دروس عمدة الفقه
للشيخ محمد المختار الشنقيطي
من شريط 1 الى 21
( لم يراجع من قبل الشيخ )
توجيهات لطلاب العلم ومقدمة المصنف-رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم ?
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا الدرس - إن شاء الله - سيكون في علم الفقه ، وهذا العلم من أهم العلوم وأحبها إلى الله-- سبحانه وتعالى -- ، إذ به يعرف العبد الحلال والحرام فيعبد الله-- سبحانه وتعالى -- على بصيرة ، فما كان من أمرٍ أحله الله له عمل به ، وما كان من أمرٍ حرمه عليه اجتنبه واتقاه ، فأصاب الخير في دينه ودنياه وآخرته ، ولذلك قال-- صلى الله عليه وسلم -- في الحديث الصحيح : (( من يرد اللهُ به خيراً يفقه في الدين )) ، فالفقه في الدين والمعرفة بشرع رب العالمين نعمةٌ من أجل النعم لايعطيها الله-- سبحانه وتعالى -- ولايجعلها تامة كاملة إلا لخاصة أوليائه المتقين من العلماء العاملين الأئمة المهتدين ، ولذلك سُدت ثغور الإسلام وعرف الناسُ الحلال والحرام بفضل الله أولاً وآخراً ثم بفضل العلماء الأئمة الفقهاء ، الذين علموا ودرسوا وأفتوا وقضوا فكانوا يقضون بالحق وبه يعدلون .(1/1)
فما أحوج الأمة في كل زمان ومكان إلى من يسد هذا الثغر تعلماً وعملاً ودعوةً وإرشاداً وتعليماً للناس ، ولذلك نص العلماء-رحمهم الله- على أنه ينبغي أن يكون في كل زمان ومكان من يضبط مسائل الفقه حتى يُعلمَ الناس ويوجههم ، وأمر الله-تعالى- وندب عباده أن ينفر من كل فرقةٍ منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ، وكان لأصحاب رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في ذلك أوفر الحظ والنصيب ، فهم أئمة الأمة وفقهاؤها بعد نبيها-عليه الصلاة والسلام- ، فقد أمرهم النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أن يتعلموا الحلال والحرام وأن يعلموا الشريعة والأحكام ، حتى في المناسك وفي العبادات كان يقول في الصلاة: (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) ، وقال لمالك بن حويرث وصاحبه حينما هاجر إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ونظر إلى صفة الصلاة قال له : (( صل صلاة كذا وقت كذا وكذا )) ثم قال له : (( وارجعوا إلى أهليكم فعلموهم وصلوا كما رأيتموني أصلي )) .
وكذلك أمر بأخذ هذا العلم المبارك وتبليغه للأمة في حجة الوداع حينما قال : (( أيها الناس خذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) ، فاستخلف على الأمة عدولها من أصحابه-رضي الله عنهم وأرضاهم- ، واختارهم معلمين فقهاء مؤتمنين على الشرع والدين والحكم المبين .(1/2)
فلذلك حري بكل طالب علم أن يستشعر فضل هذا العلم ، وانظر-رحمك الله- حينما تكون عالماً بالحلال والحرام ، تعلمُ كيف تصلي وكيف تزكي وكيف تصوم وكيف تحج وكيف تتبع هدي رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في جميع ذلك ، وكيف يعصمك الله بفضله من وساوس الشيطان ودخل الشيطان حينما يشكك في العبادة ويجعل الإنسان في لبس من دينه وطاعته لربه ، وكذلك انظر إلى عظيم انتفاع الأمة بعلمك إذا أفتيت وعلمت وقمت على نور على صراط مستقيم تهتدي بنور مبين من رب العالمين في كتاب الله وسنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، فتبين للناس المحجة وتقيم على عباد الله الحجة ، فتكون إماماً من أئمة الدين ، ولكن كل ذلك لايكون ولن يكون إلا بفضل الله أولاً وآخراً ، فيسأل طالب العلم ربه أن يرزقه الفقه في الدين ، وأن يجعله عالماً بحلاله ، عالماً بحرامه ، متبعاً لشريعته ونظامه .
ثانياً : أن يأخذ بالأسباب التي أساسها وعمادها وروحها ولبُها الإخلاص لله-جل وعلا- ، فلا تجلس في مجلس علمٍ سواءً كان من الفقه أو غيره إلا وأنت ترجو رحمة الله وتريد علماً يقربك إلى الله ويدنيك من رحمة الله وتفوز به بعظيم الدرجات والثواب من الله ، فأول مفتاح للعلم الإخلاص .(1/3)
ثالثاً : أن تحرص على تلقي هذا العلم عن العلماء المؤتمنين على السنة والدين ، فإن هذا العلم سلاح ذو حدين فإذا أخذه طالب العلم من أهله واستنار بنوره واهتدى بهدي أئمته نال الخير والبركة من الله-- سبحانه وتعالى -- ، ونفع الله به كما نفع بأسلافه من العلماء الذين أخذ عنهم ، وأما إذا أخذ هذا الفقه والعلم عن كل من هب ودب ، وأصبح يخبط خبط عشواء دون أن يجد عن من يأخذ منه أهليةٌ تؤهله لهذا العلم فإنه لايبعد أن يكون له نصيب من أن يقع فيمن وصف النبي-- صلى الله عليه وسلم -- من أئمة الضلال فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناسُ رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا )) ، فواجب على من يطلب الفقه ويتعلم الفقه أن يأخذ هذا الفقه بالسند المتصل عن الأئمة العدول الذين هم أهل لهذا العلم ، وأهل أن يُرجع إليهم في التعليم والتدريس والفتوى والقضاء .(1/4)
رابعاً : مما يُوصى به طالبُ العلم في بداية قراءة هذا العلم المبارك، أن هذا العلم يحتاج إلى تعب وعناء ، وهو أعظم العلوم بعد علم العقيدة الذي هو أساس الدين ، فعلم الحلال والحرام يزداد به العبد إيماناً بالله وثقةً بالله-- سبحانه وتعالى -- ، وهذا يستلزم منه أن يضبط هذا العلم ، فإن الأحكام تبليغ عن الله-- عز وجل -- ، وليعلم كل إنسان أن أي مسألةٍ فقهية وأي مسألةٍ شرعية إذا أراد أن يتكلم فيها فلعلم أنه يتكلم عن الله ورسوله-- صلى الله عليه وسلم -- ، فيكون على بينة وأنه سيُوقف بين يدي الله ويُسأل عن هذا الأمر الذي أفتى به في دين الله وشرع الله ، وهذا ما عناه الإمام عبدالله بن مسعود-- رضي الله عنه - وأرضاه- حينما كان يقول : حق على من أفتى أن يقيم نفسه بين الجنة والنار فينظر منزلته فيهما ، يعني منزلته إن أصاب وقال بالكتاب والسُّنة ومنزلته إذا أخطأ فقال على الله بدون علم-نسأل الله السلامة والعافية- فالحلال والحرام أمرٌ عظيم ، جثى العلماء على الركب ورجفت قلوبهم من الله-جل وعلا- خشيةً وهيبةً لمسألة من المسائل ونازلة من النوازل .
فمن أراد أن يطلب الفقه فليعظمه وليخف من الله-- سبحانه وتعالى -- حتى كان السبعون من أئمة الصحابة يطوف السائل عليهم فيرجع إلى أولهم كل واحدٍ منهم يود أن أخاه قد كفاه المؤنة والفتوى ، فحري بطالب العلم وهو يبتدئ طلب هذا العلم أن يستشعر عظمة هذا العلم ، عظمته بالخوف –كما ذكرنا- والرجاء ، فإنك لو أفتيت بالمسألة فسمعها السائل نفست كربه ، وما أعظم الكرب إذا كان من الدين ، فتنفس كربه بإذن الله-- عز وجل -- .
ثانياً : لن تقول قولاً بحكم الله-- عز وجل -- فيعمل به أحد إلا كان لك مثل أجره ، فإن علمه الغير أو دعا إليه الغير كان في ميزان حسناتك .(1/5)
فهذه الفضائل والعطايا والنوائل لاتكون إلا للمجدين المثابرين الحريصين على ضبط شرع رب العالمين ، ولذلك ما وجدنا أحداً من أئمة السلف ودواوين العلم-رحمهم الله- تعب وجد ونصب في طلب العلم وضبطه خاصة الفقه إلا سطع نوره وأشرق ضياؤه على الناس فانتفعت به الأمة ووضع الله له قدم الصدق وحسن الثناء والثقة بقوله والثقة بفتواه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
ودرجت عادة السلف الصالح-رحمهم الله- والأئمة أن هذا العلم له أناسٌ مبرَّزون به ، ولذلك كانت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- إذا سُئلت عن المسألة من السُّنة في سفر رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- أحالت إلى عبدالله بن عمر وكان بن عمر والصحابة بل عمر بن الخطاب الخليفة الراشد إذا نزلت به النازلة من شأن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في أهله وبيته أحال إلى أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- ، وكان الصحابة يحفظون حق الفقهاء ويحفظون حق العلماء الضابطين لهذا العلم حتى إن عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه -- لما أتاه أهل الكوفة يسألونه عن مسألة من المسائل ، قال -- رضي الله عنه - وأرضاه- : أتسألونني وفيكم صاحب السُّوادين والنعلين ، يعني عبدالله بن مسعود-- رضي الله عنه - وأرضاه- ، أتسألونني وعندكم هذا العالم الجليل الذي كان صاحب السوادين والنعلين ، كان صاحب سر رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ونجواه ، ويحمل حذاء رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- فشهد له أنه من أقرب الناس إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، ولما رأه علي بن أبي طالب -- رضي الله عنه -- قال : كُنيفٌ ملئ علماً.(1/6)
فكان الصحابة يحفظون للفقهاء حقهم وقدرهم ، لايسخرون منهم ، ولاينتقصونهم ، ولايستهجنون آراءهم ، وإنما يجعلون آراءهم في مكانها وأقوالهم في منزلتها إذا بُنيت على كتاب الله وسنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذا هو هدي السلف الصالح ، لأن تعظيم الفقه تعظيم لشعائر الله ، ومن سد ثغور الأمة أمة محمد-- صلى الله عليه وسلم -- في علم الحلال والحرام فخليقٌ أن يدعى له بخير ، فطالب العلم يستشعر فضل هذا العلم قبل أن يأخذه وقبل أن يتعلمه .
كذلك - أيضاً - مما ينبغي أن يُوصى به طالب العلم في قراءته لهذا العلم وفي كل علم أن يحرص على اتباع الكتاب والسُّنة فإنه لافقه إلا بكتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، ولذلك بين الله-تبارك وتعالى- أنه هو الذي يفتح وهو الذي يهب العلم كما قال-- سبحانه وتعالى -- في قصة داود وسليمان : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} فقال : { فَفَهَّمْنَاهَا } فالله وحده هو الذي يفهم وهو الذي يُعلم ، فثق ثقةً تامة أنه لافقه إلا بنور الكتاب والسُّنة ، والفقه الذي يبنى على كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- فقه مبارك ، لأن الله شهد لكتابه بالبركة ، فمن تعلم علم الفقه من كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- فإنه حري أن يُباركَ له في فقهه وعلمه .
كذلك السُّنة فإن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- جعل الله سنته بياناً لكتابه تخصص عمومه وتقيد إطلاقه وتبين إجماله ، ففيها الخير العظيم والنفع العميم ، فمن استهدى بنور الكتاب والسُّنة كان على حق وبصيرة ، فيثبت الله قدمه .(1/7)
وعلى المسلم دائماً أن يتحرى الدليل ، والظن بالعلماء والأئمة أن لا يُفتوا الناس إلا بكتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، ولكن ينبغي أن يُفهم كتاب الله وسنة النبي الله-- صلى الله عليه وسلم -- من خلال فهم السلف الصالح-رحمهم الله- ، فهم الذين شهدوا مشاهد التنزيل ، وسمعوا ما كان من النبي-- صلى الله عليه وسلم -- من قول وقيل ، ففهموا وتعلموا وفقهوا ، فمن أخذ هذا الفهم عن أصحاب رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- والتابعين لهم بإحسان الذين ساروا على نهجهم فإنه على فقه صحيح وفهم سليم ، وحري به أن يبلغ الدرجات العلى في علمه وعمله .
تعريف بالكتاب ومؤلفه :
هذا الكتاب كتاب عمدة الفقه كتاب مختصر ، ومن عادة العلماء-رحمهم الله- في علم الفقه أن يجعلوا الفقه على مراتب ، ففيها المتون المختصرة ، ويضعون لهذه المتون شروحاً ، ثم يضعون للشروح حواشٍ يتوسعون فيها ، وتكون بمثابة المطولات في الفقه ، ثم هذه المتون تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : قسم منها متون نثرية .
والقسم الثاني : وقسم منها متون شعرية منظومة.
والمتون الفقهية التي تكون نثرية مثل كتابنا ، لها ميزة وهي : الوضوح ، وعدم وجود الزوائد التي يضطر إليها الشاعر في النظم فإنه يزيد حشواً ، ويزيد أموراً من باب تتمة البيت أو مراعاة القافية ، ولكن في النثر تجد المتن قد صيغ بعبارة واضحة مختصرة دالة على المقصود.
ولا يمكن لأحد أن يتصدر لعلم متون الفقه ، أو يُبرَّز في وضع المتون الفقهية إلا إذا كان إماماً في علمه ومذهبه ، فقد كان أئمة السلف والعلماء القدماء لايمكن أن يؤلف بينهم إلا من كان أهلاً للتأليف .(1/8)
ثانياً : أن تكون عنده القدرة على إيصال المعلومة مع الوضوح وعدم وجود اللبس في العبارة ، ولذلك تجدها متوناً معقدة دقيقة كل ذلك خشية دخول الفهم الخاطئ أو الالتباس في المعاني ، فهذه عصارة فهم العلماء وجهد الأئمة الأعلام ، ومنهم من حصل ذلك بفضل الله-- عز وجل -- ثم من خلال القراءة المتكررة على العلماء ، وممن جمع الله له في الفقه بين علم النظرية وعلم التطبيق ، فأقوى ما يكون الفقيه إذا جمع الله له بين علم التدريس للفقه وبين القضاء والفُتيا ، فهذه الثلاثة الأشياء إذا اجتمعت في عالم وصاغ الفقه فإنه يصوغه بقوة إذا رزقه الله -- عز وجل -- حسن الأسلوب ودقته.
فالشاهد : أن إمامنا الإمام الموفق أبو عبدالله محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي ، وهو شيخ الإسلام ، الإمام العالم العامل الزاهد كان أحد أولئك المبرَّزين والأئمة المجتهدين الذين اجتهدوا في مذهبهم ونبغوا حتى أصبح لهم الاجتهاد الذي هو خارج مذهبهم .
وكان الإمام ابن قدامة-رحمه الله- من أئمة العلم ودواوين العلم والعمل.
ولد-رحمه الله- سنة خمسمائة وإحدى وأربعين من هجرة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- بجمَّاعيل من أعمال نابلس بأرض فلسطين أعادها الله على الإسلام والمسلمين .
وكان-رحمه الله- من بيت علم وفضل وزهد وورع ، ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -- رضي الله عنه - وأرضاه- ، وكان بيته معروفاً بالعلم والإمامة والفقه والحديث ، فجمع الله لهم بين علم الحديث روايةً ودراية .
وكان-رحمه الله- قد راعى في علم الفقه ثلاث مراتب :
ألف فيها كتاب : العمدة ، ثم المقنع ، ثم الكافي ، وهذه داخل المذهب الحنبلي .
ثم ألف : المغني مقارناً للمذاهب وكتاباً مطولاً جامعاً بين فقه الحنابلة وفقه غيرهم مع ذكر الأدلة وبعض الردود والمناقشات وبيان الاختيار .
كون هذا الكتاب في المذهب الحنبلي :
أولاً : المذاهب الأربعة :(1/9)
الخلاف بينها منحصر في مسائل معينة ، وهناك عند العلماء في الفقه مسائل تسمى : مسائل الأصول ، ومسائل تسمى : مسائل الفروع .
ففي كل كتاب وكل باب من أبواب الفقه مسائل تسمى : مسائل الرؤوس أو مسائل الأمهات .
فمثلاً : في الوضوء ، تجد المسائل التي هي الرأسية في الوضوء شبه متفق عليها ، فكلهم يتفق أن الوضوء واجب ، وكلهم يتفق على فرضية الأعضاء الأربعة التي أُمر بغسل ما أُمر بغسله ومسح ما أُمر بمسحه منها من أعضاء الوضوء ، القواعد الأساسية في الوضوء هذه شبه متفق عليها ، في الصلاة شبه متفق عليها ، في الزكاة شبه متفق عليها ، إنما يقع الخلاف في مسائل مفرعة على هذه الأصول أو مستتبعة لهذه الأصول ، وقد يقع الخلاف في بعض الأصول في بعض الأبواب ، لكن الأكثر لو جمعت المذاهب الأربعة بالاستقراء والتتبع لمن درس الفقه وحصله ، وبالمناسبة لا يحكم على الفقه إلا من قرأه ، وقل أن تجد أحداً قرأ الفقه إلا وهو يعرف قدره ، ويعرف قدر العلماء ، ويعرف الحق الموجود فيه ، ويعرف نعمة الله على هذه الأمة بهذا الفقه .
ولذلك المذاهب الأربعة لاحرج ولاعتبى أن تقرأ مذهباً معيناً لكن بالدليل ، ولاتتعصب لهذا المذهب لأن أئمة السلف ودواوين العلم كلهم تتلمذوا على مذهب معين ، لكن لم يتعصبوا ولم يردوا نص الكتاب والسُّنة لأهواء الرجال وآراء الرجال أبداً ، إنما تقرأ فلن تجد عالماً مبرَّزاً إلا وقد قرأ فقه المذهب ثم لم يتعصب ، وتوسع من خلال هذا الفقه إلى غيره .(1/10)
والسبب في هذا أن هؤلاء الأربعة والإمام الظاهري داود الظاهري ، وهو المذهب الخامس كلاهما مسلكان أقرهما رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- أقر من أخذ بظاهر النص وأقر من أخذ بمعنى النص في قصة بني قريضة المشهورة ، فإن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما قال للصحابة : (( لاتصلوا إلا في بني قريضة )) اختلف الصحابة في الطريق ، فمنهم من صلى العصر في وقته وقال : إن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- أراد منا أن نستعجل ، ومنهم من أخر العصر إلى بني قريضة لأنه أخذ بظاهر قوله : (( لاتصلوا العصر إلا في بني قريضة )) ، فالطائفة الأولى نظرت إلى المعنى ، والطائفة الثانية نظرة إلى اللفظ ، قال الراوي : فلم يعنف كلتا الطائفتين ، يعني لم يعنف هؤلاء ولا هؤلاء ، ولكن قال للتي صلت في الوقت : (( أصابت السُّنة )) ، فدل على أن الفهم والاستنباط هو الأساس ، هو المهم والأهم ، ولايمنع هذا أن نقول إن الأصل أن يأخذ الإنسان بظاهر النص حتى يدل الدليل على خلافه .
على كل حال هذه المذاهب الأربعة اشتملت على متون مختلفة ، فإذا قرأ طالب العلم متناً من المتون وأخذ هذا المتن بالدليل ووقف بين يدي الله يسأله عما يعتقده في عبادته ومعاملته ، فإذا به يعتقد حكماً بالدليل فقد برأت ذمته ، المهم أنه لايعتقد شيئاً إلا وعنده حجة من كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، فالعلماء أخذوا بهذه المذاهب وقرؤوا ، كل عالم مبرز ومفتش في دواوين العلم وأئمة السلف ومن بعدهم كلهم تجدهم نبغوا من خلال هذه المذاهب لكنهم لم يتعصبوا فيما ظهر لنا في غالب حالهم ، وتجردوا للحق والدليل وفتح الله عليهم .(1/11)
وتجد العالم بكل رضاً وبكل طمأنينة إذا استبانت له السُّنة انشرح صدره وحمد الله-- عز وجل -- وعدل إليها ولو كان الذي خالفها من كان ، فهذا هو الأصل وهذا هو العدل ، فكون الإنسان يترك حصالة الأمة واجتهاد العلماء وتعب سلفنا الصالح ومن بعدهم في هذا العلم المبارك ويقول أفهم من الكتاب والسُّنة مباشرة فهذا يعرض نفسه للزلل ، لأن الفهم من الكتاب والسُّنة يحتاج إلى أداء ويحتاج إلى قواعد ويحتاج إلى أمور تأهله لهذا الفهم ، ثم ما الذي منعه أن يأخذ من علم هؤلاء المبني على كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، وأن يبدأ من حيث انتهوا فهذا هو هدي السلف والأئمة-رحمة الله عليهم- .
ولذلك قل أن تجد عالماً مبرزاً إلا وقد بدأ بهذا الطريق ، فأئمة العلم ، فتجد مشائخ الإسلام والأئمة الأعلام ، الإمام الحافظ ابن عبد البر قرأ مذهب الإمام مالك ونبغ فيه ثم خرج واجتهد ونظر في النصوص ، وتجد الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- قرأ مذهب الحنابلة وقعد فيه وأصل ثم خرج عنه وأصبح مجتهداً ، ثم الإمام ابن القيم-رحمه الله- وغيرهم كالحافظ ابن حجر كان فقيهاً شافعياً ، كل هؤلاء قرؤوا المذاهب وأتقنوها بالدليل ونبغوا فيها ثم علموها الناس وبينوا صوابها من خطئها ، فهذا هو المنهج الذي سار عليه العلماء-رحمهم الله- ونفع الله هذه الأمة به كثيراً .
والسبب في كون هؤلاء الأربعة يعتنى بهم أكثر من غيرهم مع وجود المجتهدين عدة أمور :
منها : أولاً وقبل كل شيء أن الله وضع لهم القبول ما لم يضعه لغيرهم ، ولن يستطيع أحد أن يقفل باب رحمة فتحه الله على عباده .
ثانياً : أن الأهم في العلم الثقة في نسبة القول لهذا الإمام الذي بلغ درجة الاجتهاد ، والثقة في نسبته تحتاج إلى تحرير الرواية ، فغيرهم من الأئمة كالأوزاعي والثوري وابن عيينة وغيرهم من العلماء الذي كانوا لهم أنداداً لم يقيض الله لهم أصحاباً يحفظون علمهم .(1/12)
فمن هنا لن تجد أحداً تُضبط الرواية عنه ويُضبط القول ويُضبط فقهه مثلما قيض الله لهؤلاء الأئمة الأربعة ، فإذا كانوا في أشخاصهم ضبطوا العلم وشُهد لهم بشهادة العلماء الأجلاء أنهم أهل للفقه وثبت لنا قولهم بالرواية والضبط والتحرير فقد كُفينا مؤنة ثبوت هذا القول عنهم ، وحينئذٍ يكون العمل بقولهم أوثق وأضبط مع أنهم أهل لهذا العلم تعليماً وكذلك اتباعاً ، لأن الله أمرنا بالرجوع إلى أهل الذكر فقال-تعالى- : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } وأهل الذكر هم أهل الكتاب والسُّنة الذين فقهوا فيهما فعلِموا حلالهما وحرامهما.
ألف الإمام-رحمه الله- هذا الكتاب وجعله أول درجة في علم الفقه ، فيمتاز هذا المتن بالاختصار، ودقة العبارة ، وحسن المعنى الموجود في العبارة ، فاختار الكلمات الدالة الجامعة.
كذلك امتاز بأنه يذكر أحاديث رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ويستشهد بالأدلة في مواضع .
وامتاز أيضاً بتحصيل مسائل الأصول في الأبواب ، فمن يبتدئ قراءة الفقه بهذا المتن ويركز في ضبطه وفهمه لاشك أنه يسهل عليه بناء ما بعده ، فيستطيع أن ينتقل إلى ما بعده بسهولة بإذن الله-- عز وجل -- ، ولكن الأهم أن يضبط هذا المتن ويحاول فهمه قدر استطاعته.
كذلك - أيضاً - يمتاز متن عمدة الفقه بالترابط والتسلسل الفكري ، فإنه-رحمه الله- امتاز في عرضه للمسائل الفقهية بترتيبها ترتيباً منطقياً ، فيبدأ بالأصل ويبدأ بالأساس مما تتوقف عليه ماهية الشيء ثم بعد ذلك يتبعه بأحكام الآثار والمسائل المنبنية على الأصول ، وهذا أدعى للضبط وأسهل في الحفظ ، وأسهل في الاستذكار والاستحضار.(1/13)
وعلى كل حال كتب الإمام ابن قدامة-رحمه الله- كتب مباركٌ فيها ، وشُهد له بالعلم والإمامة حتى أن شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- يقول : ما دخل الشام بعد الأوزاعي أعلم من الموفق، فهو كاسمه-رحمه الله- ، كان موفقاً مسدداً عالماً صالحاً ورعاً ، ولاشك أن العالم إذا كان أتقى لله وأخلص لله فإن الله سيبارك في علمه وينفع بعلمه ، وهذا دلائله مشهودة ومعروفة يعرف ذلك من عرفه ، فكتبه-رحمة الله عليه- كتبٌ مباركة ومنها هذا الكتاب .
الطريقة التي سنسير عليها - إن شاء الله - :
أننا نعتني ببيان معاني العبارات وما دلت عليه ، وهل هذا الحكم له أصل من كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، ودليل النقل والعقل الصحيح ، ثم نبينه ، وبعض الأحيان قد نتعرض لبعض المسائل الخلافية .
طلاب العلم والمبتدءون :
يُنصح طالب العلم المبتدئ أن يأخذ الزبدة ، ويأخذ النتيجة والخلاصة ، ولايدخل في الخلافات، ولايحضر من المطولات لأنه يتشتت فهمه ويتشتت ذهنه ولايضبط ، وحينئذٍ أوصي أن يأخذ الزبدة ، ويذكر لكل مسألة دليلها ، ثم يكرر هذه المسائل بأدلتها حتى يفتح الله عليه ، لأن ضبط هذه المتون المختصرة من البداية يعطي طالب العلم عمقاً فقهياً ، فتسهل عليه المسائل الصغيرة لكي يبني بعدها المسائل الكبيرة ، وهذا هو العلم الصحيح ، ولذلك قيل في قوله-تعالى- : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ } المراد به أن يتعلم صغار العلم قبل كباره كما قال مجاهدٌ وغيره من أئمة التفسير-رحمة الله عليهم- .(1/14)
فصغار العلم يبدأ بالتدرج ولكن وأوكد على أنه ينبغي على طالب العلم أن يكون متجرداً للحق ، وأن يقرأ هذا المتن مهما اختلف مذهبه ومشربه وينظر في دليل الكتاب والسُّنة ويتجرد للحق ولايتعصب ، فإن كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- حجة على كل أحدٍ ، ومن عمل بهما أسعده الله في الدنيا والآخرة ، ومن تركهما أضله الله خاصة إذا تركهما على علم ، فالبصائر تطمس والقلوب-نسأل الله العافية- تزيغ إذا رأت كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- وأعرضت عنه وأخذت تلوي بالنصوص بالآراء والأهواء والأقيسة وتترك حقاً مستنيراً قد انبلج ضياؤه كالصبح .
فالمنبغي على طالب العلم أن يتجرد للحق ، وأن يحب الحق للحق ، وأن يعرف الرجال بالحق ، ولايعرف الحق بالرجال .
فهذه أمور لابد لطالب العلم أن يكون على بينة منها حتى يبني علمه على أساس متين والتوفيق من الله-جل وعلا- فهو الذي يوفق عبده ويسدده ، وإذا أخلص الإنسان لله-- عز وجل -- فإن الله سيجعل له من أمره يسراً ومخرجاً .
المقدمة
قال المصنف-رحمه الله- : [ الحمدُ لله أهل الحمد ومستحقه ] : استفتح الإمام المصنف-رحمه الله- كتاب الفقه بحمد الله-جل وعلا- ، وفي بعض النسخ استفتح بالبسملة ، وهذه سنة في كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- إلتزمها العلماء لثبوت أصلها في الشرع أن كتب العلم يُبتدأ فيها ببسم الله وحمد الله ، قال-تعالى- : { إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ @ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فابتدأ كتابه في الدعوة إلى الله بالتسمية ، قالوا : فهذا أصل في كل شيءٍ من أمور الدين أن يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم .(1/15)
كذلك أيضاً استفتح الله كتابه بحمده والثناء عليه-سبحانه- بما هو أهله ، فقال في فاتحة الكتاب : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فهي أم القرآن وفاتحة الكتاب كما في الحديث الصحيح : (( لاصلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) فإذا كانت فاتحة الكتاب فالله استفتحها بحمده ، فدل على أن كتب العلم تستفتح بحمد الله ، والله أهلٌ أن يُستفتح الأمر بحمده ، لأن له الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً ، له الحمد كله أوله وآخره وظاهره وباطنه كالذي نقول وخيراً مما نقول ، وصح عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- أنه كان يستفتح خُطبه بحمد الله-- عز وجل -- ، قالت عائشة كما في الصحيحين : فرقى المنبر ، ثم حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله.
قوله-رحمه الله- : [ الحمد لله ] : الحَمدُ في لغة العرب : الثناء ، يقال : حَمِدَ فلانٌ فلاناً إذا أثنى عليه .
وأما في اصطلاح العلماء وفي اصطلاح الشرع : فهو الوصف بالجميل الاختياري على المنعم بسبب كونه منعماً على الحامد أو غيره ، فقولهم : الوصف بالجميل الاختياري ، فكل وصف تضمن جميلاً اختيارياً فإنه يتضمن معنى الحمد ، فلو قال : فلان عالم ، فلان كريم ، فلان جواد ، فهذا حمد ، والفرق بين الحمد والشكر : أن الحمد يكون من الإنسان للغير سواءً أحسن إليه أو لم يحسن ، فأنت ترى إنساناً كريماً فتقول : فلانٌ كريم ، وتحمده بذكر صفة الكرم فيه سواءً أكرمك أو لم يكرمك ، ولكن الشكر لايكون إلا إذا كان أنعم عليك .
ومن هنا قالوا : من جهة السبب الحمد أعم والشكر أخص .(1/16)
وأما من جهة التعبير : فالشكر أعم ، لأن الشكر يكون باللسان ويكون بالقلب والجنان ، ويكون بالجوارح والأركان ، فأما شكر الجنان فأشار الله إليه بقوله : { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ } ، أي : اعتقدوا أنها من الله وحده ، فمن اعتقد أن النعمة لله فقد شكر الله ، كذلك يكون الشكر باللسان ، قال-تعالى- : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ، وقال نوح : "رب كيف أشكرك وشكرك نعمةٌ تحتاج إلى شكر ؟ قال : عبدي أما وقد علمت أنك لن تستطيع شكري فقد شكرتني".
كذلك أيضاً يكون الشكر بالعمل ، كما قال-تعالى- : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } ، ومن هنا قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجب
فهذه يدي أي : اعمل في خدمتكم ، ولساني أثني عليكم ، والضمير المحجب أعتقد فضلكم .
قوله-رحمه الله- : [ الحمد لله ] : ألف الحمد للاستغراق ، أي جميع المحامد وجميع الحمد والثناء لله-- عز وجل -- ، وتكون اللام للاختصاص فالمحامد التامة الكاملة على أتم الوجوه وأكملها لاتكون إلا لله وحده لاشريك له ، ولذلك قال-تعالى- : { لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ } .
قوله-رحمه الله- : [ الحمد لله أهل الحمد ] : أي أن الله أهلٌ أن يحمد ، ولذلك قال-عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح حينما رفع رأسه من الركوع قال : (( ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد أحق ما قال العبد ، كلنا لك عبدٌ ، أهل الثناء والمجد )) أي أنت يا الله أهلٌ أن يُثنى عليك ، أو أهلَ الثناء والمجد حال كونه-سبحانه- أهلاً لأن يثنى عليه ويمجد .(1/17)
قوله-رحمه الله- : [ مستحقه ] : الحق لايكون إلا إذا ثبت لمن يُنسب إليه ، اليد ثبتت له اليد عليه ، والله مستحق للحمد ، ولذلك قال-تعالى- : { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ } وقال-تعالى- : { ولله الحمد } فأثبت-- سبحانه وتعالى -- لنفسه الحمد ، وهو المحمود على كل حال ، المحمود في السراء والضراء والنعماء والبأساء ، ولذلك كان من سنته-عليه الصلاة والسلام- حمد الله-جل وعلا- على النعمة ، وفي النقمة كان من هديه أن يقول : (( الحمد لله على كل حال ، ونعوذ بالله من أهل النار )) .
قوله-رحمه الله- : [حمداً يفضل ] : يعني يزيد .
قوله-رحمه الله- : [ على كل حمد ] : الصفات التي لله-جل وعلا- ليست كصفات المخلوق ولذلك يقول -- صلى الله عليه وسلم -- : (( إن فضل كلامِ الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه )) ، فالكلام صفة لله-جل وعلا- ، والكلام صفة في المخلوق ، فبين-- صلى الله عليه وسلم -- أن صفة الخالق أفضل من صفة المخلوق كفضل الخالق على المخلوق ، كما في صحيح مسلم ، ومن هنا قال المصنف : [ يفضل على كل حمدٍ كفضل الله على خلقه ] ، وهذا شيءٌ جميلٌ مستنبط من سنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- .
قوله-رحمه الله- : [ وأشهد أن لا إله إلا الله ] : أشهَدُ في لغة العرب الشهادة تستعمل بمعاني ، يقال : شَهِدَ إذا عَلِمَ ، والمراد هنا : أنني أعلم علماً يقينياً لاشك فيه ولامرية ، أنه : [ لا إله ] أي : لا معبود إلا الله .(1/18)
وهذه الشهادة شهادة التوحيد قائمة على النفي والإثبات ، وعليهما أصل التوحيد ، ولذلك أول أمرٍ في كتاب الله بالإثبات ، وأول نهي في كتاب الله عن الشرك ، فقال-تعالى- : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } أول أمر في القرآن جاء بالتوحيد ، وأول نهي في القرآن جاء عن الشرك ، فقال الله في سورة البقرة : { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، وجعل أول نهي في قوله : { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً } وهذا معنى قوله : [ لا إله إلا الله] ، فـ { فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً } هذا النفي [ لا إله ] ، والإثبات { اعْبُدُوا رَبَّكُمْ } [ إلا الله ] .
وجاءت نصوص القرآن والسُّنة على النفي والإثبات ، ولذلك قال-تعالى- : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } نفي وإثبات ، وقال-تعالى- : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } ، اعبدوا الله ولاتشركوا به شيئاً ، اعبدوا الله إثبات ، ولاتشركوا به شيئاً نفي .
فلابد للمسلم من هذا الأساس ، فلا يكفي أن يثبت لله-- عز وجل -- ما أثبته ثم يصرف ما لله لغيره ، أو يرى الشرك فيقره ولايبرئ منه ، لابد أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنه لامعبود بحق إلا الله ، فالله هو وحده لاشريك له في أولهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ، فلم يخلق الخلق أحدٌ سواه ، ولم يربهم بالنعم أحدٌ عداه ، خلق خلقه فأحصاهم عدداً ، وقسم أرزاقهم فلم ينس منه أحداً ، وقدر المقادير ، وكتب الأشياء قبل أن تكون { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ @ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } .(1/19)
فهو الواحد في ربوبيته ، والواحد في أولهيته ، فلا يُستغاث إلا به ، ولايُستجارُ إلا به ، ولايُدعى إلا هو وحده لاشريك له ، ولايذبح إلا له ، ويعتقد المسلم هذه العقيدة ، فإن صُرف شيءٌ مما لله إلى غير الله فقد ضاد هذا الأصل وخالفه وناقضه ، لأنه يقول : لا إله ، أي : لامعبود ، فإذا استغاث بغير الله فقد عبده ، وإذا ذبح لغير الله فقد عبده ، لأن الذبح عبادة ، ولذلك يقول : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : خاصة لله رب العالمين ، { لاَ شَرِيكَ لَهُ } ، فأثبت في قوله : { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ونفى في قوله : { لاَ شَرِيكَ لَهُ } ، فواجب على المسلم أن يلتزم هذا الأصل، وهو أصل النفي والإثبات .
قوله-رحمه الله- : [ وحده لاشريك له ] : تأكيد لهذا ، تأكيد للإثبات [ وحده ] ، وتأكيد للنفي في قوله : [ لاشريك ] .
والشريك من الشُّركة ، وأصلها : الخُلطَة ، والإختِلاط ، والله-جل وعلا- لاشريك له ، لا في أسمائه وصفاته ، قال-تعالى- : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } قيل : هل بمعنى لا ، أي لاتعلمُ له سمياً ، قيل : سمياً كاسمه، وقيل : سمياً يساميه في صفاته-- سبحانه وتعالى -- ونعوته وجماله وجلاله وكماله ، -- جل جلاله -- ولا إله غيره ، ولاشريك له في ربوبيته ، فلا يستطيع أحد أن يرزق الناس من دون الله-- عز وجل -- ، ولايستطيع أحد أن يقفل أبواب الرزق التي فتحها الله-جل وعلا- على عباده ، ولايستطيع أحد أن يقدر شيئاً في هذا الكون يقدمه أو يؤخره ، فما قدمه الله تقدم ، وما أخره فهو المؤخر ، فالأمر كله لله ، { قُلْ } أي : قل يا محمد ، { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } .
فالله وحده لاشريك له في جميع هذه الأمور ، هو الواحد في أولهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته-- سبحانه وتعالى -- .(1/20)
قوله-رحمه الله- : [ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ] : هذه هي الوسطية ، وَصفُ النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بالعبودية ووصفه بالرسالة ، والأمة الإسلامية بين طرفي نقيض وهو الوسط العدل ، فهي بعيدة عن الإفراط وبعيدة عن التفريط ، اليهود احتقروا أنبياء الله ، والنصارى غلوا فيهم ، فهم في الصراط المستقيم ، صراط الله الذي أنعم الله على أوليائه به فهم غير مغضوب عليهم وليسوا بضالين .
فالمغضوب عليهم : هم اليهود الذين احتقروا أنبياء الله .
والضالون : هم النصارى الذي غلوا في الأنبياء .
فأمة محمد-- صلى الله عليه وسلم -- تصف النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بالعبودية حتى تخرج من غلو النصارى ، وتصفه بالرسالة حتى تخرج من احتقار اليهود ، ولذلك بعض الناس يقول : محمد بشر ، نعم هو بشر ، لكن تقول : بشرٌ رسول ، ولذلك قال-تعالى- : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } ، ما قال : إنما أنا بشرٌ مثلكم ووقف ، لا { بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } فلا ينبغي أن يقول الإنسان محمد بن عبدالله بشر ، نعم نقول بشر ، لكن نقول : بشرٌ رسول ، هو رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ، فلابد من هذه الوسطية .
فكون الإنسان يقف في مقام الاحتقار والانتقاص له-عليه الصلاة والسلام- والجفاء أو في مقام الغلو فقد خالف شرع الله-- عز وجل --.(1/21)
وشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي تصديقه واتباعه-عليه الصلاة والسلام- ، فإذا جاء بأمر امتثلنا أمره ، وإذا جاء بنهي انتهينا ، قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فانتهوا )) وقال الله لعباده : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وكان الصحابة يعظمون ذلك حتى قال ابن عباس-رضي الله عنهما- : يوشكُ أن تنزلَ عليكم حجارة من السماء ، أقول لكم : قال الله ، وتقولون قال أبو بكر قال عمر ، فهذا كله من تعظيم الكتاب والسُّنة.
واتباع النبي-- صلى الله عليه وسلم -- يستلزم أن يتبعه الإنسان مصدقاً لما جاء به وأن لايعبد الله إلا بشرعه ، لايعبد الله بهواه ولايعبد الله بالتقاليد ولايعبد الله بالعادات ، ولايعبد الله بالأهواء ولابالآراء ، ولكن يعبده بما شرع-- سبحانه وتعالى -- .
فأي أمر يريد أن يتقرب فيه إلى الله-جل وعلا- يسأل فيه عن سنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- هل فعله رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- لكي يفعله ، أو لم يفعله فيتركه ويجتنبه فقد شهد أن محمداً رسول الله صدقاً وحقاً ، وأي إنسان يعمل العبادة ولايسأل هل لها أصل من كتاب الله أو سنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أو يقال له إن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- لم يفعل هذا فيفعلها ويخالف سنته فإنه لم يحقق شهادة أن محمداً رسول الله .
فما هي شهادة أن محمداً رسول الله إذا كان يقول أشهد أن محمداً رسول الله ويفعل ما شاء ويعتقد ما شاء ويأتي ما شاء ويذر ما شاء سواءً وافق هديه-عليه الصلاة والسلام- أو خالفه ، فلابد من تحقيق هذا الأصل في شهادة أن محمداً رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --.(1/22)
ولذلك أولى الناس بسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أعلمهم بالسُّنة ، فليست سنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بالدعاوى العريضة ، أن يأتي شخص ويقول : أنا من أهل السُّنة أو أنا سني أو كذا ، إنما تكون بالعلم والبصيرة ، إذا سألت الشخص ما هو هدي رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في كذا ؟ أجابك عن علمٍ وبصيرة ، وكذلك - أيضاً - يعمل بهذه السُّنة ، فعلم وعمل ، هداية في النفس واهتداء من الغير ، لأنه إذا عمل بالسنة اهتدى به غيره ، وهذا هو الذي عَناه الله بقوله : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } فشهادة أن محمداً رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- عبدُ الله ورسوله-عليه الصلاة والسلام- وسطية بين الغلو وبين الإجحاف .
أي : أشهد أنه عبدٌ لله مخلوق ، ووصف العبودية وصف شرف لرسول الأمة-- صلى الله عليه وسلم -- ، ومن وُصف بهذا الوصف فقد شُرف بنسبته إلى الله-جل وعلا- أنه عبدٌ لله .
والعبد في لغة العرب : مادة عَبَدَ تطلق على الشيء المذلل ، الذي فيه سهولة ، والعبد تحت قهر ربه وسيده ومولاه ، فهو في ذلة وانكسار تحت رحمة الله-جل وعلا- ، فالمخلوق تحت رحمة الخالق-سبحانه- فهو عبده والمرأة أمته-- سبحانه وتعالى -- لايملك أحدٌ لنفسه ، قال-تعالى- : { قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ } فهو وحده-سبحانه- مالك الملك ونحن عبيده-- جل جلاله - وتقدست أسماؤه- .
قوله-رحمه الله- : [ غير مرتاب ] : الرَّيبُ : هو الشك ، والرِّيبَة التُهمة ، أي : ليس عندي شك ولا دَخل في أنه رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذه هي العقيدة التي ينبغي للمسلم أن يعتقدها أنه رسول من الله بحق ، وإذا كان على ذلك فقد شَهد أنه عبدُ الله ورسوله حقاً وصدقاً .(1/23)
قوله-رحمه الله- : [ غير مرتابٍ في صدقه ] : الصِّدقُ : مطابقة الأمر للواقع ، أي : لا أشك ولا أرتاب ولاتدخلني المرية في أنه رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- وأن ما بلغ به عن الله-- عز وجل -- كله صحيح لأن الله زكاه من فوق سبع سماوات فقال : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى @ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }-صلوات الله وسلامه عليه- ، ولذلك لما قالت قريش لعبدالله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما- : إنك تكتب عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في غضبه وفرحه وسروره ، وأرادوا أن يمنعوه من الكتابة رجع إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- فأخذ بلسان نفسه-صلوات الله وسلامه عليه- وقال له : (( أُكتب فإنه لايقولُ إلا حقاً )) أي : إنه لايصدر من هذا اللسان-بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- إلا حقاً وصدقاً .
قوله-رحمه الله- : [ غير مرتاب ] : أي: لاريب عندي ولاشك ولامرية في صدق رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- .
قوله-رحمه الله- : [ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه] : قوله-رحمه الله-: [ صلى] الصلاةُ في لغة العرب تطلق بمعنى الدعاء ، يقال : صلى فلان على فلان إذا دعا ، ومنه قوله-تعالى- : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } أي : ادعو لهم .
وتطلق الصلاة بمعنى الرحمة ، ومنه قول الشاعر :
صل المليك على امرئٍ ودعته *** وأتم نعمته عليه وزادها
وتطلق الصلاة بمعنى البركة ، ومنه قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( اللهم صل على آل أبي أوفى)) .
وصلاة الله على نبيه-عليه الصلاة والسلام- رحمته ، وأحب الله هذا النبي الكريم-- صلى الله عليه وسلم -- ، أحبه من فوق سبع سماوات وحببه إلى قلوب المؤمنين والمؤمنات ، وصلى عليه من فوق سبع سماوات وصلى على من صلى عليه عشر مرات-صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين- .(1/24)
فمن عظيم شأنه وقدره عند ربه-سبحانه- أن الله-تعالى- جعل الصلاة عليه بعشرة ، فلا يصلي عليه مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر إلا رد الله عليه الصلاة بأضعاف إلى عشرة ، وهذا فضلٌ عظيمٌ وخيرٌ كريمٌ من الله-- سبحانه وتعالى -- .
قوله-رحمه الله- : [صلى الله عليه ] : ومن فضل هذه الصلاة تشريفاً وتكريماً لنبيه أن الله أمرنا أن ندعوه أن يصلي على نبيه ، ولم يجعل صلاتنا عليه مباشرةً وإنما جعلنا نسأله ونقول : اللهم صل على محمد ، وهذا زيادة في تشريفه وتكريمه-عليه الصلاة والسلام- ،-صلوات الله وسلامه عليه-.
قوله-رحمه الله- : [ ما جاد سحاب بودقه ] : الوَدْقُ : هو المطر ، ولذلك قال-تعالى- : { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } وهي : قطرات الماء .
قوله-رحمه الله- : [ ما جاد سحاب بودقه ] : هذا تكرر ، الذكر المكرر بما يناسبه ، وقد يكرر الذكر وقد يضاعف ، تقول مثلاً : سبحان الله عدد خلقه فتجعل الذكر مضاعفاً ، لأنه ثبتت السُّنة به ، وتجعله مكرراً بقولك : صلى عليه ما جاد سحاب بودقه ، أي : تكررت الصلاة عليه ، ولايعلم قدر ذلك إلا علام الغيوب -- سبحانه وتعالى -- ، الذي ما من حبةٍ من خردلٍ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلا وهو يعلمها-- سبحانه وتعالى -- ، ولاحبة في ظلمات الأرضِ ولارطبٍ ولايابسٍ إلا يعلمه-- سبحانه وتعالى -- ، فهو المتكفل بذلك ، فإذا صليت عليه-صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- .
وجعل-رحمه الله- الصلاة عليه على هذا الوجه ، فهذا أسلوب يستخدمه بعض العلماء-رحمهم الله- إشارة إلى طلب كثرة الصلاة عليه-عليه الصلاة والسلام-.(1/25)
ومن أحب القربات إلى الله-- سبحانه وتعالى -- ، ومن أعظم الذكر بعد القرآن وقولِ لا إله إلا الله ، الصلاةُ على النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، فإن كثرة الصلاة على النبي-- صلى الله عليه وسلم -- سبب في رحمة العبد ، لأن الله يصلي على العبد عشر مرات ، فتصيبه الرحمة عشرة مرات ، وهذا يدل على فضلها وعظيم ما فيها من الخير والبر ، ولذلك كان العلماء يقولون : غُبط أئمة الحديث ورواة حديث رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- بكثرة صلاتهم على رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- .
وهذه سنة أضاعها كثيرٌ-إلا من رحم الله- ، فالموفق من يكثر من الصلاة عليه-بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- ، يستكثر من ذلك خاصة في يوم الجمعة فإنها سنة أضاعها كثيرٌ-إلا من رحم الله- ، فإن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أمر بذلك وقال : (( فأكثروا من الصلاة علي فيه )) فلينظر طالب العلم إذا جاء يوم الجمعة كم يصلي على النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ؟! ، بل إن منهم من لايتذكر الصلاة عليه إلا يوم الجمعة فقط في حال الصلاة أو حال الخطبة وأما ما عدا ذلك فقل أن يصلي عليه-صلوات الله وسلامه عليه- .
وهذا خيرٌ عظيم أن يصلي العبد على نبيه-عليه الصلاة والسلام- وفاءً بحقه ، فإن حفظ العهد من الإيمان ، فإن فضله على الأمة عظيم ، فإن الله - سبحانه وتعالى - جعله رحمةً بهذه الأمة، كما قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( أنا رحمةٌ مهداةٌ )) ، فالمنبغي أن يكثر المسلم من الصلاة عليه-عليه الصلاة والسلام-.(1/26)
قوله-رحمه الله- : [ أما بعدُ فهذا كتابٌ في الفقه اختصرته حسب الإمكان ] : هذه الكلمة [أما بعد] يؤتى بها للفصل بين المقدمة والمضمون ، وقيل : إنها هي فصل الخطاب ، { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } قيل : إنها قول أما بعد ، ولكن الصحيح أن فصل الخطاب هو الفصل بين الخصوم في حال القضاء ، لأن الله علم داود كيف يقضي بين الخصوم ، فهذا هو فصل الخطاب ، والخطاب خطاب الخصوم عند اللجاج والنزاع في الخصومات ، فعلم الله نبيه داود ذلك .
وهذه الكلمة اختلف في أول من قالها ، قيل : داود ، وقيل : سحبان بن وائل خطيب العرب ، وقيل : علي ؛ لكن الصحيح أن قول إنه علي ضعيف جداً ، ويحكى عن بعض الغلاة في علي-- رضي الله عنه -- إنهم قالوا : هذا القول ؛ لكن الصحيح أنها من قبل علي ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- كان يقولها ، قال : (( أما بعدُ )) كما في الصحيحين : (( أما بعدُ فما بال أقوام يشترط ون شروطاً ليست في كتاب الله )) .
فالسُّنة أن يوتى بها أما بعد ، ولا تكرر ، يعني ما يأتي الإنسان ويقول بعد الحمد ، ويقول : أما بعد ثم يأتي ويقول : أما بعد مرة ثانية ، فالسُّنة أن يُقتصر على حمد الله والثناء عليه ، والفصل بين الحمد ومضمون الكلام بأما بعد هذا الوارد والمحفوظ عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- .
قوله-رحمه الله- : [ فهذا كتابٌ في الفقه ] : الكِّتَاب : أصل الكَتْب الجَمع والضَّم ، وسمي الكتاب كتاباً لاجتماع حروفه ، ولذلك تقول العرب : تَكَّتَب القومُ إذا اجتمعوا ، وسميت كَتيبَةُ الجيشِ ، كَتيبَةٌ لاجتماع فرسانها وانضمام بعضهم إلى بعض .
قوله-رحمه الله- : [ كتابٌ في الفقه ] : الفِقْهُ في لغة العرب: الفَهْم ، يقال : فَقِهَ الشيءَ إذا فَهِمَهُ ، وقيل : إنه الفَهم لدقائق الأشياء وعويصها ، فلا يقال : فَقِه الشيءَ إلا إذا كان فهمه صعباً وعسيراً .(1/27)
والفِقه في اصطلاح العلماء : هو العلمُ بالأحكامِ العملية الشرعية المكتسبة من أدلتها التفصيلية .
فهذا العلم يختص بعلم الأحكام العملية ، فخرج علم الاعتقاد ، وعلم الوعظ ، والرقائق ، وكذلك قولهم : المكتسبة من أدلتها التفصيلية تشمل طبعاً أدلة الكتاب والسُّنة والاجماع والأدلة العقلية الصحيحة من النظر الصحيح سواءً كان قياساً أو أصولاً معتبرة من النظر الصحيح ، هذه الأحكام مستنبطة وفق قواعد وضوابط قررها أئمة السلف-رحمهم الله- ، ولذلك يعتبر علم أصول الفقه علماً موروثاً عن السلف ، فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- يفهمون بالسليقة العام والخاص والمطلق والمقيد ، وكان يفهمون حمل المطلق على المقيد والعام على الخاص ، ولهم حوادث في ذلك ، ثم إن الإمام الشافعي-رحمه الله- لم تغيرت أحوال الناس وضعفت أفهامهم وضعف اللسان اضطر إلى تأليف هذا العلم وكتابته ، ولذلك قال الناظم :
أول من ألفه في الكتب *** محمد بن شافعي المطلب
وقبله كان له سليقة *** مثل الذي للعرب من خليقة
يعني : كان علم أصول الفقه والفهم لهذه الأدلة التفصيلية معروفاً بسليقة الصحابة وطبيعة لسانهم ، ولذلك قال كعب بن عجرة-- رضي الله عنه -- كما في الصحيحين في آية الفدية نزلت في خاصة وهي لكم عامة ، وهذا معنى القاعدة التي تقول : " العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب " .
فالشاهد: أنهم كانوا يعرفون هذه القواعد ويكتسبون الأحكام العملية من الأدلة التفصيلية لا الإجمالية ، وهذا العلم علم الفقه تقدم أنه يختص بالأحكام العملية وهي تنقسم إلى قسمين : عبادات ، ومعاملات.
العبادات : من الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وما يتبع ذلك عند بعض العلماء من الأيمان والنذر والجهاد على خلاف .
والمعاملات : سواءً كانت مالية كالبيع والإجارة والرهن والشركة والقرض والوكالة والكفالة ، أو كانت معاملة متعلقة بالأنكحة من النكاح والطلاق والخلع وآثرهما المترتبة عليها.(1/28)
كذلك أيضاً المعاملات الجنائية القضائية ، كلها هذه تتبع الفقه وتعتبر من علم الفقه ، وكأنه يقول : فهذا كتاب في الفقه ، يعني : في علم الفقه .
قوله-رحمه الله- : [ اختصرته ] : الاختصار : أن يكون الكلام أقل من المعنى ، يعني : لايوصف الكلام بكونه مختصراً إلا إذا كان معناه أكثر من لفظه فحينئذٍ يقال : اختصار .
وإذا كان معناه مثل لفظه ، يقال : مساواة .
وإذا كان لفظه أكثر من معناه يقال : اسهاب واطناب .
فالاختصار : هو أحمدها وأفضلها ، وهو أمرٌ عزيز صعب ، ولذلك جُعل من الخصائص التي خُص بها-عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيح من حديث أبي هريرة-- رضي الله عنه -- : (( أعطيت خمس لم يعطهن أحدٌ قبلي)) ومنها : (( وأوتيت جوامع الكلم )) -- صلى الله عليه وسلم --.
فكان يتكلم بالكلمة تندرج تحتها من المسائل مالا يحصى كثرة ، فهذا من الاختصار ، وهو محمود في الكلام .
لكن قد يكون الاختصار غير لائق إذا كان من يسمع يحتاج إلى شرح ، وقد يكون الشرح مَعيباً إذا كان من يسمع على درجة من الفهم والوعي لايبسط لمثله الكلام ، فعلى كل حال لكل مقامٍ مقال ، فعلى حسب الأحوال ، وهذه درجات ذكرها العلماء في علم الخطاب أن المخاطب للغير ينبغي أن يراعي أحوال المخاطبين ، إما أن يختصر وإما أن يساوي وإما أن يسهب .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هل مجرد الشك في الصلاة يوجب سجود السهو حتى وإن استيقن المصلي قبل السلام بما شك فيه ؟
الجواب :
بسم الله ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أمابعد :(1/29)
فالشك ، إذا كان الإنسان قد تبين له خطؤه وعرف حقيقة الأمر ألغى الشك ولم يعتد به ، ولذلك القاعدة : " لاعبرة بالظن البين خطؤه " ، يعني: الذي بان خطؤه ، فإذا شك أنه زاد ثم جلس للتشهد أتم الركعة ، مثلاً : شخصٌ يصلي الظهر فلما كان في الركعة الرابعة وانتهى من السجدة الأخيرة في الصلاة دخله شك أنه صلى خمساً ، فحينئذٍ يتشهد ثم إذا ثبت على شكه سجد سجدتين قبل السلام ، وإن لم يثبت على شكه بحيث تجلى له الأمر وانكشف أنها أربع وليست بخمس فحينئذٍ لايسجد للسهو ، لأن هذا حديث النفس لاتأثير له في الحقيقة ولاعبرة به ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثاني :
ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في صفة الكلام ؟
الجواب :
صفة الكلام صفة ثابتة لله-- عز وجل -- ، ولذلك قال-تعالى- : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } ، { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } فبين-- سبحانه وتعالى -- أن هذه الصفة ثابتة له ، وهي صفة على الحقيقة ، ولذلك جاء في صحيح مسلم : (( يتكلم بصوت يسمعه من قرُب كمن بعُد )) ، وثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله-- سبحانه وتعالى -- يكلم عباده في عرصات يوم القيامة ، وبينت نصوص الكتاب والسُّنة نفي هذه الصفة عن العصاة ممن سمى الله -- عز وجل -- وقال-تعالى- : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } .(1/30)
فصفة الكلام ثابتة لله-- عز وجل -- لاتُؤوّل ، ولاتُعطل ، ولايشبه الله-- عز وجل -- بخلقه ، ولاتُطرب لها الأمثال ، فهو كلام حقيقي ، وما يقوله المعتزلة من أن كلام الله مخلوق-تعالى الله عما يقولون علواً عظيماً- قررت طائفة من أئمة السلف أنه كفر لأنه مصادم لنص الكتاب ونفي لصفة من صفات الله-- عز وجل -- ، وكذلك من يُأول هذه الصفة ويصرفها عن ظاهرها ويبعدها عن حقيقتها مخالف للأصل الذي دل عليه نص الكتاب { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } هذا كلام الله ، هذا نص القرآن ، ما يستطيع أحد أنه يقول معنى قائم بالنفس ويحرف الصفة عن ظاهرها ويبطل دلالة الآية في قوله-تعالى- : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } .
وثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- لما عرج إلى السماء كما في حديث أنس في الصحيحين إلى ربه وانتهى إلى ربه وكلمه الله-- عز وجل -- وفرض عليه الصلوات الخمس وقال-تعالى- كما في الصحيحين : (( هي خمسٌ وهن خمسون ، ما يبدل القول لدي )) فكلام الله-- عز وجل -- ليس بمخلوق ، وتأويل هذه الصفات الصفة الثابتة بنص الكتاب والسُّنة وتعطيلها خلاف مذهب أهل الحق .
والواجب على المسلم أن يعتقد هذه الصفة لله-جل وعلا- كما ثبت بها نص الكتاب والسُّنة ولايصرفها عن ظاهرها ، ولايؤوّل فيها، ولايعطل ، ولايشبه الله-- سبحانه وتعالى -- بخلقه ، هذا هو المقرر والذي ينبغي أن يعتقده المسلم ويلقى به ربه .
وفضل كلام الله كما ذكرنا ، هذا الكلام وصف النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أن كلام الله أفضل من كلام المخلوق كفضل الله على خلقه ، وهذا لايستلزم أن يكون كلام الله مخلوقاً ، أو يأتي إنسان معكوس الفهم يفهم منه أن كلام الله مخلوق ، هذا أمر واضح ، فضل كلام نص صحيح ، أي: أن فضل كلام الله كفضل الله على خلقه ، وهذا دليل على كمال هذه الصفة وجلالها لله-- جل جلاله -- .(1/31)
فيدل أيضاً على صحة مذهب أهل السنة والجماعة أن إثبات الصفة لله-جل وعلا- لايقتضي تشريكه بالمخلوق ، ولايقتضي مساواته بالمخلوق-- سبحانه وتعالى -- ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثالث :
يقول السائل : فضيلة الشيخ إذا اشتريت بيتاً أو سيارة وقال البائع : كل شيءٍ مكتمل فيه من الكماليات ، ثم وجدت فيه نقصاً مثل المكيفات ، وغيرها ، وقال لي : أنت اشتريت بناءً فقط ، فهل يلزمه ما نقص فيه ؟
الجواب :
هذا غش لأنه قال له : كل شيء من الكماليات ، هذه الكلمة يحاسب عليها ، والله-تعالى- يقول : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فالكلام الذي يقع عند التعاقد ويتفق عليه الطرفان مؤاخذ به كلا الطرفين .
فإذا قال البائع : البيت فيه كماليات يرجع إلى الكماليات في العرف ، فكل شيءٍ في ذلك العرف الذي وقع فيه البيع ليس موجوداً يُطالب بإحضاره وإتمامه وإلا كان من حق المشتري رد البيع ، يعطى الخيار .
وبناءً على ذلك هذا القول الذي قاله لما رجع وقال : أنت اشتريت بناءً هذا مخالف للأصل الذي اتفق عليه ، وخيانة وخديعة للمسلم ، ولايجوز له أن يقول له فيه كماليات ثم يقول له أنت اشتريت بناء ، فهذا من الكذب والغش ، وإذا قاضاه فإنه يؤاخذ على كلمته ومبنى العقد على ما اتفق عليه ، قال عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه -- : " مقاطع الحقوق عند الشروط " ، فإذا كان اتفق الطرفان ووقع بينهما اتفاق فهو بمثابة الشرط ، أن البيت فيه الكماليات فما نقص من كمال فهو مؤثر .(1/32)
عفواً : إذا كان مثلاً : المكيف ليس من الكماليات في ذلك العرف ، مثلاً : المنطقة باردة ولايوضع فيها مكيف حينئذٍ يكون صادق ، ولذلك نحن نقول : يقيد بالعرف ، وهذا ما يرده العلماء للقاعدة المشهورة : " العادة محكمة " ، أنه يرجع إلى الأعراف ، فإذا قال له : فيه كماليات ننظر ما هي الكماليات الموجودة في ذلك العرف ، أما إذا كان العرف جارياً بأن المكيف غير موجود في هذا البلد وهذه المدينة لطيب هوائها وقوته فحينئذٍ لايُطالب ، لكن لو جرى العرف بوجود الدفايات أو نحوها يطالب بإحضارها ويلزم بها ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الرابع :
ما حكم بيع الأكل المسمى الغذاء حتى الإشباع أو البوفيه المفتوح ؟
الجواب :
الغذاء حتى الاشباع بيعٌ مجهول ، لأن الذي يشبع ليس له ضابط في الناس محدد ، وهذا البيع الذي تدل عليه نصوص الكتاب والسُّنة أنه محرم ، لايجوز لأنه لايصح أن تشتري شيئاً إلا إذا كان معلوماً ، معلوم الصفة ، معلوم القدر ، وعلى كل حال هذا البيع ليس من بيوعات المسلمين ، ولم تعرف مطاعم المسلمين ، ولم يعرف المسلمون من قبل هذه العصور التي انفتحوا فيها على كل من هب ودب هذا النوع من المعاملات .
فينبغي التناصح في ذلك ، ولايجوز للمسلم أن يأكل في مثل هذا لأنه يعينه على أكل أموال الناس بالباطل .
الواجب : تحديد المَبيع وتحديد الصفقة ، وأما إذا كانت مجهولة القدر ، أو مجهولة الصفة فإنه لايجوز .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب الطهارة
بسم الله الرحمن الرحيم ?
قال المصنف-رحمه الله- : [ واقتصرت فيه على قولٍ واحدٍ ليكون عمدة لقارئه ] :
الشرح :(1/33)
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد تقدم معنا بيان بعض الجمل التي اشتملت عليها مقدمة الإمام المصنف-رحمه الله- لهذا الكتاب المبارك ، كتاب عمدة الفقه . وكان آخر ما وقفنا عليه عند قوله : [ على حسب الإمكان ] ، وفي هذه الجملة من المصنف-رحمه الله- دليل على الأدب مع الله-- عز وجل -- فينبغي دائماً أن يكون المسلم متأدباً مع ربه-- سبحانه وتعالى -- فقد بين أنه أختصره على حسب الإمكان وهذا هو الذي في وسع الإنسان أن يبذل ما في طاقته وإذا أراد أن يبين الأمر فإنه يبينه على قدر وسعه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
وقوله : [ واقتصرت فيه على قولٍ واحد ] : هذا يسميه العلماء المنهج ، المقدمات في الكتب تشتمل على التعريف بعلم الكتاب وبمضمون الكتاب ومنهجه إذا كان متعلقاً بعلم ما وهذا العلم يسميه العلماء علم الرسائل وعلم الكتب ، فالكتب لها نمط معين ومنهج خاص حتى إن القرآن الكريم بين هذا المنهج واستفاد العلماء والأئمة من كتاب الله في كل شيء ، { يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ @ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ @ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } . هذا الكتاب إِشتمل على المرسل ومقدمة المرسل ومضمون الرسالة ، ولذلك يحتاج المؤلف أن يبين منهجه والطريقة التي سيسير عليها . فمن عادة العلماء والأئمة-رحمهم الله- أن يبينوا منهجهم في الكتب ، ولذلك وضعوا ما يسمى بخطة الكتاب فيقسمون الكتب إلى أبواب وفصول ومسائل كل هذا حتى إذا قرأت الكتاب كنت على بينة بمنهجه.(1/34)
وكتب الفقه التي بين أيدينا كتب مهمة لها مصطلحات خاصة ومناهج خاصة فلابد لطالب العلم قبل أن يدخل فيها أن يكون على إلمام بمنهج أهلها ولا يمكن لأحد أن نقبل منه أن يتكلم على هذه الكتب أو يقيهما سلباً وإيجاباً إلا إذا كان من أهلها ممن قرئها وعلمها وفقه فيها ، ولذلك هذه الكتب يعتني العلماء-رحمهم الله- فيها ببيان المنهج وينقسمون إلى قسمين في كتب الفقه تارة يكون المتن خاص بمذهب ، فيبين هل قصد أن يبين خلاف المذهب أو هو مختصرٌ يقصد منه بيان زبدة المذهب ؟
إذاً الكتب إذا كانت في مذهب خاص من متون فقهيه إما أن تشتمل على قولٍ واحد أو على أكثر من قول ، فالمصنف هنا بين أنه سيسير على قولٍ واحد .
[ واقتصرت فيه على قولٍ واحد ] : وهذا يدل على أنه لا يتكلم عن الخلاف ومن عادة العلماء-رحمهم الله- في كتب الفقه أنهم يجعلونها مراتب فيبدءون أولاً بزبدة القول في المسائل ، ثم بعد هذه الزبدة درجة ثانية وهي درجة الخلاف داخل المذهب ، ثم بعد درجة الخلاف داخل المذهب تأتي درجة الخلاف خارج المذهب .(1/35)
فتبدأ أولاً بقراءة قول العالم الذي تدين الله-- عز وجل -- أن قوله أقرب إلى الحق وأقرب إلى الصواب ثم بعد ذلك تسأل هل نسبة هذا القول إليه فيها خلاف لأن الأئمة اختلفت الروايات عنهم خاصة أن الإمام أحمد-رحمة الله عليه- أمتاز ميزة ربما قل أن توجد عند غيره لأنه تأخر عن إخوانه من الأئمة فاطلع على نصوص وأحاديث وروايات ، وكان-رحمه الله- آية في علم الحديث حتى كان الإمام الشافعي يقول له : ( إذا صح الحديث عندكم فأعلمونا ) ، فكان-رحمه الله- واسع الإطلاع على أحاديث رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، قيل أنه كان يحفظ ما يقرب من مليون حديث من جهة اختلاف الأسانيد ، لأن الحديث الواحد قد يكون له أكثر من عشرين طريق في بعض الأحيان خاصة الأحاديث المشهورة والأحاديث المتواترة فهذا الزخم وهذا الكم العظيم من النصوص والأحاديث تارة يقول إن هذا حرام ثم يجمل القول ، وتارة يقول حرام ويفصل ، وتارة يقول هو مكروه ، وتارة يخصص عموم الحرمة ، لأنه تأتي أحاديث تقيد المطلقات وتخصص العمومات ، فبعد أن تعرف القول الواحد في المذهب تنتقل إلى الخلاف عن الإمام نفسه .
لماذا نعتني بالروايات عن هؤلاء الأئمة ؟(1/36)
أولاً : لا يقل قائل هذه أقوال رجال ، هذه أقوال رجال مستنبطة من النص ، وأقوال رجال أئمة في الورع وعدم القول على الله بدون علم ، وأئمة في ضبط العلم وإتقانه . فكل قول عنهم له مكانته لأن الله أمرنا أن نرجع إليهم فنريد أن نحرر القول عنهم ما دام أنهم أئمة وأهل أن يقتدى بهم فنحن لا نبحث في خلاف قول رجل يقول حرام أو حلال ، وإنما نبحث أنه قال حراماً لأن عنده دليل ونسأل لماذا قال حراماً ؟ لأن الظن بهؤلاء لا يقولوا حراماً من عند أنفسهم وهل يمكن لإنسان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتقد في مثل هذا الإمام الورع وأمثاله من أئمة الإسلام أن يقولوا حراماً بدون علم . فهؤلاء كانوا على درجة من الصلاح وانظر كيف وضع الله لهم القبول وكيف وضع الله لعلمهم البركة وانتفعت الأمة أكثر من عشرة قرون وهي تتلمذ إلى يومنا هذا على علمهم وفضلهم فالخلاف عن الإمام نفسه لا يقصد منه تحرير أقوال الرجال المجردة ، إنما اختلفوا ما هو آخر قول ثبت عليه؟ لأنه لا يثبت على آخر قول إلا عنده دليل يترجح على بقية الأدلة ومن هنا تتفتق أذهان العلماء لما يبحث داخل المذهب عن إمامه لماذا رجع عن هذا القول ؟ يعلم الأدب مع الكتاب والسُّنة ويتعلم كيف يقيد المطلق وكيف يخصص العموم ويبدأ يتأهل لمسألة الخلاف بين المذاهب الأخر والأقوال المعارضة ، فهي مدرسة تدريجية تمهيدية .
فالمصنف-رحمه الله- بين لنا في هذه المقدمة أن كتابه من الدرجة الأولى ، وهي درجة الاقتصار على قولٍ واحد ومن عادة العلماء-رحمهم الله- والأئمة، أنهم إذا أعطوا أمراً أن يعللوه ويبينوا سببه وهذا مهم جداً . قال : واقتصرت فيه على قولٍ واحد .(1/37)
قال : [ واقتصرت فيه على قولٍ واحد ليكون عمدة لقارئه ] : إذا اللام للتعليل ، أي من أجل أن يكون عمدة لقارئه ، فالذي يقرأ هذا الكتاب ، اختار فيه الأمام ابن قدامه-رحمه الله- القول الواحد في المذهب فعافاك وأراحاك من الخلاف داخل مذهب الحنابلة لأن داخل مذهب الحنابلة ربما تجد عن الإمام أحمد سبعة روايات أو ثمانية روايات ، ولذلك هناك ما يسمى علم "الاختيار" وهناك أئمة مجتهدون في داخل مذهب الإمام أحمد-رحمة الله عليه- اختاروا القول الراجح من أقواله والذي استقر عليه مذهبه في آخر حاله-رحمة الله عليه- . واختلف اختيار عالم عن عالم و منهج عالم عن عالم في الترجيح والرجوع إلى أصول المذهب .
إذا قيل يقتصر على قول واحد طبعاً هذا أمر صعب جداً في المذاهب ، ومن هنا تجد العلماء يقول القول الأول في المسائل الخلافية يحرم ، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها الإمام ابن قدامه لأنه صرح في العمدة بأن هذا حرام فهذا معنى أنه اقتصر فيه على قولٍ واحد أي أنه اختاروا هذا القول ، وبناءً على ذلك ، العمدة اختيار للإمام-رحمه الله- ولكنه اختيار مختصر فإذا أردت أن تعرف دليله في هذا الاختيار وحجته فأرجع إلى "المغنى" حيث بسط-رحمه الله- الأدلة وبين وجه رجحان هذا القول الذي يختاره غالباً .(1/38)
[ ليكون عمدة لقارئه ] : عمدة الشيء ما يقوم عليه ، والإنسان إذا كان عنده قول واحد لم يتذبذب ولم يتشتت وأصبح الحكم عنده واضحاً والمنهج بيناً وهذه لا شك نعمة عظيمة على طالب العلم أن يبتدأ بالتأصيل والسير على قولٍ واحد بدليلٍ وحجة حتى إذا فهم ووعى وضبط ، ثم إذا ضبطت هذا القول أصبح الفقه عندك واضحاً عبادة ومعاملة تعرف كيف تتطهر كيف تصوم كيف تصلى كيف تزكي كيف تصوم كيف تحج ، فبين-رحمه الله- أنه عمدة لقارئه ، ولذلك كان القدماء-رحمهم الله- بعض طلاب العلم المبتدئين من المتقدمين قد يفوق بعض طلاب العلم اليوم لأن طلاب العلم المتقدمين كانوا يضبطون المسائل ضبطاً واضحا بيناً يسير على قول واحد بالدليل حتى إذا تأهل لمرتبة الاجتهاد، لأنه ما تأهل الآن لمرتبة الاجتهاد ، فالذي لم يتأهل لمرتبة الاجتهاد لا يجوز له أن يبحث بين الأدلة وبين خلاف العلماء هذه تهلكة وفاقد الشيء لا يعطيه .
ومن هذا الذي يرى نفسه أهلاً وهو في بداية الطلب أن يكون حكماً بين أئمة الإسلام ، فإذا كان عبر مرتبة القول الواحد إلى الأقوال المختلفة وإلى الخلافات تشتت ، ولذلك نزعت البركة فتجد البعض يبحث مسائل كثيرة ويدخل في الفقه في مسائل كثيرة ولا يخرج إلا بالقليل ، لماذا ؟ لأنه بدون تأصيل وعنده مسائل كثيرة وأقوال كثيرة وعنده قواعد مشتتة غير منضبطة لأنه لم يسر على هذا النهج الذي وضع الله فيه البركة والخير ، لكن تجد مبتدئ طلاب العلم الذين انحصروا وانضبطوا بالأدلة في قولٍ واحد يستطيع أن يفتيك في أي مسألة من المسائل في العبادات والمعاملات إذا أراد أن يعبد الله يعرف كيف يعبده على منهج وطريقة واضحة بينة .(1/39)
فإذاً طالب العلم الآن المبتدئ لا يبحث في الخلافات والأقوال لأنه لم يتأهل إلى الآن كيف يدخل في شيء لا يحسنه وكيف يبحث في شيء لا يتقنه يتشتت ويضيع ، فإذاً نقول له اتبع عالما وهذا قرّره الأئمة قرّره الحافظ ابن عبد البر-رحمه الله- وقرره شيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام ابن القيم-رحمه الله- ، والحافظ بن حجر، أئمة الإسلام قرروا هذا أن طالب العلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد عليه أن يقرأ قولاً واحداً بالدليل ، يعني يأخذ بقول واحد عالم بالدليل لأن الله يقول : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فهو إلى الآن ليس من أهل العلم المتمكنين . وعلينا أن نتقي الله في أنفسنا ليس الإنسان يزكي نفسه ويذهب ويأخذ "المغني" ليقرأ فيه ويبحث .
بعض الناس يأتي يسألني : أيش حكم مسألة كذا وكذا هل الطلاق واقع أو لا ؟ أقول له الطلاق لا يقع ، يقول : والله قرأت في "المغني" أنه يقع ، طيب من الذي قال لك اذهب واقرأ في "المطولات" ؟ تشتت نفسك . ولذلك يتشتت ولا يجد فائدة ولا يجد نتيجة يقرأ في "المغني" من يميز بين الأدلة ويعرف الحجج ومسالك الأصول في الترجيح عند التعارض والاختلاف ، أما المبتدئ فيؤصل على قول واحد . فبين-رحمه الله- أنه سيسر على قولٍ واحد عمدة لقارئه لكي لا يلتبس عليه وجه الصواب كما سيبين وهذا يدل على أنه عند الاختلاف يلتبس على الإنسان وجه الصواب إلا إذا ثبته الله على الحق - نسأل الله أن يثبتنا على الحق - .(1/40)
قوله-رحمه الله- : [ فلا يلتبس الصواب عليه باختلاف الوجوه والروايات ] : هذا إمام من أئمة العلم قرأ الفقه طالبا وأقرأه معلماً وإماماً وديواناً من دواوين العلم الذي بلغ درجة الاجتهاد ، كان شيخ الإسلام إبن تيمية-رحمه الله- يقول : ( ما دخل الشام بعد الأوزاعي أعلم من الموفق ) -رحمه الله- . ومع هذا فيقول فلا يلتبس عليه وجه الصواب باختلاف الأوجه والروايات ، وهذا يدل على أن طالب العلم يلتبس عليه وجه الصواب إذا دخل في الخلافيات لكن متى إذا لم يكن أهلاً فإذا قرأ علم الأصول وضبط مسلك الاجتهاد أمكنه أن يميز وهذا الواقع يصدقه ، وابحث عن كل طالب علم يبحث في الخلافيات ويشتت نفسه في الخلافيات تجده ولو عاش عشرة سنين وقد جاءني والله من أعرفه من خيرة طلبة العلم في البحث والتمحيص وكنت أنصحه إبان طلب العلم بما كان ينصحنا به أئمتنا وعلمائنا ومشايخنا وما قرأناه عن علماء الإسلام ، فكان يقول لا ، هذه الطريقة أسلم قلنا إذاً ننظر، ومضت يعني بعد أكثر من عشرة سنوات لما تخرجنا جاءني وقال فترة من الفترات التقينا وقال : والله ما وجدت أسلم من الطريقة التي كنت عليها قال : الآن ما أستطيع أن أتحكم في نفسي لأني بدأت بالخلاف وبالشتات وبالأقوال الآن ما أستطيع أن أجمع الشتات هذا ، قال أتمني لو أنني آخذ متناً من متون الفقه اقرأه بالدليل حتى أستطيع أن ألم الشتات الذي كان معي .(1/41)
هذه الطريقة سار عليها العلماء والأئمة ولذلك لابد من التأصيل وهذا إمام من أئمة العلم وعنده من علمه وخبرته ما يقول : لئلا يلتبس عليه وجه الصواب باختلاف الوجوه والروايات ، هذا داخل المذهب فما بالك إذا كان اختلاف الأقوال بين الأئمة والعلماء ، الوجوه والروايات في المذهب بعض الأحيان ما تتعدى وجهين ، القاضي أبو يعلى-رحمه الله- ألّف كتابه "الروايتان والوجهان" وهذا في مذهب الحنابلة غالباً ما يختلف على وجهين وعلى روايتين فما بالك في خلاف العلماء الذي على أربعة أقوال وخمسة أقوال ، وما بالك إذا كان اختلاف وجه الصواب داخل المذهب مع أن قواعد المذهب محصورة ويريد أن يرجح بين هذه الوجوه من خلال قواعد محصورة ، فكيف إذا أراد أن يرجح بين أدلة متعارضة وبين جهابذة العلم الذي يغترف كل منهم من بحر فتح الله-- عز وجل - - عليه به . لذلك ما يستطيع طالب العلم أن يضبط إلا بالتأصيل ، ومن هنا كان العلماء يوصون بهذه الطريقة ويضعون المتون من أجلها ، ومن هنا بين أنه وضع المتن لكي يسهل على طالب العلم ويتمكن عن طريقه بأذن الله من ضبط القول والحكم في العبادة والمعاملة ولا يتشتت طالب العلم باختلاف الوجوه والروايات .(1/42)
قال-رحمه الله-: [ سألني بعض إخواني تلخيصه ليقرب على المتعلمين] : [ سألني بعض إخواني تلخيصه] : هذه الجملة طبعاً سبب تأليف الكتاب. عند العلماء ، في المقدمة حمد الله والثناء عليه ، ثم الدخول في مضمون المقدمة ، بيان علم الكتاب وسبب تأليفه. بعض الأحيان يقول : (سألني بعض العلماء...) ، (سألني من لا أرد سؤاله...) ، (سألني بعض الناس...) ونحو ذلك . وبعض الأحيان يقول : (لما رأيت أن الناس اختلفوا في مسألة كذا وكذا وقد أخذ الله على أهل العلم بيان الحق في هذا الأمر ووجب عليَّ...) فيبن أنه يريد أن يعذر إلى الله-- عز وجل - - وأنه ألّف في هذه المسألة معذرة إلى الله ، سبب تأليف الكتاب وسبب تأليف الرسالة وهذا إلى الآن يستفاد منه. الإمام إبن قدامة-رحمه الله- في القرن السابع ، مع ذلك استفيد من هذا المنهج الآن في الرسائل العلمية ببيان سبب تأليف الرسالة .(1/43)
فبين-رحمه الله- أنه سُئل كتابة هذا المختصر، ومن هنا نعلم أن الأئمة-رحمهم الله- والسلف الصالح والتابعون لهم بإحسان ، ما كانوا يتصدرون للكتابة وللتأليف من عند أنفسهم ، ما كانوا يحرصون على التبرز وما كانوا يحرصون على الظهور وما كانوا يحرصون على أن يدخلوا في العلوم فيكتبوا فيها إلا إذا زكوا وأُمروا أو ظهر أو غلب على ظنهم أن الأمر محتم عليهم . لكن اليوم-نسأل الله السلامة والعافية- لو دخل الإنسان إلى مكتبة من المكتبات لوجد الكم الهائل من التآليف أبو فلان وأم فلان ، وما تدري ماذا تجمع في المسائل من التآليف ، كُلُُ يؤلف وكُلُُ يكتب . كان السلف-رحمهم الله- الكتب لا يقرأها إلا العلماء لأنه ما في مطابع وتنسخ باليد وإذا ألّف أحد فإنه لا يؤلف إلا إذا كان أهلاً ، لأنه إذا ألّف وهو غير أهل رد عليه ، ومن هنا كانوا يقولون من ألّف فقد عرض عقله في طبق لأنه يبرز للناس عقله وفهمه وادراكه وكانوا يقولون "من ألّف فقد استهدف"، فحينئذٍ إما أن يذكر فضله وإما أن يبين عواره وخطاؤه .
وكانت هذه الكتب لا تكتب إلا نادراً ولا يكتب إلا الكتاب القيم من الإمام القيم ومن العالم الذي هو أهل للكتابة، وكان علم الناس في الصدور أكثر منه في السطور فكانوا يحفظون العلم في صدورهم أكثر مما يحفظونه في كتبهم ومؤلفاتهم فكان لا يؤلف أحد إلا إذا طلب منه أنظر "سألني" وإلا لو كان يؤلف من عنده لألف عشرات الكتب ، والعلماء-رحمهم الله- كان التأليف من أسهل ما يكون عندهم لكن علموا أولا هناك قاعدة وأصل وهي الحق .(1/44)
فإذا جئت إلى علم وفن وأنت تعلم أن هناك أئمة قبلك وجهابذة من قبلك كتبوا فيه وألّفوا فيه لماذا تزاحمهم وهم الذين هم أهل للإمامة وأهل للتوجيه وأهل للتأليف وأهل لقيادة الأمة ودلالتها على الخير فلماذا يزاحمهم الإنسان ، ومن هنا كانوا يتركون الأمر لمن هو أهل وتجد المتون الفقهيه معدودة ولو كانوا حريصين على التأليف لألفت ألوف المتون لكن كانت المتون منحصرة محدودة لأنهم كانوا يعرفون الفضل لأهله ولا يحسد بعضهم بعضاً بحيث مجرد ما يخرج متن تجد مائة متن يخرج وكانوا يقدرون من يؤلف فإذا وجدوا تأليفه مفيداً نافعاً عكفوا على شرحه وعكفوا على الإشادة به والدلالة عليه وبيان مشكله وحل عويصه والدلالة على خفيه ونحو ذلك اعترافاً بالفضل .(1/45)
فالآن مثلاً وجدنا بعض المتأخرين أصبح يؤلف متناً فقهياً ، أصبحت الأمة بحاجة إلى من يؤلف لأن الأول لا يغني ولا يكفي حتى يأتي هذا ويؤلف . إذا كان هناك من هو أعلم منك وأتقى لله منك وأولى بالإتمام ، الحي الذي لا تؤمن عليه الفتنة وهذا أسبق وأولى فأترك الأمر له وإذا أدرت أن تدل فأشرح كتابه وبين ودل . والغريب أن كتب الأوائل تجد فيها من البركة الخير الكثير وكان الوالد-رحمة الله عليه- يقول لي : لن تجد شيء أو علماً ألّف فيه الأول والأخر إلا ابتدأت بالأول ويشدد عليّ في ذلك ويقول : لا تقرأ للمتأخر قبل أن تقرأ للمتقدم ، حق من حقوقه ونفعني الله-- عز وجل - - بهذه النصيحة كثيراً فإن طالب العلم الذي يحرص على الرجوع إلى الأوائل وضبط العلم من مصدره ثم بعد ذلك ينظر إلى من بعد يبارك له في علمه ، ولذلك قل أن تجد كتاباً للأولين إلا وضعت له البركة ووضع له القبول ووضع فيه النفع حتى إن بعض الكتب عرف بالتجربة أنه لا يقرأها أحد إلا نفع الله-- عز وجل - - به في علمه وهذا لا شك أن العالم إذا وضع كتاباً وهو أقرب ما يكون إلى ربه أكثر إخلاصاً وأكثر ورعاً وأكثر تحريا للصواب فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً . قيل للإمام مالك أُلفت موطآت وكان قد كتب الموطأ الذي له فألّف فصار كل واحد يؤلف موطأ موطأ موطأ كثرة الموطآت فقيل له كثرة الموطآت فقال : قولته المشهورة-رحمه الله- ستعلمون ما أُريد به وجه الله ، اليوم لا نعرف إلا موطأ الإمام مالك-رحمه الله- .
فهؤلاء الأولون بورك في كتبهم تجد متون في الحديث لن تقرأها إلا فتح الله عليك في علمها ولن تحفظها إلا وجدت البركة والخير في حفظها وضبطها ومن هنا الالتصاق بمتون الأولين وضبطها لأن القوم أكثر إخلاصاً لله-- عز وجل - - نحسبهم وهذا ظاهر والله حسيبهم وهذا ظاهر من آثارهم .(1/46)
ثانياً : من حقهم علينا لأنك إذا تعلمت بكتبهم وانتفعت بعلومهم كنت أغير الناس على نشر العلم الذي ألّفوه والكتاب الذي صنفوه لأن هذا من الوفاء لهم ولن يكون العالم موفقا معاناً إلا إذا نصح لمن قبله ، فليس من النصيحة أنه إذا تعلم وضبط قطع الآخر عن الأول وأصبح كأنه يريد من معه يأخذون منه ويتركون من قبله فهذا ليس من النصيحة لأمة محمد-- صلى الله عليه وسلم -- بل يقول قول الصدق إن الله بارك لي في علمي بهؤلاء بعد فضله-- سبحانه وتعالى -- ومنه وكرمه فأوصي بكتبهم لأني وجدت هذا الأثر منها لا يحبسهم عنك ولا يشعرك انه هو الذي يؤلف أنه هو الذي يُقعد ويُصنف .
وأين نحن من أولئك العلماء ؟ السطر الواحد من كتب العلماء ممن قرأناً وممن استفدنا تجلس فيه ساعات تشرح من العلوم ومن الفوائد ما تدري من أي شيء تعجب أمن ضبطه واتقانه ، أمن سلاسته ، أمن ترابط أفكاره ، أمن حسن اختياره للجمل ، حتى أنك تصل إذا كان عندك علم ودقة إلى أمر واحد في الأخير وهو أنه لولا فضل الله وفتح الله لا يمكن يأتي هذا بجهد جاهد أبداً لا يمكن أن يأتي بذكاء ذكي ولا ببلاغة بليغ ولكن بفضل الله وحده لا شريك له حتى يظهر لك في قرارة قلبك أن القوم بينهم وبين الله إخلاص ، لأن هذا الفتح وهذا العمق وهذا التأصيل وهذا القول البديع لا يستطيع أن يحرره الإنسان بذكاء إلا بعناء وجهد لكن تدرك أن الأمر ورائه اخلاص فمثل هؤلاء الأئمة العلماء هم أحق .
فبين-رحمه الله- أنه كتب هذا لأجل أن يسهل ولا يلتبس على وجه الصواب باختلاف الأوجه والروايات وبين أنه كتب هذا الكتاب لأن الناس سألوه أن يؤلف ومن هنا يتبين لنا أنه ينبغي على طالب العلم أن لا يحرص على التأليف والتصنيف ما لم توجد الحاجة الداعية إلى ذلك .(1/47)
قال المصنف : [ ويسهل حفظه على الطالبين ] : أي لكي يسهل حفظه على الطالبين، إذاً اقتصر فيه على قول واحد لكي يكون سهل على من يقرأه وأن يكون عمدة لمن يقرأه ولكي يسلم من الشتات ، ثلاث فوائد ومن هنا إذا سئل الإنسان عن فوائد الاختصار والاقتصار على قولٍ واحد .
أولاً : أن يكون عمدة لقارئه وحينئذ تجد من يقرأ العبادات والمعاملات وعنده قول واحد معتمد لقول واحد ولا يتشتت .
الفائدة الثانية : لا شك أنهأسهل وأبلغ في الوصول إلى الحق دون عناء ما دام أن لهذا القول دليله وحجته من كتاب الله وسنة رسوله-- عز وجل - -.
قال المصنف-رحمه الله- : [ فأجبته إلى ذلك معتمدا على الله سبحانه في إخلاص القصد لوجهه الكريم ] : [ فأجبته ] : إجابة السائل ، تحقيق ما دعا إليه وفعل ما طلب فأجبته إلى ذلك يعني إلى ما سألني من اختصار الفقه على مهذب الإمام أحمد-رحمه الله- على قولٍ واحد ، لكنني أعتمد على الله الذي لا يعتمد على أحدا سواه في إخلاص النية . والإخلاص هو الأساس في العمل ، فالله لا ينظر إلى قول القائل ولا إلى عمل العامل إلا إذا أخلص لوجهه ، ومن أخلص لله زكى الله سريرته ومن زكى الله سريرته زكى علانيته ، ومن زكى علانيته رزقه القول السديد والعمل الصالح الرشيد ، وكل هذا ببركات الإخلاص .
الإخلاص : أن يقصد العبد وجه الله-- جل جلاله -- . فيكتب ويسمع ويقرأ ويقدم ويؤخر ويقول ويفعل وليس في قلبه إلا الله ، وهذا الأمر هو أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ، فليس هناك نعمة أعظم من نعمة الإخلاص وهي أساس الهداية فبها يكون التوحيد وعبادة الله-- عز وجل - - مخلصين له الدين .(1/48)
وثانياً : بها يكون قبول العمل فلا ينظر الله إلى قول قائل ولا إلى عمل عامل إلى بالإخلاص وما وجد العبد شيء أعظم ولا أشد من هذا الأمر وهو الإخلاص ، ولذلك قال سفيان الثوري-رحمه الله- : ما وجدت أشد عليَّ من نيتي إنها تتقلب عليَّ ، يعني ما وجدت شيء عذبني وأرهقني مثل الإخلاص . لأنك تخرج وأنت تريد طلب العلم فيدخل الشيطان عليك بألف نية ويدخل عليك بألف شيء ما تدري في النهاية هل يريد الإنسان وجه أو يريد غير ذلك ، وقد تدخل الدواخل يبتدئ الإنسان وهو أخلص ما يكون وينتهي-والعياذ بالله- وهو أبعد ما يكون عن الإخلاص ، وقد يدخل وهو أبعد ما يكون عن الإخلاص ويخرج وهو أقرب ما يكون إلى الإخلاص كما قال بعض السلف طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله .
وهذا طبعاً فيه كلام طويل للعلماء حاصلة ، أن العلم إذا طلبه طالب العلم وكانت نفس الطالب صالحة وقلبه خاشعاً ودخلت عليه دواخل الدنيا حتى ولو كان في بداية الطلب دخل بدواخل الدنيا كما كان يقع لبعض السلف وبعض العلماء يدخل في طلب العلم وهو فقير وتكون عليه دواخل الدنيا ثم بما يكون عليه من فطرته وبتوفيق الله-- عز وجل - - أولاً وآخراً تبدأ هذا الأرض الطيبة تتقبل نصوص الكتاب والسنة فينفر من الدنيا ويقبل على الآخرة فيأبى علمه إلا أن يكون لله .(1/49)
" طلبنا العلم لغير الله "، لأنه ما كان يعرف ما هو العلم "طلبنا" هذا في البداية لكن لما عرف ما هو العلم لأن العلم يكسر القلوب لله-- عز وجل - - وما عرّف العبد بربه شيء أعظم من العلم ، ولذلك جعل الله الجنة لمن خشي ربه فجعل في نعيمها قال في سورة البينة : { ذَلِكَ } - وهذا اسم إشارة ، إشارة إلى علو المقام - { لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } فبين أن الجنة في أعلى مراتبها وأسمى منازلها لمن خشي ربه ، ثم قال : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }. وقال-عليه الصلاة والسلام- ليربط هذا المعني : (( من سلك طريقاً يلتمسه فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة )) فلا ولن يكون العلم لله-- عز وجل - - إلا بالإخلاص .(1/50)
وعلى هذا بَرئ المصنف-رحمه الله- من الحول والقوة واعتمد على الله-- جل جلاله -- وكان السلف والعلماء والأئمة الصالحون يخافون جداً من تزكية النفوس ويعولون في صلاحها واستقامتها على الله وحده ، وهذه من بشائر الخير للعبد أنه لا يزكي نفسه بالإخلاص أبداً دائماً يتهم نفسه أنه لم يخلص ، ومن هنا قالوا : "من رأى في نفسه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص" وبعضهم يقول : "احتاج إخلاصه إلى خلاص" يعني إلى أن يخلص نفسه من هذه الشوائب . فالاعتماد على الله-- عز وجل - - أن الإنسان يحُسُ أنه لن يستطيع أن يكون مخلصاً إلا بتوفيق الله فيقول دائماً اللهم اجعلني من المخلصين اللهم أني أسألك الإخلاص اللهم اجعل علمي خالصاً لوجهك ، والعالم في درسه يوطن القلوب على الإخلاص لله-- عز وجل - - ؛ لأن العلماء ما وضعوا إلاَّ للدلالة على الله هذا من النصيحة لله-- عز وجل - - أنه يربي الناس على الإخلاص وانظر كيف العلماء والأئمة وأنت تستفتح هذا الكتاب وهو يبين فقره وفاقته وحاجته إلى ربه أن يرزقه الإخلاص لوجه-- سبحانه وتعالى -- معتمداً على الله فلا يستطيع الإنسان أن ينال الإخلاص إلا إذا اعتمد على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم وهو الكريم-- سبحانه وتعالى -- .(1/51)
وإذا نظر العبد إلى عواقب الإخلاص وثمرات الإخلاص فإنه يحب الإخلاص ويحب سبيل المخلصين ، فالعبد مهما كان على صلاح وتقوى فإنه لن ينال أثر صلاحه وتقواه بشيء أعظم من الإخلاص ، وإذا تعلم وعلّم وعمل بعلمه مخلصاً لربه وقف بين يدي الله-- عز وجل - - فقال الله-سبحانه- : ألم تكن جاهلاً فعلمتك ؟ ألم تكن ضالاً فهديتك ؟ ألم تكن وضيعاً فرفعتك ؟ ألم تكن ألم تكن... فيقول : بلى يا رب فيقول : ماذا عملت لي ماذا عملت لي ؟ يعني ليس هناك شيء في تلك الساعة إلا ما يراد به وجه الله ، ولو يأتي بالحسنات أمثال الجبال فإن الله لا ينظر إلا لما كان له-- سبحانه وتعالى -- ماذا عملت لي فيقول : يا رب تعلمت من أجلك وعلّمت من أجلك وعملت من أجلك ، فيقول : الله صدقت وتقول الملائكة : صدقت ، ويقول الله-تعالى- : اذهبوا به إلى الجنة . - نسأل الله العظيم بعزته وقدرته وجلاله ورحمته أن يجعلنا ممن قال له صدقت وأن لا يكذبنا على رؤوس الأشهاد- فالإخلاص أمر عظيم ، ولذلك برئ المصنف-رحمه الله- من الحول والقوة وسأل الله أن يعينه على الإخلاص والظن بالله-- عز وجل - - أنه ما طمع أحد في رحمته فخيبه في طمعه ورجائه فهو الذي لا يخيب من رجاه فسأل الله أن يعينه على الإخلاص.(1/52)
قوله-رحمه الله- : [ والمعونة على الوصول إلى رضوانه العظيم ] : والمعونة: أي أن يعينني الله-- عز وجل - - للوصول إلى رضوانه العظيم ، أعظم نعمة وأكبر منة ينعم الله-- عز وجل - - بها على العبد أن يرض عنه ، ولذلك لما ذكر الله نعيم الجنة وسرورها وحبورها وما فيها قال-سبحانه- : { وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ } ، فإذا رضى الله عن العبد أرضاه في الدنيا والآخرة . وفي الحديث الصحيح أن الله يطّلع على أهل الجنة فيقول : (( يا أهل الجنة هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا وأعطيتنا ، فيقول-سبحانه- : ألا أزيدكم ؟ أُحِّل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم أبداً )) هذه أعظم نعمة أن الله-- عز وجل - - ينعم على العبد برضوانه وإذا رضي الله عن صلاة العبد أعطاه جزاءها على أكمل ما يكون الجزاء ، وإذا رضي الله عن زكاة العبد وعن صيامه وعن حجه وعن عمرته وعن علمه وعمله وتعليمه ودلالته أعطاه أحسن الجزاء وأفضله . فالعبد دائماً يسأل الله-- عز وجل - - أن يجعله من أهل الرضى وكم من عامل سلبه الله-- عز وجل - - الرضى ومقته-والعياذ بالله- فلم يزدد بعلمه إلا سفالاً-والعياذ بالله- ومقتاً من الخلق ، فيسأل العبد ربه دائماً الرضى ويقول : اللهم أني أسألك رضاك فإذا رضى الله عن عبد أرضاه وإذا رضى الله عن العبد فهذه نعمة عظيمة ومنة كريمة - نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم من أهل الرضى- .(1/53)
لما سأل الله الإخلاص سأله أن يكون محل الرضى يعني مرضياً عنه فالإنسان إذا أخلص ، ولذلك قال لابد للإنسان إذا أخلص يسأل الله-- عز وجل - - القبول فكان السلف الصالح والأئمة والعلماء يوصون بأن يسأل العبد ربه الصواب ، فإذا رزق الصواب سأل الله الإخلاص في عمل الصواب ، وإذا رزق الإخلاص في الصواب ، سأل الله القبول لذلك الذي عمله ، فإذا رزق القبول سأل الله الثبات ، وإذا رزق الثبات سأل الله حسن الخاتمة . فهذه خمسة أشياء ما اجتمعت في عبد إلا نال بها سعادة الدنيا والآخرة.
أن يسأل الله الصواب فإذا رزق الصواب عصم في دينه فلا تضره فتنه ما دامت السماوات والأرض وهذا معنى قول ألهمنا رشدنا ألهمني رشدي اللهم أني أسألك الرشد أن يرزقك الله الصواب .
وثانياً : أن يرزقك الإخلاص في هذا الصواب لأنه قد يكون الإنسان مصيباً لكنه يحرم الإخلاص ، الصلاة صواب ، الزكاة صواب ، فقد يصلي وهو مرائياً وقد يزكي وهو مرائياً ، فإذاً ليس الصواب وحده يكفي بل لابد من الإخلاص فيه.(1/54)
فإذا رزقت الصواب والإخلاص سألت الله القبول فكم من راكع ساجد وكم من صائم ظمئت أمعائه وأحشائه ليس له من صيامه إلى التعب والنصب . فإذاً لابد أن يسأل الله القبول ، ولذلك حكى الله عن الخليل أنه سأل ربه القبول ، عمل عملاً صالحاً وأخلص فيه لله-- عز وجل - - ثم سأل الله القبول . فإذا الصواب ، الإخلاص ، القبول ، وبعد القبول الثبات ، فقد يعمله لمرة ولا يعود إليه عمره أبدا فيرزقه الله-- عز وجل - - الصواب فلا يشكر ربه على هذه النعمة فيتأذن الله برفعها عنه فلا تعود إليه أبداً فكم من إنسان خشع قلبه ثم حرم الخشوع فلم يخشع بعد ذلك أبداً-نسأل الله السلامة والعافية- . فإذا يسأل الله-- عز وجل - - بعد هذا أن يثبته ثم بعد ذلك يسأله حسن الخاتمة لأنه قد يثبت ثم بعد ذلك تزل القدم بعد ثبوتها-والعياذ بالله- فيسأل الله-- عز وجل -- حسن الخاتمة ، فإذا جمع الله للعبد هذه الأمور كلها فقد أفلح ونجح ونال سعادة الدنيا والآخرة - نسأل الله بعزته وجلاله أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل - .
ولذلك كان عبدالله ابن عمر-رضي الله عنهما- يقول : لو أعلم لو أن لي صلاة واحدة مقبولة لاتكلت ، إن الله يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } ، فالقبول ، وكذلك أيضاً كونه يثبت على الحق وذلك قال الله عن عباده الأخيار : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } ، وقال عن عبده الصالح وبيّن عن عباده الصالحين أنهم يسألونه-- سبحانه وتعالى -- الثبات على الأمر وأن يثبت قلوبهم ، ولذلك كان-- صلى الله عليه وسلم -- يقول في أعز المواطن وأشرفها وهو ساجد بين يدي الله : (( اللهم مقلب القلوب )) وفي رواية (( مصرف القلوب صرف قلبي في طاعتك )) ، فيسأل العبد ربه دائماً هذه المسائل العظيمة فسأل الله-- عز وجل -- أن يبلغه رضوانه .(1/55)
قوله-رحمه الله- : [ وهو حسبنا ونعم والوكيل ] : [ وهو] : أي الله ، حسب : أي كافي ، حسبنا أي كافينا ، حسبنا ونعم الوكيل إي وربي ونعم الوكيل الذي هو قائم على كل خلقه-- سبحانه وتعالى -- - جل جلاله - وتقدست أسمائه- ، ومن توكل على الله كفاه ومن استعان بالله-- عز وجل - - أعانه وأمده بتوفيقه ونصره وتأيده-- سبحانه وتعالى -- هو حسبنا ونعم الوكيل كلمة عظيمة جليلة كريمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار فجعلها الله برداً وسلاماً ، وقالها أصحاب محمدٍ-- صلى الله عليه وسلم -- و-رضي الله عنهم أجمعين- حينما قيل لهم : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ @ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ } .
فالعبد الذي يكون مع الله يفوض أمره إلى الله ، فالله حسبنا أي كافيناً ، ثم إذا استكفيت بالله أثنى على الله بما هو أهله فهو نعم الوكيل ، فإذا تولى الله أمر عبده وفوض الأمر إليه-سبحانه- ، فالله نعم الوكيل الذي يقوم على أمور خلقه وشؤونهم-- سبحانه وتعالى -- { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }-- سبحانه وتعالى -- .
قال المصنف-رحمه الله- : [ وأودعته أحاديث صحيحة تبركاً بها ] : [ وأودعته ] : أي وأودعت هذا الكتاب وهذا المتن ، أحاديث صحيحة عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، وهي الحجة بعد كتاب الله-- عز وجل - - ، الأحاديث : جمع حديث وأصل الحديث في لغة العرب الجديد .(1/56)
وأما في الاصطلاح : فما أضيف إلى النبي-- صلى الله عليه وسلم -- من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ أو وصف خِلْقي أو خُلُقي ، فلا ينسب الشيء لكونه حديثاً عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- إلا إذا كان من قوله ، أو كان من فعله ، أو كان من تقريره-عليه الصلاة والسلام- ، أو كان مشتملاً على أوصافه-عليه الصلاة والسلام- الخُلقية والخلقية ، فهذا كله من سنته-عليه الصلاة والسلام- ومن أحاديثه ، وأحاديث النبي-- صلى الله عليه وسلم -- هي مشكات النبوة التي أوتيها-عليه الصلاة والسلام- وهي النور { قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } ، قيل النور هو السُّنة ، وهي الحكمة { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } ، فهي سنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، التي أخبر-عليه الصلاة والسلام- أنها مثل القرآن ، فقال : (( ولقد أوتيت القرآن ومثله معه )) .(1/57)
[ أودعته ] : أي جعلت فيه أحاديث صحيحة تبركاً بها البركة : الزيادة ، ولا يمكن أن يكون الشيء مباركاً إلا إذا وضع الله فيه البركة ، فالله هو الذي يبارك في الشيء ، وأعظم الأشياء بركة كتاب الله-- عز وجل - - ، كما قال-تعالى- : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } ، فالقرآن فيه البركة العظيمة ، لما فيه من سعادة العباد في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، والسُّنة مثل القرآن ففيها بركة وفيها البركة العظيمة ، ولذلك لن تجد عبداً يتمسك بكتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، إلا أصاب سعادة الدنيا والآخرة من عظيم البركة التي جعلها الله-- عز وجل -- فيهما ، ولذلك تجد علوم الكتاب والسُّنة مباركة ، ولن تجد أحد يقرأ كتاب الله فيحل حلاله ويحرم حرامه إلا بورك له في قرأته ، وما تعلم أحداً علماً من كتاب الله إلا بورك له فيه ، فإذا وجدته يأخذ الأخلاق من كتاب الله وجدته قمة في الأخلاق ، وإذا وجدت يأخذ المعاملة من سنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- وجدته قمة في المعاملة مع الناس، ففيها البركة السُّنة فيها بركة عظيمة .
وقوله : [ تبركاً بها ] : أي أسأل الله-- عز وجل - - أن يجعل البركة في هذا الكتاب ، بوضع هذه السُّنة فيه ، فلا شك أنه سيبارك بذلك ، لنص الكتاب على وجود البركة في الوحي ، وأن الله-- سبحانه وتعالى -- مباركاً فيهما .
[ واعتماداً عليها[ : أحاديث صحيحة ، الصحيح ضد السقيم ، ويقال أن للأضداد يقال للعليل أنه صحيح إذا كان مريضا تفاؤلاً بالسلامة ، كما يقال للديغ سليم ، والحديث الصحيح : هو الحديث الذي اتصل سنده برواية العدل الضابط عن مثله ، إلى منتهاه وهو رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- دون شذوذ وعلة أو علة
منه صحيح وهو ما اتصل *******اسناده ولم يشذ أو يعل
يرويه عدل ضابط عن مثله ***** معتمدا في ضبطه ونقله(1/58)
والأحاديث الصحيحة هي على أقسام أعلاها ما في الصحيحين ، ثم ما في البخاري ، ثم ما في مسلم ، ثم ما كان على شرط الشيخين ، ثم ما كان على شرط البخاري ، ثم ما كان على شرط مسلم ، وأشار إلى ذلك صاحب الطلعة بقوله :
على الصحيح ما عليه اتفقا ******فما روى الجعفي فرداً ينتقى
فمسلم كذاك بالشرط عرف *******فما لشرط غير ذين يكتنف
ويقبل الحُكم بصحة الحديث وحسنة وضعفه إذا كان من أئمة الحديث الذين هم أهل للتصحيح والتضعيف ، وهذا هو الذي درج عليه أئمة الإسلام ، فإذا وجدت الحديث صححه إمامٌ كالإمام الترمذي ، أو الإمام الحاكم-رحمة الله عليهم- ، فهؤلاء أئمة قبل دواوين العلم تصحيحهم وتضعيفهم
واقبل لاطلاق بصحة السند ******* أو حسنه أن كان ممن يعتمد
فيقبل الحكم بصحة الحديث وضعفه من هؤلاء العلماء والأئمة مالم يطلع المطلع على علة في هذا التصحيح ، أما أن يشطب على تصحيح الأوائل ويقال : لا تأخذ إلا تصحيحي ، فهذه جرأة ومخالفة لمنهج السلف ، ولذلك انظروا إلى العلماء والأئمة شيخ الإسلام-رحمه الله- يقول : هذا الحديث صححه أئمة الشأن كالإمام الترمذي ، واليوم تجد طالب العلم إذا قيل له صححه الترمذي أو ضعفه لا يرفع له رأساً ، وهذه والله مصيبة ينبغي أن نعرف ، الإمام الترمذي يقول له الإمام البخاري : ما استفتده منك أكثر مما استفدته مني ، ومع ذلك الآن لو تقول لأحد صححه الترمذي أو ضعفه الترمذي لا يرفع بذلك رأساً ، نعم أن أخطأ عالم في تصحيح حديث فليس معنى ذلك أنه ذهبت حرمته ، أو ذهبت مكانته ، أو ذهب حقه ، فتصحيح الأحاديث وتضعيفها إذا كان من أئمة هم أئمة الشأن فإنه يقبل منهم التصحيح ، والحاكم-رحمه الله- تساهل في تصحيحه في الثلث الأخير من كتابه التاريخ ، معروف طبعاً وقيل عذره أنه لم ينقح هذا الثلث الأخير ، ولذلك قالوا : إذا انفرد بروايته في الثلث الأخير أنه من الضعيف وقال :(1/59)
وما نومي لعد وعق وخط وكر ******** ومسند الفردوس ضعفه شهر
كذا نوادر الأصول وزدِ ******* التاريخ للحاكم ولتجتهدِ
فهؤلاء الأئمة-رحمهم الله- الإمام الحافظ الحاكم-رحمه الله- الذي الآن وجدت أحد المبتدئين في الهداية يقول : أن الحاكم يتساهل في التصحيح ، وهذه كلمة ما قالها إلا بعض المتأخرين والأئمة ، تجد الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في بلوغ ولا يعرف الفضل إلا أهله ، هذا الإمام اليوم الذي لا نصحح اليوم ولا نضعف إلا من كتبه ، ومع ذلك ماذا يقول في البلوغ وصححه الحاكم ، وصححه الترمذي ، وحسنه الترمذي ، ما بالنا نترك مناهج العلماء والأئمة ، وقولهم حجة حال ، وليس بحجة بحال ، ينبغي أن تكون الموازين صحيحة ، نعم من أخطأ يرد خطاؤه ، لكن ما تأتي تقول الحاكم لا يقبل منه تصحيح ، ما أحد قال قبلك هذه الكلمة ، وإنما هي منقصة لعالم ، الحاكم-رحمه الله- حافظ ، حفظ أكثر من مائة ألف حديث ، وهذا بشهادة أئمة وعلماء ، اذهب الآن إلى أفحل فحول من يتكلم في الحديث وألتمس منه حديث في صحيح البخاري يعطك بسنده مستقيماً ، هذا يحفظ مائة ألف حديث إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- بأسانيدها ، فمثل هؤلاء تصحيح الأحاديث وتضعيفها إذا كان عن الأئمة أئمة الشأن فهو مقبول من المتقدمين والمتأخرين ، ولكن لا يتعصب ويقلد الإنسان شخصاً بعينه لا يقبل تصحيح الأحاديث وتضعيفها إلا منه ، عليه أن يعرف فضل العلماء والأئمة ، وعلينا دائماً أن نتربى وأن نربي طلاب العلم على محبة هؤلاء الأئمة ، والنصح لأمة محمد-- صلى الله عليه وسلم -- ولعلماء الأمة ، ونقول : إن أخطأ بينا خطأه فيما أخطأ فيه ، أما أن يقال لا يقبل إلا تصحيح فلان وعلان فلا وألف لا ، لأنه أبى الله إلا أن يتم كتابه ، فإن قلت لا يقبل تصحيح إلا من فلان فقد اعتقدت عصمته ، وحينئذٍ نخرج من نقد الغير ونقع فيما هو أشد من ذلك ، فعلى هذا نقول لابد من احترام أئمة السلف ، ودواوين العلم(1/60)
وقبول التصحيح والتضعيف ، لا نقول قبول التصحيح والتضعيف من كل من هب ودب ، هؤلاء علماء وأئمة وشهد لهم أئمة الشأن أنهم الأئمة ، فلنعد إلى ما كان عليه العلماء من توقيرهم وإجلالهم وهذا الذي نلقى الله-- عز وجل - - وندين الله به ونحى عليه ونموت إن شاء الله تعالى ، لا نبدل ولا نغير ، لأن احترام الأئمة وتوقير أهل العلم أمانة في أعناقنا ، فلابد أن يعلم طالب العلم أن التصحيح والتضعيف يقبل من أئمة الشأن ، مالم تظهر العلة ، أو يظهر الخلل ، فحينئذٍ يبين هذا الخلل ويقال أن هذا التصحيح مستدرك ، أو هذا التضعيف مستدرك عليه.
فبين-رحمه الله- أنه أودعه أحاديث صحيحة ، تؤخذ الأحاديث من الكتب المتخصصة كصحيح البخاري وصحيح مسلم ، وهما من أصح الكتب بعد كتاب الله-- عز وجل - - ، والخمسة أيضاً السنن أصحاب السنن مسند الإمام أحمد ، أيضاً هذه فيها الكثير من الأحاديث الصحيحة ، حتى قيل أن الصحيحين والكتب الخمسة والأمهات الخمسة ما فاتها من الصحيح إلا القليل
لم يفت الخمسة إلا ما ندر ********** من الصحيح عند متقن الخبر
فأودع المصنف-رحمه الله- كتابه الأحاديث الصحيحة على سبيل الاستشهاد والدلالة ، وفي هذا رد على من يقول أن المتون الفقهية ما في فيها أدلة ، أن المتون الفقهية ما فيها أدلة هذه المتون الفقهية كتب متخصصة في الفقه ، يقصد منها صياغة الأحكام المستنبطة من الأدلة ، وأما الأدلة فقد درج العلماء على وضع كتب متخصصة لها ، فإن كانت من الكتاب وضعوا لها كتباً تسمى أحكام القرآن ، متخصصة في بيان الأدلة من الكتاب ، وأما من السُّنة فمعروف كتب العلماء في شروح السُّنة التي بينوا فيها الأدلة والحجج ، وبناءً على ذلك بين-رحمه الله- أنه لا يقتصر على ذكر الفقه ، وإنما يذكر فيها أحياناً الأحاديث الصحيحة كما بين-رحمه الله- في منهجه .(1/61)
قال المصنف : [ وأودعته أحاديث صحيحة تبركاً بها واعتماداً عليها وجعلتها من الصحاح لأستغني عن نسبتها إليها ] [ تبركاً بها واعتماداً عليها ] : لأن المفتي والقاضي والمعلم يعتمد الدليل ، فإذا قال حكماً أو بين مسألة وذكر دليلها فإنه يكون الدليل عمدة ، وهذا هو الأصل ، أنه لماذا سموا العلماء الدليل دليلاً ؟ سمي الدليل دليلاً لأن يدل على صحة نسبة الحكم والمسألة إلى الشرع ، سمي الدليل دليلاً لأنه يدل على صحة نسبة الحكم إلى الشرع ، فلا يقبل من أحد أنيقول هذا حرام وهذا حلال مالم يكن عنده دليل وحجة ، والصحاح ما تقدمذكرناه الصحاح الستة والأمهات .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ما الطرق التي يستطيع بها طالب العلم أن يضبط العلم ؟
الجواب :
بسم الله ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أمابعد :
ما أسهل السؤال وما أصعب الجواب ، يعني السؤال سهل أن تسأل ما هي الطرق التي يضبط بها طالب العلم ، لو نجلس إلى الفجر ، لو نجلس عشرات الدروس ما نستطيع أن نلم بهذه الطرق ، ولذلك أشفق في السؤال يعني يشفق السائل ولا يبالغ في سؤاله بكل اختصار .
أولاً : ما ذكرناه أن يكون بينك وبين الله ما يرضى الله عنك ، الطرق التي تقفي بك إلى العلم الصحيح النافع أن تبدأ بإصلاح ما بينك وبين الله .
ثانياً : عالم أخذ العلم عن أهله واتصل سنده إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، حتى تأخذ العلم موروثاً .(1/62)
ثالثاً : أن تضبط ما تقرأه على ذلك العالم ، تضبط ضبطاً تاماً ، تقرأ قبل أن تحضر المتن مرتين ثلاثة أربعة ، حينما يجري هذا العلم في دمك وعرقك ، حينما يجري مع روحك ويصبح معك ، تعرف حلال الله وحرامه ، وتتفاعل مع هذه الأحكام كل حكم عزيز عندك ، عندها تستطيع أن تبني علماً صحيحاً ، وتعرف قيمة هذا العلم ، وتعتز به وتتمسك به لأنه من الوحي من كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، فإذا بدأت تضبط وتقرأ قبل أن تجلس وتتعب المرتين الثلاثة الأربع لا تسأم ولا تمل ، فمن كانت له بداية محُرقة كانت له نهاية مشرقة ، فتتعب في طلب العلم ، ولذلك ما عَلّم الله أحداً إلا بعد أن ابتلاه واختبره-- سبحانه وتعالى -- ، رسول الأمة-عليه الصلاة والسلام- ما أوحى إليه حتى أخذه جبريل وغطه ورأى الموت ، وقال له : اقراء ، قال : ما أنا بقارئ ، فأخذه حتى رأى الموت ثلاث مرات ثم أوحى إليه ، وكان إذا نزل الوحي على رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- يتفصد عرقاً في شدة البرد والشتاء ، ونزل الوحي وهو على بعير فبرك البعير وكاد أن يموت البعير من شدة ما يجد-عليه الصلاة والسلام- ، وهذا بعير وهو تحت النبي-- صلى الله عليه وسلم -- فما بالك برسول الأمة-- صلى الله عليه وسلم -- ، وكان إذا نزل عليه الوحي كما في الصحيحين من حديث صفوان بن يعلى بن أمية-- رضي الله عنه - وعن أبيه- ، أنه يغط كغطيط البكر من شدة ما يجد ، فإذا كان تمضي إلى حلق العلم وقد تعبت وسهرت وأضنيت جهدك وأنت تقرأ وتضبط ، غداً تخرج إلى الناس بنور وعلم مضبوط وأصل صحيح ، وتخرج للناس ويخرجك ربك ، لأن الله اطلع على ما كان منك تعب ، { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } أي والله لنهدينهم سبلنا ، متى إذا جاهدوا ، والجهاد التعب والاجتهاد وبذل غاية الوسع والطاقة في تحصيل الأمر ، فالعلم لا يأتي بالتشهي ولا(1/63)
بالتمني ، ولا يأتي بالدعاوى العريضة الشخص يحس أنه كأنه شيخ الإسلام ومفتي الأنام ، مغرور بنفسه ، لا من يأتي بجد واجتهاد وتعب ، قال ابن عباس-رضي الله عنهما- : ذللت طالباً وعززت مطلوباً ، فإذا أكثرت من قراءة العلم وأصبح العلم في ليلك ونهارك وصبحك ومساءك ، وأصبحت مسائل العلم هي أشجانك ، وهي أفكارك ، وهي أحاسيسك ووجدانك ، عندها تجد بركة هذا العلم ، وتخرج للأمة بعلم صحيح .
ثانياً : بعد أن تصلح ما بينك وبين الله وتضبط العلم بالقراءة ، تأتي إلى مجالس العلم معظماً للعلم معظماً للعلماء ، من جلس في مجالس العلم يعرف قيمة ماذا يُقال ، يقدر كل كلمة ، ويبحث عن كل شاردة ، ويفرح بكل حكمة ، عندها يكون العلم عزيزاً في قلبه ، وإذا جلس شارد الذهن يريد أن يقضي الوقت ، يريد أن يذهب عنه الوقت ، فعندها لا يبالي الله بمن لا يبالي بدينه وشرعه ، لابد أن يكون طالب العلم في مجلس العلم يحرص على كل كلمة صغيرة وكبيرة ، يبحث عن الحكمة ، كان الإمام أبو عبيدة القاسم بن سلام الجحمي-رحمه الله- آية من آيات الله في العلم والعمل ، أن نظرت إليه في التفسير فهو حجه في تفسير كتاب الله-- عز وجل - - ، ويستشهد بتفسيره ويعتمد قوله حتى كان رأساً في علم الفقه ، فقيها محدثاً في علم الحديث والرواية عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، وفي علم القراءات وفي علم اللغة والشواهد ، كان آية من آيات الله-رحمة الله عليه- ، هذا العالم الجليل يذكر عن نفسه أنه كان يجد ويتعب وينصب في نهاره حتى يمسي عليه الليل ، وهو أشد ما يكون تعباً وإعياً ، حتى إذا وجد العالم ، فذكر له الحكمة الواحدة ، والفائدة الواحدة ، يقول : فأبِيت بها مسروراً قد سلا عني ما أجد ، يعني جميع التعب والنصب يذهب بهذه الحكمة لأنه يحفظ لأمة محمداً-- صلى الله عليه وسلم -- دينها ، فالذي يستشعر أنه يتعامل مع هذا العلم لكي ينفع أمة محمد-- صلى الله عليه وسلم -- ، ولكي يبلغ(1/64)
الرسالة ، ويؤدي الأمانة ، ويكون منه الخير ، يجد ويجتهد .
كذلك - أيضاً - إذا جلس في مجالس العلم يرتب وضعه ، طالب العلم المبتدئ له طريقة ، وطالب العلم المتوسط وطالب العلم المتمكن كلً منهم له منهج معين وطريقة معينة ، طالب العلم المبتدئ يأخذ القول الراجح ودليله ، ولا يدخل في التفصيلات ولا الخلافات ، ويفهم العبارات بالشرح المختصر، طالب العلم المتوسط يتوسع ، ويعتني بالقول المخالف ، دليله الجواب عن الدليل ، طالب العلم المتمكن يمحص في هذا كله ، ويراجع كل هذا ، وإذا أشكل عليه شيء يعرضه ويكتب الأسئلة المفيدة ، إذا حضر طالب العلم حرص على أنه يسمع أكثر من أنه يتكلم ، لأن الله-- عز وجل - - يبارك لطالب العلم متى ما أنصت للعلم ، ومفتاح العلم الإنصات له ، ولذلك قال بعض الحكماء يوصي ابنه : يا بني إذا جلست في مجالس العلماء ، فلتكن حريصا على السكوت منك على الكلام ، فيحرص طالب العلم على أن يكون منصتاً مستفيداً .(1/65)
كذلك - أيضاً - بعد الانتهاء من الجلوس في مجالس العلم ، يراجع العلم الذي يقرأه ، يختار طالب علم أو طالبين أو ثلاثة بالأكثر يذاكر معهم الدرس الذي يأخذه ، فهذا كله خيرً له وبركة ، ثم بعد ذلك يستشعر من قرارة قلبه ، أن كل آية ، وكل حديث ، وكل حكم سمعه وعلمه ، أنه مسؤول أمام الله عن العمل به وتبليغه للأمة ، أن يعلم أنه مسؤول أمام الله ، وأن يعلم أن جلوسه في مجالس العلم ليس لعبث ولا لإضاعة الأوقات ، تتعلم وتسأل الله أن يبارك لك فتعمل ، وتسأل الله أن يبارك فتعلم غيرك ، ولا تقل من أنا هناك علماء أصبحوا أئمة وعلماء بعد سنة الخمسين ، بعد أن بلغوا خمسين سنة طلبوا العلم ففتح الله-- عز وجل - - عليهم وأصبحوا من الأئمة والعلماء العاملين ، والنبوة تأتي النبي نبوته بعد الأربعين ، ولا يبعث إلا بعد الأربعين ، وهذه سن متأخرة ، ولا يقل الإنسان من أنا فلا أبي ولا أخي لا والله ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } ، العلم ليس حكراً على قوم ، لا على لون ، ولا على جنس ، ولا على مال ، ولا على قبيلة ، ولا على جماعة ، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء ، فتحرص على ضبط هذا العلم وتعلم أنك مسؤول عنه وعن تبليغه للأمة - نسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم ، موجباً لرضوانه العظيم-.
السؤال الثاني :
ما توجيهكم-حفظكم الله تعالى- للوالدين اللذين يتدخلان في حياة ابنتهما الزوجية ويشترطون على الزوج فعل أمور تصعب عليه جداً وإذا لم يفعل ما يطالبونه يحذرونه بأنهم سيأخذون ابنتهم ؟
الجواب :(1/66)
أولاً وقبل كل شيء كل إنسان تتهمه أنه في نصيحتي ربما يكون إلا العالم والوالدان ، الوالد والوالدة غالباً لا يردون للولد إلا كل خير ، وأوصي البنات أن يتقوا الله-- عز وجل - - في الوالدين ، وهذه النظرة التي أثر فيها أعداء الإسلام في المسلمين ، وبعض الكتاب وبعض القصص من الغزو الفكري ، أحدثت عند الأبناء نفرة والبنات نفرة من الوالدين ، وشوهت صورة الوالدين ، يتدخلون إذا لم يتدخل الوالدان فمن الذي يتدخل ؟
وإذا لم يعطف عليك والداك فمن الذي يعطف عليك ؟ ففسر الأمر بحسن ظن ، وخذه بروية وتعقل حتى تستطيع كيف تعالج الأمور ، فالوالدان فيهما شفقة وفيهما حنان ، والأم ربما إذا خرجت بنتها من بيتها غلبتها الغيرة حتى لا تستطيع أن تتمالك تصرفها ، وهذا من محبتها لأبنتها ، فإذا أصبحت البنت تسيء الظن بها ، وأنها تريد الأضرار بها ، ساءت الأمور ، لكن إذا فسرت هذا بالمحبة والعاطفة ، وجاءت وقالت : يا أماه أنتِ تريدي لي الخير وأنتِ وكلمتها بالتي هي أحسن ودخلت إلى قلب أمها وفتحت مغاليق ذلك القلب ، استطاعت أن تبين لها أنها مرتاحة ، وأنها راضية ، وإذا بالأم بعد حين تقول لها ما دمتي مرتاحة فأنا مرتاحة ، وينتهي كل شيء ، لكن هذا يتدخل في أمري ، وهذا يدمر مستقبلي ، وأبي يتدخل في شؤوني ، تفسر الأمر بالعاطفة ، ونقول للوالدين أيضاً اتقوا الله في الأولاد ، ولا تتدخلوا في شؤونهم إلا بقدر الحاجة ، فيما يحتاج إليه لصلاح دينٍ أو دنيا ، وإذا قبل الوالدان فالحمد لله وإذا لم يقبلا مالم يكن فيه ضرر عليهما هذا شيء آخر ، فعلى كل حال الوالدان يحسن الظن بهما ، وعلى الوالدين أيضاً أن يتقا الله-- عز وجل - - في الأولاد ، ولا يكونا سبباً في حصول الفراق بين الزوج وزوجته ، وأن لا يؤذوا الزوج، ويقولون له إذا لم تلبي هذه الأغراض نأخذ البنت منك ، أو نضرك في بنتنا ، أو الأم تمنع بنتها من زيارتها ، أو الأب يمنع ابنه من زيارته ، هذا كله من(1/67)
الظلم ، وعلى الأب أن يتقى الله وأن يحمد الله على العافية وأن الله رزقه ابناً سكن في بيته ، فيحمد الله على العافية ويترك هذه الفتن وهذه الخلافات فإنها شر وبيل، ولربما أساء الوالد إلى ولده حتى جعل الله إساءته لولده سبباً في شرٍ عليه في دينه ، فعلى الوالد أن يحذر عقوبة الله ، فإن ظلم الأبناء وظلم البنات عواقبه وخيمة ، لأن ظلم القريب أعظم ذنباً من ظلم الغريب ، فأوصى الجميع بتقوى .
- ونسأل الله العظيم أن يرزقنا الإخلاص في القول العمل - .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
قال المصنف-رحمه الله- : [ كتاب الطهارة ] :
الشرح :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فيقول المصنف-رحمه الله- : [ كتاب الطهارة ] : الكتاب في لغة العرب : مصدر مأخوذ من قولهم ، كتب الشيء يكتبه كتباً وكتابة ، وأصل الكتب في لغة العرب الجمع والضم ، ولذلك تقول العرب : تكتب القوم إذا اجتمعوا ، ومنه الكتيبة لاجتماع فرسانها وانضمام بعضهم إلى بعض ، وسميت كتب العلم بهذا الاسم ، لأنها تُضم فيها المسائل ، وتُضم فيها الأحكام ، وتُضم فيها النظائر بعضها إلى بعض ، فإن كانت المسائل والأحكام يجمعها عنوان واحد كالطهارة ، قالوا : كتاب الطهارة ، وإن كانت مسائل صلاة أو زكاة ، قالوا : كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة ، والأصل أن العلماء-رحمهم الله- لا يعبرون بالكتاب ، إلا ما يقبل التقسيم من المادة المتسعة المنتشرة ، فيقولون : كتاب الصلاة ، لاشتماله على أبواب عديدة ، ثم يقسمون الكتاب إلى أبواب ، والأبواب إلى فصول ، والفصول إلى مباحث ، والمباحث إلى مطالب ، والمطالب إلى مقاصد ، والمقاصد إلى فروع ، والفروع إلى تتمات ومسائل وفوائد .(1/68)
الطهارة : مصدر مأخوذ من قولهم ، طهر الشيء يطهر طهارة وطهراً ، وأصلها النقاء والنظافة من الدنس الحسي والمعنوي .
وأما في الاصطلاح فالعلماء-رحمهم الله- والفقهاء ، إذا قالوا الطهارة فهي صفة حُكمية ، توجب لموصوفها استباحة الصلاة ، والطواف بالبيت ونحوه مما تشترط له الطهارة ، إذاً الطهارة صفة حُكمية ، الصفات أما أن تكون محسوسة ، وأما أن تكون معنوية ، فإذا كانت معنوية قالوا : صفة حُكمية ، فمثلاً الطول والقصر شيء تراه وتحسه ، تقول فلان طويل فلان قصير ، ولكن حينما تقول فلان شاعر فلان عالم ، هذه أمور ترجع إلى المعاني ، كذلك إذا قلت فلان متطهر ، لا تستطيع أن تنظر في الناس فتعرف من على طهارة ومن على جنابة ، لأن هذا أمر معنوي ، فقالوا : صفة حُكمية ، وبعضهم يقول : صفة معنوية ، توجب : يعني تثبت ، لموصوفها لمن يحكم له بهذه الصفة ، استباحة الصلاة لأن المسلم لا يجوز له أن يصلي إلا إذا كان متطهراً ، قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( إنما أمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة )) ، فالصلاة لا تستباح إلا بالطهارة : الطهارة الصغرى والكبرى من الحدث والخبث كما سيأتي ، فهذه الصفة من شأنها أنها تثبت لمن اتصف بها ، أن يصلي ويستبيح الطواف بالبيت ولمس المصحف ونحوه مما تشترط له الطهارة .
كتاب الطهارة : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالطهارة .
هنا سؤال يتعلق بجانبين :
الجانب الأول : الذي هو في علم المناسبات .
والجانب الثاني : في منهج المصنف في هذا الكتاب ، أما علم المناسبات .
فالسؤال يرد لماذا ابتدأ المصنف كتابه في الفقه بالطهارة ؟
الفقه ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : يتعلق بالعبادات .(1/69)
والقسم الثاني : يتعلق بالمعاملات ، الذي يتعلق بالعبادات كالصلاة والزكاة والصوم والحج ، ونحوه مما يلحق ذلك من الجهاد والأيمان ونحوها من الأبواب ، أما الذي يتعلق بالمعاملات ، فمثل البيع بأنواعه ، البيع ، الإجارة ، الشركات الرهن ، والمعاملات المالية ، ومثلها المعاملات الشخصية ، كالنكاح وما يرفعه من طلاق وخُلع ، وما يؤثر فيه من ظهار ولعان ونحو ذلك من الأبواب المستتبعة لكتاب النكاح ، أو معاملات جنائية ، كالقصاص في الأنفس والأطرف ، وضمان الجنايات ، مثل الديات والحدود ، كالسرقة كحد السرقة والخمر ونحو ذلك ، هذا كله يوصف بكونه فقهاً ، عبادة ومعاملة .
فالعلماء-رحمهم الله- إذا أرادوا أن يبينوا الفقه ، فلابد من أن يتكلموا عنه عبادة ومعاملة ، فهل تُقدم العبادة أو المعاملة ، أجمعوا على تقديم العبادات ، لأنها هي الأصل { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ، فهم لا يتكلمون عن أحكام البيع ، ولا أحكام النكاح ، ولا أحكام الجنايات ، وإنما يبتدئون بأحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج ، وهم متفقون على هذا ، لأن الأصل أن المكلف خلق لعبادة الله ، فالعبادة مقدمة على المعاملة ، المعاملة لمصلحة الإنسان ، ولذلك قُدم ما لله-- عز وجل -- على غيره .
طيب إذا كانت العبادة مقدمة فالعبادة أقسام ، لماذا لم يبدأوا بكتاب الصوم ؟ لماذا لم يبدأوا بكتاب الحج ؟ ولماذا لم يبدأوا بكتاب الزكاة ؟ ولماذا لم يبدأوا بكتاب الجهاد مثلاً ؟(1/70)
والجواب : أن الشرع راعى في العبادات وفي أركان الإسلام تقديم الصلاة على غيرها ، ولذلك قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأقام الصلاة )) ، كما في حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- في الصحيحين ، وقال لمعاذ-- رضي الله عنه -- حينما بعثه إلى اليمن : (( فليكن أو ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فأن هم أطاعوك لذلك ، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة )) ، فابتدأ بالصلاة قبل الزكاة ، ومن هنا أخذ العلماء -رحمهم الله- منهجاً في كتب الحديث وكتب الفقه ، بتقديم الكلام عن الصلاة عن بقية أركان الإسلام بعد الشهادتين .
طيب المصنف ما قال كتاب الصلاة ، ولا ابتدأ بالصلاة ، وإنما ابتدأ بالطهارة ؟
والجواب : أن الصلاة لا يمكن أن تستباح إلا بطهارة ، فمعنى ذلك أن الطهارة وسيلة إلى الصلاة ، وإذا كانت الطهارة وسيلة إلى الصلاة ، فالكلام على الوسائل مقدم على الكلام على المقاصد، القاعدة : " أن الكلام على الوسائل مقدم على الكلام عن المقاصد " ، وبطبيعة الحال أن المسلم إذا أراد أن يصلي أول ما يكون منه أن يتطهر ، ولذلك قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء )) ، فجعل الطهارة مقدمة على فعل الصلاة ، والله يقول في كتابه : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ، وقوله : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ } أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة ، ومن هنا جعل العلماء كتاب الطهارة وسيلة إلى كتاب الصلاة .(1/71)
طيب هذه الجزئية الأولى خرجنا منها بنتيجة ، وهي أن الفقه عبادة ومعاملة ، وأن الكلام على العبادات مقدم على الكلام عن المعاملات ، وأن العبادات تقدم الصلاة فيها على بقية العبادات اتباعاً للسُّنة ، وأن الصلاة تفتقر إلى وسيلة وهي الطهارة ، فقدم المصنف-رحمه الله- الكلام على كتاب الطهارة على الكلام على كتاب الصلاة .
إذا نخرج بنتيجة وهي صحة هذا الترتيب وسلامة هذا الترتيب من الخلل ، لأنه متفق مع أصول الشرع .
لكن يرد السؤال : المصنف لما جاء في كتاب الطهارة ذكر عشرة أبواب ، استفتحها بباب أحكام المياه ، ثم أتبعه بباب الآنية ، ثم أتبعه بباب قضاء الحاجة ، ثم بباب الوضوء ، ثم بباب المسح على الخفين ، ثم بباب نواقض الوضوء ، ثم بباب الغسل ، ثم بباب التيمم ، ثم بباب الحيض ، ثم باب النفاس ، هذه عشرة أبواب متعلقة بالطهارة ، أي كتاب في الفقه تريد أن تقرأه ، أو أي كتاب عموماً قسمه المؤلف إلى أقسام ، ينبغي أن تدرس هذا التقسيم قبل أن تدخل في التفصيل ، وذلك عن طريق سؤالين :
السؤال الأول : هل جمع المادة المتعلقة بالكتاب واستوفاها أم لا ؟
السؤال الثاني : إذا كان قد جمعها واستوعبها هل راعى ترتيبها ترتيباً منطقياً أو لا ؟
جانبان :
الجانب الأول : يتعلق باستيعاب المادة .
والجانب الثاني : يتعلق بترتيب المادة ، فإذا استوعب المادة ورتبها ترتيباً منطقياً فهذا هو عين الفقه ، يعني فعلاً أنه قد وضع كل شيء في موضعه .(1/72)
من ناحية استيعاب المادة ، كل كتاب ، كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة ، كتاب الصوم ، كتاب الطهارة ، له أسس وقواعد تجمع أصول هذا الباب ، إذا أردت أن تحكم على مادته أنها مستوعبة أو غير مستوعبة من خلال هذه الأسس ، فالطهارة منطقياً تستلزم ، متطهر ، وشيء يتطهر به ، وصفة تتم بها الطهارة ، إذا وُجدت هذه الثلاثة الأشياء وقعت الطهارة ، شخص يتطهر، وشيء يتطهر به ، وصفة تتم بها الطهارة فعل للطهارة ، وُجد الشخص الذي يتطهر ، ووُجد الماء الذي يتطهر به أو التراب الذي يتطهر به ، ولكن ما حصل الفعل ، ما تتم الطهارة ولا يمكن أن تقع ، يأذن إذا وجد الشخص ووجد الشيء الذي يتطهر به الماء أو التراب ، وإزالة الخبث من الحجر يستجمر به ، وفعل للطهارة من حدث أو خبث ، تم الأمر وصدق أن الطهارة قد وقعت وحدثت .
من ناحية الشخص الذي يتطهر ، العلماء-رحمهم الله- أخروا الكلام عنه إلى بداية كتاب الصلاة ، فقالوا : تجب الصلاة على كل مسلم بالغ عاقل إلى آخره ، هذا الشخص الذي يتطهر ، ما يتكلمون عنه في كتاب الطهارة ، ولذلك يتطهر الصغير ويتطهر الكبير ، أما الذي يهم في كتاب الطهارة في مادة الطهارة جانبان ، يتعلق بهما حديث العلماء عن أحكام الطهارة أبواباً ومسائل .
أولهما : ما يتطهر به ، الشيء الذي يتطهر به .
وثانيهما : صفة الطهارة ، ونواقض هذه الصفة ، وما يؤثر فيها ، لأن الشيء سلباً وإيجاباً ، لأنك إذا تكلمت على وجود الطهارة ، دون أن تتكلم عن نواقضها ما تم الكلام ، لابد أن تتكلم عن الشيء سلباً وإيجاباً حتى تستطيع أن تثبت الشيء وتنفي ما عداه .(1/73)
الشيء الذي يتطهر به ، إما أن يكون ماء الذي هو الأصل ، أو ما يقوم مقامه وهو التراب ، أفرد البابين الأولين ، باب أحكام المياه وباب الآنية ، هذان بابان متعلقان بما يتطهر به وهو الماء ، الشيء الذي يتطهر به في الشرع الأصل فيه الماء ، ولذلك وصفه الله بأنه مطهر حتى النبي-- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الذنوب والخطايا )) ، وقال في دعاء الاستفتاح في حديث أبي هريرة في الصحيح : (( واغسلني بماء وثلج وبرد )) ، فإذاً الماء هو الأصل ، فيقولون باب أحكام المياه ، ثم هذا الماء لا يمكن أن تبين أحكامه الفقهية من حيث سلامة وعدم ، حتى تبين حكم الوعاء الذي وضع فيه ، وهذا مما تعم به البلوى ويحتاج إلى معرفة أحكامه ، لأنه قد يؤثر في الماء أو قد لا يؤثر ، وهناك أواني أجاز الشرع أن تتوضأ بها وأواني حرم عليك الشرع أن تتوضأ بها ، فإذاً عندهم بابان باب أحكام المياه وباب الآنية .
ثانياً : الطهارة طهارة حدث وطهارة خبث ، وطهارة الخبث هي أن يزيل الإنسان النجاسة إذا بال أو تغوط ، وطهارة الحدث أن يتوضأ أو يغتسل ، أو يفعل البدل وهو التيمم .
يرد السؤال : هل الأول طهارة حدث أو الخبث ؟(1/74)
والجواب : أن طهارة الخبث مقدمة على طهارة الحدث ، ولذلك قال : (( اغسلي عنك الدم ثم اغتسلي وصلي )) ، اغسلي عنك الدم فأمر بطهارة الخبث ، ثم بعدها طهارة الحدث الغسل ثم بعدها استباحة الصلاة ، ولذا قال-تعالى- : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } ، فجعل طهارة الحدث بعد طهارة الخبث ، فجاء المصنف فقال : [ باب آداب قضاء الحاجة ] ، وبعضهم يقول : باب إزالة النجاسة ، باب إزالة النجاسة الحقيقة أعم وأدق وأشمل من باب قضاء الحاجة ، أو باب آداب قضاء الحاجة أو باب الخلاء ، ثم جاء بعد ذلك وقال : [ باب الوضوء ] ، وهذه طهارة حدث ، ثم الوضوء يتبعه فرع من فروعه [ باب المسح على الخفين ] لأنه متعلق بركن من أركان الوضوء وهو غسل الرجلين ، ثم هذا الوضوء قد يؤثر فيه ناقضه ، فقال : [ باب نواقض الوضوء ] ، والنواقض تأتي بعد الإثبات لأنك ما تنقض الشيء إلا بعد وجوده ، ثم بعد الطهارة الصغرى الطهارة الكبرى باب الغسل ، وبعد ما فرغ من الوضوء وما يتبع الوضوء المسح والطهارة الكبرى وهي الغسل ، جاء بالبدل عنهما باب التيمم ، وحينئذٍ أدخل في التيمم ما يتطهر به من الطهارة البدلية عن الماء ، وهي طهارة التراب ، وشتت الطهارة البدلية في باب آداب قضاء الحاجة حينما ذكر التطهر ويجوز الطهارة بكل طاهر ، ويجوز الاستنجاء بكل طاهر ، شتتها وفرقها وصرنا ننبه عليها ، ثم بعد ما فرغ من الطهارة الصغرى والكبرى والبدل عنهما ، قال : [ باب الحيض ] ، [ باب النفاس ] ، هذا طبعاً باب الحيض باب النفاس السبب أن الحيض تتفرع مسائله وتتشعب ، كان المفروض أن يذكر الحيض بعد الغسل ، لأنه ناقض من نواقض الغسل ، ولكن لما احتاج أن يجعل البدل بعد الأصل ، جاء بباب التيمم لأنه بدل عن الوضوء وبدل عن الغسل ، فما استطاع أن يؤخر ، ولأن الحيض ينقض الطهارة ، والتيمم طهارة فقدم التيمم ثم أتبع باب الحيض(1/75)
باب النفاس .
هذه عشرة أبواب جمعت بين ما يتطهر به ، وهو الماء والبدل عنه ، وجمعت بين صفة الطهارة وما يؤثر في هذه الصفة ، وفي الصفة يذكر المصنف الصفة التامة والصفة المجزئة ، كما يبين في الوضوء في الغسل .
في الحقيقة عند النظر نجد أن الأبواب مستوعبة، ومادة الطهارة مستوعبة وترتيبها ترتيب منطقي ولا إشكال فيه .
يقول المصنف-رحمه الله- : [ كتاب الطهارة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالطهارة .(1/76)
قال المصنف-رحمه الله- : [ باب أحكام المياه ] : يقول المصنف-رحمه الله- : [ باب أحكام المياه ] الأحكام جمع حكم والحكم يكون عادياً ، ويكون لغوياً ، ويكون شرعياً ، ويكون منطقياً ، يقال : الحكم إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه ، والحكم الشرعي : هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين ، طبعاً يشمل الحكم الوضعي والحكم التكليفي ، والأحكام هنا المراد بها الأحكام التكليفية ، من جهة جواز استعمال الماء ، وعدم جواز استعمال الماء ، وكراهية استعمال الماء ، فنظراً لأن الماء منه ما أحل الله أن تتطهر به ويحصل به المقصود ، ومنه ما هو بخلاف ذلك ، ومنه ما هو مكروه ، جمع المصنف ذلك بقوله : [ باب أحكام ] ، ما قال باب حكم قال باب أحكام ، ثم قال : [ المياه ] ، المياه جمع ماء وجمعها المصنف لأنها تتعدد أنواعها بالطبيعة وبالشرع ، ففي الطبيعة هناك ماء المطر ، وماء النهر، وماء البئر ، وماء العين ، وماء السيل ، وماء البحر ، الماء العذب ، الماء المالح ، وهناك الماء الطهور والطاهر والنجس في حكم الشرع ، فنظراً لاختلافها طبيعةً ، واختلافها شرعاً من حيث الحكم شرعاً ، قال المصنف : [ المياه ] ، تنبيها ينبهك إلى أن هناك أنواع من حيث الطبيعة ومن حيث حكم الشرع عليها ، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام التي تتعلق بالمياه ، وبناءاً على ذلك سيكون الحكم متعلقاً بأصل ما يتطهر به ، لأن الذي يتطهر به ينقسم إلى قسمين : أصل وبدل ، الطهارة الأصلية تكون بالماء ، كما ذكرنا ، والطهارة البدلية تكون بالتيمم ، فهنا الكلام عن الطهارة الأصلية وهي طهارة الماء .(1/77)
قال المصنف-رحمه الله- : [ خُلق الماء طهوراً ، يطهر من الأحداث والنجاسات ، فلا تحصل الطهارة بمائع غيره ] : يقول-رحمه الله- : [ خُلق الماء طهوراً ] ، قبل أن ندخل في تفصيلات العلماء نحب أن نقدم له مقدمة كل مسلم مطالب أن يعرف الماء الذي أحل الله له أن يتطهر به ، والماء الذي يمُنع من الطهارة به ، ولا يحصل به المقصود ، وهذا يستلزم أن تعرف أنواع المياه ، فهناك نصوص في الشريعة تدل على أن هناك مياه من تطهر بها على الصفة الشرعية حكم بكونه طاهراً ، وهناك مياه حكم بأنها لا تؤثر ولا ترفع حدثاً ولا تزيل خبثاً ، يعني لا يتحقق بها المقصود ، إذا نظرنا إلى الماء في أصل طبيعته وجدناه على ضربين :
الضرب الأول : ما كان باقياً على أصل خلقته لم يتغير ، مثل الماء الذي ينزل من السماء ، مثل الماء الذي يستنبط من الآبار ، مثل الماء الذي يتفجر من العيون ، مثل الماء الذي يجرى به النهر ، سالماً من التغير على تفصيل في مسألة تغيره إذا كان جارياً ، هذه المياه باقية على أصل خلقتها ، وهي توصف بكونها ماء طهوراً ، فهي طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها ، طهارة في نفسها لو وقع عليك طشاش من هذا الماء ما يؤثر ، لا في بدنك ولا في ثوبك ولا في المكان الذي تصلى فيه ، تصلى عليه ولا إشكال ، وأيضاً لو غسلت بها نجاسة ، وأزال هذا الماء النجاسة طهر ، وحكم بطهارة الثوب ، والبدن ، والمكان الذي فيه النجاسة ، فهي طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها ، هذا هو الماء القوي ، وهو الأصل في الماء ، الأصل فيه أنه طهور .
النوع الثاني : الماء المتغير ، وهو الذي خرج عن أصل خلقته ، فإذا خرج عن أصل الخلقة وتغير له صورتان :
الصورة الأولى : إما أن يتغير بطاهر .(1/78)
والصورة الثانية : وإما أن يتغير بنجس ، فإذا تغير بطاهر كماء في سطل ، سقط عليه الحبر فأصبح بلون الحبر وطعم الحبر ، نقول : هذا ماء طاهر في نفسه غير مطهر لغيره ، فهو طاهر غير طهور ، فإذاً إذا تغير بطاهر فهو طاهر ، وطبعاً لابد أن تضع ضابط ، تحكم من خلاله أنه انتقل من الطهورية إلى الطاهر ، وهذا ما يسمى بالتغيير المؤثر، إحدى ثلاث صفات إذا تغيرت حكمت بانتقاله من طهور إلى طاهر، من كونه ماءاً طهوراً إلى كونه ماءاً طاهراً ، أما أن يتغير لونه ، أصبح لونه لون الحبر أزرق ، أو لون اللبن أبيض ، أو يتغير طعمه مثل أن يكون في عجين فيصبح طعم العجين فيه ، أو طعم الورد ، أو يتغير بطعم الزعفران ، أو يتغير برائحته ، فتجده فيه رائحة العجين أو رائحة الزعفران أو رائحة الورد ، إذاً هذه ثلاث مؤثرات ، اللون ، الطعم ، الرائحة ، لكن لا يشترط اجتماعها ، فإذاً ينتقل من النوع الأول وهو الطهور ، من كونه طهوراً إلى كونه طاهراً بأمرين :
الأمر الأول : أن يحصل فيه التغير إما لوناً أو طعماً أو رائحة ، أو الكل لوناً وطعماً ورائحة .
الأمر الثاني : أن يكون الذي غيره طاهراً لا نجساً ، مثل مثلا الورد طاهر ، فإذاً إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بشيء طاهر ، هذا الشرط الثاني حكمنا بكونه قد صار طاهراً لا طهوراً .
النوع الثالث وهو الماء النجس ، الماء النجس هو الذي تغير بنجاسة بنفس الضابط المتقدم ، تغير لونه أو طعمه أو رائحته بنجس ، النجس إذا تحتاج أول شيء أن توجد شيئا نجساً-أكرمك الله- .
وثانياً : أن يؤثر هذا النجس في الماء الطهور ، إما أن يؤثر فيه لوناً أو طعماً أو رائحة ، شخص عنده سطل وجاء طفل وبال في هذا السطل سطل ماء ، فأصبح لون ماء السطل لون البول ، أو طعمه بطعم البول ، أو رائحة البول ، فيه نقول انتقل من كونه طهوراً إلى كونه نجساً ، لأنه تغير بدليل وجود الصفة ، وأيضاً الذي غيره نجس وليس بطاهر .(1/79)
إذاً هذه ثلاثة أقسام : الطهور والطاهر والنجس ، والطهور : هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره ، والطاهر : هو الطاهر في نفسه غير المطهر لغيره ، وهو محل نزاع - سنبينه إن شاء الله- ، ونبين النصوص على هذا القسم ، ورجحان مذهب الجمهور أن هناك قسماً وهو الطاهر ، وأن الماء ينقسم إلى هذه الثلاثة الأقسام ، وثالث وهو النجس : غير طاهر في نفسه غير مطهر لغيره .
هذه ثلاث أقسام للماء ، إذا جاء العلماء يتكلمون على أحكام المياه كلام المصنف ، فهم أولا يبدؤون بالأصل وهو الماء الطهور ، فسيعطيك أوصاف الطهور ، وضابط الطهور ، ويُقرر هذا النوع الأول بدليله ، ثم ينُتقل إلى النوع الثاني هو الطاهر ، ويبينون متى يحكم بكون الماء قد صار طاهراً ، وما الدليل على إثبات هذا النوع الثاني وهو الطاهر ، ثم ينتقلون إلى النوع الثالث وهو النجس ومتى يحكم بتأثير النجاسة في الماء على التفصيل الذي سنذكره .
يقول المصنف-رحمه الله- : [ خُلق الماء طهوراً ] : معناه : أن الله أوجد الماء في أصل خلقته بهذه الصفة طهور ، كما قال أئمة اللغة : طاهر في نفسه مطهر لغيره وتبعهم على ذلك الفقهاء أيضاً ، فقال الجمهور : طاهر في نفسه مطهر لغيره هذا معنى الطهور ، والحكم أولا لما قال : [ خلق الماء ] ، يعنى أن الله أوجد الماء في أصل خلقته طهور ما الدليل ؟(1/80)
قوله-تعالى- : { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } ، فنص-- سبحانه وتعالى -- على أن الماء في أصل خلقته طهور ، وانظر الفرق بين كونه يقول : وأنزلنا من السماء ماء طاهراً ، وبين قوله طهوراً ، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، وأن هناك فرق بين الطهور وبين الطاهر كما يقول الجمهور ، هذا الدليل تعلق بالأنواع التالية من المياه : ماء المطر، ماء البئر، ماء العيون ، ماء الأنهار ، ماء السيول ، محكوم بأنها مياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها ، ما الدليل { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } ، قال لك شخص هو أنزله ماءطهور كيف حكمت على الذي في باطن الأرض أنه طهور ، نقول لقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } ، فوصف الذي نزل من السماء أنه قد سكن الأرض ، والصفة مستصحبة لأن الحكم أصل ، فنقول الماء في البئر طهور ، والماء من العين طهور ، والماء الجاري في النهر طهور ، وجارياً به السيل طهور ، طيب كيف حكمنا بأنه إذا كان في البئر طهور ، قلنا أسكناه في الأرض .
أكدته السُّنة لما سئل-عليه الصلاة والسلام- عن بئر بضاعة قال : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) ، أي أنه مادام باقياً على أصل خلقته فهو طهور ، ونحكم بكونه طهوراً طاهراً في نفسه مطهراً لغيره ، فلو أن شخصاً نزح دلواً من بئر ، قلنا هذا ماء طهور طاهر في نفسه مطهر لغيره ، فلو اغتسل به من جنابه ارتفع حدثه ، ولو توضأ به لصلاة صح له أن يستبيحها .(1/81)
إذا الماء الذي في البئر طهور ، الذي في النهر طهور ، الذي في السيل طهور، الذي من العين طهور ، طيب الذي في البحر ، البحر مالح وليس من الذي نزل ، جاءت السُّنة (( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )) ، فدل أيضاً على أن مياه البحار طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها ، وأنها آخذة حكم ماء السماء ، فأجتمع التقسيم لكل المياه الأصلية ، مياه الآبار ، مياه العيون ، مياه الأنهار ، مياه السيول ، مياه البحار ، وأنه يحُكم كلها بطهوريتها ، فلو أن شخصاً جاءنا بسطل ماء من بحر قلنا أنه مادام على أصل خلقته طاهر في نفسه مطهر لغيره ، خلافاً طبعاً لعبدالله بن عمرو بن العاص من الصحابة-- رضي الله عنه - وعن أبيه- ، وسعيد ابن المسيب من التابعين الذين كانوا يمنعون من ماء البحر ، ولعلهم مالم يبلغهم النص في حديث أبي هريرة-- رضي الله عنه -- واعتذر لهما ، كان يقال أن من الشبهة أن الله-تعالى- لم يسوى بين الماء العذب { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ } ، ففرق الله بين الماء العذب وبين الماء الأجاج ، وقال : إن هذا التفريق يستلزم أن هذا طهور وهذا غير طهور ، ومن هنا رد الجمهور على هذا بحديث أبي هريرة-- رضي الله عنه -- ، وهذا يدل على صحة التقسيم ، أن الماء ليس كله طهور ، ومن هنا يترجح مذهب الجمهور حينما قالوا : أن الطاهر قسم ثالث في الماء ، بدليل أن الصحابة كانوا يعرفون هذا ، ولذلك أبو هريرة لما جاء الرجل وسأل النبي-- صلى الله عليه وسلم -- وقال : - يا رسول الله - إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء ، إن توضئنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر ؟ فلو كانوا يتوضئون بكل ماء ، ولو كان كل ماء طهور ما سأل الصحابي هذا السؤال ، ولذلك قرر الجمهور بظاهر الآية في قوله : { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } ، على " أن زيادة المبنى تدل على المعنى " ، وأن هذا الباقي على أصل خلقته فيه معناً زائداً .(1/82)
وثانياً : أن الصحابة كانوا يعرفون هذا ، بدليل سؤال الصحابي ، وأنهم كانوا يدركون أنه لا يتوضأ بكل ماء .
ومن هنا نقول أن القسم الثاني صحيح وهو القسم الطاهر الذي سيأتينا ، الشاهد معنا أن الماء الباقي على أصل خلقته ماء طهور ، طاهر في نفسه مطهر لغيره .
يقول المصنف-رحمه الله- : [ خُلق الماء ] : أي خلق الله الماء ، خلق الله الماء طهوراً ، طاهراً في نفسه مطهراً لغيره ، وهذا معنى قوله بعد ذلك : قال المصنف-رحمه الله-: [ يطهر من الأحداث والنجاسات ] ، فقوله : [ يطهر من الأحداث والنجاسات ] تفسير لقوله : [ طهور ] ، فالطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره .
قوله : [ يطهر من الأحداث ] : الأحداث : جمع حدث ، ويقال حدث الشيء إذا جد وطرأ ، والحديث الجديد الذي لم يكن في سابقٍ ، والأحداث تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أحداث صغرى .
والقسم الثاني : وأحداث كبرى ، فالحدث الأصغر هو الذي يؤثر في الطهارة الصغرى ، والحدث الأكبر هو الذي يؤثر في الطهارة الكبرى ، فالحدث الأصغر كالبول ، خروج البول ، خروج الغائط ، خروج الريح ، دم الاستحاضة ، المذي ، المني ، الودي ، المذي ، الودي ، القيء - على تفصيل سيأتي - هذه كلها أحداث صغرى ، وأحداث كبرى وهي التي تنقض الطهارة الكبرى ، الجماع ، الإيلاج ، وإنزال المني ، والحيض ، النفاس هذه أحداث كبرى ، وهناك ما هو مظنة الحدث الأصغر مثل النوم ، وما هو مظنة الحدث الأكبر كالجنون ، الأول يوجب الوضوء ، والثاني يوجب الغسل ، لكنه مظنة حدث وليس بحدث ، واستتبع ذلك السكر ، واستتبع ما في حكم الشرع من جهة الإحباط كالردة كلها هذه تسمى أحداث ، وما في معاني الأحداث ، فالحدث ناقض للطهارة ، إن نقض الطهارة الكبرى حدثاً أكبر كالجماع ، وإن نقض الطهارة الصغرى حدث أصغر ، مثل خروج البول ، وخروج الريح والغائط .(1/83)
قال المصنف-رحمه الله- : [ يطهر من الأحداث ] : فمن أحدث حدثاً أصغر وتوضأ بماء طهور حكمنا بارتفاع حدثه ومن أحدث حدثاً أكبر ، فحاضت المرأة ثم طهرت من حيضها واغتسلت بماء طهور رفع الحيض ومانع الحيض ، إذاً الماء الطهور من شأنه يطهر من الأحداث ، وجمع الأحداث لتنوعها ، فهي أحداث صغرى وكبرى كل منها تحتها أقسام ، فلذلك قال : [ أحداث ] ما قال من حدث ، وممكن أن يأتي بالنكرة وتفيد العموم ولكن قال من الأحداث تنبيهاً لاختلاف أنواعها وتعددها .
[ من الأحداث والنجاسات النوع ] : الأول طهارة حدث ، الذي هو يطهر من الأحداث ، النوع الثاني من الطهارة طهارة خبث ، وهي إزالة النجاسة ، طهارة الخبث أن يزيل النجاسة على ثلاثة أوجه إما من ثوبه ، أو بدنه ، أو المكان الذي يصلي فيه ، فالماء الطهور إذا غُسلت به نجاسة في السجاد تطهر موضع الصلاة ، لأن المصلي مأمور أن يصلي على طهارة في بدنه وثوبه والمكان الذي يصلي فيه ، في بدنه (( اغسلي عنكِ الدم )) ، وثوبه { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } ، والمكان الذي يصلي فيه (( أريقوا على بوله سجلاً من ماء )) ، لأنه هذا وقع في المسجد ، فإذاً لابد أن يطهر ثوبه وبدنه ومكانه ، فإن طهر أو صب على النجاسة هذا النوع من الماء وهو الماء الطهور حكمنا بطهارة ثوبه وبدنه ومكانه الذي يصلي فيه ، إذا يقول المصنف-رحمه الله- : [ خُلق الماء طهوراً يطهر من الأحداث والنجاسات ] ، وجمع النجاسات لتعدد أنواعها البول الدم الغائط اختلاف أنواعها جمعها-رحمه الله- .(1/84)
قال المصنف-رحمه الله- : [ فلا تحصل الطهارة بمائع غيره ] : [ فلا تحصل ] : أي فلا يحكم بحصول الطهارة بمائع غير الماء ، لو أنه توضأ باللبن مثلاً يمكن نقول أنه تطهر ؟ ما نقول أنه طاهر ، كذلك - أيضاً - لو اغتسل بماء الورد ليس بمتطهر ، لأنه لم يغتسل بماء طهور ، لو اغتسل بماء زعفران ، لا تحصل الطهارة بمائع غيره ، لا بماء الباقلاء ، ولا بماء اللبن ، ولا بالمرق ، ولا بالخل ، ولا بالنبيذ ، خلافاً للحنفية-رحمهم الله- ، فبين-رحمه الله- بهذا أن الماء هو الأصل ثم قال : [ بمائع ] ولم يقل بشيء ، لأنه يمكن أن تحدث الطهارة بالتراب ، وهذا لا يناقض قوله بمائع ، فكان من دقته أنه قال : [ فلا تحصل الطهارة بمائع ] لكن هذا لا ينفي أن يكون هناك جامد تحصل به الطهارة وهو الصعيد الطيب ، هناك إشكال في البرد وفي الثلج إذا تمسح به وسال ماؤه فيه تفصيل عند العلماء-رحمهم الله- ، لكن إذا جرى ماؤه على البدن حصلت الطهارة بلا إشكال ، إذا سال وحصل به الإراقة على ظاهر البدن حصلت الطهارة به بوجود المائع لأنه إذا سال في حكم الماء الطهور كما هو معلوم ، ولذلك لا يُشكل على هذا كون البرد لأن البرد يتطهر به والثلج ، ولذلك قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( واغسله بماء وثلج وبرد )) ، فلما وصف الثلج والبرد بكونه يغسل به ، وقد أمرنا بالغسل دل على أن من اغتسل ببرد فسال التي هي الإسالة مقصودة إسالة الثلج على تفصيل عند العلماء-رحمهم الله- أنه مغتسل ، - هذا سيأتينا إن شاء الله في الغسل إذا يسر الله - ، فالمقصود لا تحصل الطهارة بمائع غيره ، وبناءاً على ذلك لا يتطهر إلا بالماء الطهور خلافاً للحنفية-رحمهم الله- فعندهم يتطهر بنبيذ التمر ، واستدلوا بحديث عبدالله ابن مسعود عند الترمذي وغيره وفيه أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- سأله لليلة الجن أمعك ماء ، قال : معي إداوة فيها نبيذ من تمر ، فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( تمرة طيبة وماء(1/85)
طهور )) ، وهذا الحديث ضعيف من حيث السند ، وأيضاً معارض لما هو أصح منه كما في صحيح مسلم ، أن عبدالله ابن مسعود-- رضي الله عنه -- أثبت أنه لم يكن مع النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ليلة الجن ، وقال : وددت أني أكون معه ، ومن جهة الأصل لا شك أن النبيذ ليس بمطهر ، لأن الواجب أن يتطهر بالماء المطلق ، الماء الطهور طبعاً يعرى من الأوصاف ، ويعرى من القيد ، والمراد بالأوصاف الأوصاف اللازمة دون غير اللازمة كماء البئر وماء العين ، بين-رحمه الله- أنه لا تحصل الطهارة بمائع غيره فأشار إلى مذهب الجمهور ، وهو أنه لا يتُطهر بنبيذ التمر ، وكذلك لا يُتطهر بالخل ، ولا يتُطهر بالمرق ، وحكى الإجماع في مرق اللحم وهو مائع ولا تحصل باللبن فلابد أن يكون الماء طهوراً طاهراً في نفسه مطهراً لغيره .(1/86)
قال المصنف-رحمه الله- : [ فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جارياً لم ينجسه شيء ] : يقول-رحمه الله- : [ فإذا بلغ الماء قلتين ] : القلتان مثنى قلة ، والقلة يستسقى بها هي الجرة سميت بذلك لأن أصل القل في لغة العرب الحمل ، ومنه قوله-تعالى- : { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً } ، أي حملته وسارت به الريح ، والقلال قلال هجر ، وهذه الجملة طبعاً انتزعها المصنف-رحمه الله- من حديثٍ مختلفٍ فيه سنداً ومتناً اختلف ، العلماء-رحمهم الله- في ثبوته ، وهو عند الخمسة رواة الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وأبو داود ، وأحمد في مسنده وصححه جمع من الأئمة ، والعمل على ثبوت سنده وحاصله أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- سئل عن الماء وما ينوبه من السباع ، فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )) ، إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ، وهو حديث ابن عمر-رضي الله عنهما- ، وهذا الحديث تكلم العلماء عليه سنداً ومتناً وكثر الكلام فيه ولكن قلنا أنه جمع من الأئمة والمحققين على ثبوته ، وتكلم عليه الإمام ابن القيم-رحمه الله- سنداً ومتناً وتكلم بذوق المحدثينً حتى قال : هذه السُّنة العظيمة التي تتعلق بأمر عظيم وهو متصلبالصلاة وبالطهارة للصلاة ، تروى عن ابن عمر-- رضي الله عنه -- ولا يرويها مشاهير أصاحبه كنافع وسالم ابن عبدالله ابن عمر الذين هم أحفظ للسُّنة منه وأحفظ لعلمه ، تكلم عليه ونقده الصنعة الحديثية سنداً ومتناً ، لكن في الحقيقة الشافعية ، والحنابلة يعملون بهذا الحديث ، ويقولون الآتي : أن الماء إذا بلغ قلتين فإننا لا نحكم بانتقاله عن كونه طهوراً ، إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه ، فأي نجاسة وقعت فيه لم تغير لونه أو طعمه أو رائحته فإنه طهور ، هذه الجزئية الأولى متفق عليها عند الجميع ، أن الماء إذا بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة لم تغير لونه أو طعمه أو رائحة فيه فبالإجماع طهور .(1/87)
العكس لو وقعت فيه نجاسة وقد بلغ القلتين فغيرت لونه أو طعمه أو رائحته فبالإجماع نجس ، إذاً الماء إذا بلغ قلتين حتى نفهم الخلاف ، إذا بلغ قلتين وتغير لونه أو طعمه أو رائحته بوقوع نجاسة فيه فبالإجماع نجس ، بركة من الماء تسع خمسة قلال ، أفرغ فيها وايت من النجاسة فأصبح لونها أو طعمها أو رائحتها بالنجاسة ، نقول بالإجماع نجسة غير طاهرة في نفسها ولا مطهرة لغيرها مع أنها قد بلغت القلتين ، إذاً إذا تغيرت القلتان فأكثر ما كان من الماء قلتين فأكثر تغير بالإجماع يؤثر وإذا لم يتغير فبالإجماع لا يؤثر وقوع النجاسة فيه ، الإشكال فيما دون القلتين يعني أقل من القلتين ، لو وقعت فيه نجاسة فعلى صورتين :
إن وقعت فيه نجاسة وغيرت لونه أو طعمه أو رائحته فبالإجماع نجس ، سطل ماء دون القلتين جاء شخص وبال فيه-أكرمكم الله- ، فوجدنا لون البول أو طعمه أو رائحته بالإجماع نجس ، لا يجوز أن يتطهر به وهو دون القلتين .(1/88)
لكن لو أن هذا السطل وهو دون القلتين وقعت فيه قطرة بول ، لم تغير لونه ولا طعمه ولا رائحته فهنا الإشكال عند العلماء ، الذين يقولون بهذا الحديث مفهوماً الذين يقولون بهذا الحديث مفهوماً لا منطوقاً كلهم يقولون به منطوقاً ، إذا بلغ الماء قلتين منطوقه كلهم يقولون به ، أنه إذا بلغ قلتين ووقعت فيه نجاسة لم تغيره ما يؤثر فيه ، لكن الاشكال إذا كان دون القلتين ووقعت فيه نجاسة لم تغير لونه ولا طعمه ولا رائحته ، فالمالكية والظاهرية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة من المحققين ، على أنه طهور ولا يؤثر فيه وقوع النجاسة مادام أنه لم يتغير ، والشافعية ، والحنابلة على ما درج عليه المصنف-رحمه الله- ، على أنه إذا كان دون القلتين ووقعت فيه نجاسة أنه يحكم بكونه متنجساً ، حكماً لا حقيقة وهو ليس حقيقة فيه النجاسة مؤثرة ، لكن يقول بحكم الشرع لأن الحديث لما قال : (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )) معناه أنه إذا كان دون القلتين حمل الخبث ، فإذا وقع فيه الخبث أثر فيه هذا يسمونه مفهوم العدد ، مفهوم العدد وهو أحد أنواع المفاهيم العشرة ، الصفة والشرط والعلة واللقب والاستثناء والعدد وظرف الزمان وظرف المكان والحصر والغاية
صف واشترط علل ولقب ثنيا ********وعد ظرفين وحصر اغيا
مفهوم العدد قالوا : لما قال : (( إذا بلغ الماء قلتين )) دل على أنه إذا كان دون القلتين حمل الخبث ، قلنا اختلف العلماء في هذه المسائلة على قولين :
القول الأول يقول : ما كان دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه ، سواءً غيرت أو لم تغير ، وهذا مذهب الشافعية ، والحنابلة .
القول الثاني : أن ما دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة إن غيرته حُكم بكونه متنجساً ، وإن لم تغيره فهو طهور ، وهذا مذهب المالكية ، والظاهرية ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة .(1/89)
استدل الأولون بمفهوم الحديث ، واستدل أصحاب القول الثاني بالأصل ، قال-تعالى- : { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } ، وجاء الحديث في السُّنة من حديث أبي سعيد-- رضي الله عنه -- في بئر بضاعة وما يُلقى فيه من الحيض والنتن ، قال-عليه الصلاة والسلام- : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) ، قالوا : فنبقى على الأصل وعندنا منطوق وعندنا مفهوم ، والقاعدة : " إذا تعارض المنطوق والمفهوم ، قدم المنطوق على المفهوم " ، وهذا هو الصحيح ، أن ما دون القلتين العبرة فيه بالتغير والتأثر ، ولذلك لو كان الماء في إبريق لو كان في سطل دون القلتين ، ووقعت فيه نجاسة ننظر هل تغير أو لا ، فإن لم يتغير فهو طهور ، وإن تغير فهو بحسب ما غيره .
الحنفية-رحمهم الله- عندهم فرق بين الكثير والقليل ، وقالوا : إذا كان كثيراً بحيث لو حرك طرفه لم يصل إلى الطرف الآخر ، فإنه ينجس بوقوع النجاسة فيه ، وإما إذا كان كثيراً فإنه لا ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه .
طيب المصنف يقول : [ فإذا كان الماء جارياً ] فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جارياً أو للتنويع أو كان جارياً ، الماء له حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون جارياً .
والحالة الثانية : أن يكون غير جارٍ مستقر في مكان ، مثل المستنقعات مثل الآبار مثل العيون غير السيالة ، إن كان جارياً هذا له حكم ، وأن كان غير جارٍ له صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون راكداً غير دائم .(1/90)
والصورة الثانية : أن يكون دائماً غير جارٍ ، راكداً غير دائم مثل المستنقع ، يعني ليس الراكد غير الدائم ضابطه هو الذي ليس له نبع يغذيه ، فإن كان له نبع يغذيه فهو الدائم ، وإن كان لا نبع له يغذيه فهو الراكد ، فأصبح هناك ماء جاري مثل ماء السيل ماء النهر ماء القنطرة في البساتين ، وهناك ماء راكد مثل ماء المستنقعات والغدران وماء البرك إذا كانت محبوسة وليس لها مصب يصب فيها شيء ، ومثل ماء السطل في حكم الراكد ، وماء دائم وهو ماء البئر إذا كان في مستنقعه في البئر نفسه في نقع البئر ، وماء العين ، العين التي لا تسيل لأن بعض العيون تكون مثل البئر غير سيالة ، فإذا كان الماء جارياً ، فالماء الجاري له قوة أكثر من الماء الراكد ، ولو كان قليلاً ؛ والسبب في هذا أن جريانه لو وقعت فيه نجاسة ، فإن النجاسة لا تستقر في الماء كله ، ومن هنا استشكل العلماء -رحمهم الله- ، وجاءت القاعدة المشهورة الماء الجاري التي ذكرها الإمام الحافظ بن رجب في كتابه النفيس قواعد الفقه ، قال : الماء الجاري هل هو كالراكد أو كل جرية منه تعتبر مستقلة وجهان ، أي فيه وجهان الماء الجاري هل هو كالراكد ، إذا قلت الماء الجاري كالراكد يصبح على قولنا بأن القلتين وما دون القلتين يتأثر تنظر إلى مجموع الماء الجاري ، إن كان في مجموعه لا يصل إلى القلتين كالبركة الصغيرة إذا جرى ماؤها ، فإنه إذا تنجس طرفه تنجس كله لأنه كالراكد ، أو كل جرية تعتبر منه مستقلة ، يصبح ننظر في الجرية التي أصابها البول دون التي لم يصبها البول ، وإذا قلت كلها لها أحكام لو قلت كل جرية تعتبر مستقلة ، لو وضعت ماء إناء ولغ فيه كلب فجرت سبعة جريات كانت كل جرية غسلة مستقلة ، وأن قلت كالراكد صار كالجرية الواحدة ، صار الكل جرية واحدة وغسلة واحدة ، المصنف هنا بين أن الماء الجاري لا يأخذ حكم الراكد ، وألحقه بالقلتين في القوة .(1/91)
والدليل على هذا من السُّنة : أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري )) ، ومفهومه أنه يبول في الذي يجري ، وإذا نُظر إلى معقول المعنى وجدنا أن النهي لخوف الإفساد فدل على أنه يؤثر في الذي لا يجري ، ولا يؤثر في الذي يجري ، فتخرج بالنتيجة وهي أن الماء الجاري ليس كالراكد ، وبناءً على ذلك درج المصنف على هذا ، أن الماء الجاري فيه قوة ، ولذلك فصل-رحمه الله برحمته الواسعة- في كتابه المغني ، فصل هذه المسألة في مسألة وقوع النجاسة في الماء الجاري وهل يحكم لك جرية بحسبها ، فإن وقع التغير فنظر إلى كل جرية هل تبلغ القلتين أو دون القلتين على التفصيل في الشرح .(1/92)
قال المصنف-رحمه الله- : [ إذا بلغ القلتين أو كان جارياً لم ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ] : لأننا اتفقنا على أن ما بلغ القلتين وزاد أنه متى ينجس ، إذا تغير لوناً أو طعماً أو رائحة ، أما إذا لم يتغير فالكل متفق على أنه ليس بنجس ، فهاتان مسألتان إذا بلغ القلتين أو كان جارياً لم ينجسه شيء ، إلا ما غير لونه يصبح لون الماء بلون النجاسة ، أو طعمه رفع الماء إلى فمه فوجد فيه طعم الدم النجس ، أو طعم الميتة التي ألقيت في الماء ، أو طعم البول فحينئذٍ يحكم بنجاسته ، أو رائحة الميتة على تفصيل في النجاسة المجاورة الملتصقة ، والنجاسة المجاورة غير الملتصقة ، والنجاسة المستقرة في الماء ، على تفصيل بين المتحللة وغير المتحللة ، وهذا لا يقول الواحد تفصيلات آرائية ما نعرف لها أصل ، أبداً النبي-- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( لا يبولن )) ، والبول ينتشر في الماء ولم يقل لا يتغوط قال : (( لا يبولن )) ، ففرق بين النجاسة التي تنتشر والنجاسة التي لا تنتشر ، وجعل القوة للذي ينتشر أكثر من الذي لا ينتشر ، لأن هذه مفاهيم منطوق ومفهوم ، ومن هنا فصل العلماء-رحمهم الله- في التغيرات وقال إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته ، اللون مؤثر وتأثيره قوي ، الطعم مؤثر وتأثيره ، قوي الرائحة تأثيرها على نزاع بين العلماء-رحمهم الله- ، لكن الرائحة يضعف تأثيرها بالنسبة لمسائل التفصيل يفرق بين النجاسة التي تقع في نفس الماء وتصبح رائحة الماء دون طعمه أو لونه ، وبين النجاسة التي تكون بجوار الماء ، والتي بجوار الماء بين كونها ملتصقة وبين كونها غير ملتصقة .
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
ما حكم الماء المتغير لونه بالطمي المختلط معه ؟
الجواب :
بسم الله ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أمابعد :(1/93)
فمياه السيول إذا تغيرت بالطمي المختلط بها لا يؤثر في طهوريتها ذلك الطمي ، وهكذا إذا تغيرت بقرارها مثل ما ينبت فيها من الطحلب والأعشاب البحرية هذه كلها لا تؤثر ، فالماء طهور وباقي على أصل الطهورية ، لكن لو أن هذا الطين نقل ووضع في الماء ، معنى جاء المكلف ووضعه ، فرق بين الشيء الذي هو بطبيعته وأصل خلقته ، وبين الشيء الذي يوضع في الماء ويتكلف فإنه يؤثر فيه على التفصيل المعروف في حكم المغيرات - كما سيأتينا إن شاء الله تعالى - ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثاني :
من تيمم بعد حدث أكبر لمرض يمنعه من الاغتسال ثم أحدث حدثاً أصغر فهل يتوضأ أو يتمم ؟
الجواب :
التيمم ينقضه الناقض الأصغر والناقض الأكبر ، وهذا على مسألة اندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى في التيمم ، وأن من تيمم أجزأه عن وضوئه وغسله لما ثبت في الصحيح من حديث عمرو بن العاص أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال له : (( إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب-عليه الصلاة والسلام- بكفيه الشريفتين على الأرض ومسح بهما وجهه وظاهر كفيه )) ، فهذا يدل على أن التيمم يرفعهما ، يوجب استباحة الصلاة وإذا حصل الناقض الأصغر أو الأكبر فهو مؤثر ، وهذا ما أختاره جمع من العلماء-رحمهم الله- ونصوا عليه ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثالث :
كيف يجمع طالب العلم بين العلم والعبادة ، وبين طلب العلم والقيام بحقوق الأهل وقد تكون طلبات الأهل وحاجاتهم كثيرة جداً وبعضها كَمَاِلُي ، وما توجيهكم لأهالي طلاب العلم في أعانتهم على طلب العلم ؟
الجواب :(1/94)
أما الجمع بين العلم والعبادة فهو جمع بين العلم والعمل ، وطالب العلم خليق به أن يكون أكثر الناس ذكراً لله ، وأكثر الناس تلاوة للقرآن ، وأكثر الناس خشوعاً وتدبراً وتأثرا بآيات التنزيل ، وأن تكون فيه رقة الخاشعين ، وذلة المخبتين ، وسكينة الصالحين ، وشعار أولياء الله المتقين ، لأنه ليس هناك أسمى ولا أعلى بعد الأنبياء من العلماء العاملين ، وهو بطلبه للعلم قد سلك هذا السبيل ، وأقام نفسه على هذا المعلم الصالح فلا شك أنه خليق به أن يوطن نفسه على هذه الأعمال الصالحة ، وهناك ثلاثة جوانب مهمة لطالب العلم يجمع الله له بها بين العلم والعبادة :
أولها : الحرص كل الحرص على أداء ما فرض الله على أتم الوجوه وأكملها ، فإذا دعا إلى الصلاة حرص على أنه لا يؤذن المؤذن خاصة أيام الطلب ، لأنه ربما بعد الطلب إذا ابتلي بالدعوة ، وابتلي بنصح الناس وتعليم الناس ، ربما أصابته الأسقام والأمراض والشواغل ، ولربما تأخر لتحضير علمه ونحو ذلك ، فيكتب الله له الأجر كاملاً لأنه كان يعمل هذه الأعمال الصالحة ، فأولاً أي أمر من أوامر الله-- عز وجل -- مثل الصلوات الخمس ، يحرص على أنه يؤديه على أتم وجه وأكمل وجه فإذا توضأ لم يتوضأ مرة ولا مرتين ، وإنما يتوضأ ثلاثاً ، فيكون في الكمال ولن يعلم بسنة إلا طبقها في وضوئه ، وإذا صلى حرص على أنه لا يأتي الصلاة وتقام وهو في المسجد ، بل لا يؤذن للصلاة إلا وهو في المسجد ، وإذا أراد الله أن يعلي درجته وأن يعلي مرتبته جعله من المرابطين الذين ينتظرون الصلاة بعد الصلاة ، ثم إذا وفقه الله-- عز وجل -- للواجبات وأداها على أتم الوجوه ، إذا صلى كان على أتم ما يكون عليه المصلى، خشوعاً وإنابةً وإخباتاً وتأثراً ، وإذا صام كان على أتم ما يكون عليه الصائم ، في حفظه لصيامه وقيامه بحق ربه ، واتباعه في سنة نبيه-- صلى الله عليه وسلم -- في سحروه وفطوره .(1/95)
بعد هذا المرتبة الثانية : مرتبة الكمالات ، وهي أن يحرص طالب العلم على أن يكون بينه وبين الله سر من الأعمال الصالحة ، التي أعظمها وأجلُّها التقرب إلى الله بتوحيده ، فلا تمر عليه لحظة إلا وهو يتفكر ، ولا تمر عليه برهة إلا وهو يتدبر ، حاضر القلب ينظر في ملكوت الرب ، منيباً إلى الله مخبتاً إلى الله ، لا يكون مع الغافلين ، دائماً قلبه حي ، دائماً يقول كنت وضيعاً فرفعني ربي ، وكنت ضعيفاً فقواني ربي ، وكنت مريضاً فشفاني ربي وكنت ، وكنت دائماً يراقب نعم الله-- عز وجل -- عليه ، ولا ينظر إلى شيء إلا يعتبر ولا يبصر شيء إلا ينيب ويدكر ، يحي قلبه ويكون طالب علم حتى ينال المراتب العلى في علمه ، فإذا وطن طالب العلم نفسه من البدايات بهذه الكمالات انشرح صدره لكل خير ، فيسعى للكمالات فالاثنين والخميس لا يفوته صيامهما ، وصيام البيض من كل شهر لا يفوته صيامها ، وقيام الليل لا يمكن أن يترك قيام الليل مهما كان الأمر ، لأنه سلاحه وعدته ، فيحرص على أن يكون قائم الليل ، حتى أن الإمام أحمد لما بات عنده بعض طلبة العلم وضع له وضوءه ، فلما أصبح-رحمه الله- ووجد الماء لم يتغير تأسف ، وقال : طالب علم لا يقوم الليل ، يعني ندم وسقط من عينه ، لكن تحرص إذا كنت مع الغير وخفت الفتنة تحرص على أنه لا يشعر بصلاحك ، إلا إذا علمت أنك ما تفتن ، وعلمت أنه لا يفتن هو بالغلو فيك وتعظيمك هذا شيء آخر ، ولكن أحرص دائماً على أن يكون بينك وبين الله سر ، خلواتك تتذكر فيها ذنوبك فتبكي ، فطالب العلم أكثر الناس خلوة مع نفسه تفيض عيناه خشية لربه ، أكثر الناس في خلواته يجلس ويتفكر ، فإذا بكى في سره أبكى الله العيون منه في علانيته ، وإذا خشع في سره أظهر الله زكاة قلبه ونفسه إذا خرج للناس ، وثق ثقة تامة أن الله لا تخفى عليه خافية ، وأن من كان صالحاً في سره أظهر الله في الناس حبه وإكرامه ، وكانوا يقولون : إن الخشية لله تورث الهيبة(1/96)
بين الناس والمحبة ، فطالب العلم إذا وطن نفسه على هذه الكمالات والأعمال الصالحة شرح الله صدره ، لا يمكن أن تمر عليه ثلاثة أيام إلاَّ وهو خاتم للقرآن ، لا تمر عليه آية إلا ويتدبرها ويتأثر بها ، فالحرص على هذه الأمور مهمة جداً .
الأمر الثالث : البعد عن المعاصي ، ولا نقول المعاصي واضحة الأمور المحرمة واضحة ، ولكن المشكلة أن تكون المعاصي يدخل الشيطان فيها على طالب العلم من حيث لا يدري ، الغيبة اللمز الهمز احتقار الناس ، يكون طالب علم وهو يحتقر ناس لألوانهم وهو لا يدري ويظن أنه في الكمال ، ويلمز بعض الأخيار وقد يلمز علماء وهو لا يدري ، لأنه ألف هذه المعاصي-نسأل الله العافية- حتى لربما أخذت حسناته في العلم ، فلا يأخذ نفسه إلا بزمام التقوى ، يعرف ما الذي يقوله ما الذي يفعل ، ويحذر من معصية الله-- عز وجل -- ، ويكون أشد الحذر من ذلك ، فإذا جمع الله لطالب العلم بين هذا مازال يرتقي من فلاح إلى فلاح ، ومن صلاح إلى صلاح ، حتى يكتب الله له حسن العاقبة بالربح والنجاح ، جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب المياه
قال المصنف-رحمه الله- : [ فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جارياً لم ينجسه شيء إلا ما غيّر لونه أو طعمه ، أو ريحه ، وما عدا ذلك ينجس بمخالطة النجاسة ] :
الشرح :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين ، أما بعد :(1/97)
فكنا قد تحدثنا في المجلس الماضي عن مسألة القلتين اختصاراً ، وبينا أن أصح قولي العلماء-رحمهم الله- : أن العبرة في الماء بالتغير ، فإذا كان الماء طهوراً ووقعت فيه نجاسة نظرنا ، فإن غيرت لون الماء أو طعم الماء أو رائحة الماء حكمنا بتأثره وانتقاله من الطهورية إلى ما غيّره ، وأما إذا لم يتغير أحد أوصاف الماء فهو باقٍ على الطهورية ، وهذه المسألة تكلمنا عليها بتوسع ، وذكرنا فيها الأدلة والنصوص ، والردود والمناقشات والترجيح في شرح "بلوغ المرام" ، والحاصل أن حديث القلتين لا يعارض ما رجحناه ، لأن الحديث فيه منطوق ومفهوم ، فمنطوقه يدل على أن الماء إذا بلغ القلتين طهورٌ مالم يتغير ، ومفهومه معارض بمنطوق ، فيلغى المفهوم ويبقى على المنطوق والأصل هذا حاصل ما يقال في مسألة القلتين .
المصنف-رحمه الله- رجح مذهب من يقول باعتبار القلتين ، وبناءاً على ذلك قال : [ فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جارياً لم يحمل الخبث لم ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ] ، هذه المسألة الثانية وهي مسألة الماء الجاري أشرنا إليها وبينا أن الماء الجاري فيه قوة ، والنجاسة لا تستقر في جميع الماء الجاري ، وإنما جريانه يؤثر في هذه النجاسة خاصةً وأنه في بعض الأحيان إذا وقعت النجاسة صارت دفعات الماء ترد على النجاسة ، وعند بعض العلماء أن القوة للوارد ، فهي إذا وقعت وصارت تأتي جرية تلو جرية فصارت القوة للوارد ، ومن هنا يكون تأثير النجاسة ضعيفاً خاصة وأن العلماء-رحمهم الله- فرقوا بين الجاري والراكد بتفريق السُّنة ، وذلك أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- منع من البول في الماء الراكد والدائم الذي لا يجري ، فدل على أن الذي يجري أقوى من الراكد والدائم وهذا بتفريق السُّنة .(1/98)
فالفقهاء-رحمهم الله- استنبطوا هذا المعنى من الحديث ، حيث منع من البول في الماء الذي لا يجري والمصنف -رحمه الله- قال : [ إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه ] ، فإذا تغير الماء لوناً أو طعماً أو رائحة ، أو تغيرت جميع أوصافه وهي اللون مع الطعم مع الرائحة فإنه ينتقل إلى ما غيّره .
عندك سطل ماء تريد أن تغتسل به فوقعت فيه نجاسة من بول أو دم ، فلما وقع الدم في هذا السطل ، أصبح لون الماء أحمر فحينئذٍ يحكم بانتقاله من الطهورية إلى النجاسة ، لأنه تغير أصل المؤثر وهو اللون والدم نجس ، كما قال-تعالى- : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } ، وسنبين هذه المسألة ، فانتقل من الطهورية إلى النجاسة بتغير اللون .
يتغير الطعم ، عندك مثلاً إبريق ماء تريد أن تتوضأ به ، فوقع فيه ورد أو وقع فيه كادي أو وقع فيه زعفران ، فوجدت طعم الورد في الماء ، فحينئذٍ تحكم بانتقال الماء من الطهورية إلى الطاهر ، أو وقع فيه صابون فأصبح طعمه طعم الصابون ، أو لونه لون الصابون ، فهذا تغير اللون والطعم .
تغير الرائحة مثل أن يصبح الماء برائحة ما غيره من نجس أو طاهر ، فلو وقع فيه مثلاً البول فأصبحت رائحة الماء مكدرة بالبول وموجودة في الماء .
فإذا تغير اللون أو الطعم فهذا أقوى ما يكون من التغير ، لكن الرائحة فيها ضعف فبعض العلماء لا يعتبر الرائحة إلا إذا كانت مع الطعم ، وبعضهم يعتبرها مستقلة وهذا هو الذي درج عليه الكثير من العلماء-رحمهم الله- ، أن الرائحة مؤثرة لكن بشرط أن يكون الشيء الذي له رائحة ومؤثر داخل الماء ممازجاً لا منفصلاً ، فلو كان منفصلاً عن الماء ، لو فرضنا مثلاً ماتت ميتة والميتة نجسة كما نص الله-- عز وجل -- في كتابه ، فالميتة هذه كانت بجوار المستنقع أو بجوار البركة ، ليست بملتصقة بالماء وليست بداخل الماء ، لأنها ثلاث صور :
الصورة الأولى : إما أن تكون مجاورة غير ملتصقة .(1/99)
الصورة الثانية : أو مجاورة ملتصقة .
الصورة الثالثة : أو تكون داخل الماء .
فإن كانت مجاورة غير ملتصقة فلا يتغير طبعاً ولا يؤثر مطلقاً ، لأن التغير سيأتي بالرائحة فالهواء هو الذي ينقل رائحة الميتة ، فتصبح رائحة البركة وطعم الماء في البركة طعم الميتة ، هذا لا يؤثر لأن المجاور إذا لم يلتصق ولم يخالط ولم يمتزج لا يؤثر فإذاً الرائحة ضعيفة ، متى ؟ إذا لم تكن داخل الشيء الذي هو الماء أو ممتزجة بالماء .
فإن كانت الرائحة ناشئة من شيء داخل الماء أو ممتزجة بالماء فلا إشكال ، مثل ما ذكرنا لو أن صبياً بال على سطل فأصبحت رائحة السطل رائحة بوله-أكرمكم الله- ، فاللون لا يؤثر ، غياض اللون وغياض الطعم لايؤثر مادام أن رائحة البول قد وجدت لأنه ممازجٌ للماء . إذاً التغير لوناً أو طعماً أو رائحةً أو مجموع الثلاثة مؤثر .
فبين-رحمه الله- أن الماء إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة فلما قال : [ لونه أو طعمه أو رائحته ] دل على عدم اشتراط الاجتماع ، ما يشترط أن تجتمع الثلاثة ولا أن يجتمع أكثرها الذي هو اللون مع الطعم ، أو اللون مع الرائحة ، أو الطعم مع الرائحة لا يشترط ، وأن الواحد منها كاف ، لكن بشرط أن يكون من داخل الماء ممازجاً لا منفصلاً عنه .(1/100)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وما عدا ذلك ينجس بمخالطة النجاسة ] : [ وما عدا ذلك ] ، القلتان قلنا المصنف أعتبرهما والقلتان لما أعتبرهما المصنف معناه أن ما كان دون القلتين عنده أو عند الشافعية-رحمهم الله- الذي هو مذهب الحنابلة ، والشافعية ، أن ما دون القلتين إذا وقعت فيه نجاسة تؤثر فيه سواء غيرت أو لم تغير . فلو أن قطرة من البول وقعت في سطل دون القلتين بل لو في بركة صغيرة دون القلتين بمجرد وقوع هذه القطرة يحكم بنجاسة الماء . هذا المذهب الذي أختاره المصنف لكن نحن قلنا الصحيح أن العبرة بالتغير وأنه لا ينجس بملاقاة النجاسة وأنه لابد وأن يكون مؤثراً في الماء مغيراً للونه أو طعمه أو رائحته كما ذكرنا وأن يكون من داخل ممتزجاً دون أن يكون صلباً لا يتحلل ، بناءاً على هذا فلو وقعت النجاسة فيما دون القلتين .
قال : [ وما عدا ذلك ينجس بملاقاة النجاسة ] : ما هو عدا القلتين ؟ الذي دون القلتين والماء الراكد إذا كان دون القلتين . وهذا مذهب مرجوح كما ذكرنا ، ولذلك ولله الحمد أراح الله العباد ودفع عنهم الوسوسة لأن الشخص إذا جاء يعتبر القلتين شك ، هل الماء يبلغ قلتين أو ما يبلغ قلتين ؟ ويجلس يحدث ويخمن فيقع في حرج ، ثم سطل ماء بمجرد وقوع قطرة فيه يحكم بنجاسته ، هذا بعيد بالنسبة لأصول الشريعة لكن ، إذا قلت العبرة بالتغير تنظر إن وجدت طعم النجاسة أو لونها أو رائحتها حكمت أنها تغيرت ، وإذا لم تجد لها أثراً كان وقوع القطرة هذه وعدمها على حدٍ سواء . وهذا هو الصحيح والحقيقة لا شك أنه أسلم وأقوى من جهة الدليل .
قال المصنف-رحمه الله- : [ والقلتان ما قارب مائة وثمانية أرطال بالدمشقي ] : [ ما قارب ] ، دل على أن عند العلماء تحديد المقادير . والتحديد يكون على صورتين :
الصورة الأولى : إما أن يكون تحديداً جازماً ، لو زاد أو نقص حكم بتأثير الزيادة والنقص .(1/101)
الصورة الثانية : وإما أن يكون تحديدا تقريبياً ، فالتحديد التقريبي أخف من التحديد الجازم ، التحديد الجازم لو زاد أو نقص فهو مؤثر ، وإذا حدد الشرع تحديداً جازماً فإنه يجب الوقوف عند ما حدده الشرع ، سواء في المقادير ، في المكاييل ، في الموزونات ، في الأذرعة ، العبرة بما حدده الشرع ، قال الشرع : هذا نحكم به . ولذلك تأتي إلى مكة-شرفها الله- لو تدخل خطوة فأنت داخل الحرم من أراد في هذا الموضع ، يرد فيه بإلحاد بظلم أذاقه الله من عذاب أليم ، لو خرج خطوة واحدة خرج عن حدود الحرم ، لو دخل خطوة واحدة حرم عليه الصيد ، لو خرج خطوة واحدة جاز له الصيد ، هذه أحكام توقيفية تشريعية .
ومن هنا تقدير مسافات السفر حينما يتهكم بعض المتأخرين بتحديد الجمهور بمسافة ثمانين كيلو يقول سبحان الله ثمانين كيلو إلا خطوة ما هو مسافر ، ثمانين كيلو مسافر ، نقول : نعم لو طاف إلا خطوة لم يتم طوافه ، لأن هذه تقديرات شرعية ما يتهكم بها ، إذا كان الشرع جاء بالأصل أن تسافر مسيرة يوم وليلة ، ومسيرة اليوم والليلة ثمانين ما نقص عنها ليس بسفر ، وما بلغها وزاد فهو سفر ، فهذه التقديرات التحديدية لا يزاد عنها ولا ينقص منها وتعتبر بحدها ، ليس فيما دون خمس أواقٍ صدقة ، الخمس الأواقي من الفضة خمسمائة وخمس وتسعين غرام ، لو نقصت غراماً واحداً لا زكاة ، لو نقصت أقل من الغرام لا زكاة حتى تبلغ هذا القدر المحدد لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- جزم فيها وحدد ، هذا التقدير للقلتين ، القلتان مثنى قلة كما ذكرنا ، سميت قلة لأنها تقل وتحمل وهي مثل الجرة [ الزير الصغير ] وإلى الآن لا يزال يستسقى بها في بعض الأماكن يحملون الماء ويقلونه بالقرب ويقلونه بهذا النوع من الجرار .(1/102)
النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إذا بلغ الماء قلتين )) ، اختلف العلماء في تحديد القلتين ، فجاؤوا بالتحديد التقريبي بالدمشقي والعراقي والمصري كانت أرطال موجودة في بلاد المسلمين ويقدرون بها ، وهي راجعة إلى الكيل لا إلى الوزن ، وفرق طبعاً بين الكيل الذي تأثر بالحجم والجرم وبين الوزن الذي يتأثر بالثقل ، وضبطها بعض العلماء-رحمهم الله- بخمس قِرب من القرب الموجودة الكبيرة في زماننا ، وبمعنى ذلك أن القلة الواحدة قربتين ونصف تقريباً ، وبعضهم يضبطها بمتر في متر في متر الذي هو المتر المكعب يقارب القلة الواحدة ، أما بالآصُع فحررها شيخ الإسلام-رحمه الله- وغيره من العلماء بثلاثة وتسعين صاع وخمسة وسبعين في المائة ، هذا بالنسبة للقلة الواحدة وهذا كله تقريبي ، إذا قال تقريبي بمعنى أنك تقول ما قاربه وليس بالجزم ، وعلى كل حال فقد صححنا أن العمل بمفهوم حديث القلتين ضعيف ، والصحيح أن العبرة بالتغير وأنه إذا تغير لون الماء أو طعمه أو رائحته حكمنا بانتقال الماء إلى الطهارة أو النجاسة على التفصيل الذي بيناه .
قال المصنف-رحمه الله- : [ وإن طبخ في الماء ما ليس بطهور ] : هذه الجملة تتعلق بالنوع الثاني من أنواع المياه وهو الطاهر، والطاهر طاهر في نفسه غير مطهر لغيره .
والدليل على هذا النوع الثاني : أن الله -تعالى- يقول في كتابه : { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } ، فجعل الذي بقي على أصل الخلقة طهوراً ، وأكده النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بقوله في البحر : (( هو الطهور ماؤه )) ، وكذلك أكده بقوله-عليه الصلاة والسلام- في بئر بُضاعة : (( إن الماء طهور )) يعنى كل ما بقي على أصل خلقه فهو طهور ، فإذا تغير عن أصله وكان تغيره بطاهر فقد سلبه الطهورية ولم يسلبه الطهارة ، فالمُغِّير على قسمين :
القسم الأول : ما سلب الطهورية والطهارة فهو النجس .(1/103)
القسم الثاني : وما سلب الطهورية دون الطهارة فهو الطاهر .
والدليل على ذلك أن الصحابة سألوا رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- وقالوا : " - يا رسول الله - إنا نركب البحر وليس معنا إلا القليل من الماء ، إن توضئنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ " انتبه أفنتوضأ بماء البحر؟ لاحظ أولاً أن الصحابة يعلمون أن ماء البحر ماء ولكنهم أضافوا للماء هذا قيد ، فقالوا : ماء بحر والماء إذا قيد إما أن يقيد بما هو قرار له كماء البحر وماء البئر ، وهي الإضافة غير اللازمة ماء النهر ماء السطل ماء البركة هذه إضافة غير لازمة ، وإما أن يتغير بإضافة لازمة مثل ماء الورد ، ما تستطيع أن تقول ماء وتسكت حتى تقول ماء ورد ، لأن صفته ملازمة له ، لكن ماء البئر وماء النهر وماء البحر هذه الصفة تكون معه ولكنها غير لازمة ، ومن هنا استشكل الصحابة ، فلو كان معروفاً على عهد النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أنه يتوضأ بكل ماء ما سأل الصحابة ، كانوا توضئوا بماء البحر لأن ماء البحر ماء الذي في ماء البحر اختلاف الطعم واختلاف الرائحة . ولكنه اختلاف بطاهر وليس بنجس ومع هذا سأل عنه الصحابة-رضوان الله عليهم- وبيّن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أن هذا الاختلاف بالقرار لا يؤثر ولا يضر .(1/104)
ولذلك أستنبط منه الفقهاء في المغيرات في تفصيلات في باب المياه أن الماء إذا تغير بقراره لا يضر مثل مياه القرب تجد فيها رائحة القرب مياه الخزانات تجد فيها رائحة الخزانات لا تؤثر لأنه متغير بما يشق صون الماء عنه ومثل مياه العيون والغدران تجد فيها الطحالب فلما سأل الصحابة عن ماء البحر فهمنا أن هناك قسماً ثانياً ، فهمنا أنهم كانوا على عهد النبي-- صلى الله عليه وسلم -- لا يتوضئون بكل ماء وإنما يتوضئون بالماء الباقي على أصل خلقته فشكّوا في البحر هل هذه الصفات وتغير طعمه ورائحته تؤثر فيه فلما كان تغيراً مما سامح الشرع فيه بيّن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أنه باقٍ على أصله .
فانتزع الفقهاء منه ما تجد في عباراتهم وإن تغير بما يشق صون الماء عنه مثل الذي يكون في قراره مثل مياه الآبار التي تكون فيها رائحة الطين ، والطمي والسيول يكون فيها رائحة الطين ، والطمي هذا لا يؤثر ، لأنه قد يقول قائل تغير بطاهر نقول لكنه مما يشق صون الماء عنه وأصبح ماء السيل تجده أصفر بلون الرمال لكن هذا مما يشق صون الماء عنه فهذا تغير لا يؤثر فهذا النوع الثاني وهو الماء الطاهر غير الطهور ، طاهر في نفسه غير مطهر لغيره . ( وإن تغير بما ليس بطهور ) فهمنا من هذه العبارة أن هناك تغير بطهور وتغير بغير طهور والتغير بغير طهور إما بنجس أو طاهر فلما قال بما ليس بطهور هذا القيد يدل على أنه يمكن أن يغير بطهور . مثال ذلك ماء أخذته من بئر فجاء شخص ووضع فيه ثلجاً ، الثلج طهور وليس بنجس واضح ، طهور ويأخذ حكم الطهور ، ولذلك إذا ذاب الثلج جاز أن تتوضأ به ولو وضع فيه برداً فإن البرد من جنس الطهور ما هو مختلف عنه فإذاً لو تغير بهذا الثلج أو بهذا البرد لم يضره هذا التغير ، إذاً لابد وأن يكون المغير طاهراً إذا أردنا أن ننقله من الطهورية إلى الطاهر .(1/105)
إذا تغير بطاهر ، أن يضع هذا الطاهر داخل الماء الطهور فإذا كان هذا الشيء الطاهر يتحلل ويمتزج بالماء أثّر في الماء ، وإن كان الطاهر الذي وضع لا يمتزج ولا يخالط الماء مخالطة امتزاج وإنما يجاوره فلا يؤثر ، مثال الأول مثل أن يضع ورداً ، أو زعفراناً ، أو يضع الفواكه ، أي نوع من أنواع الفواكه لو وضع عصير برتقال مع الماء فأصبح ممتزجاً فإنه يمتزج مع الماء ولو وضع عصير الرمان مع الماء أمتزج مع الماء فهذا الذي وضع وهو الرمان من جنس المأكولات ، البرتقال من جنس المشروبات ، الرمان من جنس المشروبات أو عصير البرتقال من جنس المشروبات أو الورد والزعفران من جنس الطيب فلو وضعت هذه الأشياء وامتزجت بالماء فغيرت لوناً أو طعماً أو رائحة أو غيرت الثلاثة نقلت الماء من الطهور إلى الطاهر فنقول هذا الماء ليس بماء باقي على أصل خلقته فلو أنه وقع على ثوب لم ينجسه فهو طاهر لكنه سلب الطهورية فهو طاهر وليس بطهور ، طاهر في نفسه ولكنه لا يطهر غيره .(1/106)
لو وضع في الماء مالا يمتزج به مثل قطع الكافور ، والكافور طبعاً على ضربين : كافور مسحوق يعني يذر فهذا إذا وقع في الماء أمتزج مع الماء ويؤثر فإذا غير لون الماء أو طعمه أو رائحته أثر فيه . وكافور قطع طبعاً لا تتحلل إلا بعد فترة فإذا لم تتحلل وتمتزج بالماء هذه لا تؤثر ، العود الخشب لو وضعه في الماء شخص عنده سطل يريد أن يغتسل به في صلاة الفجر من جنابة أو نحو ذلك فوقعت فيه خشبه من العود في أول الليل أو أثناء الليل أو جاء طفل ورمى فيه قطع من الكافور الجامدة يعنى غير الذريرة فلما أصبح وجد متحلل شيء من هذا العود أو شيء من هذا الكافور لا يؤثر لأن هذا لا يمتزج ، يسميه العلماء مجاور تغير بالمجاورة التي لا تمازج فإن مازجت وغيرت لوناً أو طعماً أو رائحة أثرت وإلا فلا . إذاً الطاهر إذا كان يمتزج ووضع في الماء وتغير به لوناً أو طعماً أو رائحة أثر ، مثل الورد والزعفران والفواكه ، مثلاً البامية لو أنه وضع بامية أو ملوخية أو نحو ذلك فهذه طاهرة كلها طاهرة ، غيرت لون الماء أو طعمه أو رائحته فحكمنا بأنها سلبت الماء الطهورية .
وأما إذا كانت لا تمتزج بالماء ولا تختلط به فإنها لا تسلبه الطهورية ، ما الدليل على التفريق بين الممازج وغير الممازج وكونه يخالط الماء مخالطة مؤثرة ؟(1/107)
السُّنة : فإن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه )) ، (( لا يبولن )) فذكر البول ولم يذكر الغائط فقالوا : إن الغائط-أكرمكم الله- لا يمتزج بالماء بسهولة وإنما يتأخر لأنه جرم ، ومن هنا فرق بين البول الذي يمتزج بسرعة وبين الغائط الذي لا يمتزج ، والمفهوم معتبر ، النصوص مفاهيمها معتبرة على التفصيل في قاعدة المفاهيم و- أيضاً - وجدنا النبي-- صلى الله عليه وسلم -- يقول في السمن إذا وقعت فيه الفأرة قال-عليه الصلاة والسلام- : (( إن كان جامدا ألقوها وما حولها )) ، فالفأرة نجسة فإذا وقعت في السمن وهو جامد أمرنا -عليه الصلاة والسلام- أن نأخذ ما جاور الفأرة مما ألتصق بها ؛ لأن الغالب أنه يتأثر وأبقى ما بعد عن الأصل من كونه طاهر يباح أكله .
فإذا نظرت في حديث الفأرة وجدت أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- لم يجعل كل شيء مؤثراً ، وفرق في حديث البول وحديث الفأرة بين الجامد والمائع ، وبعبارة أخرى فرق بين ما يمتزج وما لا يمتزج فلا يقول قائل : أن العلماء جاؤوا من عندهم بتفصيلات الممازج والمخالط وغير المخالط . أبداً هذه أشياء مستنبطة من النصوص ولذلك تجد باب أحكام المياه في كتب الحديث يذكرون في حديث : (( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم )) ومن لا يشترط أن يكون الحديث من الصحيحين يذكر حديث الفأرة لماذا ؟ للإشارة إلى هذه الأصول والقواعد التي مرت علينا في باب المياه .(1/108)
فإذاً لابد من التفريق بين ما يمتزج وما لا يمتزج كما دل النقل دل العقل فإننا وجدنا الذي يمتزج فيه قوة في التأثير ونقل الماء من الطهورية إلى الطهارة أو إلى النجاسة فينقل الممتزج من الطاهرات مثل الورد ينقل الماء من الطهورية إلى الطاهر والممتزج من النجاسات مثل البول ينقل الماء من الطهورية إلى النجاسة وغير الممتزج من الطاهرات كالكافور الجامد والدهن غير الممتزج وهو المجاور مثل قطع الكافور وخشب العود هذه غير ممتزجة وهي من الطاهرات وغير الممتزج من الطاهرات مثل قطع الدهن والشحم فإنها لا تمتزج والشحم لا يتحلل في الماء كما هو معلوم ، والزيت لا يتحلل في الماء ، ولذلك الزيت يعتبر بعض العلماء ولو كان نجساً إذا وقع في الماء فنجاسته نجاسة مجاورة لا نجاسة ممازجة لأن الماء لا يمتزج بالزيت كما هو معلوم ولا يمتزج بالسمن وكلا منهما ينفصل عن الآخر ، ومن هنا فرق في المغيرات بين ما يخالط ويؤثر إذا كان ممتزجاً وبين ما يخالط ولا يؤثر إذا لم يكن ممازجاً .(1/109)
قال المصنف-رحمه الله- : [ أو خالطه فغلب على اسمه ] : أو خالط الطهور فغلب على اسمه مثل ورد ، إذا كانت قطرة ورد لم تغير لوناً أو طعماً أو رائحة تقول هذا ماء . لكن لو أن الورد كان كثيراً بحيث أصبح طعم الماء طعم ورد ولون الماء لون الورد رائحة الماء رائحة الورد فإن كان لون الورد ما يختلف عن الماء لكن لو كان أحمر فحينئذٍ يحكم بأن الماء ماء ورد غلب على اسمه ، والله يقول : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } وهذا ليس بماء مطلق لأنه قال : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } . ومن هنا لو حلف أنه لا يحمل الماء فحمل ماء ورد لم يحنث لأنه ليس بالماء المطلق ، وكذلك لو توضأ به فليس بمتوضأ لأنه لم يتوضأ بماء طهور ، إذا تجد العلماء يقولون : أن الماء الطهور هو الخالي عن القيد ، الخالي عن الإضافة ، فإذا نظرت إلى هذا الماء ماء الورد أو ماء البامية أو ماء الباقلاء أو ماء الزعفران هذه مياه مضافة مقيدة والماء الطهور هو الماء المطلق العاري عن قيد وإضافة ، ومن هنا يجوز أن تتوضأ به إذا عرى عن هذا القيد ولا يجوز أن تتوضأ به إذا كان مقيداً . فهنا خالطه فغلب على اسمه وهي الصفة اللازمة كما يذكرها بعض العلماء تقول هذا ماء ورد وهذا ماء باقلاء ، والله لم يأمرنا أن نتوضأ بمياه الورود ولم يأمرنا أن نتوضأ بمياه الباقلاء وإنما أمرنا أن نتوضأ بالماء الطهور فقال : { وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } ، { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ، فجعل الذي يطهر هو الذي بقي على أصل الخلقة حينما قال : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } ، دل على أن الذي يطهر به هو الباقي على أصل خلقته ووصف الباقي على أصل خلقته وهو النازل من السماء بكونه طهوراً ، ومن هنا فرق العلماء بين أن يغلب على الاسم أو لا يغلب على اسمه ، فإن غلب على اسمه بحيث مثل ما أنا أقول خالطه فغيره أو(1/110)
خالطه فغلب على اسمه فكل منهما مؤثر .
قال المصنف-رحمه الله- : [ أو استعمل في رفع حدث ] : [ أو استعمل في رفع حدث ] ، يسلب الماء الطهورية إما بالتغير والغلبة أو حكم الشرع . هنا حكم الشرع في الماء الذي يستعمل في الوضوء أو الماء الذي تستعمله في الغسل ، مثاله شخص مثلاً جاء بطشت فوضعه تحت صنبور الماء وتوضأ وحفظ ماء وضوئه هذه صورة . الصورة الثانية أن يأتي إلى بركة صغيرة فيتوضأ ويترك الماء يتقاطر في نفس البركة أو يأتي إلى سطل ويتوضأ ويجعل الماء يتقاطر في داخل السطل . هذا الماء استعمل في رفع حدث أصغر ما استعمل في رفع حدث أكبر مثل أن يأتي ويملأ - البانيو المعروف - في الحمام فدخل وملأه من الماء فجاء وانغمس فيه ، أو جاء في بركة صغيرة وانغمس فيها ، انغمس فيها من أجل أن يتطهر من الجنابة أو يتطهر مثلاً من جنابة احتلام أو جماع فلما اغتسل رفع الحدث الأكبر وهو الجنابة بهذا الماء .
فالسؤال الآن : هل استعمال الماء في رفع الحدث الأصغر مثل ما ذكرنا في الوضوء أو استعمال الماء في رفع الحدث الأكبر هل يؤثر في هذا الماء ؟ لو جاء شخص بعده يريد أن يتوضأ بهذا السطل أو أنت أردت أن تتوضأ ، توضأت لصلاة الظهر بهذا السطل والماء محفوظ ثم أذن عليك صلاة العصر وأحدثت فأردت أن تتوضأ مرة ثانية بهذا الماء هل يجور أو لا ؟ كذلك لو اغتسلت من الجنابة في أول الليل بهذا البانيو وبقي الماء محفوظاً في البانيو فجاء شخص أخر يريد أن يتطهر به من جنابه ، يرفع به الجنابة أو يسبح في البركة مثل ما سبحت أنت فيها فيرفع حدثه ، أو أنت مرة ثانية أردت أن ترفع حدثاً أكبر من جنابة ثانية هل استعمال الماء في رفع الحدث الأصغر أو الأكبر يؤثر في الماء ويسلبه الطهورية ؟
قولان للعلماء :
القول الأول : قال بعض العلماء : لا يسلبه الطهورية كما هو مذهب المالكية ، وبعض أصحاب الشافعي ، والظاهرية ، وطائفة من أهل الحديث-رحمة الله على الجميع- .(1/111)
القول الثاني : وقال بعضهم يسلبه الطهورية كما هو مذهب الحنفية ، والحنابلة على تفصيل عندهم ، المالكية-رحمة الله عليهم- مع أنهم قالوا : لا يسلبه الطهورية . قالوا : لكن إذا وجد غيره فهو أولى . فقالوا : بالكراهه وكره ماء مستعمل في رفع حدث . وفي غيره ترددٌ هكذا عبارة المختصر فهم يقولون : هو مكروه فإن وجدت غيره فتوضأ بالغير خروجاً من الخلاف .
هذه المسألة بحثناها وتكلمنا عليها في شرح عمدة الأحكام وفي شرح البلوغ وفصلنا فيها المذاهب والأدلة وقلنا إن الصحيح أن الماء المستعمل في رفع الحدث لا يسلبه الطهورية .
أولاً : لقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) ، فإذا توضأت بهذا الماء أو اغتسلت به لرفع حدث أصغر أو أكبر فإنه باقي على أصله ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) .(1/112)
ثانياً : أن هذا الماء لم يتغير أحد أوصافه لأن محل الخلاف أن لا يتغير ، أما لو أنه اغتسل به من الجنابة فتغير لون الماء أو طعم الماء أو رائحة الماء فيسلبه إن تغير بطاهر فطاهر وإن تغير بنجس فنجس . مثلاً جاء واغتسل بالصابون اغتسل به من الجنابة ثم دعك بالصابون ؛ لأن المنبغى إذا اغتسل من الجنابة أن يغتسل أول شيء بماء قراح ماء طهور ثم بعد ذلك إذا أراد أن يضع الصابون يضع الصابون بعد أن ينظف البدن أو يضع الصابون ثم ينظفه ثم يغسل غسلة مستقلة بماء طهور فلو أن هذا الماء اختلط به الصابون فغيره وجها واحداً ، لا يتوضأ به ولا يغتسل . كلامنا إذا اغتسل بماء قراح . فقلنا إن هذا ماء باقي على أصل خلقته والأدلة التي استدلوا بها مثل حديث : (( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري )) ، قالوا : إن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- منع الاغتسال في الماء الدائم لأنه إذا اغتسل منع الغير أن يغتسل منه فمعناه أنه سلبه الطهورية فنقول هذا ضعيف ، لأن المراد به أن لا يفسده على الغير لأن النفوس تشمئز من ماء اغتسل به الغير ولذلك قال : (( وليغترف منه اغترافاً )) ، فدل على أن العلة أن النفوس تشمئز من شيء استعمله الغير . والطب الآن يثبت هذا أن من الأصح للأبدان ومن باب الوقاية من الأمراض الجلدية ومن الأمراض المعدية أن لا يغتسل في داخل الماء وإنما يغتسل من خارج الماء ، وحينئذٍ ليست العلة منحصرة في كونه يرفع الطهورية وإنما هناك علة محتملة وهي أن النفوس تتقذر ، ولذلك قال : (( وليغترف منه اغترافاً )) فلما قال : (( اغترف منه اغترافاً )) ، فهمنا من هذا أنه يؤثر في الماء وأشد من هذا أن بعضهم قال : يحكم بأنه بحكم المتنجس وضعيف جدا ليست بنجاسة حقيقة .(1/113)
ورفع الحدث ليس كرفع الخبث قالوا : إذا رفع به حدثاً كما لو أزال به خبثاً ، والفرق واضح لأن الخبث نجس والحدث ليس بنجس والنبي-- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( إن المؤمن لا ينجس )) ، فهو بحدثه لم يتنجس ، ولذلك نقول أن هذا القول ضعيف والصحيح والراجح أن الماء طهور ، ولذلك النبي-- صلى الله عليه وسلم -- توضأ بمائه ثم صبه على جابر ومما يدل على أنه طاهر وأنه لم يسلب الطهورية ، وأن الصحابة-رضوان الله عليهم- أخذوا ماء النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، وفي الصحيحين من حديث أبي جحيفة وهب ابن عبدالله السوائي-- رضي الله عنه - وأرضاه- في حجة الوداع أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- كان في قبة له حمراء من أدم وقال-- رضي الله عنه -- فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ومن نائب ، كانوا إذا توضأ-عليه الصلاة والسلام- جمُع وضوئه لبركته-عليه الصلاة والسلام- فيأخذون الماء ويتبركون به معجزة من الله-- عز وجل -- لما خص به نبيه لمعنى الرسالة-صلوات الله وسلامه عليه- ، وهذا المعنى الذي فيه-عليه الصلاة والسلام- خاص به لمعنى الرسالة فكانوا يتبركون بمائه فلو كان نجساً كان ما أذن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بتفريقه على الصحابة ، وكذلك لما صبه على جابر لما أصابته الحمى وهذا من معجزاته ، توضأ-عليه الصلاة والسلام- فصب ماء وضوئه على جابر فقام كأن لم يكن به بأس -صلوات ربي وسلامه عليه- .(1/114)
هذا كله يدل على أن استعمال الماء في رفع الحدث لا يسلبه الطهورية . إذا ثبت هذا فقول المصنف [ أو استعمل في رفع حدث ] ، عند الحنابلة أولاً يستعمل في رفع الحدث فخرج ما لو استعمله في تجديد الوضوء فإنه لا يسلبه الطهورية . لو جدد به الوضوء أو اغتسل لغير حدث مثل أن يغتسل من حر لو أنه أصابته الحرارة فجاء واغتسل به يقولون يجوز أن يغتسل به من الجنابة ، نقول : ما الفرق ؟ معناه أنكم تسلمون أن الماء باقي على أصل خلقته ، هل كونه فقط اغتسل به من الحدث يسلبه الطهورية ؟ هذا ضعيف ، ولذلك نقول الماء باقي على أصل خلقته بدليل أنكم تقولون أنه لو اغتسل به لتبرد أو اغتسل به من حرارة أو تنظف أنه لا يسلبه الطهورية ، ولذلك قال : [ استعمل في رفع حدث ] ، ومفهوم الصفات معتبر في المتون ومعناه أنه إذا لم يُستعمل في رفع حدث أنه باقي على أصل الطهورية والصحيح في هذا أنه لا يسلبه الطهورية ، ومن هنا نخرج بالخلاصة أن العبرة بالتغير إن تغير الماء لوناً أو طعماً أو رائحة حكمنا بتأثره ، إن تغير بطاهر فطاهر وإن تغير بنجس فنجس وأما إذا استعمل في رفع حدث أو تغير بغير ممازج هذا كله لا يؤثر .
قال المصنف-رحمه الله- : [ أو استعمل في رفع حدث سلب طهوريته ] : أي سلب ذلك الماء الطهورية ، وبينا أن هذا مرجوح وليس براجح على التفصيل . بعضه راجح بالنسبة لتغير المؤثر وبعضه مرجوح بالنسبة لسلب المستعمل في رفع الحدث والذي لا يمازج الماء .(1/115)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وإذا شك في طهارة الماء أو غيره أو نجاسته بنى على اليقين ] : النوع الثالث وهو الماء النجس دل عليه ضمناً لأنه قال : [ وإن تغير بما ليس بطهور ] ، فشمل الطاهر وشمل النجس . ومن هنا تنظر إلى ذوق المصنف في الاختصار فجمع النوعين والقسمين في هذه الجملة ولم يحتاج أن يقول والنجس هو "كذا وكذا ..." وإنما جاء بعبارة جميلة جداً وهي أنه إذا تغير سواءً بطاهر أو نجس أنه حكم له بما غيره ، ومن هنا نقسم الماء إلى الثلاثة الأقسام : ماء باقي على أصل خلقته ، وماء متغير إما بطاهر فطاهر ، وإما بنجس فنجس .
في هذه الجملة شرع المصنف [ وإن شك ] ، شرع المصنف-رحمه الله- في مسألة الشكوك في طهارة الماء ونجاسته وهي مسألة مهمة تعم بها البلوى وتكثر منها الشكوى ويحتاجها الإنسان خاصة إذا بُلى بالأسباب الموجبة للشك . يحتاجها لنفسه ويحتاجها للفتوى لغيره ومناسبة مسألة الشكوك هذا تسلسل منطقي فهو بعد أن بين لنا الماء الباقي على أصل خلقته والماء المتغير إلى طاهر وإلى نجس شرع في مسألة الشكوك لأنها تندرج تحت التغير لأن الشكوك تأتي هل تغير الماء أم لم يتغير ؟ هل الماء باقي على أصل خلقته أو منتقل عن هذا الأصل ؟ فحينئذٍ لابد من أن نبحث مسألة الشكوك . ذكر لك اليقين فقال : [ إلا ما غير لونه أو طعمه أو رائحته ] ، فعندك دليل واضح على انتقال الماء من الطهورية إلى الطاهر أو النجس بالتغير ، لكن لو شككت .(1/116)
فقال-رحمه الله- : [ وإن شك في طهارة الماء أو غيره ] : وهذه يسمونها إلحاق النظائر فليست هذه المسألة مسألة الشكوك خاصة بالماء وإنما هي أصل عام في الشريعة أن الشيء إذا كان طاهراً وشككت هل أصابته النجاسة أو لا فإنه طاهر حتى تتحقق من إصابة النجاسة وتأثيرها فيه . وهذه رحمة من الله-- سبحانه وتعالى -- بالعباد حيث جعلهم يبنون على اليقين أو غالب الظن وألغى الشك والوهم ، فألغى الشك وهو استواء الاحتمالين وألغى الوهم وهي الظنون الفاسدة الضعيفة .
فإذا أردنا أن نفهم هذه المسألة نمهد بتمهيد نقول : إن علمك بالشيء يأتي على أربعة مراتب :
المرتبة الأولى : إما أن تعلم الشيء جزماً ويقيناً حيث لا يدخلك أي شك فهذه مرتبة علم أعطاها العلماء نسبة مائة بالمائة فمن علم بالشيء على وجهٍ لا يشك فيه أي شك ولا تدخله أي مريه فهذا علم يقيني مائة في المائة ، مثلاً الماء نزل من السماء وحفظته في طشت وأنتهي تقاطر المطر أمامك تقول أنا لا أشك في طهورية هذا الماء وأنه ماء طهور نزل ، دلالة وعلم مستند إلى الحس والمشاهدة . واضح هذا ماء طهور ، إذا كان الماء تنجس وأصابه البول وكُوثر عليه البول ، البول الآن ما تشك في نجاسته لو بال إنسان-أكرمكم الله- وحفظ بوله في إناء أو وعاء يقول لا أشك في نجاسة هذا الإناء ، هذا البول وأنا مائة بالمائة ما عندي شك هذا طهور مقطوع بطهوريته وهذا نجس مقطوع بنجاسته إذا ممكن أن يحصل عندك العلم اليقيني بالنجاسة مائة في المائة ويحصل عندك العلم اليقيني بالطهارة مائة في المائة هذه المرتبة أعلى المراتب مرتبة اليقين .(1/117)
المرتبة الثانية : تحتها مرتبة غلبة الظن ، غلبة الظن أن يكون عندك احتمالان أحدهما أقوى والثاني ضعيف . فغلبة الظن هي الأقوى ومعنى ذلك أن تكون النسبة راجحة ، ولذلك ضبطها العلماء بواحد وخمسين في المائة إلى تسعة وتسعين في المائة فيكون عندك علم بالشيء رجحاناً لا قطعاً وعندك احتمال بسيط ضده . الاحتمال الغالب يسمونه غلبة ظن ويسمونه الظن الراجح ويسمونه الراجح ويسمونه الظن ، كلها أسماء عند العلماء-رحمهم الله- فإذا كان مثلاً عندك سطل من الماء هذا السطل من الماء إغترفته من بئر ، أو أخذته من صنبور الماء ، فأنت وضعته في الغرفة ثم ذهبت ورجعت ، هذا الماء الموجود في السطل ماء طهور وحكمك بطوريته مبني على ماذا ؟ على غلبة الظن لأنك إذا ملأته من الصنبور من صنبور الماء يحتمل الخزان وقعت فيه نجاسة يحتمل أنه وقع فيه شيء مؤثر واضح لكن غالب ظنك أنه محفوظ وأنه ماء طهور وتستند إلى غلبة الظن . استصحاب للأصل ومن أمثلتها لو شخص سألك وقال لك : محمد في الدار ؟ أنت الآن كنت في البيت وسألك قال الوالد موجود في البيت ؟ خرجت لتوك ورأيت الوالد في البيت تقول نعم الوالد موجود في البيت . قولك الوالد موجود في البيت مستند إلى رؤيا وعلم يقيني مشاهدة وحس فتقول موجود في البيت وأنت تجزم بوجوده في البيت مائة في المائة ، لكن لو أنك صليت العصر وتعلم من عادة الوالد بعد صلاة العصر أن يجلس في البيت وسألك شخص وأنت لم تدخل البيت ولم ترى الوالد في البيت ، وقال لك : الوالد موجود في البيت ؟ تقول نعم موجود في البيت ، بناءاً على ماذا ؟ على غالب ظنك أنه بعد صلاة العصر يجلس في البيت . لكن في احتمال أنه يكون خارج البيت هذه يسمونه الظن الغالب الظن الراجح . في هذه الحالة يكون الحكم مثل اليقين ، ولذلك الغالب يُنزل منزلة اليقين وأحكام الشريعة تُناط بالقطع وما في حكم القطع من غالب الظن غالب أحكام الشريعة تبنى ، ولذلك يقولون : الحكم للغالب(1/118)
والنادر لا حكم له .
طيب بالنسبة للشك الذي هو المرتبة الثالثة : من العلم استواء الاحتمالين . من عادة الوالد تارة أن يجلس بعد العصر وتارة لا يجلس فقال لك شخص : الوالد موجود في البيت ؟ تقول أشك . يعني في احتمال أن يكون موجوداً في البيت واحتمال أن لا يكون موجوداً في البيت . هذا كمثال محسوس فهذا يسمونه الشك استواء الاحتمالين فهذا الشك لا يترجح فيه شيء على شيء وهي مرتبة خمسين في المائة فكلا العلمين والظنيين يستند إلى نسبة تعادل وتكافئ الطرف الثاني ما تستطيع أن ترجح فيه أحد الاحتمالين . هذا يسمونه الشك المرتبة الثالثة من علم الشك استواء الاحتمالين .
المرتبة الرابعة والأخيرة : الظن الضعيف الذي كان في مقابل الراجح يسمونه الوهم وهو من واحد في المائة إلى تسع وأربعين في المائة . خمسين في المائة شك ، واحد خمسين ظن أو غلبة ظن ، مائة في المائة قطع ، فأصبح واحد في المائة إلى تسع وأربعين في المائة وهم وهو الظن الضعيف . وهذا الظن الضعيف لا تبنى الشريعة عليه الأحكام يعني ممكن أن يشهد شاهدان عدلان بأن محمد تزوج خديجة فنحكم بالإرث ونحكم بالزواج ونحكم بكل ما يترتب على ثبوت النكاح الشرعي ، لكن ألا يحتمل أن الشاهدين أخطئا ؟ ممكن يحتمل . ألا يحتمل أن الشاهدين زورا الشهادة ؟ ممكن يحتمل بل لو شهد شاهدان أن فلاناً قتل فلاناً عمداً عدواناً فإننا نحكم بوجوب القصاص . لكن على غلبة الظن ويحتمل أنهما أخطئا وزورا لكن لما كانت شهادة الشهود ما يحكم بها إلا بعد تزكية الشهود وغلبة الظن أنهم من أهل الصدق وغلبة الظن أنهم ما عندهم غفلة وعندهم ضبط وتحري فإذا تحرينا عن الشهود حصل عندنا غلبة ظن فضد الغالب الخطأ . هذا يسمونه الظن الفاسد ، وتكلم الإمام العز بن عبد السلام كلاماً نفيساً على إلغاء الشريعة للظنون الفاسدة في كتابه النفيس " قواعد الأحكام ومصالح الأنام " .(1/119)
إذاً عندنا أربعة درجات من العلم : الوهم وهو من واحد في المائة إلى تسع وأربعين في المائة ، الشك خمسين في المائة ، وغلبة الظن من واحد وخمسين إلى تسع وتسعين ، والقطع واليقين ، هذه أربعة مراتب للعلم فالشريعة تتعبد المكلف بالقطع وبغلبة الظن لكن الشكوك هذه تلغيها وتسقطها وتوجب له الرجوع إلى الأصل فلما قال المصنف : [ وإذا شك في طهارة الماء وغيره بنى على الأصل ] ، يعني استوى عنده الاحتمال . يحتمل أن الماء تنجس ويحتمل أنه لم يتنجس بنى على اليقين إذا كان الماء طهور بنى على أنه طهور حتى يتحقق أنه نجس . هذه مسألة الشكوك ترد أكثر ما ترد على مذهب الشافعية ، والحنابلة لأن عندهم مادون القلتين يتنجس بمجرد ملاقاة النجاسة فما عندهم علامة ظاهرة تفرق واضح هذا ؛ لكن على مذهب المالكية وما رجحناه والظاهرية واختيار شيخ الإسلام وطائفة من العلماء عندك دلائل واضحة لأن الماء تحكم بكونه تنجس بدليل وجود الطعم أو الرائحة للنجاسة وتحكم ببقائه على الأصل من كونه طهوراً إذا لم يتغير . ما عندك إشكال حتى مسألة اختلاط الطهور بالطاهر كما سيأتي واختلاط الطهور بالنجس - كما سيأتي فما بعد إن شاء الله - .
فإذا الأصل عندنا أنه إذا استوى الاحتمالان رجعنا إلى الأصل . المصنف ذكر مسألتين : [ شك في طهارة الماء وغيره ] ، بناءاً على ذلك لو كان عنده سطل ، وجاء صبي وبال-أكرمكم الله- بجوار السطل ليس في داخل السطل ، وتعلمون أن السطل دون القلتين فلو طارت فيه قطرة من قطرات البول نجسته على مذهب المصنف ، فشك صاحب السطل هل وقع البول في السطل أو لم يقع ؟ شك لأنه بال ، يحتمل أنه وقع منه قطرة أو لا يحتمل لأنه بجوار السطل فنقول أبق على اليقين . اليقين أنه طهور ولو لم تقع فيه نجاسة حتى تتحقق أو يغلب على ظنك أنه قد وقعت قطرة البول فإذا لم يتحقق ولم يغلب عليه الظن وقوع النجاسة فهو طهور وباقي على أصل الطهورية .(1/120)
طيب العكس لو كان عنده ثوب وهذا الثوب يعلم علم اليقين أنه أصابه بول فهو نجس ثوب متنجس ثم ترك الثوب بعد يوم أو يومين شك هل غسل الثوب بعد النجاسة فهو طاهر أو لم يغسله بعد أن أصابته النجاسة فهو نجس فحينئذٍ شك هل هو طاهر أو نجس ؟ الثوب يبنى على ماذا ؟ على اليقين أنه نجس . لأنه متأكد أنه نجس وشك في غسله وتطهيره بعد نجاسته فنقول تبقي على اليقين . موضع السجادة التي يصلي عليها سجادة نظيفة وطاهرة جاؤوا أطفال يلعبون حولها وحصلت منهم نجاسة شك هل هذه النجاسة أصابت السجادة أو لم تصبها ؟ ما في دليل ظاهر فحينئذٍ نقول يحتمل أنها أصابت واحتمال أنها ما أصابت ، نقول السجادة طاهرة حتى يتحقق أنه أصابها البول . فلو رأى الصبي يبول على سجادته ثم ترك السجادة وفجأة بعد خمسة أيام ، ستة أيام جاء شخص وعطر السجادة حتى تذهب رائحة البول وضع عليها طيباً أو عطراً لأنه يمكن يميزها برائحة البول أو مثلاً بقية السجادة سنة أو شهراً وهي في الشمس حتى تبخرت رائحة النجاسة لكن شك هل غسل السجادة بعد بول الصبي فهي طاهرة أو لم يغسلها ؟ بنى على ماذا على أنها نجسة لأن اليقين عنده أنها نجسة والشك أنه طهرها . فنقول ألغى الشك وابني على اليقين وقس على هذا من المسائل مالا يحصى . رحمة من الله-- عز وجل -- إذا شك في طهارة الماء أو غيره مثلاً لو جاءه شخص بطعام ، جاءه بصحن من طعام ووضع الصحن ثم قام يغسل يده وشك في حيوان نجس أو شيء أنه لعق من هذا الطعام أو أصاب الطعام ، يبنى على ماذا ؟ على أنه طاهر وأنه لم يصبه حتى يتحقق من إصابته ذلك الشيء النجس أو تأثيره في الطاهر . والعكس فلو تحقق من النجاسة وشك في الطهارة بنى على النجاسة حتى يتحقق الطهارة .(1/121)
قال-رحمه الله- : [ وإذا شك في طهارة الماء وغيره (وهذا يدل على أن هذه القاعدة ليست خاصة بالمياه) [ بنى على اليقين ] ، اليقين الذي هو الأصل سواء كان اليقين نجاسة أو طهارة ما الدليل على هذا ؟ الدليل على هذا أن الشريعة أبقت الأصل وألغت العارضة للشكوك ، ولذلك جميع أصول الشريعة على هذا أنها تعتبر الأصل وتلغي الشك ، ومن هنا نجد مثلاً في العبادات بنت الشريعة على اليقين وألغت الشك .
سُئل الرسول-- صلى الله عليه وسلم -- عن الماء وما ينوبه من السباع لأن السباع تعرفون تأكل الميتات وهذا يدل على نجاسة الميت لأنه لو كانت السباع لا تؤثر كان قال النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ما تؤثر السباع أصلاً . واضح هذا ، وهذا فيه رد على من يقول أن الميتات ليست نجسة لأن السبع قيل نجس عينا يؤثر في سُؤره ، وأيضاً كونه يغتذي بالنجاسات وهي الميتات لأنه يفترس الميتة ويأكلها بغير ذكاة ، فهو يأكل الميتات فلما سُئل-عليه الصلاة والسلام- عن الماء وما ينوبه من السباع قال : (( إن الماء طهور )) ، فأبقى اليقين وألغى الشك . وسُئل عن بئر بضاعة وما يُلقى فيه من حيض النتن ، أنتم تعلمون سؤال بئر بضاعة ، بئر بضاعة كان قريب من المسجد وهو إلى الآن في الجهة الشمالية إلى الغربية من مسجد النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذا البئر كانوا يستقون منه للمدينة ، يعني يذهبون يستقون ، كان الماء يجلب من الآبار ، فيلقى فيه الحيض والنتن ، إما أن الرياح ، تعرفون كان في العراء لأنه كان خارج المدينة ، فتتحرك الرياح بفضلات الناس فتلقي فيه الحيض والنتن ، أو كما يقول البعض ، بعض العلماء يعتذر بهذا يقول : أن المؤمنون لا يبقون الحيض في الآبار وإنما اليهود والمنافقون يؤذونهم ، كانوا يؤذون النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ويؤذون الصحابة-رضوان الله عليهم- ، ولذلك كانت أمهات المؤمنين لما يخرجن إلى المناصع لجهة البقيع لقضاء الحاجة كان كعب ابن أشرف يؤذيهن(1/122)
. فهم يؤذون النبي-- صلى الله عليه وسلم -- والصحابة ، حتى أمر-- صلى الله عليه وسلم -- بقتل كعب ابن أشرف لما فعل هذا بأذيته لأمهات المؤمنين وأذيته لعرض النبي-- صلى الله عليه وسلم -- .
فالشاهد أنه قال : يلقى فيها الحيض والنتن ، فأنتم تعلمون بداهة أن كل إنسان عاقل لو جاء إلى بئر ووجد النجاسة فيه لا يشرب من هذا البئر فلا يشك أحد أن بئر بضاعة تغير مائه بالنتن والقذر ، ليس هناك أحد يأخذ هذا القذر هذا أمر معلوم بداهة وإنما شكوا أنه تتحرك الرياح فتلقي هذا النتن ، فهل هذا يؤثر في أصل الماء فقال -عليه الصلاة والسلام- : (( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )) ، يعني مادام أن الماء باقي على أصل خلقته فابنوا على اليقين وألغوا الشك من كون هذا الدم النجس يؤثر في الماء هذان الدليلان طبعاً وهناك أدلة كثيرة على هذه .(1/123)
هناك قاعدة قررها العلماء وأجمعوا عليها وهي إحدى القواعد الفقهية الخمس التي قام عليها الفقه الإسلامي ، " الأمور بمقاصدها " ، " اليقين لا يزال بالشك " ، " الضرر يزال " ، " المشقة تجلب التيسير " ، " العادة مُحكَّمة " ، هذه خمس قواعد قام عليها الفقه الإسلامي ومنها قاعدتنا " اليقين لا يزال بالشك " وهذه القاعدة يقول بعض العلماء فيها مالا يقل عن مائة دليل من الكتاب والسُّنة على قاعدة " اليقين لا يزال بالشك " ، ومنها في الصلاة وفي الزكاة وفي الصوم وفي الحج في شرائع الإسلام بل حتى في الجنايات وفي المعاملات ، في الطواف لو طاف وشك هل ثلاثة أشواط أو أربعة بنى على ثلاث ولو شك هل سعى أربعة أشواط أو خمس بنى على أربعة ، اليقين ويلغي الشك ، كذلك أيضاً في الجنايات في الديون في القروض ، لو شخص استدان من شخص مائة ريال وبعد ذلك قال : أنا قضيتك والله أشك أني قد أعطيتك ، نقول اليقين أنك ما أعطيته حتى تتحقق أنك رددت إليه مادمت أنك تعترف أنك أن أخذت منه ، وهكذا لو شخص اتهم شخص بتهمة نقول : اليقين أنه بريء منها حتى تثبت { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، هذا كله إعمال لليقين وإلغاء للشك { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } ، فكل شيء خرج عن الأصل مطالب صاحبه بالدليل . فهنا إذا شك في طهارة الماء أو غيره بنى على اليقين فالأصل عندنا إعمال اليقين وإلغاء الشكوك وعدم الالتفات إليها وهذا من رحمة الله-- عز وجل -- ولطفه بعباده . ذكر أدلة هذه القاعدة ووجها ونظائرها وفروعها كلا من الإمام السبكى وكذلك الإمام السيوطي والإمام ابن نجيم-رحمهم الله- من الأئمة في كتبهم ، ذكرها السبكي في الأشباه في قواعده ، وكذلك السيوطي في الأشباه في قواعده ، وابن نجيم في الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الحنفية-رحمة الله على الجميع- ، بنى على اليقين أي حكم باليقين طهارة أو نجاسة .(1/124)
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
هل مجالس مدارسة المسائل العلمية والمحاضرات تدخل في الحديث أنه تتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة ؟
الجواب :
بسم الله ، الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أمابعد :
الأحاديث الخاصة تبقى على خصوصها ، والأحاديث العامة تبقى على عمومها ، فالحديث يقول : (( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده )) ، فقال : (( ما اجتمع )) ، فخرج الانفراد ، ولاحظ (( اجتمع )) حتى كان بعض مشايخنا في حلق العلم يكره للشخص أن ينفرد بعيد عن الحلقة ، البعض يأتي إلى الحلقة فيجلس بعيداً ، لأنه قال : (( اجتمع )) ، ليس من الجماعة لأن الاجتماع الانضمام ، انضمام الشيء إلى الشيء ، فالحديث يشترط أول شيء الاجتماع ، (( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله )) الذي هو المسجد { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } ، وسميت بيوت الله لأنها سبلت له { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } ، وأوقفت له-- سبحانه وتعالى -- (( ويتلون كتاب الله )) ، الشرط الثاني (( ويتدارسونه بينهم )) ، وهي العلوم الدينية الشرعية المستنبطة من الكتاب والسُّنة ، فلو جلسوا لدارسة المنطق ، أو الصفصطة ، أو الجدل ، أو العلوم المحرمة ، أو العلوم الدنيوية ، لا يدخل في هذا لأنه قال : (( اجتمع قوم في بيت من بيوت الله )) ، اجتمعوا في بيت من بيوت الله (( يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم )) ، فلو جلسوا في بيت من بيوت الله دون أن يجتمعوا ، كل شخص أخذ كتاباً ، واحد أخذ القرآن ، واحد أخذ التفسير ، وتفرقوا ، ما يشملهم الحديث ، لأنه قال : (( ما اجتمع )) ، وهذا يدل على أنهم مجتمعون لا مفترقون ، وأنهم يتدارسون ويتذاكرون ، فلو اجتمعوا لمذاكرة أي شيء من كتاب الله وسنة(1/125)
النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في محاضرة ، أو درس علم أو درس تفسير ، أو درس فقه ، وكان هذا على إنسان أهل أن يُعلم ، أما أن يكفر سواد الجهال ، ويغرر بالجهال فقد قرر العلماء أنه من جلس عند جاهل ، أو من يعلم بأنه ليس بأهل للعلم فعليه مثل وزره ، لأنه شارك وأعان وكثر سواده على الباطل ، فلا يجلس إلا مع من يوثق بدينه وعلمه ويكون هذا العلم علماً شرعياً ، ويجتمع فيه لوجه الله وابتغاء مرضاة الله يحصل فيه هذا الفضل ، أما لو اجتمعوا في البيوت فهذا لا شك أنه له فضل آخر ، فإن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- لما مر على الصحابة وهم جلوس يتذاكرون نعمة الإسلام ، قال-عليه الصلاة والسلام- : (( ما الذي أجلسكم ؟ )) ، قالوا : - يا رسول الله - ذكرنا نعمة الله علينا بالإسلام وما هدانا ، فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ )) ، قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : (( آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ )) ، قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذلك ، قال : (( آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ )) قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذلك ، فقال : (( أما إني لم أستحلفكم ربية فيكم ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم ملائكته )) ، وفي الحديث (( وجبت محبتي للمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ والمتحابين فيّ )) ، فالجلوس للنصائح وللذكر، وللمحبة في الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كله من الجلوس لله وفي الله ، فإذا جلس طلاب العلم ، أو جلس الأخيار أو الصالحون يوصي بعضهم بضعاً بالخير ، ويثبت بعضهم بعضاً على الحق ، لا شك أن هذا كله له فضله وهو الفضل النسبي ، وأما الفضل المخصوص فإنه يقيد بالوارد ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثاني :
هل يجزئ غسل الجمعة عن الوضوء ؟
الجواب :(1/126)
إذا اغتسل للجمعة ونوى اندراج الوضوء أجزائه ، لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- كان يغتسل غسل الفرض ولا يتوضأ بعده كما في حديث عائشة-رضي الله عنها- ، ومن هنا إذا كان الغسل عن واجب أجزأ عن الوضوء ، وأما إذا كان غسل نظافة ولم ينوى الوضوء ، ولم يراعى الترتيب فيه فإنه لا يجزئه ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثالث :
إذا كان الماء الطاهر غير الطهور لا يرفع الحدث فهل يزيل النجاسة أم أنه لا تفريق بين الأمرين ؟
الجواب :
الإزالة إزالة الخبث ، بعض العلماء يفرق بين إزالة الخبث وارتفاع الحدث ، والأصل يقتضي عدم التفريق ، لأن الكل طهارة ، ومذهب بعض العلماء أنه تزال به النجاسة كما تزال بسائر الطهارات ، كما لو أزيلت بالحجر ، وأزيلت بالمزيل كالمناديل ونحوها ، والذي يظهر من حيث الدليل أن الأصل في الماء لا يكون مزيلاً لخبث ، ولا رافع لحدث إلا إذا كان طهوراً ، لأن هذا هو الأصل ، وقد وصف الله-- عز وجل -- الماء المطهر بأنه هو الباقي على أصل خلقته ، فيختص الماء بهذا ولا يعترض عليه بما ذكر من الجامدات ، لأن الجامد له حكم غير المائع .
والدليل على ذلك : أنه إذا غسل الدبر مثلاً بالماء لزمه أن يغسل حتى يزيل عين النجاسة ، ولكن إذا استجمر بالحجر تبقي حلقة الدبر وعليها النجاسة ، وهذا يدل على أن الأولى أصل مشدد فيه ، والثاني فرع مخفف فيه ، وهذا الفقه أن ينظر لكل أصل بحسبه ، ويُعطي حقه ، ويُعمل أصله ، وبناءاً على ذلك تبقى طهارة الماء بالطهور في الحدث والخبث ، ومن فرق فهو مطالب بالدليل ولا دليل يفرق بين إزالة الخبث ورفع الحدث وهذا ألزم للأصل ، والله - تعالى - أعلم .
السؤال الثالث :
أنا مدرس أدرس في منطقة الحناكية وفي كل يوم أذهب وأعود، فهل يجوز لي قصر الصلاة علماً أنني أصلي صلاة الظهر في العاقول ؟
الجواب :(1/127)
أولاً : أهنئك بهذا الفضل الخروج لأبناء المسلمين لتعليمهم العلم النافع خاصة الشرعي ، قربة عظيمة ، وأجر كبير لمن احتسبه ، ولا تخرج من بيتك وإلا وعندك نية ، فإنك إن خرجت بهذا النية الصالحة كتب الله لك أجرك إلى أن تعود وأنت في ثواب الله-- عز وجل -- ، فلو حدث للإنسان حادث أو أصيب ببلاء كتب له أجره لأنه على طاعة ، فهذا لابد أن ينوى إذا خرج خاصة إذا عّلم القرآن ، وعّلم الخير ، وعّلم العلوم المقربة إلى الله-- سبحانه وتعالى -- وهي العلوم الشرعية ، وبناءً على ذلك بالنسبة للسؤال مسافة الحناكية مسافة سفر، أنها فوق السبعين كيلو ، ولذلك تستبيح رخص السفر في هذا السفر وهذا الخروج ، يجوز لك الجمع ، ويجوز لك القصر ، الجمع على خلاف وتفصيل عند العلماء-رحمهم الله- ، لكن لا يجوز لك أن تجمع الظهر مع العصر إلا إذا كان وصولك إلى المدينة بعد آذان العصر، حتى تبقى صفة السفر إلى دخول وقت العصر ، فإن كنت من الحناكية أو غيرها تصل المدينة قبل آذان العصر لو بدقائق لا يجوز لك القصر والجمع ، لأنها تجب عليك الصلاة أربعة ركعات ولا تجب ركعتين ، لأنه يؤذن عليك آذان العصر حضراً ولم يؤذن عليك سفراً ، ولذلك تُلزم بالأربعة والاثنتان لا تجزئ عن الأربعة ، وأما بالنسبة للصلاة تصلي ركعتين تصلي الظهر في العاقول ركعتين لأن العاقول من خارج المدينة وليس من داخلها ، وهو من براز المدينة وليس من داخلها ، فمن سافر وقبل المدينة ولو بنصف كيلو ، أو حتى متر واحد صلى الصلاة السفرية قبل دخوله في وقتها ، صلاها قصراً ، ولا يجب عليه إتمامها ، وأما إذا أخر إلى أن دخل المدينة فإنه يتمها ويصلها أربعاً .
- نسأل الله العظيم أن يرزقني الإخلاص في القول والعمل - .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تابع باب المياه(1/128)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وإن خفي موضع النجاسة من الثوب أو غيره ، غسل ما تيقن به غسلها ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد شرع المصنف-رحمه الله- في الأحكام المتعلقة بإزالة النجاسة ، والأصل يقتضي أن المسلم يراعي طهارة الثوب والبدن والمكان ، وذلك لأن الله-- سبحانه وتعالى - - أمر بطهارة كل منها ، فقال-- سبحانه وتعالى - - : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } ، فعلى أحد الأقوال في تفسير هذه الآية الكريمة أن المراد بها أن المصلي لا يصلي إلا في ثياب طاهرة ، لأن الأمر بها جاء مرتباً على الأمر بالتكبير للصلاة ، وبناءً على ذلك أخذ العلماء منها دليلاً على وجوب طهارة الثوب ، وكذلك - أيضاً - يجب عليه أن يطهر المكان الذي يصلي فيه ، ويجب عليه أن يطهر بدنه من النجاسة .
في الواقع ليس مقصود المصنف هنا أن يبين أحكام تطهير الثوب والمكان ، الثوب والبدن والمكان، لأن هذا سيتكلم عليه في شروط صحة الصلاة ، وإنما أدخل هذه المسألة المشتملة على الجانبين :
الأول : لزوم الطهارة .
وثانياً : حكم الاشتباه في موضع النجاسة .
أما لزوم الطهارة - فسيأتي إن شاء الله تفصيله في الشرط في شروط الصلاة - .
وأما بالنسبة لمسائل إذا خفي موضع النجاسة ، فمناسبتها لما تقدم معنا أنه بعد أن بيَّن أن الأصل في المسلم أن يبني على اليقين .(1/129)
في قوله-رحمه الله- : [ وإن شك في طهارة الماء و غيره بنى على ما تيقن ] : بعد ما بين هذا ناسب أن يذكر مسائل الشكوك والشبه ، فبين أنه إذا كان الإنسان متحققاً من إصابة النجاسة لشيء ، إما في بدنه أو في المكان الذي يصلي فيه أو في الثوب الذي يصلي فيه ، فالواجب أن يغسل القدر الذي يتيقن بغسله أنه قد أصاب النجاسة ، مثال ذلك لو أنه مر على نجاسة وتحقق أنها إصابة ثوبه ، ولكنه لا يعلم المكان الذي إصابة ، فحينئذٍ نقول له : أرأيت لو غسلت هذا القدر من أسفل الثوب الذي هو مثلاً ربع الثوب ، قال إذا غسلت الربع فأنا متيقن أن النجاسة لم تجاوز الربع ، نقول يجب عليك غسل الربع ، لو قال أشك أنها فوق الربع ، نقول ما رأيك في الثلث ، يقول : إذا غسلت الثلث تيقنت أنني قد أصبت الموضع الذي فيه النجاسة ، شرط المسألة أن يتحقق من وجود النجاسة ، بخلاف المسألة الماضية ، شك في طهارة الماء وغيره ، هنا تحقق أن النجاسة إصابة ، لكن جاء الشك والنقص والعور جاء من جهة عدم معرفة موضع النجاسة ، فخفي عليه موضع النجاسة يعني لا يستطيع أن يحدد الموضع الذي إصابة النجاسة من الثوب ، فنقول له اغسل القدر الذي إذا غسلته تحققت أنه قد أصاب النجاسة ، فهذا ما أشار إليه بقوله : [ غسل ما تيقن به غسلها ] يعنى غسل من الثوب والمكان والبدن ما يتيقن أنه قد استوعب فيه النجاسة .(1/130)
بالنسبة للبدن ، هذا في الثوب مثاله في الثوب واضح ، مثاله في البدن لو مر على موضع نجس وتأكد أنه تطاير عليه قطرات من هذه النجاسة على قدمه ، لكن لا يدري هل مقدمة القدم أو وسط القدم أو العقب آخر القدم ، نقول له اغسل القدم كاملة ، فإذا غسل القدم كاملة تحقق أنه قد غسل النجاسة ، كذلك لو أنه قال : أنا متيقن أنها إصابة ساقي ، ولكن لا أدري هل هي في أسفل الساق في وسط الساق في أعلى الساق ، نقول اغسل الساق كاملة ، فإن قال أنا متحقق أنها إما في أسفل الساق أو في منتصف الساق ، لكنها لم تجاوز المنتصف ، نقول اغسل نصف الساق ، هذا مثاله في البدن ، لو لمس بيده شيءً ويعلم أنه نجس ، لكن خفي عليه ما الذي أصابه هذا الشيء ، فيُحكم بنجاسته من يده ، فنقول مثلاً أمسكه بأصابعه ، نقول اغسل أصابعك كلها ، إذا قال أنا متحقق أن النجاسة لم تجاوز الأنملة الأولى من كل أصبع ، نقول تغسل الأنامل الأول من الخمسة الأصابع ، غسل ما تيقن به أنه أصاب موضع النجاسة ، هذا بالنسبة للبدن .
بالنسبة للمكان الذي يصلي فيه لو إصابة النجاسة السجادة ، تطاير بول أو مثلاً جاء شخص وبال على السجادة لكن ما استطاع أن يميز موضع النجاسة ، نقول له حدد الجهة ، قال نعم الجهة مثلاً اليمنى من البساط ، الموضع الذي إصابة النجاسة نقول له مثلاً الربع من اليمين ، يقول إذا غسلت الربع تحققت أني قد غسلتها ، نقول له ثُمْن السجادة ، نصف السجادة المهم يقدر قدراً بحيث إذا قال به قطع بأنه قد غسل النجاسة كلها، غسل ما تيقن به غسل أو إصابة النجاسة .(1/131)
إذاً المسألة أنه يبنى على الأصل من تحقق من إصابة النجاسة لأنه لو لم يغسل هذا القدر فهو متحقق أن النجاسة موجودة ، وحينئذٍ لا يجوز له أن يصلي وبدنه عليه نجاسة متأكد من أنها موجودة فيه ولا على ثوبه ولا على المكان الذي يصلي فيه ، وهذا الحكم يعني يقول به جماهير العلماء-رحمهم الله- ، لكن محل المسألة إذا خفي ، لكن إذا استطاع أن يميز وأن يحدد مكان النجاسة بالشم بالنظر باللون لون النجاسة ، هذا لا إشكال فيه فالمسألة أن خفي ، فالبعض يستدرك على الفقهاء في مسائل الشكوك ، يعني يقول عليه أن يتحرى الصواب ، هم يقولون إذا خفي ويقولون إذا اشتبه ، معناه أنه ما في مجال للتحري ، فينبغي أن ينُتبه لمصطلحات العلماء ، العلماء إذا قالوا إذا شك معناه أنه استوى عنده الاحتمالان دون ترجيح من أحدهما أو لأحدهما ، وإذا قالوا : إن خفي معناه أنه صعب التمييز ، أما إذا أمكن التمييز فلا إشكال لأنها لا تعتبر المسألة مشكلة ، لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك فهو يستطيع أن يصل إلى موضع النجاسة ويعلم ، فيتعبد الله-- عز وجل -- بغسل ذلك الموضع دون ما زاد عنه .(1/132)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وإن اشتبه ماء طهور بنجس ولم يجد غيرهما تيمم وتركهما] [ وإن اشتبه ماء طهور بنجس ] ، هذه أيضاً من مسائل الشكوك ، اشتبه الشيء يشبه الشيء إذا كانت فيه مثل صفاته ، ولا يحكم بالاشتباه إلا عند تماثل الصفات ، وتقاربها بحيث يصعب التمييز ، فاشتبه ماء طهور بنجس ، يلاحظ أن هذه المسألة أكثر ما ترد على مذهب الشافعية ومذهب الحنابلة ، الذين يقولون بأن مادون القلتين ينجس بملاقاة النجاسة ، لكن على مذهب من يقول إن العبرة بالتغير فإنه لا إشكال يعرف النجس بطعمه ولونه ورائحته ، فاشتبه ماء طهور بنجس ، لو كان عنده سطلان سطل يجزم بأنه طهور ، إغترفه من بئر أو نهر ، وسطل يجزم بأنه نجس ، خاصة على مذهب المصنف دون القلتين ونزلت فيه قطرة ولم يمكن تميزه ، السطلان اشتبها ما أمكن التمييز ، ولا يستطيع أن يعرف الطهور من النجس ، فهذه المسألة اختار جمع من العلماء-رحمهم الله- على ما درج عليه المصنف أنه يترك الإثنين ، فلا يتوضأ لا بهذا ولا بهذا ، وإذا لم يجد غيرهما تيمم ؛ والسبب في هذا أنه على يقين أن النجاسة في أحد السطلين ، وحينئذٍ لو قلنا له اختر أيهما وتوضأ فلا يأمن أن يكون متوضئ بنجس ، ولا يزيده إلا بعداً عن الصلاة ومنعاً منها ، فهو لو بقي بدون نجاسة أفضل من أن ينجس نفسه ، ولا يمكن أن نقول له توضأ بأحدهما لأننا لم يغلب على ظننا أنه توضأ كما أمره الله ، ولم يغلب على ظننا أنه متطهر ، لأنه الاحتمال موجود لا يمكن أن نجزم بأنه توضأ بماء طهور والله تعبده بالصلاة إذا توضأ بماء طهور ، فإذاً لا نستطيع أن نصحح صلاته .
إذاً الخيار الأول : أن نقول له اختر واحدا منهما وتوضأ .
الخيار الثاني : أن نقول له توضأ من أحدهما ثم صلِّ ، ثم توضأ من الثاني وصلِّ ، وحينئذٍ سيقع على أحد وجهين :(1/133)
إما أن يتوضأ ويصيب النجس أولاً وحينئذ يقع في محظور الصلاة بغير طهارة ، ويستبيح الصلاة ولا يجوز للإنسان أن يستبيح الصلاة بغير طهارة .
ثانياً : أنه إذا توضأ بالنجس أولاً ثم توضأ بعده بالطهور فالطهور لا يرفع الحدث ، لأنه علقت به النجاسة ، فصار الوضوء الثاني يزيل النجاسة ، وقد لا يزيلها من كل وجه ، لأنه يحتاج في غسلة النجاسة إلى ثلاث غسلات خاصة على ما اختاره المصنف ، هذا إذا سبق النجس الطهور ، وإذا العكس أراد الله-- عز وجل -- ووقع الطهور أولاً تطهر بالطهور أولاً ثم بالنجس بعده فإنه يبقي على نجاسة ، وهذا يضره لا شك أنه يضره ويؤذيه من ناحية شرعية ومن ناحية عادية ، فلا يزيده إلا نجاسة وحينئذٍ يتضرر في ما يستقبل من الصلوات ، ويستبيح الصلاة لغير طهارة ، فحينئذٍ يقولون الماء موجود حقيقة ، مفقود حكماً ، هو الماء موجود لكنه مفقود حكماً ، لأنه ثبت في نص الشرعِ أن المريض لا يجب عليه أن يتوضأ ولا أن يغتسل إذا تضرر بالماء ، فهذا عجز طبيعي جبلي ، وإذا كان مشتبها في الإناءين فهذا عجز شرعي ، فكما أنه إذا كان عاجزاً عن استعمال الماء يتركهما مع وجودهما وقدرنا عدم وجودهما حكما ، لما ذكرنا لوجود المرض ، كذلك - أيضاً - عند وجود شبهة النجاسة نقدر عدم وجودهما للعذر الشرعي ، فكما أن العذر الطبيعي من مرض وغيره يمنع من الوضوء والطهارة كذلك أيضاً العذر الشرعي ، وبناءً على ذلك قال : [ تيمم ] إذا لم يجد غيرهما [ تيمم وتركهما ] ترك السطلين وتيمم .(1/134)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من كل واحد منهما ] : [ وإن اشتبه طهور بطاهر ] عنده ماءان سطلان سطل فيه ماء طهور وسطل فيه ماء طاهر ، وذكرنا أن الماء الطاهر طاهر في نفسه غير مطهر لغيره ، فحينئذٍ إذا لم يمكنه التمييز بنفس الضابط الذي ذكرناه ، نقول له توضأ مرتين ، مرة من هذا السطل ومرة من هذا السطل ، فإنك إن توضأت تحققنا أنه قد ارتفع حدثك ، لأنه إما أن يكون متوضئ بالطهور أولاً أو متوضئ به ثانياً وهو لا يصلى إلا بعد أن يتوضأ منهما ، فقه المسألة كلها تدور حول القاعدة الأصلية تلك ، التي هي : " اليقين لا يزال بالشك " ، أن العلماء وضعوا هذا الضابط ، دلت نصوص الكتاب والسُّنة على هذه القاعدة ثم طبقوها على الفروع ، فقالوا هذا مسلم مطالب أن يصلي بطهارة كاملة ، فلايجوز أن نأمره في المسألة الأولى أن يصلي وهو لا يتحقق من الطهارة .
وفي المسألة الثانية نأمره بالوضوء مرتين طلباً لأصل الشرع ، لأنه لا يمكن أن نجزم بأنه متطهر إلا إذا توضأ من الإثنين بحيث يتحقق أنه قد توضأ من ماء طهور ، وحينئذٍ نلزمه بهما ، وإذا توضأ بهما ليس كالنجس ، النجس ينجس البدن، لكن الطاهر ما ينجس البدن بل يزيده طهارة ونقاء ، وحينئذٍ يلزم بالوضوء من هذا والوضوء من هذا ويصلي مرة ، البعض يخطي يقول يصلي مرتين ، لا يصلي مرة واحدة لا يصلي مرتين ، لأنه لابد إذا صلى مرتين طبعاً ما في دليل على إلزامه بتكرار الصلاة ، ونهى النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أن تعاد الصلاة مرتين .
وثانياً : أن العبرة أن يتحقق من الطهارة وليست القضية الصلاة ، ولذلك لو صلى مرتين تحققنا أنه استباح الصلاة بدون وضوء في إحدى المرتين ، ولذلك يلزم أن يتوضأ مرتين مرة من هذا السطل ومرة من هذا السطل ، ثم يصلى مرة واحدة .(1/135)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وإن اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة صلى في كل ثوب بعدد النجس وزاد صلاة ] [ إن اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة ] : رجل عنده ثياب متيقن أنها إصابة النجاسة ، وثياب متيقن أنها طاهرة ، نبدأ بالعدد القليل عنده ثوبان ، أحدهما يجزم أنه طاهر ، والثاني يجزم أنه نجس ، ولكنه لا يستطيع أن يميز قال : اشتبه ، [ اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة ] ، يعني أصبح كل منها يشبه الآخر لكن لو أمكنه التمييز بحيث يعلم أن الثوب الذي فيه نجاسة فيه قطرات من بول صفراء في موضع معين يمكن تميزها لا إشكال ، كل الإشكال إذا اشتبه ، بحيث تعذر التمييز وتعذر معرفة الطاهر من النجس ، في هذه الحالة نقول يصلي بعدد النجس ، هما ثوبان فالأصل الذي سرنا عليه إذا خفي موضع النجاسة ، إذا اشتبه طهور بنجس ، وهو أن نفعل فعل نتأكد معه من إبراء الذمة والقيام بحق الله كما أُمر ، لو كان هناك ثوبان أحدهما نجس والثاني طاهر فلا نتحقق أنه أبرأ ذمته إلا إذا صلى صلاتين في كل ثوب .
[ صلى بعدد النجس وزاد صلاة ] : لأنه لو صلى بعدد النجس يعني صلى في ثوب واحد احتمل أنه صلى في الثوب النجس، وحينئذٍ إذا صلى في ثوب لا يدري أهو الطاهر أو النجس لم يبرئ ذمته ، أو لا نستطيع أن نحكم ببراءة ذمته على الوجه المعتبر ، يعني بين أمرين يحتمل أن صلاته صحيحة ويحتمل أن صلاته غير صحيحة ، لأنه لا تصح الصلاة في الثوب النجس ، فنحن ملزمون أن نأمره بما أمر الله-- عز وجل -- به ، وهو أن يأخذ بالسبب الذي يتحقق ويغلب على ظنه معه أنه قد أبرأ ذمته فصلى كما أمره الله ، فنقول له صلِّ بعدد النجس وزد صلاة واحدة ، لأنه لا يمكننا أن نتحقق أنه قد صلى كما أمره الله إلا بهذا ، فإن كان النجس ثوباً صلى صلاتين في ثوبين وليس في ثوب واحد صلى صلاتين في ثوبين لأنه إذا صلى صلاتين في ثوبين لا يشك أحد أنه قد صلى كما أمره الله في إحدى الصلاتين .(1/136)
كذلك لو كانت الثياب النجسة ثلاثة ثياب فإنه يصلى أربع مرات ، يصلى بعدد النجس ثلاثاً ويزيد المرة الرابعة لليقين ، لو كانت الثياب النجسة خمسة ، يصلى ست مرات وهذا من المشقة المقدور عليها ، لا يكبر أحداً أمره ويقول كيف نأمره بتكرار الصلاة ونرهقه هذا الإرهاق ، لو صلى خمس صلوات وست صلوات وهو يذكر ربه يمكن ما تساوي خروجه من بيته للمسجد في العناء والتعب ، ما يكبر الإنسان بعض يورد اعتراض على هذا ، فهي مشقة مقدور عليها واعلم أن بعض العلماء يختار أنه يؤجر على الصلاة مكررة ، لاحظ لو أنه من نفسه أعاد الصلاة لا يثاب ، لو أعادها مرتين لأنه نهى عن إعادة الصلاة مرتين ، لكنه يثيبه الله على عمله ذلك لأنه طلب وتحقيق لمأمور شرعي ولذلك يتكرر ثوابه ، فإذا لا يخلو الأمر من مصلحة وثواب للمكلف لأن الله يقول : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ } وهذا العمل شرعي ويقصد به إبراء الذمة وتحصيل المأمور على الوجه الذي أمر الله-- عز وجل -- به ، ولذلك يثاب بعدد ما صلاّه ، على تفصيل يعني بعض العلماء يقول ثوابه مثل ثواب الصلاة إذا كانت بثوب طاهر ، وبعضهم يقول ينتقص من الصلاة ويكون له أجر الفعل ، هذا أمر ما يخاض فيه ، لأنه أمر غيبي حقيقة الثواب أمر غيبي ، لكن نقول يثاب لقوله-تعالى- : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ } ، وهذا العمل طلبه تحصيلاً للأصل الشرعي فيثاب عليه ، ولا يفصل في الغيبيات من جهة كونها تساوي أو لا تساوى هل هي، مكررة الثواب أو لا هذا أمر مرده إلى الله-- عز وجل -- .(1/137)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وتغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعاً إحداهن بالتراب ] يقول-رحمه الله- : [ وتغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعاً إحداهن بالتراب ] ، هذه الجملة قصد المصنف-رحمه الله- أن يبين فيها حكم نجاسة الكلب والخنزير ، الكلب يُطلق في لغة العرب بمعنيين : معنىً خاص وهو الحيوان المعروف ، ومعنى عام وهو كل سبع ضارم ، فيقال للأسد كلب وللنمر كلب وللسبع كلب أيَّاًّ كان من السباع العادية ، كما قال-تعالى- : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } ، ومن المعنى العام هذا الحديث المشهور (( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك )) وهو حديث السير ، وصحح إسناده الإمام الشوكاني وغيره ، في قوله : (( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك )) ، فإنه افترسه الأسد في تخوم الشام في القصة المعروفة في هذا الرجل الذي كان يؤذي رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، فدعا عليه بهذه الدعوة فكان يتحاشاها ويخاف منها ، حتى خرج في تجارة لقريش إلى الشام فكان إذا أراد أن ينام ينام وسط أصحابه فجاءه الأسد وافترسه من بين أصحابه ، وقال : (( سلط عليه كلباً )) ، والأسد صدق عليه أنه كلب من كلاب فهذا من باب إطلاق الكلب بالمعنى العام ، والكلب هنا بالمعنى الخاص وهو الحيوان المعروف ، على الصحيح من أقوال العلماء ، هذه المسألة في الحقيقة الأصل فيها حديث أبي هريرة وعبدالله ابن مغفل-رضي الله عنهما- وغيرهما ، أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً - وفي رواية - وعَفَّروه الثامنة بالتراب - وفي رواية - أولاهن - وفي رواية إحداهن بالتراب )) ، هذا الحديث تكلمنا عليه وذكرنا مسائله وأحكامه في شرح بلوغ المرام ، - وإن شاء الله الطريقة التي سنسير عليها في شرح العمدة - ، كنا نريد أن نذكر الخلافات والأدلة والردود والمناقشات ، لكن طلب بعض طلبة العلم أن يكون الشرح لمتوسطي طلاب العلم ، ويحال على(1/138)
المسائل الخلافية في هذه الشروح التي توسعنا فيها ، ولا شك أن هذا يختصر الوقت أكثر وتكون الفائدة أكثر ، ولذلك من أحب أن يتوسع فشرح بلوغ المرام تكلمنا فيه على هذه المسألة ، وبينا تفصيلات العلماء في مسألة ولوغ الكلب ، بين المصنف-رحمه الله- أن نجاسة الكلب تغسل سبعاً ، الحديث ورد في ولوغ الكلب ، والكلب يلغ إذا أدخل رأسه في الإناء وشرب منه ، يقال ولغ الكلب ، ويقال شرب - أيضاً - من الإناء ولكن يعبر بالولوغ ، واللحس إذا كان الإناء فارغاً يقال لحس الإناء ، ويقال لعق إذا كان فيه طعام جامد ، ولغ ولحس ولعق ، هذه ثلاث تعبيرات يعبر بها في استعمال الكلب للإناء ، ورد الحديث في ولوغ الكلب ، وبناءاً على ذلك اختلفت أقول العلماء في هذا الحديث ، والصحيح كما بينا أن هذا الحديث أصل في نجاسة الكلب ، لرواية عبدالله ابن مغفل في الصحيح التي فيها (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب )) فلما قال : (( طهور )) دل على أن الإناء تنجس ، ولا يتنجس إلا بنجس ، وبهذا يثبت أن الكلب نجس .
ثانياً : هذه النجاسة يجب غسلها سبع مرات ، خلافاً لمن قال أن الأمر للندب ، ولذلك عبر المصنف-رحمه الله- بالوجوب .
والدليل على هذا الوجوب : قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( فليغسله )) ، وقوله : (( فليغسله )) أمر والأمر للوجوب ، وليس هناك صارف يصرف عن ظاهره المقتضي للوجوب ، طبعاً هناك من قال إنه للندب لأنه أمر بالغسل سبعاً ، وأُجيب بأنه قد ترد الأوامر التعبدية مع ورود المعنى الذي ذكرناه للنجاسة ، وهي تكون بالتسبيع لمعنىً تعبدي ومعنىً لا يعقل ويكون مما لا تعقل علة في التسبيع .(1/139)
قوله : [ تغسل نجاسة الكلب ] : بناءاً على ذلك إذا بال على فراش، قال بعض العلماء : يغسل ويُترب ، وإذا بال في إناء يغسل ويُترب ، وإذا بال في بركة صغيرة أو شرب من بركة صغيرة ، أنها تغسل سبعاً وتُترب لعموم الحديث ، وهذا كله نص عليه الأئمة خاصة مذهب الشافعية ، والحنابلة-رحمهم الله- ، والتسبيع مذهب الجمهور ، والتثليث مذهب الحنفية-رحمهم الله- .
وبينا أن حديثهم الذي استدلوا به ضعيف ، وفتوى أبي هريرة-- رضي الله عنه -- يجاب عنها بأن القاعدة في الأصول : " أن الراوي إذا روى ، وأفتى بما رأى وكانت فتواه خلاف ما رواه ، فالعبرة بما روى لا بما رأى " ، ومن هنا اعتبرت رواية التسبيع ، وسقط الاحتجاج بتثليثه ، لأن الأصل العمل بالمرفوع لا بالموقوف عن الصحابي ، الحنفية-رحمهم الله- استدلوا بحديث ضعيف في التثليث ، وأيضاً بفعل أبي هريرة وفتواه .
وأُجيب عنها بما تقدم ، إذاً الكلب نجس ويجب غسل نجاسته سبعاً ، والثامنة بالتراب وهذا الأمر للوجوب ، الولوغ طبعاً يشمل الغسل سبع مرات تكون فيه إحدى الغسلات غسلة التراب ، سواء كانت في الأولى على رواية أولاهن ، أو كانت في الثانية أو الثالثة أو الرابعة قبل السابعة ، لأنه إذا وصل إلى السابعة ووضع التراب بعد السابعة احتاج إلى غسلة ثامنة ، ورواية (( وعَفِّروه الثامنة بالتراب )) ، وهي قول بعض السلف كابن سيرين وغيره وأجبنا في شرح البلوغ عنها ، محمولة على الثامنة وجوداً لا ترتيباً ، يعني عَفِّروه الثامنة بالتراب وجوداً ، فإذا نظرنا إلى التراب أنه غسلة صارت ثامنة ، لكن ثامنة عدداً وليست ترتيباً ، (( عَفِّروه الثامنة )) يعني أن يكون التراب في غسلة من الغسلات .(1/140)
والتراب طبعاً يشمل جنس التراب ، بعضهم طبعاً فصل وأخرج التراب المغبر والرمل ، ولكن الصحيح أنه يشمل الجميع ، والتسبيع مطالب به للنص عليه في الحديث ، والتتريب هو الأصل فإن لم يوجد تراب ، هل يقوم غير التراب مقامه ، وجهان للعلماء ويستحب الحقيقة أن يغسل بالصابون أو الأشنان إذا لم يوجد تراب وإلا الأصل أن التكليف شرطه الإمكان قاعدة : " أن التكليف شرطه الإمكان " فإذا كان ما وجد تراب ، مثلاً ولغ وهو على سفينة والتراب غير موجود ، في هذه الحالة يغسله سبعاً وتسقط غسلة التتريب لعدم القدرة ، لكن أن تسقط غسلة التتريب ويعوض عنها بالصابون والأشنان والمطهرات مع وجود التتريب لا ، لأن النص نص على التراب ، ولذلك ظهرت معجزة من معجزات النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، أن التراب لا يمكن أن يقوم غيره مقامه ، في قتل الدودة الشريطية الموجودة في لعاب الكلب ، وهذا من معجزات النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في اختيار التراب وحده .
بين-رحمه الله- أنه تغسل نجاسة الكلب والخنزير ، الخنزير الحيوان المعروف والشافعية ، والحنابلة يقيسون الخنزير على الكلب وغيرهم لا يقيس وهو الصحيح ، أن الخنزير لا تغسل نجاسته سبعاً ، وأن الحكم بالتسبيع والتتريب خاص بالكلب دون غيره ، لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أمر بهذا في ولوغ الكلب ، والخنزير كان موجوداً على عهد النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، فلو كان الخنزير يأخذ حكم الكلب في وجوب غسله سبع مرات والثامنة بالتراب لبين النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، وبناءاً على ذلك نقول أنه يجب الغسل سبع مرات والثامنة بالتراب في نجاسة الكلب وحده دون غيره .(1/141)
المسألة الأخيرة : أنه يشمل الكلب سواء كان كلب صيد أو كلب ماشية أو كلب حرث أو كلباً غير مأذون باتخاذه ، فبعض العلماء-رحمهم الله- استثنى كلب الصيد ، فقال لو شرب كلب الصيد من الإناء لا يجب غسله سبعاً ، والصحيح أن الحديث عام ، (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب )) ما فرق بين الكلب المأذون باتخاذه والكلب غير المأذون باتخاذه ، ولم يفّرق بين كلب الصيد وغيره ، ثانياً أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالتسبيع والتتريب .
ويرد السؤال : هل يتكرر بتكرار النجاسة والولوغ ؟ يعني لو ولغ الكلب ثلاث مرات أو أربع مرات في الإناء ، لو أربع مرات هل نغسله ثمان وعشرين مرة ؟ أما أننا نجتزئ وتتداخل ، الصحيح أنها تتداخل وتجزئ السبع سواء تكرر ولوغه أو لم يتكرر ، تكرر تنجيسه للموضع أو لا يتكرر ، لأن العلة تزول بهذا التسبيع والتتريب وأمر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بالغسل لمطلق الولوغ ، فيشمل إذا كان مرة أو كان أكثر من مرة .
قال المصنف-رحمه الله- : [ ويجزئ في سائر النجاسات ثلاثٌ منقية ] : [ ويجزئ ] ، يعني يكفي وتبرأ ذمتك ، إذا إصابة النجاسة البدن أو الثوب أو المكان أو شيئاً وأردت أن تطهره فيكفي أن تغسله ثلاث مرات ، الغسلة الأولى تذهب بعين النجاسة ، والغسلة الثانية تذهب بالأثر ، والغسلة الثالثة استبراءاً للمحل ، وهذا قول لبعض العلماء-رحمهم الله- اختاره المصنف-رحمه الله- وتكلمنا على هذه المسألة في باب إزالة النجاسة من البلوغ ، وذكرنا مذاهب العلماء-رحمهم الله- في اشتراط التثليث وعدمه .(1/142)
لكن الذين قالوا باشتراط التثليث في غسل النجاسات استدلوا بحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين عنه -- رضي الله عنه - وأرضاه- أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاث قبل أن يدخلهما في الإناء )) ، فقوله : (( فليغسل يديه ثلاثاً )) هذا مبنى على الشك في وجود النجاسة في اليد ، فأمر تطهيراً لها أن تغسل ثلاث مرات ، فدل على أن النجاسة تغسل ثلاثاً ، ولأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أزال الخبث بالتثليث ، فقال لعبدالله ابن مسعود-- رضي الله عنه -- كما في الصحيح حينما دخل الخلاء ، قال : (( ائتني بثلاثة أحجار )) ، فأمره بثلاثة أحجار ، فدل هذا على أن التثليث معتبر في إزالة النجاسة ، ولا شك أنه أحوط الأقوال أنه يثلث ، إلا ما استثناه الشرع من التسبيع زيادة ، أو الصبة مرة واحدة على النجاسة التي في الأرض كما سيأتينا في حديث بول الأعرابي ، الأول استثناء بالزيادة ، والثاني استثناء بالنقص ، والشرع يأتي بالأصل ثم يستثنى زيادة ونقصاً ، بناءاً على هذا نقول الأصل أنها تغسل ثلاثا لحديث أبي هريرة-- رضي الله عنه -- وحديث الاستطابة ، وهو مذهب اختاره الحنابلة-رحمهم الله- ودرجوا عليه في إزالة النجاسات ، على هذا لو وقعت النجاسة على ثوبه ، فيأتي بموضع النجاسة ويصب الصبة الأولى ويدعك ليزيل عين النجاسة ، ثم يصب صبة ثانية تذهب أثر النحاسة ، ثم يصب الصبة الثالثة استبراءاً .
الآن الصنبور الموجود الآن ممكن أن يقرب الثوب تحته، فإذا أصاب موضع النجاسة دعك فأنزل منه ثم رده الثانية ثم رده الثالثة ، فكل عّود يعتبر غسلة مستقلة فإذا ثلث حكم بالطهارة.
قوله : [ منقية ] ، هذا شرط [ ثلاثاً منقية ] ، إذاً الأصل أنه يغسل نجاسة ثلاث مرات ، وحينئذٍ لا يخلو الأمر من ثلاث صور :
الصورة الأولى : أن تنقطع النجاسة دون الثلاث ، ويصبح الموضع نقياً نظيفاً .(1/143)
الصورة الثانية : أن تنقطع النجاسة في الثلاث .
والصورة الثالثة : أن تنقطع النجاسة فيما فوق الثلاث بحيث يحتاج إلى زيادة ، فإن كانت النجاسة الموجودة انقطعت في الغسلة الثانية أو الأولى التي هي دون الثلاث فلا إشكال ، وإن انقطعت في الثلاث فلا إشكال ، لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أمر أن يغسل يديه ثلاثاً وهذا يتأتى فيما إذا كانت الإزالة على العدد نفسه أو أقل ، لكن لو أنه غسل ثلاثاً وبقيت النجاسة ولا زالت النجاسة باقية ، لأن النجاسات تختلف وعلوقها بالبدن وعلوقها بالمكان والموضع يختلف ، فإذا لم يطهر الموضع لم يتنظف ، يجب عليه أن يزيد غسلة رابعة وخامسة وسادسة إلى انقطاع النجاسة ، فمن هنا من دقة المصنف-رحمه الله- قال : [ منقية ] ، فالشرط أن تزيل النجاسة وتذهب بها .(1/144)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وإن كانت على الأرض فصبة واحدة تذهب بعينها ] : يقول-رحمه الله برحمته الواسعة- : [ وإن كانت على الأرض فصبة واحدة تذهب بعينها ] ، [ وإن كانت ] أي النجاسة ، [ على الأرض ] مثل البول-أكرمكم الله- ، [ فصبة واحدة ] أي يصب الماء مرة واحدة لكن بشرط أن يذهب بعين النجاسة ، الأصل في هذا كما سيذكر المصنف-رحمه الله- حديث أنس بن مالك-- رضي الله عنه -- في الصحيحين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كان جالساً مع أصحابه في المسجد ، فجاء أعرابي ورفع ثوبه ليبول فصاح فيه الصحابة ، فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( لا تزرموه )) فترك الرجل حتى قضى بوله ، ثم أمر بسجل من ماء ودعا الرجل وعلمه -صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- ، وبين له حرمة المسجد فانطلق الرجل يقول : اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً ، فقال له : (( لقد حجرت واسعاً )) من جميل أسلوبه-عليه الصلاة والسلام- وحكمته في الدعوة ، هذا الحديث فيه فوائد عظيمة وتكلمنا عليه في شرح بلوغ المرام أيضاً ، وذكرنا الفوائد الأصولية والفقهية والمسائل والأحكام الفقهية فيه ومنها مسألتنا ، وهي أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أمر أن يصب الماء على بول الأعرابي ، فدل على عدم اشتراط العدد في إزالة نجاسته ، ما قال أريقوا على بوله الماء ثلاثاً ، ولم يقل صبوا الماء على بوله سبعاً ، إنما قال : (( أريقوا على بوله سجلاً من ماء )) وفي رواية (( ذنوباً من ماء )) ، فلما أمر بمطلق الصب فالأصل أنه إذا صب الدلو يصب صبة واحدة ، ولما نُظر إلى قدر الماء الذي أُمر بإراقته وقدر البول الموجود الذي يراد تطهيره ، وُجد أن السجل والدلو يُذهب نجاسة البول من الإنسان ، فقدر البول لو كان مثلاً نصف لتر ، يذهب بالسجل ففيه فوائد :(1/145)
منها ما ذكر المصنف-رحمه الله- أن النجاسة على الأرض تُستثنى من الأصل ، فنجعل حديث الأعرابي أصل في النجاسة التي على الأرض ، قالوا فرقنا لأن الكف يمكن تكرار الغسل بها ، ولكن الأرض لا تستطيع تحملها وتدعكها ، لكن لو كانت بساطاً ممكن أن يُصب عليها ويُشفط الماء ولو كانت بساطاً لأنه ما تستطيع أن تعصره ، ما هو مثل اليد تفرك ويزال منها النجاسة ، فأخذوا منه أن الصبة الواحدة تُذهب عين النجاسة ، لكن بشرط أن تكون أكثر من البول بحيث تُذهب عين النجاسة .
إذاً : صبة واحدة ولا يشترط العدد .
ثانياً : أن تكون أكثر من البول بحيث يغلب على ظنك أنه قد ذهب البول وذهبت بعين النجاسة ، في هذا الحديث أخذ منه العلماء دليلاً على أن البول أو الماء المتنجس يمكن تطهيره بمغالبته بالماء ، ومن هنا قالوا في مسألة القلتين مثل بركة ، لو أن بركة ماء امتلأت إلى نصفها ثم وقع فيها بول فنجسها ، فلما نجسها يقولون يمكن أن تطهرها بإضافة ماء كثير طهور بحيث تذهب النجاسة وتتحلل تماماً ، قالوا إذا تحللت النجاسة ولم يبقَ لها أثر ، وغالب الماء وكثر فحينئذٍ ، يحُكم بطهورية الماء ورجوعه إلى الطهورية ، لو كان الماء المصبوب المكاثَر به النجاسة طاهرا غير طهور حكمنا بطهارة الماء لا طهوريته ، وهذا منتزع من حديثنا لأن النصوص تأتي صريحة في شيء وأصل لغيره ، ونحن نفهم من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ، فالنبي-- صلى الله عليه وسلم -- لما أمر بصب الذنوب اختار ذنوب ، فاختار قدراً أكثر من البول ، فصار الذنوب له معنى وله تأثير في الحكم ، وما قال صبوا عليه ماء ، قال : (( أريقوا عليه سجلاً - وفي رواية - ذنوباً )) الذي هو الدلو ، والدلو معروف أنه أكثر من البول ، فلما اختار الدلو والسجل فهمنا أن المراد أن يكون الماء أضعاف البول ، بحيث إذا صُب عليه طهره .(1/146)
من فوائد هذا الحديث : أن الأرض لا تطهر بالشمس ، وذلك أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أمر بصب الماء ، وأنتم تعلمون أن مسجد النبي-- صلى الله عليه وسلم -- كان على قسمين :
القسم الأول : مسقف .
والقسم الثاني : غير مسقف .
والقسم غير المسقف ما الظن بالأعرابي لو جاء يبول ، يبول في ناحية يرى أن الناس تبتعد عنها ولاَّ ناحية فيها الناس ، يبتعد عنها لأنهم قالوا هذه هي شبهته أنه بال في المسجد ، لأنه اختار موضعاً بعيداً عن الموضع الذي يُصلي فيه عادة ، فالأشبه فيه أنه بال في الموضع غير المسقف وهو الذي تضربه الشمس غالباً ، فاستقام مذهب الجمهور في الرد على الحنفية-رحمهم الله- أن البساط أو الأرض إذا بال عليها أو أصابها البول ومضت عليها أيام ، أو أصابتها الشمس حتى ذهبت آثار النجاسة يحُكم بطهارتها ، فهذا الحديث أمر من النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بصب ذنوب من ماء تطهيراً للموضع ، فدل على أن النجاسة في المكان تطهر بصبة واحدة ، أن يكون الماء الموجود أكثر من قدر النجاسة وأن تذهب بعين النجاسة ، فإذا لم تذهب بعين النجاسة لم نحكم بالطهارة إذا لم تذهب بعين النجاسة ، صببناً ماء وبقي أثر النجاسة نقول أصبب ماء آخر وزد حتى تذهب بعين النجاسة ، طبعاً من فوائد هذا الحديث من فوائد هذه المسألة يعني تكلمنا عليه في شرح البلوغ بعض العلماء يقول : إن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن إدخال الكف في الإناء ، للمستيقظ من نومه مع أن النجاسة قليلة في الكف ، وأمر بصب الذنوب على النجاسة ، فقالوا العبرة بالوارد يعنى القوة تكون للوارد ، بدليل أن النجاسة التي على الأصابع لو قورنت بالذي في الإناء فالذي في الإناء أكثر ، فلو كان مثل ما تقولون في مسألتنا ما تقولون أن الحديث مبنى على الأكثر كان ما أثر قرير الأصابع في الإناء حينما يغترف منه ، هذا اعتراضهم ، ولذلك قالوا : القوة للوارد فإن وردت النجاسة على الماء ضرته ولو كان(1/147)
أكثر ، وإن ورد الماء على النجاسة أزالها إذا كان أكثر فجعلوا القوة للوارد ، رد البعض وقال ورود النجاسة على الماء كعكسه كما هو المذهب المالكي وغيره ، أجابوا عن حديث النهي عن إدخال الكف في الإناء حتى يغسل ، أن في الحديث جانباً لم يراعوه وهو انهم نظروا إلى الإناء ولم ينظروا إلى أن الكف هي التي تحمل الماء ، للمضمضة والاستنشاق ، والقدر الذي في الكف لا شك أنه يتأثر بما في الأصابع ، ومن هنا سقط الاستدلال والاعتراض على حديثنا ، واستقام أن النجاسة تطهر بالمكافأة ، وأن الورود وعدمه ليس بمؤثر فقد ترد النجاسة القليلة على ماء كثير ولا تؤثر ، كما ذكرنا أن العبرة بماذا ؟ العبرة بالتغير ، ولذلك هذا المذهب الذي يقول العبرة بالتغير هو الأقوى من حيث الأدلة لما ذكرناه .
قال المصنف-رحمه الله- : [ لقول رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ] لقوله-عليه الصلاة والسلام- صبوا ] أمر والأمر للوجوب ، فأخذ منه بعض العلماء دليلاً على وجوب إزالة النجاسة ، أن إزالة النجاسة واجبة وليست بمندوبه وسنة ، لأن البعض يقول بأنها سنة لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- جاء أبو جهل ووضع عليه سَلىَ جزور وهو ساجد وهي نجاسة لأنهم ما كانوا يذكون ، وهنا في حديث قال : (( صبوا )) وهذا أمر والأمر للوجوب ، ويجاب عن حديث سَلىَ الجزور بأنه كان من التشريع المكي وهذا من التشريع المدني ، والمتأخر ينسخ المتقدم إذا عارضه ، وهناك أجوبة أخرى لكن الذي يهمنا هنا أنه قال : (( صبوا )) .(1/148)
ثانياً : أخذ منه بعض العلماء أن تطهير النجاسة على الفور، لأنه أمرهم مباشرة قال : (( صبوا عليه سجلاً من ماء )) ، ولم يجعل ذلك متأخراً إنما أمرهم بالفورية ، ومن هنا فرق بعض العلماء في المسألة التي ستأتينا ، لو أن شخصاً كانت فيه نجاسة فصلى ناسياً لها ، فرقوا بين من كان يعلم قبل الصلاة ومن كان لا يعلم بها إلا بعد الصلاة ، لأن عندهم الأمر بإزالة النجاسة فوراً ، قالوا : لأنه إذا كان يعلم قصر في الأمر ، وحينئذٍ لا يعتبر من أهل الرخصة ، (( صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء )) ، فيه المسائل التي ذكرناها .
قال المصنف-رحمه الله- : [ ويجزئ في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام النضح ] : [ ويجزئ ] يعني يكفي ، [ في بول ] يعني في تطهير بول الغلام ، [ الذي لم يأكل الطعام النضح ] ، إزالة النجاسة تكون بالغسل وتكون بالرش والنضح ، والنضح أخف من الغسل ، لأنه إذا نضح لا يستتبع إستتباع الغاسل ، ما يعصر ويزيل لأنه إذا صب وغسل لزمه أن ينظف المكان ويقلع النجاسة ، فالنضح أخف هذا النوع من النجاسات خفف الشرع في حكمه ، وهو نجاسة بول الغلام الذي لم يأكل الطعام :
إذاً أول شيء : أن يكون بولاً .
الشرط الثاني : أن يكون من غلام فخرجت الأنثى فبولها يغسل .
وثالثاً : أن يكون هذا الغلام لم يأكل الطعام لم يفطم رضيع ، لم يفطم بعد .
إذاً هذه ثلاثة شروط :
الشرط الأول : أن يكون بولاً .
ثانياً : أن يكون ذكراً .
ثالثاً : أن يكون غير مفطوم لم يأكل الطعام .(1/149)
والدليل على ذلك : حديث بنت مِحصَنْ-رضي الله عنها- حينما أتت بصبي لها لم يأكل الطعام ، فأجلسه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في حجره ، وكان الصحابة-رضوان الله عليهم- إذا ولد المولود يأتون به إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، ويأتون بصغارهم إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- يدعوا لهم ويبرك عليهم-صلوات الله وسلامه وبركاته عليه- ، فأُتي بهذا الغلام فأجلسه في حجره ، فبال الغلام على رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، وأمر النبي-- صلى الله عليه وسلم -- برفع الغلام ونضح البول ولم يغسله، ما تذمر ولا تسخط ولا سبه ولا شتمه ولا عابه-بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- ، وهو أرحم الناس -صلوات الله وسلامه عليه- وهذا من هديه مع الصغير ، من المواقف الكريمة منه-عليه الصلاة والسلام- ، كان رحيماً بالكبير رحيماً بالصغير رحيماً بالذكر وبالأنثى من أكمل الناس رحمة-صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين- ، وهكذا يعلم الآباء الرحمة بالصغار ، ومن هنا يقولون : أن الابن يتذكر مثل هذه المواقف ، أنه كان-أكرمكم الله- يقضي حاجته في حجر والديه ، فإذا كبر أبوه وساءت خلق الأب من الكبر والضعف فليتذكر ما كان يفعل به أبيه وهو صغير ، فإذا كان الأب يصيح عليه هو كان يصيح على أبيه ، وإذا كان الأب يخطئ في حقه لأنه لا يستطيع أن يتحكم في مشاعره هو كان في بعض الأحيان يضرب والده ، بعض الأحيان ترى الصبي جالساً في حجر أبيه ثم يلطم والده ، يقع هذا ويلطم والدته فلا يزداد الوالد إلا فرحاً ، ولا يزداد إلا سروراً ، ولا يزداد إلا ضحكاً ، ولا يزداد إلا انبساطاً والعكس بالعكس ، فلا يزداد الابن إلا تضجراً والأب يتمناه يكبر، والابن يتمناه يموت ، والأب يتمناه أن يكون في عزة وكرامة مع ما يجد من الأذى ويحس أنه عزيز، والابن يحس أنه ذليل ، فإذا جاء مع أبيه في مجامع الناس انتقص نفسه أن يمشي مع أبيه ، وإذا دخل عليه أحد عند(1/150)
أبيه انتقص نفسه ، ولكن الأب كان يعتز بابنه بل كان يحمله إلى أفضل مجالسه ، وانظر إلى رسول الأمة كان يحمل بنت بنته إلى أعز المواقف وأشرفها-عليه الصلاة والسلام- ، نماذج لو يتأملها الإنسان ، لو يعني يتفكر فيها يحار عقله ، ولذلك يعلم عندها أن الحكيم العليم قد وضع كل شيء في موضعه حينما قال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } واختار كلمة الإحسان التي هي أرقي وأسمى وأعلى درجات العبودية ، التي اختص بها-سبحانه- ، فليس هناك عبادة أحب إلى الله من عبادة الإحسان فاختارها للوالدين ، ما قال مثلاً بالوالدين طيباً ، إنما قال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } ثم لما أراد أن ينوع قال : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } ، يختار أكمل الكلام وأفضله وأجمله الذي قام عليه الإسلام وهو المعروف ، وضده المنكر فالشاهد أن هذا وقفة من وقفات السيرة عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- أنه لما أجلس هذا الغلام في حجره-عليه الصلاة والسلام- بال في حجره ، ما بال داخل الغرفة لا يراه أحد ، إنما أمام الناس ، يعني بال عليه أمام الناس ، فرفع الصبي وأخذ بالماء فنضحه ولم يغسله-صلوات الله وسلامه عليه- لم يغسل البول ، فدل على أنه لا يلزم غسل نجاسة بول الغلام ، ويشترط أن لا يكون قد فطم كما ذكرنا ، وأن يكون ذكراً ، فإذا كان أنثى فهو على الأصل ، وإذا كان قد طعم فهو على الأصل ، ولذلك نقول أنه لم يأكل كما جاء في الحديث ، وقال في حديث علي-- رضي الله عنه -- الصحيح : (( ينضح من بول الغلام الذي لم يأكل الطعام ، ويغسل من بول الجارية )) ، فهذا يدل على أنه ينبغي أن يكون دون الفطام يعني لم يفطم ، أما إذا فطم فحكمه حكم الكبير ، إذا فطم صار في حكم الكبير ، فيغسل بوله كسائر البول ، يجزئ النضح تأخذ كف من ماء وترشه .(1/151)
اختلف العلماء-رحمهم الله- في السبب في التفريق بين الذكر والأنثى ، أولاً طبعاً وقبل كل شيء لا يخفي على أحد أن الله فضل الذكر على الأنثى ، فهذه نصوص الكتاب والسُّنة واضحة وجلية في هذا، ونحن ننبه على مثل هذه الأمور لأن الناس الآن غلت في المرأة ، وغالت حتى أصبحت المرأة عندهم كل شيء ، وغالوا في حقوق المرأة حتى أصبحوا يصادمون النصوص الصحيحة في كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ، فالمرأة لها مكانتها ومنزلتها لكن على شريطة أن لا يكون ذلك على حساب نصوص الشرع ، فهنا في هذا بعض العلماء يقول تكريماً ، لأن جنس الذكر مفضل على جنس الأنثى ، وهذا التكريم ما يستطيع أحد يُعقبه على الله-- عز وجل -- ، الله له الحق أن يكرم من شاء ويهين من شاء ، ما لأحد ثم لما كرم الصبي ما أهان الصبية ما أهانها ، ولذلك قال-تعالى- في الحديث القدسي : (( هل ظلمتكم من حقكم شيء )) ، قالوا : لا ، فهو إذا أعطى فضلاً من فضله ما ينُكر عليه-- سبحانه وتعالى -- ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } ، فهذا التفضيل والتكريم قيل أنه لتفضيل الذكر على الأنثى والنصوص واضحة في هذا ، ولذلك خلق الله آدم بيده ، وأسجد له ملائكته ونفخ فيه من روحه ، وجعل خلق حواء بعد خلق آدم ، وجعل خلقها تبعاً لخلق آدم ، وجعل التكريم للأصل ، فمسألة المساواة التامة ، وأن المرأة كالرجل هذا أبداً ما يمكن ، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط ، هذه نصوص واضحة وحكم ما يقبل التبديل والله يحكم ولا معقب لا يقبل التبديل ولا يقبل التعقيب .(1/152)
فالشاهد أن هنا من تفضيل الجنس على الجنس ، وقيل إن بول الأنثى أكثر نتانة من بول الذكر ، وهذا يذكره بعض الأطباء ، وبعض الحكماء يذكر هذا أن في خاصية وذلك أن أصل الخلقة من تراب والأنثى مخلوقة من آدم من ضلعه ، ولذلك كان الأمر في الذكر أخف منه في الأنثى ، وقيل وهو القول الثالث الأشبه بأن الأقرب أن النفوس كانت تتعلق بالذكور أكثر ، ويكون الحمل أكثر للذكر ، فليس هذا انتقاصاً للمرأة لا إنما كانت المرأة عزيزة وكريمة وجوهرة مصونة حتى وهي صغيرة ، فكان الرجل دائماً يحمل ابنه ، ولا يستطيع أن يحمل بنته أمام الناس في كل حال ، وإن كان النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قد حمل بنت بنته في الصلاة كما جاء في حديث أُمامة بنت زينب-رضي الله عن أمها وعن أبيها- .(1/153)
قال المصنف-رحمه الله- : [ وكذلك المذي ] : يقول المصنف-رحمه الله- : [ وكذلك المذي ] ، أي مثل ذلك في الحكم المذي ، طبعاً هناك المني وهو الماء الذي يخرج دفقاً عند الشهوة الكبرى الأبيض التخين بالنسبة للرجال ، الأصفر الرقيق بالنسبة للنساء ، وهناك المذي وهو السائل اللزج الذي يخرج عند الملاعبة وبداية الشهوة ، الفرق بينه وبين المني ، المني يخرج بكثرة ، ولذلك سمى مني لكثرته ، يمنى الشيء إذا كثر ، قيل سميت منى لكثرة ما يراق فيها الدماء ، وقال-تعالى- : { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } وهو يقول فيه كثرة ، والمذي يخرج قطرات وهناك الودي وهو الماءالأكبر الذي يخرج قطرات عقب البول، هذه ثلاثة أشياء المني والمذي والودي ، فالودي يخرج بعد البول وقد يخرج المذي بعض الأحيان عقب البول ، إذا كان كما ذكر بعض العلماء من شهوة ، يعني ما يشترط أن يكون قبل الشهوة قد بعض الأحيان بعد الإنزال ، لكن يقولون ضابط المذي أنه لزج ويخرج قطرات ، المذي فيه حديث صحيح عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- عن علي-- رضي الله عنه -- وتكلمنا على أحكامه ومسائلة أيضاً في شرح البلوغ والعمدة ، وحاصله أنه دل على نجاسة المذي، إذ أمر النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أن يغسل منه الذكر ، وأيضاً دل على وجوب غسل المذي ، والمصنف اختار أنه ينضح ، والصحيح أنه يغسل لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالغسل بغسل المذاكر ، والصحيح أيضاً من أقوال العلماء أنه يغسل الذكر والأنثيين ، فيه ثلاث أوجه :
الوجه الأول : قيل يغسل رأس العضو .
الوجه الثاني : وقيل يغسل العضو .
الوجه الثالث : وقيل يغسل العضو مع الأنثيين .(1/154)
والدليل على ذلك : رواية السنن (( اغسل مذاكيرك )) ، وهذا يدل على أنه يغسل الذكر مع الأنثيين ، هذا بالنسبة للمذي للرجل ، المرأة رطوبة فرجها في حكم المذي ، ولذلك الرطوبة في الأصل مذي من المرأة كما ذكره غير واحد من العلماء-رحمهم الله- ، والصحيح أنها نجسة لثبوت السُّنة عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في الحديث الصحيح أنهم كانوا في أول الإسلام إذا جامع الرجل المرأة ولم ينزل لا يجب عليه الغسل ، ثم كان يؤمر بغسل العضو فقط ، ففي حديث عُتبان قال النبي-- صلى الله عليه وسلم -- له : (( ليغسل ما أصابه منها )) ، ليغسل ما أصابه منها فهو مجامع لها فالذي أصابه يعني الرطوبة وهي التي تكون عند الجماع كما هو معلوم ، فدل على أن الرطوبة نجسة ، لكن إذا غلبت الرطوبة المرأة أخذت حكم الاستحاضة ، يعني إذا غلبتها تسد الموضع إذا غلبتها تتوضع عند آخر وقت الصلاة وتجمع بين الصلاتين جمعاً صورياً يعني حكمها حكم الاستحاضة ، فبين-رحمه الله- أن المذي ينضح والصحيح أنه يغسل وحديث سهل مجاب عنه .
قال المصنف-رحمه الله- : [ ويعفى عن يسيره ويسير الدم وما تولد منه من القيح والصديد ونحوه ] [ ويعفى عن يسيره ] يسير المذي ، والصحيح أن العفو خاص بالدم ، وهو الذي وقع عليه الإجماع .(1/155)
والدليل عن العفو عن يسير الدم : قوله-تعالى- : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } ، فجعل الحكم معلقاً بالدم الكثير في قوله : { مَسْفُوحاً } ، والمفهوم لقوله : { مَسْفُوحاً } أنه إذا كان قليلاً معفو عنه ، وأجمع العلماء عن العفو عن يسير الدم ، واختلف في ضابط اليسير فقيل قدر الدرهم البغلي ، والدرهم البغلي نوع من الدراهم كانت موجودة في الأزمنة الأولى في عصر صدر الإسلام قبل طبع الدراهم الإسلامية ، ويقال له درهم بغلي لأن المسلمين ما كانت لهم عملة ، حتى ضربها عبدالملك ابن مروان-رحمه الله- ، فالمقصود قدر الدرهم البغلي وهذا يعادل الهللة القديمة الصفرة تقريباً ، سواءً كان الدم في موضع واحد أو مواضع متفرقة ، فإذا جمعتها ونظرت إلى المواضع المتفرقة وقدرتها قدر الهللة عفو ، إذا كانت قدر الهللة فما دون فإن زادت يجب غسلها ، وأما بالنسبة ليسير المذي يجب غسله ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- لم يفرق بين يسيره وكثيره والقياس على الرخص ضعيف ، وأما القيح والصديد وما تولد من الدم فحكمه حكم الدم أنه نجس ويعفى عن يسيره ؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله ، فيعفى عن يسير الدم ويسير الصديد ، شخص أصابه جرح وتعفن الجرح حتى خرج الصديد ، الصديد وهو الماء الأكبر الذي يخرج من الجروح سيالة ، والقيح هو فضلة الدم باستنفاذ الكريات الحمراء إذا تصبح صفراء يعني يستنفذ الدم ، القيح أصفر والماء الأكبر يقال له صديد ، فهذان آخذان حكم الأصل .
قال المصنف-رحمه الله- : [ وهو ما لا يفحش في النفس ] : هذا ضابط اليسير عنده [ وهو ما لا يفحش في النفس ] والصحيح أنه قدر الدرهم ، لأنه ما لا يفحش في النفس يختلف من شخص لآخر .(1/156)
قال المصنف-رحمه الله- : [ ومني الآدمي وبول ما يؤكل لحمه طاهر ] [ ومني الآدمي [ هذه المسألة ذكرناها في شرح البلوغ على أن المني طاهر ، على أصح قولي العلماء-رحمهم الله- وذكرنا الأدلة وتفصيل هذه المسألة ولضيق الوقت ما نستطيع أن نستوعبها ، لكن الصحيح أنه طاهر ، ولذلك صلى النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في ثوبه وأن أثر المني فيه ، وأنكرت عائشة-رضي الله عنها- كما في الرواية الصحيحة على ضيفها لما غسل ثوبه وقالت : كنت أحت من ثوب رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- فيخرج إلى الصلاة وأن أثر المني فيه ، وكذلك قال في حديث ابن عباس عند البيهقي وغيره (( إنما هو بمنزلة المخاط يكفيك أن تنحيه عنك بأذخرة )) ، فهذا يدل على أنه طاهر .
[ ومني الآدمي وبول ما يؤكل لحمه طاهر ] : هذا ذكرناه في مسألة حديث العرنيين عن أنس ابن مالك-- رضي الله عنه -- في قصة العرنيين أن الحنابلة أخذوا منها طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه ، ولأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- طاف على البعير وصلى على البعير ، ومن المعلوم أن البعير لابد أن يبول ولابد يصاب طشاش بوله وفضلته ومع ذلك صلى عليه وطاف عليه ، فهذا يدل على طهارة البول والروث ، ولأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أذن للعرنيين أن يشربوا الأبوال ولم يجعل الله شفاء أمة محمد-- صلى الله عليه وسلم -- فيما حرم عليها ، فدل هذا على أن ما يؤكل لحمه وروثه طاهر .
ملاحظة :
انتهى درس فضيلة الشيخ - حفظه الله - من غير أسئلة .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب الآنية
قال المصنف رحمه الله تعالى: ] باب الآنية [.
] لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارةٍ ولا غيرها[.
الشرح :(1/157)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه وأستن بسنته إلى يوم الدين.أما بعد :
فيقول الإمام المصنف رحمه الله: ]باب الآنية[ ، الآنية جمع إناء، والإناء هو الوعاء والظرف للشيء، والمراد بالآنية الأوعية التي توضع فيها المياه، والمصنف رحمه الله ذكر هذا الباب بعد باب المياه، وقد اعتنى بهذا الباب أئمة العلم من المحدثين والفقهاء، فكلهم ذكروا أحكام الآنية في الطهارة، والسبب في هذا أنه لا بد للمسلم من أن يعلم أحكام الوعاء الذي يتطهر به، ويضع فيه الماء لوضوئه وغسله من الجنابة أو استنجائه، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنهم يذكرون أحكام الآنية فيبتدئون بأحكام الآنية المتعلقة بكتاب الطهارة، ثم يذكرون أحكاماً عامة سواءً كانت في الطهارة أو غير الطهارة وهذا من باب المناسبة، إذاً فالأصل عند أهل العلم رحمهم الله أنهم يذكرون باب الآنية في الطهارة لسبب وهو أنه لا يمكن أن نحفظ الماء ونبقيه على طهوريته بحيث يجوز للمسلم أن يتطهر به إلا إذا كان الوعاء نظيفاً طاهراً، وأما إذا كان الوعاء نجساً أو لا يحل للمسلم أن يستعمله فإنه يختلف في حكم طهارته على التفصيل الذي تقدم معنا، حتى قال بعض العلماء رحمهم الله: من توضأ من إناء ذهب أو فضة بطل وضوءه، كما هو مذهب طائفة من أهل العلم رحمهم الله، والسؤال ما هي مناسبة باب الآنية لباب المياه؟، والجواب أنه لما فرغ رحمه الله من بيان أحكام المياه شرع في بيان أحكام أوعية المياه التي تحفظ فيها.(1/158)
يقول رحمه الله:] باب الآنية [، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالآنية، وجمعها رحمه الله لأن هناك آنية أحل الله لنا أن نتوضأ ونتطهر بها، وهناك آنية حرم الله علينا ذلك، وهناك آنية حكم بكراهية الطهارة منها، ومن هنا نظراً لتعددها واختلافها جمعها رحمه الله بقوله: ]باب الآنية[ .
قال المصنف رحمه الله تعالى: ] لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا غيرها، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"[.
يقول رحمه الله: ]لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا في غيرها[.
ابتدأ رحمه الله ببيان ما حرم الله من الآنية، والذي أحله الله من الآنية أكثر مما حرم، ولذلك بين الذي حرمه الله حتى تأخذ القاعدة أن ما سوى ذلك حلال، فالأصل في شرع الله - عز وجل - أنه يجوز للمسلم أن ينتفع بكل إناء ووعاء إلا ما قام الدليل على تحريمه، أما هذا الأصل فمستنده وحجته قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } فقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الأصل في المسلم أنه ينتفع بكل إناء ووعاء، سواءً كان من حديدٍ أو كان من زجؤاجٍ، سواء كان رخيصاً كوعاء النحاس، أو كان غالياً كوعاء الزَبَرْجد والياقوت والمُرْجان ونحو ذلك، إلا ما قام الدليل على تحريمه كآنية الذهب والفضة، وما ألحق بهما على خلاف عند العلماء وتفصيل.(1/159)
قوله رحمه الله: ] لا يجوز[ ، صيغة لا يجوز تدل على التحريم، فنفي الحل ونفي الإباحة ونفي الجواز عن الشيء يقتضي حرمته، وهذه من الصيغ المعروفة عند علماء الأصول والتي تدل على تحريم الشيء، قال تعالى : { لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ }فهذا يدل على حرمة النكاح عليه عليه الصلاة والسلام في غير ما ذكر، وكذلك تقول لا يجوز الزنا بمعنى أنه حرام، ونفي الحل ونفي الإباحة لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة مبنى على دليل السنة، وذلك في حديث حذيفة ابن اليمان الذي ذكره المصنف رحمه الله وهو حديث صحيح ولا غبار في ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحديث نص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريم آنية الذهب والفضة فقال المصنف رحمه الله: ]لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا غيرها[، هذه الجملة اشتملت على عدة أحكام، الحكم الأول أنه لا يحل استعمال آنية الذهب والفضة، وأن هذا النفي والحكم بالحرمة شامل لما كان في الطهارة وشامل لغير الطهارة، طبعاً عند العلماء الاستعمال وعندهم الاتخاذ، الاستعمال أن تستعمل الإناء تحمل فيه شيئا أو تضع فيه شيئا، والاتخاذ أن تجعله مثل الآنية النفيسة الغالية توضع مثل الزينة، فهذه متخذه أو يشتريها الإنسان ويجعلها عنده حتى إذا أراد أن يبيعها عند غلاء ثمنها باعها، الاستعمال شيء والاتخاذ شيء آخر هنا يقول:] لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة[، وفي الحقيقة لا يجوز الاتخاذ لأنه وسيلة للاستعمال، ولذلك قد يعبر العلماء بالأصل وهو الاستعمال ويريدون تحريم وسيلته ومن هنا قالوا: لا يجوز اتخاذ الخمر حتى لا تكون ذريعة إلى شربها، ومن هنا قال الله- عز وجل - : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } ، فأمر بالاجتناب والابتعاد عنه وهذا يدل على أنه ينبغي اتقاء حتى ولو أنه أراد أن يتطيب به(1/160)
لا يتطيب لأنه أمر باجتنابه والابتعاد عنه، فالاستعمال في الأصل هو الذي تتعلق به حاجة الإنسان، فإذا كان حاجة الإنسان احتاج هذه الآنية والأوعية لطعمٍ وشراب ومنعه الشرع من هذه الحاجة فمن باب أولى أن يكون ممنوع من الاستعمال الذي لا حاجة فيه، وهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه.
] لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة[ فالحكم شامل للذهب والفضة وهذا التحريم شامل للرجال والنساء، ثم إن هذا التحريم من أشد أنواع التحريم ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه من المحرمات الموجبة للتفسيق، فتسقط عدالة الإنسان وترد شهادته ويحكم بفسقه إن أكل أو شرب في آنية الذهب أو الفضة، وذلك لأن ضابط الكبيرة موجود في هذا المحرم، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:"الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"، والحديث في صحيح مسلم وغيره من حديث أم سلمة رضي الله عنها، فنظراً لورود الوعيد على ارتكاب هذا المحظور دل على أنه من الكبائر كما أشار إلى ذلك الإمام الذهبي رحمه الله وغيره، إذاً هذا التحريم من أشد أنواع التحريم، وفي قوله رحمه الله: ] لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة[ عموم يشمل آنية الذهب والفضة الخالصة المتخذة من الذهب والفضة، فيكون الوعاء خالصاً من الذهب والفضة، ويشمل ما كان أكثره من الذهب والفضة، ويشمل ما كان فيه الذهب والفضة ولو كان يسيراً قليلا، مثل أن يطلى به سواء طلى من داخله أو طلى من خارجه، ومثل المموه ووضعه على أطراف الإناء يوضع على طرف الإناء مثل المضبب بالذهب والفضة أو المدور إلا ما استثنى شرعا كما سيأتي إن شاء الله في الضبة اليسيرة عند وجود الحاجة.(1/161)
إذاً لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة وأن هذا التحريم من أشد أنواع التحريم وهو شامل للذكور والإناث، فليس الحكم خاصاً بالذكور دون الإناث وإنما هو عام ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في التعليل:"فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"، فجعل الحكم بالمنع عاماً شاملاً للذكور وشاملاً للإناث، وبخلاف الحلي حيث أبيح للنساء ولم يبح للرجال في الذهب، وهذا الحكم يشمل آنية الذهب كما ذكرنا سواء كانت خالصة من الذهب والفضة، أو كانت مطعمة بالذهب والفضة، أو كانت مكفوتة بالذهب والفضة، أو كانت مطلية بالذهب والفضة كل ذلك محرم ولا يجوز.
بيّن المصنف رحمه الله أن هذا النهي عام في الاستعمال، فيشمل الأكل فلا يجوز أن يأكل بملعقة من ذهب، ولا يجوز أن يقطع بسكين من ذهب، ولا يجوز أن يأكل في صحن من ذهب، ولا يجوز أن يشرب في كأس من ذهب، ولا يجوز له أن يشرب من قدح من ذهب، ولا يجوز له أن يشرب من جَرَّة من ذهب، وكذلك الفضة، فيشمل آنية الأكل وآنية الشرب وأوعية الأكل وأوعية الشرب.(1/162)
ثم إنه رحمه الله قال: ] في طهارة وغيرها[، فلا يجوز في طهارة حتى ولو لم تكن من الآنية لا يجوز أن يتطهر من صنبور ماء - نسأل الله العافية والسلامة - البعض يجعل صنبور الماء في بيته من الذهب، فإذا كان صنبور الماء من الذهب ما يتوضأ منه الإنسان ولا يحل له أن يتوضأ منه، ولا أن يغتسل من الجنابة، وهكذا لو كانت البركة أو كان البانيو مطليا بالذهب فحكمه حكم ما ذكر وكل تابع لما تقدم وجارٍ مجرى الأصل الذي ذكرناه، لا يجوز استعمال آنية وهذه نكرة، تشمل الآنية الكبيرة والآنية الصغيرة، ومن هنا المُكْحَلة وعاء صغير يوضع فيه الكحل لا يجوز، المِروْدَ لا يجوز ولو كان مطلي قليلاً من الذهب، فقليل الذهب وكثيره في هذا الحكم سواء، لا يجوز استعمال الجميع والمصنف رحمه الله يقول: ] لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة[، سواء كان ذهباً جيداً أو ذهباً رديئاً أو بينهما فالحكم عام وذلك في قوله: ] آنية الذهب والفضة[، ]في طهارة[ مثل أن يتوضأ مثل أن يستنجي أخذ كأساً من ذهب يريد أن يستنجي به، ]أو في طهارة أو غيرها[ فيشمل هذا الأكل والشرب ونحو ذلك مما ذكرناه.(1/163)
لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث حذيفة في الصحيح:"لا تشربوا في آنية الذهب والفضة"، ] "لا تشربوا" [ نهي، وجمهور العلماء رحمهم الله على أنه نهي للتحريم، وقد بينا أنه من أشد أنواع التحريم، والأصل أنه نهي للتحريم لأن الأصل في النهي أنه محمول على التحريم حتى يدل الدليل على ما سوى ذلك وهو الكراهة، وليس هناك دليل يصرف هذا النهي عن ظاهره الموجب للتحريم، وهناك من العلماء من قال إنه على الكراهة وهو قول عند الشافعية وإن كان المشهور عندهم أنه للتحريم وهو الصحيح خاصة وأنه ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوعيد، "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما"، الصحفة إناء للأكل لخمسة أشخاص تقريباً، مثل الصحن الموجود في زماننا، هذه الصحفة تسع لخمسة أشخاص، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصَحْفة والمراد جميع أوعية الأكل، فيشمل الصحن الصغير والكبير، وذكر الصحفة كأصل يلتحق به غيره مما يؤكل فيه، وقوله عليه الصلاة والسلام "فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"، "فإنها" أي آنية الذهب والفضة، "لهم" أي للكفار، "في الدنيا" الدنيا هي هذه الدار، وسميت بذلك إما لدناءتها وحقارتها وهي كذلك، دنيئة حقيرة لأنها يرتفع فيها الفاجر ويهان فيها البَرْ، ويؤذى فيها المؤمن، وينعم فيها الكافر، والدليل على حقارتها وهوانها ودناءتها قوله عليه الصلاة والسلام:"لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر فيها شربة ماء"، فمن هنا كانت دنيئة حقيرة والذي خلقها أعلم بها، ولذلك يقول- صلى الله عليه وسلم -:"لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر فيها شربة ماء"، وهذا يدل على أنها في غاية الحقارة، وقيل إن الدنيا سميت دينا لدنوها والشيء الداني القريب، وقالوا: لقربها ودنوها من الآخرة، وقوله عليه الصلاة والسلام:"ولكم في الآخرة"، أي للمؤمنين خالصة، فهي خالصة لأهل الإيمان في الجنة يتنعمون بها.(1/164)
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]وحكم المضبب بهما حكمهما إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة[.
…يقول عليه الصلاة والسلام:"فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"، هذا الحديث ذكره المصنف رحمه الله عقب الحكم الذي بيناه، من حرمة استعمال آنية الذهب والفضة، وهذا منهج للمصنف رحمه الله أنه اعتنى بذكر آيات وأحاديث في بعض المواضع من كتابه، وبين هذا في المقدمة، ولكن ينبغي أن يعلم أن كتب الفقهاء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: المتون، والشروح، والحواشي، فأما المتون فلا تذكر فيها الأدلة، والسبب في هذا واضح لأن الأحكام هذه في الأصل مستقاة من الأدلة، فعند العلماء أن هذه الأدلة تدرس في شروحات الأحاديث، وتهذب وتنقح وتبين دلالاتها المسالك الأصولية المعروفة والضوابط المتبعة عند أهل العلم، بعد تقريرها تأتي الخلاصة خلاصة المذاهب وأقوال العلماء رحمهم الله تصب في متون كل مذهب على حسبه، وهذا من باب الضبط لأن الأدلة درست على حدة دراسة مستقلة ولذلك يعتنون في المتون بذكر خلاصة المذهب، ولما يأتي البعض ممن لا يعرف الفقه ولا يعرف منهج العلماء يقول لك المتون هذه ما فيها دليل، وهذا من جهله والمصيبة إذا نقد الشيء ممن يجهله، وإلا لو قرأ المتون على العلماء رحمهم الله لعرف أن هذه الأحكام مستقاة من كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا شيء نعرفه وجربناه، أن هذه الأحكام لا يمكن أن يوضع حكم إلا وله دليله، إما نقلاً وإما عقلاً، لكن لا يعتنون بذكر الأدلة هنا لأنها للمبتدئين، وهي تفتح لطالب العلم المدارك، فالمصنف رحمه الله اختار أن يذكر الأدلة وهذا مما جعلنا نحب كتاب العمدة كثيراً، وهو كغيره من كتب العلماء ولكنها ميزة من مميزات كتاب العمدة أنه يذكر أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكم فيها من البركة، وكم فيها من الخير وكم يكمل طالب العلم إذا جمع بين الفقه أثراً ونظرا، فهذا من خير ما يجمع لطالب العلم، فذكر رحمه(1/165)
الله الدليل هنا وإلا فالأصل لا يذكرون فالعلماء رحمهم الله لا يذكرون في المتون الفقهية الأدلة، وإنما يعرف أهل العلم وطلاب العلم الحذاق الذين قرءوا هذه المتون أن لهذه الأحكام أدلتها لأنه لا يمكن لأحد أن يكتب متناً في المذهب إلا إذا بلغ شأواً في الفقه ومعرفة الأدلة، وهذا معروف عند أهل العلم والإمام ابن قدامة رحمه الله بلغ درجة الاجتهاد، ولذلك صاغ الفقه بأقرب عبارة، واعتنى بهذا المنهج لما فيه من الخير الكثير ولذلك يقول: ]وأودعته أحاديث صحيحة تبركاً بها[، لما فيها من البركة والخير، والله جعل البركة في كتابه وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"أوتيت القرآن ومثله معه"، وقد قال الله - عز وجل -: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } فمن البركة ذكر هذه الأدلة، يقول رحمه الله: ]وحكم المضبب بهما[، يعني بالذهب والفضة، والضبة قيل إنها مأخوذة من حلقة الضب وهي طبعاً العادة في الأبواب أنها تضبب والخشب يضبب فتوضع الحديدة تكون من الحديد أو غير الحديد، ولكن أئمة اللغة غالباً يعبرون بالحديد، توضع على طرف الباب بحيث تحفظ الخشب من التهشم، فتكون ضبة من الحديد مثل الوقاء، قوله رحمه الله:]حكم المضبب بهما[، يعني بالذهب والفضة، فلو أن كأساً من زجاج ضبب بالذهب والفضة، فتأتي مثلاً إلى فم الكأس ورأس الكأس موضوعة الفضة دائرة عليه، أو مموه بالذهب أو مطلي بالذهب من فمه، فإننا نقول المضبب بالذهب والفضة حكمه حكم ما كان ذهباً وفضة خالصة، وبناءاً على ذلك أراد المصنف أن يبين أنه لا فرق بين الذهب الكثير والذهب القليل، فكل إناءٍ وكل وعاءٍ طلى بالذهب أو طلى بالفضة ولو كان شيئاً قليلاً فإنه محرم.(1/166)
]إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة[، إلا استثناء والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ فأراد أن يبين لنا أن هناك أشياء مستثناه يحكم بجوازها، مع أنها مطلية بالذهب والفضة أو فيها الذهب والفضة، ومن ذلك الضبة اليسيرة، والضبة اليسيرة طبعاً تكون في الأوعية والآنية، كانوا في القديم تنكسر الآنية فيصبون الذهب أو يصبون الفضة، ويسلسلون هذا الكسر ويستخدمون الآنية، ويبقى الإناء ويستعملونه، الأصل في هذا الاستثناء ما ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك- رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انكسر القدح سلسله عليه الصلاة والسلام بفضة، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أنه يجوز وضع الضبة اليسيرة في الإناء، بشرط وجود الحاجة هذا الشرط الأول أن توجد حاجة، متى تكون الحاجة موجودة بحيث لا يوجد بديل عن الفضة فلو وجد البديل فليس بمحتاج، لو انكسر الزجاج وأمكن لحامه كما هو موجود في زماننا، فإننا لا نجيز أن يسلسله بالفضة، لأن الحاجة غير موجودة، والحاجة أن لا يتأتى سد هذا الكسر وحفظ هذا الوعاء إلا بالفضة، ثانياً أن تكون الضبة يسيرة، فلا تكون كثيرة طيب ما هو ضابط اليسير، قال بعض العلماء ضابطه أن لا يرى من البعد، بحيث لو وضع الإناء بعيداً ما يرى الإنسان هذه السلسلة من الذهب أو الفضة، وهذا الضابط مشكل عند طائفة من العلماء ورده غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، وقال بعضهم الضبة اليسيرة ما لا يتفاحش عادة يعني في العادة، وهذا الضابط يجري مجرى الأصول لأن الأصل عند العلماء في الضوابط إذا لم يرد لها دليلٍ من كتاب وسنة يحددها أنه يرجع إلى العادة والعرف، وهذا الأشبه عند العلماء رحمهم الله، أن توجد حاجة، وأن تكون الضبة يسيرة، وأن لا يباشر بالشرب موضع الضبة، فإذا أراد أن يشرب لا يشرب من الموضع الذي فيه الضبة وإنما يشرب من موضعٍ ليست فيه تلك الضبة، لماذا؟، لأن القاعدة أن ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها فنحن نحتاج(1/167)
الضبة من أجل استصلاح الوعاء، فالشرب منها زائد على الأصل، والأصل أنه لا يجوز أن يشرب من الذهب والفضة، فلما كان الموضع فيه ذهب أو فضة فإنه لا يباشره بالشرب، هذه الشروط لا بد من توفرها وهي مبنية على الأصل الذي ذكرناه فاستثنى رحمه الله الضبة اليسيرة.
…قال المصنف رحمه الله: ]ويجوز استعمال سائر الآنية الطاهرة واتخاذها[.
…يقول رحمه الله: ويجوز استعمال سائر الآنية الطاهرة واتخاذها، هذا العموم مستفاد من دليل الكتاب في قوله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } وأراد المصنف بهذه الجملة أن يبنين أنه يجوز للمسلم أن يستخدم سائر الآنية، من الزجاج من الخشب من الحديد من النحاس وغيرها، ومن الأشياء الغالية من الياقوت من الزبرجد من المُرجان من اللؤلؤ، يجوز استخدام سائر الآنية في الحقيقة الآنية إما أن تكون من الأثمان التي هي الذهب والفضة، وإما أن تكون من غير الأثمان، وإن كانت من غير الأثمان إما أن تكون من الأشياء النفيسة الغالية، وإما أن تكون من الأشياء غير الغالية فعرفنا حكم ما كان من الأثمان من الذهب والفضة، بقي غير الذهب والفضة، إما أن يكون من الأشياء العزيزة الغالية، مثل ما ذكرنا الياقوت والمرجان والزبرجد والفيروز، فإن كانت الآنية من الأشياء الغالية النفيسة فهذه الأشياء الغالية النفيسة على ضربين، الضرب الأول أن تكون غالية ونفيسة لجودة معدنها، مثل الياقوت والمرجان والزبرجد والفيروز، هذه أشياء غلاء ثمنها مبني على نفاسة معدنها، وغلاء الجوهر مادة الياقوت والمرجان مادته غالية الثمن، الضرب الثاني أن يكون غلاؤها لجودة صنعتها، فقد تجد الإناء من الخشب ولكنه منقوش نقشاً أو يكون من الزجاج ومحفور حفراً قد يساوي الثلاثة والأربعة الآنية من الذهب، وهذا تابع لجودة الصنعة فما كان من الآنية غلاؤه لجودة صنعته فجماهير أهل العلم رحمهم الله على جواز استعماله(1/168)
واتخاذه والوضوء منه والطهارة منه في وضوء وغسل وغير ذلك، أما إذا كان غلاؤه لجودة معدنه ونفاسته كالزبرجد والياقوت ونحوه فللعلماء وجهان، من أهل العلم من قال: حرم استعمال آنية الذهب والفضة لغلائها وعظم ثمنها، فلما كانت غالية فهذه الآنية من المعادن النفيسة أغلى من الذهب والفضة فهي أولى بالتحريم، فيرون أن العلة من جهة الغلاء أن فيها كسر قلوب الفقراء وغلاء معدنها، فيتفق هذا النوع مع الذهب والفضة فتكون العلة في الأثنين واحدة، ويكون الشرع بناءاً على هذا القول نهى عن الذهب والفضة لكي يدل على أنما كان أغلى من الذهب والفضة لا يجوز، هناك من أهل العلم من قال: الذهب والفضة حرم الله استعمال آنية الذهب والفضة لأن الناس تحتاج إلى الذهب والفضة، وإذا أصبح الذهب والفضة يستخدم في هذه الآنية قل معدن الذهب والفضة في السكة والضرب، وحينئذٍ يحصل بالناس ضرر، وعلى هذا القول لا يرون أن الحكم يسري إلى غير الذهب والفضة من الأشياء الغالية النفيسة، لأنه لا يوافق الذهب والفضة في الثمنية غيرهما، وهناك قول ثاني يتوسط بين القولين يقول طبعاً أن العلة في الذهب والفضة عنده كسر قلوب الفقراء والضعفاء، والأشياء الغالية النفيسة هذه كثير من الفقراء لا يعرفونها وكثير من الضعفاء لا يعرفونها، فيجزون استعمالها، على كل حال الأصل الشرعي يقتضي أن الحل لغير الذهب والفضة، ومن جهة المعنى يقوى قول من قال بأنها أولى بالتحريم من جهة النظر للعلة التي ذكرناها، فإن نظر إلى الإسراف والبذخ فالإسراف والبذخ بهذا أبلغ، وإن نظر إلى الجودة وغلاء الثمن نفس الشيء، وبناءاً على ذلك الأقوى من حيث النظر قول من قال بالمنع، والأقوى من حيث الأثر قول من قال بالجواز.(1/169)
…قال رحمه الله: ]ويجوز استعمال سائر الآنية الطاهرة[، إذا كان الإناء طاهراً يباح استعماله، ومفهوم الوصف بالطهارة أن النجس لا يجوز استعماله، فلو كان هناك قربة من جلد خنزير أو جلد سبع لأن جلود السباع لا تطهر ولو دبغت، على الصحيح وهو قول الجمهور، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال:"دباغ الأديم ذكاته"، فدل على أن الدباغة فيما يذكى، يعني من جسمه ولذلك جعل الدباغ بدل عن الذكاة، فدل على اختصاصه بما يذكى، فإذا كان من جلد السباع الوعاء من جلد الأسد أو من جلد النمر فإنه لا يجوز استعماله، إلا أن بعض العلماء قال: إن كان في جنس النجاسة في أشياء نجسة مثل حمل النجاسة ونحو ذلك فلا بأس، وإنما عبر بالغالب لأن الغالب أن الإنسان يستعمل الوعاء فيما تشترط طهارته، يستعمله للوضوء للغسل، يستعمله في الأكل والشرب هذه كلها لا بد فيها من الطهارة، ومن هنا عبر رحمه الله بهذا الوصف، ومفاهيم المتون معتبرة، مفهوم الوصف بالطهارة إن النجس لا يشمله الحكم.
…قال المصنف رحمه الله: ]واستعمال آواني أهل الكتاب وثيابهم ما لم تعلم نجاستها[ .
…أي ]ويجوز استعمال أواني أهل الكتاب واستعمال ثيابهم مالم تعلم نجاستها [، أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وصفوا بذلك لأن لهم كتاباً سماوياً، فاليهود لهم التوراة والنصارى لهم الإنجيل، والصحيح عند العلماء رحمهم الله وهو مذهب طائفة من السلف والخلف، اختصاص ذلك بهاتين الطائفتين لقوله تعالى : { أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } ، فخصوا أهل الكتاب بهاتين الطائفتين.(1/170)
وأواني أهل الكتاب وثيابهم تنقسم إلى قسمين، القسم الأول أن تكون منسوبة إليهم بالصنع، والقسم الثاني أن تكون منسوبة إليهم بالاستعمال، فما كان من أواني أهل الكتاب منسوباً إليهم بالصنع وجديداً فيجوز استعماله، مثلاً حينما يأتينا الكأس من الزجاج من بلد فيه صانعه نصارى فإننا نستعمله وهو طاهر، والأصل أنه طاهر فيجوز أن تستخدم هذه الكأس وهذا الطقم من الصحون، ولا بأس ولا حرج لأنه على الأصل من الطهارة، وكذلك الحكم بالنسبة لثيابهم، فالثياب إذا جاءت منسوجة من بلاد الكفار، أو جاء القماش من بلد أهل الكتاب جديداً مثل طاقات القماش، فالأصل أنها طاهرة ولا يحكم بنجاستها، لأن مادتها وخامتها طاهرة، والأصل هذا مستصحب على أنها طاهرة مالم نعلم أنها نسجت بماء متنجس أو على وجه يقتضي الحكم بنجاستها، فهذا مستثنى لكن الأصل أنك تستخدم أوانيهم وثيابهم الجديدة، ونسبتها إليهم بالصنع لا يضر ولذلك لبس عليه الصلاة والسلام البُرْدة الحبرة وكان قد أتاه من نجران، فكان أهل الكتاب بنجران، وأوتي عليه الصلاة والسلام بأشياء من الشام من ثياب أهل الكتاب ولبسها عليه الصلاة والسلام، وكان الصحابة رضوان الله عليهم ينتفعون بمصنوعات الكفار ولا يحرمونها، هذا من حيث الأصل، إما إذا كانت ثيابهم وآنيتهم تستعمل وتنسب إليهم بالاستعمال، فعند طائفة من العلماء أن اليهود أكثر تحفظاً من النصارى في مسائل، ولذلك اليهود في الذبائح يحتاطون لدينهم أكثر من النصارى، ومن هنا استضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهودي على خبر وإهالةٍ سمخة فأكل عليه الصلاة والسلام طعامه، وفي الصحيح أنه استضافته يهودية في الشاة المسمومة فأكل عليه الصلاة والسلام من طعامها، وهذا مبنى على أنهم يتحفظون في الأصل يعني في دينهم أنهم يتحفظون، وهم أشد من النصارى في هذا، ذكر هذا غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم، وفي التذكية كذلك أنهم في التذكية - وسيأتينا إن شاء الله في(1/171)
باب الذبائح وأحكامها - أنهم يتحفظون أكثر من النصارى، وذبائحهم في التوقي أكثر من النصارى، والحكم بحلها أقوى من غيرهم، وظاهر النص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي أنه لا يجوز للمسلم أن يأكل في آنية اليهود والنصارى، ما لم يحتاج إلى ذلك، فإذا احتاج إلى ذلك وجب عليه أن يغسلها ثم يأكل فيها، قال: يا رسول الله إني بأرض فيها أهل كتاب حديث أبى ثعلبة الخشمي في الصحيح أفنأكل في آنيتهم قال: لا هذا جوابه عليه الصلاة والسلام لا والسؤال معاد في الجواب أي "لا تأكلوا في آنية أهل الكتاب، إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها"، والسبب في هذا أن آنية الشرب يشربون فيها الخمر وهي نجسة وخبيثة، وآنية الأكل يأكلون فيها الخنزير وهو نجس وخبيث، ومن هنا استدل جمهور السلف والخلف على أن الخمر نجسة بأمره عليه الصلاة والسلام بغسل آنية الكفار، الذين هم أهل الكتاب، وذلك لأنها في الشراب يوجد فيها المشروب النجس وهو الخمر، وفي الأكل يوجد فيها المأكول النجس وهو الخنزير، ومن هنا قال:"فاغسلوها ثم كلوا فيها"، وقوى ذلك الأصل من المنع منها لأنها ولو غسلت هي في الأصل تطبخ فيها الخمر، وهي مادة خبيثة نجسة فالأصل أنه لا يجوز استعمالها مالم يحتج هذا الشرط الأول توجد حاجة، وثانياً أن يغسلها ثم يأكل فيها، وأما ظاهر هذا العبارة أنه يجوز له الاستعمال مطلقاً ولكن على التفصيل الذي ذكرناه.(1/172)
بقي السؤال حول ثياب الكفار إذا كانوا من أهل الكتاب، آنيتهم كما ذكرنا إن كانت جديدة تستعمل مالم تعلم نجاستها، وإن كانت يستعملونها لا يجوز استعمالها إلا أن لا يجد غيرها، فيغسلها ثم يستعملها، فإن كانت ثياباً لهم فمن أهل العلم من حكم بنجاسة ثيابهم، ثيابهم إن كانت مصنوعة كما ذكرنا، إذا جاءتنا الطاقة من القماش من بلد كافر حكمنا بطهارتها مالم نعلم نجاستها، وأما إذا كانت تستعمل مثل ثوب الكافر وعمامة الكافر وشرّاب الكافر ونحو ذلك من القميص والملابس، فمن أهل العلم من منع وقال: ثياب الكفار لا تستعمل مطلقاً، وإذا احتاج إلى استعملها غسلها ثم استعملها لأنهم لا يتحفظون ولا يتوقون من النجاسة، ولربما طبعاً يشرب الخمر وتقع عليه وهو لا يتوقى مثل ذلك، ومن أهل العلم من قال: العمل على الظاهر، فما كان من ثيابهم يلي فروجهم فإنه يحكم بنجاسته حتى يطهر، لأنهم لا يتحفظون من النجاسة، وما كان من ثيابهم لا يلي النجاسة فإنه يجوز استعماله وهو طاهر على الأصل، وعلى كل حال الأصل الذي بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الآنية إذا طرد نظراً اقتضى المنع إلا أن يُطّهر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]وصوف الميتة وشعرها طاهر[.(1/173)
يقول رحمه الله: ]وصوف الميتة وشعرها طاهر[، صوف الميتة اختلف فيه العلماء رحمهم الله وجماهير السلف والخلف، على أنه يجوز الانتفاع بصوف الميتات وشعرها وهذا هو الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة، قال تعالى: { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً } ، وحكى بعض أهل العلم الإجماع وحكم بشذوذ قول من قال بعدم الانتفاع بأصواف الميتات، ووجه الدلالة من الآية الكريمة أن الله امتن علينا بصوف الحيوان وشعره وهو يجز في حياته، فلو كان مما تحله الحياة لحكم بنجاسته وعدم جواز الانتفاع به إلا بعد تذكية الأصل وجزه منه، ولكن لما كان يجز حال حياته حياة الحيوان أخذ حكم المنفصل ولم يأخذ حكم المتصل، والسبب في هذا أن الصوف والشعر الحياة فيهما حياة نمو وليست بحياة روح، وتوضيح ذلك أن الحياة تنقسم إلى قسمين، حياة روح وهي الحياة التي يتحرك بها الجسد، وهذه الحياة لا إشكال أنها إذا كانت في العضو ثم سلبت بغير ذكاه في الحيوان الذي يذكى، أنها توجب الحكم بالنجاسة، فلو أن شاة ماتت ولم تذكك لم يجز لأحد أن يقطع يدها لأن اليد حياتها حياة روح، وحياة الروح وحياة النمو الفرق بينهما أن حياة الروح فيها الإحساس بالألم، وأما حياة النمو فلا ألم فيها ولا إحساس، حياة النمو مثل النبات فإن النبات حياته حياة نمو وليست بحياة روح، وحياة الروح مثل ما يكون في البهيمة من الغنم البقر والإبل، فإنه إذا قطعت يد البقرة وهي حية فهي نجسة حكمها حكم الميتة، لأن اليد حياتها حياة روح، وبناءاً على ذلك الصوف والشعر حياته حياة نمو، لأنك لو أمسكت الشعرة فأحرقت طرفها لم تحس بالألم، ولذلك لو أحرقت طرف الشعر لا تشعر بالألم في الرأس، لأن حياته حياة نمو وليست بحياة روح، ولكن لو أحرقت طرف الأصبع لوجدت ألمه في البدن، ومن هنا يفرق بينما ما كانت حياته حياة روح، وبينما كانت حياته حياة نمو، فالصوف والوبر والشعر طاهر سواء جز في حال حياة(1/174)
البهيمة أو حال موتها، فإذا جز جاز الانتفاع به، ولا بأس ولا حرج في ذلك وهو طاهر.
بين رحمه الله هذا الحكم لتعلقه بمسألة الثياب، وقلنا أن العلماء يذكرون المسائل في المظان، فيذكرون أحكام الشعر والصوف في باب الآنية من باب التبع وليس أصلاً، وهذا من باب العناية بالمظان.
- - - - - الأسئلة - - - - -
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ يقول السائل: من توضأ إناء من ذهب، هل يبطل وضوءه أم لا؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .…أما بعد.
فقد اختلف العلماء رحمهم الله فيمن توضأ من إناء ذهب أو فضة، أو اغتسل من إناء ذهب أو فضة، فهل غسله ووضوءه صحيح؟، الجمهور على أن وضوءه وغسله صحيح، وذهب بعض العلماء إلى عدم صحة الطهارة، والصحيح مذهب الجمهور وذلك لأن الوضوء وقع بواجباته وفرائضه التي يحكم بالصحة لوجودها، وأما بالنسبة لكون الإناء من ذهب أو فضة فإنه منفصل عن ذات الوضوء، والنهي عنه نهي عن منفصل، لا متصل بالعبادة، ولذلك لا يقتضي فساد العبادة من هذا الوجه، فيحكم بإثمه وصحة وضوءه والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
يقول السائل: هل يلحق الطلاء باللون الذهبي الذي ليس بذهب، هل يلحق بالذهب في الحكم؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
لا يلحق إذا كان الإناء مطلياً بالنحاس ولونه لون الذهب، أو بالصفار أو بما يشبه الفضة فإنه العبرة بالأصل لا بالشكل والاسم، فالصفة والاسم لا يؤثران في الحقيقة والجوهر، فما دام أن جوهر المادة ليس من الذهب ولا من الفضة فهو حلال ولا يقتضي الحكم بالتحريم والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
يقول السائل فضيلة الشيخ: هل يجوز وضع الأسنان من الذهب؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/175)
الأصل أنه يضعها من غير الذهب وذلك لأنه تنسد أو تحصل الحاجة بغير الذهب والفضة، فإذا تعذر وجود غير الذهب والفضة جاز له ويبدأ بالفضة، فإن تضرر بالفضة بسبب الرائحة والنتن جاز له أن يضعها من الذهب، والذليل على ذلك أن ابن عرفطة جدع انفه يوم كلاب واشتكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن حكمة الله - عز وجل - الذي تبارك وهو أحسن الخالقين - سبحانه وتعالى - ولا خالق سواه، أنه جعل الأنف يمنع من دخول القذر، ويمنع من دخول النتن والهوام، وجعل فيه هذه الشعيرات الرقيقة، صنع الله الذي أتقن كل شيء - سبحانه وتعالى -، فجدع أنفه فحصل الضرر لأن هذا يضره كثيراً فيدخل إلى داخل جوفه، ويضره ولو كان الهواء أو العج لا شك أنه يتضرر، جدع بمعنى قطع فاشتكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجده فأذن له أن يتخذ أنفاً من فضة، فلما اتخذ الأنف من الفضة انتن لأن الفضة معدنها فيه نتن، فانتن وأصبحت الرائحة كريهة وتأذى واشتكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذن له أن يتخذ أنفاً من ذهب، هذا الحديث أصل عند العلماء رحمهم الله ولكن فيه اشكال من جهة السند، والمنصوص عليه عند أهل العلم رحمهم الله هذا، فالأسنان الحمد لله موجود المعادن الأخر ما يمكن أن تحصل به الحاجة وتسد به الحاجة، ولكن إذا وجدت ضرورة فإنه يجوز وضع الأسنان من الذهب بقدر الضرورة، فإذا أنعدمت وزالت الحاجة فإنه يزيلها، ومن هنا يرد السؤال إذا توفي وعليه أسنان من ذهب المنصوص عليه عند بعض أهل العلم رحمهم الله في فتاويه أنه تزال هذه الأسنان من الذهب لأنه قد زالت الحاجة، خشية أن يعذب بها ثم يُفَصّل في زوالها، إذا أمكن أزالتها دون وجود الجرح والأذية والضرر فتزال، خاصة مع وجود بعض الأشياء الآن التي يتيسر بها مالم يكن متيسراً في القديم، فيعمل بهذا الأصل أما إذا كانت إزالتها فيها ضرر وتشويه فإنها لا تزال وتبقى والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع:(1/176)
يقول السائل: فضيلة الشيخ أفيدونا حفظكم الله ما الضابط في الحركات التي تبطل الصلاة وهل إذا اخرج المصلى المناديل من جيبه واستخرج منها واحدة ثم أزال ما بفمه ثم وضع المنديل في جيبه مرة ثانية فهل من فعل كل هذه الحركات فسدت صلاته؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
الحركات التي تبطل الصلاة أختلف العلماء في ضابطها، منهم من قال ثلاث حركات متتابعة متوالية، فإذا كانت أكثر من ثلاث حركات، حكم ببطلان صلاته تكون متوالية، والسبب في هذا قالوا: إذا كانت غير متوالية مثلاً في الركعة الأولى وفي الركعة الثانية وفي الركعة الثالثة قالوا: إن النبي- صلى الله عليه وسلم - رقى المنبر ونزل وحصل الفاصل بين رقيه ونزوله صلوات الله وسلامه عليه، ومن هنا فرقوا بين المتتابع وبين غير المتتابع، وقال بعض العلماء: إن الحركات لا تضبط بالعدد، وإنما تضبط بالحقيقة فإن كانت حقيقة الحركة لا تليق بالمصلي بحيث لو راءه شخص من بعيد لقال هذا في غير صلاة، حكم ببطلان صلاته، وأما إذا كان لو راءه لا تخرجه عن أصل الصلاة فإنها لا تؤثر، وهذا الضابط أقوى من الضابط الأول، وحظه من النظر أبلغ، الأصل يقتضي أنه لا يجوز للمسلم أن يتحرك في صلاته، لكن إذا احتاج أن يتحرك إما أن يتحرك لمصلحة نفسه، كأن يكون هناك ضرر عليه، فيتحرك يتقدم أو يتأخر رأى حية فتحرك تقعقع أو رأى عقرب فقتلها أثناء صلاته، فهذا يرخص له مالم يتفاحش، ولذلك وردت السنة بالأذن بقتل الحية أو العقرب، وكذلك أيضاً دل على هذا الحكم حديث الصحيحين عن عليه الصلاة والسلام أنه كان في صلاه فتكعكع فتكعكع الصف الأول، يعني تأخر عليه الصلاة والسلام فتأخر الصحابة في الصف الأول،فقال:"ما شأنكم: قالوا: يا رسول الله رأيناك تكعكع فتكعكعنا، قال: أما أنه قد أتاني إبليس بشهاب من نار فذعته، (يعني خنقته) حتى وجدت برد لسانه على كفي" فقوله تكعكع أي أنه رجع لما رجع عليه الصلاة والسلام لحفظ النفس، ومن هنا أحل(1/177)
الله- عز وجل - للمجاهد في سبيل الله أن يصلي وهو يضرب العدو، لأنه في هذه الحالة لا بد له أن يعتني بنفسه، فرخص الله له بالقتال في دفع الضرر { } ، فالمسلم إذا كانت ساعة القتال وساعة إلتقاء الصفين وتقابل الزحفين في الجهاد يجوز له أن يصلي وهو يضرب العدو، طبعاً ما يستطيع أن يركع ويسجد يصبح يصلي بالأقوال الله أكبر سبحان ربِّ العظيم وهو يضرب العدو، فهذه حركات خارجة عن الصلاة لكنها لإنقاذ النفس، وحفاظاً على النفس ومن هنا إذا كانت الحركة لمصلحة الإنسان في دفع ضررٍ عن نفسه جازت، وأما إذا كانت الحركة لمصلحة الغير مما له اتصال بالإنسان، كالأم تنشغل بصبيها وصغيرها، لو تركته ما عرفت كيف تصلي، فيجوز لها أن تحمله فتتعاطى الحركات أثناء قيامها، ترفعه وأثناء سجودها تضعه، هذه حركات وقد فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشريعاً للأمة، لأن النساء والأم من شأنها أنها تتعلق بصبيها فأبيح لها هذا الفعل لأنه دفع للمفسدة العظمى من فوات الخشوع وهذا من حكمة الشريعة، فهذا الحركة لمصلحة الغير المتصلة بالإنسان، ومن هنا يجوز لك أن تقدم المتأخر في الصف لأن مصلحته ارتبطت بمصلحتك في إتمام الصف وتعديله، فهذه حركات لمصلحة الغير متصلة بالإنسان، لكن إن كانت مصلحة الغير منفصلة عنك فلا، قالوا: ما يتحرك ولا يفعل مثل أن يرى شخصاً على حالة ويريد أن ينبهه، أما إذا كانت الحركة لمصلحة الصلاة فإنه يجوز للمصلي أن يتحرك لمصلحة الصلاة مثل أن يرى فرجة في الصف الذي أمامه فيتقدم بخطوات يسيره، ولا بأس في ذلك ولا حرج، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحرك لمصلحة الصلاة، فإنه رقى المنبر فكبر عليه عليه الصلاة والسلام كما في حديث سهل بن سعد الساعدي في الصحيحين رضي الله عنه وأرضاه، فكبر عليه ثم ركع عليه ثم رفع ثم نزل القهقرى ثم سجد في أصل المنبر، ثم قام إلى الركعة الثانية وطلع على المنبر ثم قال:"إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا(1/178)
صلاتكم"، فجعل هذا من مصلحة الصلاة، ومتعلقة بالجماعة وتشريعاً للأمة، فإذا كانت هذه الحركات لمصلحة فلا بأس بها، أما ما ورد في السؤال من كونه يخرج المنديل، فالأصل أن المصلي يجوز له أن يبصق أثناء صلاته لورود السنة والأذن بذلك، فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا احتاج المسلم أن يتنخم وهو في صلاته، أن لا يتنخم عن يمينه فيؤذي الذي عن يمينه، ولا يتنخم قبل وجهه ولكن يتنخم تحت قدمه اليسرى، فيبصق ثم يدفن نخامته بقدمه، وهذا حينما كانت المساجد من التراب، ولذلك تختص الرخصة بهذه الأحوال، أما إن كان في مسجد مفروش فإنه لا يتنخم على الفراش، فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذنوب أمته وقال:"منها النخامة في المسجد"، فلا يجوز أن يتنخم على الفراش ولكن يتنخم في المنديل، فإذا جاءته النخامة واحتاج أن يخرج المنديل فلا بأس، ولكن ماذا يفعل؟، يدخل يدٍ واحدة إلى جيبه، ويخرج المنديل منديلاً واحداً، لأنه بدل أن يشتغل بيديه يستطيع أن يشتغل بيد واحدة، فيدخل يده في جيبه ويخرج منديلاً واحداً هذه طريقة، والطريقة الثانية أن يأخذ جيبه الأيسر ويسحبه إلى قريب من فمه ويجوز له أن يعطف على جنبه كما يجوز له يعطف على الفراش، فالكل جائز ولا بأس به ولا حرج فيه والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
يقول السائل: شيخنا الكريم وفقك الله وفتح عليك، ما هي أفضل الطرق لضبط الفقه وهل دراسة متن معين في مذهب معين من المنهجية الصحيحة لدراسة الفقه؟، وجزاك الله خيراً.
الجواب :(1/179)
أفضل الطرق عاد الله المستعان يا أخوان أشفقوا في السؤال والفتوى، لا يحسب أحد أن كل سؤال يعني همل بالسهل، أفضل طريقة أفضل الضوابط أفضل الأصول أفضل الكتب أفضل التفاسير أفضل كتب الفقه، هذه يحتاج أن تكون قرأت جميع كتب التفاسير، حتى تستطيع أن تشهد أمام الله أن هذا أفضله، وتكون قرأت جميع كتب العقيدة حتى تشهد أمام الله أن هذا أفضله، فإذا سأل أحد عن أفضل كتب العلم قل له كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا سأل عن أفضل كتاب في الحديث قل له صحيح البخاري وصحيح مسلم، لأنها من خيار الأحاديث التي أتفق عليها، فأشفق على من تسأل قل ما هي الطريقة المعتبرة أو كذا أو نحو ذلك، على كل حال الفقه لا بد فيه من منهجية، ونحن ذكرنا غير مرة أن متون الفقهاء هي خلاصة الفقه وزبدة الفقه، المطلوب من طالب العلم ما يلي:
أولاً: قرءاه المتن أكثر من مرة، وضبط شكله فإذا قرأ المتن أكثر من مرة قبل حضور الدرس.
ثانياً : إذا أمكن وجود شرح مختصر ليس فيه إسهاب وتوسع يحضر لقراءة هذا الشرح المختصر، وإلا اقتصر على القراءة والتكرار أكثر من مرة، ولكلما كرر كلما كان ذلك أضبط له في المسائل والأحكام.
الأمر الثالث: إذا حضر في مجلس العلم فالأفضل أن ينصت ويركز، هذا أفضل شيء، أنه لا يشتغل بشيء إلا الإنصات والتركيز، لأن الله ما جعل لرجل من قلبين في جوفه، فينبغي أن يستفرغ همته لأن يسمع وأن يعي، إذا أراد أن يعلق بعض الأشياء فهذا خلاف الأفضل والناس يختلفون، ولكن الأفضل له أن ينصت إنصاتاً كاملاً، ويستوعب ما يقال له.(1/180)
الأمر الرابع: بعد أن ينتهي من الدرس يرجع إلى بيته ويحرص دائماً بعد مجالس العلم أن لا يشتغل بغير العلم، حتى يستصحب الخير والبركة والنعمة التي كان فيها، فإن الاشتغال باللهو بعد الذكر يذهب كثيراً من الخير، ويكون الإنسان مع الغافلين والساهين، ولذلك شرع الله بعد الصلاة الأذكار التي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها معقبات لا يخيب قائلهن، وأنها توجب غفران الذنوب وإن كانت مثل زبد البحر، استتماماً للخير واستدامة له، فطالب العلم بعد الدرس يحرص على أنه يرجع ويجلس مع نفسه، أو يجلس مع طالب علم حضر المجلس، وهذه طريقة السلف الصالح رحمهم الله، فيجلس معه ويتذاكرون ماذا كان، فهذا يكمل نقص هذا وهكذا، الطريقة المعتبرة أنك أولاً معنى العبارة الموجودة في المتن ما هو المطلوب منك في قراءة المتن، معنى العبارة، تفكك هذه العبارة معناها، ثانياً الحكم المستقى منها دليل هذا الحكم، إذا فهمت معنى العبارة وعرفت الحكم المستقى منها، وعرفت دليل هذا الحكم تقتصر على هذا، لا تدخل في خلافات العلماء ولا في الردود ولا في المناقشات حتى تضبط الفقه كاملاً، ثم ترجع بعد ذلك إلى مرحلة ثانية ودرجة ثانية من الضبط، فتبدأ بسلم العلم كما ينبغي تبدأ بصغار العلم قبل كباره، المشكل لطلاب العلم اليوم أنه يجلس في الحلقة أو يسمع عالماً أو شيخاً أو مدرساً ويأخذ منه، ثم يذهب إلى شيخ آخر والله فلان رجح كذا، ما رأيكم؟، فلان أجاب بكذا، ما قولكم؟، قالوا قلنا قالوا قلنا لا يبقى معهم من العلم شيء، ولذلك تنزع منه البركة ولربما يصبح نماماً يوماً من الأيام والعياذ بالله، فهذا من أسواء مما تمحق به البركة ما كان العلماء يعرفون هذا كانوا يعرفون لكل عالم وشيخ حقه وقدره في علمه، إذا جئت تطلب العلم على شيخ تأخذ عنه علمه بالدليل وتقف بين يدي الله - عز وجل - بحكم بدليله، ثم تقول يا رب أعتقد هذا لقولك لقول رسولك عليه الصلاة والسلام، حتى تتم ذلك(1/181)
وتعيه وتفهمه، ثم تنتقل إلى من هو أعلم وأكثر ضبطاً وأكثر توسعاً، أو تنتقل إلى درجة أخرى من قراءة متون الأحاديث والدلالة منها ونحو ذلك، تبدأ من حيث بدأ العلماء والأئمة والكبار، تبدأ بصغار العلم قبل كباره رحمك الله حتى يفتح عليك وتضبط، بعض طلاب العلم يحس أن عنده طاقة بمجرد ما يقرأ الشرح يستهين بالشرح، فينتقل إلى المطولات المغني والمجموع ومنهم من يكتب شرحاً مستقلاً، ثم بعد فترة لا يمسك شيء، إن المنبت لا ظهراً أبقى ولا أرض قطع، فتبدأ بهذه الطريقة لا يستهين الشيطان بك فيقول لك أنت طالب علم وأنت مستواك أكبر ولذلك يغر طالب العلم بنفسه، لكن حينما يقول ما عندي علم والحقيقة أننا ليس عندنا علم إلا إذا ورثنا عن أهل العلم، وهذا علم الصحف والصحفي الذي يذهب ويمسك الكتب ويقرأ منها هذا ليس بعلم، لأن الله جعل العلم إتاءاً لأهل العلم، وجعله سلسلة متصلة من عالم إلى عالم حتى يتصل سندك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأخذ العلم عن أهله، فهذا أمر مهم وينبغي على طالب العلم أن يعتني به، تكتب الخلاصة في كل مجلس ثم تراجع هذه الخلاصة وتكتبها في دفتر عندك يعتبر أصل لهذا المتن الذي تقرأه، إذا فتح الله عليك وتوسعت رجعت إلى هذه الأصول كما نرجع نحن إلى أصولنا التي كنا نتلقاها عن علمائنا ومشائخنا ووجدنا في ذلك من الخير والبركة ما الله به عليم، هذا الذي يوصى به طالب العلم، أما قراءة المذاهب فهذه مسألة مفروغ منها، لك سلف صالح تسير حيث ساروا وتأخذ من حيث أخذوا ما من عالم جهبذ من العلماء إلا وقرأ مذهباً، والذي يتلكم في المذهبية ويقول لك لا تقرأ مذهب، لو سألته عن المذاهب لكان أجهل الناس بها، فمن جهل شيئاً عاداه، وقد يكون جاهلاً ويريد أن يغطي جهله بالمذاهب فيقول لك ما تقرأ المذاهب، لأنك ستسأله تقول له ما الذي قرأت من الفقه؟، وما الذي ضبطت من متون؟، ما الذي تلقيته عن العلماء والأئمة حتى تفتي في الفقه؟، يقول(1/182)
لك أنا لا أعترف بالمتون الفقهية، لأنه يريد أن يستر جهله، لا يتكلم في هذه المتون إلا من يجهلها ويجهل قدر علمائها وأئمتها، لا حرج عليك أن تقرأ في المتون لكن بالدليل، الحرج التعصب وترك الحق وترك الدليل، أما أن تقرأ علم مستقى من كتاب الله وسنة النبي- صلى الله عليه وسلم - يعني الأمة في ضلال وهوى تأتي هذه المتون أكثر من عشرة قرون والأمة تتلمذ عليها ساكتون عن هذا المنكر، يعني كل هذه الأمة على ضلالة إلا نحن اليوم الذي أفقنا فيه لكي نعلم ضلالتهم، على طالب العلم أن يكون مستبيناً وأن يعرف الحق وأن يأخذه عن أهله، فلا حرج في قراءة المتون ما دام أنها تدعم بالأدلة من كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والحرج في التعصب حتى ولو قرأت في الأحاديث واستقيت من الكتاب والسنة وتعصبت فإنك على ضلال حتى تترك التعصب، لا يجوز لأحد أن يعتقد في شيخه أنه كامل مكمل لا يخطئ أبداً، بل عليه أن يعلم أنه بشر ولكن له فضله في علمه وضبطه فمتى استبان له حق عند غيره رجع إليه والله تعالى أعلم .
وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه وأفضل رسله.
تابع باب الآنية وباب قضاء الحاجة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]وصوف الميتة وشعرها طاهر، وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس[.
الشرح:
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.…أما بعد.(1/183)
فقد تقدم أن صوف الحيوان والشعر أمتن الله - عز وجل - بهما على عباده، وإذا كان الصوف والوبر والشعر على البهيمة، إما أن تكون حية وإما أن تكون ميَّتة، بمعنى أن يؤخذ الصوف في حال حياتها، فيجز ويقص من على ظهر البهيمة، أو يجز ويقص بعد موتها، فأما إذا كانت حية فإن الله تعالى أمتن بهذا الصوف والوبر على سيبل العموم، فقال تعالى: { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً } ، فكانوا يأخذون الصوف ويأخذون الوبر والشعر ويغزلونه فينتفعون به في صناعة السجاد أو الفراش أو اللباس الكساء والغطاء ونحو ذلك، فلما أمتن الله - عز وجل - بأصوافها وأشعارها وأوبارها دل على طهارتها، وأنها لا تحُلها الحياة فلا يحُكم بالنجاسة، فلو أن إنساناً جز شعر المعز وكانت حيّة حكمنا بطهارة هذا الشعر، وقلنا يجوز أن يصنع منه فراشاً ويصلي عليه والفراش طاهر، لكن لو ماتت هذه البهيمة وأراد أن يجز الصوف من على ظهرها، فهل هذا الصوف طاهر أو نجس يجوز الانتفاع به أو لا يجوز؟، جمهور العلماء على طهارته وحله وأنه يجوز الانتفاع به، وهذا على الأصل الذي قررناه من عموم الآية، ولأن الصوف والشعر لا تحله حياة الروح، وبناءاً على ذلك لا يحكم بنجاسته، فبيّن رحمه الله أن صوف الميتة وشعرها طاهر.
…قال المصنف رحمه الله: ]وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس [.(1/184)
…]وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس[، مسألة مهمة تتعلق بباب الآنية، ووجه تعلقها أنه يحُتاج إلى الجلد ومنه تكون الأشنان والقرب تصنع من الجلد، وقد يُتخذ الجلد فراشاً يصلى عليه، لكنه تعلقها بباب الآنية أن الجلود تصنع منها القرب والمزاده، فيرد السؤال هل إذا دبغ جلد الميتة وصنعت منه القرب ووضعه فيها الماء هل القربة طاهرة أو نجسة؟، هذه المسألة تكلمنا على خلاف العلماء رحمهم الله فيها والتفصيلات في مسألة جلد الحيوان عموماً ما الذي يطهره الدبغ، وما الذي لا يطهر بالدبغ في شرح بلوغ المرام، وفصلنا مذاهب السلف والخلف رحمة الله عليهم وأدلتهم والأقوال الراجحة، وحاصل الأمر أن الحيوان إذا كان مذكى وأخذت جلده ودبغته فهو طاهر، وجهاً واحداً عند أهل العلم رحمة الله عليهم، لقوله عليه الصلاة والسلام:"دباغ الأديم ذكاته"، وقوله عليه الصلاة والسلام:"أيما إهاب دبغ فقد طهُر"، أما إذا كان الحيوان ميتاً، لو أن شاة ميتة أُخذ جلدها ثم دُبغ هل يحُكم بطهارة الجلد بعد الدبغ أو لا؟، طبعاً الميتة نجسة فهل يستثنى من هذا النجس جلده؟، وهل يعتبر الجلد طاهراً إذا دبغ؟، اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وجمهور أهل العلم رحمهم الله من حيث الإجمال على أن الجلد إذا دُبغ أنه يطهُر ولو كان من حيوان مَيَّت، إذا كان من جنس الحيوانات التي تذكى، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح:"أيما إهابٍ دبغ فقد طهر"، فبيّن عليه الصلاة والسلام أن جِلْد الحيوان إذا دُبغ أنه يُحكم بطهارته، ولما قال في حديثه السنن:"دباغ الأديم ذكاته"، دل على أن جلد الميتة إذا أُخذ ودُبغ كأنه جلد مذكاةٍ، وهذا القول هو أصح قولي العلماء رحمهم الله، وبناءاً على ذلك فجلد الميتة يحل الانتفاع به إذا دُبغ، ولا يجوز الانتفاع به إذا لم يدبغ، والمصنف رحمه الله يرى أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغة، "دبغ أو لم يدبغ فهو نجس" ولا يجوز الانتفاع به،(1/185)
والمالكية يوافقون الحنابلة في أصل المسألة، ولذلك يستثنون جلد الميتة عند الحاجة والضرورة، ومن أمثلة الحاجة عندهم الصغير من ولد البهيمة إذا ماتت أمه يمتنع من الأكل، فإذا أمتنع من الأكل أخذوا جلد أمه ووضعوا الطعام فيه فشم رائحة أمه فيأكل، فيعتبرون هذا من مسائل الحاجة، لأنه لو تُرك يموت ويتلف، ولذلك عدوه من المسائل التي تستثنى في النجاسات، والتي نظمها بعض العلماء بقوله:
وجاز الانتفاعُ بالأنجاسِ في ……مسائل النظم بعدها يفي
في جلدِ ميتةٍ إذا ما دبغا ……ولحمها للاضطرار سوغا
وشحمُها تدهن منه البَكْرةُ ……عظامها بها تصفى الفضة
وجاز أن تشلى عليها الغُضْفُ ……بوفقهم والحملُ فيه الخُلْف
ولبنُ الأتُنَ للسعال ……والجلد للرئمان فيه جالي
وغُصْةٌ تزال بالرياح ……وبولُ الآدمي للجراح.
…هذه عشر مسائل المسألة الأولى يقول: ( في جلد ميتة إذا ما دبغا)، فعدوا الجلد نجس في مذهبهم وهذا محل الشاهد في (جلد ميتة إذا ما دبغ) وأبقوه على حكم النجاسة، (ولحمها للاضطرار سوغا) وهذا نص التنزيل أن من أضطر إلى أكل الميتة حلُّ له أكلها، (وشحمها تدهن منه البكرة)، البكرة هذه التي عليها الرشاء الحبل، فئإنها إذا اغترف الإنسان من البئر وأراد أن يسحبه إذا لم يكن على البكرة زيت أو شحم تؤذيه وقد لا يستطيع أن يرتفق بالماء، فإذا لم يجد إلا شحم الميتة أبيح له، (وشحمها تدهن منه البكرة عظامها بها تصفى الفضة)، يعني عظام الميتة تصفى بها الفضة وهي صنعة الصاغه لهم طريقة ينتفعون بعظام الميتة في تصفية الفضة من الشوائب، ( وجاز أن تشلى عليها الغضف)، يعني يجوز أن تُحرش الكلاب أكرمكم الله لأكل الميتات، من باب التعليم تعليم الصيد، لأن الكلب لا يتعلم الصيد إلا على الميتات، والإشلاء المراد به التحريش وقد يطلق الإشلاء بمعنى الدعاء فمن إطلاقه على التحريش قوله:
أتينا أبا عمر فأشلى علينا كلابه……فكدنا بين بيتيه نؤكل(1/186)
هذا رجل بخيل لما جاءه الضيف أشلى عليهم الكلاب فقال: (أتينا أبا عمر فأشلى علينا كلابه/ فكدنا بين بيتيه نؤكل) يعني الحمد لله على السلامة، ويطلق الإشلاء بمعنى الدعاء يعني تدعوا الشيء ومنه قوله:
أشليت عنزي ومسحت قعبي …ثم أنثنيت وشربت قعبي
فهنا مراده التحريش (وجاز أن تشلى عليها الغضف)، الغُضْفُ هي الكلاب، (بوفقهم) بالاتفاق في المذهب، (والحمل فيه الخلف) يعني أن تحمل الميتة إلى الكلب فيه خلاف، (ولبن الأتن للسعال)، لبن الأتان نجس لأن الأتن نجسة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في لحومها يوم خيبر:"إنها رجس"، لبن الأتن للسعال فإذا أصيب بالسعال الديكي أعاذنا الله وإياكم وهو يشفي على الموت، فإذا لم يجد دواءً يؤخذ لبن الأتان أكرمكم الله ويستعط يوضع في أنفه فيشفي بإذن الله، هذا على جواز القول التداوي بالنجاسات وبالحرام، (والجلد للرئمان فيه جالي)، هذا موضع الشاهد الجلد للرئمان صغير البقر لأنه يضرب عن الطعام يمتنع عن الطعام فيوضع الأكل في جلد أمه فيشم رائحة أمه فيقبل ويأكل، (وغصة تزال بالرياح) الرياح هي الخمر، فإذا غص الإنسان ولم يجد إلا خمراً جاز أن يسيغ الغصة إذا خاف الموت، (وبول الآدمي للجراح)، إذا كان هناك نزيف في الجرح ولا يرقأ ولا ينقطع يداوونه أكرمكم الله بالبول، فالبول يحرق ويقطع النزيف وهذا مثل ما يقولون آخر الدواء، ومن هنا تقول العامة: الجرح النحس ليس له إلا البول النجس، ما للجرح النحس إلا البول النجس، معروف عندهم هذا أنهم يتداوون به لقطع نزيف الجراح، هذه المسائل استثنوها منها موضع الشاهد معنا أنهم أجازوها عند الحاجة، وهذا يدل على أنهم في الأصل يرون نجاسة الجلد، بيّن رحمه الله أن جلد الميتة دبغ أو لم يدبغ لا يجوز الانتفاع به لأنه نجس، وهذا هو مذهب الحنابلة على المشهور، وعن الإمام أحمد أنه رجع إلى قول الجمهور والسبب في هذا القول حديث عبد الله بن عُكيم عن أشياخ من جُهيينة أنهم(1/187)
أتاهم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بشهر وفي رواية بشهرين، "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"، فلما قال:"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب"، الذي هو الجلد، "ولا عصب"، فهذا يدل على أنه لا يطهر جلد الميتة بالدبغ، لأنه لو كان يطهر لأحل لهم ذلك، وأوجيب بضعف الحديث لاضطرابه سنداً ومتناً، والكلام فيه مشهور ولكن هناك من أهل العلم من يضعف القول في الحديث ويعتبر ثبوته، منهم من يقول أنه حسن ويتسامح في الاضطراب الموجود فيه، وعلى القول بتحسينه فإنه لا يُدرى أيهما المتقدم وأيهما المتأخر، وكونه قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهر أو شهرين لا يمنع من أن يكون حديث ميمونة رضي الله عنها حينما مر بالشاة وقال:"هلا انتفعت بإهابها، فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها، وقال: أيما إهاب دبغ فقد طهر"، فحينئذٍ عندنا الحديث الباقي على الأصل من أن الميتة لا ينتفع بها وعندنا حديث ينقل عن الأصل، فحديث الجمهور ينقل عن الأصل ففيه زيادة علم، فيترحج ويقوى من هذا الوجه، ولأن القاعدة من ناحية السند أنه إذا تعارض ما في الصحيحين أو أحدهما مع غيره قُدم ما في الصحيحين أو أحدهما على ما في غيرهما، وحديثنا أصح سنداً وأقوى دلالة، فقوله: أيما إهابٍ، وهذا من صيغ العموم، وحديث "أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" يمكن أن يجاب عنه مالم تدبغوه يعني أن لا تنتفعوا حال كونه لم يدبغ، وبناءاً على ذلك يترحج مذهب الجمهور من قال إن الجلد إذا دُبغ حكم بطهارته، لا بد من الماء والقرض، فإذا دبُغ كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - "يطهره الماء والقرض"، فإذا دُبغ على هذا الوجه حكم بطهارته.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]وكذلك عظامها[.(1/188)
…وكذلك عظام الميتة اختلف في العظم هل هو نجس أو طاهر؟، هل تحله الحياة أو لا تحله؟، بعض العلماء يقول: العظم حياته حياة روح، ويلتحق باللحم في ذلك يقول الله تعالى : { وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } ، فجعلها من الخلق متصلة باللحم وجعل الحياة فيها، بين الله تعالى إنشازها وخلقها وتركيب الخلقة منها، قالوا فحياتها حياة روح، وقال بعض العلماء: العظم حياته حياة نمو، والدليل على ذلك أنه إذا احترق العظم مثل الظفر لا يحس بالألم مباشرة، والمسألة محتملة وهناك من الأصول ما يدل على أن العظم حياته حياة روح، ومن الأصول ما يدل على أن حياته حياة نمو إلا أن حياة الروح فيه أقوى.
…قال المصنف رحمه الله: ]وكل ميتة نجسة إلا الآدمي[.(1/189)
وكل ميتة نجسة لقوله تعالى: { قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } فقوله:{ رِجْسٌ } يعني نجس، ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على نجاسة الميتة، والدليل على أن ما سلب الذكاة حكم بنجاسته حديث الحمر الأهلية، فإن حديث الحمر الأهلية من أقوى الأدلة على رد قول من يقول أن الميتة ليست بنجسة، ووجه ذلك أن الحمر الأهلية كانت تؤكل، وأحل النبي - صلى الله عليه وسلم - أكلها حتى إذا كان عام خيبر أمر بالقدور فأكفئت ونهى عنها، ونادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله ينهاكم عنها، فلما سئل عليه الصلاة والسلام قال:"إنها رجس"، فبالأمس كانت طاهرة حلال، ولما نزل تحريم أكلها قال:"إنها رجس"، والرجس النجس وهذا يدل على أنه إذا لم تعمل الذكاة في الحيوان حكم بنجاسته عند موته، وإضافة إلى دلالة الآية ولذلك حكي الإجماع ولا شك أنه مذهب جماهير السلف والخلف على نجاسة الميتات خلافاً لمن شذ من المتأخرين الذين يضعفون هذا القول ويقولون لا دليل على نجاسة الميتات، وأحب أن أنبه طالب العلم بأن الاستعجال في نفي الدليل في أقوال الجمهور والأئمة والجهابذة إذا أطبقوا على قول من أئمة السلف ودواوين السلف من أهل العلم والعمل من أئمة الفتوى والفقة، ينبغي أن لا يستعجل طالب العلم في قبول مثل هذه الكلمات، وأخذها على عواهنها هكذا، أن يرى سواد الأمة الأعظم يفتي عن الله وينقل عن الله ورسوله حِلَّ شيء عليه الصلاة والسلام أو تحريمه، ويقول هذا القائل لا دليل على هذا، لا دليل عندك أو مبلغ علمك تقول لا أعرف له دليلٍ، أما يقول لا دليل يعني العلماء وهذا السواد الأعظم من الأمة كلهم يقول بهذا القول ويفتي بهذا القول هكذا، فهذا أمر ينبغي للإنسان يتريث فيه وأن يتأنى، وكم وجدنا عند المتأخرين من الجرأة على(1/190)
تخطئت المتقدمين دون ترويٍ ودون انضباط بضوابط أهل العلم، هذه المسألة فيها أدلة من كتاب الله - عز وجل - بغض النظر عن كونك تسلم بالدليل أو لا تسلم، لكن لهم أصل ولهم دليل سار عليه سواد الأمة الأعظم، وحق على كل طالب علم أن يكون فيه اقتداء بمن مضى قبله من أهل العلم.
…فالميتة نجسة وقال: ]كل ميتة نجسة إلا ميتة الآدمي[، والأصل ما ذكرناه من العموم في الكتاب، الميتة هي كل حيوان هلك بغير ذكاة أو مات بغير ذكاة شرعية، وبعضهم يقول هي كل حيوان هلك حتف نفسه أو مات حتف نفسه يعني بغير ذكاة، فمثلاً البقرة لو سقطت من على جبل أو تردت في بئر فغرقت، فإنها ماتت وهلكت بدون ذكاة فتوصف بكونها ميتة، لكنها إذا ذكيت فهي طاهرة، ومن هنا الميتة سواء كانت في ظاهر قوله: ]كل ميتة[ عموم لعموم الآية لكن يستثنى من هذا ما استثناه الشرع، ميتة الآدمي على خلاف وتفصيل عند العلماء، وميتة البحر والجراد وما لا نفس له سائلة، وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المستثنيات.
]إلا الآدمي[ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المؤمن:"إن المؤمن لا ينجس"، ونص عليه الصلاة والسلام على أنه طاهر وهذا عام، قال:"سبحان الله" كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - فلقيني في بعض سكك المدينة، كان أبو هريرة عليه جنابة فلما رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الطريق أنخس وفي رواية أنبخست وفي رواية انسللت وفي رواية فانسللت فانبجست وفي رواية فانتجست يعني اعتقدت أني نجس كلها روايات مشهورة، فالشاهد ذهب واغتسل فرءاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله لماذا فر عنه؟، فقال: إني كنت على غير طهارة، وفي رواية إني كنت جنباً، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -:"سبحان الله إن المؤمن لا ينجس"، هذا طبعاً نص على أنه لا ينجس حياً ولا ميتاً.
…قال المصنف رحمه الله:]وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه[.(1/191)
…وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه، الحيوان له ثلاثة أقسام: القسم الأول أن يكون بحرياً، والقسم الثاني أن يكون برياً، والقسم الثالث أن يكون برمائياً، فأما حيوان البحر فهو الذي لا يعيش إلا في البحر كالسمك والحوت، وأما حيوان البر كالإبل والبقر الذي لا يعيش إلا في البر، ويشمل حيوان البر ما يكون في السماء بين السماء والأرض كالطيور لأنها تأوي إلى البر، كالصقور والنسور والحمام العصافير ونحوها كل هذه بَريّة، وأما الحيوان البرمائي فهو الذي يعيش في البر ويعيش في البحر، مثل الضفادع والسلحفاة والتمساح، فالحيوان إذا كان برياً ميتته نجسة كما ذكرنا، ,وإن كان بحرياً لا يعيش إلا في الماء فإنه محكوم بطهارته إذا مات وبحل أكله، على تفصيل عند العلماء تكلمنا عن تفصيل هذه المسألة أيضاً في شرح البلوغ، وبيّنا أنواع حيوان البحر في شرح حديث"الطهور ماؤه الحل ميتته" حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، الحيوان البحري طبعاً هناك السمك والحوت وأشباهها مما يلتحق بهما، هذا ميتته طاهرة إجماعاً وحلالاً إذا ماتت بالصيد، أو أخذها الإنسان من البحر، لكن إذا جزر عنها البحر ماتت وطفت فهذا فيه خلاف بين العلماء بين الجمهور والحنفية، وبينا أن الصحيح مذهب الجمهور، أن ميتة البحر طافية أو مصيدة صادها الإنسان بيده أو بالسنارة، أو جزر عنها البحر مثل الحوت بعض الأحيان يجزر عنه البحر، كله طاهر وحلال لعموم قول عليه الصلاة والسلام:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، فلم يفرق بين ميتة وآخرى، ثانياً أن سرية أبي عبيدة - رضي الله عنه - وأرضاه إلى سيف البحر حينما أصابتهم المجاعة فجزر البحر عن الحوت، فأكلوا منه حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقال:"هل بقي معكم منه شيء، فأعطوه ما بقي فأكل عليه الصلاة والسلام منه"، فهذا يدل على أن ميتة البحر عموماً طاهرة، لكن بالنسبة للطافي يشترط في حل أكله أن لا يضر بالإنسان وسيأتينا إن شاء(1/192)
الله التفصيل في كتاب الأطعمة بإذن الله تعالى، لكن الذي يهمنا هنا أن ميتة البحر طاهرة .
بقي عندنا سؤال في ميتة البرمائي، البرمائي فيه تفصيل إذا كان الحيوان برمائياً، إن كان سبعاً مفترساً كالتمساح ونحوه أخذ حكم العاديات فهو محرم الأكل ومستخبث، وأما إذا كان من غير العاديات فله صورتان:
الصورة الأولى : أن يكون تكاثره وغالب عيشه وإواه في البحر، فحكمه حكم البحري .
والصورة الثانية : العكس أن يكون الغالب للبر فحكمه حكم البري هذا بالنسبة للحيوانات، فبيّن المصنف رحمه أن ميتة البحر طاهرة.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البحر"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"[.(1/193)
…هذا الحديث رواه الإمام أحمد وابن ماجة وابن أبي شيبة وعبد الرزاق في المصنف وأيضاً مالك في الموطأ والشافعي في مسنده، هذا الحديث صححه غير واحد من العلماء رحمة الله عليهم، وسببه أن رجلاً أتي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إنا نركب البحر ومعنا القليلُ من الماء، إن توضئنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟، فقال رسول الرحمة بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، الحقيقة السؤال ورد عن شيء خاص، فقال: معنا القليل من الماء إن توضئنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر؟، سأل عن الوضوء بماء البحر، فجاء الجواب عاماً، لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم - نعم توضؤا وهذا يكفي في الجواب، إذا به يجيب عليه الصلاة والسلام فيقول:"هو الطهور ماؤه"، فأجابه بجواب أعم في مسألة الطهارة، ثم زاده مما زاده الله من فضله فقال له:"الحل ميتته"، وهذا من فقه الفتوى ويظهر هذا في جانبين: الجانب الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفع الوهم، لأنه لو قال له توضأ بماء البحر لفهم الناس أن الوضوء بماء البحر لا يكون إلا في حالات الضرورة، لأنه يقول معنا القليل من الماء، فلو قال له توضأ بماء البحر لفهم أنه يجوز الوضوء في مثل هذه الحالات وهي حالات السائل، ولكن من فطنته عليه الصلاة والسلام وهذا يدل على أن الفتوى تحتاج إلى فقه وإلى معرفة للألفاظ والكلمات وظنون الناس وما يترتب على جواب المفتي من المفاسد وسوء المحمل، فقال عليه الصلاة والسلام:"هو الطهور ماؤه"، فجاء بقاعدة عامة وبحكم عام، "هو الطهور ماؤه" وفيه دليل على أن الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام وأن الصحابة كانوا يعرفون أن الطاهر لا يتوضأ به، لأنه لو كان الماء طهور ونجس أو طاهر ونجس لما سأل الصحابي لأنه كان يتوضأ بكل ماء، لكن لما وجد ماء البحر مختلفاً في طعمه مختلفاً في رائحته مع أنه ماء، دل على ما ذهب إليه جمهور السلف رحمهم الله من(1/194)
أنه ليس كل ماء يتوضأ به، فبيّن له النبي- صلى الله عليه وسلم - أن هذا البحر تغيره بتغير قراره، وتغير طعمه بطبيعة خلقته، فقال:"هو الطهور ماؤه"، فرده إلى الماء الطهور ولم يقل هو الطاهر، وهذا أيضاً يقوي مذهب الجمهور و هو من فوائد الحديث، كذلك أيضاً قال عليه الصلاة والسلام:"هو الطهور ماؤه" فعمم ومن هنا قالوا: إن لأهل العلم معانٍ في الفتاوى، فلربما يسمع الإنسان المفتى والعالم المتمكن يتوسع في فتاويه فينتقده، ويحس أنه قد خرج عن المطلوب، فلأهل العلم أسرار يعرفها من يعرفها، وفتوحات من الله - عز وجل - يهبها إلى من يهبها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، فلذلك لا يعيب أحد على عالم توسعه في جوابه، أو زيادته في العلم لأن العلم أمانة والعالم كلما أجاب وأخرج شيئاً من علمه فقد أسقط عن نفسه التبعة والمسؤلية، فهذا رسول الأمة- صلى الله عليه وسلم - بلغ ما أنزل إليه فزاد في جوابه، ولم يقتصر على حد السؤال، فالشاهد في قوله:"الحل ميتته" لما قال:"الحل ميتته"، فبين- صلى الله عليه وسلم - أن ميتة البحر حلال وهذا عموم، يدل على أنها طاهرة ويجوز أكلها، خلافاً لمن فرق بين الميتات، إذ ليس هناك ما يخصص هذا العموم ومذهب الجمهور عليه وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
…قال المصنف رحمه الله:]وما لا نفس له سائلة إذا لم يكن متولداً من النجاسات [.(1/195)
…أي كل ميتة مما لا نفس له سائلة، المخلوقات مثل الدواب وغيرها تنقسم إلى قسمين: ما له نفس الذي هو الدم كالحشرات ونحوها والبهائم هذه مما له نفس سائلة، الذي له نفس سائلة إن كان من جنس ما يؤكل ويذكى يطهر بالذكاة، فلو أخذت شاة وذكيتها أو ذكيت بالصيد، رميت طائر فسقط، فإذا أخذت هذه الشاة المذكاة وسلختها، ثم قطعت الكتف فتتطاير عليك دمها فهو طاهر، لأنها مذكاة طاهرة، ويجوز لك أن تشرب هذا الدم ويجوز أن تأكله لأنه طاهر، الذي له نفس سائلة إن كان مذكى فهو طاهر، إن كان غير مذكى مثل ما ذكرنا من الميتات الإبل والبقر والغنم فهو نجس كما ذكرنا، بقي الذي لا نفس له سائلة وهو الذي لا دم فيه، كالجراد وبعض الصراصير بنات وردان يسمى عند العامة الوَرْدَان، والدود والسوس الذي يوجد في التمر والدقيق هذا مما لا نفس له سائلة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول أن يكون متولداً طبعاً إما أن يكون من جنس الدواب ولا يتولد، وإنما يتكاثر تكاثر الدواب مثل الجراد فهذا طاهر، وإذا مات بأي وسيلة فهو حلال، والدليل على ذلك قول عليه الصلاة والسلام في حديث ابن ماجة وغيره:"أُحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال"، فقوله عليه الصلاة والسلام:"أحلت لنا ميتتان الجراد والحوت"، يدل على أن الجراد لا تحله الحياة لأن الجراد ليس له نفس سائلة، وهذا من فقه السلف رحمهم الله والأئمة نظروا فوجود العلة في أنه مما لا نفس له سائلة، ولذلك كان الصحابة رضوان الله عليهم في الغزوات يضربون الجراد بالسهام والرماح، يضربونه برأس الرمح فيسقط ميتاً يأخذونه ويشوونه ويأكلونه، ويعتبروه طاهراً حلالاً مباحاً، فما لا نفس له سائلة من هذا النوع طاهر، لكن إذا كان من الدود الذي يتولد فله صورتان: إما أن يتولد من الطاهرات مثل السوس الموجود في التمر متولد من طاهر وهو التمر، سوس الدقيق متولد من طاهر وهو الدقيق، ما تولد من طاهر فهو(1/196)
طاهر وحكمه حكم الجراد، وأما ما تولد من نجاسة مثل الدود الذي يكون من العذَرَة والبُراز أكرمكم الله فهذا نجس لأن الفرع آخذ حكم أصله، وما تولد من نجس فهو نجس، فبين رحمه الله أن ما لا نفس له سائلة أنه طاهر، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:"أُحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد".
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب قضاء الحاجة[.
…يقول المصنف رحمه الله: ]باب قضاء الحاجة [،]باب قضاء[ القضاء يستعمل في اللغة بمعانٍ، يقال: قضى الشيء إذا فرغ منه وانتهى، كما في قوله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ }، وكما في قوله تعالى: { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } ، ويقال قضى بمعنى أمر ووصى، كما في قوله تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } ، ويقال قضى بمعنى خلق، كما في قوله تعالى: { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ، ويقال قضى بمعنى أعلم وأخبر، ومنه قوله تعالى: { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاَءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } ، ويقال قضى بمعنى صار أمراً محتماً لا مفر ولا محيد عنه، كما في قوله تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ } ، وهنا القضاء قضاء الحاجة المراد به الفعل كاملاً من ابتدائه إلى نهايته.(1/197)
]الحاجة[ حاجة الإنسان ما يريده ويطلبه وتشتد رغبته فيه، والمراد بالحاجة هنا البول والغائط، والعرب عندهم أدب في التعبير عن هذا الشيء إذ لا يعبرون به باللفظ الصريح المستبشع، وإنما يختارون ألفاظاً وهذا هو منهج الكتاب والسنة، فإن الله أدب عباده وكذلك جاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذكر الأسماء المستبشعة بألفاظ تخرجها عن بشاعتها، ويعرف الناس المراد والمقصود منها، هذا الباب طبعاً تختلف عبارات العلماء فيه، بعض العلماء يقول: باب الاستطابة، وبعضهم يقول: باب قضاء الحاجة، وبعضهم يقول: باب الخلاء وباب آداب الخلاء، الذين يقولون باب الاستطابة ينتزعونه من قوله عليه الصلاة والسلام:"فليستطب بثلاثة أحجار"، حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح، والذين يقولون باب الخلاء يأخذونه من قوله عليه الصلاة والسلام:"إذا أتي أحدكم الخلاء"، وقول أنس - رضي الله عنه - كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء، ويقولون أيضاً باب قضاء الحاجة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إذا قعد أحدكم لحاجته"، وهناك تعبيرات أخرى لأهل العلم رحمهم الله تختلف بحسب المتون لكن هذا المشهور في كتب الحديث والفقه.(1/198)
]باب قضاء الحاجة[ المراد به بيان الآداب الشرعية التي ينبغي للمسلم أن يراعيها إما على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب والاستحباب قبل قضائه لحاجته وأثناء قضائه لحاجته وبعد قضائه حاجته، ولذلك تنقسم آداب قضاء الحاجة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول آداب قبل قضاء الحاجة، والقسم الثاني آداب أثناء قضاء الحاجة، والقسم الثالث آداب بعد الفراغ من الحاجة وقضائها، فأما الآداب التي قبل القضاء أو أثناء القضاء أو بعد القضاء فكلها تنقسم إلى قسمين: إما أن تكون آداب قوليهَ، وإما أن تكون آداب فعليهَ، فرسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - سن لأمته آداب قوليه وآداب فعلية قبل الغائط وأثناء خروج الحاجة وبعد الفراغ والانتهاء منها، فما كان من الآداب قبل قضاء الحاجة أن يرتاد لبوله موضعاً رَخْواً حتى لا يتنجس وأن يطلب المكان المستتر بعيداً عن أعين الناس، وأن يقول قبل الدخول بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، هذه آداب قوليه قبليه، وأما الآداب أثناء قضاء الحاجة أن لا يتكلم وأن لا يذكر الله - عز وجل - ولذلك يمقت الله - عز وجل - الرجل مع الرجل يضربان الغائط يكلم أحدهما صاحبه، فإن الله يمقت والعياذ بالله من يفعل ذلك، هذه من الآداب أثناء قضاء الحاجة، كذلك هناك آداب بعد الفراغ من الحاجة وهو أن لا يستعجل في القيام، وأن ينتظر حتى يستبرء من بوله وينقطع البول من نفسه ولا يزرم نفسه، وكذلك أيضاً أن يستطيب بثلاثة أحجار، وكذلك أيضاً تكون هناك آداب قوليهَ كقوله بعد الخروج غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، فلما قال المصنف رحمه الله: ]باب قضاء الحاجة[، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام الشرعية التي تتعلق بآداب قضاء الحاجة سواء كانت قبلية أو بعدية أو أثناء الحاجة، وسواء كانت من الآداب القولية أو كانت من الآداب الفعلية.(1/199)
…قال المصنف رحمه الله: ]يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم[،هذا الباب باب قضاء الحاجة قدمه المصنف على باب الوضوء، ولذلك تحتاج في الطهارة أن تعرف أحكام الشيء الذي تتطهر به وهو الماء، فإذا كان الماء الذي تتطهر به ماء معتبراً شرعاً تأتي الطهارة مرتبة على حسب الوقوع، فأولاً طهارة الخبث ثم بعدها طهارة الحدث، ومن هنا رتب العلماء هذه الأبواب فابتدئوا بباب المياه وأتبعوه بباب الآنية لأنه متصل بالمياه، فالآنية أوعية ا لماء، ثم بعد الفراغ من الشيء الذي يتطهر به وهو الماء شرع المصنف رحمه الله في طهارة الخبث وهي تسبق طهارة الحدث، وهذا من التأدب مع الكتاب العزيز فإن الله تعالى قال : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } ، فجعل طهارة الحدث بعد طهارة الخبث، وهذا الترتيب ترتيب منطقي لأنه في الواقع يدخل الإنسان الخلاء ويستبرء ويتنظف ثم بعد ذلك يتوضأ، هناك من أهل العلم من يجعل باب الخلاء وباب قضاء الحاجة بعد الوضوء وبعد نواقض الوضوء، وذلك لأنه بعد أن يوجد الوضوء يوجد ما ينقضه، ولكلٍ منهما وجهه ولكن هذا الترتيب من المصنف أضنه أشبه وأولى إن شاء الله بالاعتبار.(1/200)
…يقول رحمه الله: ]يستحب[، هذا الاستحباب منتزع من حديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء، يعني إذا أراد أن يدخل الخلاء يقول:"اللهم أني أعوذ بك من الخُبُثِ والخبائث"، هذا الحديث دل على مداومة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا داوم عليه الصلاة والسلام على شيء فهو المستحب، والمندوب والذي لا ينبغي للمسلم أن يتركه ما أمكنه ذلك، أن يقول هذا أدب قوله، وقوله: ]يستحب لمن أراد دخول الخلاء [يعني قبل أن يدخل، وقول أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء يعني إذا أراد أن يدخل، لأن العرب تقول: إذا فعل ومرادهم ما قبل الفعل، كما في قوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ } أي إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، فمراده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال هذا الذكر قبل الدخول، وتنقسم المواضع التي يقضي الإنسان فيها حاجته إلى قسمين: إذا جاء الإنسان يقضي حاجته إما أن يكون الموضع الذي يريد أن يقضي فيه حاجته موضعاً مهيئاً مخصصاً لقضاء الحاجة، فحينئذٍ يقول الدعاء قبل الدخول قبل دخوله للباب، مثل دورات المياه والمراد بدورات المياه لأن الدورة فيها موضعان موضع مخصص لقضاء الحاجة وهو الحمام نفسه، وموضع فيه الوضوء والمغاسل فيستحب هذا الدعاء عند الدخول للموضع الأول وهو الداخلي موضع قضاء الحاجة المخصص، وليس عند باب دورات المياه، لأن المغاسل ليست أماكن لقضاء الحاجة ولا تأخذ حكم الأماكن التي تقضى فيها الحاجة، ومن هنا يستحب له أن يقول هذا الذكر قبل الدخول في الحمام نفسه، وإذا قاله قبل دخوله عند باب الدورة فلا بأس ولا حرج ما في مانع أن يقول ذلك.(1/201)
]يستحب لمن أراد أن يدخل الخلاء[، الخلاء المكان الخالي هو الذي ليس فيه أحد، ووصفت أماكن قضاء الحاجة بالخلاء كما قال - صلى الله عليه وسلم -:"إذا دخل أحدكم الخلاء"، لأن الغالب أن الإنسان يقضي حاجته مستتراً عن أعين الناس، ومن هنا يطلب مكاناً لا يراه فيه أحد، فيقال الخلاء ويقال البراز، تبرز عن المدن في القديم ما كانوا يضعون دورات المياه في البيوت، ولذلك كانت المناصع أماكن يرتادها أمهات المؤمنين كانت في الجهة الشمالية من البقيع، هذه المنطقة كانت للنساء يذهبن ويقضين الحاجة فيها، ولذلك كان عبدالله ابن أبي الحقيق وغيره ممن آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤذون أمهات المؤمنين أثناء خروجهن لقضاء الحاجة في هذا الموضع، وما كانوا يتخذون الكنف في البيوت، لأنهم يستبشعون الرائحة ويصعب عليهم فعل ذلك، إلا في أحوال خاصة فيبول داخل البيت في وعاء أو إناء مثل قضية ابن عمر "رَقَيْتُ على بيت حفصة فرأيت النبي- صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته على لبنتين"، هذا يقع في بعض الأحيان لكن الأصل فيهم أنهم يفعلون ذلك في الخلاء والبراز، وتسمى أماكن قضاء الحاجة بالحُش والحش البستان وأصله الحائط، والسبب في ذلك أنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين بعيداً لأن فيها الأشجار تستر، يعني ليس تحت الأشجار وإنما يتوارون بجدرانها ونحو ذلك، ومنها قال- صلى الله عليه وسلم - حديث ابن ماجة:"إن هذه الحشوش محُتْضرة"، يعني تحضرها الشياطين، فمراده عليه الصلاة والسلام:"إن هذه الحشوش" أماكن قضاء الحاجة، فقد بين رحمه الله أنه يستحب لمن أراد أن يدخل الخلاء، هذا إذا كان الموضع مخصصاً لقضاء الحاجة، أما إذا أتيت إلى موضع غير مخصص لقضاء الحاجة مثل البر، جاء الإنسان في مكان بر وليس فيه موضع معين لقضاء الحاجة فأراد أن يبول أو يقضي حاجته، فالذي أختاره جمع من العلماء أنه يقول ذلك عند وقوفه، وقال بعضهم عند رفعه لثوبه يقول هذا(1/202)
الدعاء، وحينئذٍ سيقوله في الموضع لكن الموضع طاهر ولا يضره أن يقول ولكنه يقول عند بداية رفع الثوب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"ستر عورات بنى آدم عن أعين الجن أن يقول إذا رفع ثوبه بسم الله"، وهذا الحديث حسنه غير واحد من أهل العلم رحمة الله عليهم والعمل عليه، ولذلك أختار المصنف هذا اللفظ فقال: ]بسم الله اللهم[، وقال: ] أعوذ بالله من الخبث [، لكن اللفظ في الصحيح "اللهم أني أعوذ بك من الخبث والخبائث"، اللهم أصلها يا الله ولذلك لا يجمع بين حرف النداء والميم فلا يقال يا اللهم لأنه جمع بين البدل والمبدل، اللهم إني أعوذ بك، أعوذ ألتجئ وأعتصم وهذا من توحيد الألوهية، لأنه لا يستعاذ إلا بالله ولا يستجار إلا بالله وهذا حق من حقوق الله - عز وجل - الخالصة له، فهو المعيذ ولذلك قال تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } ، وقال يعلم نبيه هذا الأصل: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } ، وقال - سبحانه وتعالى - : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } ، وقال: { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن العَوْذ والالتجاء لا يكون إلا إلى الله وحده لا شريك له، لكن قد يعيذ المخلوق المخلوق فيما يقدر عليه المخلوق، وهذا العوذ النسبي، وحينئذٍ لا يؤثر في الأصل، إنما المراد فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يستعاذ إلا بالله، فلا يجوز أن يقول لمخلوق أعذني من النار فهذا شرك بالله - عز وجل -، إذا قصد بها نار الآخرة لأنه لا يعيذه منها إلا الله - عز وجل - ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله فهذا لا يسأل إلا من الله وهو حق من حقوق الله وحده لا شريك له.(1/203)
…]اللهم أني أعوذ بك من الخُبث[، بالضم ذكور الشياطين والخبائث إناث الشياطين، وبالإسكان الخبث الشر، وتكون الخبائث الشياطين عموماً جنس الشياطين يشمل ذكروهم وإناثهم، وفي هذا فوائد منها أن أماكن قضاء الحاجة تكثر فيها الشياطين، وفيها تسلط من الشياطين على بني آدم، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام بالوحي على هذا الأمر وهذا من رحمة الله - عز وجل - التي بعث بها نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فشرع هذا لذكر حصناً حصيناً من الله لعبده، وولاية من المخلوق إلى للخالق سبحانه أن يعيذه وأن يحفظه، وفي قوله ]أعوذ بك من الخبث والخبائث[ الشر قالوا: إن هذا يشمل عموم ما يحصل من الشرور والآفات على رواية الإسكان المشهور الضم، وقوله: ]الخبث والخبائث[يكون الذكور والإناث على ما بيناه فيكون استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم، وهذا يدل على أن أماكن الفساد يشرع للعبد أن يستعيذ بالله قبل دخولها، ولذلك نهي عن دخول أماكن الظلمة وأماكن العذاب وحضورها حتى قال - صلى الله عليه وسلم -:"لا يصيبكم ما أصابهم"، هذا يدل على أنه ينبغي للمسلم دائماً أن يكون متحفظاً ومحافظاً على الأذكار التي فيها حرز من الله له وصيانة ووقاية له، وقوله ]بسم الله[ هذا ستر من الله إذا قال بسم الله قبل الدخول حتى أستحب بعض العلماء في عموم قوله"ستر عورات بني آدم عن أعين الجن أن يقول إذا رفع ثوبه بسم الله" يقولون هذا يشرع مطلقاً لكل من وضع ثوبه، ولذلك الشياطين لا تستطيع أن تتسلط على من يذكر الله، ومن عجائب ما ذكروا أن رجلاً كان مفتوناً بالسحر وكان هناك رجل صالح فأحب أن يؤذيه فجاءه رجل وقال له: عليك بفلان، يعني هذا الرجل الصالح، فقال أمهلني فما زال يمر عليه اليوم بعد اليوم حتى سئم فقال له: ما شأنك، قال: والله إن أمر هذا الرجل لعجيب إنهم لا يستطيعون أن يروا عورته فضلاً عن يقتربوا منه ويؤذوه، وهذا كله بفضل الله ثم بالأذكار، والمحافظة على(1/204)
الأوراد الثابتة الصحيحة التي جعل الله فيها غناء عن طلاسم المشعوذين وإبطال المبطلين وجعل فيها غناءً للموحدين المؤمنين الموقنين المخلصين، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
- - - - - الأسئلة - - - - -
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل الكافر نجس العين حال الحياة وحال الممات؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.
فاختلف العلماء رحمهم الله هل الكافر نجس أو ليس بنجس، على قولين مشهورين منهم من قال بنجاسته لقول تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ } ، قالوا: فنص الله - عز وجل - على نجاستهم، وقال بعض العلماء إن الكافر ليس بنجس العين واستدلوا على ذلك بأدلة، منها ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه ربط ثمامة ابن أثال الحنفي بسارية في المسجد، وكان على الشرك والكفر، فلو كان نجساً لما أدخله إلى المسجد، وكذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة، وكذلك اغترف عمر - رضي الله عنه - من جرة نصرانية، وأكل طعام أهل الكتاب ولو كانت أعيانهم نجسة لم يفعل ذلك عليه الصلاة والسلام، والذي يظهر القول أن القول بعدم نجاسته حياً أنه من القوة بمكان قوة الأدلة الدالة على ذلك، وعلى هذا فإنه لا يحكم بنجاسته عيناً بحيث لو أن يده وقعت على شيء ربط على القول بنجاسته عيناً حكم بتنجس ذلك، وأما على القول بطهارته فإنه لا يحكم بنجاسته على التفصيل الذي ذكرناه والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: ما المراد بالدم المسفوح، وهل الدم الذي يكون مختلطاً باللحم من الدم المسفوح؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/205)
الدم المسفوح هو الذي يخرج من البهيمة قبل انتهاء ذكاتها، في حال حياتها قبل زهوق الروح، وبناءاً على ذلك يشمل صورتين:
الصورة الأولى أن تجرح البهيمة وهي حية فما خرج من جراحها فهو نجس، لو أن بعيراً جرح فتطاير دم جرحه على الثوب فهو نجس لأن الله تعالى يقول : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } فنص على نجاسته.
ثانياً: الدم المسفوح يكون أثناء الذكاة فلو أنه ذبح شاة فخرج الدم أثناء الذبح فلا زالت حية فالدم الذي يخرج إثناء الذبح دم مسفوح نجس، والذي يبقى على الرقبة بعد ذبحها هذا نجس، لأنه متصل بالمسفوح، فالذي يخرج أثناء حياة البهيمة سواءً عند الزهوق قبل تمامه أو قبل الزهوق في حال حياتها الطبيعية كله نجس، ويشمل الآدمي أيضاً، فإن الآدمي إذا نزف دمه نجس لأنه دم مسفوح، والمراد بالدم المسفوح الخارج من غير ذكاة، يعني من غير مذكى، وبناءاً على ذلك الآية دلت على نجاسته نصاً لقوله: { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } ، واشترطت أن يكون مسفوحاً والمسفوح الكثير، ومن هنا أجمع السلف على أن الدم القليل مغتفر، لأن الله قال: { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } يعني كثيراً، ففرق بين الكثير والقليل ومن هنا تسامحوا في قدر الدرهم بالنسبة للدم، وأما من قال بطهارة الدم لحديث الصحابي في الشِّعب حينما أصابه سهم فنزف فإن هذا خارج عن موضع النزاع، لأن الدم الخارج من ضربات الرماح والسهام نزيف، وهذا معروف لأن السهام كان لها نصل، والنصل تعرفونه مثلث الشكل، وفائدة هذا التثليث لأمرين، الأمر الأول أنه إذا رمي به تحدد ولا ينحرف، والثاني أنه إذا طعن به أحد أو أصاب أحداً وأراد إخراجه قطع عروقه، لأنه يخرج بأكثر مما يدخل به، فدخوله بالمحدد وخروجه بالعرض، وحينئذ يقطع العروق ولا يخرج سهم إلا بنزيف، وخاصة أنه أثناء الصلاة أثناء الحادثة فلا يصلح الاستدلال بمثل هذا الدليل والاعتراض(1/206)
به على جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم، فنجاسة الدم قول الجماهير حتى الظاهرية رحمة الله عليهم الإمام ابن حزم أشار إلى هذا وأشار إلى الآية التي نصت على نجاسة الدم، والمشكلة مسائل كانت واضحة عند العلماء وأئمة أهل العلم لكن التلبيس ما في دليل على نجاسته الدم، ما في دليل على كذا ما في دليل، فاصبح طهارة الدم هي الشائعة ونجاسته هي الغريبة، وهذا كله من عدم تحرير كلام العلماء رحمهم الله والرجوع إلى الأمهات وتفصيل أهل العلم، أما حديث عمر أنه طعن طعنه أبو لؤلؤة عليه لعنة الله فطعنه أكثر من ثلاث طعنات، ومعروف حاله أنه حال نزيف فنحن لا نتكلم عن نزيف لأن النزيف خارج عن موضع النزاع، ينبغي على طالب العلم إذا استدل بدليل أن يستدل بدليل واضح بين، الآية نصت على أن الدم المسفوح نجس، وكل ما سفح وخرج بغير ذكاة شرعية قبل حصول الزهوق فإنه محكوم بنجاسته، من ا لآدمي وغيره على حد سواء على ظاهر الآية الكريمة والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: يتوسع بعض الجيران في طلب بعض الأشياء من جيرانهم كطلب الأطعمة والأواني أو غير ذلك من غير ضرورة، هل هذا يدخل في المسألة المذمومة؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/207)
سؤال الناس لا شك أنه بلاء، ولذلك قال إبراهيم ابن ادهم وكان من الصالحين الأخيار رحمه الله كان في سفينة وهاج البحر وتلاطمت الأمواج حتى كادوا يهلكوا، فلما نجو قالوا: يا إبراهيم ألم ترى إلى هذه الشدة، فقال رحمه الله: إنما الشدة الحاجة إلى الناس، فالشدة الحقيقية هي أن تحتاج إلى الناس، ولذلك من صان وجهه عن الناس صان الله كرامته، وحفظ له مكانته، فالأفضل للمسلم والمنبغي للمسلم دائماً أن يتحرى العفة عن الناس، والاستغناء بالله - جل جلاله -، ولذلك أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين عنه، "أن من استغنى بربه أغناه، وأن من استكفى بالله كفاه، وأن من أفتقر إلى الله أغناه"، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:"ومن يستغني يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله"، فهذا يدل على أنه ينبغي للمسلم أن يتحرى المعاملة مع الله - عز وجل -، وأن لا يجعل حاجته إلى الناس، خاصة في الكمالات ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"لا تزال المسألة بالرجل حتى لا تترك في وجهه مُزْعة لحم"، وهذا يدل على خطر سؤال الناس، وإنزال الحاجة بالناس، ومن نزلت به فاقة وحاجة فأنزلها بالناس جعل الله فقره بين عينيه، وما زال يسترسل من بلاء إلى بلاء أو من فاقة إلى ما هو أعظم منها، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله يوشك أن يتأذن الله له بفرجٍ عاجل، فالمؤمن دائماً يحسن الظن بالله - عز وجل - ولا يتوسع، وإما إذا ابتلي الإنسان بجيران يسألونه هذه الأشياء وهي في الكمالات ماله إلا أن يصبر، يحمد الله - عز وجل - باب من الأجر سخره الله له، مادام يحفظون له متاعه ولا يضيعونه فيعطيهم إياه، فإذا حصلت عنده ضرورة أو حاجة وأنه هو أحوج وأحق فهذا يستثنى، أما الأصل فإنه مهما كان يصبر عليهم ويبعث إليهم ما يحتاجون، لأن الله ذم منع الماعون، وخاصة الجار له حق وقد قال رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -:"لا تحقرن جارة لجارتها ولو كفرسن شاة"، وهذا يدل على فضل(1/208)
الإحسان إلى الجيران والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: من شرع في صلاة العصر ثم تذكر أنه لم يصلي الظهر فماذا يفعل؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :…
إذا شرع في صلاة العصر فإنه في هذه الحالة لا يمكنه أن ينتقل إلى الظهر، لأنه لا ينتقل من فريضة إلى فريضة بعد الشروع في إحداها إحدى الفريضتين، السبب في هذا أنه لا تصح صلاة العصر حتى تنويها عصراً مع تكبيرة الإحرام، فإن تأخرت النية إلى ما بعد تكبيرة الإحرام لم تنعقد عصرا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:"إنما الأعمال بالنيات"، فامتنع أن ينتقل إلى الظهر وحينئذٍ يتمها نافلة، وقال بعض المتأخرين وبعض الفقهاء بطلت فريضة لأنه صلاها فريضة وبطلت نافلة ولا تنعقد له لا فريضة ولا نافلة، وهذا ضعيف فالصحيح أنها يتمها نافلة، لأنه يجور الانتقال من الأعلى إلى الأدنى، فإذا تعذرت عليه فريضة عصراً وتذكر أنه لم يصلي الظهر فحين إذاً يتمها نافلة، ثم يقيم ويصلي الظهر ثم يقيم ويصلي العصر، وله أن يسلم منها حتى يصيب الأجر فيما مضى، ثم يكبر وراء الإمام بنية الظهر والإمام يصلي العصر، لأنه يجور اختلاف النيتين إذا اتخذت صورة الصلاتين، فالظهر وراء والعصر والعصر وراء الظهر جائز لأن صورة الصلاتين واحدة، وحينئذٍ لا بأس عليه ولا حرج لأنه يدرك فضيلة الجماعة ويدرك أيضاً إبراء ذمته بفعل ما أوجب الله عليه والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل يجوز لي أن أطلب من البائع أن يزيد في الوزن؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/209)
هو الأصل أن الميزان يرجح كفة المشتري قليلاً،"زن وأرجح" يعني يجعل رجحاناً قليلاً في كفة المشتري، هذا الأصل الذي ينبغي أن يتحرى فيه لأنه لا يتحقق من وفاء الحق إلا بهذه الزيادة، ولذلك يزيد فإذا زادك وأعطاك يعني زاد الميزان ونزلت الكفة التي لك، ماذا تريد بعد هذا تريده يملأ الميزان ظلمته، يعني تصبح من سؤال الناس أعطاك حقك، فحينئذٍ إذا طلبت الزيادة فتعتبر سؤال يعني مثل الذي يستجدي الناس وهذا لا يليق، إذا أعطاك حقك حمدت الله - عز وجل - وحينئذٍ إذا أردت زيادة تدفع حقها لأن هذه حقوق الناس { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } ، خاصة إذا أحرجه، بعضهم يأتي للبائع ويقوله أنت بخيل ما تزيد ما شاء الله ما جاء الكرم إلا في الميزان، يعني يضر بالناس وبعض الأحيان يكون هذا البائع وبالمناسبة البائع أمين ووكيل ما يستطيع أن يخون أمانته، وليس باللائق بالمسلم أن يدعوا إلى خيانة الأمانة، فعليك أن تتقى الله إذا زاد ميزانك فاحمد الله - عز وجل - واقنع بما أعطاك الله، فإن الله يبارك لك فيما جاءك وليس بملزم أن يزيد إذا ما أراد أن يزيد فهذا شأنه وقد يكون من الحزم أن لا يزيد، لأنه يخاف أن يفتح هذا الباب وقد يضر بماله ويضر بالأمانة التي عنده، فليس بواجب عليه أن يزيد، نسأل الله العظيم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تابع باب قضاء الحاجة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب قضاء الحاجة، يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول بسم الله أعوذ بالله من الخبُث والخبائث، ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم، وإذا خرج قال غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني[.
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.…أما بعد.(1/210)
فقد تقدم معنا أن آداب قضاء الحاجة إما أن تكون قبل قضاء الحاجة، أو تكون أثناء قضاء الحاجة، أو تكون بعد الفراغ من قضاء الحاجة، وقد بيّنا أنها على ضربين: إما أن تكون آداباً من القول أو آداباً من الفعل، وبعد أن بيّنا أذكار الدخول شرع المصنف رحمه الله في بينان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيان سنته عند الخروج من الخلاء، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: "غفرانك" أي أغفر غفرانك أو أسألُ غفرانك، والمراد بالغفر الستر يقال غفر الشيء إذا ستره، والمغفرة إذا كانت من الله لعبده سترت ذنوبه وعيوبه، فكأنها لم تكن ولذلك قيل للمغفرة مغفرة من هذا الوجه، وقوله عليه الصلاة والسلام: "غفرانك"، اختلف العلماء رحمهم الله في توجيهه، فقال بعض العلماء السبب في هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر الله - عز وجل - على جميع أحيانه وأحواله، فلما أنقطع عن ذكر الله أثناء قضائه للحاجة استغفر ربه وهذا حال أهل الكمال، وقال بعض العلماء: استغفر الرسول - صلى الله عليه وسلم - تشريعاً للأمة، ووجه ذلك أن الإنسان إذا قعد لقضاء حاجته لم يسلم من حصول هنات وزلات وسيئات، مما ذكروه النظر إلى العورة، ولذلك شدد بعض أهل العلم في نظر الإنسان إلى العورة ولو كانت عورة نفسه من دون حاجة، فقالوا استغفر لأنه هذا الموضع فيه انكشاف للعورة ولا تسلم الأمة في أفرادها من حصول بعض الأخطاء، فاستغفر تشريعاً للأمة، وأياً ما كان فهي سنة محفوظة، حسّن الإمام الترمذي سند هذا الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك"، والمراد بقوله: إذا خرج إذا خرج حقيقة، بمعني أنه خرج من الموضع المعد لقضاء الحاجة، بخلاف قوله إذا دخل قلنا إذا أراد الدخول، أما هنا فإذا خرج حقيقة فلا يقول هذا قبل الخروج لأنه في موضعٍ لا يشرع فيه أن يذكر الله - عز وجل - كما لا يخفى، وقوله ]الحمد لله الذي أذهب عن الأذى(1/211)
وعافاني[ وهو حديث ابن ماجة اختلف في إسناده ومذهب طائفة ضعفه، ولكن معناه صحيح فإن قوله الحمد لله شكر لله - عز وجل - وثناء على الله - سبحانه وتعالى - وتمجيد له، ذلك أن هذا الطعام والشراب لو بقي في الإنسان لأهلكه وقضى عليه، فانظر رحمك الله إلى من ابتلى بحصر بوله كيف يصبح حاله، فلو امسك الله عن عبده البول لكان بحالة لا يعلمها إلا الله ولربما مضت ساعات فقضت عليه فيتسمم جسده ويهلك، ولو حبس الله عنه برازه لهلك وحصل له من العناء قبل هلاكه والمشقة ما الله به عليم، ولكن اللطيف الحليم الرحيم - سبحانه وتعالى - لطف بعبده فأساغ له هذا الشراب وسهّل له هذا الطعام، فامتلأت به أمعاؤه وارتوت به أحشاؤه واغتذى منه فأخذه صافياً إلى بدنه وعِرْقه ودمه بقدرة الله - جل جلاله -، ثم أخرجه منه وهذا من لطفه - سبحانه وتعالى - بعبده ورحمته، فهو يحمد الله - عز وجل - ويشكره، فالحمد هنا لا إشكال في مناسبته للحال، لأنه وإن لم يدل عليه خصوص دليل دلت عليه عموم الأدلة، فهو يقول الحمد لله فيحمد لسبب وهو خروج الأذى، فلما قال: ]الحمد لله الذي أذهب عني الأذى [، قيل الأذى هو أذى البول والغائط، وقيل الأذى أذى الشياطين، فأخرجه سليماً معافى ولو سلط الله عليه الشيطان لأضره، وقيل الأذى لأذى البول والغائط كما ذكرنا والعافية من بلاء الشياطين، وهذا يمكن أن يكون أوجهما للتنوع، وقوله] الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني[، من الآداب القولية، وقوله غفرانك جاء في رواية البيهقي في السنن غفرانك ربنا وإليك المصير ولكن هذه الزيادة ضعيفة كما نبه عليه البيهقي رحمه الله وغيره، فلا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله وإليك المصير، وإنما جاء عنه "غفرانك"، وهذا هو الصحيح الثابت عنه عليه الصلاة والسلام.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]ويَقَدِّمُ رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج[.(1/212)
…ويقدم المكلف إذا أراد دخول الخلاء رجله اليسرى عند الدخول، وعند الخروج يقدم اليمنى، والسبب في ذلك أن الشريعة دلت على تفضيل اليمين على اليسار، ولذلك فضل الله جهة اليمين فجعل أصحاب الجنة أصحاب اليمين، وجعل السعيد الموفق في عرصات يوم القيامة من ينال كتابه بيمينه، والشقي الخاسر من ينال كتابه بشماله والعياذ بالله، وشرف الله اليمين حتى قال في كتابه : { عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ } فافرد اليمين تشريفاً وجمع الشمال تنبيهاً على فضل اليمين، ودلت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح "أنه كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطُهُوره وفي شأنه كله"، فأخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الرجل اليمنى تكون للأشرف والأفضل والأكمل، وتكون الرجل اليسرى لعكس ذلك، ومن هنا إذا أراد دخول الخلاء فقد نص أهل العلم على تقديم اليسار، لأنه موضع لا شرف فيه بل هو موضع قضاء للحاجة وامتهان، فيقدم رجله اليسرى ويؤخر اليمنى لشرفها، ثم إذا خرج عكس فقدم اليمنى وأخر اليسرى، وهذا على الأصل الذي ذكرناه في حديث عائشة في الصحيح وهذا من الآداب الفعلية.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]ولا يدخله بشيءٍ فيه ذكر الله تعالى[.(1/213)
…]ولا يدخله[ الضمير عائد إلى موضع قضاء الحاجة، ]بشيءٍ[ نكرة أياً كان هذا الشيء مثل المصحف فيه كلام الله - عز وجل -، ومثل كتب الحديث وكتب التفاسير وكتب العلم، فلا يدخله بشيء فيه ذكر الله سواء كان في صفحات مثل كتب أو كان منقوشاً مثل ما يكون منقوشاً على الورق مثل النقود، ]لا يدخله بشيء فيه ذكر الله[، وهذا من تعظيم شعائر الله، والله- جل جلاله - يقول : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } ، فبيّن - سبحانه وتعالى - أن تعظيم شعائره من تقوى القلوب ولا شك أن الشعائر جمع شعيرة وهي كل شيء أشعر الله بتعظيمه، وذلك أن الله أشعرنا الله بتعظيمه، كما قال سبحانه: { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ، فلا يدخل أماكن قضاء الحاجة بشيء فيه ذكر الله إلا من ضرورة وحاجة، وقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما سلم عليه الرجل وهو يقضي حاجته لم يرد عليه السلام، وقال: "إني كنت على حالة كرهت أن أذكر الله عليها"، وفي رواية "على غير طهارة"، قالوا هذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا امتنع من ذكر الله وهو على غير طهارة فلأن يمتنع أثناء نقض الطهارة من باب أولى وأحرى، لأن المقصود تعظيم شعائر الله- عز وجل -، هذا بالنسبة أنه لا يدخله بشيء فيه ذكر الله إلا من حاجة، إلا من حاجة من ضرورة مثل النقود يخاف عليها السرقة، فإذا خاف على المال الذي معه أن يسرق شرع له في هذه الحالة أن يدخل أماكن قضاء الحاجة بهذه النقود لمكان الضرورة والحاجة، وفي هذا حكم سواءً كان منقوشاً أو كان مسجلاً كما في زماننا من أشرطة الكاسيت، والعجب أن بعض المتأخرين يقول إن هذه الأشرطة ليس فيها كلام مذكور ويجوز أن يدخل بها الحمام فليسأل هذا لو أن رجلاً وطئ بقدمه هذه الأشرطة أيجوز له ذلك؟، فيقول ما يجوز إذاً معنى ذلك أنه معظم لشعائر الله فيها، فإذا كان امتهانها لا يجوز بالوطء ونحوه من الامتهان(1/214)
فكذلك لا يجوز امتهانها بدخول مواضع قضاء الحاجة للأصل الذي ذكرناه عنه عليه الصلاة والسلام، هناك حديث فيه ضعف أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل إلى موضع قضاء الحاجة قبض على أصبعه الذي فيه خاتمه قالوا: لأن فيه محمد رسول الله وكان ختم خاتمه ثلاثة أسطر محمدٍ رسول الله، قالوا وفيه لفظ الجلالة فقبض عليه لكن الحديث فيه ضعف.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى[.
…]ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى[، يعني إذا كان أثناء قضائه للحاجة اتكأ على الجهة اليسرى، قيل يعتمد على يده مثل أن يؤخر يده إذا كانت الأرض صالحة ويبول، وقيل أن يضع ركبته اليسرى على الأرض خاصة في البر ونحوه يضع رجله اليسرى ثم يرفع اليمنى، وفي هذا حديث سراقة ابن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمهم إذا قضوا الحاجة أن يرفع القاضي لحاجته رجله اليسرى وأن يرخي رجله اليمنى، وهذا الحديث فيه ضعف لأن فيه جهالة وممن ضعفه غير واحدٍ منهم الحافظ ابن حجر فأشار إلى تضعيفه في البلوغ وكذلك في التلخيص، وأشار الحازمي إلى أن فيه راوياً لم يسم، والأصل عند بعض أهل العلم رحمهم الله أن الاعتماد على اليسرى لمعنىً طبي لا معنىً شرعي، فإن الأطباء يستحبون هذا رفقاً بالبدن، وحينئذ يكون لمعنىً طبي لا لمعنىً شرعي في هذا يسوغ لكنه يسوغ عادة لا عبادة.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]وإن كان في الفضاء أبعد واستتر وارتاد لبوله موضعاً رِخْوا [.(1/215)
…]وإن كان في الفضاء[ أي وإن كان المكلف في مكان فاضٍ وهو الفضاء خالٍ من الناس، فهذه الأماكن يحتاج الإنسان فيها إلى ما يستره ويبعده عن الناس، والدليل على ذلك حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - في صحيح مسلم وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما خرج لقضاء حاجته وهو معه في الغزو قال أبعد حتى توارى عني، أي أنه عليه الصلاة والسلام أبعد في المذهب، وكذلك حديث علي- رضي الله عنه - في السنن وفيه كلام، لكن الإبعاد عن الناس فيه فوائد، أولاً أن البعد يمنع من سهولة النظر، وثانياً أنه ربما خرج من الإنسان الصوت أثناء قضائه للحاجة فبعده عن الناس أبلغ في الحياء وأبلغ في الستر، ومن هنا شرع أن يكون الموضع الذي يقضي فيه حاجته لا يسمعه فيه الناس وأيضاً يكون بعيداً عن الناس، إلا أنه إذا أمن من الصوت جاز له أن يكون الغير قريباً منه على سبيل الاستتار، كما في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام في قصته حينما أتى سباطة قوم قال حذيفة- رضي الله عنه -: "قال لي ادنوا فدنوت، قال لي: ادنوا فدنوت حتى كنت عند عقبه صلوات الله وسلامه عليه"، وهذا لأنه كان يستتر بحذيفة- رضي الله عنه -، ]أبعد[ في المذهب لأنه أمكن لمواراة شخصه، ]واستتر [ يعني يستتر على صور منها أن ينزل في حفرة، ومنها أن يأتي وراء حجر أو تل أو وراء شاخص فيجعل الشاخص بينه وبين الناس هذا معنى استتر، يعني جعل بينه وبين الناس سترا، وفي حديث المعذبين المقبورين، قال في أحدهما: ]وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله[، يعني كان يتساهل في كشفه لعورته، هذا أحد الأوجه في عذاب القبر والعياذ بالله، أما من يأتي إلى الأماكن المكشوفة وتنكشف عورته فقد تعاطى أسباب انكشاف عورته وحينئذ يعذب في قبره والعياذ بالله، وبناءاً على ذلك ينبغي عليه أن يبعد وأن يستتر، إما بالمطمئن من الأرض وإما بالشاخص.(1/216)
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]وإن كان في الفضاء أبعد واستتر وارتاد لبوله موضعاً رِخْوا[.
…]أبعد واستتر[، قلنا يستتر بالشاخص فإذا كان الفضاء منبسطاً كان عليه الصلاة والسلام إذا ذهب إلى الخلاء يحمل أنس - رضي الله عنه - معه العنزة، والعنزة عصا كالرمح كان يغرزها عليه الصلاة والسلام مما ذكره أهل العلم من فوائدها ولها أكثر من خمسين فائدة في العصا، وأشار الله إلى بعض فوائدها كما في قصة موسى : { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } ، قالوا من مآربها أنه إذا أراد قضاء حاجته ركزها في الأرض فوضع عليها رداءه عليه الصلاة والسلام ثم يجعلها بينه وبين الناس، فإن لم يكن معه شيء يستتر به ولا يوجد شاخص ولىّ الناس ظهره، عند قضائه لحاجته إذا كان يريد أن يبول، ويرخي ثوبه من وراءه إذا كان يقضي حاجته من بول وغائط.(1/217)
]أبعد واستتر وارتاد لبوله موضعا رِخْوا [، قد جاء عنه عليه الصلاة والسلام في حديث السنن "أنه ارتاد الموضع الرِخْو عند بوله صلوات الله وسلامه عليه"، والموضع الرِخْو هو ضد الصلب ولذلك إذا كانت الأرض صلبة طاهرة يجلس الإنسان ويقضي حاجته، والأفضل إذا كانت الأرض صلبة أن يضربها بحجر أو نحوه ليبول فيها فتشرب البول ولا يتأثر بطشاش البول، وإذا كانت الأرض رخوة نجسة لا يبول جالساً وإنما يبول قائماً، وإن كانت نجسة صلبة فإنه يجتنب البول فيها، وإذا كانت طاهرة رخوة يخير بين البول قائماً وقاعدا، والأصل في هذا التفصيل عند العلماء حديث حذيفة- رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم فبال قائما"، وسباطة القوم هي المِزْبلة والمكان الذي ترمى فيه النجاسات والقذر، فلما أتى السباطة وبال عندها قائماً قالوا بال قائماً حتى يتحفظ من النجاسة الموجودة في الأرض لأنها قذرة نجسة فهذه إحدى العلل، وقيل بال قائماً لمرضه عليه الصلاة والسلام في مأبضه وفيه رواية فيها كلام، وقيل لأن العرب كانت تستشفي من داء الصلب بالبول قائماً وهذا يذكره الأطباء وقيل للعلة التي ذكرناها ومن هنا قالوا يفصل بالتفصيل وقد أشار بعض العلماء إلى ذلك بقوله:
للطاهر الصلب اجلسِ ... وأمنع برخو النجسِ
والنجس الصلب اجتنبِ ... واجلس وقم إن تعكسِ(1/218)
يعني في الرخو الطاهر إن شاء بال قائماً وإن شاء بال جالساً، والمنبغي على الإنسان إن يتعاطى أسباب حفظه حفظ بدنه وثوبه من النجاسة وإلا قد يوجد في زماننا الآن بعض أماكن قضاء الحاجة والمواضع المهيأة لقضاء الحاجة لا يأمن الإنسان من طشاش البول فيها على ثيابه وعلى بدنه، بل لا يأمن إذا قضى برازه أن يسقط في ذلك الجحر الذي فيه النجس والبول فيتطاير على ظهره أو على أجهزته أو على إليته أو على المواضع القريبة من الأرض، ولذلك ينبغي عليه أن يتقي ويتحفظ، فلو صب الماء قبلها احتياطاً واستدراكاً كان أبلغ في النقاء وأبعد عن الشبهات.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]ولا يبولن في ثُقْبٍ ولا شِقٍ ولا طريق[.(1/219)
…]ولا يبولن[ أي لا يجوز له أن يبول في الثقب والشق، والبول في الثُقْب والِشق والجُحُر فيه حديث عبد الله ابن سرجس - رضي الله عنه - وهو من رواية قتادة اختلف في سماع قتادة عن غير أنس وكان الإمام أحمد رحمه الله يضعف ذلك كما نقله الحافظ رحمه الله، وحُفِظً سماعه عن غيره كما جاء في الصحيح عنه رحمه الله، والإشكال أن الحاكم يصحح روايته لوجود المعاصرة معاصرة قتادة لعبد الله ابن سرجس، ومن هنا صحح هذا الحديث "أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى عن البول في الشق"، ولما سأل قتادة - رضي الله عنه - عن نهيه عليه الصلاة والسلام عن البول في الجحر ما باله ينهى عن البول في الجحر فقال: يقال إنها مساكن الجن، فلذلك تؤذي من بال، ومثل هذا لا يقال بالرأي وقد يحفظ بالتجربة، لكن الذي ذكره أهل العلم أن البول في هذه الأجحار والحفر فيه عدة علل، منها أنه لا يأمن أن تكون مسكناً للجن، وهذا يعرف بالتجربة والاستقراء، والرواية صحيحة إلى قتادة، السند إلى قتادة صحيح لا غبار عليه، وإنما الإشكال في روايته مرفوعاً والمرفوع النهي، أما الذي عن قتادة محرراً هو العلة، أن قال: يقال مساكن الجن لا إشكال فيه في صحة نسبته إلى قتادة، وهو معروف من مكانته رحمه الله من أئمة السلف ومثل هذا في الغالب أنه لا يقال ولا يقوله أحد مثله إلا وله أصل أو يعرف بالتجربة والاستقراء، وقيل وهذه العلة الثانية أن الشق لا يأمن أن تخرج منه الحية فتؤذيه، وهكذا الثقب يكون فيه حية فتؤذيه، أو تخرج الهوام الصغيرة أو الحشرات فتعلق على ثيابه وبدنه وقد أصابها النجس فتلوثه، إذاً فالعلة من كل الوجوه موجبة أن الإنسان يتحفظ، فلا يبول في هذه المواضع وإنما يلتمس مكاناً لا يتضرر فيه.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]ولا يبولن في ثقب ولا شق ولا طريق [.(1/220)
…]ولا طريق[، الطريق من الطرق لأنه يطرقه الناس بنعالهم أو يسمع فيه طرق نعالهم، والمحفوظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن البول في الطريق وقال:"اتقوا اللعانين قالوا: يا رسول الله وما اللعانان؟ قال: الذي يبول في طريق الناس وفي ظلهم"، اللعانان أي أنهما يتسببان في لعن الإنسان، ومن لعنه المؤمنون لا يأمن أن تستجاب دعوة عبدٍ صالح منهم فَيُلعْن والعياذ بالله، لأنها أشبه بالدعاء ومن هنا نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، وفي البول في طريق الناس عدة علل أولها أنه إذا بال في طريق الناس أصابت النجاسة أحذيتهم وقد أذن الشرع بالصلاة في النعال، ثم إذا أصابت الأحذية أصابت الثياب بالطَرْق، فإن الحذاء ينقل إلى خلف الثوب ما علق به من طاهر أو نجس خاصة إذا كان من المائعات، كلتا المفسدتين مفسدة دينية أما المفسدة الثالثة فمفسدة دنيوية وهي أن البول في الطريق يؤذي الناس بالرائحة وفي هذه أذية وإضرار ولا يجوز للمسلم أن يضر بإخوانه المسلمين، ومن هنا أجمع العلماء على أنه لا يجوز البول في الطريق، وذهب بعض أهل العلم رحمهم الله إلى أن البول في الطريق كبيرة من كبائر الذنوب، والسبب في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله مما يوجب اللعن، وضابط الكبيرة كما اختاره حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما وهو اختيار الإمام أحمد في رواية قال به الإمام ابن حزم وغيره من الأمة والعلماء أن كل ما سماه الله كبيرة أو وضع عليه حداً وعقوبة في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معاً أو توعد عليه بنفي إيمانٍ أو غضب أو لعنة، فما أوجب اللعن عندهم يعتبر من كبائر الذنوب، وعلى كل حال ينبغي أن يتقى المسلم أذية المسلمين.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]ولا ظلٍ نافع [.(1/221)
…]ولا يبولن في ظل نافع[، والظل هو المكان الذي يأتي فيه الفيء وتتحول عنه الشمس ويرتاده الناس وينتقل إليه الناس رفقاً في الشمس والحر، والظل إما أن يكون نافعاً معنى يحتاجه الناس والمسلمون، مثل ما يكون في ظلال الأشجار وظلال الحوائط في الطرقات وفي الأسفار، فلا يجوز البول في هذه الأماكن ولا قضاء الحاجة لما فيه من تعطيل المصلحة ولأنه لا ينزل في هذا الموضع إلا محتاج، فيضيق على المسلمين في هذا وهكذا الغرف التي تكون سابلة في طريق المسلمين يحتاج النزول إليها أصحاب العوائل أو الناس الضعاف أو كبار السن أو المسافرون عموماً، فالبول فيها وقضاء الحاجة فيها تعطيل لمصالحها والمنفعة الأكمل أن يرتاح الناس فيها بالنوم والاستجمام خصوصاً في الحر والقر، فهذا يضر الناس، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هذا يوجب اللعنة، قال: "الذي يبول في طريق الناس وفي ظلهم" ومن هنا منع المصنف من البول في الظل تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نهيه، وقال: ]ظل نافع[، لكن لو كان الظل هذا مخصصاً لقضاء الحاجة فحينئذ لا بأس أن يقضي حاجته فيه لأنه مخصص لقضاء الحاجة.
قال المصنف رحمه الله: ]ولا تحت شجرة مثمرة[.
…]ولا يبولن تحت شجرة مثمرة[ وتحت الأشجار إذا كانت مثمرة قالوا طبعاً إن الناس إذا كانت الشجرة مثمرة يرتادونها ويطلبونها ويأخذون منها الثمر، وقيل فإذا جاء يريد أن يأخذ الثمرة تضرر برائحة البول والنجاسة، وعلى مذهب من يمنع سقي النباتات بالنجاسات وهو الصحيح، يكون المعنى أن هذا يضر بالنبات ويضر أيضاً بالثمار خاصة إذا كانت من الأشجار القريبة أو من المزروعات التي جذورها قريبة من الأرض.
قال المصنف رحمه الله: ]ولا يستقبل شمساً ولا قمرا[.(1/222)
…مما نهي عن البول فيه البول في الماء، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الراكد والماء الدائم الذي لا يجري، وحذّر من ذلك عليه الصلاة والسلام فلا يجوز للمسلم أن يبول في المستنقعات ولا في البرك، لأن هذه كلها أماكن يرتادها المسلمون للسقى للشرب ولسقي دواب، وهذا فيه أذية وإضرار ولا يجوز للمسلم أن يضر ويؤذي إخوانه المسلمين، ولربما اغتسل فيها الناس وهذا لا شك أنه يوجب الضرر وتعطيل مصالحها، ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - "أنه نهى عن البول في الماء الدائم ونهى عن البول في الماء الراكد الذي لا يجري"، والمصنف رحمه الله عبر بالبول والبراز وقضاء الحاجة بالبراز لأنه آخذ حكم البول، بل قد يكون أشد من البول، ولذلك يعني من باب التنبيه بالشيء على نظيره.(1/223)
…قوله رحمه الله: ]ولا يستقبل شمساً ولا قمرا[، استقبال الشمس والقمر فيه أحاديث ضعيفة أن على كل منهما ملك، ولذلك منع من استقبالهما أثناء قضاء الحاجة إكراماً للملك، ولكن الحديث ضعيف في هذا، والأصل جواز استقبال الشمس والقمر والدليل على ذلك حديث أبي أيوب في الصحيحين عنه - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا"، ففي المدينة الشرق والغرب مشرق الشمس والقمر ومغربهما، ولذلك بيّن عليه الصلاة والسلام أنهم يشرقون ويغربون وهذا بطبيعة الحال أنه يستلزم استقبال الشمس والقمر، ومن هنا ضعف هذا القول، لكن هناك ملحظ استدركه بعض العلماء وهو أنه في بعض الأحيان إذا استقبل القمر في الليل انكشفت سوءته وكان أبلغ في الانكشاف، كما إذا كانت الليلة ليلة التمام والكمال في منتصف الشهر والليالي البيض يكون الانكشاف أكثر، فينحرف عنهما من باب الاستتار لا من باب التعظيم للشمس والقمر، وعلى كل حال لم يصح في النهي عن الشمس والقمر دليل.
…قال رحمه الله: ]ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها[.(1/224)
…قوله: ]ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها[، منتزع من الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام وهو حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - وأرضاه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا الكعبة ببول ولا غائط، ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا"، هذا الحديث يدل على حرمة استقبال القبلة واستدبارها بالبول أو الغائط، ثانياً أن هذا النهي ظاهره التحريم، لأن الأصل في النهي أن يحمل على التحريم، ثالثاً أن هذا النهي عام، لم يفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين البنيان وغيره، وفي هذه المسألة أكثر من خمسة أقوال، قيل بالمنع منهما كما هو مذهب أبي حنفية ورواية عن الإمام أحمد وقول بعض السلف ومذهب بعض الصحابة كأبي أيوب الأنصاري زيد ابن خالد - رضي الله عنه - وأرضاه، وقيل بالجواز فيهما كما قال به عروة ابن الزبير من السلف وهو مذهب الظاهرية، وقيل بجوازهما في البنيان دون الصحراء كما هو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، ويحكيه البعض عن ابن عمر رضي الله عنهما من الصحابة، وقيل بجواز الاستدبار دون الاستقبال كما هو رواية عن الإمام أبي حنيفة، وقيل بجواز الاستدبار دون الاستقبال داخل البنيان كما هو قول أبي يوسف، وقيل بالمنع من الاستقبال والأستدبار عموماً وزيادة بيت المقدس كما يختاره بعض السلف وهو قول إبراهيم النخعي، وقيل بأن الحكم خاص بأهل المدينة ومن في سمَتْهم كما يختاره بعض أئمة الحديث ومنهم أبو عوانة صاحب المسند والصحيح من هذه الأقوال كلها التحريم مطلقاً، سواء كان في الصحراء أو في البنيان لظاهر حديث أبي أيوب زيد بن خالد - رضي الله عنه -، ولأن سلمان - رضي الله عنه - حكى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنه نهى عن استقبال القبلة واستدبارها"، والأحاديث في النهي صحيحة صريحة لا إشكال فيها، وأما أحاديث الجواز والنسخ فضعيفة سنداً وأقل ثبوتاً من الأحاديث وحديث عراك(1/225)
عن عائشة رضي الله عنها وفيه ما فيه، وأيضاً حديث ابن عمر في الصحيحين وهو أصح ما ورد من المعارضة لحديثنا فيجاب عنه من وجوه:
أولاً: أن حديث ابن عمر لم يثبت أنه تأخر عن حديث النهي، ولذلك لو قيل أن حديث ابن عمر متقدم لجرى مجرى الأصل لأنه موافق للأصل، وحديث أبي أيوب جاء بزيادة ناقلة عن الأصل، فعند التعارض وعدم معرفة المتقدم من المتأخر ألحق ما وافق الأصل على الأصل وجعل المخالف للأصل كالناسخ، فكان النسخ بالنهي أولى وأحرى.
ثانياً: أن حديث ابن عمر الأشبه فيه خصوصيته برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويؤكد هذا أنه لا يعقل أن يخاطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمة بالنهي ويمنعهم من البول والغائط مستقبلين القبلة أو مستدبرين ثم يأتي ويفعل ذلك بطريقة يعلم عليه الصلاة والسلام أنه لا يراه فيها أحد بناءاً على الأصل ولا تثبت لنا إلا بمسلك خفي حصل اتفاقاً، فدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يريد إظهار هذا لأنه لو أراد إظهاره لأظهره بالقول، وإنما جاء هذا حكاية عن ابن عمر واحتمل أن يكون قبل التحريم.
ثالثاً: أن حديث التحريم نهي وحديث الفعل يقتضي الجواز والقاعدة أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قدم الحاظر على المبيح.
رابعاً : أن الله خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخصائص فلا يبعد أن يكون هذا مما خص به عليه الصلاة والسلام لأن التعظيم في قلبه بخلاف غيره.(1/226)
وخامساً: أيضاً أن الفعل لا يعارض القول لأن القول للأمة والفعل منه عليه الصلاة والسلام يحتمل خصوصية ولهذا نظائر كثيرة عنه عليه الصلاة والسلام فيما خص به، ولهذه المسالك كلها ترجح وأما قولهم أنه في البنيان فهذا ضعيف لأن الشاخص موجود بين المكلف وبين الكعبة أصلاً، فما من إنسان يقضي حاجته إلا وبينه وبين الكعبة شواخص لا تحصى كثرة، ولذلك التفريق بين البنيان والصحراء محل نظراً من هذا الوجه، وعلى هذا فيترجح القول بالمنع مطلقاً وهو الأشبه والأقوى إن شاء الله تعالى، لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها بالبول والغائط.
…قال رحمه الله: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها [.
…]لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول[، معناه أنه إذا كان يبول لا يجعل القبلة أمامه، وإذا كان يقضي حاجته بخروج براز فلا يجعل القبلة دبره، ثم قال: ]ولا تستدبروها[، يعني إذا كان البول يبول ولكنه لا يقضي البراز فدل على أن العلة وهكذا إذا كان يتبرز لأن الغالب إذا تبرز لا بد أن يبول، ولكنه قد يبول ولا يتبرز ومن هنا نهى عن الاستدبار منفصلاً حتى لا يتوهم أن العلة هي الاستقبال أثناء القضاء، ويجوز أن يجعلها دبره إذا كان يقضي بوله، ومن هنا قطع الحديث هذا المعنى وبيّن عليه الصلاة والسلام المنع مطلقاً.
…قال رحمه الله: ]ويجوز ذلك في البنيان[.(1/227)
…ويجوز ذلك إذا كان الذي يقضي حاجته داخل البنيان، وهذا لما ذكرناه وقد بيّن الصحابة رضوان الله عليهم أن الأصل عدم التفريق، وهذا منتزع من عموم الحديث ومن فهم راوي الحديث، فإن أبا أيوب - رضي الله عنه - قال: فلما أتينا الشام وجدنا مراحيض قد بنيت قبل الكعبة فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله والقاعدة أن الراوي إذا روى الحديث وفسره على ظاهره كان تفسيره حجة معمول بها، ومن هنا يشمل البنيان ولذلك قال: وجدنا مراحيض، وهذا بنيان ولم يفرق - رضي الله عنه - بين البنيان وغيره وهذا هو الأصل.
قال رحمه الله: ]فإذا انقطع البول مسح من أصل ذكره إلى رأسه ثم ينتره ثلاثا[.(1/228)
…]فإذا انقطع البول[ هذا أدب بعد الفراغ من قضاء الحاجة، ويتعلق بالذكر دون الأنثى ويتعلق بالقبل دون الدبر، هناك أمران أشار إليهما المصنف مسح من أصل ذكره إلى رأسه هذا يسمى السلت، وهو أن يضع رأس أصبعه اليسرى عند أصل مجرى البول من الذكر، ثم يمر ذلك الأصبع إلى رأس الذكر لتنقية مجرى البول هذا يسمى بالسلت، وأما النتر فهو الشد والجذب بقوة كما فسره صاحب اللسان من أئمة اللغة رحمه الله وذكر الحديث، ولا يصح في السلت والنتر حديث صحيح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لم يصح فيه شيء، أما النتر فالأطباء على أنه يضر البدن ومذهب المحققين من أهل العلم على المنع من نتر الذكر، لما فيه لأن الجذب هذا يضر بالعضو ولا مصلحة فيه، وبعضهم يرى أن النتر أن يضرب برأس أصبعه رأس الذكر، أن ينتر ما بقي في أصل الذكر فهو يسلت إلى رأس الذكر، ثم يضرب بأصبعه حتى يخرج ما في رأس الذكر، ولا يراى النتر الشد بالقوة، وعلى هذا يكون النتر مُكَمِّلاً للسلت، ومن هنا ذكره المصنف بعد السلت، وذكر بعض أئمة اللغة كما أشار صاحب المطلع معناً غريباً وهو النتر أن يضع أصبعه فيما بين القبل والدبر وهذا من أجل إلقاء قذف يعني إخراج ما ثم حتى يعين الغدة، وأياً ما كان وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الناحية الطبية والشرعية وأنه لا يصح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في النتر شيء، أما السلت ففيه تفصيل، السلت أن يضع رأس الأصبع عند أصل الذكر لإنقائه طبعاً هناك من أهل العلم من يقول النتر مأخوذ من السنة في قوله عليه الصلاة والسلام في المقبورين "أما هذا فكان لا يستنتر من بوله"، وفي لفظ "لا ينتتر من بوله"، والصحيح أن هذه اللفظة لا تحفظ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن المعروف "لا يستبرئ، لا يستنزه، لا يستتر"، هذا الألفاظ الواردة عن عليه الصلاة والسلام، أما لا ينتتر على أنه ينتر عضوه فهي لا يعرف لها سند صحيح عن رسول الله- صلى الله(1/229)
عليه وسلم -، فإذا ثبت قول الأطباء بالضرر فلا إشكال منعه إن ضرّ، وأما السلت فالسلت قد يحتاجه الإنسان لمرض، وقد يحتاجه لكبر لأنه تضعف الغدة عن إخراج الفضلة فتبقى قطرات في مجرى البول ولكن الشاب ممن لا يحتاج ينبغي أن يتقيه وأن لا يفعله لأنه إذا عود العضو عليه ضعف العضو، ودائماً يترك البدن على ما اعتاد وأَلِفْ، فإذا كان عنده تقاطر للبول بعد البول واحتاج للسلت رخص فيه بعض العلماء رحمهم الله وأفتوا بذلك، إذا وجدت حاجة أما إذا لم توجد حاجة فإنه لا يفعله، ولا تحمد عقباه لمن يداوم عليه من دون حاجة، ولذلك يترك العضو على طبيعته فالتنبيه على سبيل العموم محل نظر على التفصيل الذي ذكرناه.
قال رحمه الله: ]ولا يمس ذكره بيمينه[.(1/230)
…]ولا يمس ذكره بيمينه[ والمرأة لا تلمس فرجها ولا يلمس دبره بيمينه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك كما في الصحيحين من حديث أبي قتادة الحارث ابن بلدمة فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و- رضي الله عنه - وأرضاه، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك فقال: "فلا يمسكن ذكره بيمينه"، وقال في الحديث الصحيح:"ولا يستطب بيمينه"، فنهى المسلم أن يمسك ذكره بيمينه وأيضاً نهاه أن يتمسح من الخلاء بيمينه كما في الصحيح أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز له أن يباشر بيمينه مس الذكر، وقال عثمان- رضي الله عنه -: ما مسست ذكري بيميني منذ أن بايعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وذكر بعض الحكماء والأطباء أنه بالتجربة أن لمس الذكر باليمين ينقص عقل الإنسان والعياذ بالله، أنه لا يفعل ذلك إلا خفيف العقل ولذلك لا تحمد عقباه وهذا لشرف اليمين والأصل في هذا ما تقدم من تشريف الشريعة لليمين وتفضيلها على اليسار، فيجعل اليسار للأوساخ والقذر ويجعل اليمين للأشياء الطيبة، فلا يجوز أن يمسك العضو باليمين والمرأة لا يجوز لها أن تضع يدها على فرجها بيمينها، ولا يجوز أن يضع يده اليمنى أو أصابع يده اليمنى على حلقة دبره، هذه ممنوع منها ونهى عليه الصلاة والسلام عن إمساك الذكر باليمين تنبيهاً من باب ذكر الشيء والتنبيه على نظيره ومثيله، أما بالنسبة للتمسح فلو كان يريد أن يتمسح بحجر من الدبر فإنه لا يجوز له أن يمسك الحجر باليمين بل بيده اليسار وأما الذكر فإنه يمسك الحجر باليمين ويحرك العضو باليسار يثبت اليمين لقوله عليه الصلاة والسلام: "ولا يتمسح من الخلاء بيمينه"، فيثبت اليمين ويأخذ العضو باليسار ويحرك العضو بيساره، هذه هي السنة والأدب عند الاستطابة من القذر في قضاء الحاجة.
…قال رحمه الله: "ولا يتمسح بها".(1/231)
…]ولا يتمسح بها[ يعني الدبر وهكذا بالنسبة لإمساك الحجر، أو معه منديل يريد أن يستجمر به يمسك العضو باليسار ويثبت يمينه ثم يحرك باليسار.
…قال رحمه الله: ]ثم يستجمر وترا[.
…]ثم يستجمر[ من الجمار وهو الحصى والحجر، ]يستجمر وترا[ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "ومن استجمر فليوتر"، يستجمر بثلاثة أحجار الأولى تزيل النجاسة تقلع عينها، والثانية تُطَيّب الموضع بإزالة الأثر، والثالثة يُسْتَبْرَئُ بها فإذا انقطع الخارج بالثلاثة أحجار فلا إشكال، فقد أصاب الوِتْرَ ونقاء الموضع، فإن بقي شيء بعد الثلاث زاد رابعة، فإن انقطع بالرابعة أو بالسادسة أو بالثامنة وهو العدد الشَفْع جاء بحجرٍ للوتر، فإن انقطع عن أربعٍ أو ستٍ أو ثمان زاد واحدة وترا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من استجمر فليوتر"، هذا بالنسبة للسنة المحفوظة عنه عليه الصلاة والسلام، سواءً هذا في الحجر أو المناديل أو نحو ذلك مما سيأتي مما يستجمر به من الطاهرات.
…قال رحمه الله: ]ثم يستنجي بالماء[.(1/232)
…]ثم يستنجي بالماء[ وهذا أفضل ما يكون أن يجمع بين الحجارة والماء، وهذا ليس من جنس العبادات ولا يحفظ عن أحد من أهل العلم أنه منع من الجمع بين الحجارة والماء، لا يحفظ عن أحد من أهل العلم أنه عّد ذلك بدعة لأنه ليس من جنس العبادات، ولذلك عند قضاء الحاجة لا ينوي الإنسان قضاء الحاجة، وهذه من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها التبديع يكون في جنس العبادات، أما في الإنقاء فهذا ليس من جنس العبادة ولذلك قضاء الحاجة لا تشترط له النية، عند قضاء الحاجة كما يقول جماهير السلف والخلف رحمهم الله لا يشترطون النية، فإذا جمع بين الحجارة والماء وفي قصة أهل قباء وتكلم العلماء على إسنادها وإن كان بعض أهل السير صحح إسناد أهل قباء لكن ثناء الله عليهم في التنزيل يدل على أن أصل القصة له معنى، وإلا لماذا خص أهل قباء بهذا المدح؟، وعند العلماء أنه إذا ورد أصل في الكتاب وورد في السير ما يشهد له استأنسوا به، ومن هنا قالوا إنه لا معنى لتخصيص أهل قباء بهذا وإلا التطهر موجود في أهل قباء وموجود في أهل المدينة والتطهر إذا كان معناه واحداً وكل منهم ينقي بالحجارة والماء إذاً لا معنى لتخصيص أهل قباء، ومن هنا كانوا يتسامحون في السير في مثل هذه المعاني كما قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا جاء التاريخ تسامحنا وإن جاءت الأحكام شددنا، وهذا منهج العلماء رحمهم الله وأئمة السلف، فهذا القطع ليس من جنس التعبديات والعلماء وهذه كتب أهل العلم موجودة، كلهم يرون أن قطع الخارج له صور أفضلها وأعلاها الجمع بين الاستجمار والاستنجاء، وذلك لأنه يحقق الطهارة والله يحب المطهرين ويحب الطهارة ويحب أهلها كما دل على ذلك نصوص الشرع، الأمر الثاني بعد الجمع بين الحجارة والماء كما ذكر المصنف الدرجة الثانية الماء لأنه أبلغ طهارة ونقاء ونظافة للموضع، وبعد ذلك الدرجة الثالثة الحجارة والسبب في هذا أن الماء لا يترك أثراً والحجر يترك الأثر، ولذلك إذا(1/233)
خرج الخارج من الدبر واستجمر بالحجر بقي الأثر في حلقة الدبر، ومن هنا كان الاستنجاء بالماء أبلغ من الاستجمار بالحجر والطاهر، لأنه يبقي في الموضع أثراً، فهذه ثلاثة اوجه أعلاها الاستنجاء والاستجمار ثم الاستنجاء بالماء ثم الاستجمار بالطاهر والحجارة، هذا بالنسبة للإنقاء.
قال رحمه الله: ]وإن اقتصر على الاستجمار أجزأه[.
…وإن اقتصر على الاستجمار أجزأه وإن استنجى أجزأه، أما الاقتصار على الاستجمار فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتصر عليه، وقال: "إذا أتى أحدكم الغائط فليستجمر بثلاثة أحجار"، وقال في حديث عائشة: "فليستطب بثلاثة أحجار"، وهذا يدل على جواز الاقتصار على الثلاثة الأحجار، وفي الصحيح عن عبدالله ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما أتى الخلاء قال: "ائتني بثلاثة أحجار"، فاجتزاء بالجمار، وأما الاستنجاء بالماء فقد قال أنس - رضي الله عنه - وأرضاه كما جاء عنه في الصحيحين "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء فيستنجي بالماء"، فيستنجي بالماء، فهذا يدل على أنه يجوز الاقتصار على الاستنجاء ويجوز الاقتصار على الاستجمار ولا بأس بالجمع بينهما على ما ذكرناه.
قال رحمه الله: ]إذا لم تتعدا النجاسة موضع العادة[.(1/234)
…يجوز الاقتصار على الاستجمار بشرط أن لا تتعدى النجاسة موضع الحاجة، أيّ حلقة الدبر، فإن كان يتبرز وخرج البراز كما في حال إسهاله فجاوز ما اقبل من على الصفحتين من الدبر فإنه في هذه الحالة لا بد وأن يغسل بالماء يتطهر بالماء، لأن هذه الطهارة وهي الطهارة بالجامد جاءت على صفة مخصوصة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيجب عليه لأنه إذا جاوزت الموضع مثلاً إلى أليته، في هذه الحالة تكون كالنجاسة إذا أصابت اليد لا تزال بالمنديل ولا تزال بالجامد بل لا بد من غسلها، وحيث تنتقل إلى طهارة الخبث وليست استجماراً للموضع هذا وجه أنه يشترط أن تكون أن لا تتعدى موضع الحاجة، وهكذا لو بال فنزل البول إلى خصيتيه فإنه في هذه الحالة يجب عليه أن يغسل بالماء.
…قال رحمه الله: ]ولا يجزئُ أقل من ثلاث مسحات منقية[.
…ولا يجزئ في الاستحمار أقل من ثلاثة مسحات منقية الشرط أن تكون منقية لما ذكرناه فإن لم يحصل الإنقاء زاد واحدة فصار شَفْعاً ثم زاد واحدة وتراً، فيقطع بما يقطع إن انقطع بالوتر لا إشكال وإن انقطع بشفع زاده واحدة لقوله عليه الصلاة والسلام: "من استجمر فليوتر"، أما اشتراط الثلاث فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتى أحدكم الغائط فليستجمر بثلاثة أحجار"، وقال في حديث عائشة الصحيح: "فليستطب بثلاثة أحجار"، وفي حديث سلمان في صحيح مسلم عنه - رضي الله عنه - أنه قال: "نهانا أن نستجمر بأقل من ثلاثة أحجار"، ومن هنا قال طائفة من العلماء كما هو مذهب الحنابلة وغيرهم أنه لا يجزئ في الأستجمار أقل من ثلاثة أحجار، ولذلك قال لعبد الله ابن مسعود: "ائتني بثلاثة أحجار"، فالحجر الأول لإزالة عين النجاسة والثاني لإزالة الأثر والثالث استبراءاً، ولا يحصل الإنقاء إلا إذا وضع الحجر فأصبح نقياً، يعني خرج وليس فيه أثر النجاسة.
…قال رحمه الله: ]ويجوز الاستجمار بكل طاهر إلا الروث والعظام وما له حرمة [.(1/235)
…]ويجوز الاستجمار بكل طاهر إلا الروث[، الروث هو فضلة الحيوان والسبب في ذلك أن إخواننا من الجن سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزاد حينما لقوه عليه الصلاة والسلام وآمنوا به، فسألوه الزاد فجعل لهم كل عظم ذكر اسم الله عليه يجدونه أوفر ما يكون لحماً هذا زاد لهم، وجعل الروث زاداً لدوابهم، فالروث زاد دوابهم والطعام اللحم والعظم يجدونه أوفر ما يكون لحماً إذا كان من المسلمين زاداً لهم، ومن هنا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح من حديث سلمان عن الاستنجاء بالروث والعظم، وهذا النهي تضمن فوائد فالروث فيه معنى أنه زاد إخواننا من الجن ومن هنا بنى العلماء عليه أنه لا يجوز الاستجمار بما له حرمة، مثل كتب العلم والأوراق التي فيها ذكر الله- عز وجل -، والسبب في ذلك أن حرمة كتب العلم أعظم من حرمة الطعام، وقد نهى عن هذا الذي يستحيل طعاماً فصار في النهي عن الطعام ذاته من باب أولى وأحرى، والنهى عما هو أعظم من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، ثم أيضاً لما نهي عن العظم تضمن معناً آخر فهو زاد من وجه ولا ينقي الموضع من وجه، لأن العظم أملس وإذا استجمر منه في بوله لا يُنَظِّف ومن هنا فرعوا عليه، أنه لا يستجمر بالطعام وفيه تفصيل، ولا يستجمر بما لا ينقي وفيه تفصيل، أما الطعام فكل ثمرة إذا كانت تؤكل ظاهراً وباطناً حرم الاستجمار بظاهرها وباطنها، كالتين والتفاح لا يجوز الاستجمار بظاهر التين ولا بباطنه فقشر التين يؤكل، فلو أنه أخذه أثناء يبسه وجفافه لم يجز له أن يستجمر به لأنه من جنس ما يؤكل، وأما إذا كان الثمر يؤكل ظاهره ولا يؤكل باطنه كالمنقا مثلاً لها لب في جوهرها يؤكل الظاهر ولا يؤكل الباطن، قالوا إذا كان يؤكل ظاهره ولا يؤكل باطنه مما له جلد أملس كالمنقا، في هذه الحالة قالوا الباطن وهو بذرة المنقا إذا يبست جاز له أن يستجمر بها لأنها ليست بمأكولة ولا حرمة لها عند يبسها، وأما(1/236)
إذا كان يؤكل باطنه ولا يؤكل ظاهره كالموز والبرتقال يؤكل باطنه ولا يؤكل ظاهره، فإن كان الظاهر يابساً فيجوز أن يستجمر به، وأما إذا كان متصلاً بالمأكول فإنه لا يجوز سواء في هذا أو ذاك لا في الموز ولا في غيره، أما في المنقا فإنه لملاسته لمعناً آخر سنذكره فيما لا ينقي لكن الكلام على حرمة الطعام، في هذه الأحوال شرطها أن لا تكون متصلة بالمطعوم، لحرمة المطعوم عند اتصاله، إنما المراد إذا يبست، أما إذا كانت لا يؤكل ظاهرها ويؤكل باطنها مثل ما ذكرنا في البرتقال، البرشومي ونحوه هذه إذا يبست أجاز العلماء رحمهم الله الاستجمار بظاهرها دون الباطن لأن الحرمة للباطن دون الظاهر، أما إذا كان ظاهرها يؤكل وباطنها لا يؤكل مثل البلح والتمر فالفصم الذي بداخله لا يؤكل، قالوا يجوز أن يستجمر به ولكن شدد بعض مشائخنا في الفصي والنوى إذا يبس قالوا لأنه يكون علفاً للدواب، وحينئذ شدد فيه من معناً آخر وقال نهى على الروث لأنه زاد دواب الجن فينهى عن النوى لأنه زاد دواب الأنس ومن هنا منع منه.(1/237)
أما الشيء الذي لا ينقي إما أن لا ينقي لنعومته مثل الحرير والقطن والأقمشة الملساء، فهذه لو أنه أخذ ذكره وأراد إنقاءه واستجماره بهذه الأشياء فإنها لا تنقي لأنها ناعمة ولزجة، أو لملاسته مثل الزجاج لأن العظم نهي عنه لأنه أملس ففيه معنى الملاسة وفيه أيضاً معنى الحرمة كما ذكرنا في الطعام، فمن هنا قالوا: إذا كان الذي يستجمر به أملس كالزجاج لم يجز أن يستنجي به، وفي معنى الأملس من الزجاج الأملس من الحجارة فإن بعض الحجارة يكون أملساً لا ينقي الموضع، وبالأخص عند البول فإنه إذا وضع رأس ذكره على الأملس من الزجاج انساب بوله على الزجاج فازداد نجاسة لا نقاءً، فيشمل هذا الرخام بعض الرخام أملس كالزجاج أيضاً يأخذ حكمه، فإذاً لا بد وأن لا يكون أملس، أيضاً يمنع الناعم والأملس ويمنع الرخو الضعيف مثل الفحم قالوا لا يستجمر به لأنه ضعيف ولا ينقي الموضع، كذلك أيضاً ما كان ليناً كالطين لا يستجمر به لأنه يزيد الموضع نجاسة ولا ينقي ومن هنا لا بد وأن يكون طاهراً فلا يجوز الاستجمار بالنجاسات والدليل على أنه يشترط أن يكون طاهراً أن عبدالله - رضي الله عنه - قال له - صلى الله عليه وسلم -: "ائتني بثلاثة أحجار، قال، فجئته بحجرين وروثة فألقى الروثة وقال: إنها رِكْس"، ورِكْس بلغة اليمن لأنهم يقلبون الجيم كافاً فقال: إنها رِكْس يعني رجس، وهذا يدل على أنها لا تزيد الموضع إلا نجاسة وقذرا، ومن هنا نعلم أن تفصيلات الفقهاء مبنية على أصول في السنة والذي يأتي يقرأ متون الفقهاء هكذا ويقول هذه اجتهادات وآراء ما لها دليل هذا عدم إمعان وعدم معرفة لأصول أهل العلم، وهذا من جوامع كلمه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه أن الحديث الواحد يستنبط منه من المعاني والفتوحات التي يفتح الله بها على علماء الأمة ما لا يحصى كثرة، فهم لا ينظرون إلى العظم والروث هكذا دون نظر إلى معانٍ صحيحة، فينظرون أين مقصود الشرع؟، فلما كان مقصود الشرع(1/238)
النقاء قالوا: إن الروث رماها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها ركس، وفيها زاد إخواننا من الجن كما ذكرنا في الروث والعظم فيه الملاسة فيمنع من النقاء وفيه الحرمة فيمنع من الطعام وما فيه ذكر الله- عز وجل - من هذه الوجوه.
…قال رحمه الله: ]وما له حرمة[.
…قوله ]وما له حرمة[ أي ولا يجوز أن يستجمر بما له حرمة، مثل كتب العلم وما فيه ذكر الله- عز وجل - ومثل الطعام كما ذكرنا له حرمة ومما ذكروه أن يستجمر بالمتصل من الحيوان مثل أن يأخذ ذنب البهيمة ويستجمر بها، فإن لها حرمة من ذوات الأرواح ولها حرمة، ولذلك لا يستجمر بما له حرمة.
- - - - - الأسئلة - - - - -
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: إذا كان الإنسان في صحراء فهل يقول دعاء دخول الخلاء والخروج منه؟، وجزاكم خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.
فقد بيّنا أثناء الشرح أنه إذا كان الموضع ليس معداً لقضاء الحاجة في الصحراء والبراز فإنه يقول هذا الذكر عند رفعه لثوبه عند بعض العلماء وبعضهم عند جلوسه، والأمر في هذا واسع لأنه لم يحدد عنه عليه الصلاة والسلام وإنما حدد فيما هو مهيأ لقضاء الحاجة لقول أنس - رضي الله عنه -: كان إذا دخل وعلى كل حال فالأمر في هذا واسع لكن يقول الذكر ولا يتركه والله تعالى أعلم,
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: إذا كان الورق الذي فيه ذكر الله في المحفظة فهل يكفي ذلك؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/239)
لا يكفي هو العبرة بالدخول سواء كان في محفظة، مسألة أن الصورة إذا كانت في محفظة أو أسماء الله وصفاته إذا كانت في محفظة هذا كله استحسان بالعقل ما له أصل، أليست الجيوب تحفظ كونه يتوارى عن الأنظار والأبصار مأخوذ من حديث ضعيف أنه قبض على خنصره وهذا في الأصل ضعيف لأنه نفس الحديث الذي استدل به ضعيف، إنما العبرة في حمل الشيء والدخول به إلى موضعٍ لا يليق بذلك الشيء، فليس القضية قضية أن يكون مقبوضاً عليه أو داخل ستار لأنه هو في الجيب داخل ما يحفظه، وقد يكون الجيب صغيراً وعلى كل حال فهذا لا شك أنه ما دام أصله ضعيف فإنه لا يعوّل عليه والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل يجوز ذكر الله في الخلاء إذا كان الوضوء في محل الخلاء؟، وهل يكره أن يمكث الرجل طويلاً في الخلاء؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
أما الوضوء في موضع الخلاء فالأفضل أن لا يتوضأ داخل موضع الخلاء، إنما يخرج عن موضع الخلاء ويتوضأ، فإن لم يتيسر له ذلك ذكر الله في نفسه ما يتلفظ لأن الموضع لا يذكر فيه الله - عز وجل -ومن هنا يذكر الله في نفسه، وهكذا ذكروا إذا سمع الأذان أثناء قضاءه للحاجة فإنه يردد في نفسه، لأن الله يقول: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ } ، فجعل ذكر النفس من ذكره - عز وجل -، وعلى كل حال الأصل أنه يتوضأ خارج الموضع وإذا لم يتيسر له ذلك يفعل ما ذكرناه.
…إطالة المُكْث في مواضع قضاء الحاجة مكروهة ولذلك نّبه العلماء على أنه يجلس بقدر حاجته ولا يطيل المُكْث لأنه من ناحية طبية يضر حتى ذكر الأطباء والحكماء أنه يورث البواسير, وإطالة الجلوس أنه يورث البواسير وهذا ذكره غير واحد من الأطباء فأشار إليه بعض الفقهاء في مسألة إطالة المكث، ولأن هذه المواضع حشوش محتضرة كما أخبر - صلى الله عليه وسلم -، فهي مواضع لا ذكر لله فيها ولا يحمد الجلوس فيها إلا من ضرورة وحاجة والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :(1/240)
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل يجوز إمساك الذكر باليمين بحائل كمنديل ونحوه أو من وراء ثوبه؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
من أهل العلم من منع إمساك الذكر باليمين حتى من فوق الحائل، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال::لا يُمْسِّكَن ذكره بيمينه"، والإمساك الأخذ ولم يفرق بين كونه بحائل أو بدون حائل وهذا القول أحوط وأسلم وأبلغ في الامتثال والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: استأجرت أجيراً على عمل معين ولم نتفق على قدر الأجرة فلما انتهى من عمله طلب مبلغاً كبيرا فوقع النزاع بيننا فما الحكم حينئذ؟، وجزاكم الله كل خيراً.
الجواب :
لا يجوز لأحدٍ أن يستأجر أحداً حتى يتفقا على الأجرة، وجاء في حديث عبد الرزاق في مصنفه:من استأجر أجيراً فليعلمه أجره:، وهذا أبعد عن الغرر، وأبعد عن الخصومة، ولا يجوز أن يدخله في العمل دون أن يعلم كم أجرته، الأمر الثاني إن حصل إنهما دخلا فمخالفة السنة شر ووبال ولذلك من شؤمها وجود النزاع، الحل في هذه الحالة أنك ترجع إلى العرف وليس لهذا الأجير أجرة غير المتعارف عليه، فنسأل أهل الخبرة وأهل المعرفة من عمل مثل عمل هذا الأجير كم أجرته قالوا أجرته مائة ريال فقال الأجير أريد مائة وخمسين أريد مائة وريال لا تعطيه إلا مائة، وليس له حق إلا المائة وهي أجرته بالمعروف وهذا الأصل أنه إذا لم يحصل الاتفاق رد إلى أجرة المثل ولها نظائر كمهر المثل ونحو ذلك مما هو مقرر عند العلماء في مسائل النزاع عند عدم وجود العقد على صورة بينة والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل الغسل من الجنابة والتطهر من الحدث الأكبر يغني عن الوضوء للصلاة التي تعقب هذا الغسل؟، وجزاكم الله كل خيراً.
الجواب :(1/241)
من اغتسل من الجنابة ونوى أن يصلي بعد غسله أجزاءه غسله عن وضوئه واندرج الوضوء تحت الغسل، وأما من لم ينو فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمر ما نوى"، ففي هذه الحالة يلزمه أن يتوضأ بعد غسله لأنه لم ينو العبادة الصغرى فلا تندرج تحت الكبرى، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى بعد الغسل، والإجماع منعقد على أنه إذا نوى أنه يجزاءه الغسل عن الوضوء والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل يجوز حجز مكان في حلقة العلم أو في صفوف الصلاة وتركها والذهاب عنها والعودة عليها مرة أخرى؟، أفتونا أثابكم الله.
الجواب :
أولاً يا إخوان أُشهد الله العظيم رب العرش الكريم على أنني برئ ممن يصلي في مكان الدرس ويترك الصفوف الأولى، اللهم فأشهد خالف السنة وعصى الله ورسوله، ما يجوز ترك الصفوف الأول والتأخر عنها وتقطيع صفوف المسلمين لا لدرسٍ ولا لغيره، من أراد أن يطيعني في هذا فليطع ومن لم يطع فأشهد الله وأشهدكم على أني برئ منه، ما يجوز تقطيع الصفوف في حرم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، ولا في مساجد المسلمين العلم له وقته والصلاة لها وقتها، الصلاة لها حقوقها وطالب العلم الذي يتعلم الآن وليس عنده امتثال لأهل العلم فلا يبارك الله له في علمه، فأشهدوا أني برئ من هذا الفعل لأنه عصيان لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومخالفة للسنة، فلا يجوز للمسلم أن يفعل هذا.(1/242)
الأمر الثاني حجز الأماكن، تترك الأماكن لا يوضع كتاب ولا يوضع كرسي ولا يوضع غيره بعد الصلاة يتنافس المتنافسون، تأتي كغيرك إن حجزت ظلمت، هذا مكان أنت وغيرك فيه سواء، السابق أحق تضع كرسيا تضع شماغا ستسأل أمام الله عن حجز هذا المكان وتضييقه عن طلاب العلم، ليس لك حق فيه إلا بالبدار وعليكم السكينة على طلاب العلم السكينة هم قدوة ما ينبغي أن يضرب بعضهم بعضاً ويؤذي بعضهم بعضاً ويشوش بعضهم على بعض، إذا لم يتعلم طالب العلم السكينة والوقار في مجالس العلم التي تغشاها السكينة وتتنزل عليها السكينة وتغشاها الرحمة فأين يتعلم الأدب؟، ينبغي على الإنسان أن يزع نفسه بوازع التقوى والله لو أنك كنت في آخر القوم وأنت أتقى لله فأنت أسعدهم، ولو كنت في أول الناس وما فاتك درس واحد ولم يتقبل الله منك فأنت أشقى الناس، المرد إلى تقوى الله- عز وجل - والله لا يتقبل إلا من المتقين، فتأخر أو تقدم فليس هناك معول إلا على تقوى الله، فاتق الله وطبق السنة وكن طالب علم كما ينبغي، ولا يجوز تقطيع الصفوف كما ذكرنا ولا يجوز الإضرار بالمسلمين بحجز الأماكن، تأتي كغيرك هذه بيوت الله إن لم يتساو الناس في المساجد فلا أدري أين يتساووا؟، وأنظر كيف ربك ساوى بين الناس سجداً ركعاً بين يديه غنيهم وفقيرهم جليلهم وحقيرهم حتى يشعر الناس بعزة الإسلام في بيوت الله، فإذا كان لم يستشعر طلاب العلم ذلك فأين يستشعرون؟، وهذا لا أقوله والله إلا محبة للخير وينبغي وأعيد وأكرر على أن طالب العلم لا يبارك له في علمه إذا لم يسمع للعلماء، وإذا كان يسمع أن هذه فتوى وأقولها ولا يطبقها اليوم فكيف يطبق هذا العلم الذي يتعلمه، فهذا شيء فيه معصية لله ورسوله أن تترك صفوف المسلمين وأن تتأخر عنها وتقطع الصفوف في حرم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وتنشأ هذه البدعة والحدث والناس تنظر إليكم وأنتم طلاب علم وقدوة فلا والله اللهم أشهد أني برئ من هذا الذي لا(1/243)
يرضيك، وعليكم السكينة والوقار سواء في الدرس أو قبل الدرس أو بعد الدرس فنسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل و أن يوفقنا في القول والعمل وأن يجعلنا مخلصين لوجهه .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
باب الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب الوضوء[.
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.…أما بعد.
فيقول المصنف رحمه الله: ]باب الوضوء[، الوضوء مأخوذ من الوضاءة وهي الحسن والجمال والبهاء، قال صاحب اللسان: إن أصل هذه الكلمة مشتق من الوضاءة وهي الحسن، ووصفت هذه العبادة بذلك، لأنها سبب في حسن الوجه وحسن حال العبد في الدين والدنيا والآخرة، فبالوضوء تغفر الذنوب، وتتحات الخطايا كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، "أن العبد المؤمن إذا قرب وضوءه فمضمض واستنشق وغسل وجهه خرجت كل خطيئة، مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، وإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه، مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى تخرج من تحت أظفار يديه، ثم إذا غسل رجله خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه، مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى تخرج من تحت أظفاره"،فهو نقاء وطهارة من الدنس ولذلك يفضي إلى هذا المعنى الشريف الكريم من حصول هذا النقاء، كذلك أيضاً فيه وضاءة لأن العبادة تنير وجه صاحبها، وتكون سبباً في إشراق وجهه بطاعة الله - سبحانه وتعالى -، كما قال تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ }.(1/244)
والوضوء في اصطلاح العلماء هو الغَسْلُ والمَسْحُ لأعضاء مخصوصة، وبعض العلماء يضيف بنية مخصوصة، فالغسل هو صب الماء والمسح المراد به هنا إمرار اليد مبلولة بالماء، فأما الغَسْل للأعضاء المخصوصة فهي الوجه واليدان والرجلان، هذه أعضاء تغسل، وأما المسح فإنه للرأس وللعمامة بدلاً عن الرأس وللخفين بدلاً عن الرجلين، بنية مخصوصة وهي نية التقرب إلى الله - سبحانه وتعالى -، والوضوء يطلق بمعنيين فيه حقيقتان حقيقة لغوية وهي غسل اليد، يقال توضأ إذا غسل يديه، قال قتادة رحمه الله: من غسل يديه فقد توضأ، وفيه حقيقة شرعية وهي ما ذكرنا من الغَسْل والمَسْح للأعضاء المخصوصة، وبعض العلماء يقول: الوضوء غَسْل الأعضاء المخصوصة وهذا من باب التغليب، لأن هناك مسحاً في الوضوء.(1/245)
والوضوء عبادة من العبادات فرضه الله - عز وجل - عند القيام إلى الصلاة، فدل على فرضيته دليل الكتاب والسنة والإجماع، أما دليل الكتاب فقول الحق تبارك وتعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } ، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن الله أمر فقال: { فَاغْسِلُوا } ، وعطف المأمورات الأخر على المأمور الأول فدل على فرضية الوضوء، وقوله - سبحانه وتعالى -: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ } ، أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة ودل كذلك دليل السنة في أحاديث كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا احدث حتى يتوضأ"، واللفظ للبخاري، وفي لفظ مسلم "لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهُور"، وهذا يدل على أنه لا تصح الصلاة بدون وضوء، وكذلك أيضاً قال عليه الصلاة والسلام في حديث علي - رضي الله عنه - في السنن: "مفتاح الصلاة الطُهُور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم"، وقال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث أبي هريرة في قصة المسيءِ صلاتهُ، عنه - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء"، وفي لفظ في السنن "فتوضأ كما أمرك الله".
ومن هذا أي من دليل الكتاب والسنة أجمع العلماء رحمهم الله على فرضية الوضوء، وأنه لا يجوز للمسلم أن يصلي بدون وضوء، والوُضوء بالضم هو فعل الطهارة، والوَضوء بالفتح هو الماء الذي يتوضأ به، كالطُهور والطَهور، والغُسول والغَسول، وكذلك السَحور والسُحور، والوَقود والوُقود ونحو ذلك من الألفاظ التي يفرق فيها بين الفعل وما يتأتى به الفعل بالضم والفتح.(1/246)
والوضوء ليس من خصائص هذه الأمة، فقد كان موجوداً في الأمم قبلنا، ولكن الذي خص الله به هذه الأمة إنما هو حصول الغُرَّة والتحجيل يوم القيامة كأثر من آثار الوضوء، أما الدليل على أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة فقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي"، فقوله "ووضوء الأنبياء من قبلي" يدل على أنه كان الوضوء موجوداً عند الأنبياء من قبل، ومما يدل على أنه كان موجوداً قبلنا قصةُ سارة عليها السلام في قضيتها مع المارد حينما أرادها قال كما في صحيح مسلم "فتوضأتْ"، فدل على أن الوضوء ليس خاصاً بهذه الأمة، وإنما من خصوصيات هذه الأمة أن الله جعل لها الغُرَّة والتَّحجيل، فإذا كان يوم القيامة دُعِيت أمة الإجابة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - غُراً محجلين من أثر الوضوء، والغرة البياض في جبين الفرس والتحجيل في القوائم، فلما كانت أعضاء الوضوء في أعلى البدن وأسافله تأتي أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أمة الإجابة تشرق أعضاء الوضوء وتنير منها، وهذا فضل من الله - عز وجل -.(1/247)
والوضوء ذكره المصنف رحمه الله بعد آداب قضاء الحاجة، وهذا من باب ترتيب طهارة الحدث على طهارة الخبث، بمعنى أنه ذكر عبادة الوضوء بعد بيان آداب قضاء الحاجة، وهذا راجع إلى ترتيب شرعي وطبيعي جبلي، فأما الترتيب الشرعي فهو تأدب مع الكتاب العزيز، فإن الله - سبحانه وتعالى - ذكر طهارة الحدث بعد طهارة الخبث، فقال - سبحانه وتعالى -: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا } ، فجعل الطهارة بعد الإتيان من الغائط، فبعد أن بيّن آداب دخول الخلاء وقضاء الحاجة من البول والغائط شرع في بيان الطهارة، وكذلك هو ترتيب جبلي طبيعي لأن الإنسان يدخل فيتطهر ويتنقى من الدنس حتى يتوضأ بعد ذلك ويقوم لصلاته، وبدأ المصنف رحمه الله بالطهارة، بعد طهارة الخبث بطهارة الحدث، وطهارة الحدث تنقسم إلى نوعين: طهارة من الحدث الأصغر وهي طهارة الوضوء، وطهارة من الحدث الأكبر وهي طهارة الغُسْل، فابتدأ رحمه الله بطهارة الوضوء وهي الصغرى قبل طهارة الغسل وهي الكبرى، وهذا لسبب وهو أن الله - عز وجل - أمر بالوضوء قبل الغُسْل، فقال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }، ثم قال بعد ذلك : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } ، فجعل طهارة الصغرى مقدمة على الطهارة الكبرى، ثم إن طهارة الوضوء وهي الصغرى أكثر وقوعاً من طهارة الغُسْل وهي الكبرى؛ فإن الإنسان في اليوم قد يتوضأ أكثر من عشر مرات، ولكنه لا يغتسل في الأسبوع إلا مرة واحدة، فقدم الذي يحتاجه الناس أكثر وتعم به البلوى أكثر، يقول رحمه الله: ]باب الوضوء[، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بطهارة الوضوء.
…قال رحمه الله: ]لا يصح الوضوءُ ولا غيرُه من العبادات إلا أن يَنْوِيَهُ[.(1/248)
…يقول رحمه الله: ]لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه[، هذه الجملة قصد المصنف رحمه الله أن يبين فيها أنه لا يصح الوضوء بدون نية، وهذا هو قول جمهور العلماء رحمهم الله، وذلك للأدلة التي دلّت على لزومِ النيةِ لصحة الوضوء، قوله رحمه الله: ] لا يصح [، إذا وُصِفتِ العبادة بكونها صحيحةً فإن هذا يترتَّب عن اعتبار الإجزاء وسقوط القضاء، فالمكلف إذا قيل له صحت صلاتك فمعناه أنها أجزأته ولا يُلْزَم بإعادتها وقضاءها مرة ثانية، فالصحيح لا بد من وقوعه على الصفة المعتبرة شرعاً قال رحمه الله: ]لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه[، أي لا يصح الوضوء إلا بنية، الدليل على اشتراط النية في الوضوء ما ذكره المصنف رحمه الله من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الصحيحين، قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، ووجه الدلالة من هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول في قوله عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات"، أي إنما صحة الأعمال واعتبارها بالنية، والوضوء عمل من الأعمال فدخل في العموم، ثانياً في قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى"، حيث دل على أن من نوى شيئاً كان له بالمنطوق، وأن من لم ينوي شيئاً لا يكون له بالمفهوم، ومعنى ذلك أن من نوى الوضوء عبادة وقع له عبادة، ومن لم ينوه عبادة لم يقع منه عبادة، ومن هنا احتج جمهور العلماء على اشتراط النية في الوضوء بهذا الحديث، وخالف في هذه المسائل الإمام أبو حنيفة النعمان عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان، ووافقه سفيان الثوري رحمه الله وأيضاً قالا: تشترط النية في التيمم ولا تشترط في الوضوء، أي في عبادة التراب البدلية ولا تشترط في الأصل وهي طهارة الماء، وخالف أيضاً في هذه المسألة الأوزاعي والحسن ابن أبي صالح فقالا بعدم اشتراط النية في الوضوء(1/249)
والتيمم، لا في الأصل ولا في البدل، وكلا القولين مرجوح، والصحيح مذهب الجمهور لحديث عمر بن الخطاب الذي ذكرناه، والسبب الذي دعا الحنفية رحمهم الله ومن وافقهم إلى إسقاط النية في الوضوء أنهم رأوا أن الوضوء وسيلة، والوسائل لا تلزم فيها النيات، ولذلك إذا ركبت السيارة إلى المسجد فهي وسيلة إلى الوصول إلى الصلاة، لا تنوي عند ركوبك للسيارة أنك تريد الصلاة وإنما هي وسيلة ولا يرونه مقصدا، والصحيح أن الوضوء من العبادة، والدليل على أن الوضوء من العبادة الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي قال:"الطُّهُور شطر الإيمان"، والطُّهور فعل الطهارة ولذلك جاء في لفظ السنن"الوُضوء شطر الإيمان"، والإيمان هو الصلاة لقوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ، أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فلما قال - صلى الله عليه وسلم -:"الوُضوء" وفي اللفظ الآخر"الطُهور شطر الإيمان"، فهو نصف الصلاة، والصلاة عبادة وما كان نصف العبادة فهو عبادة، فهو منها وآخذ حكمها وترجح مذهب الجمهور باعتبار النية.(1/250)
لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات كالصلاة والزكاة والحج والصوم، وقال ]العبادات [ والعبادات جمع عبادة مأخوذة من قولهم طريق معبد، أي مذلل، وسميت العبادة عبادة لأنها قائمة على الذلة والخضوع لله - سبحانه وتعالى -، فهي ذل في مقام عز بين يدي العزيز - سبحانه وتعالى -، والعبادة في الاصطلاح اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فأي شيء يتقرب به إلى الله - سبحانه وتعالى - من العبادات لا يمكن أن يحكم بصحته إلا بنية، والنية في اللغة القصد، وأما في الاصطلاح فهي قصد وجه الله - عز وجل -، ثم لها مجالان عند أهل العلم رحمهم الله إذا ذكروا النية فيقصدون بها أحد الوجهين أو هما معاً، الوجه الأول تمييز العبادات عن العادات، والوجه الثاني تمييز العبادات نفسها، فأما تمييز العبادات عن العادات فالفعل الواحد يكون قربة وعبادة ويكون عادة، بل قد يكون الفعل الواحد كفراً والعياذ بالله ويكون إيماناً، ولا يميزه إلا النية، فالسجود يكون كفراً بالله إذا كان لصنم ولغير الله - عز وجل -، ويكون توحيداً وإنابة وقربة لله - عز وجل - إذا كان لله سبحانه وهو فعل واحد، فإذاً تتميز العادات عن العبادات، يعطي الرجل زوجته أو قريبه أو أخاه أو يعطي المسكين المال، فلو أعطى صديقاً في كربة مالاً ففرج كربته، قد يعطي محاباةً وقد يعطيه محبةً ومحض رحمة، أو رياءً أو سمعةً وطلب للمدح والثناء والعياذ بالله، وقد يعطيه وهو يريد وجه الله ويبتغي ما عند الله من حُسْن الخلف ووفاءً له بأُخوة الإيمان فيؤجُر على عطّيته ويكون له الخلف من الله، فتتميز العادات كإعطاء الماء محبةً وعصبيةً وحناناً وعاطفةً على الولد، عن العبادات وهي قصد القربة لله - عز وجل -. وهذا المعنى في النية هو جوهر العبادات ولُبَّها وأسمى المعاني فيها، وهو إخلاص الدين لله الذي من أجله بعث الله رسله وأنزل كتبه، وهذا المعنى يعتني به علماء التوحيد(1/251)
وعلماء السلوك في التربية والأمر بإخلاص العبادات لله - عز وجل -، فيقولون لا بد من تصحيح النية والعناية بالنية، ومرادهم الإخلاص الذي لا يقبل الله الدين بشيء سواه، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله دين سواه)، وهو الذي عناها الله - عز وجل - بقوله: { فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ } ، وخاطب من قبله فقال: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ، هذه هي النية الصحيحة المستقيمة التي يؤجر صاحبها في الدنيا والآخرة، وهي التي عناه الله - عز وجل - بقوله : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً } .
…أما النوع الثاني والوجه الثاني من النية فهو تمييز العبادة نفسها، فالصلاة الركعتان تكونان نافلة وتكونان فريضة، ممكن أن يصلي ركعتين ويقصد بها صلاة الفجر، وهي فريضة وممكن أن يصلي ركعتين ويقصد بها نافلة، ثم قد يقصد نافلة مقصودة أو نافلة مطلقة، فقد يقصد ركعتين لوجه الله هكذا نافلة مطلقة، وقد يقصد ركعتي الرغيبة وقد يقصد ركعتي المغرب أي راتبة المغرب أو راتبة العشاء، أو يقصد للوضوء أو نحو ذلك، إذاً النية بهذا المعنى الثاني تمييز العبادات بنفسها، فالظهر تكون أداء وتكون قضاءً، وينوي القصر وينوي الإتمام، فهذه النية هي التي يعتني بها الفقهاء رحمهم الله.(1/252)
والمراد بهذا أن يقصد الأمرين ]لا يصح الوضوء إلا أن ينوي[، فأولاً ينوي أن يتقرب إلى الله، لأنه ربما توضأ تبّرداً فالصيف إذا اشتد عليه الصيف ربما غسل أعضاء الوضوء من باب التبّرد، وقد يغسل أعضاء الوضوء من باب النظافة، وقد يغسل أعضاء الوضوء محبة في وصول هواء للماء ومحبة له، وقد يغسل أعضاء الوضوء بقصد الطهارة فحينئذ لا يكون ناوياً إلا بالقصد الأخير، وهو نية التطهر ورفع الحدث، طبعاً المعنى الأول التمييز تميز العادة عن العبادة، لقصد العبادة بالوضوء.(1/253)
وأيضاً هذه النية في الوضوء لها محل ومحلها القلب، وهذا في قول جماهير السلف والخلف رحمهم الله خلافاً لأحمد ابن عبد الله الزبيري وهو من ذرية الزبير، الذي يقول أنه يتلفظ بالنية في الوضوء، وهو من أصحاب الشافعي رحمه الله وتوفي في القرن الرابع الهجري، من قدماء الشافعية رحمة الله عليه ولكن جماهير السلف والخلف على أن النية محلها القلب، ولذلك قال بعض أئمة العلم كما نص عليه الإمام الماوردي رحمه الله: إن النية مشتق من الإناء، سميت بذلك لأن القلب إناءٌ لها ووعاءٌ لها، والقلب إناء الجسد لأن جميع أعضاء الجسد تتبع القلب، فهو أساس البدن ومحرِّك البدن، فالنية محلها القلب، أما زمان النية فزمان النية طبعاً على وجهين: أن ينوي عند ابتداء الوضوء وهذا يكون عند غسله لكفيه، فإذا نوى عند غسله لكفيه لا بد وأن يستصحب النية عند أول فرض من فروض الوضوء، فإذا نوى لا بد وأن تكون النية المجزية عند أول فرض، فإن نوى عند أول الوضوء كان كمالاً واستحباباً، وهذا الكمال والاستحباب يستصحب تستصحب هذه النية حقيقة لا حكماً إلى أول فرض وهو غسل الوجه، فإذا غسل وجهه استصحب النية حكماً ولا يلزمه استصحابها حقيقةً، بمعنى أنه لو غسل وجهه وهو ناوٍ للوضوء لا يضره أن تعزب عنه النية أثناءَ مسحِه لرأسِه وغسلِه لرجليْه لأن الأصلَ مُستصحَبٌ، وقد نوى عند أول فرض فاستُصحِبَ حكمُ النية، لكن يؤثر في هذه النية أن يَنقضَها أو يأتِي بَعكسها، فإذا نقضها انتقضت أما إذا ابتدأ وضوءَه وعنده النية لرفع الحدث، أو استباحة الممنوع الذي عرض، أو لفعل فريضة ونحو ذلك، فإنه تجزيه هذه النية فيستصحبها حكماً مالم يأتي بنقيضها أو ما يخالفها، وهذا ما يسموه استصحاب النية وله آثار في الصلوات وفي الحج وفيه كلام طويل عند العلماء رحمة الله عليهم وأن المعتبر استصحاب الحكم، ولا يؤثر ذهول الإنسان عن النية في أثناء أفعال الوضوء الباقية ما دام أنه قد جاء بها عند أول(1/254)
فرض واستصحب حكمها إلى نهاية الوضوء.
…هذه النية طبعاً تأتي على وجوه: الوجه الأول النية التامة الكاملة، وهي أن ينويَ رفعَ الحدث، فإذا جاء يتوضأ ينوي أن يصبح متطهراً وأن يَرْفع حدثَه، هذه النية ويصلي بوضوئها الفرائض والنوافل ويفعل كل العبادات التي تستباح بالوضوء، فلو أنه نوى رفع الحدث صح له أن يصلي الظهر، ثم يصلي بعده العصر بذلك الوضوء ولا يجدد، ويصبح طاهراً ويفعل ما يفعله المتطهِّر، هذه النية الحقيقة المُنبغي للمسلم دائماً أن ينويها، إذا أراد أن يتوضأ ينوي رفع الحدث، حتى يخرج من إشكالات العلماء ومن المشاكل المترتبة على اختلاف النية.
النوع الثاني من النيات أن ينوي الفريضة، فمثلاً أذن عليه آذان الظهر فنوى أن يصلي الظهر بهذا الوضوء، أو يتوضأ لصلاة الظهر، فهذه نية لفرض يستبيح بها النافلة فيجوز أن يصلي الراتبة القبلية للظهر والراتبة البعدية للظهر وأن يصلي ما شاء من النوافل، وأن يقضي الرواتب من الفرائض السابقة.(1/255)
…الحالة الثالثة والنوع الثالث من النية أن ينوي استباحةالممنوع، واستباحة الممنوع أن ينوي مثلاً صلاة الضحى يتوضأ في الضحى من أجل أن يصلي ركعتي الضحى، فحينئذ توضأ لنافلة ونوى النافلة وهي أقل من الفرض، وظاهر السنة في قوله عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، يوجب الإشكال في هذا، ومن هنا نص طائفة من العلماء على أنه إذا نوى الوضوء لنافلة لم يستبح به فريضة، لأنه منتقض الوضوء منتقض الطهارة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، وهو قد توضأ للناقلة ولم يتوضأ للفريضة، فضيّق على نفسه وشدد، ومن هنا قالوا: لا يمكن أن نعطيه حكم الفريضة لأنه لم ينويها، وقال بعض العلماء لا يؤثر لأنه من باب الحكم الوضعي، أي أنه إذا توضأ أرتفع حدثه ولم يبقى للحدث أثر، فيستوي أن يتوضأ لناقلة أو فريضة، وأخذوا بعموم قوله "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، وقد أشار بعض الفضلاء إلى هذه المسألة بقوله:
ولينوي رفع حدث أو مفترض ……أو استباحةً لممنوع عرض
ولينوي رفع حدث، هذا النوع الأول من النيات وهو أعمها، أو مفترض، أي فريضة النوع الثاني، أو استباحة لممنوع عرض، توضأ من أجل أن يطوف بالبيت، أو من أجل أن يمس المصحف، أو من أجل أن يصلي نافلة فقد توضأ للأقل ولم يتوضأ لما هو أعلى.
…قال رحمه الله: ]لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات[ ، ذكر مع الوضوء غيره لأن الأصل في العبادات أنها لا تصح إلا بنية، يشمل هذا النية بمعنى تمييز العبادات عن العادات وقصد التقرب إلى الله - عز وجل -، والنية بتمييز العبادات نفسها.
…قال رحمه الله: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"[.(1/256)
…]لقول رسول الله [- صلى الله عليه وسلم - أي من أجل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الحديث حديث عمر - رضي الله عنه - المتفق على صحته قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: "إنما الأعمال بالنيات" وفي لفظ "بالنية"، بالنيَّة والِنيَة "وإنما لكل امرئ ما نوى"، فذكر المصنف القطعتين إشارة إلى وجه الدلالة من الحديث "إنما الأعمال بالنيات"، وقوله "وإنما لكل امرئ ما نوى"، حيث دل على لزوم النية في الوضوء، وهذا الحديث من أعظم الأحاديث وأجلها ولذلك قال العلماء: إنه قاعدة من قواعد الإسلام، وقالوا إنه ربع الإسلام وقيل نصف الإسلام، وقيل ثلث الإسلام، فمن قال إنه ربع الإسلام فهذا مبني على أن الإنسان تكون منه الأقوال والأفعال والنيات على صورتيها ووجهيها فيكون ربعاً من هذا الوجه، ومنهم من يقول: إنه ربع الإسلام لقضية الأحاديث.
عمدة الدين عندنا أربع …كلمات من كلام خير البرية
ذكروا هذا على أنه ربع من هذا الوجه.
اتقى الشبهات وازهد ودع …ما ليس يعنيك واعمل بنية
"اتقى الشبهات" هذا الحديث الأول، "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحببك الناس"، "ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، واعمل بنية هو "إنما الأعمال بالنيات"، فهو ربع الإسلام من هذا الوجه، وقالوا إنه نصف الإسلام لأن الأمور إما ظاهرة أو باطنة التي تكون من المكلف، فحديث "إنما الأعمال" تعلّق بالباطن، فأصبح نصف الإسلام، وقيل ثلث الإسلام لأن الظاهر إما قول وإما فعل والباطن هو النية فأصبحت النية ثلثَ الإسلام من هذا الوجه وعلى كل حال؛ هذا حديث من أعظم الأحاديث حتى قال بعضُ أئمةِ السلف: لو أن كل عالم استفتح كتابه بهذا الحديث، إشارة إلى فضله وعظيم ما فيه من المعاني الجليلة لأنه يدعو إلى الإخلاص وتصحيح النية وتجريد القصد لله - عز وجل -.
…قال رحمه الله: ]ثم يقول بسم الله ويغسل كفيه ثلاثا[.(1/257)
…]ثم يقول بسم الله[، التسمية في بداية الوضوء سنة في قول جمهور العلماء رحمهم الله وليست بواجبة، خلافاً للإمام أحمد وبعض أصحاب الحديث كإسحاق ابن راهويه وغيره، والدليل على عدم وجوبها قوله تعالى : } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا {، فلم يأمر بالتسمية، وقال تعالى: } وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه ِ{، } فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْه ِ{، فالتسمية لم يأمر الله - عز وجل - بها في كتابه على الوضوء، وثبت في الصحيحين من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنه وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه توضأ ولم يذكر عنه التسمية، وكذلك أيضاً عبدالله بن زيد رضي الله عن الجميع، فقالوا إن هذا يدل على عدم الوجوب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله"، والآية ليس فيها ذكر للتسمية، فدل على عدم وجوب التسمية، وأما سنيتها فلحديث أبي هريرة والحقيقة مختلف في إسناده، "لا وضوء لمن يذكر أسم الله عليه"، وهذا الحديث جمهرة أئمة الحديث على ضعفه، واختار بعض العلماء تحسينه بالطرق ولذلك قال الحافظ المنذري رحمه الله: إن مجموع طرقه يدل على أن له أصلاً، وقال الحافظ أبو بكر ابن أبي شيبة رحمه الله: ثبت عندنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاله، التفاتاً إلى كثرة الطرق، وممن حسّن إسناده الحافظ الذهبي والإمام ابن القيم والشوكاني والشيخ ناصر رحمة الله على الجميع، قالوا إنه يقبل التحسين ومشوا حاله، فعلى هذا يقال بسنية التسمية عند بداية الوضوء، ويكون قوله "لا وضوء لمن يسمي" أي لا وضوء كامل، وليس المراد به أنه ملزم بالتسمية على أصح قولي العلماء، التسمية عند الوضوء على القول بوجوبها تكون عند أول فرض من فرائض الوضوء واجبة، وإذا سمى عند ابتداء الوضوء رخصوا في هذا، فقالوا لو نسيها في ابتداء الوضوء(1/258)
وذكرها عند أول فرض أجزاءه.
قال رحمه الله: ]ثم يقول بسم الله ويغسل كفيه ثلاثا[.
…]ويغسل كفيه ثلاثاً[، الكفان مثنى كف والكف من أطراف الأصابع إلى مفصل اليد عند الزَّندين، سمي الكف كفاً لأنه تكف به الأشياء، والكف باطن اليد وهو ما يسمى بالراحة مع الأصابع فإذا قيل كف شمل هذا، والمراد بهذا أنه إذا أراد الوضوء غسل كفيه في ابتداء الوضوء ثلاث مرات على الاستحباب، ثم هذا الغسل للكفين يكون واجباً إذا كان مستيقظاً من النوم، ويكون واجباً إذا كانت باليد نجاسة، فيجب عليه غسل الكفين في حالتين: أن يكون مستيقظاً من النوم، أو تكون على يده نجاسة لأنه سينقل الماء بكفيه، فيتمضمض ويستنشق بكفيه وسيغسل وجهه بكفيه وسيمسح رأسه بكفيه وسيغسل رجليه بكفيه، فلا بد من إنقاء الآلة الناقلة للماء، أما الدليل على فرضية غسل الكفين عند الاستيقاظ من النوم سواءً كان نوم ليل أو نهار فحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلهما في الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"، فقوله عليه الصلاة والسلام "فليغسل" أمر والأمر للوجوب، وقوله فإنه لا يدري "أين باتت" خرج مخَرْجَ الغالب، لأن البَيتْوُتة تكون بالليل والنوم غالباً ما يكون بالليل، لأن الله جعل الليل سباتاً للناس ينامون فيه وسكناً لهم، فعبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغالب وهذا لا يمنع أن يكون في نوم النهار لقوله في العلة "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده"، فالمقصود عدم العلم بحال اليد وهذا يشمل نوم الليل والنهار، أما إذا كانت عليهما نجاسة فلا اشكال، وغسل الكفين ظاهراً وباظنا، فيغسل ظاهر الكفين وباطن الكفين، وهذه هي السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/259)
…قال رحمه الله: ]ويغسل كفيه ثلاثاً[ على الندب والاستحباب، ومرةً على الأصل فإن كانت اليدان مقطوعاً بطهارتهما، يعني شخص يده نظيفة ثم أراد أن يتوضأ كان غسله لكفيه استحباباً لا إيجاباً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما توضأ إلا غسل كفيه.
…قال رحمه الله: ]ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً يجمع بينهما بِغْرَفة أو ثلاث[.
…]ثم يتمضمض[ التمَضْمُض مأخوذ من قولهم تمَضْمضت الحية في جحرها إذا تحركت، والمراد بالمضمضة تحريكُ الماء في الفم، ومن هنا للعلماء في المضمضة قولان، القول الأول يقول: لا تكون المضمضة شرعية إلا إذا حرّك الماء ثم طَرَحهَ، وبناءاً على هذا تكون المضمضة الشرعية عندهم تحريك الماء في الفم وقذفه أو إخراجه، والقول الثاني يقول: تحريك الماء، فإن حرّك الماء في فمه فقد تمضمض، سواء طرحه أو لم يطرح، مثل شخص الماء عنده قليل والماء بارد ففي شدة الصيف جاء وتمضمض بعد ما حرّك الماء في فمه بلعه، فإنه متضمض على الوجه الثاني وغير متمضمض على الوجه الأول، والمضمضة الشرعية بمج الماء وطرحه، وهذا هو الوارد عنه عليه الصلاة والسلام والمحفوظ من سنته وهديه، أما الاستنشاق فهو من النَشق، والنشق جذب الشيء إلى أعلى الخياشيم بالنسم، ومنه النشوق سمي النشوق نشوقاً لأنه يستعط به الإنسان فيجذبه إلى أعلى الخياشيم بالنسم، والمراد هنا جذب الماء إلى أعلى الخياشيم بالنسم، يسمى استنشاقاً فإن طرحه ونثره قيل استنثره، ولذلك يقال لأعلى الأنف النثرة لأنه يمسكه أعلى الأنف ومارن الأنف الأعلى، يقال له نثرة لأنه إذا أراد أن يطرح ما في الأنف أمسك به، فالاستنشاق الجذب والاستنثار الطرح، والسنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تمضمض واستنشق، تمضمض بالماء واستنشق ثلاث مرات، هذه المضمضة والاستنشاق تعتبر من سنن الوضوء، لا من واجباته ولا من فرائضه، والدليل على سنيتهما أن الله تعالى قال: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا(1/260)
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ، والوجه في لغة العرب ليس من الألفاظ المشتركة، ولا من الألفاظ المجملة التي تحتاج إلى بيان، فإنه ما تحصل به المواجهة، والشخص يواجه بظاهر بشرة الوجه لا بفتح فمه وأنفه، ولذلك ليس الأنف والفم من الوجه حقيقة في لسان العرب، وقد قال الله عن القرآن : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } ، فلما سأل الأعرابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا رسول الله كيف أتوضأ، فهو سؤال جاهل لا يعلم كيف يتوضأ، ولم يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لأنه لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ما قال له كيف أتوضأ، فقال له عليه الصلاة والسلام:"توضأ كما أمرك الله"، يعني خذ بظاهر الآية كما هي فتوضأ، فأصبح المضمضة والاستنشاق ليسا من فروض الوضوء لأن الوجه ما تحصل به المواجهة، فمن غسل ظاهر البشرة التي تحصل بها المواجهة فقد غسل وجهه، وأما حديث إذا توضأت فمضمض وأمره عليه الصلاة والسلام بالاستنشاق فهو أمر تعليم، وأنت تقول للرجل لأنه لم يرد ذكر المضمضة أو الاستنشاق في الكتاب، فاحتاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر بها تعليماً للأمة لما فيها من الخير، لأن الشيطان يبيت على خياشيم الإنسان، وفي إلقاء النتن معونة على الذكر والعبادة، لأنه ينشط عليه الإنسان أكثر ولذلك أمر بالسِّواك، وأمر بالتطيُّب للجمعة وشهود العبادات، لما في ذلك من التَقَوِّي على العبادة أكثر، فهو أمر ندب واستحباب وليس بأمر حتم وإيجاب، وإلا لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، حينما يأتيه السائل ويقول له: يا رسول الله كيف أتوضأ، ويقول له: "توضأ كما أمرك الله"، ليس قوله تعالى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } مجمل حتى تبينه السنة، إنما هو واضح الدلالة بين، ولذلك لا يصح أن يقال إن الآية ذكرت الوجه وبيَّن الوجهَ السنةُ لأن الوجه ما يحتاج إلى بيان، بل هو معروف في لسان العرب وليس من(1/261)
الألفاظ المجملة عند العلماء رحمهم الله وجهاً واحداً، لان الوجه واضح دلالتهٌ.
…قوله رحمه الله ]ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثاً[، المضمضة والاستنشاق تأتي على ثلاث صور، إما أن يتَمضمض ويَستنشق من كفٍ واحدة ثلاثَ مراتٍ، وهذا من أصعب ما يكون، أن يجمع بين المضمضة فيأخذ ماءً قليلاً لفمه ثم يُتبعه بماء قليل لأنفه فيتمضمض ويستنشق، ثم يرجع مرة ثانية ومرة ثالثة من كف واحدة، وهذا من أصعب ما يكون، لكن يحتمله حديث ابن زيد - رضي الله عنه -، والوجه الثاني وهو المشهور والذي يدل عليه ظاهر الرواية في الصحيح، أن يتمضمض ويستنشق ثلاثاً بثلاث غرفات، فكل غرفة يجمع فيها بين المضمضة والاستنشاق، يغفرف الغرفة الأولى ويجعل نصفها لفمه والنصفَ الآخر لأنفه، فيمُضمض ثم يَستنشق، ثم يأخذ الغرفة الثانية كذلك ثم يأخذ الثالثة كذلك فقد تمَضْمَض ثلاثاً بثلاث غرفات، يجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحدة، وهذا هو الأفضل والأكمل وهو سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعتبر مذهبها مذهب الوصل، يسميه العلماء مذهب الوصل، وهو الجمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحدة، الوجه الثالث والأخير أن يفصل المضمضة والاستنشاق فيتمضمض ثلاثَ مراتٍ بثلاث غرفاتِ، ثم يستنشق بعد ذلك ثلاثَ مراتٍ بثلاثِ غرَفاتِ فأصبح المجموع ستاً، وهذا يحتمله أيضاً الرواية أي ثلاث غرفات ثلاثاً للمضمضة وثلاثاً للاستنشاق، ولكن رواية من كف واحدة تدل على أنه جمع بين المضمضة والاستنشاق من كف واحدة، وهذا هو الأفضل والأكمل في اتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، والكل جائز وليس هناك أمر واجب من هذه الصور ومن فَعَل أَّيها فلا بأسَ ولا حرجَ عليه.
…قال رحمه الله: ]يجمع بينهما بغرفة أو ثلاث، ثم يغسل وجه ثلاثاً من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن وإلى أصول الأذنين[.(1/262)
…]ثم يغسل وجهه[، هذا هو الفرض الأول من فرائض الوضوء بعد النية، على القول بأن النية شرط وليست بفرض، فالفرض الأول الذي أمر الله - عز وجل - في كتابه به في الوضوء غسل الوجه، فقال - سبحانه وتعالى -: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ، وما توضأ عليه الصلاة والسلام إلا غسل وجْهَهُ، كما صح في حديث عثمان وعبد الله بن زيد وعلي وكلها في الصحيح رضي الله عن الجميع، وأجمعت الأمة على فرضية غسل الوجه، والوجه في لغة العرب ما تحصل به المواجهة وهي المقابلة، والوجه حدُّه من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللَّحْييَنْ، العظم الأيمن والعظم الأيسر من الفك الأسفل، ما انحدر منه أي أن هذا الوجه لا بد وأن تمسك شيئاً قليلاً من الجزء الذي يلي الحَلْق لأنك إذا أمسكت هذا الجزء اليسير أتممت الوجه طولاً، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، هذا حد الوجه وبناءاً على ذلك يجب عليه عند غسله لوجهه أن يستوعب هذا القدر المأمور به، فَيَصِلَ الماء من أعلى الوجه إلى منابت الشعر عند الناصية، فإذا وصل إلى منابت الشعر فهذا حد الوجه، أما من الجهة اليمنى عند الأذن والجهة اليسرى عند الأذن اليسرى، فالحد هو العظمة التي تسمى عظمة الصدغ، هذه العظمة الأعلى منها يمُسح والأسفل منها يُغسل، ولذلك إذا حلق في النسك فإنه يحلق الأعلى ولا يحلق ما سفل، ولذلك أمر عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما الحلاق أن يحلق ما علا، وأمره أن يقف عند هذه العظمة، وهي الحد بين الممسوح وبين المغسول، فهذا حد الوجه يُغسل ما سفل ويمُسح ما علا، وأما البياض الذي بين الأذن وبين الشعر إن كانت عنده لحية ففيه خلاف مبنى على أنه هل المواجهة تحصل به أو لا، والعِذار هل تحصل به المواجهة أو لا، هذا حد الوجه ويجب استيعابه بالماء وعليه أن يتحرَّى، ولذلك إذا غسل وجهه وكان أمْرَدَ لا لحية(1/263)
له، يجعل إبهامه مبلولاً بالماء يجعله من تحت اللحي، حتى يستوعب القدر الذي يستتمُّ به غسلُ وجهِهِ، هذا ما أمر الله - عز وجل - به في الفرض الأول، وهو غسل الوجه.
…قال رحمه الله: ]ويخلل لحيته إن كانت كثيفة[.
…]يخلل لحيته[ الخُلل ما بين الشيء، تخَلَّل إذا كان بين الشيء، ويقال تخلل القوم إذا دخل بينهم، وخُلَلَ الباب هي الفتحات والتنسيم الذي يكون بين أجزاءه، يقال خَلّل لِحْيتَهَ إذا أدخل الماء بينها، والِّلحية على قسمين: إن كانت لحيةً خفيفةً فلها حكم، وإن كانت لحيةً كثيفةً فلها حكم، والفرق بين الخفيفة والكثيفة أن الخفيفة تصف البشرة، بمعنى أنه يمُكنك أن ترى ظاهَر البشرة من تحتها، فإذا كانت اللحية خفيفة ترى ظاهر البشرة من تحتها، فواجب على صاحبها أن يغسل اللحيةَ والبشرةَ، لأن الوجهَ بهما فيواجه بهما، فيجب عليه أن يخللها ويغسل البشرة، والشعر تابع للبشرة، وأما إذا كانت كثيفة فإنه يخللها والغسل مأمور لظاهرها لأنه هو الذي تحصل به المواجهة، ولا يجب عليه غسل أصولها، لأنه لا مواجهة بالأصل، وحينئذ يقوم ظاهر الشعر مقامها، والعبرة بذلك المحل والقدر، ومن هنا قال بعض الفضلاء يشير إلى هذه المسألة:
خَلَلْ أصابَع اليدين وشعرْ ……وجهٍ إذا من تحته الجلدُ ظَهَرْ
فإذاً يغسل اللحية وما تحتها لأنه إذا كانت قليلة يسيرة ويرى من تحتها البشرة حصلت المواجهة بهما لا بأحدهما، فيغسلان ولا يقتصر على أحدهما دون الآخر، والتخليل ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخذ كفاً من ماء، وأدخله تحت لحيته ثم خللها به عليه الصلاة والسلام.
قال رحمه الله: ]وإن كانت تصف البشرة لزمه غسلها[.
…غسل البشرة وغسلها، تصف البشرة بمعنى أنك ترى بياض البشرة من تحتها أو ترى البشرة من تحت الشعر.
…قال رحمه الله: ]ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ويدخلهما في الغسل[.(1/264)
…]ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً[، اليدان في الوضوء الفرض الثاني من فرائض الوضوء، والدليل على فرضية غسلهما قوله تعالى: { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } ، أي اغسلوا أيديكم إلى المرافق، واليد في الشريعة تطلق بثلاثة إطلاقات، الإطلاق الأول ما ذكرناه في الكفين، من أطراف الأصابع إلى الزَّنْدَين، ومن هذا الإطلاق قوله تعالى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } ، مراد قطع اليد عند مِفصل الكف مع الساعد، وتطلق اليدان ويراد بهما من أطراف الأصابع للمِرفَقين إلى المرفق، وهذا هو إطلاق الوضوء، وإطلاق التيمم عند من يرى أن المسح إلى المرفقين كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وتطلق اليدان بالإطلاق العام الذي يشمل اليد كاملة، كما في رفع الدعاء ونحوه، هذه ثلاثة إطلاقات لليد المراد هنا باليد من أطراف الأصابع إلى المرفقين، والمرفقان مثنى مرفق، وهو المفصل الذي يَفْصِل السَاعِد عن العَضُد، وسمي الِمرفقُ مِرفقاً لأن الإنسان يرتفق به ويتكئ عليه، ويجب غسل المرفقين وهما داخلان في الوضوء في قول جمهور العلماء خلافاً للظاهرية رحمة الله عليهم، والسبب في الخلاف أن الله تعالى يقول: { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } ، فإلى المرافق عند الجمهور أي مع المرافق، لأن العرب تأتي بهذا الحرف بمعنى مع، كما في قوله تعالى: { قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ } ، أي مع الله، فقوله : { إِلَى الْمَرَافِقِ } أي مع المرافق ، وكقوله تعالى: { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } ، أي مع أموالكم، والقاعدة عند العلماء أن الغاية إن كانت من جنس المُغَيى دخلت، وإن لم تكن من جنسه لم تدخل إلا بدليل، فهنا المرفق من جنس اليد ولذلك يدخل فلما قال : { إِلَى الْمَرَافِقِ } دخل، لكن إذا لم يكن من جنس المغيى لا يدخل كقوله : { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } ، فيكون الليل ليس(1/265)
من جنس النهار المأمور بصومه، وإنما المراد عند من يقول أن إلى بمعنى أتموا الصيام مع الليل، أي أنه يمسك قدراً يسيراً من الليل حتى يتأكد من تمام النهار، وعلى كل حال فالمرفقان داخلان في الوضوء، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيح، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ حتى شرع في العضد"، وهذا يدل على أنه استوعب المرفقين بالغسل.
قال رحمه الله: ]ثم يمسح رأسه مع الأذنين يبدأ بيده من مُقَدَّمِهِ، ثم يمرهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مُقَدَّمِهِ[.(1/266)
…هذا هو الفرض الثالث من فرائض الوضوء مسح الرأس، والرأس من التراءس، وأصله التقدم والتعالي العلو في الشيء، وصف بذلك لأنه في أعلى البدن، ومسح الرأس أشار الله - عز وجل - إليه بقوله : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } ، والواو للعطف والتشريك في الحكم، أي أنهم مأمورون بالمسح { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } أمر، والأمر للوجوب ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما توضأ إلا مسح برأسه، وأجمعت الأمة على فرضية مسح الرأس في الوضوء، والرأس حده من منابت الشعر عند الناصية ابتداء إلى منتهاه عند القفا فوق الرقبة، ولا يدخل القذال فيه على الصحيح وهو مذهب الجمهور، ومن عظم الصدغ إلى عظم الصدغ عرضاً، والأذنان داخلتان في الرأس، لحديث أبي أمامة وعبد الله ابن عباس وحسّنه غير واحد من العلماء، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأذنان من الرأس"، وقد اختلف في الأذنين، فقال بعض السلف تغسلان ولا تمسحان، وأتبعهما للوجه كما هو قول الزهري رحمه الله، واستدل بقوله عليه الصلاة والسلام: "سجد وجهي للذي خلقه، وصوره وشق سمعه وبصره"، فقال: "سجد وجهي"، ثم قال: "شق سمعه"، يعني سمع الوجه، فجعل السمع من الوجه، قال فلهذا يجب غسل الأذنين، وقال بعض السلف: ما أقبل من الوجه يغسل وما أدبر يمسح والصحيح مذهب الجمهور، أن الأذنين تمسحان ولا تغسلان لقوله عليه الصلاة والسلام: "الأذنان من الرأس"، فهذا نص في موضع النزاع، وأما قوله "شق سمعي وبصري" فهذا على التبع، وهو من باب ما قارب الشيء أخذ حكمه، ثم إنه قال: "شق سمعه"، وهذا ليس راجعاً إلى الأذن لأن شق السمع ليس المراد به ذات الصيوان، لأن الخلاف في الصيوان وليس في ذات السمع الذي هو في الداخل كما لا يخفى، وبناءاً على ذلك الأذنان تتبع الرأسَ مسحاً، ومسح الرأس المراد وبه مسح جِلدةِ الرأس إذا كان حالقاً لرأسه أو أصلعَ أو مسْحَ ما يقوم مقامَها وهو الشعر، وإذا مسح الشعر فالعبرة بما حاذى(1/267)
محلَّ الفرض دون ما استرسل، فالذي استرسل ليس بواجب عليه أن يمسحه، ولذلك المرأة تعتبر بما يحاذي محل الفرض، والأصل في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لأم سلمة رضي الله عنها، حينما قالت: يا رسول الله - والحديث في الصحيحين – إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟، قال:"لا، إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنتِ قد طهرت"، فجعل العبرةَ بمحلِّ الفرض وما حاذاه ولم يعُطي الحكم لما استرسل، ومن هنا لا يجب عليه التعميم وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام "لما اغتسل من الجنابة أنه دعك أصول الشعر بأصابعه"، قالت رضي الله عنها: "حتى إذا ظن أنه رَوّى أصول شعره أفاض على جسده الماء"، صلوات الله وسلامه عليه، فهذا يدل على أن العبرة بمحل الفرض، وبناءاً على ذلك يمسح والمسح للرأس على صورتين: الصورة التامة الكاملة والصورة المجزية، أما الصورة التامة الكاملة فهي التي ذكرها المصنف رحمه الله، أن يبدأ بمقدَّم رأسه عند الناصية بكلتا يديه ثم يمرهما إلى القفا، وإذا وصل إلى القفا ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ به، ثم يأخذ ماءً جديداً للأذنين على سبيل الندب والاستحباب، ولو مسح الأذنين بعد ذلك ظاهراً وباطناً فجعل المُسبِّحة في داخل الأذن لصيوانها ثم الإبهام على قفاها قفا الأذنين أجزأه، "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح بما غَبَر" يعني بما بقي، وغبر الشيء يعني بقيته وما كان بعده.(1/268)
فإذا مسح رأسه على هذه الصفة فهي مسح الكمال، وهذا هو الذي عناه عبد الله بن زيد بقوله: "فأقبل بهما وأدبر"، وفي صفة الكمال هذه أوجه، قال بعض العلماء: أقبل بهما وأدبر يقسم الرأس قسمين، ويأتي بالماء في كفيه ثم يبلُّ كفيه، فيجعل الكف اليمنى للمقدِّمة والكف اليسرى للمؤخِّرة فيكون أقبل وأدبر، هذا وجه، والوجه الثاني أقبل بهما أي أنه يبدأ بالقفا يُقبل ثم يُدبر إلى المؤخِّرة، والصحيح الأول أن المراد بقول عبد الله - رضي الله عنه -: "أقبل بهما وأدبر"، أنه يبدأ بالمقدم لقوله ]بداء بمقدم رأسه[، وهذه الرواية مفصلة ومبينة تقدم على ما ذكر، قد يقول قائل إن هذا مشكل لأن الراوي قال:"أقبل وأدبر"، والإقبال معناه أنه يأتي من آخر الرأس، والجواب أن العرب تقول أقبل وأدبر بمعنى أدبر ثم أقبل، وهذا معنا معروف ومنه قول امرؤ القيس في معلقته:
مِكَرٍ مِفَرٍ مُقْبلٍ مُدْبِرٍ معا ……كجلمودِ صَخْرٍ حَطّهُ السيلُ من عَلِ
مِكَر مِفَر يعني يصف خيله وفرسه، مكر مفر والكر لا يكون إلا بعد الفرار، فالأصل أنه يفر ثم يكر، فقال: مكر مفر، مقبل مدبر معاً، أصلاً مقبل ثم مدبر، وهذا معروف في لسان العرب وحملوا عليه هذا الحديث، خاصة وأنه جاءت رواية عنه - رضي الله عنه - أنه قال "بدأ بمقدم رأسه، حتى انتهي إلى قفاه ثم ردهما حتى عاد إلى المكان الذي بداء به"،هذا بالنسبة لمسح الكمال، أنه يمسح بهذه الصفة، أما مسح الإجزاء فهو أن يمسح جميع الرأس مسحة واحدة.(1/269)
والصحيح أنه يجب مسح جميع الرأس وهو مذهب الحنابلة والمالكية في المشهور رحمة الله عليهم، أولاً لقوله تعالى: { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } ، فالباء إما زائدة وهذا معروف في لسان العرب، وإذا قيل في القرآن أنه حرف زائد ليس المراد أنه حرف زائد من القرآن، إنما هذا تعبير اصطلاحي، ولا مشاحة في الاصطلاح يريدون منه المعنى، أي امسحوا الرؤوس كاملة، أو الباء للإلصاق فحينئذ تدل الآية على مسح الجميع، ثانياً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما حفظ عنه أنه اقتصر على بعض الرأس دون بعض، بل جاء في حديث المغيرة - رضي الله عنه - كما في صحيح مسلم، "أنه مسح بناصيته وعلى العمامة"، فلو كان بعض الرأس يجزئ لاكتفى بالبعض، ولكنه عليه الصلاة والسلام عمم الرأس كله، وخالف الشافعية فقالوا يجزئ ثلاث شعرات بناءاً على ما يطلق عليه أقل الجمع وهو ثلاث، فقالوا إن الله قال : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } وأقل الرأس ثلاث شعرات، وهذا أصل عندهم طَردَوُه حتى في التحلُّل في حلق الرأس من النُّسك والقص والتقصير، وهذا بناءاً على أن الباء للتبعيض، وتقول أخذت برأسه أخذت بثوبه لم تأخذ كل الثوب وإنما أخذت بعض الثوب، وهذا معناً يسميه العلماء معناً مجازي والقاعدة حمل اللفظ على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز، وحينئذ نقول إن حمل الباء على الإلصاق أقوى من حمله على التبعيض، وكذلك أيضاً قول من قال وهو مذهب الحنفية، الواجب مسح ربع الرأس بأربعة أصابع بأكثر الأصابع ثلاثة أصابع قدر الناصية، واستدلوا بحديث المغيرة "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على ناصيته وعلى العمامة"، وقد كان يكشف عليه الصلاة والسلام ناصيته، شأن أهل الفضل والصلاح والتقى والتواضع، فمسح على ناصيته وعلى العمامة، قالوا لما مسح على ناصيته وهم لا يرون المسح على العمامة دل على أنه يجزئ في الرأس هذا القدر، والناصية قدر ربع الرأس، فإذا مسح بقدر ربع الرأس أجزاءه، وهذا(1/270)
الحديث حجة للجمهور لا على الجمهور فهو حجة على الحنفية، لأنه يقال لهم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الناصية وعلى العمامة، فدل على أن بعض الرأس لا يجزئ، إنما يصح الاستدلال به أن لو اجتزاء بالمسح على الناصية، ولكنه لما مسح على الناصية والعمامة دل على أنه يريد مسح الرأس كله، ولا يريد مسح الرأس بعضه ومن هنا يترجح مذهب من قال أنه يجب تعميمُ الرأس بالمسح.
ثم إن المصنف رحمه الله ذكر مسح الرأس ولم يذكر التثليث في مسح الرأس، فالسنة أن يمسح الرأس مرةً واحدةً، وأن لا يمسحه أكثرَ من مرة واحدة، وذلك لحديث الرُّبيع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما توضأ أكثر من مرة في أعضاء الوضوء قالت: "مسح برأسه مرة واحدة"، يعني مسحة واحدةً، والسبب في هذا أن الرأس إذا مسح مرتين أو ثلاثة أنتقل من المسح إلى الغسل، خاصة إذا كان أصلع أو كان لا شغر عنده، حلق رأسه وجاء يمسح ثلاث مرات ابتل الرأس كالمغسول، ولذلك شرع فيه المسح، ولم يشرع فيه تكرار هذا المسح، حتى لا ينتقل إلى الغسل، وهذا هو الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافاً للشافعية رحمة الله عليهم، الشافعية احتجوا بقوله "توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثا"، وهذا الحديث يجاب عنه من وجهين، الوجه الأول أن المراد به التشريك في المحل الواحد، بمعنى أنه مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثاً ثلاثاً في الوضوء الواحد، فلبعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها واحداً فنحمل الواحد على مسح الرأس، والوجه الثاني إذا قالوا أنه للتنويع توضأ مرة وتوضأ مرتين لجميع الأعضاء وتوضأ ثلاثاً، نقول هذا مجمل، أنه في غالب الأعضاء من باب التغليب، وجاء المفسر كما في حديث الرُّبيع وأنه مسح مرة واحدة مع أنه غسل أكثر من مرة للأعضاء كلها، فدل على أن الرأس ممسوح مرة واحدة ولا يزاد عليها على الصحيح.(1/271)
…قال رحمه الله: ]ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ويدخلهما في الغسل ويخلل أصابعهما[.
…]ثم يغسل رجليه[ مثنى رِجل، والرَّجل المأمور بغسلها من أطراف الأصابع أصابع القدمين إلى مِفصل القدم مع الساق، وهو الذي يُسمى بالكعب، وهذا الفرض هو الفرض الرابع والأخير من فرائض الوضوء، والأصل فيه قوله تعالى : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } ، وأجمع السلف رحمهم الله والخلف إلا من شذَّ على أنه يجب غسل الرجلين لا مَسْحُهُمَا، إلا إذا انتقل إلى الخُّفين فإنه يمسح على الخفين أو الجورْبين على الصحيح من أقوال العلماء وسيأتينا إن شاء الله تعالى.
…الرِّجلان مثنى رجل وغسل الرجل المراد به أن يستوعب محلَّ الفرض، من أطراف أصابع القدمين إلى مفصل القدم مع الساق عند الموضع الذي يسمى بالكعب، والكعب هو العظم الناتئ ثم أي عند مفصل الساق مع القدم عند العقب، هذا القدر أمر الله بغسله كما قال تعالى : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } ، وأجمعت الأمة على أنه فرض من فرائض الوضوء، وذلك لأمره - سبحانه وتعالى - به ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما توضأ إلا غسل رجليه أو انتقل إلى بدل وهو المسح على خفيه أو جوربيه صلوات الله وسلامه عليه، والغسل للقدم ظاهراً وباطنا، ويخلل أصابع القدمين "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - أن يخلل أصابعه"، فدل على أنه يتحرى ما بين الأصابع، لأنه ربما لم يصل الماء إلى هذا الموضع خاصة إذا كان يتوضأ من إبريق أو كان الماء قليلاً، فإنه ربما لم يصل إلى ما بين الأصابع فيخلل، وقد جاء التخليل بالخنصر لأنه أسهل في الدخول ويجوز أن يخلل ببقية الأصابع، والأمر في هذا واسع، ولكنه يتحرى وصول الماء إلى الموضع المأمور بغسله.
- - - - - الأسئلة - - - - -
السؤال الأول :(1/272)
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: من أين يبدأ غسل اليدين في الوضوء من أطراف الأصابع أم من آخر الكفين؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.
البداءة ليست شرطاً يبدأ من أطراف الأصابع أو من المرفقين، لكن زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الوضوء من الأباريق والآنية، فكانت السنة أن يبدأ بأطراف الأصابع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكفأ بشماله على يمينه، ثم أخذ الماء وقلبه وكانت يده اليسرى عند مرفقه صلوات الله وسلامه عليه، ومن هنا قال العلماء يقلب الماء على ظاهر اليمنى، فينقلب على الظاهر فيأخذه عند اجتماعه عند المرفق فيدير على المرفق، ويُسَيِّرَهُ إلى أطراف الأصابع، ثم يعود مخللاً ويكون ظاهر اليمنى قد أصابه الماء، فإذا عاد عليه عاد إليه فارش الماء على الظاهر، هذه الصفة التي كانت متيسرة في زمانهم، هذه تتيسر في الأباريق والأواني التي يتوضأ بها والبرك والمستنقعات حينما يغرف الإنسان، أما الموجود الآن في الصنابير تجد الواحد مباشرة بمجرد أن يدخل يده على طول يأتي إلى المرفق من المرفق معكوسة، يأتي حتى ينتهي إلى الأصابع والمصيبة ليست هنا، المصيبة التي ينبغي أن يتنبه لها الكثير أن البعض يغسل كفيه في بداية الوضوء، فإذا جاء يتوضأ تجده يغسل كفيه هكذا، فيدع ما بين المرفق وما بين الزندين، ولا يعتني بكفيه، غُسل الكفين الأول لا يجزئ عن غسل الفرض، ولذلك لا يصح الوضوء على هذا الوجه، فينبغي أن ينتبه الناس خاصة عامتهم ممن لا ينتبه لهذا الفرض، يُنبه على أنه لا بد من استيعاب محل الفرض كاملا، العبرة بوصول الماء إلى هذا القدر تاماً، والسنة ما ذكرناه من قلب الماء من الأعلى إلى الأدنى والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: من نسي أن يمسح أُذنيْه، هل يبطل وضوءه؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/273)
الوضوء صحيح المستتبع ليس كالأصل، والبعضية هنا استتباعاً لقول طائفة من العلماء خاصة وأن الحديث في درجة الحسن، لم يكن من الأصول الصحيحة القوية التي يعني تقوي أنه لا يصح إلا بمسح الأذنين والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: ما حكم الوضوء على الوضوء؟، وهل يعد ذلك وسوسة؟، وهل يثاب على ذلك؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
الوضوء على الوضوء مشروع والدليل على شرعيته ما ثبت في الصحيح عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُأل، فقيل يا رسول الله: أنتوضأ من لحوم الغنم، قال:"إن شئت"، يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لحوم الغنم تنقض الوضوء، معناه هل أتوضأ يعني أنا متوضئ وأكلت لحم الغنم، فهل أعيد وضوئي؟، قال:"إن شئت"، فلما قال له:"إن شئت" فمعناه أنه سيقع الوضوء المخير والمعلق بالمشيئة على الوضوء السابق، فأخذ العلماء من هذا دليل على مشروعية الوضوء على الوضوء، والإجماع من حيث الأصل على مشروعية تجديد الوضوء، ولكن إذا كان على سبيل الوسوسة هذاك حينما يتوضأ ثم يرجع مرة ثانية ويتوضأ، ويرجع مرة ثالثة ويتوضأ - نسأل الله السلامة والعافية - هذه وسوسة، أما أن يفعل ذلك قربة وطاعة فلا بأس، إنما الخلاف إذا توضأ في المرة الأولى ثلاثاً، وأراد أن يجدد الوضوء فهل التجديد غسلة رابعة، إذا قيل إنه غسلة رابعة ما يجوز، وإذا قيل أنه غسلة مستأنفة فحينئذ يجوز، ومن أهل العلم من قال إذا فعل شيئاً في الوضوء الأول، كأن يكون صلى جاز له أن يجدد، وإلا فلا والصحيح أنه يجوز له أن يجدد، ويتقي على سبيل الاحتياط للغسلة الرابعة، لقوله عليه الصلاة والسلام "فمن زاد فقد أساء وظلم"، والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: أحياناً أقوم بعمل من العبادات فيوُسوس لي الشيطان أني أود أن يراني الناس ويمدحوني على ذلك، فكيف أدافع هذا؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/274)
ما تدافعه ولا تدفعه إلا بالله - جل جلاله -، وقد بين الله لك كيف تدافعه وتدفعه { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } ، فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم، والسميع البصير الذي لا تخفى عليه خافية، ويحب منك أن تدعوه وتلجئ إليه، هذا عدو الله إذا رأءك التجأت إلى الله خسئ،قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا ذكر الله انخنس"، فهو ينخس وينطفئ شره ويكبت عدو الله بذكر الله، ولكن حينما تقول أعوذ بالله تعلم علم اليقين من هو الله، الذي إذا استعاذ به العبد أعاذه وإذا احتمى به حماه وكفاه ووقاه، فمن قال أعوذ بالله مخلصاً من قلبه موقناً بربه فرّج الله عنه كربه، وجعل العاقبة له ولو كادته السماوات السبع والأراضين ومن فيهن، إنما يقولها بيقين وقوة إيمان وجاء الدخل على الناس من ضعف اليقين، فإذا أحسست أن الله يسمعك ويراك، وأن هذا العدو يؤذيك قل أعوذ بالله، مؤمناً موقناً أنه سميع عليم بصير، وستجد من الله كل خير ومعونة، وسيندحر عدو الله عنك والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: أنا أذكر الله بعض الصلاة ولكني لا أضبط العدد فأبني على اليقين، وكذلك في الذكر المنصوص فيه عن العدد مثل سبحان الله وبحمده مائة مرة وغيرها فهل فعلي هذا صحيح؟، أم لا بد من التَقُيّدِ بالعدد؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/275)
السنة أن تتقيد بالعدد، وإذا شككت تبني على اليقين مثل ما ذكرت، شككت هل سبحت ثلاثين أو تسع وعشرين بنيت على تسع وعشرين وزدت واحدة، وهكذا في بقية العبادات، وأما بالنسبة أن تزيد وأنت تعلم، كأن يقال أذكار الصلوات محدودة ما تزيد عليها، ثلاثا وثلاثين تسبيحة وتحميده وتكبيرة وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، من فعلها غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، ما تأتي وتزيد وتجعلها مائة وعشرة ولو مائة وواحداً، هذا توقيفي لا يجوز لك أن تزيد منه ولا تنقص منه على سبيل التعبد، أما بعد أن تنتهي من هذه الأذكار تريد أن تسبح الله ما شئت تحمد الله ما شئت تكبر الله ما شئت فلك، أما في وقت العبادة فلا تزيد ولا تنقص وتتقيد بالوارد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما في مطلق الأوقات لا بأس أن تكثر من التسبيح والتحميد وتذكر الله - عز وجل - بالذكر الوارد، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه العظيم، موجباً لرضوانه الكريم، إنه سميع مجيب .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تابع باب الوضوء
الدرس العاشر مفقود
باب سنن الوضوء وباب المسح على الخفين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]ويسنُ السواكُ عندَ تغيرِ الفم[ .
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.أما بعد.
فقد شرع المصنف رحمه الله بهذه الجملة في بيان سنة من السنن التي تكون مع الوضوء، وهي سنة محفوظة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه من الآثار القولية والفعلية، وهي سنة السواك.
السواك يطلق بمعنيين:(1/276)
المعنى الأول: دلك الشيء، يقال: استاك إذا دلك الشيء، ومنه قوله في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك"، يعني يدلكه.
ويطلق السواك بمعنى التمايل ومنه قول العرب جاءت الإبل تتساوك، بمعنى أنها تتمايل، قال بعض العلماء من الهزال، ويطلق السواك بمعنيين، أما على المعنى الأول أنه مشتق من دلك الشيء فالمناسبة فيه واضحة، لأن المكلف إذا استخدم السواك دلك أسنانه بقصد تنظيف فمه مما يعلق من الوسخ وأثر الطعام، وأما على المعنى الثاني وهو أن السواك بمعنى التمايل فلأنه إذا دلك تمايلت الآلة والعود في يده، والسواك يطلق في الشرع بمعنيين: إما أن يطلق على الفعل، وإما أن يطلق على المسواك نفسه، وهو الآلة التي يستعملها المكلف في دلك فمه وإزالة الأثر الذي يكون من الوسخ وبقايا الطعام التي تكون في الفم وعلى الأسنان، فأما إطلاق السواك على الفعل فمنه قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فقوله عليه الصلاة والسلام "لأمرتهم بالسواك" أي بفعل السواك، ويطلق السواك على العود والآلة، ومنه حديث حذيفة ابن اليمان - رضي الله عنه - وعن أبيه، قال:"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك"، يعني يدلك فمه بالمسواك، فهذا من إطلاق السواك على الآلة.(1/277)
يقول المصنف رحمه الله: ]ويسن السواك[، قوله ]يسن[ أي لا يجب، وهذه السنية ثابتة بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل إن آخر ما فعله عليه الصلاة والسلام قبل خروجه من الدنيا أن استاك صلوات الله وسلامه عليه، ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في مرض الموت فدخل عليه عبدالرحمن بن أبي بكر وفي يده مسواك، فأبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره، فأشارت إليه عائشة وسألته هل تريده؟، فأشار برأسه أن نعم، قالت رضي الله عنها: فأخذته فقضمته فطيبته ثم ناولته رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستن به واستاك ثم رفع أصبعه وقال: في الرفيق الأعلى، ثم قضى عليه الصلاة والسلام".
وهي سنة حافظ عليها عليه الصلاة والسلام، وندب الأمة إليها حتى ثبت في الحديث الصحيح أنه قال:"أكثرت عليكم في السواك"، وهذا يدل على حرصه عليه الصلاة والسلام على هذه السنة ومحبته لها، بل بين فضلها حينما قال في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في السنن وغيره، "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب".
قوله رحمه الله ]ويسن السواك[ أي يسن فعل السواك، وهذا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ومنهم الأئمة الأربعة، على أن السواك سنة وليس بواجب، وحُكي عن داود الظاهري رحمه الله برحمته الواسعة القول بالوجوب، فقال: يجب على المسلم أن يستاك، واستدلوا له بأحاديث أغلبها لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنها قوله:"استاكوا عرضا، وادهنوا غباً واكتحلوا وترا" وهو حديث ضعيف في قول جمهرة أئمة الحديث رحمه الله، فقوله "استاكوا" أمر والأمر يدل على الوجوب، ومن هنا قالوا إنه واجب، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فدل على أن السواك ليس بواجب، ومن هنا قال المصنف رحمه الله: ]ويسن السواك[.(1/278)
قوله ]عند تغير الفم[، يعني عند تغير رائحة الفم، السواك يسن على وجهين، الوجه الأول المطلق والوجه الثاني الحالات المؤكد استحباب السواك فيها، يعني السواك فيها استحبابه مؤكد، والندب إليه ألزم وآكد، فأما بالنسبة للحالات المطلقة فإنه مستحب، ودليلنا على ذلك ندب النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه على سبيل العموم، في قول عليه الصلاة والسلام "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"، وأما تأكد استحبابه فإنه يكون في أحوال، منها ما ذكر المصنف رحمه الله عند تغير رائحة الفم، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:"السواك مطهرة للفم"، فإذا تغيرت رائحة الفم قد تتغير بطعام، وقد تتغير بطول السكوت، وقد تتغير بالجوع، وقد تتغير بالشراب مثل اللبن وما له وبر، فتتغير رائحة الفم بالمطعوم والمشروب وبالأحوال، فإذا تغيرت رائحة الفم ندب السواك، وتأكد استحبابه ولذلك قال رحمه الله: ]عند تغير الفم[، أي عند تغير رائحة الفم.
قال رحمه الله: ]والقيام من النوم وعند الصلاة[.(1/279)
]والقيام من النوم[ يعني الاستيقاظ، فإذا استيقظ المسلم من نومه فالمستحب أن يستاك، ففي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:"كنا نُعِدُّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سِواكَه وطهوره، فيبعثه الله من الليل ما شاء"، فقولها "كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواكه" يعني قبل نومه، "نعد" نهيئ "له سواكه" يعني المسواك، "وطهوره" يعني الماء الذي يتطهر به لأنه كان يقوم الليل صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قالت:"فيبعثه الله من الليل ما شاء"، فدل على أن هذا الإعداد من أجل قيامه من النوم لصلاة الليل، وفي الحديث الصحيح عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - وعن أبيه في الصحيحين أنه قال:"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك"، يقال شاص فاه يشوصه ويموصه إذا دلكه ودعكه، فالشوص هو الدلك قيل الدلك بقوة، وهذا يدل على مشروعية السواك عند القيام من النوم، والسبب في هذا ظاهر، لأن الإنسان إذا نام صعدت أبخرة المعدة إلى فمه وتغيرت رائحة فمه بسبب النوم، ومن هنا سن عند القيام من النوم سواءً كان النوم نوم ليل أو نوم نهار، يسن أن يستاك وهذا على الندب والاستحباب.
قال رحمه الله: ]والقيام من النوم وعند الصلاة[ .(1/280)
]عند الصلاة[ هذا طبعاً فيها الحديث الصحيح الذي ذكره المصنف رحمه الله حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، "عند كل صلاة" نكرة، تشمل صلاة الفريضة وصلاة النافلة، ومن هنا قال جمع من العلماء رحمهم الله إذا قام من الليل وصلى صلاة التهجد أو تهجد بالليل أو في التراويح يستحب له عند القيام لكل ركعتين أن يجدد السواك، ولو بدلكه على الظاهر لقوله "عند كل صلاة"، وهذه نكرة كما نص عليه الإمام النووي رحمه الله وغيره من الأئمة، فاستحبوا تجديد السواك عند الصلوات مطلقاً، سواءً كانت صلاة نافلة أو صلاة فريضة ثم يُفَصّل: إذا كان السواك عند الصلاة يجرح اللثة أو خشناً أو كان العود خَشِناً يغلب على ظنه أنه إذا استاك به يدمي لثته ويخرج الدم فلا يجوز أن يفعل ذلك، إلا إذا كان بجواره ماء يتطهر به، يعني يطهر به فمه، لأنه لا يجوز الاشتغال بالسنة على وجه يوقع في المحظور، فإن الدم نجس ومن هنا إذا أدمى اللثة نجس فمه، وعلى هذا قالوا لا يستخدم ما يغلب على ظنه أنه يدمي اللثة، ثانياً أن يوجد ما يتفل به ويبصق ويخرج به وسخ الفم من منديل ونحوه، فإذا استاك بصق في منديله فحينئذ يستحب عند القيام إلى الصلاة، أما إذا تعذر عليه ذلك وغلب على ظنه أنه يدمي لثته، أو أنه لا يجد شيئاً يبصق به، فحينئذ يكف وينوي في قرارة قلبه أن لو تيسر له ذلك لفعل.
قوله ]عند الصلاة[ على ظاهر الرواية الصحيح، وفي اللفظ الآخر "مع كل وضوء"، ومنها تمسك به من قال إن السواك عند الصلاة يكره، لخوف أن يدمي اللثة فيقع في المحظور، ولكن الصحيح التفصيل فيه، فإذا كان المسواك رطباً ولا يدمي اللثة وسواكه به يغلب على ظنه أنه لا يجرح ويمكنه أن يخرج الفضلة فلا بأس ولا حرج.
قال رحمه الله: لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:]"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"[.(1/281)
حديث أبي هريرة في الصحيحين وهذا لفظه، "لولا" حرف امتناع لوجود، وامتنع عليه الصلاة والسلام من الأمر بالسواك لوجود المشقة، "لولا أن أشق" المشقة العناء، وشق الشيء إذا وجد الإنسان فيه عناءً وكَلَفَةً وتعباً ونصباً، وقوله "لولا أن أشق" المشقة في الشريعة تنقسم إلى قسمين، مشقة مستحيلة لا يمكن للإنسان أن يقدر عليها، مثل أن تُكَلِفَ من لا يستطيع فوق طاقته ووسعه، كأن يؤمر الفقير بالصدقة، ومن لا يجد بالعطاء، وأن يؤمر المشلول بالقيام في الصلاة، فهذه مستحيلة ومتعذرة ولا يمكن أبداً أن يكلف بها، وأما النوع الثاني المشقة المقدور عليها، والمشقة المقدور عليها تنقسم إلى قسمين، مشقة مقدور عليها مع الحرج والضيق والعنت، فهذه يخير المكلف فيها بين الفعل والترك والله لا يشرع بها إلزاماً، لقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، ومن أمثلة هذه المشقة أمر المسافر بالصوم، فإنه يمكنه أن يصوم حال السفر ولكنه يجد العناء والمشقة، فخيره الله بين الصوم والفطر، وأمر المريض بالصوم فإنه مشقة مقدور عليها لكن مع العناء والحرج، فيخير بين الصوم والفطر، وأما النوع الثاني من المشقة المقدور عليها فهي المشقة التي لا توجب حرجاً ولا عناء، فهذه موجودة في كل التكاليف الشرعية، فأنت إذا كنت نائماً وأذن عليك المؤذن لصلاة الفجر، فإن قيامك من فراشك ووضوئك في البرد والحر وخروجك إلى المسجد كلها مشقات، وفيها كَلَفة لكنها كَلَفة مقدور عليها، وهذه الكلفة هي المكاره التي حفت بها الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -:"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"، لأنه من خلال هذه المكاره يظهر صدق الصادقين وإيمان المؤمنين وصلاح الموقنين، ومن هنا فقوله عليه الصلاة والسلام "لولا أن أشق" أي مشقة العنت والحرج، وليس لمطلق المشقة، لأن الله يقول: { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، فلما قال: { لاَ(1/282)
يُكَلِّفُ } معناه أنه يكلف ما في الوسع، والكلفة فيها مشقة وعناء، وقوله "لولا أن أشق على أمتي"، الأمة تطلق بمعنى الجماعة من الناس، ومنه قوله تعالى: { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ } ، وتطلق على الزمان ومنه قوله تعالى: { وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ }، وتطلق على الملة والدين { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ }، وتطلق الأمة على الرجل الكامل الذي جمع صفات العديدين كما في قوله تعالى: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً }، لأنه جمع ما في غيره ولذلك يقال فلان أمة وحده، وتطلق الأمة على الزمان ومنه قوله تعالى: { وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } أي بعد زمان وحين، والمراد هنا بقوله أمة الأمة في الشريعة تطلق بمعنيين: أمة الدعوة، وأمة الإجابة، فأمة النبي - صلى الله عليه وسلم - إما أن تكون أمة دعوة وإما أن تكون أمة إجابة، فأمة الدعوة هي كل من جاء من بعد بعثته، صلوات الله وسلامه عليه، لأنه مأمور باتباعه ومدعو بالإيمان به وتصديقه صلوات الله وسلامه عليه، فهذه أمة الدعوة، وأما النوع الثاني من الأمة فهو أمة الإجابة، وهم الذين آمنوا به وصدقوه واتبعوه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، فهؤلاء هم المؤمنون به وهم المعنيون بقوله"لولا أن أشق على أمتي"، لأنهم هم الذي يمتثلون أوامره ويجتنبون ما نهى عنه صلوات الله وسلامه عليه.(1/283)
"لأمرتهم" الأمر يطلق الأمر بمعنى طلب الشيء، أمره بالشيء إذا طلب منه فعله، ومنه قوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } أي أطلب منهم فعلها، ويطلق الأمر بمعنى الحال والشأن ومنه قوله تعالى: { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } ، أي ما حاله وشأنه ومنه حديث أبي سفيان "لقد أمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة أنه لا ليخاف بنو الأصفر"، ويطلق الأمر بمعنى الرأي ومنه قوله تعالى : { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ }أي رأيكم، والأمر هنا بالمعنى الأول وهو طلب فعل الشيء، "لأمرتهم" أي لأوجبت عليهم وألزمتهم بالسواك، وفي هذه الجملة دليل على أن الأصل في أوامره صلوات الله وسلامه عليه، وأوامر الشرع الواردة في الكتاب أنها محمولة على الإلزام والوجوب، ولذلك امتنـ- عز وجل - عليه الصلاة والسلام من الإلزام بالسواك لوجود المشقة فيه، وفيه دليل على أن ما فيه مشقة وعنت لا يكلف به وهذا أصل مجمع عليه كما قال تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ }، "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"، أي بفعل السواك، "عند كل صلاة" صلاة نكرة شامل للصلاة المفروضة والصلاة النافلة، وقوله "عند كل صلاة" مناسبته أن المصلي يقف بين يدي الله فيناجيه، فأمر بتعاطي أسباب الكمالات، ومن ذلك طهارته ظاهراً وباطناً، وقيل لأن المصلي يقرأ القرآن والملائكة تحب سماع القرآن وتتنزل من أجل سماع القرآن فيكون على أكمل الحالات لأنها تتأذى من الروائح الكريهة كما في حديث الثوم في الصحيح، فقالوا: شرع عند الصلاة أن يطيب فمه لأنه إذا قرأ تنزلت الملائكة للقراءة، قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح:"اقرأ فلان تلك السكينة تنزلت بقراءة القرآن" فقالوا مناسبة الأمر بالسواك عند الصلاة هذا، وجاء في اللفظ الآخر "مع كل وضوء".(1/284)
لما قال "عند كل صلاة"، فهم منه أنه لا يفعل السواك أثناء الصلاة، ومن هنا أثناء الصلاة لا يشتغل بفعل السواك حتى ولو كانت نافلة، والعجب أن البعض في صلاة التراويح أثناء الصلاة يستاك، وقد رأيت بعيني من يفعل ذلك جهلاً منه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:"اسكنوا في الصلاة"، والسواك لا يفعل أثناء الصلاة، ونص بعض مشايخنا رحمة الله عليهم حينما سئل عن هذا، قال: هذا من أشنع البدع، لمخالفته لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسكون، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبدالله ابن مسعود - رضي الله عنه - وأرضاه الصحيح:"إن في الصلاة لشغلا"، من هنا خرجوا عليه أنه أثناء خطبة الجمعة لا يستاك، لأن خطبتي الجمعة نزلت منزلة الركعتين الأوليين من الظهر، ولذلك نهي عن الشيء المأمور به وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجوبه نهُي عنه لاشتغاله بالذكر والصلاة، قالوا وفي حكم خطبة الجمعة أن يجلس الإنسان في مجلس العلم ويستاك، لأن هذا انشغال وقد قال تعالى: { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، فهذا من الأمور التي يجهلها البعض ويظن أنها من السنة، فأثناء العلم العلم أشرف من العبادة، فيعطيه الإنسان كُلِّيِتَه، ويسكن وتكون عليه السكينة والوقار حتى يحصل العلم وينتفع.(1/285)
الشاهد في قوله "عند كل صلاة" جاء في بعض ألفاظ الحديث "مع كل وضوء"، ومن هنا الذين يمنعون من السواك عند الصلاة يحملون قوله "عند كل صلاة" على طهارة الصلاة وهي الوضوء، بمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"عند كل صلاة"، بمعنى أنه يتطهر للصلاة في وقت التطهر بها، ويستاك عند تطهره، ومن هنا استحب السواك عند الوضوء، واختلفوا على وجهين، قال بعضهم:يستاك قبل الوضوء ثم يتوضأ، لأنه إذا توضأ تمضمض فأزال الأثر فكان أبلغ في طهارة فمه، وقال بعضهم:"مع كل وضوء" لفظ "مع كل وضوء" أبلغ في المصاحبة، ومن هنا قالوا يتوضأ فيغسل كفيه ثم إذا أراد أن يتمضمض توضأ مع مضمضته، بمعنى أن يكون السواك مصاحباً للوضوء لقوله "مع كل وضوء"، وهذا الذي جعل بعض العلماء قال: إذا فقد المسواك أدخله أصبعه تحقيقاً لمقصود الشرع في الإنقاء لظاهر الأسنان هذا بعض العلماء ذكره رحمه الله، عوضاً عن المسواك إذا لم يوجد طلباً لهذه السنة، لأن السنة تطهير الفم مع كل وضوء، قالوا فإذا تعذر وجود السواك حقق مقصود الشرع بتنظيف القلح بأصبعه إذا لم يوجد، والواقع أنه لا يكون مستاكاً حقيقة إلا بالعود، هذا الأصل وهي السنة وهو الذي عليه المعول.
قوله عليه الصلاة والسلام "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" فيه دليل على شفقته عليه الصلاة والسلام، ورحمته بالأمة صلوات الله وسلامه عليه، وحرصه على عدم تكليفها بالمشاق وما فيه عنت عليها فصلوات ربٍّ وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، وجزاه عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبياً عن نبوته وصاحب رسالة عن رسالته.
قال رحمه الله: ]ويستحب في سائر الأوقات[.(1/286)
ويستحب فعل السواك في سائر الأوقات، سائر يعني جميع فيشمل ذلك الليل والنهار، فمن هديه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان إذا دخل بيته عند أهله أول ما يبدأ بالسواك، كما صح ذلك في حديث أم المؤمنين عائشة، لأنه كان عليه الصلاة والسلام يكره أن تشم منه رائحة غير طيبة، فكان يطيب فمه إذا دخل بيته عليه الصلاة والسلام، ويستحب السواك عند قراءة القرآن لما ذكرناه، لأنه إذا أراد أن يقرأ القرآن يستاك، قالوا إن هذا أكمل وأفضل وفيه أحاديث، وكذلك أيضاً قالوا يستاك في يوم الجمعة ويكثر من السواك ويتأكد السواك أكثر في يوم الجمعة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه:"وعليكم بالسواك"، فأمر به عليه الصلاة والسلام وحث عليه أكثر، ويستاك إذا خاطب الغير، كان يجلس مع الغير ويريد خطابه ويريد الحديث معه، مثل العالم يريد أن يفتي ويعلم الناس تكون رائحة فمه طيبة، ومن يريد أن يجالس العلماء والفضلاء ويجالس الغير يحرص على تنظيف فمه حتى لا يؤذي الناس برائحة فمه، فيستحب في سائر الأوقات، والدليل على استحبابه عموماً عموم قوله عليه الصلاة والسلام "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"، فهذا يدل على استحبابه في جميع الأوقات وطلب فعله.
قال رحمه الله: ]إلا للصائم بعد الزوال[.(1/287)
]إلا[ استثناء، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فستثنى مسألة وهي إذا كان الإنسان صائماً وبشرط أن يكون بعد الزوال، إذاً فالكل متفق على أن المفطر دائماً يشرع له السواك، ويستحب له أن يكثر منه هذا أول شيء، ثاني شيء أنهم اتفقوا على أنه يستحب السواك للصائم قبل الزوال، وهو أول النهار، أما بعد الزوال يعني بعد منتصف النهار للصائم، ومحل الخلاف في صيام الفريضة وصيام النافلة، يعني سواءً كان في فريضة أو كان في نافلة، فاختلفوا هل يستحب السواك أو يكره، قولان: جمهور العلماء رحمهم الله من الحنفية والمالكية وبعض أصحاب الشافعي كالمُزني، وبعض الحنابلة واختاره شيخ الإسلام رحمه الله وغيره على أنه يستحب السواك للصائم بعد الزوال، وانه لا يستثني من استحباب السواك للمسلم أن يكون صائماً بعد الزوال، القول الثاني إنه يكره السواك بعد الزوال للصائم وهذا هو مذهب الشافعية في المشهور، وكذلك مذهب الحنابلة في الرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمة الله على الجميع، وحكى الإمام الترمذي رحمه الله في سننه عن الإمام الشافعي أنه يقول باستحبابه بعد الزوال، ولكن هذه الحكاية استغربها الإمام النووي، وقال: إنه قول غريب وإن كان أقوى من حيث الدليل وبه يقول المُزني، يعني من أصحابنا وهو المختار والمشهور الأول، يعني المشهور عند الشافعية والذي عليه العلم والفتوى أنه يكره بعد الزوال، فالإمام الشافعي المحرر عنه رحمه الله برحمته الواسعة القول بكراهية السواك بعد الزوال، اللذين قالوا بالكراهية استدلوا بحديث أبي هريرة في الصحيحين، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"والذي نفسي بيده لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، ووجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - امتدح خُلُوف الصائم، وبين أنه أطيب عند الله من ريح المسك وخُلُوف الصائم أثر عبادة، ممدوح شرعاً، فإذا كان ممدوحاً شرعاً لا يشرع إزالته كدم الشهيد، فدم(1/288)
الشهيد ممدوح شرعاً ولذلك لا يُغَسَّل، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يزمل الشهداء بثيابهم كما في الحديث الصحيح قال في شهداء أحد:"زملوهم في ثيابهم فإني شهيد لهم بين يدي الله"، فقالوا إن الشهيد لا يُغَسَّل، لأن الدم هذا أثر عبادة وهو عند الله - عز وجل - بمكان كما قال - صلى الله عليه وسلم -:"ما من كَلمْ يُكْلَمُ في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة اللون لون دم والريح ريح مسك"، قالوا فلا يشرع أن يزيل هذا الأثر بالاستياك، ومن هنا قالوا بكراهية السواك بعد الزوال، وذهب الذين قالوا بعدم الكراهية احتجوا بدليلين أولهما عموم الأحاديث الواردة بالأمر بالسواك، قالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال حينما ندب إلى السواك إلا أن يكون صائماً بعد الزوال، قال:"السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"، ما قال إلا أن يكون الإنسان صائما، وقال:"لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، ما قال إلا أن يكونوا صائمين بعد الزوال، وقد قال للقيط بن صَبِرَة - رضي الله عنه - في الحديث الصحيح في السنن،"وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"، قالوا فلم يستثني في السواك، فلو كان مكروهاً أو محرماً أو ممنوعاً منه لاستثناه عليه الصلاة والسلام.
وقالوا الدليل الثاني حديث عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -، وحسّنه غير واحد من العلماء "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مالا أُحصي يستاك وهو صائم"، وهذا يدل على أنه يشرع السواك في الصيام سواءً قبل الزوال أو بعد الزوال، هناك حديث عند البيهقي وهو ضعيف "يستاك الصائم غدوة ولا يستاك بعد العشي"، وهذا حديث ضعيف وضعفه الإمام البيهقي نفسه، رواه البيهقي في سننه وهو حديث ضعيف.(1/289)
الذي يترجح قول جمهور العلماء باستحباب السواك مطلقاً، وذلك لصحة الأدلة التي استدلوا بها، وثانياً حديث "لخُلُوف فم الصائم" يجاب عنه بأن الخُلُوف ناشئ من المعدة، وليس من وسخ الفم والأسنان، ولذلك تعبد الله عباده بأثر الطاعة الناشئ، واستحب الله من عباده هذا الأثر الناشئ من الجوف لا من الفم، ولذلك الخلوف ما ينشأ من الفم وإنما ينشأ من الجوف، فإذا استاك لم يضره هذا مجرب، فإن الصائم إذا استاك بقي الخلوف كما هو، لأن الخلوف ناشئ من المعدة، ومن هنا لا يقوى ما ذكروه من أنه إزالة لأثر العبادة، وعليه فإنه يستحب للمسلم أن يستاك مطلقاً سواءً كان صائماً بعد الزوال أو قبله لقوة الأدلة التي استدل بها أصحاب هذا القول.
قال المصنف رحمه الله: ]باب المسح على الخفين[.
المسح في لغة العرب إمرار اليد على الشيء، والمسح في طهارة الوضوء يكون على العمامة وعلى الخفين وعلى الجبيرة، وكل هذه الممسوحات تكون ببل اليد، ومن هنا يضيفون في التعريف الاصطلاحي يزيدون على التعريف اللغوي، المسح اصطلاحاً إمرار اليد مبلولة على الخفين إن كان مسحاً للخفين، وعلى الرأس إن كان مسحاً للرأس، وعلى الجبيرة أن كان على الجبيرة، والخمار والعمامة إلى آخره، إذاً لابد وأن تكون مبلولة.(1/290)
وقوله ]على الخفين[ الخفان مثنى خف، وهو النعال من الجلد الساتر للقدم، فإذا كان ساتراً إلى الكعبين قالوا خف، وإذا وصل إلى أنصاف الساقين وإلى الركبة قالوا جرموق، وقوله ] باب المسح على الخفين[ أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الشرعية المتعلقة بعبادة المسح على الخفين، والمسح على الخفين يتعلق بموضع واحد من مواضع الوضوء المفروض غسلها وهو الرجلان، هذا الموضع جعل الشرع فيه أصلاً وبدلاً، الأصل غسل الرجلين، والبدل المسح على الخفين، وعلى هذا تكون المناسبة في ذكر المصنف رحمه الله لباب المسح على الخفين عقيب صفة الوضوء، أن المسح على الخفين متعلق بآخر فرض من فرائض الوضوء، فبعد أن ذكر الأصل وهو غسل الرجلين شرع في بيان أحكام المبدل عن هذا الأصل وهو الخفان والمسح عليهما.
قال رحمه الله: ]يجوز المسح على الخفين[.
يقول رحمه الله:] يجوز المسح على الخفين[، أي يباح ويشرع، فأذنت الشريعة في المسح على الخفين وثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي بلغت مبلغ التواتر، وهذا الحكم وهو مشروعية المسح على الخفين ثابت بالسنة، وبعض العلماء يقول في قراءة { وَأَرْجُلَكُمْ } على أن المراد بها مشروعية المسح على الخفين، ولكن الصحيح أنه جر بالمجاور، كما حققه غير واحد من أئمة التفسير، وأن المسح على الخفين ثبت في السنة، ولذلك يعتبر من التشريع الذي جاءت به السنة، ومن هنا قال العلماء إن مشروعية المسح على الخفين ثبت في التواتر، فأكثر من ستين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على خفيه، ولذلك يعتبر من السنن المتواترة، قال الناظم:
ثم من المشهور ما تواترا …وهو ما يرويه جمع حُظِرَ
كذبهم عرفاً كمسح الخف…رفع اليدين عادم للخلف
وقد روى حديثه من كتبا…أكثر من ستين ممن صحبا(1/291)
أي أن هذه السنة متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم من المشهور ما تواترا وهو ما يرويه جمع حُظِرَ
كذبهم عرفاً كمسح الخف رفع اليدين…
رفع اليدين أي عند تكبيرة الإحرام أيضاً فيها أكثر من ستين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه عند تكبيرة الإحرام.
وقد روى حديثه من كتبا أكثر من ستين ممن صحبا
ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله عندي أحاديث عن أكثر من ستين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على خفيه، كان هناك نزاع بين الصحابة رضوان الله عليهم، لأنهم شكوا هل هذه السنة نسخت أو هي محكمة، لأن آية المائدة كانوا يشكون أنها نزلت بعد المسح على الخفين فنسخت حكم المسح، ولكن لما جاء حديث جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - وأرضاه فرحوا به وكانوا يحبونه، لأن جرير - رضي الله عنه - لما قيل له هل كان هذا قبل المائدة؟، قال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة، لأنه أسلم في سنة عشر من الهجرة - رضي الله عنه - وأرضاه، وعلى هذا فهي سنة محفوظة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه السنة تشرع في الحضر والسفر، فقد مسح بأبي وأمي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه مسافراً ومقيما، فمسحه مسافر ثبت في أحاديث كثيرة، منها حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وأرضاه حينما كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عزوة تبوك، قال - رضي الله عنه - حينما ذكر إتيانه من الشعب وصبه لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه، قال:"فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ثم مسح عليهما"، فهذا يدل على مشروعية المسح على الخفين في السفر، وأما في الحضر فحديث حذيفة ابن اليمان - رضي الله عنه - وعن أبيه، وهو ثابت في الصحيحين "أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال وهو قائم، ثم قال لي: ادنوا(1/292)
فدنوت حتى كنت عند عقبيه، قال: فصببت له الوضوء فتوضأ ومسح على خفيه"، قال:"سباطة قوم" وهذا في المدينة.
ومن هنا أخذ من هذا أئمة السلف ودواوين العلم رحمهم الله مشروعية المسح على الخفين في السفر والحضر، وأنه لا وجه للتفريق بين السفر والحضر خلافاً لمن قال من بعض أئمة السلف أن المسح خاص بالسفر، لأنه وردت الأحاديث في سفره ورأوا فيه نوع من الرخصة فقالوا: إن في السفر معنى يقتضي التخفيف فلا مانع من ربطه بالسفر، والصحيح أنه يشرع في السفر كما يشرع في الحضر، ثم أيضاً يشرع سواءً وجدت حاجة أو لم توجد، فالمسلم بالخيار إن لبس الخفين سواءً أحتاج إلى لبسهما أو لم يحتاج، فيشرع له أن يمسح على خفيه.
قال رحمه الله: ]يسن[، أي يجوز المسح على الخفين، يجوز يعني يشرع، وعلى هذا فالمسح على الخفين ليس بواجب، ولكن هل الأفضل أن يغسل رجليه أو يمسح على خفيه، قرر جمهور من العلماء أن الأفضل أن يغسل رجليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم على غسل رجليه وهو الأكثر والأشهر من فعله صلوات الله وسلامه عليه، ولأنه الأصل، ولأنه أكثر عناءً وأكثر مشقةً، ولأنه أكثر طهارةً ونقاءً، ومن هنا قالوا إنه أفضل، وقال بعض العلماء هو أفضل يعني غسل الرجلين إلا إذا كان مسحك على الخفين فيه إحياء للسنة، وإماتة وإغاظة لأهل البدع، فحينئذ يكون إحياء السنن أفضل، وهذه أحوال خاصة لا تقتضي التفضيل من كل وجه كما لا يخفى، حتى قال بعض العلماء إنه إذا كان هناك من ينكر هذه السنة، ولا سبيل لإحيائها إلا بالتطبيق والعمل قد يجب على المسلم أن يحييها وأن يطبقها حتى يبين للناس شرع الله - عز وجل -، ولم يخالف في شرع هذا المسح إلا من لا يعتد بخلافه، وقد بينا أقوال العلماء وأئمة السلف في هذه المسألة مبسوطة في شرح البلوغ.(1/293)
…]يجوز المسح على الخفين[، يعني على النعلين من الجلد، ولما قال رحمه الله: ]يجوز[ طبعاً هذا الجواز مقيد بالشروط الشرعية، ]يجوز المسح على الخفين[ هذا كما ذكرنا مقيد بالشروط الشرعية فيشترط في الخف أن يكون على الصفة المعتبرة شرعاً، بأن يكون طاهراً وثابتاً، ساتراً لمحل الفرض غير مقطع ولا مقدد على وجه يكشف محل الفرض كشفاً مخلا.
…قال رحمه الله: ]وما أشبههما من الجوارب الصفيقة[.
…]وما أشبههما[ شبيه الشيء مثله والقريب منه في الصفات، وما أشبه الخفين من الجوارب الصفيقة، وهي التي لا تصف البشرة، ضابط الصفيق هنا الثخين الذي لا يصف البشرة، والسبب في كون العلماء يشترطون أن يكون الجورب كذلك، لأنه لم يكن على زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - الجوارب الرقيقة والشفافة لم تكن موجودة، وبناءاً على ذلك قالوا "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على جوربيه" كما في حديث الترمذي، والجورب كان منعلاً ولذلك جاء في بعض الروايات المنعلين، والجوارب تنقسم إلى قسمين:- جوارب منعلة، وجوارب غير منعلة، الجوارب المنعلة هي التي يكون باطنها مما يلي الأرض من الجلد، فترى الظاهر من القماش لكن أسفلها من الجلد تشبه الخف المعروف من الجلد، ومن الأعلى من القماش، هذه تسمى جوارب منعلة، والنوع الثاني الجوارب التي من القماش المحض، أي ليس فيها جلد، فأما الجوارب المنعلة فلا إشكال في المسح عليها، وهي موجودة إلى زماننا هذا وتصنع في بعض البلاد الإسلامية، وأما الجوارب غير المنعلة من القماش فعلى صورتين: الصورة الأولى أن تكون ثخينة، وهي التي لا تصف البشرة، والصورة الثانية أن تكون خفيفة رقيقة، فالجمهور على أنه لا يمسح على الرقيق، لأنه لم يكن موجوداً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأن الذين قالوا بجواز المسح على الرقيق قاسوه على الجورب الموجود على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما قاسوه قلنا قياس مع الفارق، لأن الرقيق ليس(1/294)
كالثخين، والسبب في هذا أنه حينما كان من القماش ثخيناً شابه الذي من الجلد، فستر محل الفرض وتحقق به الأصل فجاز أن يمسح عليه، ولما صار رقيقاً يشف البشرة كان هو والبشرة على حد سواء، ومن هنا القول بجوازه مبني على القياس، وجمهور العلماء على منع المسح على الجوارب الخفيفة، وأما ما ورد من التساخين التي هي اللفائف فهذه بالعكس التساخين إذا كانت لفائف أشد ثخانة من الجورب، وهذا أمر محرر لأنهم كانوا يلفون التساخين وكانت أشبه بالجوارب، حينما تكون ساترة لمحل الفرض، وأنت تعلمون أنه لا يلفون الخرق إلا من أجل أن يمشوا عليها وهذا الذي جعل بعض الفقهاء حينما ذكر الجوربين، قال يشترط أن يمكنه أن يواصل المشي عليهما، لأنهم قالوا لما جاءت أحاديث التساخين عن الصحابة رضي الله عليهم كانوا يضعونها من أجل أن تعينهم على المشي، ولا يتأتى هذا إلا إذا كانت صفيقة، وعلى كل حال على المسلم أن يحتاط ويستبرئ لأمر دينه، وكما ذكر بعض الأئمة إن الله فرض على المسلم أن يغسل رجليه على الأصل، والنصوص في هذا واضحة، فلما جاءتنا رخصة المسح على الخفين بأحاديث متواترة، فانتقلنا من هذا الأصل إلى بدل على وجه تطمئن به النفوس، ثم لما كانت في الجوارب الثخينة في حكم ذلك المأذون به والمرخص به وهو الخف قلنا بأنه آخذ حكم المسح على الخفين، ولما كان الرقيق ليس فيه شبه بالخف وليس فيه شبه ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم -:"صنفان من أهل النار لم أرهما نساء كاسيات عاريات"، فجعل الذي يشف البدن كأنه غير موجود، كاسيات عاريات قالوا لأنه يلبسن لباسا رقيقاً في الظاهر ستر ولكنه في الحقيقة ليس بستر، فالرقيق وإن كان ظاهره الستر صورة ولكنه ليس بساتر حقيقة، ومن هنا الأشبه مذهب جمهور العلماء وأئمة السلف رحمهم الله أنه لا يمسح إلا على الثخين، وهو الذي لا يصف البشرة.
…قال رحمه الله: ]التي تثبت في القدمين[.(1/295)
…يشترط أن يكون هذا الخف ساتراً لمحل الفرض، لأنه بدل والبدل يأخذ حكم مبدله، وستره لمحل الفرض أن يكون ساتراً للكعبين، فإن كان يبرز الكعبين أو بعض الكعبين لم يجز المسح عليه، كذلك يشترط أن لا ينزل عن محل الفرض، قد يكون ساتراً مثل بعض الجوارب ولكنه عند المشي ينزل حتى يكشف محل الفرض، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نزع الخف مدة المسح، ولذلك لابد أن يكون ساتراً مدة المسح، كذلك أيضاً أن يكون طاهراً فلا يمسح على جلد النجس، مثل جلد الخنزير أكرمكم الله وجلد الكلب، أو متنجس مثل أن يكون على الخف نجاسة، فلا بد أن يغسل النجاسة ثم يمسح عليه، وأن يلبسهما على طهارة وأن يكون ذلك في الحدث الأصغر لا في الحدث الأكبر، وأن يكون سالماً من العور الذي يؤثر فيه، وسيأتي في مسألة الأخراق، هذه أمور لا بد من توفرها في المسح على الخفين وسنبين بقية المسائل إن شاء الله تعالى.
- - - - - الأسئلة - - - - -
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : ما حكم استعمال معجون الأسنان في نهار رمضان؟،وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.(1/296)
السنة في تطهير الفم أن يكون بالسواك، واستحب العلماء عود الأراك لحديث وفد عبد القيس، "بني عبد القيس حينما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعطاهم أعواد الأراك"، وهو أجود ما يستاك به، سواءً كان من الأغصان إذا نقعت، أو كان من الجذور إذا طيبت، وهذا هو الأفضل وهو السنة، أيضاً يليه في الاستحباب كما نص الأئمة أعواد الشجر تتبع عود الأراك، وما عدا ذلك فإنه يوافق السنة من حيث حصول الطهارة، ولا يوافقها من حيث الآلة، لأنه قال- صلى الله عليه وسلم -:"لأمرتهم بالسواك"، يعني بفعل السواك بالعود المعروف، وعلى هذا فلو استاك بخرقة أو بمنديل قالوا حقق مقصود الشرع ولكنه لم يصب السنة من كل وجه، مثل من حلق الإبط، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن أن الفطرة نتف الإبط، فإذا حلق الإبط حقق مقصود الشرع من زوال الشعر، ولكنه لم يوافق السنة لأن مقصود السنة أن يكون بالنتف الذي يضعف الشعر، ومن هنا يقال إنه يقع الظاهر وهو نظافة الأسنان، ولا تتحقق السنة من كل وجه، أما في الصيام فوجود المادة الغريبة وهي مادة المعجون تقتضي من المسلم إذا استاك أن يحتاط، فإذا كان محتاطاً بحيث يستاك بالمعجون ثم ينظف فمه على وجه لا يزدر شيئاً من المعجون فلا بأس ولا حرج، لأن الفم من خارج ولا يؤثر دخول المعجون فيه كما لا يخفى والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ: كيف نجيب على من يقول إن المضمضة والاستنشاق واجبان؟، ويستدل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتركهما أبدا، ولم يثبت تركه لهما ولو كان مستحباً لتركهما ولو مرة واحدة لبيان حكمهما، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/297)
طيب ما ترك غسل الكفين قبل الوضوء أبداً، ما أحد يقول بأن غسل الكفين قبل الوضوء فرض أو واجب من واجبات الوضوء إلا في مسألة القيام من النوم، طيب ما توضأ عليه الصلاة والسلام إلا غسل كفيه، هل نقول أنهما فرض، يداوم عليه عليه الصلاة والسلام على الكمال، لأنه في الأكمل والأفضل، لما نقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يترك، هذا يستدل به إذا اعتضد بالأصل، مثل ما قلنا إن غسل الوجه فرض من فرائض الوضوء للأمر به في الآية ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ولم يترك غسل وجه عندنا أصل، لكن هنا في المضمضة مناقض للأصل، الأصل قال : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ، ومن هنا كان من الفقه إثباته في مسألة الإثباتات الواردة لها أصول تدل على وجوبها ولزومها وعدم اعتداد بهذا الدليل فيما ناقض الأصل وخالفه.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: إذا لم يخلل الأصابع ووجدَ بين الأصابع موضع لم يصله الماء فما الحكم؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
كل من توضأ وترك من العضو المأمور بغسله ومسحه كله جزء ولو يسيراً لم يصح وضوءه، لابد أن يعمم وأن يشمل العضو الذي أمر الله بغسله ومسحه بالغسل والمسح كما أمر الله - عز وجل -، فلو ترك ما بين الأصابع فإنه لا يصح وضوءه، ولو ترك على الأصابع لا يصح ولو ترك على القدم لا يصح، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل أن يعيد الوضوء والصلاة لما رأى على قدمه لمعَة، وهذا يدل على أنه لا يد من استيعاب محل الفرض، وتوعد عليه الصلاة والسلام بالوعيد الشديد فقال:"ويل للأعقاب من النار"، لأنه رأى أقواماً أعقابهم تلوح، ومعنى ذلك أنهم لم يغسلوها، فظهرت هذه الأعقاب فدل على أن التقصير في محل الفرض موجب للمؤاخذة وحصول التبعة على الإنسان والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ: من توضأ ونسي مسح رأسه وتذكر ذلك بعد غسله لرجليه فماذا يفعل؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/298)
يمسح الرأس ثم يغسل الرجلين، إذا لم ينشف العضو القبلي للعضو المنسي تدارك، بمعنى أنه غسل ومسح المنسي ثم أتبعه بما بعده، لأن شرط الموالاة لم يفت، هذا هو الأصل عند العلماء رحمهم الله والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ: ما سبب تعدد الروايات في المذهب الواحد؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
هذا راجع إلى الأئمة، فقه الروايات فقه بحر عظيم عند أهل العلم رحمهم الله، للعلماء وأئمة المذاهب روايات وهذه الروايات اشتغل بها أئمة الشأن فحرروها وضبطوها، وبينوا صحيحها من ضعيفها، وهذا الذي جعل العلماء يقولون إن فقه المذاهب الأربعة أوثق من غيره، والظاهرية يقاربهم، لأنه حرر في الكتب، ففقه المذاهب الأربعة ضبط بالنقل الموثق، ولذلك اندثر مذهب الأوزاعية والثورية والطبيرية أبتاع الأوزاعي والثوري مع أنهم أئمة وعلماء ومجتهدون وأهل أن يتبعوا رحمهم الله، قالوا لأمرين: الأمر الأول أن أقوالهم اندرجت قل أن تخرج عن خلاف الأئمة الأربعة والظاهرية، وثانياً أنه لم يحرر القول عنهم، فلو قال شخصاً الآن أريد أن أتبع سفيان الثوري وهو إمام مجتهد، نقوله لا بأس ولا مانع أن تتبع ولكن كيف تحرر الرواية عنه، وبينك وبينهم مفازات ورجال يحتاجون إلى دراسة وتنقيح، فقه الرواية أكثر ما يوجد عند الحنفية وعند المالكية وعند الحنابلة، أما الشافعية ليس عندهم فقه الرواية، لأنهم لم يحتاجوا إلى ذلك لأن الإمام الشافعي دون مذهبه، ولذلك عندهم القول، القول القديم والجديد وعندهم مصطلح القول بدلاً عن مصطلح الرواية، ما يوجد عند الشافعية مصطلح الرواية، طبعاً كتب الشافعي رحمه الله جاءت بالرواية برواية المُزني وغيره، طبعاً حررت وحققت، هذه الرواية عن الإمام مالك طبعاً الإمام مالك دون موطاءه، ولكن عنه روايات ففي مسائل رجع عنها وفي مسائل فصل فيها، وفي مسائل سُأل عنها رحمه الله زائدة عن ما في الموطأ، ومن هنا اختلفت عنه الروايات وأحتاج أئمة(1/299)
المذهب إلى دراسة هذه الروايات، وتكلموا عن الأصحاب وبيّن الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله وهو من أنفس من كتب في الروايات عن الإمام مالك في مقدمة التمهيد أن بعض أصحاب مالك أوثق في الرواية من بعض، فإذا تعارضت روايات الإمام مالك في العبادات هناك من يُرَجَح في العبادات، وإذا تعارضت في البيوع هناك من يُرَجَح في البيوع كابن وهب وغيره، في الأولى في العبادات ابن القاسم رحمه الله، الشاهد أن فقه الروايات له ضوابط، وأما أوسع المذاهب في الروايات فهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، والسبب في ذلك أنه لم يدون مذهبه، وقام مذهبه على الرواية عنه، ثانياً من أسباب كثرة الرواية عن الإمام أحمد سعة علمه، فإنه تأخر عن الأئمة من إخوانه، ولذلك أطلع على أقوالهم وتارة يقول بقول قائل ثم يرجع إلى قول غيره ثم يرجع إلى قول ثالث ثم تستبين له سنة، فيقول بقول خارج عن أقوال الثلاثة، لاستبانة السنة وصحتها عنده، ثم تستبين عنده سنة تقتضي التفصيل فيفصل، ثم يتورع ويتوقف فتتعدد عنه الرواية من فقه رحمه الله وكثرة ورعه، ومن أوسع المذاهب في الروايات مذهبه، ولذلك تجد مذهب الحنابلة قد يجمع المذاهب الأخر من كثرة رواياته ويزيد عليها، وأيضاً الشافعية رحمهم الله عندهم توسع في مذهبهم في الأوجه وأقوال أوجه الأصحاب وتخريجاتهم بحيث يجمعون المذاهب الأخر.(1/300)
بالنسبة للروايات كيف يرجح بينها؟، فقه الروايات هذا يرجع فيه إلى الكتب المعتمدة في المذهب، أمّا لماذا تعددت الروايات عن الأئمة؟، فهذا من علمهم فضلهم وورعهم، يقول الإمام بالقول فيجد دليلاً أصح من الدليل الذي كان يقول به فيعدل عنه، فتروى عنه رواية العدول، ثم يتبين له ضعف الدليل الذي ذكر فيرجع إلى قول غيره وهكذا وهذا من ورعهم، قد رجع مَنْ هو أفضل منهم، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي موسى الأشعري حينما كتب له كتابه في القضاء المشهور "لا يمنعنك إذا قضيت قضاء ثم راجعت نفسك فيه أن ترجع عنه"، فإن الحق أحق، الرجوع إلى الحق فريضة وفضيلة، وقال - رضي الله عنه - حينما قضى قضاء، ثم بعد مدة قضى في نفس القضية بقضاء ثان، فعوتب - رضي الله عنه - فقيل له: قد قضيت بكذا، ما شأنك اليوم تقضي بكذا وكذا، قال:"ذاك على ما قضيناه وهذا على ما نقضي"، فتح الله علينا في ما مضى فتحاً وتعبدنا الله بما ظهر من الاجتهاد، من سماحة الشريعة ومرونتها وعظمتها وسعتها بحر لا ساحل له، وبئر لا تكدره الدلاء، يغوص العلماء فيستنبطوا ويجدوا من فتوحات الله - عز وجل - { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } ، { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } ، ومن هنا أصبحت الشريعة بحر جمع البحور، لا يمكن أن تجد مسألة إلا وتجد الشريعة فيها أصل وبيان وحكم وقول فصل، ومن هنا قادة الأمة الإسلامية العالم من المحيط إلى المحيط، وإبّان الخلافة الإسلامية في أوج عظمتها وسعتها قام الفقهاء والأئمة والعلماء والمجتهدون والقضاة والمفتون ما وقفوا يوماً أمام مسألة من المسائل، ولا نازلة من النوازل، من سعة الشريعة ومن هذا العلم الذي تفجر على أيدي هؤلاء العلماء الصلحاء الأتقياء، الذين كانوا أتقى لله وأورع لله فأبقى الله في الأمة حبهم وودهم وإجلالهم، وأبقى علومهم نيرة وأصبحت العلماء تحكي أقولهم فضل من الله لا يستطيع أحد أن يمنعه، وكرم من الله على هؤلاء(1/301)
الأئمة الثقات الذين اختارهم الله لهذه الأمة، رضي الله عنهم وغفر لهم وأعلى منازلهم وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فمن خلال هذا الخلاف ومن خلال هذه الروايات ومن خلال هذه الأوجه تفتقت أذهان العلماء وأفهام العلماء، فقعَّدوا وأصّلوا ونظّروا وضبطوا وقدّموا وأخّروا وخصَّصوا وعمَّموا وقيّدوا واطلقوا، واصبحت الشريعة شريعة زاخرة واسعة وهذا كله يدل على سموها وعلوها وكمالها، لأنها نشأت من كمال { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً } ، { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ، فهذا كله فخر للمسلم وليس مذمة كما يظن بعض الجهلاء الذين لا يحسنون الفهم، هذا فضل من الله عظيم أن تجد أئمة وضع لهم القبول بين الأمة الإسلامية شرقا ومغرباً يترحمون عليهم ويذكرونهم، وقل أن يمر يوم إلا ولهم من الحسنات ما لا يعلم أجره وثوابه إلا الله وحده لا شريك له، هؤلاء في مقامات عظيمة من الله - عز وجل -، فنسأل الله أن يفتح علينا كما فتح عليهم، وأن يرزقنا من البركة والخير في علومنا وتعليمنا وإفهامنا مثل ما رزقهم ويزيدنا من فضله.(1/302)
…فالشاهد من هذا أن اختلاف الروايات والأقوال فخر للأئمة وفضل، ولكن لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، هناك من يذم الخلاف، وهذا من جهله ويذم الروايات، يقول لك إمام واحد عنه عشر روايات، كيف اخرج عنها؟، كيف تخرج عنها لأنك جاهل ما تعرف كيف تُقَعِّد وتُأَصِّل أذهب إلى من هو أعلم منك، وارجع إلى كتب العلماء وأنظر كيف درسوا هذه الروايات، وبينوا صحيحها من ضيعفها وبينوا الذي عليه العمل، والذي لا عمل عليه، فالمقصود أن هذا علم مخدوم، وإذا جاء أحد يشكك فيها وهذا فليذهب إلى كتب والعلماء ولينظر، فهذا فخر للأئمة ونعمة من الله - عز وجل -، والله - عز وجل - شرع الخلاف، حينما جاءت النصوص محتملة دل على مشروعية الخلاف، وحينئذ هناك فرق بين الاختلاف داخل الأمة والخلاف خارج الأمة، والخلاف داخل الأمة محمود وليس بمذموم، لأن الله - عز وجل - أورد النصوص محتملة وهذا قرره شيخ الإسلام رحمه الله، والإمام القيم في الأعلام، تكلم كلاماً نفيسا في هذه المسألة في مسألة خلاف العلماء وورود النصوص على الاحتمال والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ: في يومي الخميس والاثنين وأيام البيض يوضع التمور في المسجد النبوي للصائمين، فهل يجوز لغير الصائمين أن يجلس مع الصائمين ويأكل معهم وكأنه صائم؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
لا يجوز أن يستباح هذا الطعام إلا بأذن من صاحبه، يقول لصاحبه لست بصائم وأريد أن آكل لأنه قد يكون وقفاً وقد يكون نذراً أن يطعم الصائمين، قد يكون واجباً، ثانياً إنه إذا جلس مع الصائمين زكى نفسه أنه صائم وهو ليس بصائم، ولذلك لا شك أنه لا يجوز له الجلوس والأكل لأنه ليس بطعام للجميع، وإنما أذن فيه صاحبه للصائمين بدليل تخصيصه ليوم الاثنين ويوم الصيام، وقصده للصائمين دون غيرهم فلا يجوز أكل هذا الطعام إلا بإذن من صاحبه وعلم وإباحة والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :(1/303)
فضيلة الشيخ: هل يجوز الجمع بين غسل الجمعة وغسل الجنابة؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
يجوز الجمع بين غسل الجمعة والجنابة إذا كان الوقت قريباً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل"، فإذا كان الوقت قريباً أو جامع قبل الجمعة "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من غَسَّل واغتسل"، قال بعض العلماء في قوله "من غَسَّل واغتسل" أي جامع زوجته قبل أن يذهب للجمعة والحديث صحيح، قالوا إنه غَسَّل يعني تسبب في غسل امرأته، واغتسل أي هو، قالوا في هذه الحالة لأنه إذا جامع قبل الخروج سكنت نفسه، وانطفأت الشهوة في قلبه فكان أصغى للذكر وأكثر تأثراً وأكثر انتفاعاً، ويجوز أن يجمع بين غسل الجمعة والجنابة فيدرج غسل الجمعة تحت الجنابة، فينوي الجنابة أصلاً لأنها فرض، ويجعل الجمعة تحتها لأنه وإن كانت واجبة لكن وجوبها على خلاف، وبناءاً على ذلك ينوي النيتين ويجعل غسل الجمعة تحت غسل الجنابة، والدليل على هذا الاندراج أنه إذا تحقق مقصود الشرع شرع الاندراج، فلما كان مقصود الشرع من الغسل يوم الجمعة إنما هو النظافة والنقاء، وجلوس الإنسان على حالة الأكمل والأفضل، كما في حديث أم المؤمنين عائشة "أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأتون من العالية، وكانت الطريق كما قالت رضي الله عنها طريق زرع، فإذا دخلوا المسجد علت منهم زهومة، فأمروا أن يغتسلوا للجمعة"، فهو إذا اغتسل للجنابة تحقق المقصود من النظافة والنقاء، وبناءاً على ذلك يجمع بين النيتين وهو محفوظ عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم أجمعين والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن :
فضيلة الشيخ: هل يدرك أجر الجماعة بإدراك التشهد مع الإمام؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/304)
من أدرك التشهد مع الإمام أو أدرك الإمام قبل السلام ما يشترط التشهد، من أدرك الإمام قبل السلام فقد أدرك الفضيلة، ومن خرج من بيته من أجل أن يدرك جماعة المسجد ثم وجد الجماعة قد انصرفوا كتب الله له مثل أجرهم، قال - صلى الله عليه وسلم -:"من عمد إلى جماعة فوجدها قد انقضت كتب له مثل أجرهم"، والدليل على أنه يأخذ فضيلة الجماعة بالمشي قوله عليه الصلاة والسلام "صلاة الرجل في مسجده تضعف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفاً"، هذا أصل الحديث، ثم قال عليه الصلاة والسلام وذلك، وذلك جملة تعليلية، "وذلك أنه إذا توضأ فاسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا كتبت له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة... الحديث"، فجعل ترتيب الفضل في الخمس وعشرين للمضي ولخروج، ومن هنا إذا خرج إلى المسجد وأدرك الإمام قبل التسليم أدرك فضل الجماعة، لكنه لم يدرك حكم الجماعة، ويتضح ذلك أنه لو أدرك الناس في صلاة الجمعة بعد رفع الإمام من الركوع في الركعة الثانية يتمها ظهراً أربع ركعات، لأنه أدرك الفضيلة ولم يدرك الفريضة، فيجب عليه قضاؤها ظهراً، وأما إذا أدرك ركعة فأكثر، فإنه قد أدرك الجماعة حكماً وفضلاً، ولكنه أقل أجراً ممن أدركها تامة كاملة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تابع باب المسح على الخفين
بسم الله الرحمن الرحيم
…قال المصنف رحمه الله: ]باب المسح على الخفين، يجوز المسح على الخفين وما أشبههما من الجوارب الصفيقة التي تثبت في القدمين، والجراميق التي تجاوز الكعبين في الطهارة الصغرى[.
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.…أما بعد.(1/305)
فقد تقدم معنا في المجلس الماضي بيان مشروعية المسح على الخفين، وبعض المسائل والأحكام المتعلقة بهذه الرخصة، وقول المصنف رحمه الله ]يجوز المسح على الخفين[، يدل على أن المسح من حيث الأصل عند جمهور العلماء على ظاهر الخفين، ولا يجب مسح باطن الخفين، فالتعبير بالاستعلاء هنا يشير إلى هذا المذهب وإن كان هناك من العلماء من قال بمشروعية مسح ظاهر الخف وباطنه، والصحيح أن الواجب هو مسح الظاهر، لحديث المغيرة - رضي الله عنه - وحديث علي أيضاً - رضي الله عنه -، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على ظاهر خفيه"، قال علي - رضي الله عنه -:"لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على ظاهر خفيه"، فقوله رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على ظاهر خفيه يدل على أن الواجب هو مسح الظاهر، ويستحب مسح الباطن، ولذلك قال بعض العلماء إن مسح الباطن مشروع لا على سبيل اللزوم، فالأصل هو وجوب مسح ظاهر الخف، ولا يجب مسح أسفل الخف، واللذين قالوا بوجوب مسح الظاهر والباطن ليس لهم دليل صحيح، وقد ورد في بعض الروايات لكنها لم تسلم من المقال، فهي ضعيفة عند أهل العلم رحمهم الله، فتوسط بعض العلماء فقال يجب مسح الظاهر ويستحب مسح الباطن، ثم إن الواجب على المسلم إذا مسح على خفيه أن لا يعمم الخفين بالمسح على أصح قولي العلماء، بمعنى أنه لو وضع كفه اليمنى على خفه الأيمن وأمر أصابع يديه ولو مفرقة أجزاءه ذلك على حديث الخطوط، "أنه خط خطوطاً على ظاهر خفيه صلوات الله وسلامه عليه"، وذهب بعض العلماء إلى استيعاب الظاهر، للأصل في مسألة البدلية، وفي السنة ما يشهد إلى عدم وجوب استيعاب الخف، ولذلك سقط باطنه فدل على أن العبرة بمسح بعضه، وشدد بعض العلماء في مسح العقب، وقالوا إذا مسح لا بد وأن يراعي عقبه، ثم إن قوله رحمه الله ] يجوز المسح على الخفين[ لأنهما الأصل، الأصل(1/306)
أن يكون المسح على الخفين، وهما النعالان من الجلد، ثم بيّنا في ما مضى أن الجوارب تنزل منزلة الخفين على الصحيح من أقوال العلماء "لحديث الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين".
…وأما بالنسبة للجراميق فجمع جرموق، وهو أعجمي معرب وبينا أنه إلى أنصاف الساق لأنه في الأصل الجرموق الخف فوق الخف، وأجاز المصنف رحمه المسح على هذا النوع من الخفاف أن يكون لابساً لخفين، والجرموق عادة ما يكون في البلاد شديدة البرد، وإذا ستر الخف الأسفل فالغالب أنه يستر إذا كان مما يمسح يستر إلى أنصاف الساق، لكنه لو كان خفاً فوق خف فإنه يكفي فيه أن يكون ساتراً لمحل الفرض، وأصح الوجهين عند العلماء وأقواهما وأولاهما بالاحتياط أنه لا يمسح على خف فوق خف، لأن الأصل في هذا أنه رخصة، والرخص لا يتجاوز بها محالها فيمسح على الخف الذي يلي البشرة ثم يلبس ما عن له من اللباس، وهذا هو أصح قولي العلماء لأنه هو السنة، ولم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح على خف فوق خف، وحديث "أنه مسح على موقيه" على أن المراد به الجرموق ضعف العلماء رحمهم الله هذا الاستدلال لأن المراد بهما الخفان، وليس المراد بهما الجرموقين، وعلى هذا فإن السنة أن يمسح على الخف الذي يلي البشرة، ويقتصر على ما ثبت وورد في السنة وحفظ من هديه عليه الصلاة والسلام.(1/307)
وأشرنا إلى مسألة التساخين، وللعلماء فيها وجهان بعض العلماء يرى أنها اللفائف التي كانت تلف، وكان الصحابة يستعملونها من شدة البرد ونزلت منزلة الجبائر، وبينا الكلام فيها ومن أهل العلم من قال إن التساخين هي الخفاف، لأنها تسخن البدن في البرد، وعلى هذا الوجه تكون التساخين بمعنى الخف وحينئذ لا إشكال وليس لها معنى جديد، لأنها آخذة حكم الخفين، قوله رحمه الله ]في الطهارة الصغرى[ بيان لمحل هذه الرخصة وهو الطهارة الصغرى دون الكبرى، فلا يجوز المسح على الخفين إذا اغتسل من الجنابة، أو اغتسلت المرأة من حيض أو نفاس أو جنابة، فيجب على المغتسل أن ينزع خفيه، وذلك لما صح في حديث صفوان بن عسال المرادي - رضي الله عنه - أنه قال:"أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ويوم وليلة للمقيم، من بول أو نوم أو غائط لكن من جنابة"، فقال - رضي الله عنه -:"لكن من جنابة"، أي في الجنابة يجب نزع الخفين وغسل القدمين وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، ثم إن هذه الرخصة التي تكون في الطهارة الصغرى شاملة للرجال والنساء، فالخف يجوز المسح عليه سواءً كان اللابس له رجلاً أو كانت امرأة، لأنه ليس مما يختص بالرجال أو يختص بالنساء وإنما هي رخصة عامة.
…قال رحمه الله: ]يوماً وليلة للقيم وثلاثاً للمسافر[.(1/308)
…هذه المسألة تعرف بمسألة التأقيت، فالمسح على الخفين مؤقت في أصح قولي العلماء رحمهم الله، وهو مذهب الجمهور لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقته كما في حديث صفوان بن عسال في السنن - رضي الله عنه - وأرضاه وهو حديث صحيح، وكذلك في حديث علي - رضي الله عنه - وأرضاه، وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها لما سُألت عن ذلك قالت للسائل أذهب إلى علي فإنه كان أكثر سفراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا يردون إلى من هو أعلم وأبصر بهديه عليه الصلاة و السلام، فبيّن - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وجعل للمقيم يوماً وليلة" والحديث صحيح وهو في السنن، على أن المسح للمسافر يتأقت بثلاثة أيام وأن المسح للمقيم يتأقت باليوم والليلة، وقد ذكرنا مسائل الخلاف في المسح على الخفين ومنها هذه المسألة في شرح بلوغ المرام، ومن أراد التفصيل في المسائل الخلافية يرجع إلى هذا الشرح حيث ذكرنا مذاهب السلف رحمهم الله، وأن هناك من أهل العلم من قال بعدم التأقيت من السلف وهو مذهب المالكية رحمهم الله،أنه لا تأقيت في المسح على الخفين، واحتجوا بحديث أُبَيَّ ابن عُمَارة وفيه "أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيمسح على الخف يوماً؟، قال: نعم وما شئت، قال: يومين، قال: نعم وما شئت، إلى أن بلغ سبعاً"، فقالوا إن هذا يدل على عدم التأقيت ولكن الحديث ضعيف، ضعفه الإمام البخاري وأحمد وأبو عوانة وأبو زُرعة وغيرهم من أئمة الحديث، ولا حجة فيه لعدم ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا يتأقت المسح، وهو مذهب الجمهور أن هذه الرخصة مؤقتة.
…قال رحمه الله: ]من الحدث إلى مثله[.(1/309)
…أي أن هذا التأقيت باليوم والليلة، وهذا التأقيت بالثلاثة الأيام من الحدث إلى مثله، فأول حدث بعد لبس الخف يحتسب الإنسان المدة به، مثال ذلك لو أنه توضأ الساعة الواحدة ظهراً، ثم لبس الخفين الساعة الثانية لأنه لا يشترط أن يلبس الخفين بعد الوضوء مباشرة، ممكن أن يتوضأ ويلبس بعد خمس ساعات من الوضوء، فبعد أن توضأ لبس خفيه الساعة الثانية ظهراً، فبقي على طهارته فننظر إلى أن يقع أول حدث بعد لبسه للخف، فإذا لبس الخف على طهارة ووقع الحدث في الساعة الثالثة ظهراً، فإنه إذا كان مقيماً ينتهي مسحه في الساعة الثالثة ظهراً من اليوم الذي يلي اليوم الذي وقع فيه الحدث، وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: ]من الحدث إلى مثله[، في الثلاثة الأيام نفس الشيء، لو أنه كان مسافراً ولبس الخف وهو على سفر في الساعة الخامسة عصراً وهو على طهارة، ثم أحدث الساعة السادسة فإننا نحتسب له ثلاثة أيام إلى الساعة السادسة من اليوم الثالث، فهي ثلاثة أيام بلياليهن، وعلى هذا فلابد من استتمام هذه المدة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلها وأقتها لأصحابه ولأمته صلوات الله وسلامه عليه، هناك أقوال هناك من قال العبرة بلبس الخفين، وهناك من قال العبرة بالمسح، وبيّنا هذه المسألة في شرح البلوغ وبينا أن الصحيح قول من قال من الحدث إلى مثله في السفر وفي الحضر.
…قال رحمه الله: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن، والمقيم يوماً وليلة"[.
…هذا حديث صحيح، خبر بمعنى الإنشاء، جعل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسح للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وجعله للمقيم يوماً وليلة، وعلى هذا العمل لثبوت السنة بهذا الحديث عن علي - رضي الله عنه - وغيره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين حفظوا هذه السنة والعمل عليه عند جمهور أهل العلم رحمهم الله.(1/310)
…قال رحمه الله: ]ومتى مسح ثم انقضت المدة، أو خلع قبلها بطلت طهارته[.
…يقول رحمه الله: ]ومتى مسح ثم انقضت المدة أو خلع قبلها بطلت طهارته[، السنة في من لبس الخف أن يراعي المدة المحددة شرعاً، لأن صفوان - رضي الله عنه - قال:"أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ننزع خفافنا"، وعلى هذا لا بد من مراعاة هذه السنة، فإذا بقي يوم وليلة وهو مقيم نحكم بانتقاض طهارته إذا وصل إلى المدة والزمان المعتبر، قلنا إنه وقع الحدث الساعة الخامسة عصراً، فإذا جاءت الساعة الخامسة عصراً من الغد وهو لابس لخفيه على طهارة انتقضت طهارته، ما هو وجه انتقاض الطهارة؟، وجه انتقاض الطهارة أن الأصل في المسلم أنه يجب عليه غسل رجليه، فكان الأصل أنه يغسل رجليه، رخصت له الشريعة أن يمسح على خفيه، فإذا توضأ ومسح على خفيه وانتهى الوقت بوصوله إلى الساعة الخامسة عصراً، فإنه في هذه الحالة يتوجه عليه الخطاب بنزع الخف وغسل الرجلين، لأنه قد زال ما أؤقت بزمان ينتهي بتأقيته، فهذا مؤقت بزمانه وهو المسح، فإذا كان المسح مؤقتاً وهو على سبيل الرخصة فإنه في هذه الحالة يجب عليه الأصل، وإذا وجب عليه الأصل فإنه يكون هناك فاصل بين مسحه لرأسه وغسله لرجليه، ومن هنا قالوا لو أنه توضأ قبل نهاية المدة بلحظات، بحيث لا يفوت شرط الموالاة ثم مسح وانقضت المدة بعد مسحه بحيث لا ينقطع شرط الموالاة، فإنه يجوز له أن ينزع خفه ويغسل رجليه، لأنه ما يفوت شرط الموالاة، وهذا مبنى على أنه إذا انتهت المدة توجه الخطاب، لأنه في الأصل يجب عليه غسل رجليه، والدليل على أن المسح لا يحل محل الغسل من كل وجه، أنه لو نزع قبل تمام المدة حكمنا ببطلان وضوءه، لأنها عبادة مؤقتة وهذا التأقيت تنتهي العبادة بانتهائه هذا أصل عند العلماء في العبادات المؤقته، ومن هنا أصح الأقوال عند الجمهور القائلين بالتحديد أنه تنتقض طهارته بانتهاء المدة خلافاً للظاهرية، فعند الظاهرية(1/311)
قالوا إنه في هذه الحالة قد تطهر وحُكم برفع حدثه، حُكم برفع حدثه لما مسح على خفيه أرتفع حدثه، فلما ارتفع حدثه وجب أن نبقيه على الطهارة لأنه لم يحدث، وعلى هذا قالوا لا يحُكم بانتقاض طهارته متى انتهت المدة ولم يحدث، ولكن هذا ضعيف بدليل أنه لو نزع قبل انتهاء المدة فإنه في هذه الحالة ما نستطيع أن نصحح، ومن هنا يقول بعض العلماء وهو مذهب بعض العلماء أنه لو مسح على شعره ثم حلق شعره وجب عليه أن يعيد الوضوء، لكن هناك فرق بين المسألتين، فإذا كان يعيد الوضوء في مسألة مسح الرأس فلأن يعيده في مسألة الخفين من باب أولى وأحرى، إلا أننا في مسألة حلق الرأس لا نوجب عليه الإعادة لأنه مسح الأصل وهنا مسح البدل، ولذلك في الأصل يستوعب مسح الرأس ولكن في الخفين لا يستوعب، هذا الذي جعل الشبهة قائمة، فقولنا إن المسح على الخفين ينزل منزلة غسل الرجلين من كل وجه، أو ينزل منزلة مسح الرأس من كل وجه محل نظر، والأشبه أنه تنتقض طهارته إذا فات شرط الموالاة، أما إذا أمكنه أن يتداركه كما في المسألة التي ذكرنا فإنه يحكم بصحة وضوءه إن غسل رجليه.
…قال رحمه الله: ]ومن مسح مسافراً ثم أقام، أو مقيماً ثم سافر أتم مسح مقيم[.(1/312)
…بعد أن بيّن لنا رحمه الله أن المسح مؤقت، ثلاثاً للمسافر بلياليهن ويوماً وليلة للمقيم، شرع في المسائل التي تسمى مسائل الطوارئ، إذا ابتداء المسح مسافراً جعلنا له ثلاثة أيام ولكنه أقام قبل الثلاث، فهل يتم الثلاث أو نحكم بأنه في حكم المقيم؟، والعكس لو أنه أبتداء مسحه مقيماً ثم سافر فهل نحكم باستتمام اليوم وليلة؟، أم أننا نحكم بزيادة المسح له ثلاثة أيام بناءاً على أنه مسافر؟، هذه المسألة راجعة إلى أصل عند العلماء أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل، فالمسح على الخفين رخصة فإذا شككنا هل يتم مسح مقيم أو مسح مسافر فإننا نرجع إلى الأصل ونقول اليقين يوم وليلة، ومن هنا قال ]ومن مسح مسافراً ثم أقام أو مقيماً ثم سافر أتم مسح مقيم[، وهذه المسألة ذكرها جمع من أئمة السلف، والقاعدة هذه مشهورة عند أهل العلم رحمهم الله أن الشك في الرخص يوجب الرجوع إلى الأصل، وهي مستنبطة من أدلة منها قوله عليه الصلاة والسلام في الكلب إذا أرسله على الصيد، "فإن أكل" يعني من الفريسة "فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما امسك لنفسه"، توضيح ذلك أن قتل الصيد عن طريق الكلب ليس بتذكية شرعية على الأصل، ولكنها رخصة ومن هنا لما شككنا هل الكلب صاد لسيده فالصيد حلالا، أو امسك لنفسه فهو ميتة رجعنا إلى الأصل فقال:"فلا تأكل"، ومنع عليه الصلاة والسلام أن يُعْمِلَ الظاهر، مع أن الظاهر أن الذي أرسله سيده وأنه سمى الله - عز وجل - عليه، وأن الظاهر من حاله أنه أمسك لسيده، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"فإن أكل"، فأدخل الشبهة مع أنه قد يأكل شهوة، مع أنه في الأصل منطلق بأمر سيده والصورة صورة صيد موجبة لحل الأكل، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من الاستباحة الرخصة ودر إلى الأصل، كذلك أيضاً هناك أدلة كثيرة في الشريعة تدل على انه إذا حصل الشك وجب الرجوع إلى الأصل خاصة في الرخص، وأن الفقه في الدين أن الرخص لا تستباح إلا(1/313)
ببينة، لأنها خارجة عن الأصول والأصول دلت عليها النصوص على وجه لا لبس فيه ولا غموض فوجب على المكلف أن يلتزمه، فهنا إذا شك هل يتم ثلاثا فإنه سواءً في حال كونه مسافراً أو مقيماً ينتقل إلى السفر رددناه إلى اليقين يوماً وليلة، فنقول إنه يتم مسح مقيم، يتفرع على هذا أنه لو كان مقيماً ومسح يوماً ثم سافر في الليل قبل أن يتم الليلة فإنه يتم تلك الليلة، ثم إذا شاء بعد ذلك يستأنف بمسح السفر ويأخذ حكم المسافر، وكذلك أيضاً لو أنه كان مسافراً فمسح يومين ثم أقام قلنا له انتهت المدة، فينقطع مسحه بالدخول إلى البلد، ومن هنا يلغزون ويقولون المسح من الحدث إلى مثله، وينتقض بالنزع كما ذكرنا وبانتهاء المدة، فيقول لك قائل: تنتقض طهارة الماسح بغير انتهاء لمدة ولا نزع، فتقول هو المسافر إذا أقام بعد تمام مدة الإقامة، لأنه قد يأتي المسافر في نصف اليوم الأول، فيبقى له نصف يوم لأنه يتم مسح مقيم، فقالوا إن بمجرد دخوله إذا أتم المدة يعني يوم وليلة أو يومين أو يوم نصف، فبمجرد دخوله للبلد انقطع مسحه، ومن هنا يقولون إذا تلبس بصفة الإقامة انتهي مسحه ووجب عليه الرجوع إلى الأصل.
…قال رحمه الله: ]ويجوز المسح على العمامة إذا كانت ذات ذءابة ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه[.(1/314)
…ويجوز المسح على العمامة وهي غطاء الرأس، وسميت العمامة عمامة لأنها تعم الرأس بالتغطية بخلاف القلنسوة وهي الطاقية، فإنها تستر بعض الرأس ولكن العمامة تستر أغلب الرأس وبعض الأحيان تستر جميع الرأس، ويجوز المسح على العمامة إذا كانت ساترة لمحل الفرض، يشرع المسح على العمامة لثبوت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، كما في حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - في الصحيح المشهور في غزوة تبوك، "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على العمامة"، وكذلك حديث عمرو بن أمية الضمري - رضي الله عنه - في الصحيح، وغيرهما من الأحاديث في مسحه عليه الصلاة والسلام على عمامته، والقول بالمسح على العمامة مذهب الإمام أحمد رحمه الله وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع ثبوت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، أما عند الشافعية فإنهم يرون أنه لما مسح ناصيته عندهم الواجب ثلاث شعرات، فلا يرون المسح على العمامة أصلاً، قالوا اكتفى بثلاث شعرات ويكون المسح على العمامة يعني فضلاً لا فرضاً، والحنفية يرون أن الواجب مسح ربع الرأس والناصية تعادل ربع الرأس، ومن هنا لا إشكال عند الشافعية والحنفية في مسألة المسح على العمامة، والصحيح قول من قال بمشروعية المسح على العمامة لأننا نرى صحة المذهب القائل بوجوب مسح جميع الرأس وقد بيّنا دليل ذلك، وعلى هذا فإن هذه السنة كالمسح على الخفين، تشرع سواءً كان الإنسان محتاجاً للعمامة أو غير محتاج للعمامة، كما يشرع المسح على الخفين سوءاً كان محتاجاً للبسهما أو غير محتاج، بخلاف الجبيرة فإن المسح عليها لا يكون إلا من ضرورة وحاجة ومن هنا يمسح على العمامة بشروط:
الشرط الأول: أن تكون ساترة لمحل الفرض، إلا ما جرت العادة بكشفه مثل السوالف ومقدم الرأس، وهو صنيع أهل الفضل في كشف مقدم الرأس، ومثل مؤخر الرأس القليل اليسير من الشعر في مؤخر الرأس في العمائم.(1/315)
ثانياً: أن تكون العمامة من عمائم المسلمين، لأنه كانت هناك عمائم لأهل الكتاب وأهل الذمة، كانوا يجعلون لهم عمائم وهي العمامة المقطوعة التي ليس لها عَذَبة، فالسنة في العمامة أن تكون لها عذبة، وهي سنة من هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قول السلف وعلماء الأمة رحمهم الله، ولم يقل أحد من العلماء أنها ليست بسنة لا نعرف أحد يقول أن العمامة ليست بسنة، بل سنة محفوظة ومعروفة ومن هنا أجاز الشرع المسح عليها، لأنها من شعار المسلمين ومن هديهم، فإذا مسح عليها يشترط أن تكون من عمائم المسلمين، وكان أهل الكتاب وأهل الذمة يلبسون عمائم خاصة حتى لا يلتبسوا بالمسلمين، ولو لم يوضع لهم شعار يتميزون به عن المسلمين اختلطوا بالمسلمين فعملوا معاملة المسلمين فكانوا في بلاد المسلمين يشدون الزنار ويلبسون العمامة تمييزاً لهم، وهي سنة عمرية محفوظة عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سيأتي إن شاء الله بيانها في أحكام أهل الذمة إن شاء الله تعالى.
طبعاً العمامة إذا كانت من عمائم المسلمين تكون على صورتين، العمامة المحنكة التي توضع تحت الحنك، وهي موجودة إلى يومنا هذا ومعروفة في بلاد المسلمين، والنوع الثاني العمامة التي لها عذبة "قد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه عمم عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وأسل العذبة بين كتفيه، وقال: هكذا فاعتم يا ابن عوف"، وهذا يدل على سنيتها ومشروعيتها وأن عمائم المسلمين لها العذبة والذئابة.(1/316)
الشرط الثالث: أن تكون طاهرة فلا تكون نجسة، كذلك أيضاً أن لا تكون كاشفة بطبقاتها، في بعض الأحيان تعم الرأس لكنها يقع بين كُوَرِهَا خلل الكشف، فينبغي أن تكون ساترة لمحل الفرض، وعلى هذا إذا استوفت العمامة هذه الشروط جاز المسح عليها، وهل يشترط أن يلبسها على طهارة أو لا يشترط؟، وجهان: قال بعض العلماء لا يشترط فليست كالخف، وقال بعض العلماء يشترط فيها وفي الخف أنه يلبسهما على طهارة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حدث المغيرة في الصحيح:"دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين"، وسينبه المصنف رحمه الله على اشتراط هذا الشرط أصلاً في الخف وقياساً في ما ألحقه بالخف.
قال رحمه الله: ]من شرط المسح على جميع ذلك أن يلبسه على طهارة كاملة[.
…]أن يلبسه على طهارة كاملة[ فلا يجوز أن يمسح على خفيه إلا إذا كان قد لبس الخفين على طهارة كاملة، بمعنى أنه توضأ ثم لبس خفيه، فلو توضأ وغسل رجله اليمنى وادخلها في الخف ثم غسل اليسرى وأدخلها في الخف لم يصح، وقال بعض العلماء يصح لليسرى ولا يصح لليمنى فينزع اليمنى ثم يلبسها بعد تمام الطهارة، وعلى هذا لابد وأن يتم الطهارة للرجلين والقدمين، ولذلك لا يتجزأ الوضوء ولا يتعلق حكم الطهارة فيه بعضو دون آخر لأنه عبادة كاملة ومن أهل العلم من قال إن قوله "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" أنه إذا طهر اليمنى وادخلها أجزاءه والصحيح ما ذكرناه، لأنه لا توصف إحداهما بالطهارة إلا بعد تمام الطهارة كاملة، وعليه فإنه لابد من أن يستتم الطهارة للرجلين إذا لبس الخفين.
- - - - - الأسئلة - - - - -
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ: ما الحكم فيمن نوى الوضوء بعد ما غسل وجهه؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.(1/317)
فيجب أن تسبق نية الوضوء أول فرض من فرائضه، وبينا أن من غسل وجهه ولم يكن قد نوى الوضوء فإنه لا يصح ذلك الغسل، ويجب عليه أن يعيد غسل وجهه، لابد في نية الوضوء أن تكون سابقة لأول فرض وهو غسل الوجه، وعلى هذا فلو تذكر النية أثناء غسله لوجه لم يجزئ، بل لابد وأن تسبق الغسل، حتى يقع الغسل كاملاً بعد نية صحيحة معتبرة والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ: من انغمس بكامل جسده في مسبح ماء، فهل يحتاج إلى غسل كل عضو على حدا؟، وهل يسقط الترتيب حينئذ؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
من انغمس واغتسل غسلاً كاملاً ونوى رفع الحدث الأصغر والأكبر أجزاءه، ولا يشترط فيه الترتيب لمكان الاندراج، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل ولم يتوضأ بعد غسله وإنما صلى"، فدل على اندراج الوضوء تحت الغسل وأنه لا يشترط الترتيب، وعليه فإنه إذا غسل بدنه غسلاً كاملاً ولم يمس عضوه بعد تمام هذا الغسل أو أثناء الغسل، فإنه يحكم إذا نوى اندراج الطهارة الصغرى تحت الكبرى فإنه يجزيه ويصح له أن يصلي والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: ادركتني إقامة الصلاة وأنا أطوف حول البيت، فصليت الفرض ثم أكملت الطواف، والسؤال هل استأنف هذا الشرط أم اكمل من حيث وقفت؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/318)
وجهان للعلماء بعض العلماء يقول إذا أقيمت الصلاة وأنت في الطواف ترجع إلى المكان الذي قطعت منه، وبضعهم يقول إنك ترجع من أول الشوط، وهذا هو الأحوط أنك ترجع من أول الشوط، ولكن القول الذي يقول إنك ترجع إلى نفس المكان له قوة من حيث الأصل، ولذلك لما لم يجب أن يعيد من أول الطواف لم يجب أن يعيد من أول الشوط، وعلى هذا فلو أقيمت الصلاة خاصة أيام الزحام فوقفت في نفس المكان وكبرت وصليت ثم قمت وأكملت في نفس مكانك أجزاءك، لكن يحتاط الإنسان والأفضل أن يبدأ من أول الشوط، وإذا ابتدأ من نفس المكان فإنه يصح شوطه وطوافه والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ: هل اضطباع الرداء في طواف القدوم يكون في السبعة الأشواط كلها أو في الثلاثة الأولى منها فقط؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/319)
هذه المسألة اختار جمع من العلماء أن يبقى مضطبعاً حتى يتم طوافه، وهذا مبنى على مسألة الاستصحاب قالوا "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حفظ عنه أنه اضطبع ثم رَمَلَ الثلاثة الأشواط الأول"، ولم يحفظ عنه أنه غير حاله، فيستصحب إلى تمام الطواف، ومن أهل العلم من قال الاضطباع مقترن بالرَّمَلَ، وعلى هذا اضطبع عليه الصلاة والسلام حتى يخف عليه الرَّمَلَ، فإذا انتهى من الرَّمَلَ أعاد رداءه كما كان يعني على كتفيه، وعلى كل حال كلى القولين له وجهه، والقول الأول أقوى من حيث الأصول، بل حتى ذهب بعض العلماء إلى أنه يصلي الركعتين مضطبعاً، وهذا مبنى على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفظ عنه أنه غير من حاله عليه الصلاة والسلام، والمسألة محتملة من بقي مضطبعاً وهو يطوف لا ينكر عليه لأن له وجه من السنة، ومن رد الرداء لا ينكر عليه لأن له وجهاً من السنة، وإذا صلى ركعتي الطواف والرداء على أحد عاتقيه لم يكن مرتكباً للمحظور، لأن نفس الطواف الطواف بالبيت صلاة وقد شرع فيه هذا الاضطباع، والمنهي عنه أن لا يكون على العاتق شيئاً، أما إذا كان على أحد عاتقيه فقد أجزاءه، لأن نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي الرجل وليس على عاتقيه، أما إذا كان مضطبعاً فمن المعلوم أنه يكون على عاتقه طرفا الرداء، وعلى هذا فلا ينكر على من اضطبع ولا ينكر على من رد الرداء والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ: هل المسح على العمامة له وقت محدد كالخف؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
لا تحديد في مسح العمامة، وهذه من الفوارق بين مسح الخفين ومسح العمامة، من الفوارق الخفان لا يختصان بالرجال دون النساء، العمامة تخص الرجال دون النساء، من الفوارق تعميم العمامة بالمسح دون تعميم الخفين، من الفوارق هذه المسألة التي ذكرت الثالثة التي أشار إليها السائل والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :(1/320)
فضيلة الشيخ: ما حكم صلاة تحية المسجد في أوقات النهي؟، فمثلاً إذا دخلت المسجد قبل آذان المغرب فهل أصلي تحية المسجد أم لا؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
أوقات النهي نوعان موسعة ومضيقة، المضيق عند الطلوع عند طلوع الشمس، عند غروب الشمس عند انتصاف الشمس في كبد السماء وجهاً واحداً عند العلماء لا تصلى النافلة، سواءً كانت ذات سبب أو غيرها، لأن هذا الوقت وقت عبادة أهل الشرك، ونهي عن ما بعد الصلاة خوفاً وسداً من الذريعة لمشابهتهم، أن الوقت نفسه جزم غير واحد من العلماء أنه خارج عن موضع النزاع، موضع النزاع في الوقت الموسع، الذي هو ما بين صلاة الفجر إلى أن تتحين الشمس الطلوع وكذلك في العصر، فعلى هذا ينبغي أن يعلم أن أثناء الطلوع وأثناء الغروب لا صلاة، قال - صلى الله عليه وسلم -:"فإذا طلعت فأمسك عن الصلاة"، وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يصلي أثناء الطلوع وأثناء الغروب وأثناء انتصاف الشمس في كبد السماء وهو وقت انتصاف النهار، أما الأوقات التي ما بين الطلوع وما بين صلاة الصبح وصلاة العصر والغروب فالصحيح أنها لا تصلى ولذلك "نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة بعد صلاة العصر".(1/321)
ثانياً: أن كعب ابن مالك ثبت عنه في الصحيح أنه لما دخل في قصة توبته،"أنه دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وجلس بين يديه وبشره بتوبة الله عليه، ولم يذكر ركعتي التحية"، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:"للرجل وقطع خطبته، وقال له: قم فأركع ركعتين"، فهذا يدل على أن ما بعد صلاة العصر والفجر ممنوع من النافلة فيه، ويدل على هذا أنه إذا تعارض نصان عمل الخلفاء الراشدون أو أحدهم بواحد منهما قدم الذي عمل به الخلفاء الراشدون أو أحدهم، وكان عمر ابن الخطاب يضرب من يراه يصلي بعد العصر والفجر، وكان لا يصلي الركعتين من ذوات الأسباب، ولذلك طاف بالبيت كما روى عنه مالك في موطأه إنه طاف طواف الوداع بعد الفجر فأخر ركعتي الطواف إلى ذي طوى، لأنه أنتظر حتى طلعت الشمس فصلاهما، وهو المُحدَّث المُلْهَم المأمور باتباع سنته.
ثالثاً: أنه إذا تعارض أمر ونهي قدم النهي على الأمر، "النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لا صلاة بعد الصبح" وهذا مقام نهي، وقوله "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع" مقام أمر، والنهي مقدم على الأمر لقوله "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا" وهذا هو أصح قولي العلماء والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
تابع باب المسح على الخفين وباب نواقض الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]ويجوز المسح على الجبيرة إذا لم يتعدى بشدها موضع الحاجة إلى أن يحلها[.
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.…أما بعد.(1/322)
فقد شرع المصنف رحمه الله في نوع جديد من المسح وهو المسح على الجبائر، والمسح في الوضوء ينقسم إلى مسح الرخصة ومسح العزيمة، فأما مسح الرخصة فإنه يشمل ثلاثة أنواع، وأما مسح العزيمة فإنه يراد به نوع واحد، فالمسح على سبيل الرخصة ذكر العلماء أنه المسح على الخفين وعلى الجوربين وعلى العمامة، ومن أهل العلم من جعل المسح على الخفين مع الجوربين ممسوحاً واحداً ثم أضاف المسح على الخمار، على القول بجواز المسح على الخمار كما جاء عن أم سلمة رضي الله عنها أنها مسحت على خمارها وهو قول طائفة من السلف رحمهم الله، بناءاً على ذلك فالمسح على سبيل الرخصة يشمل المسح على الخفين والجوربين والمسح على العمامة والمسح على الخمار في أصح قولي العلماء رحمهم الله، وأما مسح العزيمة فهو المسح على الجبيرة، وكل منهما يختص بخصائص، فالمسح إذا كان على سبيل الرخصة وهو المسح على الخفين يتأقت فيمسح المقيم يوماً وليلة ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن كما مر معنا لحديث صفوان بن عسال - رضي الله عنه -، وحديث علي أيضاً في توقيت المسح على الخفين، وأما المسح على الجبيرة فإنه لا يتأقت، واختلفوا في المسح على العمامة، هل يتأقت كما يتأقت المسح على الخفين والجوربين وجهان للعلماء رحمهم الله، كذلك أيضاً بالنسبة للمسح على الخفين لا يشترط أن يستوعب الخفين بالمسح، ولكن مسح العزيمة يشترط استيعاب الجبيرة إذا كانت على محل الفرض، فمثلاً إذا كانت الجبيرة على الساعد، فإنه يجب عليه أن يستوعبها كاملة، بخلاف المسح على الخفين فإنه لا يجب مسح باطنه ولا يشترط استيعاب الخفين بالمسح، واختلف في العمامة هل تلتحق بالجبيرة أو تلتحق بالجوربين والخفين على وجهين عند العلماء رحمهم الله، وإن كان المشهور والأكثرون ممن يقول بالجواز على أنه لا يستوعبها لصعوبة الاستيعاب.(1/323)
كذلك أيضاً بالنسبة للمسح على الخفين ومسح الرخصة مذهب طائفة من العلماء أنه يشترط فيه الطهارة، أما الخفان فالحديث واضح في هذا "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين"، وأما مسح العزيمة وهو المسح على الجبيرة ففيه وجهان: من أهل العلم من قال يجب أن يتطهر قبل أن يشد الجبيرة ثم يشدها وهو متطهر قياساً على الخفين، ومن أهل العلم من لم يشترط الطهارة وإذا وَسَع الإنسان أن يتطهر تطهر وإذا لم يسعه فإنه لا تشترط الطهارة، كذلك أيضاً مسح الرخصة يشترط في الخفين أن يستوعبا محل الفرض، ولكن مسح العزيمة وهو المسح على الجبائر لا يشترط أن يستوعب محل الفرض، لأنه ربما كانت الجبيرة على نصف اليد أو ربع اليد أو كانت الجبيرة على بعض القدم، ولكن الخفين لابد من استيعابهما لمحل الفرض، وعلى هذا شرع المصنف رحمه الله في بيان المسح على الجبائر، والجبيرة كانت ولا زالت إلى يومنا هذا تستعمل في شد المواضع المكسورة، فتوضع الأخشاب ملفوفة بالقماش على الموضع المكسور حتى ينجبر ويرجع إلى حالته الطبيعية، والجبيرة مضطر إليها وليست على سبيل الرخصة وهي من الحوائل، فمسألة الجبائر مسألة الحوائل، فالحوائل منها ما أذن به الشرع ومنها ما لم يأذن به الشرع، فالحوائل على محل الفروض في الغسل وفي الوضوء يعني في الطهارة إن كانت مأذوناً بها شرعاً فلا إشكال كما في الجبيرة، وإن كانت غير مأذون بها شرعاً مثل الدهان الذي يعزل الماء عن البشرة، ومثل اللصقة ومثل اللفافة التي توضع على الجرح من دون وجود حاجة إلى ستر الجرح، أو يتجاوز بها محل الحاجة، هذه كلها ممنوع منها شرعاً في الطهارتين الطهارة الصغرى والكبرى، بيّن المصنف رحمه الله أنه يجوز المسح على الجبيرة في قول جمهور العلماء رحمهم الله والأئمة، والمسح عليها إما من جهة الأثر أو من جهة النظر أو هما معا، فمن جهة الأثر في قصة الرجل حديث جابر - رضي الله عنه - وغيره، "أن رجلاً أصابته جراح، وكان في سرية بعثها(1/324)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأصابته جراح وأصابته جنابة، فسأل أصحابه هل من رخصة فلم يرخصوا له وأمروه أن يغتسل، فاغتسل فمات، فقال - صلى الله عليه وسلم -: قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذ جهلوا إنما شفاء العي السؤال"، وبين عليه الصلاة والسلام في الرواية الأخرى أنه كان يكفيه أن يشد موضع الشجة التي أصيب بها ثم يغتسل ويمسح عليها، وهذا الحديث صححه ابن السكن وغيره ومتنه صحيح، ولكن سنده فيه ضعف، ومذهب جمهور العلماء على ضعفه وعدم ثبوته، لكن هناك من أهل العلم من صححه كما ذكرنا ابن السكن وغيره، ومعنى الحديث يدل على أن من أصابته جراح ولا بد من ستر هذه الجراح، أو كسور ولا بد من سترها أنه يسترها ويغسل بدنه ثم يمسح على هذا الموضع المستور، وبناءاً على ذلك الجبيرة على نوعين، طبعاً إما أن يستر أو يوضع الحائل لوجود الكسر كما في الجبيرة، وحينئذ إذا وجد كسر وأردنا أن نجبره ونضع الجبيرة فلا بد للطبيب من أن يتقيد بالضوابط الشرعية، الحالة الثانية أن تكون الحوائل والقماش واللفافة لوجود الجراح لا لوجود الكسر، فأما إن كانت الحوائل من أجل الجبيرة فلا بد من وجود شروط أولها: وجود الحاجة والضرورة إلى ستر هذا الموضع بالجبيرة، ولاشك أن الكسر لابد من جبره، ولا ينجبر إلا بهذه الجبائر التي هي الخشب الذي يوضع ملفوفاً وهذا يقتضي الستر، وبناءاً على ذلك إذا وجدت الحاجة والضرورة فلا إشكال، ثانياً أن يتقيد بموضع الحاجة، فإذا كان الكسر له حالتان إن كان الكسر في موضع الوضوء في عضو من أعضاء الوضوء، سواءً كان ممسوحاً مثل الرأس أو كان مغسولاً كالقدمين والساعدين والكفين، فالواجب أن يتقيد بموضع الحاجة فلا يستر ما لا يحتاج إليه، فإن كانت الجبيرة تحتاج إلى خمسة أصابع معترضة، لا يجوز أن يزيد إلى ستة فأكثر، بل عليه أن يتقيد بالخمسة، في بعض الأحيان تكون الجبيرة تحتاج إلى ثلاث أصابع في الأصل، وتكون الإصبعان بمثابة الاحتياط(1/325)
بحيث أنها تعين على الجبر ويتحقق بها الجبر، وفي هذه الحالة يرخص له إذا قال الأطباء لا بد من هذه الزيادة، لو قال الأطباء لا بد من وجود هذه الزيادة لأن الإذن بالشيء إذن بلازمه، فلما أذنا بالجبيرة وكان من لازم الجبيرة وجود هذه الزيادة شرعت هذه الزيادة ولا حرج ولا بأس، لكن أن يزيد دون وجود حاجة ودون وجود ضرورة فإنه في هذه الحالة يكون آثماً شرعاً، والقاعدة في الشريعة أن ما أبيح للضرورة والحاجة يقدر بقدرها، ومنها هذه المسألة أنه إذا أبيح لحاجة الجبيرة فإنه يقدر بقدر تلك الحاجة ولا يزاد عليها، كذلك أيضاً يشترط في هذه الجبائر أن تكون طاهرة فيكون القماش طاهراً، ولا يشد بجائر نجسة أو متنجسة هذا على الأصل لأنه يحتاج إلى الطهارة، كذلك يشترط أيضاً أن يكون بقاء هذه الجبيرة بقدر الزمان المعتبر لاستصلاح الجرح لاستصلاح الكسر، فإذا زاد عليه سقطت الرخصة ورجع إلى الأصل وهو عزيمة غسل الموضع، هذا بالنسبة للمسح على الجبيرة قال رحمه الله: ]يجوز المسح على الجبيرة إذا لم يتجاوز بشدها موضع الحاجة[ على ما ذكرناه.
…قال رحمه الله: ]والرجل والمرأة في ذلك سواء[.(1/326)
…بقي ستر الجراح، إذا جرح الإنسان في محل الفرض الوضوء، أو جرح في جسده واحتاج أن يغتسل من الجنابة، إذا كان الجرح يتضرر بوصول الماء إليه ولا يضره المسح فإنه يمسح يده مبلولة على الجرح، وحينئذ ينّزل هذا المسح منزلة الغسل، كما نزُّل المسح على الجبيرة منزلة غسل الموضع نفسه، هذا إذا كان لا يؤذيه ولا يضره أن يمسح بالماء، إذا قال الأطباء لا بد من ستر هذا الموضع ولابد من ستر هذا الجرح كما في العمليات الجراحية، وإذا انكشف يتعفن وإذا مسحه بالماء يأتي الصديد والقيح وربما يتلوث وربما يتعفن شرع ستره، ثم إذا شرع ستره الحقيقة لا يتجاوز محل الحاجة والضرورة، فإذا كان الجرح مثلاً في باطن الكف وكان يحتاج إلى ستر باطن الكف فقط لا يجوز أن يلف لفافة على الكف طاهراً وباطنا، وهذا أمر يتساهل فيه أهل الطب كثيراً، والمفروض على الممرضين والممرضات الذين يقومون بالضماد أن يراعوا هذه الأصول الشرعية، ومما يجب أن ينبه عليه أن الناس ضعفت عقائدهم، بل فسدت عقائد بعض الناس وساءت ظنونهم بالله - عز وجل -، فالناس أدخل عليهم في اليقين بالله - عز وجل - بمجرد أن يصيبه أقل خدش قيل له تأتيك البكتيريا يأتيك التسمم يأتيك ويحصل لك ويحصل لك، المبالغة والغلو في تعاطي الأسباب وسوء الظن بالله - عز وجل - دون ضوابط شرعية حتى لربما أخل ذلك بالحقوق الواجبة شرعاً ومنها مسألتنا، فالمنبغي أن لا نبالغ في هذه الأسباب، وأن نعلم أن السبب لا يمكن أن ينفع إلا بأمر الله - عز وجل -، ولا يمكن إذا كان سبب ضر أن يضر إلا بأمر الله - عز وجل - وقدره، هذا أمر ينبغي للمسلم أن ينتبه له، وكان الرجل تصبيه الطعون والجراحات في الحروب ويقاتل ويجاهد وجرحه مفتوحٌ ولربما بقرت بطنه وخرجت أمعاؤه وردها بنفسه وشد لفافة عليها، ما كان الناس عندهم هذا الخور وهذا الجبن وهذا الخوف وهذا الضعف، ولذلك سلط الله عليهم على نيتهم، فتجد - نسأل الله السلامة والعافية - الناس(1/327)
تنتشر بينهم هذه المصائب ويحصل بينهم هذا الشيء بسبب ضعف اليقين، وضعف التسليم لله - عز وجل - والإيمان، والمنبغي على المسلم أن يكون عنده إيمان وصدق يقين في الله - عز وجل -، وحسن ظن بالله - سبحانه وتعالى - فحسن الظن بالله خير، ولذلك يقول الله تعالى:"أنا عند حسن ظن عبدي بي"، فالمبالغة في ستر الجرح مثلاً إذا كان من أعضاء الوضوء ينبغي أن ينبه الممرض وتقول له لا تستر الكف كلها، وإذا كان موضع وضوء يضع الضماد على موضع الوضوء ثم تمسح عليه بالماء، هذا من حيث الأصل الشرعي أما أن يستر كل جرح وتستر أعضاء الوضوء ويتساهل فيها، ويمسح على كل ساتر وحائل فهذا خلاف الأصل الشرعي ومن فعل ذلك لزمه إعادة الصلوات، لان وضوءه غير صحيح ولم يتوضأ كما أمره الله لأن هذا الموضع لم يأذن الله بستره، وهذا الحائل لم يأذن الله - عز وجل - بالمسح عليه، وحينئذ يجب عليه إعادة صلواته إن أخل بهذا الأصل الشرعي.
…قال رحمه الله: ]والرجل والمرأة في ذلك سواء[.
…]والرجل والمرأة في ذلك[ أي فيما تقدم من المسح على الخفين، والمسح على الجوربين، وأحكام المسح على الجوربين والخفين من التأقيت، ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم، الرجل والمرأة في هذا على حد سواء، إلا أن المرأة لا تمسح على العمامة، لأن العمامة شعار الرجل ولباس الرجل، والمرأة إذا لبست العمامة تشبهت بالرجال، ولعن الله المسترجلات، فالمرأة إذا استرجلت تسترجل بالقول وتسترجل بالفعل، ومن استرجال الفعل الاسترجال في الهيئة والشارة، أن تلبس اللباس الذي يختص بالرجل أو تفعل الأفعال التي تختص بالرجل وحينئذ يكون من التشبه المحرم شرعاً.
…قال رحمه الله:] إلا أن المرأة لا تمسح على العمامة[.
…لما ذكرنا.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب نواقض الوضوء[.(1/328)
…]باب نواقض الوضوء[، النواقض جمع ناقض، ونقض الشيء إذا هدمه ولا يكون النقض إلا بعد الوجود والبناء، فيقال نقضت الخباء ونقضت الجدار، لأن النقض يحتاج إلى منقوض، والمنقوض يحتاج إلى إيجاد حتى يصدق عليه الوصف بكونه منقوضاً، والنقض في لغة العرب يكون في المحسوسات والمعنويات، تقول نقضت الجدار هذا نقض حسي، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة ٍ} ، فهذا نقض حسي نقض الغزل، كذلك يكون نقضاً معنوياً كما وصف الله - عز وجل - الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وهذا نقض معنوي، ونقض الوضوء هنا نقض معنوي، وليس نقضاً حسياً لأن الوضوء صفة حكمية، يقال فلان متوضئ على أنه صفة الطهارة، وقد بينا أن الطهارة صفة معنوية مقدر قيامها بالمحسوسات قيام الأوصاف الحسية بموصوفاتها، وعلى هذا يقول المصنف رحمه الله: ]باب نواقض الوضوء[، إذاً مناسبة هذا الباب واضحة، لأنه رحمه الله بعد أن بين لنا صفة الوضوء شرع في بيان ما ينقض هذا الوضوء، وهذا من الترتيب المنطقي وفيه تأسي بالكتاب لأن الله ذكر الأحداث بعد الوضوء، ومن أهل العلم من قال إن الوضوء جاء بعد الحدث على التقدير في آية الوضوء، وروى الإمام الشافعي في سنده عن زيد ابن أسلم أنه قال: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط أو لا مستم النساء فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، يعني جعل في الآية تقدير ومقدم ومؤخر، هذا تقديره رحمه الله وهو من أهل القرآن رحمة الله عليه، ولذلك أشار الإمام النووي إلى هذا التقدير واحتج به، وعلى هذا جعل النواقض مقدمة على الوضوء على أن الحدث يسبق الوضوء يسبق الطهارة، وأياً ما كان ظاهر الآية طبعاً في السياق على أنه أخر الأحداث عن الوضوء، فإذا أخرت رُعِي التقدير من جهة النقض، يعني إذا قلنا إن النواقض في الآية { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ(1/329)
النِّسَاءَ} على أن المراد بها نواقض فحينئذ تكون بعد وجود الأصل، ويكون الترتيب يراعى فيه وجود الشيء ثم نقضه، وأما على التقدير الذي ذكر فهذا مراعاة للوقوع، أن الإنسان أول شيء مطالباً أن يتطهر من الخبث ثم بعد ذلك يتطهر من الحدث، وبينا هذا فيما تقدم في باب الاستطابة، وقلنا إن المصنف رحمه الله قدم باب الاستطابة لهذا المعنى.
…قوله رحمه الله: ]باب نواقض الوضوء[، أو الأحداث التي توجب الحكم بانتقاض طهارة الوضوء، والنواقض تنقسم إلى قسمين: نواقض للطهارة الصغرى، ونواقض للطهارة الكبرى، وهذه النواقض جمعها المصنف لاختلافها وتعددها، فهناك نواقض للوضوء مثل البول الخارج من السبيلين، وهناك مما هو حدث، كالبول والغائط والريح، وهناك نواقض من غير جنس الأحداث ولكنها مظنة الحدث، مثل الجنون والنوم فإنها مظنة الحدث وليس بحدث، واللمس بشهوة ومس الذكر هذا ليس بحدث بذاته ولكنه مظنة الحدث، وهناك ما ينقض الوضوء تعبداً طبعاً على خلاف في هل هو معلل أو تعبدي، مثل أكل لحم الجزور، وهناك ما ينقضها تعبداً مثل الردة، هذا بالنسبة للنواقض جمعها المصنف رحمه الله لاختلاف أنواعها، يقول رحمه الله: ]باب نواقض الوضوء[، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بنواقض الطهارة الصغرى أي طهارة الوضوء.
…قال رحمه الله: ]وهي سبعة[.(1/330)
…إجمال قبل البيان والتفصيل وهذا أسلوب القرآن أنه يجمل قبل أن يبين ويفصل، وفائدة هذا الأسلوب عدة فوائد منها التشويق والتحبيب، فأنت حينما تقول نواقض الوضوء سبعة، يشتاق الإنسان إلى معرفة هذه النواقض، لكن إذا قلت ينقض الوضوء الخارج من السبيلين تبدأ بها مباشرة يكون الوضع مختلفاً، وهذا الأسلوب للتشويق والتحبيب ينبغي مراعاته حتى في كتب العلم وبيان العلم، ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول "أتدرون من المفلس؟"، كان بالإمكان أن يقول المفلس من يأتي يوم القيامة، لكن قال:"أتدرون من المفلس؟، قالوا: يا رسول الله المفلس فينا من لا دينار له ولا درهم، قال: إنما المفلس من يأتي يوم القيامة… إلى آخر الحديث"، هذا تشويق وتحبيب، كذلك أيضاً أسلوب القرآن على هذا ولذلك الله - عز وجل - يقول : { الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ - يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } ، فقد كان بالإمكان أن يقول القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، ولكنه كرر السؤال { الْقَارِعَةُ - مَا الْقَارِعَةُ - وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ } ، فما تقرأ آية إلا وأنت تشتاق، فإذا جاءت الآية الثانية زادتك شوقاً إلى معرفة هذا الشيء، ومن هنا العلماء يعتنون يقولون: النواقض سبعة، وينتقض هذا الحكم من سبعة وجوه، ومن ثلاثة أوجه ويرد عليه ثلاثة أوجه، كان بالإمكان أن يأتي بها مباشرة هذا أسلوب معروف عند العلماء، ثانياً من فوائد هذا الأسلوب أنه يقطع السآمة والملل عن القارئ وطالب العلم، فهو إذا قيل له إن نواقض الوضوء سبعة، إذا قرأ ناقضاً تهيأ للناقض الثاني دون ملل، ثم الثالث والرابع فإذا وصل إلى الناقض الخامس أحس أنه قطع شوطاً، فاشتاق إلى الإتمام والكمال، لكنه لو سردت عليه تباعاً ربما لا يصل إلى الناقض الثالث أو الرابع حتى يمل، لكن حينما يعلم أنها سبعة ويمضي من ثلاث أربع يحس أنه قطع(1/331)
شوطاً ينقطع عنه الملل، وتندفع عنه السآمة بهذا التهيؤ السابق بذكرها إجمالاً قبل بيانها وتفصيلها.
…قال رحمه الله: ]الخارج من السبيلين[.
…]الخارج من السبيلين[، جنس الخارج والخروج ضد الدخول، والخارج من السبيلين خروج الشيء من القبل والدبر لابد فيه من الانفصال - وسنبين إن شاء الله تعالى - والسبيلان مثنى سبيل وأصل السبيل الطريق، والمراد هنا مسلك القبل ومسلك الدبر، أي أن يخرج من القبل أو يخرج من الدبر ما خرج من قبل أو دبر، ولما قال: ]السبيلين[ شمل سبيل الرجل وسبيل المرأة، لأن القبل والدبر في الرجال والنساء على حد سواء، ويخرج من القبل أشياء تختص بالرجال وأشياء تختص بالنساء، وأشياء مشتركة بين الرجال والنساء، ويخرج من الدبر أشياء غالباً ما تكون مشتركة بين الرجال وبين النساء، فقبل الرجل وهو الذكر يخرج منه أحد عشر ناقضاً على تفصيل عند أهل العلم رحمهم الله، البول والودي والمذي والمني، والدم والقيح والصديد والحصى والدود والشعر والريح، هذه أحد عشر ناقضاً كلها تخرج من قبل الرجل، البول والودي والمذي والمني، والدم والقيح والصديد والحصى والدود والشعر والريح، هذه كلها تخرج من قبل الرجل، منها ما هو خارج معتاد على سبيل الصحة مثل البول، ومنها ما هو خارج غير معتاد إما على سبيل الندرة كالحصى، وإما أن يكون على سبيل المرض كالدود إذا تعفن جوفه وخرج منه الدود منه قبله، أو تعثر مسلكه وخرج منه الدود من قبله، هذه النواقض الأحد عشر بالنسبة للرجال، بالنسبة للنساء في قبل المرأة البول ورطوبة فرج المرأة، ودم الاستحاضة وأيضاً دم الحيض ودم النفاس، والولد والمني والحصى والدود والريح والشعر وهو الحادي عشر، هذه أحد عشر خارجاً من قبل المرأة أيضاً.(1/332)
هذه الأشياء منها ما يختص بالرجل ومنها ما يختص بالمرأة ومنها ما هو مشترك بين الاثنين، فما يختص بالنساء مثل دم الحيض ودم النفاس على أنه ناقض للطهارة الصغرى والكبرى معاً، وهو أحد الوجهين عند أهل العلم رحمهم الله، والولد على القول بأنه يوجب الطهارة أن خروجه يوجب الطهارة، فهذا مما يختص به النساء، بالنسبة للرجل الودي قيل إن هذا يخرج في الرجال غالباً أو الماء الأكدر الذي يخرج قطرات عقب البول، ومنها ما هو مشترك بين الاثنين على سبيل الصحة كالبول، على سبيل المرض مثل الحصى والدود، أما بالنسبة لتفصيل الحكم بالنسبة للخارج من القبل، الخارج من الدبر أيضاً هناك أشياء المشترك الذي هو الغائط الذي هو البراز، ودم النواسير لأنه في بواسير ونواسير، فالبواسير تكون من خارج، إما على حلقة الدبر وهذا الغالب أو خارج حلقة الدبر، والنواسير من داخل الدبر، ودم النزيف من الداخل والقيح إذا تعفنت الجروح الداخلة وصديدها، وكذلك أيضاً يخرج من الدبر الحصى والدود هذه كلها تخرج من سبيل الدبر في الرجل والمرأة على حد سواء.(1/333)
أما بالنسبة للخارج من القبل أولاً البول، وهو فضلة البدن من الشراب، السائل المعروف وهو فضلة البدن من المشروبات، حكمه أنه نجس بإجماع، ويوجب طهارة الوضوء قولاً واحداً عند أهل العلم يعني بالإجماع، والدليل على أن البول ينقض الوضوء الكتاب والسنة والإجماع، أما دليلنا من الكتاب فقوله تعالى : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } ، فقوله : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } عمم الله - عز وجل - فيه، كما احتج به غير واحد من أهل العلم رحمهم الله، وبالمناسبة هذه الآية آية الوضوء أجتمع بعض العلماء فاستخرج منها ما لا يقل عن ثمان مائة مسألة، ومنها مسائل نواقض الطهارة، وقال ابن العربي رحمه الله: وقد حكى هذا واجتمع علماؤنا بفاس فلم يقدروا إلا على استخراج ست مائة مسألة يعني بالكد منها، وهي من أعظم آيات القرآن وآيات القرآن كلها عظيمة في الدلالة على الأحكام والمسائل، منها هذه المسألة فإن الله تعالى يقول: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } ، فأطلق المحل وأراد ما يكون فيه، والغائط في الأصل المكان المطمئن وإنما المراد به ما يخرج من الإنسان، هذه الآية الكريمة إذا جلس الإنسان لقضاء حاجته إما أن يبول أو يتغوط أو هما معاً، فالآية شملت الخارج ولذلك يحتج بهذه الآية على نقض الوضوء بالبول والغائط بالخارج من السبيلين، فدلالته على البول كما ذكرنا، أما الدليل من السنة فحديث حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - وعن أبيه في الصحيحين، قال:"أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائماً ثم توضأ"، فتوضأ عليه الصلاة والسلام عقيب البول، كذلك أيضاً حديث صفوان بن عسال المرادي - رضي الله عنه - في السنن وهو حديث صحيح، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ويوم وليلة للمقيم، من بول أو نوم أو(1/334)
غائط"، فجعل الثلاثة ناقضة للطهارة الصغرى، ثم قال:"لكن من جنابة"، فشرك بين البول والنوم والغائط، وهذا يدل على أن البول ينقض الوضوء، وأجمع العلماء رحمهم الله على أن البول ناقض للوضوء.
المسألة الثانية هذا الناقض وهو البول يستوي فيه القليل والكثير، فلو أن شخصاً توضأ ثم خرجت منه قطرة أو بعض قطرة بعد الوضوء نقضت إجماعاً، فلا يشترط فيه أن يكون كثيراً، فقليله وكثيره على حد سواء، ثم إن هذا البول إما أن يكون على الوجه المعتاد، وإما أن يخرج عن الاعتياد، إذا خرج عن الاعتياد بمرض، أو استرسال في البول، إن خرج على سبيل المرض كمن به سلس، فُصِّل في حكمه في نقض الوضوء، فإن كان الذي به سلس البول لا يستطيع أن يحصل أثناء وقت الصلاة وقتاً يصلي فيه دون خروج البول، فإنه يرخص له أن يتوضأ وضوءاً واحداً عند دخول كل صلاة، مثاله شخص ابتلي بمرض فأصابه سلس البول، أو تعاطى أدوية فأصبح معه سلس البول لا يستمسك بوله، فنقول إن كان يستطيع أن يجد وقتاً يصلي فيه دون أن يخرج البول يقول نعم، إذا -أكرمكم الله- بال وأمضى عشر دقائق، أو ربع ساعة يمكن يحصل ربع ساعة بعد البول دون خروج خارج، نقول: توضأ بسرعة ثم صلي ولو ترك الجماعة، لأن شرط الصحة مقدم على الجماعة، وحينئذ يصلي ويجب عليه أن يتعاطى الأسباب، كذلك لو أمكنه حفظ البول مثل شد رأس الذكر، قول بعض العلماء رحمهم الله قياساً على المستحاضة لزمه، لكن إذا قال هذا مسترسل معي وحبس البول يضره، أو لا يمكنه حبس البول ومنعه، فحينئذ نقول إذا أذن آذان الظهر توضأ، يتطهر طهارة الحدث والخبث ثم يصلي في وقت الظهر فريضة الظهر ونوافلها والنوافل المطلقة حتى يؤذن عليه العصر، فإذا أذن انتقضت طهارته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المستحاضة بهذا، وفي صحيح البخاري "أمرها أن تتوضأ لكل صلاة"، يعني المستحاضة، والمستحاضة في حكم من به سلس البول وسيأتينا هذا إن شاء الله في باب الحيض، هذا(1/335)
من حيث الأصل أن البول ناقض لكن إن خرج عن الصورة المعتادة ولم يمكنه أن يحصل وقتاً للصلاة بدون خروج البول فإنه يكون حكمه حكم من به سلس يتطهر بدخول وقت كل صلاة.
ثانياً: الودي، الودي ناقض من نواقض الوضوء، والمراد بالودي هو الماء الأكدر الذي يخرج عقيب البول قطرات، يعني ليس كالبول يخرج دفعة وإنما يخرج قطرات، بعض الأحيان قطرة بعض الأحيان قطرتين على حسب حالة الشخص، هذه القطرات ليست متصلة بالبول غالباً، إنما تأتي عقيب البول بفاصل، إما لضعف الغدة في الاستخراج المهم أن هذا يسمى بالودي وحكمه حكم البول في قول جماهير العلماء من أئمة السلف والخلف، ولذلك روى البيهقي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: في الودي الوضوء، ولا مخالف لهما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانعقد على هذا سواد الأمة الأعظم أن الودي كالبول، وآخذ حكم البول بل بعض العلماء يقول: الودي والبول كالشيء الواحد، وإنما تأخر زمانه في الخروج ولكنه في الحقيقة بول وآخذ حكم البول.(1/336)
ثالثاً: المذي: وهو السائل اللزج أو الماء اللزج الذي يخرج عند الشهوة، من التقبيل وانتشار العضو والتفكر ونحو ذلك، فهذا المذي فيه الوضوء، يعني يوجب الوضوء إذا خرج، والإجماع منعقد على ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل في حديث علي والمقداد وعمار بن ياسر رضي الله عن الجميع في قصة علي، قال - رضي الله عنه -:"كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد أن يسأل فسأله فقال: فيه الوضوء"، في ألفاظ "توضأ واغسل ذكرك"، وفي لفظ "توضأ واغسل مذاكيرك"، وفي لفظ "فيه الوضوء"، وكلها تدل على أنه آخذ حكم البول وأنه يوجب انتقاض الطهارة الصغرى لطهارة الكبرى، هذا بالنسبة للمذي نجس لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالغسل منه، وقال:"انضح فرجك"، ومراده الغسل عليه الصلاة والسلام لرواية الأمر بالغسل، وكذلك أيضاً هو أشد من البول، يختلف المذي عن البول أنه أشد حتى إن مذهب طائفة من العلماء أنه يستجمر من البول ولا يستجمر من المذي، لأنه في الحقيقة ليس كالبول فهو أثخن، وأكثر انتشاراً من البول من حيث اللزوجة وصعوبة الاقتلاع لكن المذي يصعب اقتلاعه بالحجر والاستجمار، وبناءاً على ذلك المذي يأخذ حكم البول، والصحيح أنه يوجب غسل العضو كاملاً، البول والمذي والودي كلها توجب غسل العضو كاملاً، إذا خرج أحد هذه الأشياء يوجب غسل العضو كاملاً وانتقاض الطهارة الصغرى، وعليه فإنه يلزمه أن يتوضأ.(1/337)
كذلك أيضاً من الخارج من القبل المني، والمني اختلف هل هو يوجب انتقاض الطهارة الكبرى فقط أو يوجب انتقاض الطهارتين وهذا أقوى قولي العلماء رحمهم الله، وبناءاً على ذلك يجب عليه الغسل والوضوء، والمني سيأتينا إن شاء الله التفصيل في مباحث الغسل ومسائل الغسل إن شاء الله تعالى وهو من النواقض، إلا أن الفرق بينه وبين ما تقدم من البول والودي والمذي طهارة المني على أصح قولي العلماء ونجاسة الثلاثة الأول البول والمذي والودي، ثم الثلاثة الأول الصحيح أنه لا يفرق بين قليلها وكثيرها، إلا أن المذي ذهب بعض العلماء إلى استثناء اليسير منه، وقال: يعفى عن يسيره، فلو أصاب الثوب أو السروال أو الفخذ يتسامحون فيه إذا كان قليلاً لكن يجب عليه أن يغسل العضو، فلو توضأ ولم يغسل سرواله ولم يغسل فخذه وكان المذي قليلاً صح، والصحيح أنه لا فرق بين يسير المذي وكثيره، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق، وأمر بغسله دون فرق بين قليله وكثيره، مع العلم أن الشخص لما يمذي إنما يمذي القطرة في بعض الأحيان وهي من اليسير، ومع ذلك لم يفصل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا وجب أخذ الحكم على العموم، ولأن الذين قالوا يعفى عن يسير المذي قاسوه على الدم، والدم فيه نص لأن الله يقول : } أَوْ دَماً مَسْفُوحاً { ، والمسفوح الكثير ففرق الله بين القليل والكثير، ولكن في نجاسة المذي لم يفرق الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه في حكم الشرع بين اليسير والقليل، ولذلك نبقي كلاًّ كما ورد النص في حكمه، ونقول أنه مادام نص الشرع على نجاسته نبقيه نجساً، لا نفرق بين قليله وكثيره بالقياس بل نبقيه على الأصل لأن النص عمم بوجوب الغسل منه ولم يفرق بين القليل والكثير.(1/338)
أما بالنسبة للدم إذا خرج من الذكر كما يحصل في حال الجروح، والقروح السيالة التي تكون في مسالك البول أو في المثانة، أو تكون في الحالب جروح وينزف منها ويخرج الدم من العضو، فالدم نجس وخروجه من القبل موجب لانتقاض الطهارة كخروج دم الاستحاضة، إذا كان المني وهو طاهر خروجه موجب للانتقاض من باب أولى الدم الذي لا يختلف عن البول، خاصة أن من قال بطهارة الدم يستثنى دم الاستحاضة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في دم الاستحاضة لما أمر المرأة المستحاضة "أمرها أن تتوضأ لكل صلاة" كما في صحيح البخاري دل على أن الاستحاضة توجب الوضوء وهذا بلا إشكال عند العلماء، إذا كانت الاستحاضة توجب الوضوء ففي الحديث الصحيح لما سألت المرأة عن دم الاستحاضة قال لها عليه الصلاة والسلام:"إنما ذلك عرق"، والمراد بقوله "عرق" يعني نزيف دم، فإذا كان ذلك عرق نزيف دم وخرج من فرج المرأة القبل وأوجب انتقاض طهارتها وكذلك الدم إذا خرج من نزيف الرجل من قبله، لا فرق بينهما النجاسة واحدة، الموضع واحد، والصفة واحدة وبناءاً على ذلك يوجب انتقاض الطهارة الصغرى كما يوجبه لأن الشرع ينبه بالنظير على نظيره وبالمثيل على شبيهه، كذلك أيضا القيح وهذا هو الخارج السادس من القبل، فإذا كان الدم موجباً للانتقاض؛ فالقيح متولد من الدم والفرع آخذ حكم أصله، وأما الصديد فإنه ماء أكدر يكون من الجروح وقد يخرج، ولذلك بعضهم يقول الصديد إذا خرج من العضو أشبه بالودي، وقد يكون وديا ويقال له إنه صديد، هذه كلها نواقض.(1/339)
بقي الحصى والدود والشعر وهذا هو الخارج السابع من القبل، هذه الثلاثة طاهرة الحصى طاهر والدود والشعر كلها طاهرة، فمن أهل العلم من قال إنها تنقض إذا خرجت لأن العبرة بالمخرج، مادام أنها خرجت من هذا الموضع فإنها تنقض الوضوء، ومن هنا قالوا كونها طاهرة لا يؤثر، كما أن المني طاهر وأوجب الطهارة الكبرى فإيجاب الطهارة الصغرى من هذه الأشياء من باب أولى وأحرى، هناك من خالف طبعاً هذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمهم الله إلا أن المالكية رحمهم الله قالوا إن الحصى والدود لا ينقض لأنه خارج غير معتاد، ومن هنا قالوا إن الطهارة لا تنتقض به، يقول خليل:"وهو الخارج المعتاد في الصحة لا حصى ودود ولو ببلة"، قوله"ولو ببلة"هناك من فصل، فقال الحصى والدود إذا خرجت الحصى مبلولة وندية طرية نقضت الوضوء، كخروج فضلة مثل قطرة البول اليسيرة، وأما إذا خرجت يابسة لم تنقض، والغالب أنها تخرج رطبة وعلى كل حال الصحيح مذهب الجمهور ولذلك قال ابن أبي هبيرة في الإفصاح رحمه الله:"واتفقوا على أن الخارج من السبيلين يوجب انتقاض الوضوء، إلا مالكاً استثنى الحصى" فبين استثناءه للحصى والدود لأنه خارج غير معتاد، والصحيح مذهب الجمهور أن هذه كلها تنقض، وهو قول طائفة من أئمة السلف قبل الأئمة الأربعة رحمة الله عليهم.(1/340)
أما بالنسبة للريح من الذكر فهذا نادر ولكن نص الأئمة رحمهم الله على أنه ينقض، والأطباء يثبتون هذا أنه ربما خرج في انتفاخ الخصيتين بعض الأمراض نسأل الله السلامة والعافية يحدث فيها شيء من هذا، فإذا خرج قالوا خروج الريح من القبل كخروجه من الدبر، والعبرة خروجه من الجوف، سواءً خرج من قبل أو خرج من دبر فإنه ينقض الوضوء من هذا الوجه، هذا بالنسبة للخارج من قبل الرجل، أما الخارج من قبل المرأة فأولاً البول وقد تقدم حكمه، وثانياً رطوبة فرج المرأة، ورطوبة فرج المرأة ذلك السائل الذي يخرج من فرج المرأة خاصة عند اشتداد الشهوة، وهو مثل المذي جعله الله في المرأة كما جعل في الرجل المذي، ونبه العلماء والأئمة وهو مذهب طائفة على أنه نجس ويوجب انتقاض الوضوء، والدليل على ذلك أي على نجاسته ما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام - ] وهو يحتاج إلى تركيز[-، أنه كان في أول الإسلام إذا جامع الرجل امرأته ولم ينزل لا يجب عليه الغسل، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث عِتْبان،"لعلنا أعجلناك أو أقحطناك"، جاء يستأذن عليه فقرع عليه الباب وكان مع أهله فخرج، فقال - صلى الله عليه وسلم -:"لعلنا أعجلناك أو أقحطناك، إذا أعجلت أو اقحطت فلا غسل عليك"، وفي لفظ "إذا فضخت الماء فاغتسل"، فلم يجعل الجماع موجباً للغسل، في هذه الأيام يعني قبل النسخ قال - صلى الله عليه وسلم -:"وليغسل ما أصابه منها"، لم يأمر بالغسل إلا إذا حصل إنزال، لكنه قال:"وليغسل" يعني ذكره، ثم قال:"ما أصابه منها" والذي أصابه إنما هو رطوبة فرج المرأة، لأنها إذا لم تنزل يكون الذي أصابه الرطوبة، وهذا من أقوى الحجج على نجاسة رطوبة فرج المرأة، خلافاً لبعض المتأخرين الذين يقولون لا دليل على رطوبة فرج المرأة، والبعض يقول إن هذه سوائل والأطباء يقولون إن هذه سوائل ليست ببول ولا في حكم البول، ونحن لا يعنينا كلام الأطباء نحن يعنينا الحكم الشرعي، وهذه(1/341)
المسألة نقول إذا غلبت المرأة هذه السوائل تكون في حكم المستحاضة، وحكم من به سلس البول والتيسير من الشريعة معروف لها حكم خاص، أما أن نجعل وجود هذه الأشياء في بعض النساء على سبيل الغلبة موجباً لإسقاط حكمها وأنها طاهرة فهذا مردود وباطل، فظاهر الحديث يدل على نجاسة رطوبة فرج المرأة، فإذا كانت نجسة وخارجا نجسا من الموضع المعتبر فهو موجب لانتقاض الوضوء وأيضاً قياساً على المذي، لأن الشرع ينبه بالشيء على نظيره ومثيله.
وأما بالنسبة للمني فقد تقدم والمرأة في الغالب لا تخرج المني كالرجل لا تفضخ الماء خارجاً كالرجل، وبالنسبة لدم الاستحاضة بالإجماع ينقض الوضوء "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المستحاضة أن تتوضأ" كما في الصحيح، وأما بالنسبة لدم الحيض ودم النفاس فخارج نجس من الموضع أوجب انتقاض الطهارة الكبرى فمن باب أولى أن يوجب انتقاض الطهارة الصغرى، وأما بالنسبة للحصى والدود والشعر والريح فقد تقدم الكلام عليها في الخارج من قبل الرجل.(1/342)
الخارج من الدبر يخرج من الدبر الغائط أكرمك الله والبراز وبالإجماع ينقض، وذلك أن الله تعالى يقول : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } ، فشمل هذا البول والبراز الذي يخرج من الإنسان إذا تغوط، والإجماع منعقد على أن خروج الغائط يوجب انتقاض الوضوء، وأما بالنسبة للنواسير، البواسير إذا كانت خارجية وخرج منها دم فحكها حكم النزيف الخارجي، يغسل هذا المكان لأنه نجس ويجب عليه أن ينظفه، وإذا استرسلت هذه الدماء من البواسير يضع قطنة ويسد الموضع كالحال في المستحاضة، فإن غلبته صلى على حاله { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ، أما إذا كانت الدماء من الداخل كما في النواسير والنزيف الشرجي الداخلي ونزيف القرحة والاثنى عشر إذا نزفت بالدم وخرج الدم من الدبر فحكمه كحكم خروج الدم من القبل، وفي حكم ذلك إذا صار أيضاً قيحاً أو صديداً فإنه يأخذ حكم الفضلة والنجاسة الغائط كثيره وقليله يوجب انتقاض الوضوء كالحال في البول، يسيره مثل ما يكون في حال الإسهال، فإنه لو وجد على ثوبه أثر خروج اليسير من الغائط حكم بانتقاض طهارته، لكن لو أنه استجمر بالحجارة ولبس ثيابه ثم وجد أثر البراز على سرواله، فإن هذا لا يضر لأنه معفو عن وجود النجاسة في حلقة الدبر إذا كان استجماراً، لكن يجب عليه غسل السروال لكن لا يحكم بانتقاض وضوءه لأنه لم يخرج شيء وإنما هو فضلة الخارج الأول.(1/343)
…يقول المصنف رحمه الله: ]الخارج من السبيلين[، هنا السبيلان طيب هل هناك بدل عن السبيلين؟، لو أن شخصاً ولد كما هو موجود في بعض الأحيان مسدود المقعدة مسدود الدبر، وعنده فتحه خلقة أو فتحت له فتحة، فالبديل عن القبل والدبر بديل عن السبيلين له صورتان: الصورة الأولى أن يكون خلقة، مثل أن يجعل الله - عز وجل - في خلقته الفتحة عوض عن فتحة الدبر يبول منها، أو تكون الفتحة مفتوحة طبياً كما هو موجود في بعض العمليات الجراحية يحولون مجرى البول والغائط، فإذا كانت الفتحة تحت السُرَّة خلقة أو طبياً فحكمها حكم الخارج، لأن العبرة بخروج الخارج ولذلك استوى فيه الدبر والقبل وما كان أسفل من السرة فهو أسفل المعدة، فكان تصريفاً للخارج، فاستوى خروجه من القبل والدبر وهو الخارج المعتاد أو ما نُزِّل منزلتهما لأن البدل يأخذ حكم مبدله، أما إذا كانت الفتحة فوق السرة فينظر في الخارج، إن كان متغيراً كلون البراز وطعم البراز أثر، وإن لم يكن متغيراً فإنه لا يؤثر مثل القيء، لأنه حينئذ إذا كان بلون البراز وفيه رائحة البراز فإننا نحكم بكونه خارجاً لكن بدل أن يخرج من الموضع المعتاد خرج من هذا المكان، وهذا كما يقع في جراحات الحروب وطعوناتها كما كان يحصل في القديم، هذا بالنسبة للبديل عن القبل والدبر، لكن هذا البديل فيه تفصيل نحن تكلمنا عليه بالتفصيل في شرح بلوغ المرام، وتكلمنا على هذه الخوارج وتفصيلات العلماء وأدلتها باستيعاب فمن أراد أن يتوسع، ولا أنصح مبتدئ طلاب العلم بالتوسع الآن إنما أنصحهم بالتركيز وأخذ الزبدة والخلاصة، وضبط ذلك حتى يتيسر لهم بعد ذلك أن يتوسعوا في الفهم فيأخذوا الزبدة والخلاصة، أما من أراد أن يقرأ الأدلة والردود والمناقشات إذا كان قد قرأ الفقه كاملاً وقرأ الأصول وعنده ملكة فهم الأدلة والاستنباط فحينئذ يتوسع، أما بالنسبة لطلاب العلم الذين لم يقرؤوا الفقه كاملاً فأوصيهم أن يبقوا وأن لا يتشتتوا، حتى(1/344)
لا تتشعب بهم المسائل وحينئذ لا يمسكون الأصول ولا الفروع، ولذلك عليهم أن يأخذوا صغار العلم قبل كباره، هذا الذي أوصي به طالب العلم حتى لا يتشتت.
أما بالنسبة لقوله رحمه الله: ]الخارج من السبيلين[، الخارج الخروج هو الانفصال عند العلماء رحمهم الله، وانفصاله عن رأس الذكر وعن حلقة الدبر في الأول القبل والثاني الدبر، وهذا في السوائل أكثر مثل البول ينفصل ويبين، لكن هناك من السوائل ما تبقى عُلْقَتُه كالمذي، فإنه إذا خرج عن رأس الذكر ربما تقاطر فبقيت لزوجته متصلة برأس العضو، فانفصال في السائل غالباً انفصال، سواءً بِعُلْقَة أو بدون عُلْقَة لأن العبرة بوجود القدر الذي يصدق عليه الانفصال وهو خروج القطرة، أما الجامد فلا فالجامد مشكل عند العلماء رحمهم الله، فالجامد لا يحكم بكونه خارجاً إلا إذا انفصل بخلاف المذي، فالجامد مثل الدود مثلاً لو أحس أثناء التشهد بالحركة في رأس الذكر بحركة الدود في رأس الذكر، ثم سلّم من صلاته فوجد أكثر الدودة قد خرج، فلما سالم وانصرف خرج بقيتها حتى انفصلت وبانت، هل ينتقض وضوءه؟، هذه مسألة ليست وليدة اليوم ولا افتراضية هذه مسألة ذكرها العلماء من القديم نبه عليها الإمام النووي رحمه الله وقبله الإمام الماوردي، وهذه المسألة واردة وهذا يدل على كمال الشريعة الدقة في معرفة الأحكام وضبطها ليس هذا من الغلو، هذا شيء مبني على أصول وليس شيء جاء به العلماء من جيوبهم وقد كانوا أورع واتقى لله - عز وجل - من أن يُحْدِثوا في دين الله - عز وجل - ما ليس منه، هذه أشياء مستنبطة البول والغائط ينفصل لكن هذه الحصى إذا قلنا أنها تنقض الحصاة لو أحس بالحصاة أثناء التشهد قال أحسست وهذه مسألة قد تقع، أحس بالحصى أنها خرجت وجاءت على رأس ذكره وآلمت، ثم لما سلم وجد نصف الحصى خرج ولم يخرج بقيتها، فعصر عليها حتى خرجت البقية، هل يحكم بانتقاض وضوءه منذ الشعور لبداية الانفصال، أم أن العبرة بالخروج(1/345)
الحقيقي الذي يكون به الانفصال؟، إن كان النظر في مسألة الحصى إلى وجود البلل فبمجرد خروج جزء الحصى كخروج الكل، لأن البلل واقع على الجزء، فأشبه يسير القطرة، وإن كان العبرة بالحصى كخارج مستقل والبلة تبع فإنه يحكم بالانتقاض حال الانفصال لا حال بداية الخروج، ولهذا نظائر منها لو أنه جامع زوجته ولم ينزل وأحس بانفصال المني من صلبه وهذه نبه عليها الأئمة رحمهم الله، فأحس بانفصال المني من صلبه ولم يخرج مني ثم اغتسل ثم أمنى بعد ذلك، فهل يحكم بانتقاض غسله ووجوب الإعادة كمن جامع فاغتسل ثم أمنى ولا يعيد الصلاة وهذا نص خليل في مختصره، وذكر الإمام المرداوي أيضاً هذه المسألة على صورة ثانية في الإنصاف، قال لو أنه كان في الصلاة فاشتدت شهوته فبعض الناس تذكر شيئاً أثناء صلاته فاشتدت شهوته فأحس بانفصال المني وهو في التشهد، ثم لم يقذفه خارج العضو إلا بعد السلام، إن قلنا العبرة بالانفصال من الأصل حينئذ ينتقض، ويكون مجرد بداية الخروج للحصى والدود حكم الانتقاض، وإن قلنا العبرة بالانفصال الكلي وهو الصحيح لا ينتقض إلا بعد الخروج، وعلى هذا فلا بد من خروج الحصى وانفصاله والدود وانفصاله والشعر وانفصاله، وأن خروج اليسير لا يؤثر مالم يكن عليه قطرات البول، إن كانت قطرات البول على الحصى وخرجت لزجة سبقها قطرة من البول استتبعت الحصى كما يحدث في بعض الأحيان أو في الدود فلا إشكال ويكون النقض بذلك الخارج من البول النجس وليس بخروج الحصى.
- - - - - الأسئلة - - - - -
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ: يوجد ألم في ظهري وأضع عليه جبيرة أي لصقة وعند وجود جنابة أغسل هذه الجبيرة، فما حكم فعلي هذا ؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.(1/346)
هناك جانبان في السؤال أحب أن أنبه عليهما: الجانب الأول تعبيرك بالجبيرة عن اللصقة، اللصقة لا تسمى جبيرة عند العلماء رحمهم الله، ليست بجبيرة الجبيرة مصطلح خاص لا يعبر به إلا إذا وجد على صفته المعتبرة، ومن هنا انبه أن سؤال العلماء وعرض الفتاوى من السائل ينبغي أن يتوخى فيه الدقة وأن لا يعبر الإنسان كيف شاء، ينبغي أن يتقيد بالضوابط وأن يتقيد بالأصول، فإنه ربما عبر بعبارة تقتضي الحل وهي ليست حقيقة في السؤال، فينبغي للسائل والمستفتي أن يتوخى الدقة في ألفاظ السؤال، وينبغي أن يعلم أن العلماء وأهل الفتوى مطالبون شرعاً أن يفتوا على ظاهر السؤال، وليسوا مطالبين بالكشف عن ما يقصده السائل ونوايا أهل السؤال، فالعبرة بالظاهر ومن هنا الواجب أن تكون الألفاظ صحيحة، والمصطلحات ومدلولاتها صحيحة، فينبغي توخي الدقة في هذا.(1/347)
ثانياً بالنسبة للعازل هذا العازل وهي اللصقات في الحقيقة تمنع وصول الماء إلى البشرة، مثل اللصقات التي تكون من البرد فهذه اللصقات تمنع وصول الماء إلى البشرة، ثانياً أن المادة اللزجة الموجودة فيها أشبه بالصمغ والتي تشد الموضع مشكلتها أنها صعبة الإزالة، ولا تزول إلا بعناء وتمنع وصول الماء أيضاً هي من الحوائل، فاللصقة حائل والمادة الموجودة فيها حائل حتى لو أزلت اللصقة بقيت هذه المادة فترة، ولذلك نبني على هذا أننا لا نرخص لأحد بوضع هذه الحوائل وهذه العوازل ما لم توجد حاجة ماسة ولا بديل عن هذه اللصقات، أن يعلم أنه ستكون عليه جنابة وأنه يصاب بالجنابة يحتاط، فإذا وضعها يحتاط بغسل الموضع وإزالة الأثر حتى يستطيع أن يغسل بعد زوالها، أما لو قال الطبيب لا بد من وجودها ولا علاج إلا بوجودها وصعب الألم بحيث كان ألماً مضراً، أو فيه ضرر على العضو في استمرار الألم فحينئذ يرخص، ويرخص بقدر الحاجة والضرورة ثم بعد ذلك إذا أزالها وقال الطبيب تضعها يومين أو يوم أو ثلاثة، المدة التي حددها إذا انتهت يزيلها ثم بعد ذلك يجب عليه تنظيف الموضع حتى يصل الماء إليه والله تعالى أعلم.
مثل ما ذكرنا ليس الإنسان الذي يفتي نفسه بهذا الألم لأنه ليس كل ألم يرخص فيه، ولذلك لابد من الرجوع إلى الأطباء وأهل الخبرة وإذا قالوا لابد من وضع هذه اللصقة على مكان الألم نعم، وتوضع بقدر الحاجة ومدة الحاجة، ثم بعد ذلك تزيلها، فإذا وجدت ضرورة وحاجة فلا بأس وإلا فلا والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ: امرأة اعتمرت ثم بعد عمرتها رأت الدم وهي لا تدري متى نزل الدم في أثناء العمرة أو بعد الانتهاء منها، فما حكم عمرتها؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/348)
إذا كانت المرأة في عمرتها ثم وجدت الدم بعد انتهاء عمرتها فلا يخلو الأمر من حالتين: الحالة الأولى أن توجد دلائل تدل على سبق هذا الدم للتحلل أو لا توجد دلائل، فإن وجدت دلائل على السبق أو التأخر عملت بها، مثلاً إذا رأت الدم طرياً وهي قد انتهت من العمرة من ثلاث ساعات أربع ساعات، فمعنى ذلك غالباً أنه وقع بعد التحلل، لأن الدم إذا كان طرياً يعني يكون إلى أقرب وقت لو كان أنها وقعت قبل التحلل ليبس الدم، فتعمل الدلائل الظاهرة فإن وجد الدلائل على السبق أو التأخر عملت بها، وهذه المسألة معتبرة عند العلماء، أما إذا كان لا توجد دلائل فمذهب جمهور العلماء في هذه المسألة أنها تنسب الدم لأقرب حادث، فعمرتها صحيحة حتى تتحقق أن الدم سبق التحلل، فإذا كان أن دمها سبق الطواف أما إذا كان دمها لم يسبق الطواف وتأكدت أنه وقع أثناء السعي أو بين الطواف والسعي بعد ركعتي الطواف وقبل السعي، أو بعد الطواف وقبل ركعتي الطواف فحينئذ تأخر ركعتي الطواف إلى أن تطهر، لأن السعي لا يشترط له الطهارة، إذاً إذا تحققت أن الدم سبق الطواف أو كان أثناء الطواف بالبيت حكمت ببطلان عمرتها وأنه يجب عليها القضاء إذا طهرت، وهي حكمها حكم المعتمرة إلى الآن.
ثانياً: إذا كان تأكدت أن الدم وقع بعد الطواف بالبيت حتى ولو قبل الركعتين ركعتي الطواف فعمرتها صحيحة، لأن السعي بين الصفا والمروة يصح من المرأة الحائض، ولا يؤثر وجود دم الحيض في ذلك، إذاً إذا وجدت الدلائل عملت عليها وإذا لم توجد دلائل فالأصل صحة عمرتها حتى تتحقق وتتأكد أن الدم كان أثناء الطواف أو قبل الفراغ من الطواف، تبقى في حكم المعتمرة إلى أن تطهر فتؤدي عمرتها .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تابع باب نواقض الوضوء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب نواقض الوضوء[.(1/349)
قال رحمه الله: ]وهي سبعة: الخارج من السبيلين، والخارج النجس من غيرهما إذا فحش[.
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.…أما بعد.
فقد تقدم معنا بيان هذه الترجمة، ومقصود المصنف رحمه الله منها، وبيّنا مراده بقوله رحمه الله ]الخارج من السبيلين[، وهذا الخارج من السبيلين قلنا إما أن يكون من القبل وإما أن يكون مِنْ الدبر، وإما أن يكون أيضاً من الرجال وإما أن يكون من النساء، وبيّنا حكم الخوارج من القبل ومن الدبر، وبقي معنا الخارج من الدبر إذا كان ريحاً، فالريح ناقض للوضوء بإجماع العلماء رحمهم الله، والأصل في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"، وقد فُسر هذا الحدث بأنه خروج الريح، ولذلك لما سأل الراوي أبا هريرة - رضي الله عنه - عن قوله "أحدث"، قال: فساء أو ضراط، ففسر الحدث بخروج الريح، وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - وأرضاه، قال: شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال:"لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحا"، فدل هذا على أن الريح ناقض من نواقض الوضوء، وبيّنا أنه يستوي أن يخرج من القبل أو يخرج من الدبر على تفصيل تقدم معنا، ونقض الشريعة الإسلامية للوضوء بالريح من الدبر مع أنه ليس بسائل نجس يدل على أن العبرة بالمخرج، وأنه إذا خرج الخارج من المخرج لم يلتفت إليه، كونه خرج معتاداً أو غير معتاد، على سبيل المرض أو على سبيل الصحة، ومن هنا قلنا بنقض الوضوء بالحصى والدود والشعر على التفصيل الذي تقدم معنا.(1/350)
وقوله رحمه الله ]والخارج النجس من سائر البدن إذا فحش[، الخارج النجس من سائر البدن مراد المصنف بهذا أن يخرج النجس مثل الدم، من سائر البدن مثل أن تقطع جلدة لحمه فيخرج منها دم، سواءً من يده أو من رجله من صدره من أسافل بدنه من أعاليه، متى ما خرج الدم عنده نقض الوضوء، فالدم نجس لقوله تعالى: { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْس ٌ} ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"اغسلي عنكِ الدم"، فدل على نجاسة الدم وهو قول جماهير أئمة السلف والخلف رحمهم الله، فقالوا: إذا خرج هذا الخارج النجس من أي موضع من البدن نقض، وبناءاً على هذا لو أصابه رعاف بعد الوضوء انتقض وضوءه، ولو أنه نزف قطرة أو قطرتين يسيرة فإنه لا يحكم بانتقاض الوضوء، وبناءاً على ذلك قال: ]إذا فحش[ وهذا يوافق فيه الحنفية الحنابلة رحمهم الله على تفصيل رحمة الله على الجميع،ومما يتخرج على هذه المسألة مسألة القيء، فإذا قاء فإنه يحكم بانتقاض وضوءه لأن القيء نجس، وعند المالكية تفصيل فإن كان الذي قاءه وأخرجه متغيراً بلون البراز أو رائحة البراز فإنه يحكم بانتقاض الوضوء، لأنه إذا كان على هذه الصفة أعني صفة البراز استوى أن يخرج من أعلى البدن أو من اسفل البدن فأوجب الوضوء.(1/351)
فأما المسالة الأولى وهي قضية كون الدم ناقضاً للوضوء إذا خرج من أي موضع من البدن فهذا مذهب مرجوح، وذلك أن الذين قالوا بانتقاض الوضوء به قاسوه على دم الاستحاضة، فقالوا ينقض الدم إذا خرج من سائر البدن كالرعاف والحجامة والفصد كما ينقض دم الاستحاضة، وهذا القياس ضعيف ووجه ضعفه أن دم الاستحاضة فيه خارج ومخرج، وأما بالنسبة للرعاف والدم من سائر البدن ففيه خارج لا مخرج، فيه الخارج النجس ولكنه ليس من المخرج المؤثر، ومن هنا نقض بالمخرج بدليل أنه لو خرج الطاهر من المخرج أثر، وعلى هذا فقياسهم ضعيف والصحيح أنه لا ينتقض الوضوء لأن الأصل الطهارة، حتى يدل الدليل ودليلهم قياس عليه ما ذكرنا من المأخذ، ومن هنا يضعف القول بكونه ناقض للوضوء.(1/352)
وقوله رحمه الله ]إذا فحش[ يعني إذا كان كثيراً، والفرق بين الكثير والقليل وجهان للعلماء في ضبطه، الوجه الأول أن الكثير هو الذي يفحش في النفس بمعنى أنك تراه كثيراً، واليسير هو الذي لا يفحش في النفس بمعنى أنك في نفسك حينما تراه تعتقد قلته ويسره، وهذا راجع إلى كل شخص وفيه اشكال، مع أنه قد يرى شخص أنه يسير ويرى آخر أنه كثير وحينئذ تختلج أحكام الشريعة من شخصٌ إلى آخر، فيقال إن الشريعة تأمر هذا بالطهارة ولا تأمر هذا بالطهارة، مع أنه قد يكون القدر عند هذا موجباً للانتقاض عند الآخر، وبناءاً على ذلك هذا الضابط ضعيف وأصح الضابطين أنه قدر الدرهم البغلي، والدرهم البغلي يقارب الهللة القديمة ينقص عنها قليلاً، هذا القدر إذا فحش قال المصنف رحمه الله إذا فحش، يعني إذا بلغ فوق الدرهم فما فوق فإنه ينقض الوضوء، فالقرش الموجود في زماننا ينقص عنه قليلاً، عندهم سواءً تفرق يعني خرج من مواضع متعددة بحيث لو جُمِعَ صار كثيراً، أو خرج من موضع واحد فالحكم واحد، وهذا كما ذكرنا مرجوح، لكن في نجاسة الدم بينا أن الصحيح أن الفرق بين اليسير والكثير هو الدرهم، والدليل على ذلك أن العلماء أجمعوا على أن ما كان دون الدرهم أنه عفو، وأما ما فوقه بقي على الأصل من كونه نجساً مؤاخذاً به، ومن هنا نستثني ما حصل عليه الإجماع ونرى أن اليسير ما كان قدر الدرهم البغلي فما دون وأما الكثير ما جاوزه، لماذا قال: ]إذا فحش[ ؟، قالوا لأن الصحابة رضوان الله عليهم وردت عنهم آثار تسامحوا فيها في اليسير، ولذلك أثر عن عبدالله بن عمر وغيره رضي الله عنهم أجمعين أنه عصر بثرة وهي الحبة في البدن، فعصرها فخرج منها السائل لأن السائل هذا نجس إما أن يكون دماً أو يكون قيحاً، فإن كان دماً فهو نجس وإن كان قيحاً فهو متولد من نجس وقد بيّنا أن القيح حكمه حكم الأصل، وهو الدم لأن تولد عن دم والفرع تابع لأصله، ومن هنا قالوا يفرق بين القليل والكثير، لكن(1/353)
مسألة أثر عبد الله ابن عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم لا علاقة لها في نقض الوضوء، إنما مسألتها في النجاسة، وأن مسألة نقض الوضوء هذه يستدل لها بدليل قياس كما ذكرنا، والصحيح أنه لا ينتقض الوضوء إلا بخروجه من المخرج أي من خروج الدم من المخرج.
…قال رحمه الله: ]وزاول العقل[.
…يقال زال الشيء إذا تحرك عن موضعه، ولا يوصف بالزوال إلا إذا كان ثابتاً قبل حركته، وزوال العقل سمي العقلُ عقلاً لأنه يعقل صاحبه، فالعقلُ أصله الحبس والمنع، ولذلك سماه الله عقلاً وسماه حِجْراً وسماه نهُية، قال تعالى: { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}، أي لذي عقل يحجره، وقال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} ، أي أولي العقول الكاملة التي تنهى عن ما لا يليق، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه ويمنعه عما لا يليق، والمراد هنا أنه إذا كان المكلف عاقلاً ثم زال عقله فإنه يحكم بانتقاض وضوءه، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض الوفاة، فإنها قالت رضي الله عنها:"إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب ليقوم –أي للصلاة- فخر مغشياً عليه ثم أفاق فاغتسل، ثم أفاق مرة ثانية يريد القيام فسقط فخر مغشياً عليه عليه الصلاة والسلام فأفاق ثم اغتسل"، قالوا هذا يدل على أن زوال العقل يوجب انتقاض الطهارة الصغرى والكبرى، وهذا هو الصحيح وعليه جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله كما حكى الإمام ابن المنذر والإمام ابن قدامة والإمام ابن أبي هبيرة وغيرهم من أئمة العلم، وبناءاً على ذلك فلو أن شخصاً أصابه جنون – نسأل الله السلامة والعافية – وكان متوضئاً، أو زال عقله بإغماء، أو زال عقله بسكر، أو زال عقله بمخدر، فإنه يحكم بانتقاض وضوءه، طبعاً هو في الأصل أنه يجب عليه الطهارة الكبرى وهي الغسل، ولذلك قالوا: قَلَّ أن يجن أحد إلا وأنزل، ومن هنا قالوا(1/354)
إنه يوجب الطهارة الكبرى وهي الغسل من الجنابة، وقد بيّنا أنه ينقض لأن المعنى الذي نقض به الطهارة الكبرى موجود في الطهارة الصغرى، لأن احتمال خروج الخارج موجود، وزوال العقل ليس بذاته حَدَثاً، يعني ليس كالبول والغائط ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يفرق في هذه النواقض بين الحدث وبين ما هو مظنة الحدث، فزوال العقل مظنة الحدث، يعني مظنة أن يخرج منه الخارج فيُحكم بانتقاض وضوءه، ومن هنا قالوا إن زوال العقل يستوي فيه أن يكون بجنون أو يكون بإغماء أو يكون بسكر أو يكون بتخدير أو ببنج أو غيره مما يزيل العقل، فإذا زال عقله انتقضت طهارته، وقوله ]وزوال العقل[ أي أنه ناقض من نواقض الوضوء، وهذا طبعاً عليه عمل عند أهل العلم رحمة الله عليهم أجمعين.
…قال رحمه الله: ]إلا النوم اليسير جالساً أو قائما[.
…زوال العقل يدخل فيها النوم، لأن النائم يزول عنه إدراكه وشعوره، والفرق بين النائم والمغمى عليه والمجنون، أن كلاً من المغمى عليه والمجنون إذا نبهته لا ينتبه، وإذا أيقظته لا يستيقظ، وأما النائم فإنه إذا نبهته ينتبه وإذا أيقظته يستيقظ، وزوال العقل بالنوم موجب لانتقاض طهارة الوضوء، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نام في عَرْضِ الوسادة نام ومعه ابن عباس فقال:"بت عند خالتي ميمونة، فبت في عَرْض الوسادة فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله حتى نفخ، قال: فلما كان هوي من الليل قام فمسح النوم عن عينيه وقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران، إن في خلق السماوات والأرض، ثم قال: ويل لمن قرأهن ولم يتعظ بهن ثلاثا، ثم قام إلى شمن فأفرغ عليه صلوات الله وسلامه عليه وتوضأ"، الشاهد أنه توضأ بعد قيامه من نومه.(1/355)
ثانياً حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهو حديث صحيح صححه الأئمة، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"العينان وكاء السَّهِ"، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء، والمراد بالسَّهِ حلقة الدبر، أي أن الإنسان مادام مستيقظاً فإنه متمكن من معرفة ما يخرج وحبس الخارج، ولكنه إذا نام خرج منه الخارج وهو لا يشعر، ومن هنا سار هذا الحديث أصلاً في إيجاب الوضوء على من نام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام بعد هذه الجملة:"فمن نام فليتوضأ"، كذلك أيضاً من الأدلة على أن النوم ينقض الوضوء حديث صفوان بن عسال المرادي - رضي الله عنه - وأرضاه، وفيه أنه قال:"أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم من بول أو نوم أو غائط"، فجعل الأحداث المؤثرة في الطهارة الصغرى منها النوم، فقال:"من بول أو نوم أو غائط"، وشرك بينها في الحكم، فكما ينقض البول ينقض النوم، وكما ينقض الغائط ينقض النوم، وعلى هذا النوم سبب النقض فيه أنه لا يأمن أن يخرج منه الخارج وهو الريح، وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة قديماً من السلف والخلف، حتى الصحابة رضوان الله عليهم فقال بعضهم: لا ينقض النوم الوضوء مطلقاً، كما أُثر عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، وقيل ينقض مطلقا، كما هو قول طائفة من أئمة الصحابة رضوان الله عليهم، وقيل إنه ينقض إذا كان غير مُمكَّن مقعدته من الأرض كما هو مذهب الشافعية، وقيل ينقض إذا كان على غير هيئة المصلي، من الراكع أو الساجد، فإذا كان مضطجعاً أو منبطحا فإنه ينتقض وضوءه، كما هو مذهب الحنفية، ويوافقهم الظاهرية في جانب من هذا، وقيل إنه ينقض إذا كان كثيراً، ولا ينقض إذا كان قليلاً كالملكية، وقيل ينقض إذا كان مُذْهباً للشعور ولو كان يسيراً، ولا ينقض إذا لم يُذْهِب الشعور ولو طال زمانه، وهو مذهب الحنابلة وهو الصحيح والأقوى من جهة الدليل،(1/356)
لأن الدليل جعل النوم مؤثراً في الطهارة من جهة زوال الشعور، ومن هنا نقول إذا كان النوم يزيل الشعور سواءً كان منبطحاً أو قاعداً أو مُتَكئاً فإننا نحكم بانتقاض وضوءه، وأما إذا كان لا يزيل الشعور فإننا نبقى على الأصل من أنه متوضأ لأنه معه إدراكه، وعلى هذا نقول العبرة في النوم بزوال الشعور، وهذه المسألة ذكرناها في الشرح أعني شرح البلوغ، وفصلنا فيها في أئمة الصحابة مذاهب الصحابة والتابعين، وذكرنا الأقوال والأدلة والردود والمناقشات وأن الصحيح ما اخترناه أن العبرة بزوال الشعور، لأنه هو الأصل في نقض الوضوء، والنوم ليس بذاته حدثاً حتى يستوي قليله وكثيره، وإنما هو مظنة الحدث فينبغي أن يربط الحكم ويعلق الحُكْم على العلة المؤثرة وهي زوال الشعور.
ما هو ضابط زوال الشعور؟، يكون في الأقوال والأفعال، فإذا كان بجواره قوم يتحدثون ولم يدرك حديثهم لم يميزه، فحينئذ نحكم بأنه قد انتقض وضوءه، لو أن شخصاً غفى ونعس وبجواره قوم يتحدثون، فإن قوي نومه وقويت غفوته إلى درجة أنه لم يميز الحديث واختلط عليه حديثهم فحينئذ قد انتقل إلى مرحلة عدم الشعور والإدراك، من الضوابط في الأفعال أن يكون بيده شيء فيسقط، مثل القلم يكون يكتب فيشعر أن القلم سقط من يده ولا يشعر بسقوطه، فيسقط القلم من يده ولا يشعر بسقوطه، فحينئذ علمنا أن إدراكه قد زال، وبناءاً على ذلك قال المصنف: ]إلا النوم اليسير[، أي أنه لا ينتقض الوضوء بالنوم اليسير، وهو الذي لا يُذْهب الشعور، أما لو ذهب الشعور فإنه يؤثر ولو كان النوم قليلاً.(1/357)
…طبعاً حديث"أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينتظرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العشاء فتسقط رؤوسهم في حجورهم "،لا يمنع فإن الرجل يسقط رأسه في حجره وهو منتبه، وهذا يقع في بعض الغفوات لكنه بمجرد سقوطه ينتبه، وهذا يدل على أنه معه إدراكه وشعوره، فالعبرة بالإدراك والشعور، ثم إن عندنا سنة قولية واضحة تدل على أن النوم ناقض، ونظرنا في العلة في كونه ناقضا فلم نجده حدثاً ليس كالبول ولا كالغائط ولا كالريح مؤثراً في الطهارة، ولكن وجدناه مظنة أن يخرج الحدث، وجاء هذا صريحاً في قوله عليه الصلاة والسلام "العينان وكاء السَّهِ"، ففهمنا أن العلة هي زوال الشعور، ومن هنا ترجح مذهب من يقول إن النوم ينقض بالتفصيل الذي ذكرناه.
…قال رحمه الله: ]ولمس الذكر بيده[.(1/358)
…ومما ينقض الوضوء لمس الذكر، وقوله بيده واليد يشمل ما بين أطراف الأصابع إلى الزندين، وعلى هذا يستوي أن يكون لمسه بأصابعه أو لمسه بكفه ببطن راحته، ويستوي عند بعض العلماء الظاهر والباطن وإن كان الأقوى أنه ينقض بالباطن لا بالظاهر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إذا أفضى أحكم بيده إلى ذكره"، والإفضاء لا يكون إلا بالباطن دون الظاهر، هذه المسألة وهي نقض الوضوء بمس الذكر أيضاً ذكرنا الخلاف فيها والأقوال في الشرح وفصلنا فيها، والحاصل أن السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دلت على أن لمس الذكر ينقض الوضوء، وجاء ذلك في حديث بُسرة بنت صفوان رضي الله عنها وأرضاها، كذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأرضاه، وفيهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"من مس ذكره فليتوضأ"، فدل على أن مس الذكر ينقض الوضوء، ويشترط في هذا المس أن يكون بدون حائل، فلو مسه بالحائل لم ينقض لحديث طلق بن علي الحنفي - رضي الله عنه - وأرضاه، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبني مسجد المدينة فسأله عن مس الذكر في الصلاة، فقال عليه الصلاة والسلام:"وهل هو إلا بَضْعة منك"، فلما قال: في الصلاة علمنا أنه يسأل عن مسه بحائل، لأن المصلي لا تصح صلاته إذا كان منكشف العورة، وبناءاً على ذلك لما قال: في الصلاة صارت قرينة على أن حديث طلق بن علي المراد به المس بحائل، وهذا هو أقوى الأوجه في الجمع بين حديث طلق بن علي وحديث بُسرة رضي الله عنها، وهناك وجهٌ أن يقال إن حديث طلق متقدم لأنه جاء والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبني المسجد، وحديث بُسْرة بنت صفوان كانت متأخرة الإسلام والمتأخر ينسخ المتقدم، وعلى هذا فإنه لابد وأن يكون المس بدون حائل.(1/359)
ويستوي أن يمس ذكره وأن يمس دبره، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أيضاً في حديث بُسرة:"من مس فرجه فليتوضأ"، والفرج من الانفراج وأصل الفرج الخلل في الشيء ومنه الفرجة في الجدار ونحوه، فهذا يشمل الدبر أيضاً ويشمل قبل المرأة، وبناءاً على ذلك ينقض الوضوء مس الذكر ومس الدبر، والعبرة في مس الدبر ومس الذكر بالعضو، ويشمل الذكر العضو والأنثيين، فإذا مسها فإنه ينتقض وضوءه، وأما بالنسبة للرفغين والفخذين فإنه لا ينتقض الوضوء بمسها، وقد أثر عن بعض أئمة السلف كعروة ابن الزبير رحمه الله، أنه كان يقول: إن مس الرفغين ينقض الوضوء، والصحيح مذهب الجمهور، ثم يستوي أن يجد الشهوة أو لا يجد الشهوة، لأن قوله "من مس فرجه" يدل على أن مس الدبر ينقض الوضوء، ومن المعلوم أن الدبر لا تجد فيه شهوة، لأنه ليس محلاً للشهوة، ولذلك لما حكم الشرع بانتقاض الوضوء علم به أنه مس الفرج ومكان الخارج بغض النظر عن كونه يجد الشهوة أو لا يجدها، ويستوي أن يمس ذكره وذكر غيره، كالطبيب إذا أراد العلاج فمس ذكر المريض فإنه ينتقض وضوءه، ولذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"من مس ذكره" فخرج مخرج الغالب، والقاعدة في الأصول أن النص إذا خرج مخرج الغالب لم يعتبر مفهومه، والمراد به فرج الآدمي فلا يشمل فرج البهيمة، فلا ينتقض الوضوء بمس قبل البهيمة أو دبرها كما إذا أراد أن يعالج بهيمة أو يخرج ولدها ونحو ذلك فإنه لا ينتقض وضوءه بمس هذا الفرج، والمراد به الفرج المعتبر، وعلى هذا فلا ينقض مس الخنثى المشكل إذا كان الفرج الذي لم يتحقق بالنسبة له، فلو كان مس الخنثى المشكل العضو الزائد فإنه لا ينتقض وضوءه كما إذا كان أنثى، فمست الذكر إذا كان أنثى أو خنثى متبين فتبين أنه رجل أو أنه امرأة، فمس العضو الذي لا أثر له فإنه لا ينتقض وضوءه.(1/360)
إذاً مس الذكر ناقض للوضوء لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من مس ذكره"، ويستوي فيه أن يمس ذكره كما ذكرنا وذكر غيره، سواءً كان الغير صغيراً أو كبيراً، كالأم مع ولدها إذا أرادت أن تغسله لكن الأم إذا تكرر غسلها لولدها إلى درجة الحرج والمشقة خفف عنها، لأن الأمر إذا ضاق اتّسع والمشقة تجلب التيسير، فلو أنها مثلاً كانت في زمان برد، وأصبح ابنها مُسْتَطْلقاً استطلقت بطنه أو كان معه استرسال في البول، فأصبحت تغسله أكثر من مرة حتى وجدت الحرج في وضوئها خفف عنها، لكن الأصل أنه ينتقض وضوءها وهو مذهب الشافعية وطائفة من أهل العلم لعموم الحديث، ومن جهة الأصل أننا ذكرنا أنه يستوي مس ذكره وذكر الغير، فإذا كان يستوي مس ذكره ومس ذكر الغير وأن الحديث لا مفهوم له لأنه خرج مخرج الغالب، فإنه حينئذ لا نفرق بين الكبير والصغير، لأن العبرة بلمس العضو بغض النظر عن كونه لمس صغيراً أو كبيرا.
…قال رحمه لله: ]ولمس امرأة بشهوة[.(1/361)
…ومما ينقض الوضوء مس المرأة بشهوة، والباء للمصاحبة يعني مع وجود الشهوة، يستوي أن يكون قاصداً للشهوة، يعني مسها من أجل أن يشتهي ويتلذذ، أو وجد الشهوة بعد مسها، فصاحبت المس، وقوله ]لمس امرأة بشهوة[ طبعاً مس المرأة اختلف فيه العلماء رحمهم الله وفصلنا هذه المسألة في مسائل الشرح، ومنهم من يرى أن المس ناقض مطلقاً لأن الله تعالى يقول: { أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ } ، فذكر من الأحداث لمس النساء، والصحيح أن الآية المراد بها الجماع، ولذلك زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وأن المراد بلامستم أي جامعتم النساء وزناً ومعناً،وأن اللمس مطلقاً للمرأة لا ينقض الوضوء من حيث الأصل، والدليل على ذلك "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في حجرته كما في الصحيح، وكانت عائشة - رضي الله عنه - تنام بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة، فكان إذا أراد أن يسجد غمزها، فقبضت رجلها ثم سجد"، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمسته عائشة وهو ساجد، كما قالت كما في الحديث الصحيح:"أني افتقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - فجالت يدي فوقعت على قدميه ساجداً يقول: اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، وفي رواية البيهقي وغيره، "اللهم أعوذ برضاك من سخطك"، وهي حادثة أخرى أنها فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَشَكَّت أن يكون عند بعض نسائه، قالت:"رجعت فوجدته ساجداً يقول اللهم أعوذ برضاك من سخطك.. الحديث"، فالشاهد أنها لمست وحصل اللمس وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غمزها أثناء صلاته، فلو كان مس المرأة ناقضاً للوضوء لما استأنف النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته، والحكم بانتقاض وضوؤه ولم يكن شيء من ذلك، ومن هنا لا ينقض لمس المرأة من حيث الأصل، ثم يفصل إذا قصد الشهوة أو وجد اللذة وهو اختيار طائفة من العلماء كما هو مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة نصوا على أنه إذا وجد الشهوة وقصد الشهوة أنه ينتقض(1/362)
وضوءه.
…لمس المرأة يشترط أن لا يكون بحائل، كما ذكرنا في مس الذكر، بعض العلماء يقول: إذا كان الحائل لا يمنع وجود الشهوة واحتك بالمرأة في طواف أو نحوه - والعياذ بالله - فثارت شهوته يقولون انتقض وضوءه، مادام أنه وجد حرارة الشهوة واللذة، ومن أهل العلم من يرى أنه لابد من المباشرة، والأصل أنه لا بد من تحقق المباشرة على الوجه المعتبر، وقد جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قّبل بعض نساءه وكان يقبل بعض نساءه ثم يخرج إلى الصلاة، وهذا ضعف القول الذي ذكرناه.
…قال رحمه الله: ]والردة عن الإسلام[.
…الردة عن الإسلام الرجوع عن الدين، وأجمع العلماء من حيث الأصل على أن الردة عن الإسلام ناقض من حيث الأصل، وذلك لأن الله تعالى أحبط العمل بالردة، فقال - سبحانه وتعالى -: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} ، فأخبر الله - جل جلاله - أن العمل يحبط بالردة، والوضوء عمل وظاهر الآية أنه إذا كان متوضأ أنه ينتقض وضوءه، ومن هنا إذا ارتد لزمه أن يجدد طهارته، ارتد بالقول ارتد بالفعل، الردة بالقول مثل أن يسب الدين - والعياذ بالله - ويسب الله - عز وجل -، أي يستهزئ الاستهزاء الموجب للكفر، أو يطأ المصحف قاصداً إهانة كتاب الله - عز وجل - وكلام الله - عز وجل - فهذا كفر وردة ردة بالأقوال والأعمال، فإذا فعل هذا فإنه يحكم بردته وحينئذ يحكم بانتقاض وضوءه وطهارته.
قال رحمه الله: ]وأكل لحم الإبل[.(1/363)
…]وأكل لحم الإبل[ أي الجزور، وهذا الناقض الأصل فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الوضوء من لحوم الغنم فقيل:"يا رسول الله أنتوضأ من لحوم الغنم؟، قال: إن شئت"، وفي لفظ "إن شئت توضأت وإن شئت لم تتوضأ"، فقال:"يا رسول الله أنتوضأ من لحوم الإبل؟، قال: نعم"، وجاء في حديث أحمد في مسنده "توضئوا من لحوم الإبل"، فهذا الحديث وهو حديث جابر بن سمرة في صحيح مسلم يدل دلالة واضحة على أن الوضوء ينتقض بأكل لحم الإبل، وهو مذهب طائفة من السلف والخلف رحمة الله عليهم أجمعين، وقال الجمهور أنه لا ينتقض واستدلوا بحديث جابر - رضي الله عنه - قال:"كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار"، وقد ذكرنا هذه المسألة وتفصيلاتها والردود في الشرح، وبينا أن الراجح والصحيح انتقاض الوضوء بأكل لحم الجزور، وذلك لما يأتي:
…أولاً: لصحة دلالة السنة الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء من أكل لحوم الإبل، وجاء الأمر صريحاً عنه عليه الصلاة والسلام في حديثنا أو في حديث أحمد أيضاً في لفظه "توضئوا من لحوم الإبل".(1/364)
…ثانياً: أن قوله "كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار"، هذا الحديث بيَّن الأئمة رحمهم الله أن المراد به ما جاء في حديث جابر مفسراً في الرواية الأخرى، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ"، فحكى جابر - رضي الله عنه - ذلك بأنه كان آخر الأمرين، اختلف في سبب هذا قيل أن مدار العلة فيه في رواية شعيب عن ابن المنكدر وهذا يرجحه أبو حاتم الرازي حينما سأله ابنه فقال: إن أصحاب ابن المنكدر يرون الحادثة، وهي أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - لكتف الشاة، وحينئذ يكون تعبير الراوي بالمعنى وهذا من أسباب الخلاف بين العلماء رحمهم الله في النصوص، أن النصوص تختلف حينما يتدخل الراوي في روايته فيحكيها بالمعنى، ومن هنا فهم الصحابي أن أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - لكتف الشاة أنه نسخ للأمر بالوضوء مما مست النار، وجعله عاماً معه أنه خاص ورد في لحم الغنم، والأصل أن النسخ في لحم الغنم، وأما لحم الإبل فبقي على الأصل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء من ما مست النار، وعلى هذا فإن الوضوء من أكل لحم الجزور يترجح من وجوه: من جهة السند من ناحية الحديث الذي ذكرناه في الصحيح، ثانياً من جهة معنى الحديث فإن حديث أمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء من لحم الإبل سُنَّة قولية، وقوله "كان آخر الأمرين" حكاية فعل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليست من صريح قوله عليه الصلاة والسلام حتى يكون التعارض قويا وبمنزلة واحدة، فالصحابي يحكي هذا، هذا على أنه قول من جابر - رضي الله عنه - وأما إذا كان من الرواة فلا إشكال فالضعف أقوى، وعلى هذا نقدم خطابه عليه الصلاة والسلام للأمة، أنه عليه الصلاة والسلام خاطب الأمة بالأمر بالوضوء مما مست النار، ولما في الوضوء أيضاً من الاحتياط واستبراء الذمة، إذا ثبت هذا فيستوي أن تكون الإبل أبل عرابية أو بختية،(1/365)
العرابي مما له سنام والبختي ما له سنامان، ويستوي أن يكون البعير كبيراً أو صغيرا، ذكراً أو أنثى، لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "نعم" لما قال له:"أنتوضأ من لحوم الإبل، قال: نعم"، فعمم عليه الصلاة والسلام، ثالثاً يستوي أن يكون اللحم أو مرق اللحم، فلو طبخ اللحم لحم الجزور وشرب مرقه انتقض وضوءه، لأن المعنى الموجود في اللحم موجود في المرق بل هو أقوى، وهذا بشهادة أهل الخبرة، رابعاً لا يختص الحكم باللحم وإنما يشمل الأحشاء والأمعاء والكِرْش والكبد والسنام والطُّحال، فهذه كلها إذا أكلت نقضت الوضوء، والسبب في ذلك أن التعبير باللحم لا مفهوم له، والشرع قد يعبر باللحم ومراده الكل، كما قال تعالى: { قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} ، فعبر بلحم الخنزير مع أنه يحرم لحم الخنزير وشحم الخنزير والانتفاع بالخنزير من كل وجه، فهذا لا يمتنع أن التعبير باللحم إنما هو أن الغالب أن الناس يرتفقون وينتفعون بلحم الإبل، وعلى هذا يلتحق ما ذكرناه من الكبد والسنام والطحال والكرش والأمعاء.(1/366)
أيضاً في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بالوضوء من لحم الإبل بعض العلماء يقول: العلة هي الزهومة، وذلك أن في لحم الإبل من القوة ما ليس في غيره، وقيل إن العلة كونها من الشياطين وجاء هذا في حديث أحمد في مسنده، فإنها من الشياطين حينما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالوضوء من لحمها، فقال:"فإنها من الشياطين"، هذا الأمر منه عليه الصلاة والسلام علة من العلل عند بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، فلما قال:"فإنها من الشياطين"، أي أمرتكم بالوضوء لأنها من الشياطين، ومن هنا منع من الصلاة في أعطان الإبل، ولم يمنع من مرابط الغنم، وتكلم الإمام ابن القيم رحمه الله كلاماً نفيساً في أعلام الموقعين على هذه العلة، إذا قلنا إن العلة هي الزهومة بمعنى قوة اللحم، وما في الإبل من القوة وهذا أمر يثبته أهل الخبرة والأطباء وأهل المعرفة، إذا قيل إن العلة هي الزهومة يتركب منها أنه إذا أكل لحماً أشد من لحم الإبل فإنه ينتقض وضوءه، وصورة المسألة لو أكل لحم الأسد، هل يجوز أكل لحم الأسد؟، الجواب ما يجوز لأنه من السباع، قد حرم الله - عز وجل - أكل كل ذي ناب من السباع، لكن لو أن مضطراً أصابته المخمصة وهو متوضئ فوجد لحم أسد فطبخه وأكله، هل ينتقض وضوءه على هذه العلة من العلة الزهومة؟، ينتقض وضوءه، لأن في لحم السبع قوة أكثر من لحم الأبل، المسألة الأخيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء من لحم الإبل، وهذا يشمل ما إذا كان نيّاَ أو مطبوخاً، وعلى هذا الكبد إذا كانت نية تؤكل وهي نية، فإذا أكلت وهي نية كبد الإبل فإنه يحكم بانتقاض الوضوء كما لو طبخت، وذلك لأن الأمر حينما جاء أنتوضأ من لحم الإبل، وهذا يشمل ما إذا كانت نية أو كانت مطبوخة فكله ناقض.(1/367)
…قال رحمه الله: ]لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له أنتوضأ من لحوم الإبل، قال نعم توضئوا منها، قيل أفنتوضأ من لحوم الغنم؟، قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ[.
…هذا الحديث أصله في الصحيح وسئل عليه الصلاة والسلام هذه المسألة، في الحديث ما تقدم من المسائل أن الإبل عامة إبل عرابية وبختيّه أنه شامل للصغير والكبير والذكر والأنثى من الإبل، وأن نتوضأ من لحوم الإبل، أن اللحم لا يمنع غير اللحم، في الحديث سأله وقال:"أنتوضأ من لحوم الغنم؟، قال: إن شئت"، فهذا تخيير تركب من هذه الجملة في الحديث مشروعية تجديد الوضوء، لأن الرجل لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟، يعني لو أكلنا أنتوضأ من لحوم الغنم، فقال له:"إن شئت"، يعني توجيه السؤال أنه يقول يا رسول الله أنا متوضئ فأكلت لحم غنم، هل أتوضأ؟، فقال - صلى الله عليه وسلم -:"إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا"، هذه الجملة عند العلماء أصل في مشروعية تجديد الوضوء، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيّره بين أن يتوضأ فيجدد الوضوء على الوضوء الأول، وبين أن لا يتوضأ، وفي حديث السنن"الوضوء على الوضوء نور على نور"، وحكاه الإمام الترمذي في سننه رحمه الله، ولكنه حديث مُضَعّف في سنده العمل عند أهل العلم على عدم ثبوته، هذا الحديث بعض العلماء يقول طبعاً هو أصل في مشروعية تجديد الوضوء، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن للرجل أن يجدد وضوءه بقوله:"إن شئت"، أي إن شئت فتوضأ على وضوءك الأول، وإن شئت فلا، لكن استنبط منه بعض العلماء أن التجديد لا يشرع إلا إذا عَمِلَ عملاً بعد الوضوء الأول، وذلك أنه هنا أكل، فلما أكل قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إن شئت"، قالوا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجدد وضوءاً على وضوء، يعني ما توضأ ثم جاء مرة ثانية ويتوضأ، فقالوا هذا يدل على أن الأصل أن لا يجدد الوضوء على الوضوء، لكن(1/368)
لما وجد الفاصل هنا من الأكل وهو الفاصل الغريب، أو الفاصل بالعبادة مثل أن يصلي بالوضوء الأول ركعتي الوضوء، أو يصلي سنة أو فريضة قالوا يشرع له أن يجدد بعد ذلك، وأما إذا كان لم يفصل بين الوضوء الأول والثاني فينظر فيه، فإن كان في وضوءه الأول توضأ ثلاثاً فالتجديد هنا غسلة رابعة، وقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزيادة على التثليث، فقال في الإسباغ وهو الغسل ثلاثاً:"هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم"، قالوا: فلو جاء يتوضأ مرة ثانية كان كالغسلة الرابعة، وهي في الحقيقة غسلة رابعة للعضو، هذا مذهب طائفة من العلماء في التجديد، أنه إذا أراد أن يجدد ولم يعمل عملاً فاصلاً بين الوضوء الأول والثاني نظرنا فإن كان قد توضأ في الأول وضوء مسبغاً ثلاثاً فإنه لا يجدد، لأنه فيه تعارض الحاظر والمبيح، فيقدم الحاظر وأميل إلى هذا القول، وأما إذا كان قد توضأ مرة أو مرتين في الوضوء الأول فلا بأس أن يزيد المرة الثانية والثالثة في الوضوء الثاني.
…قال رحمه الله: ]ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو على ما تيقن منهما[.
…]من تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو على ما تيقن منهما[، هذه المسألة مسألة مهمة ذكرها المصنف رحمه الله عقيب بيانه لنواقض الوضوء، لأن الإنسان تختلجه الوساوس وتدخل عليه هل انتقض وضوءه أو لم ينتقض؟، خرج منه الخارج أو لم يخرج، هل هو محدث أو متوضئ؟، فبين رحمه الله هذه المسألة لوجود الحاجة إليها، وهذا من ذكر النظائر في مظانها.(1/369)
قوله ]ومن تيقن الطهارة[ هذه المسألة المفرعة على قاعدة شرعية، وهي قولهم"اليقين لا يزال بالشك"، وهذه القاعدة هي إحدى القواعد الخمس التي قام عليها أو بني عليها أكثر مسائل الفقه الإسلامي، الأمور بمقاصدها، واليقين لا يزال بالشك، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يزال والعادة محكمة، هذه خمس قواعد هي أمهات القواعد في الفقه، فقولهم اليقين لا يزال بالشك الأصل في هذه القاعدة الأدلة في الكتاب والسنة، فإن الله أمرنا أن نرجع إلى اليقين وأن نلغي الشكوك، ولذلك قال تعالى: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، لأن المدعي خلاف الأصل وخلاف اليقين، الأصل عدم الدعوى للشيء حتى يثبت أنه صاحب ذلك الشيء وصادق في دعواه، فأمرنا بالبقاء على الأصل ولذلك إذا اتهم شخص نقول لمن اتهمه قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، فأنت ساقط القول ساقط التهمة حتى تثبت ما تقول كما قال الله : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، واعتبرت الشريعة الأصل وألغت ما عداه ولذلك جاءت النصوص في السنة تؤكد هذا المعنى، ففي حديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"إذا صلى أحدكم فلم يدري واحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاثا فليبن على اثنتين، فإن لم يدري أثلاثاً صلى أو أربع فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم"، وجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر المصلي أن يرجع إلى اليقين، لأنه قال:"إذا صلى أحدكم فلم يدري واحدة صلى أو اثنتين"، فاليقين أنه صلى واحدة، والشك أنه صلى الركعة الثانية أو لا فأمر أن يرجع إلى الركعة الأولى، وأن يبقى على اليقين وأن يلغي الشك، كذلك أيضاً قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبدالله بن زيد، قال: شُكِيَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يُخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال:"لا ينصرف حتى يسمع(1/370)
صوتاً أو يجد ريحا"، هذا الحديث معناه أن الرجل يصلي فيشك هل خرج منه خارج أو لا، فرده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليقين، فقال:"لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحا"، فالأصل بقاء ما كان على ما كان وهو طهارته، ومن هنا أجمع العلماء على اعتبار هذه القاعدة والعمل بها، وإن اختلفت الفروع والتطبيقات بين أئمة العلم في مسائل فإنهم لا يختلفون على اعتبار الأصل أعني هذه القاعدة.
إذا ثبت هذا أن اليقين لا يزال بالشك، فلو أن إنساناً حدث عنده وسوسة أو شك في طهارته أو حدثه ابني على ما استيقنت، فإن قال أنا متيقن وجازم أني توضأت الساعة الواحدة ظهراً، وحضرت صلاة العصر، وقال لا أدري هل خرج مني خارج ما بين صلاة العصر والواحدة ظهراً أو لم يخرج؟، نقول اليقين أنك متوضئ، فأنت على طهارتك وما استيقنت حتى تتيقن أنه خرج منك خارج، العكس لو قال أنا أجزم بأني دخلت دورة المياه وقضيت حاجتي الساعة الثانية ظهراً، ولكن أنا من عادتي أتوضأ إذا خرجت من الحمام، لكن هل توضأت أو لم أتوضأ هذا محل شك عندي؟، نقول اليقين أنك قضيت الحاجة فأنت على يقين من انتقاض طهارتك حتى تستيقن أنك قد رفعت الحدث، وعلى هذا قال المصنف: ]من تيقن الطهارة وشك في الحدث[ – كما ذكرنا في الصورة الأولى - ]أو تيقن الحدث وشك في الطهارة[ - كما ذكرنا في الصورة الثانية - ]فهو على ما استيقن منهما[، أي يجب عليه البقاء على اليقين، وحينئذ لا نطالبه بالعمل بالوساوس والخطرات، ومن رحمة الله - سبحانه وتعالى - أنه أمر العباد بالرجوع إلى اليقين، ولو فتح باب الوساوس لحصل للناس من البلاء والعناء ما لا يعلمه إلا الله، فالحمد لله على رحمته ولطفه بعباده وتيسيره.(1/371)
السؤال طيب لو قال، أنا متيقن أنني دخلت الدورة أكرمكم الله وقضيت الحاجة، ومتيقن أني توضأت ولكن ما أدري، هل الوضوء سبق، أم أن ناقض الوضوء سابق وأنا متوضئ الآن، يعني أنا متأكد من الأمرين، يقول أنا متأكد أني بعد صلاة الظهر دخلت دورة المياه، ومتأكد أني بعد صلاة الظهر توضأت فاستيقن الأمرين، نقول له أنت مأمور بالتذكر فيما قبلهما، فإذا تذكر يقول نعم أنا قبلها كنت على حدث، فنقول له أنت على عكسه، لأننا تحققنا وتيقنا أنه قد توضأ بعد هذا الحدث، وشككنا في الحدث الذي صاحب الطهارة الثانية هل هو متقدم أو متأخر فأسقطناه وبقينا على اليقين، إذاً في الأوتار يؤمر بالعكس، وفي الأشفاع يؤمر بالمثل، لو قال أنا متأكد أنني توضأت وأني أحدثت وأني توضأت بعد ذلك وأحدثت، ففي الأوتار تأمره بالعكس، إذا كان مرة واحدة قال أنا متيقن أني متوضئ ومحدث، ولا أدري أيهما السابق، نقول تذكر فيما قبلهما فأنت على عكسه، إن كان ما قبله قال أنا تحققت أني كنت متوضئا قبل هذا الشك، نقول تيقنت أنك أحدثت بعد وضوئك فأنت على حدثك، لأن الوضوء لا ندري سبق أو تأخر والعكس بالعكس، وإن قال تيقنت الأمرين مرتين نقول أنت مثله لأنه تيقن طهارة بعد حدث ثم تيقن حدثاً بعد طهارة يأمر بعكسهما.(1/372)
…طيب هذا حاصل ما ذكره الأئمة رحمهم الله هذه القاعدة قاعدة عظيمة وتفرعت عليها قواعد كثيرة، منها قولهم الأصل براءة الذمة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصل عدم التكليف حتى يدل الدليل على التكليف، وغير ذلك من مسائل الأصول التي أعمل فيها اليقين وأسقط فيها الشك فلم يلتفت إليه، وبيّن المصنف رحمه الله أن العبرة باليقين يستوي أن يكون محدثاً أو يكون متطهرا، لكن عند المالكية رحمة الله عليهم أنه لو شك قبل الصلاة هل خرج منه شيء أو لا، يقولون بهذه القاعدة لكن بطريقة عكسية، يقولون من كان متوضئاً ثم مضى إلى المسجد وشك هل خرج منه شيء أو لا؟ فإننا نأمره بالإعادة، إعادة الوضوء لأنه لا يجوز له أن يستبيح الصلاة إلا بيقين، لأن الأصل في الصلاة أنه لا يستبيحها إلا وهو على طهارة لأن الله - عز وجل - أمره بذلك، فهم يعملون القاعدة لكن بالعكس، وهو تغليب الأصل المأمور به في العبادة طبعاً على مسألة وحملوا الحديث على الشك داخل الصلاة، ولهم وجه في ذلك وفصلنا في هذه المسألة في الشرح وفي شرح عمدة الأحكام، وبيّنا صحة مذهب الجمهور أن العبرة باليقين، وأنه هو الأصل الذي تعبد الله به عباده والله تعالى أعلم.
- - - - - الأسئلة - - - - -
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ: هل شرب لبن الإبل ناقض للوضوء أم لا؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.أما بعد.(1/373)
فمذهب طائفة من العلماء ممن يقول بالنقض بلحم الجزور من الحنابلة، أن اللبن لا يلتحق لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على اللحم، ولذلك يبقى على الأصل من عدم وجوب الوضوء به، ومن أهل العلم من قال إن اللبن ملتحق باللحم وفيه أثر، واعتبروا ذلك من جهة الأصل كما ذكرنا أن الشرع يعبر باللحم ومراده الكل، ومن هنا قالوا إن اللبن يلتحق وخاصة أن اللبن فيه من القوة أيضاً والزهومة، ثم قالوا إن اللبن أصله دم، لأن الله تعالى بيّن أن أصل الألبان دماء، وعلى هذا قالوا لأن فيه حكم اللحم، فمن هذا الوجه قووا أنه يتوضأ والاحتياط في هذا أقوى والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: الطبيب إذا مس ذكر المريض فهل ينتقض وضوء المريض؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
نعم بالنسبة لتفصيل العلماء أن النقض يكون للامس دون الملموس، وحينئذ ينتقض وضوء الطبيب دون المريض، وهكذا بالنسبة للرجل مع امرأته فالحكم بالنسبة للامس دون الملموس والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: ذكرتم حفظكم الله أدلة مشروعية المسح على الخبيرة أثرا، فما أدلتها نظراً؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
نعم بالنسبة للجبيرة لا يمكن كشفها، ولذلك أصول الشريعة من جهة المعنى إذا نظرنا إلى أصول الشريعة أن التكليف شرطه الإمكان، وهذا ليس بإمكانه أن ينزع الجبيرة عند كل وضوء ويغسل موضع الجبيرة، ثم إن هذا يضره من حيث الألم ومن حيث المشقة الموجودة، فمن ناحية المعنى وهو من جهة أصول الشريعة ومقاصدها العامة من نفي التكليف بالحرج، ومن نفي التكليف بالمشقة التي تضر الإنسان في أعضاءه ومنها الجبيرة، يدل على أنه يستقيم الأمر بالمسح على الجبائر عقلاً كما يستقيم نقلا والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: هل وجود الشهوة بالتفكر ينقض الوضوء، كما ينقض وجود الشهوة بالمس؟، وقد يكون التفكر أبلغ، وجزاكم الله كل خير.
الجواب :(1/374)
لا أبداً التفكر ليس فيه شهوة مثل الشهوة الحقيقة، والشريعة دلّت على هذا ولذلك عفا الله الأمة عما حدثت به نفسها، يا إخوان دائماً الأصول التي تسقطها الشريعة بعض الأحيان تترتب عليها أشياء صعبة، يعني لو جئت بهذا المعنى في الجرائم والأخطاء لو جاء إنسان يُفكر في زنا والعياذ بالله أو في جرائم، تقول إن هذا أبلغ لأنه بنفس المعنى الذي ذكره السائل فالشهوة الحقيقة ليست كالشهوة المعنوية القائمة بالنفس، والتفكر في الشهوة ليست كالشهوة حقيقة لمساً وجساً فهذا فرق واضح، والذي لا يستطيع أن يجد هذا الفرق طبعاً إذا ضعف عقله عن إدراك هذه الأشياء هذا شيء آخر، ومن قال لك إن هذا أبلغ ويريد كذلك يستدرك على الشريعة يقول إنه أبلغ الإنسان يجب عليه أن يكون منضبطاً وأن يكون دقيقاً في العبارة، التفكر ليست كالحقيقة والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل ما هو أقوى من التفكر من عمل الجارحة من النظر والمشي إلى الحرام، جعله من حيث الأصل غير مؤثر حقيقة، ولذلك العين تزني وزناها النظر، لكن لا يعتبر من نظر بعينه زانياً حقيقة، واليد تزني وزناها اللمس، لكنه لا يعتبر زانياً حقيقة، فإذا كان هذا وهو يلمس وهذا أبلغ من أن يفكر، لم يُنَزّل منزلة الشهوة الحقيقية، فينبغي عليك أن ترجع إلى أصول الشريعة، التفكير شيء ووجود الشهوة حقيقة شيء آخر، والشريعة ضبطت الأمور بضوابط واضحة، فالإنسان إذا تلذذ ووجد الشهوة أُخِذَ بفعله، لكن إذا كان بفكره فلا، وعلى كل حال يعني هذه مسألة غريبة حتى قال بعض العلماء إن هذا المعنى الشاذ قال: إنه لو جامع زوجته وهو يتخيل أجنبية كان كمن زنا – والعياذ بالله – هذا بعضهم نص عليه بعض المتقدمين ورد عليه الأئمة رحمهم الله بهذه المعاني، أن المعنى القائم بالنفس شيء والحقيقة شيء آخر، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"، فجعل الفعل تصديقاً، وجعل قيام المعاني النفسية تكذيب(1/375)
يصدقه أو يكذبه، فجعل المعاني هذه لا تأثير لها في الحقيقة، ولا تنزل منزلة الفعل الحقيقي، وعلى كل حال الفكر لا يأخذ حكم العمل نفسه لأنك لو جئت تفكر، طيب لو فكر وهو يجامع زوجته في نهار رمضان بطل صومه، إذا قلت ما يبطل صومه نقول لك كيف تنقض الوضوء ولا تنقض الصوم، هذه عبادة وهذه عبادة، الشريعة مبني بعضها على بعض، وميزة العلماء المتقدمين لما يأتون ينظرون إلى مسألة معينة ترتبط أحكام الشريعة بعضها ببعض، "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين"، أنك تنظر إلى الشريعة منصوصة في الكتاب والسنة وتربط هذه النصوص وتوفق بينها وتجعل مسارها واحداً ودلالتها واحدة ولا تتناقض، فتقول اعتبر الفكر ناقضاً لعبادة الطهارة ولا اعتبره ناقضاً لعبادة الصلاة، ولا اعتبره ناقضاً لعبادة الصوم، لأنه إذا لزم على هذا معناه أنه وهو يصلي لو فكر في شيء انتقض وضوءه وفسدت صلاته، الحمد الله الذي ما جعل الحكم بيدك، لكانت مصيبة عظيمة على كل حال تحملنا نحن نحب أن نداعب، وعلى كل حال الفكر شيء والحقيقة شيء آخر.
أحد العامة رجل كبير كان يحتلم ولا يغتسل، فذات مرة سئل الشيخ مسألة هل إذا احتلم الإنسان وانزل أنه يجب عليه الغسل؟، قال الشيخ: نعم يجب عليه الغسل، قال: الله أكبر يا شيخ كله كذب في كذب يعني كيف يغتسل، يعني هو رأى في النوم كذبا وكان ما يغتسل، يقول لأن هذا كذب ما هو حقيقة، فهذه اجتهادات ابليسية مداخل يدخل بها الشيطان ليس ذات حقيقة ما هي مبنية على نصوص وعلى معاني، نسأل الله العظيم التوفيق والسداد والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ: عندنا إمام إذا صلى بنا صلاة المغرب يسمعنا في الركعة الأخيرة من صلاة المغرب } رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ... الآية{، في كل صلاة فهل ورد في هذا شيء؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/376)
حسب علمي لا أعرف هذا، ومثل هذا ينصح ليس من حقه أن يجهر في الأخيرة من المغرب وهذا خطأ، لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جهر في الأخيرة إلا الأخيرتين من الظهر، وثانياً أنه خصص آيةً معينة والتخصيص بدون دليل بدعة وحدث، فهذا ينصح ويمنع من هذا الشيء، لأن العامي إذا سمعه اعتقد أن هذا أمر خاصة أنه داوم، وعند العلماء التبديع يكون بالاعتقاد وبالظاهر، فمن داوم على الشيء أشعر أنه معتقد فيه، فهذه المداومة في هذه الركعة بهذه الطريقة لهذه الآية بخصوصها من القرآن بدعة وحدث، لأني لا أعرف في هذا شيئاً صحيحاً، والأصل أنه في الأخيرة من المغرب يقتصر على قراءة الفاتحة والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ: صليت صلاة الفجر بعد أن تحريت القبلة، ثم في صلاة العصر تبين لي أن القبلة منحرفة قليلاً إلى اليمين، فما هو الواجب عليّ في هذه الحالة؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/377)
في هذا السؤال جانبان: الجانب الأول إذا كان الانحراف في القبلة يسيراً لا يؤثر، يعني إذا كان لا يخرجك عن الجهة التي أنت فيها، مثلاً لو كانت القبلة في الشرق فلا تنتقل بانحرافك إلى الشمال أو إلى الجنوب وبعضهم يرى الجهة الفرعية التي هي الشمال الشرقي أو الجنوب الشرقي فإنه لا يؤثر، لأن الصفوف الطويلة يخرج فيها عن سمت الإمام نفسه، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالجيش وصلى بأصحابه في الفضاء، ولا شك أن أطراف الصف ليست على سمت الإمام نفسه، لأن طول الصف يوجب الانحراف نوعاً، فإذا كان على نفس الجهة فلا إشكال ما في تأثير، أما إذا كان انحرافاً مؤثراً، فإنه يوجب إعادة الصلاة، لكن ننظر إذا كان الذي فعلته من صلاتك للفجر والظهر والعصر بهذا الانحراف وأنت في داخل المدينة فتجب عليك الإعادة، لأن داخل المدينة لا اجتهاد فيها، القدرة على اليقين تمنع من الشك، ومن كان داخل المدينة يسأل أهلها، أو يستدل بالمحاريب وهذا الذي جعل العلماء يرخصون في المحراب، لأنه يدل على القبلة ويحتاج إليه، من باب الحاجة لا من باب التعبد، المراد به الاستدلال على جهة القبلة ولذلك نص العلماء على الاستدلال للقبلة بمحاريب المسلمين، يستدل على جهة القبلة بالسؤال بالتحري، فإذا كان جاء من عنده واجتهد في الفندق أو اجتهد في المنزل وصلى فإنه إذا تبين له أنه أخطأ يجب عليه أن يعيد، أما إذا كان اجتهادك في سفر فإنه لا إشكال في صحة صلاتك { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فإنها نزلت في المسافر إذا اجتهد وتحرى القبلة ثم أخطأه، أما المدن والقرى والهجر التي يمكن فيها السؤال فلا، هذه ينقطع فيها الاجتهاد ولا يجوز أن يجتهد الإنسان، لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك، ولذلك قالوا من آداب الضيف إذا نزل على مضيفه أن يسأله، أين مكان قضاء الحاجة؟، وأين القبلة؟ لأن هذه من آداب الضيافة، أول ما ينزل الضيف ما يأتي هكذا ينزل(1/378)
ينام، يسأل أين مكان قضاء الحاجة أين القبلة؟ حتى يستطيع أن يبني صلاته على أصل صحيح والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: الأصل في الطهارة أنها لا تنتقض إلا بناقض عليه دليل صحيح، فما الدليل على أن الدم وخروج الحصى والدود والشعر يبطل الوضوء؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
أولاً هذا كله له دليل، ما قال العلماء بانتقاض الوضوء من الحصى والدود والشعر من فراغ، ولكن كونك لا تفهم الدليل أو عقلك ما وصل إلى درجة تفهم فيها كلام العلماء لا يدل على أن المسألة بدون دليل، وهذا أمر يحصل فيه الخلط من المتأخرين على المتقدمين، أنه عجزت أفهامهم عن الفهم فيتهمون االأوّلين أنهم يأتون من عندهم، يقول لك هذا ما له دليل، لا يجوز لمسلم أن يقول ما له دليل إلا إذا كان عنده علم بالمسألة، وتقصي لقول من قال بها ودليله، لكي يعرف هل له دليل أو لا دليل له، بارك الله فيك الآن يعني عندنا الغائط الآن البول، لا يوجد دليل على أنه ناقض في الصحيحين ينص على أن الغائط ناقض، مع أن الغائط تعم به البلوى، ويحتاج إلى بيان كونه ناقضاً ما عندنا إلا دليل خفي، { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ } وبينا هذا، أو دليل المقارنة "من بول أو نوم أو غائط"، وهذا يسمونه دلالة الاقتران وفيها ضعف عند الأصوليين، فيا أخي الكريم الشريعة تريد فيها أشياء واضحة كالشمس استوى إذاً العلماء والجهلاء، لكن الأشياء العلمية دقيقة وأصول منتزعة أن الشريعة جعلت خروج الطاهر والنجس إما أن تقول خروج الطاهر والنجس بمعنى واحد، وإما تقول لا ينقض إلا الخارج النجس، إن قلت خروج النجس والطاهر بمعنى واحد عندك دليل، أن الشرع نقض الوضوء بالريح، والريح ليس بنجس الريح لا يوصف بكونه نجساً، وبناءاً على ذلك لما خرج الريح ونقض وهو طاهر كما يقول جمهور العلماء وجماهير السلف رحمهم الله والخلف على أن خروج الحصى والدود ناقض للوضوء، وما خالف فيه إلا(1/379)
المالكية رحمهم الله لأنهم رأوه خارجاً غير معتاد ولهم علتهم في ذلك، فالشاهد أنه لما خرج الريح نبهك الشرع على أن العبرة بالمخرج، وأن هذا المخرج ما خرج منه فهو ناقض، المني طاهر ولذلك المالكية يرون أنه نجس، فلم يأصلوا بهذا الأصل، لكن بالنسبة لغيرهم كالشافعية والحنابلة يرون أنه طاهر فلما خرج نقض الطهارة الصغرى والكبرى، وهو خرج من نفس المخرج، فإذا نقضت بالمني الشرع ينبهك، ما دام أن الشرع نقض بالمني فإن القياس معتبر، ولذلك عمل أئمة السلف بالقياس الصحيح والنظر الصحيح، وقال عمر - رضي الله عنه - لأبي موسى الأشعري يبين له كيف الاجتهاد، قال له: قس الأمور بأشباهها، فأمره بالقياس والقياس حجة وله أدلة من الكتاب والسنة، فنحن نقيس لأن الله أذن لنا بالقياس ونعتبر القياس حجة، ونرى أن الشرع نقض الوضوء بالريح وهو طاهر فننقض بما له جرم طاهر، مادام أنه خرج من هذا المخرج فهو ناقض، استوى خروجه من القبل أو الدبر، هذا مذهب الجمهور والحمد لله جمهور السلف رحمهم الله والأئمة بل حتى قال ابن أبي هبيرة: وأجمعوا على أن خروج الحصى والدود ناقض للوضوء إلا مالكاً، فاستثنى المالكية رحمهم الله في هذا يعني أنه لم يخالف فيه الخلفية إلا المالكية رحمة الله عليهم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد.
باب الغسل من الجناية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب الغسل من الجنابة[.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله و نهجه إلى يوم الدين. …أما بعد.(1/380)
فيقول المصنف رحمه الله: ]باب الغسل من الجنابة[، غَسْل الشيء صب الماء عليه، واختلف العلماء رحمهم الله هل يشترط في وصف الشيء بكونه مغسولاً إذا صببت الماء عليه أن تمر يدك وتدلكه باليد، أم أن مجرد الصب يصدق عليه أنه غُسل؟، والذي عليه طائفة من أئمة اللغة رحمهم الله أن صب الماء على الشيء وبلوغ الماء لذلك الشيء أنه يكفي في الحكم عليه بكونه مغسولاً وأنه لا يشترط أن تدير يدك عليه، ومن أمثلة ذلك لو أنك غسلت إناءً فصببت الماء داخله ثم حركته دون أن تدخل يدك فإنه يصدق عليك كونك غاسلاً له، وقال بعض العلماء لا بد من إمرار اليد وعلى هذا الخلاف اختلف الأئمة رحمهم الله في الغُسْل الشرعي، هل يشترط فيه الدلك أو لا؟، فجمهور العلماء رحمهم الله على أن الغسل من الجنابة ومن الحيض ومن النفاس أنه لا يشترط فيه الدلك، وأن المهم هو وصول الماء إلى ظاهر البشرة وذلك يؤكده الدليل الصحيح كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة، قال: لا، إنما يكفكِ أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدك فإذا أنت قد طهرت، فدل على أن العبرة بوصول الماء إلى ظاهر الشيء وذلك يكفي للحكم بكونه غسلاً لذلك الشيء.
قوله رحمه الله:]الغسل من الجنابة[، من سببية أي باب الغسل بسبب الجنابة، كما في قول تعالى: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ } أي بسبب خطيئاتهم، والجنابة اختلف العلماء رحمهم الله فيها على قولين: قال بعض العلماء: إنها مأخوذة من مجانبة الشيء بمعنى البعد عنه، والسبب في ذلك أن من وصف بكونه جنباً يتقي ويجتنب أشياء كفعل الصلاة والدخول إلى المسجد والمكث فيه ونحو ذلك من الممنوعات التي يمنع منها الجنب.(1/381)
وقال بعض العلماء: إن الجنابة مأخوذة من الجَنْب، لأنها لا تكون غالباً إلا من الجماع لإلصاق الجَنْب بالجَنْب ومن هنا وصفت بكونها جنابة.
يقول المصنف رحمه الله: ]باب الغسل من الجنابة[، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بطهارة الغسل، والطهارة كما تقدم معنا نوعان طهارة خبث وطهارة حدث، وطهارة الخبث هي إزالة النجاسة عن البدن والثوب والمكان، وأما طهارة الحدث فإنها تنقسم إلى طهارة من الحدث الأكبر وطهارة من الحدث الأصغر، والمصنف رحمه الله قدم الطهارة من الحدث الأصغر فبين لنا صفة الوضوء ونواقض الوضوء وموجبات الوضوء ثم بعد ذلك شرع في الطهارة من الحدث الأكبر، وبينا أن السبب في ذلك أمران:
الأمر الأول يتعلق بالتأسي بالكتاب حيث قدم الله الطهارة الصغرى على الطهارة الكبرى فقال سبحانه في آية الوضوء: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ، ثم قال بعد ذلك: { الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } ، فقدم الطهارة الصغرى على الطهارة الكبرى.
وأما السبب الثاني من جهة النظر فإن الطهارة الصغرى أكثر وقوعاً من الطهارة الكبرى، فالإنسان يتوضأ في اليوم في بعض الأحيان ما لا يقل عن خمس مرات، وأما الجنابة وغسل الجنابة فقد لا يجنب إذا كان أعزب بدون زوجة قد لا يجنب إلا مرة أو مرة في السنة أو مرة في الشهر، فمن هنا قالوا أنه يُقدم الأكثر بلاءً.(1/382)
قوله رحمه الله: ]باب الغسل من الجنابة[، يتعلق هذا الباب ببيان أسباب الجنابة ومتى يحكم بكون الإنسان جنباً؟، ومتى يجب عليه أن يغتسل غسل الجنابة؟، ولما قال لنا رحمه الله: ] باب الغسل من الجنابة[، فهمنا من هنا أنه لا يتكلم عن الغسل بسبب الحيض، ولا عن الغسل بسبب النفاس، ولا عن الغسل بسبب الردة، أي الأسباب الأخرى، وإنما ينحصر كلامه في الجنابة، والجنابة تكون إما بخروج المني وإما بالجماع وكلاهما سيبينه المصنف رحمه الله ولذلك ينحصر الكلام هنا على هاذين الأمرين.
قال رحمه الله: ]والموجب له خروج المني وهو الماء الدافق[.(1/383)
]والموجب له[ الضمير عائد إلى الغسل، أي الذي يوجب الغسل ويستلزم الحكم بوجوبه على المكلف خروج المني، الخروج ضد الدخول وقد تقدم معنا بيانه في الخارج من السبيلين، وخروج المني يقتضي أن يخرج حقيقةً، والمني له مرحلتان إذا خرج من الإنسان، ينفصل أولاً ثم بعد ذلك يقذفه العضو خارجه وهذا أي الأمر الثاني يتحقق به الإنزال، فأما بالنسبة لانفصاله من الصلب والشعور بتحركه عند الشهوة فهذه المرحلة الأولى، الذي عليه جمهور العلماء والأئمة رحمهم الله أن العبرة بخروجه حقيقةً وأن مجرد الشعور بانفصاله عن الصُلْب لا يكفي في الحكم بكون الإنسان جنباً - خلافاً للحنابلة حيث عندهم في المذهب قول أنه لو شعر بخروجه أنه يحكم بجنابته منذ انفصاله - والواقع أن هذه المسألة لها صور منها لو أن شخصاً كان في الصلاة وكان في التشهد فتحركت شهوته فشعر بانفصال منيه فامسك ذكره مع الحائل ولم يخرج المني حقيقة إلا بعد السلام فسلم فخرج منه المني، فعلى القول بأن العبرة بالانفصال يجب عليه الغسل، وعلى القول بأن العبرة بالخروج الحقيقي كما هو مذهب جمهور العلماء فإنه لا يجب عليه الغسل، لأنه لا يجب عليه أن يعيد الصلاة وصلاته صحيحة، ويجب عليه الغسل بعد التسليم، وبناءً على ذلك العبرة بالخروج حقيقة وأن مجرد الانفصال لا يكفي على أصح قولي العلماء رحمهم الله.
قال رحمه الله: ]خروج المني[، المنيّ بالتشديد والمني بالتخفيف الأشهر التشديد، أصله صب الشيء وسميت مِناً بهذا الاسم لما يصب فيها ويراق من الدماء قربةً لله عز وجل.(1/384)
والمني هو الماء الأبيض الثخين الذي يخرج دفقاً عند الشهوة الكبرى ورائحته كرائحة طلع النخل كما ضبطه العلماء رحمهم الله بذلك، والسبب في ضبطه بالرائحة أنه ربما أشكل على الإنسان فشك هل الذي خرج مني أو مذي، ولذلك قالوا إنه يتميز بصفات، الصفة الأولى أن يخرج مع الشهوة واللذة، والصفة الثانية أن يخرج دفقاً بخلاف المذي الذي يخرج قطرات، والصفة الثالثة أن رائحته كرائحة العجين، هذه ثلاث صفات للمني، أبيض ثخين بالنسبة للرجل وقد يكون ثخيناً في الشتاء وقد يرق في الصيف، ثخينٌ بالنسبة للرجل مع البياض، رقيق أصفر بالنسبة للمرأة، هذه الصفات التي ذكرناها لا يشترط اجتماعها، فلو أنه خرج منه المني فلم يشعر باللذة، أو خرج منه المني قطرات ولكن الرائحة رائحة المني، فحينئذ وجدت صفة فنحكم بكونه جنباً على أصح قولي العلماء وهو مذهب الشافعية وطائفة رحمة الله عليهم، أن خروج المني على أي صفة كان، كثيراً أو قليلاً، سواءً خرج على سبيل المرض أو على سبيل الصحة، إلا إذا تفاحش وأصبح شيئاً يوجب الرخصة هذا أمر آخر، لكن الكلام إذا كان خروجه على أي صفة يوجب ثبوت الغسل ووجوبه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إنما الماء من الماء"، فلما قال:" إنما الماء"، الماء يعني الغسل من الجنابة، "من" سببية أي بسبب الماء وهو خروج المني، لم يفرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين خروج المني قليلاً أو كثيراً، بين خروجه دفقاً أو قطرات، بين خروجه على سبيل الفضخ بأن يخرج دفعة واحدة أو يخرج على دفعات، ومن هنا يجب الغسل بخروج المني مطلقاً سواءً كان على الصفة التي ذكرناها المعتادة كما قال تعالى: { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } ، أو كان على الصفة غير المعتادة كما ذكرنا في نواقض الطهارة الصغرى فالعبرة بخروجه.(1/385)
ثانياً: يستوي خروجه في حال اليقظة وفي حال النوم، فإذا نام واستيقظ ووجد المني حكم بوجوب الغسل عليه، سواءً تذكر أنه رأى في النوم ما يثير شهوته أو لم يتذكر، فمادام أنه قد وجد المني بصفاته المعتبرة حكم بوجوب الغسل عليه، وهذا مبني على عموم قوله عليه الصلاة والسلام:" إنما الماء من الماء"، وفيه حديث عن عائشة رضي الله عنها وفيه ضعف لأنه من رواية عبدالله بن عمر العمري وهو في سنن الترمذي، "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألته عائشة رضي الله عنها عن الرجل يستيقظ فيجد أثر المني في ثوبه ولا يذكر احتلاماً فأمره بالغسل"، لكن هذا الحديث ضعيف يغني عنه ما هو أصح منه وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"إنما الماء من الماء".(1/386)
فقوله رحمه الله: ]خروج المني[ عام يشمل أيضاً الذكر والأنثى والأكثر خروجاً في الرجال منه في النساء، والمرأة تكلم العلماء على خروجه وعدم خروجه، ولكن ظاهر حديث أم سليم رضي الله عنها لما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين وقالت له:"إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة غسل إذا هي أجنبت؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا هي رأت الماء، إنما هن شقائق الرجال"، فقوله عليه الصلاة والسلام "إذا رأت الماء" قيل رؤية بصرية وقيل رؤية نفسية أن ترى بالرؤية النفسية وعلى كل حال الأصل عندهم أنه إذا خرج الماء من ذكر أو أنثى قليلاً أوكثيراً، دفقاً أو متقطعاً، متقطعاً: مثل لو أنه جامع زوجته فأنزل ثم اغتسل وبعد الغسل خرجت قطرات، فجمهور العلماء يرون أن هذه القطرات تابعة للمني الأول على تفصيل، والشافعية يرون أن العبرة بالخروج فما دام أنه قد خرج ثانية أوجب الغسل ثانية كما لو بال ثم توضأ ثم خرج منه قطرات البول بعد وضوئه من ناقضه الأول، فعلى كل حال يجب عليه الغسل بوجود الخروج، إذا ثبت الخروج خروج المني على أي صفة كان فإنه يلزم بذلك، الدليل على هذا عموم قوله عليه الصلاة والسلام:"إنما الماء من الماء"، فلما بيّن عليه الصلاة والسلام أن وجوب غسل الجنابة وهو الماء الأول بسبب وجود المني وهو الماء الثاني، حكمنا بذلك مطلقاً في جميع الأحوال دون النظر إلى الصفات التي ذكرناها.
قال رحمه الله: ]والموجب له خروج المني وهو الماء الدافق والتقاء الختانين[.(1/387)
]وهو الماء الدافق[ وصفه بهذه الصفة لأن الله تعالى يقول: { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ - يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } ، اختلف في قوله : { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } ، والحقيقة عند النظر من أقوى الأقوال قول من قال إن قوله: { يَخْرُجُ } عائد إلى الولد المخلوق، فقوله: { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } ، هذه أصل الخلقة لأنه بيان لخلقة الإنسان، { مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } أي الإنسان، { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } أي من بين صلب المرأة وتريبتها، لأنه المخرج المعروف للولد، وعلى هذا يكون الوصف المتعلق بالماء الأول في قوله: { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } ، ومن علامة هذا الماء الدافق أنه إذا فضخه أعقبه الفتور والضعف، وهذه الصفة من الصفات إذا حصل عند الإنسان اشتباه في كونه مذياً أو منياً.
قال رحمه الله: ]والتقاء الختانين[.(1/388)
والتقاء الختانين هو الموجب الثاني من موجبات الغسل من الجنابة، والتقاء الختانين المراد بذلك أن يجامع الرجل المرأة فيولج الذكر في الفرج والعبرة بغياب رأس الذكر، فإذا غاب رأس الذكر التقى الختانان فحاذى الختان الختان ختان الرجل ختان المرأة، وهذا لا يكون إلا في حال الإيلاج، وعلى هذا الإيلاج وهو غياب رأس الذكر تترتب عليه الأحكام الشرعية حتى ذكر بعض العلماء والأئمة أن أكثر من ستين حكماً في الشريعة الإسلامية مرتبة على هذا، فإن كان مقطوع الحشفة أي رأس الذكر، اعتبر قدرها، فإذا غاب قدرها حكم بوجوب الغسل، وبناءً على هذا فالدليل على وجوب الغسل بالإيلاج إيلاج رأس الذكر قوله - صلى الله عليه وسلم -:" إذا مس الختان الختان"، وفي لفظ "إذا جاوز الختان الختان"، وفي لفظ "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل"، فدل هذا الحديث على أن الجماع موجب من موجبات الغسل، وأنه لا يشترط في إيجاب الغسل بالجماع أن يقع إنزال سواءً حدث إنزال أو لم يحدث، وكان في أول الإسلام إذا جامع الرجل المرأة ولم ينزل لا غسل عليه ولا عليها ثم نسخ هذا، ولذلك كان في أول الإسلام في حديث أبي - رضي الله عنه - المتقدم " إنما الماء من الماء" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر الصحابة بالغسل من الجنابة إذا حصل جماع إلا بإنزال، ولذلك لما مر على الأنصاري - رضي الله عنه - فقرع عليه بابه فخرج الأنصاري عجلا فشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مع أهله، فقال له:" لعلنا أعجلناك أو أقحطناك، إذا أعجلت أو أقحطت فلا غسل عليك"، ومن هنا دل على أن مجرد الجماع لم يكن كافياً في إيجاب الغسل، ثم نسخ هذا فأوجب الله - عز وجل - على المجامع الغسل سواءً حصل إنزال أو لم يحصل إنزال، سواءً حصل الإيلاج بالعضو كاملاً أو لم يحصل فالعبرة بتغيب رأس الذكر فإذا حصل تغيب رأس الذكر وهو الحشفة حكم بوجوب الغسل، فلو أنه استمتع بالمرأة فوضع فرجه على(1/389)
فرجها دون إيلاج لم يجب الغسل ما لم ينزل أو يولج، فالعبرة بالإيلاج ولا بد أن يتحقق هذا القدر في قول جمهرة الأئمة رحمهم الله من السلف والخلف لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" إذا التقى الختانان"، ولما قال "إذا التقى الختانان" فيه فوائد كثيرة منها أدب الشريعة الإسلامية في عدم التعبير بالأشياء حقيقة، إلا في مجالس العلم حيث يحتاج طلاب العلم إلى توضيح وتفصيل فتفصل الأشياء كما قال تعالى: { وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } ، فشرع لعباده ألا يستحوا عند بيان الحق، وقالت أم سليم:"يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة غسل؟… الحديث".
فإذا احتاج العالم والإمام المفتي والمسئول إذا سئل عن مسألة أن يُفَصِّل ويبين فإنه يبين ويفصل، لكن الأصل أن يتأدب وأن يؤتى بالألفاظ كنايةً، قال ابن عباس - رضي الله عنهم -:"إن الله يُكْني" ولذلك لم يعبر عن الأشياء المستبشعة بأسمائها المستبشعة، فقوله "إذا التقى الختانان" أدب من آداب النبوة عنه - صلى الله عليه وسلم -.(1/390)
ثانياً قال: ]الختانان[ فدل على أن الرجل يختتن والمرأة تختتن، وقبح الله من رد على الشريعة هذا وأنكر هذا واستبشعه من شرع الله ودين الله قبحه الله ورد قوله لأن هذا هو شرع الله - عز وجل -، تختن المرأة لكي تعتدل شهوتها ويختن الرجل طهارة من ربه ونقاءً له، حتى إنه من العجيب ثبت طبياً أن سرطان القضيب - أعاذنا الله وإياكم - قل أن يوجد في المختتنين، وهذا من نعم الله - عز وجل - أنه جاء بطهارة الحس والمعنى، فشاهت وجوههم ينكرون على الإسلام لأنهم قوم يجهلون، أفأف لهم ولما يدعون فعجزت أفهامهم على أن تدرك هذه الحِكَم الربانية والطهارة الإلاهية، فالختان لما قال:" إذا التقى الختانان"، دل على أنه يشرع للمرأة ويشرع للرجل، وأن المرأة مختونة والرجل مختون ولذلك عّبر - صلى الله عليه وسلم - بهذا التعبير، حتى إن بعض الجهلة يقول ليس في شريعة الله أن المرأة تختتن، وهذا حديث اتفق الإمامان البخاري ومسلم رحمهما الله على إخراجه وهو حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها في إثبات شرعية الختان.(1/391)
وقوله:" إذا التقى الختانان"، لا يكون هذا إلا بالصورة التي ذكرناها وهي وجود المجاوزة والإيلاج، وفيه دليل على أن العبرة بوجود الإيلاج سواءً حصل الإنزال أو لم يحصل كما تقدم معنا، وبهذا الحديث نسخ الحكم الأول، ولذلك لمَّا اختلف الصحابة في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فبعضهم كان يظن أن الحكم باقٍ وأنه لا يجب الغسل على من جامع زوجته حتى ينزل لأنه لم يبلغه الناسخ، وبعضهم علم الناسخ فاختلف الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر - رضي الله عنه - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما اشتجروا أرسل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهذا من فضله وتقديره لأهل الفضل فمع أنه الخليفة الراشد المحدث الملهم ومع علمه بالسنة رجع إلى من هو أعلم، لأن عائشة رضي الله عنها كانت أعلم بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمور، فلما أرسل إليها أرسلت إليه بهذا الحديث "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل"، فقال عمر - رضي الله عنه - الله عنه قولته المشهورة: "من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً"، فرجع إلى قولها وهذا يدل على أن هذا الحكم هو المعتبر وهو الذي استقر عليه حكم الشريعة وأن الأول منسوخ، وقوله:"إذا التقى الختانان"، جمهرة العلماء على أن الإيلاج في الفرج من حية أو ميتة سواءً كانت المرأة حية أو ميتة، وسواءً كان فرج القبل أو الدبر والعياذ بالله أو كان فرج بهيمة أن الإيلاج في هذه الفروج كلها موجب للغسل، وأن التعبير بالختان جاء على التعبير بالمشروع والمعروف وهذا يقاس به النظير على نظيره والشرع ينبه بالنظير على نظيره، فلما كان حصول الإيلاج يقع في هذه الأشياء اعتداءً وحرمةً ألحق بالأصل فحكم بوجوب الغسل فيه.
قال رحمه الله: ]والواجب فيه النية[.(1/392)
بعد أن بين أسباب الغسل وموجباته شرع في صفة الغسل، الغسل له صفتان: الصفة الأولى صفة الإجزاء، والصفة الثانية صفة الكمال، فإذا اغتسل المسلم من الجنابة فهناك أمور لا بد من وجودها متى ما وُجدت حكم بصحة غسله، ومتى ما فُقدت أو فُقَد واحد منها حكم بوجوب إعادة الغسل عليه، هذه الصفة يسمونها صفة إجزاء بمعنى أنه لا يجزئ الغُسْل إلا بها، وبمعنى أننا لا نحكم بصحة الغسل وحصول الطهارة إلا إذا وجدت هذه الصفة تامة كاملة، هذه صفة الإجزاء، فشرع رحمه الله فيها وقال: ]والواجب في ذلك النية[، الواجب في غسل الجنابة أن ينوي والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، وقد تقدمت معنا هذه المسألة في الوضوء وعلى هذا فإنه لا يصح الغسل إلا بنية، وبناءً عليه فلو أن إنساناً عليه جنابة فجاء إلى البركة ودخل فيها فاستحم ناسياً جنابته، كان الزمان زمان حر أو يحب السباحة في الماء، فجاء فخلع ثيابه وتسبح، فلما انتهى من الغسل وخرج من الحوض أو من البركة تذكر أن عليه جنابة لا يجزيه هذا الغسل عن غسل العبادة، لأنه لم ينوي هذا الغسل عبادة وإنما نواه عادة لأنه قصد به التبرد وقصد به الاستحمام، فغسل العادة لا يجزئ عن غسل العبادة، ولذلك لا بد وأن ينويه جنابةً، وهكذا لو أنه في يوم الجمعة ومن عادته أن يغتسل قبل الجمعة فأصاب أهله جامع أهله، أو نام قبل الجمعة فاحتلم ثم استيقظ ومن عادته إذا أراد الخروج للجمعة أن يغتسل لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" من أتى الجمعة فليغتسل"، فأمر بغسل الجمعة، فجاء واغتسل متذكراً غسل الجمعة ولم يذكر غسل الجنابة فإنه لا يجزيه عن غسل الجنابة، فلا يجزي هذا الفرض عن ذلك الفرض ويجب عليه أن يرجع ويغتسل غسلاً منوياً عن الجنابة حتى يرفع حدثه، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:"وإنما لكل امرئ ما نوى"، وهذا نوى غسل الجمعة ولم ينو غسل الجنابة،(1/393)
ولكن لو أنه اغتسل غسل الجنابة ونوى اندراج غسل الجمعة تحته أجزئه، لأن المقصود من الجمعة أن يتنظف وقد حصلت النظافة بغسل الجنابة وقد أثر هذا عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم -.
بيّن رحمه الله أنه تجب النية والنية القصد، ومعنى ذلك أن يقصد رفع الحدث عنه، فالمرأة تقصد رفع الحدث إذا كانت حائضة أو كانت نفساء أو كانت عليها جنابة، والرجل أيضاً يقصد رفع حدث الجنابة عنه.
قال رحمه الله: ]وتعميم بدنه بالغسل مع المضمضة والاستنشاق[.
…النية ينبغي أن تسبق الغسل، فإذا وقعت أثناء الغسل استأنف، فلو أنه غسل نصف بدنه ثم تذكر أن عليه جنابة فنوى قلنا له أعد ما غسلت، وعلى هذا فلو أنغمس في بركة ثم تذكر أن عليه جنابة بعد أن انغمس يرجع ثم ينغمس ثانية لنية غسل الجنابة الفرض الواجب عليه.(1/394)
ثانياً الواجب الثاني: تعميم بدنه بالماء، أي أن الله فرض على الجنب إذا اغتسل من الجنابة أن يصيب جميع بدنه بالماء، والدليل على ذلك قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } ، فأمر الله الجنب بالطهارة، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -:"ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ"، فأوجب تعميم البدن بالماء، وكذلك دلالة الفعل كما في حديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما في صفة غسله - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة وأنه عمم بدنه بالماء، وعلى هذا فإن الواجب أن ينوي وأن يعمم بدنه ظاهراً بالماء، ويتفقد عند تعميمه لبدنه المغابن كالإبطين والرفغين وتحت الركبة حتى يتأكد أن الماء قد وصل إلى جميع ظاهر البدن، وأما بالنسبة للمضمضة والاستنشاق فلأن الفم من خارج والأنف من خارج البدن وليس من داخل البدن، وقد أمر الله في غسل الجنابة أن نعمم ظاهر البدن بالغسل، ومن هنا تجب المضمضة والاستنشاق في الغسل ولا تجب في الوضوء، لأن الوضوء أمر بغسل وجهه الذي تقع به المواجهة، والمواجهة تقع بالبشرة لا بداخل الفم وبداخل الأنف، ففرق بينهما بتفريق الشرع، ومن هنا أحال النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعرابي في الوضوء على ظاهر الآية فقال:"توضأ كما أمرك الله"، والوجه في لغة العرب، إنما هو الذي تكون به المواجهة بالظاهر لا بباطن الفم ولا بباطن الأنف، ولكن في الغسل لما كان المقصود في غسل الجنابة أن تعمم جميع بدنك ننظر في الفم والأنف، هل الشريعة اعتبرت الفم والأنف من خارج البدن أم من داخلهما؟ فوجدنا أن الصائم يتمضمض ووجدناه يستنشق فعلمنا أن الفم والأنف من ظاهر البدن لا من داخله، وأنهما وإن لم يصدق عليهما أنهما وجهاً فإن المأمور هنا ليس غسل الوجه وإنما المأمور غسل ظاهر البدن ولذلك يتفقد بطون وجهه كما يتفقد بطن الإبط ويتفقد بطن الركبة، ولذلك إذا اغتسل لا بد أن يصيب الماء باطن الإبط فيتفقد ذلك ويوصل الماء إليه،(1/395)
وكذلك أيضاً يوصله إلى باطن فمه وباطن أنفه، لأنه من ظاهر البدن لا من داخل البدن.
بقال رحمه الله: ]وتسن التسمية[.
بعد أن بيّن صفة الإجزاء هذه الثلاثة أمور: النية، تعميم البدن، والمضمضة والاستنشاق، وعلى هذا لو وجدت بركة ماء أو وجد مستنقع وعلى الإنسان جنابة قبل أن ينغمس ينوي، فيأتي إلى الماء وينغمس ناوياً رفع الحدث ثم يتمضمض ويستنشق ارتفعت عنه الجنابة، إذا فعل هذا ارتفعت، جنابته لكن هذه الصفة صفة إجزاء وليس بصفة كمال، صفة الكمال فيها الأجر أعظم وهي الصفة المحفوظة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملة وتفصيلاً، يطبقها الإنسان كما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الأفضل والأكمل فإنه إذا اتسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابته الرحمة والهداية كما قال تعالى: { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ، ووصفه نبيه بأنه رحمة فمن اتبعه أصابته هذه الرحمة، فالتأسي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به أفضل وأكمل، لكن قد يكون الإنسان مستعجلاً وقد يكون الوقت ضيقاً عليه ولا يتأتى منه أن يستوعب الغسل مثل ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويريد أن يغتسل بسرعة يريد أن يدرك وقت الصلاة، فحينئذ ينغمس غمسة واحدة ينويها عن حدثه الأصغر والأكبر، وأثناء انغماسه يغسل فرجه ومواضع الأذى، أو يبدأ فيغسل فرجه قبل أن يدخل في المستنقع أو البركة، أو يدخل فيبدأ بغسل فرجه ثم ينغمس ناوياً رفع حدثه ثم بعد ذلك يتمضمض ويستنشق.(1/396)
من الأمور التي ينبه عليها أن المصنف ذكر صفة الكمال، أثناء صفة الكمال بعض الناس يغسل فرجه ويذهل عن النية، فلا ينوي غسل الجنابة إلا عند ابتداءه للوضوء، ومن هنا لا يغسل فرجه بعد وضوئه فيكون الغسل الأول غسل الفرج غسل إنقاء وليس غسل عبادة، وحينئذ يبقى جزء من البدن لم يصبه الماء بالنية المعتبرة، ولذلك ينبغي على الإنسان أن يحتاط وأن تكون نيته لغسل الجنابة قبل أن يغسل فرجه، لأنه إذا غسل فرجه ينوي بغسل فرجه أنه من غسل الجنابة حتى يتحقق غسله لجميع بدنه لأنه لا يستطيع بعد أن يتوضأ أن يعود مرة ثانية ويلمس فرجه، لأنه إذا فعل ذلك يكون مخلاً بالوضوء ويجب عليه أن يتوضأ مرة ثانية إذا وقع مس الفرج أثناء الغسل، فعلى كل حال الصفة الكاملة هي المحفوظة في حديثي أم المؤمنين عائشة وميمونة رضي الله عنهما وسيذكر المصنف رحمه الله إحدى الصفتين المأثورة.
قال رحمه الله: ]وتسن التسمية[.
]وتسن التسمية[، الحقيقة ليس هناك دليل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى قبل غسله، والمصنف رحمه الله طبعاً والأئمة ألحقوا الطهارة الكبرى بالطهارة الصغرى والحكم بالسنية الحقيقة يحتاج إلى دليل يدل عليه، وفي الواقع ليس هناك شيء ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى ولذلك لم تذكره عائشة رضي الله عنها ولا ميمونة رضي الله عنها، وفي نسبته سنة لا يخلو من النظر، ولذلك هم يقولون بمشروعية التسمية قياساً على الطهارة الصغرى ممكن هذا قياس، لكن ما يقال تسن لأنه أن تحكم بكونها سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنها إما أن تثبت من قوله أو تثبت من فعله أو تثبت من تقريره - صلى الله عليه وسلم -، وفي الواقع لا أعرف دليلاً يدل على هذا لا قول ولا فعل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تقرير.
قال رحمه الله: ]ويدلك بدنه بيديه ويفعل كما روت ميمونة رضي الله عنها [.(1/397)
]ويدلك بدنه بيديه[، دلك البدن الحقيقة يحقق النقاء والطهارة المقصودة ثم نفصل في هذا الدلك، الدلك طبعاً إمرار اليد على البدن وهذا الإمرار لا شك أنه يحصل به النقاء ويحصل به الطهارة، وأمة الإسلام أمة نقاء وطهارة، ومهما افتخر غير المسلمين بأنهم أنظف من المسلمين فلن تجد أنظف من أهل الإسلام، والعجب أن أوروبا كانت في العصور المظلمة لم تتعلم النقاء والغسل إلا من المسلمين حينما فتحوا الأندلس وكانوا فيها.
فهذا النقاء وهذه الطهارة التي يتعاطاها المسلم في صبحه ومسائه وعباداته بلغت الغاية والكمال، لأن الله - عز وجل - يقول: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ، فمن هنا من كمال النقاء أن الإنسان يدلك، وإن تيسر وجود المطهر فهذا أفضل، لكن نفصل فيه ونقول أن المنبغي أن يصيب البدن الماء القراح وهو الماء الطهور الخالي مما يخالطه مما يؤثر في طهوريته، ولذلك تبدأ أول شيء وتصيب البدن كله بالماء، وبعد أن تصيب البدن كله بالماء تضع الصابون والأشنان والمطهرات لا بأس ولا حرج، فالأصل أن دلك اليد إذا كان الماء قليلاً ولا يصل الماء إلا بالدلك صار الدلك واجباً، لا بذاته ولكن من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن هنا استنبط إمام دار الهجرة الإمام أبو عبدالله مالك ابن أنس رحمه الله برحمته الواسعة وجوب الدلك، "أنه صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يغتسل بإناء قدر الحلاب"، "وصح عنه أنه اغتسل بالصاع وتوضأ بالمد"، فقال: لا يعقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ربعة من الرجال ووسط من الرجال ليس بالطويل البائن ولا بالقصير - صلى الله عليه وسلم - ولا يعقل أنه يغتسل بصاعٍ واحد يستوعب بدنه إلا بالدلك، ومن هنا تقول عائشة رضي الله عنها:"حتى إذا أنه ظن أنه روّى أصول شعره"، كان يدلك بيده - صلى الله عليه وسلم - شئون شعره فكان يتفقد بدنه، فالدلك نعتبره واجباً ولازماً إذا كان الماء قليلاً أو كان(1/398)
وصول الماء إلى ظاهر البشرة يتوقف على الدلك، وهذا يقع في بعض الأحيان إذا كان الجو بارداً ودخل الإنسان إلى ماء بارد فإن الجسم ينكمش وربما صعب دخوله على المسام فيحتاج إلى دلك، الدلك من باب إيصال الماء، إذا كان الماء يصل بدون دلك فليس بواجب وهو كمال وليس بفرض.
قال رحمه الله: ]ويدلك بدنه بيديه ويفعل كما روت ميمونة رضي الله عنها قالت:"سترت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاغتسل من الجنابة"[.
]"سترت النبي - صلى الله عليه وسلم -"[، أولاً ويفعل كما روت ميمونة رضي الله عنها وهي ميمونة بنت الحارث زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، هذا منهج من المصنف أنه يذكر أحاديث رسول لله - صلى الله عليه وسلم - وهذا يدلنا على أن الكتب الفقهية والمتون الفقهية ملتصقة بأدلة الشريعة، هذا إمام من أئمة المسلمين وهذا متن من المتون الفقهية كان بالإمكان أن يصف لنا غسل الجنابة بالصفة العادية، ولكنه جاء بالنص وجاء بالحديث وهذا الأصل في أئمة الإسلام وهم أرفع وأبعد من أن يأتوا بشيء من عند أنفسهم دون أن يكون لهم أصل شرعي أو حجة يقفون بها بين يدي الله - عز وجل - فهم أبعد من أن يتقولوا على الله بدون علم، ومن هنا نعلم أن من الخطأ من يتهم هذه المتون الفقهية بأنها محض آراء وأنها ليست من الكتاب والسنة، فهذا ضلال مبين ولا يقول هذا أحد قرأ المتون الفقهية فمن قرأها يعرفها، والجاهل بالشيء عدوه، ومن جهل بشيء عاداه، فلينظر الإنسان كان بالإمكان هنا أن المصنف يصف الغسل من الجنابة بالصفة العادية ويقول يبدأ بكذا ويفعل كذا وكذا، لكن جاء وقال: ]ويفعل كما روت ميمونة[ تأسياً واقتداءً وحرصاً على الدليل.(1/399)
وقولها:"سترت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، مشروعية الاستتار عند الغسل ومشروعية الستر عند انكشاف العورة وقد استتر - صلى الله عليه وسلم - عند اغتساله كما في الصحيح في قصة فتح مكة وكانت فاطمة رضي الله عنها تستره بثوب وهو يغتسل وجاءته أم هانئ فسلمت عليه بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
"سترت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فيه دليل على مشروعية خدمة المرأة لزوجها وأن هذا هو فعل أمهات المؤمنين والسلف الصالح، وفاطمة رضي الله عنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشتكيه أن يديها مجلت من طحن النوى، وأنها خدمت علياً رضي الله عنه لأن البعض يقول هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فنقول هذه فاطمة رضي الله عنها خدمت علياً وتأذت في بدنها من خدمة بيت زوجها ومع ذلك لم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها ذلك.
"سترت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فكانت تستره، كان أمهات المؤمنين يقمْنَ على شئون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا شرف وفضل ولا يعرف الفضل إلا أهله، فشرفهن الله وفضلهن فكن يقمن على طهارته وعلى وضوءه و على غسله، تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين:" كنا نُعِدُّ لرسول الله وضوءه وسواكه فيبعثه الله من الليل ما شاء"، فكن في خدمته صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين،" سترت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاغتسل من الجنابة" أي اغتسل غسل الجنابة.
قال رحمه الله: ]ويفعل كما روت ميمونة رضي الله عنها قالت:" سترت النبي - صلى الله عليه وسلم - فاغتسل من الجنابة، فبدأ فغسل يديه" [.(1/400)
]"فبدأ فغسل يديه"[ قبل غسل الجنابة، اليدان المراد بهما الكفان وليس اليدين كاملة، فكان في بداية الغسل يغسل كفيه وهذا فيه فائدة، طبعاً ربما مست الكف أثناء الجماع كاليد للكف اليسرى تمسك العضو وربما تتلطخ بمذي أو نحوه ومن هنا تحصل نجاسة لليد وقذر في اليد، فابتدأ عليه الصلاة والسلام تشريعاً للأمة بغسل الكفين، وفائدة غسل الكفين أيضاً أنهما سينقلان الماء إلى بقية البدن وسيمرهما لإنقاء البدن، ومن هنا ابتدأ بتطهير الآلة الناقلة وهي الكفان، فغسل كفيه صلوات الله وسلامه عليه قبل غسله من الجنابة.
…قالت رضي الله عنها: ]"ثم صب بيمينه على شماله"[.
…قالت رضي الله عنها: ]"ثم صب بيمينه على شماله"[ لأنه سيغسل الفرج، والفرج يغسل بالشمال لا باليمين فأكفأ بيمينه يعني الإناء أكفأه بيده اليمنى على يده اليسرى، فصب عليه الصلاة والسلام لأنه لم تكن هناك صنابير ماء مثل البزبوز الموجود الآن، وإنما كان عليه الصلاة والسلام يغتسل في الآنية.
…قالت رضي الله عنها: ]"فغسل فرجه وما أصابه"[.
…فغسل فرجه عليه الصلاة والسلام، واتفقت الروايات على أنه ابتداء بغسل الفرج، وقولها: "غسل فرجه" جاء في الرواية الأخرى "مذاكيره"، وهذا يدل على أنه غسل العضو والانثيين صلوات الله وسلامه عليه، ويدل على أن السنة استيعاب العضو بالغسل كاملاً لأنه أصلاً مأمور بغسله كاملاً، في غسل الجنابة لابد أن يستوعب الفرج، فيغسل ذكره وأنثييه ودبره، حتى لا يحتاج بعد ذلك أن يعيد غسل الدبر إذا عمم على بدنه الماء، ومن هنا يبدأ بغسل الفرج وإصابة الماء لهذه المواضع.
…قالت رضي الله عنها: ]"ثم ضرب بيديه على الحائط والأرض"[.(1/401)
…"ثم ضرب بيده على الحائط" في رواية، "وعلى الأرض" في رواية، ودلكها دلكاً شديداً صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من النقاء والطهارة لأنه لما غسل بيده اليسرى فرجه تعلق بعض الأشياء فأنقى اليد بدلكها بالأرض، والأرض فيها طهارة والعجيب أن بعض المعاصرين من أهل المعرفة بخصائص التربة يقول إن نسبة التطهير فيها تبلغ مالا لا يقل عن خمس وسبعين في المائة من قوة الطهارة الموجودة في الأرض فدلك عليه الصلاة والسلام بالأرض، وقال بعض العلماء إذا كانت الأرض رخاماً أو حجراً ولا يستطيع أن يدلك يدعك بالصابون، والواقع كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: يحتمل الدلك بالأرض ضربه على الأرض أو ضربه على الحائط تعليق القذر بالحائط وبالأرض، ومن هنا يستوي أن يكون صلباً أو يكون قابلاً لتحت، لأن الطين يتحات وكانت جدرانهم من الطين والأرض من التراب، فقالوا: لما ضرب على الجدار، الجدار يحتمل أنه طلب للطين الطين أقرب إليه في الأرض، فلما ضرب على الجدار قالوا أراد إزالة القذر لأن من القذر مالا يزال إلا بالضرب والخض، ومنه مالا يزال إلا بالدعك ومنه ما لا يزال إلا بالرغوة، فجمع عليه الصلاة والسلام بين هذه الأشياء، ومن هنا كان بعض مشايخنا رحمة الله عليهم يقول: حتى ولو كانت الأرض غير طين فإنه يضرب على الجدار ولو كان رخاماً تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بأس بالتأسي به عليه الصلاة والسلام لأن في هذا أكثر من معنى، وحينئذ لا بأس أن يضرب على الحائط ثم بدل دلك الأرض يأخذ الصابون ويدعك، لان المقصود بضرب الأرض إنقاء اليد مما علق بها، ولكن ضرب الحائط فيه المعنيان يحتمل أنه لمعنى النقاء ويحتمل أنه تعبد، ومن هنا استحب بعض العلماء فعل هذا بعض مشايخنا رحمة الله عليهم، وهذا له وجهه أن يضرب بيده الحائط ثم يضرب بيده الأرض ويدلكها، وإن قلنا إن المقصود إزالة الأذى فحينئذ لا يتوقف الأمر على الأرض، فلو كان عنده صابون أو(1/402)
أُشنان يعني منظفات فإنه ينظف بها.
…قالت رضي الله عنها: ]"ثم توضأ وضوءه للصلاة"[.
…ثم توضأ عليه الصلاة والسلام وضوءه للصلاة، وهذا يدل على أن السنة أن يبدأ بالوضوء، والبداءة بالوضوء لها أمران: إما أنه تعبدي بمعنى أنه يقصد منه رفع الحدث الأصغر، وإما إنه لفضل أعضاء الوضوء وهذا هو الصحيح وأنه ليس للطهارة الصغرى، لأن الطهارة الصغرى لا تصح قبل الكبرى، يعني بمعنى أنه لا يرتفع قبله، وإن كان الجنب إذا توضأ لا ينتقض وضوءه إلا بجنابة، ولذلك يلغزون يقولون متوضئ لا ينتقض وضوءه إلا بجنابة؟، تقول هو الجنب إذا توضأ.
قل للفقيه وللمفيد ولكل ذي……باع مديد ما قلت في
متوضئ لا ينقضون وضوءه ……مهما تغوط أو يزيد
هذا طبعاً جوابه الجنب إذا توضأ، فإنه لا ينتقض وضوءه إلا بجنابة جديدة، أما إذا قلنا إن الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ بالوضوء من أجل الطهارة فهذا بعيد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ بأعضاء الوضوء لشرف أعضاء الوضوء، وعندنا دليل يقوي هذا، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قال لأم عطية رضي الله عنها وهي تغسل بنته غسل الميت:"اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك"، قال لها قبل هذا:"ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها، ثم اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك"، فلما قال:"ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها" فهمنا أن هذا التقديم هنا إنما هو لمكان فضل أعضاء الوضوء.(1/403)
…الاحتمال الثاني أن يكون للطهارة، اللذين قالوا أنه للطهارة قووا هذا بأنه أخر غسل رجليه، حتى تعلق الطهارة الصغرى بالطهارة الكبرى، وبعد فراغه من الغسل كلية تنحى فغسل رجليه، وهذا مبنى على أن غسله لرجليه إنما هو من معنى الطهارة كما ذكرنا، وهناك احتمال أن تأخير غسل الرجلين لأن الأرض كانت طيناً وفيها بلة، فلو أنه لما توضأ غسل رجليه احتاج مرة ثانية أن يعيد غسل رجليه، وكانت يغتسل بالصاع فالماء لا يكفي، ومن هنا الأشبه أن تأخيره لغسل رجليه ليس للوضوء، وكنا نميل إلى هذا في الشرح الماضي ولكن اطمأنت النفس إلى أنه لفضل أعضاء الوضوء وليس المراد به الوضوء التعبدي.
…قالت رضي الله عنها: ]"ثم أفاض الماء على بدنه"[.
…إذاً يبدأ بغسل الفرج بعد غسل الكفين يبدأ بغسل الفرج، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ويؤخر غسل رجليه على وجهين: بعض العلماء يقول يؤخر غسل رجليه في كل غسل، سواءً كانت الأرض نقية أو لم تكن نقية، ومنهم من قال يؤخر غسل رجليه إن كانت الأرض طيناً أو تراباً، وأما إذا كانت الأرض صلبة كالرخام ونحوه يتوضأ وضوءًا كاملاً، حديث عائشة رضي الله عنها توضأ فيه وضوء كاملاً، حديث ميمونة رضي الله عنها أخر غسل رجليه، ومن هنا تعارضت الأحاديث وجمع بينها على هذا الوجه، أن تأخير غسل الرجلين إنما هو لمعنى النقاء وليس المراد به معنى التعبد، وأن تقديم الوضوء إنما هو لشرف أعضاء الوضوء.
…قالت رضي الله عنها: ]"ثم أفاض الماء على بدنه" [.(1/404)
…قالت رضي الله عنها: ]"ثم أفاض الماء على بدنه"[، هذه الإفاضة مجملة جاءت مفصلة مبينة في حديث عائشة، كيف أفاض؟، ابتدأ عليه الصلاة والسلام أول ما ابتدأ بعد الوضوء بغسل رأسه، ومن هنا أجمع العلماء واتفقوا على تفضيل تقديم غسل الرأس على البدن، وهذا حتى من ناحية طبيّة يفضلونه وله من الإعجاز النبوي الطبي في السنة تقديم غسل الرأس، وفي الرأس من الأجهزة الحساسة والجهاز العصبي ما يكون أرفق بالبدن مما لا يبتدأ بغيره بخلاف أعضاء الوضوء، والعجيب أنه لو اغتسل بماء في شدة البرد تحمله بتقديم الوضوء، وطاقه أكثر بهذا الترتيب النبوي العجيب، ومن هنا ابتدأ عليه الصلاة والسلام برأسه ماذا فعل برأسه؟، ابتدأ بشؤون رأسه فأفاض على رأسه حثى عليه ثلاث حثيات، وقال لأم سلمة:"إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات"، فابتدأ بالرأس فروّى أصول الشعر وجعل الماء يصل إلى أصول الشعر وهي جلدة الرأس، وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا:"حتى إذا ظن أنه روّى أصول شعره بالماء"، لاحظ قولها "ظن" ومن هنا نقطع الوسوسة، فالشخص لا يجب عليه أن يتحقق مائة في المائة أنه قد غسل رأسه، وإنما يبنى على غالب ظنه قالت:"حتى إذا ظن"، فهذا من رفق الشريعة ويسرها، فيروّى أصول شعره فيفض كفا من الماء على رأسه ثم يدعك حتى يغلب على ظنه أن الماء قد أصاب جلدة الرأس، ثم بعد ذلك بعد أن فرغ عليه الصلاة والسلام من غسل رأسه، ولذلك يقولون في قوله عليه الصلاة والسلام "من غسّل واغتسل"، قالوا غَسّل رأسه، واغتسل لبدنه، وهذا لفضل الرأس بإفراده بالغسل، بعد أن فرغ عليه الصلاة والسلام من معالجة شؤون رأسه ووصول الماء إلى رأسه أفاض على بدنه فابتدأ بشقه الأيمن، قالت رضي الله عنها:"فصب الماء على شقه الأيمن"، ثم تفقد عليه الصلاة والسلام شقه الأيمن وإبطه عليه الصلاة والسلام، وهذه السنة أن الشخص يتفقد الشق الأيمن لأن عائشة رضي الله عنها لما وصفته بكونه غاسلاً شقه(1/405)
الأيمن لا يكون إلا بالتفقد، خاصة وأنه يغتسل بالصاع، ثم لما فرغ من شقه الأيمن أخذ شقه الأيسر فغسله عليه الصلاة والسلام ثم أفاض الماء على جميع بدنه، هذه الإفاضة مفصلة في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت ميمونة:"ثم تنحى فغسل رجليه"، تنحى لأن الأرض مبتلة بالطين، فلما قالت:"تنحى" فهمنا أن تأخير غسل الرجلين ليس للوضوء، وإنما هو لمكان الأرض، لأنه عليه الصلاة والسلام اغتسل على أرض فكانت الأرض أيامها طينا ولذلك لو غسل رجليه لاحتاج أن يغسلهما مرة ثانية كما ذكرنا.
…هذا غسل الكمال، تنحى عليه الصلاة والسلام فغسل رجليه، قالت رضي الله عنها:"فأتيته بمنديل فلم يُرِده وجعل ينفض الماء بيديه صلوات الله وسلامه عليه"، وهذا قيل لفضل قطرات الماء أن الأفضل بعد الوضوء أن لا ينشف الإنسان لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"ما من مسلم يتوضأ فيسبغ الوضوء إلا خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل وجهه خرجت كل خطيئة نظرت إليها عيناه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، وإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى تخرج من تحت أظفار يديه، وإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء"، فلما قال:"مع آخر قطر الماء" قالوا يستحب أن يترك الماء إذا توضأ يتقاطر من بدنه لأن الذنوب كلما انتظر كلما كان ذلك أكثر في ذهاب ذنبه وغفرانه، ومن هنا لما أوتي بالمنديل عليه الصلاة والسلام لم يتنشف منه، قالت:"وجعل ينفض الماء بيديه صلوات الله وسلامه عليه"، وما ورد أنها مراويح الشيطان والنهي الترويح باليد هذا حديث ضعيف، والعمل على أن الأفضل والأكمل أن لا يتنشف بعد الوضوء وبعد الغسل، وذلك لأنه فضلة عبادة، ومن هنا جمعت الصفتين الحرص على الطهارة أكمل وأكثر وثانياً أنه فضلة عبادة فشرع إبقاؤها ما أمكن.(1/406)
…قالت رضي الله عنها:]"ثم تنحى فغسل رجليه"[.
…]"تنحى"[ يعني أخذ ناحية غير الناحية التي كان فيها، ويقال تنحى إذا تأخر عن المكان الذي
هو فيه، وهذا يؤكد ما ذكرناه لأنه لو كان الوضوء لأجل الطهارة لكان في موضعه، لأنه ما يحتاج أن يصب الماء في موضع آخر وهذا يقوي على أنه لفضل أعضاء الوضوء وليس للطهارة الصغرى.
قال رحمه الله: ]ولا يجب نقض الشعر في غسل الجنابة إذا روّى أصوله[.
…ولا يجب على المرأة أن تنقض شعر رأسها إذا كانت تغتسل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة حينما سألته "إني امرأة أشد ظفر شعر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت من الجنابة؟، قال: لا، إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ"، فدل على أنه لا يجب نقض الضفائر وأن العبرة بوصول الماء إلى أصول الشعر وما حاذى محل الفرض.
…قال رحمه الله: ]وإذا نوى بغسله الطهارتين أجزأ عنهما[.
…وإذا نوى بغسله الطهارة الصغرى والكبرى دخل قبل صلاة الفجر وهو جنب فاغتسل ناوياً أن يصلي بعد غسله، يعني ناوياً رفع الحدث الأصغر والأكبر صلى بدون وضوء وأجزأه الغسل عن الطهارتين، لما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة وصلى ولم يتوضأ بعد غسله عليه الصلاة والسلام".
…قال رحمه الله: ]وكذلك لو تيمم للحدثين والنجاسة على بدنه أجزأ عن جميعها[.
…وكذلك لو تيمم للحدثين الأصغر والأكبر، ]والنجاسة على بدنه[ أي والحال أن النجاسة على بدنه وقصد أيضاً طهارة الخبث، اندرجت طهارة الخبث تحت الحدث، واندرجت الطهارة الصغرى تحت الكبرى، فحصل الاندراج على هذه الأوجه، فأجزأه أي أنه كفاه، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في الحديث الصحيح لعمار:"إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا"، فجعله متطهراً بالتيمم واجتزأ بهذا عن الطهارة الصغرى والكبرى.(1/407)
…قال رحمه الله: ]وإن نوى بعضها فليس له إلا ما نوى[.
…وإن نوى بعض هذا نوى الحدث الأكبر ولم ينو الحدث الأصغر أجزأه غسله عن الحدث الأكبر دون الأصغر، وحينئذ نقول له توضأ، وهذا مبنى على أن الجنب تنتقض منه الطهارتان، بعض العلماء يقول الجنب إذا أجنب انتقض وضوءه، لأنه خرج من الذكر كما ذكرنا في نواقض الوضوء، وانتقضت الطهارة الكبرى فوجب عليه الغسل، ومن هنا يلزم بالطهارتين وعليه فإنه يغتسل وينوى الطهارتين يجزئ، إذا نوى إحدى الطهارتين بقيت الطهارة الأخرى في ذمته، فلو نوى الطهارة من الحدث الأكبر بقي الحدث الأصغر كما هو ولزمه أن يتوضأ بعد غسله، لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"، فدل على أن من نوى شيئاً كان له ومن لم ينوه لم يكن له، فنقول من نوى بغسله الوضوء أجزأه ومن لو ينو به الوضوء لم يجزه.
- ? - ? - ? - ? - الأسئلة - ? - ? - ? - ? -
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ: قالت: "ميمونة رضي الله عنها فغسل فرجه وما أصابه"، ما معنى قولها وما أصابه؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. …أما بعد.
إذا جامع الرجل امرأته يصيبه مذي المرأة، ولذلك يحتاج إلى غسل العضو ونقاءه وما أصابه من ماء المرأة أثناء الجماع كما لا يخفى، ومن هنا قالت رضي الله عنها: "غسل فرجه وما أصابه" تعني ذلك والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ: ألا يكون في حديث عبد الله بن زيد - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بثلثي مد فجعل يدلك ذراعيه"، ألا يكون فيه دليل على مشروعية الدلك؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/408)
قد تقدم بيان هذه المسألة نحن نقول إذا كان الماء قليلاً لا يكفي يجب الدلك، لأنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، أما أن يكون الدلك في أصله واجباً ليس بصحيح، ودليلنا على ذلك أن حديث عبد الله بن زيد المذكور دلك عليه الصلاة والسلام والماء قليل، وأم سلمة يقول لها:"ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ"، "ثم تفيضين الماء" فدل على أن العبرة بوصول الماء ولم يقل لها وتدلكي، وإنما قال لها:"ثم تفيضين الماء"، الإفاضة لا تكون إلا بشيء كثير، ومن هنا إذا كان الماء كثيراً يصل إلى البشرة من دون دلك فإنه كاف، ولا حاجة لإعادة هذه الأسئلة نحن بينا هذا في الشرح، المسألة واضحة كررناها وبيناها في الوضوء وبيناها في الغسل أن الدلك ليس بواجب بذاته، وإنما المراد إيصال الماء إلى ظاهر البشرة فإن وصل إلى ظاهر البشرة فهو المعتبر والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: كيف نخرج الكبر من قلوبنا؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/409)
الكبر داء وبلاء ولا يبتلى الإنسان به إلا لمرض في قلبه، فإن الذنوب المتعلقة بالقلوب أمراض، فمن ابتلاه الله بها فلا عافية له إلا أن يسأل ربه أن يعافيه، ولا شفاء له إلا أن يدعو ربه أن يشفيه، فإذا سأل العبد ربه خالصاً من قلبه كارهاً لبلائه ودائه استجاب الله دعاءه، وفرج كربه وأزال همه وغمه، الكبر داء وبلاء ولو لم يكن في شقاءه وبلاءه إلا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يدخل الجنة من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من كبر"، هذا يدل والعياذ بالله على عظيم هذا البلاء، الكبر يمنع صاحبه من قبول الحق، وهذا أعظم أنواع الكبر، وأشدها ضرراً على العبد في الدنيا والآخرة، وبه تطمس البصيرة والعياذ بالله، وبه يزيغ القلب كما قال تعالى: }فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم{، فإن من عرضت عليه الآيات والحجج فاستنكف واستكبر عن قبولها ولم يرضَ من خصمه أو من يبين له أن يقيم عليه حجة الله - عز وجل -، وتعالى على هذه الحجج، فإنه والعياذ بالله يبتلى بطمس البصيرة والضلالة والعياذ بالله في أمر دينه، وهذا أعظم أنواع الكبر، الكبر على أهل الحق والكبر على طلبة العلم وعلى الأخيار والصالحين، وهذا أعظم ذنباً من الكبر على عامة الناس، من التكبر على أهل العلم أنه ما يأتي يسألهم ويرى أنه أرفع من أن يأتي يقف على يد العالم، فتجد التاجر وصاحب التجارة إذا أراد أن يبني عمارته أو يخطط أرضه ذهب إلى المهندسين والمقاولين واستشار هذا وذاك ولربما جاءهم في مكاتبهم، ولكن نسأل الله السلامة والعافية تنزل عليه المسألة في دينه وربما تكون قاصمة لظهره فيها حياته وموته لا يذهب إلى عالم، ولا يقف على باب العلماء ويرى أنهم أحقر من أن يذهب إليهم، وينادي شخصاً ويقول له اسأل لي العالم الفلاني، أو اذهب إلى فلان واسأله تكبراً على أهل العلم نسأل الله السلامة والعافية واستعلاءً.(1/410)
كذلك التعالي على طلاب العلم أثناء طلب العلم، فيكون الإنسان غنياً أو ثرياً ومعه أخوه فقير أو غريب لا يسلم عليه، ولا يحترمه ولا يقدره وقد يكون طلاب العلم الغرباء أعظم قدراً عند الله من غيرهم، وأعظم أجراً وأعظم ثواباً لأنهم صدقوا الله في غربتهم إلى الحق وطلبهم للعلم، فهم أحق بالمحبة وأحق بالإكرام وأحق بالإجلال وأحق بالتواضع لهم والسلام عليهم، فتجد الشخص يتكبر أن يسلم على شخص غريب ربما يراه فقيراً أو حالته رثة، ولكن يجلس مع زملاءه إذا كانوا ذوي ثراء أو نعمة جلس يباسطهم وجلس يمازحهم فإذا مر عليه هذا الغريب لم يعبأ به، ولربما وقف عليه أخوه في الإسلام غريباً يريد أن يسأله المسألة أو يريد أن يستفيد منه فلم يرفع له رأساً، إياك والكبر عن هؤلاء، فإن الله - عز وجل - عاتب نبيه من فوق سبع سماوات في هؤلاء الضعفاء،"ورب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع عند الأبواب لو أقسم على الله لأبره"، فتتواضع وتحبهم وتجلهم فإن العلم خاصة إذا كنت من طلاب العلم، العلم مبادئ وليس بالأشكال ولا بالصور ولا بالدعاوى العريضة العلم مبادئ، طالب العلم الذي عنده مبادئ يرى أخاه بمعدنه ودينه، فإذا نظر إلى أخيه في الإسلام غريباً عن وطنه وأهله جعله لحمة عينيه وتاج رأسه من المحبة في الله، فيقدره ويجله وكان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - إذا أتاه طلاب العلم من الآفاق بسط رداءه لهم، وقال: مرحباً بوصايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يتكبر عليهم ولم يتعالى عليهم ولم يشعر بنفسه عليهم فضلا، هكذا ينبغي أن يكون طلاب العلم وهكذا يكون طلاب العلم، فالعلم بالمبادئ فلا تتكبر عليهم ولا تتعالى عليهم ولا تحتقرهم فيرفع الإنسان صوته عليهم ازدراءً وانتقاصاً لهم بل عليه أن يتقي الله - عز وجل - في هؤلاء.(1/411)
كذلك أيضاً الكبر على عامة الناس من الضعفاء والفقراء "وهل تنصرون إلا بضعفائكم"، يرفع الكبر من القلب بالدعاء تدعوا لله - عز وجل -، مما يذهب الكبر من القلوب كثرة ذكر الموت، وزيارة القبور والنظر في حال أهلها، من الجبابرة والأكاسرة والعظماء الذين أفضوا إلى ما صاروا إليه، ومن الأغنياء والأثرياء اللذين أصبح لحافهم وغطاؤهم الثرى أذلة بين يدي الله - جل جلاله -.
صاح هذى قبورنا تملأ الرحب …فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطأ ما أظن أديم …الأرض…إلا من هذه الأجساد
يعتبر الإنسان وينكسر قبله، مما يكسر القلب عن الكبر محبة الأيتام والضعفاء ومباسطتهم ومسح رأس اليتيم والنزول إلى الفقراء اللذين ينصر بهم المسلمون، "وهل تنصرون إلا بضعفائكم كما قال - صلى الله عليه وسلم -" مما يذهب الكبر من القلوب محبة الله - عز وجل -، فمن أحب الله - عز وجل - علم أن الله يحب منه أن يتواضع، فيوطأ كنفه ويكون لين الجانب لأولياء الله وعباد الله نسأل العظيم رب العرش الكريم أن ينزع الكبر من قلوبنا وقوالبنا، وأن يرزقنا التواضع لوجهه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد.
باب التيمم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
…أما بعد.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب التيمم[.
…بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
…أما بعد.
…فيقول المصنف رحمه الله: ]باب التيمم[، التيمم في لغة العرب القصد، يقال أمَّ الشيء إذا قصده، ومنه قوله تعالى }ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلاً من الله ورضوانا{، أي القاصدين للبيت الحرام، ومنه قول الشاعر:
تيممتها من أذرعات وأهلها…بيثرب أدنى دارها نظر عالي(1/412)
فالتيمم هو القصد، وأما في الاصطلاح فهو:"القصد إلى شيء مخصوص لفعل مخصوص بنية مخصوصة".
"فالقصد إلى شيء مخصوص": هو الصعيد الطيب.
"لفعل مخصوص":وهو ضرب الكفين ومسح الوجه وظاهر الكفين بهما.
"والنية المخصوصة":هي استباحة الصلاة لذلك يعتبر التيمم على أصح قولي العلماء مبيحاً لا رافعاً للحدث، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته"، فدل على أنه مبيح لا رافع للحدث، إذ لو كان رافعاً للحدث لما أمر بالاغتسال والوضوء عند وجود الماء، ومن هنا قال:"فإذا وجد الماء فليتقِ الله وليمسه بشرته".(1/413)
هذا الباب باب التيمم يتعلق بالطهارة البدلية، فطهارة التراب بدلية عن طهارة الماء، والأصل في ذلك دليل الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم رحمهم الله، أما دليل الكتاب فقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } ، وفي آية المائدة { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } ، فهاتان آيتان كريمتان الأولى منهما في النساء والثانية منهما في المائدة، وتقدمت آية النساء على آية المائدة بزمان ووقت طويل كما قرر ذلك العلماء رحمهم الله، وأما دليل السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تدل على مشروعية التيمم وأن طهارة التراب تقوم مقام طهارة الماء في استباحة ما أمر بالطهارة لفعله، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عنه عليه الصلاة و السلام من حديث أبي هريرة وغيره رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"أُعطيت خمساً لم يُعطهن أحد قبلي"، وذكر منها "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهورا، فمن أدركته الصلاة - في اللفظ الآخر - فإن معه مسجده وطهوره"، هذا الحديث يدل على مشروعية التيمم بقوله:"جُعلت لي الأرض مسجداً وطهورا"، فالشاهد في قوله "طهورا"، وكذلك أيضاً يدل هذا الحديث على أن هذا التيمم وهذه الطهارة من خصوصيات الأمة وأنها لم تكن موجودة فيمن كان قبلنا، رحمة من الله وتوسعة من الله - عز وجل - على هذه الأمة، وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - وعن أبيه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه صلاة الفجر، فرأى رجلاً لم يصل في القوم، فقال بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه: ما منعك أن تصلي مع القوم، فقال: يا رسول الله أصابتني(1/414)
جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك"، وفي الصحيحين من حديث عمار بن ياسر الذي سيذكره المصنف حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وعن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له:"إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، وضرب بكفيه الأرض ثم نفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه"، فهذا يدل على مشروعية التيمم، ومن هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها أخذ العلماء رحمهم الله مشروعية التيمم وأجمعوا على أنه مشروع، ومناسبة باب التيمم لما قبله أن المصنف رحمه الله بعد أن بين الطهارة الأصلية وهي طهارة الماء، فذكر الوضوء والغسل من الجنابة شرع في البدل عنهما وهي طهارة التراب فقال رحمه الله: باب التيمم، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالتيمم.
…قال رحمه الله: ]وصفته أن يضرب بيديه على الصعيد الطيب ضربة واحدة، فيمسح بهما وجهه وكفيه[.(1/415)
…يقول رحمه الله: ]وصفته[، الضمير عائد إلى التيمم المشروع، ]أن يضرب بيديه الأرض[، أولاً ]أن يضرب[ وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "أن تقول بيديك، فضرب عليه الصلاة والسلام بيديه"، ومن هنا قال العلماء إذا كان معذوراً لا يستطيع أن يضرب بيديه، شُرع للغير أن يضرب بكفيه الأرض وييمم العاجز، مثل أن يكون مشلول اليدين، أو يكون مشلولاً لا يستطيع أن يقوم ويتيمم، أو بحالة لا تمكنه من تحريك يديه وفعل التيمم، فيُشرع للغير أن يضرب كفيه على الأرض ثم يمسح بهما كفي المريض ووجهه، إذاً أن يضرب متى استطاع أن يضرب بيديه، وإذا عجز قام الغير مقامه، لكن يشترط إذا قام الغير بضرب يديه أن ينوي المريض قبل ضرب ذلك الغير، تكون نيته للتيمم قبل أن يضرب ذلك، فلو أن الغير من عنده ضرب وما انتبه المريض إلا وهو يمسح وجهه وكفيه لم يصح، لابد من نية المريض إذا كان معذوراً أو مريضاً أن ينوي قبل أن يضرب ذلك الغير، ثانياً أن يضرب بيديه يعني مباشرة، فلا يكون على اليدين حائل مثل القفازين، إذا ضرب بقفازين لم يصح ليديه وأما لوجهه فإذا عَفّر به وجهه بالقفازين يصح وأما لليدين فلابد من إزالة الحائل السؤال إذا كان على يديه حائل كالجبيرة مثلاً كانت يده مجبرة، أو احتاج لجراح في يديه أن يستر يديه باللفاف، فيجوز أن يضرب باللفاف لأن اللفاف يعلق به التراب كعلوق اليد أو أكثر، ومن هنا يسوغ أن يتيمم من على إحدى يديه لفافة كان محتاجاً إليها، مثل ما ذكرنا في الجبائر ومسائل سَتْر محل الفروض، فحينئذ يقوم ذلك مقامه، ثم قال:] أن يضرب بيديه[، ومن هنا يرد السؤال في مسألة القصد إلى الطهور، لو أن إنساناً كانت عليه جنابة، فوصل التراب إلى وجهه وكفيه بدون أن يضرب، وهي المسألة المشهورة ذكرها العلماء والأئمة من المتقدمين كالإمام النووي وغيره، لو أنه كان في طريق وكانت عليه جنابة فهبت عليه الرياح، فنقلت التراب إلى وجهه حتى عفّرته وعفّرت يديه، فهل هذا(1/416)
تيمم؟، والجواب أنه يشترط القصد، فإذا وجد منه القصد للتيمم ونوى أن يكون رافعاً لحدثه أجزأه، ومن أمثلة ذلك أيضاً في طهارة الوضوء مثلاً انتقض وضوءه ونزل المطر عليه غزيراً، فَغَسّل جميع أعضاء الوضوء مثل ما يكون لابساً قميصاً وعاري القدمين، فإن المطر سيصيب جميع أعضاء الوضوء، سيغسل المطر وجهه وسيغسل يديه ورأسه لا يمسحه بل حتى يغسله ثم رجليه يغسله، ما يحتاج إلى عناء، لو أن الماء وصل بهذه الصفة فهل يرتفع حدثه؟، نعم إذا نوى وترتب في نيته مراعاةً للموالاة، صح ذلك وأجزأه لأن مقصود الشرع في الوضوء أن يصل الماء إلى ظاهر البشرة، وقد وصل الماء إلى ظاهر البشرة كما لو صبه الغير عليه، فحينئذ يستوي أن ينزل عليه من السماء ماء، أو تهب الريح فتعفّر وجهه وكفيه.(1/417)
قوله ]بيديه[ المراد باليدين الكفان، حد ذلك من أطراف الأصابع إلى الزندين، فيضرب بهما الأرض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب بكفيه الأرض في التيمم، ]بيديه الأرض[ والأرض طبعاً سيأتي أن المذهب على أن التيمم يختص بالتراب وأنه لا يشمل غير التراب الذي له غبار، ولكن الصحيح أن التيمم يكون بكل ما هو على وجه الأرض من التراب والحجر ونحو ذلك، مثل الرمل ويجوز له أن يتيمم فإن كان تراباً ضرب، وإن كان حجراً مسح، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } والصعيد كل ما صعد على وجه الأرض، وهذا القول هو مذهب الحنفية والمالكية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم رحمة الله على الجميع، وهذا القول تؤيده أدلة من كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما من الكتاب فظاهر الآية كما ذكرنا في قوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } ، وكذلك السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"جُعلت لي الأرض"، لم يقل ترابها أو غبارها، كذلك أيضاً ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"عليك بالصعيد فإنه يكفيك" حديث الصحيحين، والذين قالوا بتخصيص التيمم بالتراب كما هو مذهب علي وعمار بن ياسر وطائفة من السلف وهو مذهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله استدلوا بقوله تعالى : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } ، ومِنْ للتبعيض فدل على أن المراد بالصعيد الطيب التراب الذي له غبار، وذلك لدلالة الآية في قوله: } مِنْهُ{ ، واحتجوا بقول حبر الأمة وترجمان القرآن - رضي الله عنه - وأرضاه في قوله تعالى : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } ، قال: أرض الحرث، وهذا يدل على اختصاص التيمم بأرض الحرث دون غيرها والتي لها تراب أرض زراعية، واحتجوا بالسنة في حديث حذيفة في صحيح مسلم - رضي الله عنه - وعن أبيه، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"جُعلت لنا الأرض كلها(1/418)
مسجداً وتربتها طهورا"، فقوله "تربتها طهورا" يدل على اختصاص التيمم بالتراب وهذا القول مرجوح، أما دليل الآية في قوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } ، فإن من للابتداء، كما قرر ذلك أئمة اللغة وأشار إلى ذلك الشيخ محمد الأمين رحمه الله في الأضواء، وبيّن أن هذا معروف في لسان العرب وأن المراد منه ابتداء التيمم، وقول حبر الأمة أن المراد به أرض الحرث فهنا قاعدة وهي أن السلف رحمهم الله من الصحابة والتابعين ربما في التفسير يذكرون الأفراد من العمومات، لا يقصدون اختصاص التفسير بهذا الفرد، وهذا نبه عليه شيخ الإسلام رحمه الله وغيره من المحققين من الأئمة أن البعض يفهم من تفسيرات الصحابة بذكر الأفراد في التفسير أفراد العمومات أنهم يقصدون الحَصْر، ومن هنا يحدثون خلافاً بين الصحابة رضوان الله عليهم ويظهر عند بعض العلماء الخلاف مع أنه يمكن أن يجمع بين أقوالهم المتعددة بأنها يشملها النص ولا مانع من اعتبارها، فيقول الصحابي بوجه من الوجوه ويقول صحابي بوجه آخر، لا على سيبل الحصر وإنما على سبيل التفسير وقد يكون لهذا التفسير بالخاص ما يدعوا إليه، وكذلك أيضاً جوابنا في السنة فقوله:"وتربتها لنا طهوراً" يجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول أن الاستدلال بالآية استدلال بالمنطوق وذلك دليل العموم، والاستدلال بالحديث هنا بالمفهوم،"تربتها لنا طهوراً" نفهم منه أن غير التراب ليس بطهور، وهذا المفهوم يسميه العلماء مفهوم اللقب، وهو من أضعف أنواع المفاهيم عند أهل العلم رحمهم الله.(1/419)
الوجه الثاني وهو الذي اختاره جمع من الأئمة أن قوله عليه الصلاة والسلام "وترتبها لنا طهوراً" أنه ذكر للفرد من أفراد العام، والقاعدة في الأصول أن ذكر الفرد من أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به، النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر فرداً من أفراد الصعيد الطيب وعمم في غيره من الأحاديث، وعممت الآية فاقتضى هذا عدم تخصيص الحكم به، وبهذا يترجح قول من قال إن التيمم لا يختص بالتراب الذي له غبار، وتكلم على هذه المسألة الإمام ابن القيم في زاد المعاد وغيره وأسهب رحمه الله كعادته، وبيّن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر وأصحابه رضوان الله عليهم سافروا، وأن الأرض فيها مناطق فيها رمال، وهناك مناطق جبلية لا يتيسر فيها وجود التراب الذي له غبار ولا يتيسر فيها وجود الماء، فماذا يفعل؟، ولذلك قالوا إن قوله : { صَعِيداً طَيِّباً } عام، ومن الأدلة مما ذكره بعض العلماء بعض أئمة الحديث رحمهم الله في هذا القول قالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن المدينة:"هذه طيبة وهذه طابة، هذه طيبة وهذه طابة" كما في الصحيح، ووصفها بكونها طيبة وطابة مع أن أكثرها حِراَر كما هو معلوم، فااللابتان تكتنفانها وفيهما مساحة شاسعة جداً كلها من الحرار كما هو معروف عن المدينة ممن يعرف تضاريسها، فأكثرها حِراَر ووصفت بكونها طيبة مع أنها من الجبال في الغالب، وهذا يدل على أن المراد بقوله }طيباً{ أي طاهرا.
…قال رحمه الله: ]وصفته أن يضرب بيديه على الصعيد الطيب ضربة واحدة[.(1/420)
…]ضربة واحدة[، اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة وقد بيّنا في شرح البلوغ وفي شرح الزاد، هل التيمم ضربة أو ضربتان أو ثلاث؟، ثلاثة أقوال للعلماء رحمهم الله، قول بأن التيمم ضربة واحدة كما هو مذهب الحنابلة والمالكية، وقول إن للتيمم ضربتين، ضربة للوجه وضربة للكفين كما هو مذهب الشافعية، وقول بأنه ثلاث ضربات كما هو مذهب بعض السلف رحمهم الله كابن سيرين وغيره، والصحيح أن التيمم ضربة واحدة، والدليل على ذلك ما سيذكره المصنف رحمه من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وعن أبيه، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له:"إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض هكذا، وضرب ضربة واحدة"، قال عمار:"فمسح بها وجهه وكفيه"، وهذا يدل على أن التيمم له ضربة واحدة، وأن الواجب مسح الوجه والكفين فقط ولا يجب مسح الساعدين، فهذا هو الصحيح وأما اللذين قالوا إن له ضربتين استدلوا بحديث ضعيف هو حديث ابن العمّة، وفيه - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"التيمم ضربتان، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين"، وهذا الحديث ضعيف وبيّن العلماء رحمهم الله ضعفه وعدم ثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك العمل عند أهل العلم على ثبوت السنة بالضربة الواحدة، وأنها للوجه والكفين، وأحاديثها في الصحيحين وغيرهما، ولو قيل بتحسين حديث الضربتين فإنه يجاب عنه بأنها صفة كمال وليست بصفة إجزاء، يعني إذا أراد أن يضرب ضربة ثانية ليديه فلا بأس ولا حرج على سبيل الكمال لا على سبيل الفرض الوجوب.
…قال رحمه الله: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمار، إنما يكفيك هكذا، وضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه [.(1/421)
…حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنه - وعن أبيه في الصحيحين، وله قصة أنه كان في سفر فأصابته جنابة، فقال - رضي الله عنه - فتمعكت وفي رواية فتمرغت كما تمرّغُ الدابة ثم صليت، في هذه الجملة فائدة وهي مهمة جداً لطالب العلم حيث إن هذا الصحابي استدل بدليل القياس، فتمرّغ كما تتمرغ الدابة لأنه وجد القرآن يأمر بالتيمم بالتراب، وفي الغسل التيمم بدل عن الماء، وفي طهارة الماء يعمم البدن فقام - رضي الله عنه - مرغ بدنه كاملاً بالتراب، وهذا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعرفون دليل القياس، وأنه ليس من الرأي المذموم شرعاً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخدمه، كما في حديث "أرأيت لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟، قال: نعم"، كذلك "أرأيت لو تمضمضت" – لما سأل عن القُبلة – قال عليه الصلاة والسلام "أرأيت لو تمضمضت يعني هل يضر في صومك قال: لا، قال: فمه"، لأن الماء شهوة البدن، والقُبلة شهوة البدن، والشهوة في الماء قاصرة في التنظيف للفم والشهوة في القُبلة قاصرة هذا قياس، وكذلك في الرجل لما جاء وقال:"إن امرأتي ولدت غلاماً وذكر لوناً غير لونه، فقال له: هل لك من إبل" فاستخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - القياس، وكذلك المرأة لما جاءته وقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم، فقال:"أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟"، فقاس حق الله على حق المخلوق في وجوب القضاء وشغل الذمة في كل منهما، ففعل القياس عليه الصلاة والسلام تشريعاً للأمة، وأقرّ عماراً - رضي الله عنه - على القياس لأنه ما أنكر عليه أن يقيس، إنما أنكر عليه المشابهة من كل وجه، وقال:"إنما كان يكفيك"، وهذا يدل على مشروعية القياس وأنه حجة، وأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفونه ويستعملونه في استدلالاتهم.(1/422)
فقوله عليه الصلاة والسلام:"إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا، فضرب بيده الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه"، هذا يدل على أن التيمم ضربةواحدة، وأنه يكون من التراب لأنه ضرب بيديه الأرض، في الرواية في الصحيح "ونفخ فيهما" يعني في كفيه، وهذا يدل على أنه لا يشترط أن يكون التيمم بتراب له غبار، لأنّ الترابَ الذي نقلته اليد نفخه عليه الصلاة والسلام، فدل على أن العبرة بظاهر الأرض وليس بمنقول التراب، ومن هنا دل الحديث على مشروعية التيمم، ودل كذلك على صفة التيمم وأنه ضربة واحدة، ودل على المواضع التي تمسح في التيمم وهي الوجه والكفان، وهذا يدل على أن البدل لا ينّزل منزلة المبدل منه في طهارة التراب من كل وجه، بمعنى أنه يكون مثله في الصّفات والأفعال، وعلى هذا قالوا: أيضاً لا يكون مثله في كونه رافعاً للحدث، قصر الطهارة الترابية على هذا الوجه وقصر أثرها من الوجه الآخر كما بينته السنة في قوله عليه الصلاة والسلام "فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته".
…قال رحمه الله: ]وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جاز[.(1/423)
…]وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جاز[، في الحقيقة يجب أن يقيد هذا بالوارد، فنقول إن ضرب ضربتين جاز، وإن ضرب ثلاثاً فلا يحفظ لها أصل، ثلاث ضربات ما يحفظ لها أصل، ولذلك قالوا لا يشرع أن يكرر التيمم، لأن طهارة التراب لا تنقي كما تنقي طهارة الماء، فلم يشرع التجديد في التيمم كما يشرع في الوضوء، وإن كان قد سامح بعض العلماء من باب القياس، ولكن التيمم يزيد الموضع غباراً بسبب أنه من التراب، ومن هنا نفخ عليه الصلاة والسلام في كفيه إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه، وأنه ليس مقصود الشرع أن يغبر نفسه ويعفّرها، وإنما المقصود الطهارة البدلية بضرب الأرض والاستباحة للمحظور وهو فعل الصلاة مما تشترط له الطهارة على سبيل الرخصة والتوسعة، وعلى هذا فإنه لا يشرع أن يضرب أكثر من ضربتين لأنها هي التي فيها الخلاف الضربة والضربتين والثلاث هذه حديثها شديد الضعف، والقول بأن يسمح إلى المنكب أشد ضعفاً، والصحيح أن المسح إن كان ولابد على القول بتحسين حديث الضربتين وتحسينه من البعد بمكان إلى المرفقين، إن كان ولابد وعلى هذا يقتصر على الوارد الصحيح الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنها عبادة فيقتصر على الوارد من هديه عليه الصلاة والسلام وسنته الصحيحة.
…قال رحمه الله: ]وله شروط أربعة[.
…وللتيمم شروط أربعة لابد من توفرها لكي نحكم بصحة التيمم.
…قال رحمه الله: ]أحدها العجز عن استعمال الماء[.(1/424)
…العجز عن استعمال الماء هذا يأتي عجزاً حقيقياً وعجزاً حكمياً مُقَدرا، فيعجز حقيقة مثل الشخص الذي يكون في موضع ليس فيه ماء متيقن أنه لا يوجد ماء، ومثل الشخص الذي يحبس في غرفة ولا يكون عنده ماء، ومثل الشخص الذي يكون في موضع يتعذر أن يصل فيه إلى الماء، هذا كله عجز حقيقي، العجز الحكمي يكون الماء موجوداً لكنه يعجز عن استعماله، إما لخوف الضرر على جسده أو بدنه، أو يريد أن يطلب الماء والماء موجود لو طلبه خاف على رفيقه أو على دابته أو على عرضه كما سيأتي إن شاء الله تفصيله، هذا هو الأصل العجز عن استعمال الماء.
…قال رحمه الله: ]إما لعدمه[.
…]إما لعدمه[، يعني عدم وجود الماء، فالضمير في قوله ]عدمه[ عائد إلى الماء، يعجز عن استعمال الماء لعدمه، وإذا كان الماء معدوماً غير موجود فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها فليس هذا بوسعه أن يتوضأ بالماء أو يغتسل بالماء ليس عنده ماء، مثل ما ذكرنا في الأحوال وهذا غالباً ما يقع في السفر، فإن سافر إلى موضع فله صور، الصورة الأولى أن يجزم ويتيقن أن الموضع الذي هو فيه ليس فيه ماء يتوضأ به أو يغتسل يتحقق ويستيقن، الصورة الثانية أن يستيقن من وجود الماء وفيها تفصيل، الصورة الثالثة أن يشك ما يدري هل يوجد الماء أو لا يوجد؟.(1/425)
ففي الصورة الأولى إذا كان في موضع يتأكد ويتحقق أن الماء غير موجود فيه، فحينئذ الحكم أنه تسقط عنه طهارة الماء وينتقل إلى التيمم مباشرة ولا نطالبه بالبحث، الصورة الأولى أن يتأكد ويتحقق أن الماء غير موجود في الموضع الذي هو فيه، فالحكم حينئذ أننا نأمره بالتيمم مباشرة، ولا يطالب بالبحث ولا بطلب الماء، فلا يبحث عن الماء ولا يطلبه لأنه متأكد ومستيقن أنه لا يجد الماء، الصورة الثانية أن يشك هل الماء موجود أو غير موجود؟، فيطالب بالبحث والتحري عن الماء، فلو نزل في موضع لا يدري هل فيه بئر فيه ماء أو ليس هناك بئر؟، هل توجد محطة قريبة أو لا توجد؟، هل توجد مزرعة قريبة أو لا؟، هل هناك بيوت بجواره أو لا؟، يبحث ويتحرى حتى يقارب نهاية الوقت وحينئذ يصلي على مذهب التحري والبحث، لماذا أمرناه بالتحري والبحث؟، لأن الأمر بالشيء أمر بلازمه، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فنحن هنا لا يمكنه أن يقوم بالواجب الذي فرض الله عليه من طهارة الوضوء وطهارة الماء إلا بالبحث عن الماء وطلبه، فنقول يجب عليه طلب الماء، لأن الله فرض عليه طهارة الماء ولا يستطيع أن يجد هذا الماء إلا بالطلب فيطلبه، الصورة الثالثة: أن يستيقن وجود الماء، فحينئذ ينظر فيه، يقول الماء أنا أعرف أنه موجود على بعد ثلاثة كيلو أو عشرة كيلو أو خمسة كيلو، يعني يعلم ويستيقن أنه موجود، فحينئذ ننظر إما أن يكون قريباً بحيث لا يخرج وقت الصلاة لو طلبه، فيجب عليه أن يطلبه وأن يبحث عنه وأن يصلي بطهارة الماء لأنه لا عذر له، مثلاً يعلم أن الماء على بعد ساعة وأذَّن عليه الظهر فمعه وقت، لكن متى يجب عليه أن يطلبه يجب؟ عليه الطلب من بداية الوقت في الصورة الأولى والصورة الثانية.(1/426)
الطلب والتحري في الماء لا يجب في التيمم إلا بدخول الوقت بدخول وقت العبادة، لأنه يخاطب بها فإذا خوطب بها خوطب بشرطها وهو الطهارة، وإذا خوطب بشرطها وهو الطهارة خوطب بما لا تتم الطهارة إلا به وهو أن يجد الماء حتى يتطهر كما أمره الله - عز وجل -، فإذا كان غلب على ظنه أنه يستطيع أن يجد الماء بالبحث والتحري والمضي في حدود ساعة ساعتين والوقت يسع وجب عليه أن يذهب ولا يجوز له أن يتيمم، فإن تيمم كان كمن صلى بالتيمم مع قدرته على الماء ومع وجدانه للماء، لأن هذا ليس بينه وبين الماء إلا أن يذهب إليه فيجب أن يذهب إليه، لو قال قائل هناك مشقة أن يذهب، نقول إنها مشقة مقدور عليها فإن وصلت إلى العذر وهو أن يكون هناك سبع أو يكون هناك حيات أو عقارب عند الماء، ويغلب على ظنه أنه لو ذهب إلى الماء يقتل هذه سأتكلم عليها، فحينئذ هذا شأن آخر، لكن أن يطلب الماء ويغلب على ظنه أن الماء موجود دون أن يوجد ضرر عليه فإنه يجب عليه أن يطلب الماء ويحصله.
…كذلك أيضاً في الحالة الثانية أن يغلب على ظنه أنه لو ذهب يطلب الماء أنه يخرج الوقت ولا يصل إلى الماء، فالماء موجود على مسافة لو قطعها خرج عليه وقت العبادة، فحينئذ يجوز له أن يتيمم، لأنه لا يجب عليه أن يتطهر بالماء، وشرط الوقت مقدم على الطهارة الأصلية، وهذه من المسائل التي ذكرها العلماء، يزدحم الشرط مع الشرط ويزدحم الشرط مع الركن والركن مع الركن والواجب مع الركن والواجب مع الشرط، كلها من مسائل الازدحام فأيها يقدم؟، فهنا لو قلنا له إذهب وابحث ولو خرج الوقت فإنه في هذه الحالة قدمنا شرط الطهارة وهي طهارة الماء على شرط الوقت، وقلنا ولو خرج الوقت، والصحيح في هذه المسألة أنه يتيمم ولا يجب عليه أن يطلب الماء، هذا بالنسبة لعدم وجود الماء.
…قال رحمه الله: ]أو خوف الضرر باستعماله لمرض أو برد شديد[.(1/427)
…يخاف من استعمال الماء المرض، وهذا طبعاً يكون المرض في البدن مثل الحمى في بعض أحوالها يقول له الطبيب إذا اغتسلت تموت فهنا يخاف على نفسه، أو تكون به عاهة وعلة في موضع من البدن، فعل عملية جراحية أو أصابت الجراح أغلب بدنه، أو تضور بدنه أو الجدري أعاذنا الله وإياكم إذا أصاب البدنَ الماءُ يتضرّر صاحبه، ففي هذه الأحوال هناك مرض إن اغتسل مات، أو يخاف زيادة المرض، وزيادة المرض إما بزيادة ألمه أو تأخر البرء، ومن أمثلة ذلك الزكام، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وطائفة من العلماء المحققين، أنه إذا غلب على ظنه في بعض أحوال الزكام أنّه إذا اغتسل ربما يموت خاصة في شدة البرد، وبعضها يزيد عليه الزكام ويتأخر البرء وقد يستفحل المرض، أو على الأقل أنه لو أصابه يزداد عليه الألم، ففي هذه الأحوال كلها يرخص له، أما الخوف على النفس فإن عَمْراً بن العاص - رضي الله عنه - وأرضاه لما أجنب وصلى بأصحابه وهو جنب، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أصليت بأصحابك وأنت جنب؟"، وكان في ليلة شديدة البرد، فالماء موجود ولكنه لو اغتسل به لمات، قال:"لو اغتسلت لمت فذكرت قول الله - عز وجل - : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ، فتيمم - رضي الله عنه - وأرضاه فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فدل على أن من خاف على نفسه الموت أو الضرر في مرضه يجوز له أن يتيمم، هذا الخوف يعني يثبت الضرر الذى فيه الخوف على النفس إما بشهادة الطبيب، مثل أن يقول الطبيب للمريض لا تغتسل، فحينئذ يقبل قول الطبيب الموثوق به أو الغالب على ظنه أنه صادق وأمين، أو في نفسه يجوز أن يرجع إلى نفسه، بأن كان يعني تحرى العلامات مثلاً شخص في سفر وتحرى العلامات ما عنده طبيب، أو لا يمكنه الاتصال بالطبيب، ولذلك عمر بن العاص رجع إلى نفسه ولم يرجع إلى طبيب، وهذا على دلالة الحال، خاف على نفسه من البرد، فمن(1/428)
خاف على نفسه من المرض أولى وأحرى، فالبرد الشديد يصعب فيه الاغتسال، ومما ذكره بعض أهل السير والأخبار أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان من سبب موته أنه اغتسل وحُمَّ ومات - رضي الله عنه - وأرضاه، والمقرر عند طائفة من علماء السير أنه مات من أثر الشاة المسمومة التي أكلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال: ما زلت أجد أثر تلك الشاة التي أكلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدت عليه حتى مات، لكن ممّا ذكروا أنه اغتسل وكانت به حمىّ لكن معروف أنّ الاغتسال في حال حمىّ البدن قد يؤدّي إلى الموت والهلاك، وفي بعض الأمراض يثبت عند الأطباء بالتجربة والخبرة، وقول الأطباء مرجوع إليه لأنهم هم أهل العلم بهذا الشيء، فإذا قال لك الطبيب لا تغتسل في مرض فإنك تطيعه.
…قال رحمه الله: ]أو خوف العطش على نفسه[.
…يخاف على نفسه يعني العطش، مثلاً شخص يكون في صحراء وعنده ماء لا يكفيه إلا للشرب أو لصنع الطعام، هذا الماء الموجود لو أنه توضأ به أو اغتسل فإنه سيعطش ويموت خاف على نفسه، ومن خاف على نفسه أُبيح له التيمم، فكما أن عمراً بن العاص - رضي الله عنه - خاف على نفسه الاغتسالَ المباشر فانتقل إلى التيمم، فمن خاف العطش من باب أولى وأحرى، فإذا خاف على نفسه العطش جاز له أن يترخص.
…قال رحمه الله: ]أو ماله[.(1/429)
…أو ماله، يخاف على ماله مثلاً عنده بهائم يسقيها هذا الماء، أو رفقة معهم دوَابّ وكان يقع هذا في الأسفار في القديم، الدواب التي يسافرون عليها الركائب لها ماء، وهذا الماء ممكن أن يتوضئوا به وأن يغتسلوا، ولكن لو توضئوا به واغتسلوا عطشت رواحلهم وإذا عطشت هلكت ونفقت، فحينئذ يباح أن يترك هذا الماء لإبقاء ماله، في زماننا الآن لو أن شخصا مثلاً في سفر ما وجد ماء إلا ما في (رديتر السيارة) الذي للسيارة، يعني ممكن نحن نطبق بالأشياء العلماء في القديم ذكروا هذه الأشياء في الدواب، الآن في زماننا لو أن طويلب علم، قال لك خذ الماء وتوضأ به، هذا ماء والله يقول : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاء } ماذا يكون جوابه؟، أن هذا إفساد وإتلاف قد يكون الإنسان في مفازة قد يكون في سفر، في هذه الحالة نقول إن وجوده وعدمه على حد سواء، ثانياً أن ماء الرديتر إذا كان من الماء المغير الذي هو الخافض للحرارة هذا الماء الذي ليس بطهور لا يغتسل به ولا يتوضأ، فالحمد لله أراحنا الله منه، لكن لو أن الماء باقي في نفس (اللديتر) متغير ماء طبيعياً، تغير فقط بالصداء الموجد في (اللديتر) هذا تغير بالقرار ولا يؤثر، فأراد أن يتوضأ به نقول لا، إذا كان هذا يؤدي إلى تلف السيارة إذا مشي بها بدون ماء فإنه يمنع، لكن لو كان هناك قدر يكفي يتوضأ به ويلزمه الأصل، فالقربة الزائدة ممكن أن يأخذ منها الماء ويتوضأ، هذا أمر لا بد من تحريره على الوجه الذي حرره العلماء القدماء، عند الخوف على المال يرخص له أن يعدل إلى طهارة التيمم، وأما إذا كان الماء الذي عنده يكفي للدابة ويكفي للوضوء ويكفي للغسل فلا إشكال، يجب عليه أن يتوضأ وأن يغتسل.
…قال رحمه الله: ]أو رفيقه[.(1/430)
…أو يخاف على رفيقه، مثلاً عنده ماء ولكن هذا الماء يحتاج إليه الرفقاء اللذين معه يشربونه، أو يصنعون به طعامهم، فقال قائل هذا الماء ماؤك ملك لك فيجب عليك أن تتوضأ به وتغتسل، قال لكن رفقائي يحتاجون إليه فقد يقول قائل لا ما دام أنك تملكه فإنه يجب عليك أن تتوضأ وتغتسل، فنقول هذا القول ساقط فالخوف على النفس المحترمة كالخوف على نفسه، ولذلك لا يجب عليه أن يتوضأ ويغتسل بل يعدل إلى التيمم رخصة وتخفيفا.
…قال رحمه الله: ]أو خوفه على نفسه[.
…يخاف على نفسه إذا طلب الماء مثل ما ذكرنا رجلَُ نزل في صحراء ويعرف أنه على بعد كيلو أو كيلوين يوجد بئر ماء، ولكن عند البئر حية يغلب على ظنه أنه لو جاء يهلك خاصة في الليل والساعات التي لا يرى فيها، مثل غبش الصبح ويغلب على ظنه أو يعلم أن هناك حية أو سبعاً مفترساً، أو أرضاً مليئة بالهوام من العقارب ونحوها، الماء موجود ولكن يغلب على ظنه أنه لو دخل هذا المكان لا يأمن من الضرر، أو يوجد عدو له فحينئذ نقول هذا الماء وجوده وعدمه على حد سواء، لأن الخوف على النفس يبيح للإنسان أن يترخص، هذا عمرو بن العاص لما خاف على نفسه رخص له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان هذا بالخوف بالاستعمال كذلك الخوف بالطلب والمعنى واحد كلا الأمرين معناهما واحد، ولأننا لو قلنا له اِذهب واطلب الماء وعرِّض نفسك للخطر كان قد ألقى بنفسه للتهلكة، فيكف الشريعة تقول له اُطلب على وجه فيه تهلكة وتقول له لا تلقي بنفسك إلى التهلكة هذا تناقض والشريعة منزهة عن التناقض، ومن هنا العلماء قالوا إن الحالات التي يغلب على الظن فيها الضرر توجب الرخصة، لأن أصول الشريعة تقتضي التخفيف فيها، فلو أمر المكلف بالأصل وهو الوضوء والغسل فإنه لا شك أنه يخالف هذه الأصول ويعارضها ويضادها ومن هنا يرخص له إذا خاف على نفسه.
…قال رحمه الله: ]أو ماله في طلبه[.(1/431)
…في حكم النفس العرض، يخاف على نفسه مثل ما ذكرنا في الأحوال ممكن يخاف عدواً، أو مثلاً شخص معه نساء ويغلب على ظنه أنه لو نزل يأخذ الماء من البئر يتعرض عرضه للحرام، أو المنطقة التي فيها الماء فيها أناس من الأشرار أو أناس فاسدون سيؤذون عرضه ولا يأمن على عرضه، فإن الخوف على العرض كالخوف على النفس يعني في موجب الرخصة، وفي هذه الحالة يكون وجود الماء وعدمه على حد سواء ويرخص له بالتيمم، إذا خاف على نفسه أو عرضه أو ماله، والخوف على ماله مثل ما يقع في أحوال الحراسة، يكون شخص مثلاً يحرس غنم مثل العامل يحرس الغنم، والماء موجود على بعد كيلو لا يستطيع أن يذهب بالغنم إليها يخشى عليها السباع، ولا يستطيع أن يتركها خوف سارق يأتي يسرقها، أو عنده مزرعة أو عنده أموال يحرسها، لو ذهب يطلب الماء لا يأمن أن يأتي السارق ويأخذ المال، وفي هذا ضرر عليه فالخوف على المال والخوف على النفس كلها موجبة للرخصة.
…قال رحمه الله: ]أو إعوازه إلا بثمن كثير[.(1/432)
…العوز الفاقة والحاجة، فأعوزه طلب الماء إلا بمال كثير يجحف به، هذه المسألة صورتها تقع في بعض الأحيان مثلاً في الحج، لو أنك بحثت عن الماء وما وجدت (مثلاً) وجئت إلى شخص يبيع مثلاً الماء هذا ماء الصحة، فقال لك أنا أبيعك هذه الزجاجة بمائة ريال ما عندك مائة ريال، أو قال أبيع لك بخمسين ريال أو قال لك عشرة ريالات ما عندك عشرة ريالات، مال كثير عليك وليس كل الناس العشرة سهلة عليه، وقد يكون في السفر لا يجد إلا مالاً يكفيه فقط لأداء حجه والرجوع إلى أهله، فإذا جاء وقال ما أعطيك إلا بعشرة هذه المسألة فيها تفصيل، إن طلب مالا متفاحشاً ليس عنده لا إشكال، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها وهذا ليس بوسعه المال، لكن لو أن المال موجود عندك مائة ريال، ويمكن أن تشتري هذه الزجاجة من الصحة بعشرة ريالات ولا يضرك، أو غني قال له شخص أنا أبيعك هذا الماء بمائة ريال تتوضأ به، الغني لا تضره المائة لكن المشكلة أنه غبن فاحش أن يشتريها بمائة، هذا المال الذي هو أكثر من استحقاق الماء، فنظر إلى حاجة الشخص فاستغل حاجته فللعلماء وجهان: قالوا إذا تفاحش الطلب وطلب في قيمة الماء أكثر منه ولو كان المشتري غنياً لا يجب عليه الشراء، لأن هذا ظلم أن يدفع هذا المال المتفاحش الكثير في شيء ليست له هذه القيمة، ومن هنا قال إن هذا نوع من السرف وهذا لا يكلف به، قال تعالى: { إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } ، فالنفوس مجبولة على حب المال، والله - عز وجل - لم يكلف الناس فوق طاقتهم، فقالوا إذا طلب منه أن يشتري هذا الماء وهو فوق قيمته وفوق ما يستحق كان من حقه أن يمتنع، ومن أهل العلم من قال العبادة أغلى وأسمى وأعز فإذا كان عنده القدرة على المال دفع المال ولو كان كثيرا، والحقيقة الوجه الثاني من القوة بمكان، يعني أنه مطالب إذا كان غنياً وعنده قدره وعنده يسار يصبر ويحتسب وهذا هو الأشبه.(1/433)
…قال رحمه الله: ]فإن أمكنه استعماله في بعض بدنه أو وجد ماء لا يكفيه لطهارته، استعمله وتيمّم للباقي[.
…صورة المسألة يكون عنده ماء يكفي لبعض الوضوء وبعض التيمم أو بعض الغسل، فمثلاً لو كان الماء قليلاً يسع فرضين من فرائض الوضوء الوجه واليدين، قالوا يستعمله فيما يمكن استعماله هذا طبعاً في حالة الفقد، فيستعمل ليده ويتيمم لباقي الأعضاء، لأنه أمر بغسل الوجه واليدين وبإمكانه أن يغسل فيغسل وجهه ويديه، فإذا غسل وجهه ويديه فقد الماء توجه عليه الخطاب بالتيمم، وهذه المسألة تعرف بالجمع بين الأصل والبدل، وبين البدل والمبدل منه، وبين طهارة الماء وطهارة التراب، هذا بالنسبة لقول طائفة من العلماء رحمهم الله، من صور هذه أيضاً في حالة المرض إذا كان في حالة عدم الماء، في حالة العجز عن الماء أن يكون مثلاً به جراح في يديه لا يستطيع أن يغسل يديه، وفيه جراح في وجهه لا يستطيع أن يغسل وجهه، ولكنه يمكنه أن يمسح رأسه ويغسل رجليه، فقالوا يغسل ما يغسل ويتيمم للباقي، أو هناك موضع لا يمكن وصول الماء إليه لخوف الضرر قالوا يتيمم إذا كان هذا الموضع لا يمكنه غسله ومسحه، هذا بالنسبة لمن يقول بالجمع بين الأصل والفرع أو البدل والمبدل منه، وهناك من أهل العلم من قال أنه إذا لم يمكنه أن يتوضأ عدل إلى التيمم، ولا يجب عليه في هذه الحالة أن يغسل ما يستطيع غسله، مثلاً لو كان الماء قليلاً قالوا إنه يترك الماء كلية ويتيمم، لأن الله يقول : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } ، والمراد الطهارة كاملة، وكلا القولين له وجهه، لأن الأولين قالوا إن الله أمرنا أن نغسل هذه الأعضاء، فما نستطيع غسله نحن مخاطبون بغسله ثم بعد الغسل يتوجه عليه الخطاب لأنه لا يجد الماء وهذا يجد الماء، طبعاً من قال إنه يترك الطهارة كلها أيضاً له وجهه لأن الطهارة لا تتجزأ، وعلى كل حال كلا القولين له وجهه والاجتهاد فيهما واضح ظاهر هذا له أصل من الشرع وهذا له أصل من(1/434)
الشرع.
إلا أنه في البدلية والانتقال مذهب من قال أنه ينتقل إلى التيمم محرر، يعني من قال إنه ينتقل إلى التيمم مباشرة محرر، وأصل المسألة إذا كان الإنسان قادراً على جزء العبادة ولها بدل هل ينتقل إلى البدل مباشرة أو يؤدي الجزء ثم ينتقل إلى البدل، وهذه لها نظائر كثيرة في مسائل متعلقة بهذا، إذا كان الشخص مثلاً يقدر على القول ولا يقدر على الفعل أو يقدر على الفعل ولا يقدر على القول، هل يسقطان معاً أو يطالب بما يقدر عليه، ويبقى الباقي محل العذر، لها نظائر يعني مسائل، بعضهم يسقط التكليف كلية ويقول إما أن يأتي بالعبادة كاملة وإلا فلا، وبعضهم يقول لا، مثلاً الآن من لا يجد ماءً ولا تراباً، بعض العلماء يقول تسقط عنه العبادة قضاء وأداء، لا يصلي في الوقت لأنه ليس عنده طهارة حتى تصح صلاته، وإذا سقطت عنه في الوقت سقط عنه القضاء بعد الوقت، ومنهم من قال وهذا الذي يعنينا هنا قال يصلي على حالته ولا قضاء عليه، قال يصلي على حالته كيف؟، قال لأن الله أمره بالوضوء وبالصلاة، فإذا عجز عن الوضوء بقي فعل الصلاة، فإذاً بعض العلماء يرى أنه إذا عجز عن العبادة وشرائطها أنه تسقط بالكلية، مثل من قال إنه لا يصلي أداء ولا قضاء، ومنهم من قال يسقط عنه ما عجز ويبقى ما لم يعجز عنه، وهذا مثل ما قلنا إنّه الأول محرر من ناحية الأصل في مقام الرخص، والثاني محرر من ناحية فقهيه، لأنه إذا عجز عن شيء وهو جزء العبادة وغيره غير عاجز عنه بقي الخطاب موجهاً فيما هو قادر عليه، وعلى هذا قالوا إنه إذا كان قادراً على أن يغسل بعض الأعضاء توجه عليه الخطاب أن يغسل ما يستطيع غسله، وسقط عنه ما عجز عنه فيتيمم له، هذا وجه من قال إنه يجمع بينهما، ومنها مثلاً الإنسان الذي لا يستطيع أن يركع ويسجد يقف ولا أن يفعل ويقرأ الفاتحة ثم يكبر، وتكون عبادته كلها أقوال، فسقط عنه الفعل وبقي القول، وهذا مذهب حتى يقول به الجمهور أنفسهم، ومن هنا يعني لهذه(1/435)
المسألة نظائر كثيرة من الناحية الفقهية، إلا أن بعض العلماء في الشروط يخفف في الأركان لا يخفف، بعضهم في الأركان والشروط لا يخفف في الواجبات يخفف، ومن هنا تختلف أنظار العلماء واجتهادات أهل العلم رحمهم الله، لكن الأصل عندهم تحريراً في الانتقال أنه إذا أمكن فعل العبادة أو جزء العبادة أنه مخاطب على الأصل، ثم يبقى ما عداها لأنه ما يصبح فاقد للماء { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً } إلا إذا فقده بالكية فقالوا يستعمله فيما يقدر عليه ويتوجه عليه الخطاب بالبدل فيما لا يقدر عليه.
@ @ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ: هل يشترط في مسح الكفين أن يمسحهما ظاهراً وباطناً وأن يخلل بين أصابعه؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.
فالواجب في التيمم أن يمسح ظاهر كفيه،"ففي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه مسح ظاهر كفيه"، هذا هو الأصل والواجب والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ وفقك الله: جاء في بعض روايات حديث عمار - رضي الله عنه - تقديم الوجه على الكفين، وفي رواية أخرى تقديم الكفين على الوجه، فهل هذا يدل على أن الترتيب ليس بواجب؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/436)
الأصل في الروايات "فمسح بهما وجهه وكفيه"، وعلى هذا اعتبر طائفة من العلماء الترتيب، وأنا أميل إلى أنه يراعي الترتيب في التيمم، فيبداء بوجهه ثم بكفيه على الأصل المقرر في طهارة الوضوء، وبينا هناك وجه الإلزام بالترتيب فقد جاءت الواو عاطفة بين أعضاء الوضوء وهي هنا عاطفة بين أعضاء التيمم، ولذلك يقتصر على هذا والروايات الحادثة واحدة والحديث واحد، ولا يقال هنا بأن تعدد الروايات يفيد حل هذا وهذا، لأن الحادثة واحدة وإذا كانت الحادثة واحدة فالقول واحد، ومن هنا يحمل التقديم والتأخير على تصرف الرواة، ويكون الواو هنا لمطلق الجمع الذي لا علاقة له بالترتيب، كقوله عليه الصلاة والسلام "توضأ واغسل ذكرك ثم نم"، المراد اغسل ذكرك ثم توضأ ثم نم، فقال:"توضأ واغسل ذكرك ثم نم"، وهذا معروف في لسان العرب أنه يطلق بها مجموع الأمور ويبقى الترتيب على الأصل، وعلى كل حال الروايات الصحيحة في تقديم الوجه على الكفين والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: رجل أصابه حرق في وجهه فهل يجوز له أن يجرى له عملية تجميل؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/437)
كل من أصيب بحادث أو ضرر في بدنه يجوز له أن يعيد العضو إلى طبيعته وأن يجمل العضو، فالعمليات التجميلية بعد الحوادث مشروعة، لأنها ليست من تغيير خلقة الله وإنما هي إعادة للعضو إلى ما كان عليه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:"تداووا عباد الله"، فدل على أن من أصيب بالداء شرع له أن يلتمس سعة الله - عز وجل - ورحمة الله - عز وجل - بالتداوي، وحينئذ من أصيب بالحروق إذا كانت هذه الحروق أحدثت ضرراً في الجلد يعالج هذا الضرر، ثم بعد الانتهاء من علاج هذا الضرر قالوا نعمل لك عملية تجميلية تزيل هذه الحروق والندب الموجود والنتوء والخلل الموجود في البشرة نقول هذا جائز ومشروع، لأنه لم يغير خلقة الله - عز وجل - بل هو على خلقة تامة كاملة سابقاً يجوز له أن يرجع إليها وأن يتعاطى أسباب الرجوع إليها، لكن من خلقه الله على تشوه في خلقته إن كان فيه ضرر مثل ما ذكرنا بالتفصيل في الدرس الماضي شرع له أن يزيلها ضرراً، مثل تشوهات القلب والصمامات هذه عملية تجميلية ضرورية، لأنه لو ما عملت هذه العملية يترتب عليها الموت، أو عملية تجميلية حاجية في اليد بحيث يستطيع أن يحركها، جاءه تشوه بحيث لا يستطيع أن يقبض يده، أن يحرك ساعده، فيجوز له أن يزيل التشوه وأن يعيد الأوتار إلى وضعها، تشوه في المفصل وقال الأطباء يمكن علاجه هذا شيء محتاج إليه، لكن التشوه الذي يأتي في الصورة وفي الخلقة الذي لا ألم معه ولا ضرر معه يخشى على النفس أو على الأعضاء فإنه لا يجوز لأنه من باب تغيير خلقة الله - عز وجل -، وقد بينا الدليل على تحريمه وأنه من كبائر الذنوب، لا يجوز للمريض أن يطلبه ولا يجوز للطبيب والممرض ومساعديه أن يقوموا بالعمل المخالف لشرع الله بتغير هذه الخلقة والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :(1/438)
فضيلة الشيخ: إعتاد الناس بعد أن يقصروا شعر الرأس أن يأخذ الحلاق أسفل الرأس من الخلف ومن الجانبين بالموسى، فهل هذا من القزع؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
تخفيف جوانب الشعر من جهة الأذنين أو من جهة آخر الشعر وتكثيف الشعر في الوسط منهي عنه شرعا، وهو من القزع الذي حرمه الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وكانت اليهود تفعل هذا ونهي عنه لعدم المشابههة، والشريعة نهت عن حلق بعض الشعر وترك البعض، ونهت المسلم أن يجلس بين الشمس والظل، ونهت أن يمشي منتعلاً بقدم وحافياً بأخرى، وهذا كله من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، أمر الإنسان بالعدل حتى مع نفسه، لأنه إذا حلق بعض الشعر وترك البعض استضرّ الذي تركه في الصيف واستضرّ الذي حلق في الشتاء، ولأنه إذا جلس بين الشمس والظل استضرّ الذي في الظل إذا كان برداً واستضرّ الذي في الشمس إذا كان صيفاً، ولأنه إذا مشى بإحدى رجليه وانتعل بإحداهما دون الأخرى ظلم التي لم تنتعل، وهذا منهج سامي من الشريعة تعلم المسلم العدل حتى مع نفسه، فإذا حلق بعض الشعر وترك البعض فهو شعار الكفار فلا يجوز التشبه بهم.
وثانياً أن في هذا ظلماً كما ذكرنا للذي لم يحلق من الشعر فإما أن يحلقه كله أو يتركه كله، ولذلك لا يجوز الجمع بين الحلق والتقصير في الرأس، إما أن يقصره كله وإما أن يحلقه كله على الأصل الذي قررناه والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ: ما نصيحتكم لرجل يريد أن يقبل على الله تعالى بالتوبة النصوح ويجبر التقصير في الماضي، ما نصيحتكم له؟، مع الدعاء له بالثبات وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/439)
التوبة والإنابة إلى الله - عز وجل - النعمة التامة والعطية الكاملة من الله - عز وجل -، والفوز المبين الذي لا فوز مثله، { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } ، حينما يخرج العبد من ولاية الشيطان إلى ولاية الرحمان، ومن معصية الله إلى طاعته، ومن غضبه وسخطه إلى حبه ورحمته، حينما يخرج من الظلمات إلى النور ومن الشقاء إلى السعادة ومن الرذائل إلى قمم الفضائل، تسمو نفسه وتزكو روحه ، { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا - وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } ، يخرج ولي الله إلى طاعة الله ومحبة الله ومرضاة الله، فمن الناس من إذا فُتحت عليه أبواب الهداية فُتحت على التمام والكمال، فأنطلق إلى ربه مستجيباً منيباً أوّاهاً صالحاً ظاهراً وباطناً مخبتاً إلى الله على أتم الوجوه وأكملها وهذا بخير المنازل عند الله - عز وجل -، ومن أصدق ما يكون ذلك أن يتفرغ لأحب الأعمال إلى الله وأزكاها عند الله وهو طلب العلم، فليس هناك نعمة بعد الهداية أعظم عند الله من نعمة العلم، فإذا أُخذ من هذا السبيل الذي هو سبيل الشقاء إلى هذا السبيل الذي هو سبيل السعادة، وأراد الله - عز وجل - أن يتمم عليه النعمة وأن يكمل عليه الفضل رزقه حب القرآن وحب السنة وحب حلق العلم وحب العلماء أمواتاً وأحياء، واشتغل بالعلم قائماً وقاعدا واشتغل بالعلم في أمره وشأنه، عملاً ودعوة وتعليماً وإرشاداً للناس، فإذا كان بهذه المنزلة فإنه بخير المنازل عند الله - عز وجل -، وهذا هو الذي أوصي به أن يسمو المهتدي إلى أعلى المراتب وأحبها إلى الله - عز وجل - والله عند حسن ظن عبده به، فلا يقول الشيطان لك من أنت حتى تطلب العلم وكنت تقول وكنت تفعل، فهذا عمر ابن الخطاب الذي حمل سيفه لقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلبه الله إماماً من أئمة المسلمين، وديواناً من دواوين العلم والعمل والصلاح والدين حتى صار مُحَدَّثاً مُلْهَمَاً - رضي الله(1/440)
عنه - وأرضاه { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } ، يا هذا أوصيك بالعلم الذي يثبت الله به القلوب على طاعته، وإذا جئت تطلب العلم راعيت حرمته وأدبه وحقه وحقوقه، فكنت طالب علم كما يحب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، كما يحب الله ويرضى صالحاً في قلبك صالحاً في لسانك صالحاً في عملك، لا تأتي حلق العلم وعندك أدران من الجاهلية نقي السريرة زكيَّ السيرة تسمو بنفسك إلى معالي الأمور تريد أن تقوم وتسدد منهجك على طاعة الله ومحبة الله، فإذا نظرت إلى نفسك ما أوصيك بشيء مثل العلم والعمل، وتأتي إلى هذا العلم مخلصاً من قلبك محباً لربك ترجو رحمته وتخشى عذابه، فإذا جئت إلى هذا العلم خالصاً مخلصاً لوجه الله وأعطيت العلم حقه من الضبط والإتقان والإلمام والفهم والحرص على قدر استطاعتك وطاقتك، فإذا فعلت ذلك انطلقت بعد ذلك للعمل والتطبيق وحرصت على كثرة الخير من الصلوات والدعوات والأعمال الصالحات فأنت بخير عند الله - عز وجل -، وسيبوئك الله مبوّأ صدق في الدنيا والآخرة، وستقر عينك وينعم بالك فبالعلم يتيسر لك الطريق إلى الجنة، من اهتدى ففتح الله له باب العلم فقد فتح له باب رحمته الذي لا عذاب بعده أبدا، "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة"، فيا باغى الخير يا من اهتديت إلى الله أوصيك بأمرين:
أولهما: أن تحمد الله وتشكره وأن تعلم أن الله أعطاك نعمة ليس مثلها نعمة أبدا فأحمد الله على هذه النعمة.(1/441)
…ثانياً: أن تقبل على الله بالعلم والعمل والتطبيق والحرص على هذا العلم في جميع شؤونك وأحوالك، ولذلك رزق الله الصحابة الاهتداء إلى الإسلام والعلم بالشّريعة، فكانوا بخير منازل هذه الأمة وأعلاها درجة عند الله في الدنيا والآخرة رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل أعالي الفردوس مسكنهم ومثواهم، فهذا الذي أوصيك به يا أخي في الله، وأن تجد وتجتهد وتستدرك ما فات وأن تحسن الظن بربك فإن الله ما هداك إلا وهو يريد بك الخير، فتقبل على الله بالمحبة وحسن الظن به وتعف لسانك عن أعراض المسلمين وتعف جوارحك وتكون مسلماً حقاً ولا تغتر بكونك طالب علم، وكلما تعلمت وكلما جالست العلماء وكلما قرأت عن العلماء ازددت تواضعاً واحتقاراً لنفسك وتوطئة لكنفك حتى يبوئك الله بهذا العلم مبوّأ صدق يرضى عنك فيه في الدنيا والآخرة، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبّتنا وإيّاك على الحق والصراط المستقيم وأن يجعلنا وإيّاك هداة مهتدين إنه وليّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تابع باب التيمم ، وباب الحيض
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
…أما بعد.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]الثاني الوقت[.
…بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
…أما بعد.(1/442)
…فلا زال المصنف رحمه الله يبين الشروط المتعلّقة بالتيمّم، وهذا الشرط وهو شرط الوقت قال رحمه الله:]الثاني الوقت[، أي يشترط لصحّة التّيمّم دخول وقت الصلاة، فالصّلاة المفروضة لها أوقات محدّدة كما قال تعالى : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } ، والتّيمّم مرتبط بهذه المواقيت، ما هو الدليل على أنّه لا يصح التيمم إلا بمراعاة الوقت؟، الأصل في ذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ، فهذه الآية الكريمة نص العلماء والأئمة رحمهم الله على أنه كان في أول الإسلام يتوضأ المكلّف عند دخول وقت كل صلاة، وجاء عنه عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث أنه كان يتوضّأ عند دخول وقت كلّ صلاة على ظاهر هذه الآية الكريمة، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الحسن:"إنما أُمرت بالوضوء عند القيام إلى الصلاة"، فكان يتوضّأ لكلّ فريضة عند دخول وقتها ويصلي نوافل الفريضة القبليّة والبعديّة كما في الظهر، والبعديّة كما في المغرب والعشاء والقبليّة كما في الفجر ويتنفل داخل الوقت، ثم يتوضّأ عليه الصلاة والسلام لدخول الفريضة التي تلي، هذا الأصل دلّت عليه النصوص كما في حديث عبد الله بن حنظلة - رضي الله عنه - وأرضاه وحسّنه غير واحد من العلماء، قال:" أُمر رسول الله بالوضوء عند دخول وقت كل صلاة طاهراً كان أو غير متطهّر"، ثم نسخ هذا في الوضوء فبقي ما عداه على الأصل، والدليل على ذلك "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى الصّلوات يوم الخندق بوضوء واحد"، ونسخ هذا الحكم ودل على نسخه حديث الخندق في صحيح مسلم رحمه الله وغيره،"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما شغله المشركون عن صلاة العصر والمغرب قام عليه الصلاة والسلام فتوضأ ثم صلى العصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد"، وهذا نسخ لما تقدم، وبناءً على ذلك قال طائفة من(1/443)
أهل العلم رحمهم الله: إن التيمم لا يصح قبل دخول الوقت، وأنه يجب أن يتيمم لدخول وقت كل فريضة لأن الله أمر بذلك في الطهارة فنُسخ الوضوء وبقي ما عداه على الأصل.
…قال رحمه الله: ]فلا يتيمم لفريضة قبل وقتها[.
…]فلا[ أي فلا يصح أن يتيمم لفريضة قبل وقتها، لو كانت عليه جنابة ولا يستطيع أن يغتسل وكان بالليل لا يصح أن يتيمم قبل طلوع الفجر الصادق لكي يصلي الصبح، ولا يصح أن يتيمم في النهار قبل زوال الشمس حتى يصلي الظهر والجمعة على الصحيح وهو مذهب الجمهور، ولا يصح أن يتيمم لصلاة العصر قبل أن يصير ظل كل شيء مثله، ولا يصح أن يتيمم لصلاة المغرب قبل أن تغرب الشمس ويسقط قرصها ويغيب، ولا يصح أن يتيمم للعشاء قبل أن يغيب الشفق الأحمر، إذاً لو أنه تيمم لصلاة الظهر قبل الزوال وخرج إلى المسجد نقول أعد هذا التيمم بعد دخول الوقت، فإنه لا يصح التيمم إلا بعد دخول الوقت، وهذا على الأصل الذي قررناه، هذا بالنسبة للفريضة، طبعاً إذا تيمم للفريضة عند دخول وقتها صلى رواتبها، وصلى السنن المطلقة وصلى الفرائض قبلها، لو أنّ شخصاً أدركه النوم قبل الفجر بقليل فنام وعليه جنابة، ثم استيقظ بعد دخول وقت الظهر مثلاً، استمر معه النوم حتى جاء وقت الظهر ودخل عليه الوقت وعليه الجنابة، فتيمم يصح أن يصلي الصبح بهذا التيمم ويصلي الظهر، يعني يصلي الفريضة وما قبلها، وعلى هذا فإن التيمم يصح للقبلية وكما لو كان مسافراً فنوى الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء تأخيراً فإنه يتيمم لدخول وقت الثانية ويصلي الأولى والثانية بذلك التيمم، لكن لا يتيمم لفريضة ويصلي ما بعدها، فإنه تنتقض طهارته بدخول وقت البعدية، فبيّن رحمه الله أن الفرائض من حيث الأصل لا يصح أن يتيمم لها ما لم يدخل وقتها، وأما النوافل فالنوافل ليس لها وقت كالفرائض، فالأصل في النافلة أنها جائزة ولكن منع الشرع من النوافل في أوقات محددة فتكون الصورة عكسية، فالنوافل يتيمم(1/444)
لها في أي وقت شاء ما لم يكن وقتاً نُهي عن النافلة فيه كما سيبنه رحمه الله.
…قال رحمه الله: ]ولا لنافلة في وقت النهي عنها[.
…أي ولا يصح أن يتيمم لنافلة في وقت النهي عنها، فلو أراد أن يتيمم من أجل أن يصلي ركعتي التحية، في وقت النهي طبعاً لا تصلى ركعتي التحية على مذهب الجمهور، فحينئذ لا يتيمم لها، لكن لو كان يرى أن النهي أثناء الطلوع وأثناء الغروب فقط وهو محل الاتفاق كما يقول الشافعية والحنابلة في أحد الأوجه على أنه ما بين صلاة العصر إلى حين الغروب أو قبل الغروب بيسير هذا وقت يسع فيه ذوات الأسباب، فعندهم ذوت الأسباب تصلى حينئذ يتيمم لها أما على مذهب الجمهور لا يتيمم، لأنهم يرون أن هذا الوقت منهي عنه.
يقول: ]في وقت النهي عنها[، أوقات النهي ثلاثة إجمالاً وخمسة تفصيلاً، أما إجمالاً فهي من بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس هذا الوقت الأول، ومن بعد صلاة العصر حتى تغرب، وهاذان الوقتان دلت عليهما الأحاديث الصحيحة كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس"، هاذان وقتان، الوقت الثالث حين ينتصف النهار فتقف الشمس وهذا ما يعبر عنه بقائم الظهيرة، قال - صلى الله عليه وسلم -" فإذا انتصفت – يعني الشمس في كبد السماء- فأمسك عن الصلاة، فإنها ساعة تسجر فيها أبواب جهنم"، فهي ساعة غضب، وقال عقبة بن عامر - رضي الله عنه -:"ثلاثة ساعات نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن وأن نقبر موتانا حين تطلع الشمس وحين تغرب وحين يقوم قائم الظهيرة"، يعني انتصاف النهار فيقف الظل عن الحركة وتقف الشمس عن الحركة، هذه ثلاث أوقات إجمالاً.(1/445)
بالتفصيل تكون خمسة، فتفصل في وقت الصبح ووقت العصر، وقت الصبح تقول من بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس هذا وقت، الوقت الثاني من حين الطلوع إلى أن ترتفع قيد رمح، هاذان وقتان، الأصل في هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة حتى تطلع الشمس، فالمسلم مأمور بأن يمسك عن الصلاة حتى تطلع الشمس، هل هو بداية الطلوع أم أن هناك قدراً لابد من بلوغها له؟، فلما جاءنا الحديث الصحيح "عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى صلاة عيد الأضحى بعد أن ارتفعت الشمس قيد رمح، وصلى صلاة عيد الفطر والشمس على قيد رمحين"، لأنه في الفطر يحتاج أن يتأخر حتى يتمكن الناس من إخراج زكاة الفطر، وفي الأضحى حتى يصيب الناس نحر وذبح الأضاحي في الضحى وهو وقت الأفضلية، فيعجل في الأضحى ويؤخر في الفطر كما هي السنة، فلما صلى صلاة عيد الأضحى عجل، فلما عجل فمعناه أنه سيصلي في أول وقت الجواز هذا فقه المسألة، فلما صلى بعد ارتفاع الشمس قيد رمح وعندنا حديث "حتى تطلع" فهمنا أنه الطلوع إلى ارتفاعها قيد رمح تام، والمراد بقيد رمح أنها لو كانت في الأرض المنبسطة ما بين بسيطة الأرض وما بين الشمس قدر رمح الشاخص الذي هو قدر رمح، هذا القدر يعني يمنع من الصلاة حتى تبلغ الشمس هذا القدر، فلو كان الإشراق السادسة أحتاط المكلف بثلاث دقائق إلى خمس دقائق بالكثير بحيث يتأكد من أنها ارتفعت قيد رمح، لأنه يختلف في الصيف والشتاء في ارتفاعه، هذه الأوقات المنهي عنها وسيأتي تفصيلها إن شاء الله أكثر في كتاب الصلاة والمواقيت، هذه الأوقات نهي عن النافلة فيها، أما بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر فالنهي سداً لذريعة مشابهة أهل الشرك، لأن عُباد الشمس يسجدون للشمس عند طلوعها ويسجدون للشمس عند غروبها، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"فإنها تطلع بين قرني شيطان"، وفسر هذا على أحد الأوجه عند العلماء أن الشيطان يصير بين الشمس وبين الساجد، فهو ليس بساجد للشمس حقيقة(1/446)
وإنما هو عابد للشيطان وساجد للشيطان وهذا معنى الحديث على أحد الأوجه، وبناءاً على ذلك نهي عن السجود في هذه الأوقات سداً لذريعة مشابهة أهل الشرك.
هذا بالنسبة للنافلة لا يتيمم للنافلة في وقت منهي عنه، مثال لو أن شخصاً أراد أن يصلي الضحى وهو في ساعة قبل طلوع الشمس، فقال أتيمم الآن ثم أدخل المسجد وأجلس فيه حتى تطلع الشمس وأصلي الضحى، نقول هذا وقت منهي عن النافلة فيه فليس بوقت طهارة لهذه الصلاة كما أن الفريضة نُهي عن التطهر قبل دخول وقتها، لأن الفرع تابع لأصله والنوافل مبنية على الفرائض، وعلى هذا ألحق العلماء النافلة بالفريضة من هذا الوجه.
…قال رحمه الله: ]الثالث النية[.
…الشرط الثالث النية، وقد تقدم معنا تعريفها، أي يشترط لصحة التيمم النية، فلو أن شخصاً ضرب كفيه ومسح وجهه وكفيه ولم يقصد استباحة المحظور والطهارة فإنه لا يجزيه هذا الفعل عن الطهارة ويجب عليه أن يعيد ذلك، ومثل ما ذكرنا لو أنه كان في طريقه فهبت عليه الريح فنقلت التراب إلى وجهه وإلى كفيه لم يكن متيمماً، ما لم ينو ويُجر التراب على ظاهره، فإذا نوى وأجرى التراب على ظاهره صدق عليه أن متيمم.
…قال رحمه الله: ]فإن تيمم لنافلةً لم يصلِ به فرضا[.(1/447)
…]فإن تيمم لنافلةً لم يصلِ به فرضاً[ أي بذلك التيمم، ]فإن تيمم لنافلةً لم يصلِ به فرضاً[ مثال لو أن شخصاً تيمم لصلاة الضّحى، فلمّا تيمّم تذكّر أنّه لم يصلِ الصّبح، أو تذكّر أنّه لم يصلِ العشاء فوجب عليه أن يعيد العشاء والصبح، فحينئذ هو في الأصل تيمّم من أجل النافلة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:"وإنّما لكلّ امرئ ما نوى"، هذا لم ينو الفريضة ولذلك لا يستباح الأعلى بالأدنى وهذه أصول الشريعة دلت على ذلك، فإذا ثبت أن العبادات توقيفيّة وأنّ من نوى شيئاً كان له ومن لم ينوهِ لم يكن له والتّيمّم مبيح وليس برافع فإنه يتقيّد بما نواه، السنة تدل على أن من نوى شيئاً كان له، وهذه حجة واضحة "إنما الأعمال بالنّيات، وإنّما لكل امرئ ما نوى" هذا الحديث أصل في إثبات النية لصحة التيمم، وكما أنه أصل لإثبات النية لصحة التيمم فهو أصل في الفروع والمسائل التي تضمنها، ولذلك قال- صلى الله عليه وسلم -:"إنما لكل امرئ ما نوى" فمنطوقه من نوى شيئاً كان له، ومفهومه ومن لم ينوِ شيئاً لم يكن له، فمن نوى النافلة كان له أن يصلي نافلة ولم يكن له أن يصلي فريضة، ومن نوى فرضاً كان له أن يصلي نافلة لأن النافلة مستتبعة للفريضة، وعلى هذا فلا يصلِ الفرائض بينة النوافل.
…قال رحمه الله: ]وإن تيمم لفريضة فله فعلها[.
…كما تقدم ]تيمم لفريضة[ الظهر، ]كان له فعلها[ فعل فريضة الظهر التي تيمّم لها، وفعل النوافل قبلها وبعدها والنوافل المطلقة، فلو أراد أن يستخير الله فله أن يصلي بهذا التيمم ركعتين يستخير الله - عز وجل - فيهما، أو أراد أن يتوب من ذنب فله أن يصلِ بتيمم الفريضة النافلة مستغفراً تائباً إلى الله - عز وجل -.(1/448)
قوله رحمه الله ]فله فعلها[،]وفعل ما شاء الله من الفرائض[ مثل ما ذكرنا في الجمع جمع التأخير، فإنه يجمع بين النافلتين، وإن قيل بأن جمع التقديم يشرك بين الفريضة الثانية والأولى ساغ له أن يتيمم ويكون وقتهما وقت الفريضة الواحدة، هذا بالنسبة لتفصيل ما تقدم وقد سبق بيانه.
…قال رحمه الله: ]وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها[.
…نعم يصلي الفرائض، مثلاً لو أنه نسي صلاة المغرب ولم يصلِها، وأنه صلى العشاء ثم صلى الصبح لزمه أن يصلي المغرب ثم يعيد العشاء ثم يعيد الصبح، لأن الله أوجب عليه العشاء بعد المغرب وأوجب عليه الفجر بعد العشاء، فلا تبرأ ذمته من العشاء حتى تبرأ من المغرب، ولا تبرأ ذمته من الفجر حتى تبرأ من العشاء، فوجب عليه الترتيب على الأصل { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } ، ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم الخندق لما شغله المشركون عن صلاة العصر قبل فرضية صلاة الخوف، كان من الفرض أن يبدأ بصلاة المغرب لأن وقت المغرب ضيق، ومع هذا قال: قوموا بنا إلى بُطْحان ومن يعرف المنطقة التي وقعت فيها الوقعة المكان مكان الوضوء له وقت وأكيد أن عمر - رضي الله عنه - يقول:"والله ما كدت أصلى العصر حتى كادت الشمس تغرب"، فمعناه أنه صلاّها على الغروب ثم بعد ذلك قام وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الخطاب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قوموا بنا إلى بطحان ووقت المغرب ضيّق لا يسع لأنها ساعة وربع بالكثير إلى ساعة وعشر دقائق إلى ساعة وثمان دقائق ما بين المغرب والعشاء، فوقت المغرب لا يزيد عن ساعة وربع أبداً لا صيفاً ولا شتاءً، وبناءً على هذا نزل عليه الصلاة والسلام إلى بطحان ثم رجع قال الراوي:"فصلى العصر والمغرب والعشاء"، معناه أنه قد دخل عليه وقت العشاء، ومع هذا كان من المنبغي أن يبدأ بالحاضرة وهي العشاء(1/449)
ولكنه ابتدأ بالعصر ثم المغرب ثم العشاء، فراعى الترتيب كما يقول جمهور العلماء رحمهم الله، بناءً على هذا إذا قلنا إنه يجب الترتيب فمن كانت عليه جنابة في صلاة الفجر صلّى بتيمّم، ثم لما صار في الضحى في النهار تذكر أنه لم يصلِ المغرب، حينئذ سيصلي ثلاثة فروض، سيصلي المغرب والعشاء والفجر، وهذا بناءً على ما ذكرناه، لو تذكّر ذلك في وقت صلاة الظهر صارت أربعة فروض، نقول له صلّي هذه الفروض في وقت الظهر، وتيممك لوقت الظهر يبيح لك الفرائض يعني الفرائض السابقة، لا اللاحقة إلا في جمع التقديم على الوجه الذي ذكرناه من دخول البعدية في القبلية بوقت واحد ويكون التشريك بينهما في أول الوقت وحينئذ لا إشكال.
…قال رحمه الله: ]الرابع التراب[.(1/450)
…الشرط الرابع التراب، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة رحمهم الله أنهم يشترطون للتيمم التراب، وبيَّنا دليلهم ومن قال بقولهم من السّلف رحمهم الله كعمر وغيره رضي الله عن الجميع، وأنّ الصحيح في هذه المسألة أن كلّ ما صعد على وجه الأرض من التراب والحجر والرمل بجميع أنواع التراب، التراب الأغبر والأحمر والأصفر تراب الزرع وغيره، وتراب السبخة ما لم يكن عليه ملح يغطيه على تفصيل عند العلماء رحمهم الله، ولا يتيمم بالمعادن سواءً كانت المعادن محروقة أو غير محروقة يعني دخلتها الصنعة أو لم تدخلها، وعلى هذا يجوز له أن يتيمم بالرخام وأن يتيمم بالحجر، والفرق بين الرخام والتراب أن التراب يضرب والحجر يكتفي بالمسح، لأن الله يقول : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } وهذه الآية آية النساء قال: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } ، وبقي المسلمون يعملون بهذه الآية كما قرر أئمة التفسير زماناً حتى نزلت آية المائدة وهي في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها وابن مسعود رضي الله عنهما:"إن المائدة من آخر ما نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، فالشاهد أنهم بقوا يتيممون وقتاً طويلاً، وهم على هذا الأصل يتيممون بما صعد على وجه الأرض، وقلنا إن كثيراً من الأرض لا يتيسر فيها وجود التراب، كالمناطق الجبلية الآن لو أن شخصاً غالباً ما يحتاج إلى التيمم في البرد وفي البرد يكثر المطر، المناطق الجبلية إذا كان فيها تراب ونزل المطر فلن يبقي ذلك التراب، ولن يبقي ذلك الغبار، لأنها ستبتل الجبال فما يبقى إلا الحجر، المناطق الرملية لا غبار لها ولا تجد ما تستطيع أن تتيمم به إذا اشترط الغبار، وتكلم على هذه المسألة شيخ الإسلام رحمه الله والإمام ابن القيم رحمه الله، وبَيَّنَا أنّ الأدلّة تدلّ على العموم، وأنّ التّخصيص مجاب عنه لأنه لا حجة له إلا(1/451)
في قوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه } وقلنا إن هذه الآية عارضها قوله: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } بدون ذكر "من" وأن "من" لابتداء الغاية وليست للتّبعيض، ثانياً: أنّ قوله "وتربتها لنا طهورا" مفهوم لقب ونحمله على أنّه فرد من أفراد العام، والقاعدة أنّ الفرد من أفراد العام إذا ذُكر لا يقتضي تخصيص الحكم به، أنت تقول للطلاب اخرجوا ثم تقول يا محمد اخرج، هل معنى ذلك أن الحكم اختص بمحمد؟، ذكر الفرد من أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به، فلما جاءنا العام : { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } هذا عام بكل ما على وجه الأرض مما هو منها، ثم جاء "وتربتها لنا طهوراً" لا يعارض قوله: { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } ، لأنه فرد من أفراد العام، ثم هذا جاء في حديث من روايات"جُعلت لنا الأرض مسجداً وطهورا"، أما الروايات الأخرى"جُعلت لنا الأرض"، فعممت فمن هنا يقوى قول من قال بالعموم كما اختاره الأئمة والمحقّقون رحمهم الله.(1/452)
وعلى هذا التراب بجميع أنواعه ذكر التراب له غبار، العبرة عندهم بالغبار، ولذلك لو أن شخصاً كان في غرفة ووجد مفرشة عليها غبار جاز له أن يضرب بكفيه ويتيمم على ذلك الغبار، لأن العبرة بوجود الغبار، ولو جاء على جدار عليه غبار وضرب عليه أجزأه، ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يضرب على الأرض وحدها، وفي الحديث الصحيح عنه أنه تيمم على الجدار في المدينة، لما مر عليه الرجل وسلم قال:"فأقبل على الجدار فضرب بيديه" فتيمم بالجدار الذي ليس له غبار من حيث الأصل لأنه يكون من الحجر ويكون من الطين اليابس، ومن هنا هذا يقويّ كما أشار شيخ الإسلام وغيره من العلماء رحمهم الله أنه يقوى مذهب من قال بكل ما صعد على وجه الأرض، وعليه فلا يشترط ولا يختص التيمم بالغبار، مسألة/ إذا قلنا إن التراب له غبار، التراب وكل ما صعد على وجه الأرض ينبغي أن يكون طاهراً، فلا يتيمم بنجس، فمثلاً لو كان في صحراء فيها موضع بال عليه شخص ونشف هذا الموضع، تنجس طبعاً المكان فأراد أن يتيمم نقول له لا تتيمم منه، ولو جاءه بتراب من منقول من موضع فيه نجاسة مواضع النجاسة لا يصح أن يتيمم به، ولذلك يقولون التراب طهور وطاهر ونجس، مثل ما إن الماء طهور وطاهر ونجس، فالتراب الطهور هو الباقي على أصل خلقته لم يُغير، والنجس معروف يعني الذي تنجس وبقيت فيه رائحة النجاسة وأثر النجاسة، والتراب الطاهر هو المخلوط بالطاهرات، مثلاً التراب المخلوط بالزعفران، المخلوط بالمسك، المخلوط بالورد، لو أخذ ماء الكادي فصبه فأصبح التراب كله برائحة الكادي، أو – مثلا -ً الورد فجعله عليه فأصبح مخلوطاً بالتراب لا يتميز معه أثر فيه ولم يتيمم عليه، إذاً لا بد وأن يكون طيباً طاهراً، ومن هنا قال: { فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً } ، فاشترط كونه طَيّباً، وهذا يدل على المعنى كما قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } ، وقال عليه الصلاة والسلام في(1/453)
الماء:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، فجعل هناك صفة زائدة على الماء، وهنا صفة زائدة على التراب وعلى ما صعد على وجه الأرض وهو كونه طيباً، والماء كونه طهوراً، ولذلك لا بد وأن يكون على هذه الصفة المعتبرة للتّيمّم.
…قال رحمه الله: ]فلا يتيمم إلا بتراب طاهر له غبار[.
طاهر شرط لقوله : { صَعِيداً طَيِّباً } والطيب الطاهر، له غبار لقوله"وتربتها لنا طهورا"، فقال لابد وأن يكون له غبار، ولذلك قال:"ضرب بيديه الأرض صلوات الله وسلامه عليه"، وهذا الضرب معناه إخراج الغبار حتى يتعفّر به ظاهر البشرة كما لا يخفى.
…قال رحمه الله: ]ويبطل التيمم ما يبطل طهارة الماء[.
…هنا شرع المصنف رحمه الله في نواقض الطهارة البدلية، يعني ما الذي ينقض طهارة التيمم؟، قال رحمه الله: تنتقض هذه الطهارة بما تنتقض به الطهارة الأصلية لأن الفرع آخذ حكم أصله، فإذا كان الوضوء ينتقض بالبول والغائط والريح وخروج الدم والقيح والصديد من العضو كذلك ينتقض التيمم، وكما أنه تنقضه الجنابة الطهارة الكبرى كذلك تنقض الطهارة البدلية، الطهارة الكبرى بالغسل في الأصل كذلك تنقض الطهارة البدلية، فلو أنه تيمم فجامع زوجته، أو تيمم فأمنى فإنه تنتقض طهارته، إذا الطهارة الصغرى والكبرى التيمم ينتقض بما تنتقض به الطهارة الصغرى والكبرى يعني طهارة الماء.
…قال رحمه الله: ]وخروج الوقت[.
…يزاد على ذلك خروج الوقت، لأننا ذكرنا أنه يجب أن يتيمم لدخول وقت كل صلاة.
…قال رحمه الله: ]والقدرة على استعمال الماء وإن كان في الصلاة[.(1/454)
…تنتقض طهارة التيمم بالقدرة على استعمال الماء وإن كان في الصلاة، هذه المسألة ذكرناها في شرح الزاد وفصلنا فيها والحاصل أن الأصل الشرعي يدل على أن التيمم مبيح وليس برافع للحدث، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين"، طهور المسلم وصفه بكونه طهورا، لكن قال:"فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسّه بشرته"، في هذا الحديث أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن المتيمم متى وجد الماء وجب عليه أن يغتسل، ووجب عليه أن يتوضأ إذا قدر على استعمال الماء، لأنه كان فاقداً فوجده وكان عاجزاً فقدر، ففي هذه الحالة عند القدرة وعند الوجدان يتوجه عليه الخطاب بالرجوع للأصل، فلو كان التيمم يرفع الحدث ما احتاج إلى أن يغتسل من الجنابة لأنه حدث وارتفع ومن هنا أمر عليه الصلاة والسلام من تيمم أن يمس بشرته الماء إذا وجده أو قدر عليه إذا كان مريضاً، لقوله:"فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته"، فلو كان التيمم رافعاً للحدث لأرتفع الحدث ما احتاج إلى أن يغتسل، ولكنه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يغتسل، وعليه تقرر مذهب من يقول التيمم مبيح وليس برافع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن حدثه لم يرتفع بقوله"وليمسه بشرته"، ومن هنا انعقدت كلمة الجماهير على أنه إذا وجد الماء وجب عليه أن يغتسل، وعلى هذا نقول إنه لا زال متلبساً بالحدث وأن المسألة مسألة استباحة للمحظور، فيتيمم عند دخول الفرائض مثل ما ذكرنا ويتقيد التيمم بالحاجة، فإذا وجد الأصل رجع إلى الأصل، فأصبح التيمم طهارة بدلية لا أصلية، منقول به عن الأصل ولذلك لا يأخذ حكم الأصل من كل وجه، ولذلك تجد هناك قد يوافق البدل مبدله وقد يأخذ حكمه وقد يخالفه وقد تكون صورته وقد يخالفه وقد يشابهه في الصفة وقد يخالفه، مثلاً التيمم وجدناه لبعض الأعضاء والغسل لكل الأعضاء، فلا يمتنع أن يكون في التيمم من الاستباحة أقل مما(1/455)
في الغسل الأعلى من الرفع، ومن هنا لا يشارك التيمم الوضوء والغسل في رفع الحدث من كل وجه، وإنما هو مبيح يبيح للمكلف فعل الصلاة وفعل العبادة فإذا وجد الماء وجب عليه أن يمسه بشرته هذا كما ذكرنا بناءً على هذا الدليل وعلى هذا الأصل إذا وجد الماء توجه إليه الخطاب، وإذا توجه إليه الخطاب أن يغتسل معناه أنه متلبس بحدث، وحينئذ لا يصح إذا وصفته بكونه متلبساً بالحدث لا يصح أن يفعل العبادة، ويجب عليه أن يقطع ويستأنف.
وإذا ثبت هذا فهنا المسألة وهي إذا كان الإنسان يعلم أنه لو أجنب لا يجد ماءً يكفيه، أو يعلم أنه لو أجنب لا يستطيع أن يستعمل الماء، فهل يجوز له أن يجنب؟، رجل عنده زوجته ويعلم أنه لو حصل جماع وحصلت جنابة لا يجد الماء أو لا يقدر على استعماله، فهل نقول يجوز له أن يجنب مع علمه أنّه يتعاطى هذه الرخصة المبيحة لا الرافعة ومع علمه بأنه لا يجد الماء؟، الجواب نعم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله أبو ذر - رضي الله عنه - وقال:"إني أعزب – يعني أخرج بالإبل مع زوجتى - ولا أجد الماء"، فسأله هل له أن يصيب أهله؟، فأجاز له النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له:"عليك بالصعيد"، وفي اللفظ الذي ذكرناه "الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين"، فأحل له، لو نام مثلاً في ليلة شاتية شديدة البرد وعلم أنه لو جامع أهله لا يستطيع أن يغتسل لصلاة الصبح، أو أن هناك ضررا عليه لو اغتسل لصلاة الصبح، فهل يمتنع؟، نقول يجوز، مع أن التيمم مبيح لا رافع ومع هذا يجوز من توسعة الله - عز وجل - ورحمته بعباده، وهذه الشريعة شريعة رحمة لا شريعة عذاب، ويسر لا عسر فالحمد لله الذي هدنا لهذا وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب الحيض[.(1/456)
…الحيض في لغة العرب السيلان، يقال: حاض الوادي إذا فاض وسال بالماء، وتقول العرب حاضت السمُرة وهي نوع من الشجر إذا سال صِمغها على ساقها، فالحيض السيلان، وأما في الاصطلاح فدم يرخيه رحم المرأة لغير مرض ولا نفاس.
"دم يرخيه": يعني يخرجه رحم المرأة فرجها المعروف فخرج دم البواسير والنواسير لأنه لا يخرج من الرحم وخرج دم الرعاف لأنه يخرج من الأنف، وخرجت بقية الدماء من سائر البدن، فقالوا "دم يرخيه رحم المرأة"، فاختص بالنساء بقوله "رحم المرأة"، وخرج الرجل فما يخرج منه لا يسمى حيضاً.(1/457)
"دم يرخيه رحم المرأة لغير مرض" دم المرض الذي يرخيه رحم المرأة هو دم الاستحاضة، والسبب في ذلك أنه ينفجر عرق سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعاذل والعاند والعاذر كما جاء في حديث السنن وأحمد في مسنده رحمه الله في الصحيح قال:"إنما ذلكِ عرق" يعني الاستحاضة، وجاء في حديث النسائي "ركضة من الشيطان"، قيل أنه يضرب هذا العرق وقيل إن الركضة هي الوسوسة التي تكون للمرأة لأنه يلبس عليها دم الاستحاضة بدم الحيض، فلما قالوا لغير فساد خرج دم الاستحاضة، لأنه دم فساد وعلة، ثم من العلماء من يقول: لغير فساد ومرض ونفاس، ويجعل دم الاستحاضة إذا سبق الحيض فساداً، وإذا جاء بعد الحيض دم استحاضة، فيفرق بين القبلي الذي قبل الحيض والبعدي، ولكنه كله دم فساد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عمم، وقال:"إنما ذلكِ عرق"، قيل العاذل لأنه يوجب عذل المرأة والعاند لأن الدم لم ينقطع وكأنه أصبح عنيداً حتى استرسل إلى الاستحاضة، وقيل العاذر لأنه يوجب عذر المرأة، لغير فساد ولا نفاس، خرج من هذا دم النفاس ولا يُسمى حيضاً، والحيض له أسماء منها النفاس فمن هذه التسمية قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها كما في الصحيح حينما كان معها في حجة الوداع وكانت قد نوت العمرة متمتعة بها، قال عليه الصلاة والسلام لما أصابها الحيض بسرف:"ما لكِ أنُفِسْتِ؟، ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم"،"ما لكِ أنُفِسْتِ؟"، يعني هل جاءكِ الحيض فسمى الحيض نفاساً، لأن النفس أصله الدم، ويسمى أيضاً الطمث، لأن العرب تسمي الدم بالطمث، ولذلك يقول أطمث المرأة إذا افتض بكارتها لأنه يدميها، كما قال الليث من أئمة اللغة، ومنه قوله تعالى:"لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان"، أي أن حوريات الجنة أبكار لم تفتض بكارتهن من إنس ولا جان، كذلك يسمى الحيض بالقرء ومنه قوله تعالى على أحد الوجهين { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء } ، قيل(1/458)
ثلاثة حيضات وقيل ثلاثة أطهار وهو الصحيح ولكن على القول بأنه حيض من باب تسمية القرء حيضا، وهذا موجود له شواهده في لغة العرب، ويسمى الضحك وحملوا عليه قوله تعالى: { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب} ، كانت قائمة فأصابها دم الحيض على أحد الأوجه، مع أنها طعنت في السن ويئست من المحيض، ولكن الله على كل شيء قدير، كانت ابنة تسعين سنة كما قيل، ومع هذا وهبها الله - عز وجل - الولد لكن الشاهد أن قوله : { فَضَحِكَتْ } قيل ضحكت حقيقة، والمراد بكونها ضحكت قيل ضحكت أن إبراهيم أصابه الخوف ثم جاءته البشرى، كيف كان خائفاً ثم نظرت إليه وقد جاءته البشرى فعجبت من هذا وضحكت كما هو حال القرين مع قرينه، إذا رآه في كرب ثم رآه في فرح، عجب من اختلاف الحالين، وقيل ضحكت ضحكة استغراب ، { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ - قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } ، الله ما يعجزه شيء، { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } ، { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ، سبحانه، - عز وجل - لا يعجزه شيء وهو سبحانه وتعالى بيده كل شيء، فالشاهد أنها ضحكت ضحك المتعجب، وقيل ضحكت بمعنى حاضت، يسمى الحيض الإكبار والإعصار والطمس بالسين كلها من أسماء الحيض وأشهرها الستة الأول.(1/459)
…قوله رحمه الله: ]باب الحيض[، الحيض مما اتبلى الله - عز وجل - به بنات آدم، والصحيح أنه كان موجوداً في بنات آدم منذ أصل الخليقة، وقيل إن الله أرسله على نساء بنى إسرائيل حينما فسدوا في العبادة، فكان الرجال يخالطون النساء فحدث الفساد فأرسل الله الحيض على نساء بنى إسرائيل وفيه حديث ضعيف، والصحيح أن الحيض موجود في أصل الخلقة، ودليلنا قوله عليه الصلاة والسلام:"ما لكِ أنُفِسْتِ؟، ذاكِ شيء كتبه الله على بنات آدم"، وهذا يقتضي أنه كان موجوداً من القِدم.(1/460)
الحيض باب عظيم تبرز أهميته في أن عبادة المرأة وكثيراً من مسائل المعاملات متوقّفة على ضبطه، والإلمام بمسائله وأحكامه، ولذلك اعتنى العلماء بهذا الباب، ونبّهوا على أهميّته وأنه ينبغي على طالب العلم والمشتغل بالفقه أن يعتني به أيّما عنايةٍ، حتّى قال الإمام أحمد رحمه الله برحمته الواسعة:"مكثت في الحيض تسع سنين حتى علمته"، يعني هذا الإمام الجليل مكث هذه التسع سنوات حتى ضبط مسائل الحيض، واليوم يأتينا من يقول والله الحيض باب بسيط كلها خمسة أو ستّة أحاديث تحفظها، ولماذا نعقد على الناِس بتعقيدات الفقهاء وتفصيلاتهم وتفريعاتهم؟، نعم هذا شيء والحقيقة شيء آخر، والكلام شيء والواقع شيء آخر، العلم يقول الله تعالى عنه: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ، هي أحاديث محصورة لكن يقول الأئمة إنها تبلغ مائة حديث ولها ما لا يقل عن مائة وخمسين طريقاً، كما ذكر الإمام ابن العربي رحمه الله، وأفرد الأئمة لمسألة من مسائل الحيض يسمونها مسألة المتحيرة، سميت متحيّرة ومحيّرة، يقال: متحيرة في نفسها لأنها ما تدري متى تصلي ومتى تعبد الله، ومتى تصوم ومتى تؤدي عبادتها فهي طاهرة ومتى يحكم بكونها حائضا، فلا يحل لها فعل الصلاة ولا الصوم فهي متحيرة، ولا تدري هل خرجت من عدتها أو لم تخرج، وهل يجوز طلاقها أو لا يجوز طلاقها، فلما تحيّرت قيل لها متحيّرة، ولأنها حيّرت العلماء فقيل لها محيرة، فحيرت العلماء رحمهم الله أفرد بعض الأئمة للمحيّرة وحدها كتاباً مستقلاً، فهذه ليست تفصيلات وتفريعات فمن عند الفقهاء، يا إخوان هناك مسألة مهمة جداً وهي أن الله أعطى الناس العلم فمن مستقلّ ومن مستكثر، من وقف أمام مشكلات الناس والمسائل والفتاوى وعاش دهراً طويلاً يغوص في خضم وغمار تلك الرحمات من نصوص الكتاب والسنة يستنبط منها ثم يعيش واقع الناس في أسئلتهم وفتاويهم تتفرع له من العلم فروع ، { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا(1/461)
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } ، فيجد من التفريعات والمسائل، يقول عبد الله ابن مسعود:"ثوروا العلم"، يعني إذا ثورت العلم وفصلت فيه دون تنطع ودون تكلف ودون تشدق فإن الله يفتح عليك، فالذي يأخذ العلم بالتأصيل ويبني على التأصيل تتفرع له الفروع على أصول صحيحة وتنبني على قواعد سليمه يصيب من العلم غايته ويأخذ العلم وجدانه وأحاسيسه، ويعيش في جنة قبل جنة الآخرة يعرفها من يعرفها، هذه الجنة التي عاش العلماء فيها فأصّلوا وقعّدوا وضبطوا وقيّدوا وحرّروا رحمهم الله برحمته الواسعة، فما ملوا ولا سأموا ولا تعبوا ولا كلّوا، كيف يكلَّون وهم يعيشون تلك الرحمات التي يتقربون إلى الله - عز وجل - بخوضها ومعرفتها وضبطها للأمة، فهذه التأصيلات من أين جاءت؟، جاءت من مسائل الناس، من النوازل ومن المشاكل ولذلك تجد بعض العلماء يأتي ويتكلم في مسألة في البيع على أنها أصل، هناك من يتكلم عن المسألة مثلاً لا يجوز بيع الإنسان لما يملك، هذه أصل المسألة فيها حديث، حديث حكيم ابن حزام وغيره"لا تبع ما ليس عندك"، ثم يأتي الآخر ويقول لا تبع ما ليس عندك، لماذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا؟، يربط بأصل عام في الشريعة وهو تحريم أموال المسلمين وعدم جواز الظلم، ثم لمّا يربطه بهذا الأصل العام يأتي شخص آخر ويقول طيّب لو باع مالا يملك، فإما أن يعلم صاحبه وإما أن لا يعلم، طيب لو كان هذا لم يعلم فما حكم بيع المغصوب وما يتفرّع على مسائل الغصب، ثم لو أنه تاب كيف يرد ثم يأخذ يفصل هذه المسائل، من أين جاء هذا التفصيل؟، من مسائل الناس والنوازل.(1/462)
هكذا في الحيض هناك نساء حضن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستحضن حتى التبست عليهن الأمور، فقعد عليه الصلاة والسلام القواعد وبيّن الأصول لباب الحيض، وتفرعت عن هذه الأصول وهذه الأحاديث الجامعة التي أوتيها من جوامع كلمه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، وتفرعت من هذه الجوامع مسائل وأحكام ما جاء به العلماء من عندهم، إنما جاءوا بها من دلالة النص، ولذلك تجد الحديث الواحد تستغرب حتى كيف يستنبط منه الحكم؟، وتتعجب تجد العبارة خطابا للمرأة"إنما ذلكِ عرق"،"وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة"،"فاتركي الصلاة"،"دعي الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضينهن"،"لتنظري الأيام التي كانت تحيضهن"،"فلتمسك عن الصلاة"، فإذا هي خلفت ذلك فلتصلِ"، الرجوع إلى العادة الرجوع إلى التمييز الرجوع إلى الغالب، هذه المسائل قعدها عليه الصلاة والسلام، لكنها تتفرّع عنها مسائل كثيرة.(1/463)
ومن هنا كان ضبط هذا الباب والعناية به أمراً عظيماً فيه نفع للمسلمين، لأن الحيض تتعلق به عبادات وتتعلق به معاملات، المرأة ما تستطيع أ، تصلي وما تستطيع أن تصوم ولا تدخل المسجد ولا تمسّ المصحف ولا تقرأ القرآن، ولا يجامعها زوجها إذا كانت حائضة، لا يطلقها إذا كانت حائضة طلاقاً السّنّة، والاعتداد لا تعتد بالأشهر مادامت حائضاً، ثم التبس عليها الأمر هل هي حائضة أو مستحاضة، على كل حال كل هذه المسائل من العبادات والمعاملات وما يتبعها كلها محتاج إليها، وانظر إلى عظيم نفعك للأمة إن ضبطت وأتقنت هذا الباب فنفعت به وانتفعت، ونسأل الله العظيم أن يلهمنا فيه الصواب وأن يجنبنا فيه الزلل، ولذلك نعود ونكرر إلى أن هذه التأصيلات والتفريعات في غالبها جاءت مستقاه ومستنبطه ومبنية على أصول في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهمها العلماء ويحتاج طالب العلم إلى ضبطها والإلمام بها حتى يستطيع أن يفتي ويعلّم ويبيّن مسائل الحيض على نور وبصيرة من الله، وإن شاء الله سنبيّن المسائل المتعلّقة بالحيض.
@ @ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ: لو كان الماء قريباً ولكن إن طلبه فاتته الجماعة، هل يتيمم أو يطلب الماء؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.
فوجوب الجماعة منفصل، ووجوب الاغتسال بالماء متصل بالعبادة، تسقط الجماعة ويجب عليه أن يطلب الماء، ولذلك يعتبر هذا من العذر الموجب لسقوط الجماعة، كما لو تأخر عن الجماعة وهو يغتسل في مغتسله، فهذا عذر يسقط عنه الجماعة فيجب عليه أن يغتسل ولا يجوز له أن يترك ما فرض الله عليه من غسل بدنه والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :(1/464)
فضيلة الشيخ: إذا كنت في غرفة وجيء لي بإناء فيه تراب لكي أتيمّم، ولكن لا أستطيع أن أضرب بكلتا يدي معاً، فهل يجوز لي أن أضرب بيدي اليمنى ثم اليسرى؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
هذه المسألة طبعاً يجوز أن يضرب بيده اليمنى ثم يضرب بيده اليسرى لا يشترط ضربهما معاً، إذا تعذر عليه أن يضرب الاثنتين معاً ضرب الأولى ثم ضرب الثانية ثم مسح بهما، ولا بأس في تخلف اليسرى عن اليمنى في هذا والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: لماذا الشارع اقتصر على مسح اليدين والوجه دون باقي الأعضاء؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/465)
على الله الأمر وعلى الرسول البلاغ وعلينا الرضا والتسليم، كان مشايخنا رحمة الله عليهم لا يحبون هذه المسائل، { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } إذا جاءتك الشريعة تتعوّد التسليم والرضا والقبول، { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } هذا أول شيء، { ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً } جاءت نكرة يعني أي حرج ولو اليسير { حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ } أي مما أوحينا إليك، { وَيُسَلِّمُوا } وليس يسلموا فقط بل { تَسْلِيماً } تأكيداً بالمصدر، فعليك التسليم والرضا، ومن رضي فله الرضا، ويتعود المسلم أن لا يبحث عن العلل ويتعمق ويتنطع في الدين، والله له الحكمة التامة { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } ، فالله أحكم دينه وشرعه، لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو - سبحانه وتعالى - له الحكمة التامة البالغة - جل جلاله - وتقدّست أسماؤه، له أن يقول لك تيمّم وامسح وجهك وكفّيك، وله أن يقول لك تيمّم من رأسك إلى أخمص قدمك، وله أن يقول لك تيمّم لو تدخل التراب في عينك، ما تستطيع هذا ربك يأمرك وينهاك ما تدخل تتعمق، أو يأتي إنسان يتشدق ويقول لك لأجل كذا ولأجل كذا، وماذا يستطيع المخلوق القاصر الضعيف أن يدرك من الحِكَم والأسرار التي أحكمها الحكيم العليم الذي هو فوق كل عليم - سبحانه وتعالى -، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } سبحانه وحده لا شريك له.(1/466)
فالذي ينبغي التّأدّب مع الشّرع، وأوصي نفسي وكلّ مسلم فضلاً عن طالب العلم أن يتعلم الأدب، وكل قصص الأنبياء في كتاب الله - عز وجل - وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تدور حول هذا المعنى الذي يقتضيه التوحيد ويقرره الأدب من الله - عز وجل -، لابد من الأدب ومن كمل أدبه مع الله - عز وجل - فتح الله عليه ووفقه وسدده وألهمه وأعانه فعليك أن تتأدب، يقول لك امسح وجهك وكفّيك تمسح وجهك وكفّيك، لماذا الوجه؟، لماذا الكفين؟، لماذا الرجلين؟، هذا أمر ما يخصك ولا يعنيك { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ، فعليك أن تتقي الله وتسلم، ووالله لا أستطيع أن أقول على الله بدون علم، أكذب عليك أغشك أتكلّف بمالا علم لي، هذا الذي جاء به كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تمسح وجهك وكفّيك، لماذا وكيف وما هذا أمر لم نؤمر بالاشتغال به ولا نتكلف في البحث عنه، ولذلك انظر إلى من يأخذ الآيات والأحاديث يجلس يتنطّع فيها ويتشدّق ويذهب يميناً وشمالاً ومن يستمع لمثل هذه ويجلس يعني يأخذ هذه الأسرار ويطير بها كان العلماء لا يعدونه من متين العلم، لما قالوا إن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، لأن سورة القدر ثلاثون كلمة ، } سلام { ست وعشرين }هي { سبع وعشرين، هذا لما تأتي تقول للناس أوه هذا العلم، ما شاء الله تبارك الله هذا الفتح وهذا العلم ويجلسون يستعجبون، لكن لما جاء بعض أئمة التفسير قال: وهذا ليس من متين العلم، لأنه ما عندنا نص لا من الكتاب ولا من السنة، افرض أن الله جعلها لحكمة ثلاثين كلمة وجعل هي سبعا وعشرين حتى يبتلي عباده فيأتي واحد ويقول على الله بدون علم، احتمال نعم لكن ما تستطيع أن تجزم، عائشة رضي الله عنها جاءتها عمرة بنت عبد الرحمن تابعية جليلة وقالت:"لها يا أماه، ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة"، الآن لما(1/467)
تأتي تسمع واضح الجواب، أن الصوم لا يشق قضاؤه والصلاة يشق قضاؤها، ماذا قالت لها عائشة:"أحروريّة أنتِ؟"، هجمت عليها مباشرة وهي تابعية امرأة صالحة حافظة لكتاب الله وعاء من أوعية العلم، كانت حافظة للكتاب والسنة رحمها الله برحمته الواسعة، قالت لها:"أحروريّة أنتِ؟" يعني هل أنتِ من الخوارج؟، اللذين يتنطعون في الدين، كيف أم صالحة وصحابية جليلة تقول لمثل هذه المرأة، كل هذا؟، هذا أسلوب تربوي، أن العالم يضغط على طالبه ولذلك بعض العلماء تجد منهم بعض التصرفات الشديدة، والله إنهم ليحبون طلاّبهم في بعض الأحيان أكثر من أولادهم ومن قرابتهم، لكنهم يحبون الأدب والطبيب إذا عالج أوجع، فلما بلغ المبلغ الأدب مع الله قالت لها:"أحروريّة أنتِ؟"، ولذلك كان السلف رحمهم الله يقفلون هذا الباب ولا يفتحونه، ووالله إني لأعرف من الوالد والله يسألني على ما أقول يشتد غضبه إذا دخل في مثل هذه الأمور، لماذا ختمت الآية { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ؟، ليش ما قال حكيم عليم؟، ولماذا قدّم عليم وأخّر حكيم؟، ما هذا ما كانوا يقبلون هذه الأسئلة، العلم أن تبلّغ ما سمعت من السّلف، وتبلّغ المأثور فإن خرج العبد إلى تكلّفات وآراء واستنباطات لا تنبني على أصول فقد تقحّم فيما هو في عافية منه، فنسأل الله أن يعافيه مما هو قادم عليه، سيُسأل أمام الله عما يقوله.(1/468)
فلا نريد أن يتعوّد طالب العلم هذا، نريد طالب علم يفتح صدره لكتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويصغي بأذنه ويأخذ الأنوار ويضبطها من الكتاب { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } ، ويهتدي بهداية الكتاب والسنة، ويشتغل بما ينفعه من حفظ العلم وضبطه والتسليم لله - عز وجل -، ولذلك إذا سار على هذا أفلح وأنجح وصلح له أمر دنيه ودنياه وآخرته، ولذلك تجد البعض الذي يتكلف هذه المسائل يجاب في مسألة ثم الثانية ثم يستدرجه الله حتى يأتي إلى مسألة لا يجد لشيخه فيها جواباً، وعندها يقف عند المعضلة، فنسأل الله السلامة والعافية يتسلط عليه الشيطان وتبقى هذه المسألة تحوك وتدور في قلبه وتحوك وتدور ومن قرأ تراجم بعض العلماء وكيف أن بعضهم وجهوا ونهو عن ذلك حتى ذهب ما في قلوبهم بالنهي عن الدخول في هذه المسائل، فانشرحت صدورهم بعد أن كانت مغلقة بسبب تسلط الشيطان بمثل هذه التكلّفات، فعليك يا طالب العلم بالسّمع والطّاعة وإن لم يسمع العبد لربه فلمن يسمع، وإن لم يطع الله فمن يطيع، فهذا العلم ميراث يؤدى كما سمع، لا يتكلف به بالتّكلّفات ولا يتنطع فيه بالتنّطعات، "ومن شاد هذا الدين فقد غلبه"، فلسنا بحاجة إلى التأويلات والتكلفات، وعلى كل حال أمور العبادة كلّها توقيفيّة، يقول لك إذا زالت الشمس صلِ أربعاً ثم هذه الأربعة تسرّ فيها كلها ما تجهر، ثم إذا غربت الشمس صلِ ثلاثاً تجهر في اثنتين وتسرّ في واحدة، ثم إذا غاب الشفق تصلي أربعاً تجهر في اثنتين وتسر في اثنتين، ثم إذا طلع الفجر تصلِ اثنتين تامّتين تجهر فيهما، جعل الجهر في اثنتين كاملتين وجعل الإسرار في أربع تامة مرتين، وجعل الجهر تارة والإسرار تارة في عدل في العشاء اثنتين مقابل اثنتين، وجعل الجهر أكثر من الإسرار في المغرب، هذا أمر ما تستطيع أن تدرك علّته، وقال لك: توضأ فاغسل ثلاثة أعضاء وامسح عضواً واحداً، وأدخل الممسوح بين مغسولين،(1/469)
توضّأ فاغسل وجهك ويديك إلى مرفقيك، واغسل رجليك ولكن رأسك امسحه، يأتي واحد ويقول ليش ما أغسل رأسي؟، ولماذا أمسح رأسي بين غسل رجلي ويدي؟ ما يستطيع أحد أن يجيبك، لأن هناك منهجية وهي منهجية التسليم ولله المثل الأعلى فلو أمر السيد عبده بأمر من الأوامر وهو مخلوق مع مخلوق له حق الملكية التي سلطه الله عليها كما قال تعالى: { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، يقول له: قم وضع هذا هناك، قال له: لماذا أضع هناك ليش ما أضعه هنا؟، ماذا يفعل به؟، يقوم يبطش به وهو مخلوق ضعيف ولربما يكون الحق مع العبد ومع المأمور، لكن الله أبداً لأنك ما تستطيع أن تستدرك على الله ولذلك تقول سمعنا وأطعنا علمنا أو لم نعلم، {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } ، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا التسليم، نسأل الله أن يصرف عنا التكلف في العلم بما لا يعنينا، وأن نشتغل بما لا يرضيه عنا إنه ولي ذلك والقادر عليه والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ: ما مقدار المسافة لوجود الماء إذا فُقد بالكيلو متر؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/470)
هذا ليس له ضابط بالكيلو متر، لأنه مرة تكون عندك سيارة ومرة تكون على قدميك الضابط أن لا يخرج وقت الصلاة، إذا كان الماء على مسافة وبعد بحيث لو مشيت يخرج الوقت يسقط عليك طلب هذا الماء، لو قلت لك مثلاً سبع كيلو متر سبع كيلو مترات في الجبال مثل سبع كيلو مترات في السهل ما يمكن، سبع كيلو مترات وأنت نازل في خبت على أرض منحدرة مثل ما أنت صاعد إلى أرض عالية ما يمكن ضبطه بهذا، ولذلك المسافة ترجع الى الضابط الذي ذكرناه، الذي يمشي قوياً جلداً كالذي يمشي ضعيفاً كبير السن مثلاً صغير السن، وعلى كل حال ليس هناك ضابط محدد بالكيلو مترات، المهم أنك إذا غلب على ظنك أن الماء موجود قبل خروج الوقت تطلبه، غلب على ظنك أن الماء مفقود قبل خروج الوقت تتيمم، شككت تطلب حتى يبقي القدر الذي تصلي فيه تتيمم وتستبيح الرخصة على التفصيل الذي ذكرناه والله تعالى أعلم.
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ: إذا تيمّم رجل وصلى الصلاة المفروضة عليه وانتهي من الصلاة ثم وجد الماء، فهل يجب عليه أن يعيد تلك الصلاة أو لا؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
هذا فيه تفصيل طبعاً إذا كان قصّر في طلب الماء يجب عليه أن يعيد، إذا قصر في طلب الماء وتبيّن أن الماء قريب منه يلزمه لأن المقصر يلزم بعاقبة تقصيره، أما إذا اجتهد وتحرّى وبذل ما يستطيع ثم جاء قبل خروج الوقت استحب بعض العلماء وبعض أئمة السلف أن يعيد مادام في الوقت، وهذا أفضل أن يخرج من الخلاف والله تعالى أعلم.
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ: الماء المعقم يوجد به أحياناً رائحة المعقمات مثل الكلور، فهل تستعمل في رفع الحدث؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/471)
كل ما غير لون الماء وطعمه وريحه سلبه الطهورية، وقد تقدم معنا ذلك وبيّنا دليله من الكتاب والسنة، وأنه لا يتوضأ ولا يغتسل إلا بماء طهور وهو الباقي على أصل خلقته، لكن لو كنت في موضع ما فيه إلا هذا الماء الذي فيه كلور، وشق عليك أن تجد ماء لا كلور فيه، في هذه الحالة يجوز لك أن تصلي به، لقول طائفة من العلماء ويكون التغير بالكلور مشقة يصعب التّوقّي منها كما لو تغير البئر برائحة الشجر الموجودة فيه أو كانت شجرة على طرفه فتساقط ورقها فغير طعم الماء ولونه هذا يغتفر لمكان المشقة والله تعالى أعلم.
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ: إذا كنت في الصلاة وجاء بجانبي رجل به رائحة كريهة، فهل لي أن اقطع الصلاة؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
على كل حال أولاً وقبل كل شيء المسلم يتطيّب ويتنظّف قال تعالى: }يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد {، المنبغي أن الإنسان يتعاطى أسباب الكمال إذا أراد أن يحضر مجالس العلم أو أراد أن يحضر الصلاة أو يذهب إلى المسجد يتنظف، إذا كانت به رائحة كريهة يغير ثوبه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"ما على أحدكم أن يكون له ثوبان"، ثوب لمهنته وثوب لصلاته، فإذا أراد أن يصلي فسخ ثياب المهنة ولبس ثياب الصلاة، أما قطع الصلاة ما تقطع الصلاة، نعم إذا شوش عليه تشويشاً يخرجه عن إدراك الصلاة جاز له أن يقطعها ولا بأس عليه ولا حرج في ذلك والله تعالى أعلم.
السؤال الثامن :
فضيلة الشيخ: ما نصيحتكم للشباب الملتزم الذي يعاني من مشاكل نفسية بسبب عدم الزواج، لا سيما الذي لا يستطيع أن يتزوّج مع حاجته القوية مما يؤثر عليه طلباً للعلم وعبادة ودعوة فتنقلب عليه سلباً في ذلك؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(1/472)
فالأصل أن المسلم متعلّق بربه، ملتجئ إلى خالقه يبث إليه أحزانه ويشتكي إليه أشجانه ويعلم أنه أرحم به من نفسه التي بين جنبيه، وأنه أحلم وأكرم وألطف - سبحانه وتعالى -، هو أرأف من ملك وأرحم من استُعطِف - سبحانه وتعالى -، فهو الرحيم بعباده اللطيف بخلقه، فليست هناك مشاكل نفسية لمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيناً ورسولا، المؤمن يصيبه الهم ويصيبه الغم ويصيبه الكرب وتضيق عليه الدنيا لأنها سجنه، قال - صلى الله عليه وسلم -:"الدنيا سجن المؤمن"، وتحيط به الهموم والغموم حتى لربما نسي عن نفسه التي بين جنبيه، ولكن ما إن يقف بباب الله، ما إن يحتمي بحمى الله، ما إن يقف بين يدي الله، فيكبر في صلاته مقبلاً على ربه فيقول من صميم قلبه الله أكبر إلا تبددت أحزانه وذهبت أشجانه وأحس أنه بين يدي ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، وأنه يسأل أرحم الراحمين، ويسأل خير الغافرين،ويسأل أكرم الأكرمين، فعندها يصبح خوفه أمانا وضيقه سعة { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ، شهادة من الله أن من تولاه لا خوف عليه ولا حزن.
فهذه المشاكل النفسية هي حقيقة على الكفار، الكافر الذي إذا نزل به الكرب وأحاط به البلاء ونزلت به المصيبة لا يدري أين يذهب، ولا بمن يستغيث { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَان } ، يخبط خبط عشواء يدعو من دون الله مالا يضره ومالا ينفعه، { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } ، هذا هو الهم وهذا هو الكرب وهذا هو الغم وهذا هو البلاء النفسي.(1/473)
أما الموحد المؤمن الصادق الذي يعلم من هو ربه الذي بيده ملكوت كل شيء، { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ، هو وحده الذي هو على كل شيء قدير، أيوب نزلت به المصائب وأحاطت به كربات وبلغ به المبلغ في نفسه وماله وأهله، حتى بلغ مبلغه فنادى الله في لحظات يسيره لحظات يسيره ناداه مؤمناً موقناً موحداً متذللاً متبذلاً متخشعاً سائلاً ربه من كل قلبه ففتحت أبواب السماوات لدعواته وتأذن الله برحماته وبركاته ومغفراته { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } ، الله - سبحانه وتعالى - من حكمته - جل جلاله - أنه يحيط العبد بالهم والغم والكرب حتى يقف ببابه ويلتجئ إليه، ومن هذا مصائب العزوبة وهنا نقول السنة الزواج وينبغي أن تكون القدوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا وجد أحد ولو كان من أهل العلم عنده عذر في خاصته لا يصبح قاعدة لغيره، لأننا أمرنا باتباع رسول الهدى عليه الصلاة والسلام وما أمرنا باتباع غيره، فالسنة لطالب العلم أن يحصن فرجه، وأن يبحث عما يستره ويعينه على العفة وعلى الزواج وهذا أصل أجمع عليه العلماء رحمهم الله على أن هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزواج، ولذلك يقتدى به ولا يقتدى بأحد كائناً من كان، مهما كانت إمامته وجلالته ومشيخته في الإسلام المهم أن نتبع السنة، لكن طالب العلم لا يكلف نفسه مالا تطيق، إذا كان يده قليلة يبحث عن امرأة متوسطة الحال امرأة على قدره تناسبه، يبحث عمن ييسر ولا يعسر، ولا يتكلف وثق ثقة تامة ما إن يأخذ العبد بالأسباب إلا يفتح الله له أبواب الفرج، يسر الأمر عليك يتيسر، وبدل أن يعزم (يدعو) الإنسان الناس ويعزم (يدعو) الغث والسمين يقتصر على الخاصة والقرابة ويفعل شيئا في اليسر والسعة، وبدل سهر الليالي والأفراح والقصور نقتصر على ما فيه ستر وعافية وينتهي الأمر، هذا إذا كنّا لا نستطيع لا نحمل(1/474)
الضعفاء والفقراء فوق طاقتهم، أو أن الأربعة أو الخمسة من الشباب الصالحين يجتمعون ويفعلون زواجاً في ليلة واحدة يشتركون في تكاليفه، ليقل الناس ما شاءت مادام ذلك في مصلحته وعفّته لدينه ما علىّ وما على الناس، وهل الناس يغنونني من الفقر؟، ويشفونني من سقم ومرض؟، كلا ولا، إذاً ما ينتظر عند الناس مدحاً وذماً، فإذا كان يجتمع الشباب الصالحون الأربعة والخمسة في زواج واحد سقطت التكلفة، ويسّر كثير من العسر، وأمور الزواج دائماً على يسر كان المسلمون كان الرجل يسافر إلى صقع من أصقاع بلاد الإسلام ما كانوا يعرفون هذا مشرقي ولا مغربي ولا شمالي ولا جنوبي، أينما نزل في بلاد الإسلام فهم أهله وذووه، ما كان يقال للمسلم في دار الإسلام غريب، وإذا جاء زوّجوه وأكرموه لأنّهم ما كانوا يشعرون بأن هناك فرقاً بينهم وبين المسلم كانوا يعرفون ما هو الإسلام، ولذلك البساطة واليسر والسهالة وترك العسر وأن لا يشدد الناس على أنفسهم.
فطلاب العلم إذا تيسر الزواج فبها ونعمة، إذا لم يتيسر الزواج فانظر رحمك الله أن أمور الزواج إذا دخلت في فكر الإنسان شغله الله بها وفتنه، إذا اشتغل بطلب العلم ما تيسّر له الزواج واشتغل بطلب العلم صرف الله همته لما هو أحسن وأكمل { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه } ، فالشاب الذي يقول والله هناك فتن وأحس بالفتن نعم كفّ بصرك، واخرج وأنت لا تنظر إلى حرمات الله وادخل وأنت لا تنظر إلى حرمات الله - عز وجل -، واسمع ما يرضي الله واقرأ ما يرضي الله واشغل وقتك بما يرضي الله لن ترى فتنة أبداً، ولن تشعر بالفتنة لا في نفسك ولا أهلك ولا ولدك لأن الله يتولى جميع أمرك، فالواجب على طالب العلم أن يشغل كليته إذا تعسر عليه الزواج، أن يشغل نفسه بأنوار التنزيل بما أنزل الله - عز وجل - في هذا الكتاب المبين فهو رحمة وهدى وشفاء حتى ييسر الله له الفرج.(1/475)
وأوصي الأغنياء والأثرياء أن يحتسبوا في تفريج كربات طلاّب العلم، ومن يعرف الأغنياء ويستطيع أن يكلّمهم ويتوسّط لطلاّب العلم في زواجهم وعليه إذا توسط لأحد أن يضغط على هذا الأحد الذي توسط له أن يأخذ باليسر ولا يضيّق على نفسه فهذا من الشفاعة المأجورة إذا كان الإنسان يستطيع هذا، أما إذا كان الشيخ يحس أنّ هناك حرجاً عليه أن يكلم الأغنياء، أنا الآن ما أستطيع أن أشفع عند غنيّ إلا ما ندر، لأنه قل أن تجد من يوقّر أهل العلم اليوم، وقلّ أن تجد من يقبل شفاعة أهل العلم ويقدّرهم قدرهم، ولكنّنا نحمد الله على أن صان وجوهنا عن ذل السؤال لخلقه، وإن كنا نتفطّر حزناً أننا لا نقدم لطلاب العلم شيئاً، ولكن الله بماذا ننوي في قرارة قلوبنا ونسأل الله عز وجل أن يعيننا على صون هذا العلم أن يبتذل ويهان، فقد أصبحت شفاعة أهل العلم تهينهم وتذلّهم وتنقص من قدرهم، كان الناس وكنت أعهد هذا قبل عشرين سنة إذا جاء العالم إلى الغني أحسّ الغني أن العالم متصدق عليه، ويتشرّف بذلك ووالله ما تأتيه القصاصة من الورق من الشيخ والعالم يكاد يضعها فوق رأسه، ويحب من جاءه ويكرمه، أما اليوم يقول لك إذا كان عندك طلاّب علم محتاجون أرسلهم إلىّ أرسلهم، وإذا بهم يتبذلون ويهانون وفي النهاية يعطيه اليسير الذي لا يساوي أن تريق ماء وجهك له، والحمد لله ونحمد الله على هذه الغربة التي تزيد من الدرجة وترفع من القدر، ونسأل الله - عز وجل - أن يؤنس وحشتنا من هذا الضِّيق الّذي لا يشتكى إلا إليه سبحانه وتعالى.
تجد طلاب العلم يأتونك للشّفاعة وغيرها وأنت مكتوف اليد، ولكننا مع هذا نقول إذا وجد من طلاب العلم من يعرف الأغنياء والأثرياء وأهل الصلاح فليحتسب، نسأل الله أن يوفّقنا لما يحبّه ويرضاه وصلى الله على سيدنا محمد.
تابع باب الحيض
بسم الله الرحمن الرحيم(1/476)
…الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
…أما بعد.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]باب الحيض، ويمنع عشرة أشياء[.
…بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصّلاة والسّلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
…أما بعد.
…فيقول الإمام المصنف رحمه الله: ]باب الحيض[، تقدم بيان المقدمات المتعلقة بالحيض، وهذا الباب ذكره المصنف رحمه الله عقيب باب الغسل والتيمّم والمناسبة في هذا واضحة ظاهرة، فبعد أن ذكر طهارة الماء والبدل عن طهارة الماء في الحدث الأصغر والأكبر شرع في بيان الحدث الأكبر الخاص وهو الحيض، لأنه يختص بالنّساء دون الرجال، ولما كان الحيض والنفاس كل منهما يوجب الغسل بينهما رحمه الله في هذا الموضع، وابتدأ بالحيض لأنه أكثر وقوعاً من النفاس، وتعمّ به البلوى أكثر من النفاس.(1/477)
…يقول رحمه الله: ]باب الحيض، ويمنع عشرة أشياء[، المانع في اللغة هو الحائل بين الشيئين، وأما في الاصطلاح فما يلزم من وجوده العدم أي عدم الحكم، فإذا وجد الحيض امتنع فعل الصلاة، وامتنع الحكم بوجوبها على المرأة أي الصلاة، وقوله رحمه الله: ]ويمنع[، الضمير عائد إلى الحيض، وقال: ]عشرة أشياء[، هذه الأشياء إجمالاً قبل البيان والتفصيل، وهذه الأشياء منها ما يتعلّق بالأقوال كقراءة القرآن، ومنها ما يتعلّق بالأفعال في العبادات كالصلاة والصوم فعلاً في الصلاة وتركاً في الصوم، ومنها ما يتعلق بالعادات كالجماع ومنها ما يتعلّق بالمعاملات في الأنكحة كسنيّة الطّلاق، نظراً لتعدّدها واختلافها أجملها رحمه الله بقوله ]ويمنع عشرة أشياء[، وهذه الأشياء منها ما دلّ على منعه دليل الكتاب ومنها ما دلّ عليه دليل السنة، ومنها ما اجتمعت دلالة الكتاب والسنة على منعه، ومنها ما أجمع العلماء على منعه على المرأة الحائض كالصّلاة، ومنها ما اختلفوا فيه كقراءة القرآن، فالشّاهد أنّه رحمه الله سيذكر موانع الحيض.
…قال رحمه الله: ]فعل الصلاة[.(1/478)
…أي يمنع فعل الصلاة ووجوبها، يمنع فعل الصلاة فلا يجوز للمرأة إذا أصابها الحيض أن تصلّي، والدليل على ذلك حديث أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها وأرضاها:"إنما ذلك عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة"، وفي لفظ "فاتركِ الصلاة"، فقوله عليه الصلاة والسلام "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" يدل على أنه لا يجوز للمرأة أن تفعل الصلاة أثناء الحيض، ولحديث أمّ المؤمنين عائشة في الصحيحين عنها رضي الله عنها أنّها قالت:"كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، فدلّ هذا على أنّ المرأة لا تصلّي، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، أنّ المرأة الحائض لا يجوز لها أن تصلّي الصلاة سواءً كانت فريضة أو كانت نافلة، ولكن تُستثنى من ذلك صلاة واحدة وهي التي يؤمر بقضائها، فهنا يقول فعل الصلاة ووجوبها، فتسقط الصلاة فريضة كانت أو نافلة أداءً وقضاء، فلا يجب عليها الفعل أثناء الوقت، ولا يجب عليها قضاء الصلاة بعد خروج الوقت، أما الدليل على سقوط الأداء فقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين:"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة" هذا نهي عن فعلها في الوقت أداءً، والنهي عن فعلها بعد الوقت قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين:"فنؤمر بقضاء الصّوم ولا نؤمر بقضاء الصّلاة"، فسقطت الصلاة أداءً وقضاءً، وأما الصلاة التي تستثنى قضاءً لا أداءً هي صلاة الطّواف ركعتا الطّواف، إذا كانت المرأة في الطّواف أتمّت طوافها في العمرة مثلاً ثم حاضت قبل أن تصلّي ركعتي الطّواف فطوافها صحيح، ونأمرها بالخروج إلى الصّفا والمروة لإتمام مناسك العمرة، وتسقط عنها الصلاة في حال حيضها، فإذا طهرت من الحيض صّلت، ولذلك يقولون صلاة تقضيها الحائض، يلغزون بها يقولون: ما هي الصلاة التي تقضيها الحائض؟، الحائض(1/479)
لا تقضي الصلاة، فيقال هي صلاة ركعتي الطواف إذا أصابها الحيض بعد إتمام طوافها، وهكذا لو طافت طواف الإفاضة وأتمت الطواف ثم حاضت قبل ركعتي الطواف فإنها لا تصلّي وتنتظر حتى تطهر فتصلّي هاتين الرّكعتين.
…قال رحمه الله: ]فعل الصلاة[، أي يمنع الحيض فعل الصلاة لما ذكرنا ويمنع قضاءها، والإجماع منعقد على ذلك كما حكاه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وكذلك الإمام ابن المنذر والإمام ابن قدامة والإمام النووي رحمة الله على الجميع، كلهم حكوا إجماع العلماء على أن المرأة لا تصلي فريضة ولا نافلة، وهذا الإسقاط من الشرع تخفيف من الله - عز وجل - وتيسير، هناك بعض السلف وهو قول الحسن البصري رحمه الله ومذهب شاذ عند أهل العلم لا يعول عليه ولا يعمل به، يقول: إن المرأة الحائض إذا حضرتها الصلاة تجلس في مصلاّها وتسبّح وتذكر، وهذا القول لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة وليس له أصل شرعي يدل على أنّ المرأة في حال الصّلاة، لأنّ الأمر بالعبادة الخاصة في الوقت الخاص على الهيئة الخاصة يحتاج إلى دليل، ولذلك إذا لم يوجد دليل لا يشرع هذا الفعل، وردّه أهل العلم واستنكره طائفة من أهل العلم ولذلك لا يشرع هذا الفعل، والمرأة تسقط عنها الصّلاة كما نصّت على ذلك السّنة الصّحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/480)
…ويمنع وجوبها، هذا المانع الثاني، قيل إنّ الحائض لا تخاطب بالصّلاة، من أهل العلم من قال إنها تخاطب ويسقط عنها الفعل والقضاء، ومنهم من قال إنها لا تخاطب فلا تجب عليها الصلاة أصلاً، وهذا اختاره المصنف رحمه الله أن الحائض لا تخاطب بالصّلاة ولا تجب عليها الصلاة ولا تفعل الصلاة، وهناك قول ثاني يقول إنها مخاطبة وتعذر ويسقط عنها الفعل أداءً وقضاءً، على القول بأنها تخاطب يلغزون ويقولون: هل تجب الصلاة على أحد ولا تصحّ منه؟، تقول هي الحائض والنفساء إن قيل بتوجه الخطاب إليهما فإنه تجب عليهما ولكن لا تصح منهما، وهناك من أهل العلم من قال إنّ الحائض والنّفساء لا تجب عليهما الصلاة وهو أقوى.
…قال رحمه الله: ]ووجوبها[.
…يمنع وجوب الصلاة أي أنها تجب عليها الصلاة كما ذكرنا، وتقدم معنا تعريف الوجوب لغة واصطلاحاً.
…قال رحمه الله: ]وفعل الصّيام[.
… ويمنع الحيض فعل الصّيام، وهذا المانع دل عليه الحديث الصّحيح عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قال:"كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، فقولها "نؤمر بقضاء الصوم" دل على أن المرأة الحائض لا يصح صيامها، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله أن المرأة الحائض لا تصوم، وعلى هذا فلا يصح الصوم منها ولو صامت، فلو أنها صامت وخالفت لا يصح صيامها وتلزم بالقضاء، لا يصحّ الصوم فريضة ولا نافلة ولا واجباً كالنذر، ولا كفارة ولو كانت عليها كفارة صيام شهرين متتابعين فجاءها أيام الحيض فصامتها لم يصح ويجب عليها بعد انتهاء المدة أن تتم العدد من غير أيام الحيض، إذاً المرأة الحائض لا يصح منها فعل الصوم.
…قال رحمه الله: ]والطواف[.(1/481)
…ويمنع الحيض الطواف بالبيت، وهذا المنع ثبت في الصحيح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، حينما حاضت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، فإنها حاضت بسرف وذلك قبل دخوله عليه الصلاة والسلام إلى مكة في حجة الوداع، وكانت معه في فراشه عليه الصلاة والسلام فانسلت قالت:"فانسللت، فقال: ما بك أنُفستِ؟، قالت: نعم، قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم، اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"، فنصّ عليه الصلاة والسلام على أن المرأة الحائض لا تطوف بالبيت، مع أنها كانت قد نوت العمرة وهي ملزمة بأن تبدأ بالبيت فتطوف طواف عمرتها الذي هو ركن ومع ذلك منعها منه وأمرها أن تقلب فتصبح قارنة بعد أن كانت متمتعة، وحولها من نسك إلى نسك آخر، مع أنها كانت ناوية لنسك التّمتّع حيث كانت ناوية للعمرة رضي الله عنها وأرضاها، وهذا يدلّ دلالة واضحة على أنّ المرأة إذا حاضت لا يصحّ منها الطواف لا فريضة ولا نافلة، وعلى هذا فلو أنها طافت للإفاضة قلنا لها يجب عليك أن تعيدي طواف الإفاضة، ولو أنها طافت عن عمرة قلنا لها يجب عليك أن تعيدي طوافك للعمرة، لأنه لا يصحّ الطّواف بالبيت من المرأة الحائض، هذا نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّته الظاهرة الواضحة، ففي الصحيحين من حديث أمّ المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها "وهي صفية رضي الله عنها – أنها حاضت يوم النحر، فقال صلى الله عليه وسلم: عقرى حلقى أحابستنا هي"،"عقرى" أي عقرها الله،"وحلقى" أي حلقها الله ليس مراده عليه الصلاة والسلام أن يدعو حقيقة عليها وإنما تصيبها الرحمة لأنه قال:"أيما مسلم دعوت عليه أو سببته ولم يكن كذلك فاجعلها له رحمة"، هذه رحمة على أم المؤمنين، فمع هذا شدد فقال:"عقرى حلقى" يعني ستعقرنا وتمنعنا، ثم قال:"أحابستنا هي"، لأنها إذا كانت قد حاضت ولم تكن طافت للإفاضة فمعنى ذلك أنها ستتأخر، وإذا تأخّرت تأخّر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وإذا تأخّر النبي(1/482)
صلى الله عليه وسلم تأخّر معه الصحابة، فقال:"أحابستنا هي"، فانظر إلى تعبيره بالحبس عن جماعته كلهم لم يجد رخصة أن يرخّص لها حتى تطهر، حتى جاء الفرج فقيل:"ألم تكن طافت يوم النحر؟، قالوا نعم، قال: فلا إذاً"، معناه أنها لو لم تكن طافت لحبستنا، فلا رخصة أحوج من مائة ألف مع النبي صلى الله عليه وسلم سيتأخرون بتأخره عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم ير عذرا، ودلّ على أن طواف الحائض لا يصح بحال، حكى الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله إجماع أهل العلم رحمهم الله على أنه لا يصح منها الطواف لا نافلة ولا فريضة، وكذلك حكاه غير واحد منهم الإمام النووي رحمه الله في المجموع وابن المنذر في الإشراف وغيرهم من الأئمة، فهذا هو القول الذي عليه المعوّل وعليه فتوى أئمة الإسلام رحمهم الله سلفاً وخلفا، أن الحائض لا تطوف بالبيت وليس هناك أصرح من قوله عليه الصلاة والسلام "عقرى حلقى أحابستنا هي".
…وهناك من رخّص من الفقهاء فقال: تلبس حفاضة حتى لا تؤذي المسجد ثم تطوف، فنقول ليست العلة أذيّة المسجد إنما العلة عبادة وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنّها آخذة حكم الصلاة، فقال:"الطواف بالبيت صلاة"، وهذا وإن صح موقوفاً عن بن عباس وهناك من يصححه مرفوعاً فإن مثله لا يقال بالرأي، فقال:"الطواف بالبيت صلاة" فنُّزل منزلة الصلاة، ولذلك يستقبل فيه جهة معينة فيجعلها عن يساره ويتطهر له ويعتد بأجزائه كالركعات في أشواط الطواف بالبيت ومن هنا قالوا لا يصح الطواف إلا إذا كانت متطهّرة، يعني من الحدث الأكبر وكذلك الحدث الأصغر لان الطواف في حكم الصلاة كما ذكرنا، إذا ثبت هذا فلا بد من أن تكون المرأة متطهّرة من الحدث الأكبر، فلا يصح الطواف بالبيت من الحائض ولا من النفساء كما سيأتي.
…قال المصنف رحمه الله: ]وقراءة القرآن[.(1/483)
…ويمنع قراءة القرآن، أي يمنع الحيض قراءة القرآن، والأصل في ذلك أن عائشة رضي الله عنها نبهت على امتناع الحائض عن القرآن بما ثبت في الصحيح عنها أنها قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكيء في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض"، وهذا يدل على أن المرأة الحائض لا تقرأ القرآن، إذ لو كانت هي تقرأ القرآن لما كان لقولها "يضع رأسه في حجري أو يتكيء علي ورأسه في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض"، لم يكن له معنى لأنها هي بنفسها تقرأ القرآن، ولكن لما كانت هي ممنوعة دلت على أن الغير لا يمتنع عليه بالمرافقة والمخالطة للحائض والمقاربة.
كذلك أيضاً دل عليه حديث علي رضي الله عنه عند الترمذي وابن ماجه وأبي داود وأحمد في مسنده وفيه أنه قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فيأكل معنا ثم يخرج فيأكل معنا، وكان لا يمنعه وربما قال: لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة"، وهذا الحديث صححه الإمام الترمذي والحافظ عبد الحق والإمام البغوي في شرح السنة, وابن حبان وغيرهم رحمة الله عليهم ومن أهل العلم من ضعف إسناده، لكن محل الشاهد فيه أنه قال:"لا يمنعه ولا يحجزه من القرآن شيء إلا الجنابة"، ويؤكد هذا الحديث الصحيح "أنه لما مر عليه رجل عليه الصلاة والسلام وكان قد بال فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى ضرب بيديه الحائط، ثم قال: إني كنت على غير طهارة فكرهت أن أذكر الله"، فإذا كان هذا في رد السلام وكره أن يذكر، فهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى عليه فإن كان قراءةً للقرآن فإنه أولى بالمنع من غير الطاهر.(1/484)
وبناءاً على ذلك لا تقرأ الحائض القرآن، والذين قالوا بالجواز استدلوا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتبه إلى قيصر وكسرى عظيم الفرس وقيصر عظيم الروم، كتب عليه الصلاة والسلام إلى قيصر عظيم الروم كما في الحديث الصحيح،"أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم… الآية"، قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بهذه الآية إلى كافر متلبساً بالحدث الأكبر، ومع ذلك لم ير ذلك مانعاً من تلاوته للقرآن، فدل على جواز تلاوة الجنب والحائض والنفساء للقرآن، وهذا ضعيف لأمور:- أولاً: أن الآية كتبت على سبيل الدعوة ويحتاج الأمر إلى إثباتها قرآناً، ولذلك قال: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء } ، الأمر الثاني: أن هناك فرقاً بين الآية والآيتين، والثالث لأن من منع يشترط تمام الآية، وبعضهم يشترط الآيتين وبعضهم يشترط الثلاث الآيات، الأمر الثالث: قالوا إنما الممنوع إذا نواها قرآناً، ولذلك الجنب يركب على دابته ويقول : { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } لأن هذا دعاء الركوب، دعاء السفر في السنة ودعاء الركوب في القرآن، فيشرع عند ركوب الدابة لمطلق القرآن، { ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } ، فهذه آية ولكنه يقولها على سبيل الذكر لا على سبيل القرآن، ومن هنا فرق بين كونها للدعوة مراداً معناها وبين كونها للتعبد وقاصداً كونها قرآناً، ولذلك المسلم لو قرأها لا على أنها قرآن وإنما بيان لحكمها وبيان ما تتضمّن، قرأ آية على سبيل الاستشهاد ولا يقصد بها قرآناً فإنه لا يأثم إذا كان جنباً، وأما إذا قصدها تلاوة فهذا هو الممنوع والمحظور، وعلى كل حال فالأشبه أنه لا تقرأ المرأة الحائض القرآن، لكن إذا(1/485)
وجدت الضرورة لقراءتها القرآن مثلاً في حال الخوف من السّحر والأذيّة تحتاج المرأة أن تقرأ التعاويذ والآيات الواردة في الأذكار عن النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التعوذ، رخّص طائفة من أئمّة السّلف رحمهم الله في ذلك، وأنه لا حرج ولا بأس على المرأة أن تقرأ ذلك، وخاصّة إذا كانت نفساء لأن المدة تطول، فخفّفوا في هذا عند وجود الحاجة والضرورة.
…قال رحمه الله: ]ومس المصحف[.
…ويمنع الحيض مسّ المصحف، ومس المصحف المراد به أن تحمل المرأة الحائض المصحف، أو تفتّشه أو تقلّب أوراقه فلا يجوز لها لمس المصحف ولا حمل المصحف، واستدل على ذلك بدليل الكتاب { لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } ، والصّحيح أنّ هذه الآية حكاية عن الملائكة، لأنّ كفّار قريش اتهّموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتلقى القرآن من الشياطين، وكذّب الله - عز وجل -دعواهم وبيّن أنه في كتاب مكنون كريم محفوظ، نزل به الرّوح الأمين على قلبه صلوات الله وسلامه عليه ليكون من المنذرين، وبيّن أنه في أم الكتاب عنده سبحانه علي حكيم، وبيّن أن هذا الكتاب لا يمسّه إلا المطّهّرون، فمعنى ذلك أن الوحي مصون ومحفوظ من دخول الشياطين فيه، ومن هنا بيّن في قوله : { لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } المراد بهم الملائكة، وعلى هذا لا يكون في الآية دليل لكن قالوا إنه قد تكون خبراً بمعنى الإنشاء، ويأتي الخبر بمعنى الإنشاء كما قال علي رضي الله عنه:"يمسح المسافر ثلاثة أيام والمقيم يوماً و ليلة" هذا خبر ومعناه ليمسح يعني الإلزام والإنشاء، وعلى هذا مثل قوله: { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ - فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ - فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ - مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } ، لما قال الله تعالى: { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ - مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } أخذ منه أهل العلم رحمهم الله أن القرآن يكرّم ولا يوضع على الأرض ولا يمتهن ولا يوطأ بالأقدام ولا يرمى كما يرمى الشيء،(1/486)
وإنما يكرّم { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ - مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } فينبغي أن ترفع فيرفع ويصان قالوا هذا خبر بمعنى الإنشاء، وكأن الله يعلمنا أدب ملائكته مع كتابه وكلامه سبحانه وتعالى، فكذلك يقول ينبغي أن تكونوا على هذا كما قال صلى الله عليه وسلم:"قرأتها على الجنّ فكانوا أحسن منكم جواباً"، فإذا حكى الحال في حال الكمالات على المكلّف دل على أنه يقصد منها الاتساء والاقتداء وهذا معنى معروف معهود في الشرع.
وأما بالنسبة لمس المصحف فمذهب الصحابة رضوان الله عليهم التشديد في مس المصحف فيما هو أخف من ذلك وهو الحدث الأصغر، فأما الدليل على إلزام الطهارة لمس المصحف فحديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه:"أن لا يمس القرآن إلا طاهر"، وهذا الكتاب (("أن لا يمس القرآن إلا طاهر")) أصل عند العلماء رحمهم الله في اشتراط الطهارة لمس المصحف، والكتاب هذا قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تلقّته الأمة بالقبول، ومّثل له شيخ الإسلام بن تيمية بالنصوص التي تلقّتها الأمة بالقبول فأغنت شهرتها عن طلب إسنادها، وكان الإمام أحمد رحمه الله لما يُسأل عن هذا الحديث يقول:"أرجو أن يكون صحيحا"ً، والعمل عليه عند أهل العلم رحمهم الله، والصحابة رضوان الله عليهم عملوا بهذا، فإن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - الصحابي الجليل كان معه ابنه وكان يقرأ القرآن قال:"فتحكّكت فقال: يا بني لعلك لمست –يعني لمست ذكرك أثناء حكه-، قال: نعم، قال: قم فتوضّأ"، فمنعه أن يمسّ المصحف بعد انتقاض وضوءه بلمس الذكر، وهذا يدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفون الأمر بالوضوء لمسّ المصحف، وإذا كان هذا في الحدث الأصغر فمن باب أولى في الحدث الأكبر.(1/487)
…وأما قوله عليه الصلاة والسلام "أن لا يمسّ القرآن إلاّ طاهر" اعترض عليه بعض المتأخرين من الشّرّاح، بأن قوله "إلاّ طاهر" يعني مسّ مسلم، لأن عمراً بن حزم كان في نجران وكتب النبي صلى الله عليه وسلم له وهو بأرض أهل الكتاب، وهذا ضعيف لأن هؤلاء العلماء فهموا من قوله عليه الصلاة والسلام "إن المؤمن لا ينجس" أنه طاهر، وفرق بين قوله "إن المؤمن لا ينجس" وبين وصف الطهارة، "إن المؤمن لا ينجس" نفي، صفة التنجيس عن المسلم وهذا لا يستلزم أنه طاهر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"إني كنت على غير طهارة"، فنفي كون المسلم نجساً لا يستلزم أنه طاهر، لأنه قد يكون متطهّراً وقد يكون غير متطهّر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إني كنت على غير طهارة"، وقال كما في الصحيحين من حديث أمّ سلمة رضي الله عنها:"ثم تفضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ"، ومعنى ذلك أنه قبل ذلك أنتِ غير طاهر، والله - عز وجل - يقول: { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } ، فدلّ على أن نفي الطهارة لا يستلزم التنجيس، ولذلك هذا الجواب ضعيف والعمل على أن قوله "لا يمس القرآن إلا طاهر" على أن المراد به أن لا يمس المصحف إلا متوضئ، فإذا كان هذا في الحدث الأصغر فمن باب أولى في الحدث الأكبر.
…فلا يمس إذا كان قرآناً لا تمس القرآن، ولا تقلب صفحاته والمراد بذلك القرآن الكتاب الخاص، أما كتب العلم التي يتناثر القرآن فيها ككتب الفقه تذكر فيها أدلة القرآن فيجوز حملها ومسها لأنها ليست قرآناً، ليست آخذة حكم القرآن، ولكن لا تقرأ الآيات على سبيل القراءة إلا إذا طهرت المرأة من حيضها.
…قال رحمه الله: ]واللبث في المسجد[.(1/488)
ويمنع الحيض اللبث في المسجد هو يمنع الدخول في المسجد ويمنع اللبث، ولكن عند بعض الفقهاء وبعض أئمة الحديث رحمهم الله أنه يجوز للمرأة الحائض المرور بالمسجد ومرور الجنب داخل المسجد، وحملوا عليه قوله تعالى : { وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ }، ، { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ، قوله : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ } يعني مواضع الصلاة من باب إطلاق الشيء وإرادة مكانه هذا على أحد الأوجه في تفسير الآية الكريمة، وبناءً على ذلك في قوله : { وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } قالوا هو العبور داخل المسجد للجنب، وفيه بعض الآثار عن الصّحابة رضوان الله عليهم ولكن الآية فيها تقديم وتأخير والصحيح أنها ليست استثناء للمرور في المسجد، وإن كانت للمرور في المسجد فأصح الأوجه أنها في الرجل ينام في المسجد فتصيبه الجنابة، فيخرج لأن هذا من لازم تعظيم المسجد ورفعه وتوقيره، وعلى هذا فإن المرأة لا تدخل المسجد إذا كانت حائضاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة:"اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"، فمنعاها من الدخول إلى المسجد ومن الطواف بالبيت، ولأن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -:"ناوليني الخُمرة، فقالت: إني حائض"، وجه الدلالة من الحديث أن عائشة ما كانت لتمتنع من فعل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والامتثال لأمره بمناولة الخمرة إلا بعذر شرعي، فقالت:"إني حائض"، فلو كانت الحائض غير ممنوعة من دخول المسجد ما كان لقوها"إني حائض" معنى، وقوله "إن حيضتكِ ليست في يدكِ" لأنه قال:"ناوليني"، فدخول الجزء ليس كدخول الكل، فهي ظنت أنها مادامت حائضا لا يجوز حتى أن تدخل يدها، ومنها استنبط العلماء من هذا الحديث عدة مسائل:- المسألة الأولى: أن الحائض لا يجوز لها دخول المسجد(1/489)
لأن عائشة رضي الله عنها اعتذرت عن الدخول بقولها "إني حائض"، وهذا يدل على أن المرأة الحائض في الأصل ممنوعة من دخول المسجد، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّها على ذلك، لكن لم يقرّها على أن دخول الجزء كدخول الكل، ولذلك قال:"إن حيضتكِ ليست في يدكِ، إن حيضتك ليست في يدكِ" بعضهم يقول: يعني لا تملكين رفعها هذا مجاز، لكن حيضتكِ ليست في يدكِ حقيقة، يعني اليد التي تناولين بها الخُمرة دخولها ليس كدخول الكل، والأصل أنه متعلق بالموضع الذي فيه الحيض، ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام:"إن حيضتكِ ليست في يدكِ" على الحقيقة، وترجَّح مذهب من منع من دخولها والترجح في هذا ظاهر، لأن عائشة لا يمكنها أن تمتنع من امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لعذر شرعي، ولما قالت:"إني حائض" فهمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن لها أن الأصل في الحائض أن لا تدخل المسجد ولذلك استندت إلى هذا الأصل.(1/490)
ولكن قوله عليه الصلاة والسلام "إن حيضتكِ ليست في يدكِ" يدل على أن المرأة الحائض يجوز لها أن تناول الشيء في المسجد وأن تخرج الشيء من المسجد دون أن يدخل كلها، وأن دخول الجزء ليس كدخول الكل وفيه مسائل، منها لو قال والله لا أدخل بيتي فأدخل يده لم يحنث، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل دخول اليد الجزء كدخول الكل، ومنها لو قال لها إذا دخلتِ الدار فأنتِ حائض فأدخلت يدها، أو قال لها إذا دخلتِ الدار فأنت علىَّ كظهر أمّي فظاهر منها فأدخلت يدها كل هذا لا يقع به الظهار ولا الطلاق ولا يحكم في هذه المسائل بما يحكم في دخول الكل، فالشاهد من هذا أن هذا الحديث أصل يدل على أن المرأة الحائض لا تدخل المسجد، وظاهر القرآن في قوله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } فإن من رفعة المسجد ومما خص الله - عز وجل - به بيوته تشريفاً وتكريماً أن لا تدخله المرأة الحائض لعدة حكم منها: أنها إذا كان معها الحيض لا تأمن أن يصيبها النزيف فيتلوث المسجد ودمها نجس كما بيّنّا أن دم الحيض نجس وهذا بإجماع العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام "اغسلي عنكِ الدم"، وصان الله- عز وجل - المساجد عن هذا.
…قال رحمه الله: ]والوطء في الفرج[.(1/491)
…ويمنع الحيض وطأ الرجل لامرأته في فرجها، والأصل في ذلك قوله تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ، فجمع الله - عز وجل - في هذا المانع وبيان هذه الحرمة بين أسلوبين:- الأسلوب الأول { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ {، والأسلوب الثاني }وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } حينما تقول للشخص اجلس ولا تقم، واقعد ولا تقف، فهذا أبلغ في زجره ومنعه، ولذلك بيّن الله - عز وجل - قال: { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ } أي تجامعوهنّ في المحيض حتى يطهرن وهذا يدل على حرمة جماع الحائض، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، والمراد بقوله "إلا النكاح" يعني الجماع، وهذا من إطلاق النكاح بمعنى الوطء في الفرج.
…وهذا الأصل دلت عليه دلالة الكتاب والسنة كما بيّنّاه وانعقد عليه إجماع العلماء، وفيه حكم حتى إن بعض الأطباء الآن يقولون إنه مما ثبت أن الجماع أثناء الحيض يحدث أضراراً على الرجل وأضرارا على المرأة، فسبحان اللطيف الخبير العليم الحكيم وإن كنا نسلم بأمر الله سواءً ظهرت العلة أو لم تظهر، فالله أعلم وأحكم وهو ألطف وأرحم - سبحانه وتعالى -، فعلى كلّ حال لا يجوز وطء المرأة في القبل أثناء حيضها.
…قال رحمه الله: ]وسنة الطلاق[.(1/492)
…ويمنع الحيض سنة الطلاق، طبعاً هناك طلاق سني، النساء منهن من توصف بطلاق السنة والبدعة، ومنهن من لا سنة ولا بدعة في طلاقها، الطلاق السني والبدعي بالنسبة للمرأة الحائض، وأما بالنسبة للمرأة التي لا تحيض كالصغيرة والآيسة من الحيض فلا بدعة ولا سنة في حقها، ولذلك الطلاق السني أن يطلق المرأة في طهر لم يجامعها فيه، والأصل في ذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ }، فقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي طلّقوهنّ لقبل عدّتهن، أي عند استقبالهنّ للعدّة، وهذا أن تترك المرأة حتى تحيض فإذا حاضت وطهرت من حيضها وعنده نية للطلاق نقول له طلّق الآن، أما لو جامعها في هذا الطهر ثم طلّقها فإنه ربما تبيّن أنها حامل من هذا الجماع، فيندم وتطول عليها العدّة، لأنها تبقى في عدتها حتى تضع حملها فخفف الله - عز وجل -، ولذلك يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وعن علي مثله:"لا يُطلق أحد للسنة فيندم"، يعني ما أحد يتحرّى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه في الطّلاق فيصيبه النّدم، ومن هنا لا تطلق المرأة وهي حائض، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أنه طلّق امرأته وهي حائض، فذكر عمر - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فغضب، وقال عليه الصلاة والسلام: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلّق وإن شاء أمسك، فتلك العدّة الّتي أمر الله أن تطلق لها النساء"، فأجمعوا على أن من طلّق المرأة في حال حيضها أنه مطلق للبدعة مخالف للسنة آثم شرعاً في طلاقه، وعلى هذا فإنه ينبغي أن يتريث حتى تطهر من حيضها ثم إذا طهرت وأراد أن يطلّقها لا يجامعها، فيطلّقها في طهر لم يمسّها فيه وبيّن له قال:"ليطلقها طاهراً أو حاملاً"، فهذه هي السنة في الطلاق، وعلى هذا(1/493)
يمنع سنة الطلاق.
قال رحمه الله: يمنع وصف المطلق بكونه مطلقاً للسنة إن أوقع الصلاة في حال الحيض، ولذلك لا سنة في الطلاق إذا كانت المرأة متلبّسة بالحيض حتى تنتهي عادتها وتخرج من حيضها.
…قال رحمه الله: ]والاعتداد بالأشهر[.
…ويمنع الحيض الاعتداد بالأشهر، المرأة طبعاً إما أن تكون من ذوات الحيض، مثلاً امرأة عمرها عشر سنوات جاءها الحيض فإذا طلقت تعتد بالطهر،وتعتد بالحيض على القول الثاني أن القرء المراد به الحيض والصحيح الطهر كما سيأتي إن شاء الله تعالى، إذا كانت حائضا تعتدّ بالطهر من الحيض أو بالحيض على القولين المشهورين، إن كانت صغيرة لم تحِض أو كبيرة آيسة من الحيض فهذه عدّتها بالأشهر، { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } يعني وعدة اللائي لم يحضن ثلاثة أشهر، فجعل الله الاعتداد بالأشهر لنوعين من النساء، النوع الأول الصغيرة، مثال ذلك رجل تزوج امرأة وعمرها مثلاً ثمان سنوات عقد عليها ولم تحض بعد، ففي هذه الحالة لو دخل بها ولو بلغت عشر سنوات أو حتى ثلاث عشرة سنة ولم تحض بعد فدخل بها وجامعها ووطئها ثم طلّقها، فلمّا طلّقها هي مدخول بها فإذا كانت مدخولاً بها اعتدّت ثلاثة أشهر، تنزيل للزمان منزلة الحال والوصف، لأن المرأة في كل شهر تحيض، ومن هنا نزل الله - عز وجل - كل حيضة منزلة الشهر وهذا يقوي مذهب من قال إن أكثر الحيض خمسة عشر يوم وسيأتي إن شاء الله بيان هذه المسألة، على كل حال لها ثلاثة أشهر إذا كانت صغيرة، ولو أنّه طلّق امرأته الكبيرة رجل وامرأة زوجان كبرت زوجته وآيسة من الحيض انقطع عنها الحيض ثم طلّقها، فإذا طلّقها ما تعتدّ بالحيض لأنها لا تحيض ولا يجري معها الدم فلا طهر لها، فهذه يأست من الحيض { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ(1/494)
ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ }، فحينئذ نقول لها اعتدّي ثلاثة أشهر ثم أنتِ قد حللت للأزواج، فهذه عدة الآيسة وعدة الصغيرة .
فلو أن الصغيرة حاضت انتقلت من الاعتداد بالأشهر إلى الاعتداد بالحيض، فأصبح وجود الحيض مانعاً من إتمام عدة الأشهر، ثم هناك وجهان للعلماء: دخل على امرأة وعمرها عشر سنوات ولم تحض فطلّقها، فقلنا لها اعتدّي بالأشهر، فاعتدت شهراً ثم حاضت، نقول في هذه الحالة تسقط عدة الأشهر، فهل تستقبل عدة الحيض تامة إذا قلنا ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار؟، أم أنها تبني فيلزمها حيضتان أو طهران؟، وجهان للعلماء رحمهم الله: أما لو أنها مكثت نصف شهر ثم جاءها الحيض نزل معها دم الحيض فحينئذ تنتقل إلى عدة الحيض، وهذا معنى قوله ]ويمنع الاعتداد بالأشهر [، فإذا جاء الحيض على المرأة التي تعتد بالأشهر وحكمها أن تعتد بالأشهر ألزمناها بعدة الحيض وأسقطنا عدة الأشهر، سواءً كانت من جنس من يعتد بالأشهر ثم طُلقت، أو أنها اعتدت بعض العدة وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك أكثر في عدة الحيض.
…قال رحمه الله: ]ويوجب الغسل[.
…ويوجب الحيض، يعني إذا وجد الحيض ماذا يترتب عليه؟، ]يوجب[ يثبت، ]يوجب الغسل[ يعني أن المرأة إذا نزل معها دم الحيض لزمها أن تغتسل، وهذا الأصل عند العلماء رحمهم الله محلّ إجماع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "فإذا خلّفت ذلك فلتغتسل"، فدل على أن المرأة إذا حاضت يجب عليها الغسل وهذا محل إجماع.
…قال رحمه الله: ]والبلوغ[.(1/495)
…البلوغ يقال بلغ الشيء إذا وصل إليه، وأصل البلوغ عند العلماء رحمهم الله هو الانتقال من طور الصّبا إلى طور الحلم، يقال بلغ الصبي إذا انتقل من طور الصغر إلى طور الكبر، وهي حالة لا تستطيع أن تحدد لها دقيقة أو ثانية أو زماناً معيناً تحكم بكونه انتقل، ولذلك يعبرون بالعلامات والأمارات التي إذا وُجِدت في الغالب حُكم بالبلوغ بها، مثلاً عندنا علامات اُتفق عليها من الحيض كما مر معنا فبمجرد ما ينزل دم الحيض مع المرأة حكمنا ببلوغها وأخذت حكم البالغ وعُملت معاملة المرأة البالغة، كذلك أيضاً الاحتلام وهو نزول المني محل إجماع فإذا أمنى الصبي حكمنا ببلوغه قال - صلى الله عليه وسلم -:"رُفِع القلم عن ثلاثة وذكر منهم الصبي حتى يحتلم".(1/496)
وهناك علامات مختلف فيها مثل السن، الجمهور على الاعتداد به خمس عشرة سنة كالشافعية والحنابلة لحديث بن عمر وهو الصحيح، وقيل ثمان عشرة سنة وهو استناد لدليل العقل على الغالب، وقيل غير ذلك ولكن أقوى شيء أنها خمس عشرة سنة، والدليل على اعتبار السن حديث بن عمر رضي الله عنهما "عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن أربع عشرة سنة يوم أحد فلم يجزني ولم يرني قد بلغت، وعُرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"، فهذه كلها علامات نحكم بكون المرأة أو كون الرجل قد دخل في البلوغ وأنه يعامل معاملة البالغ، هذه العلامة وهي الحيض محل إجماع على أن المرأة لو نزل معها دم الحيض حكم ببلوغها، لكن غالبا ماً ما يكون من بعد تسع سنين، ومن هنا قال الإمام الشافعي رحمه الله:"أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة، وذلك أنني رأيت جدة ابنة إحدى وعشرين سنة" وهي جدة، لأنها طبعاً تزوّجت وعمرها تسع سنوات وحلمت وولدت بنتاً، ثم هذه البنت بعد تسع سنوات صار عمر الأم كم تسع عشرة سنة، فتزوّجت ثم حملت ثم وضعت فدخلت الجدة المباركة في إحدى وعشرين سنة، فقال:"أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة"، لأنه في الحر يكون البلوغ أعجل بخلاف المناطق الباردة فإن البلوغ يتأخر، فالشاهد أنه لتسع سنوات تتهيّأ المرأة للحيض، ونحكم ببلوغها إذا كان بعد تسع سنوات نزل معها الدم حكم ببلوغها، لو أنها كانت صغيرة بنت تسع سنوات ولم تظهر عليها علامات البلوغ وقتلت عُملت معاملة الصبي والصغير ولا يقتص منها ولا يجب قتلها قصاصا لأن عمد الصبي خطأ، لكن لو نزل معها دم الحيض وبعد نزول دم الحيض مباشرة قتلت عُملت معاملة البالغ وحُكم بالقصاص عليها لأنها صارت من أهل التكليف، واستحقت العفو واستيفاء القصاص إلى آخره، يعني يحكم بالبلوغ بمجرد نزول دم الحيض من الجارية، فإذا نزل منها دم الحيض حُكم ببلوغها.(1/497)
…قال: ]يوجب الغسل[ الذي هو غسل الحيض، وكما قدّمنا هذه الأمور التي يوجبها الحيض ويحكم بثبوتها ولزومها على المرأة الحائض، أولاً أن تغتسل والمراد الغسل لجميع بدنها لقوله عليه الصلاة والسلام "لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل"، وقال عليه الصلاة والسلام:"فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم واغتسلي وصلّي"، فأمر عليه الصلاة والسلام المرأة الحائض أن تغتسل بعد انقطاع دمها، فدلّ على أنّ الحيض يوجب الغسل، ولا تغتسل إلا بعد انقطاع الدم ورؤية علامة الطهر.
…قال رحمه الله: ]والاعتداد به[.
…ويوجب الاعتداد به كما ذكرنا، يوجب الاعتداد بالحيض وسقوط الاعتداد بالأشهر.
…قال رحمه الله: ]فإذا انقطع الدم أُبيح فعل الصوم[.
…المرأة الحائض ينقطع عنها الدم وترى علامة الطهر وتغتسل بعد ذلك، فعندنا طهران طهر لها في حق نفسها من انقطاع الدم ورؤية علامة النقاء، وطهر شرعي تتكلف فعله وذلك بالاغتسال، فهل هذه الممنوعات تتأقت إلى انقطاع الدم وطهرها في حق نفسها، أم لا بد من أن تطهر الطهارة التامة الكاملة فينقطع الدم، وترى علامة الطهر وتغتسل ثم يباح سائر هذه الممنوعات؟، بيّن أن هناك تفصيلاً فمن الممنوعات ما يكون حده إلى انقطاع الدم، ومن الممنوعات ما يشترط لجوازه أن تتطهّر المرأة الطهارة الكاملة، فعندنا عند انقطاع الدم يباح فعل الصوم، المرأة مثلاً لو رأت علامة الطهر قبل أذان الفجر صح صومها، ولذلك لو رأت علامة الطهر قبل أذان الفجر ثم اغتسلت من حيضها بين الأذان والإقامة صحّ صومها، لأنه ما يشترط أن تتطهّر قبل الصّوم، ويصحّ صيام الجنب ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح وعليه جنابة ثم يغتسل وما يمنعه ذلك من صوم عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فلا يشترط في صيام المرأة الحائض أنها تغتسل، بل يجوز منها أن تصوم قبل غسلها.
…قال رحمه الله: ]والطلاق[.(1/498)
…]والطلاق[ يجوز لزوجها أن يطلّقها بعد رؤية علامة الطهر، وهذا هو قول طائفة من أهل العلم رحمهم الله والجمهور على أنه يجوز أن يطلّقها بعد رؤية علامة الطهر، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلّق وإن شاء أمسك، فتلك العدّة الّتي أمر الله أن تطلّق لها النساء"، فجعل نهاية المنع من الطلاق هو طهرها، ولذلك لا علاقة للطلاق بالغسل، ومن هنا لا نوجب عليها غسلاً حتى نحكم بسنية الطلاق، فلو أنهّا جاءته وقالت الآن طهرت من حيضي، فقال أنتِ طالق، نقول طلاق سنة لأنه وقع بعد طهر المرأة، إذاً ما يشترط أن نقول له انتظر حتى تغتسل لأنه ليس من جنس التعبديات التي ينبغي أن تكون لها الطهارة مثل مس المصحف مثل الصلاة مثل الطواف بالبيت ونحو ذلك هذه كلها تشترط لها الطهارة فلابد وأن تغتسل وأما الباقي فلا يجب أن تتطهّر له.
…أما الجماع فالصحيح مذهب الجمهور أنه لا يجوز له أن يجامع امرأته إلا بعد أن تغتسل، ودلت على هذا الآية الكريمة قال تعالى : { وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } -هذا طهر الحيض- { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ } ، فنسب التطهّر الثاني إليهن والوصف الثاني عارض في قوله : { ) حَتَّى يَطْهُرْنَ } ، فدل قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْن } يعني اغتسلن، وملحظ الجمهور أن الله نسب التّطهّر إلى المرأة، ومن هنا لا يجامع المرأة إلا بعد اغتسالها، لا يحل له أن يجامعها إذا كانت حائضاً حتى تغتسل فإذا اغتسلت أُبيح له أن يجامعها، وأما الإمام أبو حنفية النعمان رحمه الله برحمته الواسعة فيقول: يجوز له إذا انقطع دمها ورأت علامة الطهر أن يجامعها قبل أن تغتسل لأن الله حرم عليه أن يجامع في الحيض والحيض قد انتهى، والصحيح مذهب الجمهور لظاهر الآية الكريمة.
…قال رحمه الله: ]ولم يُبح سائرها حتى تغتسل[.(1/499)
…لما ذكرناه ما يباح لها فعل الصلاة حتى تغتسل، قال عليه الصلاة والسلام:"فاغتسلي ثم صلّي"، فجعل الصلاة مرتبة على الاغتسال، فدل على أنهّا لا تستبيح فعل الصلاة إلا بعد الاغتسال، وهكذا الطواف بالبيت فإنها لا تطوف بالبيت إلا وهي متطهّرة بعد أن تغتسل وتّطهّر، ودخولها للمسجد ومكثها فيه ولمسها للقرآن وقراءتها للمصحف ونحو ذلك من الممنوعات التعبديّة.
…قال رحمه الله: ]ويجوز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج[. :
ويجوز للزوج أن يستمتع بامرأته الحائض بما دون الفرج، الأصل في ذلك قوله تعالى : { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض } ، و المحيض اسم مكان كالمقيل، اسم مكان للقيلولة المكان الذي يقيل فيه الإنسان، فدل على أن مكان الحيض وهو القبل لا يجوز للرجل أن يصيب المرأة فيه إذا كانت حائضاً ودل على اختصاص التحريم به، ولأنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في السنة أكّد هذا المعنى كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"اصنعوا كلّ شيء إلاّ النكاح"، يعني إلا الوطء في الفرج، وللحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر إحدانا فتتزر ثم يباشرها وهي حائض"، فالمراد من ذلك أنها تتحفظ وتحفظ الموضع ثم بعد ذلك يستمتع بما دون الفرج، وعلى هذا فالمحرم هو الوطء في الفرج.(1/500)
وأما بالنسبة لما عدا الفرج من التقبيل والمباشرة واللمس لغير الفرج والاستمتاع به فلا بأس بذلك ولا حرج، لأن الشرع إنما حرم الوطء في الفرج وهو المحظور وما عداه باقٍ على الأصل، قال تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ } ، في الأصل أنه يستمتع بامرأته إلا مكان الحيض فلا يجوز لها أن يطأها فيه، ثم يرد السؤال هل الفخذان وما قاربا الفرج يجوز الاستمتاع به؟، فيه خلاف بين العلماء مشهور بيّنا هذا في شرح البلوغ وفصّلنا فيه فبعض العلماء يمنع لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتعاطي الأسباب وقال:"كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"، فقالوا إنه لا يأمن من هيجان شهوته فيقع في الحرام فيكون المنع منه سداً للذريعة، وقالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عائشة أن تتّزر وباشرها عليه الصلاة والسلام فإذا كانت هذه عائشة وهذا رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم - وهما أتقى لله - عز وجل - فمن باب أولى من عداهم.(2/1)
…وعلى كل حال من حيث الأصل أنه إذا حفظ وغلب على ظنّه أنّه لا يقع فالأصل يقتضي الجواز، وأما إذا شكّ فإنه يمنع وإذا غلب على ظنه أنه سيقع في الحرام فإنه أولى بالمنع، لأنه لا يجوز تعاطي الأسباب الموجبة للوقوع في المحظور، ومن هنا حَرُم على الرجل أن يسافر بالمرأة الأجنبيّة، وحَرُم على الرجل أن يصافح المرأة الأجنبيّة وأن يختلي بالمرأة الأجنبيّة، وإذا علم فيما بينه وبين الله أنه إذا اختلى سيقع معها في المحظور فإنه سيعاقبه الله - عز وجل - وسيؤآخذه على ذلك لأنه تعاطى الأسباب، وإذا لمس امرأة أجنبيّة وغلب على ظنّه أنّه سيترسّل معها للحرام سيحاسبه الله وسيؤآخذه على ذلك، ما يقول والله غلبتني الشهوة أو هجمت علىّ أو داهمتني لأنه تعاطى الأسباب، ولذلك تعاطي الأسباب بالإخلال موجب للعقوبة حتى ولو كان على سبيل الذهول، هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث الصحيح:"ويل للأعقاب من النار"، فقد رأى أعقاب أقوام تلوح في الوضوء، هؤلاء من الصحابة ما علموا ولو علموا لغسلوها، قال: العلماء لأنهم فرطوا في تعاطي الأسباب في الحفظ، فمن غلب على ظنه أنه إذا كانت هناك أسباب للحفظ ولم يتعاطها فإنه مسئول أمام الله - عز وجل - ومحاسب على ذلك فيجب عليه أن يتعاطى هذه الأسباب ويتّقيها، فإذا كانت عنده زوجة وهو حديث عهد بالزواج لا يأمن نفسه أو زوجة فاتنة لا يأمن نفسه، أو تستدرجه فلا يأمن نفسه، فلا يجوز له أن يتساهل في ذلك كله، ولا يأمن إذا عصى الله - عز وجل - وتكرر منه ذلك أن تنزل به عقوبة الله عاجلاً أو آجلاً، ولذلك ما نهى الله عن الوطء في الفرج من المرأة الحائض إلا لحكمة عظيمة، ومن هنا يجب على الإنسان أن يتحفظ وأن يستبرئ لدينه وعرضه ولا يجوز له أن يستمتع بما قارب الفرج إذا غلب على ظنه أنه سيقع في الفرج.
…قال رحمه الله: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"اصنعوا كلّ شيء غير النكاح[ ".(2/2)
…"اصنعوا" أمر وهذا يدل على أنه ليس كل أمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في الكتاب والسنة يُحمل على الوجوب، لأن "اصنعوا" المراد به الإذن والإباحة وليس المراد به الوجوب، ولذلك قال تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } ما يقول واحد يجب عليه الصيد، بعض من يتمسك بالظاهر قال إذا حل من حجه وعمرته يجب عليه أن يصيد تمسكاً جموداً على الظاهر، فالشريعة متّزنة وينبغي على من يتعاطى النصوص أن يتعقل فيها وأن يضع كل نص في دلالته ومعناه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"اصنعوا" أمر فدل على أن من أوامره عليه الصلاة والسلام ما لا يحمل على الوجوب.
…"اصنعوا كلّ شيء" وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يستمتع من امرأته بكلّ شيء إلا ما دل الدليل على تحريمه كالوطء في الفرج، وأنه لا بأس أن يستمتع بالمرأة بفمه وأن تستمتع بفمه في فرج أو غيره إلا ما حرم الله - عز وجل -، لأن الأصل الحل وشهوات الناس تختلف وإطفاء هذه الشهوات والغرائز يختلف من شخص إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى، فإذا كان بأمر أحلّه الله فلا بأس بذلك ولا حرج ما لم يقم الدليل الواضح على التحريم.(2/3)
"اصنعوا كلّ شيء إلا النكاح"، وهذا أدب من النبي - صلى الله عليه وسلم - "إلا" استثناء والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ "إلا النكاح" أي الوطء في الفرج، وهذا من أدبه عليه الصلاة والسلام حيث لم يعبر بالوطء ولم يقل جماع ولم يأت به صريحاً من باب الأدب، وهذا كمال في الخطاب النبوي منه عليه الصلاة والسلام أنه كان لا يعبر بالأشياء المستقبحة، لكن العالم والفقيه والمدرس والمفتي والوالد مع ولده يعلّمه أو الأم مع بنتها تعلّمها لا بأس أن يأتي بالشيء الصريح لأنه ربمّا إذا لم يأت بالشيء الصريح فُهم خلاف المقصود، ولذلك نصّ الأئمة على أنه يجوز أن يُكشف الشيء ويذكر باسمه دون كناية ودون تعريض إذا وُجدت الحاجة،"اصنعوا كلّ شيء إلا النكاح" يدل على أنه يجوز الاستمتاع بما دون الفرج وأن ما بين الفخذين يجوز الاستمتاع به إذا أمن الوقوع في الفرج.
@ @ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ: ما هي علامة طهر المرأة من الحيض؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.…أما بعد.
فهناك علامة مجمع عليها وهي القصة البيضاء وماء كالجير الأبيض يعرفه النساء، والأصل فيه أثر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عند البخاري قالت : " كان النساء يبعثن إلى أم المؤمنين عائشة بالدرجة – الدرجة الخرقة – فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض فتقول رضي الله عنها: أنتظرن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء"، فهذه علامة طهر بإجماع القصة البيضاء، أما العلامة الثانية المختلف فيها فهي الجفوف والمراد بالجفوف أن تدخل الخرقة في الفرج فتخرج نقية دون أثر للدم، هاتان علامتان للطّهر والعلامة الأولى متّفق عليها والثانية مختلف فيها والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ: لو تذكّر شخص أنه صلى فرضاً قبل يومين بغير وضوء، فماذا عليه أن يفعل؟، وجزاكم الله خيراً.(2/4)
الجواب :
فالصحيح مذهب الجمهور بمراعاة الترتيب بين الفرائض، وأنه لا تبرأ ذمّة المكلف بالبعدية حتى يصلّي ما قبلها، لأن الله تعالى يقول: { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً } ، فمن ترك صلاة أو نسي صلاة وذكرها أو تذكّر أنه صلاّها على غير طهارة لزمه أن يعيدها وما بعدها من الصلوات لأنه لا تبرأ ذمته عن البعدية حتى تبرأ ذمته من القبلية، ولذلك ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الخندق أنه راعى الترتيب حتى بفوات وقت الحاضرة، وهذا يدل على أن الترتيب معتبر شرعاً ويجب عليه أن يقضي الصلوات مرتبة والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: هل يجوز التيمم بالجدار الصَلْب المصبوغ؟، وجزاكم خيراً.
الجواب :
بالنسبة للمسألة الأولى يعني سبحان الله لن تجد حكماً يبنى على الشرع وتجد فيه تشدّدا من شيء إلا وجدته فيه رحمة من جانب آخر، الآن المكلف لو صلّى صلاة مرّتين كتب الله له أجر صلاة واحدة، وكان أداءه للصلاة الثانية بدعة وحدثاً لا يثاب على فعله، لو صلّى الظهر مرتين "ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن تعاد الصلاة مرتين"، ولكن إذا كان عنده عذر فصلى وهو يظن البراءة ثم رجع وتبيّن له أن صلاته غير صحيحة كتب الله له الأجر مرتين، وهذا فضل عظيم للمكلف يعني لا يظن أن هذا تشدد أو تضييق لا أبداً خير وأجر وطاعة وبر وتْرفّع بذلك درجته ويعظم به جزاؤه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"لك أجرك مرتين -للذين أعادوا- قال: لكم الأجر مرتين"، فعلى كل الحال الأصل يقتضي أنه لابد من الترتيب ويجب الترتيب.(2/5)
أما المسألة الثانية عن التيمم على الجدار المصبوغ بالدهان لا يصح التيمم على الجدار المصبوغ بالدهان إلا في حالة واحدة وهي أن يعلق عليه غبار فإذا ضربت بيديك تطاير عليك الغبار فحينئذ يصح أن تتيمّم عليه، أما إذا لم يكن عليه غبار فإنه لا يصح التيمم عليه لأن الدهان عازل يمنع المباشرة للصعيد فلا يصحّ التيمم عليه والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: إذا لم يجد إلا ثلجاً كالمناطق الباردة فكيف يتوضّأ؟، أثابكم الله.
الجواب :
إمرار الثّلج على اليد إذا كان يطيقه ويصل الماء محللاً بحرارة الجسد على ظاهر البدن يجزيه، فهذه المسألة ذكرها الأئمة رحمهم الله من المتقدّمين والمتأخّرين، وأنه إذا أمَرّ البرد والثلج حتى ذاب على يده ووجد قطر الماء من حرارة البدن فإنه يجزيه، وأما إذا لم يمرّ الماء به ومرّ به جامداً فإنه لا يجزيه، إذا مرّ ووجد أثر الماء على بدنه واستحال ماء كما في البرد فإنه يجزيه والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ: ما رأي فضيلتكم في من يأتي متأخّراً ثم يتخطّى صفوف المصلّين ليصل إلى الصف الأول، أو في حلقة العلم ليقترب من الشيخ؟، وجزاكم الله خيراً
الجواب :(2/6)
في هذا السؤال جانبان الحقيقة، البعض عند السؤال يقول ما رأي؟، ما رأي الدين؟، ما رأي الشرع؟، ما نظر ما وجهة نظر الشرع؟، ما نظر الشرع؟، هذه كلها أمور مردودة، الدين ليس بآراء ولا بأهواء ولا تحليلات ونظريات، ولما يقال نظرية الإسلام خطأ الإسلام ليس بنظرية قابلة للأخذ والعطاء والمناقشة، حق لا باطل فيه وصدق لا كذب فيه وجِدُّ لا هزل فيه { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } ، { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْل - وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ } ، فوصف الإسلام بالنظريات عند السؤال ما رأي الدين؟، ما رأي الشرع؟، البعض يكتب هذا ورأينا هذا وهذه كلها وافدة على المسلمين ونسأل الله السلامة والعافية الغزو الفكري أنهم يجعلون فتاوى العلماء أشبه بوجهة نظر، ويحرصون دائماً أن تأتي ثلاثة أو أربعة فتاوى للناس حتى يصبح الناس حيص بيص، ويجلسون في ندوات، كلّ يدلي برأيه فتصبح الناس شذر مذر، وهذا ليس من منهج الإسلام منهج الإسلام واضح والمناقشة ما تكون أمام الناس في مسائل لا يناقش فيها أمام الناس تدع الناس في بلبة وشتات، فشاهدنا على مسألة جعل الإسلام كرأي وكنظرية قابلة للأخذ والعطاء وأمور محل نقاش ومحل أخذ وعطاء كأنها أمور عادية، مثل ما يتناقشون في قضية فيزيائية أو كيميائية هذه أمور أرفع من هذا كله ودين وشرع، وينبغي أن يصان عن أن ينسب للبشر، ولذلك كان بعض مشايخنا يغضب إذا قيل له ما قولكم في كذا وكذا؟، يقول أنا أقول، من أنا حتى أقول إن قلت من عندي فقولي باطل، وإن قال الله يقول فلما تقول لي ما قولكم، وهذا نوع من الغض لمكانة أهل العلم، العلماء ليس لهم قول إنما القول لله - عز وجل -، صحيح أنهم يجتهدون لكن لما أذن الله لهم بالاجتهاد وهم أهل الاجتهاد نسب قولهم للشرع، كما أنّ القاضي ينسب حكمه إلى الشرع، فالمقصود يتقى مثل هذا، يقال ما الحكم شرعاً؟، ما حكم الشرع؟، ما هي السنة؟، إذا كان شيء يراد أن يعلم السائل فيه هدي(2/7)
النبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته.
أما تخطي الرقاب فقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكمه، وقال للّذي تخطّى الرّقاب قطع خطبته وقال له:"اجلس فقد آذيت"، وفي لفظ فقد "آنيت وآذيت"،"آنيت" يعني تأخّرت،"وآذيت" جئت متأخّراً ثم تتخطّى رقاب الناس وتؤذيهم، فهذا ليس من العدل فهذا ظلم للمسلمين وتشويش على الجالسين وتشويش على أهل العلم، وكان الوالد رحمه الله يغضب ولو جاء رجل وجلس في وسط الحلقة يقطع كلامه ويقول له قم حتى فعل هذا مع أناس من كبار الناس، طردهم من داخل الحلقة ولم يبالِ، وهذا حقّ للمسلم ولذلك لا يحقّ لأحد أن يأتي متأخّراً ويتخطّى رقاب الناس في حلق العلم أو يتخطّى رقاب الناس للصّفّ الأوّل، لكن من أهل ا لعلم من رخّص، هذه مسالة ثانية إذا وُجدت فرجة، لأن المفروض التّقارب، فإذا قَصَّر الأولون في التّقارب وقَصَّر المتأخّرون تخطّى رقابهم لأنّهم قَصَّروا، ومن هنا الصفوف الأوُل إذا جلسوا يملئون آخر المسجد ويتركون أول المسجد فاضيا فأصبح المتأخّرون هؤلاء اللذين يجلسون في آخر الصفوف متأخّرين يستحقّون من يطأُ رقابهم لأنهم هم الذين تسبّبوا في ذلك، لأنهم ملئوا المسجد فتصلي الناس في الشمس والحر والقر كما يحدث في الجُمَع فهؤلاء قال بعض العلماء لا حرمة لهم وتتخطّى رقابهم لأنهّم هم السبب، كان الواجب شرعاً أن يتمّوا الصّف الأوّل، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها، قالوا: كيف تصفّ الملائكة عند ربها؟، قال: يتمّون الصفّ الأوّل فالأول"، فالمسجد يكون فاضيا في داخله وإذا بهم يأتون عند الأبواب ويأتون في الصفوف الأخيرة كما هو مشاهد حتى في الحرم هنا وللأسف فيسدّون الصفوف الأخر، ثم تبقى الصفوف المتقدّمة وإذا بالناس يتأخّرون ويتأخّرون حتى يصلوا في الشمس، وهذا ضرر عظيم وإضرار بالمسلمين فمثل هؤلاء أسقط طائفة من أهل العلم حرمتهم، وقالوا يجوز أن تتخطّى رقابهم؛ لأنهم هم(2/8)
اللذين قصّروا في معصية الشرع ومخالفة السنة، كما قالوا من جاء وصلى في أبواب المسجد هو الذي تعاطى السبب لأن هذا المكان ليس بمكان صلاة لأنه أذيّة للداخل والخارج فينتحي ناحية في المسجد تناسب صلاته، نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل وعلى العموم إذا كان الإنسان في مجلس علم أن يتقي الله في طلاّب العلم، وليس هناك أعظم من أذيّة طلاّب العلم خاصة أثناء طلبهم للعلم، فطالب العلم يكون مركّزا فإذا جاء شخص من آخر الحلقة يتخطّى التفتت الأنظار إليه وتشوّشت وشغل الناس عن ذكر الله - جل جلاله -، فهذا الفعل مذموم وينبغي على طالب العلم أن يترفّع عنه، لكن رخّص بعض العلماء إذا قام للحمام أو حاجته ورجع إلى مكانه أنه أحق به لظاهر السنة عنه عليه الصلاة والسلام "من قام من مجلسه لحاجته ثم عاد إليه فهو أحقّ به"، وصلّى الله وسلم وبارك على نبيّه وعلى آله وصحبه وسلّم.
تابع باب الحيض
بسم الله الرحمن الرحيم
…الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
…أما بعد.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]وأقل الحيض يوم وليلة[.
…بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
…أما بعد.
…فباب الحيض يحتاج طالب العلم فيه إلى معرفة أنواع النساء، وإذا عرف أنواع النساء بالنسبة للحيض فإنه يمكنه بعد ذلك أن يسأل عن صفة كل نوع، ومتى يُحكم بكون المرأة آخذة حكم هذا النوع أو ذاك، فإذا ضبط أنواع النساء أمكنه بعد ذلك أن يعرف الأحكام المترتبة على كل نوع، والمرأة إما أن تكون مبتدأة وإما أن تكون معتادة، وإما أن تكون مميزة، ثم تخرج عن هذا بنسيان العادة والتحيرّ في أمرها، فإذاً عندنا امرأة مبتدأة وامرأة معتادة وامرأة مميّزة.(2/9)
فأما المرأة المبتدأة فهي التي ابتدأها دم الحيض فنزل معها لأول مرة، فهذا النوع من النساء يصف العلماء بهذا الوصف يُقال امرأة مبتداءة، ولها أحكام خاصة يُحكم بكونها حائضاً وبكونها طاهرة على تفصيل عند العلماء رحمهم الله.
النوع الثاني المرأة المعتادة وهي التي لها عادة معيّنة، ثم يلتبس عليها الأمر فتخرج عن عادتها بالزيادة أو النقص، خاصة إذا حملت أو حدث لها حادث يختل عندها دم الحيض فحينئذ يُرجع إلى عادتها ولها أحكام خاصة في مسائل الحيض.
النوع الثالث المرأة المميّزة، وهي التي ميّزت دم الحيض من دم الأستحاضة، وهذا التمييز له ضوابط عند العلماء رحمهم الله، فلها تمييز في دمها بحيث تستطيع أن تحكم بأنها دخلت في الحيض أو خرجت من الحيض بناءً على تمييزها ومعرفتها.(2/10)
وهناك امرأة ناسية وهي التي كانت لها عادة ثم نسيت قدر هذه العادة، أو نسيت مكان العادة، تقول أنا أعلم أنني أحيض سبعة أيام ولكنني نسيت هل هي من بداية الشهر أو من وسط الشهر أو من آخر الشهر، فنسيت مكان العادة، أو نسيت المكان والعدد، فنسيت بالكلية فقالت كانت لي عادة لا أدري نسيت عددها ونسيت مكانها فهذه الناسية ولكل نوع من هذه الأنواع ضوابط وأحكام تخصه. …أولاً ينبغي على طالب العلم أن يعلم أن الحيض له أقل وله أكثر عند طائفةً من العلماء، بناءً على هذا التحديد بأقل الحيض وبأكثر الحيض لابد أن تحدد السن التي يبتدأ فيها الحيض للمرأة، فقد يكون عمر المرأة مثلاً سبع سنوات ثم ينزل معها دم، هل هذا دم حيض؟، ثم يكون عمرها مثلاً تسع سنين فينزل معها دم هل نحكم بكونها حائضاً؟، أو عشر سنين نزل معها ابتداءها دم الحيض لأول مرة، متى يحكم بكون المرأة قد بلغت سن الحيض؟، فهذه المسألة توجب علينا معرفة أقل سن تحيض فيه المرأة، ولما كان الحيض ينتهي عن سن معين تسمى بسن الإياس أو سن اليأس من المحيض كما أخبر الله - عز وجل - في كتابه { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } ، أيضاً بحث العلماء ما هو آخر سن تحيض فيه المرأة، فهذه المسائل معرفة من هي المرأة أحكام المرأة المبتدأة والمعتادة والمميّزة، وما هو أقل سن تحيض فيه المرأة، وما هو السن الذي إذا وصلته حكمنا بكونها قد بلغت سن الإياس فلا حيض بعده، هذه المسائل كلها سيذكرها المصنف رحمه الله، سيضيف إليها مسألة الطهر، فمن حكمة الله - عز وجل - أن المرأة تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتحتاج إلى معرفة ضابط الطهر، متى نحكم بكون المرأة قد طهرت؟، وهذا لكي تحكم بخروجها من أحكام الحيض ودخولها في أحكام الطاهرات، إذاً لابد أن نعرف علامة الطهر، وأيضاً إذا عرفت علامة الطهر طيب هي طاهرة هي مستحاضة يجري معها الدم باستمرار فأعطيتها حكم الحيض في زمان، ثم حكمت(2/11)
بكونها طاهرة بعد هذا الزمن، كم تمكث حتى تدخل في الحيضة الثانية؟، وهذا على أقل حد تضعه وهو أقل الطهر.
فإذاً قبل أن ندخل في هذه التفصيلات لمسائل الحيض نعيد ونكرر أن طالب العلم يضبط مسائل الحيض بأمور وردت بها النصوص يمكن من خلالها أن يتعرف على حال المرأة هل هو حال حيض أو حال طهر، وهذا طبعاً يستلزم معرفة عدة مسائل منها: أولاً ما هو أقل سن تحيض فيه المرأة، بحيث لو خرج معها دم أو نزل عليها دم قبل هذه السن فإننا لا نحكم بكونها حائضاً، ونحكم بكونها قد دخلت في أمر الحيض ومسائل الحيض ونبحث هل هي آخذة حكم المعتادة أو المميّزة وذلك بمعرفة أقل سن تحيض فيه المرأة، ثم إذا عرفت أقل سن تحيض فيه المرأة فإنه حينئذ إذا حكمت بكونها قد دخلت في سن الحيض تبحث مسألة المبتدأة وهي التي ابتدأها دم الحيض لأول مرة، هل نقول إنها ترجع لعادة أمثالها وأخواتها وأترابها؟، هل نقول إن هناك عدداً من الأيام معيّناً إذا جرى معها الدم هي حائض، إذا لم يجري معها ليست بحائض، أو نقول إنها حائض بمجرد ما ينزل معها الدم، فإذاً لابد أن تعرف حالها، إذا حكمنا بأنها قد دخلت في الحيض مبتداءة، متى نحكم بأنها قد أصبحت معتادة؟، جاءها الحيض الشهر الأول ستّة أيام، ثم الشهر الثاني ستة أيام ثم الشهر الثالث ستة أيام انتقلت إلى المعتادة، بحيث نحكم بأنها نوع جديد من الأحكام تأخذه، فنقول لها ما دام أنه قد جرى معك الحيض ثلاثة أشهر أو شهرين على القول الثاني بمعنىً واحد يعني بعدد واحد لم يختل فأنتِ الآن معتادة، وهذا النوع ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر المرأة فيه أن ترجع إلى عادتها، فإذاً ننتقل إلى كونها معتادة، هناك نوع ثالث من النساء يمكنها أن تعرف أنها حائض أو مستحاض عن طريق التمييز، تستطيع أن تنظر في دمها فتقول إن الدم الذي يجري معي أعرفه بصفاته دم حيض، فميزت بلونه أو رائحته أو ألمه أو غلظه ورقته ونحو ذلك من علامات التمييز،(2/12)
إذا حكمنا بأنها صارت معتادة أو مميّزة تأتيك في بعض الأحيان ناسية لهذا التمييز أو ناسية لهذه العادة، فما الحكم في هذه الأحوال كلها؟، كل هذا سيبحثه المصنف رحمه الله في هذه المواضع.
إذاً طالب العلم يبدأ بمسائل أقل سن تحيض به المرأة وبمسائل أنواع النساء من كونها مبتدأة أو معتادة أو مميّزة، هذا كله يضبطه لكي يستطيع أن يحكم للمرأة بكونها آخذة حكم الحائض فيحرم عليها ما يحرم على المرأة الحائض، أو أنها خرجت من الحيض فيباح لها ما يباح للطاهرات وارتفع عنها المانع فجاز لها ما كان محظوراً على المرأة الحائض، كل هذا يبحثه العلماء في باب الحيض وابتدأ المصنف رحمه الله بأصناف النساء.
قال رحمه الله: ]وأقل الحيض يوم وليلة[.
…]وأقل الحيض يوم وليلة[، عند العلماء رحمهم الله خلاف، هل للحيض حد معين بحيث لو جرى الدم دون هذا الحد فليس بحيض، أم أن الدم قليله وكثيرة حيض مادام أنه في زمن الإمكان؟.(2/13)
مثال الآن عندنا لو نقول إن المرأة في سن التاسعة إذا اكتملت تهيّأت للحيض، فمعناه أنها إذا بلغت تسع سنين ونزل معها دم فإنها قد تأهلت لكونها حائضاً، فهذه المرأة التي جرى معها هذا الدم من أهل العلم من يقول عندي حد معين وهو اليوم الليلة كمذهب الحنابلة والشافعية، فيقولون هذه المرأة التي ابتدأها دم الحيض إن جرى معها الدم لأقل من أربع وعشرين ساعة وهي اليوم والليلة فليس بحيض، تصوم وتصلي وتأخذ حكم الطاهرة ولا نحكم بكونها حائضاً إلا إذا أتمّت أربعاً وعشرين ساعة (يوم وليلة)، فليس عندنا حيض لأقل من أربعٍ وعشرين ساعة، وبناءً على هذا المذهب لو أن المرأة جاءت تستفتي فقالت مكثت عشر ساعات والدم يجري معي ولأول مرة، ثم انقطع ولم يعد فما الحكم؟، تقول هذا ليس بحيض، لأنه أقل من يوم وليلة، لو جرى ثلاثاً وعشرين ساعة فليس بحيض عندهم إلا إذا أتم اليوم والليلة، نفس الشيء لو كانت معتادة في نفس الوقت الذي يأتيها حيضها، جاءها يوم الخميس دم ومكث معها ثلاثاً وعشرين ساعة فلا يحكمون بكونها حائضاً، فلابد وأن يتم يوماً وليلة فأقل من يوم وليلة ليس بحيض عندهم، هذا قول الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم.
القول الثاني يقول ثلاثة أيام، وهذا مذهب الحنفية رحمهم الله فيقولون إذا جرى معها الدم ولم يستتم ثلاثة أيام فليس بحيض، لابد عندهم أن يتم ثلاثة أيام، وعلى هذا بناءً على المذهبين لو أن امرأة عمرها عشر سنوات لم يَجْرِ معها دم ثم فجأة نزل معها الدم، فمكث معها يوماً وليلة ثم انقطع بلغت عند أصحاب القول الأول، ولم تبلغ عند أصحاب القول الثاني، لأنه دم في زمن الإمكان فيُحكم بكونها قد دخلت في حكم النساء الحوائض بمجرد مجاوزتها لأقل حد.(2/14)
طبعاً هذا المذهب الأول والثاني يرجع كل منهما إلى مذهب التحديد، هناك مذهب ثالث وهو الصحيح أنه ليس للحيض حد أقلي، وأن المرأة إذا رأت الدم في زمن الإمكان يعني إمكان كونها حائضاً فقد حُكم بكونها حائضاً، إذا رأت الدم حتى ولو قطرة ما دام أنها قد رأت الدم و الزمن زمن إمكان الحيض مثلاً أتمت التسع سنين فإننا نحكم بكونها حائضاً، هذا المذهب مذهب المالكية واختاره شيخ الإسلام بن تيمية وطائفة من المحققين، والظاهرية معهم أيضاً يقولون إنه لا حد لأقل الحيض، فكل امرأة أتمت تسع سنين على القول بأن أقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين وجاءها الدم ولو دفعة واحدة حكمنا بكونها قد بلغت وأخذت حكم البالغة طبعاً هذا من حيث الأصل عندهم، كذلك لو أنها من عادتها في بداية كل شهر مثلاً تتحيض ستة أيام، فجاءها في بداية الشهر دم استمر معها ساعة ثم انقطع فإنه يُحكم بكونها حائضا بهذا الدم الذي جرى معها ساعة لأنه في زمن الإمكان، وعلى المذهب الأول والثاني اللذين ذكرناهما ليست بحائض، لأنه لم يستتم أقل الحيض، فقال المصنف: ]وأقل الحيض يوم وليلة [.(2/15)
إذاً لا نحكم بأنها حائض حتى تتم اليوم والليلة (الأربع والعشرين ساعة)، ولا نحكم باحتساب ذلك اليوم، مثلاً في بعض أحوال الحيض يأتي يوم ثم ينقطع يوماً كاملاً، ثم يأتي يوم ثم ينقطع يوماً كاملاً، ثم يأتي يوم وينقطع يوماً كاملاً، فبناءً على هذا إذا قلنا أن أقل الحيض يوم وليلة تحتسب اليوم الأول من العادة وعادتها ستة أيام تصبح قد طهرت بعد اليوم الثاني عشر، لأن اليوم الأول حيض ويوم النقاء الكامل طهر ثم يوم الحيض تلفق، هذا مذهب التلفيق، لأنهم استتم عندهم أقل الحيض وهو اليوم والليلة، فيحتسبون الحيض باليوم والليلة ولا يحتسبونه دون اليوم والليلة، درج المصنف رحمه الله على هذا القول وفي الحقيقة الأدلة على التحديد كلها ضعيفة، يعني من حيث القوة ذكرنا هذه المسألة في الشرح في شرح الزاد وشرح البلوغ وبيّنا أن أصح أقوال العلماء إن شاء الله في هذه المسألة أنه ليس لأقل الحيض حد، وأنه مادام قد جرى دم الحيض في زمن الإمكان فإنه يحكم بكونه حيضاً على التفصيل الذي يأتينا إن شاء الله.
قال رحمه الله: ]وأكثره خمسة عشر يوما[.(2/16)
وأكثر الحيض خمسة عشر يوماً، ينبغي أن يعلم طالب العلم أولاً وقبل كل شيء انه لا يستطيع أن يحكم بكون المرأة حائضا مادام أن الدم يمشي معها، دم الحيض محدد ومقدر بزمان وصفات وأحوال معينة ينتهي بانتهائها، فأصبحت المرأة إما حائض وإما طاهر من حيث الأصل، فإذا كانت حائضاً أو طاهراً تحتاج أن تعرف أكثر الحيض، ما هو أقصى عدد بحيث إذا جاوزته تقول إنها قد أصبحت طاهراً؟، متى تكون تحتاج إلى هذه المسألة؟، تحتاج إلى هذه المسألة أن المرأة قد يجري معها دم تسعة أشهر ما ينقطع نزيف معها في رحمها تسعة أشهر، إحدى النساء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مكثت خمس سنوات والدم يجري معها، فالمرأة إذا كان الدم معها يجري باستمرار لابد وأن تقول أكثر الحيض معتبر عندي بحيث هي حائض في هذه المدة فإذا جاوزت أكثر الحيض فقد تحققنا من أنها قد دخلت في الطهر، فأكثر الحيض يستفاد منه في الحكم بانتقال المرأة من الحيض إلى الطهر وهذا عند استمرار الدم وجريانه، أيضاً في الفصل بين الحيضة الأولى والحيضة الثانية، مثلاً هي جرى معها الحيض وعادتها سبعة أيام، ثم استمر معها الحيض بصفة واحدة لا تستطيع أن تميز فتحكم بأقل الحيض بعادتها التي كانت تحيضها السبعة الأيام، ثم هي تسألك تقول لك أنا مكثت السبعة الأيام التي هي عادتي، وأنت تأمرها كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل امرأة معتادة أن ترجع إلى عادتها، عادتها سبعة أيام فمكثت السبعة الأيام والدم يجري معها حكمنا بأنها قد طهرت، طبعاً في هذه المسألة وهي مسألة أكثر الحيض تحتاج إليها في المبتدأة إذا ابتدأها دم الحيض، فلو أنها ابتدأها لأول مرة وجرى معها فليس لها عادة المرأة التي لأول مرة يجري معها دم الحيض لم تعتد الحيض ليس لها عادة، فلو عبر أكثر الحيض قلت أكثر الحيض خمسة عشر يوما، فاستمر معها الدم وحكمنا أنها حائض وأنها أخذت حكم الحوائض، ثم استمر معها الدم ثلاثة أشهر، فطبعاً(2/17)
نحن نحكم بأن الدم إذا جاوز الخمسة عشر الذي هو أقصى مدة الحيض دخلت المرأة في حال الطاهرات وحكمنا بأنها قد طهرت، هذا بناءً على التحديد بأكثر الحيض، فائدته الحكم بانتهاء أمد الحيض بالنسبة للمرأة ودخولها في حكم الطاهرات، طبعاً هذا إذا لم تكن لها عادة ولم تستطع تمييز دمها فإننا نحكم بانتقالها إلى الطهر بمجاوزتها لأكثر الحيض.
طيب لو أنّ امرأة لأول مرة جاءها دم الحيض فبعض الأحيان ينقطع الدم دون الخمسة عشر يوما، وبعض الأحيان يستمر فوق الخمسة عشر يوما، ففائدة التحديد بأكثر الحيض أنه إذا انقطع دون الخمسة عشر يوما فإنه حيض، وعلمنا أنه كله حيض لأنه لم يجاوز أكثر الحيض، فهو ما بين الأقل عند التحديد وما بين الأكثر ثم لم يجاوز هذا الأكثر فهي حائض مدة القدر الذي مضى معها سبعة أيام ستة أيام، إذاً نحكم بكونها حائضاً إذا انقطع عنها الدم قبل الوصول إلى أكثر الحيض، إذا عرفنا فائدة التحديد بأكثر الحيض اختلف العلماء رحمهم الله ما هو أكثر الحيض؟، من أهل العلم من قال: أكثر الحيض خمسة عشر يوم كما هو مذهب الجمهور المالكية والشافعية والحنابلة في المشهور، وقيل أحد عشر يوماً أكثر الحيض أحد عشر يوماً فإذا جاوز الأحد عشر يوماً فليس بحيض.
الحقيقة هذه المسألة فيها أحاديث ضعيفة، لكن نقول الآتي:(2/18)
إذا كان هناك قول بأن أكثر الحيض أحد عشر يوماً، وقول بأن أكثر الحيض خمسة عشر يوماً، فما هو المحل الذي أجمع العلماء على أن المرأة إذا جاوزته ليست بحائض؟، الخمسة عشر يوماً، لأنهم كلّهم متّفقون على أنه إذا جاوز الخمسة عشر يوماً فليس بحيض، ما جاوز الخمسة عشر يوما بالإجماع ليس بحيض، إلا قول شاذ يقول به بعض العلماء، إذاً معنى ذلك أن اليقين عندنا أن ما جاوز الخمسة عشر يوما ليس بحيض، ومادون الخمسة عشر يوماً فيه حديث ضعيف "أقله ثلاثة أيام وأكثره أحد عشر يوماً"، لما لم يصح هذا الحديث بقينا على اليقين لأنه قد جاءها في زمن الإمكان نحكم بكونها حائضاً وأن أكثر الأيام التي تحيضها المرأة هو الخمسة عشر يوماً، وعلى هذا نقول إن الدم إذا جاوز خمسة عشر يوماً فليس بحيض، لأن عندنا يقيناً أنه ليس بحيض، هذا بالنسبة لأكثر الحيض، وعرفنا أقل الحيض وأن الصحيح لا حد لأقله، وعرفنا أن المرأة إذا جاوزت خمسة عشر يوماً فليست بحائض.
قال رحمه الله: ]وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما[.(2/19)
لما عرفنا أقل الحيض وأكثر الحيض شرع المصنف رحمه الله في أقل الطهر، يُحكم بكون المرأة طاهراً كما تقدم معنا فتنتقل من حال الحيض إلى حال الطهر والطهر له علامات وأمارات، هناك علامة اتفق العلماء رحمهم الله على أن المرأة إذا رأتها فهي علامة الطهر وهي القصة البيضاء، والقصة البيضاء ماء أبيض كالجير يخرج من فرج المرأة عقيب انتهاء الحيض، جعله الله علامة وأمارة لخروج المرأة وانتهاء حيضها، هذا يسمى بالقصة البيضاء والأصل فيه ما روى البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "أنها كانت يبعث إليها النساء بالدرجة الخرقة فيها الكرسف -الكرسف هو القطن-، فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض، فتقول رضي الله عنها: انتظرن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء"، يعني لا تعجل الواحدة منكن فتحكم بكونها طاهرة مالم تَّرَ علامة الطهر وهي القصة البيضاء، والقصة البيضاء بالصفات التي ذكرناها الماء الخاص الذي يعرفه النساء يخرج عقيب انتهاء الحيض.(2/20)
العلامة الثانية مختلف فيها وهي الجفوف، والمراد بالجفوف أنها تدخل في الفرج القطنة فتخرج نقية ليس فيها دم، طبعاً لو أن امرأة جرى معها دم الحيض أربعاً وعشرين ساعة ثم انقطع فرأت القصة البيضاء فحينئذ نحكم بكونها حائضا في اليوم والليلة ثم ما بعد ذلك تصوم وتصلي وتفعل فيه فعل الطاهرات لأنها رأت علامة طهرها وقد جاوزت أقل الحيض، إذاً علامة الطهر بالقصة البيضاء ليس فيها إشكال، يبقى علامة الجفوف وهي أن المرأة تأتيك وتقول قد جرى معي دم الحيض يوماً كاملاً في زمانه وفي أمد العادة ثم انقطع يوماً كاملاً، حتى لو أنها أدخلت القطنة لم تَرَ للدم أثراً فحينئذ هذه تسمى بعلامة الجفوف، طبعاً علامة القصة البيضاء والجفوف في الحيض وفي النفاس، يعني يحتاج إليها في الحيض والنفاس حتى يُحكم بكون المرأة انتهت من حيضها ونفاسها ودخلت في حكم الطاهرات، والصحيح في الجفوف أنه مؤثر، وأنها إذا أدخلت الخرقة وخرجت نقية أنها من علامات التي تدل على طهر المرأة.(2/21)
طيب يقول المصنف رحمه الله: ]وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما[ً، الطهر بين الحيضتين تحتاج إليه مثل ما ذكرنا أن يجري معها دم الحيض وعادتها عشرة أيام ثم جاءتك تسألك وقالت: أنا كنت أحيض عشرة أيام وينتهي حيضي بعد اليوم العاشر أرى الطهر والنقاء وليس عندي أي إشكال، ولكني فوجئت هذا الشهر بأن الدم جاوز العشرة أيام ولم أرَ علامة الطهر، فنحكم كما حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها حائض في أيام عادتها وهي العشرة أيام وأنها تأخذ حكم الطاهرات بمجرد انتهاء اليوم العاشر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها"، وقال:"امكثي قدر ما كان تحبسكِ عادتك"ِ، إذاً أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة بالرجوع إلى عادتها، طيب قالت لك الآن: العشرة الأيام هذه من رمضان اعتبرت نفسي حائضاً ولم أصم فيها ولم أصلّ، وحكمت أني في اليوم الحادي عشر قد دخلت في حكم الطاهرات، اليوم مثلاً يوافق ثلاثة وعشرين متى أحكم بدخولي في الحيضة الثانية؟، فهذا السؤال وهو دخول المرأة في الحيضة الثانية عند الاستحاضة تحتاج إلى أن تعطيها أقل الطهر بين الحيضتين، فهذا الحد الأقلي تعتد به ثم تحكم بدخولها في الحيضة الثانية.(2/22)
أقل الطهر اختلف العلماء رحمهم الله فيه وذلك على قولين: القول الأول إنه ثلاثة عشر يوماً كما هو مذهب الجمهور، والقول الثاني خمسة عشر يوماً وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب الحنفية، أن أقل الطهر بين الحيضتين هو خمسة عشر يوماً، فكلهم متفقون على أن ما جاوز الخمسة عشر يوماً أنه يُحكم بدخول المرأة فيه بماذا في الحيض، فأصبحت المرأة عكسية الآن فكلهم متفقون على الخمسة عشر أن ما جاوزها يعني الحد الأقلي للطهر خمسة عشر يوماً وأنه لا يجاوز الخمسة عشر يوماً، والثلاثة عشر يوماً يقول بها الجمهور، وطبعاً الحنابلة اعتمدوا فيها وفي قول الصاحب في قضاء عن شريح رحمه الله قاضي أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - هو قاضي لعمر وعلي وعثمان تقريباً ثلاثة خلفاء راشدين، شريح رحمه الله جاءته امرأة في قضية حكم بخروجها من عدتها خلال شهر، وهذا مبنى على أن أقل الحيض عنده يوم وليلة ثم أضاف إليها الثلاثة عشر يوماً فحكم بدخولها في الحيضة الثانية بعد اليوم الرابع عشر، ثم بعد ذلك أضاف إليها الطهر ثلاثة عشر يوماً صارت في اليوم الثامن والعشرين، ثم حاضت الحيضة الثالثة في اليوم التاسع والعشرين، ثم حكم بخروجها بالطهر الذي هو بعد انتهاء اليوم والليلة الكامل الذي هو أقل الحيض، حكم بكونها قد انتهت عدتها لأنها حاضت ثلاث حيضات، يوم وليلة عندها أقل الحيض، ثم حكم بأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً، فحكم بدخولها في الحيضة الثانية بناءً على أقل الطهر الذي هو ثلاثة عشر يوماً، فإذا أضفت الثلاثة عشر يوماً إلى يوم الحيض أصبحت في الحيضة الثانية بعد اليوم الرابع عشر، ثم يوم كامل جرى معها الدم فصارت الحيضة الثانية، ثم بعد ذلك ثلاثة عشر يوماً التي هي أقل الطهر فصارت سبعاً وعشرين يوماً، ثم الحيضة الثالثة في اليوم الثامن والعشرين فخرجت من عدة طلاقها.(2/23)
الحقيقة الإجماع منعقد على أن ما جاوز الخمسة عشر يوماً ليس بطهر، لأن أقل الطهر الخمسة عشر يوماً باليقين، واختلفوا فيما بين الثالث عشر يوما والخامس عشر يوما، فمن حيث القوة كنا نرجح مذهب الثلاثة عشر يوماً ولكن النفس تميل إلى ترجيح القول بالخمسة عشر يوماً، وذلك لأن اليقين في هذا معتبر مثل ما اعتبرناه في أكثر الحيض، فاليقين عندهم خمسة عشر يوماً وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه واختارها بعض أصحابه رحمهم الله، بناءً على هذا نقول أقل الطهر خمسة عشر يوماً، والأصل يقتضي أن التحديدات توقيفية، مادام عندنا إجماع وهو يلغي الشك ويدخل الإنسان في أمور العبادة ويخرج من العبادة بيقين وبراءة فأظن أن هذا هو الأشبه والأقوى والأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.
فإذاً أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً، فهناك فائدة ثانية، لو أن امرأة رأت الحيض عشرة أيام، ثم طهرت عادتها عشرة أيام وطهرت ثلاثة أيام، ما رأت شيئاً رأت علامة الطهر التي هي القصة البيضاء بعد عشرة أيام، خلال الثلاثة الأيام هذه التي بعد العشرة لم تَرَ شيئاً ثم جاءها الدم بعد ذلك، فهل نحكم بأنها دخلت في الحيضة الثانية؟، بالإجماع لا نحكم بدخولها في الحيضة الثانية، فإذاً فائدة هذا التحديد أن هذا الحد الذي هو ثلاثة عشر يوماً طبعاً بالنسبة لثلاثة عشر يوم كلهم يعتبرون أن ما كان أقل بثلاثة عشر يوماً أنه ليس بطهر، لكن اعتبرنا فيها الصورة العكسية للمعنى في إسقاط العبادات، وهذا أمر يكون على عكس مسألة الحيض، وعلى هذا فالمرأة لا يحكم بكونها داخلة في الحيضة الثانية مع وجود طهر دون أقل من خمسة عشر يوماً، وهذا مبنى على أن الشهر يكون نصفه حيضاً ونصفه طهراً، بناءً على هذا القول يكون نصف الشهر إلى أكثر الحيض الخمسة عشر يوماً، ثم أقل الطهر الذي هو خمسة عشر يوماً ونحكم بأن المرأة تحيض في الشهر مرة واحدة.
قال رحمه الله: ]ولا حد لأكثره[.(2/24)
ولا حد لأكثر الطهر، يعني لو أن امرأة مكثت خمس سنوات ارتفع عنها الحيض، طبعاً يا إخوان أكثر الطهر ليس له حد لأنه ربما ينقطع الحيض عن المرأة ويمكث بالسنوات لا يأتيها، فليس هناك حد لأكثر الطهر وهذا بالإجماع ليس لأكثر الطهر حد، وعلى هذا لو أن المرأة جرى معها دم الحيض عمرها تسع سنوات وجرى معها دم الحيض ثلاث سنوات بصفاته، ثم بعد ثلاث سنوات ارتفع عنها دم الحيض، من النساء من يرتفع عنها دم الحيض ولا تعرف سببه، ومنهن من يرتفع عنها دم الحيض وتعرف سببه، وكل واحدة من هاذين النوعين له أحكام تخصه في العِدَد، يعني هناك أحكام فيها قضاء عن عمر - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، في ارتفاع الحيض عن المرأة فبعض الأحيان يكون بسبب مرض، وبعض الأحيان يكون بسبب الحمل، وبعض الأحيان يكون لا يعرف سببه، طبعاً إذا ارتفع عن المرأة وهي في سن اليأس لا إشكال لأنه ظاهر في الانقطاع أنه اليأس، لكن إذا كان قبل سن اليأس عند من يرى التحديد بسن اليأس، فإذا انقطع عنها سنة حكمنا بأنها طاهر في السنة هذه كلها، لو انقطع عنها ثلاث سنوات حكمنا بأنها طاهر خلال الثلاث سنوات كلها، فإذا ليس للطهر حد أكثري ونحكم بأنها طاهر مادام أنه لم ينزل معها الدم.
قال رحمه الله: ]وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين[.(2/25)
وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، هذه المسألة فائدتها كما ذكرنا متى نحكم ببداية الحيض مع المرأة؟، المرأة قد يكون عمرها سبع سنوات وينزل معها دم، هل هي حائض؟، يكون عمرها ثمان سنوات ينزل معها دم هل نحكم بأنه دم حيض؟، اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على أقوال بيّناها أيضاً في شرح البلوغ والزاد، والذي استقر عليه العمل عند الجمهور أن التسع سنوات هي أقل سن تحيض فيه المرأة، وفيه أثر عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة" يعني تهيأت للحيض ولأن تأخذ أحكام المرأة، وهذا الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يروى مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عمر وهو ضعيف الإسناد مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومما استأنسوا به في هذا الأثر والنظر، الأثر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عقد على عائشة وهي بنت ست سنين كما في الصحيح ودخل بها وهي ابنة تسع سنين دل على أن الغالب أن المرأة في التسع سنين تنتقل من طور الصَّبا إلى طور الحلم والبلوغ، يعني تتهيأ للبلوغ ولذلك اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه السن، ومكثت ثلاث سنوات هذه ومعلوم أن احتباس الرجل عن المرأة مع أنه كان يحبها رضي الله عنها، وكما ثبت في الحديث الصحيح "لما سأله عمرو بن العاص من أحب النساء إليك؟، قال: عائشة، قال: من الرجال؟، قال: أبوها رضي الله عنهم وأرضاهم"، فالمقصود أن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتبس عنها ثلاث سنوات ليس له معنى إلا أنها بالتسع سنين قد تهيأت لأن تأخذ حكم المرأة، وأما من جهة النظر فموجود بالتجربة حتى ذكرنا عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال:"أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة رأيت جدة ابنة إحدى وعشرين سنة"، كما ذكرنا أنها هي تزوجت وعمرها تسع سنوات، ثم حملت فوضعت بعد أن استتم لها الدخول في العاشرة، ثم هذا الذي حملته ووضعته جارية بنت بلغت(2/26)
تسع سنين فأصبحت الأم عمرها تسعة عشر سنة، فتزوجت بنتها وهي في التاسعة عشر، ثم بعد ذلك حملت خلال السنة في العشرين فدخلت في الإحدى والعشرين وهذا من أعجل الحيض، ولذلك قال:"أعجل من رأيت في الحيض نساء تهامة"، وإذا كان تهامة معروفة بالحرارة والبلوغ في المناطق الحارة أعجل من المناطق الباردة، ولذلك قالوا إن هذا من حيث النظر يقوي أن التجربة والعادة لها تأثير، فهو يقول:"أعجل من رأيت" وهذا أعجل ما وجد فالتسع سنين هي التي يمكن أن تكون حداً فاصلاً.(2/27)
ثم اختلفوا هل العبرة ببداية التسع سنين أو بالدخول في تسع سنوات، أو بأكثر السنة التاسعة، أو بتمامها، ثلاث أوجه عند العلماء رحمهم الله على التحديد بتسع سنوات، فائدة هذه المسألة أن امرأة لو سألتك وقالت عندي بنت عمرها ثمان سنوات وشهر، فالعرب تسمي وتصف الرجل والمرأة بالسن وتعطيه حد السن إذا دخل في بدايتها، لأن الداخل في الشيء كالشيء، مثل ما يقولون أنجد إذا دخل نجداً وأتهم إذا دخل تهامة، هو ما دخلها كلها لكن بمجرد الدخول في حدود نجد ودخول تهامة يحكمون بأنه قد أنجد وأتهم، وهذا مبنى على أن العبرة ببداية الشيء وأن الابتداء كالاستتمام والانتهاء، فيقولون إن العرب تسمي من دخل بالشيء وتصفه بهذا، فإذا دخلت كان عمرها ثماني سنوات وزادت يوماً واحداً فقد دخلت في التسع سنين، فإذا رأت بعد الدخول في التاسعة دماً فقد تهيأ الحكم بكونها حائضاً، إذاً العبرة عندهم بالدخول في التسع، ومنهم من يرى مجاوزة أكثر السنة يعني فوق ستة أشهر، فإذا سألتك هذه المرأة قالت عندي جارية عمرها ثمان سنوات وشهر، على القول ببداية الدخول يُحكم بكونها قد حاضت لأنها في سن الحيض، وعلى القول بأنه لابد من مجاوزتها لأكثر السنة تقول شهر ليس بأكثر السنة لابد أن تستتم ستة أشهر وتزيد، وعلى القول بأنه لابد من التمام لا يحكم بكونها تهيأت للحيض إلا إذا نزل معها الدم بعد استتمام التسع وهذا أحوط، لأن اليقين أنها ليست بحائض فنأخذ الأقوى دائماً إذا عُدِم النص اِبحث عن القدر المتفق عليه والمجمع عليه، هذا أصل تضعه معك، أو ما عضد الأصل من دليل النظر اعتباره في الاستثناء قبل الإجماع، وعلى هذا نقول إنه تستتم التسع سنين وهذا هو الأظهر.
قال رحمه الله: ]وأكثره ستون[.(2/28)
وأكثر الحيض ستون، إذا بلغت المرأة ستين سنة عندهم فإنه بعد الستين إذا رأت الدّم فليس بحيض، وعلى هذا تصوم وتصلي ويحكمون بأن أكثر الحيض هو ستون سنة، فإذا جاوزت أو بلغت هذا القدر فما رأت من بعد ذلك فهو دم فساد وليس بدم حيض، هذه المسألة فيها مذهبان رأسان، المذهب الأول لأكثر الحيض حد، والمذهب الثاني لا حد لأكثر الحيض، إنما نترك المرأة إذا انقطع عندها الدم فإنها آيسة وأما إذا استمر معها الدم بالغة ما بلغ بصفاته وعلى حاله فهو حيض، فالذين يقولون بالتحديد يستدلون ببعض الآثار عن السلف رحمهم الله وليس في ذلك حديث صحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتحديد بالستين، هناك قول بأربعة وخمسين، وهناك أقوال ما بين الأربعة وخمسين والستين، والصحيح المذهب الثاني أنه لا حد لأكثر الحيض، وأنه لم يأتِ دليل في الكتاب والسنة يحدد للمرأة قدراً معيناً، ولذلك قالت : { أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً } ، كما قال تعالى : { فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } ونزل معها الحيض بعد الستين والله على كل شيء قدير، فالتحديد يحتاج إلى دليل وبالنسبة للأدلة لم يصح شيء مرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن هنا يقال إنه ليس هناك حد وهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله وهو وجه أيضاً عند الحنابلة واختاره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله وطائفة من المحققين حتى الظاهرية عندهم هذا القول أنه ليس لأكثر الحيض حد، لو صح في ذلك دليل في الكتاب والسنة لعملنا به، ومن هنا نقول بأي دليل إذا كانت المرأة تحيض سبعة أيام وتطهر وبلغت إحدى وستين سنة ودم الحيض جار معها على الصفة التي تألفها، بأي حق نحكم بأنها لا تأخذ حكم الحائض؟، ونأمرها إذا طلقت أن تعتد بالأشهر وتأخذ حكم الآيسات وعندها حيض وعندها دليل وأمارة واضحة لا دليل على إسقاطها، هنا نرجع إلى الأصل ونقول إن الأصل فيها أنها حائض ومادام أنها على صفة(2/29)
الحيض الذي في عمرها كله درجت عليها، ولم يرد في كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تحديد فالبقاء على هذا الأصل أولى بالاعتبار.
قال رحمه الله: ]والمبتدأة إذا رأت الدم لوقت تحيض في مثله جلست[.
المبتدأة هي المرأة التي ابتدأها دم الحيض لأول مرة، طبعاً متى نحكم بأنها متبدأة؟، عندنا شرط وهو أن تبلغ أقل سن الحيض، فما كان دون سن الحيض فليس فيه كلام يعني ليس بحيض، فإذا بلغت تسع سنين واستتمَّت ورأت الدم فحينئذ نحكم بأنه دم حيض لكن على التفصيل الذي تقدم معنا، من حد لأقل الحيض حداً يقول تبقى حتى يجاوز أقل الحيض حتى نحكم بكونه حيضاً وأنها آخذة حكم الحائضات، بناءً على مذهب الجمهور الذين هم الحنفية من وجه، والشافعية والحنابلة من وجه، إذا ابتدأها دم الحيض يوماً وليلةً عند الشافعية والحنابلة فإذا مضى معها واستمر معها الدم يوماً وليلة سواءً انقطع بعد اليوم والليلة أو استمر فهي حائض ومحكوم بحيضها، لو صارت جناية فقتلت بعد نزول الدم هذا معها يوماً وليلةً حكمنا بأنه يجب القصاص عليها إن كان القتل عمداً، ولو جرى معها عندهم لأقل من اليوم والليلة وانقطع فإنه لا يحكم بكونها حائضاً فلو قتلت أو فعلت حكم بكونها لم تبلغ وأجريت عليها أحكم الصّبا، إذاً هذا الدم مهم جداً أن نحكم بكونه حيضاً أو ليس بحيض، لأنه إذا حكمنا بكونها حائضاً انتقلت من طور الصّبا إلى طور الحلم وأخذت جميع أحكام المرأة البالغة، وأما إذا قلنا إنه ليس بحيض مضى معها لأقل من اليوم والليلة وهو ليس بحيض فإننا لا نحكم ببلوغها، واضح هذا بالنسبة لمذهب التحديد، وعند الحنفية على نفس الأمر لا نحكم بكونها حائضاً إلا إذا استتمت الثلاثة الأيام، وعلى القول الصحيح أنها إذا بلغت تسع سنين واستتمت وجرى معها الدم ولو دفعة واحدة كما يقولون ولو دفعة واحدة خرج معها دم فهو دم حيض لأنه في زمن الإمكان ولا دليل على الإسقاط، في زمن يمكن أن تحيض فيه المرأة(2/30)
وليس عندنا دليل على إسقاط كونه حيضاً فنقول إنها حائض.
طيّب هذه المرأة التي ابتدأها دم الحيض لها صور: الصغيرة إذا جرى معها دم الحيض لأول مرة إما أن يجري معها وينقطع دون أكثر الحيض، يجري معها خمسة أيام، يجري معها سبعة أيام، يجري معها ثمانية أيام أو عشرة أيام دون أكثر الحيض يعني ما بلغت أكثر الحيض هذه صورة، الصورة الثانية أن يجاوز أكثر الحيض، ففي الصورة الأولى لو امرأة سألتك وقالت عندي بنت لأول مرة يصيبها دم الحيض، ومكث معها خمسة أيام طبعاً نحن حكمنا ببلوغها على مذهب الحنابلة بمجرد مضي اليوم والليلة، وهي الآن في شهر رمضان في أول يوم من رمضان نزل معها الدم، فعند الحنابلة إذا استتمت اليوم والليلة فهي بالغة بحيضها، وعلى هذا إذا مضى معها ثمانية أيام، هل نعتبرها حائضاً الثمانية الأيام كلها؟، مع أنها لأول مرة جاءها دم الحيض، أم أننا نردها إلى اليقين وهو اليوم والليلة، وننتظر الثلاثة الأشهر الآتية إذا استمر الدم معها بمعنى واحد وهو الثمانية الأيام حكمنا بكونها انتقلت إلى المعتادة، والمعتادة هي المرأة التي عاودها دم الحيض ثلاثة أشهر على مذهب الجمهور وشهرين على مذهب الحنفية بمعنى واحد يعني بعدد واحد دون زيادة أو نقصان، بعض العلماء يقول كما هو في مذهب الحنابلة المتبدأة تمكث يوماً وليلة لأنه عندهم هو اليقين أقل الحيض، بعد اليوم والليلة تحكم بأنها طاهر في الشهر الأول، وتستمر في الصوم تصوم اليوم الثاني والثالث والرابع والخامس إلى التاسع هو انقطع في اليوم العاشر، فحينئذ تستمر في صيامها لأنه حكمنا ببلوغها والحيض عندهم اليقين يوم وليلة، فتتحيض اليقين وهو اليوم والليلة بناءً على أن اليوم والليلة هو اليقين وهذا أيضاً موجود في مذهب الشافعية رحمهم الله، فإذا زاد عن اليوم الليلة عندهم هذا مشكوك في أمره أنه حيض فيجب البقاء على الأصل من أنها مكلفة بالصيام، وشككنا هل هو استحاضة أو حيض فنبقى على(2/31)
اليقين وهو اليوم والليلة، فالتسعة الأيام هذه تصوم وتصلي فيها ثم الشهر الثاني نفس الحكم ثم الشهر الثالث إن مكثت عشر أيام فمعنى ذلك أننا تحققنا أن عادتها عشرة أيام فترجع إلى قضاء الأيام التي صامتها، لأنه تبين أن حيضها في التسعة الأيام وأنها كانت حائضاً، مادام أنه جاءها الثلاثة الأشهر بمعنى واحد، فيقول نبقى على اليقين حتى نتأكد من انتقالها إلى العادة في الشهر الثالث فنطالبها بقضاء الأيام التي صامتها، لأنه تبين خطأ الظن والقاعدة "لا عبرة بالظن البين خطأه" يعني لا عبرة بالظن الذي تبين خطأه، فنحن ألزمناها باليوم والليلة لأنّ اليقين عندهم أن أقل الحيض يوم وليلة، وما زاد على ذلك شك فانتظرنا حتى وجدنا يقيناً ينقلنا إلى كونه حيضاً فحكمنا بالقضاء هذا مذهب.
المذهب الثاني وهو الأصح والأقوى أن المرأة المبتدأة إذا جرى معها دم الحيض العشرة الأيام فإنها تحكم بكونها حائضاً في العشرة مادام أنه انقطع دون أكثر الحيض، لأنه إذا انقطع دون أكثر الحيض فقد تحققنا من حيث الأصل أنه حيض، لأن ما دون أكثر الحيض واضح ما عندنا حد لأقل الحيض، وعلى هذا نقول ما دام أنه قد جرى في زمن الإمكان وأن المرأة ممكن أن تبقى أحد عشر يوماً عادة لها فإننا نحكم بكونها حائضاً مادام أنه زمن إمكان الحيض، وعليه فتبقى وتحكم بكونها حائضاً هذه المدة، إذا ذكرنا أنه استمر معها عشرة أيام ثم انقطع ثم الشهر الثاني عشرة أيام ثم انقطع ثم الشهر الثالث عشرة أيام ثم انقطع على مذهب الجمهور حكمنا بكونها معتادة بالشهر الثالث، وأصبحت العشرة عادة لها، وعلى هذا لو جاء الشهر الرابع وجرى الدم معها عشرين يوماً نقول لها امكثي عشرة أيام حيضاً والزائد استحاضة.(2/32)
فالخلاصة أن من العلماء في المرأة المبتدأة من يقول أعتبر اليقين وهو أقل الحيض، وأحكم بكون المرأة حائضاً في هذا الأقلي، وما زاد شك والأصل أنها مخاطبة بالعبادة فألزمها بالعبادة في هذا الوقت، وهذا موجود في مذهب الحنابلة والشافعية، ومنهم من يقول إذا انقطع الدم دون أكثر الحيض فإننا نحكم بكونه حيضاً بالغاً ما بلغ، فهي حائض مادام أنه في زمن الإمكان وليس عندنا دليل ينقلنا، ما وجه هذا المذهب؟، يقولون: ليس عندنا دليل على أقل الحيض، فأصبحت المرأة بمجرد إتمامها تسع سنوات إذا رأت دم الحيض في زمن إمكان الحيض وأنتم تقولون إنها حائض وحكمتم بأنها قد دخلت وأخذت حكم الحيض، فعندي يقين أنها حائض، فأحكم بأنها حائض ما لم تجاوز أكثر الحيض، فمادام أنها لم تجاوز أكثر الحيض فإني أعتبر ما دون الأكثر كله حيض لأنه ما جاوز الأكثر، فأنا أحكم بأنه حيض لأنه في زمن الإمكان وهذا القول هو أولى بالصواب لما ذكرناه، ثم نحكم بانتقالها من كونها مبتدأة إلى كونها معتادة إذا تكرر معها شهرين على الصحيح كما هو مذهب الحنفية رحمهم الله وثلاثة أشهر كما هو مذهب الجمهور، والصحيح مذهب الحنفية لأن العادة من العود، والعود يتحقق بالمرتين بمعنى واحد.
قال رحمه الله: ]فإن انقطع لأقل من يوم وليلة فليس بحيض[.
حددوا أقل الحيض كما ذكرنا وعمرها تسع سنوات تامة، فإن نزل معها الدم ولم يستتم أقل الحيض حكموا بكونه دم فساد وعلة، هذه فائدة التحديد عندهم باليوم والليلة، أن ما كان دون اليوم والليلة لا يلتفتون إليه ولا يعتبرونه حيضاً، وكل امرأة جرى معها الدم دون الحد الأقلي وهو اليوم والليلة فليس بحيض، وقلنا إن الصحيح أنه لا حد لأقل الحيض لأنه لم يرد دليل في الكتاب والسنة بهذا التحديد.
قال رحمه الله: ]وإن جاوز ذلك ولم يعبر أكثر الحيض فهو حيض[.(2/33)
]وإن جاوز ذلك[ يعني جاوز اليوم والليلة، فأصبحت عندنا ثلاث صور في المرأة المبتدأة هناك ثلاث صور يا إخوان: على مذهب التحديد، الصورة الأولى أن يأتيها الدم ولا يبلغ الحد الأقلي فليس بحيض، الصورة الثانية أن يجاوز الحد الأقلي الذي هو اليوم والليلة ولا يبلغ أكثر الحيض، سبعة أيام أو ستة أيام أو خمسة أيام يعني معك من اليوم والليلة إلى الخمسة عشر يوماً على مذهب الحنابلة والشافعية، فينقطع لعشرة أيام، لأحد عشر يوماً، لأثنى عشر وهكذا، الصورة الثالثة أن يستمر فوق أكثر الحيض، فمرأة لأول مرة جاءها دم الحيض فاستمر معها مثلاً ثلاثة أشهر نزيف فهل هي حائض؟، قالوا بمجرد مجاوزته لليوم والليلة حيض، ونحن ذكرنا أنه إذا جاوز أقل الحيض عندهم وانقطع لدون الأكثر أنه ماذا؟ حيض طبعاً على تفصيل بعضهم يقول: أردها لليقين اليوم والليلة، وبعضهم يقول: اعتبره حيضاً وقلنا الصحيح أنه حيض، السؤال الآن: لو أنه جاوز أكثر الحيض هي لأول مرة يأتيها دم الحيض ما عندها عادة ولا عندها تمييز، جاءها الحيض لأول مرة واستمر معها شهرين أو ثلاثة أشهر، فالسؤال هل نحكم بكوها حائضاً الخمسة عشر يوماً؟، هذا وجه لبعض العلماء وعلى التحديد ينظر إلى أقل الحيض.
@ @ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ هذا سائل يقول: زوجتي أسقطت جنيناً بعد شهر وجاءها دم لمدة أسبوع، ثم انتهى الدم وحصل جماع، ثم بعد ذلك مباشرة نزل دم مرة أخرى، فهل هذا الدم دم حيض أم استحاضة؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد.(2/34)
أولاً هل هذا الذي أسقطته يأخذ حكم الولادة أو لا يأخذ حكم الولادة؟، وهذا يتوقف على النظر فيما أسقطته فإن أسقطت جنيناً كامل الخلقة أو أسقطت ما فيه خلقة فإنه يحكم بأن الدم الذي جرى معها آخذ حكم دم النفاس، فإذاً في الإسقاط والإسلاب يُنظر إلى ما تسقطه المرأة فإن كان فيه التخلق وصورة الخلقة حكمنا بكون الدم الذي بعده دماً معتبراً للنفاس وإلا فهو دم فساد وعلة.
…الحالة الثانية: إذا كان مثل ما ذكرت اعتبرته نفاساً وتحقق فيه شرط النفاس فالمسألة الثانية إذا انقطع الدم عن المرأة النفاس ورأت الطهر فلها صورتان: الصورة الأولى أن ترى الطهر بعد تمام أكثر النفاس وهو الأربعون على قول أو الستون على القول الثاني وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وأن الصحيح هو الأربعون أنه إذا بلغت الأربعين وجاوزت الأربعين فليس بنفاس، وذلك لحديث أم سلمة رضي الله عنها في مكوث النفساء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوماً، إذا ثبت هذا فإن كان انقطاع الدم عنها بعد الأربعين وجامعها زوجها فقد جامعها وهي طاهر وآخذة حكم الطاهر ولا إشكال، وإن كان قد جامعها لانقطاع الدم قبل الأربعين فإذا انقطع الدم قبل الأربعين من المرأة النفساء ورأت علامة الطهر فمن أهل العلم من قال إنها تأخذ حكم الطاهرات ويجامعها زوجها، والذي استحبه طائفة من السلف والأئمة رحمهم الله أنه حتى ولو رأت علامة الطهر يحتاط فلا يجامعها قبل الأربعين لمعنىً في الفرج، حتى الأطباء يقوون هذا أنها إذا طهرت قبل الأربعين فالأحسن أن لا يجامعها لمصلحة طبية للمرأة وللرجل أيضاً في حضوة الجماع، ومن هنا إذا كان رأت علامة الطهر وجامعها فلا إشكال في جواز الجماع من حيث الأصل يجوز له أن يجامعها دون الأربعين لأنه لا دليل على الإلزام بالأربعين إلا في مسألة استمرار الدم، ولكن الأفضل والأكمل كما ذكرنا من باب النصيحة من ناحية الأكمل للمرأة وللرجل استتمام الأربعين، حتى(2/35)
لو رأت علامة الطهر أن ينتظر حتى تستمم أربعين يوماً والله تعالى أعلم.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ: إذا أراد الإنسان أن يجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم، فهل يصح أن يصلي بالتيمم صلاة الظهر والعصر، أم يتيمم لكل منهما على حدة؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
قلنا إنه إذا دخل وقت الصلاة تيمم فصلى الصلاة وجميع الفرائض المستتبعة بهذه الصلاة، قضاءً مثل ما ذكرنا استيقظ في صلاة الظهر وكان قد نام عن الفجر تيمم فصلى الفجر والظهر، وهكذا في جمع التقديم كما ورد في السؤال فلو كان مسافراً وأصابته جنابة فاحتاج أن يصلي المغرب مع العشاء جمع تقديم، أو الظهر مع العصر جمع تقديم يتيمم لدخول وقت الظهر ويصليهما بتيمم واحد، وهكذا بالنسبة للمغرب مع العشاء يصليهما بتيمم واحد ولا يلزم لأن التيمم الأول لا ينتقض إلا بخروج وقت الفريضة ولم يخرج والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ: هل يلزم في قراءة الورد على الأبناء أن ينفث عليهم أم يكفي قراءته عن بعد؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما وأرضاهما سيّدىْ شبابِ أهلِ الجنة بقوله:"أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة"، وقال:"إنها تعويذة إبراهيم الخليل لأبنيه إسماعيل وإسحاق"، ولم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام النفث، ولذلك في الأذكار لم يثبت النفث في الأذكار، الأذكار كلها مقتصرة على الورد القولي، وثبت النفث عنه عليه الصلاة والسلام في التحصن والأذكار عند النوم، كما في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها "أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا آوى إلى فراشه جمع بكفيه فنفث فيهما ثلاثاً، ثم قرأ المعوذات، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده"، هذا بالنسبة للأذكار عند النوم، أما بالنسبة للأذكار المطلقة فالحكم أنها تعويذة قولية والله تعالى أعلم.
السؤال الرابع :(2/36)
فضيلة الشيخ: ما حكم رجل جاء إلى مسجد والصلاة قائمة، لكن تبين له أن الإمام لا يحسن قراءة فاتحة الكتاب؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
هذه مصيبة عظيمة "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، أولاً وقبل كل شيء لا يجوز لهؤلاء الجهال أن يتجرؤا على الإمامة ويصلوا بالناس وهم لا يحسنون الفاتحة، وإذا رأيت رجلاً يصلي بالناس لا يحسن الفاتحة توصيه بتقوى الله - عز وجل - وتقول له يا أخي اِتقي الله لا يجوز أن تعرض صلاة الناس للبطلان، خاصة إذا كان لحنه يحيل المعنى، مثلاً أن يقول صراط الذين أنعمتُ عليهم، فهذا صلاته باطلة وصلاة من وراءه باطلة، وعلى هذا لا يجوز لهؤلاء أن يتقدموا للصلاة بالناس حتى لا يبطلوا صلواتهم، وعليك أن ترد عليه الواجب عليك إذا صليت وراءه ولم يحسن ترد عليه، وتصحح له خطأه، لكن لو أنك أتيت إلى قوم لا يحسنون قراءة الفاتحة وهذا هو الموجود هذا أحسن الموجود فإذا صليت وراءه صححت أخطاءه، وتفتح عليه تصحح عليه أخطاءه خاصة إذا كانت أخطاء تحيل المعنى، إذا صححت له الخطأ وأصر على خطأ يحيل المعنى تنوي مفارقته يعني تنوي أنك منفرد، لأن هذا عذر شرعي يبيح لك أن تنفصل عنه، ويجوز للمصلي أن ينفرد عن إمامه إذا رأى عليه نجاسة ورأى عليه خللاً دون الركن ودون المؤثر في الركن فكيف إذا كان في الفاتحة التي هي ركن الصلاة ولا تصح الصلاة إلا بها، فإذا ثبت هذا تنوي مفارقته فإذا نويت مفارقته طبعاً ما يجوز أن تشذ عن الجماعة، فمثل ما قالوا تأتم به في الشكل والصورة وتخالفه في الباطن، فمثلاً تقرأ أنت الفاتحة وتقرأ لنفسك، فإذا كبر هو للركوع قلت الله أكبر وكبرت معه لكن في الصورة لا في الحقيقة، فتركع بركوعه زماناً موافقاً في الظاهر دون الباطن، ثم إذا رفع رفعنا معه، وإذا سجد سجدنا معه لماذا؟، لأنك ما تستطيع أن تشذ عن الجماعة وقد يكون هناك ضرر، وهذا حيلة فقيه ذكرها الحنابلة رحمهم الله في مسألة إمامة الفاسق، وهم لا(2/37)
يصححون الصلاة وراء الإمام الفاسق، فقالوا يأتم به في الشكل، يكبر معه في التكبير ويقرأ لنفسه ثم يركع بركوعه ويسجد بسجوده وفي الحقيقة أنه منفرد وليس بمأتم به، لكن المشكلة إذا سَهَا ماذا تفعل؟، على كل حال هذا الأصل وإن شاء الله لن يسهوا حتى لا يقع الإنسان في الإحراج والأصل أنك تصلي صلاة صحيحة معتبرة، وأمر الفاتحة عظيم لا يمكن للإنسان أنه يتساهل في هذا الأمر وعليك أن تنبه مثل هذا خاصة في المستشفيات أو في المحطات إذا جاء الناس ينزلون وجاء كل من هب ودب يتقدم للإمامة، فإذا رأيته لا يحسن الفاتحة، أو مثلاً يقرأ السور بعد الفاتحة يخطئ فيها ويلحن فيها، يعني تصلي وراء الرجل ما تدري ماذا يقول، يعني نسأل الله العافية من الأخطاء من الهمهمة والتمتمة لا يعطي الحروف حقها ولا يعطي صفاتها ومستحقاتها حتى يعرض صلاة من وراءه للبطلان فالواجب نحو مثل هؤلاء أن ينصحوا وأن يذكروا بالله - عز وجل - وأن يبين له الصواب، فإن صليت وراءهم فتحت عليهم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
تابع باب الحيض
بسم الله الرحمن الرحيم
…الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
…أما بعد.
…قال المصنف رحمه الله تعالى: ]وإن جاوز ذلك ولم يعبر أكثر الحيض فهو حيض [.
…بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.(2/38)
…أمّا بعد: فقد كنا قد تحدثنا عن المرأة المبتدأة، وقد ذكرنا قبل ذلك أن المرأة في الحيض إما أن تكون مبتدأة، وإما أن تكون معتادة، وإما أن تكون مميزة، وإما أن تكون ناسية لذلك أعني العادة والتمييز، فأما إذا كانت مبتدأة فقلنا أولاً هي المرأة التي ابتدأها الحيض بمعنى لأول مرة يأتيها دم الحيض، فقلنا الشرط في دخول المرأة إلى كونها مبتداءة أن تكون قد بلغت سنّ الحيض وذلك بتسع سنين كاملة، بعد هذا قلنا لا يخلو الدم الذي ينزل معها إما أن يكون أقل من يوم وليلة، أو يكون أكثر من يوم وليلة، فإن كان أقل من يوم وليلة قلنا إن العلماء رحمهم الله الجمهور يرون أنه دم فساد وليس بحيض، أما الحنابلة والشافعية فلأن أقل الحيض عندهم يوم وليلة، والحنفية لأن أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام، والصحيح أنه حيض وهو مذهب المالكية واختيار شيخ الإسلام رحمه الله وطائفة رحمة الله على الجميع، وبناءً على ذلك إذا نزل الدم من المرأة وكان في وقت إمكان الحيض فحيض، فإن جاوز اليوم والليلة بلغ اليوم والليلة فهو إما أن ينقطع دون أكثر الحيض يعني ينقطع لأقل من خمسة عشر يوماً، وإما أن يجاوز الخمسة عشر يوما، فهنا حالتان إذا بلغ اليوم والليلة له حالتان: الحالة الأولى أن ينقطع دون أكثر الحيض فلا يبلغ أكثر الحيض، بمعنى أن ينقطع دون خمسة عشر يوماً، وإما أن يبلغ الخمسة عشر يوما ويجاوز، فإن كان قد انقطع دون الخمسة العشر يوما فإننا نحكم بأنه حيض على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله بالغاً ما بلغ، ثلاثة أيام، خمسة أيام، سبعة أيام، عشرة أيام، اثنى عشر يوما،ً ثلاثة عشر يوماً، أربعة عشر يوماً وانقطع كله حيض، ويُحكم بأن المرأة حائض فيها، ما لم يكن هناك تمييز على تفصيل سيأتينا لكن من حيث الأصل أن الدم إذا انقطع دون الخمسة عشر يوم وجاوز أقلّ الحيض فإنه يعتبر كله حيضاً.(2/39)
هناك قول في المذهب قالوا: لا نعتبره حيضاً إلا إذا تكرر ثلاثة أشهر بعدد واحد دون زيادة أو نقصان حتى نحكم بكونها معتادة، قلنا طيب ماذا تفعلون خلال الشهر الأول والثاني؟، قالوا نعتبر الحيض اليقين وهو اليوم والليلة، وما زاد تغتسل بعد اليوم والليلة وتعتبر نفسها كالطاهرة فإن انقطع دون الخمسة العشر يوما تغتسل غسلاً ثانياً، هذا القول مبنى على أن هناك يقيناً وهو اليوم والليلة، وبيّنا ضعف اعتبار اليوم والليلة لأنه لا نعرف دليلاً من الكتاب والسنة على اعتبار اليوم والليلة إنما قالوا هذا أقل ما وجد، والواقع أن أقل ما وجد دفعة من الدم عل صفة دم الحيض، فأقل الوجدان ليس بدليل وعلى هذا فإن الخلاصة أن المرأة إن جرى معها الدم وانقطع دون اليوم والليلة في زمن إمكان الحيض فحيض على الصحيح، وإن جاوز اليوم والليلة وانقطع دون أكثر الحيض فهو حيض، وبناءً عليه لا نلتفت إلى اليقين الذي ذكروه من اليوم والليلة، ونقول لها إذا جاءك الدم لأول مرة وجاوز اليوم والليلة فأنتِ حائض تحكمين بكونكِ حائضاً مدة بقاءه الخمسة الأيام الستة الأيام تمتنعين مما تمتنع منه المرأة الحائض، فإذا انقطع عنكِ دون الخمسة عشر يوماً اغتسلتِ وتطهرتِ ثم الشهر الثاني والثالث لا يخلو من حالتين: إما أن يتكرر بنفس العدد الذي جاءها به في الشهر الأول، مثل أن يأتيها خمسة أيام وينقطع فقلنا تغتسل وتعتبر الحيض الخمسة الأيام كاملة، ثم الشهر الثاني خمسة أيام، ثم الشهر الثالث خمسة أيام فبالإجماع أصبحت معتادة، بالإجماع انتقلت من كونها مبتدأة إلى كونها معتادة، إذا جاءها بعدد واحد ثلاثة أشهر متتابعة بالإجماع انتقلت إلى كونها معتادة، فيُحكم بأن الخمسة الأيام هي حيضها، فائدة هذا أنها لو بعد الثلاثة الأشهر جاءها عشرين يوماً أو ثلاثين يوماً أو استمر معها سنة كاملة تعتبر حيضها الخمسة الأيام، ثبت أن لها عادة وهي الخمسة الأيام.(2/40)
إذاً نحكم بانتقالها من كونها متبدأة إلى كونها معتادة بإجماع العلماء إذا تكرر ثلاثة أشهر بعدد واحد، لكن من أهل العلم من قال لا يشترط الثلاثة الأشهر، فيكفي التكرار شهرين وهذا قوي من جهة الدليل، لأن العادة من العود، واشتراط الزيادة على المرتين يحتاج إلى دليل، ولكنه من حيث الإجماع الإجماع على أنه بالثلاث ثلاثة أشهر تكون حائضا، طيب لو قال قائل دعونا نأخذ الإجماع نقول هناك فرق، بين ما ثبتت دلالته بأصله وبين ما التفت فيه الدلالة فرجعنا إلى اليقين وهو الإجماع، هنا العادة من العود وما دام أنه عاد شهرين متتابعين بعدد واحد فهي عادة، وهذا من حيث الأصل أقوى كما ذكرنا والثاني من حيث الاحتياط أولى من حيث الاحتياط أنها ثلاثة أشهر، فائدة الخلاف أنه لو جاءها شهرين بعدد خمسة أيام وفي الشهر الثالث جاءها ستة أيام فهي مستحاضة في اليوم السادس على القول بالشهرين، لا تعتبر حائضاً وإنما تعتبر مستحاضة في اليوم السادس، وأما على القول الثاني الذي يقول لابد من ثلاثة أشهر يقول إنه ما دام قد انقطع دون الخمسة عشر يوما فكله حيض.(2/41)
إذاً الخلاصة أن المبتدأة تنتقل إلى كونها معتادة أولاً بشرط أن ينقطع الدم دون الخمسة عشر يوماً، وثانياً أن يتكرر بعدد واحد دون زيادة أو نقصان لثلاثة أشهر متتابعة أو شهرين على الصحيح، طيب لو أنها جاءها الشهر الأول خمسة أيام، ثم جاءها الشهر الثاني ستة أيام، ثم جاءها الشهر الثالث خمسة أيام، وجاءها الشهر الرابع ستة أيام فهذه عادة منتقلة، فيثبت أن عادتها خمسة أيام مركبة من تكرار الشهرين شهرٌ بالخمسة وشهرٌ بالستة متعاقبة، كذلك أيضاً قد يحدث التقطع فيكون مثلاً يأتيها التقطع متناسقاً مرتباً، فيأتيها يوماً دم ثم يوماً نقاء، ثم يوماً دم ثم يوماً نقاء، ثم يوماً دم ثم يوماً نقاء إلى عشرة أيام، خمسة أيام دم وخمسة أيام نقاء، ثم الشهر الثاني بنفس الترتيب خمسة أيّام دم وخمسة أيام نقاء، ثم الشهر الثالث بنفس الترتيب حكمنا بأن عادتها على هذا الوجه، لكنها في الأصل خمسة أيام، إذاً العادة تكون مترتبة متناسقة أيام تلوى بعضها وينقطع الدم، وتكون أيّاماً متقطعة يتخللها الطهر فعلى مذهب التلفيق ومذهب التلفيق أنك تعتبر أيام النقاء طهراً وأيام الدم حيضاً ثم تلفق العدد الذي اعتادته، وعلى هذا نحكم بأن المرأة انتقلت من كونها متبدأة إلى كونها معتادة بهذا الأصل.
…قال رحمه الله: ]وإن جاوز ذلك ولم يعبر أكثر الحيض فهو حيض [.(2/42)
…]وإن جاوز ذلك[،]ذلك[ يعود إلى ماذا؟، إلى اليوم والليلة، لأنهم يعتبرون أقل الحيض، ]إن جاوز ذلك[ هذا أول شيء عندهم، ]ولم يعبر أكثر الحيض[ الذي هو الخمسة عشر يوماً، لأنه إذا عبر أكثر الحيض دخلت الشبهة في هذا الدم لأنه يصبح فيه شبهة أنه كله استحاضة، ويرجعون إلى اليقين وهو اليوم والليلة، ومنهم من قال أعتبر الخمسة عشر يوماً كلها حيض وما زاد استحاضة، ومنهم من ردها إلى غالب حيض النساء الست والسبع، هذا إذا جاوز كما سيأتينا إن شاء الله تعالى، لكن المهم عندنا أنه يعبر أقل الحيض على القول بالتحديد ولا يعبر أكثر الحيض، معنى أنه ينقطع قبل الخمسة عشر يوماً، هذا من حيث الأصل حتى تثبت العادة.
…قال رحمه الله: ]فإذا تكرر ثلاثة أشهر بمعنى واحد صار عادة[.
…تكرر ثلاثة أشهر بشرط أن تكون متتابعة، ]بمعنىً واحد[ يعني بعدد واحد دون زيادة أو نقصان، ]صار عادة[ أي ثبت كونها معتادة، ننتقل إلى النوع الثاني الآن وهي المرأة المعتادة، المرأة المبتدأة عرفنا أحكامها نأخذ خلاصة المرأة المبتدأة كالآتي:
…أولاً: إن المرأة إذا ابتدأها دم الحيض لأول مرة في سنٍ هو سن حيضٍ حكمنا بكونها حائضاً، وأعطيناها حكم الحائض أنه يحكم ببلوغها إلى آخره.
…ثانياً: أنها تمتنع مما تمتنع منه المرأة الحائض ما دام معها دم الحيض، فإن انقطع دون الخمسة العشر يوماً فذلك حيضها فتغتسل بعد رؤية علامة الطهر، الحكم الثالث، يصبح إذا انقطع لخمسة أيام ستة أيام تؤمر بالغسل، وهي طاهر بعد ذلك، وحيضها بعدد الأيام التي جاءها.(2/43)
…الأمر الرابع فإن تكرر معها هذا العدد ثلاثة أشهر بالإجماع أو شهرين على الصحيح دون زيادة أو نقصان حكمنا بكونه عادة لها، وإذا حكمنا بكونه عادة لها فإن اختل الدم بعد ذلك أُمرت بالرجوع إلى العادة، إذاً ما الدليل على هذا النوع الثاني؟، طبعاً الدليل على مسائل المبتدأة تقدم معنا، قلنا أول شيء نحكم بأنها حائض لأن الزمان زمان حيض، ومادام زمان الحيض ونزل معها دم من رحمها في زمان إمكان الحيض فهو حيض وليس عندنا دليل ينفي كونه حيضاً، الزمان زمان حيض والوقت وقت الحيض والمرأة تحيض ومتأهّلة للحيض فالغالب أنها حائض، وما عندنا دليل على اعتبار اليوم والليلة فبقينا على هذا الأصل، الأمر الثاني أننا حَيّضناها مدة مادام قد انقطع الدم عنها دون أكثر الحيض لأن الأصل فيها أنها حائض، فإذا حاضت خمسة أيام ما الدليل على أن بقيها على اليوم والليلة ونلغي الأربعة الأيام؟، هذه امرأة حائض في زمان الحيض وإمكان الحيض والنساء يحضن خمسة وستة وسبعة وثمانية إلى أربعة عشر يوماً، فما الدليل على أننا نلغي كونها حائضا؟ً، فوجب البقاء على الأصل من أنها حائض، هذا بالنسبة للمرأة المبتدأة، طبعاً التفصيلات بعضهم يقول أردها إلى عادة أجدادها وأمهاتها وبعضهم يقول أردها إلى عادة نساء بلدها، وبعضهم يقول أردها إلى عادة أترابها يعني من في سنها من النساء، كل هذه التفصيلات تخرجنا عن الأصل، الأصل أنها امرأة حائض وأن الحيض جاءها في وقت زمانه وإمكانه فإننا نحكم بكونها حائضاً حتى نجد دليلاً يخرجنا عن هذا الأصل.(2/44)
…الحالة الثانية أو النوع الثاني من النساء المرأة المعتادة، إذا انتقلت إلى كونها معتادة نحكم بأنها تحتسب الحيض أيام عادتها، ودليلنا على ذلك السنة الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في أحاديث منها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري وغيره، أن فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها لما استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" إنما ذلكِ عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركِ الصلاة قدر الأيام التي كنتِ تحيضين فيها"، فردها إلى ماذا؟، إلى العادة، فثبت بهذا الحديث الصحيح أن العادة محتكم إليها في الحيض.(2/45)
…ثانياً حديث أم حبيبة رضي الله عنها في صحيح مسلم وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها:"امكثي قدر ما كانت تحبسكِ حيضتكِ ثم اغتسلي"، فردها إلى ما ألفت وأعتادت من أيام حيضها فدل على اعتبار العادة، كذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها في المرأة التي استفتىِ لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما تجده من دم الاستحاضة فقال عليه الصلاة والسلام:"لتنظر الأيام التي كانت تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها، فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل"، هذا الحديث رواه أبو داود وأحمد وبن ماجة والنسائي وصححه غير واحد من العلماء وفيه إشكال في رواية سليمان بن يسار رحمه الله، والحديث صححه غير واحد من العلماء وهو دليل على اعتبار العادة، يؤكد ما في الصحيحين من أن المرأة ترجع إلى عادتها، فانظر في الحديث الأول "امكثي قدر ما كانت تحبسكِ حيضتكِ" حديث مسلم، وحديث البخاري "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن ترجع يعني فاطمة رضي الله عنها إلى عادتها قبل أن تختل أو يختل عليها الدم"، فالعادة محتكم إليها في الحيض والأدلة على هذا واضحة والعلماء رحمهم الله مجمعون على أن المرأة إذا كانت لها عادة فإن عادتها معتبرة هذا بالنسبة للنوع الثاني من النساء المرأة المعتادة، وفي الحقيقة إذا كان عند المرأة عادة أراحتك في الجواب والفتوى لأنك تردها إلى عادتها، وبهذا عندها علامة واضحة على تمييز حيضها من استحاضتها، وتكون عادتها في أول الشهر تارة، وإذا كانت في أول الشهر إما أن تكون في أول أوله أو تكون في آخر أوله، مثلاً عندها النصف الأول من الشهر تكون عادتها في السبعة الأيام الأولى أو السبعة الأيام الثانية من النصف الأول، أو تكون عادتها في النصف الثاني على نفس التفصيل، إما في نصف النصف الثاني الذي هو الربع الأول أو تكون في نصف نصفه الأخير فترجع إلى عادتها، تعرف قدر ما تحيض من الأيام وقدر طهرها أيضاً بين الحيضتين فتحتسب ذلك وتعمل(2/46)
عليه.
…قال رحمه الله: ] وإن عبر ذلك فالزائد استحاضة[.
…]وإن عبر ذلك[ أي عبر الدم الذي مع المرأة المبتدأة ]ذلك[ أي أكثر الحيض، عرفنا أنه ينقطع عنها الدم دون اليوم والليلة وأنه يجاوز اليوم والليلة وينقطع دون الخمسة عشر يوماً، والحالة الثالثة أن يجاوز الخمسة عشر يوماً، لاحظ في حالة ما إذا انقطع دون الخمسة عشر يوماً التي كنا فيها المصنف أشار إلى مسألة أن يعاودها بعدد واحد، لكن بقي الإشكال لو أنه انقطع دون الخمسة عشر يوماً بأيام متفاوتة، في الشهر الأول خمسة أيام، في الشهر الثاني سبعة أيام، في الشهر الثّالث ستة أيام، بعض الأحيان ينقطع بالزيادة، بعض الأحيان ينقطع بالنقص، وبعض الأحيان ينقطع بدون انضباط، فينقطع بالزيادة الشهر الأول خمسة أيام الشهر الثاني ستة أيام الشهر الثالث سبعة أيام، فيزيد في العدد، فتقول لا يهمني الزيادة ما دام أنه انقطع دون أكثر الحيض فهو كله حيض، لأنه عندنا يقين أن ما دون الخمسة عشر يوماً كله الأصل فيه أنه حيض.
…أما إذا كان بالنقص فالعكس يبدأ الشهر الأول عشرة أيام الشهر الثاني تسعة أيام الشهر الثالث ثمانية أيام فتقول كلها حيض، الأول اضطرب بالزيادة والثاني اضطرب بالنقصان والصورة الثالثة أن يضطرب بالاختلال، يأتيها الشهر الاول عشرة أيام يأتيها الشهر الثاني تسعة أيام يأتيها الشهر الثالث أحد عشر يوماً، بالزيادة والنقص سواءً تقدمت الزيادة أو تقدم النقص، في جميع هذه الأحوال نرجع إلى الأصل أنها امرأة حائض لأن حيضها هو تلك الأيام التي هي دون أكثر الحيض، ما دام أنه لم ينقطع الدم في زمان لم يجاوز أكثر الحيض فإنه يعتبر حيضاً على الأصل.(2/47)
…إذاً لا إشكال عندنا سواءً اتفقت الأيام أو اختلفت، طيب ماذا نفعل مبتدأة بهذه الحالة كل شهر يأتيها عدد دون الخمسة عشر يوماً نعتبرها حائضاً في ذلك العدد، طبعاً ما لم يكن عندها تمييز سيأتي الكلام على التمييز، هذا كله إذا لم يكن لها تمييز يأتيها الدم بصفة واحدة، يأتيها أحمر، يأتيها اسود، يأتيها أحمر محتدم، يأتيها بني يأتيها بلون واحد، لكن عندنا مسألة ثانية وسيأتينا في التمييز وهي أن تميزه وهي مبتدأة فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
…قال رحمه الله: ] فإذا تكرر ثلاثة أشهر بمعنىً واحد صار عادة[.
…إذاً انتهينا هذه للمعتادة.
…قال رحمه الله: ]وإن عبر ذلك فالزائد استحاضة[.(2/48)
…]وإن عبر ذلك[ يعني عبر الخمسة عشر يوماً ]فالزائد استحاضة[، هنا استشكل العلماء قالوا إذا كانت امرأة لأول مرة يأتيها الحيض وعبر أكثر الحيض بلون واحد كما ذكرنا كل الكلام هذا إذا كان بلون واحد لا تمييز فيه، عبر أكثر الحيض فهنا وقعوا في إشكال، قال بعضهم: هذا الدم ما دام جاوز أكثر الحيض فإننا نجزم بأن فيه حيضاً وفيه استحاضة، فنردها إلى اليقين وهو اليوم والليلة كما هو رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وعند الشافعية أيضاً قول إنهم يردونها إلى اليوم والليلة، لأنها لما انقطع دمها فوق الخمسة عشر يوماً جاوز الخمسة عشر يوماً دل على أن هناك نزيف الاستحاضة الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنما ذلك عرق"، ومن هنا قالوا نشك في الأيام التي دون الخمسة عشر يوماً لاحتمال أنه جاءها الحيض ثلاثة أيام أربعة أيام واحتمال أنه جاءها يوما وليلة وانقطع فأصبح الاستمرار نزيفاً، بدليل أنه جاوز أكثر الحيض، فعندنا أمارة تورد الشبهة هذا وجه، الوجه الثاني قالوا إذا جاوز أكثر الحيض نردها إلى غالب حيض النساء ستاً أو سبعاً، وسنفصل في هذه المسألة متى ترد إلى الست؟، ومتى ترد إلى السبع؟، هذا الوجه الثاني وهو الحقيقة من حيث الدليل أقوى، طبعاً الأول قال نردها إلى اليوم والليلة لأنهم يرون أن اليقين في الحيض اليوم والليلة، وبناءً على هذا القول يقولون نردها إلى اليوم والليلة ونأمرها بالغسل بعد اليوم والليلة ثم إذا جاوز أكثر الحيض الذي هو الخمسة عشر يوماً فكل هذا يعتبر استحاضة، وعلى هذا فإنه يصح صومها بالنسبة للأيام هذه كلها لأنها في حكم الطاهرات، الذي يظهر أنها إذا جاوزت أكثر الحيض ردت إلى غالب حيض النساء ستاً أو سبعاً كما ورد في الحديث، هذا كله إذا كان الدم بلون واحدكما ذكرنا، إما أحمر وإما أسود وإما بني على أي لون من الألون المعتبرة لدم الحيض.(2/49)
…قال رحمه الله: ]وعليها أن تغتسل عند آخر الحيض وتغسل فرجها وتعصبه[.
…]وعليها أن تغتسل عند آخر الحيض[ إذا كان اليقين عندهم يوماً وليلة فمعناه أنها بعد اليوم والليلة تغتسل، المذهب الذي يقول باعتبار اليوم والليلة يقيناً وأصلاً يلزمون المرأة المتبدأة بمجرد انتهاء اليوم والليلة بالغسل، لأنهم يقولون عندنا يقين أن هذا حيض وما زاد مشكوك فيه فنبقى على هذا الأصل فلا نحكم بطهرها إلا بعد اليوم والليلة، ثم إن انقطع دون الخمسة عشر يوما يلزمونها بغسل ثانً، لأنه احتمال أن يكون حيضاً بناءً على هذا القول لأنهم يعتبرون اليقين يوماً وليلة، طيب عندنا سؤال على هذا القول حينما يقولون يوم وليلة ويستمر معها ستة أيام في الشهر الأول والشهر الثاني والشهر الثالث هم يحكمون بأنها انتقلت إلى كونها ماذا؟، حائضاً في الشهر الثالث، فالسؤال الآن نقول لهم إذا أثبتّم أنها خلال الثلاثة الأشهر تتحيّض يوماً وليلة والخمسة الأيام التي يأتي فيها الدم تحكم بكونها مستحاضة، فإن انقطع الدم بعد اليوم الخامس أو السادس اغتسلت غسلاً ثانياً فواضح، لأنهم عندهم قاعدة إذا انقطع دون أكثر الحيض طولبت بغسل ثانً لأنه فيه شبهة لاحتمال أن يتبين أنه العادة، فإذا تكرر ثلاثة أشهر بهذا العدد ألزموها بقضاء الصوم في الأيام التي مضت إذا كانت صامت من رمضان، فالخمسة الأيام في الشهر الأول تبين أنها حيض، يقولون نلزمها باليوم والليلة الشهر الأول، الشهر الثاني اليوم والليلة، الشهر الثالث ثبت أن عادتها ستة أيام وحينئذ ترجع إلى الشهر الأول إن كانت قد صامت فيه شيئاً من رمضان الذي هي الخمسة الأيام وحيضها ستة أيام اليوم والليلة حكمنا بأنها حائض، وصامت خمسة أيام وكان قد أتاها أول ما أتاها الحيض في أول شهر أو ثاني شهر في رمضان فهم يلزمونها بالصوم بناءً على أنها طاهر، فيقولون لها اقضي هذه الخمسة الأيام، فيلزمونها بقضاء الخمسة الأيام فيقولون تبين أنها حائض(2/50)
وأن عبادة الصوم منها في حال حيضها باطلة فتلزم بقضائها، إذا يعتبرون المرأة حائضاً باليقين اليوم والليلة ثم يلزمونها بالقضاء إن تبيّن أن تلك الأيام قد صامتها وأنها حكمت بكونها طاهراً مع أنه تبيّن أنها حائض هذا بالنسبة لمذهب من يقول بالرجوع لليقين (اليوم والليلة)، وقلنا إن الصحيح أنها تعتبر حالها إذا لم يجاوز الدم أنها حائض وتفعل ما تفعل الحائض وتمتنع مما تمتنع منه الحائض فإن جاوز فحيضها حيض غالب النساء ستاً أو سبعاً.
…قال رحمه الله: ]وعليها أن تغتسل عند آخر الحيض وتغسل فرجها وتعصبه[.(2/51)
…هذا بالنسبة لما يتعلق بطهارة المرأة المستحاضة الآن دخل فيما يلزمها من الطهارة، المرأة المستحاضة إذا حكمت بأيام معينة أنها حيض والزائد استحاضة لها طريقة معينة في طهرها، وهذه الطريقة طبعاً تعرفون أن المرأة المستحاضة يجري معها الدم وبناءً على ذلك يسمونه بالحدث الدائم الذي هو السلس، يعني المستحاضة ومن به سلس بابهما واحد، ويندرجون تحت أصل وهو الحدث الدائم، يعني أنه يستديم حدثها ولا ينقطع لأن دم الاستحاضة ينقض الوضوء لأنه دم نجس خارج من المخرج فيبطل الوضوء كما تقدم معنا في بيان الأحداث ونواقض الوضوء، فإذا ثبت أن دم الاستحاضة ينقض الوضوء فالآن بيّن لك أن المرأة حائض في اليوم والليلة، جاءها الدم لأول مرة قلنا لها امكثي يوماً وليلةً طيب يرد السؤال بعد اليوم والليلة ماذا تفعل؟، قال عليها أن تغتسل، تغتسل هذا الغسل لماذا؟، غسل الحيض تنويه عن حيضها، وتحكم تقديراً لأن القاعدة عند العلماء أن التقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود، فهي تنزل نفسها منزلة الطاهرات مع أنه قد يتبين أنها حائض فعلاً، لكنها تنزل نفسها طاهراً تقديراً، فتبدأ بماذا؟، تبدأ بالغسل، ثم بعد ذلك تغسل الفرج تغسل فرجها ثم تعصب الفرج تضع فيه القطنة ثم تعصبه، هذا إذا كان استحاضتها دماً شديداً عليها فإذا دخل عليها وقت الصلاة هي أول شيء مطالبة بالغسل وهذا لا إشكال فيه الخروج من الحدث الأكبر، ثم إذا أرادت أن تصلي هي بالخيار بين أمرين: الأمر الأول أنها تصلي كل صلاة في وقتها وفي هذا الأمر يلزمها أفعال احتياطية للطهارة، والأمر الثاني أن تجمع جمعاً صورياً بين صلاتي المغرب والعشاء وصلاتي الظهر والعصر فتصبح لها أشبه بالثلاثة الأوقات، تصلي الفجر على حدة في وقته ثم تجمع بين الظهر والعصر جمعاً صورياً ثم تجمع بين المغرب والعشاء جمعاً صورياً، في الأمر الأول وهو أنها تصلي كل صلاة في وقتها تفعل كالآتي: نقول لها هذا الدم الذي معكِ دم الاستحاضة(2/52)
هل هو شديد أو ضعيف؟، إذا كان ضعيفاً يتقطع بحيث يمكنها أن تصلي ولا ينزل معها شيء، مثلاً يأتيها الربع ساعة النصف ساعة في أول الوقت ثم ينقطع، فتدرك وقتاً يمكنها أن تتطهر فيه وتصلي بنقاء، فحينئذ تنتظر حتى ينقطع ثم تتطهر طهراً تاماً كاملاً، لأن الله فرض عليها هذه الطهارة طهارة الخبث، فنقول لها انتظري حتى تّطهّري ثم تغسلى فرجكِ ثم تتوضّئى وتصلّى على نقاء، فإن قالت الحدث مستمر فله صورتان:
إما أن يكون وضع القطن في الفرج يمنع خروج الدم، وإما أن يكون أشد من ذلك، وقد أشار النبي- صلى الله عليه وسلم - إلى الحالتين، فقال للمرأة:"أنعت لكِ الكرسف" والكرسف هو القطن، "أنعت" يعني أصف لكِ هي اشتكت إليه أن الدم يجري معها فقال لها:"أنعت لك الكرسف، قالت يا رسول الله: هو أشد من ذلك"، فلما قال لها:"أنعت لكِ الكرسف" دل على أنه من النساء في الاستحاضة ما يكون دفق الدم وخروج الدم ضعيفاً منها بحيث تضع القطنة ولا يلزمها عصب الفرج، فحينئذ نقول ضعي قطنة تمنع نزول الدم، وإن قالت هو شديد كما قالت:"يا رسول الله إني أثج ثجا"، والثج الكثير، " فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتّلجّم فقال لها: تلجّمي"، وذلك بأن تضع القطنة في الفرج ثم تجمع طرفي الفرج وتعصبهما بطريقة معروفة عند النساء تشد طرفي الفرج ثم تربطهما على وسطها مدلاة على الفرج حتى تمنع خروج الخارج الذي هو دم الاستحاضة، وهذا على حسب اختلاف أحوال النساء، هذا النوع من باب تعاطي الأسباب وثبت فيه حديث الترمذي الذي قال عنه الإمام البخاري إنه حسن، والعمل عند أهل العلم رحمهم الله عند جمع من أهل العلم رحمهم الله على ثبوته والعمل به، أن المرأة المستحاضة إن أدركت وقتاً ينقطع فيه الدم وتصلي فيه الصلاة دون وجود الدم لزمها أن تنتظر حتى تحصل الطهارة بيقين واستبراء، وإما أن يكون الدم شديداً إما أن يكفه قطن فحينئذ تؤمر بوضع القطن ولا تشد، وإما إن يكون أشد من ذلك(2/53)
فتلزم بالاستثفار والتلجم.
…هذا بالنسبة لطهارة المرأة المستحاضة في الأمر الأول قلنا إنها تصلّي إذا كان يتقطع إما أن تصلي كل صلاة في وقتها، وإما أن تجمع بين الصلاتين، تصلي كل صلاة في وقتها نقول لها إذا دخل عليكِ وقت الظهر أذّن أذان الظهر فأولاً لا تتطهري للصلاة قبل دخول وقتها يكون التطهر بعد دخول الوقت، فتبدأ عند دخول الوقت عند زوال الشمس فتغسل فرجها ثم تعصبه إن كان يحتاج إلى عصب أو تضع القطنة إن كان أقل من ذلك ثم تصلي الصلوات الفرائض والنوافل في هذا الوقت، ثم إذا دخل عليها وقت العصر كذلك، ثم إذا دخل وقت المغرب كذلك العشاء كذلك، لكن من أهل العلم من قال إنه إذا كان القطنة تحسب وتمنع لا نحكم بانتقاض وضوئها بخروج الوقت، ولكن رد بقوله "وتوضّئي لكلّ صلاة"، النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال لها:"وتوضّئي لكلّ صلاة"، هناك من أهل العلم من ألزمها بالغسل لكل صلاة، وفيه حديث من أمّ حبيبة "أنها كانت تغتسل لكلّ صلاة" الرواية عنها صحيحة رضي الله عنها، وأجيب بأنها اجتهدت بذلك من عند نفسها، ولا يلزمها إلا غسل واحد وأما المستحاضة فإنها تتوضأ لكل صلاة لنصه عليه الصلاة والسلام بقوله:"وتوضّئي لكلّ صلاة"، هذا إذا كانت تستطيع أن تصلي كل صلاة في وقتها هذا الخيار الأول، الخيارالثاني إذا شق عليها الأمر مثل أيام البرد الشديد مثل أن تكون ضعيفة البنية اشتد عليها الألم قالت ما أستطيع، أني في دخول كلّ وقت أقوم وأتوضّأ وأفعل هذه الأفعال، نقول لها يمكنكِ أن تأخّري الظهر إلى آخر وقته بحيث يبقى زمان بقدر ما تتطهّرين وتتوضّئين فتصلين الظهر فيؤذن العصر يدخل وقت العصر، فتقيمين وتصلين العصر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -:"فإن قويتي أن تأخري الظهر حتى تصلي ثم تصلى العصر، وتأخري المغرب ثم تصلي معه العشاء" يعني إلى آخر الوقت هذا يسمى الجمع الصوري، وهو الذي عناه عبد الله بن عباس في قوله "جمع رسول الله - صلى الله(2/54)
عليه وسلم - من غير مطر ولا سفر" ولما سئل عن ذلك قال:"أراد أن لا يحرج أمته"، لأنه كان يخطب كما في الصحيح فقام له أعرابي وقال له الصلاة فسكت عنه ثم المرة الثانية ثم المرة الثالثة فقال له بن عباس:"أتعلمنا بالصلاة لا أمَّ لك"، يعني من أنت حتى تعترض على أهل العلم وهذا الشأن لمن كان مع أهل العلم أن لا يبادر بالإنكار عليهم، فقال:"أتعلمنا بالصلاة لاأمَّ لك"، مع أن الرجل يأمر بالمعروف لكن سوء الأدب مع أهل العلم صحابي من أهل العلم والفضل يقوم رجل يقول له الصلاة، وهذا شأن ضعاف النفوس الذين لا يتربون بآداب الإسلام، أنهم لا يقدرون الناس قدرهم ويستعجلون في الإنكار، فقال:"أتعلّمنا" يعني وصل الأمر إلى أنّك أنت الذي تعلّمنا بالصلاة،"جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير مطر ولا سفر –وفي بعض الروايات- ولا مرض"، هذا الجمع ابن عباس - رضي الله عنه - كان محتاجاً إبّان إمارته على الكوفة أن يخطب في أمر مهم فقد تكون في اجتماع أو يكون الناس في اجتماع يتعلّق بأنفس النّاس مثل الأطباء يجتمعون في أمر مهمّ، فمن سماحة الشريعة أنّك تتركهم في اجتماعهم مثل ما اجتمع ابن عباس مع الناس في المسجد يتذاكرون أمر الأمة، حتى يبقى آخر الوقت فيقيمون لأنه يجوز للعبد أن يصلي الصلاة من أول وقتها إلى آخر وقتها مع عدم استثناء الشرع في أوقات الضرورة، فالشرع أعطاهم الخيار، لهذا الجمع لكن أن يصلوا في أول الوقت أفضل وإن كان عندهم عذر وأَخَّرُوا إلى آخر الوقت فلا بأس، فأخّر الصلاة إلى آخر وقتها - رضي الله عنه - فأقام، فصلّى الظهر ثم دخل وقت العصر فأقام فصلّى العصر - رضي الله عنه - وأرضاه، فقال له:"أتعلمنا بالصلاة لا أم لك، جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" فالصورة جمع لكن الحقيقة أن كل صلاة في وقتها، فالجمع هنا المراد به الجمع الصوري وليس جمعاً حقيقياً لأنك لو قلت المراد به الجمع الحقيقي من دون عذر أصبحت الصلوات(2/55)
ثلاثا، ما عليه إلا أن يجمع الظهر مع العصر يصليهما مع بعض، والمغرب والعشاء يصليهما مع بعض، والفجر لوحده صارت الصلوات لها ثلاثة أوقات، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طالب العلم لأن النصوص يعني تحتاج إلى ضوابط ومن هنا لما جاءت السنة في أمر المستحاضة وابن عباس فعل هذا لوما قال "أراد أن لا يحرج أمته"، ما معنى "أراد أن لا يحرج أمته"؟، لأن الناس لما يأتون في المسجد ويجلسون ويصلون الظهر ثم يقيمون ويصلون العصر جمعوا بين الصلاتين بغدوة وروحة واحدة، ذهبوا ذهاباً واحداً ورجعوا رجوعاً واحداً، لكن لو أنهم لم يجمعوا لذهبوا للظهر ثم رجعوا إلى بيوتهم ثم ذهبوا إلى العصر ثم رجعوا فحصل الحرج لهم، فقال - رضي الله عنه -:"أراد أن لا يحرج أمته"، بعناء الذهاب والمجيء وهذا نوع من المرونة فهنا يشرع في المرأة المستحاضة إذا قالت والله ما أستطيع أن أتوضاً لدخول وقت كل صلاة مثل أيام البرد وأيام المرض فمن سماحة الإسلام ومن سماحة الدين -والدين يسر- أن أعطاها هذا الحق أن تؤخر الصلاة إلى آخر وقتها ثم تتوضأ وتصلّي فيدخل وقت الثانية وتصلي هذا إذا شق عليها.
……
قال رحمه الله: ]وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي [.
…]وتتوضأ لوقت[ وهذا من دقة المصنف، ما قال تتوضأ لكل صلاة، لو قال تتوضأ لكل صلاة ممكن أن تتوضأ قبل الصلاة فتكون في حكم من توضأ للصلاة من أجلها، لكن لوقت كل صلاة أي أنها لا تتوضأ قبل دخول الوقت، والدليل على هذا قوله"توضّئي لكل صلاة".
…قال رحمه الله: ]وكذا حكم من به سلس البول ومن في معناه [.(2/56)
…الذي هو من به سلس البول يتقاطر بوله، نقول له إذا كان تحصل وقتاً يقول أنا يتقاطر معي في نصف الساعة الأولى من الوقت وبعد ذلك يمسك، نقول انتظر حتى يمسك وتصلي، قال أنا من عادتي أنني إذا قضيت حاجتي (فبال) تخرج قطرات البول بعض الأحيان تكون قطرات يسيرة هذا ليس بسلس، تستمر القطرات في حدود نصف ساعة ربع ساعة يقطر ثلاث قطرات مرتين، ثلاثا، نقول انتظر حتى تستتم وقد تقدم معنا، وأما إذا كان يستمر معه طيلة الوقت فهذا حكمه حكم المستحاضة على التفصيل الذي ذكرناه، ومن هنا فرق العلماء فيمن به سلس البول كالمرأة المستحاضة، فنص بعض الأئمة كالإمام النووي وغيره رحمه الله على أنه إذا كان من به سلس البول، بوله ضعيفا مثل كبير السن يضع القطنة في الإحليل وهو رأس الذكر في مجرى البول من رأس الذكر، وأما إذا كان شديداً قال يعصب رأس الذكر، وفي الحقيقة يرجع في هذا إلى الأطباء قال: الأطباء إن في عصب رأس الذكر ضررا لأنه يختلف الرجل عن المرأة، ومن هنا يفرّق فيه ويفصّل، إنما إذا أمكن حبس البول يحبس البول بالطريقة المعتبرة.
…قال رحمه الله: ]فإذا استمر بها الدم في الشهر الآخر فإن كانت معتادة فحيضها أيام عادتها[.
…إذا استمر معها الدم ثبت أن لها عادة خمسة أيام ثم في الشهر الرابع أو الخامس أو بعد سنة أو حملت ثم بعد الحمل اضطرب عندها دم الحيض، وهذا يقع لبعض النساء أنها تكون عادتها منضبطة ثم لما حملت ووضعت يضطرب عندها الحيض، اضطرب عندها دم الحيض فتردها إلى أيام عادتها، والدليل على هذا مت قدّمناه من حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها وأرضاها، وحديث أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها، وحديث المرأة المستحاضة وحديث أم حبيبة رضي الله عنهن أجمعين، فهذا كله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بالرجوع إلى العادة، وعلى ذلك يجب على المرأة أن ترجع إلى أيام عادتها.(2/57)
…قال رحمه الله: ]وإن لم تكن معتادة وكان لها تمييز وهو أن يكون بعض دمها أسود ثخينا وبعضها رقيقاً أحمر فحيضها زمن الأسود الثخين [.
…التمييز تمييز الشيء تفصيل بعضه من بعض، وعلى هذا تستطيع أن ترى في الدم صفات تعرف بها دم الحيض من دم الاستحاضة هذا اللون لون الدم، وصفة الدم من حيث الألم وعدمه، وصفة الدم من حيث الثخانة وعدمها، وبناءً على ذلك قالوا إنّ للتّمييز علاماتٍ وأماراتٍ تتوصّل المرأة من خلالها إلى معرفة دم الحيض من دم الاستحاضة، في الحقيقة من ناحية فقهية، التمييز له قوة لأنك ترجع المرأة إلى صفات في الشيء المشتبه، بخلاف العادة فإن العادة ظرف وزمان لدم الحيض، ومن هنا التمييز من القوة بمكان، لأنك تجعل المرأة تفصل دم الحيض عن غيره بصفة من الحيض نفسه، وليس هناك أقوى من صفة الشيء في ذاته، وعلى هذا فالدليل على اعتباره قوله عليه الصلاة والسلام في حديث السنن "إن دم الحيض دم أسود يُعرف"، لما قال "أسود" دل على علامة التمييز باللون، "يُعرف" أي ذا عرف ورائحته دل على تمييز الدم بالرائحة، ولذلك يتمييز الدم باللون والرائحة والغلظ والرقة والألم، والدليل أيضاً من السنة الصحيحة قوله عليه الصلاة والسلام "فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة"، ومعنى "أقبلت الحيضة" لابدّ من أنها تعرف إقبالها، لأن المرأة عندها علامات إذا رأتها حَكَمَت بأن الحيضة قد أقبلت، فأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إقبال الحيض بوجود علامات، مثل أن تقول لشخص إذا أقبل فلان وهو لا يعرف من هو فلان هل يصح هذا، لا يمكن، لا تقول لشخص إذا أقبل فلان إلا إذا كان يعرف من هو فلان، وعلى هذا قال لها:"إذا أقبلت الحيضة" فأخذوا منه وانتزعوا منه أن دم الحيض يميز باللون والرائحة والغلظ والرقة والألم، وأشار إليها بعض الفضلاء رحمهم الله بقوله:
باللّون والرّيح وبالتألمِ ……وكثرةٍ وقلةٍ ميز الدمِ(2/58)
وبعضهم يقول:"وغلظ ورقة ميز الدم"، فيميزون باللون طبعاً التمييز عندك اللون الأقوى هو الحيض والأضعف هو الاستحاضة، فإذا جرى معها خمسة أيام دم أسود شديد السواد ثم بعد ذلك أصبح أحمر فاتحاً إلى أن جاوز أكثر الحيض، فعلمت أن حيضها الخمسة الأول، جرى معها خمسة أيام أحمر ثم بعد ذلك أصبح ضعيف الحمرة أشهب الحمرة فحينئذ تحكم بأن الخمسة حيض والزائد استحاضة، جرى معها أحمر خمسة أيام ثم بعد ذلك ضرب إلى الصفرة أو إلى الكدرة هذا التمييز باللون، باللون وبالريح مثل أن يجرى معها خمسة أيام منتن الرائحة ثم انقطعت هذه الرائحة النتنة علمنا أن الخمسة حيض والزائد استحاضة، الألم جرى معها خمسة أيام تجد معه ألم الحيض، ثم انقطع الألم وأصبح يجري بدون ألم، فعلمنا أن الخمس حيض والباقي استحاضة، أيضاً الغلظ والرقة جرى معها خمسة أيام ثخيناً ثم الباقي جرى معها رقيقا لأنه في الألم والرائحة يكون اللون واحداً ينتبه طالب العلم لهذا، لأنه ممكن إذا أنت تقول إذا كان الأول دماً أقوى ثم يضعف تقول لك أبداً كله بلون واحد، ماذا تقول؟، تقول هل فيه ألم، تقول نعم الألم في الخمسة الأول، تقول إذاً ميّزي بالألم، إذاً تميز صفات الدم باللون فإذا كان اللون واحداً رجعت إلى الرائحة، قالت الرائحة واحدة إذا لا تستطيع أن تمير تمييز بالرائحة نقول بالغلظ والرقة، قالت كله واحد نقول إذاً بالألم، بالألم والغلظ والرقة والكثرة والقلة، هذه كلها علامات تميز بها المرأة دم الحيض، والنساء يعرفن ذلك فإنهن أعرف بحيضهن.
…قال رحمه الله: ]وإن كانت مبتدأة أو ناسية لعادتها ولا تمييز لها فحيضها من كل شهر ستة أيام أو سبعة [.(2/59)
…هذا الذي ذكرناه عندنا نوعان النوع الأول المبتداءة، كنا قد ذكرنا أن المرأة المبتدأة إن انقطع عنها الدم دون أكثر الحيض كله حيض، وإن جاوز أكثر الحيض تقول على صورتين: إما أن يجاوز بلون واحد دون تمييز أو يجاوز بتمييز، فإن كان بتمييز عملت بماذا؟، بالتمييز، لكن إن جاوز بدون تمييز رُدت إلى غالب حيض النساء ستاً أو سبعاً، ما الدليل؟، قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الترمذي الذي تقدم معنا حديث حمنة رضي الله عنها وأرضاها لما أشتكت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت:"إني اُستحاض حيضة شديدة إلى أن قال لها عليه الصلاة والسلام تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً"، فأمرها عليه الصلاة والسلام أن تتحيض غالب حيض النساء، وهذا يدل على أن المرأة المبتدأة أو المرأة الناسية لعادتها وتمييزها ترجع إلى غالب حيض النساء ستة أيام أو سبعة، قوله عليه الصلاة والسلام "ستاً أو سبعاً" بعض العلماء يقول إن المرأة تكون ما بين الست والسبع على قوة الدم وضعفه، فإنه ولو لم يكن تمييز نفس الدم يضعف دون الخمس فتلحقه بالست، ويزيد ويقوى فوق الست فترده إلى ست، وهذا معنى قوله "ستاً أو سبعاً"، إذا ضعف الدم وظهرت منه علامات الضعف فيما قل عن ستٍ ألحقناه بالست، فقلنا لها تحيضي ستاً، وإذا كان قوياً وضعف فيما فوق السبع رردناه إلى سبع فهي ما بين الست وما بين السبع، فقال لها:"تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً".(2/60)
هذا يدل على أن غالب حيض النساء ستة أيام أو سبعة أيام، والشريعة تعتبر الغالب وتسقط النادر لأن النادر لا حكم له، وعلى هذا نقول لها امكثي غالب حيض النساء ستة أيام ثم صلي أربعاً وعشرين يوماً وأنتِ طاهرة، ثم صلّى سبعة أيام في الصفة الثانية وصلي ثلاثاً وعشرين يوماً كما نص عليه الصلاة والسلام في حديث حمنة رضي الله عنها وأرضاها، هذا إذا كانت المرأة مبتدأة وجاوز أكثر الحيض دون تمييز ودون عادة طبعاً، أما إذا كانت ناسية فهذه مشكلة، امرأة تقول أنا كانت عندي عادة ونسيتها مثل - نسأل الله السلامة والعافية - ما يحدث لبعض النساء حوادث تفقد معها ذاكرتها تذهب في غيبوبة يصير عليها حادث تضّرّر فيه فتنسى، فلما قيل لها كم عادتكِ قالت أنا كانت عندي عادة ونسيتها، إذا قالت نسيت طبعاً ما عندها تمييز، وكانت لها عادة ونسيتها، ففي بعض الأحيان تنسى المرأة عدد العادة وزمان العادة (مكانها)، وتنسى العدد والمكان، وتارة تنسى العدد وتتذكر المكان، وتارة تتذكر العدد وتنسى المكان، فثلاث صور كيف مسألة العدد والمكان؟، أولاً المرأة لما يأتيها الحيض يأتيها مثلاً ستة أيام في أول الشهر القمري، ثم تمكث مثلاً بقيهّ شهرها طاهر، فإذا استقبلت الشهر أيضاً ستة أيام في أوله فدائماً عادتها من حيث العدد ستة أيام، من حيث المكان أول الشهر، هناك نوع ثانٍ من النساء تبدأ عادتها بالنصف الثاني من النصف الأول من الشهر، فتأتيها عادتها بعد العشرة الأيام الأولى من الشهر في الخمسة أيام، فإذا انتصف الشهر أنقطع عنها دم الحيض، فإذاً حيضها مكانه في النصف الثاني من النصف الأول من الشهر، وهناك نوع ثالث في أول النصف الثاني وذلك من اليوم الخامس عشر إلى العشرين، منتصف الشهر القمري تبدأ معها خمسة أيام إلى عشرين ثم تنقطع، وهناك نوع رابع من آخر الشهر، السؤال الآن تقول أنا نسيت العدد والمكان، إذا نسيت العدد والمكان نقولها تحيضي من بداية كل شهر ستة(2/61)
أيام، وصلي أربعة والعشرين يوماً أو إذا قوي سبعة أيام وصلي ثلاثة وعشرين يوماً، الدليل قوله "تحيضي في علم الله ستاً أو سبعاً".
هذا إذا كانت ناسية للعدد والمكان، نأمرها ببداية الشهر، طيب إذا كانت ناسية للعدد ذاكرة للمكان، تقول أنا ما أدري كم حيضي، ولكني أعرف أنني في بداية كل شهر أحيض تأتيني العادة، أو أعرف أنني في بداية النصف الثاني من الشهر أحيض، فحينئذ نقول لها إذا عرفتِ المكان وهو بداية الشهر تحيضي الست والسبع من البداية، وإن عرفتيه من منتصف الشهر تحيضي الست والسبع من منتصف الشهر، فلا نتدخل في المكان لأنها تذكره، وإنما نعطيها العدد وهو الذي تحتاج إليه لأنه هو الذي نسيته، والعكس إن قالت نسيت المكان وأعرف العدد نسيت المكان وأنا أعرف أنني أحيض عشرة أيام ولكني لا أدري نسيت هل هي من أول الشهر من أوسط الشهر هذه على الصورتين: أن تنسى كلية فنقول لها ابتدئي من أول الشهر على الصحيح، أو تحدد وتنسى التحديد في داخل الشهر، تقول مثلاً أنا أعلم أنها في النصف الأول ولكن لا أدري في أول أوله أو في النصف الثاني من أوله، فنقول أنتِ في الأول من النصف الذي شككتِ فيه، فإذاً إما أن تحدد إحدى النصفين وتنسى المكان من النصف نفسه فنأمرها بأوله، أو تنسى كلية فنأمرها بأول الشهر قطعاً، نقول لها أنتِ من أول الشهر وعلى هذا إذا نسيت العدد والمكان من أول الشهر ستاً أو سبعاً، نسيت المكان وتذكرت العدد نقولها من أول كل شهر ما لم تكن محددة لنصف أوله النصف الأول أو النصف الثاني فنأمرها بأول النصفين إن شكت في مكانها من النصفين، وأما إذا كانت قد نسيت العدد وعلمت المكان فنقول لها عليكِ بالست أو السبع التي هي غالب حيض النساء هذا بالنسبة للمرأة الناسية هذه يقولون لها المتحيرة، وفيها بدون مبالغة أكثر من ثلاثين صورة، لو ندخل فيها يمكن يَذْهب الأول والآخر والتالي، ألف فيها بعض العلماء كتاباً ((أحكام المتحيرة))، وقيل(2/62)
متحيّرة لأنها متحيرة في نفسها محيّرة أيضاً للعلماء رحمهم الله، لكن دعونا من الحيرة ونأخذ هذا الشيء الذي هو غالب حيض النساء، وعلى طالب العلم أن يضبط هذه الأصول ثم بعد ذلك سيفتح الله عليه وهو خير الفاتحين.
…قال رحمه الله: ]لأنه غالب عادة النساء [.
…تعليل ]لأنه غالب عادة النساء[ والواقع لأنه ثبتت السنة به واعتبرت السنة غالب حيض النساء.
…قال رحمه الله: ]والحامل لا تحيض إلا أن ترى الدم قبل ولادتها بيوم أو يومين فيكون دم نفاس[.
…]والحامل لا تحيض[ وذلك "لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن وطء المسبية إذا كانت حاملاً حتى تضع، وإذا كانت غير حامل حتى تستبرأ"، وهذا الحديث حسن بعض العلماء وصحح بعض الأئمة جعله صحيحاً لغيره وهو يدل على أن الحامل لا تحيض، لأن الأصل الاستبراء بالحيض، فلما انتقل إلى الحمل دل على أنه ينقطع، وفيه أثر عن بن عباس وغيره من الصحابة قالوا:"إن المرأة إذا حملت رفع الله عنها حيضها"، وفُسر قوله : { وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ } بأنه ارتفاع الحيض كما ورد عن بن عباس رضي الله عنهما، وقال بعض العلماء إنها تغيظ لأنه ينقلب غذاءً للطفل، وقالوا في قوله تعالى : { وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ } -قالوا فحاضت- { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } ، قالوا إن الحيض استفتاح للحمل، ولا يجتمع الحيض مع الحمل لأنه هو طريق الحمل تحمل عن طريقه لأنه تكون منه البويضة ويتخلق من تلك البويضة الجنين من ماء الرجل وماء المرأة، وعلى كل حال الصحيح أن المرأة الحامل لا تحيض، وإذا كانت لا تحيض فمعنى ذلك أن المرأة إذا حملت ورأت دماً فهو دم استحاضة، لا يمنع من الصوم ولا يمنع من الصلاة وحكمها حكم الطاهرة وتُلزم بالطهارة على التفصيل الذي تقدم معنا.(2/63)
…قال رحمه الله: ]إلا أن ترى الدم قبل الولادة بيوم أو يومين[ وهو الدم الذي يسبق الولادة، قال بعض العلماء استحاضة على الأصل، وقال بعضهم ما قارب الشيء أخذ حكمه فربما انفجر قبل الولادة، وهو في الحقيقة مستتبع للولادة فبناءً على ذلك تعطيه حكم النفاس.
…فائدة الخلاف انه مثلاً لو قلنا إن الدم قبل الولادة بيوم أو يومين دم نفاس ومكثت ستين يوماً أو أربعين يوماً يجري معها دم النفاس بعد الولادة أربعين يوماً، فحينئذ تحكم طبعاً الأربعين يوما بعد النفاس تحكم بأنها قد خرجت من النفاس في اليوم الثامن والثلاثين، بناءً على أنه سبق يومان من أيام النفاس للنفاس، وإن قلنا إنها لا تحتسب فتخرج في اليوم الأربعين من نفاسها على القول بالاعتداد به أو عدم الاعتداد به والله تعالى أعلم.
@ @ @ @ @ الأسئلة @ @ @ @ @
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ: هل تعتبر الكدرة والصفرة بعد انقطاع الدم حيضاً؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :
بسم الله الحمد لله،والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد.(2/64)
فالصفرة هي الماء الأصفر الذي يخرج من دم المرأة بعض الأحيان يقارب القيح (أشبه بالقيح)، والكدرة الماء الأكدر الذي يكون مثل الماء المشوب وكلاهما حيض إن كان في زمن الحيض، واستحاضة إن كان بعد الطهر وفي غير زمن الحيض، ولذلك قالت أم عطية رضي الله عنها:"كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئاً" إذا كانت في غير زمن الحيض"، وفي رواية السنن "كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً"، وجاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قال:"حينما كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض، تقول انتظرن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء"، فألحقت الصفرة والكدرة بدم الحيض وهي أعرف من أمهات المؤمنين بمسائل الحيض وأحكامه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع مالها رضي الله عنها من الفقه، كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجعون إليها رضي الله عنها وأرضاها في هذه المسائل وأشباهها، وعلى هذا التفصيل في هذه المسألة هو أولى بالصواب والحق إن شاء الله تعالى.
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ: امرأة كانت تحيض وهي بكر ثمانية أيام، ثم لما تزوجت صارت تحيض ستة أيام، فهل الستة صارت عادة لها ونقول إنها معتادة أم ماذا؟، وجزاكم الله خيراً.
الجواب :(2/65)
المرأة المعتادة تنتقل من الأقل إلى الأكثر ومن الأكثر إلى الأقل، فهي معتادة ستة أيام ثم إذا زادت يوماً سابعاً في الشهر مثلاً مكثت سنتين تعتد بالستة الأيام ثم فجأة زادت يوماً في شهر محرم، ثم زادت في صفر يوماً صارت سبعة أيام، ثم زادت في ربيع يوماً فأصبحت منتقلة من الأقل إلى الأكثر (السبعة)، عند من يقول بالثلاثة الأشهر أو بالشهرين على التفصيل الذي تقدم معنا، وكذلك العكس لو أنها كانت تعتد خمسة أيام فأصبحت أربعة أيام ثم الشهر الثاني أربعة أيام ثم الشهر الثالث أربعة أيام حكمنا بانتقالها إلى النقص، لكن الفرق بين النقص والزيادة أن الزيادة في الشهر الأول تعتبر نفسها طاهر، ولكن في الشهر الثاني يتبين أنه حيض فتقضي اليوم إن كانت قد صامت والله تعالى أعلم.
في الحقيقة يا إخوان هناك أمر نحب أن نذكر به وأوصي به نفسي وإخواني من طلبة العلم وإخواني المسلمين عموماً، فالأصل الواجب على المسلمين أنه إذا نزلت بهم النوازل أو حلت بهم الكربات أن يرجعوا إلى أهل العلم، وأن يستبينوا الأمر بنصوص الكتاب والسنة، ولا شك أن المسلمين يعيشون أموراً وفتناً عظيمة لا يعلمها إلا الله - عز وجل -، ولا منجى ولا ملجأ من هذه الفتن إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصى بهما، ولا يمكن للعبد أن يستقيم له أمر دينه ودنياه وآخرته إلا بهذا الأصل، كل ما نزل به أمر رجع إلى حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام في الكتاب والسنة، والتزم ذلك ولم يغير ولم يبدل، وقد نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته فتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن هنا أوصي بأمور:(2/66)
…أولها وأساسها وأعظمها وفاتحة كل خير فيها تقوى الله، فمن اّتقى الله جعل له من كل هم فرجا، ومن كلّ ضيق مخرجا، ومن اّتقى الله جعل له فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً } ، هذا وعد من الله - عز وجل -.
أما الأمر الثاني فهذه الأحداث والمصائب التي حلت بالمسلمين أمورها مختلطة وغير واضحة المعالم إلى الآن، فأوصي كل مسلم بتقوى الله وان يكف لسانه عن ما لا يعلم حقيقته، فأصول الشرع في كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - تنهى المسلم أن يخوض في رجم الغيب، وأن يخوض في شيء لم يستبنه ولم يكن على بينة من أمره حتى يتّضح، إذا اتضح تكلّم عن علم، لأن الكلام في الأشياء شهادة والله يقول : { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } ، وقال: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ، فالشيء الذي لا تعرف حقيقته لا تخض فيه، وخاصة إذا كانت القضية بين المسلمين وغير المسلمين لأنها قضايا حسّاسة لا يُنظر إليك كزيد أو عمر ولكن ينظر إليك كإسلام وكمسلم، فالواجب على الإنسان أن يتحفّظ وأن يحفظ لسانه وأن لا يتكلم إلا عن بيّنة وعلم.(2/67)
…الشيء الثالث في خضمّ الفتن يحرص أعداء الإسلام على تشتيت كلمة المسلمين وتفريق جمعهم، والنصوص دائماً تدل على أنه ينبغي على المسلمين أن يكونوا - كما أمر الله - إخوانا يحب بعضهم لبعض ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وهذا واجب الأخوّة الذي علمنا الله من فوق سبع سماوات، وأمرنا الله - عز وجل - بأمور لا شك أن الأمة إذا حافظت عليها لم يتمكّن عدو من اختراقها، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا باجتماع الكلمة، واتحاد الصفوف، وعدم السماح لأعداء الإسلام أن ينفذوا بين أفراد الأمة، ولذلك وصّت نصوص السنة الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمرين هامين، لا ينبغي للمسلم أن يتساهل فيهما، أو يقبل تشويش المشوشين فيهما، أولهما لزوم الجماعة، والثاني السمع والطاعة لولاة الأمر، هاذان الأمران دلت عليهما الأدلة الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مناص للمسلم ولا نجاة للمسلمين في الفتن إلا بتحقيق هاذين الأمرين، الحرص على جماعة المسلمين لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بلزوم الجماعة وقال:"إن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"، فمن لزم جماعة المسلمين حفظ الله له دينه، وحفظه الله - عز وجل - من الفتن وحفظه الله أن يتخبّطه شياطين الإنس والجن إلى ما لا تحمد عقباه، وانظر إلى كوارث المسلمين ومصائبها تجدها في كثير من الأحيان بالشذوذ عن الجماعة، يخرج الرجل عن جماعة المسلمين ولن يخرج إلا بغرور، فينظر خطأ غيره ويحتقر غيره حتى والعياذ بالله يستجريه الشيطان فيخرج عن جماعة المسلمين فيضل ويضل به والعياذ بالله، فإياك والشذوذ عن جماعة المسلمين، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -:"الزم إمامهم"، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابي حينما سأله قال:"عليك بجماعة المسلمين وإمامهم"، فأمره بلزوم الجماعة والإمام، ونحن والله لا نجامل أحداً وليعلم كل أحد أن أهل العلم مسئولون أمام الله عمّا يقولون،(2/68)
والذي عرفناه عن ولاة الأمر في هذا البلد أنهم يحكمون شرع الله - عز وجل - وأنهم نصروا هذا الدين في مواطن عديدة ووقفوا مع الإسلام والمسلمين فَقَلَّ أن تكون كارثة أو مصيبة للمسلمين إلا كانوا أسرع الناس إليها، وأحوالهم في هذا واضحة ووقفاتهم مع المسلمين ظاهرة، وخدمتهم لأهل العلم وطلاب العلم انظر كيف طلاب العلم يأتون من شتى بقاع الدنيا لطلب العلم في بلاد الحرمين والتزوّد بالكتاب والسنة ويجدون من يعينهم ويهيأ لهم ذلك، ومع هذا تجد في بعض البلاد لن يستطيع الرجل أن يدخل مسجداً من الخوف على دينه، فهذه النصرة للإسلام ليست عبثاً ولا يجوز للمسلم أن ينسى فضل أهل الفضل، ولا يجوز للمسلم أن يكون كفوراً للنعمة، ولا يجوز أن يكون مصغياً لأهل الهوى ومن في نفسه ضعف ومرض، علينا أن نتقى الله ونكون منصفين، ونحن والله لا نجامل أحداً لكن الحق مر والإنصاف عزيز والشّكر لمجانسته لما قبله وجيز الإنصاف عزيز والذي يشكر يشكر شكراً وجيزاً، لكن هم لا يحتاجون إلى أحد لأننا نعرف عنهم ولا نزكّيهم على الله - عز وجل - أنهم ترسّموا منهجاً واضحاً في نصرة الكتاب والسنة ونصرة العقيدة، وهذا مبدأ لهم عرف من أحوالهم وأحوال أسلافهم فمن نصرهم في دين الله - عز وجل - فهو حري بالنصرة والتوفيق من الله - عز وجل -، وثقوا ثقة تامة أن أهل الحق لهم عند ولاة الأمر في هذا البلد من التقدير والاحترام والمحبة فقابلوا هذا بمثله وأكثر، وهم ليسوا بحاجة إلا إلى الله - عز وجل -، كما أنكم أنتم لستم بحاجة إلا إلى الله، فنحن نتواص باجتماع الكلمة، وعدم فتح الباب لأعداء الإسلام أن ينفذوا إلينا، وأن يطعن بعضنا في بعض، وأن يدخل من لا خير فيه بين المسلمين يشككهم حتى يكون الوهن والخور ولذلك قال الله تعالى : { وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم } ، فقوة المسلمين في اجتماع كلمتهم، والإنصاف الإنصاف ثم لزوم جماعة المسلمين ولزوم أولياء أمور(2/69)
المسلمين خير كثير للعبد في دينه ودنياه وآخرته، وسلامة له من الفتن، وعلى كل حال هذه الوصية أوصيكم بها ونفسي بعد تقوى الله - عز وجل -، وفيها إن شاء الله الخير لنا وللمسلمين، والحذر من الخوض في أمور لا يعلم الإنسان حقيقتها، فإنه ما من إنسان يتكلّم في أمر حتى ولو كان مع الأعداء إلا وسيحاسبه الله على قوله، { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، ولذلك ينبغي للإنسان أن يتريث وأن ينتظر فلابد لليل من فجر، وإن غداً لناظره لقريب، والفتن كما يقول بعض الحكماء والعلماء الفتن حصاد المنافقين وحصاد المرجفين وحصاد المغالطين وحصاد المضلين والعياذ بالله، يتكلمون ويخوضون ويرجفون ولكن لا يبقى إلا الحق، وقد عهدنا ولله الحمد من توفيق الله - عز وجل - لهذا البلد من حفظه ورعايته فكم من فتن تزلزلت بها القلوب ولكن الله ثبت أهل الحق على الحق، وقواهم وسددهم وشد من أزرهم، ولذلك ينبغي للمسلم أن يضع هذه الحقائق في نصب عينيه وسنة الله لا تتبدّل ولا تتحوّل، ومع ذلك أوصيكم بالدعاء لإخوانكم المسلمين والاجتهاد في هذا الدعاء، واعلموا أن الله - جل جلاله - آخذ بمقاليد الأمور كلّها، وأنّ أزمَّةَ الأمور كلّها بيد جبار السماوات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية، وقد قال سبحانه وقوله الحق { لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } ، وقال - سبحانه وتعالى -: { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، فليضع المسلم الموفَّق آيات الكتاب وأحاديث السنة نصب عينيه فسيجد حقاً ظاهرا واجتهدوا في الدعاء لإخوانكم المسلمين ما استطعتم في مشارق الأرض ومغاربها أن يفرج الله عنهم الغمة والكرب، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تفرج عن المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم ارفع عن الإسلام والمسلمين ما أصابهم،(2/70)
اللهم ارفع عنهم الهم والغم والحزن والكرب والذل يا جبار السماوات والأرض يا سميع الدعاء، اللهم اجعل لهم من كلّ هم فرجا ومن كلّ ضيقٍ مخرجا ومن كلّ بلاء عافية، اللهم ثبّت أقدامنا على الحق وسدّد سهامنا وصوّب آرائنا واجمع شملنا واكبت عدوّنا يا حيّ يا قيّوم سبحان ربك رب العزّة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
الدرس الحادي والعشرين مفقود
كتاب الصلاة ، وباب الأذان والإقامة
من شريط 22 الى 35
باب الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
…قال الإمام المصنّف رحمه الله تعالى: ]كتاب الصلاة [.
الشرح:-
…بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
…أمّا بعد.
…فيقول المصنّف رحمه الله: ]كتاب الصلاة[، تقدّم معنا تعريف الكتاب وأنّ العلماء رحمهم الله لا يذكرون هذا المصطلح إلاّ إذا كانت المادّة العلميّة واسعة كثيرة، ومن هنا يضطرّون إلى تقسيمه إلى أبواب وفصول ومباحث, وقوله رحمه الله ]كتاب الصلاة[، الصلاة في اللغة تطلق على معانٍ، يقال صلّى إذا دعا ومنه قوله تعالى: { `?S???Y? ??X?Y?.Wé`?KV… ^àWTI??W² ??S?S£QX?V¹ST? ?X?~PY{W¥ST?Wè †W?Y? QXOW²Wè &??X?`~V?W? } ، أي ادع لهم، وفي السنّة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنّه كان إذا جاءه الرجل بزكاته دعا له وصلّى عليه صلوات الله وسلامه عليه"، ومن إطلاق الصلاة بمعنى الدعاء قول الشاعر:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا
عليك مثل الذي صليت واغتمضي ... ... يا رب جنّب أبي الأوصاب والوجعا
عينا فإنّ لجنب المرء مضطجعا
…فهي تقول (يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا) فهذا دعاء, فقال: (عليكِ مثل الذي صلّيت)ِ، أي دعوت به، وتطلق الصلاة على معنى الرحمة، ومنه صلاة الله - عز وجل - على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - وعلى عبده فإنّها رحمته، ومنه قول الشاعر:(2/71)
صلّى المليك على امرئٍ ودّعته……وأتمّ نعمته عليه وزادها
أي رحمه، وتطلق الصلاة على معنى البركة والزيادة والنماء, ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: "اللّهمّ صلِّ على آل أبي أوفى" أي بارك لهم.
وأما الصلاة في اصطلاح العلماء رحمهم الله فهي عبادة ذات أقوالٍ وأفعالٍ مخصوصة، مُفتتحةٌ بالتكبير مُختتمةٌ بالتسليم، هذه العبادة ذات الأقوال والأفعال، الأقوال من التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن، والتشهّد، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث معاوية ابن الحكم رضي الله عنه: "إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنّما هو التسبيح وقراءة القرآن وذكر الله"، وقولهم: مُفتتحةٌ بالتكبير المراد به تكبيرة الإحرام، لأنّ الصلاة لا تُفتتح بغير تكبيرة الإحرام، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم".(2/72)
وقول المصنّف رحمه الله ]كتاب الصلاة[ أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الّتي تتعلّق بهذه العبادة أعني عبادة الصلاة، ومن عادة العلماء رحمهم الله أنّهم يذكرون كتاب الصلاة بعد كتاب الطهارة، وهذا منهج كثير من أئمّة الحديث والفقه رحمهم الله، أنّهم يبتدئون بالطهارة لأنها وسيلة إلى الصلاة وقد سبق الكلام على ذلك، ولأنّ الله أمر بالطهارة قبل الصلاة، فقال: { †W?QST?KV†H;TTWT? fUT?Y?PV?@… N…;éS?W?…ƒ? …W¢XM… `yST?`USTI ?V?XM… Y?léV?UfT±?@… N…éR?Y©<ç?@†WTE ??R?W?éS–Sè ??R?W?Y?`T?VK…Wè } ، أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، فيبتدئون ببيان أحكام الطهارة، من وضوءٍ وغسل ٍوتيمّمٍ وبيانٍ لنواقض الوضوء ونواقض الغسل وغير ذلك من أحكام الحيض والنفاس، ثم بعد ذلك يبيّنون أحكام الصلاة، ومن أهل العلم من استفتح بكتاب الصلاة، وبدءً بمواقيت الصلاة كما هو صنيع بعض أئمّة السلف كالإمام أبي عبد الله مالك ابن أنس رحمه الله في كتابه الموطّأ، ولا مشاحة كلا الاصطلاحين وكلا المنهجين له وجه، وإذا ذكروا كتاب الصلاة فإنّهم يعتنون ببيان أحكام الصلاة مفروضةً ونافلة وهو ما يسمّونه بصلاة التطوّع، ويذكرون في كتاب الصلاة المقدّمات المتعلّقة بالصلاة في كتب الفقه، من بيان حكم الصلاة ووجوبها وعلى من تجب، وبعد ذلك يبيّنون المقدّمات المتعلّقة بالشرائط التي أمر الشرع بتحصيلها، من سترٍ للعورة، واستقبالٍ للقبلة، واستحضارٍ للنية ونحو ذلك من الشروط، ثم بعد ذلك يبيّنون أحكام الأذان والإقامة، ومنهم من يُقدِّم الأذان والإقامة على الشروط، وبعد بيان هذه المقدّمات يبيّنون صفة الصلاة، سواءً في ذلك الأركان والواجبات والسنن والمستحبّات، وبعد أن ينتهوا من صفة الصلاة كاملةً تامة، يبيّنون أحكام الواجب منها وغير الواجب، ببيان الأركان والواجبات، فإذا فرغوا من بيان صفة الصلاة وبيان ما يجب من أقوالها وأفعالها وما لا يجب شرعوا في(2/73)
بيان الجبر، وذلك ببيان أحكام سجود السهو، ثم بعد ذلك يتطرّقون لصلاة الجماعة والإمامة وأحكام الإمامة ثم يتكلمون على ما تشترط له الجماعة من صلاة الجمعة وما تكون له الجماعة تطوّعاً ونافلةً ما تشرع له الجماعة كصلاة التراويح وصلاة الخسوف والكسوف والاستسقاء والعيدين على القول بعدم فرضيّتها، ثم بعد ذلك يبيّنون ويتبعون بصلاة الأحوال كصلاة الخوف والجمع في السفر ثم يختمون بأحكام الجنائز، هذا ما سيدرج عليه المصنّف رحمه الله، وبهذا تكمل مادّة الصلاة فريضةً ونافلة، ومادّة الصلاة في مقدّماتها وصفاتها وجبر نواقصها، وقد اعتنى المصنّف رحمه الله بأمرين في كتابه العمدة، الأمر الأول استيعاب الأبواب المهمّة في كتاب الصلاة، والأمر الثاني مراعاة الاختصار، لأنّ هذا الكتاب الذي هو العمدة من أخصر المختصرات، ولقد وُفقِّ رحمه الله توفيقاً عظيماً في هذا الاختصار والاستيعاب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(2/74)
يقول رحمه الله: ]كتاب الصلاة[، الصلاة شعيرة من شعائر الإسلام، وركن من أركانه الجليلة العِظام، فرضها الله - سبحانه وتعالى - على أهل الإسلام وجعلها صلة بينه وبين عباده، قيل سمّيت بذلك من وصف العرب في السباق للثاني بُالمصلِّي وهو الذي يأتي عقيب الأوّل، قالوا لأنّ الصلاة عقيب الشهادتين، ولذلك عُظِّم أمر هذا الركن، ومن الدلائل على تعظيمه أنّ الله - سبحانه وتعالى - فرضها مباشرة على نبيّه دون أن تكون هناك واسطة، فخاطبه بها مباشرة ولم يوحِ إليه بفرضيّتها بواسطة كبقيّة الشرائع، وإنمّا أسري به بأبي وأمّي صلوات الله وسلامه عليه، ثم عرج به إلى السماوات العلى، فأمره الله - عز وجل - بخمسين صلاة فراجع ربّه في قصّته مع موسى الثابتة في الصحيحين من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه، "فمازال يراجع ربّه حتّى بلغ الخمس، قال له موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف فإنّ أمتك لا تطيق ذلك، فرجع إلى ربّه وسأله التخفيف حتى بلغت خمساً"، فقال الله - عز وجل -: "هي خمسٌ وهنّ خمسون"، وهنا وقفة إنّ قوله "هن خمسُ وهنّ خمسون"، ليس المراد أنّ الحسنة بعشر أمثالها لا، وإنّما المراد أنّ من صلّى هذه الخمس كمن صلّى خمسين صلاة، ثم يعطى على كلّ صلاة مضاعفته فضلاً من الله - عز وجل - وكرماً، لأنّه إذا كان المراد به أنّ الصلاة بعشر أمثالها فهذا أصل في المضاعفة لا يحتاج إلى تنبيه، ولذلك قَرَّرّ الأئمّة رحمهم الله أنّها خمسون ويعطى أجر خمسين صلاة كأنّه صلّى خمسين صلاة فضلاً من الله - عز وجل -، ففضّلها الله بالفرضيّة المباشرة، ثم فضّلها الله بالفرضيّة من فوق سبع سماوات في ذلك المقام العظيم، بعد أن وقف جبريل عند سدرة المنتهى وقال: هذا مقامي، فأمضي لوجهك لنبيّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فخاطبه الله - عز وجل - بفرضيّة الصلاة في ذلك المكان المفضّل المشرّف المكرّم، وحاز فضيلة الوقت لأنّ تلك الليلة كما يقول بعض العلماء هي من أفضل(2/75)
اللّيالي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهل هناك ليلة أعظم من أن يقف صلوات الله وسلامه عليه فوق أطباق السماوات العُلا يخاطبه الله - عز وجل - ليس بينه وبينه واسطة، ولذلك نصّ بعض العلماء أنّها أفضل الليالي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ إنّ الله - عز وجل - جعل فرضيّتها لا تختصّ بهذه الأمّة، فالصلاة مفروضة على من قبلنا، ولفضلها وشرفها فُرضت على الشرائع، حتّى إنّ أنبياء الله سألوا الله أن يعينهم عليها، فقال الله عن خليله عليه الصلاة والسلام: { ?? ‡WO?Y?<?W?`–@… ?y~Y?S? Y?léV?J?±?@… ?Y?Wè &?YT?QWT?XQOS¢ } ، وقال عن نبيّه عيسى عليه الصلاة والسلام: { ?Y?HTW²`èVK…Wè Y?léV?J?±?@†YT? Y?léW{QW¥?@…Wè †W? ?Œ`?S †^QT~TW? } ، فهي لا تختصّ بأهل الإسلام إنمّا هي مفروضة على المسلمين وغيرهم، وجعلها الله - عز وجل - صلة بين العبد وبين ربّه، فمن حفظها وحافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنّة، وما من عبد يُقيم حقوقها وواجباتها على الوجه الذي أمره الله إلاّ صعدت إلى السماء وعليها نور ففُتِّحَت لها أبواب السماوات حتى تنتهي وتصعد وتعرج حتى تنتهي إلى ما شاء الله تنتهي إليه فتشفع لصاحبها وتقول حفظك الله كما حفِظتني.
…يقول رحمه الله: ]كتاب الصلاة[، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلّق بكتاب الصلاة.
…قال رحمه الله: ]روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلواتٍ كتبهنّ الله على العباد في اليوم واللّيلة، فمن حافظ عليهنّ كان له عهد عند الله أن يدخله الجنّة، ومن لم يحافظ عليهنّ لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له"[.(2/76)
…هذا الحديث الشريف عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه استفتح به المصنّف رحمه الله كتاب الصلاة، وهذه ميزة من مميزات كتاب العمدة أنّه يعتني بذكر أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصّحّاح والسنن، استفتح المصنّف رحمه الله بهذا الحديث لأنّه يدلّ على فرضيّة الصلاة ووجوبها وعظيم فضلها أيضاً، ومن عادة العلماء أنّ بيان الفضل يبيّن أهميّة الشيء، وقوله عليه الصلاة والسلام: "خمس صلوات" فيه دليل على أن الذي فرضه الله من الصلوات خمس، ومن هنا قال بعض العلماء بعدم وجوب صلاة العيدين والاستسقاء والخسوف والكسوف؛ لأنّ الذي فرضه الله خمس، واستدلّ به الجمهور على الإمام أبى حنيفة رحمة الله على الجميع على أنّ الوتر ليس بواجب، وذلك أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس صلوات"، ولو كان الوتر واجباً لكانت ستّاً، ونصّ عليه الصلاة والسلام على أنّها خمس فدلّ على أنّه لا يجب غيرها من الصلوات، وفي الوتر استدلال الجمهور صحيح وقوي، ولكن بالنسبة لإسقاطهم للوجوب في مسألة صلاة العيدين وغيرها مثل صلاة الكسوف والخسوف ففيها أوامر، ففي صلاة الخسوف والكسوف “إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده لا ينخسفان ولا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فصلّوا"، وهذا أمر وهذا الأمر لا يمنع من أن نقول بوجوب صلاة الكسوف لأنهّا لعارض، وحديثنا حديث عبادة المطّرد يعني اليومي، وما كان واجباً اطّراداً لا يمنع وجوب ما يجب لعارض ولسبب مخصوص فلا تعارض بين هذه الأوامر، هذا من الأجوبة التي يُجاب عنها عند من يقول بوجوب الصلوات من العيدين والاستسقاء ونحوها، وقوله عليه الصلاة والسلام: "كتبهنّ" أي فرضهنّ، وقوله "خمس صلوات" أجمل عليه الصلاة والسلام لعلم المخاطب بها، وهي صلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقوله عليه الصلاة والسلام "في اليوم والليلة" هذا من فضل الصلاة لأنّ الله فرض فرائض(2/77)
تكون في العمر مرّة كالحج وتكون في الحول مرة كالصوم والزكاة، وتكون في الحول مرّة في الصوم على العباد عموماً من توفّرت فيه شروط الصوم، والزكاة لمن ملك المال لسبب، ومنها ما يكون مطّرداً في كلّ يوم، فالصلاة من الفرائض ومن الأركان الواجبة يوميّاً، ومن هنا فُضّلت على بقيّة الأركان الثلاثة الباقية من هذا الوجه لأنهّا تجب يوميّاً.
وقوله عليه الصلاة والسلام "فمن حافظ عليهن كان له عند الله عهد"، المحافظة على الصلاة أولاً محافظة على شرائطها بالطّهارة كما أمر الله - عز وجل - من تطهير الثوب والبدن والمكان، وستر العورة واستقبال القبلة، واستحضار النّيّة، والقيام بالحقوق والواجبات الّتي أُمر بها قبل الصلاة، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء"، في بعض الروايات وفي بعضها "استقبل القبلة" فأمره بما يجب للصلاة، ثم من المحافظة عليها القيام بأركانها وواجباتها، وتتمّ المحافظة والإقامة بتحصيل السنن المحفوظة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأولى الناس بالمحافظة في صلاتهم من صلّى كما صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو يترسّم هدي النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاته فهذا أتمّ ما يكون في المحافظة، "كان له عند الله عهد أن يدخله الجنّة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له"، فيه دليل للجمهور على أنّ ترك الصلاة تساهلاً لا يقتضي الكفر مباشرة، لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جعله تحت المشيئة ومن هنا حُمل قوله "من لم يحافظ" أي صلّى بعضاً وترك بعضاً وهذا مذهب الجمهور رحمهم الله، وأُجيب بأن المحافظة المراد بها في الأركان والواجبات، وردّ هذا الجواب بالحديث الصّحيح "أول ما يحاسب به العبد من عمله الصلاة فإن صلحت صلح عمله، وإن انتقص منها شيئاً قال الله لملائكته انظروا هل لعبدي من تطوّع"، فجبر النقص فيها، وفي(2/78)
استفتاح المصنّف رحمه الله بهذا الحديث إشارة إلى الحكم وسيبني على ما تضمّنه الحديث من دلالة الأحكام بوجوب الصلاة وفرضيّتها.
…قال رحمه الله: ]فالصلوات الخمس واجبة على كلّ مسلم بالغ عاقل[.
…]فالصلوات الخمس[ التي ذكرناها، ]واجبة[ أي مفروضة، فرضيّة الصلاة ثابتة بدليل الكتاب والسنّة والإجماع، أمّا دليل الكتاب فقوله تعالى: { SO`T?@… :†W? ƒ?Y?èRK… ??`~TV?MX… fUY? gˆHTWT?Y?<?@… gyYYIVK…Wè W$?léV?J?±?@… } ، فأمر بإقامتها، قال تعالى: { QWUMX… W?léV?UfTT±?@… pŒWT?†V? ?V?W? fûkY?Y?`ëSU<?@… †_‰HTWT?Y? †_T?éSTI`éQW? (103) } ، فقوله } yYYIVK…Wè { أمر والأمر للوجوب، وقوله { QWUMX… W?léV?UfTT±?@… pŒWT?†V? ?V?W? fûkY?Y?`ëSU<?@… †_‰HTWT?Y? †_T?éSTI`éQW? (103) } فهذا فيه إلزام بالصّلاة في مواقيتها، ودلّت السنّة أيضاً على هذا المعنى من فرضيّة الصلاة وذلك في الأحاديث الصحيحة، ومنها ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بنُي الإسلام على خمس، شهادة أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا"، فبيّن أنّها ركن من أركان الإسلام، وفي الصحيحين من حديث معاذ ابن جبل رضي الله عنه أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة"، فهذا يدلّ على فرضيّة الصلاة، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وأمّا دليل الإجماع فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنّ الصلاة فريضة من فرائض الإسلام وأنهّا ركن من أركانه، ولذلك قالوا إنّ فرضيّة الصلاة معلومة من الدين بالضرورة، فهي من الفرائض المحتّمة اللازمة.(2/79)
…]واجبة على كلّ مسلم[، خرج بهذا الكافر، وجوبها على المسلم؛ لأنّ الله خاطب بها المسلمين وقال لنبيّه: { أقم الصلاة } والأمر لنبيّ أمر لأمّته عليه الصلاة والسلام من بعده، وفي قوله ]على كلّ مسلم[ هذا أصل، الإجماع قائم على أنّ المسلمين مخاطبون بها واُختلف في الكفّار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أو لا والمسألة معروفة في الأصول وهي كما قال بعض الأئمّة: طويلة الذيل قليلة النيل، فكلّهم متّفقون على أنّه لا يخاطب بالصّلاة إلاّ بعد الإتيان بأصل الإسلام الذي لا تصحّ الصلاة بدونه وهو الشهادتان.
وقوله ]على كلّ مسلم بالغٍ عاقل[ أي مكلّف، البلوغ أصله الوصول، والبلوغ صفة في الشخص ينتقل بها من طور الصّبا إلى طور الحُلم، وإذا انتقل إلى طور الحُلم صار مكلّفاً، وهذا ما عناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم الصبيّ حتى يحتلم"، فجعل الطور طورين طور صبا وطور حُلم، وجعل تكليفه في الحُلم وأسقطه في الصبا، فينتقل الإنسان بهذه الصفة إلى مرتبة التكليف، والبالغ مُجمع على فرضيّة الصلاة عليه ولكن الصبيّ ينقسم إلى قسمين إمّا أن يكون مُميّزاً وهو من له سبع سنوات فيُأمر بالصلاة ولا يضرب على تركها، يُأمر استئناساً وتعليماً وإرشاداً إلى أن يبلغ العاشرة فإذا بلغ العاشرة ضُرب عليها، قال - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث السنن: "مروا أولادكم للصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر"، فالصبيّ يُضرب على الصلاة إذا بلغ عشر سنين، ومن كان دون السبع لا يؤمر ومن بلغ السبع يؤمر ولا يُضرب ما لم يبلغ العشر، فإذا بلغ العشر ضُرب عليها.(2/80)
…وقوله ]عاقل[، أي غير مجنون فالإجماع منعقد على أنّ المجنون غير مكلّف، لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "رُفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم المجنون حتّى يفيق"، كما في حديث عليٍ وعائشة في السنن وهو حديثٌ صحيح، فدلّ على أنّ المجنون لا تجب عليه الصلاة، وهاذان الشرطان هما شرطا التكلّيف البلوغ والعقل.
وكلّ تكلّيف بشرط العقلِ……مع البلوغِ بدمٍ أو حمل
أو بمنّي أو بإنبات الشعر……أو بثمان عشرة حولاً ظهر
على القول بأنهّا ثمانية عشر والصحيح أنّها خمسة عشر.
…قال رحمه الله: ]إلاّ الحائض والنفساء[.
…]إلاّ الحائض والنفساء[ إلا ّاستثناء وهو إخراج لما يتناوله اللّفظ فلمّا قال: ]على كلّ مسلمٍ بالغٍ عاقل[ دخلت المرأة الحائض والمرأة النفساء، لأنّ قوله ]على كلّ مسلم[ المراد به جنس المسلم الذي يشمل الذكر والأنثى، وجنس البالغ وجنس العاقل فاستثنى المرأة الحائض والنفساء فإنّه لا تجب الصلاة عليهما، واُختلف هل يخاطبان ويسقط عنهما الفعل لوجود العذر؟، أو ليستا بمخاطبتين ولا يتوجّه إليهما الخطاب أصلاً؟ فيه خلاف عند علماء الأصول وعلى هذا يلغزون فيقولون: هل تجب الصلاة على أحدٍ ولا تصحّ منه؟، يكون الجواب الحائض والنفساء على القول بتوجه الخطاب إليهما، هل تجب الصلاة على أحدٍ ولا تصحّ منه؟ إن قلنا إنّ الخطاب متوجّه وسقط لوجود العذر فينطبق على الحائض والنفساء.
…]إلاّ الحائض والنفساء[ فإنّهما لا تصلّيان ففي الصحيحين من حديث أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّها قالت لعمرة بنت عبد الرحمن حينما سألتها: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، قالت لها: أحروريّة أنتِ؟ قالت: لا ولكنّي أسأل، فقالت رضي الله عنها: "كنّا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"، وعلى هذا اختلف العلماء هل يتوجّه الخطاب أو لا يتوجّه، فالمصنّف يختار أنهّا لا تجب أصلاً على حائض ولا نفساء.(2/81)
…قال رحمه الله: ]فمن جحد وجوبها لجهله عُِّرف ذلك[.
الجحد: الإنكار يقول ما توجد صلاة، فينكر أنّ في الإسلام صلاة أو ينكر فرضيّة صلاة واحدة، ,يقول الصلوات كلّها واجبة إلاّ الفجر والعياذ بالله أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء، فمن جحد فرضيّة الصلاة كلّها أو فرضيّة صلاة من الصلوات فأكثر فإنّه إمّا أن يكون جحد والعياذ بالله عن علم وقامت عليه الحجّة فهذا كافر بإجماع العلماء رحمهم الله، لأنه كذّب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فالله يفرض الصلاة وهذا يقول ليست بفرض، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يبيّن أنهّا فرض على المسلم وهو يقول إنّها ليست بفرض، يقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلواتٍ كتبهنّ الله"، ومن كذّب الله ورسوله فقد كفر، وهذا وجه تكفير المنكر للمعلوم من الدين بالضرورة، وإذا أنكر وجوب الصلاة للجهل من أمثلته هذه مسألة العذر بالجهل مسألة العذر بالجهل نطاقها محدود ولها ضوابط عند العلماء رحمهم الله، أن يأتي مثلاً شخص فيُسلم ثم نقول له صلّ الظهر، يقول أيّ ظهر ما يوجد ظهر؛ لأنّه لا يعرف شرائع الإسلام، وهو ما يسمّيه العلماء بحديث العهد بالإسلام أو حديث العهد بالجاهلّية فيجهل فيقول عن جهل ما يوجد صلاة، أو تقول له صلِّ يقول لا توجد صلاة، فإنه هذا جاهل يُعلَّم وتقام عليه الحجّة.…
قال رحمه الله: ]وإن جحدها عناداً كفر[.
…]وإن جحدها عناداً كفر[ وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله، ووجه ذلك أنّه كذّب الله ورسوله، ومن كذّب الله ورسوله فإنّه كافر بإجماع العلماء رحمهم الله.
…قال رحمه الله: ]ولا يحلّ تأخيرها عن وقت وجوبها[.(2/82)
…ولا يحلّ لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤخّر الصلاة عن وقت وجوبها، الصلاة بالإجماع لها بداية ولها نهاية وهو ما يسمّى بالوقت، والأصل في ذلك أنّ الله تعالى قال: { QWUMX… W?léV?UfTT±?@… pŒWT?†V? ?V?W? fûkY?Y?`ëSU<?@… †_‰HTWT?Y? †_T?éSTI`éQW? (103) } ، ووقّت الشيء يوقته توقيتاً إذا حدّده، فهي مؤقّتة زماناً والدليل على هذا التأقيت أن الله تعالى يقول {??????? W?léV?J?±?@… gIéST?S?Y? X¨`UPV ?@… } فجعل الإقامة عند دلوك الشمس وهو زوالها فأشار إلى صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء بقول { gyYIVK… W?léV?J?±?@… gIéST?S?Y? X¨`UPV ?@… u?V?XM… g?W©Wç? XOT`~TPV?@… } ، فذكر أربعة فروض ضمناً في الآية، ثم قال في الفرض الخامس: { ? gWU…ƒ??£TSTIWè X$£`•WE<?@… QWUMX… WU…ƒ??£TSTI X£`•WE<?@… fû†V? …_ éS?pT W? (78) } فالصلاة مؤقتة ولذلك نزل جبريل صبيحة الإسراء فأمّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عند البيت صلّى يومين متتاليين، ففي اليوم الأول صلّى الظهر في أول وقته وكذلك العصر والمغرب والعشاء والفجر، ثمّ لما كان اليوم الثاني نزل جبريل - عليه السلام - فصلّى في آخر وقت الظهر، وآخر وقت العصر والمغرب والعشاء والفجر، ثمّ قال يا محمّد: ما بين هاذين وقت، أي ما بين هذا الوقت في اليوم الأول واليوم الثاني وقتٌ يصلّي فيه ويسع الإنسان أنّ يصلّي فيه، ومعنى ذلك أنه لا يجوز له أن يؤخّر ولا أن يُقدّم، فكما لا يجوز له أن يصلّي الظهر قبل زوال الشمس لا يجوز له أن يؤخّر الظهر بعد صيرورة ظلّ كلّ شيء مثله كما سيأتي في المواقيت إن شاء الله، لا يجوز وهذا محلّ إجماع بين العلماء على الأصل، ومن هنا جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم وغيره وسأله عن الصلاة، قال له: "صلِّ معنا هاذين" يعني اليومين ففعل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - به مثل ما فعل جبريل به، فصلّى في اليوم الأول في أوّل الوقت وصلّى في(2/83)
اليوم الثاني في آخر الوقت ثم قال أين السائل؟ فلمّا أتى السائل، قال: "ما بين هاذين وقت"، أي يلزمك أن تصلّي الصلاة في هذا الوقت، وهذا هو الأصل أنّ الصلاة مؤقّته ولا يجوز للمسلم أن يقدّمها ولا أن يؤخّرها، فقال: ]ولا يحل تأخيرها عن وقت وجوبها[، كما لا يجوز التأخير لا يجوز التقديم، ولا تصحّ الصلاة مقدمة على وقتها إلاّ فيما استثناه الشرع.
قال رحمه الله: ]إلاّ لناوٍ جمعها أو مشتغلٍ بشرطها[ .
…إلاّ لناوٍ جمع الصلاة، الجمع بين الصلاتين يقع في أربع صلوات، الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء، أما الفجر فلا تُجمع، والجمع بين الظهر والعصر والجمع بين المغرب والعشاء يقع تقديماً وتأخيراً، فالتقديم أن تصلّي الثانية منهما في وقت الأولى، فتصلّي العصر في وقت الظهر، وتصلّي العشاء في وقت المغرب، وجمع التأخير أن تصلّي الأولى في وقت الثانية، وحينئذٍ تصلّي الظهر في وقت العصر وتصلّي المغرب في وقت العشاء، في هذه الحالة خرج المكلّف عن وقت إحدى الصلاتين، إمّا الأولى إن كان جمع تأخير فأخّرها، وإمّا الثانية إن كان جمع تقديم فقدّمها، فهذا كلّه ثبتت به الرخصة عند وجود الموجب وهو السفر كما سنبيّنه إن شاء الله في موضعه.(2/84)
وعلى هذا لا يجوز لأحد أن يؤخّر الصلاة عن وقتها إلاّ لناوٍ جمعها، فلو أنّ شخصاً كان في سفر وحضرته صلاة الظهر المصنّف رحمه الله يقول: ]إلاّ لناو[ٍ والنية القصد، ومعنى ذلك أنه إذا لم ينو لم يكن جمعاً وإن كانت الرخصة موجودة، فلو أنّه كان في سفرٍ ثم سها عن الظهر والعياذ بالله نسي أذّن عليه الأذان ومع السفر نسي، حتى دخل عليه وقت العصر فإنّه يصلّي الظهر قضاءً لا جمعاً، لأنّه يُعذر للنسيان قال - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها"، فحينئذٍ لم تكن عنده نيّة للجمع، فصلاته للظهر في وقت الثانية وهي العصر وقعت قضاءً ولم تقع جمعا، لأنّه يشترط أن ينوي أن يجمع الأولى مع الثانية تأخيراً كما في الظهر مع العصر والمغرب مع العشاء.
…قال رحمه الله: ]إلاّ لناوٍ جمعها أو مشتغلٍ بشرطها[.(2/85)
…]أو مشتغل بشرطها[، الاشتغال بشرط الصلاة مثلاً ستر العورة والطهارة، يشتغل بستر العورة ما عنده ثوب يستتر به إلاّ ثوباً واحداً، هذا الثوب مشقوق وإذا صلّى به انكشفت عورته يحتاج إلى خياطة، ولا يستطيع أن يضمّه لابدّ أن يخيطه، ففي هذه الحالة لو أراد أن يخيطه لم يبق من وقت الصلاة إلاّ قدر ما يخيط، بحيث لو خاط خرج وقت الصلاة، فهذا ما يسمّيه العلماء بازدحام الحقّين، هل نقول إنّه يخيط القميص ثم يصلّي وذلك؛ لأنّ الله فرض ستر العورة في الصلاة وبيّن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تُقبل صلاةٌ لحائضٍ بغير خمار فدلّ على أنّ ستر العورة شرط في صحّة الصلاة، والله فرض ذلك فقال: { ??Y?W‰HTWT? W×W …ƒ? N…èS?S? `yR?W?W?g?¦ W??Y? QXOR? x?Y•pT©W? } من باب إطلاق المحلّ وإرادة الحالّ وهي الصلاة، أي عند كلّ صلاة، فنقول إنّه يجب عليه أن يخيط القميص ولا يصلّي عُرياناً أو نقول إنّه سقط عنه شرط ستر العورة للعجز ووجب عليه تقديم شرط الوقت، هذا ما يسمّيه العلماء بازدحام الحقّين وازدحام الشرطين، ازدحام الشروط من أمثلة هذا يزدحم شرط ستر العورة مع شرط الوقت، إن ستر عورته خرج الوقت، وإن صلّى عرياناً أدرك الوقت، وهذه ستأتي إن شاء الله الكلام عليها، لكن من حيث الأصل بعض العلماء يرى أنه يشتغل بستر عورته ويخيط القميص ولو خرج الوقت ثم يصلّي، وهكذا لو أنه وجد الماء في بئر ولا يستطيع أن يأخذ الماء إلاّ إذا نزحه، ويحتاج إلى وقت حتى ينزح بالدلو قدر ما يكفيه لوضوء أو غسل، ولم يبق على طلوع الشمس إلاّ قدر يسير بحيث لو نزح الماء أو توضّأ بعد نزحه طلعت الشمس وخرج وقت الفجر، هل يصلّي بالتيمّم بناءً على أنّ هذا الماء موجود صورةً مفقود حكما؟ً، أم أنّه يقدّم شرط الطهارة وينتظر حتّى ينزح الماء ثم يصلّي؟، لأنّه لا يصحّ أن يتيمّم والماء موجود، هذه مسائل تعرف عند العلماء بالازدحام.(2/86)
…فالمصنّف رحمه الله قال: ]مشتغلٍ بشرطها[، فاختار رحمه الله قول من يقول إنّه يشتغل بالشرط، وهذا قول قوي والحقيقة هناك احتياط يخرج الإنسان به من الخلاف، يصلّي على حالته ثم ينزح ويتوضّأ ويصلّي بعد خروج الوقت، إذا فعل ذلك خرج من خلاف العلماء وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، ولا شكّ أن هذا أفضل وأكمل لكن لا يجب عليه وإنما ذلك على سبيل الندب والاستحباب.
…قال رحمه الله: ]فإن تركها تهاوناً بها اُستتيب ثلاثا[.
…فإن ترك الصلاة تهاوناً بها اُستتيب ]ثلاثاً[ ثلاثة أيّام، وإلاّ قُتل حدّاً عند الجمهور، وذلك أنّه إذا عُرضت عليه الصلاة ثلاثة أيّام ولم يصلّ حكي بعض العلماء أنّ قتله عند الجمهور كفراً، لأنه أبى عن الصلاة وكان هذا الإباء بمثابة الإعراض التامّ وفرق بينه وبين الترك، فإنّ العرض بالاستتابة أقوى وأبلغ من الترك تهاوناً، وإذا ترك الصلاة تهاوناً، لا يصلّي اُطّلع على حاله أنّه لا يصلّي أو رُفع إلى القاضي بشهادة الشهود أنّه ترك الصلاة، يسجنه القاضي ثم يعرض عليه الصلاة ثلاثة أيّام، كلّ ما حضر وقت صلاة أُمر بالصلاة وذُكِّر بها، فإن أصرّ على الترك قُتل في مذهب الجمهور رحمهم الله، من المالكيّة والشافعيّة والحنابلة، وعند الحنفيّة أنه يُحبس حتى يصلّي أو إلى أن يموت، والصحيح مذهب الجمهور أنه يُقتل، أنه إذا تركها ثلاثة أيّام وعُرضت عليه الصلاة واُستتيب ثلاثة أيّام أنه يُقتل ولا يُسجن.
…قال رحمه الله: ]فإن تاب وإلاّ قُتل[. قال الإمام المصنّف رحمه الله تعالى: ]باب الأذان والإقامة[.(2/87)
…الأذان الإعلام، يقال آذن بالشيء إذا أعلم به، ومنه قوله تعالى: { cU.V¢KV…Wè W?YQ? J?Y/@… ,-Y?YT?éS?WOWè ?V?XM… g†PV??@… W×?éWT? JX”W™<?@… XOWiT`T{KKV‚ô@… } ، أي إعلام، وهو في الاصطلاح: الإعلام بدخول وقت الصلاة، والإقامة من أقام الشيء إذا أتى به على وجهه، وهي تطلق على معنى القيام ضدّ القعود وهي مصدر، وتطلق على معنى الاستقامة مثل قولهم أقام الشيء إذا كان معوجّاً فأصلح اعوجاجه، وأمّا في الاصطلاح فبعض العلماء يقول: إعلامٌ بالقيام إلى الصلاة، وهذا فيه دور ولكنّ الأدقّ والله أعلم أن يقال: الاعلامُ بفعل الصلاة، وهو أنّ المصلي يُطلب منه أن يقوم إلى فعل الصلاة، فإذا قلت الإعلام بالقيام إلى الصلاة صار دوراً لأنّ مادّة القيام والإقامة واحدة فأصبح هناك دورٌ في التعريف.(2/88)
…وقول المصنّف رحمه الله: ]باب الأذان والإقامة[،الأذان والإقامة شعيرتان من شعائر الإسلام، شرعهما الله - عز وجل - للصلاة، وخُصّت هاتان الشعيرتان بالصلاة المفروضة، فلا يُأذّن ولا يُقام إلاّ لصلاةٍ مفروضة من حيث الأصل، وهذه الشعيرة دلّ على مشروعيّتها دليل الكتاب والسنّة والإجماع، أمّا دليل الكتاب فإن الله تعالى يقول: { †W?QST?KV†H;TTW? W??Y?PV?@… Nv…éTS?TW?…ƒ? …V¢XM… füY éST? Y?léV?J?±?Y? ?Y? Yz?éTW? YàW?SUS•<?@… N…?éTW?T`?@†WTE u?V?XM… X£<?Y¢ J?Y/@… } أي إذا أُذّن بالأذان الثاني لصلاة الجمعة، وقال تعالى: { …W¢XM…Wè ??S?`T?W †WT? ?V?XM… Y?léV?UfT±?@… †W?èS?W?PVT?@… …_èS¥S? &†_TT‰Y?V?Wè W?Y?.W¢ `yS?PVT?KV†YT? tz?éWTI ‚PV? WUéST?Y?`?WT? (58) } ، وقوله { …W¢XM…Wè ??S?`T?W †WT? } أي أذّنتم للصلاة، والسنّة دلّت على مشروعيّة الأذان والإقامة فصحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه أمر بلالاً بالأذان، فقال: "يا بلال قم فأذّن"، وكذلك أقام بلالٌ رضي الله عنه الصلاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الأحاديث الصحيحة، ففي الصحيحين وغيرهما "أنّ بلالاً كان يرقب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا تحرّك من وراء الستر قام فأقام الصلاة"، وقصّة إذا رأيتموني فقوموا حينما عجل بلالاٌ مشهورة في هذا المعنى وهي في الصحيحين أيضاً.(2/89)
والأصل أنّ الأذان والإقامة شُرعا للإعلام بالصلاة، واختلف العلماء في زمان مشروعيّة الأذان والإقامة قيل السنة الأولى من الهجرة وقيل الثانية، والصحيح أنهّا في السنة الأولى على ما اختاره الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره، ولمشروعيّة الأذان قصّةٌ فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة أهمّهم وأكربهم أمر الحضور إلى الصلاة، فقال بعضهم نتّخذ ناقوساً فقالوا ناقوساً كناقوس النصارى، وقال بعضهم: نتّخذ بوقاً فقيل بوقاً كبوق اليهود، فلم يريدوا المشابهة، فنام عبد الله ابن زيد رضي الله عنه فأُري في منامه، رأى رجلاً ومعه ناقوسٌ فسأله ذلك الناقوس أن يبيعه قال: ماذا تريد به؟ قال: أُعلم به الناس للصلاة، فقال: أو لا أدلّك على خير من ذلك، قال: بلى، قال: تقول الله أكبر الله أكبر وذكر ألفاظ الأذان، فأتى عبد الله رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره القصّة، فقال: "إنّ هذه رؤيا خير، ثم قال له: ألقه على بلال فإنّه أندى منك صوتاً"، فشُرع الأذان بهذه الحادثة.(2/90)
وجعل الله - عز وجل - في الأذان الخير الكثير، قد أجمع العلماء رحمهم الله على فضل الأذان حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: "أطول الناس أعناقاً يوم القيامة المؤذّنون"، قيل: إعناقاً وأعناقاً، قيل "أطول الناس أعناقاً" أي أنهّم يحشرون وقد طالت أعناقهم أي فوق الخلائق وحينئذٍ لا يلجمهم العرق في عرصات يوم القيامة، وقيل كناية عن علوّ المنزلة تقول فلان طويل العنق إذا كان عالي المكان، لأنّه إذا طال عنقه ارتفع رأسه، وهو كناية عن العزّة وعلوّ المكانة يوم القيامة عند الله - عز وجل -، واللفظ "إعناقاً" أي إسراعاً إلى دخول الجنّة لأنّ العنق ضرب من السير، كما قال أنس رضي الله عنه في سير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حجّة الوداع حينما دفع من عرفات إلى مزدلفة "كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نصّ"، فإعناقاً إسراعاً إلى دخول الجنّة، ومن فضل الأذان أنّه لا يؤذّن مؤذّنٌ فيسمع صوته جنٌ ولا إنسٌ ولا شجرٌ ولا مدرٌ ولا حجرٌ إلاّ شهد له يوم القيامة، فهو ينادي ويقول أشهد أن لا إله إلاّ الله أشهد أنّ محمدً رسول الله، فيشهد له كلّ من سمعه وهذه فضيلة عظيمة، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "الإمام ضامنٌ والمؤذّن مؤتمن اللّهم أرشد الأئمّة واغفر للمؤذّنين"، فدعا لهم بالمغفرة وهذا يدلّ على فضيلة الأذان، وكذلك من فضائله أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وصّى به الرجل حتىّ وهو وحيد في غنمه وباديته، فقال لأبي سعيد رضي الله عنه: "إنيّ أراك تُحبّ الغنم والبادية فإذا كنت في غنمك فأذّن فإنّه لا يسمع مدى صوتك جنٌ ولا إنسٌ ولا شجرٌ ولا مدرٌ إلاّ شهد لك يوم القيامة"، وهذا كلّه يدلّ على فضل الأذان، والصحيح أنّ الإمامة أفضل من الأذان وقد اختلف العلماء في هذه المسألة والصحيح أنّ الإمامة أفضل لأنّ الأذان وسيلة للصلاة، والإمام يُقيم الأصل وهي الصلاة وقد صحّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "استقيموا ولن تُحصوا(2/91)
وأعلموا أنّ خير أعمالكم الصلاة"، فالإمام يُقيم خير الأعمال، وثانياً أنّ الإمام يخطب الجمعة فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقولهم في هذه الآية { ومن أحسن قولاً ممّن دعا إلى الله } على أنهّا في المؤذّن فإنّه شاملة للإمام أيضاً في ذكره ونصحه وتوجيهه للناس، وكون النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذّن معروف السبب في هذا أنّ الله فضّل بلالاً وشرّفه، ولقد تعجّب كيف أنّ بلالاً رضي الله عنه خُصّ بهذه المنزلة العظيمة وقد عُذّب في أحدٍ أحدٍ، وكان يرمى على الضحضاح وعلى الرمضاء في شدة الحرّ والقرّ في مكّة، وتوضع عليه الحجارة ويُشوى بها جلده وهو يقول أحدٌ أحدٌ يغيظ بها المشركين، فرفع الله قدره وأعلى منزلته وشرّفه فجعله مؤذّناً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا كلّه يدلّ على فضله وأنّ الأذان له فضيلة عظيمة، وقد بشّره النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنة فقال له: "إني سمعت دفّ نعليك في الجنّة".
…وفي الأذان والإقامة يقول العلماء: إنهّما شعيرتان من شعائر الإسلام، فالأذان شعيرة من شعائر الإسلام وهي شعار البلد المسلم، ولذلك صحّ عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "أنّه كان إذا غَزَا قوماً انتظر إلى وقت الصلاة فإنْ سمع الأذان أمسك عن قتالهم، وإن لم يسمع الأذان غزاهم صلوات الله وسلامه عليه".
…يقول رحمه الله: ]باب الأذان والإقامة[، أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل الّتي تتعلّق بالأذان والإقامة، ذكر المصنّف رحمه الله هذا الباب بعد بيان مقدّمة الصلاة لأنّ أوّل ما يكون في الصلاة النداء والدعوة إليها.
…قال رحمه الله: ]وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها[.(2/92)
…]وهما[ أي الأذان والإقامة، ]مشروعان[ لأنّه ثبتت الشرعيّة كما ذكرنا في الكتاب والسنة والإجماع، ]للصلوات الخمس[ فيُأذّن للصلوات الخمس، وفي الصلوات الخمس تفصيل، إن كانت الصلاة حاضرة فلا إشكال لكن لو أنه خرج وقت الصلاة فهل يُشرع الأذان والإقامة؟ لو أنّ جماعة سافروا ثمّ نزلوا بالليل فناموا حتى فاتتهم صلاة الفجر واستيقظوا بعد طلوع الشمس هل يُأذنون ويُقيمون؟ الجواب نعم، يُشرع للحاضرة والفائتة، ففي الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنّه لما عرّس في مقدمه من غزوة تبوك قال يا بلال اكلأ لنا الليل، قال الراوي الصحابي رضي الله عنه فوقعنا وقعة ألذّ ما تكون للمسافر من شدّة الإعياء والتعب فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونام القوم ثم نام بلالٌ فلم يستيقظ الناس إلاّ بالشمس قد أدركهم حرّها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا يا بلال؟ فقال: أخذ بعيني الذي أخذ بعينك يا رسول الله" - يعني نمت كما نمت - فقال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ الشيطان أتى بلالاً فمازال به حتىّ نام"، فالشاهد أنّه قال: "ارتحلوا فإنّه منزل حضرنا فيه الشيطان، ثم أمر بلالاً فأذّن فصلى رغيبة الفجر ثم أمره فأقام فصلّى بالقوم - صلى الله عليه وسلم -"، فدلّ على أنّ الأذان يُشرع للحاضرة والفائتة، كذلك يُشرع الأذان للجماعة وشرعيّته للجماعة شرعيّة واجبة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من ثلاثة في بدو ولا حضر لا يُأذّنون ولا تقام بينهم الجماعة إلاّ استحوذ عليهم الشيطان"، وهذا وعيد والوعيد لا يكون إلاّ بترك واجبٍٍ أو فعل محّرم، ومن هنا صار الأذان واجباً، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا كنت في غنمك فأذّن" هذا أمر والأمر للوجوب، فالأصل وجوب الأذان والإقامة وهذا الوجوب قلنا للجماعة، أما إذا كان الشخص وحيداً أو منفرداً فبعض العلماء يرى عدم الوجوب، منهم من يسقط الوجوب للأذان والإقامة ومنهم من يُوجب(2/93)
الإقامة ولا يُوجب الأذان ومنهم من يُوجبهما معاً، قال رحمه الله: ]وهما مشروعان[ أي الأذان والإقامة. …
قال رحمه الله: ]وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها[.
…دون غيرها أي فلا تُشرع لصلاة الجنازة، فلا يؤذّن ولا يقام لصلاة الجنازة ولا لصلاة الخسوف والكسوف فلا يؤذّن الأذان المعروف في صلاة الخسوف والكسوف، ولا للعيدين ولذلك يقتصر في الخسوف والكسوف على قول "الصلاة جامعة" كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فلا يؤذّن ولا يُقام لغير الصلوات الخمس، هذا هو هدي النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، أنّ الأذان مشروع للصلوات الخمس فقط.
…قال رحمه الله: ]للرجال دون النساء[.(2/94)
…للرجال بلا إشكال في شرعيّة الأذان، أمّا النساء إذا كانوا مع الرجال فهم تبع لهم لكن لو أنّ جماعة من النساء أردن أن يقمن جماعة، فهل يشرع أن يكون لهم مؤذّن؟ اختلف العلماء رحمهم الله في الجماعة للنساء، هل يجوز للمرأة أن تأمّ النساء؟ على قولين مشهورين الحنفيّة والمالكيّة على المنع والشافعيّة والحنابلة على الجواز، والصحيح مذهب الشافعيّة والحنابلة لحديث أمّ ورقة الشهيدة رضي الله عنها عند أحمد في مسنده وأبي داود في السنن، "أنهّا استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تأمّ أهل دارها، فأَذِنَ لها النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بأن تصلّي بأهل دارها جماعة"، قال الراوي فلقد رأيت مؤذّنها شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه يعني من المعذورين، فكان يؤذّن لها في جماعتها ثم ينصرف للجماعة فدلّ هذا على مشروعيّة الأذان لجماعة النساء من الرجال لا من النساء وهذا يؤكّد أنّ صوت المرأة عورة، وقد بيّنا هذا ودلت عليه السنة في الحديث الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "إنمّا التسبيح للرجال والتصفيق للنساء"، فالتسبيح ذكر الله لو كانت المرأة كالرجل لسبّحت ولمَا صُرفت عن ذكر الله إلى التصفيق، وأن تضرب بطن الكف على ظهرها أو تضرب بأطراف الأصابع على تفصيل عند العلماء فصُرفت عن ذكر الله - عز وجل - إلى الفعل لخطر صوت المرأة لأنّ الرجل مجبول على الفتنة بصوت المرأة، ومن هنا قالوا إن صوتها عورة فلا تُأذن، وجمهور العلماء على أنّ المرأة لا تُأذن خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله الذين قالوا بالجواز، فللرجال دون النساء أي لا يؤذّن إلاّ الرجال ولا تؤذّن المرأة.
…قال رحمه الله: ]والأذان خمس عشرة كلمةً لا ترجيع فيه[.(2/95)
…الأذان خمس عشرةً كلمة أربعٌ للتكبيرات في أول الأذان، وأربعٌ للشهادتين منقسمة لشهادة أن لا إله إلا الله ولشهادة أن محمداً رسول الله مرّتان مرّتان لكلّ واحدة، وأربعٌ للحيعلات اثنتان حيّ على الصلاة اثنتان حيّ على الفلاح وتكبيرتان وتهليلة هذه خمس عشرة كلمة، هذا هو مذهب الحنفيّة والحنابلة رحمهم الله وهو أذان بلال رضي الله عنه في المدينة، والأصل في هذا الأذان، قصّة عبد الله بن زيد رضي الله عنه وردت بهذا اللفظ الذي لا ترجيع فيه على الروايات المشهورة، وأمّا الترجيع فقد جاء في أذان أبي محذورة قد كان بعد فتح مكّة حينما رجع عليه الصلاة والسلام وقفل من غزوة الطائف فأذّن أبو محظورة رضي الله عنه وسمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أذانه وأقرّه على ذلك فصار أذان المكّيين بالترجيع، والترجيع من رَجَعَ إلى الشيء ورجّع الشيء إذا أعاده، والمراد بذلك أن يقول أشهد أن لا إله إلاّ الله أشهد أن لا إله إلاّ الله بصوت منخفض، ثم يرجع ويرفع صوته ويقول أشهد أن لا إله إلاّ الله أشهد أن لا إله إلاّ الله بصوتٍ عالٍ، هذا الترجيع يقول به الشافعيّة والمالكيّة رحمهم الله، والصحيح أنّه جائز ومشروع، وأنّ المؤذّن إن شاء أذّن بالأذان المعروف عن بلال، وإن شاء أذّن بالأذان الذي فيه ترجيع هذا من خلاف التنوّع لا من خلاف التضادّ، وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية بهذا أنّه سامح في ذلك ووسّع فيه وأنّ الأمر واسع إن شاء أذّن أذان بلال بالمدينة في القديم، وإن شاء أذّن بأذان أبي محذورة لا بأس ولا حرج في الأمرين، وعنه رواية ثانية اختارها طبعاً صاحب المختصر وبعض أصحاب الإمام أحمد رحمهم الله ومشى عليها المصنّف ]لا ترجيع فيها[، فلا يرون الترجيع والصحيح أنّ الترجيع جائز وأنّه من السنّة إن شاء أذّن على هذه الصفة أو على تلك الصفة.
…قال رحمه الله: ]والإقامة إحدى عشرة[.(2/96)
…والإقامة إحدى عشرة كلمة، في الأذان يؤذّن بالوصل في التكبير الله أكبر الله أكبر ويؤذّن بالقطع فيقول الله أكبر الله أكبر فيفصل في التكبير ويصل، وإن وصل فوجهان: يصل بالرفع الله أكبرُ الله أكبرُ فيضم الراء، أو على نية الوقف فقالوا حُرّكت حركة الهمزة إلى الراء فيرونها مفتوحة كما اختاره بعض أئمّة اللغة فيقول الله أكبرَ الله أكبرَ، ففي هذه الحالة يكون على نية الوقف وهو وجه محكي عن المبّرد من أئمّة اللغة، واختاره أئمّة الحنفيّة رحمهم الله وغيرهم، فالشاهد من هذا أنه إن شاء وصل وإن شاء فصل، وكلاهما جائز ومشروع.
والإقامة خمس عشرة كلمة بالتكبير ثم الشهادتان مرّتين ثم الحيعلات حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرة مرة، ثم قد قامت الصلاة مرّتين، الله أكبر الله أكبر لا إله إلاّ الله فهذه إحدى عشرة كلمة في الإقامة، فيسقط تكرار الشهادة وتكرار التكبير وتكرار الحيعلة.
…قال رحمه الله: ]وينبغي أن يكون المؤذّن أميناً صيّتا[.
…هذه الصفة في الإقامة طبعاً اختارها الحنابلة رحمهم الله ومعهم الشافعيّة والحنفيّة يخالفونهم والمالكيّة أيضاً يخالفون في مسألة إفراد الإقامة، واستدلّ الحنابلة ومن وافقهم من أهل الحديث والظاهريّة في مسألة إفراد الإقامة وعدم تكرار الشهادة بحديث أنس في الصحيح: "أُمر بلالٌ أن يشفّع الأذان وأن يوتر الإقامة"، المراد بذلك الإيتار في الأربع في التكبيرات والشهادتين وفي الحيعلات، وعلى هذا تُختصر الإقامة إلى إحدى عشرة كلمة.
الأسئلة
س1: فضيلة الشيخ: هل يلحق المغمى عليه بالمجنون أم بالنائم فيكون مكلّفاً بالنسبة لوجوب الصلاة؟ وجزاكم الله خيراً.
…بسم الله الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
…أما بعد.(2/97)
…اختلف العلماء رحمهم الله في المغمى عليه، هل يأخذ حكم المجنون؟ فيكون غير مكلّف ولا يطالب بالقضاء, أو هو في حكم المكلّف؟، فيطالب بقضاء ما فاته من الصلوات أثناء إغمائه، وجهان للعلماء رحمهم الله والأقوى أنّ المغمى عليه في حكم المجنون فلا يجب عليه قضاء، وفائدة هذه المسألة مثلاً الآن حينما يُغمى على بعض المرضى ثلاثة أشهر تحت الأجهزة، إذا أُغمي عليه فإنّه قد يجلس مثلاً بالشهور لو أفاق لا يُطالب بالقضاء لا صوماً ولا صلاةً، وذلك أنّ الذين قالوا إنّ المغمى عليه في حكم المجنون حجّتهم قويّة، لأنّ من قال إنّه في حكم المكلّف قالوا لأنّه أشبه بالنائم، فإذا استيقظ يُطالب بالصلاة وهذا ضعيف، لأنّ النائم إذا أيقظته يستيقظ والمغمى عليه لو أيقظته لا يستيقظ، ولذلك هو في حكم المجنون شبهه بالمجنون أقوى من شبهه بالنائم فغلّب الشبه الأقوى، ومن هنا لا يُطالب بالقضاء ولا يُطالب بفعل الصلاة إذا فاتته.
…بعض العلماء فرّق بين الغيبوبة اليسيرة والغيبوبة الكبيرة وأُثر عن بعض الصحابة أنّه قضى في اليوم واليومين كما في قصّة عمّار ابن ياسر رضي الله عنه وعن أبيه، ولكن الأقوى ما ذكرناه أنّه في حكم المجنون ولذلك لا يجب عليه قضاء، وقد قَوَّى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الشبه فإنّه ثبت عنه في الحديث الصحيح "أنه لما مرض مرض الموت أراد أن يقوم عليه الصلاة والسلام للصلاة فسقط فأُغمي عليه فاغتسل، ثمّ أراد أن يقوم فأُغمي عليه فاغتسل"، فاغتساله هذا يقوّي أنّه في حكم من زال عقله وليس في حكم من هو نائم وهذا يجعل القول بسقوط التكلّيف عنه أقوى من القول بمؤاخذته والله تعالى أعلم.
…س2: فضيلة الشيخ: ما حكم الأذان الزائد يوم الجمعة عن الحال التي يُعمل بها الآن؟ وجزاكم الله خيراً.(2/98)
…هذه سنّة عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، الأذان الثاني يوم الجمعة سنّة أجمع المسلمون على العمل بها، وهي سنّة باقية سواءً زالت الحاجة أو لم تزل، لأنّ السلف الصالح رحمهم الله لم يُفرّقوا في هذه السنة بين حالٍ وأخرى، فإنّ الأذان الثاني يوم الجمعة وهو الأوّل فعله عثمان رضي الله عنه في زمن خلافته، ودرج عليه عمل المسلمين في سائر الأقطار والأمصار، وبقيت سنّة من سنن الخلفاء الراشدين المأمور باتّباع سنّتهم، ولو قال قائل قد زال السبب نقول كم من سنن زال سببها وهي باقية، كما في الرَمل زال سببه الذي شُرع من أجله وهو باقٍ، وكذلك في الأصل عند العلماء رحمهم الله الذي نصوا عليه أنه مشروع، ولم يفرّقوا بين القرى الصغيرة التي قد لا يُحتاج فيها إلى هذا الأذان والقرى الكبيرة والمدن، لأن البعض قد يقول: الآن لسنا بحاجة للأذان نُلغيه، فنقول إن هذه مخالفة للسلف ومخالفة لإجماع الأمّة، ومخالفة لسنّة عن خليفة راشد مأمور باتّباع سنّته، ولذلك أئمّة الإسلام هذه كتبهم موجودة وفتاويهم موجودة لم يُفرّق أحد بين القرى العامرة التي تحتاج إلى الأذان الثاني والقرى التي لا تحتاج، ولذلك نقول إنّ هذه السنّة تبقى، ومادام أنّ الله - سبحانه وتعالى - أجراها على يد هذا الخليفة الراشد فإنهّا تبقى كما أبقاها أئمّة السلف ودواوين العلم، والمسلم مطالب بالاتباع لأثر من مضى قبله خاصّة وأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أمرنا باتّباع سنّة الخلافاء الراشدين المهديّين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، والله تعالى أعلم.
…س3: فضيلة الشيخ: وجّهونا للطريقة الصحيحة في التعامل مع أبناءنا الصغار والكبار وفي أمر الصلاة والمحافظة عليها؟، وجزاكم الله خيراً.(2/99)
…أما الطريقة الصحيحة ما تجدها إلاّ في القرآن والسنّة، لكن السائل ينبغي أن يشفق على من يسأله، حينما تسأل وتقول أُريد الطريقة الكاملة الصحيحة لكذا، يعني قل نُريد بعض التوجيه أشفقوا علينا فنحن ضعفاء تحت رحمة الله - عز وجل -، لن تجد قولاً كاملاً يُقصّ به الحق إلا قول الله - جل جلاله -، وقول رسوله عليه الصلاة والسلام، قل نُريد بعض التوجيه نريد بعض الإرشاد.
…فممّا يُوجّه به المسلم أنّ بركة الأبناء وخير الذريّة في الأبناء والبنات إذا كانوا على طاعة الله - عز وجل -، ومن أفضل ما يكون تحبيبهم في هذا الخير من إقامة الصلاة، تذكيرهم بهذه الشعيرة وما لها من العواقب الحميدة في استقامة حال العبد في الدنيا والآخرة، وفي حفظ الله - عز وجل - للعبد بالصلاة، { UfûMX… W?léTV?J?±?@… u?W?`T?WT? X?W? Y?:†W `™WE<?@… %X£V??SU<?@…Wè } ، وفي كونها صلة بين العبد وربّه، يُذّكر الصغير منذ صغره بهذا الخير كما ذّكر رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس رضي الله عنهما وأخذ بمجامع قلبه فبصّره، فيبصر الوالدان الولد ذكراً كان أو أنثى بفضيلة الصلاة، وعواقبها الوخيمة ويخوّفان من ضد ذلك هذا أوّل شيء الإقناع، لأنّ القناعة الذاتية تُحرّك إلى العمل، فمن كان عنده قناعة ذاتيّة بصلاح الشيء وعِظم أثره ونفعه استجابت نفسه له، والتخويف من العكس فإذا نشأ منذ نعومة أظفاره محبّاً للصلاة خائفاً من تضيعيها وضياع حقوقها، تقصّ لهم القصص المؤثّرة ويُبيّن لهم العواقب الوخيمة لمن لا يصلّي وكيف تكون نسأل الله العافية حاله يوم القيامة، { bO`T?WéWTE fûkPY?fT±SU<?PY? (4) W??Y?PV?@… ??S? ?W? ??X?Y??„fT² } ???????، ويل وادٍ في جهنّم قال بعضهم المفسّرين لو سُيّرت فيه جبال الدنيا لذابت من حرّه، وهذا للذين هم عن صلاتهم ساهون، فكيف بالذين لا يصلّون والعياذ بالله، فيُذكّر ويُخوّف الصبيّ بالله - عز وجل -.(2/100)
…كذلك أيضاً أخذ الأبناء إلى المساجد وتعليمهم الأدب مع الكبار والأخذ على أيديهم من عدم التشويش وأذيّة المصلّين وتحبيبهم في الخير، والله ما أخذت ابنك إلى مسجد وإلى بيت من بيوت الله وعوّدته بيوت الله إلا كان لك مثل أجره، فإذا كَبر وأصبح يذهب إلى المساجد لم يخطُ خطوة إلاّ وضعت في ميزان حسناتك، لأنّك أنت الذي علّمته، وإذا علّمته الصلاة فوالله لن يستقيم عوده بين يدي الله - عز وجل - إلاّ أُجرت بأجره في كلّ حرفٍ وفي كلّ كلمة، فهذه سوق الآخرة الرابحة تحرص على ذلك، كذلك أيضاً بالترغيب بذكر النماذج الطيّبة من إخوانه، فإذا كان له إخوان يحافظون على الصلاة تُظهر محبّتهم ومودّتهم وتُشيد بهم حتى يأتسّي بهم الغير، ثم لا تنسى ما بينك وبين الله من دعوة في ظلمات الليل أو في سجودك أو في مظانّ الإجابة أن يهدي الله ذّريّتك، أن يجعلها مقيمة للصلاة كما فعل ذلك أنبياء الله وخيرته من خلقه قال الله عن الخليل - عليه السلام -: { ?Y?<?W?`–@… ?y~Y?S? Y?léV?J?±?@… ?Y?Wè &?YT?QWT?XQOS¢ †WT?QWT?WO `OQWT‰W?WT?Wè Y?:†W?S (40) } .
…نسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم أن يعيننا على إقام الصلاة إنّه ولّي ذلك والقادر عليه وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد.
تابع باب الأذان والإقامة ، وباب شرائط الصلاة
قال رحمه الله: ]وينبغى أنّ يكون المؤذّن أمينا[.
الشرح:-
…بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام الأتّمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
…أمّا بعد.(2/101)
…فقد شرع المصنّف رحمه الله في بيان الصفات التي ينبغي توفّرها في المؤذّن، فبيّن رحمه الله أنّه ينبغي أنّ يكون المؤذّن أمينا، وهذا مبنيٌ على ما ثبتت به السنّة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث صحّ عنه في حديث أبي دواد وأحمد في مسنده أنّه قال: "المؤذّن مؤتمن"، وهذا يدلّ على أنّه ينبغي أنّ يتوفّر فيه شرط الأمانة، وذكر العلماء رحمهم الله أنّ المؤذّن مؤتمن من وجهين، الوجه الأوّل يتعلّق بحقّ الله - سبحانه وتعالى -، والوجه الثاني يتعلّق بحقّ المخلوقين، فأمّا بالنسبة لحق الله - عز وجل - فإنّه يؤتمن على ركنين من أركان الإسلام، ذلك أنّ الصلاة يُعلم بدخول وقتها فإذا أذّن بالظهر وكان أميناً حفظ الوقت، ولم يؤذّن قبل زوال الشمس، وذلك لأنّه إذا كان الوقت محفوظاً فقد أدّى الأمانة، وأمّا إذا قصّر في ذلك فإنّه يُعتبر تضييعاً للأمانة، وعلى هذا فإنّ حقّ الله الأوّل في الصلاة، والثاني من حقوق الله - عز وجل - التي تتعلّق بالمؤذّن أنّه يحفظ للناس صومهم، فإذا أذّن في الفجر فإنّ الناس تُمسك على أذانه فإذا كان أميناً محافظاً أذّن عند دخول الوقت، واحتاط للناس في عبادتهم، وكذلك إذا غابت الشمس فإنّه إذا كان أميناً أذّن بعد المغيب وحفظ للناس صيامهم، هذا بالنسبة لحقّ الله، يحفظ للناس صلاتهم ويحفظ للناس صومهم، وهناك من يبني على أذان المؤذّن فيصلّي مباشرة كالمرأة في البيت، فإذا كان المؤذّن يتساهل في دخول الوقت ويؤذّن للظهر مثلاً قبل وقتها فإنّه يضيّع على الناس صلاتهم، فلربمّا سمعته المرأة فباشرت بالصلاة فأوقعت الصلاة قبل دخول الوقت وأبطلت عبادتها من هذا الوجه.
…ومن هنا قالوا ينبغي أنّ يكون أميناً لهذا الحقّ لله - عز وجل - في ركن الصلاة وركن الصيام وكفى بهما موجباً لحفظ هذا الحقّ ورعايته.(2/102)
…أمّا الحق الثاني فيتعلّق بالمخلوقين وأشار إليه بعض العلماء، وهو أنّه من عادة المؤذّن أنّه يؤذّن على مكانٍ عالٍ كما سيأتي، وأنّه ثبت أنّ بلالاً كان يؤذّن على سطح بيت الأنصاريّة ومن هنا شُرع أنّ يكون للمؤذّن مكانٌ عالٍ حتى يكون ذلك أبلغ في بلوغ الصوت لأبعد الناس وأقربهم، قالوا فإذا كانت السنّة أنّه يؤذّن على مكانٍ عال وكان بلالٌ رضي الله عنه يؤذّن على سطح بيت الأنصاريّة وفي زماننا المنائر أو نحوها فإنّه يطّلع على عورات المسلمين وينظر إلى بيوتهم، ومن هنا ينبغي أنّ يكون أميناً، فهي أمانة بالنسبة للأذان وأمّا بالنسبة لعورات المسلمين، قال رحمه الله: ]وينبغي أنّ يكون أميناً[، أي لا يُكلّف بالأذان إلاّ من عُرفت منه الأمانة.
…قال رحمه الله: ]صيّتا[.
…صيّتاً أي عالي الصوت وهذه من الصفات التي ينبغي أنّ تكون في المؤذّن، والدليل على ذلك أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن زيد حينما أخبر برؤيا الأذان: "إنهّا لرؤيا حقّ إن شاء الله"، ثم قال لعبد الله: "ألقه - يعني الأذان - ألقه على بلالٍ فإنّه أندى منك صوتاً"، وهذا يدلّ على أنّه ينبغي أنّ يكون المؤذّن صيّتاً، وكلّما كان صيّتاً كان ذلك أبلغ في حصول المقصود، لأنّ المقصود من الأذان إعلام الناس بدخول الوقت، فإذا كان صيّتاً فإنّه يُعلم الناس قاصيهم ودانيهم، وأجمع العلماء رحمهم الله على استحباب أنّ يكون صيّتاً، يكون في حلاوة الصوت وقوّة الصوت وحُسن الأداء، ثلاثة أمور حلاوة الصوت وهي منحة من الله - سبحانه وتعالى - وعطيّة يعطيها الله - عز وجل - للعبد، وأنّ يكون قويّ الصوت جهوريّاً يبلغ صوته الناس لأنّ هذا هو المقصود، وأنّ يُحسن أداء الأذان، فإذا توفّرت هذه الثلاثة الأمور في أذانه فإنّ أذانه يكون على الأكمل والأفضل، وهذه من الصفات المؤثّرة في حُصول المقصود.
…قال رحمه الله: ]عالماً بالأوقات[.(2/103)
…ينبغي أنّ يكون المؤذّن عالماً بالأوقات، والمراد بالأوقات أوقات الصلوات الخمس، فيعرف متى يدخل وقت الفجر ومتى يخرج، متى يدخل وقت الظهر ومتى يخرج، ومتى يدخل وقت العصر ومتى يخرج، ومتى يدخل وقت المغرب ومتى يخرج، ومتى يدخل وقت العشاء ومتى يخرج، فيكون على علم بالأوقات لأنّ المقصود أنّ يُعلم الناس بدخول الوقت فيعرف ما هو الزوال, وكيف يُعرف الزوال زوال الشمس، وإذا لم يكن يعرف ذلك فإنّه يمكن أنّ يعتمّد بعد الله على من يعرف ذلك ممن هو من أهل الخبرة والمعرفة، فإذا كان على هذا الوجه أمكن أنّ يؤذّن الأّذان الصحيح على وجهه المعتبر، أنّ يكون عالماً بالوقت وعند العلماء رحمهم الله أنّ الشروط الأساسيّة في العبادات والمعاملات التي تُشترط ينبغي أنّ يُلتفت إلى مقصود الشرع من العبادة، فلمّا كان مقصود الشرع من العبادة أنّ يُعلم المؤذّن بدخول الوقت فلا بدّ وأنّ يكون عالماً بالأوقات، وعالماً بالدلائل التي يُعرف بها دخول الليل ويُعرف بها طلوع الفجر ويُعرف بها مغيب الشفق، فهذا لابدّ من أنّ يكون المؤذّن على علمٍ به؛ لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فإذا كان جاهلاً بالوقت أخطأ في أذانه، فلربمّا سبق أو تأخّر وهذا تغرير بالناس وغِشّ للأمّة فلا يجوز لمثله أنّ يتولىّ هذه العبادة.
…قال رحمه الله: ]ويستحب أنّ يؤذّن قائما[.(2/104)
طبعاً لابدّ من أنّ يشترط الإسلام فلا يصحّ أذان الكافر، ولو أذّن ثم ارتدّ صحّ أذانه لأنّ العبرة بحال الأداء، وعندهم بالنسبة للمسجد الجامع في المدينة لا يؤذّن إلاّ بالغ لأنّها شهادة بدخول الوقت فلا يصحّ أذان الصبي، ولكن إذا كان في المساجد العامة لا بأس أنّ يؤذّن الصبي عند وجود الحاجة، وإذا أذّن فإنّه لا يُنكر، وقد حُفظ ذلك من فعل السلف وحكى بعض العلماء الإجماع عليه وأنّه لا بأس به ولكن لا ينبغي تقديم الصبيان للإمامة وللأذان، سنذكر هذه المسألة إن شاء الله في باب الإمامة لأنّ الناس تزدري هذا المقام الشريف في أذان الناس وصلاتهم حينما يتقلّدها العقلاء وكبار السنّ، فإنّ ذلك أهيب وذلك أكرم للعبادة، وإذا تصدّر لها الأحداث اللذين لا يُؤمن منهم قصور الحال خاصّة إذا خالطوا الناس ازدرت الناس هذه الأشياء ولذلك لما كانت الإمامة يتقلّدها الكبار والعلماء وأهل الفضل كانت الخطبة لها أثر في نفوس الناس وكانت أحوال الناس مؤثرة، وكان الإمام كل شيء للناس بعد الله توجيهاً وإرشاداً ونصحاً، وحينما تقلّدها الأحداث تغيّر الأمر، وعلى كل حال لاشكّ أنّ العلم والفضل فوق كلّ شيء، وأنّ العبرة بأهليّة الإنسان ولكن إذا وُجد من هو أكبر فإنّه يُقدّم، فالأصل أنّ الأذان لا يصحّ إلاّ من مسلم بالغ عاقل واُختلف في شرط العدالة على الخلاف في الأذان هل هو شهادةٌ أو خبر.
…قال رحمه الله: ]ويُستحب أنّ يؤذّن قائماً [.(2/105)
…ويُستحبّ بعد أنّ فرغ من الصفات اللازمة شرع في الصفات المستحبّة، من باب التدرّج من الأعلى إلى الأدنى فالصفات المستحبّة أنّ يؤذّن المؤذّن قائماً، وهذا هو الأصل فإنّ بلالاً ما أذّن قاعداً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يؤذّن ولا يُقيم إلاّ قائماً، والأصل في ذلك أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بلالُ قُم فأذّن"، وقال: "قُم فألقه على بلالٍ فليؤذّن"، ويجوز أنّ يؤذّن قاعداً ولا بأس بذلك ولكنّه خلاف الأولى، وإذا حصلت حاجة مثل أنّ يكون الركب على دوابهّم في السفر ويصعب عليهم النزول كما وقع للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - في قِصّة المضيق فإنّه يؤذّن وهو على دابّته، وهذه من الأحوال التي يكون فيها المؤذّن قاعداً، إذا كان على بعيره أذّن وهكذا إذا كان على دابّته.
…]متطهّرا[، أي من الحدث الأصغر والحدث الأكبر وهذه الصفة كمال، وإلاّ فجمهور العلماء رحمهم الله على أنّه يجوز أن يؤذّن المُحدث حدثاً أصغر وأكبر، يؤذّن مُحدث حدثاً أكبر إذا كان خارج المسجد، وهكذا يؤذّن مُحدث حدثاً أصغر ولا بأس بذلك ولا حرج، ولكن الأكمل والأفضل أن يؤذّن متطهّرا، وفيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ]لا يؤذّن إلاّ متوضئ[، وهذا الحديث اُختلف في رفعه ووقفه، والصحيح أنّه موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، فهي صفة استحباب المستحب أنّ يؤذن وهو على طهارةٍ كاملة، ولأنّ الأذان من ذِكر الله، وذِكر الله على طهارة أفضل ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث السنن وغيره: "إنّي كنت على غير طهارة فكرهت أنّ أذكر الله"، فدّل على أنّ ذكر الله الأفضل فيه والأكمل أنّ يكون الإنسان متطهّرا، خاصّة في هذه العبادة والطاعة.
…قال رحمه الله: ]على موضعٍ عالٍ[.(2/106)
…]على موضعٍ عالٍ[ أي مرتفع، أي يستحبّ أن يكون المؤذّن على مكانٍ عالٍ مثل سطح المسجد ومثل المنارة خاصّة عند وجود البنيان العالي، فأحتيج إلى المنارات، فيستحبّ أن يؤذّن على مكانٍ عالٍ لأنّ بلالاً رضي الله عنه كان يؤذّن على سطح بيت الأنصاريّة، وهذه من الصفات التي تُعين على مقصود الشرع، وأمّا في زماننا حيث تيسّر وجود هذه الأجهزة فيمكن وضع نفس الأجهزة على مكانٍ عال، لأنّها تحقّق مقصود الشرع من بلوغ الصوت والأذان.
…قال رحمه الله: ]مستقبل القبلة[.
…يُستحب أنّ يكون مستقبلاً للقبلة أثناء أذانه، وهذا على الكمال والأفضل، وعند الإقامة أشدّ عند العلماء أنّ يكون مستقبلاً للقبلة لأنّه يُعلم بالقيام لفعل الصلاة.
…قال رحمه الله: ]فإذا بلغ الحيعلة التفت يميناً وشمالا[.(2/107)
…]فإذا بلغ المؤذّن الحيعلة[ وهي قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، ]التفت يميناً وشمالا[ لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي جُحيفة وهب ابن عبد الله السوائي رضي الله عنه وأرضاه، قال أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبّة له حمراء من أدم وكان هذا في حجّة الوداع بعد فراغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحج ونزوله بالمُحصّب بجوار بطحاء بمكّة قبل رجوعه إلى المدينة، "أتيت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبّة له حمراء من أدم فخرج بلالٌ بوضوءٍ فمن ناضحٍ ومن نائل ثم أذّن فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا وهو يقول حي على الصلاة حي على الفلاح"، فهذا يدلّ على أنّ السنّة إذا بلغ المؤذّن أنّ يلتفت يميناً وشمالاً، وهذه سنّة باقية سواءً وُجد المكرفون أو لم يوجد المكرفون لأنّ المقصود أن يؤدّي هذه العبادة كيفما وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك يلتفت عن يمينه حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح عن يمينه وشماله، واختلف العلماء في قوله "يميناً وشمالاً"، والأصحّ أنّه يقول حيّ على الصلاة يميناً ثم يقول حيّ على الصلاة شمالاً، ثم يقول حيّ على الفلاح يميناً ثم يقول حيّ على الفلاح شمالاً، كذلك الأصحّ أنّه يبتدئ بحيّ ووجهه للقبلة، ثم ينحرف وجهه أثناء الحيعلة ويردّه إلى القبلة عند آخر الحيعلة هذا وجه، وهناك وجهٌ ثانٍ أنّه يبتدئ بحيّ على الصلاة مثلاً أو حيّ على الفلاح ووجهه للقبلة ثم ينحرف حتى يبلغ أقصى كتفه الأيمن، والأوّل أفضل وأكمل لأنّه يستوعب الجهة، ولابدّ من العدل في الحيعلتين لأنّه ما قلنا يميناً وشمالاً لأنّ التقسيم يقتضي المشاركة، بمعنى أنّ تكون لليمين حيّ على الصلاة ويكون للشمال كما كان لليمين، لكن أنّ يقول حيّ على الصلاة على اليمين مرّتين ثم يقول حيّ على الفلاح على الشمال مرتين هذا ليس فيه عدل، وفيه تفويت لإحدى الجهتين في الحيعلة، ومن هنا التقسيم يقتضي المشاركة فيجمع بينهما أي(2/108)
بين الجهتين عدلا.
…يلتفت يميناً وشمالاً دون استدارة، والمراد بذلك أنّ يكون جسمه مستقبلاً للقبلة ويلتفت بوجهه وصدره ثابت إلى القبلة وهنا نبيّن خطأ البعض في تطبيق السنن فمثلاً عند البعض لما يسمع من مثل هذه الأحاديث أو عند وجود الإلتفات في العبادات يُبالغ في الالتفات ثبتت السنّة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنّه كان يُسلّم عن يمينه حتى يُرى بياض خدّه"، فإذا جاء البعض يُسلّم انحرف بصدره عن القبلة، وهذا خطأ فاحش لأنّه ينظر أنّه لابس عمامة وإنّه لابدّ أنّ ترى الناس خدّه ولا يعلم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يلبس العمامة التي يلبسها، وأنّ مجرّد قوله هكذا هو الذي يحصل به المقصود، ولذلك ينّبه أمثال هؤلاء، لأنّه ينبغي أنّ يكون الإنسان مستقبلاً للقبلة بجسمه، ثم إذا أراد أنّ يلتفت يلتفت برأسه فقط، وأمّا الصدر والجسم فإنّه يكون مستقبلاً للقبلة، فأمثال هؤلاء ينصحون خاصة وأنّ هناك نوعاً من الحركة أنّك تجده يتحرّك حتى يلتفت، وهكذا بعضهم في الأذان ربمّا التفت بصدره والسنّة أنّ يلتفت برأسه لا بصدره فيبقى الصدر على جهة القبلة، فيُنصح أمثال هؤلاء ويُبيّن لهم.
…قال رحمه الله: ]ولا يُزيل قدميه[.
…]ولا يُزيل قدميه[ يعني لا ينحرف.
…قال رحمه الله: ]ويجعل أُصبعيه في أُذنيه[.
…ويجعل أُصبعيه السبّابتين في أُذنيه في صماخ أُذنيه، ويجعل الإبهام فوق الأُذن، وهذا أبلغ في قوّة الصوت، وفيه حديث الترمذي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي سنة يٌقصد منها قوّة الصوت وبلوغ الصوت.
…قال رحمه الله: ]ويترسّل في الأذان ويحدِر الإقامة[.(2/109)
…السنّة للمؤذن أنّ يترسّل في أذانه ويتأنّى في جمل الأذان، فيقول جُمل الأذان جملة جملة، وهذه هي السنّة في حديث بلال "أنّه أمره النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أن يترسّل في أذانه وأنّ يحدر في إقامته"، وضابط الترسّل عند العلماء أنّه يؤدّي الجملة ثم يترك وقتاً بقدر ما تُعاد هذه الجملة، لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول"، فقالوا يترك فراغاً بين الجملة والجملة بقدر ما تُعاد الجملة وتُردّد من بعده وورائه، والسنّة أنّ يترسّل في الأذان لأنّ المراد إعلام البعيد وحينما يترسّل يأخذ وقتاً كافياً لإيقاظ النائم وتنبيه الغافل وبلوغ الصوت للأبعد، ولكنّه إذا استعجل في أذانه فإنّه ربمّا فات البعيد ولم يبلغه الصوت.(2/110)
…]ويحدر الإقامة[ يُسرع، وهذه هي السنّة لأنّ الناس تنتظر الدخول في الصلاة، الوجه الثاني في كون الإقامة بسرعة أنّ الإقامة لمن هو في داخل المسجد يعني المعنى المراعى فيه أنّها إقامة لمن هو بداخل المسجد وإن كان الذي بخارج المسجد مقصوداً وهنا ننّبه على أنّه من الخطأ ومن التقصير وحرمان الناس الخير أنّ تكون الإقامة داخل المسجد، وأنّ تُقفل المكرفونات حتى لا يسمع الناس الإقامة، يالله العجب من مقصود الشرع أنّ ينتبه الناس للأذان والصلاة فتُقفل الأجهزة حتىّ لا يسمع الناس الإقامة، ويجتهد البعض ويقول هذا أبلغ في كون الناس تجتهدون، هذا لا ينبغي بل المنبغي معونة الناس على الخير والمنبغي أنّ نُهيّئ كلّ الأسباب للعلمٍ خاصة في أزمنة الغفلة، وهذا هو مذهب السلف ألا ترى عثمان رضي الله عنه حينما كثر الناس في السوق اضطرّ إلى أنّ يُحدث أذاناً في الجمعة، وهذا كلّه يدلّنا على فقه السلف في مراعاة تنبيه الناس لا العكس، أنّنا نأتي لما هو معروف من الحرص على إعلام القريب والبعيد فنُقفل هذه الأجهزة ونجعل الإقامة داخل المسجد، ولذلك ينبغي التنبيه على ذلك، وأنّ الناس بحاجة إلى من يُعلمهم بالإقامة كما هم بحاجة إلى من يُعلمهم بالأذان، وعلينا أنّ نرفق بالناس خاصّة في هذه الأزمنة التي كثر فيها اللهو وكثر فيها اللّغط وكثر فيها مشاغل الدنيا وضعف فيها الإيمان إلاّ من رحم الله، فلذلك ليس هناك وجه لحرمان الناس من سماع الإقامة، بل ينبغي أنّ يسمعها البعيد كما يسمعها القريب ولما فيها من معنى العبادة.
…قال رحمه الله: ]ويقول في أذان الصبح بعد الحيعلة الصلاة خير من النوم مرّتين[.(2/111)
…هذا ما يسمّى بالتثويب وقد أمر به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي محذورة عند النسائي، وكذلك جاء في أحاديث أُخر بمجموعها يقوي بعضها بعضاً فهي سنّة في صلاة الفجر في الأذان الثاني لا في الأذان الأوّل الذي يسبق دخول الوقت، ولذلك يُقال الصلاة خير من النوم وهذا لا يتأتّى قبل دخول الفجر، لأنّه لا معنى أنّ تقول قبل دخول الفجر الصلاة خير من النوم، ومن هنا اجتمع الأثر والنظر، وأمّا ما ورد من الأوّل فالمراد بالأوّل ما يسبق الإقامة، لأنّ الأذان هو الأوّل بالنسبة للإقامة وهذه أوليّة النسبة، وعلى هذا فإنّه يكون في أذان الفجر الثاني الذي هو إعلام بدخول وقت الفجر، فيقول الصلاة خير من النوم ولذلك قال: ألا إن العبد نام فأمره النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّ يجعلها في أذانه حينما قال الصلاة خير من النوم، فالسنّة أنّ تكون في الأذان الثاني إعلاماً للناس بفريضة الله - عز وجل - وأنّها أعظم للمسلم حظاً من نومه عن الصلاة المفروضة، يقولها مرّتين هذا يسمّى بالتثويب وهو مذهب الجمهور خلافاً لمن قال ببدعيّتها في أذان الفجر والصحيح أنّها تُقال في الأذان الثاني.
قال رحمه الله: ]ولا يؤذّن قبل الأوقات إلاّ لها[.(2/112)
…]ولا يؤذّن قبل الأوقات[ إلاّ لصلاة الفجر قبل دخول الوقت لا يؤذّن إلاّ في صلاة الفجر، لإن الأذان إعلام بدخول الوقت وأمّا صلاة الفجر فقد اُستثنيت لمعنىً يخصّها، فقد ثبت في الصحيحين أنّه قال عليه الصلاة والسلام: ]إن بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتىّ يؤذّن ابن أمّ مكتوم[، فجعل لبلال الأذان الأوّل قبل دخول الوقت وبيّن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - هذا الأذان فقال: "ليردّ قائمكم ويوقظ نائمكم"، ليردّ قائمكم أي يُعلمه بقرب الفجر فيوتر، وهذا يتأتى أنّ يكون بين الأذان الأوّل والأذان الثاني وقت، وأمّا قوله "إلاّ أن يطلع هذا وينزل هذا" في رمضان في الحديث الصحيح فهذا اُجيب عنه، أنّ بلالاً كان يؤذّن على سطح الأنصاريّة، ثمّ إذا بقي من الفجر القليل عجّل ابن أمّ مكتوم لأنّه كان لا يؤذّن حتى يُقال له أصبحت أصبحت يعني ويحك كِدت أنّ تُصبح، وهذا نوع من التحذير، ليس المراد من أصبحت أصبحت أنّه دخل في الصبح لأنّ الله أمرنا بالإمساك عند تبيّن الفجر الصادق من الفجر الكاذب ولن تستطيع أنّ تُمسك على الوجه المعتبر عند التبيّن إلاّ إذا أمسكت جزءً من الليل قليلاً، وحينئذٍ لابدّ أنّ يُحذر عند الدخول وقيل له أصبحت أصبحت أي بادر بالأذان ولم يكن بينهما إلاّ أن يصعد هذا وينزل هذا على بيت الأنصاريّة، وكان بلال يؤذّن ثم يضطجع وجاء عنه أنّه كان يلعن الكفار ويدعو عليهم، وهذا يستغرق وقتاً ويأخذ وقتاً والرواية بهذا صحيحة، فإذاً المراد بطلوعه ونزوله إنمّا هو الفاصل الذي يكون عند الاستبيان خشية دخول الوقت، فيعجل عبد الله ابن أمّ مكتوم حتى يصيب الناس الإمساك عند بداية بزوغ الفجر، وهذا هو الذي عليه العمل ودرج عليه أئمة من العلماء في شرح هذه السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(2/113)
…فلا يؤذّن لصلاةٍ قبل وقتها إلاّ لصلاة الفجر، فلا يؤذّن للظهر قبل الزوال، ولا يؤذّن للعصر قبل أنّ يصير ظل كل شيء مثله، ولا يؤذّن للمغرب قبل غروب الشمس، هذا أصل عند العلماء رحمهم الله.
…قال رحمه الله: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إن بلالً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتىّ يؤذّن ابن أمّ مكتوم"[.
…في قوله ولا يؤذّن لصلاةٍ قبل دخول وقتها إشارة إلى أنّه ينبغي التقيّد بالوقت ولا يصحّ الأذان قبل دخول الوقت، ولذلك من شروط صحّة الأذان أنّ يكون بعد دخول الوقت لا قبل دخوله، هناك شروط أخرى لم يشر إليها المصنّف، ومن شروطه أيضاً أنّ يكون بالعربيّة، فلا يصحّ الأذان بغير العربيّة، استثنى بعض الشافعيّة صوراً من الصور: أن يؤذّن لنفسه لكن نحن نتكلّم عن الأذان الذي في المدينة والذي عليه العمل الذي يٌبنى عليه عبادة الناس وصلاتهم لابدّ من أنّ يكون بالعربيّة فلا يصحّ بغير العربيّة، الأمر الثالث أنّ يكون مرتّباً على ترتيب الشرع؛ لأنّه عبادة توقيفيّة، فلا تُقدّم الحيعلة على الشهادتين ولا تُقدّم شهادة الرسالة على شهادة الوحدانيّة، بل لابدّ من أنّ يشترط في صحّة الأذان أن يكون مرتّباً ترتيب الشرع، فلو أخطأ المؤذّن فقدّم ما حقّه التأخير وأخّر ما حقّه التقديم راعى الترتيب وأعاد من آخر الصحّة، فلو أنّه رتّب لقول أشهد أنّ محمداً رسول الله ثم أخطأ فقال حيّ على الفلاح قبل حيّ على الصلاة قلنا له ارجع وقل حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة ثم قل حيّ على الفلاح حيّ على الفلاح، ولا يلزمه أنّ يستأنف، إذاً يشترط أنّ يكون مرتّباً، كذلك يُشترط أنّ يوالي بين ألفاظ الأذان فلا يفصل بينها بالفاصل المؤثّر والفاصل المؤثّر الفاحش، مثل أنّ يكون بأجنبيّ من الأقوال أو أجنبيّ من الأفعال، أجنبيّ من الأفعال مثل أنّ يأكل، يؤذّن مثلاً حتى إذا بلغ الشهادتين يأكل فيفصل بالأكل والأكل أجنبيّ، أو يؤذّن حتى إذا بلغ الشهادتين يقول(2/114)
كلاماً خارجاً عن الأذان، مثل أنّ يسبّ ويشتم هذا مخالف لمقصود الأذان خارج عنه، هذا فاصل مؤثّر أمّا لو تكلّم بالكلام اليسير من ذكر الله ونحو ذلك فإنّه لا حرج عليه، ويستمرّ في أذانه وهكذا لو فصل بفاصلٍ يسير من كلامٍ مع شخص يُنّبهه أو نحو ذلك فهذا لا يقطع الأذان بل يبني ويصحّ أذانه على هذا الوجه، يشترط كذلك أنّ لا يلحن لحناً يُحيل المعنى فإذا لحن لحناً يُحيل المعنى فإنّ الأذان لا يصحّ، كما أنّ يقول مُحآمداً هذا ليس بصحيح، لأنّ رسول الأمة محمّد وليس مُحآمداً، وكذلك قال بعضهم أنّ يقول حاي أو يقول مثلاً أكبار لأنّ أكبر وأكبار بينهما فرق، والكَبَر هو الطبل فلذلك إذا لحن لحناً يُحيل المعنى أبطل أذانه، وكذلك قوله وهذا يقع كثيراً عند أهل اللحن أنّ يقول أشهد أنّ محمداً رسول الله هذا من الأخطاء الموجودة، الذي ينبغي أنّ يُصحّح الأذان ولا يجوز التساهل في هذا والأئمّة هم اللّذين يأثمون لأنّهم يرون أخطاء مؤذّنيهم ويسكتون عليها ويُقرّونهم على ذلك، ولو أنّ كلّ إمام مسجد يُخطئ مؤذّنه يردّ عليه أثناء خطئه ويُباشر بالنصح فإنّ هذا المؤذّن يلتزم بالأذان الشرعي، ولكن إلى الله المشتكى من التساهل والتقاعس في مثل هذه الأمور بل ينبغي أنّ تُصحّح هذه الألفاظ يقول العلماء رحمهم الله ألفاظ الأذان تعبديّة توقيفيّة، مثل ألفاظ التشهد والأئمّة والعلماء إذا ضربوا المثال باللفظ الذي هو تعبّدي يضربون بألفاظ الأذان وألفاظ التشهّد، ولذلك لا يصحّ أن يقول أشهد أنّ سيّدنا محمّداً رسول الله، فهو سيّدنا عليه الصلاة والسلام لكن هذا الموضع جاء توقيفيّاً، لا تجوز فيه الزيادة ولا يجوز النقص منه، بل يُقتصر فيه على الوارد، هذه من الشروط التي ينبغي توفّرها في الأذان، وقالوا يُستحبّ ولا بأس أنّ يُلحِّن الأذان تلحيناً لا يخرجه عن المعنى، والألحان الّتي لا تخرج القرآن وألفاظ الأذان عن المعنى لا بأس بها، بل إنهّا قد تكون مقبولة(2/115)
وطيّبة عند سماع الأذان قد تُخشع القلوب هذا لا بأس به ولا حرج فيه بشرط أنّ لا يعتدي، ولذلك قالوا في القرآن:
إقرأ بلحن العُرب إن تُجوِّدِ……وأجز الألحان إن لم تعتدِ
فالألحان جائزة بشرط أنّ لا يكون فيها اعتداء، ولما سُأل الإمام أحمد رحمه الله سأله السائل عن التلحين في الأذان والتطريب الذي يُخرج الأذان عن ألفاظه قال للسائل ما اسمك؟ قال: محمّد، قال: أترضى أنّ يُقال لك يا مُحآمد، قال: لا، قال: فكيف ترضاه لنبيّك!, - صلى الله عليه وسلم -، فإذاً التلحين الذي يُخرج الأذان والألفاظ الشرعية عن صفاتها ومستحقّاتها لا يجوز.
…قال رحمه الله: ]ويستحبّ لمن سمع المؤذّن أن يقول كما يقول[.(2/116)
…]ويستحبّ لمن سمع المؤذّن أنّ يقول كما يقول[، لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال كما في الصحيحين: "إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول"، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنّه قال مثل ما قال المؤذّن وأمر من سمع النداء إذا فرغ المؤذّن أنّ يصلّي على النبيّ، قال - صلى الله عليه وسلم -: ثمّ صلّوا عليّ وسلوا لي الوسيلة فإنّه من سأل لي الوسيلة حلّت له شفاعتي" صلوات الله وسلامه عليه، فالسنّة إذا سمع المؤذّن أنّ يقول مثل ما يقول حتىّ يبلغ المؤذّن حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح فيقول لا حول ولا قوّة إلاّ بالله كما ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وإذا قال الصلاة خير من النوم فالصحيح أنّ يقول الصلاة خير من النوم لأنّه أُمر أنّ يقول مثل ما يقول المؤذّن وفي الحيعلتين لا وجه أنّ يقول حيّ على حيّ على الفلاح، لكن إذا قال الصلاة خير من النوم نوع شهادة فيشهد أنّ الصلاة خير من النوم فيقول مثل ما يقول المؤذّن، ومن البدع والمحدثات أنّ تجد كلماتٍ عجيبة فمنهم إذا قال المؤذّن لا إله إلاّ الله منهم من يقول حقاً، ومنهم من يقول صدقاً، النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قولوا مثل ما يقول" وأمرنا بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام، وللأسف أنّ تسمع هذا فيما يشيع عند الناس من وسائل الإعلام أنّك تجد البعض يقول حقّاً وصدقاً ثم مباشرة يقول اللّهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة حتى يُعلم الناس أنّ يقولوا هذا، والسنّة أن يقول مثل ما قال المؤذّن ثم يصلّي على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنّه سيدعو والصلاة على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أسباب الإجابة كما ثبتت الأحاديث الصحيحة أنّها من أسباب قبول الدعاء وجود الصلاة فيه على النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فيستفتح بالصلاة على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لمعنيين المعنى الأوّل ذكره عليه الصلاة والسلام أثناء الأذان، ومن هنا قال بعض(2/117)
العلماء إذا قال المؤذّن أشهد أنّ محمدً رسول الله أّخّر الصلاة إلى ما بعد الأذان، كُل هذا حرصً على اللفظ التوقيفي فلاّ يزيد بالصلاة ويدخلها، وإن كان ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - "أنّه كان إذا قال المؤذّن أشهد أنّ لا إله إلاّ الله يقول رضيت بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولا يقولها ثلاثاً عليه الصلاة والسلام" وهذه سنّة، ثم إذا فرغ من الأذان صلّى على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثمّ سأل الله - عز وجل - الوسيلة فقال (اللهمّ ربّ هذه الدعوة التامّة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدّته)، هذا هو الوارد وهذا هو الصحيح ولا يُزاد على ذلك ولا ينقص منه لأنّها هذه هي السنّة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمّا (آته الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة العالية في الجنّة) هذه كلّها أحاديثها ضعيفة، الصحيح الوارد آتِ محمداً الوسيلة، والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدتّه، هذا هو المحفوظ في سنّته عليه الصلاة والسلام.
…قال رحمه الله: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول[.
…إذا سمعتم النداء يعني المؤذّن، فقولوا مثل ما يقول هذا في الأذان وهكذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما في حديث معاوية، وأمّا في الإقامة ففيها وجهان من العلماء من قال يقول مثل ما يقول المُقيم ومنهم من يقول: إنّه يقتصر على الأذان وهو أقوى.
…قال الإمام المصنّف رحمه الله تعالى: ]باب شرائط الصلاة[.(2/118)
…يقول المصنّف رحمه الله باب شرائط الصلاة، الشرائط جمع شرط والشرط هو العلامة منه الشّرْطَة، والمراد بالشرط عند العلماء رحمهم الله هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود، مثلاً الطهارة يلزم من عدمها عدم الصلاة، ولا يلزم من وجود الطهارة وجود الصلاة، وقال رحمه الله ]شرائط[ لأنّ الصلاة لها أكثر من شرط، وهي ستّة شروط ذكرها المصنّف رحمه الله ويمكن أنّ تُختصر لأقل، وشرع المصنّف رحمه الله في شرائط الصلاة لأنّها تسبق الصلاة، ومن هنا قدّمها على باب صفة الصلاة، وآداب المشي إلى الصلاة لأنّ الشرائط يجب في تحصيلها الوضوء والطهارة الطهارة من الحدث والطهارة من الخبث في الثوب والبدن والمكان، وستر العورة والنية فهذه كلّها تسبق الصلاة، وإن كان النيّة يجوز أنّ تكون مقارنة لتكبيرة الإحرام، فهذه كلّها شرائط ينبغي أنّ تسبق الصلاة وأنّ يكون المصلّي مُتهيّئً بها لأداء العبادة والوقوف بين يدي الله - عز وجل -.
…قال الإمام رحمه الله: ]وهي ستّة[.
…إجمالٌ قبل البيان والتفصيل وقد بيّنا أنّ هذا له فوائد.
…قال رحمه الله: ]الشرط الأوّل الطهارة من الحدث[.
…هي ستّة الطهارة من الحدث، والطهارة من الخبث في الثوب والبدن والمكان، ودخول الوقت، واستقبال القبلة، وستر العورة، والنّية، هذه ستّة شروط، وبعضهم يجعل الطهارة من الخبث والحدث شرطاً واحداً، فيقول الطهارة من الحدث والخبث فيجمعهما، هذه الشروط سنبيّن إن شاء الله الأدلّة التي دلّت على وجوب وجودها وأنّها يتوقّف الحكم بصحّة الصلاة على وجودها.
…قال رحمه الله: ]الطهارة من الحدث[.(2/119)
…هذا الشرط الأوّل الطهارة من الحدث، والحدث تقدّم معنا أنّه صفة حُكميّة تمنع موصوفها من استباحة الصلاة والطواف بالبيت ونحوه ممّا تشترط له الطهارة، والحدث قلنا حدث أصغر وحدث أكبر، فلا يجوز للمسلم أنّ يصلّي صلاة الفريضة أو النافلة إلاّ وهو طاهر من الحدث الأصغر والأكبر، والدليل على ذلك أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتىّ يتوضأ"، وهو حديث أبي هريرة في الصحيحين، هذا الحديث أصل عند العلماء في اشتراط الطهارة لصحّة الصلاة، وننبّه على مسألة مهمّة، وهي أنّنا إذا قلنا شرط فمعنى ذلك أنّه يجب وجود الطهارة، والحكم الثاني أنّ الصلاة لا تصحّ بدونه، وحينئذٍ نفتقر إلى دليلين دليل الإلزام بالوضوء والطهارة، ودليل عدم صحّة الصلاة بدون طهارة، فالمصنّف من دقّته رحمه الله ذكر الدليل الّذي يدلّ على عدم صحّة الصلاة عند عدم الطهارة، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث" وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم "لا تُقبل صلاة بغير طُهور ولا صدقة من غُلول"، فالمقصود أنّه ذكر ما يدلّ على عدم صحّة الصلاة عند عدم الطهارة، أمّا الإلزام بالطهارة فهذا مستفاد من قوله تعالى{????????????????? fUT?Y?PV?@… N…;éS?W?…ƒ? …W¢XM… `yST?`USTI ?V?XM… Y?léV?UfT±?@… N…éR?Y©<ç?@†WTE ??R?W?éS–Sè } ، فهذه الطهارة من الحدث الأصغر، والطهارة من الحدث الأكبر { UMX…Wè ??S??R? †_T‰TS?TS– &N…èS£QW?J??@@†WTE } ، فأمر الله بالطهارة من الحدث الأصغر وأمر بالطهارة من الحدث الأكبر، ومن هنا قالوا إنّه تجب الطهارة لفعل الصلاة ولا تصحّ الصلاة بدون طهارة، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث" القبول هنا مماّ يستلزم نفي الصحّة، لأنّ القبول يأتي مستلزماً لنفي الصحّة كما في حديثنا وكما في قوله تعالى { †W?Wè `yS?W?W?W? UKV… WOTW‰`?ST? `?S?`?Y? `yS?S?HTW?WEWT?(2/120)
:‚PV?MX… `yS?PVT?KV… N…èS£WEW{ gJ?/@†Y? -Y?YT?éS?W£Y?Wè } ، فهنا النفي الذي يدلّ على نفي الصحّة هو نفي القبول، وقد يُطلق القبول على ما لا يستلزم نفي الصحّة كما في قوله عليه الصلاة والسلام { لا يقبل الله صلاة مُسبل } ، فإنّ الصلاة صحيحة ولا يُطالب المُسبل بالإعادة لكن لا تُقبل، وتوضيح ذلك أنّك إذا فعلت العبادة على وفق ما أُمرت به شرعاً فحصّلت المأمورات وتركت المنهيّات فإنّه في هذه الحالة أدّيت ما عليك، فتصحّ العبادة منك ثم هل يتقبّل الله العبادة أو لا يتقبّل؟ يحتمل أنّ يتقبّلها الله - عز وجل - فضلاً منه وكرما ويحتمل أنّ لا تكون مقبولة، إذا ليس كلّ صحيح مقبولا وكلّ مقبولٍ صحيح، لأنّ الله لا يتقبّل إلاّ ما كان صحيحاً على الوجه المعتبر، فأصبح القبول مرتبة فوق الصحّة، ففي بعض الأحيان يُعبرّ الشرع بالقبول الذي هو فوق الصحّة الذي لا يستلزم نفي الصحّة، فقد تقول إن الله لا يقبل الحجّ ممن حجّ بمالٍ حرام، فلو حجّ بمالٍ حرام صحّ حجّه فلا يُطالب بالإعادة كما هو مذهب الجمهور ولكن لا يتقبّل الله - عز وجل -،
إذا حججتَ بمالٍ لسَت تَملِكَه……فما حججتَ ولكن حجّتِ العيرُ
لا يقبل الله إلاّ كل صالحةٍ……ما كلُّ من حجّ بيت اللهِ مبروُ
وإذا لم تتقبل العبادة فبلاء على العبد، لكن الذي يهمّنا هنا من ناحية الأحكام الفقهيّة فإنّ الطهارة من الحدث شرط في صحّة الصلاة الحدث الأصغر والأكبر، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث" معناه لا تصحّ الصلاة، ومن هنا يكون نفي القبول مستلزماً لنفي الصحّة، وهذا هو مذهب جماهير العلماء رحمهم الله من السلف والخلف على أنّ الصلاة لا تصحّ بدون طهارة، ومن هنا أمر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من ترك قدر اللُمعةِ من قدمه أنّ يُعيد الوضوء والصلاة وهذا يدلّ على أنّه لابدّ من الطهارة من الحدث للحكم بصحّة الصلاة وإجزائها.(2/121)
…قال رحمه الله: ]لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا صلاة لمن أحدث حتىّ يتوضّأ" [.
…نعم اللفظ "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتىّ يتوضّأ".
…قال رحمه الله: ]الشرط الثاني الوقت [.
…الشرط الثاني دخول الوقت، فلا تصحّ صلاة الظهر قبل الزوال، ولا تصحّ العصر قبل أنّ يصير ظل كلّ شيء مثله، ولا تصحّ المغرب قبل غروب الشمس، ولا تصحّ العشاء قبل ذهاب الشفق، ولا تصحّ الفجر قبل تبيّن الفجر الصادق من الفجر الكاذب إلاّ في حال الجمع في الصلوات التي تُجمع جمع تقديم، فلا تصحّ الصلاة قبل وقتها، ولا يجوز للمسلم أنّ يؤخّر الصلاة عن آخر وقتها إلاّ فيما عَذر الله - عز وجل -، هذا أصل والدليل على ذلك قوله تعالى: { QWUMX… W?léV?UfTT±?@… pŒWT?†V? ?V?W? fûkY?Y?`ëSU<?@… †_‰HTWT?Y? †_T?éSTI`éQW? (103) } ، وقال سبحانه: { gyYIVK… W?léV?J?±?@… gIéST?S?Y? X¨`UPV ?@… u?V?XM… g?W©Wç? XOT`~TPV?@… WU…ƒ??£TSTIWè X$£`•WE<?@… } فجمع أربعة فروض لدلوك الشمس يعني لزوالها، إلى غسق الليل منتصف الليل، فجمع أربعة فروض من دلوك الشمس إلى غسق الليل صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم أشار إلى الصلاة الخامسة U…ƒ??£TSTIWè { ? X$£`•WE<?@… } وهي التي تكون عند انفجار الصبح والنهار وتبيّن ضوئه من ظلمة الليل، فهذا هو الأصل أنّه لا تصحّ الصلاة إلاّ بعد دخول وقتها، وأجمع العلماء رحمهم الله على ذلك.
…قال رحمه الله: ]ووقت الظهر من زوال الشمس إلى أنّ يصير ظلّ كلّ شيء مثله [.
ابتدأ رحمه الله بصلاة الظهر، والظهر من الظهور وهو الغلبة، كما قال تعالى: { ??????????????? W??X£X?HTVA? } أي غالبين، فالظهور هو الغلبة قالوا لأنّ النهار غلب لأنّ هذه الصلاة لا تقع إلاّ بعد انتصاف النهار، ومعنى ذلك أنّك استوعبت أكثر النهار، وقيل أنّها من الظهيرة.(2/122)
…وابتدأ المصنّف رحمه الله بيان المواقيت بصلاة الظهر وهذه هي السنّة، ومن هنا يُعتبر من فقه المصنّف رحمه الله وهو مسلك لطائفة من العلماء عند بيان أوقات الصلوات أنّ يبتدئوا بصلاة الظهر تأسّياً بالوارد، ولذلك سُمّيت صلاة الظهر الأولى، والسبب في ذلك أنّ الله لما بيّن لنبيه عليه الصلاة والسلام مواقيت الصلاة صبيحة الأسراء ابتدأ ببيان صلاة الظهر، فنزل جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد زوال الشمس من صبيحة الإسراء وقال: يا محمّد قم فصلّ فتوضّأ وعلّمه الوضوء ثم صلّى الظهر بعد زوال الشمس، فابتدأ بيان المواقيت بصلاة الظهر ولذلك تسمّى الأولى، قال أبو برزة رضي الله عنه كما في الصحيحين "كان يصلّي الهجير التي تدعونها الأولى حين تضحد الشمس" يعني حين تزول، فتُسمى الظهر وتُسمى الهجير، وتُسمى الأولى، هذه أسماء صلاة الظهر وابتدأ بها المصنّف مراعاة لهذه السنّة أجمع العلماء رحمهم الله على أنّ صلاة الظهر تبتدأ بزوال الشمس، والزوال أصله الحركة زال الشيء إذا تحرك، وزوال الشمس لا يكون إلاّ بعد انتصاف النهار، وتوضيح ذلك أنّ الشمس لها ثلاثة أحوال، تكون في أوّل النهار وآخر النهار ووسط النهار، فإذا كانت في أوّل النهار كان الظلّ في جهة المغرب ويتقاصر حتى تبلغ منتصف اليوم أو كبد السماء فيقف الظلّ وتقف حركة الشمس فتقف عن الحركة على لحظات يسيرة تطول وتقصر على حسب الصيف والشتاء، ثم تتحرّك وهو آخر النهار وهو الوقت الثالث فإذا تحرّكت ابتدأ تحرّكها عُرف ذلك ببداية تحرّك الظل، وزيادته تحرّكه إلى المشرق أو زيادته فحينئذٍ يُقال زالت الشمس، ودحضت الشمس، ودلكت الشمس، كلّها المراد بها أنّه في هذه الحالة يبدأ وقت الظهر، فعند ابتداء تحّرك الظلّ وابتداء زوال الشمس لماذا قالوا زوال؟، لأنّها تكون في كبد السماء فتقف، قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا كانت - يعني في منتصف النهار - فأمسك عن الصلاة"، قال: "حتى(2/123)
يقوم قائم الظهيرة"، يقوم قائم الظهيرة يعني الظلّ يقوم يقف ما يتحرّك لا بالزيادة ولا جهة المشرق ولا المغرب فيقف، "حتى يقوم قائم الظهيرة فأمسك عن الصلاة فإنّها ساعة تُسجر فيها أبواب جهنّم"، فهي ساعة غضب وهذه هي الساعة التي نُهي عن قبر الموتى فيها كما في الصحيح "ثلاث ساعاتٍ نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّ نصلّي فيهن أو أنّ نقبر موتانا"، فإذا انتصف النهار ابتدأت الشمس بعد ذلك بالزوال، فتتحرّك إلى جهة المغرب، فإذا ابتدأت حركتها إلى جهة المغرب فقد زالت وابتدأ وقت الظهر بإجماع العلماء، والدليل على ذلك قوله تعالى: { gyYIVK… W?léV?J?±?@… gIéST?S?Y? X¨`UPV ?@… } ، ودلوكها زوالها، وقوله في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث أبي برزة لما سأله أبو المنهال سّيار ابن سلامة فقال له: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلّي المكتوبة؟، قال: "كان يصلّي الهجير الّتي تدعون الأولى حين تضحد الشمس"، فهذا يدلّ على أنّ وقت الظهر عند زوال الشمس، وهكذا ثبت في الصحيح من حديث أنس وحديث عبد الله بن عمرو وغيرهما رضي الله عن الجميع، أجمع العلماء على أنّه يبتدأ وقت الظهر عند زوال الشمس.
…قال رحمه الله: ]ووقت الظهر من زوال الشمس إلى أنّ يصير ظلّ كلّ شيء مثله [.(2/124)
…]ووقت الظهر من زوال الشمس [ من للابتداء أنّ يبتدأ عند زوال الشمس، إلى أنّ يصير ظلّ كلّ شيء مثله، لأنّ جبريل عليه السلام صلّى بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - يومين اليوم الأوّل صلّى جميع الصلوات في أوّل وقتها، واليوم الثاني صلّى جميع الصلوات في آخر وقتها، فصلّى الظهر في اليوم الأوّل بعد أن زالت الشمس، وقال: يا محمّد قُم فصلّ وصلّى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظلّ كلّ شيء مثله وهذا هو وقت الظهر، تنظر إلى وقوف ظلّ الزوال ظلّ الشمس إذا وقف عند انتصاف الشمس في كبد السماء على قدم ونصف ونحو ذلك مثلاً، إذا وقف على قدم ونصف من الشاخص تحسب طول الشاخص وتعتدّ بما بعد القدم والنصف، يعني ظلّ كلّ شيء مثله بعد ظلّ الفيء والزوال، لأنّ الزوال يقف على ظلّ وقدر يطول ويقصر على حسب اقتراب الشمس من خطّ الاستواء أو بعدها عنه، فحينئذٍ إذا وقفت على قدم ونصف مثلاً في هذه الحالة تحسب ما بعده فالشاخص إذا كان طوله مثلاً متراً تحسب المتر فوق ما وقفت عليه الشمس عند انتصاف النهار، فظلّ كلّ شيء مثله بعد ذلك، وعلى هذا لا تستطيع أنّ تعرف وقت العصر ما لم تعرف قدر الزوال وقدر الشاخص عند الزوال، ثم تحسب طول الشاخص وتحسب ما فوق ظل الزوال، هذا بالنسبة لوقت الظهر نهايةً، ومن هنا أّم جبريلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الثاني في صلاة الظهر بعد أنّ صار ظلّ كلّ شيء مثله، وقد بيّنا أنّ العلماء اختلفوا في هذه المسألة وهذا هو طبعاً مذهب الجمهور رحمهم الله وفصّلنا في هذه المسألة في شرح البلوغ.
…قال رحمه الله: ]ووقت العصر وهي الوسطى من آخر وقت الظهر إلى أنّ تصفرّ الشمس [.
…]ووقت العصر [ إذا عصر الشيء أخرج ما فيه، والعصر يُسمّى الدهر والزمان كلّه يُسمى العصر وهو اليوم والليلة.
ولن يلبث العصران يومٌ وليلة……إذا طلبا أنّ يُدْرِكَا ما تيمماَ(2/125)
…قال بعض العلماء في قوله تعالى { والعصر } أي والدهر أقسم الله بالزمان كلّه، ولله أنّ يُقسم بما شاء، وليس لعبده أو أمته إلاّ أنّ يٌقسما بالله وحده لا شريك له، العصر هذا الوقت إذا وصل النهار إليه فقد اعتصر يعني ذهب أكثره، ومن هنا سُمّي هذا الوقت عصراً، العصر هي الصلاة الثانية وهي الوسطى، وهي الوسطى في قول طائفة من أئمّة السلف من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين، أنّها هي الصلاة الوسطى لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال يوم الخندق: "ملأ الله بيوتهم أو قبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر"، فهذا نص صريح مُبيّن أنّ الصلاة الوسطى هي العصر، خلافاً لمن قال بغير ذلك، وقد فصّلنا في هذه المسألة وذكرنا أقوال العلماء وأدلّتهم وأنّ الراجح أنّها الصلاة الوسطى، وذلك لصريح هذا الحديث وهي وسطى لأنّها بين صلاة نهاريّة وليليّة ووسطى لأنّها بين جهريّة وسريّة، ووسطى لأنّها بين الثلاث والأربع، وعلى كلّ حال مادام أنّ الحديث قد صحّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كفى المؤونة، فهي الصلاة الوسطى وإذا قلنا هي الصلاة الوسطى فهي أفضل الصلوات الخمس، ومن هنا فضّلها الله - عز وجل - فقال: { N…éRA¹YEHTW? ?V?W? g.WéV?UfT±?@… Y?léV?UfTT±?@…Wè u?V¹??Sé<?@… N…éS?éSTIWè Y?PV?Y? WUkY?Y?HTWTI (238) } ، فخصّها بالذكر، فذكر الصلوات ثم خصّ الصلاة الوسطى ولا يُخصّ من العموم إلاّ للشرف، كما قال تعالى: { ? ?PV¥W?WT? SàV?MXù;HTTV?WU<?@… S—èQS£?@…Wè †W?~YE } ، فهذا تخصيص شرف ومن هنا هي أفضل الصلوات وقد أجمع العلماء على أنّ الصلاة الوسطى هي أفضل الصلوات، على خلاف ما هي هذه الصلاة.(2/126)
…تبدأ صلاة العصر أو الصلاة الوسطى من آخر وقت الظهر وهو من حين أن يصير ظلّ كلّ شيء مثله، هذا بداية وقت صلاة العصر، والدليل على ذلك أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أّمه جبريل في اليوم الأوّل في صلاة العصر حين صار ظلّ كلّ شيء مثله، فجاءه حين صار ظلّ كلّ شيء مثله وقال له: قُم يا محمد قُم فصلّ، فهذا وقت العصر ابتداءً.
قال رحمه الله: ]ووقت العصر وهي الوسطى من آخر وقت الظهر إلى أنّ تصفرّ الشمس [.
…]من آخر وقت الظهر [ يعني الذي هو أنّ يصير ظلّ كلّ شيء مثله، ]إلى أنّ تصفرّ الشمس [، إلى أنّ تصفرّ الشمس اصفرار الشمس قبل الغروب وهو ما يقارب وقت الأصيل آخر النهار، وفي هذا الوقت ينطفئ شعاع الشمس إذا بلغت هذا القدر فإنّه انتهى وقت الاختيار، وصلاة العصر فيها وقتان وقت اختيار ووقت اضطرار فالوقت الأختياري هو الوقت الذي يجوز لك أنّ تؤخّر الصلاة إلى حّده، والوقت الاضطراري هو الذي لا يجوز لك أنّ تؤخّر الصلاة إليه إلاّ عند الضرورة، ويُحكم بأحكام الوقت فيه يعني الاضطراري للمعذور، مثل الحائض والنفساء تطهران قبل غروب الشمس في هذا الوقت تُصلّيان ويلزمهما القضاء لصلاة الظهر إذا أدركا خمس ركعات قبل غروب الشمس هذا وقت الاضطرار، يكون لأهل الضرورة كالمجنون يُفيق والمرأة الحائض تطهر فالدليل على ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ووقت العصر مالم تصفرّ الشمس" وهذا القول هو الصحيح، لأنّ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص متأخّر على حديث جبريل، ومن هنا المتأخّر ينسخ المتقدّم، ففصّل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنّ حديث جبريل أنّه جعل وقت العصر حين يصير ظلّ كلّ شيء مثليه، فلمّا جاء حديث عبد الله بن عمرو بن العاص متأخّراً صار ناسخاً للمتقدّم، ومن هنا يكون وقت العصر الاختياري إلى أنّ تصفر الشمس، فإذا اصفرّت الشمس دخل وقت الضرورة.
…قال رحمه الله: ]ثم يذهب وقت الاختيار [.(2/127)
…ثم يذهب وقت الاختيار ما الدليل على التفريق بين الضرورة والاختيار؟، قال - صلى الله عليه وسلم -: "وقت العصر مالم تصفرّ الشمس"، ثم قال في الحديث الآخر: "من أدرك ركعةً قبل أنّ تغرب الشمس فقد أدرك العصر"، ففهمنا أنّ العصر يُدرك وقته بما قبل غروب الشمس بركعة، فصار وقت اضطرار فلو قال قائل لماذا لا نجعله وقت اختيار؟ نقول لقوله عليه الصلاة والسلام "تلك صلاة المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا كانت الشمس بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيهن إلاّ قليلا"، فورد الذم على من يفعل الصلاة اختياراً في هذا الوقت، وورد الاعتبار على من يفعلها اضطراراً في هذا الوقت، ففرّقنا بين الأختياري والاضطراري بتفريق السنّة، وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله وطائفة من السلف وفيه اعتبار للأحاديث المتأخّرة وعمل بمجموع الأحاديث.
…قال رحمه الله: ]ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس [.
…وقت الضرورة إلى غروب الشمس، إذا طهرت الحائض قبل غروب الشمس وهي مسافرة في السفر نعتدّ بصلاة العصر ونضيف لها ركعة، فتُدرك الوقت بركعة، لو أدركت قبل غروب الشمس قدر ما تصلّي ركعة واحدة تلزمها صلاة العصر حضراً وسفراً، لو أدركت قدر ما تصلّي ركعتين تلزمها صلاة العصر حضراً وسفراً، لو أدركت ثلاثة ركعات نظرنا فإنّ كانت في سفر فركعتان للعصر وركعة للظهر، لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك ركعةً قبل أنّ تغرب الشمس فقد أدرك العصر"، فجعل الإدراك بركعة، فلمّا كان المسافر عليه ركعتان فهي أدركت ثلاث ركعات فنقول ركعتان للعصر وركعة للظهر، وأما إذا كانت مقيمة فإنّها - وكذلك إذا أفاق المجنون - أو طهرت الحائض والنفساء قبل الغروب بثلاث ركعات وهو مقيم لزمته العصر ثم أربع ركعات تلزمه العصر، ثم خمس ركعات تلزمه الظهر والعصر، فيلزم بقضاء الصلاتين لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - جعل القضاء بركعةٍ تامّة.(2/128)
…قال رحمه الله: ]ووقت المغرب إلى أنّ يغيب الشفق الأحمر [.
…]ووقت المغرب [ وهي الصلاة الثالثة سمّيت بوقتها، والغروب غروب الشمس، وغرب الشيء إذا ذهب وولىّ ولم يبق للعيان، وغروب الشمس سقوطها، ولذلك قال كما في الصحيح من حديث جابر "والمغرب إذا وجبت"، أي كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يصلّي المغرب إذا وجبت الشمس، ووجبت الشمس يعني سقطت وغاب قرصها، لأنّ الوجوب في لغة العرب يُطلق على معنى السقوط ومنه قوله تعالى { …V¢MX†WTE pŒW‰W–Wè †W?S?éS?TS– } ، يعني سقطت واستقرّت على الأرض، فقول الراوي "والمغرب إذا وجبت" أي كان يصلّي النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة المغرب إذا وجبت الشمس يعني سقط قرصها وغاب عن الأنظار، أجمع العلماء رحمهم الله على أنّ وقت المغرب يبدأ بغروب الشمس.
…قال رحمه الله: ]ووقت المغرب إلى أن يغيب الشفق الأحمر ووقت العشاء من ذلك إلى نصف الليل [.
…ووقت المغرب من الغروب ما لم يغب الشفق، الشفق شفقان شفقٌ أحمر وشفقٌ أبيض يلي الأحمر، ثم بعده تكون العتمة وظلمة الليل، فما بين الشفق الأبيض والأحمر هذا القدر الذي هو ما بين الشفق الأحمر والعتمة الشفق الأبيض هذا، وهو بقدر ثلاث درجات فلكيّة كما ذكر بعض العلماء استناداً لقول بعض المختصّين بالفلك، وكلّ درجة تُقارب أربع دقائق، فيقرب من اثنتي عشرة دقيقة هي محلّ الخلاف بين العلماء، فبعض العلماء يقول المغرب ينتهي بمغيب الشفق الأحمر، وبعضهم يقول ينتهي بمغيب الشفق الأبيض، والصحيح مذهب الجمهور لأنّ الحنفيّة هم اللذين يقولون الشفق الأبيض، واعتدّ الحنفيّة بالشفق الأبيض؛ لأنه أحوط وهو الأكمل وهو ذهاب البياض بعد الحُمْرة، والذي عليه المُعّول أنّ الشفق هو الشفق الأحمر، ولذلك العرب إذا أطلقت الشفق انصرف إليه كما احتجّ الفقهاء والأئمّة والعلماء بقول الشاعر:
رميتُها بنظرةٍ من ذي عَلَق……قد أثّرت في خدِّها لونَ الشفق(2/129)
…فقال (لون الشفق) ولا يكون في خدّها إلاّ الحُمرة، وهذا يقصد الحُمرة بلا إشكال، فدلّ على أنّ العرب إذا أطلقت الشفق فالمراد به الشفق الأحمر، وغيره يٌقيّد فيٌقال الشفق الأبيض، فمذهب الجمهور على أنّ وقت المغرب ينتهي بمغيب الشفق، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "ووقت المغرب ما لم يغب الشفق"، فإذا غاب الشفق دخل وقت العشاء وهي الصلاة الرابعة، والعشاء تكون في العتمة وسّماها الله - عز وجل - وسمّاها رسوله - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ولذلك كُره تسميتها بالعتمة وقال إنهّم يعتمون بالإبل لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم فإنّهم يٌعتمون بالإبل، فكان من كرم العرب أنّهم لا يحلبون الإبل إلاّ بعد العتمة خوفاً من إتيان الضيف والطارق.
…فيقول رحمه الله: إنّ وقت العشاء يبدأ من نهاية وقت المغرب يعني من مغيب الشفق إلى منتصف الليل، لأنّ الله تعالى يقول : { gyYIVK… W?léV?J?±?@… gIéST?S?Y? X¨`UPV ?@… u?V?XM… g?W©Wç? XOT`~TPV?@… WU…ƒ??£TSTIWè X$£`•WE<?@… } ، قيل انتصافه، وثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه وعن أبيه أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ووقت العشاء إلى نصف الليل"، فهذا يدلّ على أنّ وقت العشاء الأختياري ينتهي عند نصف الليل، ثم يبدأ وقت الضرورة من منتصف الليل إلى طلوع الفجر لبظاهر حديث حُذيفة، في أنّه "لا تنتهي صلاةٌ حتى يدخل وقت الأخرى" وهذا يستثنى منه الفجر فقط مع الظهر، وتبقى الصلوات الأخرى على هذا الأصل، وتشترك العشاء مع العصر في مسألة الأختيار والضرورة بالتفصيل الذي ذكرناه في صلاة العصر.
…قال رحمه الله: ]ثم يبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني [.
…قال رحمه الله: ]ووقت الفجر من ذلك إلى طلوع الشمس [.(2/130)
…]ووقت الفجر من [ يعني يبتدأ ]من ذلك [ يعني عند تبيّن الفجر الصادق من الكاذب، وهذا بإجماع العلماء على أنّ وقت الفجر يكون عند تبيّن الصبح، وهذه هي السنّة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والفجر فجران فجرٌ صادقٌ وفجرٌ كاذب، والفجر الصادق هو الذي ينتشر في الأفق، والفجر الكاذب هو الضوء الصاعد الساطع المُصعّد لا يؤثّر الذي هو الضوء وهو الذي يكون في منتصف السماء كمجر الكبش، فإنّ هذا لا يؤثّر وإنمّا العبرة بالفجر الصادق الذي ينتشر ضوؤه بالأفق، فهذا الفجر الصادق يبتدأ به وقت الصبح ما لم تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس فقد انتهى الوقت، وعلى هذا فإنّ صلاة الصبح تنتهي بطلوع الشمس وهذا قول جماهير السلف والخلف وحُكي الإجماع عليه خلافاً لمن شّذ ويُحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه لا ينتهي وقت الصبح إلاّ بأذان الظهر أو بالزوال ولكن الصحيح أنّه ينتهي بطلوع الشمس، لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "وقت الصبح ما لم تطلع الشمس".
…قال رحمه الله: ]ومن كّبر للصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها [.(2/131)
…من كّبر للصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها هذا قول لبعض العلماء، أنّ الصلاة تُدرك بتكبيرة الإحرام، وعلى هذا فلو أنّه كّبر للصّلاة قبل طلوع الشمس ثم طلعت الشمس فقد أدرك الصبح، والصحيح أنّ العبرة في إدراك وقت الصلاة بركعة كاملة، فمن أدرك الركوع وأدرك أنّ يركع قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر، ومن ركع قبل طلوع الشمس فقد أدرك وقت الصبح، لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نصّ على ذلك فقال: "من أدرك ركعةً قبل أنّ تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعةً قبل أنّ تغرب الشمس فقد أدرك العصر"، وهنا يُفرّق بين إدراك الفضيلة وإدراك الحُكم، فإدراك فضيلة الجماعة وإدراك فضيلة الصلاة يكون بتكبيرة الإحرام قبل تسليم الإمام، وإدراك الحُكم لا يكون إلاّ بإدراك ركعة فأكثر، على ظاهر قوله "من أدرك ركعةً"، ومن هنا يتّضح الفرق في صلاة الجمعة فمن خرج من بيته لها وأدرك أنّ كّبر تكبيرة الإحرام قبل أنّ يُسلم الإمام كُتب له الأجر، ولكن إذا سلّم الإمام يتم أربع ركعات ظهراً لأنّه لم يُدركها حُكماً، ولكن إذا أدرك ركعةً من صلاة الجمعة فإنّه يضيف ركعةً واحدة لأنّه أدرك الجمعة، ومن هنا فُرّق بين إدراك الفضيلة الذي دلّ عليه حديث أبي هريرة في الصحيح عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صلاة الرجل في مسجده تُضعّف على صلاته في بيته وسوقه خمساً وعشرين ضعفا، وذلك أنّه - جملة وذلك أنّه تعليليّة - إذا توضّأ فأسبغ الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يُخرجه إلاّ الصلاة - هذا الشرط لإدراك الفضائل - لم يخط خطوة ... إلى آخر الحديث"، فهنا بيّن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه بقصده ونيّته للصلاة كما قال في الحديث الآخر: "من أتى مسجداً ووجد أهله قد صلّوا كُتب له مثل أجرهم"، فهذا إدراك الفضل، وأمّا إدراك الحُكم فإنّه لا يكون إلاّ بركعة فأكثر.
الأسئلة(2/132)
س1: فضيلة الشيخ: هل يجوز قضاء متابعة الأذان لمن فاته متابعة الأذان إذا كان في بيت الخلاء أو لم يسمع الأذان؟ وجزاكم الله خيراً.
…فيُشرع للمسلم أنّ يقضي الأذان إذا كان مشغولاً أثناءه كما ذكر، ولا بأس بذلك ولا حرج لوجود العذر، وأمّا إذا كان في بيت الخلاء ففيه وجهان، قال بعض العلماء يُتابع في نفسه لأنّ الذكر يكون في النفس كما قال تعالى في الحديث القدسي: "فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي"، فقالوا يكون المتابعة بالنفس ولكن هذا ضعيف، ودليلنا على ضعفه أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول "إذا سمعتم المؤذّن فقولوا" ومن تابع في نفسه لم يقل، ولذلك الذي يقوى أنّه ينتظر حتى يخرج ثم يقول الألفاظ لأنّه قال: "إنيّ كُنت على حالة كرهت أنّ أذكر الله عليها"، فالذي على الخلاء لا يذكر الله - عز وجل - في هذه الحال وعلى ذلك يُشرع له أنّ يقضي والله تعالى أعلم.
…س2: فضيلة الشيخ: هل يشرع الاحتياط في الأذان كأن يتأخّر دقيقة أو دقيقتين عن وقت الأذان؟، وجزاكم الله خيراً.
…يتأخّر لماذا؟ إذا تبيّن الوقت يجب عليه أنّ يؤذّن، لو تأخّر دقيقة في الفجر فطّر الناس، وإذا تأخّر دقيقة في المغرب أحرج الناس، لأنّهم يفوتهم الأفضل بالمعاجلة للفطر، وعلى هذا لا يُشرع التأخير دقيقة ولا دقيقتان الأصل خاصّة في الفجر وفي المغرب هاذان الوقتان ينبغي تنبيه المؤذنين على التقيد وهذا أمر لازم، بالتقيد بتبيّن الفجر وبغروب الشمس لا يُقدّم ولا يؤخّر، لأنّ الناس تبني على ذلك والله تعالى أعلم.
…س3: فضيلة الشيخ: إذا أراد المسافر أنّ يجمع المغرب مع العشاء جمع تأخير، ووصل إلى مكان ليصلّي فيه قبل أنّ يؤذّن العشاء أو بين المغرب والعشاء أو وصل إلى المكان الذي يريده قبل العشاء هل ينتظر العشاء ويصلّي المغرب؟ وجزاكم الله خيراً.(2/133)
…طبعاً في السؤال الأوّل يجوز له أنّ يؤخّر الأذان إذا كان في غير الفجر وغير المغرب، لارتباط فطور الناس وسحورهم بذلك، أمّا بالنسبة للصلوات الأخر فالأمر فيها واسع يؤخّر ولا يُقدّم إذا كان معه رُفقة يريد أنّ يؤخّر الأذان لا بأس ولا حرج. أمّا بالنسبة للمسافر إذا أراد أنّ يجمع بين المغرب والعشاء ونزل بعد مضي ساعة من المغرب أو ساعة إلاّ ربعاً فهل ينتظر إلى دخول العشاء؟، نقول لا يصلّي جمع تقديم وإذا أراد أنّ يتعشّى أو يقضي حاجته أو نحو ذلك حتى يدخل وقت العشاء يصلّي جمع تأخير فهو بالخيار، فلا يُشترط في جمع التأخير تقديم وهذا الذي ننُنبّه عليه أنّ يكون في أوّل الوقت، مثلاً في الظهر لو أنّ جماعة مسافرين ومشوا في الظهر أذان الظهر الثانية عشر والنصف مثلاً، فجاءت الساعة الواحدة ونصف فنزلوا يجوز لهم أنّ يجمعوا، جاءت الثانية يجوز لهم أنّ يجمعوا جمع تقديم، ولو كان أذان العصر الثالثة ونصفاً يجوز لهم في الثالثة وربع أنّ يجمعوا جمع تقديم لأنّ العبرة إيقاع الصلاة الثانية في وقت الأولى ولا بأس بذلك ولا حرج والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد.
تابع باب شرائط الصلاة
قال المصنف - رحمه الله - : [ والصلاة في أول الوقت أفضل ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدّين ؛ أمّا بعد :(2/134)
فبيّن المصنّف - رحمه الله - مواقيت الصلوات الخمس ، وهذه الصلوات لها وقت فضيلة ، ولها وقت إجزاء وجواز ، ولها وقت ضرورة ، هذه ثلاثة أنواع في مواقيت الصلاة ، فوقت الجواز - ما تقدّم معنا - في ما بين الحدّين ، وقد أشار إليه جبريل - عليه السّلام - حينما أمّ النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - فقال له : (( ما بين هذين وقت )) وأمّا وقت الضرورة - فقد تقدّم معنا - في صلاة العصر وفي صلاة العشاء ، وأمّا وقت الفضيلة فقد شرع - رحمه الله - في بيانه .(2/135)
في فضائل المواقيت الأصل يقتضي أنّ الصلاة في أوّل الوقت أفضل ، ومن هنا جاءت النصوص تفضّل أوّل الوقت من سنّة النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - قولا وفعلا ، فإنّ النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - رغّب الأمّة في أوّل الوقت ؛ ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه وأرضاه - أنّه قال : سألت النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - أيّ العمل أحبّ إلى الله -- عز وجل - - ؟ فقال : (( الصلاة على وقتها )) فدلّ على أنّ أوّل الوقت أفضل ؛ لأنّ النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - بيّن أن الصلاة إذا كانت في وقتها أفضل ولا يقصد من ذلك إلاّ المبادرة ؛ لأنه لو كان بها مطلق الوقت لم يكن للحديث معنى ، ومن هنا بيّن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - بهذا أنّ الصلاة في أوّل الوقت أفضل ، ومن الأدلّة فعل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فإنّه صلّى صلاة الفجر في أوّل وقتها ، وحرص على أداء صلاة الظهر في أوّل وقتها ، إلاّ في شدّة الحرّ حيث سنّ للأمّة الإبراد ، وفعل ذلك عليه الصلاة والسلام كما في حديث الإبراد ، وكذلك أيضا العصر صلاّها في أوّل الوقت والمغرب ، وأما العشاء فهي مستثناة - وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك - ، فالمصنّف - رحمه الله – بيّن أن أوّل الوقت أفضل ، وهذا ننتزعه من حديث عبد الله بن مسعود المتقدّم ، كما أننّا نأخذ دليله من جهة أنّ أداء الصلاة في أوّل الوقت مسارعة إلى الخيرات ، ومسابقة إليها ، وتعجيل في إبراء الذمّة ، فإن المسلم تبرأ ذمّته بأداء الصلاة، فإذا بكّر بها في أوّل الوقت أبرأ ذمّته ؛ لأنّه لا يأمن الشواغل ، ولا يأمن الغفلة ، ولا يأمن النسيان ، هذا من حيث الأصل ، يبقى استثناء المصنّف للعشاء وللظهر في شدّة الحرّ ، فإذاً نحتاج إلى أدلّة دلّت على تفضيل الصلوات الثلاث : الفجر والظهر والمغرب أنّها كانت في أوّل الوقت ؛ فقد صحّ عن النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - في صلاة الفجر أنّه(2/136)
كان يصلّيها في أول الوقت ؛ ففي الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنّه كان يصلّي الصبح بغلس، قالت عائشة - رضي الله عنها - : (( كان النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - يصلّي الفجر فيشهد معه النساء من المؤمنات ثم ينقلبن إلى بيوتهنّ متلفّعات بمروطهنّ ما يعرفن من الغلس )) وهذا يدلّ على أنّه أوقعها في أوّل الوقت ، وكذلك قال جابر - - رضي الله عنه - - : (( والصبح كان النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - يصلّيها بغلس )) ، وقال أبو برزة - - رضي الله عنه - - : (( وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل منّا جليسه )) ، وهذا يدلّ على أنّه كان يوقعها في أوّل الوقت ، يوقع صلاة الفجر في أوّل وقتها ، وقوله : (( والصبح كان النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - يصلّيها بغلس )) يدلّ على أنّه كان يبكّر بها ويبادر بها عليه الصلاة والسلام ، وهذا أفضل وأكمل ، وقال بعض العلماء : إنّ تأخيرها إلى الإسفار أفضل ، فالأوّل مذهب الجمهور ، والثاني للحنفيّة - رحمهم الله - ، والصحيح أنّ أداءها في أوّل الوقت أفضل ، وأمّا حديث : (( أسفروا بالفجر فإنّه أعظم للأجر )) أصحّ الأوجه في هذا الحديث : أنّ المراد به الإسفار النسبي ، بمعنى أنّه يبتدئ بغلس ثم يطيل في القراءة لأنّه أعظم للأجر ، فلما قال : (( أعظم للأجر )) دلّ على أنّ هناك مزيّة في الفعل بالإسفار ، وأنه ليس المراد به محض الوقت ، ومن هنا إذا أطال القراءة عظم أجره وأجر من يستمع إليه ، وكان أحظّ للمأمومين في إدراك الصلاة ، وحصول الفضيلة والأجر والثواب ، ففضّله النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - من جهة الإسفار النّسبي ، لأنّك إذا علمت أنّ سنتّه أنّه كان يبتدئ بالغلس وهو اختلاط ظلمة الليل بضياء النهار؛ فإنّه يسفر حين يعلم الرجل جليسه ، وهذا واضح من السنّة ، وهدي النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - .(2/137)
وأمّا بالنسبة لصلاة الظهر فإنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - كان يعجّلها في أوّل الوقت ، والأدلّة بذلك صريحة كما في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي - - رضي الله عنه - - أنّه قال : (( كان النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - يصلّي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس )) وحين تدحض يعني حين تزول ، وليس المراد أنّه يصلّيها مباشرة بعد الزوال ؛ لأنه كان يصلّي الرّاتبة ، وإنّما المراد أنّه كان يعجّل بها ، حتى إَنّ أمّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها –قالت : (( ما رأيت أشدّ تعجيلا لصلاة الظهر من رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وأبي بكر وعمر )) .
فهذا يدلّ على أن الظهر تصلّى في أوّل وقتها ، إلاّ ما استثنته السّنة - كما سيأتي إن شاء الله - .
وكذلك دلّ على أنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يبكّر بها حديث أنس - - رضي الله عنه - - (( أنّه كان يصليها حين تزول الشمس )) وفي حكم تعجيل الظهر تعجيل الجمعة ؛ فإنّ النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - ثبتت عنه الأحاديث الصحيحة كلّها على أنه كان يعجّل بالجمعة بعد الزوال مباشرة ، بل إنّه كان يبتدئ الجمعة ، يقال هل زالت الشمس أو لم تزل ؟ من شدّة تبكيره - عليه الصلاة والسلام - بها ، وهذا فيه رفق بالأمّة ؛ لأنّ الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يقيلون قائلة الضَّحى ، والضَّحى ما قبل زوال الشمس بما يقرب من ساعة أو قليل ، وهذه القيلولة كانوا يتركونها يوم الجمعة ؛ كما ثبت في صحيح البخاري ، وأنهّم ما كانوا يقيلون ولا يتغدّون إلاّ بعد الصلاة ؛ لأنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يبكّر بها ، فلا يجدون وقتا للقيلولة والغداء ، وكانوا يتتّبعون الفيء ، وكلّ هذا يدلّ على أنّه كان في الجمعة يبكّر ويبادر بها - - صلى الله عليه وسلم - - .(2/138)
وأمّا صلاة العصر - وهي الصلاة الثالثة - فإنّها داخلة تحت العموم الّذي ذكره المصنف : أنّ الأفضل والأكمل فيها أنّه يصليها في أوّل وقتها ؛ ففي الصحيحين من حديث أبي برزة - - رضي الله عنه - - أنه قال : (( وكان يصلّي العصر ثم ينقلب أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حيّة )) .
فقوله : (( كان يصلّي العصر )) يعني في أوّل وقتها (( ثم ينقلب أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة )) قيل : إنّهم كانوا ينقلبون إلى بني قريظة ، وهذا قرابة أربعة أميال يعني وراء قباء ، وهذا لا يكون إلاّ إذا أوقع العصر في أوّل وقتها ، حتىّ إنهم إذا مشوا ومضوا إلى رحالهم في أقصى المدينة ما زالت الشمس حيّة ؛ إشارة إلى طول الوقت ، ولا يكون ذلك إلاّ بالتبكير والتعجيل .
وكذلك في صلاة المغرب السنة التعجيل ؛ لأنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يعجّل بها ، ومن هنا قال جابر - - رضي الله عنه - - في صفة صلاة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( والمغرب إذا وجبت )) يعني كان يصلّي المغرب إذا وجبت الشمس فسقط قرصها ، وغاب كما تقدّم معنا ؛ فهذا يدلّ على المبادرة والتعجيل .
وأكّد هذا الحديث الصحيح أنهّم قالوا : (( كنا نصلّي مع النبي - - صلى الله عليه وسلم - - المغرب ثم ننصرف وإنّ أحدنا ليُبْصِرُ موقع نبله )) .(2/139)
وهذا إشارة إلى أنهم ما زالوا في أوّل الوقت ، وهذا سهل ؛ لأنّ الناس الآن تنظر إلى طول الفاصل ، فتنظر إلى أنّهم يخرجون من المغرب وقد أضيئت المصابيح في المدن ، والأمر يختلف في القديم ، ولذلك إذا نظرت إلى أنه بمجرّد أن تغيب الشمس - جرّبت في السفر - بمجّرد أن تغيب الشمس تصلّي ركعتين فيما بين الأذان والإقامة أو تترك قدرا بقدر ما يفرغ الآكل من أكله إذا كان صائما ، والمتطهّر والمتهيئ لصلاته إذا كان محدثا، ثم تصلّي المغرب يعني لو تركت مثلا أربع دقائق فيما بعد الأذان ، ثم صليت المغرب فإنّك لو رميت أيّ شيء أبصرت موقعه ؛ لأنّه لا يزال بداية الليّل لم تدخل الظلمة ، وعلى هذا بنى العلماء على هذا الحديث تعجيل النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - لصلاة المغرب . وهذا قول جماهير السلف والخلف وحكي الإجماع عليه : أنّ المغرب السنة فيها التبكير والمبادرة في أوّل الوقت .(2/140)
أما بالنسبة للعشاء فإنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يستحب أن يؤخرها كما سيأتي ، فبيّن المصنّف - رحمه الله - الصورة الثالثة من أحكام المواقيت : وهي وقت الفضيلة فبيّن أنّ الأفضل في المواقيت أن تؤدّى الصلاة في أوّل وقتها ؛ لما ذكرناه من السنّة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - القوليّة والفعليّة ، واستثنى رحمه الله صلاتين : استثنى صلاة العشاء وقال العشاء الآخرة ؛ لأنّه في العشاء الأولى التي هي المغرب ، والعشاء الآخرة ؛ لأن كلتا الصلاتين تقع في العشيّ والعشي نسبّ عند العلماء - رحمهم الله - ، ولذلك قال - - صلى الله عليه وسلم - - : (( إذا حضرت العَشاء والعِشاء فابدؤوا بالعَشاء قبل العِشاء )) المراد به صلاة المغرب ؛ لأنّ المراد به فطور الصائم (( إذا حضرت العَشاء والعِشاء فابدؤوا بالعشاء قبل العشاء )) ، وفي حكمه صلاة العشاء المعروفة ، ولكن في العشاء الآخرة الأفضل التأخير؛ وقد دلّت على ذلك السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، ففي الصحيح من حديث أبي برزة الأسلمي - - رضي الله عنه - - أنه قال : (( وكان يستحبّ أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة ، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها )) .
فقوله - - رضي الله عنه - - : (( وكان يستحبّ أن يؤخّر من العشاء )) دلّ على أنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - -كان يحب تأخير العشاء، وقد فعل ذلك كما في الصحيح من حديث أنس - - رضي الله عنه - - أنه - عليه الصلاة والسلام - أنه أخّر العشاء ففي الصحيحين عنه أنه قال : (( أعتم النبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالعشاء ، فخرج عمر يصرخ يقول : الصلاة يا رسول الله ، رقد النساء والصبيان ، فخرج ورأسه يقطر، يقول : لولا أن أشقّ على أمّتي أو على الناس - والشك من الراوي - لولا أن أشقّ على أمّتي أو على الناس لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة )) .(2/141)
وهذا يدلّ على تفضيل تأخير العشاء ، وبيّن جابر فعل رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في هذا التأخير، فنقول : السنة في العشاء التأخير، لكن يستثنى حرج الناس ؛ لأنه قال : (( لولا أن أشقّ على الناس )) فإذا كان الناس مجتمعين بادر بالصلاة ، وإذا كانوا متأخّرين أخّر الصلاة ، وجاء هذا صريحا في حديث جابر - - رضي الله عنه - - ، فإنه لما سئل عن صلاة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( والعشاء أحيانا وأحيانا )) أي كان يعجّل بها أحيانا ويؤخّر أحيانا ، ثم فسّر فقال : (( إذا رآهم اجتمعوا عجّل ، وإذا رآهم أبطؤوا أخّر )). (( إذا رآهم اجتمعوا عجّل )) : لأنه لا يحبّ أن يحرجهم ، وكان الناس أصحاب زرع وعمّال أنفسِهم ، فلا يأتي وقت العشاء إلا وهم منهكون ، متعبون ، فكان إذا رآهم اجتمعوا عجل بالصلاة ، ورفق بهم - بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه - ، فيقال العشاء الأفضل فيها التأخير، لكن إذا لم يكن حرج مثلا المرأة في بيتها الأفضل لها أن تصلّي العشاء في آخر وقتها يعني إلى قريب منتصف الليل ، وهذا أفضل وأعظم للأجر؛ لأنه سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - وهديه ، وهكذا إذا كانوا رفقة في السفر، وكان يسهل عليهم التأخير أخر نزول العشاء ، وصلّوا العشاء إلى قريب منتصف الليل ؛ إصابة لهذه السنة ، هذه بالنسبة للعشاء ، إلا العشاء الآخرة .
[ إلاّ في العشاء الآخرة وفي شدة الحر في الظهر ] : [ وفي شدّة الحرّ في الظهر] : أي إذا اشتدّ الحرّ فإن السنّة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - الإبراد بصلاة الظهر؛ وقد جاء هذا صريحا في قوله - بأبي وأمّي صلوات الله وسلامه عليه- : (( إذا اشتدّ الحر فأبردوا بالصلاة ، فإن شدّة الحر من فيح جهنّم )) .(2/142)
وهذا الحديث يدلّ ظاهره على أنه في شدّة الحر تؤخّر صلاة الظهر، ويبّرد بها ، حتىّ ولو فرضنا - مثلا - أن العصر يؤذّن له - مثلا - الساعة الثالثة والنصف فإنّه يبّرد بها إلى الساعة الثالثة والربع ؛ إصابة لهذه السنّة ، وقد صح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه لما كان في السفر، وأراد بلال أن يؤذّن ، قال له - عليه الصلاة والسلام- : (( أبرد ، ثم قام ثانية ليؤذن ، قال له : أبرد ، ثم قام ثالثة ليؤذن ، قال له : أبرد ، حتّى إنّ للتلال فيءً )) وهذا يدلّ على شدّة تأخيره إلى قريب من العصر، هذا في شدّة الحرّ، وهي سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ، ظاهر الحديث أنه تؤخّر صلاة الظهر في شدّة الصّيف والحرّ للجماعة وللأفراد؛ لأنه قال : (( فإن شدّة الحرّ من فيح جهنم )) فهذا يعني أنّ الوقت ليس وقت الصلاة ؛ لأنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - لما نهى عن الصلاة حين يقوم قائم الظهيرة قال : (( فإذا انتصفت الشمس في كبد السماء فأمسك عن الصلاة ، فإنها ساعة تسجّر فيها أبواب جهنّم)) فأمره أن يمسك عن الصلاة ، وقال : (( إنها ساعة تسجّر فيها أبواب جهنّم )) وهنا قال : (( إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا فإن شدّة الحرّ من فيح جهنّم )) وهذا يقتضي على أنّ الزمان الذي هو زمان الصيف الأفضل فيه التأخير مطلقا ، وبناء على ذلك يستوي فيه الأفراد والجماعة ، هذا أحد الوجهين عند العلماء - رحمهم الله- وهناك وجه ثان: أن قوله : (( فإن شدة الحر من فيح جهنم )) المراد به الترفّق بالمصلّين في المسجد ؛ لأنهم إذا خرجوا إلى الجماعة اشتدّت عليهم حمية الشمس ، واشتدّ وهيجها ولهيبها فآذاهم ، وأضرّ بهم ، ومن هنا يكون الرفق بمن يصلي في الجماعة ، ويكون خاصاً بمساجد الجماعات .(2/143)
وفائدة الخلاف بين القولين : أن المرأة - مثلا - أو المريض أو المساجد القريبة الّتي لا يتضرر أهلها ، أو الرفقة في السفر ، فإنهم في هذه الحالة يبادرون بالصلاة في أول وقتها ؛ تحصيلا للسنة ، والأصل ، ويختصر التأخير على أصحاب المساجد الجامعة ، ومن يتضرّر، ولكن لما ثبتت السنة عن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال لبلال : (( أبرد)) والصحابة معه في السفر وليس هناك مشقة في الانتقال ، فهمنا أنّ الأمر متعلّق بالوقت ، فسعد من تمسّك بظاهر النصّ ، وقوي من جهة المعنى والأصل الذي ذكرناه .
وعلى هذا فالأفضل الإبراد والتأخير مطلقا ، فبيّن المصنف - رحمه الله - استثناء هاتين الصلاتين ؛ لثبوت السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، والتأخير فيهما .
[ الشرط الثالث : ستر العورة بما لا يصف البشرة ] : الشرط الثالث من شروط صحّة الصلاة : ستر العورة بما لا يصف البشرة ، الستر : هو التغطية ، والمواراة ، وتغييب الشيء عن النظر، والعورة أصلها من العور، وهو النقص ، ووصفت بذلك ؛ لأن هذا الشيء إذا انكشف من الإنسان كان له منقصة وعيبا ، ومن هنا وصفت بكونها عورة ، وستر العورة شرط من شروط صحة الصلاة ؛ والأصل في ذلك أن الله - - عز وجل - - أمر عباده في الصلاة أن يأخذوا زينتهم ؛ فقال سبحانه : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد } .
وقوله : { خذوا زينتكم } أمر ، وقوله : { عند كلّ مسجد } أي عند كل صلاة ، من باب إطلاق المكان وهو المحل وإرادة الحال وهو الفعل .(2/144)
وانظر إلى قوله سبحانه : { خذوا زينتكم } فإنّ هذا من أجمل ما يكون ، وكلّ خطاب الله لعباده جميل، فإنّ الله يقول : { خذوا زينتكم } ولم يقل استروا عوراتكم ؛ ذلك أن أخذ الزينة أمر فوق ستر العورة ، وهذا يدلّ على أنه ينبغي للمسلم أن يستشعر موقفه بين يدي الله - - عز وجل - - ، وأنه لا يقف بين يدي الله إلا وقوف الكمال، وأن يراعي الهيبة وجلال الموقف بين يدي الله - - سبحانه وتعالى - - ، ويستجيب لهذا الأمر الرباني ، فلم يأت الأمر بتحصيل قدر الإجزاء ، وإنما دعا إلى الكمال ؛ تعظيما لأمر الصلاة ، وتعظيما لمن يصلّي له - - سبحانه وتعالى - - ، ومن هنا قال : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ } فجاء بصيغة العموم ، ولم يخص صلاة مفروضة دون نافلة ، ولا نافلة دون فرض ، ومن هنا أجمع العلماء - رحمهم الله - على استحباب التجمل ، ورعاية حال الكمال في الصلاة ، فإذا كان الإنسان يصلي بين يدي الله - - عز وجل - - يراعي الأكمل ، وللأسف أنك ترى العبد فتتعجب من كفرانه لنعم الله - - عز وجل - - عليه ، ترى الرجل ينعم الله عليه باللباس على أجمل وأكمل ما يكون ، ثم إذا أتى ليصلي التمس أبسط الثياب ، وأبسط ما يستر به جسده ، حتى إنه لربّما لم يستح من الله ولا من خلقه، فيخرج بثياب نومه لكي يصلي مع الجماعة في المسجد . عدم المبالاة وعدم الاستشعار، وكأنه لم يستشعر من هو ملك الملوك ، وجبّار السماوات والأرض الذي يقف بين يديه ، وكأنّه قد ذهب الحياء من وجهه فلا يستحي من ربه الذي كساه وأطمعه وسقاه ، فيذهب ويتجمل بكسوة الله للمخلوق ولا يتجمل لخالقه ، {وكان الإنسان كفورا } هذا من كفر الإنسان لنعمة الله - - عز وجل - - ، وإلا لو أحسّ أن هذا الثوب الجميل الذي يبخل أن يقف به في صلاته أنّ الله هو الذي كساه ، وأن الله هو الذّي أنعم به عليه لم يفعل ذلك لمخلوق أكثر مما يفعله للخالق، فهذا من ضعف الإيمان ، وضعف البصيرة - نسأل الله السلامة(2/145)
والعافية - فتتقرّح القلوب حينما ترى في مساجد المسلمين من يخرج إليها بثيابه الداخلية ، إلا من كان عنده حاجة أو مريض أو ضعيف الحال ، هذا مستثنى ، إنما الكلام على من كان قادرا . كسا عبد الله بن عمر - - رضي الله عنه - - غلامه ثوبين ، رآه فقيرا فأعطاه الثوبين ، وأعطاه ثوبا جميلا ، ثم رآه يصلي في ثوبه القديم ، فقال له : ألم أكسك ثوبا ؟ قال : بلى . قال : أرأيت لو أني بعثت بك إلى فلان أكنت تتجمّل به ؟ قال : نعم . قال : الله أحق أن تتجمّل له .الله أحق أن تتجمل له ، وكان ابن عمر يعظّم الصلاة ، حتى إنه لربما أعتق عبده إذا رآه يصلي ، فلما رآه يصلي في ثوب يزري به أعطاه هذا ، حتى إن بعض العلماء قالوا : إن الصلاة في الثوب الدرن الوسخ جدا مكروهة ، ونصّوا على ذلك ، فالشخص يذهب إلى ثيابه التي فيها مهنته ، والتي فيها عرقه ، أو ثيابه الداخلية في البيت ، فإذا حضرت الصلاة صلّى بها ، ولم يبال، وهذا كله كما ذكرنا من ضعف الإيمان ، وضعف العلم والبصيرة - نسأل الله السلامة والعافية - ، والمحروم من حرم ، فو الله ، ما استقامت الصلاة ، ولا أقام عبد موقفه بين يدي الله ، إلاّ استقام له أمر الدنيا والآخرة ، ولو عرف الناس هيبة الموقف بين يدي الله ، وأعطوا لهذا الموقف هيبته وحقه ؛ فتح الله - - عز وجل - - عليهم من البركات والخيرات ما لم يخطر لهم على بال ، وكفى بذلك شرفا وفضلا أن يقول النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( يا بلال ، أرحنا بالصلاة )) .
فالمقصود أن هذا هو الأصل أن المسلم يأخذ الزينة ، لكن العلماء - رحمهم الله - ذكروا الشرط في الإجزاء ، وإلا الكمال ينبغي أن يحرص عليه .(2/146)
الإجزاء هو ستر العورة ، واعتنى العلماء - رحمهم الله - بهذا الشرط ؛ لأنّ السنّة بينت أنه يجب على المصليّ أن يستر عورته ، في الأصل يجب على المسلم أن يستر عورته ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - للصحابي بهز بن حكيم - رضي الله عنه - - كما في الحديث الصحيح - : (( احفظ عورتك إلا من أهلك )) .
وبيّن الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - أنه ينبغي على المسلم أن يكون على حال الكمال ، حتى ولو كان خاليا ، فقال: يا رسول الله ، أريت إن كان الرجل وحده ، فقال - - صلى الله عليه وسلم - - : (( الله أحق أن يستحي منه )) ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوهم وأكرموهم )) .فالأصل أن العورة لا تكشف ، وأن المسلم يحفظ عورته ، فإذا أراد أن يصلي فالأمر أشدّ ، وأعظم ، حتى إن صحّة الصلاة تتوقّف على هذا الستر والرعاية لهذا الأمر .
دلّ على اشتراط الستر لصحّة الصلاة حديث رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في السنن من قوله : (( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )) فلما قال : { خذوا زينتكم ... } أمر ، ثم بيّن أن هذا الأمر في مقام الصحّة والردّ ، فقال : (( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار )) دلّ على أن الستر في مقام الشروط ، وليس في مقام الواجبات التي يثاب فاعلها ويعاقب تاركها ، ويحكم بصحة الصلاة عند فواتها ، ومن هنا تستفاد الشرطية من حديث : (( لا يقبل الله )) وقد بيّنا هذا في شرط الطهارة : أن الأوامر المجردة قد لا تدل على الشرطيّة ، ولكن إذا جاء ما يدلّ على عدم الصحة عند انتفائها انتقلت من الوجوب إلى الشرطية ، وهذا ما يسميه العلماء بشرط الصحة .(2/147)
(( لا يقبل الله صلاة حائض إلاّ بخمار )) قوله : (( صلاة حائض )) : يعني امرأة بلغت سنّ المحيض . (( إلا بخمار )) وهذا يدلّ على وجوب الستر ، وأصل الخمر التغطية ، ومنه سميّت الخمر خمرا ؛ لأنها تغطي العقل وتذهبه ، وأجمع السلف والخلف من حيث الأصل على وجوب ستر العورة في الصلاة .
[ وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة ] : وعورة الرجل والأمة ما بين السرّة والركبة : عورة الرجل ما بين السرة والركبة ؛ وفي هذا الحديث الحسن عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه قال : (( ما بين السرة والركبة عورة )) وفي بعض الألفاظ : (( عورة في الصلاة )) والأصل يقتضي أن العورة المغلظة - وهي القبل والدبر - مجمع على أنها عورة ، وأنه لا يجوز كشفها لا في الصلاة ولا في غيرها ، لكن ما بين السرّة والركبة زائد عن العورتين السوءتين المغلّظتين ، ومن هنا المنع من كشف ما بين السرة والركبة ؛ لأن ما قارب الشيء أخذ حكمه ، ومن احتياط الشرع في سدّ الذرائع ، وقفل الوسائل المفضية إلى المحظور؛ لأنّه لا يأمن إن تساهل في كشف إليته أن يكشف عورته .
واختلف العلماء في الفخذين : هل هما عورة أو لا ؟ على قولين مشهورين :
من قال : إنّهما عورة ؛ استدلّ بحديث مسلم بن عبدالله بن جرهد أنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال له : (( غطّ فخذك )) لما مرّ عليه وقد كشف فخذه ، وهو حديث ثابت عن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - ، ومحتجّ به .
والذين يقولون : إنّ الفخذ ليس بعورة ؛ احتجّوا بأنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - قاتل يوم خيبر، حتى انحسر الإزار عن فخذه ، وأنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان جالسا في بيته كاشفا عن فخذه ، فاستأذن أبو بكر، ثمّ استأذن عمر، فلم يصنع شيئا ، ثم استأذن عثمان فغطّى فخذه ، فسئل عن ذلك ؟ فقال : (( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة )) .(2/148)
قالوا : إنّ هذا يدلّ على أنّ الفخذ ليست بعورة ، وفي الحقيقة أدلّة من قال بأنّ الفخذ عورة أقوى وأحوط ، ويجاب عن دليل كشف الفخذ بحديث البيت بأنه إذا تعارض الخاص والعام ؛ فإنه يبقى العام على عمومه ، ويحتمل أنه قبل ، ويحتمل أنه بعد ، ولا دليل على السبق ، فيقدّم الحظر على الإباحة .
ثانيا : أنّ حديث القتال يوم خيبر انكشف عن فخذه انكشاف الحاجة ، وليس انكشاف القصد ، وقد جاء التشريع بقوله : (( غطّ فخذك )) وهذا يدلّ على أن الأمّة مخاطبة بستر الفخذ ، وهذا الحقيقة أقوى وأحوط القولين .(2/149)
وأمّا في الصلاة ؛ فإنّ الحديث قد نصّ على هذا ، وعليه فإنّه ما بين الركبة والسرّة عورة ، والركبة والسرّة ليستا من العورة ، لا تدخلان في العورة ، وهذه المسألة معروفة هل الغاية تدخل في المغيّا أو لا ؟ فإن كانت من جنسه دخلت ، وإن لم تكن من جنسه لم تدخل ، وفيها أثر في تقبيل أبي هريرة لسرّة الحسن ، وفيه كلام عند المحدّثين معروف ، ولكن المقصود أنّ الفخذ لا يجوز كشفها ، والعانة لا يجوز كشفها في الصلاة ، وأنّ من صلّى يجب عليه ستر هذا القدر من رجل ، والأَمَة لأنهم كانوا في القديم الإماء يحتاج إلى عملهن ، وجمهور العلماء على أن الأمة تنزّل منزلة الرجل ، والأصل يقتضي أنهّا مرأة، ولكن لمكان الابتذال والحاجة غفر هذا ، ودرج على ذلك جماهير السلف - رحمهم الله - على استثناء الموضع هذا بالنسبة للأمة ، ولكن لا يعني هذا أنّ الأمّة تتبذّل وتكشف عن هذه المواضع ، فإنّ العجيب أنّ البعض يستدلّ بأشياء ، ولا يحسن نظر العلماء فيها ، فمثلا : حينما قال الفقهاء في هذه المسألة عورة الرجل ما بين السرّة والركبة ، وقالوا : إنّ عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل ، إذا ببعض النساء يكشفن عن الساق ويكشفن عن الصدر، ويقلن إنّ عورة المرأة مع المرأة كعورة الرجل مع الرجل إذا لا بأس من كشف الثديين وكشف الصدر وكشف الساق ، وقد غفلن عن قول العلماء -رحمهم الله - إنه لا يجوز للمسلم أن يفعل ما هو خلاف المروءة ، وأنّه إذا فعل ذلك سقطت مروءته ، وردّت شهادته، وبانت عدالته ، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا لم تستح فاصنع ما شئت )) فهم إذا قالوا : إنّ عورة الرجل ما بين السرّة والركبة ، فلو أنّ رجلا جاء في مجامع الناس ، لا يلبس إلاّ ما يستر ما بين السرّة والركبة فإنّ هذا ينبذ ويعزّر، القاضي يعزّره إذا جاء وفعل هذا ، ومن حقّه التعزير؛ لأنّه إخلال بالنّاس ، واستهتار بالناس ، والمرأة أشدّ في هذا ، فإنّ المرأة إذا(2/150)
كشفت عن صدرها فتنت ، وكذلك إذا كشفت عن ساقيها ، والعجيب أنّ هؤلاء يتلقّطون كلمات العلماء إذا كانت لهم ، أمّا إذا كانت عليهم فلا يحسنون النظر في كلام أهل العلم ، ولا يستدلّون به ، ولذلك نجدهم أهل أهواء وفتنة - نسأل الله بعزّته وجلاله وقدرته على خلقه أن يقطع دابر أهل الفساد عن الإسلام والمسلمين ، وأن يكفّ ألسنتهم وفتنتهم إنه سميع مجيب - ، فالمقصود من هذا أنه لا يتخذ مثل هذه العبارات التي يذكرها الفقهاء مدخلا لهذه الأمور التي تشين وتخلّ بالناس ، وقد تحدث الفتنة بينهم .
بيّن رحمه الله أنّ حدّ العورة ما بين السرّة والركبة ، وبيّناّ أنّ هذا منتزع من ظاهر حديث السنن .
[ والحرّة كلّها عورة إلاّ وجهها وكفّيها ] : [ والحرّة ] : أي المرأة الحرّة . [ كلّها عورة إلاّ وجهها وكفّيها ] أي في الصلاة ، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على كشف المرأة لوجهها وكفّيها في الصلاة ، هذا من حيث الأصل ، وأنّها إذا صلّت كشفت عن وجهها وكفّيها كالحال في الحجّ ، فإنّها إذا أحرمت كشفت عن وجهها وكفّيها . وبالنسبة للحرّة إذا تمحَّضَت الحرّيّة ، أمّا إذا كانت المرأة بعضها رقيقاً وبعضها حراً فاختلف العلماء -رحمهم الله - هل نغلّب جانب الحريّة صيانة وحفظا وتقديما للحظر على الإباحة والمقام مقام حظر ؟ أم أنّنا نغلّب جانب الإباحة على الحظر؛ لأنّ الأصل الحلّ حتى يدلّ الدليل على التحريم ؟ وجهان للعلماء - رحمهم الله – ولذلك ذكره :(2/151)
[ وأمّ الولد والمعتق بعضها كالأمة ] : هنا غلّب رحمه الله أنّ أمّ الولد والمعتق بعضها كالأمة أي أنّها تبقى على أصلها من كونها أمة ، أم الولد وهي الجارية التي وطئها سيّدها ، وأنجبت له ، فإنّها أم ولده ، وتعتق عليه بعد موته ؛ لأنّ الولد لا يملك أمّه ، فالمعتق بعضها مثل أن تكون جارية بين اثنين ، فيعتق أحدهما نصيبه ، ويبقى الآخر على نصيبه ، تكون بالنصف بين اثنين ، فيعتقها أحدهما فهي في نصفها حرّة وفي نصفها رقيقة ، تشتغل يوما ، ثم تملك نفسها يوما آخر ، فهذه المعتق بعضها اختلف العلماء - رحمهم الله – فيها :
منهم من غلّب فيها جانب الحرّيّة كما ذكرنا ؛ لتقديم الحظر على الإباحة .
ومنهم من غلّب جانب كونها رقيقة ، والأصل أنّها رقيقة ، ولا يحكم بكونها حرّة إلاّ بعد العتق الكامل، وهذا من ناحية الأصول أقوى .
[ ومن صلّى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصحّ صلاته ] : الغصب هو أخذ المال بقوّة وغلبة وقهر، ويؤخذ عن علم ؛ وإذاً يفارق السّرقة ؛ لأنّ السرقة هي أن يؤخذ المال خفية دون علم ، والغصب لا يكون إلاّ بالقهر والقوّة والغلبة ، فلو اغتصب ثوبا ، وصلّى فيه ، فهل صلاته صحيحة أو باطلة ؟ قولان للعلماء :
جمهور العلماء على أنّ الصلاة صحيحة ، وأنّه آثم بغصبه ؛ وذلك أنه قد أدّى الصلاة على وجهها ، والنهي لم يأت للصلاة حتى نحكم ببطلانها ، وإنّما أتى النهي لأمر خارج عن الصلاة ، وهو الثوب الذي يصلّي فيه الظرف، ومثل هذا لا يقتضي الفساد ؛ لأنّ النهي لم يرجع إلى ذات المنهيّ عنه ، فلا يقتضي فساد العبادة .
وذهب الحنابلة وطائفة – رحمهم الله - في المشهور إلى أنّ الصلاة باطلة ، وتجب على من صلّى في ثوب مغصوب الإعادة ، وهذا هو الذي درج عليه المصنّف - رحمه الله - وقالوا : إنّ الصلاة لا تصحّ ، فهي منهيّ عنها على هذا الوجه ، ومن هنا يجب عليه أن يعيد .(2/152)
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا قمت إلى الصلاة فكبّر، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعا إلى أن انتهى ... فقال : إذا فعلت هذا فقد تمّت صلاتك )) فجعل الأمر راجعا إلى هذه الأمور المطلوب تحصيلها ، وقد فعلها المكلف ، فقام كما أمره الله ، وقرأ كما أمره الله ، وركع كما أمره الله ، فأدّى الأركان على وجهها ، واستتمّ الصلاة فعلا على سبيلها ، فيحكم بصحّة صلاته ، ولكنّه آثم من جهة غصبه .
لو قلنا بقول الحنابلة إن الصلاة لا تصحّ ، فلو صلّى في ثوب واحد فلا إشكال ، لكن لو أنّه صلّى في ثوبين: أحدهما مغصوب ، والثاني يملكه ، فهل تبطل صلاته ؟ هذا فيه تفصيل : هناك حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون المغصوب شعارا ، والحلال دثارا .
والحالة الثانية : أن يكون المغصوب دثارا ، والحلال شعارا، والشعار ما يلي البدن ، والدثار ما فوقه ، فإذا كان الثوب الذي يلي البدن هو المغصوب حكمنا بالبطلان ؛ لأنّ الستر ستر الإجزاء حصل بالمغصوب ولم يحصل بالمباح ، وأمّا إذا كان الذي يلي البدن المباح ؛ فإن المغصوب زائد عن القدر الواجب فلا تأثير له في الصلاة كما يقول بعض فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - .
[ ومن صلّى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصحّ صلاته ] أو دار مغصوبة : جاء - والعياذ بالله - وأخذ قطعة أرض من جاره ، اعتدى على أرض جاره ، فأخذها وهو يعلم أنّه لا يملكها واغتصبها ، فصلّى فيها لم تصحّ صلاته على المذهب ؛ للعلّة الّتي ذكرناها ، قالوا : إنّ الأفعال كلّها وقعت على أرض مغصوبة فلا تصحّ .
والجمهور يفصّلون بين الحالّ والمحلّ ، والحالّ شرعي ومأمور به شرعا ، ولم يعد النهي إلى ذات الفعل ، فلا يحكمون بالبطلان ، والصلاة عندهم في الدار المغصوبة ، والأرض المغصوبة والثوب المغصوب الحكم فيه سواء .(2/153)
[ ولبس الذهب والحرير مباح للنساء دون الرجال إلاّ عند الحاجة ] : ولبس الذهب والحرير مباح للنساء دون الرجال إلاّ عند الحاجة : أجمع العلماء - رحمهم الله - على أنّه لا يجوز للمسلم الذكر أن يلبس الذهب ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في أصبعه - يعني خاتم الذهب والعياذ بالله - )) فإذا تختّم بالذهب فإنّما يتختّم بنار جهنّم - والعياذ بالله - ، فهي جمرة من جهنّم .
وأجمعوا على أنّه لا يجوز له أن يلبس الذهب الخالص ، ولا الذهب المشوب بغيره ، ولا المطلي بالذهب، هذا الأصل يقتضي أنّه لا يجوز أن يلبس الذهب سواءً كان خالصا أو مشوبا بغيره أو كان مموّها ، مثل أن يلبس ساعة مطليّة بالذهب هي من حديد ، ولكن طلاءها من الذهب ، أوجزءها من الذهب ، فالتحريم عامّ ، حرم على الرجل أن يلبس الذهب قليلا كان أو كثيرا ، ولا يجوز له إذا كان لا يجوز أن يلبس لا يجوز له أن يتّخذها قَلَماً فيكتب به ، إذا كان منع في جسده فمن باب أولى أن يمنع في غير حاجته ، مثل أن يتخّذ قَلَماً من ذهب ، أو مثلا آلات مكتبيّة من الذهب ؛ ولذلك حرّم الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - الذهب على الرجل ، وحرّم أيضا استعمال الذهب عموما على الرّجال والنساء في الأكل والشرب ، وقال : (( الذي يأكل في آنية الذهب إنّما يجرجر في بطنه نار جهنم )) – والعياذ بالله – وقال : (( لا تشربوا في آنية الذهب والفضّة ولا تأكلوا في صحائفهما فإنّها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة )) .
وأمّا بالنسبة للحرير فالحرير أيضا محرّم ، فجماهير السلف والخلف وحكي الإجماع على أنّه لا يجوز للمسلم أن يلبس الحرير إذا كان ذكرا ؛ والأصل في ذلك أنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أخذ الذهب والحرير - كما سيأتي في الحديث الذي ذكره المصنّف – رحمه الله – وهو حديث الترمذي وغيره وهو حديث صحيح - فقال : (( هذان حلال لإناث أمّتي حرام على ذكورهم )) .(2/154)
فحرّم الذهب والحرير على الذكور، وأحلّه للنساء ، فيجوز للمرأة أن تلبس الذهب ، وأن تتحلّى بالذهب ؛ ولذلك قال تعالى : { أو من ينشّؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } والمراد به : المرأة .
وأجمع العلماء على حلّ تحلّي النساء بالذهب حتى ولو كان محلّقا إلاّ خلافا شاذا لربيعة ، حيث قال بعدم جواز الذهب المحلّق ، وهو محجوج بمن سبقه ، وبما أثر عن الصحابيّات – رضوان الله عليهن – ، قال في حديث بلال : (( فجعلن يلقين من حليّهن وأقراطهن )) ولحديث أم زرع لما قالت : أناس من حلي إذني ، فقال - صلى الله عليه وسلم - - كما في صحيح مسلم - : (( كنت لك كأبي زرع لأمّ زرع )) .. فقوله حلال للإناث مطلق سواء كان محلّقا أو غير محلّق ، وعلى هذا إجماع السلف - رحمهم الله - إلاّ من شذّ وهو القول المعتبر الّذي دلّت عليه عمومات القرآن كما في قوله تعالى : { أو من ينشّأ في الحلية } فعمّم سبحانه ولم يخصّص ، والنهي كان في أوّل الأمر كما أجيب عنه ، وأحاديث الحلّ أقوى من حديث النهي ، ولذلك يقدّم الأصح على الصحيح ، والصحيح على الحسن كما هو معلوم ومقرّر عند العلماء - رحمهم الله - .(2/155)
والحرير حرام على الرجل إلاّ إذا وجدت الحاجة ، والذهب حرام إلاّ وجدت الحاجة . فوجود الحاجة في الذهب كأن - مثلا - يحدث به ضرر كما في الأسنان ، ويصعب عليه أن يجد الفضّة ، أو يجد المرمر، أو لا يتيسّر له وجود المرمر والفضّة أو يتّخذ أسنانا من فضّة فتنتن ، وتؤذيه بالعفونة ، حتىّ يتضرّر، فيباح له أن يتّخذ الذهب، وقد جاء في السير عنه – عليه الصلاة والسلام – أَنَّه أذن لابن عرفجة ، وكان قد جدع أنفه يوم الكِلاَب ، فاستأذن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فرخّص له أن يتّخذ أنفا من فضّة ؛ لأنّ الأنف هنا اتّخاذه من فضّة إذا جدع الأنف من نعم الله - - عز وجل - - وجود المارن والمنخرين ؛ لأنّهما يحبسان الضرر عن الإنسان أن يدخل الشيء في جوفه ويمنعان دخول الأتربة والأوساخ ، فإذا ترك الأنف مجدوعا دخل الأتربة والأوساخ وتضرّر بالهوام في نومه ويقظته ومن هنا شكا إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فوجدت حاجة ، وهذه الحاجة قويّة موجبة للحرج توجب مثلها الرخصة ، فأذن له أن يتّخذ أنفا من فضّة ، فلمّا أنتن اشتكى إلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - - ؛ لأنّ الفضّة فيها نتن وفيها رائحة ، فاشتكى إلى النّبي – - صلى الله عليه وسلم - - ذلك ، فأذن له أن يتّخذ أنفا من ذهب ، والذهب أصفى ومادّته أقلّ كدرا وضررا ، فأُذن له بهذه الرخصة ، وهذا يدلّ على مشروعيّة الترخّص بالذهب عند وجود الحاجة .
ومماّ رخّص فيه بعض العلماء التحلّي بآلات السلاح في وجه العدّو ، إذا كان هذا يحدث عندهم الرعب والهيبة للمسلمين رخّصوا في منطقة السيف وقبيعته أن تكون من الذهب إظهارا للهيبة ، ولكن هذا فيه إشكال ، وقد أشرنا غير مرّة أنّ الأصحّ البقاء على الأصل .(2/156)
وأمّا بالنسبة للحرير فقد وجدت الحاجة في عهد النّبي – - صلى الله عليه وسلم - - أيضا ، وأذن بلبسه لعبد الرحمن بن عوف - - رضي الله عنه - - حينما اشتكى الحِكَّة ، ومن به حكّة إذا لبس غير الحرير تضرّر بالحكّة ، والحرير مادّته ألطف على ظاهر الجلد ، ومن هنا إذا لبسه اندفع عنه الضرر غالبا ، فرخّص النّبي – - صلى الله عليه وسلم - - لعبد الرحمن أن يلبسه ، ويرد الإشكال : ألم يثبت عن النّبي – - صلى الله عليه وسلم - - أنّه أخبر بتحريم التداوي بالحرام ، وأنّ الله لم يجعل شفاء أمّته فيما حرم عليها ، فيرد هذا الإشكال كيف أذن لعبد الرحمن بن عوف – - رضي الله عنه - - أن يتداوى بالحرير للحكّة مع أنّه أخبر أنه لم يجعل شفاء أمّته فيما حرم عليها ؛ ففي الحديث الصحيح أنّه دخل على أمّ سلمة – رضي الله عنها - وقد انتبذت خمرة حتى سالت من جرّتها فقال عليه الصلاة والسلام : ما هذا ؟ فقالت : يا رسول الله ، اشتكت فلانة من بطنها فنبذنا لها فدفع عليه الصلاة والسلام الجرّة حتىّ انكسرت وسال ما بها ، ثمّ قال : (( إنّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حُرِّم عليكم )) فأخبر أنّ الحرام ليس فيه دواء ولا شفاء ، وقد جاء في أثر ابن مسعود الذي ذكره البخاري تعليقا بصيغة الجزم ، ووصله ابن أبي شيبة وغيره وفيه : (( إن الله لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرم عليها )) فالأول في الخمر ، والثاني عام ، ثم إنّ الذي في الخمر ، العبرة بعموم لفظه لا بخصوص سببه ، والجواب أنّ الإذن بالحرير للحكّة كما ذكر المصنّف عند الحاجة ليس من باب التداوي ؛ لأنّ من لبس الحرير لا يداوي الحكّة ، وإنّما يخفّف أثرها ، الحكّة موجودة والجلد ملتهب ، ولكنّه حينما يكون عليه لباس ناعم كالحرير خفّ هيجان الجسم ، وهذا ليس علاجاً لنفس سبب الهيجان ، وإنّما هو تخفيف للألم ، ومثله مسألة المخدّر الجراحي ، فإنّ التخدير في الجراحة ليس علاجا بحيث يعارض الحديث الّذي منع من التداوي(2/157)
بالمحرّمات ، وإنّما هو تسكين للأعصاب حتىّ لا تهيج عند القطع وعند التدبير الجراحي ، وهذا ليس علاجا حقيقة ، ومن هنا لا يعارض النصّ ويكون استثناء المصنّف - رحمه الله - بوجود الحاجة ، إنّما هو لدفع الضرر ورعاية للمشقّة ، أيضا دفع الحرج ، وقد جاءت الشريعة بنفي الحرج ؛ كما قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } .
فبيّن رحمه الله أنّه إذا وجدت الحاجة للحرير أنّه لا بأس بذلك ولا حرج فيه .
[ لقول رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في الذهب والحرير : (( هذان حرام على ذكور أمّتي حلّ لإناثهم )) ومن صلّى من الرجال في ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه ذلك ] : طبعا لا يكون الثوب ساترا إلاّ إذا كان لا يصف البشرة ، وهذا شرط في ساتر العورة أنّه يشترط فيه أن لا يصف البشرة ، سواء كان ثوبا أو أثواب ، فلو كان ثوبا واحدا غليظا لا يصف البشرة حصل به المقصود ، لكن لو كان ثوبا أو أثواباً الذي يلي العورة منها رقيق يصف البشرة فإنّ الذي يشفّ يكشف ، ووجوده كعدمه، فلو صلّى في ثوب رقيق نرى به لون بشرته - الضابط عند العلماء أن يرى لون البشرة - ، فإذا استطعنا أن نرى لون بشرته فليس بساتر ، ويجب عليه أن يعيد الصلاة ، ويبقى السؤال : ما الدليل على أنّ ما شفّ كما كشف ؟ الجواب أنّ النّبي- - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( صنفان من أهل النار لم أرهما : نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسنمة البُخْت لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها )) فقال : (( كاسيات عاريات )) : فأخبر أنّهن لابسات لكنّهنّ في حكم الشرع عاريات ؛ لأنّ الذي شفّ وجوده كعدمه ، ومن هنا أخذ العلماء أنّه إذا كان لابسا لما يشفّ أنّ وجوده وعدمه على حدّ سواء ، فلو كان له ثوب واحد لا يشفّ البشرة .(2/158)
كذلك أيضا الثوب يكون ملتصقاً بالجسم ، بحيث يحدّد الجسم - خاصّة في النساء أمره أعظم - ، ومن هنا جاء في حديث القبطيّة حديث أسامة- - رضي الله عنه - - حينما أعطاه النّبي - صلى الله عليه وسلم - القباطي التي كانت تأتي من مصر وهي ثياب رقيقة ، أعطاه إيّاه ، فأخبره أنّه أخذها وأعطاها لزوجه ، فأمره النّبي- - صلى الله عليه وسلم - - أن تلبس تحت القبطيّة لباسا آخر ، فقال : (( إنّه يشفّ عظمها )) فدلّ على أنّ الذي يحدّد الجرم مؤثر ، ومن هنا حينما نفتي المرأة أنّها لا تلبس ما يسمّى بالكبوت الذي يفصل الجسم ، منتزع من هذا الأصل ، فالذي يشفّ ، والذي يحدّد الجلد ، وفي المرأة أشدّ من الرجل ، ومن هنا نهى النبي- - صلى الله عليه وسلم - - في الحديث القبطيّة ، ويشهد له أيضا حديث دحية الكلبي أيضا وقد أعطاه النبي- - صلى الله عليه وسلم - - القبطيّة وأمره أيضا أن يلبس تحته ، وهذا كلّه يدلّ على مراعاة الستر وعدم تحديد جرم العورة ، ومن هنا كره العلماء الصلاة في السروال إذا كان ضيّقا أو محزّقا ؛ لأنّه يحدّد جرم العورة ، وفي حكمه ما نبه عليه بعض أهل العلم في فتاويهم أنّه إذا كان الثوب يلتصق بالبدن تكره الصلاة به ويوجد بعض أنواع الثياب وإذا لبس الإنسان ثوبا واحدا وشفّ البدن بأن التصق البدن ، فالثوب الأملس الرقيق الذي يلتصق بالبدن ، ويحدّد جرم العورة ، هذا كره كراهة شديدة ، ولكن الصلاة به صحيحة .(2/159)
وفي المرأة لا يجوز لها أن تخرج محددةً لجرمها ، ومن هنا تلقي الثوب عليها حتى لا يعرف أهي ثخينة أو رقيقة ، ولا يعرف تفاصيل جسمها ، ولكن إذا وضعت العباءة على كتفها ، أو فصلت العباءة ليدها ، عرف تفاصيل جسمها ، ومن هنا يشدّد في المرأة أكثر من الرجل ، وإذا صلّى الرجل في ثوب واحد يراعي أن يجعل على عاتقه منه شيئا ، وألاّ يشتمل بهذا الثوب اشتمال الصّمّاء ؛ لأنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - نهى عن اشتمال الصّمّاء ، واشتمال الصّمّاء هو أن يلتحف بالثوب التحافا كاملا ، ويجعل يديه من تحته ، وقالوا عدّة علل ، منها :
أنّه فعل اليهود ، ونهينا عن مشابهتهم .
العلّة الثانية : أنّه لا يأمن إذا هجم عليه عدّو أنّه لا يستطيع أن يدفع بالسلاح ، ويقع في ضرر ، وهذا لمصلحة الإنسان ، واشتمال الصّمّاء عموما سواء في الصلاة أو خارج الصلاة إلاّ أنّه في الصلاة أشدّ ، فهذا كلّه نص العلماء على أنّه يصلّي في ثوب واحد لا يشتمل به اشتمال الصّمّاء ، ويجعل طرف الثوب على عاتقه ؛ لأنّ النبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( نهى أن يصلّي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء )) وعلى هذا لو صلّى في ركعتي الطواف وهو مضطبع صحّت صلاته ؛ لأنّه على عاتقه شيء ، والاضطباع إنّما يكون تحت الإبط الأيمن فينكشف عاتقه الأيمن ولكن عاتقه الأيسر مستتر فتصح صلاته، وبيّن المصنف - رحمه الله - هذا ؛ لأن السنة اشترطت أن يكون على العاتق ، والعاتق ما بين المنكب والرقبة .(2/160)
[ فإن لم يجد إلاّ ما يستر عورته سترها ] : عند العلماء منهج ينبغي لطالب العلم أن ينتبه له ، وهو أنّه في كلّ باب ومسألة وأصل ، يبيّنون القاعدة العامّة ، ثم يبيّنون فروع هذه القاعدة في الصور ، ثم يبيّنون المستثنيات ، فأنت إذا قرأت أيّ مسألة ارجع إلى أصلها ، وانظر دليل الأصل ، فإذا قَعَّدت أصل المسألة نظرت في فروعها المبنيّ عليها ، وبعد أن تنتهي من الأصل وفروعه تنظر في المستثنيات ، وأحوال الضرورة ، والخارج عن الأصل ، هذا هو الفقه ، فمن ضبط الأصول التي هي أصول الباب وأصول المسائل ، وضبط أدلّتها ، وأحسن تفريع المسائل على هذه الأصول ، ثم عرف المستثنيات ، وأحوال الضرورة والحوائج ، وما يرخّص فيه ؛ فقد جمع الفقه بإذن الله – - عز وجل - - .
هذا منهج ينبغي لطالب العلم أن يلتزمه ، في أيّ مسألة تعرف أي شيء أصلها ، وإلى أيّ شيء ترجع ، وما هو الوارد في الكتاب والسنّة ، أو فيهما الذي يقعد هذا الأصل ثم الفروع ثم المستثنيات .
هنا المصنف ذكر لنا الأصل : ستر العورة ، وبيّن فروع الأصل للرجال والنساء ، وحدّ العورة في الرجال ، وحدّ العورة في النساء ، وبيّنا دليل ذلك كلّه ، نشرع الآن في مقام الضرورة ، لو أنّ شخصا لا يجد ما يستر به عورته نفس الشيء تبدأ بالأصل ، ما يستر به ، تقول : أوّل شيء يبدأ بستر عورته ، لو ما يجد قلنا إنّه يوضع على عاتقه منه شيء ،كالثوب فإذا ما وجد إلاّ ثوبا يستر فقط العورة ، فقال رحمه الله : [ فإن لم يجد إلاّ ما يستر عورته سترها ] : فإن لم يجد إلاّ ما يستر عورته سترها ؛ لأنّ هذا هو المطلوب أن يستر العورة - طبعا العورة من السرّة إلى الركبة - مثلا :لم يجد إلاّ فوطة قصيرة أو منشفة يستطيع أن يستر بها ما بين السرّة والركبة ، ما عنده ثوب غير هذا يقع هذا في صور :(2/161)
منها : أن يكون مُعْدِماً ليس عنده من ثوب ، أو مثلا يغرق في سفينة ، أو يصير له حادث ، أو يحترق متاعه ، ولا يبقى عليه إلاّ - مثلا - منشفة ، في هذه الحالة لا يجد إلاّ ما يستر عورته .
كذلك لو أنّه غسل ملابسه ، أدخل ملابسه للغسيل ، وليس عنده شيء يستر به عورته إلاّ ما يستر به فقط عورته ، ولو أنّه انتظر حتىّ تنشف الملابس أو ينتهي من غسيلها ؛ فإنّه يخرج وقت الصلاة ، فحينئذ يصلّي وقد ستر قدر الإجزاء ، فيسقط عنه ستر العاتق ؛ لأنّه ذكر مسألة إذا لو يكن له إلاّ ثوب واحد يستره به عاتقه ، فحينئذ يسقط عته ما سوى العورة ، ويؤمر بستر العورة ، لماذا ؟ لأنّ فيه موضعين :
موضع مشدّد فيه مغلّظ ، وموضع أخفّ ؛ فيقدّم ما هو أغلظ وأعظم حرمة ، وهو العورة .
[ فإن لم يكف جميعها ستر الفرجين ] : فإن لم يكف جميع العورة ما بين السرة والركبة ، ستر الفرجين: القبل والدبر ، فلو لم يجد إلاّ عُصَابة من قماش لا يستطيع أن يتّزر بها فتستر ما بين السرّة والركبة ستر القبل والدبر ؛ لأنهما السوأتان المغلّظتان .
[ فإن لم يكفهما ستر أحدَهما ] : [ فإن لم يكفهما ] : لم يكف القبل والدبر ، فهل يستر القبل أم يستر الدبر ؟ وجهان للعلماء ، أو يخيّر ؟
بعض العلماء يقول : يستر القبل ؛ لأنّه يستقبل به القبلة ، وهو أفحش ، وهيبة الوقوف بين يدي الله ؛ تعظيما له أن يستر القبل ؛ قالوا : يستر القبل لأنّه يقف بين يدي الله ، وتعظيم حرمة الوقوف بين يدي الله ،ولأنّه يستقبل به القبلة ؛ ولأنّ الدبر يستتر بالإلية ، وانكشافه يكون في بعض لا في الكلّ ، فهو واقف لا ينكشف دبره ، ولكن قد ينكشف في حالة ركوعه أو سجوده ، ومن هنا قالوا : إنّه يستر القبل ، ثم نوزع هل يسجد أو يركع أو لا ؟
بعض العلماء رخّص له بترك السجود والركوع .(2/162)
ومنهم من خيّره . وهذه مسألة ازدحام الشرط مع الركن ؛ لأنّ السجود ركن ، والركوع ركن ، فإذا ركع انكشف دبره ، وإذا سجد انكشف دبره عند الانفراج ، ومن هنا قالوا إنّه لا يركع ولا يسجد ؛ لأنّه لحقّ الآدمي؛ لأنه تعارض حقان : حقّ الله ، وحقّ الآدمي ، فقدّم حقّ الآدمي على حقّ الله ؛ لأنّ حقوق الله مبنيّة على المسامحة ، فهو يتضرّر لو أنّه سجد ، وفيه حرج عليه عظيم ، ومن هنا حفظ حقّه، وهي من المسائل التي يقدّم فيها الشرط على الركن ؛ لأنّه في هذه الحالة سيترك ركن الركوع وركن السجود .
ومنهم من قال : يسجد ؛ تقديما للركن على الشرط على الأصل في الأدلّة أنّها تقوّي الركن وتغلّبه على الشرط، إذا لم يجد ستر أحد الفرجين على القول الذي ذكرناه أنّه يستر القبل .
منهم من قال : يستر الدبر ؛ وذلك لأن انكشاف الدبر أفحش من انكشاف القبل ، وتضرّره بالدبر أعظم من تضرّره بالقبل ، ومن هنا خفّفوا في القبل ، وشددوا في الدبر ، فقالوا : يستر الدبر ، والأوّل أقوى .
[ فإن عدم بكلّ حال صلّى جالسا يومئ للركوع والسجود ] : فإن عدم الساتر بكلّ حال صلّى أي عريانا ، ويومئ بالركوع والسجود نفس المسألة التي كنّا فيها . قال بعض العلماء : يجب عليه أن يركع ويسجد ؛ لأنّ الله فرض عليه الركوع ، وفرض عليه السجود ، ولا تصحّ صلاته إلاّ بركوع وسجود، ومنهم من قال : يسقط عنه الركوع والسجود ؛ لأنّه إذا ركع وسجد انكشفت عورته أكثر .
[ وإن صلّى قائما جاز ] : يقول رحمه الله : وإن صلى من لا يجد ساترا لعورته قائما جاز، بيّن في الأولى أنّه يصلّي قاعدا ويومئ بالركوع والسجود ؛ تقديما للستر على الانكشاف ، وبيّن في هذه الجملة جواز أن يصلّي قائما فإذا صلّى قائما قال جاز .
الأسئلة
السؤال الأول :
هل بجب على المرأة تغطية قدميها في الصلاة وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/163)
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أمّا بعد :
فحديث أمّ سلمة - رضي الله عنها- أصل في هذا ، ولكنه اختلف في رفعه للنبي- - صلى الله عليه وسلم - - وثبوته ، والعمل على أنّ المرأة تغطّي قدميها في الصلاة ، وأنّ الأصل يقتضي أن يكون إحرامها في وجهها وكفّيها وهو محلّ الإجماع والقدر المشترك ، فيبقى ما عداه على الأصل فلو لم يصحّ الأثر لصحّ من جهة الأصول أن تؤمر بتغطية ما عدا الوجه والكفّين والله تعالى أعلم والنبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقول : (( لا يقبل الله صلاة حائض إلاّ بخمار )) ، وهذا يقتضي الأصل في الستر كما ذكرنا في المرأة ، ومحلّ الإجماع المتّفق عليه والقدر المتّفق عليه في الوجه والكفين ، وما عداهما باق على الأصل من المنع . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : هل يمكن ضبط وقت اصفرار الشمس ومنتصف اللّيل بالساعة المعروفة اليوم وجزاكم الله كلّ خير ؟
الجواب :(2/164)
نعم يمكن ضبط ذلك بالنسبة لمنتصف النهار ومنتصف الليل ، ويمكن النظر إلى وقت الغروب ، ووقت الطلوع ووقت أيضا الإشراق ، ووقت الغروب ، فلو أراد أن يعرف متى تزول الشمس فإنّه ينظر متى إشراقها ، ثم ينظر متى مغيبها ، ويقسم ذلك على اثنين ، ينظر القدر ما بين ساعة الإشراق وساعة الغروب ، ثم يقسمه على اثنين ويضيف الزائد على وقت الإِشراق ، فمثلا : لو كان الإشراق على الساعة السادسة والغروب على الساعة السادسة مساء فهذه اثنتا عشرة ساعة ، وحينئذ يكون نصفها ستّ ساعات تضاف إلى السادسة وقت الإشراق فيصبح انتصاف النهار عند الثانية عشرة ، هذا من جهة الحساب ، وضبطه من جهة الأمارة كما ذكرنا أن يمسك الظلّ عن الحركة ، إذا أمسك الظلّ عن الحركة وضع علامة عند آخر قدر وصل إليه ظلّ الشاخص ، ثم بعد ذلك إذا تحرّك الظلّ عرف أنّه زالت الشمس وتحرّكت ، ويحسب طول الشاخص في القدر الذي وقف عليه الظلّ فيما بعده ، ولذلك يقولون : حين يصير ظلّ كلّ شيء مثله بعد فيء الزوال ، يعني فوق فيء الزوال هذا بالنسبة للشاخص ، وهذا يختلف في الصيف والشتاء على حسب قرب الشمس ، وبعدها عن خطّ الاستواء .كما ذكرنا والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : إني أحبك في الله ، من شرع في قراءة الفاتحة أثناء رفعه من السجود للركعة الثانية مثلا هل هذا الفعل الصحيح وماذا عليه من فعل ذلك . والله يحفظكم ؟
الجواب :(2/165)
قراءة الفاتحة لا تصحّ إلاّ بعد القيام بعد أن يستتمّ قائما ، وهذا في الفرائض ، في النوافل يجوز أن يصلّي النافلة وهو قاعد ، ولذلك لو صلّى فيما بين قعوده ووقوفه فإنّه في حكم القاعد ، ولا يؤثّر، يعني لو بدأ في قراءة الفاتحة بعض الناس يقول : الله أكبر قائما للركعة الثانية ، يقول : الله أكبر بسرعة ، ثم يبقى وقت قبل أن يصل لقيامه ، فيقول {الحمد لله ربّ العالمين } وهو أثناء القيام ، مستعجل يريد أن ينتهي من الفاتحة ، فهذا الاستعجال من الشيطان ؛ لأنه يذهل الإنسان . بعض الناس تجده يقول لهويه للسجود : ربّنا ولك الحمد ، الله أكبر، ممكن سبحان ربي الأعلى قبل أن يسجد - نسأل الله السلامة والعافية - قعد الشيطان للإنسان بالرصد ، ولن تجد أغفل من الإنسان عند طاعته لله- - عز وجل - -كلّ شيء يمكن أن ينتبه له إلا حقّ هذا الملك العظيم - سبحانه - ؛ لأنّ الشيطان قعد له في كلّ صغيرة وكبيرة ، وهذا من كمال الغفلة - والعياذ بالله - فلا يزال بالإنسان حتىّ يبعثه بهذا .
في الفرائض لا ، فإذا جاء قائم من السجدة الثانية في الركعة الأولى مثلا يريد أن يصلّي الركعة الثانية يجب عليه أن يقرأ الفاتحة قائما لا قاعدا ، يجوز له أن يقرأ قاعدا كالمريض ، لو كان مريضا لا يستطيع أن يقوم مباشرة ، ولا يحصّل قدرا في قيامه يمكن أن يقرأ فيه الفاتحة هذا يرخّص له ، لكن إذا كان قادرا لا يقرأ إلاّ بعد قيامه كاستتمامه قائما ، ومن هنا لو ابتدأ قراءة الفاتحة ، فقرأها أو قرأ جزء منها أثناء قيامه لم تصحّ ، وعليه أن يعيد هذه الركعة ؛ لأنّ الفاتحة لا تصحّ إلاّ وهو قائم ، وعلى هذا يفصّل فيمن قرأ أثناء قيامه ، فيفرّق بين الفريضة والنافلة . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : ما حكم كشف الذراعين في الصلاة وخارجها وهل هو من خوارم المروءة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/166)
الصلاة لها هيئة ، ولها حالة ، والوقوف بين يدي الله له هيئة وله حالة ، والعمل والشغل له هيئة وله حالة ، ومن هنا ورد عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنّه نهى عن كفّ الثوب والشعر، قيل : كفّ الثوب في الصلاة أن يشبر ذراعيه فيكفّ ثوبه ، وكفّ الثوب في الصلاة عام شامل للكفّ عند السجود البعض إذا أراد أن يسجد شمّر ، والصحيح أنّه لا يشمّر ؛ لماذا ؟ لأنّ المراد أن تنزل بثيابك حتىّ يسجد ثوبك وتسجد بجسدك ، ولذلك نهي عن كفّ الشعر؛ لأنّه إذا كفّه منعه من السجود ، فإذا تساقط شعره فقد سجد شعره وشحمه ولحمه وعظمه كاملا ؛ فإذا الكفّ هذا ليست هيئة تليق بالمصلّي ، وقد نهي عن كفّ الثوب والشعر، وكان الوالد - رحمه الله - ومذهب طائفة أنّه يدخل فيه الشمر، الشمر المتفاحش ، أمّا إذا شمّر بمعنى من كتابة أو جدّ أو اجتهاد ؛ لأنّه في بعض الأحوال إذا كان جالسا ليكتب وشمّر ذراعيه لا بأس ، إذا أراد أن يعمل وشمّر ذراعيه لا بأس
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
لم يكن واحد يأتي يتعاطى الأمور التي تحتاج إلى جد واجتهاد وهو بحال أهل الجلوس ، فالحركة لها هيئة تناسبها وكذلك الجلوس له هيئة يناسبها .
فالشاهد من هذا أنّ كفّ الثوب في الصلاة الشمر المتفاحش منهيّ عنه ، ولذلك البعض إذا جاء في الصلاة متوضئاً وقد شمّر ثوبه ، فإنّه يعيد ثوبه إلى حاله إذا أراد أن يصلّي . والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : كيف أجد اللذّة في طلب العلم وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
الله أكبر - نسأل الله أن يرزقنا لذّة العلم ، وأن يجعلنا من أهله - تجدها باختصار :(2/167)
أوّلا : بالإخلاص لوجه الله - - عز وجل - - فلن تجد لذّة العلم على أجمل وأكمل وأفضل حال وصورة وبهاء مثل أن تكون مخلصا لله - - عز وجل - - ؛ لأنّ من صلحت سريرته زكت علانيته ، ومن طيّب لله قلبه طيّبه الله قلبا وقالبا ، وما من عمل يستفتحه العبد وليس في قلبه إلاّ الله إلاّ فتح الله فيه أبواب رحمته عليه ، ووفّقه ويسّره وسدّده ، فلذلك أي مجلس تجلسه في العلم ، أو تخرج منذ أن تخرج من بيتك تجاهد نفسك أن تريد وجه الله - - عز وجل - - .
ثانيا : أن تحرص أثناء جلوسك في طلب العلم أن تكون على أكمل وأفضل ما يكون عليه الحال ، فلا تجلس في مجالس العلماء إلاّ إذا قرأت العلم ، وراجعت الدرس قبل الجلوس المرّة والمرّتين والثلاث والأربع حتى تحسّ باللذة، إنّ للعلم لذّة يعرفها من يعرفها ، ووجدها من وجدها ، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، لا يجد لذة العلم الذي لا يعرف العلم إلاّ في مجالس العلماء ، يقرأ المرّتين والثلاث والأربع ، ومنهم من يقرأ ليلة الدرس ، ثم يصبح وهو مع درسه ، ثم يمسي وهو مع درسه ، فلا يأتي الدرس إلاّ وهو هاضم مسائله ، عارفا ماذا يسمع، وعن ماذا يسأل، هكذا يكون طلاّب العلم الذين يريدون أن يجدوا لذّة العلم ، والذين يتلذّذ العلماء بأمثالهم ، فمثل هؤلاء يملئون القلب ويملئون العين فرحا وسرورا، وهم قرّة عين في عيون علمائهم وأساتذتهم ومشايخهم .
أمّا أن يأتي الطالب لا عهد له بالكتاب إلاّ أثناء الدرس ، فهذا قصور، ويفوته من اللذة والخير الشيء الكثير .(2/168)
الأمر الثالث : ممّا يعين على لذّة العلم الضبط ، فيجلس الإنسان في مجلس العلم ، وقد أعطى جسمه حظّه من الراحة والاستجمام ، فلا يجلس بخمول ولا بكسل ولا نوم ، ولا عدم مبالاة ، ولا جلوس المستهتر، ولا متّكئ ولكن يجلس جلوس المقبل على العلم جدًّا واجتهادا وصدقا حتىّ يتلذّذ في حاله وهيئته وسمته ودلّه كما كان أصحاب رسول الله- - صلى الله عليه وسلم - - مع النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ؛ لأنّ هذه أنوار التنزيل ، والآيات والأحاديث ينبغي أن تقابل بالإجلال والإكبار حتىّ يعظم الله للعبد عطيته .
الأمر الرابع : ممّا يعين على لذّة العلم العمل به وتطبيقه ، فإذا طبّق العلم وجد لذّته وبركته وخيره .
وممّا يعين على وجود لذّة العلم : الدعوة إليه ، وتعليم الناس له ، ودلالتهم عليه ، حتىّ يشعر بمقدار نعمة الله - تعالى عليه - .
ممّا يعين على استشعار لذّة العلم : قراءة سيرة العلماء ، وكيف أصبح لهم بلاء للأمّة ، ونفع للأمّة ، أحياء وأمواتا، وهو يحمل كتاب هذا العالم ، كيف أنّ العالم وهو في قبره ، موسد في لحده ، تغشاه الرحمات ، والخيرات والبركات ، من أناس لا حسب بينه وبينهم ولا نسب ، كلّ هذا بفضل الله ، ثم بالعلم . نسأل الله أن يرزقنا وإياكم ذلك وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
تابع باب شرائط الصلاة
قال المصّنف رحمه الله : [ ومن لم يجد إلاّ ثوبا نجسا أو مكانا نجسا صلّى فيهما ولا إعادة عليه ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين ؛ أمّا بعد :(2/169)
فقد شرع المصنّف - رحمه الله - في بيان مسائل الضرورة ، وهي الّتي تتعلّق بِعَجْز الإنسان عن الستر، ووجود الطاهر الذي يصلّي عليه . فبيّن رحمه الله أنّه إذا لم يجد المصلّي إلّا ثوبا نجسا ؛ فالأصل عندنا أنّه لا يصلّي إلّا في ثوب طاهر. والسؤال : ما علاقة الثوب النجس بستر العورة ؟
والجواب : أنّ الأصل يقتضي أن يصلّي ساترا لعورته ، فإذا عدم الساتر الطاهر يرد الإشكال : هل نقدّم شرط ستر العورة أو نقدّم شرط الطهارة ؟ فنحن إذا قلنا له : صلِّ في هذا الثوب النجس ، فمعنى ذلك أنّنا قدّمنا شرط ستر العورة ، وإذا قلنا له : انزع هذا الثوب النجس ، وصلّ عريانا ، فقد قدمنا شرط الطهارة ، وهذه أوجه عند العلماء - رحمهم الله - :
قال بعض العلماء : إنّه إذا لم يجد إلّا ثوبا نجسا ؛ فإنّه يصلّي عُرْيانا ، وهذا إذا أمكن أَمْن النظر ، بمعنى يصلّي لوحده دون أن يراه أحد .وقال بعض العلماء : يصلّي في الثوب النجس ، ولا بأس ولا حرج عليه ، ثمّ الذين قالوا إنّه يصلّي في الثوب النجس اختلفوا هل يعيد بعد ذلك أو لا يعيد وستأتي المسألة . فإن كان على الإنسان ثوب نجس ، وصلّى عريانا قالوا قدّمنا شرط الطهارة على شرط ستر العورة ، وذلك لأنّ هذا الثوب وجوده وعدمه على حدّ سواء ، فلا يمكننا أن نخاطر بصلاة المصلّي ونقول : صلّ في الثوب النجس ؛ ولذلك نقول له: اخلع هذا الثوب النجس ، وصلّ عريانا ، وحينئذ يسقط عنه شرط ستر العورة ؛ لأنّه عنده عذر، ولا يكون كمن لم يجد ساترا يستر عورته .
القول الثاني يقول : إنّه يصلّي في الثوب النجس ، ولا حرج ولا بأس عليه ؛ واستدلّوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم فانتهوا )) .(2/170)
قالوا : إنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )) فهذا ليست عنده استطاعة أن يصلي في الثوب الطاهر، فنقول له : اتّق الله ما استطعت ، وصلّ في هذا الثوب ، ولا بأس ولا حرج عليك ؛ وحينئذ يقولون : إنّ هذه النجاسة الذي في ثوبه معفو عنها للعجز.
والقول الذي قال إنّه يصلّي في الثوب النجس منهم من قال : إذا وجد ثوبا طاهرا أعاد الصلوات كلّها.
ومنهم من قال : قد برأت ذمّته فلا يعيد الصلاة .(2/171)
والحقيقة من ناحية الدليل أقوى الأدلّة على أنه يصلّي في الثوب النجس ولا تلزمه الإعادة ؛ وذلك أنّ النّبي- - صلى الله عليه وسلم -- أسقط الإعادة عند فقد الشرط والعجز عنه ؛ كما في الصحيح في قصّة عائشة - رضي الله عنها - فإنّها فقدت قلادتها التي كانت لأختها أسماء - وهذا قبل فرضية التيمم - فخرج عليه الصلاة والسلام حتى بلغ ذات الجيش - وذات الجيش بعد أبيار علي المنبسط الفسيح المعروف من بعد أبيار علي بعد البيداء إلى الجبال الظاهرة في غربي المدينة هذه كلّها يسمّى بذات الجيش - ، فعسكر النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه في ذات الجيش ، وحبسهم العقد الذي كان لأسماء ، فلمّا فقد عليه الصلاة والسلام هذا العقد أرسل رجالا في طلبه والبحث عنه ، فأدركتهم الصلاة ، فبحثوا عن الماء فلم يجدوه ، فلمّا لم يجدوا الماء انقسموا : فمنهم من صلّى بدون وضوء ، وهذا قبل فرضيّة التّيمم ، فصلّوا بغير وضوء وبغير طهارة ، وقسم ثان لم يصلّ ، ورجعوا إلى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - فصوّب عليه الصلاة والسلام الذين صلَُّوا بغير وضوء ، وهذا يدلّ على أنّ العجز عن الشرط والطهارة أنّه يوجب سقوط التكليف ، ومن هنا لم يأمرهم النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - بإعادة الصلاة ؛ فدلّ على أنّك إذا صلّيت على حال لا تستطيع معه تحصيل الشرط أنّها تسقط عنك الإعادة ، ولا شكّ أنّ الاحتياط والخروج من الخلاف أنّه يعيد هذا على سبيل الاستحباب ، وليس على سبيل الحتم والإيجاب .(2/172)
فالشاهد معنا أنّه لو صلّى في ثوب نجس ، مثال ذلك قالوا : لو حبس في غرفة ، وتنجّست ثيابه ، وليس عنده ماء يغسل هذه الثياب ، فكيف يصلّي ؟ أو يكون مثلا في غزوة ، أو في سفر، فتتنجّس عليه ثيابه وليس عنده ماء يطهّرها به ، ولا يسعه الوقت لكي يجد ثيابا - مثلا - ابتعد عن خيمته ، وابتعد عن سيّارته التيّ فيها ثيابه ، وابتعد عن بيته ، بحيث لو رجع إلى بيته خرج وقت الصلاة ؛ فحينئذ لا يجد إلاّ هذا الثوب النجس ، قالوا : يصلّي فيه على حالته هذا بالنسبة لمسألة من لم يجد إلّا ثوبا نجسا صلى فيه .
وقلنا : الصحيح أنّه لا تلزمه الإعادة ، وهكذا لو كان المكان نجسا ، لو كان المكان نجسا : الأرض النجسة تنقسم إلى قسمين : إمّا أن تكون طريّة رطبة ، وإمّا أن تكون يابسة ، وكلام أهل العلم في ظاهر قول بعضهم أن المسألة الخلافيّة في الجميع ؛ سواء كانت الأرض رطبة ، أو يابسة .
ومنهم من أوردها على اليابس حتى يؤكّد أنّ الرطب من باب أولى وأحرى .
ومنهم من يفصل عند بعض المتأخرين ، لكن المحفوظ عند المتقدّمين أنّ المسألة هذه على إطلاقها ؛ سواء كانت الأرض رطبة ، أو يابسة .
إذا كانت الأرض نجسة ؛ فحينئذ يرد السؤال : هل يصلّي على هذه الأرض النجسة ؟ وإذا صلّى هل يباشر النجاسة بالسجود عليها ؛ سواء كانت رطبة ، أو يابسة ؟
هذه المسألة اختلف فيها العلماء - رحمهم الله - :(2/173)
أولا قال المصنّف - رحمه الله – : [ صلّى ] فأوجب عليه الصلاة ، وإيجاب الصلاة يدلّ عليه الدليل الشرعي ، فإنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال كما في الصحيحين : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا )) فأمرنا بالإتيان بالأمر، ثم قال : (( فأتوا منه ما استطعتم )) فهذا باستطاعته أن يصلّي ، وباستطاعته أن يقوم بالصلاة ، وإن كان الموضع نجسا ؛ فإنّه خارج عن قدرته واستطاعته ، فلا يكلّف بذلك ، أي لا يكلّف بتطهير المكان ، ولا يكلّف بأن يصلي على مكان طاهر، من أمثلة هذه المسألة : لو حبس في بئر نجس ، لو حبس في غرفة نجسة ، لو حبس في دورة المياه ، وكانت مليئة بالنجاسة - أكرمكم الله - هذا كلّها من صور المسألة ، بحيث يتعذّر عليه أن ينتقل إلى مكان طاهر، أمّا لو أمكنه أن ينتقل ، وغلب على ظنّه أنّه قبل خروج الوقت سيخرج من هذا المكان إلى مكان طاهر فلا إشكال ، وهكذا لو أمكنه أن يبسط ثوبا طاهرا ، وكانت الأرض يابسة ، بحيث يصير حائلا بينه وبين النجاسة ، هذا لا إشكال فيه ، إذا أمكنه أن يجد أرضا طاهرة ، أو أمكنه أن ينتقل إلى أرض طاهرة ، أو أمكنه أن يبسط ثوبه على النجاسة اليابسة ، فلا إشكال أنه يجب عليه ، ولا خلاف بين العلماء أنّه ملزم بذلك ، لكن الكلام إذا كانت الأرض نجسة يابسة أو رطبة ، هل يصلّي أو لا ؟
فالصحيح : مذهب الجمهور أنه يجب عليه أن يصلّي إذا كانت الأرض نجسة ؛ واستدلوا بقوله - عليه الصلاة والسلام - : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )) وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وكذلك أيضا قالوا : إن هذا يمكنه أن يأتي بالصلاة ، ويعذر بسجوده وملامسته للنجاسة ، فيسقط عنه ما عذر فيه ، ويبقى على الأصل ، ما نستطيع أن نسقط عنه الصلاة .
وذهب الحنفيّة - رحمهم الله - إلى أنّه لا يصلّي على هذا الموضع النجس ، ثم الذين قالوا إنّه يصلّي على هذا الموضع النجس اختلفوا كما تقدّم في الثوب النجس :(2/174)
ومنهم من قال يصلّي ولا إعادة .
ومنهم من قال يصلّي ويعيد .
والصحيح أنّه يصلّي ولا يعيد ، لكن لو خرج قبل خروج الوقت فالأفضل والمستحبّ له أن يعيد ، فالسؤال الآن: إذا صلّى وقلنا إنّه لا يعيد لا إشكال ، لكن لو قلنا : إنّه يعيد ، سيرد الإشكال : هل الصلاة المفروضة هي الأولى أو هي الثانية ، أو واحدة مبهمة منهما ؟
هذا فيه خلاف بين العلماء - رحمهم الله - ذكر هذه الأوجه الإمام النووي - رحمه الله - وغيره .
فالشاهد عندنا أنّه يصلّي ، هذا الحكم الأول ، ويجب عليه أن يصلّي ؛ لأمر النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - بتقوى الله على قدر الاستطاعة .
وثانيا : أنّه لا تجب عليه الإعادة ؛ لأنّه اتّقى الله ما استطاع بشرط أن يستغرق وقت الصلاة كاملة ، أمّا إذا لم يستغرق وقت الصلاة ، وخرج قبل خروج وقت الصلاة بقدر يمكنه أن يعيد ؛ فإنّه يعيد ، على هذا القول درج المصنّف - رحمه الله - أنّه يصلّي في الثوب النجس وعلى المكان النجس .
[ ومن لم يجد إلّا ثوبا نجسا أو مكانا نجسا صلّى فيهما ولا إعادة عليه ] : [ صلّى فيهما ] : هذا الحكم ، [ ولا إعادة عليه ] هذا الحكم الثاني ، وقلنا : أنّ هناك خلافا فيه ، ثم قال : [ ومن لم يجد ] : هذا الشرط أنه لا يجد وإذا وجد أو غلب على ظنّه أنّه سيخرج من هذا المكان النجس قبل خروج الوقت فإنّه لا يصلّي ، وإذا شكّ انتظر ، إذا شكّ هل يخرج أو لا يخرج انتظر - مثلا - لو أغلق عليه في مكان نجس ، واحتمل أن يسمع أحد صوته ويخرجه ، أو احتمل أنّ أحدا يحضر ويفتح عليه هذا الباب، ينتظر ولا يبادر .
[ الشرط : الرابع الطهارة من النجاسة في بدنه وثوبه ] : يقول رحمه الله : [ الشرط الرابع ] من شروط صحّة الصلاة الطهارة من النجاسة في بدنه وثوبه ومكانه ، يشترط لصحّة الصلاة أن يكون المصلّي طاهر البدن طاهر، الثوب ، طاهر المكان الذي يصلّي عليه أو فيه .(2/175)
فأمّا طهارة البدن ؛ فإنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - طَهّر بدنه كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة في استجماره واستنجائه قبل وضوئه وطهارته ؛ وقال - صلى الله عليه وسلم - للمرأة : (( اغسلي عنك الدم وصلّي )) فأمرها بطهارة بدنها .
وقال في حديث المذي : (( ليغسل مذاكيره )) ، وقال في حديث الجماع أيّام الرخصة : (( ليغسل ما أصابه منها )) فهذا كلّه يدلّ على وجوب طهارة البدن .
أمّا طهارة الثوب ؛ فإنّ الله تعالى يقول : { وَثِيَابَكَ فَطَهّر } أمر الله - - عز وجل - - نبيّه والأمر للأمّة أن يطهّر ثيابه لعبادة الصلاة ، وهذا الأمر على الوجوب ، وشرط في الصحّة كما سيأتي .
وكذلك دلّ على طهارة الثوب ما ثبت في الصحيحين عن النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - عن بنت محصن - رضي الله عنها - حينما أتت بابن لها ، فأجلسه النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - في حجره ، فبال على رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، فدعا بماء فأتبعه إيّاه فطهر عليه الصلاة والسلام ثوبه مما علق به ، ولو أنّها طهارة مخففّة ؛ لأنه ينضح من بول الغلام ، ويغسل من بول الجارية .
وأمّا طهارة المكان الذي يصلّي فيه ؛ فإنّ الله تعالى قال لنبيّه الخليل وإسماعيل : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فأمر بطهارة الموضع الّذي يصلّى فيه من أجل الصلاة .
وكذلك ثبت عن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - في الصحيحين من حديث أنس بن مالك - - رضي الله عنه - - أنّ أعرابيّا بال في المسجد فأمر النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أن يراق على بوله سَجْلًا من ماء قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا تزرموه )) فلمّا فرغ الأعرابيّ من بوله قال: (( أريقوا عليه سَجْلًا من ماء )) يعني دلوا من ماء ، فطهّر عليه الصلاة والسلام الموضع .
فهذه الأدلّة تدلّ على لزوم طهارة البدن والثوب والمكان .(2/176)
ومما يدلّ أيضا على طهارة المكان ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - في حديث النعلين ، فإنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أمر الصحابة من أراد أن يصلّي في نعليه إذا أتى المسجد - وكانت المساجد غير مفروشة لضيق الحال في زمان النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أمرهم أن يدلكوا النعال قبل الدخول إلى المسجد ، وهذا نوع تطهير؛ وثبت في الحديث عنه - عليه الصلاة والسلام - أنّه لما أتاه جبريل فأخبره أنّ نعليه ليستا بطاهرتين ، خلع عليه الصلاة والسلام نعاله ، وهذا يدلّ على أنّه لا يجوز للمصلّي أن يصلّي على موضع نجس ، فاجتمعت بهذه الأدلّة من الكتاب والسنّة الدلالات على وجوب طهارة البدن والثوب والمكان .
ومن هنا قال العلماء : يشترط في صحّة الصلاة أن يكون طاهر البدن أي أنّ المصلّي طاهر بدنه كلّه ، ويعفى عن النجاسة في دبره في موضع الخارج إذا استجمر، هذا من النجاسة المعفوّ عنها ، فيطهّر بدنه ، ويطهّر ثوبه ، ويطهّر مكانه ، ولا تصحّ صلاته إذا علم بالنجاسة في ثوبه أو بدنه أو مكانه الّذي يصلّي فيه إلّا إذا كان معذورا في المسألة الّتي تقدّمت معنا .
[ وموضع صلاته ] : يعني المكان الذي يصلّي فيه ، والموضع يشمل الأرض - أرض المسجد - ، وفراش المسجد ؛ ولذلك ثبت عن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنّه لمّا قام على الحصير نضحه أنس - - رضي الله عنه - - بماء ، قال: (( قوموا فلأصلّي لكم )) قال أنس - - رضي الله عنه - - فقمت إلى حصير قد اسودّ من طول ما لبس ، فنضحته بماء ، فقام عليه النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - فقوله : (( نضحته بماء )) ؛ لأنّ هذا في طهارة المشكوك في نجاسته ، وطهارة المشكوك يكون بالنضح، وطهارة المستيقن نجاسته يكون بالغسل ، فهذا نوع من التطهير : أنّه إذا شكّ الإنسان أصاب ثوبه - مثلا مرّ في مكان فيه نجاسة وشكّ هل علقت نجاسة أو لا - فيأخذ كفّا من ماء ويرشّه .(2/177)
فالشاهد من هذا أنّه يحرص على طهارة الحصير الذي يصلّي عليه ، والفراش الذي يصلّي عليه ، والأرض التي يصلّي عليها ، والعبرة في الأرض بما يباشره المصلّي بأن يكون موضع سجوده وموضع كفّيه وموضع قدميه يكون طاهرا ، هذا هو الذي عليه المعوّل .
[ إلّا النجاسة المعفو عنها كيسير الدم ونحوه ] : النجاسة المعفوّ عنها تقدّمت معنا أنّه يعفى عن يسير الدم والقيح والصديد ؛ والأصل في العفو عن يسير الدم قوله تعالى : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } فبين أن الدم المسفوح نجس لكنّه قال : { أَوْ دَماً مَسْفُوحاً } والمسفوح هو الكثير، وفهم من هذا أنّ القليل معفوّ عنه ، والإجماع على أنّ اليسير من الدم معفوّ عنه ؛ لأنّ الآية أشارت بالمفهوم على أنّ اليسير لا يحكم بنجاسته ، وهناك خلاف في ضابط اليسير تقدّم معنا هل هو قدر الدرهم أو ما لا يتفاحش في النفس ؟(2/178)
وقلنا : أقوى الضابطين أنّه قدر الدرهم البغلي ، أنّه إذا كان قدر الدرهم البغلي الذي هو الهللة القديمة فما دونها مجتمعا أو متفرّقا ، لو كان يصلّي في ثوب ، والثوب فيه نجاسة بقع دم ، وهذه البقع من الدم لا تبلغ قدر الهللة القديمة ، بحيث لو جمعتها أو كانت في مكان واحد ، فنظرت إليها لم تبلغ قدر الدرهم، فإنّ هذا لا يمنع من صحّة الصلاة ، يصلّي ولا بأس لكن ، لو أنّ الدم الموجود كان كثيرا فإنّه يجب عليه أن يطهّر ثوبه ، ثمّ يصلّي فيه ، وهكذا بالنسبة للنعلين ، وهكذا بالنسبة للمكان والموضع الذي يصلّي فيه ؛ ولذلك صحّ عن أصحاب النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنهم تساهلوا في اليسير، فابن عمر - - رضي الله عنه - - عصر بثرة وهي الحبّة في بدنه عصرها حتّى خرجت ما فيها ، ومن المعلوم أنّ في البثرة نجس ؛ لأنّه إمّا دم وإمّا قيح ، والقيح حكمه حكم الدم ؛ لأنّه متولّد من الدم ، والفرع تابع لأصله ، ولذلك لا يحكم بنجاسة القيح ؛ لأنّه فرع عن الدم ومتولّد من الدم .
[ وإن صلّى وعليه نجاسة لم يكن يعلم بها أو علم بها ثم نسيها فصلاته صحيحة ] : بيّن رحمه الله أنّ الواجب على المسلم أن يكون طاهر الثوب والبدن والمكان ، ثم شرع في بيان الأحوال المستثناة ، وقد سبق أن قلنا إِن الفقه أن تذكر الأصل ، وحكمه ، والدليل ، وكيف يطبق هذا الأصل على فروعه ، ثم تذكر المستثنيات ، وهذا منهج الفقهاء في متونهم ، فبعد أن بيّن لنا الأصل شرع في بيان مسائل العذر، مسائل العذر يدخل فيها : النسيان، ويدخل فيها الخطأ، وهنا أورد مسألة العذر على سبيل النسيان ، فلو أنّه صلّى وهو يعلم بالنجاسة فلا إشكال أنّه لا تصحّ صلاته إلا في مسائل العذر عند العجز ، لكن لو أنّه صلّى ، ولم يعلم بالنجاسة إلا بعد انتهاء الصلاة ، أو نقول : صلّى وعلم بالنجاسة بعد فعل شيء من الصلاة ، أي بعض أركان الصلاة ، فما حكم صلاته ؟(2/179)
إذا صلّى ونسي نجاسة ، ثم علم بذلك بعد الصلاة سواء خرج الوقت أو لم يخرج الوقت ؛ فصلاته صحيحة ، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنّه صلّى بنعليه ، ثم خلع نعاله ، فخلع الصحابة - رضي الله عنهم - نعالهم ، فلمّا سلّم قال : (( ما شأنكم ؟ قالوا : رأيناك خلعت فخلعنا، فقال عليه الصلاة والسلام: أمّا إنه قد أتاني جبريل، فأخبرني أنّهما ليستا بطاهرتين)) .
وجه الدلالة من هذا الحديث : أنّ النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - نجزم بأنه كبّر تكبيرة الإحرام ، ودخل في صلاته ، وهذا أقلّ ما يكون من على ظاهر الحديث ؛ لأنّ الخلع وقع أثناء الصلاة لا قبل الصلاة ، وعلى هذا إمّا أن يكون صلّى ركعة أو أكثر من ركعة لكنّا نجزم بأنّه فعل ركنا لا تصحّ الصلاة إلّا به وهو تكبيرة الإحرام ، فكونه - عليه الصلاة والسلام - يتمّ الصلاة ، ويبني على ما مضى ، يدلّ على أنّ الصلاة لا تبطل عند نسيان النجاسة ؛ لأنّه لو كانت الصلاة تبطل عند نسيان النجاسة في حال نسيان النجاسة ؛ لقطع عليه الصلاة والسلام صلاته ، وكبّر تكبيرة الإحرام ، واستأنف الصلاة ، فكونه - عليه الصلاة والسلام -لم يستأنف الصلاة - وهذا موضع الشاهد - ، وكونه يبني على ما مضى ، وكان الذي مضى ركناً من أركان الصلاة ؛ فإنّ هذا يدلّ دلالة واضحة على أنّ الصلاة تصحّ ؛ لأنه إذا صحّ الركن صحّت بقيّة الأركان ، وإذا صحّت الأركان منفردة ومجتمعة ؛ صحّت الصلاة كاملة ؛ لأنّ العبرة بأركان الصلاة ، ومن هنا صار هذا الحديث أصلا عند أهل العلم : أنّ من نسي النجاسة على بدنه أو ثوبه أو مكانه الذي يصلّي فيه ، ثم ذكر ذلك بعد انتهاء صلاته ؛ أنّ صلاته صحيحة ، نسيها في بدنه لو أنّه مثلا أصابه قطرة من البول أو خرج منه دم على ساعده أو على رجله أو نزف جرح لأنّ الجروح موضعَ الدم في الجروح معفو عنه كما عفي عن النجاسة في الدبر، أمّا إذا جاوزت وهو ما(2/180)
يسميه العلماء : إذا دمع الجُرْح وإذا دمع معنى سالت النجاسة عن الجرح ؛ فحينئذ ليست من العفو، أمّا في داخل الجرح فمن العفو ؛ خاصّة إذا صعب عليه قلعها وغسلها طبعا ؛ لأنّه ربما تتقيّح ويتضرّر، ومن هنا عفي عن النجاسة في الجراح الّتي هي الدماء في داخلها ، وهذا مما يسمّيه العلماء : المعفوّ عنه من النجاسات ، منه : مواضع الجروح ، فلو كان هنا في يده جرح، فسال الدم وأصاب الثوب ، أو سال الدم على يده ؛ فلزمه أن يغسل الموضع الذي أصابه الدم ، وهذا بعد وضوئه ، فعلم أو لم يعلم ، إذا علم نسي ، يعني علم أنّ النجاسة خرجت من الجرح ، وأنّ الدم سال ، ثم نسي أن يغسل ذلك ، فصلّى الظهر، وبعد ما صلّى الظهر أو صلّى صلاة النافلة علم أنّها أي النجاسة كانت موجودة في ثوبه أو بدنه لم تلزمه الإعادة ، هذا بالنّسبة للبدن والثوب ، فإذا علم بالنجاسة ثم نسي أو لم يعلم أصلا ثم اطلع بعد ذلك ؛ فصلاته صحيحة .
وقال بعض العلماء : إنّه إذا علم ، ثم لم يغسل النجاسة ، ثم صلّى وهو لا يعلم ، ثم علم بعد الصلاة لزمته الإعادة.
ما الفرق بين المسألتين ؟ قالوا : لأنّه إذا علم ثم قصّر في غسلها ألزم بعاقبة تقصيره ؛ وحينئذ يكون نوع إهمال، وهذه المسألة مبنية ومفرّعة على مسألة أخرى وهي : هل غسل النجاسة وإزالة النجاسة واجب على الفور أو على التراخي ؟
إن قلنا : إنّه واجب على الفور في هذه الحالة لا تصحّ صلاته ، ويلزمه أن يعيد ؛ لأنّه قصّر في الواجب ، ومن قصّر ألزم بعاقبة تقصيره ، وإن قلنا: إنّها لا تجب على الفور ؛ فإنّه تصحّ صلاته ، وهذا القول هو الذي درج عليه المصنّف ، وهو الأشبه .(2/181)
[ وإن علم بها في الصلاة أزالها وبنى على صلاته ] : وإن علم بالنجاسة في الصلاة أزالها : شخص يصلّي ، ثمّ اطّلع على نجاسة في ثوبه ، أو اطّلع على نجاسة في بدنه ؛ ففي هذه الحالة يجب عليه أن يزيل هذه النجاسة ، ما الدليل على ذلك ؟ الحديث الصحيح عن النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما أتاه جبريل فأعلمه أنّ نعليه ليستا بطاهرتين ، فخلع عليه الصلاة والسلام نعليه ؛ فدلّ على أنّ من علم بالنجاسةِ أثناء الصلاة وجب عليه أن يزيلها ، وأنّ هذه الحركة من الإزالة معفوّ عنها ؛ لأنّها لمصلحة الصلاة ، هذا إذا علم بها أثناء الصلاة ، فإنه يزيلها ، لكن هناك تفصيل : هذه الإزالة لا تخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن تكون الإزالة دون عمل كثير، ودون أن يخرج المصلّي عن حال المصلّي وصفته ؛ فحينئذ لا إشكال الإزالة معتبرة ، والصلاة صحيحة ؛ ودليلها حديث النعلين ؛ لأنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أزال النعلين دون عمل كثير، ولم يخرج بإزالته عن صورة المصلّي وحال المصلّي .
أمّا لو كانت الإزالة تقتضي عملا كثيرا يخرجه عن كونه مصلّيا ؛ فإنه في هذه الحالة يقطع ، ويستأنف الصلاة بعد ذلك ؛ لأنّه لو انشغل وخرج عن كونه مصلّيا ، مثلا : يحتاج أن يغسل النجاسة ، فإذا كان يغسلها بعمل قليل لو صلى وبجواره بركة ، أو بجواره حوض الماء ، يخطو الخطوة والخطوتين والثلاث حتى يقترب من الحوض ، ثم يفتح صنبور الماء ويغسل النجاسة لا بأس ولا حرج ؛ لأنّها في حكم الخلع، والخطوات اليسيرة اغتفرت لمصلحة الصلاة ، ولذلك رقى النبي - - صلى الله عليه وسلم - - المنبر كما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي - - رضي الله عنه - - ، ونزل عن المنبر لتعليم الصلاة ، هذا من مصلحة الصلاة ، الحركة لمصلحة الصلاة لا بأس بها ، فإذا كان الماء بعيدا ، ولا يمكنه أن يصل إلى الماء الذي يغسل النجاسة إلاّ بعمل ؛ فحينئذ نقول يستأنف .(2/182)
كذلك أيضا لو كان عليه ثوبان : الأعلى منهما نجس ، والأدنى منهما طاهر، وعلم بالنجاسة - نجاسة الفوقاني دون التحتاني - ، أو كان يصلّي فتطاير البول على ثوبه الأعلى دون الأدنى ، فإنه يخلع ثوبه أثناء الصلاة ، ويبقى على الثوب الأدنى أو على الشعار كافيا لصحة الصلاة ، وهكذا لو كان عليه الفنيلة والسروال في زماننا ، وعليه الثوب الأعلى ، وتذكّر أنّ الثوب الأعلى أصابته نجاسة ؛ فإنّه يخلع ثوبه وهو في صلاته ؛ فقد صحّ عن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - أنّه التحف بردائه في الصلاة ، وجذب الرداء والتحف به في الصلاة ، فهذا العمل من خلع الثوب مغتفر لوجود العذر، وعلى كلّ حال يجوز له أن يزيل النجاسة أثناء صلاته ؛ لثبوت السنّة ، وإذا كانت الإزالة دون عمل صحّت صلاته وبنى ، وإن كانت إزالته بعمل كثير يخرجه عن كونه مصلّيا ؛ قطع واستأنف .
[ والأرض كلّها مسجد تصحّ الصلاة فيها ] : والأرض كلها مسجد تصحّ الصلاة فيها : والدليل على ذلك قوله - عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين : (( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا )) وقال في الحديث الآخر : (( فأيّما عبد أدركته صلاته فليصلّ ، فإن معه مسجده وطهوره )) .(2/183)
وهذا من رحمة الله بأمّة محمّد - - صلى الله عليه وسلم - - حيث كان من قبلنا يصلّون في بيعهم وكنائسهم ، ولكن الله خفّف على هذه الأمّة ، فجعل لها الأرض مسجدا وطهورا . الأصل أنّه يصلّي على الأرض ؛ سواء كانت سهلا ، أو جبلا ، أو كانت رملا ، أو حصى ، يصلّي عليها ، الأصل طهارتها ، وأنه تصحّ الصلاة عليها لهذا الحديث هذا محلّ إجماع : أنّ الأصل في الأرض الطهارة ، وأنّه يصلّي عليها العبد ، ويبقى خروج هذه الأرض عن الأصل ، فتخرج الأرض عن هذا الأصل بعارض : إذا تنجّست ، فإذا تنجّست الأرض ؛ فإنّه في هذه الحالة لا يصلّي عليها ، ومن هنا ذكر المصنّف - رحمه الله - الأصل ، ثم سيشرع في بيان المستثنيات من هذا الأصل .
تصح الصلاة على الأرض، وعلى ما كان عليها، ثم قوله عليها، قال : (( جعلت لي الأرض مسجدا )) قوله : (( جعلت لي الأرض مسجدا )) أخذ منه بعض العلماء أنّ الصلاة لا تصحّ إلا على الأرض، ومن هنا لا يصلّي على ما كان بين السماء والأرض عند الاختيار إذا أمكنه أن يصلي على الأرض، لأنّه الأصل، وفي الطائرة إذا غلب على ظنّه أنّه ينزل في وقت الصلاة ينتظر حتى ينزل ويصلّي ، وإذا كان يستغرق سفره وقت الصلاة يصلي فيها ، والعبرة باستقباله للقبلة ، وكونه بين السماء والأرض لا يضرّ.
على الأرض يكون في حكمها ما كان عليها ، فالسرير الذي على الأرض ؛ لأنّه متّصل بالأرض وقائم على الأرض ، ومن هنا تكلّم العلماء على الصلاة في الأرجوحة ، وإن كانوا بنوا جوازها على اتّصالها في الاستقرار من جهة الاعتماد ، وخفّفوا في المعتمد ، وتصحذ الصلاة على السرير، وتصحّ مع الحائل بينك وبين الأرض مثل البساط ومثل الفراش فهذا كلّه جائز ولا بأس فيه ولا حرج . بيّن رحمه الله أنّ الأصل صحّة الصلاة على الأرض .(2/184)
[ إلّا المقبرة ] : المقبرة : مكان القبر والدفن ، وجعل الله - - عز وجل - - المقابر مساكن الموتى ، وهذا من رحمة الله لبني آدم ؛ تكريما لهم ، ولذلك قال تعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقبَرَه } وبعث الغراب للقاتل من ابني آدم حتى يعلّمه كيف يواري سوءة أخيه ، فجعلها منّة منه - سبحانه - على بني آدم تكريما لهم ، ولذلك يقبر المسلم والكافر حتّى الكفار أمر النّبي -- صلى الله عليه وسلم -- بمواراة جثثهم كما في قصة بدر، وهذا محلّ إجماع العلماء - رحمهم الله - من حيث الأصل ، فالمقبرة لا تجوز الصلاة فيها ، وهي ذريعة إلى الشرك خاصة إذا كانت للصالحين أو أناس يعتقد فيهم ، فلا تجوز الصلاة في القبور، ولا على القبور، ولا إلى القبور، حيث يكون القبر بين يدي المصلّي ، فإنّ هذا وسيلة إلى الشرك ، وقد نهى النّبي -- صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقابر.
وبعض العلماء يقول أيضا في المقبرة من ناحية فضلات الموتى نوع استخباث للأرض ، لكن الأصل ورود النهي .
[ والحمام ] : ولا تجوز الصلاة في الحمام ، والحمام من الحميم ، وأصله الشيء الحار، ولذلك وصف هذا الموضع بذلك ؛ لأنّه يسخّن فيه الماء للاغتسال ، ولا تزال الحمّامات موجودة إلى زماننا ، وليس المراد بالحمّام دورة المياه ، فالعلماء يطلقون الحمّام على مكان الاغتسال ، ومكان الاغتسال كان في القديم عندهم الحمامّات يغتسل فيها ، وكانت موجودة في الشام ، ثم نقلت إلى الجزيرة ، فهذه الأماكن لا يصلّى فيها ، وقد ورد النهي عن ذلك . وقد يطلق الحمّام على مكان قضاء الحاجة ، وورد عن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنّه نهى عن الصلاة في الحمّام ، وحمل النهي على ظاهره ، واختاره أيضا الحنابلة أنّ الصلاة لا تصحّ في الحمّام ؛ لأن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - نهى عن الصلاة فيه .(2/185)
[ والحُش ] : الحُشّ : هو مكان قضاء الحاجة الذي هو دورة المياه ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن ماجه : (( إنّ هذه الحشوش محتضرة )) وأصل الحُشّ : البستان ، وسمّيت أماكن قضاء الحاجة بهذا الاسم ؛ لأنّهم كانوا في القديم لا يقضون حوائجهم داخل البيوت ، ويستبشعون ذلك ، خوف النتن والرائحة ، ولم يكن عندهم تصريف في دورات المياه مثل زماننا الآن ، فكانوا يقضون الحاجة في الخارج، حتى النساء يخرجن ، وكان أمهات المؤمنين يقضين حاجتهنّ في المناصع بجوار البقيع ، وهو موضع معروف ، وهو الذي بسببه أمر النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - بقتل ابن الأشرف ؛ لأنّه كان يؤذي نساء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومن معه ،كان يؤذيهنّ إذا خرجن لقضاء الحاجة .
فالشاهد من هذا أنّهم ما كانوا يقضون حوائجهم في بيوتهم ، الحاجة في البيوت ، وإنما كانوا يخرجون ؛ ولذلك سمي مكان قضاء الحاجة بالخلاء ، وسمّي بالبراز، من البروز وهو الظهور، فالحشّ البستان كانوا يقضون فيه الحاجة لأنّه أستر، وهو في الحائط ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن ماجه : (( إنّ هذه الحشوش محتضرة )) يعني أماكن قضاء الحاجة تحضره الشياطين (( محتضرة )) يعني فيه الشياطين ولذلك شرع للمسلم أن يقول : اللهّمّ إنيّ أعوذ بك من الخبث والخبائث ، فالمقصود من هذا أنّه لا تصحّ الصلاة في أماكن قضاء الحاجة ؛ لأنهّا نجسة ، فلا يجوز أن يصلّي فيها .(2/186)
[ وأعطانَ الإبل ] : ولا تصحّ الصلاة في أعطان الإبل ، وهي مبارك الإبل . جمع عَطَن ، فالمكان الذي يتعطّنه البعير، ويبرك فيه ، مبارك الإبل ومراحُها التي تأوي إليها لا يجوز أن يصلّى فيها ؛ لأنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - سئل عن الصلاة في مرابض الغنم فأجاز، قالوا : يا رسول الله ، أنصلّي في مرابض الغنم ؟ قال : نعم. قالوا : أنصلّي في أعطان الإبل ؟ قال : لا ، فهذا يدلّ على أنّه لا تصحّ الصلاة في أعطان الإبل ، وهي أماكن تحضرها الشياطين .(2/187)
[ وقارعة الطريق ] : ولا تصحّ الصلاة في قارعة الطريق ، الطريق من الطرق ؛ لأنّه يسمع فيه طرق النعال -أكرمكم الله - ، فالطرقات لا تجوز الصلاة فيها ؛ لأنّ الصلاة في الطرقات تضييق على المسلمين في مصالحهم العامة ، ولا يأمن من مرور المارّ بين يديه ، ومن هنا منع العلماء - رحمهم الله - من الصلاة في أبواب المساجد؛ لأنّ الناس يدخلون ويخرجون منها ، إلّا إذا امتلأ داخل المسجد ، فإذا امتلأ داخل المسجد كان دخول الداخل اعتداء على إخوانه المسلمين ؛ لأنذه يتخطّى رقاب الناس ، ويؤذيهم ولا حقّ له في الدخول ، فخرج باب المسجد عن كونه قارعة إذا امتلأ المسجد ومن هنا لا تجوز الصلاة في السبل والطرقات ؛ لأنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - نهى عن ذلك ، ولأنّ الصلاة في هذه المواضع أذيّة للمارّ، ولا تجوز أذيّة المسلمين ، ولأنه لا يأمن من مرور المارّ بين يديه ، فهذا كلّها علل تصادم وتخالف المقصود الشرعي ، ومن هنا لا يجوز لأحد أن يأتي في طرق المسلمين ، ويضيق عليهم ، فمدخل المسجد مثلا الآن عندنا الأبواب التي يدخل منها الناس ، وإذا كان هناك متّسع في المسجد ينبغي أن يترك لمن يدخل طريقا ، بحيث لا يؤذى ولا يضر ولا يضيق عليه ، والعجب أنّ بعض طلاب العلم يبالغون في هذا حتى يسدّوا الطرقات التي يدخل بها الناس خاصّة في مسجد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - فهذا لا يجوز؛ لأنّ هذا أذيّة للمصلّين ، وتضييق عليهم ، وقد يكون مثلا الداخل من الباب يريد موضعا من كبير سنّ أو شيخ مريض أو مريض أو شيخ عاجز يريد أقرب مكان يصلّي فيه فيأتي هذا على الباب ويصلّي ويقفل عليه الدخول ، فمثل هذا لا يختصّ صلاة النهي عن قارعة الطريق أن تصلّي الصلاة في الطريق ، بل يشمل أيضا أن تأتي في أبواب المساجد وطرق المساجد السابلة المتحركة التي يمشي فيها الناس ، فهذه يترك فيها للناس بقدر ما يمشون فيها ، ولا يضيّق عليهم ، ولا يؤذون ، وعلى طلاب العلم(2/188)
أن يحتاطوا في ذلك ما أمكن ، وقارعة الطريق منهيّ عن الصلاة فيها ولكن يجوز للإنسان أن يصلّي وهو في الطريق ،كيف نقول الأصل عدم جواز الصلاة في الطريق وقارعة الطريق وثبتت السنة أن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلّى وهو في الطريق ، نقول : حينما صلى على بعيره في السفر، فإنّه طرق الطريق في سفره وصلّى ، لكن هذا في سابلة الطريق لا وقوفا في الطريق ، ومن هنا نفهم أنّ العلّة هي أذية المار، وأنه إذا كان على بعيره وصلى لم يؤذ مارا ، ولم يحل بين المار وبين بغيته ، ولم يضيق عليه، وعلى هذا تكون العلة الأقوى هي التضييق على الناس ؛ وقد ثبتت السنّة عن النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - أنّه نهى عن قضاء الحاجة كما بيّنا في طرقات الناس ؛ لأنّ هذا مما يضرّ بالمسلمين ويؤذيهم :
الأسئلة
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : هل يشترط في الأذان النية ، وجزاكم الله خيراً ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أمًا بعد :
فإنً الأذان تجب فيه النية إن كان واجبا ، الأذان له حالتان طبعا هو من حيث الأصل كشعار للبلد واجب وقد أمر به النًبي - - صلى الله عليه وسلم - - للجماعة ، ولذلك لا يصح إلا بنية ، فإن حصل الإجزاء بالمساجد ، واستفضل المسجد غير الواجب يكون مستحبًا فيه تبعا للأصل ، ولكنه من ناحية العبادة والقربة لا يكون إلًا بنية . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : ما حكم صلاة الجنازة في المقبرة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/189)
الأصل أنص الجنائز يصلّى عليها خارج المقبرة ، ورخًص بعض العلماء أن يصلّى عليها من فاتته في المقبرة ، وقالوا إن النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلّى على المرأة المقبورة ، ولكن الصلاة على الجنازة ليس فيها ركوع ولا سجود ، ليست كالصلاة العادية ، فهذا لا يقدح في النهي الذي تقدم معنا ، وكان بعض مشايخنا يمنع ، ويقول : لا يصلّى على الجنازة داخل القبر؛ لأنّ النهي عامّ عن الصلاة في القبور، وهذا شامل لصلاة الجنازة وغيرها ، ولأنّها تسمّى صلاة، والاحتياط في هذا لا شكّ أنه أسلم . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : من صلّى في طريق الناس في المسجد : الأماكن التي يمشي فيها الناس فهل له حرمة أم تقطع صلاته . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
كان بعض السلف يشدّد في هذا ، حتىّ إن ابن المسيب - رحمه الله - كان يقول سعيد بن المسيب الإمام من أئمة التابعين - رحمه الله برحمته الواسعة - كان يقول : إنّه لا حرمة لهم ، يعني الذين يصلّون في أبواب المساجد عند فراغ المساجد من داخلها ، فيأتون يصلّون كان يسقط حرمتهم ، وهو قول بعض العلماء - رحمهم الله - ، ولكن على المسلم أن يكون ورعا ، وأن يحتاط لدينه ، فإذا أخطأ غيرك لا يحملك ذلك على الخطأ ، ومعصية النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - بالمرور بين يدي المصلّي ، ألا ترى أنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك )) فإذا كان هذا في حقّك الذي يضيع وقد أساء ، فمن باب أولى في حقّ الله - - عز وجل - - ، فإساءة الغير لا تدعونا إلى الإساءة ، ولذلك لا يجوز أن يمرّ بين يدي إنسان يصلّي سواء كان في مدخل المسجد أو غيره . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : ما حكم الصلاة فوق سطح الحمّام والحشّ . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/190)
اختلف العلماء في هذه المسألة ، من حيث الأصل أنّ سطح الشيء يأخذ حكمه ، لكن ظهر وتبيّن أنّه إذا كان الأمر متعلّقا بموضع في المكان لم يأخذ الأعلى حكم الأسفل ، إذا تعلّق بالمكان نفسه مثل الحشّ ودورة المياه فإن النهي للنجاسة ، وإذا صلّى على السطح وجد الحائل ، ومن هنا فرّق بين ما يكون المعنى فيه في الموضع ، ويختصّ الحكم به ، وبين ما لا يكون المعنى فيه - أي الذي يكون الحكم فيه متعلّقاً بالشيء ، فإنّه يشمل أعلاه وأسفله ، فأنت إذا أردت أن تطوف بالبيت تطوف بالدور الأوّل وتطوف بالدور الثاني ، وإذا اعتكفت في المسجد يجوز لك أن تصعد إلى سطحه ؛ لأنّ أعلاه وأسفله واحد ، وقد دلّت السنّة على أنّ أعلى الشيء آخذ حكم أسفله ، وأنّ أسفله آخذ حكم أعلاه ؛ ولذلك قال : (( من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أراضين )) فجعل الأسفل تابعا للأعلى ، ومن هنا يفرّق بين ما يقصد فيه الموضع وما لا يقصد فيه الموضع ، وظهر لنا أخيرا أنّ الحمّام ودورات المياه يقصد بها المكان بعينه ، ولذلك إذا وجد الحائل أو صلّى على سطحها الأشبه أنّها لا يحكم ببطلان الصلاة ولكن الورع أن لا يفعل ذلك . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس :
سماحة الشيخ هذا سائل يقول: توفيت والدتي وتركت الذهب الذي لها منذ عشر سنين ، ولم أدر هل عليه زكاة أم لا فما الحكم . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
هناك ملاحظتان : الأول : سماحة الشيخ ، هذا للعلماء الكبار، هذا مصطلح يعني ينبغي أن يناط بالأئمة والعلماء الذين عرف تقدمهم في العلم وتبرزهم . أنا عبد، حقير، فقير، ضعيف، لا تضعوني في غير موضعي، علامة! سماحة الشيخ! والله لو حاسبنا الله وأقسم بالله يمينا أسأل عنها بين يدي الله ، لو حاسبنا الله عن كلمة شيخ لكنا من الهالكين .(2/191)
ثانيا : لا يقتلنا الإنسان بالغرور، ولا يغتر الإنسان بشيخه أو بمن يطلب على يده ، هذه أمانة ومسؤولية،كلمة ثقيلة عظيمة ،كلمة سماحة ، علامة ، إذا كان الشيخ ابن إبراهيم - رحمة الله عليه رحمه الله برحمته الواسعة - يقول الوالد - رحمه الله - : ما رأيت عالما ملأ عيني علما وعملا مثل الشيخ ابن إبراهيم ، وكان آية من آيات الله في : العلم ، والعمل ، والورع ، والقوة في الحق ، ومع هذا موجود كتابه ،كان يستثقل ويستكثر أن يقال له : سماحة، وهو - والله - في جلالته وعلمه وفضله أهل للسماحة ، وفي كرمه وفضله ونبله ،كان آية من آيات الله بالكرم والجود والإحسان والبر بطلاب العلم وأهل العلم - نسأل الله برحمته الواسعة ، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء - ، وإذا كان هذا الإمام العالم يستكثر على نفسه هذا ، وهو أهل لذلك ، وأوصي طلاب العلم أن يتقوا الله في مشايخهم ، وفيمن يطلبون على أيديهم العلم .
إنه لا يليق بالمسلم إلّا النصيحة ، ومن النصيحة : أنّه إذا استفاد من علم العالم أن لا يقتله ، من مدح الناس في وجوههم قتلهم ، ومن أثنى عليهم وزكّاهم فوق قدرهم أهلكهم ، فعليه أن يتّقي الله - - عز وجل - - إذا دنا الخير من العالم أن لا يورده الموارد ، وأن يضعه في نفسه هذا تنبيه عامّ ، ونسأل الله بعزّته وجلاله أن يجبر كسرنا ، وأن يرحم ضعفنا ، وأن لا يغرّنا بما يظن الناس فينا ويقولون .(2/192)
الأمر الثاني : بالنسبة للذّهب المسئول عنه ، هذا فيه تفصيل : من حيث الأصل لا نحكم بأنّه تجب فيه الزكاة إلّا إذا تبيّن أن الأمّ لم تكن تزكّي ، وإذا تبيّن أنّ الأمّ لم تكن تزكّي يشترط أن لا تكون تعتقد وجوب الزكاة ، فإذا سألت عالما وأسقط الزكاة في الحلي ، وقال : الحلي لا زكاة فيه ، وهو قول الجمهور - رحمهم الله - ، والصحيح أنه تجب فيه الزكاة ؛ لأنّ حديث : (( ليس للحلي زكاة )) من رواية أيّوب بن عافية وهو ضعيف، والأصل وجوبها ، وحديث المسكتان واضح في الدلالة على الوجوب ، فإذًا هناك شرطان : الشرط الأول : أن تكون الأمّ لا تعتقد وجوب الزكاة ، فإذا كانت لا تعتقد وجوب الزكاة أو سألت علماء أو من بيئة يعرف فيها أنّهم لا يزكون ؛ لأنّ علماءهم ومشايخهم على ذلك لم تجب عليكم الزكاة ؛ لأنّكم تؤدّونها قضاءً ، وهي لم تثبت أداء حتى تؤدّى قضاء ، فإذا ثبت أنّ الأمّ كانت تعتقد وجوب الزكاة ينبغي أن تتأكّدوا أنهّا لم تخرج الزكاة، وأمّا شّك نقول إنهّا توفيّت وعندها حلي ما تؤدي زكاتها هذا ما يوجب الزكاة ؛ لأنّ الأصل في المسلم أنّه قائم بحقوق الله - - عز وجل - - حتى نتأكّد أنّه قصّر، ولذلك لا يوجب عليكم القضاء إلّا على هذين الوجهين اللّذين ذكرناهما، والله تعالى أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : بعد انتهائي من أداء العمرة هل يجوز لي أن أقوم بأداء العمرة لوالدي في نفس اليوم بعد ذهابي للإحرام مرة أخرى من مسجد التنعيم . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/193)
إذا كان الإنسان يريد أن يؤدّي العمرة عن والده أو قريبه أو متوفىّ لم يؤدّ العمرة وأراد أن يعتمر عنه ، فيؤدّي العمرة عن نفسه أوّلا ، فإذا أدّى العمرة عن نفسه ، وعنَّ له أن يعتمر عن قريبه أو أقربائه فلا بأس أن يخرج إلى التنعيم أو إلى أدنى الحلّ ، ما يشترط التنعيم ؛ لأنّ العبرة أن يخرج إلى خارج حدود الحرم ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : (( والله ، ما ذكر التنعيم ولا غيره )) ، لأنّ المراد أن يخرج إلى حدود الحلّ حتىّ يجمع في عمرته بين الحلّ والحرم ،كما أنّ الحاجّ يخرج إلى عرفات فيجمع بين الحلّ والحرم في حجّه ، والعمرة هي الحجّ الأصغر، ومن هنا يجب على من اعتمر من مكّة أن يخرج إلى أدنى الحلّ بقول جماهير السلف والخلف ، ويشترط أن لا تمرّ بالميقات وأنت ناو عمرتين ، فإن مررت بالميقات ناويا العمرة عنك وعن والدك أو عن قريب أو عن متوفىّ ؛ فإنك إذا أدّيت عمرتك ، لزمك أن ترجع إلى الميقات لأداء العمرة الثانية ؛ لأنك مررت بالميقات مصاحبا للنيتين فلزمك الإحرام بالثانية كما لزمك الإحرام بالأولى؛ لعموم قوله: (( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحجّ والعمرة)) فلذلك ترجع إلى الميقات وتحرم منه . أما لو طرأ عليك في مكّة ؛ فإنّك تخرج إلى التنعيم وتعتمر، ولا بأس أن تعتمر عنك ، وعن والدك ، وعن قريبك الذي توفيّ خاصّة الذين يأتون من الخارج يصعب عليهم أن يرجعوا مرّة ثانية ، فلو أنّه اعتمر عنه عن أبيه الذي لم يعتمر أو عن أمّه الّتي لم تعتمر وكرّر ثلاث عمرات أو أربع عمرات بالسبب والموجب فلا بأس بذلك ولا حرج ، ولا دليل على التأقيت بين العمرتين . والله تعالى أعلم .
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ : ما حكم الصلاة في المجزرة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/194)
المجزرة فيها الدم المسفوح ؛ ولذلك بيّن الله - - عز وجل - - أنّ الدم المسفوح وهو الذي يخرج عند الذكاة أو بغير ذكاة كالنزيف أنّه نجس كما قدّمنا في آية الأنعام : { إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهلّ به لغير الله } فقوله : { إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس } فبين أن الدم المسفوح رجس ، والرجس هو النجس ، ومن هنا أخذ العلماء - رحمهم الله - أنّ قوله تعالى : { إّنما الخمر والميسر والأنصاب } قالوا إنّها نجسة ، الخمر والأنصاب نجسة، والميسر استثنيت لدلالة الحس ، أما الأنصاب فإنّه كان يذبح عليها ، فهي نجسة { وما ذبح على النصب } فكان يذبح للنصب ومن أجل النصب وعلى النصب تقرّبا لها ما يفعله أهل الشرك والوثنيّة ، فالمقصود من هذا أنّ الدم الذي يخرج أثناء الذكاة نجس بإجماع العلماء -رحمهم الله - الذي يخرج أثناء الذكاة بنص الآية ، فهذا الدم موجود في المجازر، ولذلك المجازر نجسة من هذا المعنى ، أمّا لو كانت المجزرة تغسل وتنظف ، وفيها أماكن مخصصة للصلاة ، فلا بأس بذلك ولا حرج والله تعالى أعلم .
السؤال الثامن :
فضيلة الشيخ : ما حكم الصلاة بين السواري والأعمدة وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
ثبت في حديث أنس - - رضي الله عنه - - في السنن وغيره أنّه لما رأى الرجل أو رجالا اضطّروا إلى الصلاة بين السواري قالوا اضطررنا إلى الصلاة بين العمودين أو بين السواري ، فرآنا أنس فقال : (( كنّا نتّقي هذا على عهد رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - )) وفي لفظ آخر : (( كنّا نطرد عن هذا طردا )) .(2/195)
فالأصل عند العلماء أنّه لا يصلّى بين السواري ؛ لأنهّا تقطع الصفوف ، وقيل : لأنها مواضع الشياطين ، وقيل : لأنّها مواضع الأحذية ، وكلّها علل ذكرها العلماء ، لكن الأصل أنّه لا يصلّى بين السواري ، إلّا السواري المتباعدة ، مثلا ما يوجد الآن في هذه الفتحة ، يعني السواري المتباعدة يجوز الصلاة فيها ، أمّا السواري المتقاربة مثل هذه لا يصلّى بينها ، السواري المتباعدة ، ولذلك مثل هذه الفتحة ممكن أن يكون فيها مسجد كامل مثلها يكون فيها مسجد ، ولكن ترى بين السارية السواري الأربع التي باليمين مع السواري الأربع التي باليسار يكون الإنسان مصليا بين السارتين ، لكن هذا عفو ، إذا كان السواري متباعدة ، ولذلك كأنهّا في حكم المسجد حتّى إنّك ربّما تجد المسجد بهذه المساحة ، فإذا كان بهذا الشكل متباعدة فإنه يغتفر أمرها ، ولكن إذا كانت متقاربة هي محل المنع والحظر . والله تعالى أعلم .
السؤال التاسع :
فضيلة الشيخ : إذا صلّيت الوتر بعد صلاة العشاء مباشرة ، وأردت أن أقوم الليل ، فهل علي شيء إذا لم أوتر بعد الانتهاء من صلاة قيام الليل . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/196)
أنت مخير بين أن تصلّي ركعتين ركعتين ولا توتر، وهذا خلاف الأولى ، أو أن تصلّي ركعة تنقض بها الوتر الأوّل، ثم تصلّي الليل تصلّي ما شئت ثم توتر، وهذا أفضل ؛ لأنّ النبّي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا )) فدلّ على أن الوتر مكانه في الأخير، وقال : (( صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة )) فجعل الوتر في الآخر، ولأنّه فعل أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ، وهو محفوظ من فعل السلف كابن عمر - رضي الله عنهما - وغيره ، فإذًا تنقض الوتر الأول بركعة ، الدليل على أنّ الوتر ينقض الوتر قول النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - : (( لا وتران في ليلة )) فلما قال: (( لا وتران )) دلّ على أنّ الوتر الثاني ينقض الوتر الأول ، فأعمل الوترين ، فأنت إذا صليت وترا نقضت به الوتر الأول فقد نقضت ، ثم بعد ذلك إذا أوترت الثالث خرجت من النهي ، والمراد : (( لا وتران )) إذا اقتصر عليهما ، لأنّها تصير الصلاة شفعيّة ، والمراد أن يكون الوتر وترا بالشفع ، لا أنّه مشفّع ، ومن هنا ينقض الوتر الثاني الأوّل ، ثم يصلّي شفعا شفعا ثم يوتر، هذا هو الأنسب ، لو صلّيت ركعتين ركعتين استدلّ بعض العلماء أنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أوتر ثم صلى ركعتين بعدما أوتر لببيان الجواز، ولكن الأفضل والأكمل أن تصلي ركعة تنقض بها الوتر، ثم تصلي ركعتين ركعتين ، ثم توتر والله تعالى أعلم ، لكن ما ينبغي لأحد أن يصلّي الوتر وهو يعلم أنه سيقوم آخر الليل، ما ينبغي لأحد أن يصلّي الوتر في أوّل الليل وهو يعلم أن يريد أن يقوم بعد ذلك ، أو عنده قيام أو عنده ورد ، فهذا خلاف السنّة ؛ لأنه تقصّدٌ لمخالفة السنة مادام أنّه يعلم أنه سيقوم يؤخّر وتره إلى ما بعد القيام ؛ تأسّيا بالنبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - واستجابة لأمره . والله تعالى أعلم .
السؤال العاشر :(2/197)
فضيلة الشيخ : ما حكم التنفّل المطلق قبل النداء الثاني يوم الجمعة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
لا بأس بالصلاة ما لم ينتصف النهار يوم الجمعة ؛ خلافا للإمام الشافعي - رحمه الله - ، جمهور العلماء على أنّه يجوز للمسلم أن يصلي ما شاء حتى يجلس الخطيب للخطبة ، وهذا شبه إجماع بين العلماء - رحمهم الله - ، ليس هناك أحد بدّع أو منع أحدا أن يصلّي قبل الأذان الثاني ؛ لأن الأصل أنّ النّبي - - صلى الله عليه وسلم - - أذن بذلك كما في الحديث الصحيح في يوم الجمعة ، فيجوز للمسلم أن يتنفل يوم الجمعة إلاّ إذا انتصف النهار؛ وذلك لأن النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - أمر بالإمساك عن الصلاة عند انتصاف النهار ، كما في الأحاديث الصحيحة عنه - عليه الصلاة والسلام- ولم يفرّق بين يوم الجمعة وغيره ، فاستثنى الإمام الشافعي لرواية ذكرها في مسنده ، ولكنّها ضعيفة ، ضعّفها العلماء والأئمّة - رحمهم الله - باستثناء يوم الجمعة .
وقال الشافعي : إنّه يوم رحمة ، ولذلك تسجّر فيه أبواب جهنّم ، فيصلي حتى ولو كان النهار منتصفا. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لعدم ثبوت الاستثناء ، والأصل في العامّ أن يبقى على عمومه .
ومن الأدلّة على أنه يجوز التّنفل إلى أن يجلس الخطيب : قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( من بكّر وابتكر، ومشى ولم يركب ، ثم قال : فصلذى ثم دنا وأنصت )) .(2/198)
فقال : (( فصلّى )) : أي صلّى ما كتب له ثم دنا وأنصت ، فاتّصلت الصلاة بدنوّه وإنصاته من الخطيب ، وهذا يدلذ على أنذ الوقت وقت صلاة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( فإذا طلعت الشمس فصلّ فإنذ الصلاة حاضرة مشهودة حتى ينتصف النهار فأمسك عن الصلاة ، ثم صلذ فإن الصلاة حاضرة مشهودة )) فهذا هو الأصل يجوز له أن يصلذي بعد الأذان الأول وبين الأذان الأول والثاني ، ولا أحفظ - حسب علمي - أحدا من أهل العلم يقول : إن الصلاة بين الأذان الأوّل والثاني من الجمعة بدعة من المتقدّمين والسلف ، ولذلك الأصل جواز هذه الصلاة ، وأنّه لا بأس به .
ومن العلماء من قال -كما هو قول بعض الشافعيّة رحمهم الله - : إنّه يسنّ أن يصلّي بين الأذان الأوّل والثاني؛ لأنّ النّبي قال : (( بين كلّ أذانين )) كما أشار الحافظ ابن حجر - رحمه الله - إلى ذلك في شرحه للصحيح فقالوا : (( بين كلّ أذانين )) وأذان عثمان مشروع بإجماع الأمّة ، وعلى هذا يشرع أن يصلّي عندهم ، ولكن الجمهور ردّوا هذا وقالوا إنّه يصلّي تنّفلا مطلقا، أنّه يصلّي وليس للجمعة سنّة راتبة قبليّة ولا صلاة مستحبّة قبليّة بعينها ، وإنّما يتنّفل تنفّلا عامّا . والله تعالى أعلم .
السؤال الحادي عشر :
فضيلة الشيخ : كيف ينال العبد محبّة الله لكي ينادى باسمه في الملأ الأعلى : أنّ الله يحبّ فلان . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/199)
محبّة الله تبارك وتعالى بيّن الله - - عز وجل - - في كتابه ، وعلى لسان رسوله سبلها ، وموجباتها ، بيّن -- سبحانه وتعالى -- ما يدعو إلى محبّته ، ويوجب للعبد أن ينال هذه المنزلة الشريفة المنيفة منه - - سبحانه وتعالى - - : أن يحبّه الله ، وإذا أحبّه الله - - جل جلاله - - نادى في السماء ، فصعق من في السماوات ، وصعد جبريل ، وقال الله له : يا جبريل، إنيّ أحبّ فلانا فأحبّه ، فينادى باسمه في الملأ الأعلى : أن الله يحبّه ، فينادي جبريل : يا أهل السماء ، إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه، وليتصور المسلم إذا نودي باسمه في الملأ الأعلى ، وذكره الله - - جل جلاله - - باسمه ، فأي منزلة ، وأي مكانة ، وأي فضل حازه هذا العبد السعيد .
ينادي الله - - جل جلاله - - أن الله يحبّ عبده إذا أقام الصلاة وآتى الزكاة ، وأطاع الله ورسوله - - صلى الله عليه وسلم - - ، ينادي الله باسمه حينما يراه صوّاما قوّاما أوّاها مخبتا منيبا إليه - - سبحانه وتعالى - - ، ينادي سبحانه باسمه حينما يراه كثير التلاوة للقرآن خاشعا من كلام الرحمن ، لا يسمع آية من كتاب الله إلا انفطر لها قلبه ، وأصغى لها سمعه ، وأشهد لها جنانه، وحرّك بما فيها من ذكره سبحانه لسانه .
يحبّه الله - - جل جلاله - - حينما يكون عفيف الجنان ، عفيف اللسان ، عفيف الجوارح والأركان ، عن أهل الإسلام والإيمان ، حينما يراه الله في صباحه ومسائه لا يؤذي المسلمين بلسانه ، لا يسبّ ، ولا يشتم ، ولا يغتاب ، يمسي ويصبح وليس في صحيفة عمله زلّة على مسلم ، ولا أذيّة لمسلم ، يمسي ويصبح يحب للمسلمين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه .(2/200)
يحبّه الله إذا أحبّ أولياءه ، إذا أحب ملائكته ، وأحبّ أنبياءه ، وأحبّ رسله، وأحبّ عباده الصالحين ، وقف ابن عمر - رضي الله عنهما - على الصفا ، وقال : اللّهمّ حببّني إليك ، وحببنّي إلى ملائكتك ، وحببّني إلى أنبيائك، وإلى رسلك ، وإلى عبادك الصالحين ، ثم قال : اللّهمّ ارزقني حبّك ، وحبّ ملائكتك ، وحبّ أنبيائك ، وحبّ رسلك ، وحبّ عبادك الصالحين .
يحبّ الله من أحبّه ، وأحبّ أولياءه ، فالذي يحبّ الأنبياء والعلماء والصلحاء والأتقياء ، فيحبّ لهم الخير، ويظنّ بهم الخير، يحبّه الله - - جل جلاله - - ، فإذا أراد الله - - عز وجل - - بعبده أن يحبّه هيّأه للمحبّة ، حينما يؤدّي حقوق الله-- جل جلاله - - كاملة غير منقوصة ، أيّ حبيب إذا نادى عليه منادي الله في صلاته نسي دنياه وأهله وماله ، وأقبل على بيوت الله - - عز وجل - - ، فإذا كملت محبّة الله له لم ينادِ منادي الله إلا وهو في مسجده ، ولم ينادِ منادي الله إلاّ وهو قائم في بيت من بيوت الله - - عز وجل - - ، يسبحّ ربّه بالغدوّ والآصال لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله - - عز وجل - -. يحبّ الله عبده إذا كان بارا بوالديه ، فلا يزال يرضي والديه حتّى ينادي الله - - عز وجل - - باسمه في الملأ الأعلى حينما يدخل السرور عليهما ، ويسعى في رضاهما، ويمسي ويصبح وهو يفكّر كيف يرض أباه وأمّه ، وكيف يدخل السرور على الوالدين ، ما خرج منهما إلاّ بدعوة صالحة ، ولا قام بين أيديهما إلاّ بالرضا التامّ الكامل ، فلا يزال يرضيهما حتىّ يرضى الله عنه ، ثم يحبّه ويضع له القبول .(2/201)
يحبّ الله عبده إذا كفكف دموع اليتامى ، وجبر به قلوب الأرامل والثكالى ، إذا ستر العورات ، وفرّج الكربات، وسعى في دفع الهموم عن المؤمنين والمؤمنات ، يتألمّ لآلامهم ، ويتأسّى لمآسيهم ، وكأنّه جراح أصابته ، وهموم نزلت به ، فلا يرتاح له بال ، ولا يهنأ له عيش ، يدعو للمسلمين ، ويسعى في جلب الخير إليهم ، ويتمنّى لهم كلّ خير.
يحبّ الله عبده إذا طلب العلم ، وحرص على أن يكون عالما بكتابه وسنّة نبيّه - - صلى الله عليه وسلم - - .
يحب ّالله عبده إذا أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر، فذكر الناس بربّهم ، وأخذ بمجامع قلوبهم إلى جنّته ورحمته ودار كرامته .
يحبّ الله عبده إذا كان على السبيل الأقوم ، والسبيل الأمثل الأسلم .
يحبّ الله عبده ، ولن تنال محبّته بالتشهّي ، ولا بالتمنيّ ، ولا بالتزكية .
يحب ربّك المتواضعين الذين مهما ارتفعت درجاتهم نزلوا إلى الناس محبّة وإحسانا وبرّا ، فلم يزدهم الخير إلاّ برّا و وإحسانا بالناس لا تعاليا ولا غرورا ، فإذا وجد العبد من نفسه هذه الصفات حمد الله -- سبحانه وتعالى --، وسأل الله أن يزيده من فضله ، وإذا لم يجد ذلك سأل الله - - عز وجل - - أن يجبر كسره ، وأن يحسن عمله ، حتى يبلغ مراتب المحبّين والمحبوبين ، ألا وإن من أعظم ما يستدرّ به محبّة الله : الصبر، فمن كان من الصابرين تبوّأ محبّة ربّ العالمين .
الصابر على طاعة الله ، الصابر على بلاء الله وقضاء الله وقدر الله ، الصابر عن معصية الله، فإذا استجمع ذلك استجمع محبّة الله .
الّلهمّ إنّا نسألك بعزّتك وجلالك أن تجعلنا من أحبابك ، اللّهمّ حببّنا إليك ، وارزقنا حبّك ، وحبّ من يحبّك ، يا أرحم الراحمين ، اشملنا بعفوك وبرك أحياء وأمواتا ، برحمتك يا أرحم الراحمين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلم وبارك على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تابع باب شرائط الصلاة(2/202)
قال المصنف – رحمه الله - : [ الشرط الخامس : استقبال القبلة ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وخير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدّين ؛ أمّا بعد :
فذكر المصنّف - رحمه الله - هذا الشرط من شروط صحة الصلاة ، وهو شرط استقبال القبلة .
الاستقبال : استفعال من القُبُل ، وكلّ شيء أتى من وجه الإنسان فقد استقبله ، وما أتى من ورائه فقد استدبره ، فالاستقبال : ضدّ الاستدبار، والسين والتاء ليستا للطلب ، وإنّما المراد بها حكاية الفعل ، أي فعل الاستقبال ، والاستقبال المراد به أن يجعل الشيء قبلة له ، والقبلة : ( أل ) في القبلة للعهد ، والمراد بها قبلة مخصوصة ، وهي بيت الله الحرام ( الكعبة) لمن كان داخل المسجد يستقبل عينها ، والمسجد الحرام لمن كان داخل مكّة ، ومكّة كلّها بالنسبة لمن كان خارجها يستقبلها في الأمصار والأقطار.(2/203)
والأصل في هذا الشرط قوله تعالى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه} فقد أمر الله تبارك وتعالى باستقبال القبلة، وفرض ذلك على نبيّه - - صلى الله عليه وسلم - - ، وكان الاستقبال في أوّل الأمر لبيت المقدس حينما كان النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - بمكّة ، ثمّ إن الله - - عز وجل - - أمر نبيّه - عليه الصلاة والسلام - بالهجرة إلى المدينة ، وكان - صلى الله عليه وسلم - حين كان بمكّة يصلّي بين الركن وبين الحجر، فكان يجمع بين القبلتين ، ثم لما انصرف إلى المدينة أحب عليه الصلاة والسلام أن يوجّه إلى الكعبة ، خاصة وأن اليهود قالوا : ينهى عن ديننا ، ويستقبل قبلتنا ، ثم إنّ الله - - عز وجل - - صرفه بعد ستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، والرواية في الصحيح عن البراء بن عازب - - رضي الله عنه - - قيل : ستة عشر على التمام ، وسبعة عشر بالدخول في الشهر السابع عشر، وحينئذ لا إشكال ولا خلاف بين التوقيتين.
صُرف عليه الصلاة والسلام إلى قبلة الكعبة ، وكانت أحب ما تكون إليه - بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- وأصبح استقبالها فرضا ؛ لقوله تعالى : { خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} والشطر الناحية ، وفي هذه الآية دليل على أنّ استقبال القبلة فرض على المصلي ، وشرط في صحة صلاته .
كما دلت السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - على فرضيّة استقبال القبلة ؛ ففي الصحيح عنه - عليه الصلاة والسلام- في صحيح مسلم وغيره أنه قال للمسيء صلاته : (( فاستقبل القبلة )) فأمره - عليه الصلاة والسلام - باستقبال القبلة قبل الصلاة ، والأمر للوجوب .(2/204)
وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها وحسابهم على الله - عز وجل - )) .
فهذا يدل على مشروعية القبلة ، وأن لأهل الإسلام قبلة ، وهذه القبلة أجمع العلماء على أن المراد بها مكة .
وأما دليل الإجماع فقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على أن استقبال القبلة فرض لازم ، وأنه شرط من شروط صحة الصلاة ،كما نقله غير واحد ومنهم صاحب البداية - رحمة الله على الجميع - .
إذا ثبت هذا فإنه يجب على المسلم أن يستقبل القبلة ، ولا تصح صلاته إلا باستقبال القبلة، وهذا الحكم عام شامل لصلاة الفريضة وصلاة النافلة والصلاة ذات الركوع والسجود والصلاة التي لا تشتمل على ركوع وسجود كصلاة الجنائز، فلابد فيها من استقبال القبلة .
قوله - رحمه الله – : [ الشرط الخامس استقبال القبلة ] : أي من شروط صحة الصلاة : استقبال القبلة من المصلين .
[ إلا في النافلة على الراحلة للمسافر ] : عند العلماء - رحمهم الله - الأصل ، والمستثنى من الأصل ، الأصل يعتبر بمثابة القاعدة ، فعندنا حكم القبلة أنها فرض لازم على كل مصلٍّ ، وهذا الأصل يستثنى منه مستثنيات ، منها : ما ذكر المصنف - رحمه الله - ، ولذلك نجد العلماء - رحمهم الله - استثنوا هاتين الحالتين لدلالة النصوص على الاستثناء ، وكل أصل ثبت بدليل شرعي فلا يجوز الاستثناء منه إلا بدليل،كل أصل ثبت بدليل شرعي كاستقبال القبلة فإنه محتم على المسلم أن يتبع هذا الأصل ، ما لم يدلّ الدليل على الاستثناء ، وهو أن تخرج حالات ، أو أشخاص ، أو أزمنة ، أو أمكنة تستثنى من هذا الأصل العام ، فإذا استثنيت بالدليل استثنينا ، وإذا لم يستثنِ الدليل بقينا على الأصل .(2/205)
ومن هنا شرع المصنف - رحمه الله - بعد أن قال لك الشرط الخامس استقبال القبلة إلا في الخوف معناه أن الأصل يجب استقبال القبلة ، وهذا من اختصار العلماء ، وذوق العلماء في المتون الفقهية : أنهم يعتنون بالاختصار ، وببيان الأحكام بأقل الكلم ، وأقل الجمل القوية البليغة في الدلالة على المراد والمقصود .
[ إلا في النافلة على الراحلة للمسافر ] : إلا في النافلة على الراحلة للمسافر: عندنا استثناء في نوع الصلاة ، وعندنا استثناء في حال المصلي، فالاستثناء في نوع الصلاة قدّمه المصنف لقوّته ، وهو أن يكون في صلاة نافلة ، وأن يكون في السفر، وعلى هذا تعكس تقول : لا يجوز أن يصلّي على الراحلة إذا كان فريضة ، أو نافلة في الحضر؛ لأن المفاهيم في المتون الفقهيّة معتبرة ، فقال : [ إلا في النافلة على الراحلة في السفر] إلاّ في النافلة التي هي التطوع ، فيشمل هذا أن تصلي ركعتي الوضوء ، أو تصلّي الوتر؛ لأنّه نافلة ، أو تريد أن تصلّي بالليل ما شاء الله لك أن تصلي ، فإن هذا كله مستثنى ؛ والدليل على استثنائه حديث ابن عمر في الصحيحين : (( أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - كان يصلي على دابّته إلاّ المكتوبة )) .
فبيّن هذا أن السنة صلاة النافلة على الراحلة إذا كان في السفر، وأن يكون نافلة ، والحديث في الصحيحين ، وعلى هذا اتّفق العلماء - رحمهم الله - على استثناء حالة النافلة في السفر.
وأجمع العلماء - رحمهم الله - على أنّ المسافر يجوز له أن يصلي على دابته في السفر.(2/206)
يجوز أن تصلي على الناقة ، وعلى - أكرمكم الله – الحمار؛ لأن أنساً بن مالك - - رضي الله عنه - - لما أقبل على البصرة واستقبلوه بعين التمر، كما في الصحيح من حديث ابن سيرين - رحمه الله - قال : فلقيناه بعين التمر، فقلنا وهو يصلي فقالوا رأيناك تصلي ووجهك من ذا الجانب يعني على غير قبلة ، فقال -- رضي الله عنه -- : لولا أني رأيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يفعله ما فعلت ، لولا أني رأيت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يفعله ما فعلته ؛ فدلّ على أنه يصلي على الحمار أو يصلي على الناقة ويصلي على المركوب . في زماننا يصلي في السيارة ، ويصلي في الطيارة ( الطائرة ) ، ويصلي في السفينة ، لا بأس بذلك ولا حرج إذا كان في سفره ، وكان في نافلة، ولكن السؤال : هل يشترط أو يجب عند تكبيرة الإحرام أن يستقبل القبلة فيكبر تكبيرة الإحرام ، ثم يصرف دابته ، فيه حديث عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - اختلف في تحسينه ، والأحوط أنه إن أمكنه ذلك فعله ، إذا أمكن أن يحرف دابته لاستقبال القبلة وتكبيرة الإحرام فعله مثلا لو أنه وقف في محطة أو استراحة فأمكنه قبل أن يدخل إلى طريق السفر أن يحرف سيّارته ويكبّر تكبيرة الإحرام ، ثمّ يرجع إلى طريقه فلا بأس ، إذا لم يمكن فإنه يكبر على أيّ وجه كان .
ثانيا : لو أنه استقبل القبلة وهو على دابته عند تكبيرة الإحرام ، أو كانت القبلة في وجهه حينما كبر تكبيرة الإحرام ، ثم انحرف عن القبلة أثناء الصلاة فلا يضرّه ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلّى على دابته في السفر، وهذا يدلّ على أنها إذا انحرفت عن القبلة أثناء الصلاة ، أو كانت بوضعها على غير قبلة فإنه يصح أن يصلي عليها ولا بأس بذلك ولا حرج .(2/207)
يستوي أن يكون قائدا للسيارة ، أو يكون راكبا ، ولكن القائد يحتاط إذا كان سائقا للسيارة يحتاط ، ويجوز له أن يترخص ، إذا قلنا إنه يصلي في السيارة أو في سيارته راكبا أو سائقا فإنه يكبر ثم يضع يديه على صدره إذا كان راكبا ، وإذا كان قائدا يتعذر عليه ذلك فإنه مثلا يقود بيديه وإذا أمكنه أن يضع إحدى اليدين فإنه يختار اليمنى على اليسرى لشرفها ، ثم إذا حان وقت الركوع حنى رأسه ، ويكون الانحناء على وجه يمكنه أن ينظر إلى الطريق ، وأن يحفظ طريقه ، وأن لا يعرض نفسه للخطر، ولا يعرض من معه للخطر، ثم كذلك إذا سجد يكون أخفض بقدر الذي يحافظ به على نفسه ، وعلى من معه ، ويصلي ما شاء الله له أن يصلي ، وهذه نعمة من الله -- عز وجل -- يستكثر بها المسلم الخير، ويستكثر بها الطاعة والبرّ، خاصة في أحب الأعمال إلى الله وهي الصلاة ، فإن هذا يدل على فضل الصلاة ، وأن الله وسع على عباده حتى في السفر، أن يستكثروا منها وخفف عنهم فيها ، فهذه الحالة مستثناة في حال السفر.
أمّا في الحضر فإنه لا يصلي النافلة على الدابة ولا الفريضة ، فلا يجوز أن يصلي في سيارته ، ولا على دابّته نافلة وهو داخل الحضر، وعلى هذا فإنه لو كان مسافرا واقترب من مدينته عجّل وأتم الصلاة ؛ لأنه لا يرخّص له بعد دخوله إلى المدينة في أن يصلي على هذا الحال ، أو يصلي على هذا الوجه ، وما جاز للضرورة والحاجة قُدّر بقدرها ، وما كان معلقا على وصف يزول بزواله ، فالرخصة له في حال السفر، وقد زال وصف السفر، فيرجع إلى الأصل من وجوب الاستقبال . [إلا في النافلة في السفر على راحلته ] التي هي على الدابة .(2/208)
[ فإنه يصلي حيث كان وجهه ] : فإنه يصلي حيث كان وجهه : إذا كان في النافلة ، وكان في السفر يصلي حيث كان وجهه ؛ سواء على قبلة ، أو على غير قبلة ، وسواء حصّل ولو في بعض أجزاء الصلاة القبلة مثل أن يركع وهو للقبلة ، أو يقرأ الفاتحة وهو على القبلة ، أو لم يحصل شيئا من الصلاة مثل أن يكبر والقبلة في المشرق ووجهه إلى المغرب ، فيكبر تكبيرة الإحرام ، ويتمّ الصلاة حتى يسلم ، ووجهه إلى غير القبلة ، يصلّي حيث ما كان وجهه ؛ لأن ابن عمر - - رضي الله عنه - - قال : (( كان يصلي على راحلته حيثما توجّهت به )) وهذا يدل على مشروعية صلاة النافلة على الراحلة في السفر .
أما الفريضة فإنها لا تجوز على الراحلة : لا سفرا ، ولا حضرا ؛ إلاّ في أحوال مستثناة وهي : أن يتعذّر عليه النزول ، أو يشقّ عليه النزول من الدابة ، فلو أنه سافر بطائرة ، وأدركه وقت الفجر، تعذر عليه أن ينزل وغلب على ظنه أو كانت توقيت الرحلة يستغرق وقت الفجر كاملا فإنه يصلي في الطائرة ، وإذا صلى في الطائرة تحرّى جهة القبلة إن أمكنه أن يصلي إلى جهة القبلة ، فإذا تعذر عليه أن يصلي أو وجد المشقة الشديدة أن يصلي أو لا يوجد مكان يصلي فيه إلا الطريق الذي يكون في الممرّات فإنه يصلي على كرسيّه ، وإذا صلى على كرسيّه إذا أمكنه أن يستقبل القبلة بكرسيّه بأن ينحرف إليه ويستقبل فالحمد لله ، وإذا لم يمكنه ذلك ، فإنّه يصلّي على كرسيه ولو كان إلى غير قبلة ، هذا إذا استغرق وقت الصلاة .(2/209)
أما إذا كان يمكنه أن يصلي قبل إقلاع الطائرة ، صلى على الأرض ؛ لأنّ الأصل أن يستقبل القبلة ، وأن يقوم ، وأن يركع ، وأن يسجد ، فلا يرخّص له مادام عنده سعة ، وهكذا لو أنه علم أنه يهبط وينزل إلى الأرض قبل خروج وقت الصلاة ، فإنه حينئذ يصلي على الأرض ، وذلك لأنه فرض عليه في كتاب الله وسنّة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أن يقوم في صلاته ، وأن يركع ، وأن يسجد ، وهذه الفرائض لا تسقط إلا لعذر، وهذا لا عذر له مادام أنه حصّل وقتا وقدرا كافيا لأداء فرض الله على وجهه ، وهكذا لو كان أمكن أن يجمع بين الصلاتين ، فلو أقلعت الطائرة قبل الظهر، وغلب على ظنّه أن وصوله يكون قبل الاصفرار من العصر بحيث يمكنه أن يجمع بين الصلاتين أخّر، وإذا أقلعت الطائرة بعد الزوال وغلب على ظنه أنه يستغرق وقت الظهر والعصر وأنها لا تهبط إلا بعد المغرب قدم العصر إلى وقت الظهر وصلاهما معا ، هذا بالنسبة للفريضة ، فالفريضة لا تصلى إلا في حال التعذّر كما في الطائرة ، وفي حال الحرج الشديد مثل أن ينزل المطر ، ويكون في الطريق ، ويتعذّر عليه النزول ، فإذا نزل تلطّخت ثيابه وتعذر عليه أن يصلي على الطين والوحل ، وفيه حديث الشعب عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه صلى على راحلته ، فتقدم وصلى معه أصحابه - رضي الله عنهم وأرضاهم - فقالوا : إنّ هذا يدلّ على مشروعيّة الصلاة على الدابة ، ولكن لوجود المشقّة ، فهناك أمران :
الأمر الأول : التعذّر الكلّي ، مثل : أن يكون في طائرة لا يمكنه أن ينزل إلى الأرض ، وهذا تعذّر، حتّى استغرق وقت الصلاة ، أو يكون فيه حرج ، وكلاهما موجب للرخصة .(2/210)
أما التعذر فلأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وليس بوسعه أن ينزل من الطائرة ويصلّي على الأرض ثم يصعد إلى الطائرة ، فحينئذ يصلي على حاله ، وأما في حال الطين فإنها حالة حرج ؛ والله تعالى يقول: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } فيرخص في كلتا الحالتين : الأولى للتعذّر، والثانية لوجود الحرج .
[ والعاجز عن الاستقبال لخوف أو غيره ] : [ والعاجز عن الاستقبال ] أي استقبال القبلة فـ[أل ]: للعهد الذكري ، وما سبق ذكره من استقبال القبلة . [ لخوف ] : لعلة وهي الخوف : الخوف كما في القتال ، فلو أنه كان في حال المسايفة ، كما في عهد النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ، فإن الله - - عز وجل - - أحل للمسلمين أن يصلّوا الفريضة إذا كانوا في حال القتال ، وتعذر عليهم أن يركعوا ويسجدوا ويستقبلوا القبلة أسقط عنهم التكليف بذلك ؛ قال تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } فأحلّ للخائف على نفسه من أن يقتله العدوّ أن يصلي حيثما كان وجهه ، وعلى أي حال مادام قد تعذّر عليه الأصل ؛ وحينئذ يسقط عنه الركوع والسجود ، ويسقط عنه شرط الاستقبال ، والقرآن نص على ذلك .
في حال الخوف في الجهاد في زماننا مثلا لو كان على جهاز مراقبة أثناء العمليّات أو يخشى من العدو، فلو قام من جهازه لحصل الضرر، يصلي على حالته ولو كان يراقب العدو أثناء نظره ؛ لأن هذا مبنيّ على ما ذكره العلماء - رحمهم الله - وكل زمان يعتبر بحاله ، فليس في زماننا مثلا القتال على الدوابّ وعلى البعير وعلى الفرس ، إنما في زماننا ما هو أشدّ من ذلك وأعظم بلاء وخطرا ؛ لأنه في القديم لو نزل واستقبل قتل لوحده ، وفي العصر الحديث لو أنه غفل لثانية أو دقيقة لربما هلكت أمم ، ولذلك التكليف شرطه الإمكان ، وهذا ليس بإمكانه أن يعرض نفسه أو يعرض غيره للهلاك ، وهذا يسميه العلماء مقام الضرورة : الخوف على النفس أو الأنفس هذا مقام الاضطرار.(2/211)
كذلك في حكم الخوف لو أنه كان في سيّارته في زماننا ، وطلبه شخص يريد أن يقتله ، أو يريد أن يعتدي على عرضه ، أو يريد أن يعتدي على ماله ، بما يوجب الحرج والمشقة عليه كما في أحوال السفر، ولا يمكنه أن يقف له ، يريد أن يهرب منه ، فهذا ما يسمّيه العلماء بصلاة المطلوب ، فإذا طلبه عدوه وغلب على ظنه أنه لو نزل وصلى إلى القبلة أدركه العدو فقتله ، أو أدركه واعتدى على زوجه ، أو على بناته وعرضه ؛ حلّ له أن يصلي في سيارته ، ولو كان لغير القبلة ، وصلّى بالإيماء إذا تعذّر عليه الركوع والسجود ؛ لطفا من الله ، وتيسيراً على عباده ، لكن يشترط :
الشرط الأول : أن يكون مظلوما ، فلا يكون مطلوبا بحقّ ، فإذا كان مطلوبا بحقّ فإنه لا رخصة له ؛ لأنه عاص بفراره ، ولا يطاع الله من حيث يعصى ؛ وحينئذ يشترط أن يكون مطلوبا ظلما وعدوانا .
والثاني : أن يكون هناك ضرر موجب للرخصة ، وهو الخوف على النفس ، والأعضاء ، أو على العرض، أو على المال بما يوجب الحرج .
وفي حال المال تفصيل ، ولكنه إذا احتاط للإعادة فهذا أفضل .
وكذلك كما أنه يرخّص له مطلوبا يرخّص له طالبا ، مثلا : لو وجدنا رجلا مجرما قتل أنفساً ، وجاء شخص يطارده حتى يمسكه ،كما يحدث للشُّرَط ونحوهم إذا ابتلوا بالمجرمين ، وأصحاب الجرائم الذين يفتكون بالمجتمعات، وبأعراض الناس ودمائهم ؛ حلّ لهم أن يصلّوا أثناء الطلب لوجود الرخصة ؛ لأنه طلب بحقّ، والضرورة قائمة بحصول الضرر على الناس ، فإذا وجد على هذا الوجه أن يكون مظلوما ، وأن يكون هناك ضرر، وأن لا يتّسع الوقت لأداء الصلاة على صفتها ، هذا الشرط الثالث . فإذا كان الوقت ضيّقا ، وبحيث لو نزل فإنه تحصل ما ذكرناه من الحرج والضرر، أحل له ورخّص له .
هذا بالنسبة لما ذكره العلماء في صلاة المطلوب والطالب ، وهي حالة من حالات الخوف .(2/212)
قال رحمه الله [لخوف أو غيره ] : ما هو غير الخوف ؟ لو أنّ شخصا ربط على كرسيّ ، وكان مربوطا إلى غير القبلة ، وحضرته الصلاة ، ولا يمكنه أن يستقبل القبلة ، فإنه يصلي على كرسيّه ولو كان لغير القبلة ؛ لأنه ليس بيده أن يستقبل القبلة ، لكن لو أمكنه أن يتحرك ، ويحرف كرسيه الذي جلس عليه إلى جهة القبلة ؛ وجب عليه ذلك ، أما إذا كان مربوطا إلى سارية ، أو إلى كرسيّ لا يمكنه أن يحركه ، أو إلى جدار ونحو ذلك ؛ فإنه يرخص له ، وهكذا لو هدّد وقيل له : إذا تحرّكت تقتل ، وكان إلى غير القبلة وحضرت الصلاة صلى على وجهه ، ولو أنه في هذه الحالة قيل له إذا تحركت تقتل ، وهدّد على وجه الإكراه ، وأراد أن يتنفّل صلى على حاله ، ولا ينظر لاتساع الوقت وضيقه للنافلة ؛ لأنها أوسع من الفريضة .
[ فيصلي كيفما أمكنه ] : فيصلي كيفما أمكنه : مادام أنّه يمكنه أن يصلي مستقبلا ببعض أجزائه استقبل ببعض أجزائه ، مادام أنه يتعذر له ذلك ؛ فإنه يسقط عنه ، ويصلي على أي حالة كان ، لو أنّ مريضا وضع في العناية المركزة بأجهزة دقيقة ، وحالته خطرة ، ومعه وعيه وإدراكه ، ولا يستطيع أن ينحرف ؛ لأن الآلات معلقة عليه ولا يمكن نزعها منه حتى يصلي ، فإنه إذا كان على غير القبلة يصلي، لكن لو أمكنه أن يرفع صدره مثلا كانت القبلة أمامه ، فإننا نرفع صدره قليلا حتى يستقبل ، لو قال الأطبّاء لا يرفع صدره ، يبقى مستلقيا ؛ صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة ؛ لأن البعض الآن يظن أن الاستقبال أن يضع رأسه إلى جهة القبلة ، وهذا قول لبعض العلماء والصحيح بالنسبة للصلاة لا إشكال هذا في تقبيل الميت ، لكن الصحيح في الصلاة أنه يجعل رجليه إلى جهة القبلة؛ لأنه مأمور باستقبال بوجهه ، وليس برأسه .(2/213)
[ ومن عداهما لا تصح صلاته ] : ومن عداهما من أصحاب الرخص ، من عدا هاتين الصورتين الموجبتين للرخصة : الخوف، والنافلة في السفر على الراحلة ، يجب عليه أن يصلوا إلى القبلة ، فإن صلّوا إلى غير القبلة لم تصح صلاتهم ؛ إذًا أصبح هذا شرطاً من شروط الصحة .
[ إلا مستقبل الكعبة ] : لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة : لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة اعتبار للأصل الذي ذكرنا ماعدا هذه الأحوال الموجبة للرخصة نبقيها على الأصل .
[ فإن كان قريبا منها لزمته الصلاة إلى عينها ] : بعد أن بيّن رحمه الله فرضية استقبال القبلة ، ومن يستثنى ، شرع في بيان ما يتحقّق به الاستقبال . الاستقبال يفصّل فيه بحسب أحوال الناس : فإما أن يكون المصلّي داخل المسجد الحرام ، وإما أن يكون خارج المسجد الحرام وداخل مكة ، وإما أن يكون خارجا عن مكة ، فهذه ثلاثة أحوال :
الحالة الأولى : أن يكون داخل المسجد الحرام .
والحالة الثانية : أن يكون داخل مكة وخارج المسجد الحرام .
والحالة الثالثة : أن يكون خارج مكة .
فإن كان داخل المسجد الحرام إما أن يكون داخل الكعبة أو يكون خارجها ، فإذا كان داخل الكعبة ؛ ففيه خلاف : فالجمهور على جواز صلاة النافلة من حيث الجملة وهو قول - جمهور العلماء - .
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يصلي داخل الكعبة النافلة ؛ والسنة ثبتت وصحّت بأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلى داخل الكعبة؛ والحديث في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، وأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ترك ثلاثة أعمدة وراء ظهره ، ثم صلّى بين العمودين ، فجعل أحدهما عن يمينه ، والثاني عن يساره ، دخل من باب الكعبة ، ولم ينصرف لا يمينا ولا شمالا ، وإنما مشى على وجهه ، واستتمّ بمشيه قدر ثلاثة أعمدة ، وهذا يدل على أنه اقترب من الجدار الذي ما بين الركن اليماني وما بين طرف الحجر من جهته ، فصلى عليه الصلاة والسلام ، مستقبل الجدار.(2/214)
داخل الكعبة النافلة جائزة ، لكن هل الفريضة تجوز ؟ هذا فيه إشكال : لأننا وجدنا أنه إذا صلّى داخل الكعبة استقبل جدارا واحدا ، والأصل أنّ الاستقبال يكون لجدارين ؛ لفعل النبي - - صلى الله عليه وسلم - - خارج الكعبة، ومن هنا قالوا إنه إذا صلى داخل الكعبة فريضة لا تصح صلاته ، وقد وجدنا الشرع فرق بين النافلة والفريضة حتى في الاستقبال، فخفف في الاستقبال في النافلة ولم يخفف في الفرض ، ولسنا نحن الذين نفرق ، وإنما هو نظر إلى منهج الشرع في الصلاتين ، فوجدنا النافلة مخففة بدليل صلاة النافلة على الراحلة في السفر، والفرض لم يخفف فيه ، ومن هنا قالوا : لا يصلي الفريضة إلا خارجا .
ثانيا : أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلى داخل الكعبة النافلة ، ولم يصل الفريضة ؛ وعلى هذا قالوا : إنّه لا يصحّ أن يصلي داخل الكعبة الفريضة ، وهذا أحوط الأقوال ، وهدي النبيّ - - صلى الله عليه وسلم - - على أنه صلى الفريضة خارج الكعبة ، ولم يصل داخلها ، ولما وجد التفريق في الشرع اقتضى الشبهة ، ومن هنا يحتاط المسلم لأمر دينه .
يتخرّج على هذا لو قلنا إنه لا تصح الفريضة داخل الكعبة ، لو أنه دخل في الحجر، وأراد أن يصلي مثلا شخص جاء بعد أن انتهت الجماعة ، وأراد أن يصلي الفريضة في الحجر، فإنه في هذه الحالة يصلي داخل الكعبة ، إذا كان في حدود الخمس إلى ستة أذرع والاحتياط هي الثلاث ، يريد أن يصلي في هذا القدر، فهل تصح صلاته؟ يتخرج على الخلاف الذي ذكرناه . الأصل يقتضي أن يستقبل القبلة من جهتين أو من جدارين ، ولابد من الشاخص إذا كان داخل المسجد وخارج الكعبة ، إذا ثبت هذا فإن داخل الكعبة تصح فيه النافلة ولا تصح فيه الفريضة وهذا أحوط .(2/215)
يبقى السؤال : هل تصح النافلة على سطح الكعبة ؟ هل سطح الكعبة يأخذ داخل الكعبة ؟ فلو صلى على سطحها هل تصح ؟ يتخرّج على القول بصحتها داخل الكعبة ، صحتها فوق الكعبة ، ولكن من أهل العلم من يشترط وجود البارز في الاستقبال ، وقالوا لابد وأن يكون لها بارز شاخص ، وهذا أصل مسألة سنذكره - إن شاء الله - في الاستقبال .
ومن أهل ا لعلم من لم يشترط ، قال كما لو صلّى على مكان عال ، فإنه يستقبل هواء الكعبة وسمتها ولا يستقبل القبلة نفسها .
فهذا بالنسبة لمن صلى داخل الكعبة أو فوق سطحها ، يرخّص في النافلة ولا يرخص في الفريضة ؛ اتباعا للسنة، وتفريقا مستندا إلى أصل الشرع .
أما إذا كان خارج الكعبة وداخل المسجد ، فيجب عليه أن يستقبل عين الكعبة ، ولا يجوز أن يجتهد داخل المسجد ، بل عليه أن يتحرّى ويتأكّد أنه مستقبل الكعبة ، فلو أنه اجتهد كما في حال الآن مع كبر المسجد ولا يرى الكعبة فاجتهد وتحرى لم تصح صلاته ، ويجب عليه أن يستبين أنه مستقبل لعين الكعبة ؛ لقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وهذا يقتضي الأصل للكعبة أن يكون مستقبلا لعينها ، حكي الاتفاق على هذا أن الأصل لمن كان داخل المسجد أن يستقبل عين الكعبة ، وقد جاءت السنة بأمره - عليه الصلاة والسلام - باستقبال عين الكعبة داخل المسجد .(2/216)
الحالة الثانية : أن يكون خارج المسجد وداخل حدود مكة ، فيعتبر مسجد الكعبة ، ولا يجب عليه أن يتأكد أنه فعلا بين الركنين ، أو بين مثلا الركن اليماني وبين جهة الحجر، لا يجب عليه ، إنما العبرة بالمسجد كاملا ؛ وقد صح عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه اعتبر ذلك ؛ ولذلك صلى في منى ، وصلى بالأبطح قريبا من المسجد ، ولم يأمر الصحابة أن تقتصر صفوفهم على سمت الكعبة ، وإنما اعتد بجهة المسجد ، فلو أنه في فندق وأمكنه أن يتحرى عن طريق شرفة الفندق المسجد ، وتبيّن له أنه مسامت للمسجد صح أن يصلي ، والعبرة بالمسجد ، هذا إذا كان داخل مكة ؛ ولأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - صلى بمنى وصلى بالأبطح ومعه الصفوف الطويلة ، ولا شك أن هذا لا يتأتّى بسمت المسجد .
الحالة الثالثة : خارج مكة ، فالعبرة بمكة كلها ، فينظر إلى جهة مكة ، فيتحرى ويصلي إليها .(2/217)
هذا بالنسبة للتفريق التي ذكرها العلماء - رحمهم الله - ، وسيشير إليه المصنف - رحمه الله - أنه يجب على من كان داخل المسجد أن يتحرى عين الكعبة ، ومن كان داخل مكة أن يتحرى المسجد ، ومن كان خارج مكة أن يتحرى جهة مكة ، عليه أن يتحرى الجهة ، فإذا كان مكة في الجنوب فإنه يصلي بين المشرق والمغرب إلى جهة الجنوب ، بحيث يجعل الشمال وراء ظهره ، ويكون الجنوب قبل وجهه ، فإذا صلى بين الشرق والغرب إما أن يصلي على سمت مستقيم فهذا وجها واحدا صلاته صحيحة ، وإما أن ينحرف ، فإن انحرف انحرافا إلى جهة فرعيّة تنقله من الشرق المحض إلى جنوب شرق فإنّه في هذه الحالة اختلف فيه العلماء - رحمهم الله - : منهم من يرى أنه لا تصح صلاته ، إذا كانت الكعبة في الجنوب لا ينحرف ، فإذا انحرف المسجد في قبلته ، فتيامن عن جنوب المحض إلى جنوب شرق أو جنوب غرب ؛ فإنه في هذه الحالة إذا انحرف لم تصح صلاته ؛ واستدلّوا بحديث أبي أيوب - - رضي الله عنه - - الأنصاري زيد بن خالد في الصحيحين : قال : (( أتينا الشام فوجدنا مراحيض بنيت قبل الكعبة ، فكنا ننحرف )) والانحراف الانتقال للفرعي ؛ لأنه إذا انحرف كان في الجهة الفرعية ، فلو أنه إلى الشرق المحض أو الغرب المحض فهذا انصرف بالكلية ، فالانحراف هو أن يكون في الجهة الفرعية التي بين أصليتين ، فهناك جنوب شرق ، وجنوب غرب ، وشمال شرق ، وشمال غرب ، والمحض الشمال ، والمحض الجنوب ، والمحض الشرق ، والمحض الغرب ، وما بينهما انحراف .(2/218)
ومن أهل العلم من قال : تصح صلاته ؛ لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - قال : (( ما بين المشرق والمغرب قبلة )) فاعتبر ما بين الجهتين الأصليتين ، لكن الذي ننبّه عليه الآن وسوسة الناس ، والتشويش عليهم في مساجدهم بالآلات الدقيقة التي لربما تخطئ هذه الآلات الدقيقة ، حينما يقال إنها مثلا على تسع عشرة درجة ، فيجدون المسجد منحرفا قليلا قالوا لا تصح الصلاة فيه ، ولربما هدموه وأعادوه ، ولربما حرّفوا سجاجيده إلا أن يختل المسجد ، ويختل وضعه ، فالعبرة بالجهة ، وأما أن نأخذ هذه الآلات وندقق تدقيقا كاملا على أننا إلى جهة الكعبة بنفسها فهذا ما أنزل الله به من سلطان ، إنما أمر المسلم خارج مكة أن يستقبل مكة ، وليس بملزم بهذه الآلات أن يستقبل بطريقة التدقيق الكامل إلى درجة تشكيك الناس في مساجدهم ، وفي أماكن عبادتهم وصلواتهم .
بين رحمه الله أن الأصل استقبال الكعبة ، والاستقبال يكون بجسم الإنسان في حال صلاته بحسبه ، فإذا كان صحيحا استتم قائما مستقبلا ، وإذا كان مريضا فإنه يستقبل بصدره كما ذكرنا ، وإن عجز فإنه يستقبل برجليه إذا كان مستلقيا ومنع من الاستقبال .
[ وإن كان بعيدا فإلى جهتها ] : وإن كان بعيدا عن مكة ، فإلى جهة مكة .(2/219)
[ وإن خفيت القبلة في الحضر سأل واستدل بمحاريب المسلمين ] : بعد أن بين لنا الأصل في استقبال القبلة، وأنه يبني على جهتها ، وفصّل في أحوال المصلي داخل مكة وخارجها ، بعد ذلك شرع في مسألة الخفاء ، فإذا خفيت القبلة على المصلي ، مثل : المسافر إذا دخل المدينة ، وخفيت عليه القبلة عمل بمحاريب المسلمين - محاريب المسلمين سواء في السفر أو في الحضر - ، فاستحدثت المحاريب الكُوّات التي يصلي فيها الأئمة لوجود الحاجة ، لمعرفة جهة القبلة ، وانضباطها في المساجد ؛ ولذلك لو كانت مساجد المسلمين بدونها قد يتعذر أو يصعب ، فإذا دخلت المسجد لا تدري أين قبلته ، ومن هنا احتيج إلى هذه المحاريب ، وكرهها أئمة السلف : كرهها ابن مسعود - - رضي الله عنه - - كما في الأثر عنه في الصلاة في الطاق ، وكان يسمونه الطاق ؛ ولأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - -لم يحدث محرابا في مسجده ، وقالوا هذا هو الأصل ، ولا شك أن الأصل عدم وجودها ، ولكن إذا وجدت فلا بأس أن يستدل بها ؛ لأنها أمارة ظاهرة على القبلة . يستدل بمحاريب المسلمين إذا كنت في سفر ونزلت في محطة ، لا يجوز أن تجتهد مادام أن هناك مسجد ومحرابه واضح الدلالة على جهة القبلة ، ولو نزلت في مدينة وبجوارك مسجد ، وأمكنك أن تستدل بمحرابه وأنت في فندق أو في بيت فإنك تستدل بهذا المحراب على القبلة .
يستدل بمحاريب المسلمين ؛ لأنها لا توضع إلا على القبلة ، فهذه دلالة ظاهرة .
[ وإن أخطأ فعليه الإعادة ] : وإن أخطأ في حال وجود هذه الدلائل ؛ فعليه الإعادة ، الأصل أنه لا يجتهد أحد مع وجود القدرة على اليقين . القاعدة تقول : القدرة على اليقين تمنع من الشك . القبلة لها حالتان :(2/220)
الحالة الأولى : أن يستدلّ عليها بالأمارة الظاهرة ، أو الدالة عليها ؛ سواء كان بالمحاريب ، وهي الأمارات الثابتة في المساجد ، أو بسؤال أهل الحي والمصلين ، أو بسؤال صاحب الدار إن كنت في داره، ولذلك ذكروا من آداب الضيف إذا نزل على مضيفه أن يدله على مكان قضاء حاجته ، وأن يدله على مكان القبلة ، فهذه من آداب الضيافة . تقول له رحمك الله : القبلة عن يمينك ، عن يسارك ، في وجهك ، في هذا الجانب ، وأيضا يستدل بإخبار الثقة ، فإذا أخبر الثقة ، وقال له : أين القبلة ؟ قال له: القبلة هكذا ، فإنه يعمل بقوله ، ويستدلّ بالاجتهاد . الاجتهاد من الشخص راجع إلى أمارات وعلامات يعرفها أهل الخبرة في الاستدلال على الجهة، وسيذكرها المصنف - رحمه الله - .
من حيث الأصل أنه يجب على المسلم أن يرجع إلى أهل البلد إن وجدوا ، وإلى أهل القرية إن أمكن الرجوع ، فإذا كان بموضع لا يمكنه السؤال ، لا أحد يسأله ، وكان أيضا لا يوجد دليل على جهة القبلة تحرى واجتهد، وهذا التحري والاجتهاد له ضوابط . فإذا صلى مع إمكان السؤال: شخص نزل في فندق وصلى فيه فاجتهد ، ثم لما قضى صلاته ، وكان بإمكانه أن يسأل صاحب الفندق ، أن يسأل العمّال في الفندق ، وهم ممن يقبل قولهم ، أو يستدل بمسجد بجواره ، ولكنه اجتهد فصلى ؛ فأخطأ وجبت عليه الإعادة ؛ لأنه أهمل ، وهذا الذي يبني عليه العلماء أن التقصير موجب للضمان لحق الله وحق المخلوق ، ومن هنا يقولون : من جاء وفعل العبادة ، ويمكنه أن يرجع إلى العلماء ويسألهم ، وفعل ما عنّ له ، ثم جاء وقال : أنا جاهل ! هذا ليس بعذر ؛ لأنه قصّر في السؤال، ومن قصّر ألزم عاقبة تقصيره ، وهذا أصل في المؤاخذات والضمانات .(2/221)
[ وإن خفيت في السفر اجتهد وصلى ] : [ وإن خفيت ] : القبلة . [ في السفر اجتهد وصلى ] : وذلك لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أقرّ الصحابة على الاجتهاد في حال السفر، وصلى الصحابة - رضوان الله عليهم -كما في حديث عقبة - - رضي الله عنه - - ، وأصبحوا وتبين لهم أنهم صلوا إلى غير القبلة . [ اجتهد ] : الاجتهاد هو : بذل الجهد واستفراغ الوسع في تحصيل أمر أو دفعه ، ولا يكون إلا في الأمور الصعبة ؛ ولذلك يقال : اجتهد في حمل صخرة ، ولا يقال : اجتهد في حمل خردلة .
والاجتهاد في القبلة : الاستدلال بالأمارات والعلامات والدلائل الصحيحة المعتبرة ، فهناك دلائل زمانية، ودلائل مكانية ، ودلائل في الأحوال ، حتى قال بعض العلماء : إن الرياح قد تدل على جهة القبلة ، وهذا عند بعض أهل الخبرة ، وقد يكون كفيف البصر يستطيع أن يميز الرياح من الصبا والجنوب والشمال على حسب يعني دقّة ملاحظته ودقة معرفته ، ويستطيع أن يعرف هو في الشرق أو الغرب بمعرفة مواقيت هبوبها ، لكن من حيث الأصل الدلائل الظاهرة ، مثلا : لو أنه خرج من بلدة ، القبلة فيها إلى الشرق ، وخرج على سمتها ، بمعنى أن قبلته في المشرق ، فإنه لو كان في أول النهار، وأراد أن يصلي ركعتي الوضوء ، يستقبل جهة شروق الشمس ، وإذا كان في آخر النهار، وأراد أن يصلي العصر جعل الشمس وراء ظهره ؛ لأنه إذا جعلها وراء ظهره استقبل المشرق قطعا، فهو يستقبل الشمس في أول النهار، إذا كان قبلته في المشرق ، ويستدبرها آخر النهار، والعكس لو كانت قبلته في المغرب ، وأراد أن يصلي أول النهار؛ فإنه يجعل الشمس وراء ظهره أول النهار، وقبل وجهه آخر النهار، هذا بالنسبة للمشرق والمغرب من الدلائل .
لو كان في الليل نفس الشيء ، إذا كانت قبلته في المشرق في أول الليل يستقبل القمر؛ لأنه يشرق من الجهة الشرقية ، وهكذا إذا كان في آخر الليل ؛ فإنه يعتد بعكس الجهة التي صلى عليها في أول الليل .(2/222)
وجود الدلائل بالنجوم ،كما في القطب والجدي . النجوم أقر الله - - عز وجل - - الاهتداء بها ؛ كما قال تعالى: { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } فهذا من علم النجوم المشروع لا الممنوع ، أن يستدل بالنجوم على الأمكنة ، يستدل بالنجوم على الأزمنة ، فهذا لا بأس بها ، يستدل بها على الجهات ، فهذا لا بأس به ومشروع بإجماع العلماء - رحمهم الله - ، وليس داخلا في اقتباس علم النجوم الذي هو محرم شرعا ، وهو اعتقاد تأثير النجوم في الأمطار - نسأل الله السلامة والعافية - وأن لها تسببا يقولون ؛ وذلك قالوا : مطرنا بنوء كذا؛ ففي الصحيح عن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أنه صلى بأصحابه يوم الحديبية ، فأصبحوا على إثر سحاب ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( يقول الله تعالى : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن بي وكافر بالنوء ، ومن قال : مطرنا بنوء كذا ؛ فهو مؤمن بالكواكب ، وكافر بي )) فهذا من العلم المحرم ، أما إذا أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة فلا بأس بذلك ولا حرج . [ يجتهد ] : يجتهد بالأمارات والدلائل والعلامات .
[ ولا إعادة عليه ] : وإذا اجتهد لا يخلو من أحوال :
الحالة الأولى : أن يتبين له أنه أصاب ؛ فلا إشكال . كان في السفر فاجتهد في القبلة ، ثم تبين له أنه أصاب القبلة فلا إشكال .(2/223)
ثانيا : أن يجتهد ويتبيّن له أنه أخطأ ؛ فحينئذ إذا تبين له أنه أخطأ ، وكان قد بذل وسعه ، واستفرغ جهده في معرفة القبلة ، وهو من أهل النظر؛ فإنه تصحّ صلاته ولا تلزمه الإعادة ؛ سواء كان داخل الوقت أو خارج الوقت تبيّن له الخطأ ؛ وذلك لأن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - حينما كان مع أصحابه في ليلة ظلماء كما في حديث الترمذي وابن ماجه وحسنه غير واحد من العلماء - رحمهم الله - فصلوا وكان الغيم - الغيم يمنع معرفة جهة القبلة ؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يستدلوا لا بالكواكب ولا بالقمر - فصلوا وأصبحوا على غير القبلة ، قيل : إن كل واحد وضع علامة على جهته التي صلى ، فلما أصبحوا وجدوا أن طائفة صلّت إلى غير القبلة ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( قد مضت صلاتكم )) فأنزل الله - عز وجل - : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } قيل : نزلت في المسافر يجتهد ويتبيّن له أنه أخطأ في اجتهاده فصلاته صحيحة ولا إعادة عليه ، لكن من أئمة السلف والعلماء - رحمهم الله - من استحبّ له الإعادة مادام أنه داخل الوقت .(2/224)
[ وإن اختلف مجتهدان لم يتبع أحدهما صاحبه ] : وإن اختلف مجتهدان : طبعا المجتهد لا يوصف بكونه مجتهدا إلا بالمعرفة ، فعندنا شخصان على قدر من المعرفة متساويان ، اجتهدا في القبلة ، فحينما نقول : قال العلماء: مجتهدان ، فمعنى ذلك أنهما في مرتبة واحدة أم متفاوتة ؟ في مرتبة واحدة ؛ لأنه لا يمكن أن نعارض قول هذا بقول هذا إلا إذا استويا قدرة على التحصيل والاجتهاد ، وهذا الأصل عند العلماء ؛ ولذلك تعقب الفقهاء في مثل هذه العبارات الدقيقة يحتاج إلى نظر، يعني العلماء - رحمهم الله - لمّا يطلقون غالبا يقصدون نوعا خاصّا من المجتهدين ؛ لأنهم يريدون مسألة يحصل بها التعارض ، وهل يحصل التعارض عند الاستواء أم عند الاختلاف ؟ عند الاستواء ، ومن هنا لا يأتي واحد يشرح يقول : لا ، إذا كان ينبغي التفصيل ! هم مرادهم بهذا إذا استويا قدرة على تحصيل المراد فإنه لا يتبع أحدهما الآخر؛ لأن كل واحد منهما يعتقد أن القبلة في غير جهة صاحبه ، فإذا صلى على جهة صاحبه كان كمن يصلي إلى غير قبلة عالما ؛ وحينئذ تبطل صلاته ، هذا بالنسبة لما قرره المصنف رحمه الله أنه إذا اجتهد مجتهدان أحدهما قال : القبلة في اليمين ، وقال الآخر : القبلة في اليسار، فالواجب أن يصلي كل واحد منهما إلى جهته التي يرى أن القبلة فيها ، ما لم يرجع أحدهما إلى قول الآخر، فلو قال له : يا أخي ، القبلة عن يمين ؛ لأن القمر كان في هذه الجهة قبل أن يأتي الغيم ، فقال : أنا ما رأيت القمر، فحينئذ نعلم أن الحق مع من قال عن اليمين ، هذه دلالة وأمارة ظاهرة ، فيرجع المجتهد إلى قوله . فالشاهد من هذا أنه إذا ظهرت أمارة ترجح أحد قولين ، واعتد هذا المجتهد المخالف بالأمارة ، وجب عليه الرجوع إلى قول صاحبه وتعين عليهم أن يصلوا إلى قبلة واحدة ، لكن من أهل العلم من قال : إن الخلاف في هذا متسامح فيه فلو صلّى على جهة صاحبه صحت ، وهو القول الثاني في المذهب ، وهذا أصل عند(2/225)
العلماء في المسامحة في الشروط عند الخلاف المذهبي ، قالوا كما لو صلى وراء من أكل لحم الجزور وهو يرى انتقاض الوضوء في لحم الجزور صحّت صلاتهما ؛ لأن الأول يعتقد صحة الصلاة ، وهكذا هنا لو أنه صلى وراء المجتهد الثاني فإن المجتهد الثاني يفعل ما يعتقد صحته ، وهو مأذون له به شرعا ، والحقيقة أن هناك فرقا بين المسألتين ، ولكنه دقيق النظر بين المسألتين . يبقى السؤال : غير المجتهدين ، الآن مجتهدان ، هذا يقول : يمين ، والثاني يقول : شمال ،كل منهما يصلي إلى جهته ، لكن بالنسبة للرفقة التي معهم ليست عندها معرفة ولا خبرة ، فتتّبع أي القولين ؟ قالوا : يجتهد كل واحد ينظر أحدهما أوثق ، مثلا يعلم أن محمداً في نظره هو أكثر خبرة من عبدالله ، فيتبع محمدا ، ولو أن أحدهما ذكر علامة والآخرلم يذكر فإنه يتبع الذي ذكر العلامة ولا يتبع الذي لم يذكرها، وهذه من المسائل التي يجتهد فيها القاصر مع وجود من هو أعلم منه ؛ لأنهما لما اختلفا تعارضا ، وحينئذ يبني على غالب ظنه بالصواب في أي منهما .
[ ويتبع الأعمى والعامي أوثقهما في نفسه ] : ويتبع الأعمى والعامي أوثقهما في نفسه : يتّبع الأعمى؛ لأنه لا يبصر، وبعض الأحيان الأعمى أبصر من المبصر، كما ذكرنا ؛ لأنه قد يستدل ببعض العلامات الخفيّة التي تفوت على الناظر لوجود الشواغل بالنظر، ومن هنا إذا كان عند الأعمى إحساس ومعرفة يبني على هذه المعرفة ، وهذا قليل نادر، ولكن الأصل فيه أنه لا يستطيع ويتعذر عليه معرفة الصواب ، فيتبّع أوثقهما في نفسه . أوثقهما في نفسه يعرف أن فلانا الذي صحبه في السفر أكثر من مرة ، وجرّب منه الإصابة يقدمه على الذي هو دون ذلك، يعلم أن فلانا أكبر سنا وأكثر تجربة ، يعلم أن فلانا أكثر سفرا فهو أعلم بهذه المسالك ، وأعلم بجهاتها ، فإن هذا يقتضي أنه أوثق من صاحبه فيقدم قوله على قول الآخر .
الأسئلة
السؤال الأول :(2/226)
فضيلة الشيخ : من كانت عنده سجادة أربعة مترات في أربعة مترات، وكانت النجاسة في زاوية من هذه السجّادة هل يصلي على الطاهر منها أو تكون كلها نجسة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أمّا بعد :
فإنه يصلي عليها مادام أنه لا يصلي على موضع النجس ، فلو صلى على جزئها الطاهر صحت صلاته ، ولم يؤثّر وجود النجاسة في الطرف ؛ إلا في مسألة الانسحاب المشهورة في مذهب المالكيّة والحنابلة . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : إيجاب الغسل بخروج المني كنتم قد رجحتم أنه لا يجب الغسل إلا بخروجه دفقا وبلّذة وفي شرحكم الأخير على العمدة قّيتم ونصرتم مذهب من يقول بإيجاب الغسل بمجرد خروجه ولو لم يصاحب ذلك الدفق واللذة ؛ فما هو الأصل والمسلك الذي كان سببا في ترجيحكم لهذا المذهب . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
هذه المسألة سبق وأن ذكرناها في الشرح الأوّل ، وتبين بعد النظر أن العبرة بالخروج .
وصورة المسألة ، بعض العلماء يقول : لا يجب الغسل إلا إذا خرج المني دفقا بشهوة أي كثيرا بشهوة ؛ دليلهم الكتاب والسنة :
قال تعالى : { خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ - يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب ِ} .
دليل السنة : قوله - عليه الصلاة والسلام - : (( إذا فضخت الماء فاغتسل )) .(2/227)
أما رجوعنا فللحديث الصحيح : (( إنما الماء من الماء )) فإن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - أمر بالاغتسال لوجود الماء على أي صورة كان ، وهذا في الأخير ملنا إليه ، ذاك على ما قضينا ، وهذا على ما نقضي ، والحمد لله إن كان الصواب في الأخير، فأرجو من الله الأجران ، وإن كان أخطأنا فنرجو من الله أن لا نعدم الأجر، فالأمر في هذا واسع، والعلماء ينصحون لأمة محمد - - صلى الله عليه وسلم - - متى ما ترجح لهم القول بدليله ، فإنهم يعتبرونه ، ويقولون به ؛ لأن الرجوع إلى الحق فريضة وفضيلة . قال : لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس أن تراجع فيه نفسك ، فترجع إليه إذا تبين لك الحق ، إذا تبين لك حق فيها أن ترجع إليه ، فهذا لا يمنع الإنسان ؛ لأن المراد النصيحة للأمة ببيان الحق ، وعلى كل حال المسألة مشهورة ، والخلاف بين العلماء معروف ، والذين يقولون بوصف الدفق كلنا نميل إليه ؛ لأن القواعد قويّة من جهة النظر، فقالوا : إن الغالب خروجه على هذه الصفة ، والنادر أن يخرج قطرات ، فنعتد بالغالب لا بالنادر، وعلى كل حال ظاهر السنة أقوى في الدلالة على أن الغسل واجب بمجرد الخروج . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : من أصاب المذي ثوبه أو بدنه فهل يكفي فيه النضح أم لابد فيه من الغسل . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا أصاب المذي ثوبه يجب عليه أن يغسله ، وهكذا إذا أصاب بدنه ؛ لأن مادة المذي لا تنحلّ إلا بالغسل ؛ ولذلك ذهب طائفة من العلماء إلى أن المذي لا يستجمر منه ، بل لابد فيه من الغسل ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( اغسل ذكرك )) وقال في حديث المقداد : (( ليغسل مذاكيره )) وهذا يدل على أنه ينبغي الغسل . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : هل يجوز للأب دفع الزكاة إلى بنته الفقيرة المتزوجة أو ابنه المتزوج وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(2/228)
لا يجوز للوالد أن يدفع لولده ، ولا يجوز للولد أن يدفع لوالديه ؛ لأنّ الولد والوالد شيء واحد ، فإذا أعطاه الزكاة كأنها أعطاه لنفسه ؛ والدليل على أنهما شيء واحد حديث فاطمة في الصحيح : (( إنما فاطمة بضعة مني )) والبضعة من الشيء أي القطعة منه ؛ وقال في حديث السنن : (( إن أولادكم من كسبكم ، وإن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم )) فجعل الوالد والولد شيئا واحدا ؛ ولذلك لا يجوز دفع الزكاة للوالدين ، ولا للولد وجها واحدا .
ولكن الشكوى إلى الله أن يكون الوالد غنيًّا ، أو يكون الولد غنيًّا وهو يرى الفقر في ولده ، وأن يكون عنده القدرة على الزكاة وعنده أموال ويرى الفقر في أولاده ، ومع ذلك لا يعطف عليهم ، ولا يحسن إليهم ، وينتظر أن يعطيهم من الزكاة ، فإلى الله المشتكى ، وهذا - نسأل الله العافية والسلامة - من فتنة الدنيا واستيلائها على القلوب ، ولن يبارك الله لوالد ولا لولد نظر إلى ذي رحم منه فضلا عن فلذة كبده ، وفضلا عن والده الذي له الفضل عليه بعد الله - - عز وجل - - لم يبارك الله له في ماله متى ما وجد حاجة في ذي رحم منه ، وهو قادر على أن يسدها ، فلم يسدها ووالله ، لا خير في مال لا يعين على صلة الرحم ، وبرّ الوالدين ، والإحسان إلى الأولاد والذرية.(2/229)
إن من أعجب العجب أن تجد قعود الشيطان للإنسان بالرصد ، فتجد الإنسان من أسبق ما يكون عطفا وإحسانا وشفقة على الغريب ، ومن أشد الناس تقاعسا عن الإحسان إلى القريب ، تجده إذا رأى أخته مديونة ، وجاءت تشتكي إليه وتقول له : يا أخي ، عندي دين ، يدقق معها ، متى استدنت ؟! وكيف استدنت ؟! وماذا فعلت بكل درهم ؟! وكل ريال فضلا عن مائة ! وأما إذا جاءه الغريب ، وقال له : أنا محتاج ، احتسب عند الله أن يفرج كربته ؛ لأن الشيطان يجعله بمنع تام ولو علم مثاقيل الحسنات ، ولو علم صالح الدعوات التي يكسبها من فلذات كبده من الأبناء والبنات ، وأن أرجى الإجابة دعوة القريب ؛ لأن القريب يدعو من قلب ، ومتى سترت عورة القريب وصلت الرحم ، ومتى ما وصلت الرحم شفّعت : (( أما ترضين أن أصل من وصلك أما ترضين أن أصل من وصلك )) .
ولذلك تجد الأب الرحيم بأولاده الرحيم بذرّيّته مبارك له في ماله ، ميسّر عليه ، مغدق ، فإذا يسّر على أولاده وأحسن إليهم دون بذخ ودون إسراف وفقه الله وسدده ، وتجد الأخ الذي يعطف على أخيه ، فيجبر كسره ويرحم ضعفه ، ولو حصل منه بعض الهنّات غض عنها ؛ لأنه يحس أن بينه وبينه رحما أمره الله أن يتقيه فيها، فينكسر قلبه له ، ويحسن إليه ، ويعطف عليه ، ومن سعادة الموفق في دفع الصدقات ، والإحسان إلى المؤمنين والمؤمنات أن يتفقّد أول ما يتفقّد قريبه . قال : (( يا رسول الله ، عندي درهم. قال : أنفقه على نفسك . قال عندي غيره . قال : أنفقه على أهلك . قال عندي ... حتى قال : أختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك )). فالإنسان يبدأ بذي الرحم منه ، وذي القرابة منه ، ويحسن إليهم ، ويتفقد حاجتهم وخَلّتهم ، ويتقي الله - - عز وجل -- في سدّ مثل هذه الحاجات ، وتفريج هذه الكربات .(2/230)
نسأل الله بعزته وجلاله أن يوفّقنا لذلك في الحياة ، وأن يحسن لنا ولكم العاقبة والأجر بعد الممات . وصلّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تابع باب شرائط الصلاة ، وباب آداب المشي إلى الصلاة
قال المصنف رحمه الله : [ الشرط السادس : النية للصلاة بعينها ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستنّ بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فقد شرع المصنف - رحمه الله - في الشرط السادس من شروط صحة الصلاة ، وهذا الشرط يتعلق بالنية ، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على لزومها في الصلاة ، وإن كانوا قد اختلفوا في هذا اللزوم من أي الأنواع ، هل هو في مقام الأركان أو الشروط ؟ واختار المصنف - رحمه الله - الثاني .
يقول رحمه الله : [ الشرط السادس النية للصلاة بعينها ] أي يشترط لصحّة الصلاة أن ينوي المصلي الصلاة بعينها ، والنية عند العلماء - رحمهم الله - في الأصل تطلق على معنيين :
المعنى الأول : يتعلق بالإخلاص ، وقصد التقرّب لله - - سبحانه وتعالى - - .
والمعنى الثاني : يطلق ويراد به تمييز العبادات ، وتمييز المعاملات ، وهو ما يتعلق بمقاصد القلوب .(2/231)
فأما بالنسبة للإخلاص ؛ فهذا أمر مستقرّ، لا إشكال فيه أنه لا يمكن أن يقبل قول القائل أو عمل العامل إلا إذا أراد وجه الله - - سبحانه وتعالى - - ، وهذا معنى قوله - - سبحانه وتعالى - - : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .فلا إشكال أن العبادات مدارها قبولا وردا صحة وفسادا موقوف على هذا الأصل العظيم ؛ وهو معنى قوله -- سبحانه وتعالى -- : { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }، وما من مصلٍّ يشرك في صلاته ، فينوي غير الله - - عز وجل - - أو يقصد غير الله - - سبحانه وتعالى - - إلا حبط عمله ، وكان من المشركين ، وإذا صلى رياء ؛ فإنه يحبط عمله كما أخبر الله - - عز وجل - - عن المنافقين .
فهذا الأصل لا إشكال فيه ، والعلماء - رحمهم الله - إذا ذكروا النيّة في الصلاة ، مرادهم الثاني ، وهو التمييز؛ والأصل فيه حديث عمر بن الخطاب - - رضي الله عنه - - في الصحيحين أنه قال سمعت النبي - - صلى الله عليه وسلم - - يقول : (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )) .
فهذا الحديث يدلّ على أن اعتبار الأعمال ، وصحة الأعمال بحسب النيّة ؛ ولذلك يكون قوله : (( إنما الأعمال )) فيه عموم ، والصلاة عمل من الأعمال ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )) .(2/232)
فقوله : (( إنما الأعمال بالنيات )) أي إنما صحة الأعمال ، واعتبار الأعمال بالنيات، [ للصلاة بعينها] سواء كانت فريضة أو نافلة في الفريضة ينوي أنه يصلي صلاة الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ، فيميز عين الصلاة ، وهذا القدر إذا ميّز عين الصلاة إذا نوى أنه يصلي لأن الوقوف يكون للصلاة ولغير الصلاة ، ومن هنا يميز عند ابتدائه للعبادة أنه قصد أصل العبادة وهو الصلاة ، ثم يميز نفس الصلاة ؛ لأن الصلاة تكون فريضة وتكون نافلة ، ثم إذا ميزها فريضة ميز أي فرض يصلي ، هل هو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ؟ وكذلك ربما كان شيئا واجبا عليه ، مثل : الصلاة المنذورة ، فلو أنه نذر أن يصلي لله - - عز وجل - - عشر ركعات ؛ فإنه إذا أراد أن يوفي بهذا النذر نواه .
وهكذا النوافل : النوافل تنقسم إلى قسمين : نوافل مقصودة ، ونوافل غير مقصودة .
والنوافل المقصودة :كالسنن الرواتب ، وهناك خلاف في العيدين والاستسقاء ، فهذه على القول بأنها سنة مؤكدة تكون من النوافل ، وعلى هذا الوجه لا يمكن أن يميز الفرائض بعضها عن بعض إلا بالنية ، ولا يمكن أن يميز النوافل بعضها عن بعض إلا بالنية ، فمن صلى لله ركعتين أراد أن يصلي ركعتي الوضوء نواها ، وإذا أراد أن يصلي تحية المسجد أو أراد أن يصلي راتبة الظهر أو راتبة المغرب نوى راتبة الظهر ونوى راتبة المغرب ، وقس على ذلك .
أما من حيث الأصل تجب النية في الفروض والواجبات ، مثل : الصلوات الخمس، والصلوات المنذورة . يقول رحمه الله : [ النية في الصلاة بعينها ] أي يشترط لصحة الصلاة أن ينويها .
[ ويجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها ] : هذه النيّة محلّها القلب ، فلا يتلفظ بها بلسانه ، فإذا أراد أن يصلي الفجر، فإنه ينوي في قرارة قلبه أنه مصل للفجر، وهكذا بقية الصلوات .(2/233)
والتلفظ بالنية لم يثبت في كتاب الله ، ولا في سنة النبي - - صلى الله عليه وسلم - - ، وأنكره الأئمة - رحمهم الله - ، وبيّنوا أنه حدث وبدعة ، وأن الله لم يفرض على المصلي إذا جاء يصلي أن يقول : نويت أن أصلي لله أربع ركعات ظهرا حاضرا ، هذا كله لم يفرضه الله - - عز وجل - - على عباده ، بل لم يثبت عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان من أئمّة الهدى ، ولذلك ينبغي الاقتصار على الوارد في العبادات ، فيجب أن يقتصر على ما ورد ، فإذا نوى وقصد بقرارة قلبه أن يصلي الظهر فهذه نية شرعية معتبرة ، وينبغي أن تكون هذه النية مقاربة للصلاة ، وحينئذ تكون مقارنة لتكبيرة الإحرام ، ويجوز أن تسبق تكبيرة الإحرام بالزمن اليسير، فإذا نوى صلاة الظهر، ثم تأخر قليلا ، فكبر وكان فاصلا يسيرا لم يؤثّر، فإن نوى الظهر، ثم اشتغل بفاصل أجنبيّ ،كالأكل والشرب ، ثم قام إلى صلاة الظهر ولم ينو ؛ فإن النية الأولى لاغية ؛ لوجود الفاصل المؤثّر، ومن هنا لابد من أن تكون النية مقاربة للفعل ، واغتفر العلماء - رحمهم الله - الفاصل اليسير .
قال المصنف رحمه الله : [ باب آداب المشي إلى الصلاة ] :
الشرح :
يقول المصنف - رحمه الله - : [ باب آداب المشي إلى الصلاة ] : الآداب جمع أدب ، والآداب ، والأخلاق جملة من الفضائل التي لا يراعيها إنسان إلا كان من أهل الكمال والفضل ، وهذه الفضائل والآداب بعث الله بها رسله ، وأنزل بها كتبه ، ودعا بها الناس إلى معالي الأمور، وترك سفاسفها ومحقّراتها .
وهذه الآداب منها ما يكون في العبادات ، ومنها ما يكون في المعاملات ، وآداب العبادات منها : آداب الصلاة ، وآداب الصلاة منها: ما يكون قبل الصلاة ، ومنها ما يكون أثناء فعل الصلاة ، ومنها ما يكون بعد الفراغ من الصلاة .(2/234)
والمصنف -رحمه الله- بوب بهذا الباب : [ باب آداب المشي إلى الصلاة ] دين كامل ، وشريعة كاملة، راعت حال الكمال حتى عند الذهاب للعبادة ، وفيه دليل على شرف عبادة الصلاة ، وأن المصلي مستشعر لعظمة الله - - سبحانه وتعالى - -، فيؤدب بآداب الإسلام قبل أن يخرج من بيته ، فهو يستشعر حرمة هذه العبادة الجليلة ، ويخرج من بيته يمشي إلى الصلاة مستشعرا عظمة الوقوف بين يدي الله - - سبحانه وتعالى - - ، وهيبة المقام بين يديه جلّ وعلا.
ومن العلماء من اعتنى بهذا الباب كالمصنف - رحمه الله - ، بل من الأئمة من أفرده بتأليف مستقل ، ومنهم من ذكره ضمنا ، وقد اعتنت السنة عن رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - بهذه الآداب في المشي إلى الصلاة ، فأدب عليه الصلاة والسلام الأمة ، حينما ثبتت سنته : قولا ، وفعلا برعاية هذه الحرمة العظيمة للصلوات الخمس .
ففي الحديث الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - - صلى الله عليه وسلم - - راعى هذا الأدب حتى فيما دون الفرائض ، وهي الصلوات المستحبة ، أو المؤكدة للعوارض كالاستسقاء ونحوه ؛ ففي الحديث الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : (( خرج رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - إلى الصلاة خاشعا متخشعا متذللّا متبذلّا متضرعا )) .(2/235)
خرج رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - خاشعا متخشعا متذللا متبذلا متضرعا : ما خرج عليه الصلاة والسلام خروج الرعاع، ولا خروج الهمل ،خرج وهو يستشعر عظمة الله -- سبحانه وتعالى - - في خروجه ، وأسعد الناس في الصلاة من رزق هيبة الصلاة قبل أن يخرج من بيته ، حينما يحس أين هو ذاهب ، وطاعة لمن يذهب، وحينما يحس أنه ليس هناك عمل أعظم بعد الشهادتين من هذه الصلوات الخمس ، وحينما يحس أنه إذا استقامت صلاته استقام أمر دينه ودنياه وآخرته ، وحينما يحس أنه لن يخرج من بيته فيخطو خطوة إلا رفعه الله بها درجة ، وحط عنه بها خطيئة ، وثقّل له ميزانه ، فعادت عليه صلاته بكل خير .
[ باب آداب المشي إلى الصلاة ] : وهذه الآداب تتعلّق أكثر ما تتعلق بالمشي والخروج ، ولذلك بينها رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - في الأحاديث الصحيحة كما سنذكرها في مواطن من هذه الآداب ؛ لأنها تعلقت أكثرها بالمشي ، وإلا فهناك آداب باطنة وآداب ظاهرة .
فالآداب الباطنة تتعلّق بالخشوع- خشوع القلب- ، وحضور القلب ، واستشعار عظمة الله - - جل جلاله - - .
العبد يخرج إلى ملك ملوك الدنيا أو إلى عظيم من عظماء الدنيا ، أو يخرج إلى من يحبه ويكرمه ويجله ، فيستشعر أين هو ذاهب ، يتصوّر الإنسان إذا ذهب إلى مناسبة عزيزة على قلبه ،كيف يتجمّل في جسده وثوبه ، وكيف يتجمل في سمته ودله ، وكيف يحسن شارته وهيئته ، والله - جل وعلا - ذكّر عباده بخروجهم فقال : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } فذكّرهم بهذا المقام فهذا أدب يتعلق بالباطن ، حضور القلب ، وإذا استشعر الإنسان ، وكان عنده حضور قلب حاز الفضائل ، وفتح الله عليه أبواب رحمته ، فما هلك من هلك إلا بالغفلة ، فإن الغفلة من أعظم المصائب التي يفوت بها خير الدين والدنيا والآخرة - نسأل الله أن لا يجعلنا من الغافلين - .(2/236)