوم وتتابعه في القضاء ، ولكنّه لم يصح إسنادا .
وأيضا عن ابن عمر أنه أمر بالسرد في صيام القضاء .
وجماهير السلف والخلف على أنه لا يجب التتابع ؛ وقد صحّ عن أم المؤمنين عائشة كما روى الدارقطني في سننه وقال إن إسناده صحيح أنه كان فيما أنزل : { فعدة من أيام أخر متتابعات } ثم قالت رضي الله عنها : أسقطت متتابعات أي أسقطت تلاوة وحكما ، وحينئذ لا يجب التتابع وهذا قول جماهير العلماء -رحمهم الله- وعدّة نكرة ، والنكرة تفيد العموم يعني سواء قضى متتابعا أو متفرقا ، هذا من جهة النقل .(3/224)
ومن الأدلّة من جهة العقل أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نزّل الحقوق الواجبة لله -- عز وجل -- منزلة حقوق الآدمين وقال : (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضِيَتِيَه ؟ قالت : نعم )) وهذا أيضا في القضاء فنّزله منزلة القضاء الآدمي ، ومن أخذ من رجل مالا كمائة وقضاها متفرّقة لم يحرم عليه ذلك أو قضاها مجتمعة لم يحرم عليه ذلك، فهو مخيّر بين أن يقضي دفعة واحدة أو يقضي أقساطا فتبرأ ذمته في كلتا الحالتين، فإذا كان في حقوق الآدمييّن لا يشترط وهذا قياس مأثور حتى عن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قاسوه ، وقالوا أرأيت لو قضيت الدرهم والدرهمين أكان عليك شيء يعني ما عليك بشيء وكذلك حق الله -- عز وجل -- وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( دين الله أحق أن يقضى )) وقاس حقّ الله على حقّ المخلوق في الإلزام وأنّه أولى بالقضاء .(3/225)
[ إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة ] : إلا من أفطر بجماع في الفرج؛ فإنه يقضي ويعتق رقبة أي يلزمه القضاء مع الكفارة . [من ] أي : الذي جامع وهذا يقتضي وجود وصف مهم ومؤثّر في الحكم وهو الجماع في نهار رمضان وأن يكون صائما ؛ لأنّ سلمة بن صخر البياضي -- رضي الله عنه -- كما في صحيحين من حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أتى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو يقول : (( هلكت وأهلكت جامعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم )) أي والحال أنيّ صائم ، وهذا يدل على أنه لابد من وجود الجماع في الفرج، وأن يكون صائما ، وفي نهار رمضان على تفصيل عند العلماء ، إن قلنا الجماع يخرج من هذا أنه لو باشر المرأة ولم يحصل جماع أنه لا كفارة عليه ولو باشرها وأنزل ولم يحصل جماع أنه لا كفارة عليه ، وهذا لقوله : جامعت ، والأصل براءة الذمة حتى يدل الدليل على شغلها ، فجاء الحكم بقوله -عليه الصلاة والسلام- : أتجد ما تعتق به رقبة ؟ قال: لا ، أتجد ما تعتق به رقبة جاء مركّبا على قوله : جامعت ، وحينئذ ما دون الجماع فيه للعلماء وجهان :
إن أنزل وباشر امرأته فأنزل أو تعاطى أسباب الإنزال كالاستمناء فمن أهل العلم من قال الاستمناء والمباشرة مع الإنزال موجبة للكفارة التفاتا للمعنى ، وهذا مذهب المالكيّة -رحمهم الله- والحنفية من حيث الجملة قالوا : لأنه انتهك حرمة الشهر، والمراد أن يفسد صومه ، ويتفق الجمهور على أنه لو أنزل فسد صومه . قالوا استوى لأنه اللذة الكبرى استوى أن تكون بجماع وبدون جماع ، والأقوى كما ذكرنا أن يكون الجماع الحقيقي؛ لقوله : جامعت .(3/226)
وقوله : [ في الفرج ] : خرج وطء البهيمة ، فإنه لا يوجب ؛ لأنه ليس بفرج ، واختلف في وطء الميتة : هل يأخذ حكم الحيّة من كل وجه أو لا يأخذ ؟ طبعا من حيث الأصل هو فرج ويدخل في هذا العموم ، فإذا حصل الوطء في الفرج ولا يكون الوطء في الفرج موجبا للكفارة إلا إذا حصل إدخال رأس العضو ، وهذا نفصّل فيه لأن طلاب العلم في بعض الأحيان مع عدم ذكره وعدم بيانه قد يخطئون في بعض الفتاوى ، حتى إنّ البعض قد يوجب بمجرّد مماسة الفرج الفرج لابدّ من وجود الإيلاج ، وهو دخول رأس الذكر وهو الذي يترتب عليه الحكم بالزنا والحكم بالإحصان وثبوت المهر كاملاً وثبوت الكفّارة في نهار رمضان إلى غير ذلك من الأحكام المعروفة ، وعلى هذا لابد من الإيلاج إذا قيل وطء أو جماع فعند العلماء ضابطه إيلاج الحشفة أو قدرها من المقطوع . أما بالنسبة لقوله طبعا من حيث الأصل في نهار رمضان يرد السؤال: قال سلمة بن صخر -- رضي الله عنه -- : جامعت أهلي فنقول : جامعت أهلي وصف مؤثّر ، لكن لو زنا فجامع غير أهله -والعياذ بالله- نقول من باب أولى وأحرى ؛ لأن الله إذا أوجب عليه أن يكفر وامرأته حلال له أن يطأها في الأصل ؛ فمن باب أولى إذا زنا ، أو نقول بقياس المساواة إن المرأة حرمت عليه فصارت كالأجنبية أثناء الصوم ، وهذا أصل عند العلماء -رحمهم الله- فإذا وطئها وجبت عليه الكفارة لهذا المعنى ، وحينئذ إذا وطأ الأجنبية كان مثلها .
ومن أهل العلم من قال : إذا زنا لا يجب عليه الكفارة ، لكن هذا ضعيف ، والصحيح قول الجماهير أنه يجب عليه أن يكفر .(3/227)
في نهار رمضان طيب لو جامع في قضاء رمضان ولم يجامع في نهار رمضان إن قلنا الوصف مؤثر فحينئذ نقول : إنه لا يأخذ حكم نهار رمضان ، فلو صام قضاء فثارت شهوته فوطئ زوجته قال المالكية وطائفة من الحنفية -رحمهم الله- : يجب عليه أن يكفر ؛ لأن القضاء يأخذ حكم الأداء، والمراد أن يطأ ويجامع في صيام فرض واجب عليه ، وهذا من جهة المعنى فيه قوة ، ولكن القياس في الكفارات فيه ضعف من وجوه ، وحينئذ يقوى القول أنه لا يأخذ حكم الكفارة ، ولكن زجرا للناس نخيفهم ونمنعهم من ذلك تحقيقا لمقصود الشرع في صيانة الواجبات ؛ لأنه إذا صام قضاء يجب عليه أن يتم صومه ولا عذر له ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( المتطوّع أمير نفسه )) ولم يجعل الخيار لغير المتطوّع .
[في فرج ] : يجب عليه أن يعتق يكفر بالعتق هذه تسمى عند العلماء الكفارة المغلظة تكون في القتل قتل الخطأ واختلف فيها في القتل العمد ، وتكون أيضا في الجماع في نهار رمضان وتكون في الظهار، لكن في قتل الخطأ لا يجب أن يطعم ستين مسكينا، تختص بعتق الرقبة وصيام شهرين متتابعين، فإذا عجز عنهما سقطت عنه الكفارة ، وأما في الجماع في نهار رمضان وفي الظهار فإنه يكون هناك بدل من صيام شهرين متتابعين وهو إطعام ستين مسكينا .
فقوله : [ عتق رقبة ] : أن يعتق الرقبة ، والرقبة للعلماء فيها وجهان :
منهم من قال : إنها تكون مؤمنة ، ويشترط الإيمان في الرقبة في الكفّارات .
ومنهم من قال : يشمل المؤمنة وغير المؤمنة .(3/228)
والصحيح أنّ العتق لا يكون إلا لمؤمنة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما جاءه الصحابي يريد أن يعتق مولاته وأمته أمره أن يحضرها فقال لها : (( أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فقال عليه الصلاة والسلام : اعتقها فإنها مؤمنة )) فلما قال فإنهّا مؤمنة جملة تعليليّة أي اعتقها لأجل أنها مؤمنة وهذا من جهة النظر صحيح .
قلنا : إن اشتراط الإيمان أقوى ويحمل المطلق على المقيد ، وهذا معروف في كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وقوّت السنة ذلك في الحديث الذي ذكرناه ثم من جهة النظر الصحيح أن نقول إن سبب ضرب الرقّ على الأرقّاء هو الكفر، ولذلك الرقّ لا يختصّ بلون ولا بجنس ولا بطائفة وإنما هو بسبب الكفر، ولما الرق لا يضرب إلا في حال الجهاد الشرعي بصفاته وضوابطه بعد أن يأذن الإمام بالاسترقاق، فإذا وقف هذا الكافر في وجه الإسلام وقاتل المسلمين وأخذ أسيًرا ؛ فإنه حينئذ استحق العقوبة لأنه بكفره كما أخبر الله : { إن هم كالأنعام بل هم أضل } فانحط من الآدمية إلى البهيمية ثم لم يقف عند كفره بل وقف في وجه الإسلام وقاتل وحينئذ استحق أن يعاقب فإذا ضرب عليه الرق من أجل هذا السبب الباعث وهو الكفر لا يعقل أنه يعتق ويخرج وهو كافر ما صار فيه معنى ، ومن هنا لا تعتق الرقبة إلا إذا كانت مسلمة ، ولا يشترط فيها الكمال، فيجوز عتق الرقبة الصغيرة ، ويجزي أن تكون ذكرا ويجزي أن تكون أنثى في الكفارات ، ويجزي أن تكون كاملة الخلقة أو تكون ناقصة الخلقة معيبة للنكرة التي تفيد العموم ، ولم يرد ما يقيدها ، وعلى هذا إلا إذا كان مشلولاً فمذهب الجمهور على أنه لا يجزي لتعطل المقصود ولوجود التهرب والتخلص منه من سيده فيتهم في عتقه هذا بالنسبة للرقبة .
يعتق رقبة : وإذا لم يجد الرقبة .(3/229)
[ فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ] : يصوم شهرين متتابعين ؛ لأنّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال لسلمة بن صخر البياضي : أتجد ما تعتق به رقبة ؟ قال : لا ، وقال : صم شهرين متتابعين ، فهذا يدلّ على أن البدل عن الرقبة صيام شهرين متتابعين . فقال : يا رسول الله، هل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم كان مبتلى بهذا لأنه لا يصبر على زوجته ، فخفف النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عنه وانتقل إلى البدل وذلك بإطعام ستين مسكينا ، فقال : أطعم ستين مسكينا وأشار المصنف -رحمه الله- إلى هذا بقوله :
[ فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ] : يجب عليه صوم شهرين متتابعين : إن بدأ من بداية الشهر كأن يبدأ من بداية محرم فإنه ينتهي بنهاية صفر كاملا الشهران سواء كملا أو نقصا فلو كان هلال محرم هلال صفر ظهر في يوم الشك فإنه سيصوم محرم ناقصا وصفر كاملا فإذا صام الشهرين يصومهما كاملين أو ناقصين أو أحدهما كامل والآخر ناقص على حسب الرؤية الشرعية، وهذا الذي جعل العلماء يقول : إنّه لا يجوز للمسلمين ؛ لأنّها من فروض الكفايات إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين أن يتركوا ترائي الهلال؛ لأنّه تترتّب عليه كثير من الأحكام الشرعية ومنها صيام الكفارة أن يعلم هل الشهر كامل أو ناقص، فالشاهد من هذا أنه إذا ابتدأ من بداية الشهر اعتد بهما كاملين أو ناقصين ، وإن ابتدأ أثناء الشهر فإنه يصوم ستين يوما متتابعة ، وهذا على الأصل إن حصل أن صام مثلا شعبان ثم دخل عليه رمضان فإن صوم رمضان لا يقطع التتابع ثم اختلف العلماء على وجهين : هل يفطر يوم العيد أو يصومه ؟
منهم من قال بالفطر بناء على أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالفطر يوم العيد وهو قوي من حيث النص كما في حديث عمر في الصحيحين في خطبته -رضي الله عنه وأرضاه- .(3/230)
ومنهم من قال : إنه لا يفطر يوم العيد ؛ لأنه مأمور بصيام الشهرين المتتابعين للكفارة ، وإنما نهي بسبب الإعراض عن ضيافة الله -- عز وجل -- ، وهذا من جهة المعنى مع النص أقوى .
والأوّل من جهة النص واتقاء المنهي عنه أقوى ، وإذا أفطر يتأول النص ؛ فإن صومه صحيح ، ولا يقطع التتابع فطره ، وإذا صام فصومه صحيح ولا يلزم بقضاء يوم مكان يوم العيد ؛ لأنه غير مأمور بصيامه .
يصوم الشهرين المتتابعين على هذا التفصيل الحائض ، المرأة إذا حاضت لا يقطع الحيض الصوم ، وإذا مرض مرضا موجبا للفطر لم يقطع تتابعه ، فيفطر لوجود العذر كما أن الحائض تفطر ولا يقطع التتابع ، وإذا كان المرض مضرا به ؛ فإنه يفطر ولا يقطع التتابع.
[ فإن لم يجد سقطت عنه ] : يطعم ستّين مسكينا لكل مسكين ربع صاع ؛ لأنّ حديث الكفّارة أتي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بمكتل وهو العَرْق فيه خمسة عشر صاعاً كما أخبر في رواية مالك في الموطّأ الخمسة عشر صاعا على ستين مسكيناً ، لكل مسكين ربع صاع ، وعلى هذا تكون الكفارة المغلّظة يطعم لكل مسكين ربع صاع خمسة عشر صاعاً من التمر من الحب كالبر والشعير ونحوه تجزيه وتكون لكل مسكين من تحقّق فيه وصف المسكنة وهو الذي لا يجد كفاية القوت، قد يجد قوته لكنه لا يجد الكفاية قدر الكفاية ، والفقير الذي لا يجد شيئا من الكفاية .
[ فإن لم يجد سقطت عنه ] : فإن لم يجد ما وجد رقبة ما عنده نقود يشتري بها رقبة أو لا توجد الرقبة ولا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين كأن يكون كبيرا في السن ولا يستطيع أن يطعم ستّين مسكينا للعجز والفاقة ؛ سقطت عنه الكفارة .
اختلف العلماء : هل إذا اغتنى بعد ذلك يلزمه أن يقضي أو لا ؟ على وجهين مشهورين عند العلماء -رحمهم الله- :
منهم من أسقطها ، والعبرة بحال الوجوب وبحال الأمر، وهذا على أصل مطّرد عند العلماء -رحمهم الله- في مسائل عديدة من هذا النوع .(3/231)
ومنهم من قال : إنه إذا اغتنى سقطت عنه عند العجز، وإذا اغتنى بعد ذلك لزمه أن يكفّر .
[ فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة ] : إن جامع ولم يكفّر حتى جامع ثانية في يوم واحد فكفّارة واحدة لكن إذا جامع في أيام متعددة لكل يوم كفارته .
[ وإن كفّر ثمّ جامع فكفارة ثانية ] : وإن كفّر ثم جامع في نفس اليوم أو في الأيّام المتعدّدة على القول بالتداخل ؛ فإنه تلزمه كفّارة ثانية .
الصحيح أنه إذا جامع في اليوم الواحد وجبت عليه كفارة واحدة ولو تعدّد جماعه ، وأنه إذا جامع في أيّام متعدّدة فلكل يوم كفارته .
الذين يقولون إنه إذا جامع في اليوم الواحد تجب عليه أكثر من كفارة قالوا لأنّه مأمور بالإمساك بعد جماعه الأول ، فإذا جامع ثانية فقد أخلّ إخلالا ثانيا ، لكن هذا يضعف قوله : جامعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم ، وأولئك يعتذرون بأنه في حكم الصائم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر في يوم عاشوراء لما نزلت فرضيته أن يمسك بقية اليوم مع أنهم مفطرون حقيقة ، ونزّلهم في حكم الصائم وهذا معروف عند الجمهور في مسألة إلحاق المعذور أو المخلّ بالأصل .
[ وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع ؛ فعليه كفارة ] : هذا على الأصل الذي ذكرناه في حديث عاشوراء أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بإمساك بقية اليوم ، ومن قدم من السفر وهو مفطر في سفره ودخل إلى بيته يجب عليه أن يمسك بقية اليوم ؛ لأنّ العذر قد زال ، وهذا شيء تعبّديّ ولذلك أمر يوم عاشوراء نزلت فرضيته أثناء اليوم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله فرض عليكم صوم يومكم هذا في مقامي هذا، فمن أصبح منكم صائما ؛ فليتم صومه ، ومن أصبح منكم مفطرا؛ فليمسك بقية يومه )) فدلّ على وجوب الإلزام وهذا واضح يعني العلماء قرروه وإن كان البعض يقول ما له دليل ، وله دليل واضح من السنة وهو إمساك بقية اليوم مع وجود العذر في الأصل .(3/232)
[ وإن أخّر القضاء لعذر حتى أدرك رمضان آخر فليس عليه غيره ] : إذا كان لعذر ، وأما إذا لم يكن لعذر؛ فإنه يجب عليه أن يكفّر فيما اختاره المصنّف والجمهور .
والأقوى أنه لا تجب عليه الكفارة لكن فيه قضاء عن الصحابة فيحتاط لكل يوم ربع صاع أخّره من دون عذر.
أخره لعذر : العبرة بشهر شعبان فإن جاء شهر شعبان وعنده عذر سقطت عنه الكفارة كالمرأة يجب عليها أن تصوم أيام حيضها ، ثم شاء الله في بداية شعبان أن تمرض حتى دخل رمضان الآخر فحينئذ أخرت لعذر فلا يجب عليها إلا القضاء وحده . أما إذا ماطلت وسوّغت وتأخّرت بدون عذر فيجب عن كل يوم أن يطعم ربع صاع على الاحتياط لا على سبيل الإلزام .
[ فإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا ] .
[ وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه ] : وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه ؛ لأنه إذا ترك القضاء حتى مات وكان تركه للقضاء لعذر سقط عنه القضاء ؛ لأنه لم يحصّل أياما يجب عليه أن يقضي ؛ لأن الله قال : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } هذه العدة من أيام أخر لم تأت فأشبه كما لو لم يدخل عليه رمضان ولم يجب عليه رمضان .
[ وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين ] : فإن مات وأخّر تفريطا وجاءته أيام يمكنه أن يصوم فيها أطعم عن كل يوم مسكين ، وهذا لمكان التأخير يقيسونه على مسألة رمضان الأصلية ، وإن قلنا إنه يصوم عن الميت يصير يصوم ويطعم عن كل يوم مسكين لمكان التفريط إذا دخل عليه رمضان الآخر، وأما إذا مات فإنه الصحيح إذا مات وهو مفرّط فإنه يجوز أن يصوم عنه وليه لعموم قوله : (( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )) وإلا انتقل إلى الإطعام إذا كان عاجزا لكبر سنّ واستمرّ معه العجز أو أفطر لمرض لا يرجى برؤه واستمرّ حتى مات فإنه حينئذ يجب أن يطعم عنه أولياؤه فقط .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه(3/233)
قال المصنف – رحمه الله - : [ وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فهذه العبارات هي من آخر ما شرحناها ؛ ونظرًا لأنهّا كانت في آخر الدرس الماضي كانت تحتاج إلى شيء من التفصيل .
[ ومن ترك قضاء رمضان لعذر حتى مات فلا شيء عليه ] : أولا قضاء رمضان موسّع وليس بمضيّق ، بمعنى أنّ المسلم لا يجب عليه بمجّرد انتهاء رمضان أن يقضي الأيام التي عليه من شهر الصوم ، وإنما يقال له : أنت في فسحة ، ولك أن تؤخّر القضاء ما لم تبقَ الأيّام الواجبة عليك في شعبان ؛ والأصل في هذا التأخير دليلان :
الأول قوله -- سبحانه وتعالى -- : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيْضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر } فجعل الله القضاء عدّة من أيام أخر، وهذا عام يشمل جميع أيام السنة ، ولم يحدد الله -- عز وجل -- شهرًا من شهور السنّة التي تلي رمضان ، ولم يوجب عليه القضاء مباشرةً فدل على أنه قضاء موسّع .(3/234)
ثانيا : إذا كان المكلّف بإذن الشّرع في الكتاب قد سمح له بالتأخير فكذلك في السّنة ، فإن النّبي-- صلى الله عليه وسلم -- أكّد هذا المعنى حينما أقرّ أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- على تأخير قضاء رمضان إلى شعبان ؛ ففي الحديث الصّحيح عنها -رضي الله عنها- أنها قالت: (( إن كان يكون عليّ الصّوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- منّي )). فأخبرت أنّها كانت تؤخّر قضاء رمضان إلى شعبان ، قيل: لأنّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في شعبان كان ينشغل بالصّوم وحينئذ تتمكّن وكانت حبّ رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، وعلى هذا فإنه لو كان عليه عشرة أيّام نقول له أنت بالخيار أن تصومها من أي أيّام السّنة ما لم يبق من شعبان عشرة أيّام من غير يوم الشّكّ، وحينئذ من التّاسع عشر يصوم العشرين ثم الواحد والعشرين حتى يتمّ العشر فنقول له واجب موسّع ما لم يبق من شعبان على قدر الأياّم التي أفطرتها من رمضان ، هذا الأصل يعني دلّت عليه النصوص في الكتاب والسّنة وهو قول أئمة العلم -رحمهم الله- والفتوى : أنّ قضاء رمضان موسّع إذا ثبت أن النّص قد أذن للمسلم أن يؤخر في قضاء رمضان ؛ فإنه في هذه الحالة يجوز للإنسان أن يؤخّر ما لم يصل إلى الحد الواجب عليه ، فلو مات قبل أن يصوم فإنّه حينئذ لم يفرّط ، وعلى هذا لا يجب عليه القضاء ، ولا يجب على أهله أن يطعموا ؛ لماذا ؟ لأنه لم يصر واجباً مضيقا عليه إنما يصير واجبا مضيقا عليه إذا بقي قدر الأيّام الواجب عليه من شعبان ، وحينئذ يتعيّن عليه الصوم ولذلك في القضاء في قضاء رمضان اجتمع مثال للواجب الموسّع والواجب المضيّق وهما نوعان من أنواع الواجب عند علماء الأصول .(3/235)
ثانياً : قلنا إن أخّر لعذرٍ فالتّأخير عذر شرعيّ وقد يكون عذرًا لمرض ، وقد يكون عذر لعدم استطاعته الصوم ، فحينئذ نقول في جميع هذه الأحوال العذر الشّرعي والعذر الطبيعي المتعلّق به في نفسه وجسده كلّ ذلك موجب لسقوط المؤاخذة عنه .
[ وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين ] : إذا أخّر قضاء رمضان لغير عذر وأصبح -مثلاً- متعيّناً عليه ، ثم بعد ذلك دخل عليه رمضان الثاني إذا أخّر رمضان حتى أصبح واجباً عليه ثم فرّط فيه حتى دخل رمضان الثاني فإنّه يطعم عن كلّ يوم مسكين ، هذه تسمى فدية التأخير، وهذه الفدية محفوظة عن بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وعمل بها العلماء وجمهور الأئمة . قال يحي بن أكثم : إنها حفظت عن أكثر من ستّ من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنهم كانوا يفتون من أخّر وليس عنده عذر حتى دخل رمضان الثاني أنّ عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً ، وهذا جبر للإخلال في الصيام ؛ لأن محلّ الصوم ما بين الرمضانين ، فلماّ فرّط ألزم صار عنده حقّان : حق التأخير والتفريط ، وحقّ الصوم ، فالصوم باقٍ باق ويلزمه أن يصوم بعد رمضان الثاني ، ولكن يبقى الإشكال في عدم صومه مع عدم وجود العذر، فهذا جبر بإطعام مدّ لكل مسكين وهو ربع صاع ، وعلى هذا لو أفطر أربعة أيام ثم لم يقضِها حتى دخل رمضان الثاني فإنه يطعم صاعاً واحدًا لكل مسكين ربع صاع ؛ إن شاء أطعم في كل يوم أعطاه ربع صاع حتى يتمّ الصاع بعد أربعة أيام ، وإن شاء أعطى الصاع مفرّقًا بين أربعة مساكين .
[ إلا أن يكون الصوم منذورًا فإنه يصام عنه ] : إذا توفّي ومات وعليه صوم نذر؛ فللعلماء وجهان :(3/236)
الوجه الأول : أن صوم النّذر يقضيه الحيّ عن الميّت ؛ والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه سألته امرأة وفي بعض الروايات : رجل أنها ماتت أمّها وعليها صوم فقال : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاَضِيَتيِه ؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحق أن يقضى )) .
فأخذ في بعض الروايات : (( صوم نذر )) فمن هنا قال بعض العلماء : إن صوم النذر يصام عن الميت ؛ وذلك لأن صوم النّذر ليس كالصوم المحدود وهو صوم رمضان الذي انضبط بضوابط الشريعة ، فحينئذ لو مات قبل أن يقضي لعذر سقط عنه ؛ لأنه لم يتعيّن ولم تنشغل به ذمته ، ولكن النذر تنشغل به الذمة مباشرة ، ومن هنا فرّق بين النوعين وهذا اختيار الإمام أبي عبدالله أحمد بن حنبل -رحمه الله برحمته الواسعة- ؛ والأصل يقتضي أن العبادات البدنية لا يفعلها الحي عن الميت ، والعبادات المشتركة بين البدن والمال كالحج ؛ فإنه يفعلها الحي عن الميّت كما في حديث الحج ؛ خاصة في حال خاص وهو أن يموت الميّت ولم يحج ولم يعتمر، وأما بالنسبة للعبادات البدنية المحضة كالصلاة والصوم ؛ فالأصل الشرعي يقتضي أنها لا يفعلها الحيّ عن الميت، ومن هنا الإجماع قائم على أنه لا يصلّي الحي عن الميّت إلا خلافاً شاذًّا عن إسحاق بن راهويه والصحيح أنه لا يصلي حي عن ميّت ، ولا يصوم حي عن ميت ؛ لأنها عبادة بدنية فجاءت السنة واستثنت من هذا الأصل ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاَضِيَتيِه؟ قالت: نعم . قال : فدين الله أحقّ أن يقضى)) وفي اللفظ الآخر في الحديث الآخر : (( من مات وعليه صوم ؛ صام عنه وليّه )) .(3/237)
ومن هنا أخذ العلماء أن صوم النذر يصومه لو نذر أن يصوم لله ثلاثة أيّام، أو نذر أن يصوم أسبوعاً ، فإذا أطلق فإنها تصحّ ثلاثة أيّام متتابعة ومتفرّقة ، فلو توفي قبل أن يقوم بها قام وليّه وقريبه فصام الثلاثة الأيام عنه ، فمراد المصنّف أن صوم النذر يقضى ويقضيه الحي عن الميت .
[ وكذلك كل نذر طاعة ] : وكذلك كلّ نذر طاعة لو أن الميّت نذر نذرا فإن الحيّ يقوم به عنه ومن هنا إذا كان على الإنسان نذر يكتب في وصيته ذلك النذر؛ لأنه دين لله عليه فكما أن ديون الآدميين يجب حفظها كذلك دين الله يجب حفظه ، وهذا هو الأصل في حديث الوصيّة ما حق امرئ مسلم كما في الصحيحين من حديث عمر : (( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وعنده شيء إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه )) وفي بعض الروايات : (( وله شيء يريد أن يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه )) فإذا نذر طاعة فإنّ طائفة من العلماء وكما اختاره المصنف -رحمه الله- يرون أن حديث الأمر بالصيام عن الميت بالنذر أنه أصل في الوفاء بالنذور عن الميت إذا مات ولم يؤد نذره ؛ لأنّ هذا دين عليه ، وقد أمر الحي أن يقضي دين الميت ؛ لأنّ الميت مشغول الذمة بهذا فيشرع له أن يقضي دين ميته .
[ باب ما يفسد الصوم ] : يقول المصنّف -رحمه الله- : [ باب ما يفسد الصوم ] : الفساد ضد الصحة ، والمراد بالفساد عدم ترتب الأثر الشرعي على العبادة أو المعاملة ، فإذا قلنا : صلاة فاسدة فمعناه أنه لا يترتب الأثر الشرعي عليها ، فكل من صلى إذا كانت صلاته صحيحة وحكمنا بصحتها ؛ ترتّب الأثر الشرعي ، ما هو الأثر الشرعي ؟
أولا : الإجزاء كونها مجزئة إذا وقعت بشروطها وأركانها تامة حكمنا بكونها مجزئة ، وإذا قلت إنها مجزئة فمعنى ذلك أنه برئت ذمّته ، وسقط عنه الإلزام بالقضاء ، فهو إذا أدى العبادة على وجهها المعتبر؛ فإننا نحكم بخلو ذمته وبراءتها .(3/238)
والفساد ضدّ هذا فإننا نقول إنه يجب عليه أن يعيد الصلاة ويلزمه قضاؤها ، وعلى هذا إذا قلنا إن الصوم صحيح فمعناه أنه برئت ذمته ، ولا يلزم بإعادته ثانية إذا أداه على الوجه المعتبر، هذا يستلزم أن نبيّن حقيقة الصوم ، وما يخل بهذه الحقيقة ، ومن هنا لا يكون الفساد إلا بالإخلال بالضوابط الشرعية للعبادة أو المعاملة ، فإذا أخلّ بها حكم بالفساد ، ومن هنا يقول المصنّف-رحمه الله : باب ما يفسد الصوم أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلّق بمفسدات الصيام .
[ ومن أكل أو شرب ] : يقول رحمه الله : [ ومن أكل أو شرب ] : حقيقة الصوم الإمساك عن الأكل والشرب ؛ ودلّ على ذلك دليل الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب ؛ فقوله -- سبحانه وتعالى -- : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل } فقوله -- سبحانه وتعالى -- : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } فيه دليل على أنّ الأكل والشرب مسموح به إلى غاية ؛ ولذلك قال : { حتى يتبين } والقاعدة في الأصول : أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم ، فهنا قال :{ وكلوا واشربوا حتى يتبين } فلما أراد أن يبيّن لنا بداية الصوم منع من الأكل والشرب ، فدلّ على أن حقيقة الصوم هي الإمساك عن الأكل والشرب ، وأكّد هذا حديث السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في الصحيح في الحديث القدسي يقول الله تعالى : (( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )) فقال : (( يدع طعامه وشرابه )) .(3/239)
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أنه قال : (( إن بلالا يؤذن بليل -وهذا الأذان الأول- فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم )) . فقال : (( كلوا واشربوا حتّى يؤذّن ابن أمّ مكتوم )) وكان ابن أم مكتوم لا يؤذّن إلاّ عند تبيّن الصبح ، وهذا يدل على اجتماع دليل الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب عند التبين وأنه لا يجوز لأحد أن يأكل ويشرب بعد أن تبين الصبح إلا أن المؤذن في بعض الأحيان يحتاط بالقدر اليسير ؛ لأنها السنة وكان لا يؤذن حتى يقال له: (( أصبحت أصبحت )) أي ويحك كدت أن تصبح ، ومن هنا حمل حديث من أذن عليه الأذان والإناء في يده ؛ فإنه لا يرده حتى يصيب حاجته منه ؛ لأن الإناء للشرب والنهمة والحاجة تسع هذا القدر القليل الذي يحتاط به المؤذنون .
وقال بعض العلماء كما أشار الإمام النووي وغيره -رحمه الله- في تأويل هذا الحديث إن المراد به الأذان الأول؛ لأنه جاء بالنداء حتى يفرغ من حاجته فكان هناك النداء الأول ، وهو نداء بلال ، ثم بعد ذلك الأذان ، فبين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا الحديث أنه لا يبين منه حتى يصيب نهمته منه فيما بين الأذانين وكان القدر اليسير وهو الذي عناه الراوي بقوله : (( لم يكن بينهما إلا أن يصعد هذا ثم ينزل هذا )) .
والحقيقة التأويل الثاني أضعف من الأول ، وأيا ما كان هذا الحديث لا يمكن أن تعارض به النصوص الصريحة في الكتاب والسنة ، فإن النص الصريح في الكتاب والسنة يدل على حرمة الأكل والشرب بعد الأذان ، وأنه إذا ابتدأ الأذان وجب الإمساك إلا إذا كنت على علم وبصيرة بالفجر كما يحدث في البوادي وفي الأماكن التي لا ضياء فيها تعرف تبين الفجر بنفسك ، وتعلم قدر الاحتياط من المؤذّن فتأكل في هذا القدر وأنت على بينة من أمرك فلا بأس .(3/240)
أما ظاهر الكتاب والسنة ونصوصه ؛ فإنه صريح في هذا ، ولا يقاس على الشرب الأكل بإجماع العلماء -رحمهم الله- فلو كان يرفع اللقمة في فمه فلو قيل إن هذا خاص والآيات والأحاديث عامّة نقول إن هذا لا يقتضي القياس عليه ، ولذلك لا يصح أن يقاس الطعام على الشراب في هذا، وأما الجماع فإنه إذا كان يجامع أهله فاستمر بالجماع بعد الأذان فإنه يعتبر مرتكبا للمحظور، ويجب عليه الكفّارة إذا جامع بعد سماعه للأذان استمرّ في الجماع بعد سماعه للأذان لزمته الكفارة، وقد قرر ذلك الأئمة وأشار إليه شيخ الإسلام في الشرح أنه وجه واحد عند العلماء أنه إذا استمرّ في جماعه بعد الأذان وأن الاستدامة تأخذ حكم الابتداء في هذا ، وعليه أن ينزع ثم اختلف هل النزع جماع أو ليس بجماع فيه خلاف بين العلماء ، والصحيح والأقوى أنه إذا نزع مباشرة أنه لا شيء عليه ؛ لأن النزع ليس بجماع حقيقة ، وهو ممتثل لأمر الله -- عز وجل -- كاف عما نهي عنه، وينبغي للمسلم أن يحتاط في هذا وأن يستبرئ لدينه وعرضه وأن يأخذ بالأصول الصحيحة الواضحة الثابتة في الكتاب والسنة والتي عليها الإجماع .
ثانيا : ما أثر عن الصحابة -رضوان الله عليهم- من بعض الصحابة لأنه كان يأكل بعد تبين الفجر فهذا -إن شاء الله- سنبينه في مسألة الشك في طلوع الفجر .
أما من حيث الأصل وهذا النص أنه لا يجوز الأكل ولا يجوز الشرب بعد التبين ، وإذا ثبت هذا فمن أكل أو شرب بعد التبين سواء بعد الأذان مباشرة أو في أثناء النهار؛ فإنه يحكم بفطره ، ويجب عليه القضاء .(3/241)
الأكل والشرب معروف ، ولا يشترط في هذا الأكل أن يكون كثيرا ، ولا يشترط في المشروب أن يكون كثيرا ، فلو أنه أكل اليسير؛ فقد أفطر مادام أنه قد جاوز لهاته ، ولا يصدق عليه أنه آكل إلا إذا ازدرد الشيء وبلعه ، والعبرة باللهاة وهي الفاصل بين داخل الجوف وخارج الجوف ؛ ودليلنا أن المسلم إذا تمضمض لم ينتقض صومه ؛ فدل على أن الفم من خارج البدن في الصوم وليس من داخله بدليل المضمضة والاستنشاق للصائم ؛فإن جاوز اللهاة وهي اللحمة المدلاة في آخر الفم بداية الحلقوم ؛ فإنه يحكم بفطره ، وحينئذ لا ينظر لا إلى كثير ولا إلى قليل، استثنى العلماء اليسير الممتزج في الأسنان بعد السحور، فإن الإنسان ربمّا أذّن عليه الأذان وفي فمه بقاء الطّعام اليسير قالوا إنه ما استطاع أن يلفظه يلفظه وما كان فيه مشقّة فهذا عفو ؛ لأنّه لا يمكن التحرز منه ، ولذلك لا يبحث في هذا ولا يقال إنّه مؤثّر، ولكن إذا كان له جرم وأمكنه أن يتفله أو يخرجه فإنه يلفظه ، وأما بقايا اللبن ووبر اللبن على الأسنان ونحو ذلك ؛ فإنها لا تؤثر .
من أكل أو شرب : الأصل فيه أن يكون أكله وشربه اختيارا ، وأما المكره على الأكل والشرب والناسي؛ فسيبيّن المصنّف -رحمه الله- استثناءهما .(3/242)
[ أو استعط ] : السعوط يكون عن طريق الأنف ، والأصل في كون دخول الشيء من الأنف موجب للفطر حديث لقيط بن صبرة -رضي الله عنه وأرضاه- وهذا الحديث في الحقيقة من أدقّ الأحاديث ، وينبغي لطالب العلم أن يحسن النّظر فيه ؛ لأن جماهير السّلف والخلف والأئمة الأربعة وأصحاب المذاهب فصّلوا كثيرًا من الأحكام على هذا الحديث ، ومن دقّتهم في التفصيل أنهّا خفي هذا التفصيل على الكثير حتى ظن أن هذه التفصيلات التي قالوها لا دليل لها ، والواقع أن هذا الحديث فيه دلالات عجيبة على أحكام الصوم والإخلال بالصوم، حاصل الأمر أن هذا الحديث قال فيه النبي-- صلى الله عليه وسلم -- للقيط بن صبرة:(( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) ((بالغ في الاستنشاق )): الاستنشاق: استفعال من النشق ، والنشق والنشوق جذب الشيء إلى أعلى الخياشيم بالنفس ، هذا يسمّى نشوقاً والاستنشاق ، وطرحه استنثار من النثر، وهو الطرح، فالاستنشاق السنة فيه أن يبالغ الإنسان مبالغة في التنظيف خاصة إذا كان مستيقظا من نومه كما جرت بذلك السنة أن الشيطان يبيت على خياشيمه. في الصوم قال له : (( إلاّ أن تكون صائماً)) قالوا إن قوله : (( إلاّ أن تكون صائما )) فيه دليل على أنه خاف عليه عند المبالغة أن ينفذ الماء إلى جوفه ؛ لأنه إذا بالغ لم يأمن أن يدخل الماء إلى جوفه ، وحينئذ يفطر في صومه؛ ولذلك قال : (( إلا أن تكون صائما )) ومعناه أن صومك وإمساكك عن الطعام والشراب يقتضي امتناعك عن المبالغة ؛ لأنه يخاف ولا يأمن أن يدخل شيء إلى جوفه .(3/243)
طبعا فيه فوائد منها أنه لا يجوز للمسلم أن يشتغل بالمسنون على وجه يضيع به الواجب والمفروض، لأن المبالغة في الاستنشاق سنة وحفظ الصوم فرض وركن من أركان الإسلام ، فقدّم الركن على السنة ، ولهذا الأصل الذي استنبط من هذا نظائر منها : أنه لا يقبل الحجر وعليه طيب، لأن الامتناع من الطيب واجب عليه ، وتقبيل الحجر سنّة ، ونحو ذلك من المسائل .
الفائدة الثانية : أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتبر الأنف منفذا للجوف ، ومن هنا حكم بعدم جواز المبالغة في الاستنشاق ، فتفهم منه أن العبرة بوصول الطعام والشراب إلى الجوف بغضّ النظر عن المكان المعتاد ، وهذا فقه المسألة أنّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يقيّد الفطر بالفم ، وحينئذ علينا أن ننظر في كلّ شيء يفضي إلى الجوف أنه مؤثر في الصوم ؛ اتباعا للسنة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يقيّدنا بالفم . هذا أوّل شيء .
وثانيا : أن دخول الماء عن طريق الأنف غير معتاد ، بل فيه ضرر، ومع ذلك اعتبره مؤثّرا في الصيام .
تفرّع عليه من هذا المعنى أنّ الدخول إلى الجوف لا يشترط فيه أن يكون من المكان المعتاد .(3/244)
ثالثا : أن هذا الداخل عند الاستنشاق إذا تأمّلته تجده شيئاً من الرذاذ القليل جدًّا ، وهذا رذاذ الماء القليل جدّا الذي منع منها أثناء المبالغة ويؤثّر في الصوم يدلّ دلالة واضحة على أن المراد اختراق الجوف لا الوصول إلى أصل الجوف ؛ لأنّ هذه القطرات قطعا كما يقرره العلماء وأشار إليه الإمام النووي والإمام ابن قدامة -رحمه الله- وشيخ الإسلام، في الشرع الأصل أنّ الدخول إلى الجوف لا يشترط فيه الوصول إلى المعدة ؛ لأنّ هذه القطرات ستستهلك عن طريق بمجرد وصوله إلى أطرف الحلقوم أو إلى أوّل مجاري الأمعاء أنّها ستنتهي، فلا تصل إلى الجوف قطعا ، فأصبح الإخلال أن يكون إما أن تقول العبرة بنافذ إلى الجوف ، فكلّ ما نفذ بغضّ النظر عن كونه وصل أو لم يصل ، ومن هنا لو أكل قطعة من الحلوى ثمّ بلعها ثمّ لفظها ولم تصل إلى جوفه أفطر إجماعا، فدل على أن المسألة لا تقف على الوصول إلى المعدة ، وهذا الذي جعل البعض يخلط في هذا الأمر ولا يرى الإنسان مفطرا إلا بإبرة تصل إلى جوفه ويتغذى بها جوفه ، فالسنة تدل دلالة واضحة على أن المراد انتهاك الحرمة بالجوف بغض النظر عن الوصول أو عدمه ، وعلينا أن ننظر في هذا كما نظر فيه جماهير العلماء والأئمة ولذلك إذا نظرت في كتب الفقهاء وجدتهم يشدّدون في الجوف اتباعا لهذه السنة ، ويعتبرون أن العبرة هو الوصول إلى الجوف فإذا كانت العبرة بالوصول إلى الجوف نظروا إلى النافذ وغير النافذ ، وهذا فقه المسألة ؛ لأنّ الحديث جاء في نافذ إلى الجوف؛ لأن الأنف ينفذ إلى المعدة ، ومن هنا قالوا كل ما نفذ إلى المعدة بغض النظر عن كونه يصل أو لا يصل . هذا أول شيء .(3/245)
وثانيا : عن كونه من أعلى أو أسفل مادام أنه نافذ ، فمنهم من جعله للأعلى اعتبارا على الغالب المعتاد ، ومنهم من نظر إلى العموم . الذين نظروا إلى العموم قالوا كيف نقيد بالمعتاد وقد وجدنا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يلغي المدخل المعتاد ؟ لأن الأنف مدخل غير معتاد، ومن هنا لا فرق عندنا بين الأعلى والأسفل.
تفرّعت على هذا مسائل ، منها : نقول إنّ البخاخ الذي يبخّ للربو، كلّ الأطبّاء متّفقون على أنه يصل ويوسّع مجاري النفس في الرئة ، فالبعض يقول إن هذا لا يفطر لأنه لا يصل إلى الجوف ، ونحن نقول إنّ السنّة لا تدل على الوصول إلى الجوف ، فهذا البخاخ إذا أصبح الشخص يعني حتى الأطباء يتعجّبون وقد رأيت أكثر من دكتور يقول: أتعجب كيف لا يفطر وهي موادّ مركّبة تدخل وتتفاعل في داخل الجسم وتفتح مناسم الجسم ، والسبب في هذا أن البعض يظنّ أنه لا يفطر إلا بشيء ينفذ إلى المعدة والواقع أن النفوذ إلى المعدة ليس بأساس؛ لأنّ القطرة في الاستنشاق كما ذكرنا ليست نافذة للمعدة ولا يغتذي بها المعدة .(3/246)
كذلك لو وضع الدهان فوجد طعمه في حلقه ؛ فإنه دخل إلى الجوف ؟، وهذا سار إلى الجوف فالعبرة عند العلماء بوجود النفاذ إلى الجوف ، وهذا مذهب الجمهور -رحمهم الله- وقول البعض إنه لا دليل عليه استعجال في الحكم ، علينا أن نرجع إلى ضوابط العلماء وشروح العلماء وقيود العلماء حتى نعلم ما هو وجه أقوالهم وما هو وجه تفريعاتهم ، فقد كان القوم أورع وأتقى لله وأبعد أن يقولوا في دين الله من عند أنفسهم، ولذلك الأصل يقتضي أن كلّ ما نفذ إلى الجوف من أعلى أو أسفل أنه موجب للفطر، ومسألة التفريق بين المغذّي وغيره في الحقن ليس بوارد؛ لأن الشّرع اعتبر الدّخول إلى الجوف موجباً للفطر بغض النظر عن نوعية الداخل، فإذا حكمنا بأن إبرة التغذية إذا دخلت أثرت وأضرت فإما أن نقول لكونها مغذية ووجدنا أن الشرع لا يتقيد بالمغذي لكونها داخلة إلى داخل البدن فحينئذ يستوي أن تكون مغذية أو غير مغذية ، هذا حاصل ما يقال في مسألة الأكل والشرب والاستعاط أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بين في السنة في حديث لقيط بن صبرة أن العبرة بالوصول إلى الجوف ، ومن هنا نقول إن هذه السنة مشى عليها جماهير العلماء في المذاهب الأربعة كلها لا الحنفية ولا المالكية ولا الشافعية ولا الحنابلة وشيخ الإسلام -رحمه الله- تكلّم كلاما جيدا في شرحه على عمدة الفقه ؛ لأنه في الشرح بين عبارات الإمام ابن قدامة وفصّل تفصيلا جيّداً وبيّن تأثير الدخول إلى الجوف ، وعلى هذا نقول من حيث الأصل أن العبرة بالوصول إلى الجوف وإن كان يرى -رحمه الله- في بعض المسائل كما في حقيقة الصوم استثناءات من هذا لكن من حيث الأصل أن أئمة الإسلام وعلماء الإسلام وفي فتاويهم قرّروا أن الوصول إلى الجوف مؤثّر، وعليه ينبغي أن نتقيد بهذه السنة الواردة ، وأن يحفظ المسلم صيامه إذا كان المسلم مضطرّاً لهذه العلاجات ولا يمكنه أن يتركها لحال ؛ فقد خفّف الله عنه وعليه الإطعام وإن كان مرضه يرجى(3/247)
برؤه ؛ فإنه يفطر في حال الاستعمال لهذه الأدوية ثم يقضي إذا يسّر الله له ذلك القضاء .
[ أو وصل إلى جوفه شيء من أي موضع كان ] : هذا ما ذكرناه ولذلك ذكره بعد الاستعاط؛ لأنه إذا استعط بنى حكمه على حديث لقيط بن صبرة ، ويبنى في مسائل الاستعاط بقية المسائل التي يعتبر فيها الوصول إلى الجوف .
[ أو استقاء فقاء ] : أو استقاء فقاء : الاستقاء استفعال من القيء ، واستقاء يعني استدعى القيء، وحينئذ إذا استدعاه بأصبعه ؛ فإنه حينئذ مثلا لو أنه استقاء فاستدعى القيء بأصبعه ؛ فإنه يفطر بلا خلاف بين العلماء -رحمهم الله- ، وذكر هذا غير واحد من العلماء -رحمهم الله- أنه إذا استقاء وقاء أنه يحكم بفطره ، وللعلماء في مسألة الاستقاء وجهان في كونه يفطر، والعلّة في الفطر :
بعضهم يقول : ما من شخص يقيء إلاّ ويزدرد يعني ما يمكن أن يقيء إلا ويبلع شيئاً ، وحينئذ صار الفطر من كونه بالعاً ، وقيل إنه من جهة الاستدعاء بالإخراج ، وأن الإخراج عكس الإدخال ، وعلى هذا لو أدخل في جوفه شيء قبل الإمساك ثم أخرج بعد الإمساك ؛ فإنه يحكم بالتأثير قياسا واطّرادًا لهذا الأصل هذه فائدة الخلاف في مسألة القيء كونه مؤثّرا في الصوم فإن قلنا إن العبرة بكونه يرد فحينئذ في المسألة الثانية لا نحكم بالفطر وإلا حكمنا بالفطر على الأصل من كونه خارجا من البدن .
الاستقاء -أكرمكم الله- القيء اختلف العلماء فيه :
منهم من يقول : يشترط أن يملأ الفم .
ومنهم من يقول : إلى النصف .
ومنهم من يقول : القليل والكثير سواء ، وهو أصح الأقوال أن العبرة بالاستقاء وإخراج القليل والكثير بغضّ النظر عن نوعيّة الخارج ماءً أو طعاما أن هذا موجب للفطر، فإذا خرج منه القليل والكثير حكم بفطره .(3/248)
في حكم الاستقاء مسألة استدعاء النخام من الصدر البلغم من الصدر، وقالوا إذا قلنا إن العبرة بالقدر يصبح لا يؤثّر إلا إذا كان قدرها بقدر النصف كما يقول من يقول بذلك أو بقدر ملء الفم على القول الثاني، وعلى كلّ حال لا يستدعي ذلك لا يستدعي النخامة ، وهي على وجهين: تارة تكون من الدماغ ، وتارة تكون من الصدر، فقالوا فيها حديث طبعا في القيء والإجماع منعقد وليس هناك خلاف في مسألة القيء فقالوا إنه إذا استدعى النخامة وكان لها جرم لا يجوز له أن يبلعها ، فإذا بلعها بعد ذلك أفطر، بخلاف الريق ، قالوا لأن النخامة ليست من الفم والريق من الفم ، ومن هنا شقّ التحرز عن الريق ولم يشقّ التحرز عن النخامة لا من الدماغ ولا من الصدر، وعلى هذا قالوا إن الحكم يختلف بين الريق وغيره فالريق لا يفطر ولو جمعه وازدرده فإنه فيه شبهة عند بعض العلماء والأصل يقتضي أنه لا يفطر .
[ أو استمنى ] : [ أو استمنى ] : استدعى المني ، والاستمناء فيه حركة وإثارة للشهوة ثم إنزال، فمجرد الاستمناء وهي الحركة تحريك الشهوة لا يقتضي الفطر إلا إذا أنزل، فإذا حصل الإنزال حكم بفساد صومه ؛ والأصل في ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: (( يدع طعامه وشرابه وشهوته )) والاستمناء شهوة ، ولذلك يعتبر مؤثرا في الصوم ، فإذا استمنى في قول جمهور العلماء -رحمهم الله- على أنه يفسد صومه ويجب عليه القضاء .(3/249)
[ أو قبّل أو لمَسَ فأمنى أو أمذى ] : أو قبّل أو لمس فأمنى أو أمذى : قبّل التقبيل جائز ومشروع وإذا قبّل الرجل امرأته وهو صائم مالكاً لإربه ولم يحدث منه إنزال فلا إشكال؛ لأنّ النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قبل عائشة وقالت رضي الله عنها كما في الصحيح : (( وكان أملككم لإربه )) فإذا قبّل ولم يحصل شيء فصومه صحيح ، وهكذا لو باشر إلا أنّ طائفة من السّلف قال إنّ المباشرة باليد أشدّ من القبلة وهو الجسّ باليد وإثارة الشهوة أشدّ من القبلة في التأثير في الصوم ، ولذلك منع منها بعض العلماء ، وقالوا إنه لا يجوز للمسلم أن يثير شهوته ؛ لأنّه في الغالب لا يأمن فيها نفسه بخلاف التقبيل، ثم قالوا : إن الأصل المنع من الإثارة ، وجاءت السنة في القبلة فنستثني ما استثناه الشرع ، وأما من حيث الأصل لو وقعت المباشرة دون إيلاج لأصبع ونحوه أو وقع التقبيل دون إنزال ودون مني في الإثنين فإنّ صومه صحيح ، ويجبر هذا النقص بصدقة الفطر، فصدقة الفطر قالوا : إنها تجبر النقص إذا حصل من الإنسان مثل هذا الشيء .
ومن أهل العلم من قال : بل إنه عفو، وليس بنقص ؛لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لا يفعل النقص في صومه لأنه قبّل صلوات الله وسلامه عليه .
[ أو كرّر النظر حتى أنزل ] : إذًا لابدّ من الإمناء على قول الجمهور، أما الإمذاء ؛ فإنه لا يفسد الصوم على الصحيح ، والمصنف يختار أنه يفسد ، لو قبّل فحصل المذي ، المني هو الماء الأبيض الثخين الذي يخرج دفقا عند الشهوة الكبرى من الرجل ، والأصفر الرقيق الذي يكون من المرأة أخف من الرجل ، ويكون عند الشهوة الكبرى .
أما بالنسبة للمذي فهو الماء اللّزج الذي يخرج قطرات ، المني يخرج دفعة ، والمذي يخرج قطرات عند الإنعاظ وهو انتشار الذكر وعند بداية الشهوة ، فهذا لا يأخذ حكم المني بمعنى أنه لا يفسد الصوم ، والصحيح أن الصوم صحيح ؛ لأنّه لا يؤثّر؛ لأنه ليس بشهوة تامّة .(3/250)
[ أو كرّر النظر حتى أنزل ] : طبعا نظر إلى شيء يثير شهوته فكرّر النظر إلى امرأته وأثارت شهوته بالنظر إلى شيء منها ثمّ أنزل ؛ فإنه إذا أنزل في هذه الحالة حكم بفساد صومه ، أما لو نظر وثارت شهوته دون إنزال فإنّ صومه صحيح .
[ أو احتجم ] : أو احتجم .
[ أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد ] : أو احتجم عامدًا ذاكرًا لصومه فسد عامدًا ذاكرا لصومه طبعا هذا في المسائل المتقدمة فخرج الناسي بناء على العذر بالنسيان .
إذا احتجم : الحجامة إخراج الدم من الأوعية الدمويّة ، والفصد إخراج الدم من العروق . هناك حجامة ، وهناك فصد ، الحجامة تكون للأوعية وهي أشبه بالتنقية لدم الإنسان ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن يكن الشفاء ؛ ففي أربعة : ففي آية من كتاب ، أو شربة من عسل ، أو شرطة من محجم أو كية من نار، ولا أحب أن أكتوي )) .
وقد احتجم بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه وأعطى الحجّام أجره ، وأفضل ما تكون في السابع عشر والتاسع عشر والحادي والعشرين هذه هي السنة ، وهي من الطب النبوي تكلّم عليه العلماء ، فهذه الحجامة يفطر فيها الحاجم والمحجوم على ظاهر الحديث ، لقوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي رافع وغيره -رضي الله عنه وعن الجميع- قال : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) .
وهذا هو مذهب الإمام أبي عبدالله أحمد بن حنبل وطائفة -رحمة الله على الجميع- .(3/251)
والجمهور على أنّ الحجامة لا توجب الفطر؛ واحتجوا بما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- احتجم وأعطى الحجّام أجره ، واحتجم وهو صائم أيضا، وقد ذكر حتى شيخ الإسلام ابن تيمية أن حجامته -عليه الصلاة والسلام- وقعت في عام حجة الوداع ولذلك هذا الحديث متأخر، وحديث أفطر الحاجم والمحجوم وقع يوم الفتح، ومن هنا اختلفت أجوبة العلماء عن هذا الحديث -حديث أفطر الحاجم والمحجوم- أعني الجمهور ، فقيل : إن المراد به أفطر الحاجم والمحجوم أي كادا أن يفطرا أو عرّضا أنفسهما للفطر، وفيه رواية عن أبي سعيد ، ولكن سندها ضعيف ، أنّ المراد به أن الحاجم لا يأمن من دخول الدم والمحجوم لا يأمن أن يضعف ، وهو من جهة النظر قوي يعني دلالة الحال دالة على هذا ، فإن الحجامة تضعف الإنسان ؛ لأنّها تأخذ من دمه وهو صائم ، وأيضا الحاجم لا يأمن أن يزدرد الدم .
أما بالنسبة للجواب الثاني فهو النسخ ، وقد أشار وهي رواية أنس في البيهقي وغيره وتُكلّم على بعض الروايات فيها كلام أيضا لكن الثابت أنها متأخرة أن حديث ابن عباس متأخر وحديث : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) متقدم ، ومن هنا القول بالنسخ من أقوى الأقوال .(3/252)
والقول الثالث أن المراد به أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مرّ على الحاجم والمحجوم وسمعهما يغتابان الناس ، فقال: (( أفطر الحاجم والمحجوم )) وهذا من أضعف الأجوبة أن المراد به خاص؛ لأنه إذا قيل بذلك قيل إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأيا ما كان فحديث ابن عباس أصح إسنادا ، وثبوته أقوى من ثبوت حديث : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) وما ذكرناه من ورود التأخير خاصة وأنه يلاحظ أن أحاديث الحجامة من رواية أصاغر الصحابة ، وأحاديث أفطر فيها عن أبي رافع وفيها عن غيره ومن هنا قالوا : إن روايات أصاغر الصحابة في التقدم والتأخر تقدم على رواية الأكابر عندهم قاعدة بتقديم رواية الأكابر على رواية الأصاغر فيما فيه تفسير أو فيه يعني في معنى يحتمل التأويل، لكن بالنسبة لرواية الأصاغر في المتقدم والمتأخر تقدم رواية الأصاغر؛ لأنها لا تكون إلا في آخر حال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ومن هنا قوي حديث الجمهور وقوي قولهم : إن الحجامة لا تفطر، ولكن مع هذا ينبغي للمسلم أن يحتاط كثيرا في هذا الأمر ولا يحتجم إلا عند وجود حاجة ، ويغلب على ظنه أنه يقوى ويطيق الحجامة .
[ وإن فعله ناسياً أو مكرهًا لم يفسد صومه ] : الأصل في ذلك أن من أكل أو شرب أو استعط أو فعل هذه الأشياء ناسياً لصومه وهذا يقع غالبا في اليوم الأول من رمضان ؛ لأن الإنسان ربما اعتاد شيئا من الأكل والشرب في وقت معين ، فيحصل منه النسيان ؛ ففي الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو صائم فليتمّ صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه )) .
فقوله عليه الصلاة والسلام : (( فإنما أطعمه الله وسقاه )) يدل دلالة واضحة على أنه لا يطالب بالقضاء ، وأن صومه صحيح ؛ وعلى هذا فإن جمهور العلماء من : الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة والظاهرية ، وأهل الحديث على أن من أكل أو شرب ناسيا أن صومه صحيح .(3/253)
وذهب المالكية إلى أنه يجب عليه القضاء ، وأجابوا من وجهين :
من جهة النص قالوا : إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يتكلم عن القضاء وإنما قال : (( إنما أطعمه الله وسقاه )) لكي يخرجه عن المتعمد ، وحينئذ نحن نلزمه بضمان هذا اليوم ؛ لأنّنا وجدنا الشّريعة تلزم بضمان الواجبات عند النّسيان ؛ لأنّه حقّ لله -- عز وجل -- .
ثانيا : قالوا : إنّ ركن الصّوم هو الإمساك ، وقد عهدنا أيضا من الشّريعة أن نسيان الأركان لا يسقط فعلها والمطالبة بها ، كيف نسيان الأركان ؟ لو أن شخصا سها فسلّم من اثنتين في الظهر أو من ثلاث في العشاء ؛ فإننا نقول يجب عليه أن يأتي بالركعتين الأخريين من الظهر، ويجب عليه أن يأتي بالركعة الأخيرة من العشاء ، وكونه ناسياً يعذر حال النسيان ، فمادام في مصلاّه أو في المسجد يرجع ويتم ما بقي عليه ، هذا يدل عليه أصل القاعدة : أن النسيان في الأركان لا يوجب الإسقاط ، إنما يوجب سقوط الإثم ونحو ذلك.
الصحيح مذهب الجمهور :
أولا : لصحة دلالة السنة ، وعندنا في الحديث ما يفيد أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قصد صحة الصوم؛ لقوله : (( فليتمّ صومه )) والإتمام لا يكون في فاسد ، ووصفه بكونه صائما ، وبكون الصوم يتمّ له إذا أمسك ، فدل على أن تأويلهم ضعيف .
وثانيا : أنّ قولهم إنّ النّسيان في الأركان لا يؤثّر، نقول كما اختار بعض مشايخنا -رحمهم الله- هذه قاعدة واستثنت السنة منها هذا الأصل فنقول لا تعارض، فلكل قاعدة مستثنياتها ، ومادام قد صح الدليل عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- نستثني به ولا إشكال . هذا بالنسبة للناسي إذا نسي الأكل والشرب .(3/254)
واختلف في الجماع هل ينساه الإنسان وهل نسيانه مؤثّر ؟ والواقع أنه قد يقع منه النسيان كما في اليوم الأول إذا اعتاد إصابة أهله في وقت ونحو ذلك ، المهم أنه إذا وجد النسيان فهو عذر، وإذا ثبت هذا فإن الصحيح مذهب الجمهور: أن النسيان لا يفسد إذا أكل أو شرب أو استعط ناسيا لصومه ؛ فإنه لا شيء عليه ويتمّ صومه وهو صحيح .
[ وإن طار إلى حلقه ذباب ] : هذه مسألة تعرف يعني هي مسألة من مسائل الإكراه ، بعد أن بين حكم الناسي شرع في حكم المكره ، ثمّ العلماء -رحمهم الله- يأتون بصور، قد يستغرب البعض منها لكنّ هم يريدون تقرير الأصل، فلو قال لك ولو أكره على الفطر؛ صح صومه كفاه عن هذا كله ، يعني إنه شيء ليس باختياره ، فالنائم إذا كان نائما ألحق بالمكره ، ولذلك النائم والناسي والمخطئ والمكره بابهم واحد ، والعلماء اختلفوا في تكليف هؤلاء ، فالمراد هنا أن طالب العلم يُنَبّه على هذا في المتون الفقهية المراد بالأمثلة ضبط الأصل ، ولذلك إذا تعود طالب العلم على أن يرتب الأفكار والأمثلة ويعرف ما هو المراد من هذا المثال ، ولماذا ذكر هذه الصورة بعد هذه الصورة يستطيع أن يضبط المتون الفقهية ، ويستطيع أن يرتّب الأفكار في ذهنه ، ويستطيع أن يستحضرها متى سئل واستفتي ، بحيث إذا ذكر يعرف ما الذي يستثنى منه ؟ وإذا ذكر الأصل عرف ما الذي يتفرع عليه ؟ فالعلماء -رحمهم الله- يذكرون مسألة أن يكره على الفطر بعد أن ذكر أن يكون ناسيا ، ومن فعل ذلك ناسيا ؛ فلا شيء عليه ، شرع في مسألة الإكراه طيب إذا جئت للإكراه ماذا تفعل تنظر من الأفضل في التمثيل أن تأتي بغالب ما يقع للناس، وقد تأتي بالنادر إشارة إلى المذهب، ومن هنا لا يستغرب على بعض العلماء ذكر بعض الصور النادرة ؛ لأنها هي التي كان يدور عليها الخلاف بين العلماء ؛ إما في أصلها وإما في حقيقة الصورة ، فهنا في مسألة :[ وإن طار إلى حلقه ذباب] يعني الواحد يستغرب كيف جاءوا بهذا الشيء(3/255)
لكن هم يريدون أن يذكروا لك مثالاً عن الإكراه ، هذه الأمثلة من أين يأخذونها يأخذون من أسئلة الناس وفتاويهم، نحن في نعمة والناس يعيشون اليوم في نعمة عظيمة لكن والله لو أن الإنسان يعلم مقدار ما هو فيه من النعم ،كان الناس يأتي عليهم أياّم في السّنة خاصّة في الفصول التي يتكاثر فيها الذّباب لا يستطيع الإنسان أن يفتح فمه إلا دخلت فيه ذبابة ، نعم يا إخوان نحن في نعمة عظيمة ، ومن ذهب إلى البلاد الفقيرة والبلاد التي لا تملك شيئا عرف مقدار ما هو فيه من النعم ، ومن هنا قد تجد الإنسان ما يستطيع أن يفتح فمه إلا ودخل الذباب يقع هذا ويقع في بعض فصول السنة فصول تكاثر الذباب يقع هذا ، فيطير في حلقه ذباب ، طيب إذا طار في حلقه ذباب فهو أجنبيّ داخل إلى الجوف ، هل هذا يؤثّر في الفطر ؟ الجواب : لا ؛ لأنّه يشقّ التّحرز عنه ، ولا يمكنه لكن لو أمكن التحرز نعم ، أما كلامنا يطير في حلقه ذباب بغير اختياره لا أحد يسمح للذباب أن يدخل في حلقه ، ومن هنا تفهم أنها صورة إكراه ، وهم يخاطبون من عنده إحساس، ولذلك لا يقال طار إلى حلقه ذباب إنه فاتح فمه من أجل أن يدخل الذباب فيه الذي هو الاختيار فنفهم من هذا الاضطرار ، وندرك بداهةً أنّ مقصودهم صورة الاضطرار أكثر ما تقع في هذا إذا طار في حلقه ذباب.(3/256)
[ أو غبار ] : الغبار من حيث الأصل عند العلماء لا يجوز أكل التراب ، دخول الشيء إلى الجوف كما قلنا اختيارا واضطرارا في حال هبوب الغبار يشق التحرز عنه ولا يمكن للإنسان غالبا إذا سافر في البر وسفت الريح أو تحركت الرياح ما يستطيع إلا أن يدخل في حلقه الغبار أو يطير إلى جوفه الغبار ، هذا الغبار لو أكله اختيارا أفطر كما نبه عليه الإمام ابن قدامة وغيره من العلماء في المطوّلات ، لو أكل الغبار لو أكل الطين هناك نوع من الطين يأكلونه ويقصدون به التداوي ، لو أكله أفطر، ولو تعرّض للغبار يريد الغبار أفطر، ومن هنا مسألة الدخان البعض يقول لك هذا الدخان ليس بدواء وليس من جنس ما يؤكل وما يشرب تقول الغبار ليس بدواء وليس من جنس ما يؤكل ويشرب ومع ذلك نصّ العلماء على كونه مفطرا .(3/257)
صورة الإفطار بالدخان أن الدخان له مادة ، وهذه المادة تتحلّل عند استنشاق رائحة الدخان وتمتزج باللّعاب ، ولا يمكن غالبا إذا شرب الدخان أن يتّقي هذه المادة ، وغالبا أنه يزدردها وحينئذ هو مفطر ، أما المكابرة أن يقول الرجل إنه ما يفطر ولا يدخل إلى جوفه إذا قلنا بالأصل إذا جئنا نخرج المسألة نقول إنّ العلماء نصوا على أن الغبار لو دخل إلى جوفه فهو مفطر ، والغبار له جرم معروف يكون له جرم لكن الدخان له مادة موجودة وهي تنزّل منزلة الجرم ، ولذلك عندنا الفيكس وعندنا بخاخ الربو حكمنا لوجود الموادّ الكيماويّة الموجودة فيه والتي تتحلل وتفعل في الجسم ، وهذه مواد موجودة في الدخان هذه نافعة وهذه ضارة استوى دخول هذا كما أن الغبار ضارّ وإذا دخل أثّر، وغيره نافع إذا دخل أثّر، إذا لا فرق بين العلماء مادام أنه أدخله باختياره بغض النظر عن كونه ضارًّا أو نافعاً ، وعليه نقول الذي يقول إن العلماء ما يفطّرون بالدخان هذا يكابر، المعروف أنّ أصول العلماء تقتضي أنه يفطر، والمادّة موجودة وجرم المادة موجود ولذلك يجد أنه بشربه للدخان يتغيّر طعم الريق، ويتغيّر طعم فمه ، ومن هنا المادّة موجودة ، وبازدراده ولا يمكن له إذا شرب الدخان أن يتقي ازدراد هذه المادة فيحكم بفطره من هذا الوجه .
[ أو تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء ] : تمضمض واستنشق على صورتين :
إماّ أن يتكلّف ويتعاطى أسباب الإهمال فيعاقب .(3/258)
وإما أنه لا شعورياًّ حصل منه هذا فهو في حكم الخطأ بعض العلماء يغتفر ويقول : ولا شيء عليه وهو الذي درج عليه المصنف، ويكون في حكم ما ليس باختياره، هذا وجه دخول هذه الصور أنه إذا تمضمض مبالغا في مضمضته واستنشاقه يؤاخذ ، ولذلك لما قال : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) منع من تعاطي السبب في الإخلال، والأصل في السنة أن من تعاطى السبب في الإخلال يلزم ويتحمّل في المأمورات وفي المنهيات ؛ والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما رأى الصحابة أعقابهم تلوح قال : (( ويل للأعقاب من النار)) لا يوجد صحابي من هؤلاء لو كان يعلم أن عقبه لم تغسل لكان غسلها، فنحن لا نشكّ أنهم لا يعلمون بالعقب، قالوا فلما قصّر في التحرّي؛ لأنه كان المفروض أن يتحرّى رجله لأنه مأمور بها واستيعابها ،فلما قصّر في التحرّي عوقب ، وهنا لما هناك التقصير في التحري في فعل الواجب والتقصير في التحري في ترك المنهي ؛ لأنه مأمور بترك الشرب ، وإذا تمضمض مأمور بأن يحافظ حتى لا يشرب ، وإذا استنشق مأمور حتى لا يستنشق لا يستعط ، فإذا قصر ألزم بتقصيره ومن هنا إذا بالغ حكم بفطره على ظاهر السنة ؛ لأنه قال : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)) فكلّفه وألزمه وحمّله المسؤوليّة عن نفسه قال إلا أن تكون صائما معناه لا تبالغ لأن ما بعد إلا مخالف لما قبله في الحكم ؛ لأنه لما قال : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) استثناء والاستثناء إخراج لبعض ما يتناوله اللفظ أي فإذا كنت صائما لا تبالغ ، فلما نهى عن المبالغة معناه أنك إذا بالغت تحمّلت المسؤوليّة ، ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يتمضمض ويستنشق مبالغا في مضمضته كأن يغرغر، وذكر العلماء هذا فإذا غرغر ودخل شيء إلى جوفه أفطر، وأما إذا تمضمض مضمضته المعتادة ولم يشعر إلا والماء أو طعم الماء في حلقه فهذا لا يؤاخذ في فعله وهكذا إذا استنشق .(3/259)
[ أو فكر فأنزل ] : أو فكر فأنزل : وهذا كما يقول العلماء هجم عليه التفكير، يعني جاءه شيء عارض وقيل أن يفكّر المرة ولا يكرّر كما في تكرار النظر، قال إذا كرر النظر فالشاهد من هذا أنه إذا فكر مسترسلاً وتعاطى السبب فأنزل؛ فإنه لا فرق بينه وبين من يستدعي وينزل، سواء بمباشرة أو بتقبيل أو بالاستمناء ؛ لأنه يتعاطى السّبب ، الأوّل سبب حسيّ، والثّاني سبب معنويّ، ولا فرق بين الاثنين، أما إذا فكّر بأن كان في حالة ثم هجم عليه شيء وذهل أثناء هذا الشيء وفتن به من شهوة زوجته أو نحو ذلك فانشغل به حتى أنزل ولم يشعر فهذا مستثنى يعني إذا كان غصبا عنه وليس باختياره ، أما أن يأتي الشّخص ويفكّر في الأشياء التي تثير الشّهوة ثمّ ينزل ثمّ يقول من فكّر فأنزل فلا شيء عليه فلا ؛ لأنه تعاطى السبب ويريد استثارة الشّهوة بطريقة لم تكن حسيّة صحيح أنها معنويّة متعلّقة بالفكر لكنها كالحسّيّة كما لو استدعى المني بالاستمناء لا فرق بينهما.
[ أو قطر في إحليله ] : الإحليل مجرى البول من الذكر، وهذا راجع إلى مسألة : هل الإحليل ينفذ إلى الجوف وهل المثانة جوف أو ليست بجوف ؟ فالمصنّف يميل إلى أنها لا تأخذ حكم الجوف إذا قطر في الإحليل بناء على هذا القول إذا أجريت له العملية التي تعرف بتوسيع مجرى البول -أكرمكم الله- لا يحكم بفطره ؛ لأنهّم يرون أنّه لا ينفذ ، واختيار بعض العلماء أنّ المثانة نافذة من الحالب إلى الجوف ، وهذا يؤثر في الصوم ، وهو أقوى من حيث النظر، وأشار إليه الإمام النووي رحمه الله في المجموع وكذلك الماوردي في الحاوي .(3/260)
[ أو احتلم ] : أو احتلم هذا شيء لا يملكه هذا طبعا انتهى من المكره ودخل في النائم، عندنا الناسي، وعندنا المكره لم يأت بالإكراه أنّ شخصاً يهدده أو كذا لكن بغير اختياره ، عندهم مكره يكره على الشيء ، وعندنا مكره يعني ليس باختياره ، والمراد هنا التجوز في الإكراه الذي ليس بالاختيار، وليس المراد أن يهدد حتى يطير في حلقه الذباب أو ما تقدم من المسائل، لا ، إنما المراد بها نفي الاختيار الذي ينزّل منزلة الإكراه .
هنا شرع في النائم ، النائم إذا نام واحتلم وأنزل فصومه صحيح ، فلو أنّه نام ثمّ رأى في نومه ما يثير شهوته ثم نزل منه المنيّ ؛ فصومه صحيح ، لوجود العذر ويتم صومه ولا يؤثّر فيه ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( رفع القلم عن ثلاثة : وذكر منهم النائم حتى يستيقظ )) وهو حديث عائشة وعلي رضي الله عن الجميع في السنن وهو صحيح .
[ أو ذرعه القيء لم يفسد صومه ] : [ أو ذرعه ] : يعني غلبه القيء [لم يفسد صومه ] : وهذا كما ذكرنا لأنها حالة اضطرار لا حالة اختيار .(3/261)
[ ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر ] : من أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر: أمر الله المسلم أن يمسك عند تبين الفجر الصادق من الفجر الكاذب، والنصوص كما قدمنا واضحة في الكتاب والسنة على هذا ، وهو قول جماهير أهل العلم من الصحابة -رضوان الله عليهم- ومن بعدهم من السلف الصالح . وكان الصحابة في بداية الأمر يتأولون الآيات كما في حديث عدي في الصحيح وأيضا ثبت في الصحيح من حديث سهل -- رضي الله عنه -- أن الصحابة لما نزل قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } أول ما نزل : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } قال - رضي الله عنه - : فكان الرجل كما في رواية في الصحيحين :كان الرجل إذا نام يربط خيطا أبيض وخيطا أسود ؛ اتباعا للوارد هذا ما هو استخفاف بهم -رضي الله عنهم- بل هو تجرّد للكتاب والسنة كيف ما جاء يفعلون ما ورد ، قال الخيط الأبيض من الخيط الأسود كان يضع عنده خيطين ومنهم من كان يربط الخيطين فينظر حتى يتبيّنهما، فنزل قول الله تعالى : { من الفجر } فعلموا أن الله يريد تبين النهار من الليل ومن هنا يعني تأويلات الصحابة في تفسير الآية ينبغي أن تُردّ إلى هذا الأصل .
@ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول : فضيلة الشيخ : استفدنا كثيرا جزاك الله خيرا من هذه الدورة ، ولكن ما الطريق والسبيل إلى ضبط هذه المسائل . وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(3/262)
فضبط العلم وإتقان العلم أمر مهم لطالب العلم ، وكل طالب العلم يأخذ الأحكام الشرعية مبنيّة على أدلّتها من الكتاب والسنّة وإجماع العلماء -رحمهم الله- والنّظر الصحيح ، ويحسن ترتيبها وإتقانها ومراجعتها وفهمها لاشكّ أنه سيبارك له في العلم -بإذن الله تعالى- . فالذي أوصي به بعد الإخلاص لله -- عز وجل -- أن يحرص طالب العلم على وقته ، وهذه الوصية كان العلماء -رحمهم الله- والأئمة يشدّدون فيها ، فرأس مال طالب العلم في الدورات وفي الدروس العلميّة أن يحفظ وقته بعده ، إذا وجدت طالب العلم يأخذ العلم ويرجع إلى بيته ينكبّ عليه يحسّ أن عنده أمانة وعنده مسؤولية وأنه مسؤول عن هذا العلم بورك له في وقته ، وسيرى بركة ذلك ، وسيرى كيف أن الله -- سبحانه وتعالى -- سيخرجه للأمة بالعلم النافع وكيف سيضع له القبول وكيف يتولى الله أمره ؛ لماذا ؟ لأنه إذا قدم الجد والاجتهاد صدق مع الله -- عز وجل -- ، ولا يكون ذلك إلا بفضل الله ثم معرفة قيمة هذه النصوص من الكتاب والسنة وكلام العلماء ، فالفضل لله ثم لأئمة الإسلام ودواوين العلم -نسأل الله بعزته وجلاله أن ينور قبورهم وأن يرفع درجاتهم وأن يجزيهم عن أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- خير الجزاء- لا تضع وقتك وطالب العلم يقوم من الدورات من الدروس العلمية لكي يأخذ الكتاب أو الورقة التي سجّل فيها الملاحظات فيرمي كتابه لكي يسهر مع هذا ويجلس مع هذا ويباسط هذا فليبكِ على نفسه، ووالله، ليمرن عليه يوم يبكي بكاء الندم والحرقة على التفريط في هذا العلم النافع، والله، لا أسعد منك ولا أعز منك وأنت تسمع كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وليس هناك أشرف من هذا العلم الذي بين يديك ، ومن ظن أن هناك أعز منه في علمه فقد ازدرى نعمة الله -- عز وجل -- عليه .(3/263)
اعرف قيمة هذا العلم واعلم أنه أعز ما تمضي فيه وقتك ، الإمام ابن عقيل الحنبلي الإمام الذي كان آية يقال : إن كتابه الفنون كان أكثر من خمسمائة مجلد ، هذا العالم لا يوجد فن إلا وخاض فيه من سعة علمه ، يذكر عنه ابن الجوزي أنه قال : إني لا أحل لنفسي يعني أمر محرم على نفسه هذا من باب المبالغة على النفس لما شعر بالمسؤولية عن الأمة إني لا أحلّ لنفسي أن تذهب مني لحظة دون أن أكون في علم يعني بدون أن أستفيد منها في العلم، فلو ذهب سمعي فلو كَلّ سمعي وبصري ويدي عن كتابة العلم أشغلت فكري حتى أجد الفائدة يعني أشغلت فكري للتّفكر في العلم حتى أجد الفائدة فأدوّنها ؛ نفعاً للأمة ، وإني قد بلغت عشرة ثمانين يعني دخل في الثمانينات جاوز الثمانين، وأنا أشد طلبا للعلم وحبا له مني في العشرين ، عمره فوق الثمانين والنشوة والقوة والحماس للعلم أكثر مما وجده وعمره في العشرين ؛ لأن الله بارك له ، لكن بالجد والاجتهاد طالب العلم الذي لا يراجع العلم هذا مسكين ، يستكثر من حجج الله عليه يورد نفسه الموارد .
أخي الكريم رتّب وقتك ، نظّم وقتك ، واعلم أنّ هذا العلم يحفظ في الليل والنهار، ويراجع وتكرّس جهدك عليه .
المطلوب: أوّلا : أن تعرف المسائل، كل مسألة تكتبها، تضع لها عنوانها، ثم تضع معنى العبارة في المسألة، ثم حكمها، ثم الدليل، إن كانت خلافيّة قلت على الراجح حتى تفهم إذا خالفك أحد ما تنكر عليه ، وتبيّن لك دليل، المهم أن يكون عندك حكم بالدليل حتى إذا وقفت بين يدي الله في هذا الفقه ؛ لماذا تعمل وتقول ؟ تقول : قلتها يارب في كتابك وقال نبيك -- صلى الله عليه وسلم -- تذكر حجة ودليلاً، مادام عندك الحجة والدليل مستنبطة من الكتاب والسنة فأنت على هدى وعلى نور.(3/264)
إذا ضبطت المسائل رتبت المسائل إذا عندك قوة لفهم المسائل والردود والمناقشات أنا أنصحك أن لا تدخل في الخلافات، طلاب العلم المبتدئون لا يدخلون في الخلافات، وبعض طلاب العلم لا يشعر بنفسه إلا إذا كان الدرس فيه خلاف، وقالوا وقلنا وردود ومناقشات عنده يحس أنه تعلم لا أول شيء تأخذ الأساس، وتضبطه بدليله ، وتأخذ على قول واحد ، وتضبط بالدليل، اقرأ لكتاب شيخ الإسلام -رحمه الله- وهو يشرح العمدة حينما كان على مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- مجتهدا في المذهب، واقرأ له في مجموع الفتاوى، تجد أنه قد أخذ العلم بالتدرج، ضبط أقوال الفقهاء وحرر مقاصدهم وأدلتهم ثم بعد ذلك خرج للأمة مجتهدا .
فطالب العلم الذي يدخل للخلافات والردود والمناقشات يتشتّت ، ولذلك ينبغي على طالب العلم دائما حتى في المحاضرات لما تحضر لأحد احرص على أنك تكون مركّزا ولا تشغل من يحاضر لك بالاعتراضات بالمناقشات تضيع وقتك وتضيع على الطلاب الفائدة والعائدة ، هذا يذهب الكثير من بركة العلم.
اترك الشيخ يشرح ويذكر مسألته بالدليل إذا ارتضى قولا للسلف بالدليل يقرر المسألة على ما ظهر له ويتبين له إن وجدت من هو أعلم منه وأردت أن تأخذ عنه فلا بأس لكن من حيث الأصل تتقيد ولا تتشتت. إذا تلخيص الدروس وهذا يكون ببيان صورة المسألة ، أمثلة المسألة ، حكم المسألة ، دليل المسألة ، ثم تضع عندك جدولا عن كتاب الصوم : ترتّب أبوابه ، ترتّب مسائله ، ثمّ تبدأ تراجع ، هذا الملخص عند العلماء شيء لطالب العلم يعتبر أصلاً، فإذا بدأ بمتن مدعم بالدليل وأخذ يحفظ ويركز سيفتح الله عليه بعد ذلك ، ويكون المنطلق يكون هو الأساس ، وعلى هذا الأساس يبني ، وعندها يكون كالذي جعل له أصلا وفرّع عليه ، ما تلتبس عنده المسائل ، يعرف أن هذه المسألة مشى عليها لدليل ، وأنه خالفها لدليل ، وعندها يفتح عليه في الفهم ، ويفتح عليه، لكن معلومات مرتبة ومنظمة .(3/265)
أما إذا دخل في المناقشات والردود ودون تأصيل ودون ترتيب فما مَثَل هذا إلا كشخص أعطي الدرر والجواهر والكنوز ولو جلس عند أعلم الناس ولا يرتّب أفكاره فسيضيّع عليه علمه، مثل الشخص الذي يأخذ الجواهر والدرر ويضعها في المستودع، إن وضعها مرتبة في أي وقت يحتاج إلى أي شيء يذهب إليه بسرعة ويعرف أين مكانه ولا يخطئ غالبا -بإذن الله- . والعكس إذا جاءت المعلومات هذه ردود ومناقشات وأقوال وأدلة إذا بها تدخل فإذا به يوما من الأيام يطلب منه شيء يذهب إلى غيره ، ويعيا في وجود ما يريد ، هذا كمثال والله ضرب لنا المثل ، ولذلك حرص العلماء على القواعد والأصول والاختصار في البداية .
أنا أوصي بهذا طلاب العلم في كل الدورات والدروس إذا بدأ باختصار وتركيز فبإذن الله سيفتح الله عليه وأهم شيء الحرص على الوقت والمراجعة . والله -تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :فضيلة الشيخ : إذا بلغنا الخبر برؤية الهلال ونحن في وقت الضحى أو قبل الزوال هل يجب علينا الإمساك وهل نقضي ذلك اليوم بعد رمضان أو لا . وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
نعم يجب الإمساك ؛ لأنّ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما نزلت عليه فرضيّة صيام عاشوراء أمر بإمساك بقيّة اليوم، ويجب عليكم الإمساك ؛ لأن فرضيّة عاشوراء طارئة وفرضيّة رمضان سابقة ، والقاعدة لا عبرة بالظنّ البيّن خطؤه ، فتمسكون بقيّة اليوم ، وتعذرون في الأكل أول اليوم ويجب عليكم قضاء هذا اليوم ؛ لأنكم مأمورون بصيام الشّهر كاملاً .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا ؛ أفطر
قال المصنف رحمه الله : [ ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا ؛ أفطر ] :
الشرح :(3/266)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتماّن الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه، واستنّ بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد:
فلازال الكلام موصولاً عن متن عمدة الفقه في أحكام الصيام ، وبيّن المصنف -رحمه الله- في هذه المسألة : أن من أكل ، وهذه المسألة : من أكل يظنّه ليلاً : هذه المسألة تعرف عند العلماء -رحمهم الله- بالشك ، من مسائل الشك أن يكون الإنسان في الليل فيشك هل طلع عليه الفجر فيمسك أو لم يطلع الفجر فيأكل ؟ وهناك مسألة تقابلها وهي أن يكون صائماً فيشك في غروب الشمس ، هل غابت الشمس فيفطر أم لم تغب الشمس فيجب عليه أن يظل صائماً حتى يتحقق مغيبها ؟ هذان الموضعان من مواضع الشك في العبادة ، والمراد به في التأقيت .(3/267)
أما بالنسبة للمسألة الأولى: وهي أن يقوم الإنسان في الليل أو يكون جالساً في الليل ويشك هل أذّن للفجر أو لم يؤذّن ؟ وهل دخل وقت الإمساك أو لم يدخل ؟ فالأصل أنه في الّليل ، وحينئذ نقول له إما أن يمكنه أن يتحرّى ، وإما أن لا يمكنه ذلك ، فإذا أمكنه التّحري كأن يكون داخل الغرفة ويمكنه أن يخرج ويسأل إخوانه أو الناس بخارجها ، ويستطيع أن يتحقّق أو يكون في بَرّ في غرفة، ويستطيع أن يخرج فينظر هل طلع الفجر أو لا ، ويعرف أمارات الفجر؛ فحينئذ نقول: يجب عليه أن يتحقّق قبل أن يأكل ؛ إذًا إذا شكّ هل طلع الفجر أو لم يطلع الفجر وبإمكانه أن يتوصّل إلى اليقين ؛ فإنه يجب عليه أن يتحرى ، وأن يتحقّق هل طلع الفجر أو لم يطلع الفجر، ولا يجوز له أن يُعمل الشكّ ؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشكّ ، وحينئذ لا اجتهاد مع القدرة على الوصول لليقين ، فلو أن شخصاً كان في بلد ويمكنه أن يسأل عن جهة القبلة فجاء يجتهد لكي يصلي باجتهاده نقول له : لا اجتهاد ؛ لأنه يمكنه أن يصل إلى اليقين بسؤال أهل الخبرة والمعرفة، فإذا أمكنه التحري فنلزمه بالتحري ، يكون التحري بسؤال الناس ، يكون التحري بالنظر في ساعته ، ومعرفة تقويم الفجر، يكون التحري بالخروج من الغرفة إذا كان في بَرّ ؛ لأن المدن مع وجود الأضواء يصعب معها معرفة دخول الفجر، وتبين الفجر الصادق من الكاذب ، وحينئذ إذا كان في بَرّ ويمكنه النظر والسماء صحو؛ نقول له : تحرَّ .
أما إذا كان لا يمكنه التحري ولا يستطيع أن يصل إلى اليقين وقام ؛ فحينئذ نقول له : يجوز لك أن تأكل ، وهذا مذهب جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والحنابلة -رحمهم الله- وشدّد في هذا المالكية لكن الجمهور على أنه يجوز له الأكل ، ثم إذا أكل فلا يخلو من حالتين ، إذا قام وهو لا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع ثم أكل لا يخلو من حالتين :(3/268)
إما أن يتبين له الأمر، وإما أن يرجع وينام ولا يتبيّن له الأمر، فإن تبيّن له الأمر الذي هي الحالة الأولى إما أن يتبيّن أنه مصيب أو يتبين أنه مخطئ ، إذا قام فأكل بناء على أنه يظن أن الليل باقي ثم تبيّن له حقيقة الأمر؛ إما أن تتبين بصواب ، وإما أن تتبين بخطأ ، فإن تبينت بصواب ؛ فلا إشكال في أنه لا شيء عليه ؛ لأنه أكل في وقت يجوز فيه الأكل ، ولا إشكال في هذه المسألة .
أما إذا تبيّن أنّه أخطأ ؛ فإنه يجب عليه القضاء ، وهذا قول جماهير الأئمة -رحمهم الله- من السلف والخلف ؛ لأنه يجب عليه أن يقضي ؛ إذ الأصل أن يصوم يومه كاملاً ، وقد اجتهد وظن وبان خطأ ظنه فوجب عليه ضمان حق الله -- عز وجل -- كما لو ظن إنسان أنه قضى دين المخلوق وتبين له أنه لم يقض ؛ فإنه يجب عليه ، معذور حال الظن وغير معذور بعد التبيّن ، وهذا مبني على قواعد سنذكرها .
أما حكمنا بجواز الأكل له ؛ فهذا مبني على القاعدة الشرعية : (( الأصل بقاء ما كان على ما كان)) فنقول له : إذا قمت أثناء الليل ولم تتبيّن الفجر فأنت في الليل حتى تتحقّق من دخول الفجر؛ لأن الأصل بقاء الليل وليس هناك دليل على زواله فيجوز لك الأكل ، هذا وجه قول الجمهور أنه يجوز له أن يأكل .
أما القضاء ؛ فلأن القاعدة (( لا عبرة بالظن البيّن خطؤه)) ، أي لا عبرة بالظن الذي بان خطؤه ، فالشريعة تُسقط الاعتداد به ، لكن لا يلحقه الإثم لمكان الخطأ ، ويجب عليه ضمان حق الله -- عز وجل -- لمكان النقص ، هذا إذا تبيّن له أنه أصاب أو تبيّن له أنه أخطأ .
أما لو أنه قام أثناء الليل وأكل أو قام أثناء نومه فأكل أو شرب ثم رجع ونام ثم استيقظ وإذا به بعد صلاة الفجر لا يدري هل أكله وقع في وقت الجواز فلا شيء عليه أم أن أكله وقع في وقت الإمساك والتحريم فيجب عليه الضمان ؛ نقول له : اليقين أنك أكلت بالليل حتى تتأكد أنك أكلت بالنهار، وحينئذ هو معذور ، وصومه صحيح .(3/269)
إذًا الخلاصة أن من قام أثناء الليل ، ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع ؛ نقول : إما أن يمكنه أن يستبين فيجب عليه ، وإما أن لا يمكنه الاستبيان ؛ فحينئذ إذا أكل أو شرب إما أن يتبيّن له الأمر، وإما أن لا يتبين له الأمر، فإن تبين له الأمر بصواب ؛ فلا إشكال ، وإن تبين بخطأ أي أنه أخطأ ؛ فيجب عليه ضمان خطئه ، ويسقط عنه الإثم للخطأ ؛ وهذا معنى قوله : { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } فالإثم يسقط بالخطأ والضمان واجب ، ولذلك لو أخطأ إنسان في حق أخيه نقول : لا إثم عليك في الخطأ ، ولكن تضمن حق أخيك ، فلو كسر شيئاً لألزمناه بضمانه ؛ والنبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( فدين الله أحق أن يقضى )) فإذا كانت حقوق المخلوقين تضمن بالخطأ فحق الله أولى أن يضمن بالخطأ ، فالمؤاخذة ساقطة ، ولكن يجب عليه الضمان . قالوا لأنه لا يقع في الخطأ إلا بنوع من الإهمال والتقصير، ولو تحرّى كما ينبغي أن يتحرّى لأدرك حقيقة الأمر وجليته، هذا بالنسبة لمن استيقظ ولا يدري هل طلع الفجر أو لم يطلع .
وأما إذا استيقظ وأكل ثم نام ثم استيقظ بعد ذلك ولا يدري هل كان أكله أثناء نومه بعد طلوع الفجر فيجب عليه القضاء أم أنه وقع قبل طلوع الفجر فصومه صحيح ؛ نقول : الأصل أنه أكل في الليل ، والأصل (( بقاء ما كان على ما كان)) ، والأصل أيضا ((براءة ذمته من المطالبة بالقضاء حتى نتحقّق أنه أخطأ )) ، وحينئذ لا يجب عليه شيء ، وصومه صحيح ولا شيء عليه ، فلو سألك سائل وقال : قمت أثناء نومي وأكلت ، ولا أدري هل وقع أكلي أثناء الحِل أم وقع أكلي في وقت الحرمة ، ثم إني إلى الآن لم يتبيّن صواب فعلي من خطئه ؟ تقول له : صومك صحيح ، ولا شيء عليك ، وإن كان يمكنه التّحري فإنه يأثم بترك التّحري .(3/270)
[ ومن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً أفطر ] : [ ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا ] : فبان إذًا معناه أنه شك وأخطأ في ظنه فقدّر أنه في الليل ثم تبيّن أنه أخطأ قلنا يجب عليه القضاء .
[ ومن أكل شاكًّا في طلوع الفجر لم يفسد صومه ] : هذا الذي لم يتبيّن له شيء ، لكن الأول تبيّن له أنه أخطأ ، فذكر لك المصنّف صورتين :
أن يتبيّن له أنه أخطأ ؛ فحينئذ يجب عليه الضمان ، وأن يشك فيأكل ولا يتبين له شيء ؛ فالأصل بقاء الليل حتى يتأكّد أنه أكل في وقت التحريم .
[ ومن أكل شاكا في غروب الشمس فسد صومه ] : هذه المسألة ضد المسألة الأولى ، الأولى شكّ في دخول وقت التحريم ، والأصل أن الأمر حلال ؛ لأنه حينما يكون نائماً ويستيقظ الأصل أنه في الليل حتى يتحقّق أنه دخل النهار، لكن هنا الأصل أنه في النهار وأن الواجب عليه أن يمسك، وشكّ هل غابت الشمس أو لم تغب ؟ نفس الشيء تستصحب وتقول: الأصل بقاء النهار حتى يتحقّق من غروب الشمس ؛ إذًا الأصل بقاء ما كان على ما كان ، فلا يجوز له أن يفطر إلا بيقين أو غالب ظن .(3/271)
اليقين أن يتأكد من أن الشمس قد غابت بأمارة ظاهرة يقينية . رأى الشمس تغيب ويعرف علامات مغيبها وجزم ، وأقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا ؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم )) تأكد فلا إشكال ، فالأصل عندنا أنه لا يفطر إلا بيقين ، لكن لو شك هل غابت الشمس أو لم تغب ، يقع هذا في الأماكن المظلمة :كالكهوف ، والحجرات ، والغرف ، ويقع كذلك في حال الغيم إذا لم تكن هناك مواقيت أو آلات للحساب ، وأصبحت السماء مغيبة ؛ فإنه يصعب في بعض الأحوال أن يتأكد من مغيب الشمس ، فنقول له : اصبر حتى تتحقق من مغيبها ، أو يغلب على ظنك ، فإما يقين وإما غلبة الظن ، صبر وتحرّى نقول له : إذا لم يغلب على ظنك وأكلت ؛ فأنت آثم ، فلا يجوز له أن يأكل حتى يغلب على ظنه أن الشمس غابت . غلب على ظنه وأكل ثم طلعت الشمس أو تبيّن له أنه أخطأ ؛ فحينئذ يجب عليه القضاء ، وهذا قول جمهور العلماء -رحمهم الله- على أنه إذا تبيّن له أن الشمس لم تغب وكان قد أكل ظانًّا مغيبها ؛ فإنه يجب عليه القضاء ، وفيه الأثر، وقد قال عروة : ليس في القضاء شك . فقال عمر بن الخطاب : الخطب يسير أي أننا نقضي يوما مكانه، والأصل أنه لا يفطر إلا ببيّنة ، فلما قصّر في التحري ؛ ألزم بعاقبة تقصيره ، وهذا أصل قررناه في شرح الدروس الماضية : أن الشريعة تلزم المخلّ إذا تساهل في التحرّي والضبط بإخلاله ، ومن هنا قلنا حديث : (( ويل للأعقاب من النار )) لا يتصور أحد أن الصحابة -رضوان الله عليهم- يتركون أعقابهم تلوح وإنما غسلوا أرجلهم يظنون أنها مغسولة ، ولكن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- توعد من فعل ذلك وقال : (( ويل للأعقاب من النار )) قالوا لأنهم لو تحرّوا لما وقع هذا ، وعلى هذا لو أنه تحرى واستبين وانتظر لتبيّن له خطأ ظنه ، ومن هنا يلزمه القضاء .
@ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @(3/272)
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : نظرا لقرب شهر رمضان المبارك فما وصيتكم شيخنا الكريم للصائمين والقائمين والمعتكفين وأئمة المساجد في إقامة الدروس في هذا الشهر المبارك . وجزاك الله خير الجزاء ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
مشكلة . والله، مصيبة ! تبغون منا أن نعتذر عن الدروس في رمضان وهذه وصية في الدروس في رمضان هذا غريب ! لكن على كل حال عندي عذر أرجو من الله . بعض العلماء يجيز الوعظ إذا كان الإنسان معذوراً عن الخير لا يكون ممن يقول ما لا يفعل .
شهر رمضان شهر خير وبركة ، ولا شك أن من تأمل النصوص في الكتاب والسنة ؛ فإنه يدرك جلياًّ عناية الشرع بهذا الشهر الكريم ؛ ففي الصحيحين من حديث عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال : (( كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أجود بالخير من الريح المرسلة ، وكان أجود ما يكون إذا كان في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن )) .
فكان -- صلى الله عليه وسلم - -أكرم الناس وأجود الناس ، وكان أكمل ما يكون كرماً بالخير من الدلالة على الخير والنصح للأمة ، ولقد بين الله -- عز وجل -- في كتابه في أكثر من موضع شفقته على الأمة -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- . فكان يقول ابن عباس : وكان أكثر ما يكون أجود ما يكون إذا كان في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن ، فهذا الشهر شهر مدارسة للقرآن، وأعظم الناس خيرا وبرا في شهر رمضان أكثرهم خيرا وبركة من كتاب الله -- عز وجل -- ؛ لأن الله وصف القرآن بأنه كتاب مبارك ؛ فقال سبحانه : { كتاب أنزلناه إليك مبارك } فمن تدبر القرآن أو تأمل القرآن وأقبل على كتاب الله في شهر الصيام والقيام يبكي لوعده ووعيده ويخاف من تخويفه وتهديده ويطمع في رحمة ربه، بما ذكر فيه من الآيات والعظات البالغات فهو أسعد الناس في شهر رمضان .(3/273)
ومن ذلك مدارسة العلم ومدارسة الخير ومدارسة السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وقراءة سيرة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كل هذا خير عظيم، ومن جرب ذلك يعرف خيره وبركته، فأسعد الناس في رمضان من أقبل على القرآن، والإقبال على القرآن والإقبال على السنة هو الإقبال على العلم وعلى الدين؛ ولذلك لما أراد الله أن يشرف شهر رمضان شرفه بالعلم فقال سبحانه : { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } فجعله طريقا للدلالة على الخير وجعل فضل هذا الشهر بما كان فيه من نزول القرآن؛ ففي هذا الشهر شعت أنوار الرسالة على مشارق الأرض ومغاربها بنزولها على رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- ، فمن تأمل هذا حرص كل الحرص على أن ينتفع وأن ينفع الناس، وأعظم الناس في العلم خيرًا وبركة من انتفع بعلمه أولا ثم نفع الناس ثانيا، والأمر لا يتوقف على عالم في درسه وشيخ مع طلابه ولا يتوقف على الإمام في مسجده بل إنك مع أولادك ومع بناتك وزوجتك في بيتك وأسرتك إذا جلست معهم الساعة في اليوم أو نصف ساعة تذكرهم بنعم الله، وتذكرهم بآيات الله وبمنن الله وتذكرهم بحقوق الله أن يحفظوها وبمحارم الله أن يجتنبوها؛ فأنت معلم للخير وأنت هاد للخير وإن قلت والله فقولك مصدق مادمت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتربي على الخير فيحرص المسلم على أن يكون في هذا الشهر أسعد الناس بالخير والبركة، وكون الناس يتهيئون مثلا في شهر رمضان للخير هذا يشحذ همة الأئمة والوعاظ إلى أن يغتنموا الفرصة ، فكم من أناس دخل عليهم شهر رمضان وهم أبعد ما يكونون عن الله وخرج عنهم الشهر وهم أكمل وأفضل وأجمل ما يكون عليه العبد فيما بينه وبين الله -- عز وجل -- ، وهذا كله بفضل الله ثم بغشيان حلق الذكر وسماع العلم النافع وبمحبة العلماء والتأثر بكلام أهل العلم أحياء وأمواتا ، وإذا أردت أن ترى أسباب التوفيق والفلاح فإنك تراها حينما تجد(3/274)
العبد منشرح الصدر مطمئن القلب لأهل العلم مقبلا عليهم محبا لهم في الله حريصا على سماع علمهم والاستفادة منهم أحياء وأمواتا ، وإذا أردت أن ترى الخذلان والحرمان والشقاء والبلاء فانظر إلى من حجبه الله عن صفوته من خلقه بعد أنبيائه ورسله وهم العلماء ، فتجده لا يغشى حلقة عالم ، ولا يستمع لموعظة ولا يتأثر بذكر، وأعظم من ذلك إذا شك فيهم واتهمهم وانتقصهم وسلط الناس عليهم والمحروم من حرم .
فالمقصود أن المسلم يحرص كل الحرص على أن يكون في رمضان على أكمل ما يكون عليه المسلم إقبالا على الخير وانتفاعا من الخير واستزادة من الخير، فهذا من توفيق الله - عز وجل - للعبد نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل .(3/275)
يبتدئ أولا بتعليمهم كتاب الله -- عز وجل -- وثانيا سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ينظر إلى حاجة قومه وأهل حيه يعلمهم ما يحتاجون إليها من المسائل ، يعلمهم أصول الدين (العقيدة) مسائل العقيدة ويبين لهم الأمور التي تطعن في العقيدة وتؤثر في عقائدهم ويدلهم على الأمور التي تصلح ما بينهم وبين الله -- عز وجل -- من الإخلاص وتوحيده وإرادة وجهه ، والبعد عن النفاق والرياء ، وغير ذلك مما يقدح في عبودية العبد لربه ، ثم يثني بعد ذلك بالأحكام والشرائع إن وجدهم مستقيمين في هذا الأصل أمرهم بشرائع الإسلام وأمرهم بسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهديه : في الوضوء ، في الصلاة ، في الزكاة ، في الصوم ، في الحج، في العمرة، في جميع شرائع الإسلام، فلا تزال في الخير ما أمرت بالخير ودللت عليه، يعلم وينظر حاجة قومه ، وحاجة الناس ، فإذا كان في شهر الصوم وأراد أن يعلمهم أحكام الصيام علّمهم وعلّمهم سنن القيام وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في قيام الليل ، وعلّمهم كيف يقوم المسلم بين يدي ربه والسنن عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في إحيائه لليل، الاعتكاف، مسائل الاعتكاف، ولكن بشرط أن يكون قد تعلم ذلك على يدي العلماء، فالذي له نور وبصيرة وعلم وجثا بركبته بين يدي العلماء وتعلم هو الذي يعلم الناس وأما إذا كان ما عنده علم ويريد أن يتعالم ويريد أن يتشبه بالعلماء وما عنده علم هذا مهلكة وأن الله تعالى يقول : { قل إني على بينة من ربي } والبينة من الرب تفتقر إلى الأنبياء والرسل وورثة الأنبياء والرسل وهم العلماء الهداة المهتدون فيعلمهم ما تعلم وإذا تعلم بابا من أبواب العلم والله لو تجلس حتى تعلمهم كيف الوضوء وهنا مسألة مهمة وهي أن العلم وهذا يحتاج إلى أن تتشرف به وتعتز به وتسمو به ولا تبالي بانتقاص المنتقصين والله ليس هناك شيء أعظم انتقاصاً وأكثر أذية من العلم تأتي تفتح كتابك تريد أن تتكلم عن الطهارة(3/276)
وهدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الوضوء فإذا برجل يسخر يقول ما يعلمنا إلا الوضوء ! فكأنهم ما شاء الله علماء الإسلام في الوضوء وكان السلف الصالح يدخل الرجل منهم وهو ابن خمسين سنة على الصحابي من أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- يسأله ويقول كيف كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يتوضأ . يقول عمرو بن حسن : شهدت عبدالله بن زيد وقد سأل عمراً بن يحي المازني عن وضوء النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رجل من أجلاء التابعين يسأل صحابيا من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كيف الوضوء قال فدعا بتور مثل الطشت فتوضأ منه أمامه حتى يريه كيف توضأ النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالفعل عثمان - رضي الله عنه - خليفة الراشد وإمام من أئمة المسلمين وفي الخلافة وفي العزة وفي أعلى مكان لدى الأمة إذا به يدعو كما في الصحيحين من حديث حمران مولى عثمان أن عثمان دعا بوضوء فتوضأ فأسبغ الوضوء توضأ ثلاثا ثم قال رأيت رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر له ما تقدم من ذنبه ما استنكفوا ولا تكبروا على العلم العلم تعتز به كل شيء تراه مما قاله الله وقاله رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- تعتز به ولا عليك من سخرية الساخرين ولا استهزاء المستهزئين ثم كرر هذا العلم حتى ولو قالوا إنه يكرر شيئا واضحا الفاتحة كم تكررها الإسلام يكرر الأشياء حتى تصبح عقيدة في القلب لا يمكن أن يتنازل عنها الإنسان ولذلك أعداء الإسلام ما حرصوا على شيء مثل دخول في المسلمات يحاولون زعزعة المسلمين دائما لا يريدونهم على نمط معين وكثير من شرائع الإسلام جاءت على نمط معين حتى تعود المسلم الانضباط فهذا الشيء الواضح لما تكرره وتكرره كم من أناس يتعطشون لهذا الخير ولذلك على طلاب العلم وعلى الأئمة أن يحرصوا على هذا ونحن يهمنا المبادئ والأسس أكثر مما يهمنا أن(3/277)
نقول درس كذا أو افعل كذا أو اختر الوقت الفلاني الأسس الذي يعلم الناس يعلم بعلم وثانيا أن يعتز بهذا العلم وليس عنده أي مانع أن يدرس أي شيء مما قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام طلبا لمرضاة الله -- عز وجل -- .
ثالثا : عليه أن يترفق بالناس وأن يعلمهم العلم بطريقة لا تمل بها النفوس ولا تسأم فإن على صاحب السنة وصاحب العلم مسؤولية ترغيب في العلم قبل أن يعلم ومن هنا كان ابن عباس -- رضي الله عنه -- يعظ أصحابه وطلابه أن لا يأتوا في مجامع مثل حفلات وأشياء فيتكلمون فيقهرون الناس على سماع الذكر فتمله الناس إنما يأتيهم عن رغبة وتفتح درسك عن رغبة وتفتحه في وقت لا تأتي تفرض على الناس أن يجلسوا معك، ولا تأتي في وقت ينشغل الناس فيها بأذكار الصلاة البعدية لكي تفرض عليهم الدرس أنت تعلمهم السنة ومن السنة أن تتركهم على السنة ثم بعد ذلك تختار الوقت المناسب من جلس فالحمد لله ومن صرف وعنده عذر أحسنا به الظن ومن صرف في غير ذلك فالله أعلم بخلقه ما تتكلم في أحد ولا تتهم أحدا أنه لا يريدك وأنه لا يحبك والله لو بقي شخص واحد فما يدريك أن هذا الشخص سيفتح الله عليه ويجري من ورائه الخير الذي لم يخطر لك على بال وكم من أناس وكم من علماء وكم من أئمة وكم من طلاب علم رمقتهم الأبصار واجتمع عليهم ما لا يحصى من الناس ولكن الأهم البركة والأهم أن يخرج الناس في هذا العلم فينفعوا به الأمة فلا تبالي لو تجلس في مسجدك تدرس وأنت صائم أو في هذه الأيام المباركة وما يجلس معك إلا اثنان فأنت عزيز كريم وتحس أنك على خير لأنك تعامل الله ولا تعامل الناس وتعلم أن هذا الكلام لا يذهب هدرا وأنك إن جلست لقومك وحيك واعظا مذكرا مبشرا ومنذرا أنك قد أعذرت إلى الله وأنك قد ألقيت الحمل من على كتفك فهذه فرصة لمواسم الخير تعلم الناس الخير وتتلطف بهم وتختار الأوقات المناسبة ثم تحاول أن تحضر الدرس بطريقة علمية جيدة مركزة يستفيد منها(3/278)
المبتدئ يستفيد منها المنتهي يستفيد منها المتوسط على قدر ما أوتيت من العلم فهذا أمر مهم جدا، وقد كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يخاطب الناس على قدر عقولهم وعلى قدر أفهامهم ويقول : (( حدثوا الناس بما يعلمون أتريدون أن يكذبوا الله ورسوله )) كما في الأثر فالمقصود من هذا أن على الإمام وعلى طلاب العلم أن ينصحوا فإذا كان هناك في الحي طالب علم جيد أو قرأ على شيخ وتعلم أنه أكثر ضبطا للمسائل منك وأنت إمام مسجد جئت وزرته وقدرته قدره وقلته يا فلان نريد منك أن تلقي عندنا الدرس في رمضان تنصح الناس تذكر الناس ونحو ذلك مما يكون فيه المعونة على البر والتقوى لأنك نصحت على عامة المسلمين لأنك تراه أعلم منك وأضبط منك فتقدمه المهم أن تكون هناك دروس علمية مفيدة وأن يختار لها الوقت المناسب ثم هذه الدروس تكون في حاجة الناس وما يحتاج إليه الناس وهنا مسألة مهمة وهي أن يحرص المعلم وأن يحرص الموجه على أن يصبر وأن يتحمل مسائل الناس وفتاوى الناس وهناك أمور مهمة جدا في مواجهة الناس ولذلك العلم شيء وفقه العلم شيء آخر العلم أن تعلم الأحكام وتفهمهن، ولكن فقه العلم أن تفقه كيف تؤدي رسالتك في العلم وكيف تعاشر الناس وكيف تواجه الناس وكيف إذا أتاك السفيه بسفهه والجاهل بجهله فتكون رحمة للناس كما كان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فأفقه الناس في العلم من تتبع سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهذا العلم لا يمكن أن يؤخذ إلا بطريق صحبة العلماء فترى من سمتهم ودلهم وحرصهم على نفع الناس وصبرهم في تعليم الناس وشدة المؤونة التي يتحملونها من الناس ما يعينك على أن تتشبه بالكرام في كرمهم وبالفضلاء بفضلهم فتسمو بنفسك فمثلا إمام المسجد قد يأتي ويلقي الدرس ويأتي من يسأله وقد يأتي بأمور غريبة وهنا ننبه على أمور مهمة جدا لمن يواجه الناس في تعليمهم وتوجيههم أول ما ينبغي الإخلاص وهذا أمر مسلم ولكن ينبغي دائما الوصية به(3/279)
أن تخلص لله وأن تجرد نيتك لله - عز وجل - لأنها منبع كل خير .
ثانيا أن تعلم أن هؤلاء الذين يجلسون بين يديك وأن هؤلاء الذين يستمعون إليك قد ائتمنوك على دين الله - عز وجل - وهذا يقتضي من المسلم أن يخاف الله - عز وجل - فلا يقول على الله بدون علم ولا يكذب ولا يغش هؤلاء عيب وحرام على المسلم أن يأتيه أخوه المسلم يسأله عن أمر في دينه يأمنه من بين الناس فيفتيه بدون علم أو يجلس بين الناس لكي يتكلم بدون علم فيتقحم نار الله على بصيرة ولذلك من أكبر الكبائر أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم وهي المهلكة فمن فعل ذلك فقد تقحم نار الله على بصيرة أن تكون أمينا على أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- لو سئلت أمام الأمة عن شيء لا تعلمه تقول بشجاعة وجرأة : الله أعلم، ولو اجتمعت لك الأمة كلها تكون عندك نفس أبية سوية مرضية تتقي الله -- عز وجل -- إذا كنت بهذه المثابة فقد تأهلت أن تتصدر للناس، التصدر للناس ليس بالأمر الهين ولذلك لما كان العلماء يربون لمن يخرج للناس كان كل من يقف أمام الناس يملأ العين في أمانته ونصحه كذلك أيضا عليك أن تعلم أن السائل أو المستفتي ينبغي أن تستبين منه وأن تستوضح منه وأنه ما جاءك يريد رأيك الشخصي ولا يريد اجتهادك الذي لا ينبني على ضوابط صحيحة بل جاءك يريد حكم الله في هذا الأمر فإن ورثت شيئا عن علمائك ومشايخك وعندك فيه سند متصل إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بالأخذ عن العلماء فحي هلا وإلا فلا لا يبلغ الإنسان مقام الصدق في العلم إلا إذا كان إذا تكلم جعل الجنة والنار بين عينيه فينظر في مقعده إن أصاب وينظر إلى مقعده إن أخطأ والله لا ثالث لهما إما جنة فيها أعالي الفردوس ورضوان الله - عز وجل - جعلنا الله وإياكم من أهلها وإما نار تلظى لأن أول من تسعر به نار جهنم فيهم العالم ثلاثة فيهم العالم فعلى الإنسان أن يتقي الله - عز وجل - فلا يقول على الله بدون علم .(3/280)
كذلك أيضا قضية الإخلاص قضية العلم الصحيح في تعليم الناس وتوجيههم الأمر الثالث الأمانة إذا كنت قد أخلصت ونصحت وقلت الصواب والحق ونصحت للأمة عليك أن تكون أمينا كل من يتصدر للناس وهذه وصية لطلاب العلم عليهم مسؤولية عظيمة في الأمانة هناك أسرار للناس في أسئلتهم وفتاويهم وحوائجهم وقضاياهم توطن نفسك على أن الكلمة إذا دخلت في أذنك لا يسمعها أحد فتكون أمينا على عورات المسلمين بعض الإخوان أصلحهم الله يأتي شخص يشتكي إليه في مسألة ثم لا تدري إذا به يذهب في المجلس والله جاءني وقال لي كذا واحد قال كذا حتى إنه لربما ذكر صفات الكل يعرف أنه فلان فويل له من الله - عز وجل - هذه أمانة ومسؤولية العلماء المفتون رجال الحسبة القضاة كل من يتحمل هذا الدين عليه أن يخاف الله - عز وجل - في أسرار المسلمين وعوارتهم وكان الوالد رحمه الله ذات مرة جاءه سائل فسأله في أمر خاص بينه وبينه ثم أحببت أنا الفائدة فأردت أن أسأله وكان عمري في الرابعة عشرة تقريبا فلما خرجنا . قلت: ماذا قال لك؟ فضغط على يدي، وقال : يا بني، هذه أسرار المسلمين هذه أمانة ، كل من جاء يأتي ويتكلم ولذلك تجد بعض الأخيار من طلبة العلم يأتي ويتكلم عن بعض المنكرات التي مرت عليه أو بعض الأمور التي وقعت هذا لا يجوز التحدث بها إلا لمصلحة شرعية، أما إنسان كل من جاءه بأمر يتحدث به وكل ما قيل له يتحدث به هذه أمانة ومسؤولية وعلينا أن نتق الله -- عز وجل -- .(3/281)
كذلك أيضا هناك أمور مهمة في قضية توجيه الناس إذا أراد شخص يفتح درساً لو يفتح درسا واحدا منضبطا بأسلوب علمي طيب مركز أفضل من عشرات الدروس غير منضبطة طالب العلم الذي يتكلم كلام العلماء ويتشبه بهم في الضبط والإتقان ويكون كلامه محصورا من أول الدلائل على طالب العلم بعد الإخلاص وتوجهه لله -- عز وجل -- على أن الله يريد به خيرا أن ترى كلامه معدودا إذا وجدت طالب العلم في طلبه للعلم بمجرد ما يجلس في حلق العلماء ما يتكلم إلا الذي قاله العلماء ويحرص على أن يحفظ أكثر مما يأتي بشيء من عنده وإذا به ينقل الكلام كما هو فاعلم والله أن من ورائه خيرا كثيرا لأن هذا هو العلم والإتباع والأثر ما يعطيك شيئا من عنده أما أن يأتي الإنسان ويفتح درساً يتكلم على حديث وكأنه جالس يتكلم في سوق أو كأنه قاعد يعلق على حديث هذا شيء واضح وهذا شيء كذا هذا ما يصلح شرف العلم وكمل العلم بالسكينة والوقار وآداب العلم حتى يعرف الناس قدر هذا العلم وكان الإمام مالك رحمه الله لا يحدث بحديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- إلا إذا طيب مجلسه وكان إذا جاءه الناس في بيته قال انظروا فإن كان الرجل يريد الرواية عن حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- طيب مجلسه إجلالا لرسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وكان رحمه الله إذا سأل السائل لا يستطيع أن يراجعه مما وضع الله له من الهيبة يقول محمد بن حسن جالست الهادي والمهدي والرشيد والله ثلاثة خلفاء عظماء من المحيط إلى المحيط والله ما هبتهم كهيبتي حينما جلست بين يدي مالك قال سحنون ما نظن ذلك إلا لشيء بين مالك وبين الله الذي الناس كانوا ينظرون للعلم نظرة هيبة لما كان الذين يصلون ويخطبون على علم وعلى بصيرة فكان الناس يهابون الإمامة ويهابون الخطابة لما كان الذين يلقون الدروس على علم كانوا يهابون الدروس لكن لما أصبح الذي يجلس للخطابة الحمد لله يوجد خطباء وأئمة إنما تقول النوعيات التي(3/282)
تجرأ ولا نتكلم على صفة عامة نتكلم على الجرأة على العلم فلما أصبح يتسلط على هذه النوعيات التي لا تعرف قيمة العلم ولا عليها نور العلم ولا أدب العلم أزريت وجرأ الناس وأصبح حتى إنك في بعض الأحيان تجد الرجل يدخل ويصلي بالناس ولا يبالي لكن لو كان الذي يصلي بالناس في سمته ودله ووقاره وهيبته وحشمته أورث الناس إذا أنا لم أعتز بعلمي الذي بين صدري فما الذي يعزه فعليك أن تكون على هذا السمت والدل والوقار وأن تحفظ للعلم هيبته ووقاره فهذا مما يعين على محبتنا وهذه توجيهات عامة سواء كانت في رمضان أو غيره لكن نقولها الحقيقة أمانة ونصيحة وإلا والحمد لله الخير موجود وطلاب العلم فيهم خير كثير إن شاء الله وجماع الخير كله في تقوى الله - عز وجل - .(3/283)
أما بالنسبة لصيام شهر رمضان فالوصية للصائم أن يتقي الله في صومه وأن يحفظ صومه وأن يصوم كما صام رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- حافظا لشهوة بطنه وفرجه غاضا لسمعه وبصره وجوارحه بمجرد ما يهل عليه الشهر كأن لسان حاله يسأل ربه أن لا يجعله أشقى الناس في هذا الشهر ولا أقلهم خيرا وبركة بل يسأل الله أن يجعله في أعلى المنازل والرتب ثم يتبع السؤال بالعمل فيحرص كل يوم وكأنه آخر يوم يصومه يحرص على هذا الشعور كأنه آخر يوم يصومه يحفظ لسانه عن السب فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخط ولا يجهل يترك فضول الحديث ويترك القيل والقال يشتغل بالتسبيح والاستغفار وتلاوة القرآن وذكر الله - عز وجل - والاستغفار له ولوالديه الأحياء والأموات ويكثر من شيء يقدمه لآخرته ثلاثمائة وستين يوماً من العام اختار الله لك منها هذه الثلاثين يوماً أو تسعة وعشرين يوماً، مدرسة تهذب فيها أخلاقك وتقوم فيها سلوكك { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } هذه فريضة وإذا به سبحانه يقول : { لعلكم تتقون } إذا فشهر الصوم مدرسة التقوى يهذب لسان الإنسان من الناس من صام رمضان فخرج من رمضان بالكف عن فضول الحديث من الناس من كان سبابا شتاما فخرج من رمضان وهو لا يسب أحدا ولا يشتم أحدا من الناس من كان كثير الكلام واللغط فخرج من رمضان بتلاوة القرآن وختم القرآن كل ثلاث ليال ومنهم من خرج بكثرة التهليل والتسبيح والتحميد مدرسة للعام ومدرسة يتزود منها الخير لعلكم تتقون وهذا من أجل أن تكونوا من أهل التقوى ضاقت مجاري الشيطان وفتحت أبواب الجنان وغلقت أبواب النيران وصفدت الشياطين عن بني الإنسان كل هذا من أجل أن تقترب إلى ربك ويا داعي الخير أقبل يناديك منادي الله - عز وجل - كل الظروف مهيأة فتصوم كما ينبغي أن يكون عليه الصائم والشعور بأنه آخر يوم من أيامك تصومه ومن هذا(3/284)
الذي يضمن أن ينتهي عليه يومه فضلا عن أن يدرك يوما غيره فكم من صائم لا فطر له في الدنيا قصر الأمل وكان السلف الصالح رحمهم الله إذا صلوا صلوا صلاة مودع فمما يعين على ضبط الصوم .
ثانيا تحس إذا كان الإنسان ما عنده وجد أن شعوره بأن آخر يوم ضعيف كما في الشاب تسلط عليه الشيطان يقول كأنه آخر يوم من رمضان فالنفوس الحية دائما في آخر يوم من رمضان تشفق وتتألم تقول يا ليتني في أوله أستدرك ما فات وأحسن لعل الله أن يحسن إلي في الدنيا وبعد الممات يستدرك الإنسان كأنها آخر يوم من أيام رمضان وجرب هذا الشعور وإلزام النفس { قد أفلح من زكاها } تزكي نفسك حين تأمرها لا تأمرك وحين تزجرها عن محارم الله - عز وجل - { فأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } الجنة مأوى لمن كان سلطانه على نفسه نهى عن الهوى إذ النفس تكون تحت يدك وهذا من مقصود الصيام فهو مدرسة لكي تكون المدرسة مستجيبة فالذي لا يأكل ولا يشرب والأكل والشراب حلال له حري به أن لا يأكل أموال الناس ظلما وحري به أن لا يطعم الحرام وحري به أن لا يشرب الحرام والذي يعف ويمتنع عن زوجته وهي حلال له وطؤها وحلال له أن يطأها حري به أن لا يتسلط على أعراض المسلمين وحري به أن لا يقع في الحرام لأن هذه تربية للنفوس فهو أعني شهر الصوم وعبادة الصوم مدرسة للخير تصوم من أجل أن تهذب أخلاقك وتقوم سلوكك لا تصوم من أجل أن الإنسان يريد أن يتخلص من أمر واجب عليه أو تبعة تعينت عليه أبدا كذلك أيضا تحرص في شهر رمضان على فضائل الأمور وكل يوم إذا كنت في طاعة تحرص على أن تكون على أكمل ما تكون عليه الطاعة إطعام المساكين تفريج الكربات الإحسان للمؤمنين والمؤمنات قال -- صلى الله عليه وسلم -- : (( أيها الناس، أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا جنة ربكم بسلام )) تفريج كربات المسلمين الحرص عليها في شهر الصيام قالوا(3/285)
إن الله - عز وجل - شرع للمسلم أن لا يأكل ولا يشرب حتى يتذكر الأكباد الجائعة والأحشاء الظامئة فالذي يصوم ويتذكر فقراء المسلمين وضعفة المسلمين وأيتامهم وأراملهم كمل صومه فمن الناس من يبتدئ في شهر رمضان في أول يوم ويحس بلوعة وألم الجوع والعطش فإذا حس بالألم والجوع والعطش منهم من يخرج من ماله فيخرج صدقة كان بعض الأخيار إذا كان صيام رمضان في شدة الصيف يخرج في شدة الهاجرة في شدة الظهيرة ومعه ما يحسن به إلى الضعفاء والفقراء لماذا لأنه يحس أن الله يعلمه بهذه العبادة يذكره إخوانه يذكره البائسين من الناس من غابت عليه شمس يومه فأخرج من ماله ما اشترى به رحمة ربه وما الفائدة إذا كان يصوم ولا يتذكر الضعفاء والبؤساء إذا لابد أن يكون صيامه بهذه المنازل الكريمة وأن يدرك ماذا يريد الله منه .(3/286)
كذلك أيضا إذا صام يومه وأتم صيامه شكر . الشكر على النعمة من أعظم النعم التي ينعم الله بها على عبده أن يرزقه الشكر فإذا وقف في آخر يومه تذكر من حرم صيام هذا اليوم تذكر أولا عافية الله في دينه حيث علمه وفهمه وجعله من أهل الإسلام ثم تذكر عافيته في دنياه في بدنه كم من مريض يتمنى الصحة التي هو فيها وكم من عاجز و كم من كبير سن وكم وكم فإذا وجد أن الله أعطاه العافية وتذكر من حرمها لهج لسانه بشكر الله - عز وجل - والثناء وهذا الفرح الفرح بالتوفيق للطاعة للصائم فرحتان فرحة عند فطره لأنه لا يوفق لتمام العبادة إلا من يحبه الله جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل ولذلك تجد التوفيق للعبادة قليل أن يوفق الإنسان إلا من رحم ربك وقليل من عبادي الشكور فأهل الشكر والإحسان والعبادة قليل جعلنا الله وإياكم من هذا القليل فإذا جئت عند غروب شمسك وحفظت الله وشعرت أن هذا الصيام توفيق من الله لا بحولك ولا بقوتك وبرأت من الحول والقوة زادك الله من نعمه ثم يكون عندك طمع في رحمة الله - عز وجل - وذلك أنك تفطر وأن ترجو رحمة الله - عز وجل - بالدعوات الصالحة تفطر وأن ترجو الخير الكثير من الله وكم من شمس يوم في رمضان غابت فغيبت ذنوب العمر وكم من شمس يوم غابت فغيبت هموما وغموما وأحزانا وآلاما لا يعلمها إلا الله - عز وجل - مواسم نفحات وساعات مباركات طيبات من أي شيء أعظم من هذه العبادة ولذلك يستشعر الإنسان هذه المعاني ثم في أي موضع من المواضع تكون فيه في طاعة الله - عز وجل - لا تنظر أمامك ولا عن يمينك ولا عن يسارك إلا وجدت دلائل توحيد الله وعظمته وانظر كيف المساجد تمتلئ في رمضان وكيف يزداد إيمانك ترى المسلمين في همومهم وغمومهم وكروبهم فتجد عبادات الإسلام تجمعهم ولو شتتهم الأعداء شتت الله شملهم وتجد كيف الإسلام في عظمته وعزته وكرامته يجمع هذه الأمة كنا ذات يوم في هذا المسجد وفوجئت برجل يقوم فيقف وكنا في الصف الأول فينظر(3/287)
إلى المسجد فإذا به لم يستطع حتى أجهش بالبكاء وكان من خيار طلبة العلم وهو يقول الله أكبر على عظمة الإسلام ترى الناس على اختلاف طبقاتهم وعلى اختلاف ألوانهم وأحسابهم وأنسابهم كلهم ينتظرون ساعة الفطر، يتبجح أهل الدنيا بأن الغرب وغيره نظام ويطبقونه . وعندنا من أنظمة العبادة وترتيبها وجمالها وجلالها ما تعجز البشرية جمعاء عنها في هذه الساعة تجد الناس كلهم ينتظرون لحظة واحدة لا يمكن أن يقدم الصوم عنها أو يؤخر أليس هذا انضباطا لكن مشكلتنا نحن دائما ننظر إلى أنفسنا بالنقص وننظر إلى غيرنا بالكمال عندنا عزة وكرامة تشعر بعزة الإسلام عزة دينك عظمته ومهما كان تحس أن الإسلام لازال باقيا ولو حصلت لهم من الفتن والمحن لكن عندك يقين بعظمة هذا الدين وأن لله حكما ولله سننا وما علينا إلا أن نرجع لديننا إن أردنا عزة أو كرامة فتجد هذه المواقف ما تكون غافلة عنها بحيث تصوم في رمضان وأنت أيقظ الناس قلبا وأوعاهم فهما وكذلك أيضا الحرص على قيام الليل والتأسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- تتذكر قول رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : (( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) أوصي القراء والأئمة أولا بالإخلاص بمجرد ما يخرج من بيته يريد أن يصلي بالناس يتذكر كيف أن الله قدمه وكيف أن الله شرفه (( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )) فيحمد نعمة الله - عز وجل - أن الله قدمه ثم إذا علم أن الله قدمه فليعلم أنه لله وأنه عبد لله وليس لغيره فلا يبحث عن تطريب الأصوات والنغمات والبحث عن عجب الناس يبحث عن مرضات ربه وحده لا شريك له يريد من الله أن يرضى عنه حتى إذا خرج القرآن من لسانه خرج طيبا مطيبا بالإخلاص والله طيب لا يقبل إلا ما كان طيبا خالصا لوجهه فلا يغيب قراءته بالنظر إلى أن الناس يعجبون به أو لا يقوم كما قام النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قارئا لكتاب الله متدبرا متفهما وإذا صلى بالناس خاشعا متخشعا(3/288)
متذللا لربه يستشعر معاني الآيات إن هذا الخشوع من الإيمان يؤثر في المأمومين وهذا الإخلاص خيره وبركته في التابعين فإذا كان الإمام مخلصا تأثر الناس بقراءته وتأثر الناس بقيامه ويحرص على التأسي بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيصلي بالناس يرحم ضعيفهم وكبيرهم ويحسن إليهم ويحاول قدر المستطاع أن يصلي بهم صلاة أضعفهم كما وردت السنة بذلك ونحو ذلك .
كذلك أيضا على المأمومين أن يصبروا في قيام رمضان وأن لا يضجروا ولا يسأموا والعبادات فيها سآمة وفيها ملل لأن الجنة حفت بالمكاره والعجيب أنك تخرج من بيتك تريد أن تصلي التراويح وإذا بك تجد نفسك مجهدا منهكا ولربما حتى إن بعض الأئمة هذا فيه بعض الأحيان يخرج الإنسان وقد لا يستطيع أن يصلي يقول لا أستطيع أن أصلي ولكن سبحان الله ما إن صلي الركعتين الأوليين حتى تتفتح له أبواب الرحمات وإذا به ينشرح صدره ويطمئن قلبه وإذا بنفس الشيطان ودخل الشيطان وتثبيط الشيطان وتخذيل الشيطان قد ولى وذهب { بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق } فإذا به لا يصلي ثلاث تسليمات أو تسليمتين إلا وهو يتمنى أنه إمام إلى الفجر من لذة ما يجد وحلاوة ما يجد فإذا الإنسان عليه أن يصبر السآمة والملل دائما في العبادات في الطاعات عواقبها حميدة وأعظم الناس أجرا في العبادات من ثقلت عليه وصعبت عليه ووجد فيها الضيق وأكمل الناس إيمانا أكثرهم بلاء أشدكم بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ولذلك تجد بينك وبين هذا القيام قيام الليل من المجرب حتى في غير رمضان ولكن داوم عليه ثلاثة أيام ثلاث ليالٍ داوم عليه أسبوعا وأنت تجاهد حتى يأتيك توفيق الله - عز وجل - وكثير من الناس من بقي العشرين سنة منهم من لم يفته في عشرين سنة قيام ليله بل إنني أعرف من أخبرني أنه ما مرت عليه ليلة وقرأ فيها أقل من سبعة أجزاء وعمره قرابة الستين سنة قال حتى في المرض كنت أجاهد نفسي مجاهدة يقول الغريب أني لما صبرت في(3/289)
السنوات الأول كنت أجد جهدا عجيبا يقول سبحان الله ما إن ضغطت على نفسي حتى أصبحت السنوات التي بعدها من أيسر ما تكون { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } تجاهد أول ما تأتي كل طاعة هذا ليس خاصا بقيام الليل تريد تذهب إلى حلقة عالم تجد المثبطات والمتاعب تريد أن تذهب لتنفق على المساكين تجد المشاكل كذا لكن اصبر على ذلك وصابر عليه ويأتيك التوفيق من الله والثبات فالمقصود قيام الليل في رمضان تتذكر ما وعدنا الله - عز وجل - به على لسان رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- أنه يغفر لك ما تقدم من ذنبك وهذه رفعة درجة وعظم أجر وزلفى لك عند ربك ومن منا لا يطمع أن يغفر له ما تقدم من ذنبه نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يتولى ذنوبنا وذنوبكم بالعفو والمغفرة .
كذلك أيضا مما يوصى به في نهار رمضان الحرص على الثبات على الخير فإذا وفق الله لك في بداية رمضان بعض الناس عنده نشاط في أول رمضان فإذا انتصف رمضان ضعف ومنهم من يكون يعني حريصا على إطعام الناس على الإحسان إليهم ثم بعد ذلك عليك أن تستديم الخير فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سئل عن أحب الأعمال إلى الله فقال : (( ما كان ديمة وإن قل )) فتداوم على الخير وإن من أعظم الخصال الطيبة المباركة في نفع الناس تفطير الصائمين تتفقد الضعفاء والفقراء والبؤساء وتفريج كرباتهم في هذا الشهر المبارك لاشك أنه خير كثير نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يبارك لنا في شعبان وأن يبلغنا رمضان بعفو وعافية وبر وإحسان وأن يجعل لنا ولكم في هذا الشهر أوفر ما يكون حظا ونصيبا من كل خير وبركة ورحمة وبر وعفو وعافية إنه سميع مجيب والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : هناك رجل كبير لا يدرك الصوم فهل الكفارة تدفع في نفس اليوم أو بعد إكمال ثلاثين يوما وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(3/290)
أولا إذا كان لا يدرك الصوم فهو غير مكلف، إذا كان كبر السن غيب عقله، وأصبح لا يدرك الصوم يعني معناه أنه ضيع وأصبح يخلط وأصبح في عقله اختلاط فهذا غير مكلف؛ لأن المجنون غير مكلف وهو في حكم المجنون فهذا لا يجب عليه الصوم ولا يجب عليه الإطعام ما يجب عليه شيء فإذا كان ترى أحواله وأنه ما أصبح يدرك الأمور ولا يعرف الصوم ولا يعرف العبادات فهذا ليس عليه الأصل ولا البدل ليس عليه صيام ولا بدل عنه والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : ما حكم استخدام الطيب أثناء الصوم وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
الطيب نوعان :
البخور لا يجوز استعماله لأنه له مادة وهو جرم وقد فصلنا هذه المسألة في الدورة وبينا أن الدخان والبخور له جرم يمتزج باللعاب ولذلك يدخل إلى الجوف ويقتضي الفطر ومن هنا لا يجوز استعمال الطيب في حال الصوم إذا كان من الند والعود والمباخر وأما إذا كان الطيب من السائل ففيه وجهان :
من أهل العلم من أجازه ومنهم من منعه كراهية تنزيهية قالوا لأنه يثير الشهوة فهو يخالف المقصود شرعا من كون الصوم يعني يمنع من الشهوة فقالوا إنه يكره للصائم أن يتطيب ولكن ظاهر السنة الجواز لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالطيب للجمعة ولم يستثن من كان صائما وقد قال : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) فالأصل يقتضي جواز الطيب سواء كان للصائم أو لغيره إلا إذا كان بخورا على التفصيل الذي ذكرناه والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : ما هي الموازين في الكفارة من حيث الوزن الحالي الكيلو أو الرطل وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(3/291)
هذه المسألة بينا أن الأصل أن نتبع السنة والوارد فالوارد الكيل والوزن ليس بوارد عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والذي قرره العلماء رحمهم الله في أبواب الربا أنه لا يجوز بيع المكيل موزونا ولا الموزون مكيلا لأن الموزون يتبع الثقل والمكيل يتبع الجرم توضيح ذلك أننا لو نظرنا إلى التمر قد تكون نوعية التمر طويلة الحجم خفيفة الوزن مثلا عندنا هنا في المدينة تمرة العنبرة يعرفها أهل الخبرة طويلة الحجم خفيفة الوزن لو جئت تملأ منها الصاع ربما تصل إلى كيلو كيلو وزيادة يملأ الصاع وتجد تمرة العجوة خاصة الدرجة الثانية التي هي العجوة الصغيرة تجدها صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، نمرة واحدة أيضا متوسطة الحجم ثقيلة الوزن فما تستطيع أن تضبط المكيل بالوزن لأن هذا تابع لجرمه والذي وارد في الكفارات المكيلات وقد تكلم على هذه المسألة الإمام ابن قدامة رحمه الله في أبواب الربا في بيع المكيل وزنا والموزون كيلا وبين عدم جواز ذلك .(3/292)
فالمنبغي الحرص على إبقاء الناس على السنة فالناس مثلا لا يعرفون الصاع ولا يعرفون المد وقد قال كما في الصحيح من حديث أبي سعيد وحديث ابن عمر (( أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فرض صدقة الفطر من رمضان صاعا)) فبقاء هذه السنة أن نرد الناس إلى الصاع وأن نبقي الناس على الكيل. فالصاع موجود نحن نبقيه نبقي هذه السنة لأنها موجودة في السنن والآثار كم من أناس من غير المسلمين يحفظون تراثهم ونحن في دين الله وطاعة الله نريد أن نتخلص حتى من الآصع هناك صاع للفطر أو صاع في الكفارات وإطعام المساكين في الأيمان في النذر في كفارات الظهار في كفارات القتل في كفارة الجماع في نهار رمضان كلها مبنية على هذه المقادير ومن هنا ينبغي إبقاء السنة وإحياءها فقه الفتوى أن نبقي هذه الأشياء ولنحرص على بقائها أبنائنا اليوم كم بل حتى بعض طلاب العلم الآن لا يعرف ما هو الصاع بل منهم من لم تفتح عينه برؤية صاع ولا يعرف ما هو وهو موجود يعني في كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الأمور المقدرة فقه الفتوى أن نبقي هذا وأن نحرص على بقائه إذا اجتهد أحد وقدر الصاع أنه بكيل معين يحدد النوعية التي قدر بها الصاع مثلا إذا كان من التمر يكون مثلا من السكري من العجوة لأن الأوزان تختلف والأجرام تختلف فيضبط ضبطا صحيحا نعم أما أن يقال كل شخص أخذ كذا وكذا كيلو من الحب من أي كان ومن التمر من أي كان فهذا يحتاج إلى إعادة نظر فالأصل أولا أن نحرص على بقاء السنة وثانيا إذا وجدت حاجة فإننا نقول إنه ثلاثة كيلوات كيلوان ونصف كذا وكذا من نوعية كذا وكذا وتحدد حتى يكون ذلك أضبط وأتقن ولاشك أن الحرص على البقاء على السنة هو الأولى والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : إذا أفطر الشيخ الكبير والمريض لا يرجى برؤه لكن لا يستطيع الإطعام لفقره فماذا عليه وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(3/293)
إذا لم يستطع للفقر سقطت عنه الكفارة سقط عنه الأصل وبدله فلا يجب عليه شيء هو شيخ كبير ما يستطيع أن يصوم ولا يستطيع البدل وهو الإطعام فلا شيء عليه { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وهذا ليس بوسعه شيء فلا شيء والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : هل تجزئ النقود في الكفارة بدل الإطعام وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :
النقود والذهب والفضة والأثمان كانت موجودة على عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ومع ذلك لم يقدم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على الكفارة ولا الإطعام وهذا لحكمة عظيمة فإن النقود يأخذها المستحق وغير المستحق ولكن الطعام لا يأخذها إلا المستحق ومذهب جمهور العلماء أنه لا يجوز إخراج النقود في زكاة الفطر ونحوها من الكفارات لأن الشرع عين الإطعام فيجب أن يكفر بالإطعام وكما قلنا كانت هذه الأشياء موجودة على عهد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ولم يأمر بها فوجب البقاء عليها وما استدل به في حديث معاذ : (( إيتوني بقميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رد بأن هذا في الجزية وليس في الكفارات والصحيح مذهب الجمهور أنه يجب الإطعام فيما سمي فيه الإطعام ولا ينتقل إلى البدل من القيمة والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ : إذا انتقل الصائم وسافر من بلد إلى بلد ورؤيت البلد الأول رؤية هلال شوال فهل يفطر تبعا لهم علما بأن البلد الثاني لم ير فيه هلال شوال وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(3/294)
إن كان في بلد وانتقل إلى بلد فالعبرة بالبلد الثاني في فطره ولا يعتد بالبلد الأول العبرة بموضعه الذي أفطر فيه فيمسك معهم وحينئذ إذا أتم الشهر فلا إشكال إنما الإشكال إذا انتقص كما يقع في بعض الأحيان الفرق في الأيام إذا انتقص يوما إذا صام تسعة وعشرين فالصحيح أنه يجزيه لأن الشهر يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين فإذا كان الفرق في بعض وهذا نادر ما يقع قد يقع الفرق إلى يومين في هذه الحالة يقولون إنه يلزمه قضاء يوم وقال بعض العلماء يلزمه قضاء الشهر كاملا وهذا أحوط أنه يصوم يومين لإتمام العدد ثلاثين يوما وهذا أحوط والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
فضيلة الشيخ : ما هي المسافة التي تبيح له الفطر بالكيلو مترات تقريبا وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(3/295)
السفر في الشرع أن يكون مسيرة اليوم والليلة والدليل على ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- خرج دون مسيرة اليوم والليلة ولم يحتسب نفسه مسافرا فخرج إلى بني قريظة وهم على بضعة أميال من المدينة ومع ذلك لم يحتسب نفسه مسافرا مع أنه قد خرج من المدينة وأسفر عن المدينة ولما تبين لنا نظرنا إلى أقل ما سماه الشرع سفرا فوجدنا النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم )) فلما كانت المرأة منهية عن السفر بدون محرم لم يذكر من التقديرات غير اليوم ففهمنا أن ما دون اليوم لا يسمى سفرا وهي مسيرة النهارين والليلتين واليوم والنهار وهي الإبل في النهار تبلغ ما يقرب خمس وسبعين كيلو إلى ثمانين كيلو لكن إذا وصل السفر إلى خمس وسبعين كيلو قصر الصلاة وترخص بفطره وبذلك يكون السفر وثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن ابن عمر أنه سئل هل تقصر الصلاة فيما بين مكة والجموم الذي هو مر الظهران قال لا مع أن مر الظهران تبعد عن مكة ما لا يقل عن خمسين كيلو تقريبا قال لا ولكن إلى جدة وعسفان والطائف وكانت جدة في ذلك الزمان فوق خمسة وسبعين كيلو مسيرة مرحلتين كاملتين والطائف أيضا كانت كذلك فالشاهد من هذا أنهم اعتدوا بمسيرة اليوم والليلة الكاملة وهذه هي التي تسمى سفر وتأخذ أحكام السفر .
الثاني : الحائض والنفساء تفطران وتقضيان
- - -
قال المصنف رحمه الله : [ الثاني : الحائض والنفساء تفطران وتقضيان ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(3/296)
فقد تقدم معنا أنّ كلاًّ من الحيض والنفاس يعتبر مانعاً من موانع الصوم ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن المرأة إذا حاضت لم تصم ولم تصلّ فذلك نقصان دينها )) كما في الصحيح ، فدلّ على أنّ الحيض مانع من موانع الصوم ، والنفاس حكمه حكم الحيض . هذا المانع محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- ، وقد دلّت الأصول على أنّ الحيض والنفاس لا فرق بينهما إلا في مسائل خاصة. أما الأصل فيقتضي عدم التفريق ، وبالنسبة للحيض والنفاس هما مانعان إلى أمد الطهر، فإن قطع الدم عن المرأة وتبيّن طهرها ؛ فإنه يجوز لها أن تمسك إذا كان ذلك قبل طلوع الفجر، ولا يشترط أن تغتسل من الحيض والنفاس ، ولذلك يعتبر الحيض والنفاس كل منهما مانعا من موانع الصوم، ويرتفع هذا المانع بمجرّد انقطاع الدم وظهور علامة الطهر .
قال رحمه الله : [ وإن صامتا لم يجزهما ] : وإن صام كل من الحائض والنفساء لم يجزه صومه، وهذا محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- لثبوت النصوص ، منها ما تقدم ، وكذلك حديث عمرة بنت عبدالرحمن عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : (( كنا نحيض على عهد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )) فدل على أن الحائض يجب عليها القضاء ولا يجب عليها الأداء ، وأنها لو صامت لم يجزها صومها ، ومن هنا يختلف هذا النوع عن بقية الأنواع أنه لا يجزيه إذا صام . أماّ من تقدم من المريض والمسافر لو صاما صح الصوم منهما، فمانع الحيض والنفاس مانع من الأداء ، ولو أن كلاّ منهما صام لم يصح الصوم منه ، بل ويأثمان كما نص عليه طائفة من أهل العلم لمكان العصيان .(3/297)
قال رحمه الله : [ الثالث الحامل والمرضع ] : إذا كانت المرأة حاملا أو كانت مرضعا فإما أن تخاف على نفسها من الصوم ، وإماّ أن تخاف على ولدها ، وإما أن تخاف على نفسها وولدها ، فإذا كانت المرأة حاملا أو كانت مرضعا سواء كانت مرضعة لولدها أو مرضعا لولد غيرها كالمرأة المستأجرة للرضاع ؛ فإنه يجوز لها الفطر في جميع هذه الأحوال ، يجوز لها أن تفطر إذا خافت على نفسها كأن تكون حاملا ضعيفة البنية والحمل ينهكها فإذا صامت تعبت أو لربما استضرت فيجوز لها أن تفطر، وهكذا لو قال لها الطبيب : لا تصومي وأنت حامل ، فإنه يضرك في الجسد جاز لها الفطر، ففي هذه الحالة تخاف على نفسها ، وكذلك أيضا إذا خافت على جنينها . فقال لها الطبيب : إن الجنين في حالة لو صمت استضرّ بصومك ولربما مات ؛ فحينئذ يجوز لها أن تفطر، أو خافت على نفسها مع الجنين فهي أضعفها الحمل، وكذلك الحمل لو صامت تأثر؛ فحينئذ يكون مجموع الأمرين .
في جميع هذه الصور تفطر المرأة الحامل ، والمرضع كذلك إذا خافت على نفسها ، أو خافت على الولد الذي ترضعه ؛ لأنها تحتاج إلى الحليب ، ولكي تدر الحليب لابد أن تكون مفطرة أو تفطر على وجه تقْوى به على الإرضاع ، أو يكون الرضيع ضعيف البنية لا يمكن تأخير رضاعه ، وإذا أرضعته وهي صائم استضرت ؛ فحينئذ يجوز لها أن تفطر لمصلحة الغير ، وكذلك أيضا إذا اجتمع الأمران من باب أولى وأحرى ، فخافت على نفسها المرضع ، وخافت على ولدها ، أو على من ترضعه ؛ جاز لها أن تفطر .(3/298)
إذًا الحكم الأول أنه يجوز لها الفطر؛ وذلك لأنها إذا خافت على نفسها أو خافت على ولدها فقد وجد الضرر؛ وقد قال الله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ، وكان عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر فيما صح عنهما يقولان : إن الآية ليست منسوخة ، وإنها باقية في الحامل والمرضع والشيخ الكبير، وعليه فيجوز لها الفطر أعني المرأة الحامل والمرضع سواء خافت على نفسها أو خافت على ولدها أو خافت على الاثنين .
إذا خافت على ولدها فهذه نفس محرمة ، والولد يكون متصلا بالحامل ولا إشكال ، كأنه من المرأة الحامل نفسها ، وأما إذا كانت ترضعه فإنها نفس محرمة وتوقف إنقاذها أو دفع الضرر عنها لحصول الصوم ؛ فجاز لها أن تترخص كما يجوز للإنسان أن يفطر لإنقاذ غريق أو إنقاذ إنسان في مهلكة ، وحتى بعض العلماء أوجب عليه الفطر لهذا الإنقاذ ؛ لأن إنقاذها للنفس واجب ، وتوقف على الفطر وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . هذا مسلك طائفة من العلماء في تقرير فطر الحامل والمرضع :
أولا : ثبوت التفسير عن السلف في الآية الكريمة .
وثانيا : أن أصول الشريعة تقتضيه .
المسألة الثانية : إذا قلنا إن كلا منهما يفطر فهل يجب عليهما القضاء ؟ جماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أنه يجب القضاء على المرأة الحامل والمرضع إذا أفطرتا ، سواء أفطرتا لأنفسهما خوفا على أنفسهما أو خوفا على الولد أو عليهما ؛ والدليل على ذلك أن الأصل الشرعي يقتضي وجوب الصوم ، وأن من حصل عنده العذر انتقل إلى أيام أخر؛ بدليل قوله تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فأوجب الله على المعذور الذي أفطر لعذر أن ينتقل إلى العدة من أيام أخر وهو القضاء ، فهذا الأصل الشرعي هو الذي ينبغي البقاء عليه.(3/299)
وذهب بعض السلف كما هو قول عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر –رضي الله عنهم-إلى أن الحامل والمرضع لا تقضيان ، وقالا : يجب عليهما الإطعام فقط ، وهذا القول يعارض الأصول من حيث الأصل الشرعي يقتضي أن الحامل والمرضع كلاّ منهما معذور، والعذر في الشريعة في الصوم ينقسم إلى قسمين :
عذر مستصحب لا يزول كالمريض الذي لا يرجى زوال مرضه وبرؤه ، والشيخ الكبير الزمن الذي لا يعود إلى القوة حتى يقوى على الصوم ، فهذا عذر دل الأصل على أنه ينتقل إلى بدل عن الصوم وهو الإطعام .
وأما بالنسبة لمن كان عذره غير مستصحب ؛ فوجب البقاء على الأصل من مطالبته بالقضاء، واجتهد ابن عباس وابن عمر – رضي الله عنهما- فأسقطا القضاء ؛ واستدل بعض المتأخرين لذلك بحديث أنس الكعبي وفيه أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إن الله أسقط عن المسافر الصلاة والصوم وعن المرضع والحامل الصوم )) فقالوا : هذا الحديث اختلف في إسناده وفيه كلام عند العلماء -رحمهم الله- ومنهم من حسنه بالشواهد . وذكر بعض الأئمة كابن التركماني وغيره أنه مضطرب سندا ومتنا وبخاصة وأن في بعض الروايات عنه -- رضي الله عنه -- قال : (( لا أدري أقالهما جميعا أو أحدهما )) فشك في كون الإسقاط إسقاط الصوم عن المسافر والمرأة الحبلى والمرضع أم أنه اقتصر على المسافر فقط ، وأيا ما كان هذا الحديث يمكن قلبه دليلا للجمهور؛ لأن المسافر بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن الله أسقط عن المسافر الصوم والصلاة أي أسقط عنه شطر الصلاة ولم يسقطها بالكلية ، والمسافر بالإجماع لا يطعم ، فينتقل إلى البدل وإنما يجب عليه أن يصوم أياما أخر كما قال تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فدل على أن الإسقاط ليس إسقاطا للقضاء ، وأنه ليس إسقاطا للتعين وهو وجوب الصوم ، فالفهم من هذا الحديث على أنه يدل على أن المرأة الحامل والمرضع أن كلا منهما يطعم ولا يصوم ضعيف .(3/300)
والصحيح ما ذهب إليه جماهير السلف والخلف والأئمة -رحمهم الله- ومأثور عن طائفة من أئمة التابعين والأئمة الأربعة على أنه يجب القضاء على المرأة الحامل والمرضع ، حتى إن طائفة من أصحاب ابن عباس -رضي الله عنهما- خالفوا ابن عباس في ذلك ، واعتبر من مفردات ابن عباس -رضي الله عنهما- وكذلك عن ابن عمر ليس خاصا لابن عباس بل إنه صح عن ابن عمر فمن قال إنه من مفردات ابن عباس ربما لم يطلع على السند الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وأيا ما كان فقول الصحابي إذا احتمل اجتهادا وكان أصل القرآن أو أصل السنة يقتضي اللزوم ودل النظر الصحيح على قوة هذا الأصل واعتباره ؛ وجب البقاء على الأصل مراعاة لتلك النصوص ، وبخاصة أن جماهير السلف والأئمة -رحمهم الله- على عدم العمل بهذه الفتوى من ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهما- ؛ لأن الأصول الشرعية تدل دلالة واضحة على أن من عجز في أول حال وقدر في ثاني حال أنه لا تسقط عنه العبادة بحال بمعنى أنه لا تسقط عنه كلية .
أما أن تسقط عنه في حال العجز وينتقل إلى البدل ؛ فهذا الذي دلت عليه الأصول في الصلاة وفي الصوم ونحوها من العبادات البدنية ، وعلى هذا فإنها تصوم قضاء ، تصوم كل من الحامل والمرضع قضاء يجب عليهما القضاء .
ثم اختلف هل تطعمان أو لا تطعمان ؟ وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال مشهورة عند الأئمة الأربعة -رحمهم الله- : منهم من قال : بالأصل العام تفطران وتقضيان وتطعمان إذا خافتا على الولد، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وهو قول مجاهد من أئمة السلف -رحمة الله على الجميع -.(3/301)
القول الثاني يقول: تفطران وتقضيان ولا تطعمان ، وهذا القول قال به طائفة من أئمة السلف -رحمهم الله- قال به إبراهيم النخعي والحسن البصري وهو قول الإمام محمد بن مسلم الشهاب الزهري وسفيان الثوري وأبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي حنيفة وأصحاب الرأي -رحمة الله على الجميع- أنهما تفطران وتقضيان ولا إطعام عليهما ، والحقيقة هذا القول قوي جدا من حيث الأصل والدليل ، ولكن الإمام أحمد -رحمه الله- والشافعية جمعوا بين الأصل وبين فتوى عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وطردوا ذلك ، ولكن من حيث الدليل والقوة لاشك أن قول من قال : إنهما تفطران وتقضيان ولا إطعام عليهما أقعد وأقرب للصواب -إن شاء الله تعالى- .
والإمام أحمد -رحمه الله- كان يتورع كثيرا ، ولذلك القول بالإطعام فيه ورع ، وإذا قيل بالفطر لهما وبخاصة إن العذر متصل بغيرهما في حال الخوف على الولد من الحامل أو من المرضع فلاشك أن هذا أفضل .
وذهب الإمام مالك -رحمه الله- وهو القول الثالث إلى التفصيل فقال : الحامل تفطر وتقضي ولا تطعم ، والمرضع تفطر وتقضي إذا خافت على ولدها تفطر وتقضي وتطعم ، فجعل عذر المرضع منفصلا ، وجعل عذر الحائض متصلا ، فأسقط الإطعام في المتصل ولم يسقطه في المنفصل ، وأيا ما كان فإن الأقوى ما ذكرناه من وجوب القضاء دون الإطعام .(3/302)
قال رحمه الله : [ إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا ] : تطعمان عن كل يوم مسكينا إذا خافت على ولديهما هذا إذا كانت مرضعا أو حاملا سواء كانت في بداية الحمل أو في انتصاف الحمل أو في غاية الحمل المهم أن يثبت في قول الطبيب العدل أو تكون المرأة نفسها تعرف نفسها فيجوز لها أن تبني على غالب ظنها ، وهذا يختلف كما ذكر العلماء باختلاف الأشخاص . أما المرضع فإن كانت ترضع ولدها فلا إشكال ؛ لأنها ملزمة بهذا الأصل ، واختلف هل إذا وجدت من تستأجره للإرضاع هل يحل لها الفطر ؟ والصحيح أنه يحل لها الفطر سواء وجدت أو لم تجد ، وأما التي تستأجر للإرضاع ؛ فإنها يجوز لها أن تفطر من أجل أن ترضع ولد غيرها لما ذكرناه من الأصل . ويرد السؤال : هل تجب عليها الكفارة المكررة بعدد الأولاد أو أنها تكون للجميع في كل يوم بحسبه ؟ صورة المسألة : أنها لو أرضعت ثلاثة أولاد في اليوم الواحد وأفطرت من أجلهم فهناك من العلماء من يقول عليها أن تفتدي ثلاث مرات ؛ لأنها حينما أرضعت الأول وأفطرت وقويت على إرضاعه وجب عليها الإمساك ، ثم بعد ذلك إذا أكلت من أجل أن ترضع الثاني أو شربت فإن هذا انتهاك ثانٍ ، ثم الثالث كذلك ، وهذا فيه إشكال سيأتي في مسألة من كرر الجماع ، والأقوى أن فطرها للواحد كفطرها للجميع على قاعدة الاستصحاب .
قال رحمه الله : [ وإن صامتا أجزأهما ] : وإن صامت المرضع والحامل أجزأهما الصوم ، ولكن هل تأثمان إذا غلب على ظنهما وجود الضرر أو شهد الأطباء العدول بتضرر الجنين ثم صامتا وتضرر الجنين ؟ لا يخلو الأمر من وجود الإثم عليهما ، ولذلك العمل بغالب الظن معتبر شرعا فلا يجوز لها أن تعرض نفسها أو ولدها للضرر .(3/303)
قال رحمه الله : [ الرابع : العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا ] : العاجز عن الصيام ، مثل : الشيخ الزمِن ، وكبير السن ، أو المريض الذي لا يرجى برؤه من مرضه وعذره مستديم ، فهو عاجز أداء وقضاء ، وهذا النوع يختلف عمن قبله ؛ لأن العجز فيمن قبله في الأداء دون القضاء ، وأما هذا النوع ذكر في الشيخ الكبير ويدخل فيها المريض إذا كان عذره باقيا معه فهو عاجز في الحال عاجز في المآل، عاجز ابتداءً ومآلاً ، فلا يجب عليه أداء ولا يجب عليه قضاء ، ومثل هذا يجب عليه أن يطعم ؛ لقوله تعالى : { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } في قراءة لابن عباس شاذّة كما ذكر الإمام ابن جرير الطبري وغيره { وعلى الذين يَطّوَّقونه فدية } ذكرنا غير مرة أن القراءة الشاذة على أصح قولي العلماء من أئمة الأصول أنه يصح الاستدلال بها وإن لم تثبت قرآنا ، فهناك فرق بين إثبات الحكم بها وبين العمل والقراءة بها ؛ وعليه فإن هذه الآية فسرها ابن عباس -رضي الله عنهما- في الشيخ الكبير أنه إذا عجز عن الصوم فإنه ينتقل إلى الإطعام .(3/304)
يطعم عن كل يوم مسكينا : يطعم ربع صاع على الأصل ، وإن احتاط بنصف صاع فهو أفضل؛ لأن هذا من قياس الشبه ، بعضهم يلحقه بكفارة الظهار فيوجب ربع صاع وهو الأقوى ، ومنهم من اعتبر نصف صاع قياسا على فدية الحج ؛ لحديث كعب بن عجرة -- رضي الله عنه --في الصحيحين ، وعلى القول بأنه ربع صاع فإن الأفضل أن يزيد لقوله تعالى : { فمن تطوع خيرا فهو خير له } وعلى هذا فإن الواجب عليه ربع صاع ويطعم مسكينا بربع صاع أو طعاما يغتذي بمثله في يومه، فلو صنع للمسكين طعاما فغداه أو عشاه أجزأه ؛ لأن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- كان إذا كان آخر يوم من رمضان جمع ثلاثين مسكينا فأطعمهم ، وعليه لا فرق بين كونه يطعمهم أو كونه يعطيهم الصاع أو ربع الصاع أو نصف الصاع إلا أن الأفضل أن يعطي المسكين طعامه ؛ لأنه أبلغ في التمكين والتمليك ؛ لأن المسكين قد يحب أن يأكل هذا الطعام في غير ذلك اليوم ، ولكنه إذا صنع له الطعام تعين عليه أن يأكله في ذلك اليوم ، وإذا قيل إن الكفارات والإطعام في الكفارات للتمليك قوي أن يعطيه لا أن يطعمه بأن يطبخ له ونحو ذلك يطعم عن كل يوم مسكين .
قال رحمه الله : [ وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير ] : وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير هذا من حيث الأصل قال تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } . فبين - سبحانه وتعالى - أن من أفطر في رمضان فعليه عدة من أيام أخر فليس عليه إلا أن يقضي ما ترك صيامه لعذر أو غير عذر .(3/305)
قال رحمه الله : [ إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة ] : إلا من أفطر بالجماع في الفرج : الجماع في نهار رمضان من محظورات الصيام ، ومن جامع فقد أفطر ؛ وذلك لقوله تعالى : { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ومفهومه أنه في نهار الصوم لا يحل الرفث إلى النساء ، المراد بذلك جماع النساء ، فحرم الله -- عز وجل -- الجماع على الصائم فقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح فيما يرويه عن ربه : (( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )) فدل على أنه لا يجوز للصائم أن يجامع ، فإذا جامع وأصاب أهله ؛ وجبت عليه الكفارة ؛ وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث سلمة بن صخر البياضي -- رضي الله عنه -- أنه أتى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فقال : هلكت وأهلكت . قال : ما أهلكك ؟ قال : وقعت على أهلي . وفي لفظ : أصبت أهلي وأنا صائم . فقال عليه الصلاة والسلام : أعتق رقبة أتجد رقبة ؟ قال : لا . فقال - صلى الله عليه وسلم - : فصم شهرين متتابعين . قال : وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم . فقال : أطعم ستين مسكينا . فقال : لا أجد . فأُتِي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بعرق من تمر - والعرق هو المكتل .فقال - صلى الله عليه وسلم - : أطعم ستين مسكينا . فقال : والله ، وفي بعض الروايات : والذي بعثك بالحق ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني . فقال - صلى الله عليه وسلم - : خذه فأطعمه أهلك )) صلوات الله وسلامه عليه فدل هذا الحديث على أنه تجب الكفارة على من جامع أهله في نهار رمضان ، وهذا محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- وهذا النوع من الكفارات يعتبر من المغلظ فهي الكفارة المغلظة يجب عليه عتق رقبة فإن لم يجد رقبة صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين انتقل إلى إطعام ستين مسكينا على ظاهر هذا الحديث .(3/306)
والأصل وجوبها على الزوج ، وأما الزوجة فإن كانت مكرهة فلا شيء عليها إن غلبها وقهرها على الجماع ، وهكذا لو اغتصب امرأة -والعياذ بالله- للزنى فزنى بها فإنه لا يكون عليها شيء إذا أكرهها على الزنى واغتصبها ، وأما إذا طاوعته فعليه وعليها الكفارة عليهما الكفارة وعلى هذا يفرّق بين أن تطاوع المرأة أو تمتنع .
أما بالنسبة للرقبة فأصح قولي العلماء أن تكون مؤمنة خلافا لمن قال بإعتاق رقبة ولو كانت كافرة؛ وذلك لقوله -عليه الصلاة والسلام- لما أراد الرجل أن يعتق جارية أمرها أن يأتي بها فقال لها النبي -- صلى الله عليه وسلم --: أين الله ؟ قالت : في السماء . قال من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله . قال : ((أعتقها فإنها مؤمنة )) والجملة (( فإنها مؤمنة )) تعليلية أي اعتقها من أجل أنها مؤمنة ، فدل على أن العتق يختص بالمؤمنين ، وقد فصلنا هذه المسألة في شرح الزاد ، وعلى كل حال يجب أن تكون هذه الرقبة مؤمنة ، سالمة من العيوب المؤثرة ، ويستوي فيها الصغير والكبير ، فيجوز أن يعتق جارية عمرها خمس سنوات أو يعتق صبيا عمره أربع سنوات ، وكذلك إذا كان كبيرا ، وذلك للعموم وأما بالنسبة لصيام شهرين متتابعين فإنه إذا بدأ الصوم من أول الشهر فإنه يعتد بها ناقصا أو كاملا فقد يصوم ثمانية وخمسين يوما من شهرين متتابعين ثبت بالرؤية نقصهما كأن يصوم محرم وصفر أو صفر وربيع ويثبت بالرؤية نقصان صفر وربيع فيصوم ثمانية وخمسين يوما . أما إذا صام أثناء الشهر فإنه للعلماء فيه وجهان إن تمحض له الشهر في الأثناء اعتد به كمالا ونقصا ، ثم احتسب الزائد فيما قبل الشهر وما بعد الشهر، مثال ذلك : لو ابتدأ في يوم العشرين من الشهر الذي يسبق شهر ربيع وهو صفر فإنه في هذه الحالة في صفر على القول بالاعتداد بالشهر ناقصا كان أو كاملا فإذا ثبت أن صفر تسعة وعشرون ؛ فإنه يحتسب ثلاثين يوما : عشر قبل ربيع ، وعشرين بعده ، ثم يصوم صفر على نقصه وكماله .(3/307)
وأما إذا قلنا إنه يصوم إذا صام أثناء الشهر ستين يوما فيجب عليه أن يتم ستينا يوما سواء كان الشهر المتخلل كاملا أو ناقصا هذه هي المسألة المشهورة عند العلماء فيمن صام شهرين متتابعين سواء في كفارة الظهار أو كفارة الجماع في نهار رمضان أو كفارة القتل .
على كل حال يجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين ، فإن عجز عن ذلك إما أن يعجز لضعفه أو يعجز لشدة شهوته ، فإن كان شديد الشهوة ولا يمكنه أن يصبر كما قال سلمة : وهل أوقعني فيما أنا فيه إلا الصوم ، فإنه حينئذ ينتقل إلى إطعام ستين مسكينا ، فيطعم كل مسكين ربع صاع على أصح قولي العلماء ؛ لأن العَرْق الذي أتي به عليه الصلاة والسلام كان مِكْتلا فيه خمسة عشر صاع ، والخمسة عشر صاعا على ستين مسكينا لكل صاع ربع صاع ، وهذا هو الذي أشار إليه سعيد بن المسيب -رحمه الله- في رواية الإمام مالك عنه في الموطأ كما ذكر الإمام مالك عنه في الموطأ أن العَرْق كان خمسة عشر صاعا .
قال رحمه الله : [ فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فإن لم يجد سقطت عنه ] : فإن لم يجد سقطت عنه على أحد الوجهين ، وهذه المسألة : هل يعتبر بها في الحال أو في الحال والمآل في الكفارات ؟ فمن قال العبرة بالحال سقطت عنه ولم يلزمه القضاء إذا صار غنيا بعد ذلك . وصورة المسألة : لو أنه جامع امرأته في نهار رمضان ، ثم عجز عن العتق وعجز عن صوم شهرين متتابعين ، وعجز عن إطعام ستين مسكينا ؛ سقطت عنه الكفارة في الحال ، لكنه بعد مدة أو بعد شهر أو بعد سنة طالت أو قصرت أصبح غنيا فاستطاع أن يشتري رقبة واستطاع أن يعتقها أو استطاع أن يطعم ستين مسكينا فهل تبقى في ذمته ؟ ظاهر السنة أنها لا تبقى في الذمة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أسقطها عن سلمة بن صخر البياضي ولم يقل له فإذا اغتنيت فاقض ، فدل على أن العبرة فيها بالحال ، وهذا هو أقوى الوجهين عند العلماء -رحمهم الله- .(3/308)
إذا حصل الجماع بالمرأة سواء كانت حلالا أو حراما كما ذكرنا بالزنى خلافا لمن قال من الظاهرية لا كفارة في الزنى ولكن جمهور العلماء -رحمهم الله- على أنه يستوي أن يكون حلالا في الأصل كالزوجة أو يكون حراما وهكذا -والعياذ بالله- لو وطئ امرأته في دبرها أو حصل لواط فإنه يجب عليه أن يكفر كفارة مغلظة .
قال رحمه الله : [ فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة ] : إن جامع ولم يكفر عن الجماع الأول حتى جامع مرة ثانية فعلى صورتين : إما أن يقع ذلك في يوم واحد أو يقع في أيام متعددة ، فإن وقع في يوم واحد فكفارة واحدة ، وإن وقع في أيام متعددة فإن لكل يوم كفارته .
قال رحمه الله : [ وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية ] : هذا على القول بأن من لزمه الإمساك يستأنف ويكون صومه مستأنفا .(3/309)
قال رحمه الله : [ وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة ] : هذا مبني على الأصل كما في حديث صوم عاشوراء وأصله في الصحيح أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر الصحابة في يوم عاشوراء من كان منهم قد أصبح صائما أن يتم بقية يومه ، ومن أصبح مفطرا أن يمسك بقية اليوم، فقالوا كل من لزمه الإمساك كرجل كان مسافرا وأفطر في سفره ثم دخل المدينة قبل غروب الشمس بثلاث ساعات ثم جامع أهله ؛ فإنه يجب عليه إذا دخل المدينة ورجع إلى أهله أن يمسك بقية اليوم ؛ لأن الله أحل له الفطر حال السفر، فوجب عليه الإمساك بقية اليوم ، فقال لو قال البعض كيف يمسك وهو مفطر ؟ فقل : إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالإمساك من كان مفطرا . فقال للصحابة ومن أصبح مفطرا فليمسك بقية يومه فأخذ من هذا جمهور السلف -رحمهم الله- منهم الأئمة الأربعة -رحمهم الله- لزوم الإمساك على الصائم إذا قدم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمره فدل هذا على أن له حرمة الصائم ومن هنا يرد السؤال : هل يأخذها من كل وجه بحيث لو جامع وجبت عليه الكفارة أو أنه يقال بإثمه دون وجوب الكفارة عليه اختار المصنف -رحمه الله- وجوب الكفارة عليه وهذا صحيح من جهة الأصل.(3/310)
قال رحمه الله : [ ومن أخر القضاء لعذر حتى أدرك رمضان آخر فليس عليه غيره ] : إذا وجب على العبد أن يقضي رمضان ؛ فالواجب عليه أن يبادر وله أن يؤخر القضاء ما لم يبق من شعبان على قدر الأيام دون يوم الشك ، فلو كانت عليه خمسة أيام من رمضان فيجوز له أن يؤخرها إلى شعبان إلى خمسة أيام قبل يوم الشك ، وحينئذ يضيق عليه هذا الواجب الموسع ويصبح ملزما بالصيام ؛ هذا دليله حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت : (( إن كان يكون علي صوم في رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- مني )) وعليه فلو أخر إلى رمضان وجاءه العذر في الأيام التي تسبق شعبان أو قبلها واستصحب إلى دخول رمضان فلا شيء عليه ، مثاله : لو أن امرأة حاضت في رمضان فوجب عليها سبعة أيام قضاء فأخرت القضاء فلما دخل شعبان حملت أو جاءها عذر من مرض ولم تستطع أن تصوم حتى دخل رمضان الثاني فإنه لا شيء عليها إلا القضاء ولا يجب عليها الكفارة لعدم التفريط وعدم الإخلال .
قال رحمه الله : [ وإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا ] : ففي الحالة الأولى إذا لم يفرط وكان عنده عذر ألزمناه بالأصل ؛ والدليل قوله -تعالى- : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } فأوجب الله عليه أن يصوم عدة من أيام أخر وعلى هذا لم يجب عليه غير هذه الأيام الأخر، فيستوي أن تكون فيما بين رمضانين أو بعد الرمضان الآخر مادام أن عنده عذراً أما إذا أخر وفرط فعليه عن كل يوم إطعام مسكين ربع صاع كما ذكرنا يطعم عن كل يوم فرط فيه ربع صاع ، وهذا يقول به جمهور العلماء -رحمهم الله- ويأخذونه منتزعا من فتاوى بعض أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو مذهب الجمهور ، وهو أحوط ولكن من حيث الدليل القول الذي يقول بعدم وجوب الكفارة عليه أقوى .(3/311)
قال رحمه الله : [ وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه ] : وإن ترك القضاء حتى مات لعذر :كمريض استمر به المرض لا يستطيع أن يصوم حتى توفاه الله ليس عليه إلا الإطعام؛ لأنه في حكم المريض الذي لا يرجى برؤه ، ليس عليه إلا الإطعام ، فيؤخذ من تركته على قدر الإطعام المبلغ الذي يكفي لإطعام عن الأيام التي أفطرها وهذا هو الأصل ؛ لأن الواجب في ذمته الإطعام وليس الصوم .
أما لو مات وعليه صوم وتركه قادرا عليه ؛ فظاهر السنة في قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )) أن يصوم عنه وليه .
قال رحمه الله : [ وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين ] : إذا كان استمر معه العذر حتى توفاه الله فبعض العلماء يرى أنه في حكم المريض الذي لا يرجى برؤه ولذلك ينتقل إلى الإطعام ، واختار المصنف -رحمه الله- أن لا شيء عليه . ووجه ذلك : أن الحنابلة وطائفة من أهل العلم ومن يوافقهم على هذا القول يقولون : إنه إذا أفطر معذورا ؛ فإن الله أوجب عليه عدة من أيام أخر، وإذا أوجب الله عليه عدة من أيام أخر؛ فإنه قد استمر معه العذر فلم يجد أياما أخر فسقط عنه الأداء وسقط عنه القضاء فلا شيء عليه .
رد على هذا بأن عموم قوله -تعالى- : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } مخصص بما ورد عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في قوله : (( من مات وعليه صوم )) فلم يفرق بين من استمر معه العذر أو لم يستمر معه إلا أن الأولين يقولون إن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من مات وعليه صوم )) وهذا ليس عليه صوم وهذا فيه إشكال ولاشك أن القول بانتقاله إلى الصوم من الولي أو الإطعام على الوجه الثاني لاشك أنه أقوى .(3/312)
أما إذا كان برئ وشفي ثم ماطل وتأخر ولم يصم حتى توفاه الله ؛ فإنه في هذه الحالة من العلماء من قال يصام عنه بناء على أن الأصل في الميت أن يصوم والولي منّزل منزلته ، ومنهم من يقول: إن الواجب أن يطعم . والفرق بين المسألتين أنهم إذا قالوا بوجوب الصوم على الولي أخذوا بعموم قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من مات وعليه صوم )) ومن قال إنه يطعم يقول إن الإطعام سيكون من مال الميت ، والأصل أنه إذا عجز بنفسه انتقل إلى البدل وهو الإطعام بماله وهذا ألصق بالذمة ومن هنا قدموا الإطعام على الصوم من هذا الوجه .
قال رحمه الله : [ إلا أن يكون الصوم منذوراً فإنه يصام عنه ] : اختار المصنف -رحمه الله- رواية من مات وعليه صوم نذر، واختار أن السؤال الذي ورد في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مخصوص بالنذر.
ولكن الصحيح الأخذ بعموم اللفظ في قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )) وقد أكد هذا العموم قوله عليه الصلاة والسلام : (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ )) فجعل الولي منّزلا منزلة الأصيل ، وأن ذمة الميت مشغولة ، فقوي بهذا قول من ذكرنا من العلماء -رحمهم الله- .
قال رحمه الله : [ وكذلك كل نذر طاعة ] : وكذلك كل نذر طاعة يعني قوي قول من يقول الصوم سواء كان نذرا أو كان كفارة كما في صيام كفارة القتل وصيام كفارة الظهار وصيام كفارة الجماع في نهار رمضان فيصوم عنه الولي لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالسؤال ورد عن النذر فسبب خاص فالعبرة بعموم اللفظ .(3/313)
وثانيا أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما قال : (( أرأيت لو كان على أمك دين )) دل على أن العبرة إبراء الذمة وأنه إذا كان عليه دين يستوي أن يكون بصوم نذر أو بصوم واجب في رمضان أو بصوم واجب من الواجبات الأخرى في الكفارات ، فكل هذا يشرع للولي أن يقضيه عن موليه ، لكن المصنف -رحمه الله- سلك مسلك من يقول إن العبادات البدنية لا ينوب فيها الحي عن الميت ولا ينوب فيها أحد عن أحد وجاءت السنة بالاستثناء فينبغي أن تقيد بالوارد من صوم النذر .
قال الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- : [ باب ما يفسد الصوم ] : الفساد ضد الصحة ، وفساد العبادة إخلال بها ، وعبادة الصوم ورد في الكتاب والسنة على أصل هو الإمساك عن شهوتي البطن والفرج هذا من حيث الأصل ، فيخل المكلف بهذا الأصل فيفسد العبادة . فال المصنف -رحمه الله- باب ما يفسد الصوم أي في هذا الموضع سأذكر لك الأمور التي إذا فعلها الصائم أوجبت الحكم بفساد عبادته وصيامه .
قال رحمه الله : [ ومن أكل أو شرب أو استعطى أو وصل إلى جوفه شيء من أي موضع كان أو استقام فقاء أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى أو كرر النظر حتى أنزل أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد ] : قال رحمه الله : [ من أكل أو شرب ] : ابتدأ بالأكل والشرب لأنهما أصل الإمساك ؛ قال تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } فدلت هذه الآية الكريمة على أنه يحرم على الصائم أن يأكل أو يشرب .
ثانيا: جاء هذا التحريم بالعموم الشامل للقليل والكثير فيستوي أن يأكل قليلا أو كثيرا.(3/314)
ثالثا جاء هذا العموم الذي يشمل كل مأكول وكل مشروب سواء كان يغتذي به البدن أو يتداوى به البدن ؛ ولذلك أجمع العلماء على أن من شرب الدواء أنه مفطر ولو كان الدواء ليس من نوعه مما يغتذي به البدن ويرتفق به . فقال رحمه الله : [ من أكل ] أجمع العلماء على أن الأكل يوجب فساد الصوم سواء كان قليلا أو كثيرا ؛ والدليل على ذلك قوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } ووجه الدلالة من الآية الكريمة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم فلما قال تعالى : { وكلوا واشربوا } أمر إباحة أي أحللت لكم الأكل والشرب ليلة الصيام حتى يتبين فلما قال : { حتى يتبين } صار غاية ؛ لأن حتى للغاية أي هذا الإحلال غايته أن يتبين ، وما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم ، فيكون المفهوم فإن تبين فلا تأكلوا ولا تشربوا ، وهذا محل إجماع بين العلماء -رحمهم الله- حيث أكدت السنة ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح : (( إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )) وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي الذي يرويه عن ربه : (( إن الله تعالى يقول كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه وشهوته )) فقال : (( يدع طعامه )) في جنس المأكول ، (( وشرابه )) من جنس المشروب ، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسنة على تحريم الأكل والشرب على الصائم ، وينبني على ذلك إفطار الصائم بأكله وشربه سواء كان أكل كثيرا أو قليلا ، أو شرب كثيرا أو قليلا ، أكل ما يرتفق به البدن طعاما أو لا يرتفق به كما في الدواء ، شرب ما يرتفق به أو ما لا يرتفق به كالدواء كل ذلك موجب للحكم بالفطر ؛ ومن هنا جعل العلماء رحمهم الله دخول الجرم إلى البدن بقصد المكلف موجبا للفطر، كما قالوا لو أكل الطين أو قصد إدخال الغبار إلى حلقه وفي حكمه الدخان فإن له جرما(3/315)
؛ ومن هنا صار مادة غريبة فأصبح الأصل عند العلماء مبنيا على الأكل والشرب وسنبين هذا في مسائل الاستيعاط .
بين رحمه الله أن الأكل والشرب موجب للفطر وهذا كما ذكرنا على العموم .
قال رحمه الله : [ أو استعط ] : أو استعط : السعوط موجب للفطر فلو أنه وضع في أنفه شيئا فنزل إلى حلقه فإنه يحكم بفطره . فالنشوق موجب للفطر ، وفي حكم ذلك البخاخات سواء كانت من الرذاذ أو كانت من المحلولات الأخر مادام أنها لها مادة وجرم ودخلت عن طريق الأنف فإنها توجب الفطر .
الأكل والشرب يكون من الفم إلحاقا الأنف بالفم مبني على حديث لقيط بن صبرة -- رضي الله عنه --وأرضاه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) وجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- منع الصائم أن يبالغ في الاستنشاق وليس لهذا معنى إلا خوف أن يفطر ولو كان لا يوجب الفطر أو ليس منفذا إلى الجوف لما كان للحديث معنى لكان وضع الماء في الأنف كوضعه في الوجه لا يضر فيه المبالغة ويستوي فيه المبالغة وغيرها فلا معنى لقوله : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) إلا أن يبين أن الماء إن دخل إلى الجوف عن طريق الأنف فأثر وإذا كان الماء يؤثر فمعنى ذلك أن الأنف طريق إلى الجوف ، وإذا كان طريقا للجوف يستوي أن يدخل منه الماء أو يدخل منه الطعام أو يدخل منه الرذاذ فمادام أن له جرما ودخل عن الأنف فطريق الأنف كطريق الفم سواء على ظاهر هذه السنة ؛ لأن المعنى ظاهر من الحديث .
تفرع على هذا عدة مسائل منها أنك لو تأملت المستنشق للماء لوجدته عند مبالغته بالاستنشاق لا يستطيع أن يدخل إلا الرذاذ اليسير جدا ، ولكن هذا الرذاذ بمجرد وصوله إلى الحلق يوجب الفطر كما أن الرذاذ القليل إذا جاوز اللهاة في الفم أوجب الفطر كذلك أيضا إذا دخل عن طريق الأنف .(3/316)
ينبني على هذا أنه لا فرق بين القليل والكثير؛ ولذلك لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جعل اليسير من الرذاذ في حال الاستنشاق موجبا للإخلال بالصوم فحينئذ لو أنه أدخل مادة يسيرة من مطعوم أو مشروب عن طريق الأنف أوجب ذلك الحكم بفطره .
بخاخات الربو أجمع الأطباء على أن لها مادة ، وأن المادة تتخلل الشعب حتى تصل إلى الرئة ، وأنها تؤثر حتى كان يتعجب بعض الأطباء من عدم القول بفطر صاحبه ؛ لأن لها مادة وجرما وهي تدخل إلى البدن ، فدخولها عن طريق الأنف أودخولها عن طريق الفم موجب للفطر وهذا البخاخ الذي يرى هو البخاخ لكنه مركب وفيه مادته ، وعلى هذا يوجب الفطر كل ما دخل إلى البدن سواء كان عن طريق البخ أو كان عن طريق الجرم سائلا كان أو جامدا .(3/317)
يقول رحمه الله : [ من أكل أو شرب أو استعط ] فبين أن العبرة بالوصول إلى الجوف ، إذا تأملت حديث لقيط بن صبرة وجدت أنه يلغي الفم بمعنى أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حينما حكم بدخول الشيء عن طريق الأنف أنه مؤثر في الصوم دل أن العبرة بالوصول إلى الجوف بغض النظر عن الطريق ، وحينئذ في الصوم إما أن تقول أعتبر المدخل والداخل ، أو تقول أعتبر الجوف بغض النظر عن المدخل والداخل، فأنت حينما تنظر إلى النهي عن المبالغة في الاستنشاق تجده يلغي المدخل ويعتبر الوصول إلى الجوف بغض النظر عن كونه من المدخل المعتاد أو المدخل غير المعتاد ، وعلى هذا قال جمهور العلماء -رحمهم الله- وهو مأثور عن أصل السلف في مسألة الحقنة إنها مفطرة ؛ لأنه استوى عندهم أن يدخل الشيء من أسفل البدن أو يدخل من أعلاه مادام أنه نافذ إلى الجوف ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتبر الوصول إلى الجوف فالأنف ينفذ إلى الحلق ومن هنا كون النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يقتصر في الصوم على المطعوم والمشروب المعتاد من المدخل المعتاد دل على أن الفطر لا يختص بهذا المدخل المعتاد ، فالبعض يقول : أنا لا أفطر إلا بمأكول ومشروب . نقول له : ما رأيك في الدواء؟ ليس بطعام حقيقة ولا يرتفق به البدن حقيقة لو أنه أدخل قال إذا العبرة عندي بالمدخل بغض النظر عن الداخل، لكن ظاهر السنة يضعف هذا ؛ لأنه لو كانت العبرة بالمدخل لكان الأنف ليس مدخلا معتادا ، ولما نهى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عن المبالغة للصائم ، والسنة تنبه وكون البعض يقول إن هذا مما تعم به البلوى وينبغي أن تأتي به السنة . الغائط -أكرمكم الله- نجاسته محل إجماع بين العلماء أعطني دليلا واضحا من السنة يدل على أنه نجس وهو مما تعم به البلوى، لا يشترط أن تأتي النصوص واضحة وإلا لاستوى العلماء والجهلاء ، والفقه يحتاج إلى كلفة وعناء في فهم النصوص ومعرفتها ؛ ولذلك قال تعالى : { لعلمه(3/318)
الذين يستنبطونه منهم } فالجمود عند الفم بقولنا إنه لا يفطر إلا إذا كان طعاما أو شرابا نقول لهم: الدواء ليس بطعام يغتذي به البدن بل إنه لمصلحة وقد يكون لموضع معين في البدن وليس ولربما استعمل هذا الدواء مرات وكرات وهو في أشد الجوع فهو لا يطعم البدن ولا يسقي البدن ولا يرتفق به البدن ، وإنما يعالج الداء ومع ذلك يفطر به إجماعا إن شربه ، فدل على إلغاء مسألة المدخل والتقيد بالمدخل ، وأن السنة دلت على أن العبرة بالوصول إلى الجوف ، وهذا الذي جعل جماهير السلف والأئمة -رحمه الله- ويفتون سلفا وخلفا فالبعض يقولون هذه تعليلات وتأويلات من الفقهاء لا مانع أن تقول بقول من يقول إن الحقنة لا تفطر وأن الإبر لا تفطر ولكن إياك أن تقول إن هذه اجتهادات وتأويلات من الفقهاء وأنت لم تعِ ولم تعلم مسلكهم ، هذا حديث صحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- انبنت عليه هذه الدلالة ، وعليه فهي دلالة صحيحة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ألغى المدخل واعتبر الوصول إلى الجوف فللفقيه أن يقول إذا وصل الشيء إلى الجوف استوى عندي من أي مدخل كان ؛ لأن السنة لم تقيد بمدخل معين .
بناء على هذا فإن الإبر مفطرة ؛ لأنها تصل إلى الجوف ، والسبب في ذلك حتى إنك لو راعيت قول من يقول إنها لا تفطر يقول إذا كانت إبرة للدواء لا تفطر، وإذا كانت إبرة للغذاء فطرت، يعني معنى ذلك أن ما دخل الجوف من الأدوية لا يفطر، إذا كان يقول إن الإبرة تفطر فقد سلم أنها واصلة إلى الجوف، فيستوي أن تكون مغذية أو تكون للدواء ،كما أن الذي يبلعه الإنسان -مادام اعتبر المدخل- مفطر سواء كان مما يؤكل أو يشرب أو للدواء ، فمسألة التفريق بين المغذي وغير المغذي محل إشكال .(3/319)
جمهور العلماء يرون أن الحقنة سواء وله أصل من السلف حتى كان بعض السلف يفتي به وكانوا يضعون التحاميل في القديم يضعونها في الدبر لتخفيف حرارة الإنسان هذه كلها مؤثرة لأنها واصلة إلى الجوف ، وعلى هذا يستوي أن يكون طعاما أو يكون دواء ، يكون من المدخل المعتاد أو المدخل غير المعتاد ، وهذه دلالة يعني واضحة من السنة ولها سلف ولها علماء يقولون بها فمن ترجح عنده غيره لا يثرب على العلماء ولا يستهجن مثل هذه الفتاوى التي أطبق عليها جماهير السلف والعلماء لن تقلب كتابا في الفقه قل أن تجد إلا هم يرون أنه لا يتقيد الفطر بالمأكول والمشروب من المدخل المعتاد بل تجدهم ينصون على هذا وأن العبرة بالوصول إلى الجوف استنباطا من حديث لقيط بن صبرة -رضي الله عنه وأرضاه- .
قال رحمه الله : [ أو وصل إلى جوفه شيء من أي موضع كان ] : أو وصل إلى جوفه شيء : شيء نكرة يستوي أن يكون طعاما أو دواء يستوي أن يكون مؤثرا مغتذيا به البدن بالكمية كمية مؤثرة أو كمية قليلة ؛ وذلك لما ذكرناه من السنة .(3/320)
قال رحمه الله : [ أو استقاء فقاء ] : أو استقاء : السين والتاء للطلب ، والاستقاء أن يستدعي القيء يطلبه ، والقيء إما أن يهجم على الإنسان وإما أن يطلبه ، فالمؤثر في الفطر أن يطلب القيء وهذا يكاد كالإجماع بين العلماء -رحمهم الله- والأصل فيه حديث أبي هريرة وحسنه الترمذي رحمه الله : (( أن من استقاء فقاء فقد أفطر ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه ))، والحديث حسن. وقال بعض العلماء لا يصح في هذا الباب شيء . وقولهم لا يصح بمعنى أنه لا يرتقي إلى درجة الصحة وإنما الأحاديث محسنة إما لذاتها أو بالشواهد ، والعمل عند جماهير السلف والخلف والأئمة -رحمهم الله- على أن من استقاء فقد أفطر، وهو محفوظ عن علي بن أبي طالب وزيد بن أرقم وعبدالله بن عمر من أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم أجمعين وهو قول أئمة السلف حتى حكى بعض العلماء أنه لا خلاف فيه في كونه مفطرا ، لكن الإشكال هل عليه كفارة أو لا؟ ذهب بعض السلف إلى وجوب الكفارة عليه إذا استقاء يعني طلب القيء سواء كان معذورا أو غير معذور .
والصحيح أنه لا كفارة لأنه لا دليل على وجوب الكفارة في الاستقاء .
إذا استقاء فقاء : إما أن يكون القيء مؤثرا أو يكون دون تأثير ولا يكون القيء مؤثرا يقولون إلا إذا كان ملأ الفم يعني الكمية مما يملأ الفم فزيادة وما دون ذلك مما يخرج من القطع ونحوها بخاصة إذا كان عند الجشاء أو عند الشبع فهذا لا يفطر، لو أن إنسانا بعد السحور وأذن عليه الفجر ثم تجشأ فخرج شيء من اللبن أو من الماء ثم لفظه ولم يعده فإن صومه صحيح ، وأما إذا استقاء وطلب القيء فخرج منه مما ملأ الفم وزيادة فإنه يوجب الفطر .(3/321)
قال رحمه الله : [ أو استمنى ] : أو استمنى الاستمناء استدعاء المني ، ولا يجوز للصائم أن يستمني والدليل على ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث القدسي عن الله تعالى : (( يدع طعامه وشرابه وشهوته )) وإخراج المني شهوة ، وعلى هذا جماهير العلماء -رحمهم الله-أن الاستمناء محرم على الصائم ، وأنه إذا استمنى فقد أفطر .
قال رحمه الله : [ أو قبل ] : أو قبّل امرأته اختلف في القُبلة هل هي توجب الفطر أو لا توجبه؟ والصحيح أن القبلة لا توجب الفطر للصائم إلا إذا أنزل ، والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ((كان يقبلها وهو صائم ولما قيل له: يا رسول الله إنه قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أما إني أخشاكم لله وأتقاكم ))، فدل على أن الحكم عام ، وبينت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- التفصيل فقالت ((إلا أنه كان أملككم لإِرْبه ))، ولفظ (( لأَرَبِه )) أي حاجته وعلى كل حال من غلب على ظنه أنه ينزل أو تهوج شهوته ولربما جامع امرأته فإنه لا يجوز له أن يقبل ؛ لأن الوسائل المفضية إلى الحرام محرمة ، وأما إذا غلب على ظنه أنه يمسك نفسه ولا يكون شيء من ذلك فإنه يجوز له أن يقبل ولا يؤثر ذلك في الصوم .
قال رحمه الله : [ أو لمس فأمنى أو أمذى ] : أو لمس امرأته فأمنى هو العبرة بخروج المني أما الإمذاء فالصحيح أنه لا يوجب الفطر؛ لأن الإمذاء شهوة قاصرة ، والأصل صحة الصوم حتى يدل الدليل على فساده ، بل إن المذي قد يخرج ولا يشعر به الإنسان وهو يخرج عند الإنعاظ وعند بداية الهيجان وليس بشهوة كخروج المني والجماع .(3/322)
قال رحمه الله : [ أو كرر النظر حتى أنزل ] : أو كرر النظر حتى أنزل لا يجوز للمسلم أن ينظر فيما يهيجه ويوجب فساد صومه إذا غلب على ظنه أن النظر إلى امرأته أنه يوجب هيجان شهوته ونزول المني منه فيجب عليه أن يتقي ذلك؛ لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه ، فيجب عليه حفظ صومه ، وتوقف هذا الحفظ على ترك النظر فيجب عليه أن يترك النظر، وهذا أصل شرعي أنه يجب ترك الوسائل المفضية للمحرمات، وعلى هذا فلو أنه كرر النظر مرة بعد مرة فأنزل فإنه يفسد صومه أما الإمذاء فإنه لا يوجب فساد الصوم لا في القبلة ولا في النظر لما ذكرناه .
قال رحمه الله : [ أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد ] : احتجم الحجامة معروفة وهي إخراج الدم إن كانت من العروق ففصد ، وإن كانت من الأوعية الدموية فحجامة ؛ وقد احتجم رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأمر بالحجامة وقال : (( إذا اشتد الحر فاحتجموا لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم )) وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن يكن الشفاء ففي أربعة في آية من كتاب أو شرطة من محجم أو شربة من عسل أو كية من نار ولا أحب أن أكتوي )) فقال : أو شرطة من محجم ، فالحجامة مشروعة ومسنونة ولها فضل بشرط أن يوجد من يعرفها ويتقنها ويعرف مواضع الحجامة منها ، ولا يجوز أن يسلم نفسه لمن يتطبب ولم يعرف منه طب .(3/323)
إذا ثبت هذا فإن الحجامة فيها قولان مشهوران للعلماء : جمهور العلماء على أن الحجامة لا تفسد الصوم ؛ واحتجوا بما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم وكذلك أيضا جاء في حديث أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- قال : (( أول ما نهي عن الحجامة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مر على جعفر بن أبي طالب وهو يحتجم فقال: أفطر هذان . قال -- رضي الله عنه -- ثم رخص بعد ذلك )) فدل هذا على أن الحجامة كان في أول الأمر مشددا فيها ثم خفف في ذلك لقوله : (( ثم رخص بعد ذلك))، والرخصة تدل على أنه لا بأس ولا حرج في الحجامة وأنها لا توجب الفطر، وجاء في حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه قال عن رجل من أصحاب النبي-- صلى الله عليه وسلم -- وجهالة الصحابي لا تضر قال (( إنما نهي عن الحجامة وعن الوصال للصائم خشية أن يضعف )) من أجل الإبقاء على أصحابها ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عنها إبقاء لأصحابه وجاء في حديث ثابت البناني أنه سأل أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- (( هل كنتم تكرهون الحجامة على عهد رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- قال: لا ، وإنما نهي عنها لأنها تضعف الصائم )) فدل على أنها ليست مؤثرة في الصوم وهذا هو مذهب جمهور العلماء .(3/324)
واحتج الحنابلة على أن الحجامة تفسد الصوم بحديث ثوبان ورافع وشداد بن أوس وكذلك معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عن الجميع أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( أفطر الحاجم والمحجوم )) والحديث فيه كلام من حيث السند واختار بعض المحدثين أن أقوى الروايات حديث ثوبان وكان يميل الإمام أحمد إلى تصحيحه وتبعه علي بن المديني ثم البخاري على ذلك والعمل على ثبوته لكنه لا يقوى على المعارضة ؛ لأن أنس بن مالك -- رضي الله عنه -- أثبت النهي وأثبت النسخ ، فقال : (( ثم رخص بعد ذلك )) ، وهذا من أظهر ما يكون وأوضح ما يكون أن الحجامة نسخ تأثيرها في الصيام .(3/325)
الوجه الثاني من الجواب : وهذا يختاره الإمام الشوكاني وغيره من الشراح أنه محمول على المجاز لا على الحقيقة أي تجوز النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على لسان العرب والعرب تتجوز في لسانها ، وهذا في معروف في كلامهم ، ولا يستطيع أحد أن ينكر تجوزهم بأن يأتي اللفظ ولا يقصد ظاهره . وتوضيح ذلك أن العرب تقول: أفطر أي عرض نفسه للفطر وإن لم يفطر حقيقة ، كما تقول للرجل وهو قريب من النار: احترقت احترقت وإن لم يحترق يعني أن وضعك سيؤول إلى أن تحترق ، فأفطر الحاجم والمحجوم أي عرض أنفسهما للفطر؛ لأن الحاجم يمص الدم فلا يأمن أن يبلع شيئا من الدم ويزدرده والمحجوم يضعف بسبب الحجامة فلا يأمن أن تضعفه إلى درجة يفطر فيها ، وقد أجمع الأطباء على أن من احتجم ينبغي له بعد الحجامة أن يأكل شيئا أو يشرب شيئا سريع النفوذ في البدن حتى يعوض النقص الذي فيه ، وهذا يدل على قوة تأثيرها ، فيكون قوله : أفطر الحاجم والمحجوم أي أنهما عرض أنفسهما للفطر لا أنهما أفطر حقيقة ، وهذا كقوله في حديث عبدالله بن أم مكتوم ((وكان لا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت)) أي ويحك كدت أن تصبح ، فالعرب تقول للشخص : هلكت هلكت احترقت أصبحت وهو لم يصبح أي أنك على وشك أن تصبح، وهذا معروف في لسان العرب ويقولون : أنجد إذا دخل نجدا وإن لم يدخلها حقيقة وأتهم إذا دخل تهامة وإن لم يدخلها حقيقة .(3/326)
فالشاهد من هذا أن الحديث على أحد هذين الوجهين والقول بالنسخ أقوى ؛ لأن الصحابي أنساً -- رضي الله عنه -- روى الحديث على وجهه واضحا بينا ، فالرواية التي عند الدارقطني وهي رجالها رجال الصحيح كما ذكر الإمام الشوكاني رجالها رجال البخاري وقال غيره من الأئمة كما قال صاحب المنتقى : رجاله ثقات فيها أن أنساً -- رضي الله عنه -- قال : (( إن أول ما نهي عن الحجامة حينما مر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على جعفر بن أبي طالب ثم قال بعد ذلك ثم رخص فيها )) فجاء أنس -- رضي الله عنه -- بالحكم واضحا بينا حفظ فيه الناسخ والمنسوخ ، ومثل هذه الأحاديث قوية الاعتبار، أن يأتي الحكم فيها واضحا بينا .
كذلك أيضا أن روايات حديث الحجامة وأنها لا تؤثر جاءت من رواية أصاغر الصحابة ، فإن رواية ابن عباس من رواية أنس وعند العلماء من القرائن على التأخر في الحكم أن يأتي الناسخ من رواية صغار الصحابة ؛ لأنهم في الغالب أن يكون الحديث من آخر الأمرين من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وعلى هذا فإنها لا تفطر على أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور -رحمهم الله-.(3/327)
قال رحمه الله : [ وإن فعله ناسيا أو مكرها لم يفسد صومه ] : وإن فعل هذه الأشياء ناسيا لصومه فأكل أو شرب أو مكرها أُكْره على الأكل والشرب فإنّه لا يفسد صومه قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو صائم فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )) فدلّ على أن النسيان مؤثر وأنه يوجب ارتفاع المؤاخذة وصحة العبادة وأن ذلك لا يقدح في صيام الإنسان إذا أكل أو شرب أو استعط ناسيا أنّه صائم لكنه عند تذكّره يجب عليه أن يمسك وهكذا لو أكره ؛ لأن الله تعالى يقول : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فدلّت هذه الآية الكريمة على أن الإكراه موجب لإسقاط المؤاخذة في أعظم ذنب وهو الكفر والردّة فَلَأَنْ يسقط ما عداها وما دونها من باب أولى وأحرى ، ولذلك ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله في تفسيره أن العلماء رحمهم الله جعلوا هذه الآية أصلاً في إسقاط المؤاخذة عن المكره ؛ لأنه إذا سقطت الردّة فغيرها من باب أولى وأحرى .
قال رحمه الله : [ وإن طار إلى حلقه ذباب ] : وإن طار إلى حلقه ذباب : هذا بالغلبة لأنّه في حكم المكره ، ولا يوجب هذا فساد صومه ؛ فدليله أنه في حكم المكره ، طار ودخل في حلقه لأن التكليف شرطه الإمكان وهذا ليس بإمكانه أن يمنعه ، ولكن لو كان بإمكانه أن يمنع فإنه يؤاخذ .
قال رحمه الله : [ أو غبار ] : أو غبار وهكذا إذا هبت الريح وأغبرت الأرض ودخل الغبار في حلقه لم يؤثر، وهكذا في السفر في حال الصوم .
وفرّق العلماء في هذا بين ما يقصد وما لا يقصد ، وهو مأثور حتى عن بعض أئمة السلف -رحمهم الله- فإذا طار الغبار إلى حلقه بغير اختياره فإنه لا يؤثر ولا يوجب فساد صومه .(3/328)
قال رحمه الله : [ أو تمضمض ] : أو تمضمض واستنشق فدخل الماء إلى جوفه اختار بعض مشايخنا -رحمهم الله- في المضمضة والاستنشاق أنه لا يأتي إلا بتقصير، ولذلك أكدت السنة هذا المعنى بقوله : (( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما )) ولا يأتي المؤثّر إلا بتعاطي المكلف ولذلك قال : (( بالغ في الاستنشاق )) فالذي يؤثّر في الصوم في حال الاستنشاق إنما هو المبالغة، والمبالغة لا تكون إلا من المكلف فهي إلى القصد أقرب ، وهكذا قالوا إنه لو تمضمض فدخل في حلقه أوجب الفطر.
وعند المصنف وطائفة من العلماء فرقوا بين أن يغرغر ويتقصد ذلك وبين كونه يتمضمض فيدخل إلى حلقه ، وقد أجاب من ذكرنا من العلماء بأن من تمضمض مثل الذي يغرغر ؛ لأنه إذا قصر ألزم بعاقبة تقصيره ، هذا مبني على حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ، وهو أصل تقدم في الطهارة أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما رأى الصحابة أعقابهم تلوح قال : (( ويل للأعقاب من النار )) فلا يشك أحد أن الصحابة لم يتركوا هذا الموضع من الغسل قصدا ومع ذلك أوخذوا وعذبوا فقال: (( ويل للأعقاب من النار )) قالوا : لمكان التقصير، فالتقصير في التروكات وفي الأوامر شأنه واحد ومن يفرق بين التروكات وبين الأوامر يسلك هذا المسلك ، ويختاره بعض العلماء وهو الذي درج عليه المصنف -رحمه الله- .
قال رحمه الله : [ أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء ] : لظاهر حديث لقيط بن صبرة -- رضي الله عنه -- عند الترمذي بسند صحيح .
قال رحمه الله : [ أو فكر فأنزل ] : أو فكر فأنزل هناك فرق بين أن يدمن التفكير ويسترسل فيه أو يكرر النظر ويسترسل فيه وبين أن ينظر مرة ثم تهوج شهوته وبين أن يفكر مرة وتهوج شهوته هذا قالوا إنه يغتفر ولا يوجب الفطر .
والصحيح أنه إذا تعاطى ما يوجب الفطر فكرا ونظرا أوجب عليه الفطر؛ لأنه من باب الحكم الوضعي بغض النظر عن كونه قاصدا أو غير قاصد .(3/329)
قال رحمه الله : [ أو قطر في إحليله ] : إحليله مجرى البول من الذكر، وكانوا ولازالوا إلى الآن يقطرون ، وتوجد في عمليات جراحية لتنظيفه أو وضع زَرْق المواد لعلاج الأنثيين والخصية فمن العلماء من يقول إن الإحليل ليس منفذا إلى الجوف ولذلك أرشح البول من الحالب إلى الأنثيين ثم بعد ذلك يبول فيرون أنه لا يوجب الفطر ؛ لأنه ليس بمنفذ ، وهذا هو الذي اختاره المصنف -رحمه الله- .
قال رحمه الله : [ أو احتلم ] : أو احتلم لو أنه نام فاحتلم فإنه لا يوجب الفطر ؛ لأن خروج المني بقصد كما في الاستمناء ليس كخروجه بدون قصد كما في الاحتلام ، فلا يوجب هذا مؤاخذته لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم النائم حتى يستيقظ )) فلو نام واحتلم فإنه لا يؤثر في صومه .
قال رحمه الله : [ أو ذرعه القيء لم يفسد صومه ] : أو ذرعه القيء لم يفسد صومه لحديث أبي هريرة المتقدم . ذرعه : غلبه . رأى شيئا كريها فاستفرغ ما في بطنه . سمع شيئا كريها فاستفرغ ما في بطنه ، ضربه أحد على بطنه فاستفرغ ، سقط واستفرغ ، كل هذه ذرعه فيها القيء أو كان جالسا فغلبه القيء وذرعه فإنه لا يؤثر في صومه مادام أنه قد لفظ ما قاء أما لو رده فإنه يؤثر .(3/330)
قال رحمه الله : [ ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا أفطر ] : ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا : من شَكّ في طلوع الفجر فقد أجمع العلماء على أنه يجوز له أن يأكل ويشرب ؛ لأن الأصل بقاء الليل واليقين لا يزال بالشك ، فلو أنه استيقظ في جوف الليل وليس عنده ساعة وليس عنده أحد يسأله وليس الموضع أو في غيم لا يستطيع أن ينظر إلى السماء فيتبين هل طلع الفجر أو لم يطلع ؟ فالأصل أنه يجوز له أن يأكل، فإذا أكل والحال ما ذكر إما أن ينام ثم يستيقظ بعد ذلك ولا يدري هل كان استيقاظه في حال إذن أو حال حرمة ؟ فصومه صحيح وجها واحدا ، من أكل في جوف الليل ولم يدر هل أكله الذي وقع في الليل موافق فلا يؤثر الصوم أو غير موافق فيؤثر في صومه فصومه صحيح ؛ لأن الأصل بقاء الليل ، وليس هناك دليل يدل على فطره ووجوب مؤاخذته ، فذمته بريئة ، وأما إذا أكل أو شرب ثم تبين له أن الصبح قد طلع فحينئذ يجب عليه القضاء وهذا بينا غير مرة أنه مبني على التفريط والقاعدة أنه لا عبرة بالظن البين خطؤه يعني الذي بان خطؤه وتوضيح ذلك أن الله - عز وجل - بين على لسان رسوله -- صلى الله عليه وسلم -- أن هذه الحقوق من الفرائض والأركان أشبه بالدين كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث المرأة لما سألته عن فريضة الله - عز وجل - في الحج : (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ قالت : نعم قال : فدين الله أحق أن يقضى )) فإذا خوطب المكلف بالعبادة صياما كان أو غيره فقد تعلق ذمته بهذا الحق ، فينبغي أن يؤديه كاملا ، فإذا ظن الكمال وتبين أنه لم يكمله وجب عليه أن يقضي ،كما لو أعطى قال له : شخص أعطني ديني قال أعطيتك ظانا أنه سدده ثم تبين أنه لم يسدده فبالإجماع يجب عليه أن يؤدي ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( دين الله أحق أن يقضى )) فالله - عز وجل - فرض على المسلم أن يمسك من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، وهذا هو الصيام المعتبر قالوا لا يخل أحد(3/331)
بصومه إلا بتفريط يعني أنه لو أكل شاكا في طلوع الفجر ثم تبين له خطؤه غالبا أنه مفرط ، ولذلك تجده لو أنه خاف شيئا ولو قيل له الموت لو أكلت عند طلوع الفجر لاستطاع أن يتبين هل الفجر طلع أو لا ؟ غالبا ما يقع الناس في هذه بنوع من التساهل والتفريط ، ولذلك تجد الواحد منهم بمجرد ما يستيقظ يذهب إلى طعامه وشرابه مباشرة مع أن بعضهم قد يتيسر له أن يسأل ويتحرى مع أن الذي يتيسر له السؤال والتحري يحرم عليه أن يأكل ويشرب ؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك ، وعلى هذا فلو تبين له أنه أخطأ فإنه يجب عليه أن يتم صومه بمعنى أن يصوم صوما تاما كاملا فيقضي ذلك اليوم هذا راجع إلى الحكم الوضعي .
الحكم الوضعي يستوي فيه الخطأ وغير الخطأ ، فالشخص الذي أخطأ وظن أن الفجر لم يطلع فأكل فإنه يجب عليه الضمان بغض النظر عن كونه قاصدا أو غير قاصد ، فهو غير آثم لوجود الشك ويجب عليه الضمان لتبين الحق أنه يجب عليه أن يصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا لم يصم كما أمره الله من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فيجب عليه القضاء .
قال رحمه الله : [ ومن أكل شاكا في غروب الشمس فسد صومه ] : ومن أكل شاكا في غروب الشمس سواء تبين له الصواب أو الخطأ ؛ لأن الأصل بقاء النهار، فإذا شك هل غابت الشمس أو لم تغب فالأصل أنه في النهار، فإذا أكل أو شرب ولم يتبين له أنه أصاب أو أخطأ قلنا يجب عليك أن تعيد هذا اليوم ؛ لأنك لم تأكل في الوقت الذي يجوز لك الأكل فيه والأصل فيك أنك صائم حتى تتبين بيقين أو غلبة ظن غروب الشمس ولا يقين ولا غالب ظن؛ فإذا الأصل أنك آكل في وقت الصوم فيجب عليك القضاء هذا إذا شك .(3/332)
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب صيام التطوع ] : صيام التطوع : التطوع تفعل من الطاعة ، وقد تقدم معنا في صلاة التطوع، فبعد أن بين أحكام صيام الفرض شرع في صيام التطوع وهو الذي ندب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إليه وثبتت السنة بفضيلته .
وصيام التطوع من فضائله : عِظَم الثواب والأجر وحصول المغفرة ، وكونه تكمل به الفريضة ؛ لأن صيام النافلة يكمل صيام الفريضة عند النقص ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يقول الله تعالى - في الصلاة إذا كانت ناقصة- : انظروا هل لعبدي من تطوع ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - ثم تكمل به الفريضة ثم سائر عمله على ذلك )) بمعنى سائر الأعمال كالصلاة فالزكاة والصوم والحج إذا سار فيه نقص في الفرض كمل بالنافلة والتطوع ، فيكمل به نقصه هذا الكمال من فضائل صيام التطوع مع ما فيه من الأجر والمغفرة ، ففي صيام مثلا العاشوراء يكفر الله به السنة الماضية ، وفي صيام عرفة يكفر الله به السنة الماضية والباقية ، وهذا كله يدل على فضل صيام التطوع .
قال رحمه الله : [ أفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما ] : هذا هو الحديث الصحيح المرفوع عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص قال له: ((صم يوما وأفطر يوما . قال : إني أطيق أفضل من ذلك قال: لا أفضل من ذلك )) . وفي بعض الروايات : (( وهو صيام أخي داود )) ، وأفضل الصيام صوم يوم وإفطار يوم ، ولا يجوز أن يصوم الدهر سردا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا صام من صام الأبد )) فلا يجوز للمسلم أن يسرد الصيام فيصوم الدهر، وإنما يصوم يوما ويفطر يوما ، وهو الحد المعتبر، وأفضل ما يكون عليه صوم النافلة .(3/333)
قال رحمه الله : [ وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم ] : ثم يلي ذلك بعد صيام يوم وإفطار يوم أن يصوم الشهور المفضلة كشهر الله المحرم ، بعد أن بين فضيلة الصيام في السنة كلها للأيام شرع في فضيلتها في الشهور، فأفضل الشهور في الصيام بعد رمضان مِنْ فرض الله -- عز وجل -- هو صوم شهر الله المحرم ، فهو أول السنة أجمع العلماء على أنه أفضل؛ لنص النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على ذلك فقال : (( أفضل الصيام صوم شهر الله المحرم )) .
يجوز له أن يصوم المحرم كاملا ويجوز له أن يصوم منه يوما ويفطر يوما ، ويجوز أن يصوم بعضه، وأفضل ما فيه يوم عاشوراء لثبوت السنة فيه، وأفضل ما يكون أن يصوم يوما قبله مع عاشوراء هذا بالنسبة للأفضل في المحرم ، وأما ما يفعله بعض المتأخرين من الإنكار على من يصوم شهر المحرم كاملا فهذا أمر باطل؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رغب في صيامه ، فمن صامه كاملا لا ينكر عليه بل يؤجر وتشحذ همته على ذلك ولا يثرب عليه فهو مأجور غير مأزور .
قال رحمه الله : [ وما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة ] : هذا من فقه المصنف -رحمه الله- وورعه جاء بالحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر من ذي الحجة )) وهذا إشارة إلى جواز صيام العشر من ذي الحجة لغير المحرم ماعدا يوم النحر وهو اليوم العاشر .
[ ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله ] : هذا عام شامل للصوم وغيره ، فلو صام تسعة الأيام غير الحاج شرع له ذلك ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يفرق بين الصوم وغيره ، ولو صام وهو حاج الثمانية الأيام أو السبعة الأيام ثم أفطر يوم عرفة ؛ تأسيا بالنبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأفطر يوم النحر لنهيه -عليه الصلاة والسلام- عن صوم يوم النحر .(3/334)
قال رحمه الله : [ ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله ] : فمن صام رمضان وأتبعه ستا من شوال كان كمن صام الدهر هذا هو حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأجمع العلماء على ثبوت هذا الخبر عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أن صيام الست من شوال مرغب فيه خلافا لمن كرهه من بعض السلف واختلف في سبب الكراهة فجمهور العلماء على أنه يشرع أن يصوم ستا من شوال ويستوي أن يكون متفرقة أو تكون متتابعة .(3/335)
وكره بعض السلف صيام ست من شوال قيل: مطلقا وقيل: كره شيئا معينا وهو ما يفعله البعض بمجرد أن ينتهي يوم العيد يصوم اليوم الثاني والثالث والرابع حتى أصبح ذلك ديدن بعض الناس فخشي الإمام مالك رحمه الله أن تصبح سنة، وأن يصبح اعتقاد أنه لابد من وصل الست برمضان فحملوا كراهية الإمام مالك على هذا المعنى؛ لأنه كان شديدا في البدع رحمه الله شأنه شأن أئمة السلف فخشي أن يأتي على الناس زمان يعتقدون هذا الشيء وحينئذ يصلون برمضان ما ليس منه وأيا ما كان فالسنة ثابتة مشروعية صيام ست من شوال وقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من صام رمضان )) خرج مخرج الغالب يستوي أن يصومه كله أو يكون عليه قضاء ؛ لأن الله تعالى بين أن من عليه قضاء من رمضان فصام من غير رمضان كان كمن صام رمضان لقوله : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } وتوضيح ذلك أننا لو جمدنا على ظاهر الحديث لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( من صام رمضان )) أنه لا يصح أن يصوم الست إلا إذا كان صام رمضان فإنه لا تستطيع امرأة حائض ذلك أبدا لأن كل امرأة حائض تحيض في رمضان قطعا وحينئذ لا تستطيع أن تصوم رمضان كاملا ففهمنا من هذا أنه خرج مخرج الغالب، وإذا خرج مخرج الغالب فكل من عليه قضاء أصبح عليه عدة من أيام أخر فإذا صام العدة من أيام أخر في صفر أو رجب أو شعبان فإنه يصدق عليه أنه قد صام رمضان وصام ما يقوم مقام رمضان بالبدل ويتفرع على هذا جواز صيام الست من شوال قبل القضاء ؛ لأن القضاء ينقسم في الشريعة إلى قسمين : القسم الأول: أن يكون مضيقا ، وهو أن تضيق الأيام على المكلف فيجب عليه أن يبادر في العبادة الواجبة ولا يجوز له أن يتنفل وفي ذمته واجب .(3/336)
أما إذا كانت العبادة موسعة ووقتها موسعا فيه فإنه يجوز له أن يتنفل ولا بأس ولا حرج عليه في ذلك . وتوضيح ذلك لو أن رجلا استيقظ قبل نهاية وقت الظهر بقدر ما يتوضأ ويصلي الظهر نقول له: لا يجوز لك أن تتنفل ولا أن تصلي الراتبة القبلية بل يجب عليك أن تبدأ مباشرة بعد طهارتك بالصلاة ؛ لأن هذا الوقت متعين لفعل الصلاة ، وحينئذ لا يجوز له أن يشتغل بالنافلة على وجه يضيع به الفريضة ؛ لأن الوقت ضيق للفريضة ، لكن إذا كان الشرع قد جعل الوقت موسعا جاز له أن يتنفل وفي ذمته الفريضة ألا ترى أنه يؤذن عليه أذان الظهر فيصلي راتبة الظهر وهو لم يصل الفرض بعد ، ويتنفل قبل صلاة الظهر وهو لم يصل الفريضة بعد مع أنه مخاطب بفعل الفريضة ، لكن خوطب بها في وقت واسع وعلى هذا فمن أفطر من رمضان فإن الله وسع عليه فقال : { فعدة من أيام أخر } عدة من أيام أخر ما حددها بأيام معينة من شهر معين ، وجاءت السنة تؤكد ذلك بقول أم المؤمنين -رضي الله عنها- : (( إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان )) فدل على أن القضاء موسع وإذا ثبت أنه موسع جاز له أن يتنفل قبل أن يقضي رمضان ؛ لأن حاصل الأمر أن يصوم أيام رمضان من رمضان أو قضاء ثم يصوم الست حتى يصبح المجموع ستا وثلاثين يوما ؛ لأن رمضان لا ينقص كما ثبت في الصحيح عن قوله عليه الصلاة والسلام : (( شهرا عيد لا ينقصان )) فإذا صام تسعا وعشرين كان كمن صام ثلاثين وقد بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذه العلة فقال : (( والحسنة بعشر أمثالها )) فثلاثون يوما بثلاثمائة وست من شوال بستين فيصبح ذلك بمجموع أيام السنة . بيّن في هذا الموضع أن من النوافل صيام ست من شوال فيحرص المسلم على أن يصوم ستاّ من شوال بعد صيامه لرمضان.(3/337)
قال رحمه الله : [ وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة ] : كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ويوم العاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم صامه عليه الصلاة والسلام حينما قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فسألهم عن ذلك فقال : هذا يوم نجى الله فيه موسى فنحن نصومه فقال عليه الصلاة والسلام نحن أولى بموسى منكم ، فصامه عليه الصلاة والسلام وأمر الصحابة بصيامه ثم فرض على الصحابة صيام عاشوراء ثم نسخ ذلك برمضان وبقيت الفضيلة لصيام عاشوراء ثابتة حتى كان آخر حياته عليه الصلاة والسلام في آخر سنة من عمره الشريف عليه الصلاة والسلام قال : (( لئن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع )) فدل على أن الأفضل أن يضيف إليه يوماً وهو اليوم التاسع، ومن يقول إنه لا يصوم إلا التاسع وحده فهذا ضعيف مخالف لقول جماهير السلف والأئمة ، حيث قالوا إن الصوم المراد به يوم عاشوراء قصدا ، وقوله عليه الصلاة والسلام : (( لأصومنّ التاسع )) سكت فيه عن العاشر لم أقل لا أصوم العاشر ولم يقل لأصومن التاسع وأترك العاشر إنما قال لأصومن التاسع وسكت عن العاشر للعلم باستقراره والمداومة عليه والثابت ثابت حتى يأتي الدليل على نقله ، ولم يأت من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- دليل يدل على إلغاء صيام عاشوراء ، فبعض المتأخرين يقولون لا يصام العاشر؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لأصومنّ التاسع)) ولم يقل لأصومن التاسع والعاشر حتى إن بعضهم يبدع من يصوم التاسع والعاشر وهذا مخالف للسنة فالسنة أثبتت صيام عاشوراء والنصوص في هذا واضحة وصحيحة وزاد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- التاسع مبالغة في المخالفة ؛ لأن اليهود يقتصرون على العاشر، فأضاف التاسع والعاشر قطعا للمشابهة وقصدا للمخالفة ، وبهذا يكون الأفضل أن يصوم التاسع والعاشر على ظاهر الحديث .(3/338)
قال المصنف رحمه الله : [ وصيام يوم عرفة كفارة سنتين ] : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال ذلك كما في الحديث الصحيح عنه (( يكفر السنة الماضية والباقية )) قال في عاشوراء : (( أحتسب عند الله أن يكفر سنة )) فهذا يدل على فضل هذين اليومين ، ويوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية فهو كفارة لسنتين ؛ إلا أنه لغير الحاج يصومه غير الحاج ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- حج فلم يصمه ، وكان بعض الصحابة يرى صيام عرفة ولو كان للحاج ؛ كما أثر عن أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- فيما رواه الإمام مالك في موطئه أنها كانت تصوم يوم عرفة حتى إذا ابيضت الأرض بينها وبين الحاج دعت بفطورها فأفطرت .
والصحيح ما ذكرناه على ظاهر السنة : أن الأفضل للحاج أن يفطر يوم عرفة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أتي باللبن وهو واقف حينما اختلف الصحابة : هل هو صائم أو مفطر ؟ فشربه -عليه الصلاة والسلام- ؛ ولأنه إذا أفطر قوي على العبادة والوقوف والدعاء والتضرع والابتهال كما يقوى المجاهد على جهاده في سبيل الله فيكره له الصوم .فالمقصود من هذا أن صوم عرفة لغير الحاج .
قال رحمه الله : [ ولا يستحب لمن بعرفة أن يصومه ] : لظاهر السنة .
قال رحمه الله : [ ويستحب صيام أيام البيض ] : يستحب صيام أيام البيض وهي الأيام التي تبيضّ فيها السماء لاكتمال القمر وهي : اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر؛ لثبوت حديث الترمذي عن أبي ذر -- رضي الله عنه -- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- سماها .
هذه الثلاثة الأيام -الأيام البيض- وذكر بعض الحكماء والأطباء أن الدم يهوج فيها أكثر من بداية الشهر ونهاية الشهر، فإذا صام الإنسان اعتدلت نفسه واستجمت ، ولذلك يجد الناس من الأرق في ليالي البيض ما لا يجدونه في غيره وهذا معروف ، فقالوا : إن الصيام فيه هذه النكتة كما أشار إلى ذلك الحكيم الترمذي -رحمه الله- في كتابه المنهيات .(3/339)
وصيام ثلاثة الأيام من شهر قيل المراد بها الأيام البيض، وقيل إن الثلاثة الأيام من كل شهر كما في حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه --في الصحيح : (( أوصاني خليلي رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- )) إما أن تكون في أول الشهر، وإما أن تكون في وسطه ، وإما أن تكون في آخره . فأول الشهر وآخر الشهر هي ليالي السَّرار، وهي التي يستسر فيها الهلال فلا يرى ، وهذه يفضل صومها كما في حديث السنن عنه -عليه الصلاة والسلام- : أصمت من سرر هذا الشهر؟ فقالوا من فاتته الأيام البيض يصوم أيام السِّرار، وإن شاء بادر فصام الثلاثة الأيام من بداية الشهر .
قال رحمه الله : [ والاثنين والخميس ] : ويصوم الاثنين والخميس ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( تعرض الأعمال على الله في كل يوم الاثنين والخميس وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم )) وقال عن يوم الاثنين : (( ذاك يوم ولدت فيه فأحب أن أصومه )) فهذا يدل على مشروعية صيام يوم الاثنين والخميس .
قال رحمه الله : [ والصائم المتطوع أمير نفسه ] : بعد أن بيّن الأيام التي تصام شرع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بصوم التطوع ، منها : أن الصائم المتطوع أمير نفسه ، وهذا مما يختلف فيه الفريضة عن النافلة ، يختلفان في مسائل ، منها : مسألة النية ، ومنها مسألة قطع الصوم ، فالفريضة لا خيار فيها للمكلف ، ويجب عليه أن يتم الصوم ، وأما صوم النافلة فالمتطوع أمير نفسه ؛ فقد جاءت بذلك السنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا اللفظ .(3/340)
وكذلك أيضا دل حديث أم المؤمنين عائشة لما قال عليه الصلاة والسلام : (( هل عندكم شيء ؟ قالت : لا . قال : إني إذاً صائم )) على أن صوم النافلة موسع فيه ، ويجوز للمتطوع في الصوم أن يفطر أثناء اليوم ، فلو أنه أصبح صائماً ثم دعاه أخوه إلى طعام ورأى أن جبر خاطر أخيه أفضل أو فيه صلة رحم كالقريب أو دُعِي إلى وليمة ويحصّل فيها الخير بجبر خاطر صاحبها فنوى في قرارة قلبه أنه متم لهذا الصوم لولا هذا العذر جمع الله له بين الأجرين .
والأصل أن المسلم ينبغي له أن يحافظ على طاعته نافلة كانت أو فريضة ؛ لأن الله تعالى يقول : { ولا تبطلوا أعمالكم } فكل عمل يتقرب به إلى الله -- عز وجل -- يحرص الإنسان على تمامه وكماله، ومن حب الله للعبد توفيقه إلى التمام والكمال .
فالأصل أن يحرص على تمام النوافل والفرائض ، لكن هذه توسعة في السنة أنه أمير نفسه أي له أن يتم وله أن يقطع والأفضل أن لا يقطع ؛ إلا إذا كان هناك ما هو آكد ، فلو أمره أبوه كان بر الوالدين أعظم قربة لله -- عز وجل -- من إتمامه لصوم النافلة فيبرّ ، وهكذا لو كان فيه صلة رحم أو إحسان أو نحو ذلك من الأمور المفضلة .
قال رحمه الله : [ إن شاء صام وإن شاء أفطر ولا قضاء عليه ] : ولا قضاء عليه إذا أفطر على أصح قولي العلماء -رحمهم الله- ؛ لأن الصحيح أن الشروع في النوافل لا يصيّرها فرائض على جهة الإطلاق إلا فيما استثناه الشرع كما في الحج والعمرة فيجب عليه الإتمام ، فالأصل يقتضي أنه مخير .
قال رحمه الله : [ وكذلك سائر التطوع ] : وكذلك سائر التطوع : لو أنه أراد أن ينفق مالا فأخذ الخمسين ريالا يريد أن يتصدق بها ، ثم عَنّ له أن يرجع ولا يعطيها صدقة احتاج إليها أو رأى شيئا آكد من الصدقة فله ذلك له أن يرجع عن صدقته مادام أنه لم يعطها بعد .(3/341)
فالمتطوع أمير نفسه هذا لفظ عام ، له الحق أن يرجع عن ذلك ، ولو أنه أراد أن يخرج لشهود خير وبر تطوعا وليس بواجب عليه ثم عنّ له في الطريق أن يرجع حل له ذلك ؛ لأنه ليس بمتعين ولا يمكن أن تنزل النافلة منزلة الفريضة ؛ لأن هذا غلو في العبادة ، أن يجعل النوافل غير الواجبة منزلة منزلة الفرائض ، فنوجب على الناس ما لم يوجبه الله -- عز وجل -- عليهم ؛ (( قال : يا رسول الله ، هل علي غيرها ؟ -في الصلاة المفروضة- قال : لا . إلا أن تطوع )) فهو متطوع ابتداء وانتهاء .
قال رحمه الله : [ إلا الحج والعمرة فإنه يجب إتمامهما ] : إلا الحج والعمرةفإنه يجب إتمامهما ؛ لقوله تعالى : {وأتموا الحج والعمرة لله } وهاتان العبادتان : الحج والعمرة سواء كانت في حج فريضة أو عمرة فريضة أو حج نافلة أو عمرة نافلة مادام أنه أحرم فيجب عليه إتمام النسك إلا أن يخرج بأن يكون مُحْصَرا فيخرج على وجه شرعي معتبر كما في المحصر .(3/342)
الأصل يقتضي عليه أن يتم ؛ لأن الله تعالى قال : { وأتموا الحج والعمرة لله } حتى ولو أفسد عمرته فجامع زوجته في العمرة قبل أن يطوف ؛ فإنه يتم هذه العمرة الفاسدة ، ثم بعد ذلك يقضي؛ وذلك لقوله تعالى : { وأتموا الحج والعمرة لله } وقد قضى عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- بذلك وعبدالله بن عمرو بن العاص وعائشة -رضي الله عنها- وطائفة من الصحابة -رضي الله عنهم- في مسألة من أفسد حجه بجماع أوجبوا عليه أن يتم الحج الفاسد ، ولو أنه أحرم بالحج ولم يتمكن من أداء الحج في وقته ؛ فإنه لا يفسخ الإحرام ، وإنما يتم النسك الأصغر إذا تعذر عليه النسك الأكبر ؛ ولذلك لما جاء هبّار إلى عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- صبيحة يوم النحر وهو بمزدلفة وكان يظن أن الشهر كامل قال له : ابقَ كما أنت ثم ائت البيت وطف وتحلل بعمرة ، ثم إذا كان من عام قابل فحج واهدِ . فأمره أن يخرج بالنسك الأصغر من النسك الأكبر وهو الحج بنسكه الأصغر وهو العمرة ؛ لأن الله جعل الحج أكبر وأصغر؛ كما قال تعالى : { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } فالشاهد من هذا أن نسك الحج والعمرة أمرهما عظيم ، حتى قال بعض العلماء : إنهما العبادة التي أجمع العلماء -رحمهم الله- على وجوب إتمامها ولو كانت نافلة أو فاسدة .
قال رحمه الله : [ وقضاء ما فسد منهما ] : وقضاء ما فسد منهما أي يجب عليه قضاء الفاسد بأن يأتي بعمرة وحج إذا أفسد عمرته وحجه .(3/343)
قال رحمه الله : [ ونهى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- عن صوم يومين : يوم الفطر ويوم الأضحى ] : هذا ثابت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه -- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن صوم يوم النحر ويوم الفطر؛ لأنهما يوما عيد الإسلام والمسلمين ، وهما يوم فرحة فلا يجوز أن يصوم فيهما ، وإذا كان عليه صيام شهرين متتابعين فصام شعبان ثم صام رمضان ؛ فإنه يفطر يوم العيد للعذر الشرعي، ثم يتم بقية العدد حتى يستكمل الصوم الواجب عليه ، وعلى هذا فإن يوم العيد يجب عليه الفطر فيه حتى ولو كان في صيام الواجب كصيام الكفارة .
قال رحمه الله : [ ونهى عن صيام أيام التشريق إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي ] : ونهى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- عن صيام أيام التشريق : سميت بذلك ؛ لأن الحجاج يشرّقون فيها اللحم ، ويقددونه ويعرضونه للشمس ، وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهو العاشر من ذي الحجة فهي يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، الحادي عشر يسمى يوم القر، والثاني عشر يسمى يوم النفر الأول، والثالث عشر يسمى يوم النفر الثاني ، فهذه الثلاثة الأيام اختلف العلماء -رحمهم الله- في صومها على قولين مشهورين : واختار المصنف -رحمه الله- تحريم صومها للحاج وغيره ، واختار جمع من العلماء تخصيص التحريم للحاج وحده ، وفيها حديث يدل على العموم لكنه ضعيف الإسناد: أنه لا يجوز صومها سواء كان حاجا أو غيره لكن سنده لم يصح ؛ والدليل على منع صيامه على الحاج قوله -عليه الصلاة والسلام- : (( أيام منى أيام أكل وشرب وبعال وذكر لله -- عز وجل -- )) والأيام الثلاثة كاملة سواء تعجّل أو تأخّر .(3/344)
قال رحمه الله : [ إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي ] : إذا كان متمتعا ولم يجد الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام قبل يوم عرفة ، يحرم في اليوم الخامس فيصوم السادس والسابع والثامن، أو يحرم اليوم الرابع فيصوم الخامس والسادس والسابع، أو يحرم اليوم الثالث فيصوم الرابع والخامس والسادس.
يصوم قبل يوم عرفة فإذا لم يتيسر أن يصومها وهو على هذه الحال شرع له أن يصوم الثلاثة الأيام من أيام التشريق لوجود العذر ؛ لأن الله فرضها عليه في الحج ، وتعذر عليه قبل أيام التشريق فيصومها أيام التشريق .
قال رحمه الله : [ وليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان ] : وليلة القدر هذه الليلة من ليالي السنة ؛ سميت بهذا الاسم إما من القَدْر وهو الشرف والمكانة ، تقول: فلان له قدْر إذا كان عالي المنزلة، شريفا في نسبه ، سميت بذلك لعظم منزلتها وقدرها عند الله -- عز وجل -- ، وقيل من القدْر وهو التضييق ؛ لأن الأرض تمتلئ من الملائكة كما قال تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها } حتى تضيق فلا يعلم جند ربك إلا هو -- سبحانه وتعالى -- والبيت المعمور يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا ، فقالوا إن من كثرة نزول الملائكة تضيق الأرض ، وقيل القدْر من التقدير؛ لأن فيها المقادير تنسخ من عام إلى عام ، تنسخ من اللوح المحفوظ إلى صحف الملائكة ، وصحف الملائكة هي التي يقع فيها التغيير والتبديل، والله عنده أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ ، ويقع في صحيفة الملك التغيير والتبديل والنسخ ، وهذا النسخ يكون من كل عام من العام إلى العام في هذه الليلة ؛ كما قال تعالى : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر } فقوله سبحانه : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر } قالوا هي يقع فيها الأوامر بمقادير الناس وأرزاقهم ، ومقادير الخلق وأرزاقهم ، وما يكون من شأنهم وأحوالهم .(3/345)
وأيا ما كان فهي أفضل الليالي ؛ لثبوت النصوص في الكتاب والسنة الدالة على فضلها .
فضلت هذه الليلة فقيامها إيمانا واحتسابا أفضل وخير عند الله من قيام ألف شهر ؛ ولذلك ندب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أمته إلى طلبها ، والحرص على إحيائها ؛ حتى قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) .
وهذه الليلة اختلف في تعيينها فدلت النصوص عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنها في الوتر من العشر الأواخر .
وجماهير السلف والخلف على أنها في رمضان .
وهناك من العلماء من يقول إنها تنتقل في ليالي السنة .
والصحيح أنها في رمضان ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( تحرّوها فمن كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر )) وفي بعض الألفاظ : (( في الوتر من العشر الأواخر )) فكان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يقوم العشر الأُوَل ، ثم انتقل إلى العشر الوسطى، ثم جاءه جبريل كما في الصحيحين وقال له : (( إن الذي تطلبه أمامك))، فاعتكف عليه الصلاة والسلام العشر الأواخر، فاستقر الأمر في الأخير على أنها في العشر الأواخر، ثم هي في الوتر من العشر الأواخر.(3/346)
واختلفت أقوال العلماء -رحمهم الله- في العشر الأواخر أي ليلة هي ، فقيل : ليالي الوتر إحدى وعشرون، وثلاث وعشرون، وخمس وعشرون، وسبع وعشرون، وتسع وعشرون، وقيل: إنها في الشفع من الوتر، في ليلة اثنين وعشرين، وأربع وعشرين، وست وعشرين، وثمان وعشرين، وليلة الثلاثين ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( تحروها فمن كان متحريها فليتحرها في الوتر من العشر الأواخر )) فهذا يدل على أنها إما ليلة إحدى وعشرين، أو ثلاثة وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين، ومن قال إنها تكون في الشفع فجاء اللفظ في الصحيح في : (( واحدة تبقى ، أو ثالثة تبقى ، أو خامسة تبقى ، أو سابعة تبقى )) فجعل الوتر فيما بقي . فالواحدة التي تبقى هي ليلة الثلاثين ، والثالثة التي تبقى هي ليلة ثماني وعشرين، والخامسة التي تبقى هي ليلة ست وعشرين، وقس على ذلك ، وكل هذه الليالي فيها أقوال للسلف -رحمهم الله- ، واستقر القول على ثلاث ليالي هي أقوى ما يرجى من ليالي القدر : إحدى وعشرون على حديث وقف المسجد وسجود النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على الماء والطين كما في حديث أبي سعيد في الصحيح ، وليلة خمس وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وثلاث وعشرين أيضا وخمس وعشرين وفيها حديث عبدالله بن أنيس ، وليلة سبع وعشرين وهي قول جمهور الصحابة -رضي الله عنهم- أنها في ليلة سبع وعشرين هي أرجى وأقوى ما يكون .(3/347)
وردّ الناس إلى ظاهر السنة من أمرهم بتحريها في الوتر والحرص على عدم تعيينها حتى لا يتّكل الناس على ليلة معينة موافق لمقصود الشرع ، ولذلك كان بعض مشايخنا -رحمهم الله- كثيرًا ما يضيق في الترجيح في هذه المسألة حتى يبقى الناس على مقصود الشرع ؛ لأن الله أخفى ليلة القدر في العشر الأواخر حتى يجتهد الناس فيها ، وأخفى اسمه الأعظم من بين أسمائه الحسنى -- سبحانه وتعالى -- حتى يُدعى بأسمائه ، وأخفى ساعة الجمعة في يوم الجمعة كلها حتى يحرص الناس على العمل الصالح في اليوم كله ويستغرقوه .
قال الإمام المصنف -رحمه الله- : [ باب الاعتكاف : وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ] : الاعتكاف أصله لزوم الشيء وحبس النفس عليه . قال تعالى حكاية عن نبيه الخليل -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- : { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } أي عليها عاكفون ، فاللام بمعنى على ؛ كقوله تعالى : { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وكقوله تعالى : { ومن أساء فلها } أي فعليها .
فالاعتكاف بمعنى لزوم الشيء ، وعرّفه المصنف : بأنه لزوم المسجد لطاعة الله -- عز وجل -- ، فهو لزوم مخصوص من شخص مخصوص لمكان مخصوص بنية مخصوصة .
اللزوم المخصوص المراد به اللزوم لذكر الله -- عز وجل -- ، وطاعته بالصلاة ، وقراءة القرآن ، والتسبيح ونحو ذلك من الأذكار .
لمكان مخصوص : وهو المسجد على تفصيل سيأتي : هل يختص بمسجد الجمعة وهذا إذا نوى العشر كاملة ؟ أو أنه يشمل مساجد الجمعة والجماعات ، ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد ، فلا يصح في المصلى ؛ لأن الله -تعالى- يقول : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } فبين أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد .(3/348)
بنية مخصوصة : وهي نية التقرب إلى الله -- سبحانه وتعالى -- ، يستوي أن يكون الاعتكاف في رمضان أو في غير رمضان ، وجماهير السلف والخلف -رحمهم الله- على أن الاعتكاف في سائر السنة ، وأنه لا يحرم في غير رمضان .
وجاء بعض المتأخرين يبدّعون من اعتكف في غير رمضان ، وهذا القول بالتبديع لا يحفظ عن أحد من أهل العلم -رحمهم الله- من المتقدمين ؛ ولذلك قال تعالى : { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين } ولم يفرَّق بين زمان وآخر إلا أن العشر الأواخر والاعتكاف في رمضان آكد ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتكف فيه .
أما من اعتكف في غير رمضان ؛ فلا ينكر عليه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتكف في العشر الأخير من شوال؛ كما ثبت في الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- في قصة أمهات المؤمنين حينما ضربن الأخبية ، ومن قال إن هذا قضاء لاعتكافه ؛ فقوله مردود ؛ لأن الأصل يدل على الجواز ، ومطلق النص يدل على أنه لا بأس بالاعتكاف ، وقد قال لعمر -- رضي الله عنه -- : (( أوفِ بنذرك )) ولم يقل له أوف بنذرك في رمضان حينما قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له النبي -- صلى الله عليه وسلم -- : (( أوف بنذرك )) ولم يقل له ليلة : أوفها في العشر الأواخر ولم يلزمه بها في ليلة معينة ؛ فدل على أن كل ليلة يصح أن تكون محلا للاعتكاف ، إلا أن الأفضل والأكمل في الاعتكاف وآكد ما يكون استحبابا إذا كان في العشر الأواخر، وعلى هذا فالاعتكاف لا يكون إلا بنية ، ومن هنا قالوا : لبث مخصوص من شخص مخصوص في مكان مخصوص بنية مخصوصة فأما الشخص المخصوص فهو المسلم فلا يصح الاعتكاف من كافر، العاقل فلا يصح الاعتكاف من مجنون، الذي لا يجب عليه الغسل هذه ثلاثة أمور لابد من توفرها في المعتكف : المسلم العاقل الذي ليس عليه غسل .(3/349)
وقولهم : الذي ليس عليه غسل أي ليس عليه جنابة ، وليس من النساء ممن عليهن حيض أو نفاس ؛ لأنه لا يجوز لهم المكث في المسجد ، وإذا ثبت هذا فخرج لزوم المسجد لغير هذه النية، كأن يلزمه لطلب العلم أو حضور حلقة قرآن لتعلم القرآن أو نحو ذلك فهذا ليس باعتكاف ؛ لأنه لم يقصد به الاعتكاف . فالسنة في الاعتكاف أن يكون في المساجد كما ذكرنا فقال المصنف رحمه الله في حقيقته .
قال رحمه الله : [ وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ] : وهو : أي الاعتكاف . لزوم المسجد لطاعة الله فيه : الأصل في مشروعيته دليل الكتاب كما في قوله تعالى : { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، بل جاء شرعنا بجواز ذلك وتأكيده ، وكذلك قال تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وأما السنة فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- اعتكف واعتكف معه أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين- فدل على مشروعية الاعتكاف ، وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على مشروعية الاعتكاف وفضله واستحبابه .
قال رحمه الله : [ الاعتكاف : وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ] : لزوم المسجد : فدل على أن الاعتكاف لا يكون خارج المسجد ، ومن هنا من لم يلزم المسجد فليس بمعتكف ، كمن يدمن الخروج من المسجد ، أو خرج من دون حاجة هذا ليس بمعتكف .
لزوم المسجد لطاعة الله : فخرج لزوم المسجد لغرض آخر ، كأن يلزم المسجد لإصلاح المسجد أو نحو ذلك من أمور الدنيا .(3/350)
من أجل طاعة الله -- عز وجل -- : اللام لطاعة الله تعليلية أي من أجل طاعة الله -- عز وجل -- ، وهذا يدل على أنه ينبغي في المعتكف الصادق في اعتكافه أن يستغرق وقته في طاعة الله -- سبحانه وتعالى -- ومرضاته ، ومما يؤكد ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ضرب القبة ضربت له في المسجد كل ذلك لأجل أن ينقطع حتى عن الشواغل في نظره -عليه الصلاة والسلام- ويكون أكمل ما يكون في الإقبال على الله -- سبحانه وتعالى -- .
قال رحمه الله : [ وهو سنة لا يجب إلا بالنذر ] : لزوم المسجد : المسجد إذا كان مسجد جمعة وجماعة فلا إشكال ، وأما إذا كان مسجد جماعة لا جمعة كأن تُصلَّى فيه الفروض ولا يصلى فيه الجمعة ، فإن كان ناويا العشر الأواخر؛ فإنه يطلب مسجدا فيه الجمعة ؛ لأنه إذا اعتكف في هذا المسجد فستأتي الجمعة إما أن يتركها فلا يجوز له ذلك أن يترك الواجب وهو الجمعة والفريضة لمندوب ومستحب ، وإما أن يخرج لها ، وحينئذ يكون قد قطع اعتكافه ؛ لأن الاعتكاف هو اللزوم -وهو اللزوم للمسجد- فإذا خرج لم يلزمه ، وعليه فإنه إذا كان ناويا للعشر كاملة فإنه لا يكون إلا في مسجد تقام فيه الجمعة .
وأما الجماعة فعلى القول بوجوبها ؛ فإنه لا يعتكف إلا في مسجد فيه جماعة ، إلا إذا كان مريضا وأحب أن يكون في مسجد يعتكف فيه وهو معذور في الجماعة صح أن يعتكف في مسجد تصلى فيه بعض الفروض دون بعضها كما يقع في بعض المساجد يتوفر فيها العمال ونحوهم وتكون في مواضع يكون فيها عمار المسجد في الفروض وتغلق في بعض الفروض فله أن يعتكف فيها مادام أنه لم تلزمه الجماعة .(3/351)
قال رحمه الله : [ وهو سنة لا يجب إلا بالنذر ] : وهو أي الاعتكاف سنة هذا حكمه بعد أن بيّن حقيقته وهو لزوم المسجد لطاعة الله -- عز وجل -- فيه بيّن حكمه أنه سنة . سنة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بقوله وفعله ، بفعله حينما اعتكف ، وأمر أصحابه أيضا أن يعتكفوا العشر الباقية ، وكذلك أيضا أمر عمر أن يفي باعتكافه ؛ فدل على أنه سنة . ثبتت السنة به قولا وفعلا من رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ وهو سنة لا يجب إلا بالنذر ] : هذا المسنون ينتقل إلى الوجوب إذا كان نذرا فقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر حينما قال : يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال عليه الصلاة والسلام : (( أوف بنذرك )) فدل على أن نذر الاعتكاف واجب ؛ لأنه نذر طاعة ، والنذر إذا كان في طاعة الله يجب الوفاء به ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (( أوف بنذرك )) وقد دلت النصوص على وجوب الوفاء بنذر الطاعة .
قال رحمه الله : [ ويصح من المرأة في كل مسجد ] : ويصح من المرأة أن تعتكف ؛ لأن أمهات المؤمنين اعتكفن مع رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- في كل مسجد سواء في جمعة أو لا جمعة فيه ؛ لأنه لا تجب الجمعة على المرأة .(3/352)
قال رحمه الله : [ ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ] : لكن المرأة لا تعتكف إلا بإذن زوجها ، ويجوز للزوج أن يمنعها من الاعتكاف عند وجود السبب الذي يوجب ذلك؛ لما ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه منع أمهات المؤمنين وأزواجه من الاعتكاف حينما غار بعضهن من بعض وضربن الأخبية ، فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح : (( آلبر أردتنّ ؟ )) ثم أمر بنقض الأخبية ومنعهن من الاعتكاف ، فأخذ من هذا طائفة من العلماء أن للزوج أن يمنع زوجته ؛ ولأنه قد يمنعه ذلك من إصابتها وبخاصة إذا خاف على نفسه الحرام ، فتعتكف بإذن زوجها ، وقد صح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه منع المرأة أن تصوم تطوّعا وزوجها شاهد إلا بإذنه، وتضرره بالاعتكاف النافلة أعظم من تضرره بالصوم ؛ لأنه أقل ما في الصوم أنها تصوم نهارا وتفطر ليلا ، فيمكنه أن يصيبها ليلا ومع ذلك لا تصوم إلا بإذنه ، وفي الاعتكاف تمتنع منه ليلا ونهارا ، وعلى هذا فإنه يشرع له أن يمنعها وتستأذنه في اعتكافها .
قال رحمه الله : [ ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ] : لما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل ] : هذا إذا كان قد نوى ما دون العشر أما إذا نوى العشر فلا إشكال .(3/353)
قال رحمه الله : [ ومن نذر الاعتكاف والصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره إلا المساجد الثلاثة ] : ومن نوى الاعتكاف في مسجد أو الصلاة في مسجد فله أن يصلي في غيره : الأصل يقتضي في النذر الوفاء ، فإذا عيّن مسجدا فإنه يصلي فيه ، ولا ينتقل إلى غيره إلا المساجد الثلاثة فإن بعضها أفضل من بعض ، ومن هنا إذا نوى أو نذر في المساجد الثلاثة قصد الفضيلة ؛ ذلك لأن المساجد الثلاثة : الأقصى بخمسمائة ، ومسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بألف صلاة ، والمسجد الحرام بمائة ألف ، فإذا ثبت هذا فإنه إذا نوى وعيّن هذه الثلاث دل على أنه قاصد هذه المضاعفة ، فإذا نوى أحدهم جاز له أن ينتقل إلى ما هو أعلى منه ؛ لأن المقصود موجود فيه ، وهذا أصل في الأيمان والنذر، وقد قدمنا في شرح كتاب الأيمان بيان ذلك ، وأن الشريعة تراعي مقصد المكلف في عقده ليمينه والنذر جارٍ مجرى اليمين ، فهو إذا نذر أن يعتكف في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام ؛ لأن قصده لمسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لم يكن إلا من أجل فضيلة المضاعفة فيه، ولذلك يجوز له أن ينتقل إلى المسجد الحرام ، ولا ينتقل إلى المسجد الأقصى ؛ لأنه دونه في الفضل ، والعكس يجوز له أن ينتقل إلى مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إذا نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى ؛ لأن فضيلته تندرج تحتها فضيلة الأقصى، هذا أصل عند طائفة من أهل العلم -رحمهم الله- لثبوت السنة بالتفضيل بين هذه المساجد الثلاثة .
قال رحمه الله : [ ومن نذر الاعتكاف والصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره إلا المساجد الثلاثة ] : هذا إذا عين الأصل يقتضي أنه يصلي فيما عينه ، ولكن في المساجد الثلاثة لما ذكرنا لوجود قصد القربة بالمضاعفة ، فإذا حصّل المضاعفة فيما هو أكبر أغنى عن الأصغر .
قال رحمه الله : [ فإذا نذر في المسجد الحرام لزمه ] : لزمه ولم ينتقل إلى ما دونه .(3/354)
قال رحمه الله : [ وإن نذر في مسجد المدينة فله فعله في المسجد الحرام ] : مسجد المدينة هو هذا الاسم أن تقال : المدينة . أما المدينة النبوية ، المدينة المنورة، اسمها في كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- المدينة ولذلك ينبغي الحرص على هذا أن تقال لها : المدينة . البعض يقول : ما نقول المنورة، نقول النبوية ، طيب النبوة نور ! { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } ذهب طائفة من المفسرين إلى أن النور هو النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما قال تعالى : { وسراجا منيرا } وصفه الله بأنه سراج منير يعني إذا قال : النبوية معناه أنه قال النور. لا فرق بين المنورة والنبوية . اسمها في الكتاب والسنة : المدينة يقال : مسجد المدينة ، وهذا هو الذي ينبغي الحرص عليه .
فالشاهد أنه إذا نوى مسجد المدينة إذا أطلق مسجد المدينة المراد به مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو أفضلها أفضل المساجد فيها وفي غيرها إلا المسجد الحرام .
قال رحمه الله : [ وإن نذر في المسجد الأقصى فله فعله فيهما ] : فيهما يعني في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وفي المسجد الحرام له أن يفعل نذره فيهما .(3/355)
قال رحمه الله : [ ويستحب للمعتكف الاشتغال بفعل القُرَب ] : الاعتكاف عبادة قصد بها التقرب لله -- عز وجل -- ، وأعظم الناس في اعتكافه وأصدقهم قربة لله -- عز وجل -- وحبا له سبحانه أعرفهم بحقوق هذه العبادة ، وأحرصهم على القيام بهذه الحقوق ، ولذلك إذا قام المسلم بحقوق الاعتكاف وجد بركته وخيره وحسن عاقبته ، وكان أرجى الناس أن يخرج من معتكفه بأفضل الثواب وأعظم الجزاء من الله -- سبحانه وتعالى -- ، فعلى هذا فينبغي للمعتكف إذا أراد أن يعتكف أن يفرغ قلبه من شواغل الدنيا ومشاغلها ، وأن يعلم أن المساجد بيوت الله ، عمرت لذكر الله -- عز وجل -- ، وأنها ما جعلت للقيل والقال ، ولا لعمارة الأوقات بفضول الكلام ، ولا باللهو ، ولا بالضحك ، ولا بالنكت ، ولا بإضاعة الأوقات في مثل هذه الترهات ، إنما بنيت لذكر الله -- عز وجل -- ، وبخاصة إذا كان معه المعتكفون ، فالواجب عليه أن يهيئ له من نفسه ما يعينهم على طاعة ربهم ، فلا ينشغل بالأحاديث مع أصحابه ، ولا يؤذيهم بأقواله وأفعاله ، وبخاصة أثناء راحتهم التي يتقوون به على الاعتكاف .(3/356)
الاعتكاف عبادة عظيمة ، وكان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هديه في الاعتكاف أكمل الهدي وأتم الهدي -صلوات الله و سلامه عليه- فخرج إلى معتكفه فهيّأ جميع الأسباب لكي يتفرغ لعبادة ربه -- سبحانه وتعالى -- ، حتى كما ذكرنا ضربت له القبة حتى لا يشغله أحد في ذكره لله -- سبحانه وتعالى -- . قال بعض العلماء : إذا كان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- يدخل قبته ويتفرغ للعبادة مع أنه أكمل الخلق خشوعا -صلوات الله وسلامه عليه- وأكملهم خوفا من الله -- عز وجل -- وكمالا في العبادة ومع ذلك أخذ بالأسباب التي تعين على تفرغ القلب لذكر الله ، فأين غيره ؟! من باب أولى وأحرى ، ولذلك لما غير الناس هذه السنة ، وأصبح الاعتكاف للمباهاة ، وأصبح الاعتكاف للقيل والقال ، تجد الرجل يدخل معتكفه ويخرج من معتكفه -نسأل الله السلامة والعافية- وحاله لم يتغير ، بل إن منهم من يدخل إلى معتكفه بحال أفضل من حاله حينما يخرج -نسأل الله السلامة والعافية- ، فهو يدخل يريد ذكر الله ومحبة الله ومرضاة الله ثم يُبتلى بمضيع للأوقات من أهل الترهات والقيل والقال ولربما من أهل الغيبة والنميمة فينقل إليه قيل فلان وعلان فيأنس به ، ثم يتخذه صاحبا معه من أجل أن يضيع عليه -والعياذ بالله- عبادته .(3/357)
الاعتكاف الحق أن يفرغ النفس ظاهرا وباطنا لذكر الله -- عز وجل -- ، وهو مدرسة ، ولذلك من الناس من دخل الاعتكاف فخرج منه بختم القرآن كل ثلاثة ليال ، ومنهم من خرج من الاعتكاف بالبكاء عند سماع القرآن وبالخشوع عند تلاوته ، ومنهم من خرج من الاعتكاف بالجد والصبر على الطاعة ، فهو إذا طال قيامه في قيام الليل ألف ذلك في بقية ليالي العام ، ومنهم من شعر بلذة الخشوع والخضوع بين يدي الله ، فلا يزال يجد لذة ذلك بقية عامه ، ومن عام إلى عام يدخل هذه المدرسة خلال هذه الأيام والليالي المباركة لكي يزداد من إيمانه ويقوى في طاعته لربه ، ويتعرف على الله -- عز وجل -- ، فطيلة أيام السنة وليالي السنة وهو في غفلة الدنيا وملهياتها وشواغلها إذا به يعرض عن ذلك كله ويقبل على الله -- عز وجل -- في هذه الأيام لا يعرف قريبا، ولا بعيدا، لا صديقا ولا حميما ، فلا يعرف إلا ذكر الله ، خاشعا متخشعا ، متذللا لربه متضرعا ، قد استنفذ وقته لطاعة الله -- عز وجل -- حتى عظمت تجارته ، وربحت تجارته بذكر الله -- سبحانه وتعالى -- والإنابة إليه -جل وعلا -، وهكذا عرف كثير من العباد سبيل العبادة في هذه الليالي الطيبة ، وفي هذه العبادات الجليلة الكريمة حينما طبقوها على وجهها ، فما يحصل الآن من بعض الناس من التساهل في حقوق الاعتكاف يضيّع عليهم كثيراً من الخير -نسأل الله السلامة والعافية- ، والمحروم من حرم ، فعلى كل مسلم أن يستشعر أهمية الاعتكاف، وأن يقرأ عن آداب الاعتكاف قبل أن يعتكف ، وأن يعرف حقوق المعتكفين وما ينبغي له تجاه إخوانه حتى يؤدي ذلك على الوجه الذي يرضي ربه .(3/358)
قال رحمه الله : [ واجتناب ما لا يعنيه من قول وفعل ] : واجتناب ما لا يعنيه من القيل والقال، بعض الناس يدخل المعتكف مخلصا لله -- عز وجل -- يتمنى أنه لا تراه عين ولا تسمع به أذن ، إن من الناس من يعتكف ولا يعلم أحد على وجه الأرض أنه اعتكف ، ومن الناس من يعتكف الليالي العديدة ويؤدي حق هذه العبادة ولا يشعر أحد به ، حتى إن من معه ما يظنه إلا داخلا خارجا ما يظنه إلا رجل ممن يعتاد هذا المسجد ، بخلاف ما يفعله البعض فتجده يتحدث باعتكافه قبل أن يعتكف ، ومنهم من يتحدث باعتكافه بعد أن يعتكف ، ومنهم -والعياذ بالله- من يدخله الغرور، ومنهم من يدخله الرياء والسمعة ، فالحذر من هذه الآفات ، والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وكثير من الخلف فاته كثير من فضل السلف بسبب ضياع الحقوق في العبادات ، كان السلف الصالح يذكرون فضائل في العبادات لكنهم قاموا بحقوقها وأدوها على وجهها ، فإذا قرأ الخلف ذلك لم يجدوها ؛ لأنهم لم يحصلوا ما حصله السلف من الرعاية للحرمة والرعاية للأدب الكامل والإخلاص لله -- عز وجل -- والتلذذ بمناجاته ، بلغ بالمعتكف الصادق في اعتكافه أن أضيق ساعة عنده أن يأتيه شخص يشغله عن ذكر الله -- عز وجل -- ، تضيق عليه الدنيا وليس معنى ذلك أنه حرام عليه أن يجلس مع غيره فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جلس مع أم المؤمنين وقلب سودة إلى بيتها -رضي الله عنها وأرضاها- من داخل المسجد ، لكن المراد عدم المبالغة وعدم الإسراف والتساهل في مثل هذه المباحات التي يفرّط الناس فيها في كثير من الخير .(3/359)
قال رحمه الله : [ ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه إلا أن يشترط ] : ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد إلا لما لابد منه وهو حاجة الإنسان كما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان لا يدخل بيته وهو معتكف إلا لحاجة الإنسان من قضاء البول والغائط ونحو ذلك مما يضطر إليه الإنسان ، فلا يخرج من مسجد إلا من حاجة ، فإن خرج من غير حاجة بطل اعتكافه ، وعليه أن يستأنف الاعتكاف ؛ لأن الاعتكاف هو لزوم المسجد ، فلو خرج من غير حاجة بطل اعتكافه .
قال رحمه الله : [ إلا أن يشترط ] : إلا أن يشترط : الاشتراط في الاعتكاف قال به بعض العلماء قياسا على الاشتراط في الحج ، وهو من رد المختلف فيه إلى المختلف فيه ، مع أن الاشتراط في الحج مجاله ضيق وقد فصلنا في كتاب المناسك أن حديث ضباعة -رضي الله عنها وأرضاها- في الاشتراط أعدل الأقوال فيه الوسط وهو مذهب الشافعية ورواية عن أحمد واختيار طائفة من السلف أن من دخل في نسك الحج مريضا فقد تكلف هذه العبادة كما دخلت ضباعة فجعل لها الشرع من السعة ما لم يجعل لغيرها ؛ لأنها تكلفت ذلك وتكلفت المشقة ، فجعل لها السعة أن تشترط ، وأما التوسع في الاشتراط للمعذور وغير المعذور فهو خلاف ما دلت عليه السنة في ظاهرها ، وهكذا قياس عبادة على عبادة في الاشتراط فالأمر في هذا ضيق .
قال رحمه الله : [ ولا يباشر امرأته ] : ولا يباشر امرأته ؛ لقوله تعالى : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمعتكف أن يباشر امرأته ، فيحظر عليه المباشرة بجميع صورها ؛ لأن الاعتكاف لزوم الطاعة ، والمباشرة تخالف ذلك .(3/360)
قال رحمه الله : [ وإن سأل عن المريض وغيره في طريقه ولم يعرج إليه جاز ] : إذا خرج لحاجته وهو في البيت عنده مريض أو أحد قرابته مريض فسأل عنه ولم يعرج عليه ولو كان مريض في البيت لم يعرج عليه يعني لم يمل إليه أو كان مثلا بينه وبين بيته بالمسجد بيت لمريض فهو مار سأل ولده على الباب :كيف أبوك؟ وكيف فلان؟ قد جاء عن أم المؤمنين -رضي الله عنها- وصح عنها ذلك أنها كانت تفعل ذلك ولا تعرج على المريض .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح ، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم موجبا لرضوانه العظيم .
باب الاعتكاف
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستنّ بسنّته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فإن الاعتكاف عبادة عظيمة ، وقربة جليلة كريمة ، سنّها الله وشرعها لهذه الأمة ، رفعة للدرجات ، وسببا في بلوغ الخيرات ، في الحياة وبعد الممات .
هذه العبادة العظيمة جاءت سنن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في هديه الصحيح ، ببيان جملة من مسائلها وأحكامها ، واعتنى علماء الإسلام من المحدثين والفقهاء ، ببيان هذه السنة الواردة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - ، وتفصيل أحكامها ومسائلها .
ولا شكّ أن دراسة باب ا لاعتكاف أمر مهمّ جدًّا لطلاب العلم وللناس كافّة ، أما بالنسبة لطالب العلم فإنه يكون على بصيرة من هدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وسنته، ويمكنه عن طريق ضبط هذه المسائل والأحكام أن يبين للناس ، وأن يدعوهم إلى الخير، ويكون على بصيرة ، وطاعة لله-- جل جلاله - - وله في ذلك الأجر العظيم ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئا )) .(3/361)
فهذا خير كبير، وفضل عظيم جليل، ينتظر طلاب العلم وينتظر كل موفق مسدد علم فعمل ، ودعا إلى ما علم وعمل به .
وأما بالنسبة لعناية الناس بمعرفة أحكام الاعتكاف ؛ فإنه يجب على كلّ مسلم يريد أن يعتكف أن يسأل عن أحكام الاعتكاف ، وعما يجب عليه ، وعما يحرم على المعتكف أن يفعله أو يقوله أو يتلبس به حتى يعبد الله على بصيرة .
وأجمع العلماء - رحمهم الله - على أن المسلم إذا أراد أن يعمل العبادة ، أو يقوم بالمعاملة ،كالبيع والشراء أن الواجب عليه سؤال أهل العلم ، وهذا من طلب العلم الخاص ، الذي يكون فرضا على بعض الناس دون بعض، وعلى كل حال فالخير كل الخير في العلم بما شرع الله في كتابه ، وسنة رسوله- - صلى الله عليه وسلم - - ، ولو لم يكن في ذلك فضل وشرف إلا اتّباع سنّة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - الذي هو سبيل الهداية والخير لكل مسلم - جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل – لكفى .
وانطلاقا من هذا اخترنا كتاب عمدة الفقه - لبيان هذا الباب ، وهذه العبادة الجليلة - للإمام الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي - رحمه الله برحمته الواسعة - ، وسنقرأ - إن شاء الله - هذه الليلة ما تيسر من أحكام الاعتكاف .
قال المصنف –رحمه الله- : [ باب الاعتكاف ] :
الشرح :
قوله رحمه الله : [ باب الاعتكاف ] : الاعتكاف في لغة العرب : لزوم الشيء ، يقال : عكف على الشيء يَعْكِف عُكوفاً إذا لزمه وصاحبه ؛ سواء كان ذلك الشيء خيرا ، كما قال تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }أوكان شرا ،كما قال تعالى : {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } ، وأثر عن علي - - رضي الله عنه - - أنه مرّ على قوم يلعبون الشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟! تبكيتا وكراهية لما يصنعون .(3/362)
فالعكوف أصله : الملازمة للشيء ، والمكث عنده ، والإقامة ، ومنه يقال : عكف في المسجد إذا لزمه ، ولزم الجلوس فيه .
يقول المصنف - رحمه الله – [ باب الاعتكاف ] : الاعتكاف مشروع بكتاب الله ، وسنة رسوله - - صلى الله عليه وسلم - - ، وإجماع المسلمين .
أما كتاب الله ؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } فنص - سبحانه وتعالى - على تحريم مباشرة النساء على المعتكف ، فدل على أن الاعتكاف مشروع ، ومن موانعه : مباشرة النساء. كذلك قال تعالى : { وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين } فبين - سبحانه وتعالى - أن البيت وهو المسجد الحرام وهو أصل للمساجد كلها محل للاعتكاف ؛ فدل على أنه يشرع الاعتكاف .
وأما بالنسبة لدليل السنة عن رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - - فقد اجتمع دليل القول والفعل والتقرير، فإن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -- ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - - رضي الله عنه - - أنه اعتكف العشر الأول من شهر رمضان ، ثم اعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان ، فلما كان في آخر ليلة من العشر الوسطى نزل عليه جبريل - عليه السلام - بالوحي ، وقال له : (( إن الذي تطلبه أمامك أي إن ليلة القدر في العشر التي أمامك وهي العشر الأواخر)) .
فكان عليه الصلاة والسلام معتكفا في قبة تركية ولها سدّة من حصير، فألقى الحصير على جانب القُبّة، نادى في أصحابه، فاقتربوا منه - عليه الصلاة والسلام - وقال : (( إني كنت قد اعتكفت هذه العشر، فمن كان قد اعتكف معي وأحب أن يعتكف فليعتكف فإنها في العشر الأواخر )) .
هذا الحديث يدل على مشروعيّة الاعتكاف ، وقد جاء في اللفظ الآخر : (( من أحب منكم أن يعتكف )) فدل على مشروعيته من السنة القولية .(3/363)
وقال لعمر - - رضي الله عنه - - كما في الصحيحين حينما سأله عن نذره في الجاهلية أنه - - رضي الله عنه - - نذر في الجاهلية أن يعتكف فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أوف بنذرك )) .
ومن المعلوم أنه لا يؤمر بالوفاء بنذر محرم ،كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصه فلا يعصه )) . فلما أمر عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - أن يفي بنذره دل على أن الاعتكاف مشروع .
وأما بالنسبة لدليل الفعل ؛ فقد صح عنه - عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : (( اعتكف رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - العشر الأواخر من رمضان )) ، وفي حديث ابن عمر : (( اعتكف رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - العشر الأواخر من رمضان )) وهو في الصحيحين ، ومثله حديث أنس - - رضي الله عنه -- في السنن ، فمن مجموع هذه الأحاديث نأخذ الدليل على مشروعية الاعتكاف بفعل رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - .(3/364)
وأما بالنسبة للسنة التقريرية ؛ فقد أقر الصحابة حينما اعتكفوا معه - بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه - ، ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري المتقدم عنه - - رضي الله عنه - - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ندب الصحابة الذين اعتكفوا معه أن يعتكفوا العشر الأواخر ، وبين لهم أن ليلة القدر في العشر الأواخر، فدل هذا حينما خاطبهم أن الاعتكاف لا يختص برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، وأنه للأمة وهذه سنة تقريرية منه - عليه الصلاة والسلام للصحابة أن يعتكفوا - فاجتمع دليل الكتاب ( والسنة : بجميع أنواعها : قولية ، وفعلية ، وتقريرية )، وقد أقر أمهات المؤمنين حينما اعتكفن معه ، ولكنه في المرة الأخيرة كره منهن التنافس على سبيل الغيرة ، ولم يمنعهن من الاعتكاف. وأجمع العلماء - رحمهم الله - على أن الاعتكاف مشروع ، وأنه قربة وطاعة لله - - عز وجل - - ، وأنه يتأكد استحبابه خاصة في العشر الأواخر من رمضان .
يقول المصنف - رحمه الله - : [ باب الاعتكاف ] : تقدم تعريف الاعتكاف لغة ، وأما في الاصطلاح فسيذكره المصنف - رحمه الله - ويبقى السؤال : إذا كان الاعتكاف مشروعا فما هي الحِكم التي يمكن أن تستفاد من شرعية هذه القربة والطاعة لله جل وعلا ؟
أعظم الفوائد والحِكم والنعم التي ينعم الله بها على العبد إذا اعتكف أن يتأسى برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، التأسي برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، والعمل بسنته ، ومتابعته - عليه صلوات الله وسلامه إلى يوم الدين - هذا من أعظم النعم وأجلها على العباد ، بل هو الطريق إلى الهداية ؛كما قال تعالى : {واتبعوه لعلكم تهتدون} ، فمن اعتكف تأسيا برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - -كان من المهتدين ، وأصاب من الهداية ورحمة الله - - عز وجل - - على قدر اتباعه وائتسائه برسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - .(3/365)
من فوائد الاعتكاف وحِكمه العظيمة : تفرغ القلب لله ، واستجماع الفؤاد في طاعة الله- - عز وجل - - ، فالعبد طيلة العام مشغول بفتن الدنيا ، مشغول بملهياتها ومغرياتها ، تتكابده هذه الهموم ، تنتزعه هذه الفتن والمحن حتى يقسو بها قلبه ، ويغفل بها عن ربه ، فيصبح مشتت الهم ، مبدد الفكر ، ولربما أصابه من وراء ذلك ما يصيبه من ضعف الدين ، وضعف التمسك بالطاعة ، والبعد عن المعصية ، فإذا بها تأتي أيام الاعتكاف ولياليه مدرسة إيمانية تفرغ القلوب لله ، وتستجمع الفؤاد في طاعة الله - - عز وجل - - ، ومن انصرف قلبه عن الله شتّت الله قلبه ، وفرّق أمره ، فلا يبالي به في أي أودية الدنيا هلك ، يعيش ولي الله المؤمن ساعات الاعتكاف ، ولحظات الاعتكاف في نشوة إيمانية ، وساعات روحانيّة ، مليئة بذكر الله - - سبحانه وتعالى - -وشكره والإنابة إليه .
ثلاثمائة وخمسون يوما وهو في غفلة عن ربه من فتن الدنيا ، فتأتي هذه الليالي المباركات ، والأيام الطيبات ، لكي تقربه إلى الله ، وتحببه في طاعة الله ، وتعرفه بفضل الباقيات الصالحات ، وما لها من أثر على نفوس المؤمنين والمؤمنات ، فيطمئن قلبه ، وينشرح صدره ، ويتجه إلى الله بكليته ، فمن الناس من يخرج من الاعتكاف صالح السريرة صالح السيرة ، فيستقيم على طاعة ربه إلى لقاء الله - - جل جلاله - - .
ومن الناس من هو دون ذلك ، والمحروم من حرم ، فمن مستقلّ ومستكثر، فمن حكم هذه العبادة وفوائدها الجليلة : أنها تربي النفوس على طاعة الله - - عز وجل - - ، ويشعر العبد بقيمة الانحباس، في مرضات ملك الجِنة والناس، جعلنا الله وإياكم من المنتفعين بطاعته ، إنه ولي ذلك والقادر عليه .(3/366)
[ وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه ] : يقول المصنف - رحمه الله – [ وهو ] : أي الاعتكاف [ لزوم المسجد ] : يقال : لزم الشيء يلزمه لزوما إذا صاحبه ولم يفارقه ، ومنه سميت ملازمة الغريم لغريمه أي المديون فإنه لا يفارقه ؛ طلبا لحقه ، وأصل اللّزام : المصاحبة وعدم افتراق الشيء عن الشيء ؛ ومنه قوله تعالى:{فقد كذبتم فسوف يكون لزاما } أي عذابا يلازمكم فلا يفارقكم ، وهو أحد القولين في تفسير الآية ، هناك قول ثان عن ابن مسعود وأبي بن كعب - رضي الله عنهما - أن قوله: { فقد كذبتم فسوف يكون لزاما } المراد به الفصل ، وكانا - رضي الله عنهما - يفسران الآية بأنها يوم بدر، حيث فصل الله فيه بين الحق والباطل ، وبين الهدى والضلال ، ولذلك سماه الله يوم الفرقان ، ومن هنا يكون اللزام من الأضداد ، وفي لغة العرب كلمات تستعمل بمعنيين متضادين تسمى الأضداد، كوراء أمامك و خلفك .
يقول المصنف - رحمه الله - : [ الاعتكاف وهو لزوم ] : عُبّر باللزوم وعُبر بالمجاورة وعُبّر بالإقامة وعُبّر باللبث، أربعة تعبيرات واردة عن السلف - رحمهم الله - ، وأيضا في الكتاب لها أصل ، وعن أئمة العلم - رحمهم الله برحمته الواسعة - .
فأما التعبير بالإقامة ؛ فقد قال تعالى : { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والقائمين والركع السجود} وقال في الآية الثانية : { أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين } قال بعض العلماء : القرآن يفسر بعضه بعضا ، فقوله : { والقائمين} : المراد به المعتكفون ، فتكون الآية الثانية فسرت الآية الأولى، ومن هنا قالوا : إن الاعتكاف إقامة ؛ لأن المعتكف يقيم على طاعة الله ومرضاته .
وأيضا عبر بالمجاورة ، ومنه حديث عائشة - رضي الله عنها - في صحيح البخاري أنها قالت : (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصغي إلي رأسه فأرجّلُه وهو مجاورٌ في المسجد )) .(3/367)
فقولها - رضي الله عنها – (( وهو مجاور في المسجد )) يعني معتكف ، فيعبر عن الاعتكاف بالمجاورة ، ويعبر باللبث ؛ ولذلك عرفه الأئمة - ومنهم الإمام النووي رحمه الله - بقوله : (( هو اللبث في المسجد )) .
هذه التعبيرات تدور حول معان متقاربة ، فكل العلماء - رحمهم الله - متفقون على أن المعتكف يلزم المسجد ، ولا يخرج عن المسجد إلا من حاجة وضرورة ، ولما كان ملازما للمسجد ، قيل : إن اعتكافه هو لزوم المسجد، إذا كانت هذه هي الحقيقة فإن اللزوم يكون بالجسد ، فلا يخرج من المسجد ، فإذا خرج نظرنا فلو خرج كله لحاجة وضرورة فإنه معذور، وإن خرج لغير حاجة خرج عن كونه معتكفا .
ومن هنا أجمع العلماء على أنه لو اعتكف شخص في المسجد ، ثم خرج منه من دون وجود حاجة أنه قد بطل اعتكافه ولو خرج للحظة واحدة ، مادام أنه خرج وانفصل عن المسجد بدون عذر فقد خرج عن كونه معتكفا، ولابد له إذا أراد أن يعود إلى الاعتكاف من أن يجدد النية ، وهذا طبعا راجع إلى الجسد كله ، فإذا خرج البعض كيده ورأسه ورجله فليس بخروج ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أخرج رأسه من المسجد ولم يعتبر ذلك مخالفا للزوم أي للزوم الجسد كله ، ومن هنا قال العلماء - رحمهم الله - : إن الجزء لا يأخذ حكم الكل في مسائل ، ومنها هذه المسألة ، وإلا قد يأخذ حكم الكل كما لو قال : يدك طالق ، فإنه يأخذ حكم قوله : أنت طالق ، على كل حال الشاهد معنا أن اللزوم المراد به المجاورة للمسجد وعدم الخروج منه .
يقول رحمه الله : [ وهو لزوم المسجد ٍ] : المحل الذي يلازمه الإنسان ولا يفارقه هو موضع الاعتكاف ، والمسجد: اسم مكان مَفْعِل ،كالمَجْلِس والمَوْقِد مكان الوقود ومكان الجلوس .(3/368)
المسجد إما أن يكون مسجد جمعة وجماعة ، وإما أن يكون مسجد جماعة لا جمعة ، فإن كان مسجد جمعة وجماعة يعني تصلى فيه الجمعة وتصلى فيه الفروض الخمس ؛ فإنه لا إشكال في جواز الاعتكاف فيه ، وأما إذا كان مسجد جماعة لا جمعة يعني يصلون فيه الفروض الخمسة ولكن لا يصلون فيه الجمعة فهذا فيه تفصيل بالنسبة للشخص الذي ينوي اعتكاف أيام معينة وليالي معينة ، ولا يدخل فيها يوم الجمعة ، فهذا أمره يسير يعتكف فيه ، وأما إذا كان قد نوى اعتكاف العشر كاملة أو نوى اعتكاف أيام فيها يوم الجمعة ، فاختلف العلماء فيه على وجهين :
منهم من يقول : إنه لا يعتكف في مثل هذا خاصة إذا كان الاعتكاف واجبا ؛ لأنه في هذه الحالة يجب عليه ملازمة المسجد ، وصلاة الجمعة فرض عليه ، فيؤدي هذا إلى التعارض ، فإما أن يفسد اعتكافه بالخروج ، وإما أن يعطل الجمعة ، ولا يجوز للمسلم أن يترك الجمعة من دون عذر.
ومن هنا شددوا في المسجد الذي تقام فيه الجماعة ولا تقام فيه الجمعة .
وهناك قول ثان : أنه يجوز للمسلم إذا اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة أن يخرج للجمعة ؛ وذلك لأنه قد جلس في هذا المسجد لطاعة الله - - عز وجل - - ، وخرج لفرض لازم عليه وهو الجمعة ، فيكون ذلك جائزًا له ؛ لأن الله فرض عليه الخروج ، وهو في خروجه يتعبد ويتقرب لله - - عز وجل - -كما لو كان داخل المسجد، قالوا وإذا كان يخرج لحاجته من بول وغائط ، فمن باب أولى أن يخرج لفريضة الله - - عز وجل - - وخففوا في هذا .(3/369)
يقول المصنف : [ لزوم المسجد ] : مفهومه أنه لا يقع الاعتكاف في غير المسجد ، وبناء على ذلك فلو أن شخصا جلس في كهف ونوى الاعتكاف فإنه ليس باعتكاف شرعي ؛ لأن الاعتكاف مخصوص بالمسجد ؛ ولذلك قال تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }ثم المساجد التي هي محل للإعتكاف تتفاضل وتتفاوت ، فأفضل ما يكون الاعتكاف إذا كان في مساجد الأنبياء ، ثم يلي ذلك المساجد المفضلة ، والتفضيل له أصول في الشريعة ، فمن المساجد ما يكون فضله بقدم الزمان ، ومنها ما يكون فضله بكثرة العدد ، ومنها ما يكون فضله داخل الصلاة بالخشوع والتأثر بالإمام .
فأما بالنسبة لمساجد الأنبياء وهي المساجد الثلاثة : المسجد الحرام ، و المسجد النبوي ، والمسجد الأقصى ، فهذه مجمع من حيث الأصل على جواز الاعتكاف فيها إلا أن بعض العلماء من السلف وهو قول سعيد بن المسيب يخص الاعتكاف في مسجد المدينة ، ومنهم من يخص الاعتكاف بمسجد مكة ،كعطاء ، ومنهم من يخص بالمساجد الثلاثة كحذيفة بن اليمان ، ويروى أيضا عن مجاهد .
والصحيح مذهب الجمهور - رحمهم الله - أن الاعتكاف لا يختص بهذه المساجد الثلاثة ؛ وذلك أن الله تعالى يقول : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }فدل على أن المساجد محل للاعتكاف ، ولم يفرق الله بين مسجد وآخر، ووصف من كان معتكفا في المسجد أنه معتكف .
أما حديث (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) فهذا أولا أجيب عنه من ناحية السند ؛ لأنه تكلّم في سنده ، وعلى القول بتحسين سنده فإنه يحمل على الكمال : أي لا اعتكاف كامل ، وأعظم ثوابا من الاعتكاف في المساجد الثلاثة . وهذا صحيح فإن القاعدة في الشريعة : (( أن النفي المسلط على الحقائق الشرعية إذا عارض أصولا وأدلة وجب صرفه عن ظاهره إلى الكمال أو إلى المبالغة )) ؛ ولهذا نظائر منها :(3/370)
قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( لا ربا إلا في النسيئة )) فإن هذا يبيّن أن أشد ما يكون الربا في النسيئة ولا ينفي ربا الفضل الذي دلت عليه عشرات الأحاديث ، وأجمع عليه العلماء - رحمهم الله - إلا قولا شاذا بجواز ربا الفضل ، وكقوله – عليه الصلاة والسلام - : (( لا إيمان لمن لا أمانة له )) ونحوه من الأحاديث .
فعهدنا من الشريعة أنها تبالغ تعظيما للشيء ، ونظرنا في قوله : (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) ووجدنا في المساجد الثلاثة مزية لا توجد في غيرها ، ففهمنا أن المراد به التعظيم والتفضيل لهذه المساجد حتى يكون المسلم حريصا على الاعتكاف فيها ، مفضلا اعتكافه فيها على غيرها ، فوجدنا في مسجد الكعبة فضيلة لا توجد في غيره ، وهي فضيلة الطواف ، ووجدنا فيه فضيلة مضاعفة الصلاة بمائة ألف صلاة ، ولا توجد في غيره ، ووجدنا فيه قدم الموضع ، ووجدنا في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فضيلة المضاعفة بألف صلاة ، ووجدنا في المسجد الأقصى فضيلة المضاعفة إلى خمسمائة ، فلما وجدت فيها هذه الفضائل بنصوص الشريعة علمنا أن قوله : (( لا اعتكاف )) أي لا اعتكاف كامل ،كقوله : (( لا إيمان لمن لا أمانة له )) وكقوله : (( لا ربا إلا في النسيئة )) وكقوله : (( الحج عرفة )) كل ذلك يقصد به التعظيم ، وليس المراد به نفي ما عداه ، وهذا هو قول جماهير السلف والخلف - رحمهم الله - ثم إن حديث : (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) فيه قصة مشهورة : حاصلها أن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - وعن أبيه جاء إلى عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - ، وتعرفون عبد الله بن مسعود - - رضي الله عنه - - ومكانته في الفقه قد كان من أئمة الفتوى على زمان الصحابة - رضي الله عنهم - ، وقال عنه عمر - - رضي الله عنه - -: (( كُنَيْفٌ ملئ علما )) وقال عنه أيضا لأهل الكوفة : ( أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين ) إشارة إلى علمه وفضله(3/371)
.
هذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود قال له حذيفة : أعجبك من قوم اعتكفوا بين دارك ودار الأشعري ، فقال له عبد الله بن مسعود : وما يدريك فلعلهم أصابوا وأخطأت ، هذا المقطع طبعا موثق وثابت عنهما ، في قضية حذيفة حينما يقول له : قوم اعتكفوا بين دارك ودار الأشعري يعني في المسجد ، ولذلك جاءت في الرواية الأخرى وقد قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - : (( لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة )) وكان حذيفة يرى هذا ، فعبد الله رد ذلك ، وقال : وما يدريك فلعلهم أصابوا وأخطأت أي أن الحديث ليس على ظاهره بنفي صحة الاعتكاف ، وإنما هو على الكمال لا على نفي الصحة ، هذا يدلنا على مسائل تحتاج إلى نظر منها : أن الصحابة لم يتفقوا على دلالة هذا الحديث على إلغاء الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة ، ووجدنا أن من أنكر نفي الصحة أقوى ممن أثبته فقها وعلماً ؛ لأنه من أهل الفتوى من الصحابة – رضي الله عنهم- وهو عبدالله بن مسعود فيقدم قوله على قول غيره ، فيكون من حمل على نفي الكمال أقوى ممن حمل على نفي الصحة ، ومن هنا ترجح هذا القول مع أن الأصول الشرعية كما في عموم الكتاب تدل على رجحانه ، ومن هنا كان القول بالعموم وهو أنه يصح الاعتكاف في كل مسجد أولى بالاعتبار.
قال المصنف - رحمه الله – [ وهو لزوم المسجد ] فعمم رحمه الله ، وبهذا يتبين أن الاعتكاف لا يختص بالمساجد الثلاثة .(3/372)
قال [ المسجد ] : المسجد كما ذكرنا هو مكان العبادة ، وبيت العبادة المعروف ، لكن يدخل في هذا سقف المسجد ، وأيضا خلوات المسجد التي هي في أسفله كما في المسجد الحرام ، فمن صعد إلى سطح المسجد لم يؤثر ذلك في اعتكافه ، ومن نزل إلى الخلوات أو السراديب التي تحت المسجد لم يؤثر ذلك في اعتكافه ، واعتكافه صحيح ، بشرط أن يكون النزول والطلوع إلى سطح المسجد من داخل المسجد لا من خارجه ، فلو خرج من باب لكي يصعد إلى سطح المسجد فقد بطل اعتكافه ؛ لأن هذا الخروج ليس لحاجة ضرورية من أكل وشرب أو قضاء الحاجة من بول وغائط ونحو ذلك ، وبناء على ذلك لابد وأن يكون الصعود إلى السطح أو النزول إلى الخلوات من داخل المسجد لا من خارج المسجد ، وهذا نص عليه الأئمة - رحمهم الله - ، وأما منارة المسجد إذا كان المسجد يؤذن فيه المؤذن وأراد أن يعتكف فقالوا : إن المنارة إذا اتصلت بالمسجد وكان دخولها من المسجد كما هو موجود في كثير من المنارات في المساجد فإنه لا يؤثر ذلك في الاعتكاف .
بقي رحبة المسجد ، ورحبة المسجد هي ما يلتحق بالمسجد تنقسم إلى قسمين : القسم الأول أن تكون الرحبة مسورة ومحاطة بسور ولها أبواب ، فالقول الذي اختاره جمع من الأئمة - رحمهم الله - أنها في حكم المسجد ، لا تدخله الحائض ولا النفساء ولا يبطل خروج المعتكف إليه ، وهي في حكم المسجد ، ومن هنا قالوا إن من خرج إليه معتكفا لم يؤثر ذلك في اعتكافه .
وأما إذا كانت الرحبة غير محفوظة وسابلة ، والناس تقبل فيها وتدبر، فإنها لا تعدّ من المسجد ولا يصح الاعتكاف فيها . هذا القول المختار عند طائفة من المحققين من الأئمة - رحمهم الله – وقد أشار إلى هذين القولين الإمام الموفق –رحمه الله- في المغني ، وغيره من الأئمة .(3/373)
يقول رحمه الله [ لزوم المسجد لطاعة الله ] : أي من أجل طاعة الله وهذا أصل عند العلماء أن المقصود من الاعتكاف طاعة الله ، لكنه في رمضان يلزم المسجد طلبا للطاعة ورجاء لليلة القدر، كما ثبت عن النبي - - صلى الله عليه وسلم -- ومن هنا تأكد استحباب الاعتكاف في العشر الأواخر أكثر من غيرها ، وأما فيما سواها ممكن أن يعتكف لذكر الله - - عز وجل - - أو ينذر أن يعتكف في المسجد يوما أو يومين من أجل أن يشكر الله على نعمة أو ذهاب نقمة فلا بأس بذلك ولا حرج ؛ لأن السنة في حديث عمر –- رضي الله عنه - - في نذر الاعتكاف أصل في جواز الاعتكاف عموماً، وأحاديث العشر أصل في أفضل الاعتكاف وآكده .
[ لطاعة الله ] : من لزم المسجد لطاعة الله يلزمه لطاعة واجبة أو لطاعة مستحبة ، وقد يكون اللزوم لمعصية أو لغير طاعة ومعصية ، فالأقسام ثلاثة : إما أن يلزمه لطاعة الله سواء الواجبة ، أو المستحبة ، أو يلزمه لمعصية ، أو يلزم المسجد لا طاعة ولا معصية ، فإن لزم المسجد لطاعة الله الواجبة والمستحبة فلا إشكال ، الواجبة ، مثل : أن ينوي الاعتكاف لصلاة الجمعة ، وقت صلاة الجمعة على القول بأن الاعتكاف لا حد له أقلي فيكون لزومه مشغولا بواجب وهو صلاة الجمعة ينتهي بانتهائه .
والطاعة المستحبة ، مثل : اعتكاف العشر الأواخر تأسياً .(3/374)
وإن لزم لمعصية - والعياذ بالله- فمثل من يعتكف من أجل أن يراه الناس معتكفا أو يعتكف من أجل أن يشهد له أنه من الصالحين ، أو يعتكف من أجل أن يغرر بطلاب العلم وبالأخيار أنه منهم فهذا - والعياذ بالله - من حصب جهنم ؛ لأنه لا يهلك العبد مثل الرياء وهو الشرك الأصغر {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } هؤلاء - نسأل الله السلامة والعافية - المراءون يوقفهم الله يوم القيامة ويقول لهم اذهبوا فخذوا أجركم ممن عملتم له - نسأل الله السلامة والعافية - ، فمن اعتكف وفي نيته نظر الناس أو ثناء الناس أو سماع الناس أنه معتكف في مكة ، أو من أجل أن جيرانه وأصحابه وقرناءه إذا جاءوا إلى منزله يسألون عنه علموا أنه في طاعة وقربة ، وقصد ذلك ولم يقصد وجه الله - - عز وجل - - فإنه - والعياذ بالله - في معصية الله - عز وجل - ، ويكون اللزوم لا طاعة ولا معصية مثل : - نسأل الله السلامة والعافية - اعتكاف الغفلة ، الشخص يدخل المسجد ومعه أصحابه وأحبابه ومعه رفقة إن ذهبوا إلى الخير فمعهم على الخير، وإن ذهبوا إلى الشر فإلى شر، فيدخل المسجد وليس في نيته أن يعتكف ولكن مجاملة لزيد أو عمرو ، وليس هناك نية للاعتكاف ، أو يعتكف من أجل أن يروح عن نفسه ، أو أنه إذا سافر مع الأصحاب والأحباب أنس بهم ، ومن هنا كان أمر النية أمرا شديدا على الصالحين والأخيار ، وقال سفيان - رحمه الله - : (( ما وجدت شيئا أشدّ عليّ من نيتي إنها تتقلّب عليّ ))، وكان السلف الصالح - رحمهم الله - يجاهدون ويجتهدون مع أنهم في الأعمال الصالحة والقربات الفاضلة كيف يخلصون لله - - عز وجل - - ، والعبد تجده يخاف خوفا شديدا من أن يُدْخَل من نيته ، فلربما جاء الشخص وحدث غيره أنه معتكف فدخله الغرور باعتكافه ، ولربما انصرف شيء من قلبه إلى غير الله - - عز وجل - - ، فالنية مهمة جدا وهي الأساس ، ومن هنا لابد من النظر إلى أن الاعتكاف لا يقصد به إلا طاعة(3/375)
الله - - جل جلاله - - ، وأن أساسه وروحه ولبه الذي لا يمكن أن يصح إلا به إرادة وجه الله - - عز وجل - - ، التوحيد والإخلاص لله - - سبحانه وتعالى - - ونفي الشرك من الرياء والدَّخَن ، وطلب المدح والثناء من الناس ، فما عند الناس ينفد وما عند الله باق ، ولذلك ينبغي للمسلم أن يجتهد في هذا .
يقول رحمه الله : [ لزوم المسجد لطاعة الله ] : أي من أجل طاعة الله - - عز وجل - - .
[ وهو سنة ] : وهو أي الاعتكاف حكمه في الشريعة سنة ، المقطع الأول : تعريف ، والمقطع الثاني : حكم ، والأصل أن يقدم التعريف على الحكم ؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، ومن عادة العلماء أن يقدموا التعاريف على الأحكام ، فقدم رحمه الله تعريف الاعتكاف وبيان حقيقته الشرعية ، وأضاف بعض العلماء قيدا في هذا التعريف بقوله : بنية مخصوصة ، وهذا كما ذكرنا على الأصل ، وهذا القيد في الحقيقة معتبر وصحيح ؛ لأن قوله - رحمه الله - : [ الاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله فيه ]يصدق على الشخص وهو غير معتكف ، فإنه ربما جئت ودخلت المسجد ولزمت المسجد - مثلا - بعد صلاة الظهر صليت الظهر ونويت أن تجلس إلى العصر حتى تنال فضيلة المرابطين في قوله – عليه الصلاة والسلام-: (( فذلكم الرباط )) ولم تنو اعتكافا فقد لزمت المسجد لطاعة الله - - عز وجل - - لكنك غير معتكف ، فدخل في التعريف ما ليس منه ، ومن هنا قالوا : حتى يكون التعريف مانعا يقول : بنية مخصوصة ، فينوي أنه معتكف ، ولابد من وجود هذا القيد وأشار إلى هذا شيخ الإسلام - رحمه الله - في شرحه .(3/376)
[ وهو سنة ] : أي الاعتكاف ، أجمع العلماء على أنه سنة من سنن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، والدليل على سنيته ما تقدم معنا من حديث عائشة - رضي الله عنها - وأبي سعيد وعمر بن الخطاب وأنس - رضي الله عن الجميع - كلها تدل على مشروعية الاعتكاف ، والإجماع منعقد على أنه سنة ، لكن تتأكد هذه السنية في العشر الأواخر ، ولا تتقيد بالعشر الأواخر ، بمعنى أنه لا يحرم الاعتكاف في غير العشر الأواخر ، والدليل على ذلك ما صح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه اعتكف العشر من شوال ، وهذا يدل على أن العشر من شوال محل للاعتكاف ، فإن قال قائل : إنها بدل عن العشر الأواخر ، قلنا : إن صيام الأيام المعدودات بدل عن رمضان ومع ذلك يصح صيامها طاعة وقربة ، فدل على أن غير رمضان محل للاعتكاف ، وهذا قول جماهير السلف والخلف - رحمهم الله - أن الاعتكاف لا يختص برمضان ، ومن هنا يجوز للمسلم أن يعتكف في سائر أيام السنة ، ويؤكد هذا قوله - عليه الصلاة والسلام - لعمر : (( أوف بنذرك )) فإن عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - قال : يا رسول الله ، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، ولم يسأله هل هي من رمضان أو غير رمضان ، والقاعدة في الأصول : أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، أي أوف بنذرك في رمضان أو غيره ، وهذا يدل على أنه لا يتقيد الاعتكاف برمضان ، وهو سنة مؤكدة إذا كان في العشر الأواخر طلبا لليلة القدر ، ويتأكد الاستحباب في ليالي الوتر على ظاهر السنة أنها أرجى لليلة القدر .(3/377)
وقوله - رحمه الله – : [ إلا أن يكون نذرا ] : فإذا كان نذرا يعني قال : لله علي أن أعتكف ثلاث ليال ، أو أعتكف عشرة أيام ، فإذا قال : عشرة أيام دخل الليل والنهار ، فيجب عليه أن يعتكف ليلها ونهارها ، وإذا قال : ثلاث ليال من أهل العلم من قال : يختص الاعتكاف بالليل فيدخل قبل غروب الشمس ويخرج بعد طلوع الشمس ، ثم يكون النهار مخيرا فيه ، وإذا نوى التتابع لزمه التتابع ، وإذا لم ينو التتابع صدقت عليها مفرقة كما تصدق عليها متتابعة .
الدليل على أن النذر يكون في الاعتكاف - طبعا - حديث عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - أنه سأل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وقال : إني كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ فقال له النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( أوف بنذرك )) فهذا يدل على أن النذر لازم ، وأن من نذر الاعتكاف وجب عليه الوفاء لقوله : (( أوف )) وأوف أمر ، والأمر للوجوب ، ومن هنا قالوا : يجب عليه أن يفي بنذرالاعتكاف إذا نذره .
[ ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ] : ويصح الاعتكاف من كل امرأة ، بهذه الجملة بدأ في بيان شروط صحة الاعتكاف، وشروط صحة الاعتكاف أولا : الإسلام ، فلا يصح الاعتكاف من كافر ؛ قال تعالى : {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } فأخبر أنه لا عمل ولا قربة ولا طاعة للكافر إلا بعد توحيده وإسلامه .(3/378)
ثانيا : العقل ، فلا يصح الاعتكاف من مجنون ، ولو أنه كان معتكفا فجن وكان جنونه يسيرا قال طائفة من العلماء : لا يسقط الاعتكاف ولا يجب عليه أن يجدد النية ، والأحوط القول الثاني : أنه يجدد احتياطا ، وفي حكم هذا لو سكر - والعياذ بالله - أو خُدِّر فغاب عقله ، أو أغمي عليه ، الإغماء مذهب طائفة من أهل العلم أنه لا يؤثر ما لم يكن متفاحشا ، ثالثا : الطهارة من الحدث الأكبر ، فلا يكون جنبا ، فإذا أجنب لا يصح أن ينوي الاعتكاف وهو جنب ، وإنما يكون بعد أن يتطهر ، فلو قال : لله علي أن أعتكف هذه الساعة وهو جنب ؛ لا يصح منه أن يفي بنذره وهو جنب، لابد أن يتطهر ثم يفي بنذره ويعتكف ، كذلك أيضا لا يصح من حائض ، فالمرأة إذا حاضت وهي معتكفة وجب عليها الخروج من المسجد قولا واحدا عند العلماء - رحمهم الله - ؛ لأن الحائض لا يجوز لها دخول المسجد ، وقد كانت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تمتنع من الدخول للمسجد ، بل كان رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يدني ويصغي إليها رأسه لأجل ألا تضطر إلى الدخول للمسجد ، وليس هناك مانع إلا الحيض فدل على أن الحائض لا يجوز لها أن تدخل المسجد ولا أن تعتكف حال حيضها ، رابعاً: النية : لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) فلا يصح الاعتكاف بدون نية ، فيقع قربة عامة ، لكنه لا يكون اعتكافا إلا إذا نوى أنه معتكف ، فإذا لم ينو وجلس في المسجد مدة ولزمه فإنه لا يحكم بكونه معتكفا لعدم النية، وهكذا إذا نذره وجلس مدة النذر في المسجد ولزمه دون النية في ابتدائه لم يصح اعتكافه ولم يجزه عن النذر.(3/379)
قال رحمه الله : [ يصح من كل امرأة ] : المرأة يشترط فيها شرط زائد وهو إذن الزوج ، يأذن لها زوجها إن كانت ذات زوج ، والأصل في هذا أن حق الزوج متعين عليها ، والاعتكاف ليس بواجب عليها ، والقول فيها كالقول في البر للوالدين فيمن تعين عليه ، وكذلك فصلوا في مسألة العبد مع سيده .
[ ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ] : ويصح من المرأة إذا كانت المرأة كبيرة لا إشكال ، وأما إذا كانت شابة فإنه ينظر في أمرها ، طبعا من حيث الأصل لا يفتى باعتكاف النساء في المسجد إلا عند أمن الفتنة ، فإذا كان اعتكافهن داخل المسجد فيه ضرر عليهن في أعراضهن ، أو يتعرضن في بعض المساجد - لا قدر الله – للفتنة فلا يجوز ؛ لأن الفتنة في بيوت الله أعظم من الفتنة في غيرها ، والذنب داخل المسجد أعظم من الذنب خارج المسجد ، ولذلك إذا كانت المرأة تفتن نفسها ويفتن بها غيرها ، ويغلب على ظنها أنها تفتن غيرها فإنها تلزم بيتها ، وصلاتها في بيتها ولزومها لبيتها خير لها وللناس ؛ كما قالت فاطمة - رضي الله عنها - : (( خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال )) ، إذا غلب على الظن أنها فتنة ، وأما إذا كانت صغيرة ، طبعا الصغير ذكرا كان أو أنثى ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : الصبي المميز الذي يميز الأمور ويعقل ويفهم ، وهو الذي يفهم الخطاب ويحسن الجواب، بعض العلماء يرى التمييز من سبع سنين ؛ لأنه هو الذي أُمر بالصلاة فيه ، فإذا كان الصبي الذي يأخذ معه من سبع سنوات فما بعد يصح اعتكافه في قول طائفة من العلماء - رحمهم الله - ، وهكذا الصبية إذا أخذتها أمها .(3/380)
القسم الثاني : الصبي غير المميز وهو الذي لا يفهم الخطاب ولا يحسن الجواب ، ومنهم من جعله دون السابعة ، وهكذا الصبية الأنثى ؛ فهذا القسم لا يصح اعتكافه . واصطحابه إلى المسجد من النساء والرجال فيه تفصيل : إن كان يؤذي ويضر بالمصلين فلا يجوز، وإلا فلا بأس لمصلحة تعويده على الخير . ولكن لا يصح اعتكافه وجهاً واحداً .
وبناء على ما تقدم فقول المصنف – رحمه الله - : [ ويصح من كل امرأة ] فيه منطوق ومفهوم ، فمنطوقه أن الاعتكاف يصح من كل امرأة سواء كانت ذات زوج أو لا زوج لها، ومفهومه أنه لا يصح من الصغيرة ، لكن الصغيرة فيها تفصيل : إن كانت مميزة كما تقدم صح اعتكافها كما تصح صلاته وحجها ، وإن كانت غير مميزة فلا يصح اعتكافها .
: [ ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ] : [ في كل مسجد غير مسجد بيتها ] : المرأة لها ثلاثة مساجد : المسجد الأول : مسجدها في مخدعها الخاص ، والمراد به مكان صلاتها داخل خبائها ؛ لأنها لا تجب عليها الجماعة . والمسجد الثاني : داخل البيت ، الذي ربما صلت فيه مع زوجها وأولادها، ، والمسجد الثالث مسجد الحي .
بالنسبة لمسجدها في مخدعها وهو مسجد السر الذي في نفس غرفتها الخاصة وخبائها فهذا أفضل ما تكون فيه صلاتها ، لما فيه من الإخلاص والبعد عن الرياء ، هذا معنى قوله : (( خير لها )) .
وصلاتها في مسجدها داخل البيت وهذا مسجد نسبي أفضل من صلاتها في مسجد الحي ، وصلاتها في مسجد الحي أفضل من صلاتها في المسجد الذي هو أبعد ، فكلما كان أقرب إلى الستر كان خيرا لها وأفضل ؛ لأنه أبعد عن الفتنة ، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، يصح منها إلا مسجد بيتها ، فاستثنى المصنف -رحمه الله - مسجد البيت لا تصح فيه ، وبناء على ذلك لو كان هناك مصلى ونوى أحد أن يعتكف فيه لا يصح .(3/381)
[ ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ] : هذا مبني على اشتراط الجماعة - وقد تقدم معنا دليل ذلك ، ومن قال به من أهل العلم - رحمهم الله - ، فالرجل مأمور بالجماعة فإذا كان مأمورا بالجماعة فإنه لا يصح منه أن يعتكف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ، وفيه شيء مرفوع إلى النبي - - صلى الله عليه وسلم - - اختلف في ثبوته ، والعمل عند طائفة من العلماء على ضعفه (( لا اعتكاف إلا في مسجد تصلى فيه الجماعة )) وعن عائشة وفيه ضعف لكن على كل حال من حيث النظر ما ذكرنا خاصة على المذهب الذي يرى وجوب الصلاة مع الجماعة وبينا دليل ذلك ووجهه ، فالرجل لو أنه اعتكف في مسجد لا تقام فيه الجماعة ومن أمثلة ذلك المسجد الذي تقام فيه الجماعة في بعض الفروض دون بعضها فمثلا بعض العمال ينزلون في موضع يصلون فيه فرضين أو ثلاثة فروض ثم ينصرفون ويبقى المسجد كما هو مبنيا وعامراً ولكن لا يأتي هؤلاء المصلون إلا في النهار، فيصلون فيه الظهر والعصر فقط ، لكن لو أنهم استقروا لصلوا جميع الفروض ، فلو مثلا حارس هذا المسجد سأل : هل يشرع له أن يعتكف في هذا المسجد ؟ الجواب : مسجد جماعة وهو في الأصل مهيأ للجماعة ، فمثل هذا استثناه بعض مشايخنا وهو قول دقيق جدا ، واستثناء جيد ؛ لأنه في هذه الحالة المسجد مسجد جماعة ، والتعطيل ليس منه ؛ لأنه أصلا لا يوجد إلا جماعته في مسجده ، وجاء هذا لعارض وهو فوات الناس في بقية الفروض فبقي حكم المسجد مستصحبا له في الفروض بالنسبة له في خاصته فيؤذن فيه ويصلي ويأخذ حكم المسجد ولو صلى فيه بقية الفروض وحده لما ذكرنا.(3/382)
[ واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل ] : لأنا قلنا المساجد مساجد جمعة وجماعة ، ومساجد جماعة لا جمعة ، فالمسجد الذي تقام فيه الجمعة وهو المسجد الجامع أفضل، والأصل أن الجمعة لا يجوز تكرارها في المدينة ، وهذا أصل عند أهل العلم ، ولذلك في سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - -كانت الجمعة لا تقام إلا في مسجده - عليه الصلاة والسلام - ، وفي عهد الخلفاء الراشدين كله لم تقم في قباء ، وكانت الجمعة خاصة في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم --، ولكن لما كثر الناس واحتيج إلى التعدد ؛ جاز التعدد لكن يجب أن يكون بالضرورة والحاجة ، وليس كل أهل حيّ يجدّدون حيا يمتنعون من الذهاب إلى الحي المجاور، وربما يكون ذلك عنادا ونوعا من التنافس فيحدثون جمعة عندهم ، فهذا شدد فيه الأئمة والسلف - رحمهم الله - ، بل قالوا إن الجمعة الثانية لا تصح إذا لم توجد حاجة لأن هذا المسجد الثاني أشبه بمسجد الضرار إذا قصد منه إقامة الجمعة ؛ لأن الأصل أن الجمعة لا تتعدد ، وقد تكلم على هذه المسألة الإمام ابن قدامة - رحمه الله - في المغني وتكلم عليها أيضا الإمام النووي وغيرهم - رحمة الله عليهم - بينوا أن تكرار الجمعة لا يكون إلا عند الضرورة والحاجة ، وأول تكرار وقع في عهد الرشيد - رحمه الله - وهذا يعني بعد عصر بني أمية وفي أوائل دولة بني العباس ، وأفتاه بذلك الإمام محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي يوسف لأنهم كانوا في شطري بغداد إذا أراد أن يعبر أهل الشطر الثاني سقطوا في النهر عند الازدحام ، فقتلت الأنفس وتعرضوا للضرورة ، فاحتاجوا أن يحدثوا جمعة ثانية في الشطر الثاني من دجلة، ومع ذلك أفتاهم أن يصلوا الظهر احتياطا . من الاحتياط والتورع في شدة أمر هذه العبادة ، فنحن لا نقول : إنه ما تكرر، تكرر لكن عند الحاجة ، تكرر ولا يفتح الباب هكذا ،كل أهل حي يفتحون مسجدا يصلون فيه ويجمعون فيه .(3/383)
الشاهد أن المصنف يقول مسجد جمعة بالنسبة للرجل أفضل ، مفهوم ذلك أنه لا يعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة فاعتكافه صحيح ، وهذا يختاره جمع من الأئمة ، ويقولون : إنه يخرج إلى صلاة الجمعة وبينا دليل ذلك .
[ ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره إلا المساجد الثلاثة ] : ومن نذر الاعتكاف في مسجد فله أن يفعله في غيره : إذا عين المسجد يجب عليه ذلك المسجد ، لكن لو عين مسجدا من غير المساجد الثلاثة ، فله أن يفعله في واحد من المساجد الثلاثة ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صح عنه أنه يوم الفتح جاءه رجل وقال : يا رسول الله ، إني نذرت إن فتح الله عليك لأعتكفن في المسجد الأقصى . فقال عليه الصلاة والسلام : (( اعتكفها ههنا يعني في المسجد الحرام )) فأصرّ الرجل فردّ عليه - عليه الصلاة والسلام - وأمره أن يعتكف في المسجد الحرام ؛ فدل على أن المساجد الثلاثة تقوم عن غيرها ، وغيرها لا يقوم عنها ، لكن المساجد الثلاثة يقوم بعضها عن بعض ، فالأفضل يقوم عن المفضول ، والمفضول لا يقوم عن الأفضل ، فمن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام ومسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ويجزيه ، ولو نذر أن يعتكف في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - جاز أن يعتكف في المسجد الحرام ومسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - دون الأقصى ودون غيرها من المساجد ، ومن هنا قالوا : إن الأفضل يغني عن غيره ولا يغني المفضول عنه ، ولذلك لو نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لا يجزيه أن يعتكف في مسجد النبي -- صلى الله عليه وسلم - - ؛ لأنه أفضل واللزوم فيه أوجب وآكد ، ومن هنا قالوا : يجب عليه أن يفي بنذره في مكة ، وهكذا لو نذر في المدينة لا يفي في بيت المقدس ، هذا مراده - رحمه الله - .
[ فإذا نذر ذلك في المسجد الحرام لزمه ] : لأنه هو أفضلها وغيرها لا يجزي عنه يجزي عن غيره وغيره لا يجزي عنه .(3/384)
[ وإن نذر الاعتكاف في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام ] : لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صرف الرجل من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ؛ فدل على أن الأمر مستتبع للفضيلة ، والنظير يأخذ حكم نظيره ، فلو نذر في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أجزأه في المسجد الحرام .
[ وإن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى فله فعله في أيهما أحب ] : يعني في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أو المسجد الحرام . طبعا أفضل المساجد المسجد الحرام ، ثم يليه مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ثم يليه المسجد الأقصى ، والفضيلة الخاصة بالمساجد : كمسجد قباء له فضيلة العمرة ،كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من تطهر في بيته ثم أتى قباء فصلى فيه كان له كأجر عمرة )) ثم تتفاضل المساجد ، فأفضل المساجد أقدمها ؛ والدليل على ذلك قوله - سبحانه وتعالى - : {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِيَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فيه}
فقوله تعالى : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِيَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ? فيه } يدل على أن المسجد الأقدم أفضل من المسجد الجديد ، وأنه أحق وأولى ، وبناء على ذلك لو وجد مسجدان : أحدهما قديم والثاني جديد ، فالأفضل القديم لنص الآية ، وذلك لأن العبادة فيه سبقت ، والفضل فيه سابق عن غيره .
ثانيا : يفضل في المساجد من جهة كثرة المصلين ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل الواحد وما كان أكثر فهو أزكى )) .
فهذا يدل على أن المساجد الأكثر عددا أفضل .(3/385)
كذلك يفضل المسجد من جهة الخشوع ، وصلاح الإمام ، واستقامته والحرص على الدعوة ، فإذا كان الإمام صالحا يتأثر الإنسان بقراءته ، ويرجو أن يكون ممن يخاف الله ويخشاه ، فالصلاة وراءه أفضل؛ لأن هذه فضيلة راجعة إلى ذات الصلاة ، حتى إن بعض العلماء يقول : لو وجد مسجدا إمامه أكثر خشوعا ومسجدا أقدم يقدم مسجد الإمام الأكثر خشوعا ؛ لأنها فضيلة متصلة بذات الصلاة ، وأما بالنسبة للأقدم فضيلة بالمكان ، لكن لو كان المسجد مثل مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أو المسجد الحرام أو المسجد الأقصى تضاعف فيه الصلاة فلا يستطيع أحد أن يجزم أن الصلاة وراء الأخشع أفضل من مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أو من مسجد مكة ؛ لأنه لا يدري كم أجر ألف صلاة في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وهل هذا الخشوع في صلاة واحدة يستطيع واحد أن يقطع بعلم الغيب أنه أفضل من ألف صلاة ، هذا أمر دونه خرط القتاد ، فعلى المسلم أن يكون على بينة ، فبعض من طويلبي العلم يجتهدون الآن يقول: فضيلة الخشوع متصلة نترك الحرم ونصلي التراويح في غيره ! ولذلك نقول : الصلاة في الحرمين فضيلتهما عظيمة شريفة كريمة ؛ لأنهما جمعا فضائل لا توجد في غيرهما ، ففيها فضيلة مضاعفة الصلاة ، وفيها فضيلة قدم المكان ، وهي أحق وأولى ، وفيها فضيلة كثرة العدد ، فاجتمعت الفضائل من وجوه متعددة ، ومن هنا يكون هذا الفضل موجبا لتقديمها على غيرها .
[ ويستحب للمعتكف الاشتغال بفعل القرب ] : الاعتكاف الأصل فيه أنه لطاعة الله كما ذكرنا ، فيستحب له الاشتغال بالقرب وأعظمها وأحبها عند الله - - عز وجل - - الصلاة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )) .
ثانيا :كثرة تلاوة القرآن .
ثالثا :الحرص على إحياء ليالي العشر بصلاة الليل ؛ التماسا لليلة القدر.
رابعا :كثرة التسبيح والتمجيد والتقديس لله - - عز وجل - - .(3/386)
فالمعتكف الصادق الصالح إما أن تراه قائما يصلي ، أو تراه جالسا يتلو كتاب الله ، أو يسبح أو يستغفر، أو تراه جالسا يقرأ شيئا ينتفع به ، يخشع به قلبه ، وينشرح به صدره ، فالحرص على استتغراق الوقت في طاعة الله - - عز وجل - - وبين رحمه الله أنه يشتغل بطاعة الله ، ومفهوم ذلك أنه لا يجوز له أن يشتغل في معصية :كالغيبة والنميمة ، أو بالمكروهات :كفضول الأحاديث والضحك وكثرة الغفلة ، فهذا يخالف مقصود الشرع من الاعتكاف .
الاعتكاف مدرسة لطاعة الله - - عز وجل - - ومرضاته ، حتى إن بعض العلماء لم يستحب الاشتغال بطلب العلم للمعتكف ، وقال : إن المعتكف لا ينشغل بطلب العلم ، ومنهم من فرق بين أن يكون طلبه للعلم محدودا وبين أن يكون طلبه للعلم كثيرا ؛ وبعض العلماء يقول المعتكف إذا اشتغل بطلب العلم أفضل ؛ لأن طلب العلم نفعه متعد ، والاعتكاف نفعه قاصر، ولكن رد هذا القول بأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أمر بالقبة التركية ، فضربت له في المسجد ، حتى ينقطع عن الناس وينقطع عنه الناس ، فلو كان الاشتغال بطلب العلم أفيد لبّينه النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لكن يستثنى من ذلك درس الاعتكاف ؛ لماذا ؟ لأن النبي- - صلى الله عليه وسلم - - فتح القبة وخاطب الصحابة بأحكام الاعتكاف ، فهذا يدل على أنه إذا كان بقدر وإذا كان لحاجة فلا بأس .(3/387)
على كل حال من حيث الأصل الحرص على الصلوات ، وأفضلها صلاة الليل ،كما سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الصلاة ؟ فقال : (( صلاة الليل )) وأفضل الصلوات الثلث الأخير من الليل ، وأفضل ما يكون الاجتهاد في العبادة تدبر القرآن ، والخشوع عند تلاوته ، والخشوع عند سماعه ، والمعتكف الموفّق من جمع الله له بين صلاح القلب والقالب ، لو أنّ كل معتكف يستشعر عند خروجه من بيته ودخوله إلى بيت الله - - عز وجل - - أنه ضيف من ضيوف الله - - عز وجل - - وأنه قد ترك أهله وولده وزوجه وحبه لا من أجل الفراغ ولا من أجل القيل والقال وما يتبع ذلك من المعاصي وسوء الحال - نسأل الله العفو والعافية - إنما أقبل على ربه ضيفا على الله - - سبحانه وتعالى - - في أيام معدودة ، وساعات محدودة ، يريد أن يبث فيها حزنه ، ويبث فيها إلى ربه همه وغمه ، ويشتكي ما كربه ، ولو أن المعتكف استشعر أنه ضيف على ملك الملوك وأنه ضيف على أرحم الراحمين ، وأنه ضيف على أكرم الأكرمين ، وأن هذا الكريم ، وهذا الملك العظيم الرب الرحيم ، يعطي هبات ونفحات ومكرمات لا تخطر للعبد على بال ، وما يدريك فكم دخل هذا المعتكف شقي بعيد عن الله فخرج منه سعيدا محبوبا قريبا من الله ، وكم دخله عبد مذنب مسيء خطاء فخرج منه كيومِ ولدتْه أمه ، بلا ذنب ولا خطيئة ، وكم دخله غافل ساه لاه فخرج منه خاشع القلب ، منشرح الصدر، مطمئن النفس منيبا إلى الله أوّاها مخبتا .(3/388)
الاعتكاف أن يستشعر الإنسان مقامه وحاله ، وأنه في ضيافة الله - - جل جلاله - - لم يأت للدنيا ، ولم يأت للهو، ولا للعب ، قد أكربته الدنيا بهمومها ، وأقضت مضجعه بغمومها ، وآلمته أشجانها وأحزانها ، فإذا دخل بيت الله وحل بالمسجد ضيفا على الله تبددت همومه وزالت غمومه ، وعاش في عالم غير عالمه الذي كان فيه ، عاش في عالم الرحمات والمغفرات ، والباقيات الصالحات ، فيمسي ويصبح بوجوه الراكعين الساجدين ، والمخبتين المنيبين ، يا لها من ساعات ولحظات وأيام طيبات مباركات ، لو عقلها العاقلون ؛ لفازوا بخيرها، وبرها ، وبركتها وفضلها ، فنسأل الله العظيم أن يمن علينا وعليكم بحياة القلب وصلاحه ، وأن يرحم غربتنا ، وأن يجبر كسرنا ، وأن يعيننا على أن نقيم لهذه العبادة حقها وحقوقها .(3/389)
فالمعتكف الموفق يشتغل بهذه الأعمال الصالحة ، ألذ ساعة عنده حينما يكبر، فيقبل على الله - - عز وجل - - يقول الله أكبر فيحس أن همومه تبددت ، وأن غمومه انقطعت ، ويتمنى أنه لو استدام هذه الصلاة، فلا ينقطع منها أبدا ويتلو كتاب الله - - جل جلاله - - وهو يحس أنه طالما كان غريبا عن القرآن ، وطالما أشغلته الشواغل ، وأخذته المشاغل، فهذه ساعات ولحظات طيبات مباركات للمؤمنين والمؤمنات ، حينما أقبلوا على الله - - عز وجل - - واستشعروا فضل ليلة القدر وإدراكها ، ألم ير الإنسان إلى كرماء الدنيا الذين لا يعدون شيئا إلى كرم ملك الملوك - - سبحانه وتعالى - - الرجل الكريم إذا كنت بحاجة إلى الدنيا ، وعنده الدنيا يسيرة ، فجئت في حاجتك أحسست أن حاجتك تقضى وأنت على بابه ، وأنت في الطريق إليه { ولله المثل الأعلى} فكيف وأنت مقبل على ملك الملوك وجبار السماوات والأرض ، وأرحم الراحمين ، وخير الغافرين ، وخير التوابين - - سبحانه وتعالى - - ، وهو رب العالمين ، فإذا أحس الإنسان أنه لله ، وفي الله ، وأنه يريد مرضات الله ،كان أكره ساعة عنده أن يقطعه عبد عن ربه ، وأكره ساعة عنده أن يأتي أحد يشغله عن ذكر الله - - سبحانه وتعالى - - .(3/390)
أما إذا كان من الغافلين ، وأصبح من اللاهين ، نهاره نوم ، فإذا صلى المغرب اشتغل بالطهارة لصلاة العشاء ، وإذا صلى العشاء والتراويح ذهب ليقضي حاجة أو ذهب ليزور زيدا أو عمْراً ، فإذا صلى صلاة التهجد قام يصلي وقَلَّ أن يجد فيها خشوعا - نسأل الله السلامة والعافية - فإذا انتهى من ذلك فكر كيف يهيئ سحوره ، أي اعتكاف هذا الاعتكاف ؟! نوم بالنهار ، وتقصير بالليل ، وقلة تفكر وتدبر ، فالأمور عليه متكالبة ، هذا معه عشر من أصحابه ، وهذا معه خمسة يفكر كيف يدخلهم ، وكيف يخرجهم ، وكيف يطعمهم ، وكيف يسقيهم ، بل وصل الأمر إلى عقد العزائم داخل المساجد ، وإلى عقد الجلسات والزيارات ، هذا ليس باعتكاف كامل ، الاعتكاف الكامل أسمى وأعلى وأقدس وأنفس من هذا كله ، لابد أن يعيد المسلم النظر ، ولذلك تجد البعض يدخل في اعتكافه ويخرج كأنه لم يتغير منه شيء ، ولكن من الناس من يدخل الاعتكاف ويخرج منه بختم القرآن كل ثلاث ليالي ، ومنهم من يخرج من الاعتكاف بالبكاء من خشية الله ، ومن الناس من يخرج من الاعتكاف بصيام الاثنين والخميس ، ومنهم من يخرج من الاعتكاف ببكاء الأسحار ، وجنة الأبرار في ظلمات الليل ، في مناجاة الواحد القهار ، وجد لذة طالما تمناها ، وسعادة كان يبحث عنها ، وجدها في القرب من الله الذي لا أنس بشيء سواه - - سبحانه وتعالى - - فإذا كان الإنسان بهذه المثابة وبهذه المنزلة فلينعم بربه ، ولتقر عينه في الدنيا والآخرة بسيده ومولاه ، هكذا وإلا فلا ، إما أن يكون اعتكافا كما ينبغي وإلا فلا .(3/391)
الوصية الأخيرة : أن لا يجهد نفسه وأن لا يعذب نفسه ، فالإسلام وسط بين الإفراط وبين التفريط ، فهذا رسول الأمة - - صلى الله عليه وسلم - - يستقبل صفية ويجلس معها ثم يقوم يقلبها ، فلا بأس بالزيارة إذا كانت محدودة ، ولا بأس بالجلوس مع أخيك تثبته وتسليه وتعينه ويعينك ، لكن إذا زاد الأمر عن الحد انقلب إلى الضد ، وفقد العبد خيرا كثيرا ، فالواجب على الإنسان أن يكون وسطا ، ولا يغلو على نفسه فيحملها ما لا تطيق من السهر والتعب ، وقلة النوم ، وقلة الأكل ، حتى يمرض ويسقم، فإن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - يقول : (( إن المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع )) نريد اعتكافا على سنة رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وهديه ، بعيدا عن غلو الغالين ، وتنطع المترهبين ، بعيدا عن تلاعب المتقاعسين ، ولهو اللاهين والغافلين ، نريد وسطية قام عليها العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، نريد من يتفكّر ويتدبّر في ساعاته ولحظاته .(3/392)
مما يعين على أن تكون معتكفا بحقّ أول ما تدخل الاعتكاف أن تبرأ من الحول والقوة ، وتقول : يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث ، أهل الكهف سألوا ربهم أن يهيئ لهم من أمرهم رشدا ، فهيأ الله لهم الرشد في أمرهم وهم في كهف ، كيف وأنت في بيت ملك الملوك ، وأنت في أحب البقاع إلى الله مساجد الله يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( أحب البلاد إلى الله مساجدها )) فاسأل الله أن ينشر لك من رحمته ، ثم قف بباب الله وقوف الصادق وقل : يا رب لا تجعلني أشقى عبادك في بيت من بيوتك ، اللهم لا تجعلني أشقى القوم ، ولا تجعلني محروما ، ولا تجعلني خائبا ، ولا تجعلني مطرودا من رحمتك ، فإذا أردت أن تخرج وقفت بالقلب المنكسر لله - - جل جلاله - - وأنت تتفطّر حزنا تسأل الله أن لا يحرمك القبول، فمن جمع الله له بين ساعة الإنابة وساعة الرجاء في القبول وعند مدخله ومخرجه فقد دخل مدخل صدق وخرج مخرج صدق ، تدخل إلى المعتكف تسأل الله المعونة والتوفيق- هذا مما يعين على الخشوع- .
ثانيا : تدخل المعتكف وأنت تتصور لو أنها كانت آخر ساعة لك في الاعتكاف ، فتصبح كل لحظة لها قيمة ، وتستشعر كأن شمس آخر يوم من رمضان ستغيب بعد لحظات كيف يكون حالك ، وهذا مما يثبت الطائعين ، ويقوي عزائم المجتهدين في العبادة أنك دائما تستشعر أنك في آخر وقت منها ، كيف يكون حالك ، هذا يدعوك إلى أن تغتنم كل دقيقة وكل ثانية وكل لحظة .
كذلك أيضا مما يعين على الاعتكاف أنك بمجرد أن تدخل تقهر هذه النفس ، وتجعلها مستجيبة لك ، وتهينها في جنب الله - - عز وجل - - ، فمن نهى نفسه عن الهوى استجابت له ، تجعل نفسك تحتك لا أنت الذي تستجيب لهواها ، وتستجيب لشهواتها فإنها بين كل فينة وفينة تدعوك إلى ضياع الوقت وضياع العمر، ولذلك يستعين الإنسان بعد الله - - عز وجل - - بهذا الشعور وهو نهيه نفسه عن الهوى وقهره لها في طاعة الله - - عز وجل - - .(3/393)
كذلك أيضا مما يعين على الجد والاجتهاد أن تبحث عن أصلح الناس تراه في مسجدك قوّاما متأدّبا تاليا لكتاب الله ، فكلما رأيت مصليا تفطّر قلبك من الحزن ، وقلت : هل هذا أحسن مني ؟ أليس ربه الذي يدعوه ربي ؟ فتجتهد مثلما يجتهد ، تنظر في المسجد بعض الأخيار والصالحين يذكرك بالله منظره ، ويعينك على الآخرة حاله وسمته ودله ، من الناس من رزقه الله حسن السمت ، فإذا رأيته ذكرت الله - - جل جلاله - - ، وهؤلاء هم الصالحون المتمسكون بالسنة ، العاملون بالخير في كل زمان ومكان - جعلنا الله وإياكم منهم - وكان بعض السلف إذا رؤي وجهه ذكر الله - - سبحانه وتعالى - - جعلنا الله وإياكم من أهل الخير والفلاح والصلاح ، فتبحث عن إنسان صالح ترى من حاله وسمته ودلّه الجدّ والاجتهاد في العبادة فتغبطه على الخير ، كل ما رأيت إنساناً يفتّش القرآن وأنت تريد أن تذهب لقضاء حاجة أو تذهب للطعام فإنك تتألم وتقول : يا ليتني مكانه ، فإذا بك تكون شريكا له في الأجر ، تصبح بهذه النفس المستجيبة النفس الحية التي تغار على كل دقيقة وثانية في أعلى المراتب وأفضلها ، هذا بعمله ، وهذا بنيته .(3/394)
كذلك أيضا مما يعين على اغتنام أوقات الاعتكاف كثرة الاستغفار ؛ لأن الاستغفار يقوي العزيمة ، فإذا استغفرت تحاتت الذنوب التي تحول بين العبد وبين الرحمة ، وهل يحجب العبد عن رحمة الله إلا بسبب الذنوب ، ولذلك انظروا إلى هدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - لما استفتح الصلاة التي هي أحب الأعمال إلى الله كان يقول عليه الصلاة والسلام اللهم : باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ؛ لأنه لو كانت الخطايا موجودة حالت بينك وبين الخشوع و الخضوع والتفكّر والتدبر ، وكم من غافل في اعتكافه حجبه الله عن بركة الاعتكاف بذنب بينه وبين الله - - جل جلاله - - إما بغيبة ، أو بنميمة ، فعلى المسلم أن يحرص كل الحرص على الاستغفار ؛ لأن الاستغفار يشرح الصدر لذكر الله ، ويقوي العزيمة على ذكر الله وطاعة الله - - عز وجل - - ، وعلى كل حال جماع الخير كله في تقوى الله - - عز وجل - - .
بيّن المصنف - رحمه الله - أن على المعتكف أن يجتهد في طاعة الله وما يرضيه - - عز وجل - - .
[ واجتناب ما لا يعنيه من قول وفعل ] : من اجتنب ما لا يعنيه سلم له دينه ، ولذلك قال - - صلى الله عليه وسلم - - في الحديث الحسن : (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) وقال رجل لأحنف بن قيس - رحمه الله - كيف سدت قومك وأنت قصير ؟ - وليس من شغله أنه قصير أو طويل - فقال له الأحنف : بتركي لما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا يعنيني ، فمن يشتغل بالفضول يهلك ويخسر ؛ لأنها قد تجرّ إلى المحرمات ، ومن هنا كان السلف - رحمهم الله - يتركون فضول الحديث خوفا من الوقوع في الغيبة والنميمة . وجعل بعض العلماء حديث : (( من حسن إسلام المرء )) ربع الإسلام لما فيه من الخير للعبد .
عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البريّةْ
اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنيّةْ
فهذه أربعة أحاديث يقولون : قامت عليها مقاصد الإسلام العظيمة .(3/395)
[ ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك ] : ولا يبطل الاعتكاف إذا اشتغل بفضول الأحاديث أو بما لا يعنيه لأن هذا لا يوجب بطلان اعتكافه ، إنما يبطل بفوات شرط من شروط صحته : كخروجه من المسجد إذا خرج من دون حاجة بطل اعتكافه ولزمه تجديد نيته ، وإذا كان اعتكافه واجبا لزمه القضاء .
[ ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه إلا أن يشترط ] : [ ولا يخرج من المسجد ] : لأن الاعتكاف ملازمة المسجد ، [ إلا لما لابد له منه ] : مثل قضاء الحاجة كالبول والغائط - أكرمكم الله - ، مثل الطعام والشراب إذا لم يوجد في المسجد طعام ولا شراب ؛ فإذاً ، لكن يخرج بقدر الحاجة والضرورة ، مثلا إذا كان يقضي حاجته في مكان قريب وبعيد يخرج للمكان الأقرب ولا يخرج للأبعد ، وإذا كان هناك محل يصلح الطعام قريبا ومحل بعيد لا يذهب إلى البعيد مع وجود القريب ، لكن لو وجد شخص يكفيه الطعام ويحضر له الطعام لا يجوز له الخروج للطعام ، لكن إذا تأخر وما ظن مجيئه يجوز له أن يذهب للطعام ، لأنه ليس من المعقول أن لا يأكل ربما من أجل هذا - والعياذ بالله- أفطر في يومه ، ولذلك يجوز له في هذه الحالة إذا تأخر أو لم يحضر له شيئا ، واستثنى العلماء - رحمهم الله- البول والغائط لثبوت السنة عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - بخروجه كما في حديث عائشة- رضي الله عنها - واستثنوا الأكل والشرب على التفصيل الذي ذكرناه ، بل قال بعض العلماء : لو كان من الأشخاص الذين لا يستطيعون الأكل أمام الناس في داخل المسجد ، ونفسيته لا تعينه على ذلك ويتحرج في هذا ، أو يكون من أهل العلم والفضل وله مكانة ويصعب عليه الخروج وليس هناك قبة أو مكان يحجبه كما كان للنبي - - صلى الله عليه وسلم - - ويتحرّج أن يأكل في وجوه الناس ، قال بعض العلماء : يجوز له أن يخرج من أجل أن يأكل خارج المسجد ، ففي هذه الحالة رخّصوا له ؛ لأنه يتضرّر بهذا ، كذلك أيضا مما ليس له بد مثل المرض ، والمرض(3/396)
نوعان :
النوع الأول : اليسير الذي يمكن الصبر عليه لا يجوز أن يخرج من أجله .
والنوع الثاني : المرض الشديد ، واختلف فيه : هل يقطع الاعتكاف أو لا يقطع ؟
والصحيح : أنه لا يقطع ، فلو خرج وتداوى ثم رجع مباشرة فهو على نيته الأولى ، والأحوط أن يجدد النية خروجا من الخلاف ، كذلك الجنابة لو أنه أجنب وهو نائم خرج فاغتسل للجنابة ، ويخرج لغسل الجمعة لأنه واجب عليه على الصحيح من أقوال العلماء ، أما إذا كان لا يرى وجوبه فقال بعض العلماء : يخرج لوضوء الجمعة ويجعل الغسل تبعا ولا يجعله أساسا .
[ ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه إلا أن يشترط ] : [ إلا أن يشترط ] : الاشتراط أخذوه من حديث ضباعة - رضي الله عنها - قالت : يا رسول الله ، إني أريد الحج وأنا شاكية ، فقال : (( أهلي واشترطي إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني )) وأرادت أن تدخل الحج فألزمت نفسها ، فقالوا : المعتكف لا يجب عليه الاعتكاف فألزم نفسه ، فإذا اشترط كان له شرطه ، وإذا اشترط إما أن يشترط ما هو معتبر شرعا ، وإما أن يشترط ما هو جائز ، وإما أن يشترط ما هو محرم ، فإذا اشترط ما هو معتبر شرعا مثلا يقول : شرطي أن أخرج لقضاء الحاجة ، فهذا شرط موجود في أصل الشرع ولا إشكال فيه وجها واحدا عند العلماء .(3/397)
ثانيا : أن يشترط ما هو مباح له مما فيه قربة ، مثل : أن يشترط أن يعود مريضا قال : إذا - لا قدر الله - دخل والدي المستشفى فأشترط أن أذهب لعيادته ، أو الوالدة أذهب لعيادتها ، أو اشترط أن يتصل بأهله ، ونحو ذلك مما هو محتاج إليه ، قالوا : فلا بأس بهذا ولا حرج ، وهناك مذهب يرى أن الاشتراط وارد في الحج بسبب مخصوص ، وهو أنّ المرأة ألزمت نفسها بالحج مع وجود المرض والسِّقَم ، ومن هنا قالوا : من كان مثل ضباعة كان له الاشتراط ، ولذلك أتى عليه الصلاة والسلام إلى الميقات ولم يأمر الصحابة أن يشترطوا أثناء الإهلال ، مع أن حديث ضباعة قبل الميقات ، وخص ضباعة وقال لها : (( أهلي واشترطي )) كأنها لما تكلفت الدخول للعبادة مع المرض والسقم أعطيت هذه الرخصة ، وإلا فالأصل أنها ملزمة بإتمام النسك ، وأيا ما كان لا شك أن أحوط القولين عدم الاشتراط ، خاصة وأنه بالاشتراط يشترط الأمور المباحة خرج عن الأصل من لزوم المسجد ، وعند النظر في نصوص الكتاب والسنة كلها دالة على أن الأصل لزوم المسجد وعدم الخروج منه ، ولذلك في النفس شيء من الاشتراط ، وقد فصلنا في هذه المسألة وبيناها في شرح العمدة ، وبينا الأدلة والأقوال والراجح وأن الصحيح عدم الاشتراط ؛ لأن القياس هنا ضعيف ، وجه ضعفه : أنهم قاسوا الاعتكاف على الحج ، ومن المعلوم أن الرخص لا يقاس عليها لأنا ذكرنا أن حديث ضباعة - رضي الله عنها - نصحح فيه أن من كان في حالة ضباعة - رضي الله عنها - يأخذ حكمها في الاشتراط في النسك خاصة .
ثانيا : أن الأصل يقتضي خلاف هذا ؛ لأن أصل الاعتكاف اللزوم ، والشرط يخرج المعتكف عن هذا اللزوم ، ومن هنا لا يستثنى إلا ما استثناه الشرع من وجود الضرورة والحاجة .(3/398)
[ ولا يباشر امرأة ] : أجمع العلماء على أن المعتكف لو جامع امرأته فسد اعتكافه ، فلو خرج إلى منزله لقضاء الحاجة فجامع زوجته بطل اعتكافه ، وعليه أن يجدد النية ؛ الدليل على ذلك قوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }ولو أنه فكر أو تفكر أو لاعب امرأته فأنزل أيضا بطل اعتكافه ، كما يفسد الصوم والحج بالإنزال يفسد الاعتكاف بهما ؛ لأنه محظور من المحظورات ، أما بالنسبة للمقدمات مثل : التقبيل ونحوه إذا لم يحصل إنزال لا يبطل اعتكافه ، لكنه يعتبر من المكروه .
[ وإن سأل عن المريض في طريقه أو عن غيره ولم يعرج إليه جاز ] : لو مر على مريض فيه تفصيل:
إما أن يكون المريض في طريقه وهو ذاهب لقضاء حاجته ؛ فحينئذ يسأل عنه وهو مار ولا يعرج ، وأما إذا كان المريض في موضع غير موضع قضاء الحاجة فلا يذهب إليه ، وهذه مسألة عيادة المريض ، وكانت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - تمر على المريض ولا تعرج عليه ولا تجلس عنده ، وإنما هي مارة ، تسأل عن حال المريض ، وهذا هو الأصل ، وهذا يدل على تشديد الشرع في مسألة الاعتكاف ، وأنها عبادة تقتضي عدم الخروج عنها إلا من ضرورة وحاجة ، فإذا كان هناك مريض ، أو أراد أن يشيع جنازة ؛ فإنه لا يخرج لا لعيادة مريض ولا لتشييع جنازة قصدا ، لكن يجوز تبعا ، وهذا مما يغتفر يقولون : يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل ، كما في حديث ابن عمر في إتباع الثمرة قبل بدو صلاحها للأصل ، مع أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو الصلاح ، فهذا كله أخذ العلماء منه دليلا على أنه يجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل ، فاغتفروا أن يسأل المريض وهو مار ولا يقف ولا يعرج عليه .
@ @ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : متى يكون بداية الدخول في المعتكف ومتى يكون الخروج . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(3/399)
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فأصح قولي العلماء - وهو مذهب الجمهور - : أنه يدخل قبل مغيب الشمس من يوم عشرين ؛ لأنه يريد أن يعتكف العشر الأواخر فلابد أن تكون كاملة ، فيدخل قبل غروب الشمس ، وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يدخل معتكفه بعد صلاة الصبح فهذا أجيب عنه بجوابين أحدهما أقوى من الآخر :
أن الاعتكاف فيه دخول للمسجد ودخوله - عليه الصلاة والسلام - للقبة داخل المسجد ، فكان دخوله للقبة بعد صلاة الفجر ، وكان دخوله العام قبل غروب الشمس ، ولكن اختار شيخ الإسلام جوابا آخر وأشار إليه بعض العلماء : أن عائشة - رضي الله عنها – أشارت إلى أنه كان يدخل بعد صلاة الصبح ولم تبين هل هو صبح اليوم العشرين أوالحادي والعشرين ؟ وإنما قالت : إنه كان يدخل في صلاة الصبح ، ومن المعلوم أن دخوله كان قبل ، ولذلك قال للصحابة : فليعتكف معي وكان هذا صبيحة العشرين، يقول شيخ الإسلام : إنها لم تنص على أنها في صبيحة الحادي والعشرين ، فالأشبه أنه دخل معتكفه في القبة من فجر يوم العشرين تحقيقا للعشر كاملة ، وهذا على سبيل التحري وليس على سبيل اللزوم ، أما اللزوم فمن قبل غروب الشمس ولو بلحظة ، هذا الذي عليه العمل حتى يستتم اعتكاف العشر كاملة تامة . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني:
فضيلة الشيخ:من أوتر أول الليل كيف يفعل إذا قام آخر الليل وأراد القيام . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(3/400)
فيه تفصيل : إن كان يريد أن يصلي ركعتين فيصلي ركعتين ؛ والسنة أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلى ركعتين بعد ما أوتر ، والأحاديث في هذا صحيحة ، حتى إن الحافظ ابن حجر - رحمه الله - ألف في هذا رسالة على ثبوت السنة في صلاة الشفع بعد الوتر ، لكن إذا أراد أن يتهجد ثانية ، مثلا : صلى أول الليل فأوتر ؛ لأنه ظن أنه لا يقوم آخر الليل ، فقام قبل الفجر بوقت وأراد أن يقوم فإنه ينقض الوتر الأول ثم يصلي ركعتين ركعتين ثم يوتر ، أما نقض الوتر الأول فلأنّ النبيّ- - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا )) فالسنة أن يكون الوتر في الأخير ، وأما كون الوتر ينقض الوتر فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( لا وتران في ليلة )) حيث بيّن أن الوتر ينقض الوتر ، لما نهى عن الوترين دلّ على أن الصلاة ستصبح شفعيّة ، إذ لو لم يكن الوتر الثاني مؤثّرا لما كان هناك تأثير لأصبح الوتر هو الوتر الأول ، قالوا فقوله : (( لا وتران في ليلة )) يدل على أن الوتر ينقض الوتر ، خاصة وأنه أثر عن ابن عمر وبعض أصحاب النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنهم كانوا ينقضون الوتر الأول ثم يصلون ثم يوترون ، وهذا هو الذي تطمئنّ إليه النفس . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ : إذا خرج المعتكف من المسجد لغير عذر بقصد قطع الاعتكاف فهل يعتبر عاصيا وآثما أم لا نرجو توضيح هذه المسألة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(3/401)
إذا كان الاعتكاف واجبا يأثم ، وإذا كان الاعتكاف مسنونا ومستحبا لا يأثم ، فوت على نفسه الخير، والمحروم من حرم ، وإن العبد ليحرم الطاعة بسبب الذنب - والعياذ بالله - ، فلا يخرج إلا من ضرورة وحاجة حتى يكتب الله له الأجر كاملا تاما ؛ ولذلك قال تعالى : {ولا تبطلوا أعمالكم } فلا يليق بالمسلم أن يعامل الله ثم يزهد في المعاملة مع الله ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا )) فلا يحرم الإنسان نفسه من الخير والبرّ . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع : فضيلة الشيخ : هل يجوز أن يقوم الرجل بأداء عمرتين في سفر واحد مثلا عمرة له وعمرة لأبيه بعد انتهاء عمرته الأولى. وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا مر بالميقات الأبعد مثلا من المدينة وعنده نية لعمرتين يحرم عن نفسه أولا ويعتمر ثم يرجع ويحرم عن أبيه ؛ لأنه مر بالميقات ناويا للعمرتين (( هنّ لهنّ ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة )) فهو أنشأ النية للعمرتين من المدينة ، ولذلك يلزمه الميقات الأبعد ، ولا يصح أن يذهب إلى التنعيم ويأتي بالعمرة الثانية ؛ لأنه مر بالميقات وعنده نيتان ، أما لو أنه اعتمر عن نفسه ثم لما صار في مكة تذكر والده أو قريبه أو اتصلت به أمه وهي عاجزة عن العمرة وقالت له : اعتمر عني ؛ فإنه يجوز أن يعتمر من التنعيم ولا بأس بذلك ولا حرج ؛ لأن النية للعمرة الثانية أنشأها دون المواقيت ، وفي الصحيح عنه – عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ )) والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس: فضيلة الشيخ : من كان علاج مرضه في الكي فهل يكتوي أم يصبر ، مع أنه يترتب على عدم العلاج حرج شديد . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(3/402)
الكي كرهه عليه الصلاة والسلام ، قال : (( الشفاء في الثلاثة : آية من كتاب ، وشرطة من محجم ، أو كية من نار ولا أحب أن أكتوي )) وكان عمران بن حصين - - رضي الله عنه - - ممن تسلم عليه الملائكة ، ولما اكتوى من البواسير التي كانت معه انقطع عنه التسليم فترة الكي، والكي مكروه ، لكنه يجوز التداوي به ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أثبته دواء ، والكيّ قيل : إنه دواء وقيل : إنه قطع لنقل الألم ، وهذا فيه كلام طويل عند الأطباء ، حتى إنه يعتبر من معجزات النبي - - صلى الله عليه وسلم - - في الإشارة إليه ، لكن هل الأفضل أن يكتوي أو لا يكتوي ؟ في حديث السبعين أنهم لا يكتوون ، فإن كانت خصال السبعين فيه مستجمعة السبعين الألف الذين يدخلون الجنة من غير حساب ولا عذاب - جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه ورحمته - قيل : إنهم لا يكتوون ، ولا يتطيّرون ، ولا يسترقون ، وعلى ربهم يتوكلون ، فهؤلاء الموحّدون المخلصون المحسنون في عبادتهم وتوحيدهم وإخلاصهم لا شك أنه إذا كان فيه صفاتهم الأفضل أنه لا يكتوي ، تحصيلا لهذه المرتبة المنيفة ، بشرط أن يكون ممن يغلب على الظن صبره ، ما يكون يقول : أنا من السبعين أجتهد أن أكون من السبعين ، ثم بعد شهر ، شهرين ، ثلاثة ، أربعة يعجز - ونسأل الله السلامة والعافية - يضعف نفسه ، ثم يذهب ويكتوي ، إذاً لماذا يعذب نفسه هذه الأشهر كلها ؟ وهذا المعنى من أجمل المعاني التي استنبطها العلماء في كون النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يقبل من بعض الصحابة أمورا عظيمة ، ولا يقبلها من بعضهم ، ولذلك قال كعب بن مالك : يا رسول الله ، إن من توبة الله علي أن أتصدق بمالي كله ، قال : (( أمسك عليك مالك )) وردّ عليه التصدق بجميع ماله ؛ لأنه عند شدّة الفرح يبذل ماله ثم يندم ، وإذا ندم يفوّت على نفسه الأجر - نسأل الله السلامة والعافية - هذه النوعية التي لا تصبر ليست عندها قوة وجلد نقول له :(3/403)
الأفضل أن يكتوي ، حتى لا يأتي في يوم من الأيام ويجزع ، لا هو أدرك أجره ، ولا هو رحم نفسه ، فمن كان من أهل الصبر والثبات يفتى بمثل هذا ، وهذا من فقه الفتوى، ومما يعبر عنه العلماء باختلاف الفتاوى باختلاف الأشخاص ، أبو بكر - - رضي الله عنه - - جاء بماله إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فقبله لأن يقين أبي بكر ليس كيقين كعب بن مالك ، ومن هنا اختلفت أحوال الناس ، اختلف الناس إيمانا وتصديقا وعقيدة وقوة وتوحيدا ، قوة في التوحيد والتسليم لله -- عز وجل -- ، فإن كان عنده تسليم وقوة شكيمة في طاعة الله - - عز وجل - - فالأفضل له ذلك ، لكن عند العلماء خلاف -طبعا- إذا كان المرض مزعجا جدا ويقعده عن العبادات وعن الطاعات اختلف العلماء -رحمهم الله- ، بعض العلماء يقول : التداوي أفضل ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال في حديث أسامة بن شريك -- رضي الله عنه -- في سنن الترمذي وغيره وإسناده صحيح قال : جاء الأعراب من هاهنا وهاهنا ، وقالوا : يا رسول الله ، أنتداوى ؟ فقال : (( تداووا عباد الله فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء )) قالوا : (( تداووا )) أمر وهو أمر ندب واستحباب ، فيدل على أن التداوي أفضل من ترك التداوي ، قالوا : وأيضا إن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - تداوى وهو سيد المتوكلين وإمام الصابرين -صلوات الله وسلامه عليه- ، فدل على أن الأفضل أن يتداوى .(3/404)
ومن أهل العلم من قال : الأفضل الصبر إذا كان قوي اليقين ؛ لأن المرأة السوداء جاءت إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وقالت : يا رسول الله ، إني أصرع فادع الله لي ، قال : (( إن شئت دعوت لك وإن شئت صبرت ولك الجنة فقالت : أصبر )) فتركت التداوي ، فأقرها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - على ذلك ، ومن هنا قالوا : إن هذا أفضل ، لكن هذا يختلف باختلاف الأشخاص - كما ذكرنا - وإن كان الأصل العام أن التداوي أفضل ، إلا أن هذا من جنس المكروهات - كما بينا - . والخلاصة : إذا كان يرجي أن يكون من السبعين الألف الأفضل لا يكتوي ، ومثله من يصبر على مرضه ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم - - قال : (( ولا أحب أن أكتوي )) وإن كان بخلاف ذلك فإنه يكتوي لعموم الأمر بالتداوي . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : ما هو حكم إمامة صاحب الأعذار من به سلس بول أو ريح ، وكذلك هل يجوز له أن يخطب الجمعة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا كان إماما راتبا يصلي بالناس ، وإذا كان غير راتب يقدم غيره خروجا من الخلاف ؛ أما الدليل على أن الراتب يصلي ؛ فحديث عمرو بن العاص - - رضي الله عنه - - لما أصابته جنابة فقال : فتمعكت كما تمعك الدابة ، فالشاهد أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أقر على ذلك ، وقال : (( أصليت بأصحابك وأنت جنب؟! قال : يا رسول الله ، إني ذكرت قول الله - - عز وجل - - : {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فهو عنده عذر ، وأخذ بالعذر فتيمّم ، فصلى من هو أقلّ طهارة بمن هو على الطهارة التامّة ، واعتبر النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلاته وأذن له بذلك . فالشاهد من هذا أن هذا يدل على جواز صلاة المعذور بغير المعذور .(3/405)
ومن أهل العلم من قال : إن من به سلس معذور في نفسه ، والقاعدة : أن ما جاز لحاجة وضرورة يقدر بقدرها ، فنحن نقدر بالشخص نفسه ، والضرورات والرخص لا يتجاوز بها محالها ، وعلى كل حال فالقصة على مثلما فصلنا لأن عمروَ بن العاص - - رضي الله عنه - - كان أمير السرية ، ومن هنا فرق بعض أهل العلم بين من هو راتب ، فقالوا: من فقه الإمامة أنه لا يعرض صلاة الناس إلى الشك ، خاصة على القول بأنه لا يصلي المعذور ، فيتقدم بهم إذا كان راتبا لأنه تعيّنت عليه الإمامة والسنة دالة على الجواز، ويقدم غيره إذا كان غير راتب .
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم موجبا لرضوانه العظيم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتاب الزكاة
من شريط 36 الى 39
قال الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- : [ كتاب الزكاة ]
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فيقول المصنف -رحمه الله- : [كتاب الزكاة ] الزكاة في لغة العرب تطلق على معنى الطهارة، يقال: زكا الشيء إذا كان طاهرا صالحا ؛ ومنه قوله تعالى : { قد أفلح من زكاها } أي بالصلاح والتقوى فطهرها من الذنوب بالاستقامة .
وتطلق الزكاة على معنى النماء يقال: زكا الزرع إذا نما وزاد .
وأما في الاصطلاح : فإنها حق مخصوص في مال مخصوص على وجه مخصوص في وقت مخصوص.
هذا الحق فرضه الله -- سبحانه وتعالى -- في أموال مخصوصة كما سيأتي بيانه -إن شاء الله تعالى- في السائمة من بهيمة الأنعام وفي الأثمان وفي الخارج من الأرض وفي عروض التجارة .(3/406)
وقولهم : على وجه مخصوص : لأن الله قدر المقادير والأنصبة وجعل الحول ، فلابد في هذا المال من حولان الحول من كونه مملوكا وقد حال عليه الحول وبلغ النصاب .
والشخص المخصوص الذي تؤخذ منه الزكاة سيأتي شرطه أنّه المسلم الحر المالك للمال ملكا تاما.
ولا يشترط في الزكاة العقل ولا البلوغ فتجب الزكاة في مال المجنون وكذلك في مال الصبيّ على أصح قولي العلماء .
هذه الفريضة فرضها الله –- عز وجل -- في كتابه كما قال - سبحانه وتعالى - : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ، فهذا أمر، الأمر للوجوب والفرضيّة .
وكذلك قوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها } وهذا أمر ، والأمر للوجوب والفرضية .
وقال - سبحانه وتعالى - : { وآتوا حقّه يوم حصاده } وهذا أمر، والأمر للوجوب والفرضية .
وقال - سبحانه وتعالى - : { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } فأثبت أن في المال حقا ، وهو حق الزكاة .
وقد قرن الله الزكاة بالصلاة ؛ ولذلك قال أبو بكر -- رضي الله عنه -- : (( إنها لقرينتها في كتاب الله )) .
ودلت السنة الصحيحة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- على فرضية الزكاة ، وأن هذه الفرضية في أعلى الدرجات ؛ لأنها ركن من أركان الإسلام ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا )) .
فهذا الحديث المتفق عليه عن ابن عمر –رضي الله عنهما- بين فيه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن الزكاة فريضة لازمة واجبة وأنها في أعلى درجات الفرضية ، لكونه عدها ركناً من أركان الإسلام .(3/407)
وثبتت الأحاديث الصحيحة عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ببيان أموال الزكاة ، كما بين وجوبها في السائمة ، من بهيمة الأنعام ، وبين وجوبها - صلى الله عليه وسلم - في النقدين ، وكذلك بين وجوبها عليه الصلاة والسلام في الخارج من الأرض ، ففي السائمة من بهيمة الأنعام جاء كتاب أبي بكر -- رضي الله عنه -- في صدقات النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الواجبة فيها ، فألزم بدفع الزكاة من بهيمة الأنعام من الغنم .
وكذلك أيضا من البقر والإبل كما صح عنه -عليه الصلاة والسلام- في كتاب أبي بكر في الصحيح ، وأصله في الصحيح .
وأما بالنسبة للخارج من الأرض فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فيما سقت السماء العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر )) .
وكذلك أيضا بين عليه الصلاة والسلام فرضيتها في النقدين كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ما من صاحب مال لا يؤدي زكاته إلا صفح له صفائح من نار يكوى بها جنبه وجبينه وظهره حتى يقضى بين العباد في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار )) .
فهذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- القولية . وأما الفعلية فإنه أخذ الزكوات، وأرسل السعاة، والجباة فجبوا الزكاة فاجتمعت السنة قولا، وفعلا من هدي النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على هذه الفرضية. وأما الإجماع فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الزكاة حق واجب في مال المسلم على التفصيل التي بينته النصوص ، ونص عليه العلماء -رحمهم الله - .
يقول المصنف رحمه الله : [ كتاب الزكاة ] أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بفرضية الزكاة . يستلزم هذا بيان الأموال التي تجب فيها الزكاة، أنواعها، وكذلك أيضا بيان المقادير، والنصاب الذي يشترط للحكم في وجوب الزكاة ، وكذلك بيان من الذي تدفع إليه الزكاة ، وبيان موانع الزكاة ونحو ذلك من المسائل والأحكام .(3/408)
ذكر المصنف -رحمه الله- كتاب الزكاة عقيب الصلاة ، وهذا ترتيب العلماء والأئمة ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم --- رتب الزكاة على الصلاة ؛ فقال كما في الصحيحين من حديث معاذ -- رضي الله عنه -- : (( فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )) فجعل الزكاة عقيب الصلاة ، وهذا أصل عند العلماء ، وجعل الله في فرضية الزكاة حِكَمًا عظيمة فهي تطهر النفس من الشح والبخل؛ كما قال - سبحانه وتعالى - : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } فهي تطهر النفس من أدران الشح والبخل؛ ولذلك تجد في المسلمين من الإيثار ومحبة الإحسان في الأكثر منهم إذا استقاموا على هذه الفريضة ما لا تجده عند أعداء المسلمين؛ لأنه لم تطهر نفوسهم بالإحسان إلى الضعفاء .
كذلك أيضا فيها مواساة للضعفاء والبؤساء بجبر كسرهم، والإحسان إليهم في مصائبهم، وكوارثهم من الديون وضيق الحال من فقر ومسكنة وغير ذلك ، فلا شك أن هذا فيه تفريج كربة ومن فرج كربة عن أخيه المسلم فرج الله كربه يوم القيامة .(3/409)
كذلك أيضا فيها لُحْمة بجمع القلوب والنفوس ونشر المحبة ؛ لأن الغني إذا عطف على الفقير أحبه الفقير، ثم يحس الغني حينما يأتي يوم من أيام يؤمر بإخراج زكاته فيذهب يبحث لمن تدفع هذه الزكاة ، ولذلك كان يستحب العلماء أن يذهب بنفسه حتى يسمع بأذنه آهات المصابين ويرى كوارث الناس وفجائع المكلومين والمصابين ، وهذا يدعوه إلى أن يضحي أكثر، وهذا لا شك أن فيه مقاصد عظيمة بسد العوز والحاجة، وإذا اغتنى الفقراء انكفت أيديهم واستغنت نفوسهم أن تطمح إلى الحرام ؛ لأن الفقير إذا افتقر واشتد عليه فقره ربما تعرض للحرام ، فالمرأة قد تتنازل عن عرضها -والعياذ بالله- ، والرجل قد يسرق؛ ومن هنا كانت الزكاة علاجا عظيما ناجعا ولا أصدق من الله حكما ، ولا أحسن منه حكما، ولا أكمل منه شرعا -- جل جلاله -- وتقدست أسماؤه .
قال رحمه الله : [ وهي واجبة على كل مسلم حر ] : وهي : أي الزكاة الضمير عائد إلى الزكاة. (واجبة) ؛ بيان لحكمها ، وقد بينا أن الإجماع منعقد على أنها فريضة ، ووجوبها في أعلى مراتب الفرضية والوجوب ؛ لأنها ركن من أركان الإسلام ، وعلى هذا فمن منع الزكاة إما أن يمنعها بخلا وشحا مع الإقرار بوجوبها فهذا فاسق من فساق المسلمين ، ينصح ويذكر بالله -- صلى الله عليه وسلم -- فإذا لم يرتدع أخذها الإمام منه بالقوة وعزره على قولين عند العلماء : منهم من يرى التعزير بالمال فيقول يأخذ منه الزكاة إذا امتنع ونصف ماله كما في الحديث الذي حسنه بعض العلماء : (( إنا آخذوها وشطر ماله عَزْمة من عَزَمات ربنا )) .
والقول الثاني: إن هذا الحديث منسوخ على القول بعدم التعزير في الأموال، ويرون أنه يعزره الإمام بما يردعه عن العود لمثل ذلك .
من حيث الأصل هي واجبة ولازمة ، فإذا امتنع بخلا وشحا عوقب بما ذكرنا ، وأما إذا امتنع جحودا وقال: ما في المال زكاة، ولا نعطي زكاة فهذا كفر وردة ، بشرط أن يكون عالما بالنص الدال على وجوبها .(3/410)
أما إذا كان جاهلا مثل: شخص أسلم اليوم ثم قيل له إن الله فرض عليك أشياء منها الزكاة ، قال ما في المال زكاة إيش الزكاة هذه ؟! ما عنده علم، ما علم، فيقال له: إن الله -- عز وجل - - بين في كتابه كذا وكذا ويعلم فحينئذ الجاهل يعلم ولا يكون إنكاره الأول حينما قال ما في زكاة وهو يجهل الحكم موجباً لكفره وردته .
وأما إذا كان عالما بالحكم وأنكر فهو كافر ومرتد بإجماع العلماء رحمهم الله ؛ لأن الله فرضها ونص على فرضيته .
وجه الردة والكفر والحكم بكفره أنه إذا قال: إن الزكاة ما هي مفروضة، ليس في المال زكاة، ولا تجب الزكاة فقد كذب الله -- عز وجل -- الذي يقول : (( وآتوا الزكاة )) والذي يقول : (( خذ من أموالهم)) ، وهو يقول لا تأخذوا من أموالهم ، والله يقول: (( وآتوا الزكاة )) وهو يقول: لا تؤتوا الزكاة ، فهو يكذب النص القطعي ويكذب الله -- عز وجل --؛ وحينئذ يحكم بكفره من هذا الوجه ، وهذا هو الذي جعل أبابكر -- رضي الله عنه -- يقاتل أهل الردة ؛ لأن أهل الردة امتنعوا من إخراج الزكاة جحودا ولم يمتنعوا منها بخلا وشحا ، ولذلك قالوا : مات الذي أمرنا أن ندفع الزكاة إليه؛ لأن الله يقول : (( خذ من أموالهم صدقة )) . فقالوا إن الله فرض الزكاة علينا لكي ندفع لنبيه ، فلما توفي عليه الصلاة والسلام قالوا لا ندفع الزكاة إليه فهم ينكرون الفرضية ، وهذا هو وجه ردتهم ، وإجماع الصحابة على ردتهم وهو معنى قول أبي بكر -- رضي الله عنه -- : (( والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، وإنها لقرينتها في كتاب الله)) فهذا هو وجه تكفيره -- رضي الله عنه -- لهم وإلا لا يكفر المسلم إلا ببينة ووجه صحيح .
قال رحمه الله : [ حر ] : وهي واجبة دل على وجوبها ؛ قوله : (( وآتوا )) (( خذ من أموالهم )) ((في أموالهم حق معلوم )) ونحو ذلك من النصوص .(3/411)
وفي السنة أيضا أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بإخراجها قال عليه الصلاة والسلام : (( بني الإسلام ...كما في حديث ابن عمر )) .
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ : (( فأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم )) .
(( أعلمهم أن الله افترض )) يعني أوجب ، ونحو ذلك من الأدلة فهي واجبة .
[على كل مسلم ] الكافر مخاطب بالإسلام والتوحيد أولا ، ثم يخاطب بشرائع الإسلام ؛ ولذلك لو أن كافرا أدى الزكاة حال كفره وردته لم تنفعه الزكاة كما قال تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } فإذا لا ينفعه أن يزكي حال الكفر، فإذا لابد أن يسلم أولا ثم يؤدي الزكاة، فإذا يشترط إسلامه أولا حتى تصح الزكاة منه وتقبل منه نفقته كما أخبره الله -- عز وجل - - أن من موانع قبول النفقة وصحتها وأعني بالنفقة الزكاة الكفر بالله -- عز وجل -- والرسول عليه الصلاة والسلام .
[ على كل مسلم حر ] : خرج المملوك فإن العبد لا يملك المال ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام : (( من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع )) . فجعل مال العبد ما بين البائع والمشتري ، ولأنه مملوك الرقبة فمن باب أولى أن يملك ما ملك ، وعلى هذا فالعبد وما ملك ملك لسيده كما هو الأصل على ظاهر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا يشترط أن يكون حرا .
قال رحمه الله : [ ملك نصابا ملكا تاما ] : ملك نصابا : أصل النصب الأعلام التي نصبت وأقيمت نصب الشيء إذا أقيم ، والنصاب سمي نصابا لأن الشرع أقامه علامة على فرضية الزكاة ، فإذا وجدت هذه العلامة تجب الزكاة ، وإذا لم توجد لا تجب الزكاة ؛ إذا نصبه الشرع أي أقامه، فهو نصاب أي مقام للتكليف حتى يدل على فرضية الزكاة في ماله .(3/412)
هذا النصاب يختلف باختلاف الأموال في النقدين: الذهب والفضة لهما نصاب ، وفي بهيمة الأنعام لها نصاب ، وكذلك أيضا في الخارج من الأرض وفي عروض التجارة على التفصيل الذي سنبينه إن شاء الله .
لا تجب الزكاة في مال حتى يبلغ النصاب فيه للحديث الذي ثبت في الصحيحين عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) فجعل الخمسة الأوسق نصابا ، ونصبها وأقامها علامة على فرضية الزكاة وقال : (( ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة )) فجعل مائتي درهم نصابا ونصبها وأقامها علامة على فرضية الزكاة .
وقال - صلى الله عليه وسلم - في نفس الحديث حديث أبي سعيد في الصحيحين : (( ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة)) فجعل الخمس من الإبل نصابا وعلامة على وجوب الزكاة في الإبل إلى غير ذلك من الأحاديث والنصوص التي وردت في الأنصبة .
قال رحمه الله : [ مُلكاً تاماً ] إذا لما قال ملك نصابا دل على أن ما كان دون النصاب لا زكاة فيه، فلو أن شخصا عنده بعير ما تجب عليه الزكاة إلا إذا كان عرض تجارة كما سيأتي لكن في زكاة بهيمة الأنعام ليس عليه صدقة ، لو كان عنده بعيران أو ثلاثة أو أربعة فلا زكاة عليه، كذلك لو كان عنده من النقد من الذهب ما دون عشرين مثقالاً فلا زكاة عليه؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بيّن ذلك كما في حديث علي -- رضي الله عنه -- عند أبي عبيد في الأموال أنه ليس عليه زكاة فيما دون عشرين مثقالا فما كان دون عشرين مثقالا من الذهب لا زكاة فيه الذي هو خمسة وثمانون غراماً.
كذلك أيضا لو كان دون مائتي درهم الذي هو خمسمائة وخمسة وتسعون غراماً أو سبعمائة على القول الآخر ، والخلاف في الشوب كما سيأتي بيانه لا تجب عليه الزكاة ، لو كان عنده مثلا ثلاثون ريالا أو أربعون ريالا لا تجب عليه الزكاة سواء كانت من الفضة القديمة أو من الوَرَق وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .(3/413)
قال رحمه الله : [ ملكا تاما ] :هذا الملك ينبغي أن يكون تاما فخرج غير التام ، وعلى هذا أسقطت الزكاة في مال المكاتب ، فلو أن سيدا طلب من عبده أن يكاتبه حتى يعتق، فقسط عليه الكتابة خمسة آلاف على خمسة شهور أو خمس سنوات فحينئذ العبد يسعى للحرية والمال الذي بيده مال المكاتب يسدد به هذه الأقساط هو مالك لهذا المال ولذلك يسدد به للسيد ولو أنتج هذا المال نماءً له، لكن هذه الملكية غير تامة لاحتمال أن يعجز عن تسديد الكتابة فيرجع عبدا وحينئذ الملكية غير تامة . تتبع هذه المسألة مسألة الأجرة لو أخذ أجرة البيت في أول السنة قبل أن ينتفع المستأجر، فإن هذه الأجرة محتملة أن العين تتلف وتتهدم ونحو ذلك من المسائل، مثل مسألة الرهن، ومسألة اللقطة كل هذه المسائل فرعت على مسألة ملكية الرقبة وملكية المنافع ، وفيها تفصيل يطول عند العلماء -رحمهم الله - محله الفروع، لكن هذا هو أصل المسألة أنه يشترط أن يكون الملك مستقرا تاما هذا يعبر عنه بالاستقرار ويعبر بالتمام .
قال رحمه الله : [ ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] : يقول رحمه الله : ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول؛ لظاهر حديث عائشة -رضي الله عنها- .
والحول هو السنة الكاملة القمرية لا الشمسية ، فأحكام الشريعة تنبني على التوقيت القمري لا على التوقيت الشمسي، وهذا بإجماع العلماء من حيث الأصل؛ وهو اثنا عشر شهرا فإذا مضى الاثنى عشر شهرا على الشيء أو على الإنسان الغالب أنه يتحول يعني يتغير، ومن هنا سمّي الحول حولا؛ لأنه مدة من الزمان تتحول فيها الأشياء وتتغير، ومراده أن يتم سنة كاملة كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- وحسنه غير واحد وهو دال على أنه يشترط الحول في المال .(3/414)
قال رحمه الله : [ إلا الخارج من الأرض ] : إلا الخارج من الأرض فلا يشترط فيه الحول؛ لأن الله تعالى يقول : { وآتوا حقه يوم حصاده } فلم يفرض فيه حولا يعني لو كان عنده مزرعة وأنتجت المزرعة خمسة أوسق من التمر فإنه لا ينتظر سنة حتى تحول السنة على ذلك الخارج من الأرض، بل نقول له يجب عليك أن تؤدي زكاة التمر مباشرة؛ لقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } فلم يشترط حولا لوجوب الزكاة فيه، وهكذا بالنسبة للمعدن على القول بوجوب الزكاة فيه .(3/415)
قال رحمه الله : [ ونماء النصاب من النتاج والربح ] : ونماء النصاب من النتاج والربح : النتاج في الغنم يعني لو أن شخصا كان عنده مثلا أربعون من الغنم في أول النصاب أربعون فيها شاة واحدة، نما المال وتكاثر وتكاثر حتى بلغ إحدى وعشرين ومائة ، المائة والإحدى والعشرون لما جاء الساعي على الحول وجد الغنم مائة وإحدى وعشرين في الأصل كانت أربعين، فالمائة والإحدى والعشرون فيها شاتان، لكن هذه المائة والإحدى والعشرين شاة لم يحل الحول عليها كله وإنما تناسلت وتكاثرت حتى بلغت هذا القدر، فالنتاج الذي طرأ أثناء الحول مادام أن المال قد بلغ النصاب لا يشترط فيه حولان الحول، ولو أنه في الليلة التي جاء فيها الساعي كان دون القدر، مثلا لو فرضنا في الإبل أنها كانت خمسا وثلاثين، فيها بنت مخاض، الليلة التي جاء فيها الساعي أصبحت ستا وثلاثين الناقة المشؤومة ففيها بنت لبون حينئذ انتقل إلى وجوبها ، هذه الناقة التي ولدت الفصيل الذي ولد لم يحل عليها الحول لكنه راجع إلى أصله، النتاج لا يشترط فيه حولان الحول فتجب الزكاة في النتاج تبعا لرأس المال الذي حال عليه الحول ، كأنه حال الحول وهذا هو الذي خرّج عليه الأئمة ومشايخنا -رحمة الله عليهم- مسألة الرواتب ، فالرواتب إذا كانت تتجدد خلال السنة، إن شاء ضمها إلى الراتب الأول وجعل له رأس مال حتى لا يتشوش وجعل الزكاة عليه جميعا، وإن شاء جعل لكل راتب حقه، فإذا ضم الرواتب التي لم يحل عليها الحول إلى الراتب الأصلي وجعل له حولا واحدا فهو مخرّج على مسألة النتاج في بهيمة الأنعام، هذا هو وجهه ، وإلا فالأصل أنه لا يسري هذا إلا في شيئين اثنين : النتاج من بهيمة الأنعام لا يشترط فيها حولان الحول، ونماء الربح ، فالمال المعد للتجارة لو كان مثلا قبل ليلة الحول هو قد بلغ النصاب ثم نما المال كان عنده مليون ثم في الأسبوع الذي حال عليه الحول أصبح المليون مليونين من الأرباح جاءته الأرباح(3/416)
فأصبح مليونين يزكي المليونين؛ لأن المليون الثاني ربح المليون الأول، وفرع عنه والفرع تابع لأصله فلا يشترط حولان الحول في هاتين ا لمسألتين .
قال رحمه الله : [ فإن حولهما حول أصلهما ] : حول النتاج وحول الربح حول أصلهما ويشترط بلوغ للنصاب حتى يقال بتبعيته أما إذا كان دون النصاب فلا .
قال رحمه الله : [ ولا تجب الزكاة إلا في أربعة أنواع : السائمة من بهيمة الأنعام ] : السائمة هي التي ترعى، والسوم هو الرعي، {فيه تسيمون} : أي ترعى فيه بهائمكم .(3/417)
السائمة من : بيانية . بهيمة الأنعام : الإبل والبقر والغنم . الإبل بنوعيها العراب والبختية ، والبقر بنوعيها : الجواميس والبقر المعروف ، والغنم بنوعيه : الضأن والمعز ، هذه كلها تجب فيها الزكاة فقال: السائمة من بهيمة الأنعام فخرجت المعلوفة وهي التي لا ترعى ، فلا تجب فيها الزكاة على أصح قولي العلماء ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( في سائمة الغنم )) ومفهوم الصفة أن غير السائمة لا زكاة فيها ؛ وعلى هذا جمهور العلماء -رحمهم الله- باشتراط السوم، وحينئذ إما أن تكون الإبل والبقر والغنم ترعى كل الحول سائمة كل الحول فلا إشكال في وجوب الزكاة عليها بالإجماع، وإما أن تكون معلوفة كل الحول يعني اثنى عشر شهراً أَقْفل عليها ويعلفها ، فهذه فيها قولان: الصحيح مذهب الجمهور بعدم وجوب الزكاة فيها، فإذا كان عنده خمس من الإبل أَقْفل عليها ويعطيها العلف يمسكها لا ترعى داخل العمران لا ترعى طيلة السنة فهذه الخمس نقول ماذا تريد بها ؟ قال : والله أريد حليب أحلبها ، أبيع حليبها أقسم حليبها ، أنتفع من حليبها ومن صوفها وليس عندي شيء آخر. نقول : لا زكاة عليك فهي في حكم القنية ، وأما إذا قال: أريد أن أنتظر السوق حتى يغلو وأبيعها فهي عندي للبيع فهي عرض تجارة ؛ إذا البهيمة على ثلاثة أقسام : إما أن تكون معدة للقنية ؛ فحينئذ لا إشكال أنه لا زكاة فيها إذا كانت معلوفة ، وإما أن تكون معدة للتجارة ففيها زكاة عروض التجارة ، فتكون زكاتها إذا قلت عروض تجارة معناها أنها تقدر بقيمتها وتخرج زكاتها بالذهب أو الفضة ، بخلاف ما إذا كانت سائمة ففيها زكاة ، فإنها تخرج زكاتها بطريقة خاصة ستأتي -إن شاء الله- .(3/418)
وعلى هذا نقول : إن المعلوفة الأصل عدم وجوب الزكاة فيها إلا إذا أعدها للتجارة ؛ إذا يشترط في بهيمة الأنعام أن تكون سائمة ترعى كل الحول أو أكثره ، فإذا كانت معلوفة نظرنا إن كانت للقنية فلا زكاة ، وإن كانت للتجارة ففيها زكاة عروض التجارة ، هذه إذا كانت معلوفة كل الحول .
طيب لو كانت جامعة بين الاثنين سائمة ومعلوفة : إذا جاء الرعي رعت كما في أيام الربيع ، وإذا جاءت الشدة من الزمان أدخلها وعلفها . نقول : ما هو الأكثر ؟ قال : أكثر الحول الذي هو ما زاد عن ستة أشهر فإذا كان أكثر من ستة أشهر سائمة فهي سائمة ، وإن كان أكثر من ستة أشهر معلوفة فهي معلوفة ؛ وعليه تجب عليه الزكاة إن كانت أكثر الحول سائمة ، ولا تجب عليه الزكاة إن كانت أكثر الحول معلوفة . هذا بالنسبة لقوله السائمة من بهيمة الأنعام .
قوله : [ السائمة من بهيمة الأنعام ] أخرج غيرها ، فلا تجب الزكاة في الدجاج ؛ لأنها ليست من بهيمة الأنعام ، ولو كان مثلا عنده حظيرة دجاج ، فإننا لا نجب عليه الزكاة إلا إذا كان عرضها للبيع والتجارة فحينئذ حكمها حكم عروض التجارة ، إن كانت للقنية فحكمها حكم مال القنية فلا تجب فيها الزكاة .
طيب هذا الغير لو أنه شابه بهيمة الأنعام كبقر الوحش هل تجب فيه الزكاة ؟ أصح قولي العلماء: عدم وجوب الزكاة ؛ لأنه ليس من جنس ما أمر النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بتزكيته ، ولذلك أوجب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الزكاة في بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم . الداجن الذي يكون طبعا في القرى الذي هو المستأنس الأهلي ، وأما المتوحش بقر الوحش وتيس الجبل والثيتل والوعل سواء شابه أو لم يشابه فلا زكاة فيها .(3/419)
قال رحمه الله : [ والخارج من الأرض ] : الخارج من الأرض : لقوله تعالى : {وآتوا حقه يوم حصاده } من الزروع ومن الثمار: ثمرات النخيل والأعناب كالزبيب والعنب كذلك، والحبوب كالشعير والقمح كل هذه تجب فيها الزكاة لقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } وقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر )) فهذا يدل على أن الخارج من الأرض يزكى .
قال رحمه الله : [ والأثمان ] : والأثمان جمع ثمن ، والمراد بالأثمان الذهب والفضة ، فتجب الزكاة في الذهب وتجب الزكاة في الفضة ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد :(( ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة )) فدل على أن الورق والفضة من أموال الزكاة. وكذلك أيضا ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- في حديث نصاب الذهب .
أما وجوب الزكاة في الأثمان من ذهب وفضة ؛ فقد دل عليه دليل الكتاب قوله : { الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم } فبين - سبحانه وتعالى - أن الذي لا يؤدي زكاة الذهب والفضة أنه قد كنز، وأنه مبشر بالعذاب الأليم ولا تَرِد العقوبة إلا على ترك واجب أو فعل محرم ؛ فدل على وجوب الزكاة في الذهب والفضة .
قال رحمه الله : [ وعروض التجارة ] : وعروض التجارة : جمع عرض ، والأصل في وجوب زكاة عروض التجارة :
أولا : عموم قوله تعالى : { خذ من أموالهم } وما عرض للتجارة مال من الأموال؛ لأنه لا يخرج عن كونه مالا إلا بالقنية ، وخرجت القنية بالإجماع ، وبقي ما عداه على الأصل العام الموجب للزكاة .(3/420)
ثانيا : قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } فقد فسره بعض أئمة السلف من أصحاب ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه زكاة عرض التجارة ؛ لأنه من الكسب، والكسب هو التجارة ، وهذه الآية من أقوى الأدلة في رد قول من قال ليس في عروض التجارة دليل ، وجماهير السلف والأئمة -رحمهم الله- منهم الأئمة الأربعة على وجوب الزكاة في عروض التجارة ، والقول بسقوطها ضعيف ؛ وعليه فإن ظاهر النصوص وجوب الزكاة في عرض التجارة وإذا ضعف حديث عروض التجارة بقيت هذه الأدلة بعمومها يطالب بها من أخرج عروض التجارة بالدليل على إخراجها .
عروض التجارة : مثلا عنده سيارات يتاجر بالسيارات أو عنده أقمشة يتاجر بالأقمشة أو عنده أطعمة يتاجر ببقالة ونحو ذلك هذا العرض إذا بلغ النصاب من الذهب أو الفضة وحال عليه الحول ولم يغير صاحب المحل نيته في هذا العرض بأن قلبها للقنية واستتم الحول كاملا بنية التجارة فإنه يجب عليه أن يزكي إذا حال عليه الحول تقدر هذه البضاعة كم قيمتها ويضيف ما في الصندوق ثم يزكيه زكاة واحدة .
قال رحمه الله : [ ولا زكاة في شيء من ذلك حتى يبلغ نصابا ] : لما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه ]: ويجب على ما زاد في النصاب بحسابه فلو كان النصاب مثلا قلنا : مائتا درهم بالنسبة للفضة التي تعادل (( ستة وخمسين ريالاً)) من الورق ومن الفضة القديمة كما سيأتي، فهذا القدر الذي هو النصاب تجب فيه الزكاة إذا كان المعروض للتجارة بلغه فإنه تجب فيه الزكاة.(3/421)
قال رحمه الله : [ ولا زكاة في شيء من ذلك حتى يبلغ نصابا ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه ] : ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه طبعا في الأثمان مثل الذهب والفضة وفي عروض التجارة فيما زاد على النصاب بحسابه ، وكذلك في الحب الذي هو الحبوب والثمار الخارج من الأرض ، أما بالنسبة لبهيمة الأنعام ؛ ففيها تأقيت من النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن ما بين الفريضتين عفو ومغفرة، فما كان ما بين الست والثلاثين والخمس والأربعين هذا كله يزكي زكاة واحدة ولا يجب في الوقص شيء خلافاً للحنفية -رحمهم الله- الذين يقولون بوجوب الزكاة في الوقص .
قال رحمه الله : [ إلا السائمة ] : إلا السائمة مثل ما ذكرنا السائمة من بهيمة الأنعام فنقول مثلا إنه إذا زاد على خمس وعشرين ففيها بنت مخاض لو أصبحت ثلاثين ففيها بنت مخاض خلافا لمن يقول إنها بنت مخاض والخمس من الخمس والعشرين فيها بنت مخاض والخمس الزائدة فيها شاة وهذا قول مرجوح .
والصحيح مذهب جمهور العلماء وظاهر كتاب أبي بكر يدل على رجحان مذهب الجمهور .
قال رحمه الله : [ فلا شيء في أوقاصها ] : الوقص ما بين الفريضتين ما بين خمس وثلاثين وستة وأربعين هذا الوقص فإنه لا زكاة فيه .(3/422)
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب زكاة السائمة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك زكاة السائمة من بهيمة الأنعام ، وقد بينا معنى السوم ؛ والدليل على وجوب الزكاة في هذا النوع . والأصل في هذه الزكاة كتاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الصدقات ، وقد بينه أبوبكر –- رضي الله عنه -- وروى عنه الرواة ، وأصله في الصحيح ذكره الإمام البخاري في عشرة مواضع من صحيحه ، قطّعه على حسب المناسبات واستشهد به رحمه الله واستشهد به الأئمة في الصحاح ، وكذلك أيضا الفقهاء في كتاب الزكاة وهو أصل في زكاة بهيمة الأنعام . كذلك أيضا في بهيمة الأنعام حديث معاذ -- رضي الله عنه -- حينما بعثه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- إلى اليمن مصدقا بين فيه زكاة البقر كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قال رحمه الله : [ وهي الراعية وهي ثلاثة أنواع ] : بهيمة الأنعام السائمة هي الراعية ، وقلنا إن الراعية تأتي على صفتين: أن ترعى كل الحول أو أكثر الحول، فإن تساويا قيل بسقوط الزكاة ؛ لأن الأصل عدم وجوبها وهو أقوى ، وقيل بوجوبها مراعاة لحق الفقراء ، وتغليبا لوصف المالية لكن الأول أقوى إذا يشترط أن تكون سائمة ترعى أكثر الحول أو كل الحول وأكثر الحول أكثر من ستة أشهر .
قال رحمه الله : [ أحدها الإبل فلا شيء فيها حتى تبلغ خمسا فيجب فيها شاة ] : وهي ثلاثة أنواع إجمالا قبل التفصيل والبيان : الإبل والبقر والغنم ، والإبل نوعان عراب وهي التي لها سنام واحد ، والبختية وهي التي لها سنامان . فأما بالنسبة للإبل فلا تجب الزكاة فيها حتى تبلغ خمسا وهو الذود ، فإذا بلغ خمسا من الإبل ففيها الزكاة ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة )) فدل على أنّ ما دون الخمس لا زكاة فيها.(3/423)
قال رحمه الله : [ وفي عشر شاتان ] : وفي عشر شاتان : لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في كتاب أبي بكر الصديق قال : (( إن في أربع وعشرين من الإبل فمادونها الغنم )) زكاة الإبل على صورتين :
الصورة الأولى : أن تزكى من غير الإبل، وهذا من أربع وعشرين فما دونها .
والصورة الثانية : أن تزكى من الإبل ، وهذه يبتدئ النصاب فيها من خمس وعشرين من الإبل ، فما كان من خمس إلى أربع وعشرين والأربع والعشرون داخلة هذا كله زكاته بالغنم يُخرج عن كل خمس شاة ، فالخمس فيها شاة ، والعشر شاتان ، خمس عشرة ثلاث العشرون إلى أربع وعشرين والأربع والعشرون داخلة أربع شياة فتقف زكاة الغنم عند أربع شياه ولا تزيد ، فإذا بلغت خمسا وعشرين ابتدأت صدقتها من الإبل هذا دليله حديث أبي بكر في كتاب النبي -- رضي الله عنه -- في الصدقات وبيناه : (( في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم )) يعني قال - صلى الله عليه وسلم - يعني تزكى بالغنم في كل خمس شاة فدل على أن زكاتها بالغنم .(3/424)
قال رحمه الله : [ وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه إلى خمس وعشرين ففيها بنت مخاض]: إذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض ، والمخاض والماخض هي الحامل من الإبل ، وبنت مخاض معناه أن لها سنة ففيها بنت مخاض ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، وهذا نص الحديث؛ فبين الآتي: الأصل والبدل، فإذا بلغت خمسا وعشرين وجب أن يخرج بنت المخاض، فإن لم تكن عنده بنت مخاض أخرج ابن لبون ذكر، وهذا هو الموضع الوحيد الذي يخرج فيه الذكر من الإبل، فالأصل أن الإبل تخرج من الإناث : بنت المخاض ، بنت اللبون ، الحِقّة ، الجَذعة ، كلها إناث ؛ لأن الأحظ لبيت مال المسلمين الأنثى ، فالأنثى فيها الحليب ، وفيها النسل ، ومن هنا الأحظ لبيت المال أن تكون أنثى ، فأجاز الشرع ابن اللبون الذكر وهو الذي له سنتان إذا كان لا يجد بنت مخاض، وقال ليس عندي بنت مخاض قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ذكر )) هذا الموضع الوحيد في زكاة الإبل الذي يؤخذ فيه الذكر .
قال رحمه الله : [ وهي بنت سنة فإن لم تكن عنده فابن لبون وهو ابن سنتين ] : نعم هذا نص الحديث .
قال رحمه الله : [ إلى ست وثلاثين فيجب فيها بنت لبون ] : من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض، فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون، وبنت اللبون أتمت سنتين هذا نص حديث أبي بكر كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ إلى ست وأربعين فيجب فيها حِقّة لها ثلاث سنين ] : من ست وثلاثين إلى خمس وأربعين والغاية داخلة هذه فيها بنت لبون لها سنتان كما ذكرنا ، فإذا أتمت العدد ستا وأربعين إلى ستين ففيها حِقّة .(3/425)
الحِقّة : استحقت أن يُرْكب عليها، واستحقت أن يطرقها الفحل ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في كتاب أبي بكر : (( ففيها حقة طروقة الفحل )) والحقة أتمت ثلاث سنوات، فإذا أتمت ثلاث سنوات استحقت أن يركب عليها، واستحقت أن يطرقها الفحل .
قال رحمه الله : [ إلى ست وثلاثين فيجب فيها بنت لبون إلى ست وأربعين فيجب فيها حقة لها ثلاث سنين إلى إحدى وستين ] : من واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جَذَعة ، والجَذَعة أتمت أربع سنوات ودخلت في الخامسة . الجذع من الإبل هو الذي يجزئ في الهدي ويجزئ في الأضاحي ، بالنسبة للجذور من الإبل يجزئ عن سبعة ، ولا يضحى بما كان دون الرابعة ، ويكون أتم الرابعة وطعن في الخامسة وهذا هو الجذع من الإبل .
قال رحمه الله : [ إلى إحدى وستين فيجب فيها جذعة ولها أربع سنين إلى ست وسبعين ] : لها أربع سنين ودخلت في الخامسة .
[ إلى ست وسبعين ففيها ابنتا لبون ] : إلى ست وسبعين ففيها بنتا لبون ، هنا تضعف يبدأ التضعيف من بنات اللبون والحقاق فلا يدخل شيء من غير هذين النوعين : بنات اللبون والحقاق، إلى ست وسبعين فيها بنتا لبون .
قال رحمه الله : [ إلى إحدى وتسعين ففيها حقتان ] : إلى إحدى وتسعين من ست وسبعين إلى إحدى وتسعين إذا أتمت إحدى وتسعين ففيها حقتان .
قال رحمه الله : [ إلى إحدى وتسعين ففيها حقتان ] : إلى إحدى وتسعين : فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان ؛ لأنه هو الأصل يقتضي أن يكون لكل خمسين فيها حقة إذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان كما أخبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في كتاب أبي بكر .(3/426)
قال رحمه الله : [ إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون ] : يبتدئ النصاب طبعا من خمس وعشرين كما في حديث أبي بكر -- رضي الله عنه -- في كتاب الزكاة من الخمس والعشرين إلى خمس وثلاثين هذه فيها بنت مخاض، وهي التي لها سنة واحدة ، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون ، من ست وأربعين إلى إحدى وستين ففيها حقة طروقة الفحل ، من إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة ، من ست وسبعين إلى إحدى وتسعين ففيها بنتا لبون ، ومن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين ففيها حقتان ، هذا الأصل طبعا دل عليه حديث أبي بكر -- رضي الله عنه -- في كتاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في الزكاة .
بنت المخاض قلنا تتم سنة وتدخل في الثانية ، بنت اللبون تتم السنتين وتدخل في الثالثة ، الحقة تتم ثلاث سنوات وتدخل في الرابعة ، الجذعة تتم أربع سنين وتدخل في الخامسة ، هذه المقادير جمهور العلماء -رحمهم الله- على العمل بها لأن النص فيها صحيح وثابت عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على التفصيل الذي ذكرناه .
إذا بلغت مائة وعشرين وزادت واحدة فحينئذ تكون فيها ثلاث بنات لبون إذا كانت مائة وواحدة وعشرين على ظاهر كتاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عند آل عمر، فإذا أتمت مائة وثلاثين ففيها بنتا لبون وحقة، الحقة بخمسين وبنتا لبون بثمانين، [ بنت اللبون بعد المائة والعشرين تكون فيها ثلاث بنات لبون، يعني المائة والإحدى والعشرين فيها ثلاث بنات لبون على ظاهر حديث أبي بكر -- رضي الله عنه -- في كتابه عليه الصلاة والسلام في الصدقات ].(3/427)
تكون فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ مائة وثلاثين بعض العلماء يرى أنه لا تضاف إلى المائة والعشرين وتبقى إلى مائة وثلاثين ؛ لأنه من مائة و ثلاثين تستقيم الفريضة في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، إذا بلغت مائة وثلاثين فظاهر كتاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عند آل عمر وحسّنه غير واحد من العلماء والقول بثبوته والأقوى والأصح أنه يكون فيها ثلاث بنات لبون ؛ إن زادت على المائة والعشرين واحدة ففيها ثلاث بنات لبون بعد المائة والإحدى والعشرين إلى مائة وثلاثين -إذا وصلت مائة وثلاثين- خذها قاعدة : (( أسقط الأصغر وأضف واحدة من الأكبر)) ما بين مائة وعشرين ومائة وثلاثين قبل أن تصل إلى مائة وثلاثين فيها ثلاث بنات لبون قلنا على الصحيح، إذا بلغت مائة وثلاثين أسقط واحدة من بنات اللبون وأدخل الحقة يصبح بنتا لبون بثمانين والحقة بخمسين مائة وثلاثين، فإذا صارت مائة وأربعين أنت عندك بنتا لبون وحقة إذا صارت مائة وأربعين أسقط البنت الثانية من بنات اللبون فأصبحت حقتان وبنت لبون حقتان بمائة وبنت اللبون بأربعين صارت مائة وأربعين ؛ إذا صارت مائة وخمسين أسقطت بنت اللبون الثالثة فأصبحت كلها ثلاث حقاق . المسألة حسابية : يعني هي مسألة حساب ؛ إنما الأصل عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- الذي ذكرناه أنه من خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين بنت مخاض وهي أصغر ما يكون من الإبل، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين والحد داخل ففيها بنت لبون، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى إحدى وستين ففيها حِقّة طروقة الفحل، فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة ، ومن ست وسبعين إلى إحدى وتسعين ففيها بنتا لبون، ومن إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين فيها حقتان ؛ هذا الأصل يقتضي أن تضبطوه قبل أن تستقر كما ذكرنا في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حِقّة ، إذا ضبطت ما قبلها فالباقي سهل ، إذا استتم عندك العدد بالأصغر كما ذكرنا المائة(3/428)
والعشرين إذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون . النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قبل مائة وإحدى وعشرين أوجب فيها الحقتين؛ والأصل يقتضي أنه إذا بلغت مائة وعشرين يكون فيها كم؟ ثلاث بنات لبون ؛ لأن المائة والعشرين على أربعين فيها ثلاث ، لكن هذا الذي جعل العلماء يقولون لا تستقيم إلا بعد مائة وواحد وعشرين ، إذا بلغت مائة وإحدى وعشرين تقول فيها ثلاث بنات لبون ، فترد إلى الأصل الطارئ الذي سنذكره فيها ثلاث بنات لبون ، من مائة وإحدى وعشرين ما عندك مشكلة ؛ لأن من مائة وإحدى وعشرين تبدأ بثلاث بنات لبون، ثم تسقط الأصغر كلما وصلت إلى العشرة، لو و صلت إلى العشرة الأولى أسقطت بنت اللبون وأدخلت حقة، فإذا أسقطت بنت اللبون صار عندك بنتا لبون بثمانين، والحقة بخمسين، أصبح المجموع مائة وثلاثين، فإن صارت مائة وأربعين أسقطت بنت اللبون الثانية وأصبحت عندك حقتان وبنت لبون، حقتان بمائة ، وبنت اللبون بالأربعين صارت مائة وأربعين، إذا وصلت مائة وخمسين صار عندك ثلاث حقاق، وكل حقة بخمسين فهي مائة وخمسون ، إذا صارت مائة وستين عندك أربع بنات لبون، ثم ترجع للطريقة الحسابية التي ذكرناها، إذا صارت مائة وستين في أربع بنات لبون فإن زادت عشرة أسقطت بنت اللبون وأدخلت حقة، فصار عندك ثلاث بنات لبون وحقة، ثلاث بنات اللبون بمائة وعشرين وحقة بخمسين مائة وسبعين، ثم إذا صارت مائة وثمانين صارت حقتين وبنتي لبون إلى أن تصل إلى المائتين، وحينئذ يجتمع فيها الفريضتان: إن شاء أخرج خمس من بنات اللبون أو أخرج أربع حقاق يخير بين بنات اللبون وبين الحقاق، إن أخرج خمسا من بنات اللبون بمائتين، إن أخرج أربع حقاق بمائتين . المسألة حسابية لكن الذي قبل المائة والثلاثين فيه ترتيب شرعي مؤقت كما ذكرنا الخمس والعشرين إلى خمس وثلاثين وخمس وثلاثون داخلة في الحد، ثم من ست وثلاثين إلى خمس وأربعين، وخمس وأربعون داخلة في الحد، ثم من ست وأربعين إلى(3/429)
إحدى وستين، وإحدى وستون ليست داخلة، ومن إحدى وستين إلى خمس وسبعين وهي داخلة، ثم من ست وسبعين إلى إحدى وتسعين، ثم من إحدى وتسعين إلى مائة وعشرين ، هذا بالنسبة لزكاة الإبل وكلها ثابتة وصحيحة الذي ذكره المصنف -رحمه الله- بهذا الترتيب صحيح وثابت في حديث أبي بكر في كتاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون ] : إذا زادت واحدة هذا أصح قولي العلماء : إن الإبل إذا زادت على مائة وعشرين فأصبحت مائة وإحدى وعشرين ففيها ثلاث بنات لبون، وقلنا إن كتاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- عند آل عمر يدل على صحة هذا المذهب .
ومن العلماء من قال: إنها تبقى على الحقتين حتى تصل مائة وثلاثين وحينئذ كما يقول العلماء : تستقيم الفريضة في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة .
قال رحمه الله : [ ثم في كل خمسين حِقّة وفي كل أربعين بنت لبون إلى مائتين فيجتمع الفرضان إن شاء أخرج أربع حقاق وإن شاء خمس بنات لبون ] : كما ذكرنا .
أربع حقاق بمائتين؛ لأن الحقة بخمسين أو خمس بنات لبون بنت اللبون بأربعين فهذا اجتمع يقول العلماء اجتمع فيه الفرضان، إن شاء أخرج من بنات اللبون وإن شاء أخرج من الحقاق .(3/430)
قال رحمه الله : [ ومن وجبت عليه مسنة فلم يجدها أخرج أدنى منها ومعها شاتان أو عشرون درهما ] : هذا كتاب النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أنه إذا وجد السن العليا ولم يجد ما دونها دفع السن العليا إلى المصدق فرد عليه المصدق شاتين أو عشرين درهما ، هذا إذا دفع سنا فوق السن الواجبة، العكس وجبت عليه السنة العليا فلم يجد إلا ما دونها فحينئذ نقول له ادفع الذي دون وادفع معه شاتين أو عشرين درهما ، مثال ذلك : لو وجبت عليه الحقة وليس عنده إلا بنت لبون فحينئذ نقول له : ادفع بنت اللبون وادفع معها شاتين جبرا للنقص أو عشرين درهما ، والعكس فلو وجب عليه بنت لبون وليس عنده إلا حِقّة دفع الحِقّة فرد عليه الساعي ( الجابي ) شاتين أو عشرين درهما. واختلف العلماء في مسألة الشاتين والعشرين درهما : هل هو حكم أو تقدير ؟
على وجهين: أصحهما أنه حكم باق إلى قيام الساعة ، ووجه ذلك أن بعضهم يقول: إن العشرين درهما كانت تعادل شاتين في زمان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فننظر إلى عدلها في بقية الأزمنة ، وهذه مسألة مشهورة عند العلماء تتفرع عليها مسائل كثيرة في الحمى وغيرها في التقديرات هل الذي حكم به النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ملزم باق لا يغير ولا يبدل أو هو تقدير يختلف باختلاف الزمان راجع إلى الوحي أو إلى الاجتهاد .
قال رحمه الله : [ وإن شاء أخرج أعلى منها وأخذ شاتين أو عشرين درهما ] : إن أخرج المصدق الأعلى رد له الساعي شاتين أو العشرين درهما ، وإن أخرج الأقل دفع معه الشاتين أو العشرين درهما .(3/431)
قال رحمه الله : [ النوع الثاني البقر فلا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين ] : البقر ؛ وسمي البقر بقرا بقر الشيء شقه ، يقال بقر بطنه إذا شقها ؛ وسمي البقر بقرا لأنه يستعمل في الحراثة فيشق الأرض، والبقر نوعان : البقر المعروف والجواميس وكلاهما تجب فيه الزكاة ؛ والأصل في ذلك أمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لمعاذ حينما أرسله إلى اليمن حيث أمره أن يخرج من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة فهذا أصل في وجوب الزكاة في البقر .
قال رحمه الله : [ فلا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين ] : فلا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين، فليست كالإبل تمحضت بالزكاة منها ، وأما الإبل فجمعت بين ما هو منها وما هو من الغنم الذي هو ليس من الإبل ، وهذا أصح قولي العلماء وهو مذهب الجمهور : أن الخمس من البقر ليس فيه شيء . قال بعض العلماء: إنه يقاس على الإبل ؛ والصحيح أنه ليس في البقر زكاة حتى تبلغ ثلاثين كما في حديث معاذ -- رضي الله عنه -- فإذا بلغت ثلاثين فإن فيها تبيعاً ، وسمي تبيعاً أو تبيعة ، وهذا الموضع يؤخذ فيه الذكر أيضا يخير بين التبيع الذكر أو التبيعة الأنثى وهي التي لها سنة أتمت سنة سمي بذلك لأنه يتبع أمه سمي التبيع تبيعا ؛ لأنه يتبع أمه ويسير وراءها .
قال رحمه الله : [ فيجب فيها تبيع أو تبيعة لها سنة إلى أربعين ففيها مسنة لها سنتان ] : إلى أربعين ففيها مسنة وهي الأنثى فقط ، وفي بعض الروايات اختلف في ثبوتها قيل: إنه يخير فقال مسن أو مسنة ، والمشهور مسنتان يفرّق بين التبيع ففيه الذكر، وبين المسن ففيه الأنثى .
قال رحمه الله : [ إلى ستين ففيها تبيعان ] : إذا بلغت ستين ففيها تبيعان في كل ثلاثين تبيع في الستين تبيعان ، في السبعين تبيع ومسنة .
قال رحمه الله : [ إلى سبعين ففيها تبيع ومسنة ] : تبيع ثلاثون ومسنة أربعون أصبح المجموع سبعين .(3/432)
قال رحمه الله : [ ثم في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة ] : إذا بلغت ثمانين ففيها مسنتان، ثم بعد ذلك يستقيم الأمر إلى مائة وعشرين يجتمع الفرضان يخير بين أربعة أتبعة وبين ثلاث مسنات، إذا بلغت مائة وعشرين يخير بين أن يخرج أربع أتبعة ؛ لأن التبيع بثلاثين فالمجموع مائة وعشرون ، وبين أن يخرج ثلاث مسنات ؛ لأن المسن بأربعين فالمجموع مائة وعشرون .
قال رحمه الله : [ النوع الثالث الغنم ] : النوع الثالث: الغنم بنوعيه : الضأن والمعز ، والأصل في وجوب الزكاة فيه حديث كتاب أبي بكر -- رضي الله عنه -- في كتاب الزكاة وهو صحيح ثابت حيث بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فيه وجوب الزكاة في الغنم ، والإجماع منعقد على أن الغنم تجب فيها الزكاة .
قال رحمه الله : [ فلا شيء فيها حتى تبلغ أربعين ] : هذا نص الحديث : فأول النصاب هو أربعون من الغنم فإذا بلغت أربعين ففيها شاة واحدة .
قال رحمه الله : [ ففيها شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين ] : المائة وواحدة وعشرون فيها شاتان إلى مائة وعشرين شاة واحدة . الغاية الداخلة مائة وعشرون والغاية الخارجة مائة وإحدى وعشرون ، فيخرج شاة واحدة من أربعين إلى مائة وإحدى وعشرين، فإذا بلغت مائة وإحدى وعشرين بدأت الفريضة الثانية : شاتان ، حتى تصل إلى المائتين.
قال رحمه الله : [ فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه ] : إذا زادت مائتين وواحد ففيها ثلاث شياه .
قال رحمه الله : [ ثم في كل مائة شاة ] : تستقيم الفريضة ؛ وهذا أصل حديث النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في كتاب أبي بكر -- رضي الله عنه -- ونص فيه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على ما ذكره المصنف من أربعين إلى مائة وإحدى وعشرين شاة من مائة وإحدى وعشرين إلى مائتين شاتان، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه ثم في كل مائة شاة وتستقيم الفريضة.(3/433)
قال رحمه الله : [ ولا يؤخذ في الصدقة تيس ولا ذاتُ عِوار ] : ولا يؤخذ في الصدقة تيس ولا ذات عوار: التيس؛ لأنه ذكر بالنسبة للغنم والأحظ لبيت مال المسلمين الأنثى كما ذكرنا في الإبل، فإذا أخرجت الزكاة من الغنم تخرج الإناث لا يخرج الذكر إلا إذا كانت كلها تيوساً فحينئذ لا إشكال؛ لأنه يؤخذ من المال نفسه، وإلا فالأصل أنها تؤخذ الإناث؛ لأنه أحظ لبيت مال المسلمين من جهة الحليب ومن جهة النسل والولد .
قال رحمه الله : [ ولا يؤخذ في الصدقة تيس ولا ذاتُ عِوار ] : ولا ذات عوار فيها عيب. وذات عوار ناقصة، والعور النقص، فإذا كان فيها نقص في الخلقة كالعرجاء البيّن ضلعها، والمريضة البيّن مرضها، والكبيرة، والكسيرة التي لا مخ فيها . ولا تنقي هزيلة إذا كان فيها عيب من العرج والعمى ونحو ذلك من العيوب الخلقية الموجبة للنقص لا تؤخذ في الزكاة .
قال رحمه الله : [ ولا هرمة ] : الكبيرة كما ذكرنا التي لا مخ فيها إلا إذا كان كل الغنم بصفات النقص فحينئذ لا إشكال أنه يؤخذ من الناقص .
قال رحمه الله : [ ولا الرُّبَّى ] : ولا الرُّبَّى قيل هي التي تربي ولدها يحتاج إليها الولد للبن ونحو ذلك وقيل الرُّبَّى كثيرة الحلب والدر سواء هذه أو هذه ؛ لأنها من كرام المال ، وقد نهى النبي-- صلى الله عليه وسلم -- عن أخذ كريمة المال، وقد جاء في الأثر عن عمر -- رضي الله عنه -- ما يؤكد هذا كما روى مالك في موطئه في رواية سفيان بن عبدالله الثقفي عن عمر -- رضي الله عنه -- أنه في عهده للمصدقين أنه يعد السخلة ولا يأخذها عليهم ، وهي الصغيرة التي يحملها الراعي معه ، ونهاهم أن يأخذوا الرُّبَّى والأكولة .(3/434)
قال رحمه الله : [ ولا الماخض ] : ولا الماخض وهي الحامل ؛ لأنها من كرام المال إلا إذا كان كل الإبل حوامل فلا إشكال أنه يؤخذ منه ، فالعشراء والحامل ضرر على رب المال أن تؤخذ منه وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فإياك وكرائم أموالهم )) فنهاه أن يأخذ من كريمة المال ، وجاء عمل الصحابة-رضي الله عنهم- على ذلك أنهم لا يأخذون الحامل .
قال رحمه الله : [ ولا الأكولة ] : ولا الأكولة : الأكولة تكون صفة نقص وتكون صفة كمال، وهذا النوع يكون صفة كمال يحبس في موضع خاص يختار بعض أصحاب الغنم نوعية جيدة من الغنم ثم يحبسها ويحسن علفها حتى تسمن وتأتي بالقيمة الطيبة أو تسمن له هو ثم يأكلها ، فالمقصود أن هذه محبوسة من أجل فهي السمينة الطيبة وهذه من كرام المال ، وقد تكون أكولة لأنها شرهة في الأكل؛ لأن هذه تضر، وهذا عيب ، فعلى الأول تكون صفة كمال كريمة المال ، وعلى الثانية صفة نقص لا تدخل على بيت المال ؛ لأنها تضر بالفقراء .
قال رحمه الله : [ ولا يؤخذ شرار المال ] : ولا يؤخذ شرار المال : سيئه ، الأنواع الرديئة ، وهذه لا تؤخذ كما ذكرنا كما أنه لا يؤخذ كريم المال لا يؤخذ شرار المال وسيئه ورديئه ؛ لأنه إذا أخذ شرار المال أضر ببيت مال المسلمين ، وأضر بحق الفقراء ، وإذا أخذ كريم المال أضر بصاحب المال فلا ضرر ولا ضرار لا يضر بهذا ولا بهذا إلا في أحوال خاصة .
قال رحمه الله : [ ولا كرائمه إلا أن يتبرع به أرباب المال ] : جعل شرار المال وكرائم المال هذا من المقابلة ، والساعي ممنوع من الاثنين إذا وقف على صاحب إبل أو بقر أو غنم لا يأخذ أجود ما يكون ولا يأخذ أردأ ما يكون إنما يأخذ الوسط ، فيتقي كريمة المال ويتقي شرار المال .(3/435)
قال رحمه الله : [ إلا أن يتبرع به أرباب المال ]: إلا إذا تبرع رب المال بكريم المال، فلو كان مثلا عنده ناقة كوماء طيبة سمينة، وهي من أطيب ماله وكريمة ماله فأراد أن يصدّق بها قبلها منه ودعا له بخير وله الأجر والمثوبة ؛ والأصل في ذلك أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما بعث عامله على الزكاة وجد كريمة مال فامتنع أن يأخذها وهي أعلى من السن المطلوبة ، فقال : لم يأمرني النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا قال : لا آخذها منك حتى يأمرني رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- انظروا كيف الامتثال والسمع والطاعة ، ليس مثل زماننا الآن بمجرد ما تأتيه المسألة ما يرجع إلى مشايخه ويتأكد، لا يجتهد من عنده ويقول: تأولت حديث كذا تأولت دليل كذا ، وجاهز ما شاء الله للاجتهاد ! ولذلك طالب العلم انظروا كيف الصحابة -رضوان الله عليهم- قال له : خذ كذا أخذ كذا مع أن هذا أحظ لبيت مال المسلمين والنظر يقتضي ؛ لأن صاحب المال سمح به . قال: لم يأمرني رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا فالعلماء ورثة الأنبياء ، من تتلمذ وطلب العلم أمانته أن يؤدي للناس ما علم ، الزائد عن هذا من الاجتهاد أو غيره ينظر هل هو أهل للاجتهاد أو لا ؟ يبلغ ما تعلم ويقف عند هذا الحد ، وإلا تقحم نار الله على بصيرة ، وأكثر آفات الفتاوى والمصائب التي تحدث لطالب العلم حينما يتخطى هذا الحد .(3/436)
العلم الأمانة . انظر كيف أصحاب النبي -- صلى الله عليه وسلم --قال له بالحرف الواحد : لم يأمرني رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا مع أنه أفضل مما طلب ، والنظر يقتضي أنه يأخذ لكنه ما اجتهد ولا استطاع أن يتجاوز ما أمر به ، وهذا والله، هو عين العلم والورع وعين السلامة ، فإذا أرادت عيناك أن ترى طالب علم بحق فهو الأمين على أداء ما علم دون زيادة أو نقصان ، والله ، هذا الذي بلغني ، هذا الذي تعلمناه وهذا الذي نقوله ، ومن هنا أدركنا العلماء والأئمة -رحمهم الله- لا يزيدون إذا جاءت مسألة يجتهد يقول والله ما أعرف لمشايخي في هذا قولاً ولا أعرف في هذا شيئاً ، ثم إذا هو أهل للنظر قال لكن يحتمل كذا وكذا ويعطي لأنه عنده علم ما يكتمه وإذا كان أهلا للاجتهاد، أما ما نسمعه اليوم فالبعض يقرأ كتابا قال: والله من طلاب الشيخ فلان، ثم ينطلق إذا صار من طلاب الشيخ فلان معناه ما شاء الله فتح له الباب على مصراعيه ، تعرض عليه المسائل لو عرضت على شيخه إن كان صادقا لجثا على ركبتيه خوفا من الله أن يفتي فيها ، وهو لا أبدا مستعد أن يؤصل ويقعد وإذا يعني ما شاء الله صار فيه فرصة كما أن يقول هذا رأي شيخنا ورأينا كذا، هذا ما فيه مانع ! حتى يثبت أنه ما شاء الله وصل إلى درجة ! ولكن والله لن يعرف حق هذا العلم إلا من أوقف نفسه بين الجنة والنار، لا يهمنا أن ننثر للناس العلم دون أن تكون هناك يعني وقفة مع كل سنة نبوية ترد في الزكاة في الصلاة تؤدب طالب العلم كيف يكون وقافا عند حدود الله ، إذا كان هذا الذي يعلم الناس لا يقف عند حدود الله في أعظم شيء وهو القول على الله كيف يريد أن يوقف الناس عن حدود الله ؟! كيف يريد أن يذكرهم وكيف يعلمهم التقوى ؟! ولذلك انظر كيف الصحابة يقول : ما أمرني رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بهذا مع أنه أحظ لبيت مال المسلمين ، وكما ذكرنا الاجتهاد والنظر يقتضي جوازه ، لكن اختار الله لنبيه(3/437)
-عليه الصلاة والسلام- أكمل الأمة وأفضل الأمة في الوعي عنه ، ولذلك قالوا إن الله اختار لنبيه خير صحب كما اختار نبيه -عليه الصلاة والسلام- من بين الأنبياء اختار صحبه فهم أفضل وأكمل ، وهذه الفضائل تظهر مما كان يفعله أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم --من الورع .
يا أخي عندك أمانة ومسؤولية لا تزد على ما أمرت وائتمنت عليه ، الناس ما تريد رأيك ولا تريد جرأتك ، تريد ماذا علمت ؟! تريد الشيء الموروث . فأثارة العلم هذه هي التي التزمها الصحابة -رضي الله عنهم- ويظن البعض أنه حينما يحفظ كتابا أو يقرأ كتابا بسيطا بالطهارة على شيخه أن الناس ما ينظرون له أنه شيخ حينما يأتي ويقول نفس الكلام الذي وجده في كتب المتقدمين يأتون ويحضرون عنده في الدرس فإذا لم يأت بالمسائل الغريبة ولم يأت بالاجتهادات والتأصيلات هذا والله درسه سطحي . في درس طبعا سطحي! وفي درس ...! مشكلة الذي يجاوز السطوح يطيح ؟! واضح ؛ ولذلك يقولون: درس سطحي. نعمة إذا كان سطحيا وفيه سلامة ، هذه والله ، نعمة سطحي ولا أرضي ولا ماذا يكون . المهم ينجيني من النار أن لا أزيد ولا أنقص من هذا العلم، لا أنقص فأكتم علما ، ولا أزيد فأتقحم نار الله على بصيرة . تقول هذا حينما يتقرح قلبك من هذه الجرأة والتهتك تجد إنساناً يطلب العلم فقط ينتظر الفرصة لكي ينتهي من الكتاب سواء وعى أو لم يع لكي يتكلم . بعكس السلف الصالح -رحمهم الله- تجدهم يتعلم الواحد ، بل وأدركنا من تبعهم على هذا الحق وعلى هذا العدل وعلى هذا القسطاط المستقيم أن من طلبة العلم الصادق من يتمنى أنه في علمه يحفظ الكلام الذي سمعه دون زيادة أو نقصان ؛ لأنه في هذه الحالة لا يتحمل المسؤولية : (( نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع )) .(3/438)
أدركنا طلبة العلم إبان ما كان العلماء والعالم يجلس من بعد الفجر إلى الظهر وهو في مسائل معدودة من الطهارة؛ لماذا ؟ لأن طالب العلم الحق يريد أول شيء عبارة صغيرة دقيقة مركزة فيجلس فترة يحلل هذه العبارة من كلام الشيخ ماذا يقصد الشيخ بهذه الكلمة ، ثم بعد ذلك بعد أن يضبط كلامه يبحث عن مثال المسألة ، وعلى الحكم وتطبيقه ، ثم بعد ذلك يبحث عن دليله ، ثم ما يأتي الظهر وقد جمع المسألة والمسألتين والثلاث ، ثم يرجع إلى بيته وكأنه ملك الدنيا كلها ، فقط مسألتين أو ثلاثاً ، ويحفظ هذه المسألة وانظر في كتب العلماء والأئمة تجدهم يشرحون كلاما مكررا ، والله ثم والله، لو أرادوا أن يتكلموا لحبروا الكلام الجميل الجديد، ولو أرادوا أن يصولوا ويجولوا لصالوا وجالوا ولكنها النار أمام أعينهم، والخوف من الله والورع، ولذلك بعضهم يقرأ العمدة ويقول : والله الشرح ما فيه إسهاب يعني الشرح كما يقولون سطحي ؛ لماذا ؟ لأنها آفة . الإغراب ومحبة الإغراب والخروج عن الأصول وتعبير الإنسان بكلامه وبعبارته ، لن تذوق حلاوة هذا العلم إلا إذا شعرت بالمسؤولية ، عندها لما تأتيك مسألة واحدة تحس أنك حملت ثقلا عظيما، هل حفظت المسألة كما ينبغي ؟ هل تصورتها كما ينبغي ؟ هل تستطيع أن تؤدي نفس الكلام الذي سمعته ؟ فتكون أمينا دون زيادة ونقصان .(3/439)
كان بعض مشايخنا يقول نعم أدركنا شيخنا في هذه المسألة يقول كذا وكذا لكنه قال كلاما قريبا من هذا الكلام . انظر ما يقول إنه قال نفس الكلام ؛ لأنه حفظ كلام شيخه ورأى أنه في تعبيره قد زاد أو نقص ، فيقول لك : قريبا من هذا الكلام . منها يدل على أنه كان يحرص على أن يحفظ كلام شيخه ليس معنى هذا التقليد والجمود لا ، إذا كان شيخه ضابطا للعلم يتكلم بدليل وحجة سأحفظ كلامه وَنَعِمَت العين . إذا كان كلامه مؤصلاً أما إذا كان مفلت الزمام بلا خطام فهذا شيء آخر، يتكلم على شيء مؤصل، نريد طالب علم مثل ما قال الصحابة : ما أمرت بهذا . قال لي النبي-- صلى الله عليه وسلم --أن آخذ هذا الذي أمرت به غير موجود إذا لا آخذ أكثر منه. فهذه وقفة يحتاج إليها كل طالب علم أن لا يبحث عن الزيادة بقدر ما يبحث عن الضبط ، وأن لا يبحث عن الاستكثار والاستغراب بقدر ما يبحث عن مرضاة الله -- جل جلاله -- نسأل الله أن يعصمنا بعصمته .
قال رحمه الله : [ ولا يخرج إلا أنثى صحيحة ] : ولا يخرج إلا أنثى صحيحة هذا يقرر ما مضى أنثى لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال بنت مخاض، بنت لبون، حقة، جذعة، فهذا يدل على أنها من الأنثى.كذلك في الغنم قال : ففيها شاة، ففيها شاتان، ثم في كل مائة شاة فهذا يقتضي أنها أنثى . فالمصنف رحمه الله أتبع الغنم بالإبل لأنه لا يخرج منها إلا الأنثى، أي لا يخرج من الغنم إلا الإناث.
[ الصحيحة ] : ضد السقيمة والعليلة ، والمراد بالصحيحة الكاملة دون الناقصة إلا إذا كان غنمه مريضا أو ناقصا .(3/440)
قال رحمه الله : [ إلا في الثلاثين من البقر وابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها ] : إلا في الثلاثين لقوله تبيع ، وللعلماء وجهان وظاهر النص يقتضي أن التبيع يصح في الثلاثين وليس مراده في الثلاثين من البقر فقط في النصاب الأول ثم إذا صار ستين تصير تبيعتان فقط من الإناث لا النصاب . إنما مراده في كل ثلاثين من البقر، وهذا يشمل إذا كان ستينا أن يخرج تبيعين من الذكر، وليس المراد بداية النصاب وإنما المراد عموم الواجب في زكاة البقر أنه يجوز أن يخرج الذكر والأنثى يخير كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( تبيع أو تبيعة )) فإذا بلغت ستين تبيعتان أو تبيعان يخير فيخرج الذكر هذان موضعان : بنت المخاض إذا عجز عنها عدل إلى ابن اللبون الذكر .
قال رحمه الله : [ إلا أن تكون ماشية كلها ذكورا أو مراضا فيجزئ واحد منها ] : إذا كانت كلها ذكوراً تيوساً يخرج منها تيسا واحدا ، كلها مريضة يخرج منها مريضة ،كلها هزيلة يخرج منها هزيلة ، وعنده أربعون كلها هزال يجوز أن يخرج واحدة هزيلة ؛ لأن هذا الذي يجب في ماله .(3/441)
قال رحمه الله : [ ولا يخرج إلا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز ] : إذا تبين هذا سلامة الشاة من العيب هذا أصل إلا إذا كان المال كله معيبا ، فإذا تبين أنه ينبغي سلامتها الشرط الثاني أن تبلغ السن المعتبر، فالشاة التي تخرج في زكاة الغنم، والشاة التي تخرج جبرانا للنقص في زكاة الإبل يشترط أن تكون قد بلغت السن المعتبر، وهو السن المجزئ شرعا في الأضحية، والعقيقة، والهدي الواجب، والنذور الواجبة إذا حدد قدر الإجزاء فهو الجذع من الضأن والمسن من المعز. الضأن الذي هو الطلي الجذع منه يوفي مما يوفي منها المسن ، والجذع هو الذي أتم ستة أشهر يعني ودخل في الشهر السابع ، ويختلف باختلاف المرعى ، بعضهم يقول: دخل في سبعة أشهر، بعضهم يقول: ثمانية أشهر، بعضهم يقول: قارب الحول ؛ والصحيح أن هذا يختلف باختلاف المرعى لكنه يصلح أن يكون جذعا إذا استتم أكثر الحول أكثر من ستة أشهر يصلح أن يكون جذعا من الضأن.
وأما بالنسبة للمعز فإنه لا يجزئ فيها ما كان أقل من سنة ، المعز لابد أن يكون لها سنة كاملة ودخلت في الثانية .
قال رحمه الله : [ والسن المنصوص عليها ] : نعم السن المنصوص عليها كما ذكرنا في زكاة الإبل ونحوها .(3/442)
قال رحمه الله : [ إلا أن يختار رب المال إخراج سن أعلى من الواجب أو تكون كلها صغارا فيخرج صغيره]: إلا أن يختار أن يخرج سنا أعلى من الواجب كما ذكرنا لثبوت السنة بالإقرار وأجره على الله ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نص على ذلك فلو أخرج حِقّة بدل بنت اللبون ولم يطلب الفرق بينهما فإن الساعي يقبل منه . قال : والله أريد أنا بطيب نفسي أريد أن أخرج جذعة ، ولو كان الواجب عليه بنت مخاض ، فقال: أنا أريد أن أخرج جذعة أو أريد أن أخرج حِقّة نقول له لك ذلك بطيب نفس منه ، قال ولا أريد عوضا يعني لا أريد الفرق بين السنين فله ذلك ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قبل وقال : وأجره أي أجره على الله -- عز وجل -- له أجر في هذا في الزائد .(3/443)
قال رحمه الله : [ وإن كان فيها صِحاح ومراض وذكور وإناث وصغار وكبار أخرج صحيحة كبيرة قيمتها على قدر المالين ] : هذا ما يجتمع فيه الأعلى والأدنى صحاح ومراض عرفنا أنه إذا كانت كلها صحيحة لا يجوز أن يخرج مريضة ، وإذا كانت كلها مريضة لا نفرض عليه الصحيحة، إذا عرفنا أنها إذا تمحضت بالسلامة أو تمحضت بالنقص فلا إشكال . السؤال لو جمعت بينهما فإذا جمعت بينهما نُظر إلى عِدْل الناقص والكامل، فإذا كان الكامل يعادل مثلا الأكثر بعض العلماء يقول ننظر إلى الأكثر ولا ننظر إلى الأقل، وهذا أصل عام عند أهل العلم، ومنهم من قال ننظر إلى نسبة الصحاح والمراض، ومنهم من قال ننظر إلى القيمة بين الاثنين، وهذا هو الذي اختاره المصنف -رحمه الله- فننظر إلى القيمة بين الصحيحة والعزيزة والكريمة وبين السقيمة والهزيلة والضعيفة ونجعل الواجب عليه أن يدفع من واحدة منهما ما يعادل القيمة الوسط بينهما فلو كانت العزيزة بعشرين والضعيفة بعشرة أوجبنا عليه أن يخرج شاة قيمتها خمسة عشر إما من أعلى الهزال التي تبلغ خمسة عشر أو أدنى الكرام، المهم أن قيمتها خمسة عشر ، ومنهم من يعين الكريمة يقول يخرج من الكرام ما قيمتها خمسة وعشر صيانة لحق المسكين .
إذًا على هذا ينظر القسط في القيمة ما بين الكريمة والغالية والعزيزة والنفيسة وما بين ما دون ذلك ثم إذا عُرفت قيمة هذا وقيمة هذا ينظر فيما بين القيمتين خمسا وعشرون فرضنا ننظر إلى شاة قيمتها خمسة وعشرون سواء كانت من ا لكريم أو كانت من الهزيل؛ لأنها إذا كانت من الهزيل ستكون من أعلاه ، وإذا كانت من الكريم ستكون من أدناه ، فإن شاء أخرج من هذا وإن شاء أخرج من هذا .
قال رحمه الله : [ فإن كانت فيما بخاتي وعراب وبقر وجواميس ومعز وضان وكرام ولئام وسمان ومهازيل أخذ من أحدهما بقدر المالين قيمة ] : كما ذكرنا .(3/444)
[ وإن كان فيها صحاح ومراض وذكور وإناث وصغار وكبار أخرج صحيحة كبيرة قيمتها على قدر المالين ] : كما ذكرنا الحكم نفسه أيضا في الصورة الثانية يعني ننظر إلى الوسط بين القيمتين ونخرج إما من أعلى الرديء أو من أدنى الجيد بالقيمة التي هي الوسط ، ولو كانت القيمة عشرة وعشرين فالوسط خمسة عشر، ولو كانت ما بين العشرين والأربعين الوسط ثلاثون ، وقس على هذا، ننظر إلى هذه القيمة وغالبا ما توصل هذه القيمة أنفس الرديء وأردأ الكريم تكون على هذا الأصل .(3/445)
قال رحمه الله : [ وإن اختلط جماعة في نصاب من السائمة حولا كاملا وكان مرعاهم ومحلهم ومبيتهم ومحلبهم ومشربهم وفحلهم واحدا فحكم زكاتهم حكم زكاة الواحد ] : هذه زكاة المختلط من بهيمة الأنعام. من عادة العرب أنهم يخلطون بهائمهم ببعض . القبيلة تجتمع ويجتمع أولاد العم ويجتمع أهل الفخذ الواحد لأنه أرفق بهم وأيسر عليهم، فتسرح الإبل مع بعضها والراعي واحد، والفحل واحد والمراح التي تمرح فيه واحد، فإذا تمت الخلطة؛ القاعدة في النص المرفوع إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- )) أنه لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) ، لا يجمع بين مفترق هذا عنده أربعون من الغنم وهذا عنده أربعون من الغنم لو جمعت الاثنين وجبت عليهم شاة واحدة، لكن الأربعون على حدة فيها شاة، والأربعون على حدة فيها شاة، فإذا جمعت فرّوا من الزكاة، وصار بدل أن يكون عليهم شاتان تصبح عليهم شاة واحدة، وهكذا لو كان المجموع أربعين وأحدهم له عشرون والثانية له عشرون أحدهم له ثلاثون شاة والثاني له عشرة لو فرقت لا زكاة، فقد يفرق بين المجتمع خشية الصدقة مثل الأربعين يفرق بينها فتصبح في هذا عشرة وهذا عشرة فلا زكاة ، وقد يجمع بين المفترق خشية الصدقة فيكون هذا عنده أربعون وهذا عنده أربعون لو اجتمعوا صار فيها شاة واحدة بدل الشاتين، فيفران من الشاتين إلى الشاة الواحدة خشية الصدقة . فالقاعدة تقول وهي من المرفوع : (( لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة )) أي من أجل أن يدفع عن نفسه أو عن نفسه وأخيه ضرر الصدقة ؛ إذاً إذا جاء وهي مجتمعة زكاها زكاة المجتمع ولو كانت أقل، فلو أنها مجتمعة ثمانون فلو فرقت فيها شاتان نقول خذ شاة واحدة لأنها مجتمعة وحكمها حكم المال الواحد مراحها وفحلها وراعيها وجميع الأمور يحدث هذا في القبائل وهو معروف فإذا أخذت الشاة الواحدة من الثمانين هذا له أربعون وهذا له أربعون قلنا إذا دفع أحدهم شاة ضمن له(3/446)
الآخر نصف قيمتها ؛ لأن الشاة واجبة على الاثنين ، والشريعة جعلت هذا المفترق في حكم المال الواحد فيزكى زكاة الشركاء ، وهكذا لو كانت الغنم عشرين لهذا وعشرين لهذا فإذا جمعت ففيها الزكاة شاة واحدة ، هذا له عشرون وهذا له عشرون إن دفع أحدهما الشاة دفع له الآخر القيمة -قيمة النصف- لكن لو كان أحدهم له ثلاثون رأسا من الغنم والآخر له عشر من الغنم وعلى هذا تكون الشاة مقسمة على ثلاثة أرباع وربع ، فلو قال كانت أربعمائة ريال ودفع الذي له ثلاثة أرباع الشاة يدفع الذي له العشرالشياه مائة ريال جبرانا للربع الذي هو قيمة حصته من الشاة المدفوعة ، إذًا لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، وإن جمع بينهم وزكي زكاة المال الواحد، وقسم الواجب بينهم على قدر الحصص .
قال رحمه الله : [ وإذا أخرج الفرض من مال أحدهم رجع على خلطائه بحصصهم ] : رجع على خلطائهم بحصصهم لو كانوا أربعة كل واحد له عشر شياه حكمها حكم الغنم الواحدة فحينئذ يرجع على كل واحد بالربع ، إن دفع شاة قيمتها أربعمائة ريال كل واحد من الثلاث الباقين يدفع مائة ريال .
قال رحمه الله : [ ولا تؤثر الخلطة إلا في السائمة ] : نعم كما ذكرنا
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب زكاة الخارج من الأرض ] : الأصل في وجوب الزكاة هذا قوله تعالى : { أنفقوا من طيبات مما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } وقوله - سبحانه وتعالى - : { وآتوا حقه يوم حصاده } فنص على وجوب الزكاة في الخارج من الأرض ويشمل هذا الحبوب والثمار كما في حكمها وألحق به العلماء مسألة المعادن كما سيأتي .(3/447)
قال رحمه الله : [ وهو نوعان : أحدهما: النبات فتجب الزكاة منه في كل حب وثمر يكال ويدخر ] : الأصل في تخصيصها بالحبوب والثمار؛ قوله -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين : (( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )) والوَسْق ستون صاعاً وأصبح بهذا ا لنصاب ثلاثمائة صاع ومن المعلوم أنه إذا كان ما يخرج من الأرض تابعا لهذا النصاب وهو ثلاثمائة صاع فينبغي أن يكون من جنس ما يكال، فإذا كان الذي يخرج من الأرض لا يكال ليس من الحب ولا من الثمار التي تكال مثل البرتقال والموز التفاح والفواكه، الفواكه لا تكال، وحينئذ لا تجب فيها الزكاة، ومثل الخضروات كالجرجير والبقول ونحوها هذه لا زكاة فيها ؛ إنما الزكاة تكون في الحبوب والثمار ثمرات النخيل والأعناب مثلا التمر تجب فيه الزكاة ؛ لأنه من جنس ما قال النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في خمسة أوسق فلما قال : (( ليس فيما دون خمس أوسق )) نبه على عدة مسائل :
المسألة الأولى : وجوب الزكاة في الخارج من الأرض كما ذكرنا .
ثانيا : تخصيصها بما يكال؛ لأنه جعل الذي يخرج من الأرض مقيداً بماذا؟ بالذي يكال فجعل النصاب محدودا بالمكيلات ، ولو أوجبنا الزكاة في غيره ما هو نصابه ؟ ليس هناك نصاب ما نصت الشريعة على شيء فلا زكاة ، وكذلك أيضا أن يكون النصاب بهذا القدر وهو ثلاثمائة صاع .
قال رحمه الله : [ ويدخر إذا خرج من أرضه وبلغ خمسة أوسق ] : إذا خرج من الأرض يدخر مثل: التمر، الشعير، القمح، هذه كلها تدخر الزبيب ؛ قوله : [ وبلغ خمسة أوسق ] لقوله -عليه الصلاة والسلام- ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة فدل على أن النصاب هو خمسة أوسق والوَسْق هو ستون صاعا فأصبح المجموع ثلاثمائة صاع .(3/448)
قال رحمه الله : [ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق)) والوَسْق ستون صاعا، والصاع رطل بالدمشقي وأوقية وخمسة أسباع أوقية فجميع النصاب ما قارب ثلاثمائة واثنين وأربعين رَطْلا وستة أسباع رطل ] : هذا الرَّطْل نوع من المكيلات، والمنبغي الحرص على بقاء السنة والحرص على عدم البحث عن البديل في المكيلات وزنا ؛ لأن هذا ينسي الناس السنة وقد نبهنا على هذه المسألة أكثر من مرة، هم ذكروا هذا؛ لأنه مكيل مع مكيل، لكن أصل العلماء أنهم لا يقدرون المكيلات بالوزن ونبه على ذلك الإمام ابن قدامه، ولذلك تجد الناس حينما يقال لهم عليكم زكاة الفطر صاعا يعرفون الصاع ويحرصون على بقاء الصاع لكن إذا جئت تقول لهم ثلاثة كيلو كيلين ونصف أو أربعة كيلو تركوا الصيعان وأصبحوا يزنون حتى يتناسى الناس السنة ، وهذا كما يقول العلماء من فقه الفتوى حتى ولو كان جائزا سائغا لما كان من فقه الفتوى؛ لأن فقه الفتوى أن تبقى السنن، وأن يحرص على كل ما يبقيها ، وما الذي يجعل الناس يتركون هذا المسنون بل ينبغي أن يبقوه، ولذلك كان بعض العلماء يقول في قوله عليه الصلاة والسلام : (( اللهم بارك لنا في مدنا و صاعنا )) قال: نص النبي -- صلى الله عليه وسلم -- على البركة في المد والصاع فلا ينبغي لأهل المدينة أن يتركوا المد والصاع؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- دعا لهم بالبركة فيه ، وهذا أصل ينبغي إحياؤه وإبقاؤه حتى يعرف الناس الحكم وتبقى المقادير الشرعية محفوظة ، وأما التقدير بالوزن فهو مختل؛ لأن الموزونات تختلف في الثقل عن المكيلات .(3/449)
وقد يكون الشيء وزنه خفيفا وحجمه كبيرا ، فيملأ في المكيل ولا يملأ في الموزون، والعكس قد يكون صغير الحجم ثقيلا فيملأ في الموزون ولا يملأ في المكيل، مثلا التمر الآن العنبرة كبيرة الحجم خفيفة الوزن، فإذا جئت تضبطها كيف تضبطها مع العجوة صغيرة الحجم ثقيلة الوزن، فتجد أن الموزونات ما تنضبط، ثم نفس المطعومات كل أهل الخبرة يعرفون أن المزارع التي يكون ماؤها وعنايتها وزرعها معتنى بالزرع والماء طيب يكون أثقل وأكثر جودة وكذلك الحبوب ، وعلى هذا فلا ينظر إلا إلى السنة الواردة أنها ثلاثمائة صاع كما بين النبي -- صلى الله عليه وسلم - - الصاع لا يزال محفوظا إلى يومنا هذا يتوارثه الكافة عن الكافة .(3/450)
قال رحمه الله :[ ويجب العشر فيما سقي من السماء والسيوح ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح ] : هذا تقدير النبي -- صلى الله عليه وسلم - - كما في الصحيح : (( فيما سقت السماء العشر )) يشمل الذي سقته السماء بالمطر مثل الرياض الذي تكون في أيام الربيع أو زرع فيها مثلا شعيرا ، ثم هذا الشعير إن بلغ الخمسة الأوسق فإننا نقول بأن الزكاة واجبة فيه ، فإذا حصد أخرج العشر؛ لأنه مسقي بالسماء ، وهكذا لو كان يسقى عثريا تجري الأنهار وهو على أطراف الأنهار ليس هناك لا كلفة ولا مشقة ، فيسقى بالأنهار الجارية أو مثلا السيول إذا فاضت وزرع جنبات السيل دون كلفة دوالي ودون كلفة مكائن في زماننا ؛ فهذا كله فيه العشر، وفيما سقي بكلفة وهو الذي فيه المكائن في زماننا والمواطير -مواطير الماء- وجلب الماء إليه مثل أن يجلبه بالوايت أو نحو ذلك ويسقيه؛ فإن فيه نصف العشر، وهذا تخفيف من الله -- عز وجل -- لأن الذي فيه كلفة ليس كالذي لا كلفة فيه ، وعلى هذا لو أنه سقت السماء زَرْع روضةٍ من الرياض فأخرجت ألف صاع من الحب وجب عليه أن يخرج مائة صاع زكاة ؛ لأنه مما لا كلفة فيه ، فإن كان الذي في مزرعته بالمواطير وأخرجت ألف صاع فعليه خمسون صاعا الذي هو نصف العشر .
ولو جمع بين الاثنين إذا جاء السيل سقاها، ويسقيها كذلك بالكلفة مثل النخل تبقى أكثر الحول فينظر إلى الأكثر، مثل ما ذكرنا في المعلوفة والسائمة ، إذا كان الأكثر بالنضح أخذ حكم النضح وإلا أخذ حكم العشر إذا كان الأكثر أنه يسقى بالسماء .
قال رحمه الله : [ وإذا بدا الصلاح في الثمار واشتد الحب وجبت الزكاة ] : أي يجب على الساعي أن يخرص المزرعة . عندك مزرعة فيها نخل : أولاً نحتاج أن نعرف هل النخل الذي عندك بلغ النصاب أو لم يبلغ ؟ فيرد السؤال: ما هو الوقت الذي يأتي فيه الساعي ؟ ومتى يقدر نتاج نخلك ؟(3/451)
الجواب يأتي الساعي بعد بدو الصلاح لا قبله، وبدو الصلاح الاحمرار والاصفرار، وهو علامة اللون أو الزمان وهو طلوع النجم كما في حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- (( إذا طلع النجم وأمنت العاهة وهو لثنتي عشرة ليلة خلت من مايو أيار)) والطعم كما في حديث زيد في الصحيح : ((نهى عن بيع الثمر حتى تطعم )) فإذا بدا الصلاح في النخل جاء الخارص ونظر في النخل الموجود في البستان؛ فحينئذ يقدّر يقول هذا النخل يسقط ما يقارب الربع إذا قَدّر يسقط الربع؛ لأن التمر فيه شيء يسقطه الريح وفيه شيء يأكله الطير وفيه شيء يسقط من نفسه في حدود الربع إلى الثلث فهذا مما يسقط على اختلاف وفيه السابلة الذي يمر ويأخذ من النخل هذا تخفيف من الشريعة؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أمر به الخارص فإذا وجد أن هناك ثلاثة آلاف صاع أسقط ربعها أو أسقط ثلثها فإذا أسقط الثلث قال هناك ألفان صاع عليك أن تزكي، فإذا كان نخله يسقى بالنواضح والمكائن قال : عليك نصف العشر الذي هو مائة صاع وإذا كان بالسماء قال: عليك العشر مائتا صاع من الألفين، إذا قال له هذا الكلام النخل إلى الآن بدا صلاحه يُتْرك صاحب النخل مع نخله، حتى إذا جاء الجذاذ والحصاد لكي يفصل التمر زكي بالتمر لا يزكي بالرطب ولا يزكي بالبلح، لابد من أن تكون الزكاة بالتمر، ولذلك قال تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } والحصاد الجذاذ بالنسبة للنخل لا يكون إلا بعد تمام استوائه ولذلك الرطب ولو أخذها رطبا نقص ؛ ولذلك منع النبي -- صلى الله عليه وسلم - - بيع التمر بالرطب . قال: (( أينقص الرطب إذا يبس ؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذا ))، فلا يبقى على قدره ، ومن هنا يقال له في بستانك هذا القدر وعليك الزكاة، إذاً هناك أمور:(3/452)
أوّلا : يحُدّد قدر الواجب من السعاة أو من في حكمهم من أهل الخبرة وهم الخارصون في النخل عند بدوّ الصلاح ، ثم بعد ذلك يُخلّى بين النخل وبين صاحبه يبيع ويشتري حتى لو باع كل هذا النخل وكل هذا الثمر نقول: عليك مائتا صاع حتى لو اشتراها من الخارج وجاء بها؛ لأنها في ذمته ، ولا يجب عليه الدفع إلا بعد تمام الاستواء واكتماله، فإذا حصد أدى الزكاة، هكذا بالنسبة للحبوب ، هذا بالنسبة للتمر، بالنسبة للعنب، العنب يبدأ صغير الحجم ثم ينتفخ حتى يبلغ قدره المعتبر، ثم يضربه اللون، يعني في البداية يكون أخضر شديد الخضرة أو يكون مثلا عُنابياً هذا في العنب الأحمر فإذا كان أخضر شديد الخضرة حامضا لا يصلح طعمه، يبدأ الصلاح فيه إذا تموّه، وتموه يعني دخله الماء فخفت خضرته، وهذا معنى قوله : (( حتى يسود )) لأن الماء يوصف بالسواد . قال : ماذا كان طعامه ؟ فقالت: (( الأٍسودان : التمر والماء )) فإذا دخل الماء في العنب تفتحت خضرته، وهذا معنى: (( نهى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - عن بيع العنب حتى يسود )) لأنه إذا اسود بدا الصلاح فجاز بيعه، فعند بدو الصلاح يجوز البيع وتقدر الزكاة؛ لأنه قبل بدوّ الصلاح الثمرة عرضة للفساد، وعرضة للتلف، ومن هنا جماهير السلف والأئمة على أن بدوّ الصلاح هو المقدر شرعا لابتداء التقدير، وكان النبي -- صلى الله عليه وسلم - - يرسل عبدالله بن رواحه وغيره من أهل الخبرة، أهل الخبرة يأتون للخرص ، وأذكر في مزرعة الوالد -رحمه الله- تطبيقاً لما ذكره العلماء أنه جاء ذات مرة بأكثر من خارص يخرصون البستان لا يعلم هذا بهذا، والله ما اختلفت كلمة الخارصين؛ لأن الخبرة وكان من أعلم الناس بالنخل و ما اختلفت كلمتهم، فوالله، إني أذكر مرة من المرات قال: النخل لا ينزل عن كذا ولا يزيد عن كذا، ولما جاء الخراص لم يخرجوا عن الكلام الذي قال لأنه كان عنده خبرة -رحمه الله- .(3/453)
فالشاهد من هذا أن الخبرة معتبرة هذه من المسائل التي يقال يرجع فيها إلى التقدير عند عدم القدرة على التعيين التي هي مسائل التقديرات : الخرص ، عملت به الشريعة ؛ لماذا قال العلماء والأئمة لأن الغلبة الإصابة ، قد يقول البعض : ليش نأتي بالخارص ؟ نقول الغالب: سلامته ، ولو قلنا للناس انتظروا حتى تجدّوا وتعدوا كم عندكم ؟ لحصلت مشقة عظيمة ؛ لأنه تارة يبيع النخل بلحا، وتارة يبيعه رطبا ، وتارة يبيعه تمرا ، فإذا جاء كلما أنزل شيئا أراد أن يكيله ثم ينظر كم عدده ؟ وكم مقداره ؟ دخل على الناس مشقة فادحة ومن يعرف النخيل يدرك هذا ، فيأتي الخارص فيقدر هذا الشيء ، وبعد ذلك يخلى بين الرجل ونخله يقال: في ذمتك أن تدفع كذا وكذا .
قال رحمه الله : [ ولا يخرج الحب إلا مصفى ولا التمر إلا يابسا ] : نعم هذا الأصل التمر يابس ؛ لأنه قبل اليبس والرطب أو كونه في بداية الاستواء ينقص، وقد يُحمّض حتى يفسد، وكذلك الحب، الحب يشتد، فإذا اشتد وكَمُلَ استواؤه وآن حصاده لابد من تصفيته، فلا يدفع في الزكاة إلا مصفًّى خالصا من الشوب .(3/454)
قال رحمه الله : [ ولا زكاة فيما يكتسبه من مباح الحب والتمر ولا سيما يأخذه أجرة لحصاده ]: نعم؛ لأنه أثناء بدو الصلاح الذي سقط كان ملكا لصاحب البستان، فالملكية للملتقط غير موجودة أثناء الوجوب، وإنما كان ملكا لصاحب البستان، والله خاطب المالك فقال : { وآتوا حقه يوم حصاده } وجعله من جنس المحصود، والملتقط ليس له ملكية، وليس في استقرار ملكية عند سبب الوجوب ، ومن هنا هذا الذي التقطه يؤول إلى ملكه بالالتقاط، وإذا آل إلى ملكه بالالتقاط فإن سبب وجوب الزكاة غير متوفر فيه، ولذلك لا تجب عليه الزكاة، ويقال له : تريده لنفسك إن أكله وانتهى فلا إشكال، وإذا عرضه للبيع صار عرض تجارة ، لو أن هذا التمر مر عليه حول كامل وهو عرض للتجارة لما أخذ خمسين صاعاًكان التقطها وعرضها للبيع، فإذا أتمت حولا كاملا عرض تجارة زكيت زكاة عرض التجارة ولا تزكى زكاة الخارج من الأرض؛ لأن الخارج من الأرض جاء على الصورة الواردة؛ ولذلك يختص بصاحبه الذي جاء سبب الوجوب وهو في ملكه عند بدوّ الصلاح .
قال رحمه الله : [ ولا يُضمّ صنف من الحب والتمر إلى غيره في تكميل النصاب إلا أن يكون صنفاً واحداً مختلف الأنواع كالتمور ففيها الزكاة أخرج من كل نوع زكاته ] : مثلا له أن يجمع في التمر بين العجوة والحلوة والبرحي والسكري، فهذه إذا اجتمعت بلغت النصاب وإذا افترقت لم تبلغ ، ضم بعضها إلى بعض وزكيت زكاة واحدة ، وهذا هو الصحيح؛ ولذلك بالنسبة للتمر بمثابة الصنف الواحد في هذا الوجه كما ذكره المصنف -رحمه الله- .
قال رحمه الله : [ وإن أخرج جيدا عن الرديء جاز وله أجره ] : وإن أخرج جيدا عن الرديء جاز يعني تفضلاً منه كما تقدم معنا في زكاة بهيمة الأنعام حيث قبل عليه الصلاة والسلام الجيّد والأفضل وله أجره ؛ كما جاء مرفوعا عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أن الله يأجره على الزائد .(3/455)
واختلف العلماء في هذا الأجر على وجهين : هل هو أجر فرض أو أجر نافلة ؟ وهذا راجع إلى مسألة أشار إليها الإمام ابن رجب في قواعده : ( إذا زاد عن القدر الواجب هل يوصف الكل بالوجوب أو قدر الإجزاء؟) هذه القاعدة لها فروع ، إذا زاد عن القدر الواجب منها : لو أنه أخرج ناقة عن شاة في الدماء الواجبة عليه، فنحر ناقة فالواجب عليه سبع الناقة للواجب، كأن يكون مثلا ترك الإحرام من الميقات الواجب عليه شاة فقال: أريد أن أخرج بدنة ، فإذا أخرج البدنة هل يوصف الكل بالوجوب ؟ إذا قلت: يوصف الكل بالوجوب كان مخرجها مخرج الواجب، وتقسم كلها على فقراء الحرم، وإن قلنا : قدر الوجوب هو الذي يوصف بالوجوب، فحينئذ نقسم السبع على فقراء الحرم، والباقي شأنه به ، لا يوصف الكل بالوجوب، ومن هنا تفرعت عليه هذه مسائل الدنيا في الأحكام ويتفرع عليها في الآخرة هل يثاب ثواب الفرض في كله أو بعضه ؟ ومنها : لو ركع فقال : سبحان ربي العظيم وزاد فالواجب أن يقول مرة سبحان ربي العظيم وزاد الثانية والثالثة فأدركه المسبوق؛ فإنه أدركه متنفلاً إن قلنا لا يوصف الكل بالوجوب أو أدركه مفترضاً إذا قلنا يوصف الكل بالوجوب، فعند من لا يرى إتمام المفترض بالمتنفل وقال إنه يوصف بالوجوب قدر الإجزاء يصبح ما أدركه في الفضل لا يوجب إدراكه للركعة والعكس بالعكس . هذه مسألة مشهورة عند العلماء -رحمهم الله- ومن تخريجاته هذه . له أجره : له ثوابه .
قال رحمه الله : [ النوع الثاني : المعدن فمن استخرج من معدن نصابا من الذهب ] : العَدْن الإقامة ؛ ومنه قوله تعالى : { جنات عدن } لأن أهلها مقيمون فيها لا يتحولون ولا ينزعون عنها، فهم خالدون فيها ولا يخرجون منها ولا يتحولون عنها ولا ينقطع النعيم عنهم أبدا ؛ كما قال تعالى : { خالدين فيها أبدا } وسمي المعدن معدنا ؛ لأنه في المكان الذي يوجد فيه ، ولذلك يستخرجه الإنسان من موضعه .(3/456)
المعدن يكون مثلا في الأشياء النفيسة ، ويشمل غير النفيسة ويكون المعدن من الملح ويكون المعدن من الحديد والنحاس والرصاص والنيكل وغير ذلك من المستخرجات والمعادن .
قال رحمه الله : [ فمن استخرج من المعدن نصابا من الذهب أو الفضة أو ما قيمته ذلك من الجواهر أو الكحل أو الصفر أو الحديد أو غيره فعليه الزكاة ] : هذا مأثور عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - وفعل الصحابة ، لكن المرفوع فيه ضعف ، وهي المعادن القبليّة ، وكان إلى جهة المهد كان فيها معدن استقطع النبي -- صلى الله عليه وسلم - - لبعض الصحابة بعض المعادن ، وأثر عن عمر -- رضي الله عنه -- في الخلافة الراشدة ، وذكر أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال آثارا في هذا ، وهي داخلة في أصل الخارج من الأرض، ويجب فيه الزكاة على أحد الوجهين عند أهل العلم -رحمهم الله- هذا في الخارج من البر، دون الخارج من البحر من حيوانه كالعنبر إذا خرج من الحوت، واختلف في المرجان فمنهم من ألحقه به ، وفي آثار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره بعدم وجوب الزكاة في التفريق بين ما خرج من البحر لا زكاة فيه والخارج من الأرض ففيه الزكاة .
قال رحمه الله : [ ولا يخرج إلا بعد السبك والتصفية ] : لا تجب الزكاة فيه إلا بعد سبكه وتصفيته، فإذا صفي فنصابه نصاب الذهب أو الفضة، يكون هذا الذي صفي قيمته تعادل الأقل من نصاب الذهب أو نصاب الفضة .
قال رحمه الله : [ ولا شيء في اللؤلؤ والمرجان والعنبر والمسك ] : نعم هذا القول الذي يقول بالتفريق بين ما يكون من البحر وما يكون من البر، والذين قالوا بالتفريق منهم من أطلق ومنهم من قيد بالخارج من البحر بين ما يلقيه الحوت كالعنبر كما أثر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وبين غيره مما يوجد في الأصداف كاللؤلؤ والمرجان ، والتفريق قوي جدا .(3/457)
قال رحمه الله : [ ولا شيء في صيد البر والبحر ] : ولا شيء في صيد البر والبحر؛ فلو أنه صاد بريا، مثل: بقر الوحش، وحمار الوحش، والتيثل، وتيس الجبل فلو أنه مثلا صاد منها أربعين من بقر الوحش أو ثلاثين من بقر الوحش فلا نقول تجب عليه الزكاة ؛ لأنه لم يأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم - - بزكاة الصيد؛ولأن الغالب في مثل هذا أنه يؤكل مباشرة ، وليس من جنس بهيمة الأنعام الداجنة .
قال رحمه الله : [ وفي الركاز الخمس أي نوع كان من المال قل أو كثر لأهل الفيء وباقيه لواجده ] : في الركاز الخمس ، هذا نص حديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم - - ، والركاز هو دفن الجاهلية ، يعرف هذا بالكتابات، وبالنقوش، وبالصفات التي يعرفها أهل الخبرة أنها قديمة، وأهل الخبرة الذين عندهم معرفة ، لكن بعض الأحيان الخبرة تكون زائدة عن الحد، فيقولون لك : هذا المدفون له خمسة آلاف مليون سنة، وربما يعطيك من السنوات ما لا ينتهي عدده، وهذا صنيع أهل الكفر أنهم يجرؤون على الكذب، وإذا كذبوا على الله فمن باب أولى أن يكذبوا على غيره، فإذا جاء يقول لك : هذا له مائة سنة وله مائتا سنة ما يكون يعني له قيمة ، ولذلك هو متهم في شهادته ، هناك أمور معقولة ومعروفة ممكن أن يثبت فيها قول أهل الخبرة ، مثلا إذا وُجِدَ دَفْنٌ وعليه شعار المسلمين علمنا أن هذا ليس من الجاهلية ، وجدنا عليها كتابة تشير مثلا إلى العصر العباسي أو الأموي علمنا أنه ليس من دفن الجاهلية ، أما إذا وجدت علامات أو أمارات تدل على ما هو أقدم من عصر النبوة قرب أو بعد ؛ فهذا هو الركاز؛ ففيه الخمس لنص النبي -- صلى الله عليه وسلم - - على ذلك بقوله : (( في الركاز الخمس)) مصرفه مصرف الفيء يخمس ثم يكون لله ورسوله خمسه ، والخمس لله والرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين، فيكون لله ورسوله سهم اختلف فيه على وجهين : قيل إن ما كان لله والرسول في آية الحشر المراد به أن يضعه(3/458)
الإمام حيث شاء ، وهذا يفهم من صنيع أبي بكر -- رضي الله عنه -- في أموال فدك ، وفيها الأصل: قالوا إن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - تولاها بحكم الولاية العامة ، فيكون مردها إلى بيت مال المسلمين، يصرفها ولي الأمر فيما يراه من مصالح المسلمين .
أما الخمس الثاني لذي القربى ، وهم آل النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أهل بيته من بني هاشم ، ويخرج منهم أبناء بني أبي لهب عم النبي -- صلى الله عليه وسلم - - عتبة ومعتب ، فهؤلاء يخرجون من آل البيت على أصح قولي العلماء، والصحيح أن المطّلب يلتحق بآل هاشم ، فآل بيت النبي -- صلى الله عليه وسلم - - بالنسبة لآل هاشم لا إشكال في كونهم يأخذون الخمس من بيت مال المسلمين. وبالنسبة للمطلب وهو أخ لهاشم الصحيح: أن ذرّيته تلتحق به ، وهو الذي ينتسب إليه الإمام الشافعي؛ لأنه مطلبي ، والصحيح أنهم يدخلون ويأخذون حكم آل البيت ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - قال : (( إنما بنو المطلب وبنو هاشم كالشيء الواحد )) وفي اللفظ الآخر : (( لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام )) ولما حوصر عليه الصلاة والسلام في شعب أبي طالب كان معه بنو المطلب ، ولذلك جمع العلماء في آل النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بين النصرة والقرابة، فسقط شرط النصرة في أبي لهب وذريته؛ لأن أبا لهب كان له عتبة وعتيبة ومعتب وجدرة هؤلاء هم أولاده، أما عتيبة فقد عدا عليه الذئب وأكله وقيل بدعوة النبي -- صلى الله عليه وسلم - - ، وأما درّة فهي أنثى، وأما بالنسبة لعتبة ومعتب فقد أسلما وشهدا مع النبي -- صلى الله عليه وسلم - - فتح الطائف ، واختلف في ذريتهما ، والصحيح أنهما انقطعا من آل البيت لسقوط النصرة ، وقد نص الله - - عز وجل - - على التباب على أبي لهب وبيته ، هذا قطع للنصرة أنه لم يكن منهم مناصرة ، فلم يكن لهم هذا الحق ، فعلى كل حال هذا الخمس مصرفه في مصرف الفيء .(3/459)
قال الإمام المصنف -رحمه الله- : [ باب زكاة الأثمان ] : يقول المصنف -رحمه الله- باب زكاة الأثمان : الأثمان جمع ثمن، والثمن يشمل الذهب والفضة . وقوله : [ زكاة الأثمان ] أي زكاة الذهب والفضة ؛ والأصل في هذه الزكاة ما قدمنا من دليل الكتاب : { الذين يكنزون الذهب والفضة } ودليله العام : { خذ من أموالهم } والذهب والفضة مال ، وكذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - من قوله : (( ما من صاحب ذهب ولا مال لا يؤدي زكاتها إلا صُفّح له صفائح من نار )) ، وكذلك أيضا إجماع العلماء -رحمهم الله- على وجوب الزكاة في الذهب والفضة .(3/460)
قال رحمه الله : [ وهي نوعان : ذهب وفضة ، ولا شيء فيها حتى تبلغ مائتي درهم فيجب فيها خمسة دراهم ] : ولا شيء فيها يعني الفضة حتى تبلغ مائتي درهم ؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- في الصحيح : (( ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة )) والأوقية أربعون درهما ، وخمس أواق تعادل مائتي درهم ، وبيّن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أن نصابها يعادل مائتي درهم ، واختلف في تقدير الدرهم الإسلامي وهذا راجع إلى مسألة : هل العبرة بالعدد أو بالوزن ؟ وإذا كان بالوزن فالإشكال فيه وجود الشوب هل العبرة به مع شوبه أم بخالصه؟ فاختلف الضبط لهذه النسبة وهذا القدر بأكادرها ، منهم من قال سبعمائة غرام كما هو مذهب الحنفية -رحمهم الله- ، ومنهم من قال وهو أقرب إلى مذهب الجمهور خمسمائة وخمس وتسعون غراما وهو الأشبه -إن شاء الله- وأحوط لحق الفقراء ، فإذا كانت الفضة تعادل في وزنه هذا فإنها قد بلغت النصاب من الحلي ونحوه وأما إذا كانت دون ا لخمسمائة وخمس وتسعين غرام من الفضة فإنه لا زكاة فيها وبالنسبة للريال، والعملات الفضية، فالريال بجميع أنواعه، والأوقيات بجميع أنواعها، والدراهم العملات كلها التي تسمى بالريال : الريال اليمني، الريال السعودي، الريال الخليجي بأنواعه، الدراهم كالدرهم المغربي، الأوقية كلها رصيدها فضة، والورق النقدي يعتبر في حكم النقد، وهذا ما نص عليه الإمام سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة، إمام العلماء والأئمة رحمه الله برحمته الواسعة نص عليه في الفتاوى : أن الأوراق النقدية تأخذ حكم رصيدها ، وأن القول بكونها عرضاً من عروض التجارة ضعيف وكلامه في الفتاوى من أحب أن يرجع إليه ظاهر؛ لأن هذه المستندات الورقية تمثل رصيدا، وهذا الرصيد أعطيت بدلا عنه من ناحية قضائية لا تسقط قيمة هذا الرصيد شرعا حتى يوفر الرصيد .كونهم يقولون إن رصيدها ألغي فمن ألغى الرصيد فإلغاؤه غير معتد به شرعا ، ولذلك(3/461)
المستندات في الديون لا تسقط إلا بعد إبراء الدين كاملا ، فبقيت قوة الوَرَق كما هي على أصل شرعي . فالذين يقولون إنها عرض يخالفون الأصل؛ لأن الأصل أنها أعطيت سندا عن دين ، ولذلك استوى أن تكون ورقا وحديدا ، فتجد الحديد يقال له : ريال ، فلو كان ينظر إلى أنها جنس من عروض لاختلفت تسمية الحديد عن تسمية الورق فدل على أن كلها مستندات لأرصدتها ، ولو قيل: إنه يلغى الرصيد نهائيا إذا لا تجب الزكاة ، ولحل الربا في البنوك كما يقول بعض الذين يسقطوا عن الأوراق النقدية بلغ ببعضهم إلى أن يقول حتى يجوز الربا فيها ؛ لأنها من عروض التجارة وليست بذهب حقيقي ولا فضة حقيقية ، كما لو بادل ورقاً بورق متفاضلا ، ولا يخفى مثل هذا ، حتى إن الشيخ -رحمه الله- في الفتاوى شنّع على أصحاب هذا القول وبين ضعفه وبطلانه ، وقال: إن الفقه يقتضي أن هذه المستندات باقية قيمتها، وعليه فإننا نقول العملة التي رصيدها ذهب يرجع إلى رصيدها، والعملة التي رصيدها فضة تأخذ حكم رصيدها، على هذا القول: الستة والخمسون ريالاً كأقصى حد بلغت به التقدير وأنا لا أجزم بهذا؛ لأن المسألة هذه مكثت أكثر من عشر سنوات وأنا أحاول أن أصل فيها إلى قول فصل وأحكي فيها كلام العلماء؛ والسبب في هذا أنك لا تستطيع أن تجد الترجيح لاختلاف التقادير والأمر ليس راجع إلى الاجتهاد ، الأمر محفوظ عن كلام العلماء المتقدمين ، ولذلك أكتفي بالإشارة إلى تقدير هؤلاء دون تحمل مسؤولية الجزم بهذا ، لكن الستة والخمسين ريالاً القديمة من الفضة -ريال الفضة القديم- تعادل مائتي درهم فيما حرره المحررون، وعلى هذا فمن ملك ستة وخمسين من الريال الورقي أو من الريال القديم وجبت عليه الزكاة . أما قول من يقول: إن هذه الأوراق ينظر بكم يشتري الورق القديم ، ثم بعد ذلك يكون رصيدا فهذا عين الربا ، ولذلك الريال القديم فضة هو رصيد بريال الورق ، فإذا بادلت ريالا بعشرة ريالات فكأنك تبادل فضة قديمة(3/462)
ريالا بعشرة عين الربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه -نسأل الله السلامة والعافية- نأتي ونبني عليه نصاب الزكاة يعني هي المعاملة نفسها باطلة من أصلها ، ولذلك بعضهم يوصل النصاب إلى ستمائة أو سبعمائة ريال وهذا ضعيف ، وهو راجع إلى ما أشار إليه سماحة الشيخ -رحمه الله- وضعفه في الفتاوى وبيّن أن الأظهر أنه نقد حقيقي وحكم النقد الحقيقي، والمستند آخذ حكم رصيده، فإذا ناقشك أي أحد تقول هذا الورق أُخذ الرصيد الذي هو الفضة حقيقيا وأعطي بدلا منه الورق، فإذا أعطي فالذمة مشغولة بهذا الرصيد من الفضة الحقيقية والذهب الحقيقي، فلا نستطيع أن نلغي هذا الورق ولا نستطيع أن نسقط عنه قيمته الاعتبارية لكونه منزلاً منزلة رصيده إلا بدليل شرعي، ولا وجه شرعا للإسقاط إلا برد عين الذهب وعين الفضة التي هي مستنداتها، فكونه يستصعب أو يمتنع أو يتعذر أو تمتنع أي جهة من البنوك المركزية أو غيرها من رد الرصيد لا يلغي حقيقة الشرع ؛ لأن الشرع مبقٍ لهذه المستندات حكمها من كونها أنها منزّلة منْزِلة أصلها ، وعلى هذا فإنه تجب الزكاة في ستة وخمسين ريالا وما زاد على ذلك سواء كان من القديم أو من الجديد ، هذا فيما ظهر، وهكذا بالنسبة لبقية العملات . طبعا هذه بالنسبة للفضة والعملات الفضية، تصبح نفس العملة الفضة القديمة توزن إذا وجدها نفس الريال اليمني أو غيره فينظر كم يعادل وعنده الرصيد الأساسي الذي هو ست وخمسون وينظر كم يعادل من العدد فيحتسب بذلك الحساب .
قال رحمه الله : [ ولا شيء في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا فيجب فيه نصف مثقال ] : فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث علي -- رضي الله عنه - وأرضاه- وهو أصل عند أهل العلم وحسن بعض العلماء حديث علي -- رضي الله عنه -- وهو من رواية أبي عبيد أيضا في الأموال .(3/463)
أما نصاب الذهب عشرون مثقالا ، العشرون مثقالاً فيها نصف مثقال، وهو ربع العشر وعلى هذا فإذا بلغ الذهب هذا القدر وجبت فيه الزكاة ، وإذا كان دونه لم تجب فيه الزكاة سواء كان من النقود كالجنيهات أو كان من الملبوس كالحلي، والعشرون مثقالاً نفس الشيء اختلف فيه ما بين الذهب الخالص من الشوب والذهب بالشوب والدنانير المشوبة والدنانير غير المشوبة ومن أعدل الأقوال صيانة لحظ الفقراء أنها من خمس وثمانين غراماً، ومنهم من أوصلها إلى خمس وتسعين غراماً، وخمس وثمانين أحوط وأقرب في الذهب الخالص من الشوب ، هذا هو قدر النصاب سواء كان من الجنيهات أو كان من غيرها ، إذا بلغ فإنه يزكيه ، وإذا كان دونه فلا تجب فيه الزكاة .
قال رحمه الله : [ فإن كان فيهما غش فلا زكاة فيهما حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصابا ] : لأن الغش غير محتسب، ومن أهل العلم من اعتبر الدراهم والدنانير بغض النظر عن كونها مغشوشة أو غير مغشوشة ، وهذه مسألة راجعة هل العبرة بالعدد أو العبرة بالوزن ؟ فالنبي -- صلى الله عليه وسلم - - قال : ((حتى تبلغا مائتي درهم )) يدل على العدد وقوله : (( ليس فيما دون خمس أواق )) يدل على الوزن ، ونص الوزن أقوى ، ومن هنا رجح فأصبحت العبرة بالفضة الخالصة من الشوب؛ لأن الدراهم يخلط معها غيرها ، والدنانير يخلط معها غيرها، وبخاصة إن الذهب معدن ضعيف يحتاج أن يتقوّى بالنحاس، ولذلك يخلط معه في السُّكة المضروبة ، فظاهر الحديث في قوله : (( ليس فيما دون خمس أواق )) وحديث المثقال أن الوزن أقوى ، وعلى هذا ننظر إلى حقيقة الوزن أن يبلغ هذا القدر وهذا الذي جعلنا نقول خمسة وثمانون غراماً أقوى من القول فيما زاد على ذلك .(3/464)
قال رحمه الله : [ فإن شك في ذلك خُيّر بين الإخراج وبين سبكهما ليعلم ذلك ] : لأن القاعدة أن القدرة على اليقين تمنع من الشك ، إن شك هل بلغت النصاب أو لم تبلغ مثلا عنده الحلي وفيها غش -مشوبة- لا يدري هل إذا صفي تبلغ أو لا تبلغ ؟ نقول له : إما أن تؤدي زكاتها وإما أن تتأكد فتفصل المشوب عن الذهب الخالص، وتتحقق هل بلغ النصاب أو لم يبلغ ؟ فإن بلغ زكيت، وإن لم يبلغ فلا زكاة عليك، يخير بين أن يؤدي الزكاة عند الشك وبين أن يرجع إلى اليقين للتصفية من الشوب .
قال رحمه الله : [ ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال والعارية ] : هذا أحد قولي العلماء -رحمهم الله- إنه لا زكاة في الحلي المعد للاستعمال أو للعارية ، وعلى هذا فالمرأة إذا كانت تلبس الحلي في أكثر من حول في المناسبات، أو داخل بيتها وتتجمل به لزوجها أونحو ذلك سقطت عنها الزكاة، وصار مال قنية .
والصحيح أنه تجب فيه الزكاة لعموم الأمر بأخذ المال من الأموال.
وثانيا : أن حديث إسقاط الزكاة عن الحلي ضعيف الذي رواه الطبراني ففيه عافية بن أيوب، وقد ضعفه الأئمة، ولذلك العمل عند أهل العلم على عدم ثبوته، وقد جاء في السنة ما يقوي هذا الأصل من حديث المسَكَتين فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال للمرأة : (( أتؤدين زكاتهما ؟ )) قالت: لا . قال: (( هما حسبك من النار )) فدل على أن زكاة الحلي واجبة .(3/465)
قال رحمه الله : [ ويباح للنساء كل ما جرت العادة بلبسه من الذهب والفضة ] : إذا كانت المرأة تسقط عنها زكاة الحلي، فهل كل حلي المرأة تسقط عنها الزكاة فيه أو لا ؟ هنا احتاج المصنف أن يجعل قاعدة ما تلبسه المرأة الغالب، وأن ما زاد على ذلك باق على الأصل من وجوب الزكاة فيه ، فجعل الرخصة مقيدة بوصف التحلي، وهذا يرجع إلى ما ذكرناه حتى يفرق بين الحلي وبين القنية ، وإذا كانت المرأة لا زكاة في حليها فحينئذ ينظر إلى لبسها في الغالب ما تتجمل به في الغالب كالأسورة والقلائد تلبسها غالبا حكم بكونه حليا، لكن نحن بينا أن الصحيح وجوب الزكاة ، وهذا التفصيل راجع إلى ضبط الرخصة ، وهو إسقاط الزكاة في الحلي شرطه ما ذكره المصنف -رحمه الله- .(3/466)
قال رحمه الله : [ ويباح للرجال من الفضة الخاتم وحمية السيف والمِنْطقة ونحوها ] : يباح للرجال الخاتم لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - اتخذ خاتما من فضة، ولا يباح لهم خاتم الذهب، والسيف لإرهاب العدو عند من رخص من الفقهاء ومن أهل العلم من أبقاه على الأصل الموجب للتحريم والمِنْطقة كل هذا من باب إرهاب العدو، والحقيقة في النفس شيء من هذه الرخصة؛ لأن الأصل يقتضي عدم جواز تحلي الرجال بالذهب، ولما جاءوا يستثنون هذا قالوا لإرهاب العدو، فجاز المحرم دفعا لمفسدة أعظم ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - لما مشى أبودجانة بين يديه بالسيف مشية المتبختر المتكبر قال : (( إنها مِشْية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)) هذا من ارتكاب المفسدة الدنيا دفعا لمفسدة أعظم وهذا في المشية، أما في الذهب فهم يقولون بذلك لفوات العلة ؛ لأن المراد بها كسر قلوب الضعفاء والمساكين، وأما التجبر على الكافر فهو متعالٍ فيجوز أن يتعالى عليه إلى غير ذلك مما ذكروا من العلة ، لكن استباحة المحرم لعلة وهي إرهاب العدو وإخافته ، فهنا يقولون: إنه إذا لبس الذهب أرهب العدو أكثر، وهذا كما اعترض بعض العلماء قال: بل يرغب العدو في قتل المسلم أكثر؛ لأنه يرى ما شاء الله عنده فلوس أكثر وماله أكثر وسيفه من ذهب إذا يقتله ويأخذ هذا المال ! فالعلة منتقضة ، ولذلك يبقى على الأصل الموجب لعدم جواز لبس الرجال من ذهب ، وتوسع في هذا كثيرا حتى قيل بجواز لبس بعض العباءات المرصعة بالذهب وأجاز بعضهم الأصبع والأصبعين قياسا على الحرير، وهذا كله في الحقيقة يخالف الأصل فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أمسك الذهب والحرير، وقال : (( هذان حرامٌ على ذكور أمتي )) فيبقى هذا الأصل على ما هو عليه، ويتورع المسلم ويتقي هذه ا لرخص الضعيفة، ويبقى على الأصل. رُخّص استعمال الذهب للضرورة ومنها شَدُّ الأسنان عند بعض العلماء إذا كان لم يتيسر غيره من المعادن، لكن(3/467)
في زماننا متيسر، منها أسنان الذهب إذا كانت أسنان الفضة تنتن، وبنوا هذا على حديث عرفجة بن خالد حينما جدع أنفه يوم كِلاَب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن فرخص له النبي -- صلى الله عليه وسلم - - أن يتخذ أنفا من ذهب، وهذا أشبه بالحاجة التي تقارب الضرورة؛ لأن الأنف إذا كان مفتوحا يتضرر بدخول الحشرات والأذية والضرر في هذا كبير جدا، فالرخصة في هذا قوية ، أما إذا كان لا توجد رخصة كأن يضع أسنانا من الذهب للزينة فلا ، ويخشى عليه أنه لو توفي وهي عليه أنه يعذب بها كما أفتى به بعض مشايخنا، وإن كانت أسنانه من ذهب يمكن نزعها مثل أن تكون عنده تركيبة أو نحو ذلك لا يجوز أن تدفن معه ، ولذلك يجرد منها ؛ لأنه رخص له في حال الحياة ولم يرخص له بعد حياته ، وهكذا في كل ذهب رخص به في الجسد إذا أمكن نزعه قبل الوفاة دون وجود ضرر على الميت ينزع ، وأما إذا لم يمكن فلا .
قال رحمه الله : [ فأما المعد للكراء والادخار والمحرم ففيه الزكاة ] : نعم لأنه لا رخصة فيه ، فهم يرون أن الرخصة في الحلي، والمعد للكراء للإجارة كانت المرأة يكون عندها طقم ذهب تأتي امرأة وتأخذ هذا الذهب في الزواج من أجل أن تتجمّل به رخّص بعض العلماء في إجارته ومنع منه بعض أهل العلم، والمنع مبني على شبهة الربا، ومبني على علة أخرى، وهي قوله عليه الصلاة والسلام : (( المتشبّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور)) فهي تأتي في الزواج مرصّعاً صدرها بالذهب والجواهر وهو ليس ملكاً لها ، وكأنها تُظْهر أنها غنية ثرية ، فهذا محرم شرعا ، فهذا منع بعض العلماء من ترخيصه للوجهين ؛ للنسيئة في الدفع، وأجيب بأن هذا ليس ببيع، فأصبحت العلة ضعيفة في مسألة النسيئة، وبقيت علة المتشبع بما لم يعطَ لوجود المعونة على الإثم إلا إذا جرى العرف وعرف أنها يعني ليس لها وأن هذا جرى به العرف أنه يستأجر مثل هذا فلا إشكال .
الأسئلة :(3/468)
السؤال الأول : فضيلة الشيخ : زكاة صاحب الإبل إذا لم يكن عنده شاة فهل يصرف قيمة الشاة نقدا أو ماذا يفعل . وجزاك الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فبالنسبة للخَمْس من الإبل إذا لم يكن عنده شاة يشتريها ويدفعها للمصدّق ولا إشكال في هذا ؛ لأنه موجودة في كل زمان ، يشتري الشاة على الصفة التي ذكرناها سليمة من العيوب على السن المجزئة ثم يدفعها إلى المصدّق . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني : فضيلة الشيخ : أرجو إيضاح كيفية الزكاة في صورة البيع التالي : من يشتري السيارات بنقد يبيعها بدين أقساطاً لمدة ستين شهرا ويشتري كل شهر سيارة وجزاكم الله خيرا؟
الجواب :(3/469)
بالنسبة لمن دخل برأس المال المدار للتجارة فإنه إذا كان قسّط المال وحال الحول جمع الموجود عنده في الصندوق وزكّاه ولا إشكال، وأما الأقساط التي على غيره فمن كان منهم قادرا على السداد حلّ أجله كأن يكون مثلا هناك عشرة أشخاص مثلا هذه السنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرون فيها اثنا عشر قسط ، بالنسبة للأقساط التي استلمها لا إشكال إما أن تزكى تبعا لرأس المال؛ لأنها نماء ونتاج، لكن بالنسبة لمن تخلف ولم يسدد . إن عجز وكان هذا لضعف يده فهذا لا زكاة عليه وينتظر حتى يسدده ولو بعد عشر سنوات عاجزا ، فإذا سدده زكّى لسنة واحدة ، زكى القسط الذي يقبضه لسنة واحدة ؛ لأن المديون إذا كان عاجزا عن السداد قسطا أو دفعة واحدة فإن المال غير موجود ، فلا يطالب رب المال بالزكاة ولا يطالب المديون بالزكاة ، وسيأتي تفصيل هذا إن شاء الله في الباب الآتي ، وكنا سنمر ولكن الله عاقبنا بهذا السؤال لو أخذنا الباب لاتضحت الصورة . بالنسبة للأقساط الماضية يفصل فيها بين الفقير وبين القادر، فإن كان قادرا على السداد وماطل مثل عشرة أشخاص عندهم عشرة آلاف ريال أقساط امتنعوا أن يسددوها في هذه السنة، وهو قادر على السداد وماطل وتلاعب وهو قادر على أن يلزمهم بالقضاء وأن يشتكيهم وعنده بينة ويستطيع فالمال كأنه بيده أو عجزوا أو امتنعوا من السداد ويستحيي أن يطالبهم كأصدقائه ونحوه فالمال كأنه بيده فيزكي المال الذي عندهم ولو لم يقدر، فتجب عليه الزكاة عندهم سنوات كل سنة يزكي هذا بالنسبة للأقساط التي بأيديهم إذا عجز عنها أو لم يعجز . أما الذي لم يحل قسطه فإنه ينتظر إلى أن يحل قسطه، والتفصيل فيه على ما ذكرناه . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ : ما حكم صلاة من سها عن قراءة الفاتحة ولم يعِدِ الركعة اعتمادا على أن قراءة الإمام قراءة لمن خلفه . وجزاك الله خيراً ؟
الجواب :(3/470)
إذا كان يتأول هذا المذهب، وكان في صلاته يمشي على هذا القول فهذا قول طائفة من أهل العلم وله احتمال من النص ولكنه مرجوح، فما ما مضى يصح على أحد الوجهين ، وعند العلماء إذا استفتى على وجه كان يتأوله لقول صحيح معتبر يعني له وجه من الدليل ويقول به سلف، فإنه لا يطالب بالإعادة، وتصح صلاته فيما مضى وتلزمه العزيمة فيما بقي قال عمر -- رضي الله عنه --: (( ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضي )) . فجعل الأمر مستأنفا ، وألغى ما كان يتأول فيه الاجتهاد؛ لأنه كان معذورا باجتهاده ، ونص العلماء على أن المجتهد ومن تبعه على هذا الأساس وعليه فإنه لو تحقق أو تبين له كطالب علم صواب لزوم الفاتحة وراء الإمام فالعبرة من حين ما تبين له ذلك، فيلزمه أن يرجع إلى الأصل .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب حكم الدين
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب حكم الدَّين ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستنّ بسنته إلى يوم الدين أما بعد :
فهذا الباب باب مهم جدا ، تكثر الأسئلة حوله ، وهو يتعلق بحكم زكاة الدين، لو أن شخصا أعطى غيره مالا ثم حال الحول والمال موجود عند المدين فهل تجب الزكاة أو لا تجب الزكاة ، ثم من عادة العلماء -رحمهم الله- أنهم يلحقون بهذا الباب ما هو في حكم المغصوب والمال الضائع ونحو ذلك من المسائل التي هي ملحقة بهذا الباب . يقول رحمه الله : باب حكم الدين أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بزكاة الديون .
قال رحمه الله : [ من كان له دين على مليء أو مال يمكنه خلاصه كالمجحود الذي له بينة ] : أولا : مسألة الدين والقرض تنقسم إلى قسمين : مسائل عامة ، ومسائل خاصة .(3/471)
فأما مسائل الدين والقروض العامة فهذه أفردها المصنف -رحمه الله- في باب القرض ، وهذا بعد كلامه على باب البيوع : بيع السلم والخيار، ثم جاء وقال : باب القرض ، وتكلم هناك على أحكام القرض والدين ، وحكمه الشرعي ، وما يترتب عليه من مسائل .
أما هنا فالكلام مخصوص على مسائل مخصوصة وهي زكاة الدين ، فإذا كان للإنسان دين على الغير فإما أن يكون على فقير وإما أن يكون على غني ، فإن كان على فقير ولا يستطيع السداد وحال الحول والدين عنده فلا زكاة عليه ؛ لأن المال غير موجود، وحينئذ لا زكاة على المدين الفقير ولا على صاحب الدين، فلو جاءك مسكين أو محتاج وقال لك: أريد منك عشرة آلاف دينا لظرف نزل به فأعطيته العشرة الآلاف فبقيت عنده سنة كاملة، فلما انتهت السنة فإذا بالرجل لازال فقيرا فحينئذ لا زكاة عليه ، وهكذا لو كان عنده مال ولكن لا يستطيع أن يسدد لك بأن كان مسكينا فارتفع من درجة الفقر إلى المسكنة، فعنده مال ولكن لا يستطيع أن يسدد لك راتبه مثلا ثلاثة آلاف ريال لكن راتبه يكفيه لعائلته إلى الشهر، وإذا انتهى الشهر ليس عنده مال يسدد لك فلا زكاة عليك ولا عليه . أما هو فلأن المال غير موجود بيده ، وأما بالنسبة لك أنت فلأن المال ليس موجودا في يدك ولا في حكم الموجود في اليد فلا زكاة عليك . أما إذا كان قادرا على السداد عنده القدرة أن يسدد لك ؛ فحينئذ إما أن يمتنع وإما أن تمتنع أنت من أخذه منه ، فإن امتنع هو كالظالم والغاصب وما يريد أن يسدد لك وجحدك فإن أمكنك أن تشتكيه وعندك قدرة على استخلاص حقك وعندك شهود على حقك أو وثائق تثبته فالتقصير منك، والمال تستطيع أن تتحصل عليه فيجب عليك أن تزكيه ؛ لأنه كأنه في يدك ، هذا إذا كان على شخص غاصب أو مماطل وتستطيع أن تصل إليه بالشكوى ونحو ذلك ، وإما أن تكون أنت الممتنع لحياء وخجل مثل صديقك ومثل قريبك ، فالصديق توده وتحبه كما يحدث بين التجار مع بعضهم يكون لهذا على هذا(3/472)
بقايا ديون فيستحي أن يقول له : أعطني الدين الذي عندك فيبقى عنده ثلاث سنوات أربع سنوات لكنه لو جاء في أي ساعة يقول له : أعطني يعطيه ، فحينئذ المال كأنه في يدك ، وتجب عليك زكاته إذا يفرق بين كونه على ضعيف الحال أو عاجز عن السداد وبين كونه عند قادر، ثم إذاً كان عند قادر إما أن يكون الشخص قادرا على انتزاعه ويمتنع إما حياء أو تقصيرا . فبقيت الصورة الأخيرة وهي أن يكون عند مماطل ولا تستطيع أن تأخذه وليس عندك بينة فحينئذ تنتظر إلى أن يجعل الله لك فرجا ، فالمال لا تستطيع أن تقيم بينة لو اشتكيته ما عندك شيء يثبت ، وهو نسأل الله السلامة والعافية على ظلمه فيكون حكمه حكم المغصوب، والمال المغصوب تجب زكاته عند أخذه لسنة واحدة ، فلو جلس عنده عشر سنوات أو مدة طويلة ثم شاء الله -- عز وجل -- أنه اعترف بحقك ورده إليك فتزكيه لسنة واحدة ؛ لأنها هي اليقين وهي التي تجب زكاتها ، وما زاد فالمال لم يكن في حكم المال الذي بيدك .
قال رحمه الله : [ من كان له دين على مليء ] : على مليء قادر .
قال رحمه الله : [ أو مال يمكنه خلاصه ] : أو مال يمكنه خلاصه على مليء يعني غني سواء كان غنيا أو كان عنده الغنى الذي يستطيع به أن يسدده ولم يصل إلى الغنى الفاحش
قال رحمه الله : [ كالمجحود الذي له بينة ] : المجحود يعني شخص أخذ منك عشرة آلاف ثم جحد ، وقال : مالك عندي شيء ، ما أعطيك شيئا ، تريد أن تشتكي اذهب فاشتكِ هذا مجحود، وهذا المجحود عندك شهود على أنك أعطيته هذا المال فإذا مجحود وعندك بينة تستطيع أن تصل إلى مالك .(3/473)
قال رحمه الله : [ والمغصوب الذي يتمكن من أخذه ] : والمغصوب جاء شخص وأخذ منك عشرة آلاف بالقوة والقهر وغصبها منك، وتستطيع أن تكلم قريبك أو تكلم ابنك فيذهب ويأخذها منه بالقوة ويرد لك حقك ، هذا المال كأنه بيدك ؛ إذا صورة المسألة راجعة إلى القدرة على المال وعدم القدرة عليه، فإن كنت قادرا على المال فكأنه في يدك، وإن كان المال غير موجود لفقر، وحاجة، أو لا تستطيع إثباته لوجود الإنكار فلا زكاة عليك إلا إذا أدي إليك في حال الغصب وضعف الحال كالفقير جلس عشر سنوات ثم يسر الله له بعد عشر سنوات قال لك: خذ دينك تزكيه لسنة واحدة .
قال رحمه الله : [ فعليه زكاته إذا قبضه لما مضى ] : فعليه زكاته إذا قبضه لما مضى : طبعا كل سنة تمر عليك؛ عليك زكاة ؛ لأن المال كأنه في يدك هذا بما ذكرنا : أن تكون قادرا على الوصول إليه وتستطيع مطالبته وتستطيع أن تقيم بينة أو يكون هو يريد أن يسدد لك لو طلبته فامتنعت حياء وخجلا فالمال في جميع هذه الصورة كأنه بيدك .
قال رحمه الله : [ وإن كان متعذرا كالدين على مفلس ] : وإن كان متعذرا كالدين على مفلس شخص ما عنده سداد أخذ منك عشرة آلاف ريال ثم انكسرت تجارته ولو جئت تطالبه ما عنده شيء يسدد لك به .
قال رحمه الله : [ أو على جاحد ولا بينة به ] : أو على جاحد ولا بينة لك عليه شخص قال لك: ما لك عندي مال -نسأل الله السلامة والعافية- فجحدك ثم نظرت وإذا ليس عندك شهود ولو اشتكيته لا تصل إلى حقك فالمال كأنه في حكم المفقود .
قال رحمه الله : [ والمغصوب والضال الذي لا يرجى وجوده فلا زكاة فيه ] : المغصوب غصبك المال وليس عندك قدرة أن تشتكيه، ولا تستطيع أن تتوصل إلى حقك فلا زكاة عليك، والضال الذي لا يرجى رجوعه لو أنه مثلا كان عنده مال من الإبل أو الغنم تجب في مثله الزكاة ثم ضل وضاع ولم يرجُ رجوعه فحينئذ لا زكاة عليك .(3/474)
قال رحمه الله : [ وحكم الصداق حكم الدَّين ] : وحكم الصداق حكم الدين من حيث القدرة على السداد أو عدم القدرة على السداد القدرة على المطالبة أو عدم القدرة عليه إذا المسألة كلها تدور : هل المال في حكم المال الذي في يدك ؟ هل الدين في حكم المال الذي في يدك أو ليس في حكمه ؟ إن كان في حكمه وجبت عليك الزكاة ، وإن لم يكن في حكمه فليس فيه زكاة .
قال رحمه الله : [ ومن كان عليه دين يستغرق النصاب الذي معه أو ينقصه فلا زكاة فيه ] : هذه بالعكس بعد أن بيّن حكم صاحب الدين شرع في الذي عليه الدين، فلو أن رجلا استدان من الناس مليونا ثم دخل بها في تجارة والسوق يرتفع وينزل فلما حال عليه الحول والمال هذا موجود عنده وجدنا أن الديون التي عنده تستغرق ماله بحيث لا يبقى عنده نصاب، فهذا المال كله دين عليه، وقد يكون عليه دين نفس المال وأضعافه، فهل عليه زكاة ؟ إذا كان عليه دين وعنده سيولة والبضاعة موجودة عنده ولا سيولة فإنه قبل حولان الحول يخيّر بين أمرين : إما أن يرد للناس حقوقهم، وإما أن يبقى المال في حكم يده فيزكيه ، واختار المصنف عدم الزكاة ؛ والصحيح وجوب الزكاة فيه ، وإذا حال عليه الحول ولم يزكِّ فإنه في هذه الحالة تجب عليه الزكاة للإسقاط .(3/475)
قال الإمام المصنف رحمه الله تعالى : [ باب زكاة العروض ] : العروض جمع عرض ، وهذا الباب يتكلم العلماء -رحمهم الله- فيه على زكاة عروض التجارة ، تكون عندك أموال معروضة للبيع كأن يكون عنده متجر يبيع فيه الحلي : الذهب أو الفضة أو يبيع في المتجر الأطعمة أو يبيع فيه الأكسية كالأقمشة ونحو ذلك ويبيع فيه السيارات كل هذا من عروض التجارة ، والسؤال: هل فيها زكاة أو لا زكاة فيها ، وإذا كانت فيها زكاة فما هي الشروط ؟ وما هي الأحكام المترتبة على وجوب الزكاة ؟ يسمي العلماء هذا النوع بعروض التجارة ، والصحيح وجوب الزكاة فيه وهو قول الجماهير لقوله تعالى : { خذ من أموالهم } وعروض التجارة مال ، والنص عام ؛ ولقوله - سبحانه وتعالى - : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض } وقال سبحانه : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } والتجارة من الكسب ، ولذلك يقال : كسب المباح إذا كانت التجارة مباحة، وكسب الحرام إذا كانت التجارة محرمة ، وكذلك أيضا النص العام بوجوب إخراج الزكاة يقتضي وجوب الزكاة في عروض التجارة وفي السنة ما يقتضي وجوب الزكاة في مثل هذا ، وفسر بعض الأئمة -أئمة التفسير- قوله تعالى :{ أنفقوا من طيبات ما كسبتم } على أنها في عروض التجارة ، وعلى كل حال فزكاة عروض التجارة واجبة لكن لها شروط .(3/476)
قال رحمه الله : [ ولا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة وهي نصاب حولا ] : ولا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة فهذا الشرط الأول أن ينوي بها التجارة ، فإذا نوى التجارة يستقبل الحول من بداية نيته ، وهذا لا يستلزم أن يفتح الإنسان محلا لكي يكون عرض تجارة ، ممكن عنده سيارة واحدة وأراد أن يبيعها ، فابتدأ في أول رمضان كانت السيارة يقضي بها مصالحه ، فحينئذ نَصِف السيارة بأنها قنية ، ويسميها العلماء مال قنية ، مقتنى ، فإذا نوى في أول رمضان أن يبيعها فقد عرضها للبيع، وحينئذ تكون عرض تجارة ، فإذا مكثت في عرض التجارة سنة كاملة من أول رمضان إلى رمضان القادم فحينئذ تجب الزكاة ؛ إذًا النية يشترط أن ينوي بها التجارة ، فلو نوى بها غير التجارة كالقنية فإنه لا زكاة عليه عنده مزرعة ، وهذه المزرعة نوى بها أن تكون له ولأولاده ، يرتفق بها ثم فجأة نظر إلى أنه يريد أن يبيعها فيستبدل بها سيارة أو يستبدل بها مصلحة أخرى أو أراد أن يبيعها يتخلص منها ، مادام عقد العزم على أن يبيعها سواء كان يريد الربح بالبيع أو لا يريد فلا يشترط أن عرض التجارة يراد بها الربح حتى لو جاءتك ظروف وأردت أن تبيع بيتك وعرضته للبيع أو أرضك وعرضتها فهي عرض تجارة بغض النظر عن الدافع والمقصد ، فإذا عرضت للبيع فهي عرض تجارة وحينئذ يستقبل الحول من وجود هذه النية .(3/477)
قال رحمه الله : [ ثم يقومها فإذا بلغت أقل نصاب من الذهب والفضة أخرج الزكاة من قيمتها ]: أولا أن ينوي بها التجارة . الشرط الثاني: أن يحول عليها الحول الكامل سنة كاملة وهي معروضة ، فلو بيعت قبل تمام السنة فلا زكاة ، ثم تستقبل بهذا المال الحكم إلا إذا كان من مال الإدارة أو تاجر مدير قصد أن يجعل هذا المال في هذا النوع من التجارة فهذا شيء آخر يأخذ عشرة آلاف فيقول أريد أن أضعها في السيارات للبيع والشراء فحينئذ إذا اشترى سيارة ثم باعها ثم اشترى سيارة ثانية فالحول حول الرأس الأول لأنه مال مدار لكن إذا كان مستقطعا فلا إشكال، فإذا تمت النية وعرضت للتجارة وأتمت السنة فحينئذ عند تمام الحول تقوم هذه الأشياء المعروضة بسعر يومها الذي هو يوم الذي أتمت فيه الحول ثم بعد ذلك يخرج زكاتها، فلو كان عنده مثلا سوبر ماركت أو بقالة هذه البقالة فيها معروضات من الطعام إذا حال الحول قدّر هذه المطعومات الموجودة فوجد قيمتها مائة ألف ريال؛ فحينئذ نقول عليك زكاة مائة ألف ريال وهذا بسعر البيع لا بسعر الشراء ، وبسعر بيعها في ذلك اليوم الذي تم فيه الحول؛ لأنه هو الذي يملكه عندما حال عليه الحول، هذا الذي يملكه في ذلك اليوم، وعليه إذا قَوّم أن يقوّم باليقين لا بالتخمين، فالبعض يُخمّن كم موجود في البقالة بل نقول القدرة على اليقين مانعة من الشك، فيجب عليه أن يجرد البضائع وأن يقومها تقويما صحيحا ثم بعد ذلك يزكي .
قال رحمه الله : [ وإذا كان عنده ذهب أو فضة ضمها إلى قيمة العروض في تكميل النصاب ]: إذا كان عنده ذهب وفضة المال الموجود في الدرج يضاف إلى المال المقوم الحصيلة لو كان مثلا السيولة الموجودة في الدرج عشرة آلاف ريال وقيمة المعروض مقوماً بمائة ألف فعليه زكاة مائة وعشرة العين والنقد كله يزكي .(3/478)
قال رحمه الله : [ وإذا نوى بعروض التجارة القنية فلا زكاة فيها ]: إذا نوى التجارة فعلى ضربين: إما أن يفسخ نيته أو يستمر، فإذا استمر حتى أتم الحول فلا إشكال، وإن قطع النية بأن نوى القنية، عرض سيارته للبيع وأتم أكثر السنة أو أقل السنة أو نصف السنة أيا ما كان طرأ له بعد أن كان يريد بيعها قال: ما أريد بيعها، لو أن هذه السيارة أبقيتها لي ولولدي أو ما أريد بيعها سعرها ليس بطيب إذا ما أريد أن أبيعها فترك البيع ، ترك البيع حينئذ ينقطع الحول ولو تركه ليوم واحد ، ثم جاء بعد يوم ، وقال : لا ، المصلحة أن أبيع حينئذ يستأنف من جديد؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إنما لكل امرئ ما نوى )) فمن نوى البيع فهو عرض تجارة ، ومن لم ينوِ فليس بعرض تجارة ، هذا بشرط أن لا يكون انتقاله في النية تلاعبا وبقصد التلاعب وإسقاط الزكاة فلا يجزيه ويعامل بنقيض قصده ، فالحول مستمر حتى يستتمه وعليه الزكاة إذا قصد التلاعب .
قال رحمه الله : [ ثم إن نوى بعد ذلك التجارة استأنف له حولا ] : من قطع نية التجارة على ضربين : إما أن يقطعه ويستمر في القطع فلا إشكال ، عرض مزرعته للبيع ، واستمر عرضه إلى قبل الحول بفترة طويلة أو قصيرة قطع النية ، وقال : أريد مزرعتي أن تبقى أو راجعه أولاده ، فقال : ما قال نريد البيع . قال : ما أريد البيع ، فقطعها وبقيت المزرعة عنده إلى ما شاء الله فهذا لا إشكال فيه .
وإما أن يعود قلنا إن عاد قريبا طال الوقت أو قصر فإنه يبتدئ ويستأنف ، فإذا قال لا أريد أن أبيعها في شهر محرم ثم في شهر ربيع عنَّ له أن يبيعها من جديد يستأنف ولا يبني على الشهور التي مضت ، وبناء عليه لو كان قبل القطع أمضى تسعة أشهر ثم قطع ثم رجع يبدأ من جديد ولا يبني على التسعة الأشهر؛ لأنها نية مستقلة ، ولا يلزمه أن يرجع إلى نيته الأولى .(3/479)
قال الإمام المصنف -رحمه الله تعالى- : [ باب زكاة الفطر ] : هذا النوع من الزكوات نوع خاص جاء لسبب خاص وهو الفطر من رمضان . شرع الله -- عز وجل -- هذا النوع من الزكوات عند الفطر من رمضان ؛ وذلك بإتمام العدة ، ولذلك تسمى زكاة الفطر.
والأصل فيها دليل الكتاب عند طائفة من العلماء كقوله تعالى :{ قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } قالوا إن هذه الآية المراد بها زكاة الفطر وصلاة عيد الفطر. والذكر هو: التكبير بينهما والصحيح عموم الآية ، وأما بالنسبة للسنة فأحاديث : فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- فرض هذه الزكاة وأمر بها صلوات الله وسلامه عليه كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر وأبي سعيد الخدري -رضي الله عن الجميع- وكذلك حديث ابن عباس في غير الصحيحين .
والإجماع منعقد على مشروعية هذه الزكاة، وإن كان هناك خلاف على من تجب وبعض الضوابط المعتبرة بها.
زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، فجعلها الله تطهيرا للصائم من لغو الرفث الذي يكون أثناء صومه وطعمة للمساكين حتى يغنوا عن السؤال يوم العيد وليلته ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( أَغْنُوهُم عن السؤال يوم العيد وليلته )) وفي الحديث : (( فرض رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- صدقة الفطر من رمضان طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين )) .(3/480)
وهذا النوع نوع خاص من الزكوات ؛ والصحيح مذهب الجمهور أنه مختص بالطعام وليس فيه النقد ، فلا ينتقل فيه إلى بدلٍ ، بل الواجب فيه الطعام عينا ،ـ وهو مذهب الجمهور لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- نص على الطعام في زمانه والنقد موجود ، ولأنه ليس هناك دليل يقْوى على الانتقال عن هذا الأصل ، وما استدل به الحنفية -رحمهم الله- على جواز إخراج النقود بدل زكاة الفطر لحديث معاذ : (( ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- )) فهذا في الجزية وليس في الزكاة ، والجزية لها أحكام والزكاة لها أحكام وعلى هذا يجب إخراجها من الطعام على التفصيل الذي بينته النصوص .
الأمر الثاني مع النظر الأثر وذكر الأئمة -رحمهم الله- والجمهور أن النقود يأخذها المحتاج وغير المحتاج، ولكن الطعام لا يأخذه إلا المحتاج، ولذلك هذه الصدقة أبلغ في كفاية المسكين، ولذلك تجد عنده طعامه ولا عذر عنده بعد ذلك لأنه وجد ما يكفيه .
قال رحمه الله : [ وهي واجبة على كل مسلم ]: وهي أي زكاة الفطر واجبة يثاب فاعلها ويعاقب تاركها إن كان تركها مع القدرة والاستطاعة والعلم .
الأصل في وجوبها قول عبدالله بن عمر : (( فرض رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- )) ، والفرض في الواجب ولا يكون في غير الواجب؛ لأن الفريضة هي الواجبة .
وكذلك أيضا قال عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- : (( أمر أن تخرج قبل الصلاة )) أمر أن تخرج يعني زكاة الفطر قبل الصلاة والأمر للوجوب .(3/481)
قال رحمه الله : [ وهي واجبة على كل مسلم ] : وهي واجبة على كل : كل من ألفاظ العموم. على كل مسلم : فالكافر لا تجب عليه ؛ لأنه لم يصم رمضان ، والمسلم تجب عليه بصيام شهر رمضان سواء كان صائما أو غير صائم ، كما في الصغير الذي لا يصوم ، لكن العموم هنا شامل للصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد؛ والأصل في ذلك حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيحين: (( فرض رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- زكاة الفطر من رمضان على الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والمملوك)) فهذا يدل على عمومها للجميع .(3/482)
قال رحمه الله : [ ملك فضلا عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه ] : ملك فضلا يعني عنده القدرة على الإخراج بملكية هذه الزكاة شريطة أن يكون ما يملكه بإخراج هذه الزكاة زائدا عن قوته وقوت من تلزمه نفقته ، فإذا كان لوحده فحينئذ لا تجب عليه الزكاة إلا إذا كان عنده مال أو عنده طعام . مال يستطيع أن يشتري به الزكاة أو طعام يزكيه ، ويكون هذا المال والزكاة فاضلا عن قوت يومه ، فلو كان لوحده يحتاج إلى قوت يومه الذي هو نهاية الشهر مثلا يحتاج إلى خمسين ريالاً وفي جيبه أربعون ريالاً أو في جيبه خمسون ريالاً لم تجب عليه زكاة الفطر، لكن لو كان عنده خمسون وعنده قيمة الزكاة خمسة ريالات أصبح عنده خمس وخمسون فالخمسون قدر كفايته لرأسه وليس عنده أولاد ولا عنده أحد يسأل عن نفقته فحينئذ تجب عليه الزكاة ؛ إذًا الخمسة فاضلة عن قوته ، فإذا كان عنده عائلة يحتاج إلى إنفاقها بمائتيْ ريال، وهذه العائلة زكاة الفطر عشرة رؤوس بخمسين ريالاً فنقول: لا زكاة عليك إلا إذا ملكت مائتين وخمسين ريالا ، إذًا يكون عنده فاضل عن قوت وقوت من تلزمه كعياله . هكذا في الطعام كما يحصل في النقود يحصل في الطعام فلو كان عنده تمر أو شعير أو زبيب أو أقط وأولاده يحتاجون إلى هذا التمر والشعير والأقط في ذلك اليوم فإننا نقول لا زكاة عليه فإن نظرنا إلى أنهم يحتاجون إلى صاعين وعنده عشرة اثنا عشر صاعا فحينئذ العشرة الآصع على عدد رؤوس أولاده واجب عليه إخراجها؛ لأنها زائدة عن قوته وعن قوت من تلزمه نفقته سواء كان من النقد أو كان من الطعام .
قال رحمه الله : [ ليلة العيد ويومه ] : ليلة العيد ويومه : كما ذكرنا لأنه وقت الوجوب أن يكون القوت عنده ليلة العيد ويوم العيد .(3/483)
قال رحمه الله : [ وقدر الفطرة صاع من البر أو الشعير أو دقيقهما أو سويقهما أو من التمر أو الزبيب ] : فرض رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- الزكاة صاعا من الطعام ، والأصل أنها صاع، والصاع أربعة أمداد بمد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ومد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهو المد المدني ملء اليدين المتوسطتين لا مقبوضتين ولا مبسوطتين هذا بالنسبة للصاع ، يجب عليه أن يخرجه من طعام سواء كان برا أو تمرا أو شعيرا أو زبيبا أو أقطا كما جاء في حديث أبي سعيد وحديث عبدالله بن عمر في الصحيحين -رضي الله عنهم أجمعين- ، فهذا هو الواجب صاع واحد يخرجه من هذه الأشياء ، ولو شاء أن يجمع من هذه الأشياء بأن كان من التمر يلفق مثلا بين التمر والشعير وعنده القدر فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أجاز ذلك لأن أبا سعيد يقول : (( صاعا من طعام )) يستوي أن يتمحض أو يكون مخلوطا من أنواع من الطعام .
قال رحمه الله : [ فإن لم يجده أخرج من قوته أي شيء كان صاعا ] : أخرج من قوته أي شيء كان صاعا : إذا لم يجد التمر والزبيب أخرج من قوته هذا واجب عليه إذا فضل عن نفقته ونفقة من تلزمه مؤونته .(3/484)