الشرح المقنع
على زاد المستقنع
كتاب الصيام
شرح فضيلة الشيخ
أ.د. خالد بن علي المشيقح
حفظه الله تعالى وغفر له ولوالديه والمسلمين
أستاذ الفقه المقارن بالدراسات العليا بجامعة القصيم
إعداد
محمد بن مفتاح الفهمي عبد العزيز بن حواس الشمري
غفر الله لهما ولوالديهما وللمسلمين
ملحوظة هامة
هذه المذكرة ليست نهائية بل لازالت تحت المراجعة والتصحيح مع العلم أن الشيخ حفظه الله قد أضاف زيادات نفيسة لم تضف هنا وستضاف عند إخراج الكتاب إن شاء الله تعالى ونأمل قراءة المقدمة .
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
أما بعد: فإن الفقه في الدين من أنفس ما يتسابق إليه المتسابقون ويتنافس فيه المتنافسون، فهو من أعلى علوم الدين قدراً وأكثرها فائدة. فهو لصيق لحياة المسلم اليومية لا يستغني عنه أبداً .
وكتاب زاد المستقنع غني عن الأجوف:هو من أنفس متون الحنابلة إن لم يكن أنفسها وأمتنها وأشملها فعناية العلماء به ليست وليدة العصر بل منذ تأليفه أقبل عليه العلماء وطلاب العلم شرحاً و حفظاً وعناية وأثنى عليه العلماء :
قال الشيخ فيصل المبارك قاضي الجوف : وهذا المختصر صغير الحجم ، كبير الفائدة ، كثير المسائل النافعة ، يعرف قدره من حفظه .
وقال الشيخ العلامة ابن قاسم النجدي (( هو المذهب، حجمه ، وكثر علمه ، وجمع فأوعى ، وفاق أضرابه جنساً ونوعاً ، لم تسمح قريحه بمثاله ، ولم ينسج ناسج على منواله)) .(1/1)
فهذا المختصر خلاصة جهود عدد من كبار أئمة المذهب ، وكثير من كتب الحنابلة ترجع إليه أو إلى أصله ( المقنع ) مما يدل على أهميته وعظم منزلته . (1)
وقد قام شيخنا حفظه الله بشرح معانيه وحل ألفاظه وبيان المذهب في كل مسألة مع القول الراجح حتى لو خالف المذهب إتباعاً للدليل وتمسكاً بما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد جاء شرحه هذا من أفضل الشروح وذلك لما اشتمل عليه من وضوح العبارة والضوابط والتقسيمات التي تعين الطالب على ضبط الفقه وفهمه.
وقد قمنا بتفريغ الأشرطة وحذف المكرر والترتيب لبعض العبارات من تقديم وتأخير دون حذف ثم تخريج أحاديثه وعزو الأقوال لمصادرها . كل ذلك رجاء نفع أنفسنا أولاً ، ونفع إخواننا ثانياً فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
ونود أن ننبه بعض التنبيهات :
أولاً : هذا الإخراج لهذه المذكرة ليس نهائياً فهي لازالت تحت المراجعة والتصحيح والإضافة من شيخنا حفظه الله إلى أن يخرج الكتاب بإذن الله تعالى .
ثانياً : الحواشي تحتاج مزيد مراجعة وترتيب فلا يعتمد على كل ما فيها .
ثالثاً : تم إخراج هذه المذكرة مع أنها لم تكتمل للإلحاح الشديد من إخواننا وفقهم الله داخل هذه البلاد وخارجها فلما نظرنا رأينا أن الكتاب سيأخذ وقتا قد يطول حتى يخرج فعزمنا على إخراجها بينما يخرج الكتاب . مع العلم أن كتاب الطهارة على وشك الخروج .
رابعاً : الشيخ حفظه الله قد أضاف زيادات مفيدة وبذل جهداً كبيراً في ذلك لكن لم أضفها في هذه المذكرة بل ستخرج في الكتاب بإذن الله وذلك لأن إعدادها سيأخذ وقتاً علماً أن هذه الزيادات بكتابة الشيخ وليست في الشرح الذي ألقاه .
خامساً: نريد من إخواننا وفقهم الله أن يوافونا بملاحظاتهم واقتراحاتهم انطلاقاً من قول الله ٹچ? ? ? ?? ? ? ? ? ?? چ المائدة: 2.
__________
(1) هناك كتاب صدر حديثاً اسمه ( المدخل إلى زاد المستقنع) للشيخ سلطان بن عبد الرحمن العيد .(1/2)
سادساً: نوصي أنفسنا وإخواننا بالجد والاجتهاد والصبر والمصابرة في طلب العلم ، وأن لا نستبطأ الثمرة ونأخذ هذا العلم مع الليالي والأيام وأن نصون أوقاتنا عن سفاسف الأمور والملهيات ولصوص الأوقات ، وأن نتذكر دائماً أن العلم لا ينال براحة الجسد .
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
واعلم أنك بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى ، وأن المكارم منوطة بالمكاره . قال الشاعر :
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب ...
وقال آخر:
وقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد : رجوت المحالا
وقال آخر:
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
واعلم أن الأمة بحاجة إلى العلماء الذين يبينون العلم ويخرجون الناس من الظلمات إلى النور ، وأن يدافعون عن هذه الشريعة أعداءها الذين صار لهم في هذا الزمان صولة وإظهار لمذاهبهم الهدامة في القنوات الفضائية والصحف وغيرها ولا يمكن أن يُدفع هؤلاء إلا بالحجة المبنية على الدليل من الكتاب والسنة .
سابعاً : لا تتخبط خبط عشواء في طلب العلم فتكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى بل اسلك المنهج الصحيح في طلب العلم والتدرج في الحفظ والقراءة ( وادخلوا البيوت من أبوابها والأمور من أوائلها ) فلا تستعجل وسر على الجادة التي كان عليها علماؤنا الراسخون في العلم .
ثامناً : دعاء الله سبحانه أن يرزقك الإخلاص والتوفيق والسداد وأن يهديك صراطه المستقيم .
تاسعاً : نأمل من إخواننا أن لا ينسونا بدعوة صالحة في ظهر الغيب أن يمدنا بعفوه وتوفيقه وإعانته وإحسانه وأن يرزقنا حسن القصد في القول والعمل وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم .
وأخيراً نسأل الله تعالى أن يجزي شيخنا خير الجزاء على ما بذله من جهد وما قدمه وأن يجعله في ميزان حسناته وصدقة جارية بعد مماته . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
كتبه(1/3)
عبد العزيز بن حواس الشمري محمد بن مفتاح الفهمي
كتاب الصيام
مناسبته لما قبله من كتاب الزكاة ظاهرة فإن في حديث ابن عمر { جاء ترتيب أركان الإسلام على هذا النحو فقد قال - صلى الله عليه وسلم - (بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت) (1) وكذلك الصيام فإنه حولي وأما الحج فإنه عمري فحاجة الناس إلى معرفته أعظم من حاجة الناس إلى معرفة الحج .
الصيام في اللغة : هو الإمساك. يقال للساكت صائم لإمساكه عن الكلام (2) ومن ذلك قوله ژ? ? ? ? ? ? ? ? ژ أي : إمساكاً عن الكلام .
أما في الاصطلاح : التعبد لله عز وجل بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
وحكم الصيام : ركن من الأركان الخمسة .
والأصل فيه من حيث الدليل : الكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب فقوله تعالى ژ ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ژ .
والسنة كثيرة كما سيأتي إن شاء الله .
والإجماع قائم على ذلك (3) .
والصيام فرض على مراحل :-
المرحلة الأولى : صيام يوم عاشوراء كما في حديث سلمة بن الأكوع > فكان أولا يجب من الصيام صيام يوم عاشوراء . المرحلة الثانية : نسخ صيام يوم عاشوراء بصيام رمضان ولكن على التخيير يعني أن الإنسان مخير إن شاء أن يصوم وإن شاء أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً لقوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ?? ژ ژ ڑ ڑک ک ک ک گگ گ گ ? ژ .
المرحلة الثالثة : تعيين صيام شهر رمضان وهذه المرتبة هي التي استقر عليها التشريع ودليل ذلك : قوله تعالى ژ ? ہ ہ ہ ہ ژ .
والصيام له فوائد كثيرة منها :-
الفائدة الأولى : الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب [ دعاؤكم إيمانكم ] رقم 8, ومسلم كتاب الإيمان باب [بيان أركان الإسلام ودعاته العظام ] .
(2) انظر لسان العرب 15/244 .
(3) انظر مراتب الإجماع لابن حزم ص(39)(1/4)
الفائدة الثانية : الإتيان بركن من أركان الإسلام .
الفائدة الثالثة : إتمام أنواع العبادة لأن العبادة إما كف عن محبوب كالصيام وإما بذل لمحبوب كالزكاة أو جهاد للنفس على العمل .
الفائدة الرابعة : بلوغ مرتبة الإحسان فإنه يعبد الله كأنه يراه .
الفائدة الخامسة : تقوى الله .
الفائدة السادسة : استكمال أنواع الصبر .
الفائدة السابعة : معرفة قدر النعمة .
الفائدة الثامنة : كثرة العبادة أثناء الصيام من الصيام والسحور والفطور .
الفائدة التاسعة : الحمية من كثير من الفضلات .
قوله [ يَجِبُ صومُ رَمضانَ برؤيةِ هِلالِه ] :
الصيام فُرض في السنة الثانية من الهجرة النبوية فصام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع رمضانات (1) .
وقوله (يجب صوم رمضان برؤية هلاله) رمضان يجب صومه بواحد من أمور أي نحكم عند ذلك بدخول الشهر .
فيقول المؤلف ~ (يجب صوم رمضان برؤية هلاله) : هذا هو الأمر الأول فإذا رُؤي هلال رمضان فقد دخل الشهر ووجب الصيام وهذا بالإجماع (2) .
ودليل ذلك : أولاً : قوله تعالى ژ ? ہ ہ ہ ہ ژ .
ثانيا: حديث ابن عمر { في الصحيحين قال - صلى الله عليه وسلم - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (3) .
قوله [ فإن لم يُرَ مع صَحْوٍ ليلةَ الثلاثينَ أَصْبَحوا مُفْطِرِينَ ] :
أفاد المؤلف ~ في هذه الجملة وقت ترائي الهلال :
__________
(1) انظر زاد المعاد 2/30
(2) انظر مراتب الإجماع لابن حزم ص(39)
(3) أخرجه البخاري كتاب الصوم باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - [إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ]وأخرجه مسلم كتاب الصيام باب [وجوب صوم رمضان برؤية الهلال والفطر برؤية الهلال وأنه إذا غم في أوله أو آخره أُكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً](1/5)
أولاً : ترائي الهلال مستحب وكان الصحابة } يتراءون الهلال ففي حديث ابن عمر { تراءى الناس الهلال فرأيته فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام وأمر الناس أن بصيامه (1) .
فيُستحب ترائيه إذا قام به من يكفي. أما إذا لم يقم به أحد فنقول : يتعين ترائي الهلال فمعرفة أوقات العبادات على سبيل فرض الكفاية فهو فرض كفاية, لكن إذا لم يقم به أحد فإن الجميع يأثم .
وكما ذكرنا أن المؤلف قال : فإن لم يُر مع صحو الثلاثين أصبحوا مفطرين .
أفاد المؤلف ~ أن ترائي الهلال إنما يكون ليلة الثلاثين أي بعد غروب الشمس من ليلة الثلاثين إذا غربت الشمس من يوم التاسع والعشرين ودخلت ليلة الثلاثين فإنه يستحب ترائي الهلال .
ويدل ذلك : أن هذا هو الوارد عن الصحابة } كعمر - رضي الله عنه - فقد روى شفيق بن مسلمة قال : ( أتانا كتاب عمر > ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشياً) (2) فقوله : (حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشياً) هذا يدل على الترائي وأن وقت الترائي إنما يكون ليلاً ليلة الثلاثين .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم باب [في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان] رقم (2342) والحاكم 1/423 والبيهقي 4/212 كتاب الصيام- باب الشهادة على رؤية هلال رمضان
والحديث صححه بن حبان وابن حزم والحاكم .
(2) روا ه الدارقطني كتاب الصيام باب الشهادة على رؤية الهلال والبيهقي كتاب الصيام كتاب الشهادة على رؤية الهلال .(1/6)
وكذلك هو الوارد عن عثمان وابن مسعود وابن عمر } .وأيضا يدل لهذا قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ژ وإنما يعود عرجوناً قديماً بعد غروب الشمس من ليلة التاسع والعشرين وذلك في أول كل شهر قمري حينما يظهر نوره قوساً صغيراً بعد غروب الشمس . وسيأتي إن شاء الله حكم ما إذا رُؤي الهلال نهاراً وأن هذه الرؤية لاعبرة بها وإنما المعتبر رؤيته ليلاً كما سلف.
وقوله (فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين) : ليلة الثلاثين من شعبان لاتخلو من حالتين :-
الحالة الأولى : أن تكون السماء صحواً ليس هناك غمام أو قتر فيقول المؤلف ~ : يصبحون مفطرين وهذا باتفاق الأئمة (1) على أنهم يصبحون مفطرين ويكملون عدة شعبان ثلاثين يوماً .
الحالة الثانية : أن يكون هناك سحاب أو غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان .
فقال المؤلف ~ [ وإن حالَ دونَه غَيْمٌ أو قَتَرٌ (والقتر هو الغبار) (2) فظاهِرُ المذْهَبِ يَجِبُ صومُه ] :
أي : يصبحون صائمين احتياطاً للعبادة وهذا من مفردات مذهب الحنابلة (3) والحنابلة رحمهم الله انتصروا لهذا القول مع أنه قول ضعيف والجمهور على خلافه لكن الحنابلة رحمهم الله انتصروا له وألَّفوا فيه مؤلفات مستقلة مثل رسالة القاضي أبي يعلى (إيجاب الصيام ليلة الغمام ) ورسالة ابن الجوزي (رد اللوم والضيم في صوم يوم الغيم) ومثله رسالة ابن المُبْرِد (درء اللوم) فألَّفوا فيه مصنفات مستقلة .
إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان يقولون : يجب أن يصبحوا صائمين .
__________
(1) انظر شرح فتح القدير(2/318) ومواهب الجليل (3/297) ومغني المحتاج (1/619) والمغني (4/326) .
(2) انظر المطلع ص(146).
(3) انظر المغني (4/330).(1/7)
والنووي ~ في كتاب المجموع (1) أوْرَد رسالة أبي يعلى وأورد رداً على هذه الرسالة للخطيب من علماء الشافعية فأبو يعلى كتب رسالة وهي ليست موجودة فيما أعلم لكن النووي ~ نقلها في كتابه المجموع شرح المهذب ونقل رداً عليها رسالة أخرى للخطيب الشافعي وأبو يعلى ذكر أدلة الحنابلة وأطال فيها .
وشيخ الإسلام ابن تيمية ~ أورد أدلة الحنابلة في كتابه شرح العمدة , ومن أدلة الحنابلة رحمهم الله : حديث ابن عمر { ( إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له ) (2) . وفي سنن أبي داود والدرقطني : ( أن ابن عمر { كان إذا مضى من الشهر تسع وعشرون يوماً يبعث من ينظر إلى الهلال فإن رؤي فذاك وإن لم يُر ولم يَحُل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطراً وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً) (3) . وابن عمر { هو راوي الحديث وهو أعلم بالمراد , منه فيكون معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فاقدروا له يعني ضيقوا عدة شعبان بحيث يكون تسعة وعشرين يوماً .
أما بالنسبة لأدلة الجمهور فاستدلوا بأدلة كثيرة منها :- ...
أولاً : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبّيَ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) (4) رواه البخاري وهذا صريح أنه يكمل عدة شعبان ثلاثين .
__________
(1) انظر المجموع . ...
(2) أخرجه البخاري كتاب الصوم- باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم الهلال فصوموا رقم (1906)ومسلم كتاب الصيام , باب وجوب صوم رمضان برؤية الهلال....وتقدم.
(3) أخرجه الدارقطني كتاب الصيام (2/161) وأخرجه أبو داود كتاب الصوم باب الشهر يكون تسعاً وعشرين رقم(2320) والإمام أحمد (2/5 ,13) والبيهقي (4/204) وقال الألباني إسناده صحيح على شرطهما (الإرواء 4/9).
(4) أخرجه البخاري كتاب الصوم باب (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا) .(1/8)
ثانياً : حديث ابن عمر { قال - صلى الله عليه وسلم - (الشهر تسعة وعشرون يوماً فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) (1) رواه البخاري وهناك أدلة أخرى .
فالصواب أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر { فاقدروا له أمه من التقدير وليس من القدْر الذي هو التضييق , هذا هو الصواب أي قدّروا شعبان ثلاثين يوماً لأن السنة تفسر بعضها بعضا وأما فعل ابن عمر { أجاب ابن القيم ~ في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد بأجوبة كثيرة (2) :-
منها : أن ابن عمر { خالفه غيره من الصحابة } .
ومنها : أن ابن عمر { كان يفعل ذلك يصوم ويفتي بخلافه وفتياه أصح لتطرق التأويل إلى فعله .
ومنها : أن ابن عمر { كان يأخذ بتشديدات لا يوافقه عليها كثير من الصحابة } فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمِيَ - رضي الله عنه - وكان يتيمم بضربتين وكان يصوم إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر وإذا مسح رأسه يفرد أذنيه بماء جديد وكان يمنع من دخول الحمام وإذا دخل الحمام اغتسل منه > .
ومنها : أنه لم يَرِد أن ابن عمر{ كان يأمر به أهله وإنما يفعله في خاصة نفسه وعلى هذا فالراجح أنه إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان صحو فالأمر في ذلك ظاهر أنهم يصبحون مفطرين وهذا باتفاق الأئمة (3) وإن كان في ليلة الثلاثين غيم أو قتر فإنه تُكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً كما هو قول الجمهور .
قوله [ وإن رُؤِيَ نهاراً فهو لليلة المقبلة ] :
تقدم أن وقت الرؤية المعتبر هو بعد غروب الشمس من ليلة الثلاثين .
إذا رؤي نهاراً فإنه لا يخلو من أمرين :-
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب الصوم باب (إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا) .
(2) انظر زاد المعاد (2/47).
(3) سبق بيانه.(1/9)
الأمر الأول : أن يُرى نهاراً نهار التاسع والعشرين من شعبان فهذا بالاتفاق لا عبرة به (1) فلا يجب به صوم ولا يحل به فطر لأنه يلزم أن يكون الشهر ثمانية وعشرين يوماً وهذا لا يمكن في الشهر القمري فلا عبرة بذلك .
وكذلك إذا رؤي في نهار التاسع والعشرين من رمضان يلزم الناس أن يفطروا فيكون رمضان ثمانية وعشرين يوماً .
الأمر الثاني : رؤيته في نهار الثلاثين هل هذا معتبر أو ليس معتبراً ؟ هذا موضع خلاف :
الرأي الأول : جمهور أهل العلم أن رؤيته في نهار الثلاثين غير معتبرة لما تقدم عن الصحابة } أن وقت الرؤيا المعتبر في الليل بعد غروب الشمس ولقوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ژ وبه قال جمهور من أهل العلم رحمهم الله .
وابن حزم ~ له تفصيل في هذه المسألة قال : (إذا كان قبل الزوال فإنه يعتبر) (2) وهذا فيه نظر والصواب ما ذهب إليه الجمهور .
قوله [ وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم ] :
وعلى هذا إذا رؤي في هذا البلد يلزم كل الناس في كل قطر من أقطار الأرض أن يصوموا فإذا رؤي في المشرق لزم أهل المغرب أن يصوموا وإذا رؤي في المغرب لزم أهل المشرق أن يصوموا وهذا هو المشهور من المذهب وهو قول أكثر الحنفية (3) .
الرأي الثاني : أنه تعتبر المطالع فيلزم الصوم أهل بلد الرؤية وكل من يوافقهم في مطلع الهلال وبه قال الشافعي (4) ~ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (5) ~ .
الرأي الثالث : أن المعتبر هو رؤية أهل مكة إذا رؤي في مكة يلزم كل الناس في كل الدنيا أن يصوموا وهذا قال به الشيخ أحمد شاكر (6) ~ .
الرأي الرابع : أن العبرة برؤية الهلال إذا ثبت عند الإمام الأعظم فإنه يصار إلى ذلك وهذا قال به بعض الحنفية (7) .
وهناك أقوال أخرى لكن هذه هي أشهر الأقوال .
__________
(1) انظر المصادر السابقة.
(2) انظر المحلى (6/357) .
(3) انظر المغني (4/328) .(1/10)
أما بالنسبة لما ذهب إليه المؤلف ~ أنه يلزم الناس كلهم الصيام فاستدلوا بعموم ما تقدم من حديث أبي هريرة وابن عمر { (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته....) وهذا خطاب لعموم المسلمين فمتى رؤي فإنه يجب الصيام .
وأيضا قوله تعالى ژ ? ہ ہ ہ ہ ژ .
الرأي الثاني : الذين قالوا أن المعتبر هو اختلاف المطالع وأنه يلزم أهل بلد الرؤية استدلوا :-
أولاً : بحديث كُرَيْب ~ أن أم الفضل بعثته إلى معاوية في الشام لحاجة لها فَقَدِم كريب الشام وأهَلَّ عليه هلال رمضان ثم بعد ذلك رجع إلى المدينة فلما رجع إلى المدينة سأله ابن عباس { متى رأيتم الهلال فقال كريب : رأيناه ليلة الجمعة فصام معاوية وصمنا , فقال ابن عباس { : (لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه) فقال كريب لابن عباس { (أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه) فقال : (لا هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) (1) فيدل هذا على اختلاف المطالع فابن عباس { لم يعتبر رؤية معاوية - رضي الله عنه - .
ثانياً : المسلمون كانوا متفرقين في البلدان فهؤلاء يصومون بعد هؤلاء ولم يرد أن من تأخر يؤمر بالقضاء يعني يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الخلفاء بل كل بلد له رؤيته .
ثالثاً : قياساً على أوقات الصلاة فكما أن أوقات الصلاة تختلف من بلد إلى بلد آخر فكذلك أوقات الصيام تختلف .
أما بالنسبة لمن اعتبر الإمام الأعظم فقال بأن البلاد تحت سلطة الإمام الأعظم كالبلد الواحد .
__________
(1) رواه مسلم كتاب الصيام باب أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم .(1/11)
وأما من اعتبر مكة فيستدل بحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون (1) وفي رواية فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون وكل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة منحر وكل جمع موقف (2) فهذا تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يخاطب الناس في ذلك المكان .
وأيضاً قالوا : ذكر أماكن الحج مع الصيام دل على أن المعتبر هو رؤية مكة وهذا الاستدلال فيه نظر والأصوليون عندهم قاعدة وهي « أن دلالة الالتزام ضعيفة » فلا تلازم بينهما كونه يقرن بين حكمين في نص فلا تلازم أن يأخذ أحدهما حكم الآخر . فالأقرب إلى الدليل ما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله وأن المعتبر هو اختلاف المطالع فيجب على أهل البلد وكل من يوافقهم الصيام .
والشيخ عبدالله بن حميد ~ له رسالة في هذا جيدة اسمها : (تبيان الأدلة في إثبات الأهلة) رد فيه الشيخ على ما ذهب إليه الحنابلة والحنفية رحمهم الله ورد فيها على المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي قالوا إذا رؤي في بلد تلزم الرؤية لكل الناس في كل أقطار الدنيا فأفرد الشيخ هذه الرسالة رداً على ذلك وهي رسالة جيدة والجيد فيها أن الشيخ ~ استعان بأقوال أهل الهيئة (الفلكيين) وذكر أمثلة لاتفاق البلدان في المطالع وما هي البلدان التي تتفق في المطالع وما هي البلدان التي لا تتفق في المطالع......إلخ وذكر أمثلة متى يمكن أن يُرى وما هي المسافة التي يمكن أن يرى فيها الهلال .
__________
(1) أخرجه أو داود كتاب الصوم باب [ إذا أخطأ القوم الهلال ] والترمذي كتاب الصوم باب [ ما جاء الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون ] وقال حديث حسن غريب , وابن ماجة كتاب الصيام باب ما جاء في شهري العيد وصححه الألباني في الإرواء (4/11) وأخرجه الدار قطني كتاب الصيام (2/164) وأخرجه البيهقي (4/251-252) .
(2) انظر المصدر السابق .(1/12)
مسألة : ويجب صوم رمضان برؤية هلاله سواء رؤي بالعين المجردة أو رؤي عن طريق الآلات وهذا كله يثبت به الشهر .
وإذا رؤي في بلد يجب على كل بلد يوافق بلد الرؤية في المطلع الصيام ومن لا يوافقه لا يجب عليه الصيام وأن هذا هو الأقرب لما دل له حديث ابن عباس (1) { .
مسألة : قال العلماء إذا رؤي الهلال في بلد فإنه تحتمل رؤيته - أي ولادته - في كل البلاد الغربية عن هذا البلد بلا قيد وأما بالنسبة للبلاد الشرقية فإنه يحتمل ولادته إلى مسافة 650 ميلاً .
قوله : [ ويُصام برؤية عدل ] :
وظاهر كلام المؤلف ~ أنه لا يشترط التعدد وأنه يُكتفي برؤية واحد وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله (2) .
الرأي الثاني : أنه يُكتفى برؤية واحد في مكان لا يُعتنى فيه بأمر الهلال وإلا فلا بد من اثنين وهذا هو قول الإمام مالك ~ .
__________
(1) سبق تخريجه ص(10) .
(2) انظر الأم (2/94) الإنصاف (3/194) .(1/13)
وأيضاً رأي الحنفية (1) رحمهم الله قالوا : يكتفى برؤية واحد إذا كان في السماء علة من سحاب أو قتر ونحو ذلك أما إذا كانت السماء صحواً فلا بد من الجمع الذي يغلب على الظن صدقهم والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة رحمهم الله أنه يكتفى برؤية واحد ويدل له حديث ابن عمر { قال : (تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه) (2) وأيضاً حديث ابن عباس { أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني رأيت الهلال فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله قال : نعم قال : أتشهد أن محمداً رسول الله قال : نعم قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً (3) .
وقول المؤلف [عدل]: صريح كلام المؤلف ~ لابد أن يكون الرائي عدلاً فإن كان عنده فسق فإنه لا تصح رؤيته وهذا قول جماهير الفقهاء أنهم يشترطون في الرائي أن يكون عدلاً وإلا لا تصح رؤيته .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع (2/80) ومواهب الجليل (3/279)
(2) رواه أبو داود كتاب الصوم [ باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان ] والدارقطني كتاب الصيام, والببهقي كتاب الصيام [ باب الشهادة على رؤية هلال رمضان ] وابن حزم في المحلى (6/236)
(3) أخرجه أبو داود كتاب الصوم باب في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان والترمذي كتاب الصوم [ باب ما جاء في الصوم بالشهادة , وأخرجه النسائي كتاب الصيام [باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان ] وابن ماجة كتاب الصيام [ باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال .(1/14)
وهذا دليله حديث الحارث بن حاطب > وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما) (1) والأقرب أنه كما ذكر العلماء يشترط العدل لكن ما المراد بالعدل ؟ نقول : الصواب أن العدل يختلف لأن العلماء يشددون في ضابط العدالة وكما سيأتي في باب الشهادات فيقولون العدالة دين ومروءة والدين فعل الواجبات وترك المنهيات والمروءة هو أن يفعل ما يجمله ويزينه ويترك ما يدنسه ويشينه ولا شك أن هذا فيه تشديد في أمر العدالة كونه يفعل الواجبات ويترك المنهيات ويفعل ما يجمله ويزينه ويترك ما يدنسه ويشينه ولا يفعل كبيرة ولا يصر على صغيرة......إلخ .
والصواب كما قال تعالى ژ گ گ ? ?ژ والشاهد يرضى إذا كان أميناً وغلب على الظن صدقه فإذا كان الرائي أميناً وغلب على الظن صدقه بحيث لم يكن معروفاً بالكذب أو التسرع وعدم التثبت أو ضعف البصر فحينئذ نقبل رؤيته .
قوله [ ولو أنثى ] :
وهذا هو المشهور من المذهب (2) خلافاً للشافعي ~ (3) فلو أن المرأة رأت الهلال فإن رؤيتها صحيحة وعلى هذا لا نشترط الذكورية فكما تقدم لا يشترط العدد فكذلك لا تشترط الذكورية .
والقاعدة في ذلك : « أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا لدليل » وقد ثبت قبول رؤية الهلال في حق الذكر فكذلك في حق الأنثى .
وكذلك قوله : [ ولو أنثى ] لم يشترط المؤلف ~ الحرية فظاهر كلامه أن الرقيق تصح رؤيته وهذا القول هو الصواب وهو المذهب (4) فلا يشترط أن يكون الرائي حراً حتى لو كان رقيقاً يباع ويُشترى فإن رؤيته صحيحة لعموم حديث ابن عباس وابن عمر } .
__________
(1) رواه أبو داود كتاب الصوم [ باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال ] والدارقطني وقال هذا إسناد متصل صحيح
(2) انظر كشف القناع (2/350) .
(3) انظر مغني المحتاج (1/619) .
(4) انظر كشف القناع (2/350) .(1/15)
وتقدم أن ذكرنا قاعدة تتعلق بالأرقاء والأحرار « وأن الأصل فيما يتعلق بالعبادات البدنية المحضة يتساوى الأرقاء والأحرار إلا لدليل » ورؤية الهلال هذه من العبادات البدنية المحضة .
قوله [ فإن صامُوا بشَهادةِ واحدٍ (ثلاثينَ يَوْمًا) فتم الشهر ولم يُرَ الهلالُ ] :
فيقول المؤلف ~ لا يفطرون وعلى هذا يصومون يوماً أيضاً , يصومون واحد وثلاثين يوماً وهذا هو المشهور من المذهب (1) .
الرأي الثاني : رأي الشافعية رحمهم الله (2) أنهم إذا صاموا برؤية واحد (ثلاثين يوماً) فإنهم يفطرون .
ولكل من هذين الرأيين دليل :-
فالذين قالوا : لا يفطرون إذا صاموا برؤية واحد ثلاثين قالوا لئلا يلزم من ذلك خروج الشهر برؤية واحد وخروج الشهر إنما يكون برؤية اثنين .
ودليل الشافعية رحمهم الله ظاهر فإنهم أكملوا العدة ثلاثين يوماً والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له وهذا في الصحيحين (3) ونحن الآن أكملنا العدة وهذا القول هو الصواب حتى لو صاموا ثلاثين يوماً برؤية واحد .
وأما قولهم أنه يلزم من ذلك أن يخرج الشهر برؤية واحد نقول هذا الاستدلال فيه نظر من وجهين :-
الوجه الأول : أن عندنا قاعدة وهي :
« أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالاً » فلو سلمنا بهذا الدليل فنقول إنما خرج الشهر برؤية واحد تبعاً وليس استقلالاً يعني تبعاً لدخوله فدخوله إنما كان برؤية واحد فكذلك أيضاً الخروج يكون برؤية واحد .
يقول العلماء رحمهم الله : يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع .
الوجه الثاني : أن الشهر لم يخرج برؤية واحد وإنما خرج بإكمال العدة .
قوله [ أو صَامُوا لأَجْلِ غَيْمٍ لم يُفْطِروا ] :
__________
(1) انظر كشف القناع (2/351) .
(2) انظر مغني المحتاج (1/619) .
(3) تقدم تخريجه .(1/16)
هذا مبني على المذهب وتقدم أن المذهب إذا حال دون مطلع الهلال ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر فإنه يُضيَّق شعبان ويُجْعل تسعةً وعشرين يوماً .
فإذا حصل ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر ضيقنا شعبان وأصبحنا صائمين في اليوم الثلاثين من شعبان احتياطاً للعبادة ثم مضى ثلاثون يوماً ولم يُر الهلال فما الحكم هنا ؟
يقول المؤلف ~ : لا يفطرون لأن الصيام في أول الشهر لما كان في ليلة التاسع والعشرين غيم أو قتر إنما كان ذلك احتياطاً للعبادة والأصل بقاء رمضان حتى الآن لم يخرج وكوننا صمنا الثلاثين من شعبان هذا احتياطاً , وهذا الكلام مبني على تلك المسألة وتقدم لنا أن المسألة ضعيفة وهي أنه يجب الصوم في يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر فهذا الإيجاب ضعيف والصواب أنه لا يجب ولهذا هم يقولون احتياطاً للعبادة فقط يعني الديون والعقود والآجال والفسوخ المعلقة على دخول شهر رمضان لا تدخل هنا وإنما احتياطاً وتُصلَّى التراويح ليلة الثلاثين من شعبان إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر فإذا كان هناك عقود أو آجال....إلخ فإنها لا تدخل , فلو أن رجلاً قال لزوجته إذا دخل رمضان فأنت طالق فإنها لا تطلق بصيام ثلاثين من شعبان ولو أنه أقرض شخصاً قرضاً وقال : وقت الوفاء إذا دخل رمضان فإن هذا الدَيْن لا يحل..وهكذا لو عُلّق الخيار ونحوه فهذه كلها لا تدخل هنا وإنما نصوم يوم الثلاثين من شعبان احتياطاً للعبادة نصلي التراويح فقط ولكن الصواب أن الاحتياط هو اتباع السنّة , والزيادة على السنّة أو تعدي السنّة هذا ليس من الاحتياط .
قوله [ ومَن رأى وَحْدَه هلالَ رَمضانَ وَرُدَّ قولُه أو رأى هِلالَ شوَّالٍ صامَ ] :
تقدم أن هلال رمضان يدخل برؤية واحد ولا يشترط التعدد ولا الذكورة ولا الحرية وإنما يُشترط الأمانة والثقة على الخبر هذا هو الشرط الأول .(1/17)
الشرط الثاني : الإسلام , لوروده في حديث ابن عباس { فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي ( أتشهد أن لا إله الله.......) (1) الحديث فاشترط هذان الشرطان فقط .
فإذا رأى رجل هلال رمضان وذهب إلى القاضي ولم يُثبِت القاضي شهادته بدخول الشهر فما الحكم ؟
يقول المؤلف ~ : لزمه الصوم فهاتان مسألتان :
المسألة الأولى : رأى هلال رمضان وذهب إلى القاضي فلم يثبت القاضي شهادته فيقول المؤلف : يجب عليه أن يصوم وهذا قول أكثر أهل العلم رحمهم الله (2) ودليل ذلك قوله تعالى ژ ? ہ ہ ہ ہ ژ وهذا الآن شهد الشهر وكذلك حديث ابن عمر { قال - صلى الله عليه وسلم - : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته هذا أمر والأمر يقتضي الوجوب وهذا يشمل الواحد والجماعة .
الرأي الثاني : أنه لا يلزمه أن يصوم وهذه رواية عن الإمام أحمد ~ واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ (3) .
ودليل ذلك : حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون أخرجه أبو داود وحسنه الترمذي (4) فدل على أن الصيام المعتبر هو مع صيام الجماعة وشيخ الإسلام ابن تيمية ~ يبني هذا الكلام على مسألة وهي ما المراد بالهلال ؟ هل المراد ما ظهر في السماء أو المراد بالهلال ما ظهر عند الناس واشتهر عندهم ؟
شيخ الإسلام ابن تيمية ~ يقول : المراد بالهلال ما اشتهر عند الناس واستهل به الناس حتى وإن رؤي هلال السماء (5) .
أما الجمهور فيقولون المراد بالهلال ما ظهر في السماء وعلى هذا إذا رأى إنسان الهلال ورُدَّ قوله فعلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه يفطر وعلى رأي الجمهور يجب عليه أن يصوم .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) انظر الإنصاف (3/196) .
(3) انظر الإنصاف (3/196) والفتاوى (25/114) .
(4) تقدم تخريجه ص (11) .
(5) انظر الفتاوى (25/114-117) .(1/18)
وهذه المسألة يُقال فيها : أما إن كان منفرداً فلا إشكال أنه يجب عليه أن يصوم حتى عند سيخ الإسلام ابن تيمية ~ فإذا كان الإنسان منفرداً ورآه في صحراء أو في سفر فلا إشكال أن يصوم , أما لو أنه مع الناس في البلد ورُد قوله فالأقرب والأحوط ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله .
قوله [ أو رأى هِلالَ شوَّالٍ صام َ] :
هذه هي المسألة الثانية وهذا هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله إذا رأى هلال شوال ورُدّ قوله فإنه يصوم (1) .
الرأي الثاني : أنه إذا رأى هلال شوال ورُد قوله أنه يفطر وهذا هو مذهب الشافعية (2) رحمهم الله وأيضاً اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ (3) لكن عند شيخ الإسلام ابن تيمية ~ لا يفطر إلا إن كان وحده وإن كان مع الناس فإنه يصوم . فالمسألة فيها ثلاثة آراء :
الرأي الأول : يصوم .
الرأي الثاني : يفطر وهو قول الشافعية .
الرأي الثالث : التفصيل إن كان وحده أفطر وإن كان مع الناس فإنه يصوم .
ولكل منهم دليل :-
أما الذين قالوا بأنه يصوم كما ذهب إليه المؤلف ~ قالوا بأن الرؤية الشرعية لم تتحقق هنا لأن الرؤية الشرعية بالنسبة لخروج الشهر إنما تكون بشاهديْن وهنا رآه واحد فقط .
وأما الذين قالوا بأنه يفطر استدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته...) (4) وهذا رآه فيفطر .
__________
(1) انظر المصادر السابقة .
(2) انظر المصدر السابق .
(3) انظر المصدر السابق .
(4) تقدم تخريجه .(1/19)
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية ~ قال : يفطر إن كان وحده وأما إن كان مع الناس فإنه لا يفطر لكن إن كان وحده كما لو كان في صحراء أو في بر أو نحو ذلك ثم رأى الهلال فإنه يفطر لأنه لا يأخذ حكم الناس فقوله - صلى الله عليه وسلم - (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) هذا إن كان منفرداً . وقوله - صلى الله عليه وسلم - (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون) هذا إذا كان مع الناس فإنه يصوم لأن الناس يصومون وأما إذا كان لوحده فإنه يفطر لحديث ابن عمر { وفي هذا الجمع بين الرأيين وهذا الصواب . هذا ما يتعلق بالأمر الأول وهو رؤية الهلال .
الأمر الثاني : الذي يدخل به رمضان هو إكمال العدة أي عدة شعبان ثلاثين يوماً .
ودليل ذلك : ما تقدم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً) رواه البخاري (1) .
وأيضاً حديث ابن عمر { قال - صلى الله عليه وسلم - (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وهذا رواه البخاري (2) .
الأمر الثالث : الحساب الفلكي هل يثبت به دخول الشهر أو لا يثبت به ؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله :-
الرأي الأول : وهو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله عدم اعتبار الحساب الفلكي (3) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .
(3) انظر الفروع (4/412) ,وانظر قرارات مجمع الفقه بجدة ص(37,48) وقرارات المجمع الفقهي بمكة المكرمة ص(63,64,80) وفتاوى اللجنة الدائمة (6/114,10/88-112) ومجموع فتاوى ومقالات ابن باز ~ (15.68.121,127) ومجموع فتاوى ابن عثيمين ~ (19/36) .(1/20)
ودليل ذلك : ما تقدم لنا من حديث أبي هريرة وابن عمر } قال - صلى الله عليه وسلم - (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.....) والنبي - صلى الله عليه وسلم - علق الأمر بالرؤية ولم ينظر إلى الحساب الفلكي إما الرؤية أو إكمال العدة وأما ما يتعلق بالحساب الفلكي فإن الشارع لم يعوِّل عليه .
وأيضاً يدل لذلك حديث ابن عمر { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا أو هكذا وهكذا وهكذا ) (1) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - عقد الإبهام في الثالثة إما تسع وعشرون وإما ثلاثون وهذه لا شك أنها صريحة لما ذهب إليه جماهير أهل العلم رحمهم الله .
الرأي الثاني : اعتبار الحساب الفلكي مطلقاً وهذا ذهب إليه الشيخ أحمد شاكر ~ (2) .
الرأي الثالث : التفصيل في هذه المسألة فقالوا : يعتبر الحساب الفلكي جوازاً ليس وجوباً بشرط أن يكون ماهراً في الصنعة وهذا رأي السبكي ~ (3) .
أما الذين قالوا بأنه يعتبر الحساب الفلكي فاستدلوا بما تقدم من حديث ابن عمر { قال - صلى الله عليه وسلم - (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له) قوله (فاقدروا له) قالوا المراد بذلك قدّروا حسابه بمنازل القمر أي قدروا ولادته بمنازل القمر .
وأيضاً قالوا : بالقياس على الصلاة فالصلاة الآن لا بأس بالحساب فيها فالمؤذنون اليوم لا يراعون العلامات الأفقية فإذا أراد المؤذن أن يؤذن للظهر فإنه لا ينظر هل زالت الشمس أو لم تزل الشمس ولو أراد أن يؤذن للعصر لا ينظر هل صار ظل كل شيء مثله أو لا , وكذلك بالنسبة للمغرب والفجر يعتمدون عل الحساب فما دام الحساب يصح في الصلاة فكذلك يصح في الصيام .
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب الصوم [ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا نكتب ولا نحسب) ومسلم كتاب الصوم [ باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال.(1/21)
والأقرب في ذلك ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله ؛ لأن الأحاديث صريحة في ذلك .
وأما بالنسبة لحديث ابن عمر { قال - صلى الله عليه وسلم - فاقدروا له نقول السنة تفسر بعضها فالنبي - صلى الله عليه وسلم - بيّن هذا التقدير ما هو فهذا من التقدير وليس من القدْر الذي هو التضييق كما قال الحنابلة أو من تقدير منازل القمر كما هو الرأي الثالث , بل السنة يفسر بعضها بعضاً وأن المراد بذلك إكمال العدة كما قال - صلى الله عليه وسلم - فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً .
وأما القياس على مواقيت الصلاة فقد ذكر القَرَافِي ~ في كتابه الفروق الفرق بين الصلاة وبين الصيام ففي الصلاة قالوا بأن الشارع علّق الأمر على دخول الوقت وأن الإنسان يصلي إذا دخل الوقت وهذه أرجعها للمكلَّف يعني يعرف الوقت عن طريق الحساب أو الآلات أو النظر بالعين المجردة أو عن طريق العلامات الأفقية.....إلخ بخلاف الصيام فإن الشارع علق الأمر فيه على الرؤية .
ولهذا تُعرف محاسن الشريعة فالشريعة جعلت العبادات على أمور حسية مدرَكة للجميع ليس فيها تكلف ؛ كالغروب والزوال ومصير ظل كل شيء مثله هذا بالنسبة للصلوات وبالنسبة للإفطار والسحور ودخول رمضان جعلت العبادات معلقة بأمور حسية أفقية ظاهرة للجميع . وهذا من التيسير فتلخص لنا أن رمضان يدخل بواحد من أمور ثلاثة : إما رؤية الهلال , وإما إكمال العدة , وإما الحساب الفلكي وهذ الرأي- أي الحساب الفلكي- فيه نظر .
قوله [ ويَلْزَمُ الصومُ لكلِّ مُسلمٍ ] :
شرع المؤلف ~ في بيان من يجب عليه الصيام فيقول يشترط له شروط :-
الشرط الأول : الإسلام وعلى هذا فالكافر لا يصح صيامه وتقدم أن أشرنا كثيراً إلى أن الكافر يتوجه له خطابان : خطاب التكليف وخطاب الأداء .(1/22)
أما خطاب التكليف فهو مكلف ويُعذب على ذلك يوم القيامة وأما بالنسبة للأداء لا يؤمر بالأداء لأنه فاقد الأصل قال تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (1) وعلى هذا إذا أسلم الكافر في النصف من رمضان لا يجب عليه أن يقضي ما سبق لأنه ليس مخاطَباً به خطاب أداء في السابق وكذلك إذا أسلم في نفس اليوم نقول يمسك ولو أكل وصيامه صحيح ولا يجب عليه القضاء كما سيأتي إن شاء الله .
قوله [ مكلف ] :
المراد بالمكلف : البالغ العاقل وعلى هذا المجنون لا يصح منه الصوم ولا يجب عليه لأن القلم قد رُفع عنه كما في حديث عائشة وعلي (2) { والصغير لا يصح منه الصوم إذا لم يميز ولا يجب عليه حتى يكلف لكن قال العلماء رحمهم الله : يُستحب لولي الصبي أن يأمره بالصيام لسبع سنوات وأن يضربه على ذلك لعشر سنوات كالصلاة إذا كان يُطيق الضرب (3) .
وقوله [ ويلزم الصوم لكل مسلم ] : ذكر المؤلف ~ شرط كل من يجب عليه الصوم .
فالشرط الأول : أن يكون مسلماً ودليل ذلك قوله تعالى ژ ? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ژ وقوله {كُتِبَ} الضمير عائد على المسلم والخطاب توجه للمؤمن فدل ذلك على أن الكافر لا يجب عليه الصيام وسبق أن أشرنا إلى أن الكافر يتوجه له خطابان :
الأول : وجوب الأداء فهذا لا يجب عليه أن يؤدي قال تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ .
__________
(1) سورة التوبة الآية (54)
(2) وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق , وعن الصغير حتى يبلغ ) رواه أحمد وأبو داود كتاب الحدود [باب في المجنون يسرق أو يصيب حداً] والترمذي كتاب الحدود [باب في من لا يجب عليه الحد] وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه , وابن ماجة كتاب الطلاق [باب طلاق المعتوه والصغير والنائم] وصححه الحاكم .
(3) انظر كشف القناع (2/355) .(1/23)
الثاني : خطاب وجوب الأداء فإنه يأثم على عدم الصيام كما يأثم على عدم الإسلام ودليل ذلك قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ فلولا أن لتركهم الصلاة أثر ما ذكرها الله عز وجل وعلى هذا لو أسلم في آخر أو منتصف الشهر يجب أن يصوم ما بقي من الشهر وما مضى من الشهر لا يجب عليه ؛ وكذلك إذا أسلم في نفس اليوم نقول يجب عليه أن يمسك وأما بالنسبة لنفس اليوم فلا يجب عليه أن يقضي وهذا قول أبي حنيفة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه يمسك ولا يقضي وهو الصواب (1) .
والمذهب يمسك ويقضي (2) إذا أسلم في نفس اليوم ولا بد أن نفرق بين مسألتين :
المسألة الأولى : وجود شرط الوجوب .
المسألة الثانية : زوال المانع كما سيأتينا إن شاء الله تعالى .
هنا في مسألة إسلام الكافر : وجود شرط الوجوب فإذا وُجد شرط الوجوب فإنه يجب على الإنسان أن يمسك ولا يجب عليه أن يقضي حتى لو أكل في نفس اليوم .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ~ : أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم (3) وسيأتي إن شاء الله ما يدل على ذلك كما في حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً من أسلم ينادي في غداة عاشوراء أن من أصبح صائماً فليتم صومه ومن أصبح مفطراً فليمسك بقية يومه) (4) فهنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمساك بقية اليوم ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء مع أن صيام عاشوراء كان في أول الإسلام واجباً . فدل على أنه إذا وُجِد شرط الوجوب في أثناء النهار فإن الإنسان يمسك ولا يجب عليه أن يقضي ما سبق لأنه حتى الآن لم يُكلَّف بخلاف زوال المانع كما سيأتي إن شاء الله في الصور التي سيذكرها المؤلف ~ .
__________
(1) انظر مجمع الأنهر (1/234) والاختيارات ص(159) وزاد المعاد (2/72) .
(2) انظر كشف القناع (2/355) .
(3) تقدم ذكره .
(4) تقدم تخريجه .(1/24)
ومما يدخل في وجود شرط الوجوب إذا عقل المجنون فإنه على الصحيح يمسك ولا يجب عليه القضاء , لا يقضي ذلك اليوم حتى ولو أكل فيه ولا يجب أن يقضي ما فاته من الأيام .
أيضاً من المسائل الداخلة في وجود شرط الوجوب : إذا بلغ الصبي في أثناء النهار فنقول : يجب عليه أن يمسك ولا يجب عليه أن يقضي ؛ وكذلك ما فاته من الأيام التي أفطرها لا يجب عليه أن يقضي والدليل كما تقدم أن ذكرنا حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ولأنه حتى الآن لم يكلف .
ومن المسائل الداخلة أيضاً في وجود شرط الوجوب ما أشار إليه المؤلف ~ قال [وإذا قامت البَيِّنَةُ في أثناءِ النهارِ وَجَبَ الإمساكُ ] فهنا وُجِد شرط الوجوب في أثناء النهار فالصواب كما سيأتينا إن شاء الله يجب عليه أن يمسك ولا يجب عليه أن يقضي حتى ولو تناول مفطراً في أثناء النهار لأن شرط الوجوب لم يوجد إلا في هذا الوقت والآن حصل التكليف .
قوله [ مكلف ] هذا هو الشرط الثاني : أن يكون مكلفاً يعني يكون بالغاً عاقلاً وعلى هذا الصبي لا يجب عليه الصيام وكذلك المجنون لا يجب عليه الصيام ودليل ذلك حديث عائشة وحديث علي { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (رُفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم : المجنون حتى يفيق والصبي حتى يبلغ) (1) لكن ذكر العلماء فيما يتعلق بالصبي أنه يستحب أن يؤمر بالصيام إذا كان يطيقه لسبع سنوات وأن يضرب عليه لعشر سنوات كالصلاة (2) وألحق العلماء الصيام بالصلاة كأن الفائدة من أمره وضربه هو أن يتربى على هذه العبادة وأن لا تكن عليه شاقة إذا بلغ فإذا تمرن وتربى عليها واعتادها كانت سهلة إليه .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين , واضربوهم وهم أبناء عشر سنين وفرّقوا بينهم في المضاجع) أخرجه أبو داود كتاب الصلاة [ باب متى يؤمر الغلام بالصلاة ] .(1/25)
وكذلك بالنسبة للمجنون لا يجب عليه ولا يصح منه لأنه لا يعقل والنية يُشترط لها العقل .
مسألة : ما الفرق بين المعتوه والمجنون ؟
العته : نقص في العقل يصحبه خمول وسكون والجنون فقد للعقل يصحبه اضطراب وهيجان .
مسألة : هل يجب على المعتوه الصيام أو لا يجب عليه وهل يصح منه أو لا يصح؟
قسّم العلماء العته إلى قسمين :-
القسم الأول : عته لا إدراك معه فقالوا : هذا حكمه حكم المجنون يعني لا يجب عليه ولا يصح منه وهذا ليس خاصاً في الصيام كما سلف حتى في العبادات الأخرى كالصلاة والوضوء والغسل.........إلخ
القسم الثاني : عته معه إدراك وهذا الغالب على المعتوهين فهذا حكمه حكم الصبي المميز معنى ذلك أن العبادة تصح منه ويؤجر عليها لكنها لا تجب عليه .
قوله [ قادر ] :
هذا هو الشرط الثالث من شروط وجوب الصيام وعلى هذا إذا كان غير قادر على الصيام فإنه لا يجب عليه الصيام بالاتفاق . ودليل ذلك قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ژ والعجز عن الصيام كما سيأتي إن شاء الله ينقسم إلى قسمين :-
القسم الأول : عجز مستمر لا يرجى زواله .
القسم الثاني : عجز عارض يرجى زواله .
فالعاجز عجزاً عارضاً يفطر ويقضي عدة من أيام أخر كما قال تعالى ژ ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ژ .
القسم الثاني : من كان عاجزاً عجزاً مستمراً لا يُرجى زواله كالكبير والمريض الذي لا يُرجى زوال مرضه فهذا يجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً كما في قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ژ قال ابن عباس { وغيره ليست منسوخة إنما هي في الشيخ الكبير والمرأة العجوز إذا لم يطيقا الصيام فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً (1) .
وأنس - رضي الله عنه - لما كبر أفطر وأطعم ثلاثين مسكيناً (2) .(1/26)
الشرط الرابع : أن يكون مقيماً وعلى هذا إذا كان مسافراً لا يجب عليه الصيام بل له أن يفطر وسيأتي هل الأَوْلى أن يفطر أو يصوم في السفر ؟ سيأتي إن شاء الله بيانه , المهم يُشترط أن يكون مقيماً فإن كان مسافراً لا يجب عليه ودليل ذلك قوله تعالىژ ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ژ
الشرط الخامس : الخلو من الموانع فإذا وُجِد مانع يمنع صحة الصيام فإن الصيام لا يجب كالحيض والنفاس فالحائض والنفساء لا يجب عليهما الصيام .
قوله [ وإذا قامت البَيِّنَةُ في أثناءِ النهارِ وَجَبَ الإمساكُ والقضاءُ على كلِّ مَن صارَ في أثنائِه أَهلاً لوُجوبِه ] : ...
أي : لم تثبت البينة بدخول الشهر إلا في أثناء النهار .
مثال ذلك : جاء شهود إلى القاضي فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأثبت القاضي شهادتهما وحكم بدخول الشهر فما الحكم ؟
يقول المؤلف [ وجب الإمساك والقضاء ] : أما الإمساك فلقول الله تعالى ژ ? ہ ہ ہ ہ ژ ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عمر { وغيره (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) (1) ولما ذكرنا من الأدلة .
__________
(1) تقدم تخريجه .(1/27)
وأما القضاء فيجب , لأنه يجب في الصوم الواجب أن تبيّت النية من الليل وهنا لم يحصل تبييت للنية وفي حديث حفصة وعائشة { قال - صلى الله عليه وسلم - (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) (1) وهذا القول هو المشهور من المذهب وهو قول جمهور أهل العلم أن النية إذا قامت في أثناء النهار فإنه يجب الإمساك وكذلك يجب القضاء (2) .
الرأي الثاني : أنه إذا قامت البينة في أثناء النهار فإنه يجب الإمساك ولا يجب القضاء وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله (3) , ودليل ذلك ما تقدم من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أمر رجلاً من أسلم أن يؤذن في يوم عاشوراء أن من أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليتم صومه فإن اليوم عاشوراء) .
وجه الدلالة من ذلك ظاهرة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من لم يصم أن يصوم وصيامه في أثناء النهار ليس تبييتاً للنية من الليل وكان يوم عاشوراء فرض على المسلمين في أول الإسلام كما تقدم لنا في بيان مراتب الصيام وذكرنا المرتبة الأولى : صيام يوم عاشوراء .
__________
(1) أخرجه أبو داود كتاب الصوم [ باب النية في الصيام ] , والترمذي كتاب الصوم [ باب ما جاء لا صيام لمن لم يخرج من الليل وقال حديث لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه , والنسائي الصيام حديث (2332) , وابن ماجة كتاب الصيام [ باب ما جاء في فرض الصوم من الليل والخيار في الصوم ] , والإمام أحمد...... , والدارقطني (2/172) كتاب الصيام [ باب تبييت النية من الليل وغيره ]وقال تفرد بها عبدالله بن عباد عن المغفل بهذا الإسناد وكلهم ثقات , وصححه ابن حزم في المحلى كتاب الصيام (6/234) , والبيهقي كتاب الصيام [ باب وقت النية في صوم الفرض ] .
(2) انظر المصادر السابقة .
(3) انظر المصادر السابقة .(1/28)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~ : بأن النية تتبع العِلْم فإذا عُلِم الوجوب فإن الإنسان ينوي. وما يتعلق بقيام النية هذا يدخل تحت وجود شرط الوجوب .
قوله [ وكذا حائضٌ ونُفَسَاءُ طَهُرَتَا ] :
أي أنه يجب عليهما أن يمسكان وأن يقضيان وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله ومذهب أبي حنيفة ~ (1) .
أما بالنسبة لوجوب القضاء عليهما فهذا ظاهر بالإجماع وفي حديث عائشة < قالت (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) (2) .
أما الدليل على أنهما يمسكان :-
قالوا : احتراماً للزمن فإنه يجب عليهما أن يمسكان .
الرأي الثاني : يجب عليهما القضاء ولا يجب عليهما الإمساك وهذا هو قول الشافعية رحمهم الله (3) .
أما القضاء فهو ظاهر كما تقدم لنا الإجماع منعقد على ذلك . أما بالنسبة للإمساك فلا يجب إذ لا فائدة من الإمساك لأنها قد أكلت فلا تستفيد شيئاً والقضاء يجب عليها .
وأما قولهم احتراماً للزمن فهذا ليس ظاهراً لأنه من رُخِّصَ له أن يأكل في أول الزمن فله أن يأكل في آخره (4) والحائض والنفساء رخص لكل واحدة منهما أن تأكل فإذا طهرت فلا يجب عليها أن تُمسك .
وقد ورد عن ابن مسعود في البيهقي وإن كان في إسناده نظر (من أكل في أول النهار فله أن يأكل في آخره) (5) وطهارة الحائض والنفساء هذا من باب زوال المانع وليس من باب وجود شرط الوجوب . فنقول : يجب عليهما أن يقضيا أما الإمساك فلا يجب .
أما وجود شرط الوجوب فقد سبق لنا أنه إذا وُجد فإنه يجب الإمساك ولا يجب القضاء وهنا يجب القضاء ولا يجب الإمساك ؛ أي أن زوال المانع عكس وجود شرط الوجوب .
قوله [ومسافرٌ قَدِمَ مُفْطِرًا ] :
__________
(1) انظر بدائع الصنائع (2/102) .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر المجموع (6/208) .
(4) والقاعدة [ ما ترتب على المأذون فغير مضمون ] .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3/54) .(1/29)
أي يجب عليه أن يمسك والخلاف في هذه المسالة كالخلاف في المسألة السابقة وقدوم المسافرين من باب زوال المانع فنقول المسافر إذا زال مانع السفر الذي أباح له الفطر فإنه يجوز له أن يأكل ولا يجب عليه أن يمسك أما القضاء فيجب عليه بالإجماع والقرآن صريح في ذلك قال تعالىژ ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ژ , أما بالنسبة للإمساك فهو على الخلاف السابق وذكرنا أن الصواب لا يجب عليه أن يمسك لعدم الدليل على ذلك . وأما قولهم (احترام الزمن) فهذا فيه نظر فإن احترام الزمن لم يحصل فالإنسان أُبِيح له أن يفطر في أول النهار فكذلك أيضاً يُباح له أن يأكل في آخر النهار .
وقول المؤلف ~ ( ومسافر قدم مفطراً ) يُفهم من ذلك أنه لو قدم صائماً فإنه يجب عليه أن يمسك وهذا هو الصواب يعني لو أن المسافر قدم صائماً فإنه يجب عليه أن يمسك ولا يجوز أن يفطر لأن السبب الذي يبيح له الفطر قد زال وهذه مسألة تخفى على بعض الناس وخصوصاً ما يتعلق بالصلاة . تجد أن بعض الناس يقدم البلد وفي نيته أن يجمع جمع تأخير فيقْدُم البلد في وقت الأولى ثم بعد ذلك يؤخر الأولى إلى وقت الثانية فهذا خطأ لأنه لما قدم البلد الآن زال سبب الجمع الذي يبيح له أن يجمع فيجب عليه إذا قدم البلد وهو لم يصل الأولى في وقتها يجب عليه أن إلى فعل هذه الصلاة في وقتها ولا يؤخرها عن وقتها .
كذلك إذا قدم مسافراً وهو صائم يجب عليه أن يتم صومه ولا يجب عليه القضاء لاستكمال شرطه .
كذلك إذا بَرِأ المريض فإنه كالمسافر يجب عليه الإمساك والقضاء أما القضاء فالإجماع قائم على ذلك والقرآن صريح ژ ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ژ وأما بالنسبة للإمساك فيقولون احتراماً للزمن والصواب أنه يجب عليه القضاء ولا يجب عليه الإمساك ويُفهم أيضاً من ذلك أنه لو برئ وهو صائم يجب عليه أن يتم صومه وكذلك بالنسبة للصغير إذا بلغ يجب عليه أن يمسك ولا يجب عليه أن يقضي لأن هذا داخل في وجود شرط الوجوب.(1/30)
قوله[ ومَن أَفْطَرَ لكِبَرٍ أو مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُه أَطْعَمَ لكلِّ يومٍ مِسكينًا ] :
هذا بيان للشرط السابق فإن المؤلف ~ اشترط فيمن يجب عليه الصوم أن يكون قادراً وعلى هذا إذا كان غير قادر فإنه لا يخلو من أمرين :-
قال المؤلف ~ (ومَن أَفْطَرَ لكِبَرٍ أو مَرَضٍ لا يُرْجَى بُرْؤُه أَطْعَمَ لكلِّ يومٍ مِسكينًا) هذا هو القسم الأول .
فالعجز عن الصيام له قسمان :-
القسم الأول : أن يكون عجزاً دائماً لا يُرجى زواله كالكبير فالكبر لا يرجى زواله والمريض مرضاً لا يرجى زواله هذا يعرف عن طريق الطب فحكمه أنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً ودليل ذلك قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ?? ژ قال ابن عباس { ليست منسوخة وإنما هي في الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذين لا يطيقان الصيام فإنهما يفطران ويطعمان عن كل يوم مسكيناً (1) وكذلك هو وارد عن الصحابة غير ابن عباس { كأبي هريرة وابن عمر } في البيهقي (2) وأنس - رضي الله عنه - في البخاري (3) وهذا ما عليه جماهير أهل العلم رحمهم الله (4) خلافاً للإمام مالك ~ (5) فالمالكية رحمهم الله يقولون يفطر ولا يطعم كالمريض فالمريض يفطر ولا يطعم لكن الصحيح أن هناك فرقاً بينهما فالمريض يجب عليه القضاء وهذا لا يجب عليه القضاء وأيضاً هو الوارد عن الصحابة } .
قوله ( أطعم لكل يوم مسكيناً ) : لم يبين المؤلف ~ كيفية الإطعام وما هو الإطعام وما هو جنس الإطعام .
__________
(1) أخرجه البخاري (8/28) الحديث (4505) ومعناه عن ابن عباس عن أبي ليلى عن معاذ ولم يدركه ابن أبي ليلى , رواه أحمد في مسنده (24/22) .
(2) انظر سنن البيهقي (4/270) .
(3) وأيضاً جاء عند الدارقطني (2/207) وصححه الألباني في «الإرواء» (4/21) أن أنساً - رضي الله عنه - عندما كبر كان يجمع ثلاثين فقيراً ويطعمهم خبزاً وأدماً .
(4) انظر فتح القدير (2/356) والمجموع (6/211) والإنصاف (3/202) . .
(5) انظر المدونة (1/211) .(1/31)
المذهب (1) يقولون : ما يجزئ في كفارة اليمين , والذي يجزئ في كفارة اليمين وكذا الظهار والوطء في نهار رمضان........إلخ هو مُدّ بر أو نصف صاع من غيره والذي غير البر هو ما في الفطرة وهو خمسة أشياء : الشعير والتمر والأَقِط والزبيب . هذا هو المشهور من المذهب .
أما الحنفية رحمهم الله يقولون : نصف صاع من بر أو صاع من غيره (2) .
والمالكية والشافعية يقولون : مد لكل مسكين (3) ؛ والصواب في هذه المسألة أن الإطعام لم يَرِد حدّه في الشرع وإنما يُحدّ بالعرف لأن الله تعالى قال في كفارة اليمين ژ ? ? ? ? ?ژ وقال تعالى ژ ? ? ? ? ? ?? ژ ولم يبين الله عز وجل قدر ذلك . وآثار الصحابة } في كفارة اليمين مختلفة هل هو مد أو مدان فإذا تعارضت آثار الصحابة } فإنه يُصار إلى ظاهر الكتاب والسنة , وظاهر الكتاب والسنة أنه لم يرد التحديد. وعلى هذا نقول الإطعام له كيفيتان :-
الكيفية الأولى : التمليك وذلك بأن يعطيهم حَباً وقدر الحب لم يرد فيُرجع للعرف فلو أعطى كيلو براً أو أرزاً مما يطعمه الآدميون فإن هذا مجزئ .
الكيفية الثانية : الإطعام بدون تمليك وذلك بأن يطبخ طعاماً ويطعمه المساكين فالمشهور من المذهب لا يجزئ , فلو أطعم المساكين بأن غدّاهم أو عشاهم قالوا بأنه لا يجزئ لأن الوارد عن الصحابة } في كفارة اليمين مد (4) .
__________
(1) انظر الإنصاف (3/202) .
(2) انظر كشف القناع (2/356) .
(3) انظر المصدر السابق .
(4) انظر كشف القناع (2/356) .(1/32)
الرأي الثاني : أنه لو غداهم أو عشاهم أجزأ ذلك وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ ومذهب الحنفية (1) رحمهم الله لعموم قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ?? ژ وكذلك ورد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - فإن أنساً أطعم لما كبر عاماً أو عامين خبزاً أو لحماً (2) وأفطر , فالصواب أن الإفطار له هاتان الكيفيتان إما أن يُمَلِّك حباً وإما أن يطعمهم بلا تمليك .
وجنس المخرج من غالب قوت الآدميين كما تقدم لنا في زكاة الفطر . هذا بالنسبة للقسم الأول .
القسم الثاني : المريض الذي يُرجى برؤه يعني أن عجزه عارض وليس دائماً مستمراً هذا يجب عليه أن يقضي ولو بعد سنة أو سنتين........إلخ لقوله تعالى ژ ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ژ .
قوله [ وسُنَّ لمريضٍ يَضُرُّه، ولمسافرٍ يَقْصُرُ ] :
أي : يسن للمريض إذا كان الصوم يضره أن يفطر وهذا فيه نظر يعني كون الصوم يضره لا نقول بأن الفطر مسنون . وعلى هذا نقول بأن الصواب للمريض ينقسم إلى أقسام :-
القسم الأول : أن يكون يسيراً لا يتأثر به المريض إذا صام ولا يشق عليه فنقول هنا يجب الصيام .
مثال ذلك : لو كان عند الإنسان كسر في إصبعه أو زكام أو صداع يسير ونحو ذلك فكونه يصوم أو يفطر فإن الأمر عنده سيّان فيجب عليه الصيام لقوله - صلى الله عليه وسلم - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (3) وإن خالف بعض أهل العلم في ذلك أخذاً بعموم قوله تعالىژ ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ژ فهذه المخالفة فيها نظر لأن الشارع إنما رخّص بالإفطار درءاً للضرر والمشقة أما بالنسبة للأشياء اليسيرة فهذه وجودها كعدمها .
__________
(1) يأتي إن شاء الله ذكره .
(2) سبق ذكره .
(3) سبق تخريجه .(1/33)
القسم الثاني : أن يكون المرض يضره فهذا يجب عليه أن يفطر لقوله تعالى ژ ? ? ہ ہ ہ ژ وأيضاً من القواعد المقررة « لا ضرر ولا ضرار » , « الضرر يزال » ولهذا نفهم أن قول المؤلف ~ (يسن لمريض يضره) أن فيه نظر بل الصواب أنه يجب أن يفطر إذا كان يلحقه ضرر كأن يزيد الصيام في المرض أو يؤخر البرء أو يؤدي إلى الهلاك كأن يستفحل المرض ونحو ذلك فنقول يجب عليه أن يفطر .
القسم الثالث : أن يشق عليه ولا يضره أي في درجة بين الدرجتين السابقتين يعني لا يلحقه ضرر وليس يسيراً لا تحصل معه مشقة وإنما يلحقه بالصوم مشقة فهل الأفضل للإنسان أن يصوم أو يفطر . هذا موضع خلاف والأقرب والأفضل أن يفطر لأن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ولأنه خروج من رخصة الله وتعذيب الإنسان لنفسه .
قوله [ ولمسافرٍ يَقْصُرُ ]: يُفهم من كلام المؤلف ~ أن المسافر يُسن له أن يفطر مطلقاً سواء شق عليه الصيام أو لم يشق عليه وسواء ضره أو لم يضره (1)
الرأي الثاني : أن الصوم أفضل وهو رأي أكثر أهل العلم رحمهم الله ولكل منهم دليل (2) .
ونقول بأن هذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :-
القسم الأول : أن يحصل بالصوم في السفر ضرر ومشقة شديدة فنقول : لا يجوز الصيام ويدل لهذا حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له إن الناس قد شق عليهم الصوم وهم ينظرون ما تصنع أفطر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيل له إن بعض الناس لم يفطر فقال - صلى الله عليه وسلم - (أولئك العُصاة أولئك العصاة) (3) ولا تكون المعصية إلا على ذنب .
__________
(1) وهو المذهب انظر الإنصاف (3/203) والفروع (4/440) .
(2) انظر فتح القدير (2/351) ومواهب الجليل (2/401) وروضة الطالبين (2/37) .
(3) أخرجه مسلم في الصيام [ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية (1114) ] .(1/34)
القسم الثاني : أن تلحقه مشقة ليست شديدة وإنما هي محتملة فنقول : السنة أن يفطر لأن الإنسان يعذّب نفسه ولأنه خروجاً عن رخصة الله عز وجل .
القسم الثالث : أن يتساوى الأمران الإفطار والصوم فالمؤلف ~ يرى الإفطار والجمهور يرون الصوم ولكل منهم دليل :-
أما الجمهور فاستدلوا على تفضيل الصيام بدليلين :
الدليل الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام في السفر كما في حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - في الصحيحين قال (خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبدالله بن رواحة - رضي الله عنه - ) (1) .
الدليل الثاني : أن كون الإنسان يصوم مع الناس فإن هذا أنشط وأبرأ لذمته (2) .
الرأي الثاني : أن السنة الإفطار وهو المذهب واستدلوا على ذلك بما تقدم من حديث جابر - رضي الله عنه - في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( ليس من البر الصوم في السفر ) (3) والأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله أن الأولى أن يصوم لما تقدم لأنه أبرأ لذمته وأنشط له وأسرع له في أداء العبادة ولا يلحقه مشقة .
قوله [ وإن نَوَى حاضرٌ صومَ يومٍ ثم سافرَ في أثنائِه فَلَه الفِطْرُ ] :
إذا شرع المكلف في الصيام ثم بدا له أن يسافر بعد أن شرع في الصوم .
مثال ذلك : رجل صام ثم بعد ذلك بدا له أن يسافر فخرج في أثناء النهار بعد الظهر أو العصر هل يفطر أو لا . يقول المؤلف ~ (4) أن له الإفطار .
والدليل على ذلك : عموم قوله تعالى ژ ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ژ وهذا مسافر فله أن يفطر .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم (1945) ومسلم في الصيام [ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر (1122) ] .
(2) انظر الشرح الممتع (6/343) .
(3) تقدم تخريجه .
(4) سبق بيانه .(1/35)
الرأي الثاني : رأي جمهور أهل العلم (1) بأنه ليس له أن يفطر لأنه ابتدأ الصيام في حال الحضر فلم تثبت له رخصة السفر كما لو اجتمع مبيح وحاظر فإنه يغلب جانب الحظر . والصواب ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله .
ويدل لهذا حديث جابر - رضي الله عنه - وهو نص في المسألة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى مكة عام الفتح وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - كراع الغميم قيل له إن الناس قد شق عليهم الصيام فأفطر النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) فالصواب أن الإنسان إذا خرج له أن يفطر , لكن إذا خرج تحيّلاً على الإفطار نقول : ليس له ذلك معاملة له بنقيض قصده فلو أفطر يجب عليه أن يمسك لأن الحيل لا تبيح المحرمات ولا تسقط الواجبات .
مسألة : نحن ذكرنا أن الإنسان إذا سافر فله أن يفطر , هل له أن يفطر وهو في البلد أم لا ؟ نقول : هذا موضع خلاف :
الرأي الأول : أكثر أهل العلم أنه ليس له أن يترخص سواء كان في الإفطار أو في الصلاة في القصر والجمع حتى يخرج من البلد (3) واستدلوا على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُحفظ عنه الترخص داخل البلد فلم يقصر ولم يفطر داخل البلد - صلى الله عليه وسلم - ففي حجة الوداع صلى عليه الصلاة والسلام في المدينة أربعاً ثم خرج إلى ذي الحليفة فصلى فيها ركعتين (4) .
وأيضاً في فتح مكة كما تقدم في حديث جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج وهو مسافر صائم ولم يفطر حتى بلغ كراع الغميم .
وأيضاً قوله تعالى ژ ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ژ والذي داخل البلد ليس على سفر وإنما هو على نية السفر والذي رُخّص له هو من كان على سفر .
__________
(1) سبق بيانه .
(2) أخرجه مسلم في الصيام [ باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية ] .
(3) انظر المغني (4/247) .
(4) سبق ويأتي في صفة الحج إن شاء الله .(1/36)
الرأي الثاني : ذهب إليه طائفة من السلف كالحسن البصري وعطاء (1) قالوا : له أن يترخص واستدلوا بأنه وارد عن أبي بَصْرَة - رضي الله عنه - فإن أبا بصرة ركب السفينة فلم يتجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة فقيل له في ذلك فقال ( أترغب عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ) رواه أبو داود (2) .
والجواب عنه سهل أجاب عنه ابن قدامة (3) ~ قال : بأن المراد بقوله لم يتجاوز البيوت المراد لم يتجاوز البيوت بالبصر وليس بالبدن وهذا هو الظاهر لأنه ركب السفينة ولا شك أنه إذا ركب السفينة يكون تجاوز البيوت خصوصاً في الزمن السابق .
ولو خرج الإنسان عن البيوت ولو كان يراها فله أن يترخص فنقول : حتى لو ثبت ذلك فالمراد لم يتجاوز ببصره حتى الآن وهو قريب منها وهذا هو الظاهر.
ونأخذ من فعل أبي بصرة - رضي الله عنه - أنه لا يُشترط للإنسان أن يقطع المسافة بل له أن يترخص وإن لم يقطع المسافة وذلك إذا خرج خارج البلد .
وأيضاً قالوا _أي أصحاب الرأي الثاني_ : أنه وارد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه لبس ثياب السفر ثم بعد ذلك دعا بطعام وأكل ثم ركب. وهذا حسنه الترمذي (4) .
والجواب عن ذلك :-
أولاً : الأثر فيه كلام .
ثانياً : إن ثبت فالمراد بذلك أنه أكل بعد أن تجاوز البنيان ويكون له محل خارج البنيان فأكل فيه أنس - رضي الله عنه - وهذا جائز .
قوله [ وإن أَفْطَرَتْ حاملٌ أو مُرْضِعٌ خَوفًا على أنفسِهما قَضَتَاهُ فقطْ، وعلى وَلَدَيْهما قَضَتَا وأَطْعَمَتَا لكلِّ يومٍ مِسكينًا ] :
بالنسبة للحامل والمرضع لهما ثلاث حالات :-
__________
(1) انظر عارضة الأحوزي (4/15) ونيل الأوطار (4/257) .
(2) رواه أبو داود رقم (2412) والبيهقي (4/247) وصححه الألباني في الإرواء (4/63) .
(3) انظر المغني (4/347) .
(4) انظر التخريج السابق وصححه ابن العربي في العارضة (4/15) .(1/37)
الحالة الأولى : أن تفطر الحامل والمرضع خوفاً على نفسيهما فيجوز لهما الإفطار بالاتفاق لأنهما كالمريض , والله تعالى قال ژ ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ژ ويجب عليهما القضاء عند جمهور أهل العلم (1) .
أما الإفطار فكما تقدم من قوله تعالى ژ ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ژ , وأما القضاء فقوله تعالى ژ چ چ ? ? ژ يعني الواجب عدة من أيام أخر .
وذهب بعض أهل العلم كسعيد بن المسيب وابن حزم رحمهم الله بأنه لا قضاء عليه (2) وهذا فيه نظر :
أما الاستدلال بحديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله عز وجل وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم (3) فأخذوا من هذا أن الحامل والمرضع لا يجب عليهما الصوم لا قضاء ولا أداء .
وهذا الجواب عنه سهل فنقول : المراد بوضع الصوم هنا جواز الإفطار وأنه لا يجب عليهما أن يصوما هذا هو الصواب .
ويدل لهذا أن إيجاب القضاء وارد عن الصحابة } كابن عمر وابن عباس (4) }
الحالة الثانية : أن تخاف الحامل والمرضع على نفسيهما وولديهما جميعاً فالحكم في هذه المسألة كالحكم في المسألة السابقة أنه يجوز لهما الإفطار ويجب عليهما القضاء لما تقدم من الأدلة .
الحالة الثالثة : هي التي أشار إليها المؤلف ~ وهي التي يجب فيها الإطعام على المذهب إذا كانتا تخافان على الولدين لا على نفسيهما فقال المؤلف ~ قضتا وأطعمتا .
أما القضاء فظاهر لما تقدم من قوله تعالى ژ ? ? ? ?? چ چ چ چ ? ? ژ ولكن هل يجب الإطعام ؟
__________
(1) انظر بدائع الصنائع (2/97) وأسهل المدارك (1/427) والمجموع (6/222) .
(2) انظر المحلى (6/263) ونيل الأوطار (4/258) .
(3) رواه الترمذي في الصوم [ باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع ] وحسنه رقم (715) وأبو داود رقم (2408) وابن ماجة رقم (1667) والنسائي (4/190) وأحمد (4/347) و(5/29) .
(4) انظر سنن البيهقي (4/230) ومصنف عبدالرزاق (4/218) .(1/38)
المؤلف ~ قال : [ وأطعمتا لكل يوم مسكيناً ] هذا هو ما ذهب إليه المؤلف ~ وهو أيضاً قول الشافعية رحمهم الله (1) .
الرأي الثاني : قول الحنفية رحمهم الله لا يجب الإطعام (2) .
أما الذين أوجبوا الإطعام قالوا بأنه ورد عن ابن عباس { أنه قال :
( والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا ) (3) .
والذين قالوا بأنه لا يجب الإطعام استدلوا بحديث أنس - رضي الله عنه - ( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل والمرضع الصوم ) (4) ولم يرد فيه إيجاب الإطعام . ولا شك أن الإطعام ورد عن ابن عباس { وأيضا ابن عمر { وهو أحوط .
قال العلماء رحمهم الله : والإطعام يجب على من يمون الولد أي الذي يجب عليه أن ينفق على هذا الولد يجب عليه أن يطعم عنه (5) .
والكلام في الإطعام كالكلام في إطعام من لا يرجى برؤه كالكبير والمريض يعني ما يتعلق بما يُطعِم وجنس المُخْرج وقدر الإخراج وهل يعتبر التمليك أو لا يعتبر . تقدم ذلك .
قوله [ ومَن نَوَى الصومَ ثم جُنَّ ] :
إذا جُن كل النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس نقول : صيامه غير صحيح .
مسألة : هل يجب عليه القضاء أو لا ؟ نقول لا يجب عليه القضاء لأنه غير مكلف وقد تقدم لنا أنه يُشترط للقضاء التكليف وهذا غير مكلف فلا يجب القضاء ولا يصح صومه . ونقول : إن المجنون له حالات :-
الحالة الأولى : أن يُجن كل النهار فهذا لا يصح صومه ولا قضاء عليه .
الحالة الثانية : أن يُجن بعض النهار فنقول صيامه صحيح فلو كان إنسان صحيح ثم جن بعض النهار مثل بعض الناس الذين يصيبهم حالات عقلية أو صرع فيزول أو يُغطى على عقولهم.....إلخ فالصواب أن صيامه صحيح ولا يُبطل الصيام بالجنون ولا يُطالب بالقضاء .
__________
(1) انظر المصادر السابقة .
(2) انظر المصادر السابقة .
(3) انظر التخريج السابق .
(4) تقدم تخريجه قريباً .
(5) انظر كشاف القناع (2/361,360) .(1/39)
الحالة الثالثة : إذا جُن ثم أفاق من جنونه في أثناء النهار نقول يجب عليه أن يمسك ولا يجب عليه القضاء ولو تناول مفطراً فهذا القول كما سلف هو الصواب .
قوله [ أو أُغْمِيَ عليه جميعَ النهارِ ولم يُفِقْ جزءًا منه لم يَصِحَّ صَوْمُه ] :
أيضاً بالنسبة للمغمى عليه له حالات :-
الحالة الأولى : أن يُغمى عليه جميع النهار فهذا نقول بأن صيامه غير صحيح لكن يجب عليه القضاء باتفاق الأئمة (1) .
واعلم أن هناك فرق بين المجنون والمغمى عليه لأن المجنون فقد العقل الذي يقوم به التكليف بخلاف المغمى عليه لأنه لم يفقد العقل بل لا يزال باقياً وإنما غطى عليه .
فإذا أغمى عليه كل النهار يجب عليه أن يقضي ولا يصح صومه .
الحالة الثانية : أن يغمى عليه في أثناء النهار أي : صام ثم بعد ذلك أغمي عليه بقية النهار فنقول بأن صيامه صحيح مادام أنه لم يتناول مفطراً .
الحالة الثالثة : أن يكون مغمى عليه ثم يفيق فهذا إن كان نوى في الليل فإن صيامه صحيح وإن لم ينو فلا يصح صومه ؛ لأن الصوم الشرعي الإمساك مع النية فلا يضاف للمغمى عليه وهذا رأي الجمهور . والأقرب كما سيأتينا إن شاء الله رأي المالكية وأنه تكفي نية واحدة في أول الشهر وعلى هذا فإذا نوى في أول الشهر ثم أغمي عليه ثم أفاق في جزء من النهار فصيامه صحيح فلا يحتاج أن ينوي كل ليلة .
مسألة : وعلى هذا الرأي لو أنه أغمي عليه ولم ينو واستمر مغمى عليه ثم أفاق نقول : بأنه يمسك وصيامه صحيح ما دام أنه لم يتناول مفطراً .
قوله [ لا إن نامَ جميعَ النهارِ ] :
__________
(1) انظر البحر الرائق (2/312) وشرح الخرشي (2/248) ونهاية المحتاج (3/177) والمغني (4/343) .(1/40)
لو أن شخصاً نام جميع النهار فإن صيامه صحيح والعلة في ذلك : أن النوم عادة ولا يزول به الإحساس بالكلية . فرق بينه وبين المغمى عليه فإن المغمى عليه لا يستيقظ إذا أوقظ والنائم يستيقظ إذا أوقظ . والمغمى عليه غُطّي على عقله والمجنون فقد عقله . هذه الفروق بين هؤلاء الثلاثة .
قوله [ ويَلْزَمُ الْمُغْمَى عليه القضاءُ فقط ] :
هذا كما ذكرنا باتفاق الأئمة رحمهم الله وقوله [ فقط ] يعني بخلاف المجنون فالمجنون لا يجب عليه القضاء وتقدم هذا .
يعني إذا جن كل النهار لا يجب القضاء وإذا أغمي عليه كل النهار يجب عليه أن يقضي .
قوله [ ويَجِبُ تَعيينُ النِّيَّةِ من الليلِ لصومِ كلِّ يومٍ واجبٍ ، لا نِيَّةِ الفَرْضِيَّةِ ] :
النية في الصوم لا تخلو من أمرين :-
الأمر الأول : أن تكون للصوم الواجب .
الأمر الثاني : أن تكون النية للصوم التطوع .
المذهب إذا كان الصوم واجباً فلا بد أن ينوي لهذا الصوم كل ليلة من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
وعلى هذا يجب عليك أن تنوي في رمضان تسعة وعشرين مرة أو ثلاثين مرة ومحلها من غروب الشمس إلى طلوع الفجر فلو نويت قبل غروب الشمس فهذا لا عبرة به .
وعلى هذا لو أن الإنسان نام من قبل الغروب إلى طلوع الفجر ثم استيقظ فلا يصح صومه لأنه لم ينو . هذا ما ذهب إليه المؤلف ~ , وكذلك قال به الشافعية رحمهم الله (1) .
ودليلهم حديث عائشة وحفصة { قال - صلى الله عليه وسلم - من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له (2) .
__________
(1) انظر الأم (2/95) والإنصاف (3/209) .
(2) أخرجه أبو داود في الصوم (2/329) رقم (2454) والترمذي حديث (730) والنسائي (4/196) وابن ماجة حديث (1700) والإمام أحمد في المسند (10/166) حديث (26519) والدارمي (2/12) حديث (1698) ومالك في الموطأ (1/288) حديث (5) .(1/41)
الرأي الثاني : أن رمضان تكفيه نية في أول الشهر (1) فإذا نوى في أول الشهر فإن هذه كافية ما لم يقطع ذلك بسفر أو مرض فإن قطع ذلك الصيام بسفر أو مرض فلا بد أن يجدد النية .
والعلة في ذلك : أن رمضان عبادة واحدة فتكفي فيه نية واحدة لحديث عمر - رضي الله عنه - قال - صلى الله عليه وسلم - ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ) (2) وهذا القول هو الصواب
ويظهر أثر الخلاف إذا نام كل الليل .
مثال ذلك : إنسان نام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر ثم استيقظ فعند الشافعية والحنابلة لا يصح صيامه لا بد أن ينوي من الليل وعند المالكية يرون أن صيامه صحيح .
أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية ~ تقدم أنه يقول بأن النية تتبع العلم (3) أي يصح أن ينوي حتى من النهار إذا لم يعلم بدخول الشهر فعلم فنقول ينوي من النهار .
فأصبح عندنا رأي الإمام مالك تكفي نية واحدة وأيضاً رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه تستمر النية إذا لم يعلم الإنسان بدخول الشهر إلى العلم بدخوله .
وقوله [ لصومِ كلِّ يومٍ واجبٍ ] :
كل يوم من أيام رمضان يجب عليك تنوي لأن كل يوم عبادة مفردة فتجب له نية مفردة ومثل ذلك : الصيام الواجب غير رمضان مثل : لو نذر الإنسان الصيام فيجب عليه أن ينوي من الليل .
مثال ذلك : إنسان عليه كفارة يمين أو كفارة قتل.....إلخ يجب عليه أن ينوي من الليل .
وأما الإمام مالك ~ يقول : كل صوم متتابع تكفي فيه نية واحدة .
والصيام المتتابع مثل صيام الكفارة للوطء في نهار رمضان وكفارة القتل وكفارة اليمين نقول : تكفي نية واحدة ما لم يقطع ذلك بمرض أو سفر أو حيض أو غير ذلك مما يبيح الفطر فإنه يجب عليه أن يجدد النية .
وقوله [ لا نِيَّةِ الفَرْضِيَّةِ ] :
أي: لا يشترط أن ينوي صوماً واجباً أو صوماً مفروضاً لأن التعيين يجزئ من نية الفرضية .
__________
(1) انظر الشرح الصغير (1/244) .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر الاختيارات .(1/42)
قوله [ ويَصِحُّ النفْلُ بنِيَّةٍ من النهارِ قبلَ الزوالِ وبعدَه ] :
النفل ينقسم إلى قسمين :-
القسم الأول : أن يكون النفل مطلقاً غير معين هذا تكفي فيه النية في كل النهار حتى لو أن الإنسان نوى قبل غروب الشمس بلحظات نقول صح ذلك .
مثال ذلك : لو أن إنسانًا استغرق في النوم من الليل إلى العصر وقبل غروب الشمس استيقظ ثم نوى فنقول : صيامه صحيح .
ودليل ذلك : ما تقدم من حديث عائشة < أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل ذات يوم فقال ( هل عندكم شيء ؟ ) فقالت :لا فقال ( إني إذن صائم ) أخرجه مسلم (1) , وفي لفظ ( إني إذن أصوم ) وهذا دليل على أنه تصح النية من النهار والأجر يكون من حين النية ونشترط أن لا يكون تناول مفطراً فإن تناول مفطراً فإنه لا يصح صومه .
القسم الثاني : أن يكون الصيام معيناً كصيام يوم عرفة ويوم عاشوراء ويوم الإثنين وغير ذلك من الأيام التي يُستحب صيامها كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
فالمذهب أن الحكم واحد لا يفرقون بين المطلق والمعين فيصح أن تنوي صيام يوم عاشوراء من نصف النهار أو من العصر وصيام عرفة كذلك وهذا أيضاً قول الشافعية رحمهم الله (2) بأنه لا فرق بين المطلق والمعين .
الرأي الثاني : رأي الإمام مالك ~ لا بد أن تنوي من الليل بل إن المالكية يقولون : حتى النفل المطلق لا بد أن تنويه من الليل (3) .
أيضاً الحنفية رحمهم الله يقولون : كذلك لا بد من الليل إلا أن الحنفية يقولون يمتد إلى الضحى (4) .
ويستدلون بما تقدم من حديث حفصة وعائشة { قال - صلى الله عليه وسلم - من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له (5) .
والصواب في هذه المسألة التفصيل :-
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيام حديث (1154) .
(2) انظر روضة الطالبين (2/352) وكشاف القناع (2/364) .
(3) انظر الفواكه الدواني (1/353) .
(4) انظر مجمع الأنهر (1/232)
(5) تقدم .(1/43)
أما بالنسبة للأجر المقيد فلا بد أن تنوي من الليل وأما الأجر المطلق فيصح من النهار .
قال - صلى الله عليه وسلم - في صوم يوم عرفة ( تكفر سنتين ) (1) فإذا أردت أن تنال تكفير سنتين فإنك تنوي من الليل أما إن أردت مطلق الأجر دون هذا الأجر المقيد فيكون لك نفل مطلق فلا بأس أن تنوي من النهار وهذا القول هو الصواب ويصح للإنسان أن ينوي من النهار حتى صوم يوم عرفة لكن فاته المقيد وله مطلق الأجر لأنه إذا صام بعد الزوال لا يصدق عليه أنه صام يوم عرفة كاملاً فلا ينال هذا الأجر المقيد إلا من نوى من الليل .
قوله [ ولو نَوَى إن كان غدًا من رمضانَ فهو فَرْضِي لم يَجْزِئهِ ] :
لو قال : إن كان غداً رمضان فأنا صائم وإن كان شعبان فأنا لست صائماً يقول المؤلف ~ لا يجزئه , والعلة في ذلك : لعدم جزمه بالنية .
الرأي الثاني : رواية عن الإمام أحمد ~ واختارها شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أن هذا مجزئ لأن التردد هنا مبني على التردد في ثبوت الشهر لا التردد في أصل النية لأن أصل النية موجود فهذا مسلم ونية كل مسلم على سبيل العموم أنه سيصوم لو كان من رمضان (2) .
وأيضاً يدل لذلك : حديث ضُبَاعَة بنت الزبير < أنها قالت : ( يا رسول الله إني أريد الحج وأجدني شاكية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني ) (3) هنا الآن عندها شيء من التردد ( إن محلي حيث حبستني ) وهذا القول هو الصواب أنه يجزئ . وهم يفرقون بين أول الشهر وآخر الشهر فلو قال الإنسان في آخر الشهر قبل أن ينام إن كان غداً من رمضان فأنا صائم وإن كان من شوال فأنا مفطر فهذا يصح لكن في أول الشهر لا يصح . والعلة في ذلك : قالوا : آخر الشهر الأصل بقاء الشهر , فيكون الأصل الصوم , أما في أول الشهر فالأصل عدم دخول الشهر , وقلنا الصواب أنه يجزئ .
__________
(1) يأتي إن شاء الله في صوم التطوع .
(2) انظر الإنصاف (3/209) .(1/44)
قوله [ ومَن نَوَى الإفطارَ أَفْطَرَ ] :
لقطعه النية فإنه يفطر حتى وإن لم يأكل أو يشرب أو يجامع ما دام أنه نوى الإفطار نقول : أفطر لأنه قطع نية الصيام .
مسألة : من نوى الإفطار أفطر ومن أكل أفطر لكن الفرق بين المسألتين أن من نوى الإفطار أفطر ويصح أن ينوي مرة أخرى نفلاً في غير رمضان أما من أكل فلا يصح أن ينوي ولو نفلاً .
مثال ذلك : شخص صام على أنه نفل مقيد يوم الإثنين ثم نوى نصف النهار الإفطار نقول بأنه أفطر لكن له أن يجدد نية أخرى ويكون نفلاً مطلقاً وهذا لا يصح في رمضان لأن رمضان ليس محلاً إلا للصوم الواجب .
وكذلك لو أن إنساناً نذر أن يصوم ثم نوى الإفطار نقول : بأنه يأثم لأنه يجب عليه أن يتم الواجب . لكن لو نوى نفلاً ......... (1) ولو أكل لا يصح لأنه ينقطع في النفل وكذلك في الواجب .
مسألة فيما يتعلق بالهلال إذا انتقل الإنسان من بلد إلى بلد آخر .
الأصل أن الإنسان إذا انتقل من بلد إلى بلد آخر أنه يوافق ذلك البلد الذي انتقل إليه لحديث أبي هريرة وعائشة { (الصوم يوم يصوم الناس والفطر يوم يفطر الناس) (2) و (الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون) هذا هو الأصل وعلى هذا لو أن الإنسان سافر من بلده إلى بلد آخر في آخر الشهر نقول : يفطر معهم ويصوم معهم هذا هو الأصل , ولو فُرض أن هؤلاء أفطروا فأصبح الشهر قي حقه ناقصاً عن ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً نقول : يجب عليه أن يقضي يوماً لأن الشهر لا ينقص عن ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً فلو فرض أنه ناقص عن تسعة وعشرين يوماً نقول : يجب عليه أن يقضي يوماً لأن الشهر الهلالي لا ينقص عن ثلاثين أو تسعة وعشرين يوماً .
ولو صام تسعة وعشرين والبلد الذي ابتدأ معه الصيام صاموا ثلاثين يوماً فالحكم هنا يأخذ حكم من انتقل إليهم يعني لو كان الذين انتقل إليهم أفطروا وغيرهم لم يفطروا نقول بأنه يأخذ حكم البلد الذي انتقل إليهم .
__________
(1) هنا سقط .
(2) تقدم .(1/45)
مسألة : ولو أنه صام أكمل ثلاثين يوماً في بلده ثم قدم إلى بلد آخر وهم حتى الآن يصومون هل يفطر لأنه أكمل ثلاثين يوماً أو نقول : يجب عليه أن يصوم معهم ؟ نقول : يجب عليه أن يصوم معهم لأنه الآن أخذ حكمهم وهذا هو الصواب .
باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة
في هذا الباب أراد المؤلف ~ أن يبين مفسدات الصوم وهكذا العلماء رحمهم الله يذكرون العبادة وما يتعلق بها من أركان وشروط ومستحبات ثم بعد ذلك يشرعون في بيان مبطلاتها ومفسداتها.
فقال [ مَن أَكَلَ ] :
الأكل هذا مفسد للصوم بالإجماع (1) .
والمراد به : إيصال جامد إلى الجوف عن طريق الفم ولو لم يتناول عادة ,وحتى لو كان مضراً فإنه إذا تناوله عن طريق الفم وأوصله إلى الجوف فنقول بأنه فسد صومه .
وقولهم [ ولو لم يتناول عادة ] : كما لو أكل نشارة خشب أو أكل طينا أو ورقاً ونحو ذلك حتى ولو كان مضراً نقول بأن صومه يفسد عليه لدخولها في قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ژ وهذا يشمل ما يُتناول عادة وما لا يتناول عادة ويشمل النافع وكذلك يشمل الضار .
قوله [أو شَرِبَ ] :
الشرب هو إيصال مائع إلى الجوف عن طريق معتاد كالأنف والفم ولو لم يُتناول عادة وهذا يدخل فيه ما كان نافعاً وما كان ضاراً وما يتناول عادة وما لا يتناول عادة وهذا داخل في قوله تعالى ژ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ژ .
والدليل على أن الأكل والشرب من المفطرات : الكتاب والسنة والإجماع .
أما القرآن فقوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ?ژ وأما السنة فحديث أبي هريرة > قال - صلى الله عليه وسلم - ( إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه ) (2) , وأيضاً الإجماع منعقد على ذلك فالمسلمون مجمعون على أن الأكل والشرب من المفطرات (3) .
قوله [ أو اسْتَعَطَ ] :
__________
(2) أخرجه البخاري حديث (1933) ومسلم حديث ( 1155) .
(3) سبق ذكره في أول الباب .(1/46)
السعوط : هو دواء يصب في الأنف فإذا صب في أنفه دواء ووصل إلى جوفه فإنه يفطر لأن الأنف منفذ معتاد .
ويدل لهذا حديث لَقِيط بن صَبِرَة > قال - صلى الله عليه وسلم - ( وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا ) (1) دل على أن الأنف منفذ معتاد إلى الجوف .
مسألة: لو أنه تناوله عن طريق الأنف ووصل إلى الحلق أو الدماغ هل يفطر بذلك أو لا يفطر ؟
الصواب أنه لا يفطر إلا إذا وصل إلى جوفه .
قوله [ أو احْتَقَنَ ] :
الحقنة: هي الداء عن طريق الدبر فإذا أخذ دواء عن طريق الدبر فيقول المؤلف ~ بأنه يفطر.
ودليلهم ما في البيهقي ( الفطر مما دخل لا مما خرج ) وهذا الحديث ضعيف لا تقوم به حجة (2) .
الرأي الثاني : لا يفطر بالحقنة عن طريق الدبر وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ لأن الأصل عدم الفطر ولم يرد في الشرع أنها مفطرة (3) فالأصل صحة الصوم وهذا القول هو الصواب وعلى هذا نقول : الحقنة عن طريق الدبر لا تفطر أما بالنسبة للحقن التي تؤخذ عن طريق الوريد فإنها تنقسم إلى قسمين :-
القسم الأول : حقن غير مغذية وهذه لا تفطر لأنها غير مغذية فلا تقوم مقام الطعام والشراب .
القسم الثاني : حقن مغذية هذه نقول بأنها تفطر ؛ لأنها تقوم مقام الطعام والشراب كما قال تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ژ فهذه قائمة مقام الطعام والشراب وأما كونها تُتخذ عن طريق الوريد فنقول الوريد أصبح الآن منفذًا معتادًا لمثل هذه الأشياء فتفطر وهذا القول هو الأقرب .
قوله [ أو اكْتَحَلَ بما يَصِلُ إلى حَلْقِه ] :
هذا موضع خلاف :-
الرأي الأول : ما ذهب إليه المؤلف ~ بأنه مفطر وهذا قال به الإمام مالك ~ (4) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصوم حديث (2366) والترمذي حديث (788) والنسائي (1/66) وابن ماجة (1/142) حديث (407) والإمام أحمد (4/33) .
(2) أخرجه البيهقي في السنن (4/261) .
(3) انظر الإنصاف (3/212) .
(4) انظر حاشية الدسوقي (2/152) والإنصاف (3/212) .(1/47)
الرأي الثاني : رأي الحنفية والشافعية رحمهم الله أن الكحل ليس مفطرًا (1) .
أما من قال بأن الكحل مفطر فاستدلوا بحديث عبدالرحمن بن النعمان بن معبد عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالكحل أو أمر بالإثمد المُروَّح عند النوم وقال « ليتقه الصائم » أخرجه أبو داود لكنه لا يثبت (2) .
وأيضًا حديث ابن عباس { السابق « الفطر مما دخل » وهذا أيضًا لا يثبت (3) .
وأما من قال : إن الكحل لا يفطر فاستدلوا بأدلة من هذه الأدلة :-
أولاً : أن الأصل صحة الصيام فلا يصار إلى إبطال الصيام إلا لدليل ولم يرد دليل على ذلك .
ثانياً : استدلوا بحديث عائشة < (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتحل في رمضان وهو صائم) رواه ابن ماجة وهو ضعيف (4) . فالآثار المرفوعة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إما بالتفطير أو بعدمه لا تثبت فعلى هذا نصير إلى الأصل وهو أن هذه الأشياء لم يرد أنها مفطرة وعلى هذا نقول الصواب أنه لا يفطر .
وقوله [ بما يَصِلُ إلى حَلْقِه ] المؤلف ~ جعل مناط التفطير وصوله إلى الحلق والصواب أن مناط التفطير هو وصوله إلى الجوف كما تقدم وأنه لو وجد الطعام في حلقه فإنه لا يفطر بذلك بل يفطر إذا وصل إلى جوفه .
والكحل لا يفطر لأن العين ليست منفذا معتادًا . وعلى هذا لو أن الإنسان قطّر في عينيه أو استعمل دواء في عينيه فوجد طعم ذلك في حلقه نقول بأنه لا يفطر .
قوله [أو أَدْخَلَ إلى جَوْفِه شيئًا من أيِّ مَوْضِعٍ ] :
إذا أدخل في جوفه شيئًا فإن هذا لا يخلو من أمرين :-
الأمر الأول : أن يكون منفذًا معتادًا كالفم والأنف فهذا إذا دخل عن طريقه شيء إلى جوفه فإنه يفطر.
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (3/455) ومغني المحتاج (1/627) .
(2) أخرجه أبو داود حديث (2377) قال ابن معين حديث منكر وانظر التلخيص (2/365) .
(3) سبق تخريجه .
(4) فيه بقية وسعيد بن أبي سعيد وهو ضعيف ,انظر المصدر السابق .(1/48)
الأمر الثاني : أن يكون من منفذ غير معتاد فهذا موضع خلاف والصواب أنه لا يفطر .
مسألة : قصدهم بالجوف كل مجوف كالحلق والمعدة والدماغ......إلخ فلو أنه داوى الجائفة ووصل الدواء إلى الجوف نقول على كلام المؤلف ~ يفطر .
مسألة : إذا قطر في أذنه ثم وصل إلى الدماغ هل يفطر أو لا يفطر ؟
هذا موضع خلاف الصواب في هذه المسائل كلها أنه إذا وصل إلى المعدة عن طريق منفذ غير معتاد أنه لا يفطر من باب أولى وإذا وصل إلى مجوف غير المعدة مثل أن يصل إلى الدماغ أو الحلق فإنه لا يفطر بهذه الأشياء لأن الأصل بقاء الصيام .
قوله [ غيرَ إِحْلِيلِه ] :
الإحليل : المراد به الذكر فلو قطر في إحليله فوصل إلى المثانة لم يبطل صومه مع أنه وصل إلى جوفه .
والعلة في ذلك : قالوا لعدم المنفذ وأن البول يخرج رشحًا .
قوله [ أو اسْتَقَاءَ ] :
أي : استدعى القيء إما بغمز حلقه أو شمه لرائحة كريهة أو بعصر بطنه أو بنظره إلى مكروه فيستقيء أي أنه تسبب في إخراج ما في بطنه فإذا فعل ذلك فسد صومه .
وهذا دليله حديث أبي هريرة > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من استقاء عمدًا فليقض أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه الترمذي وأخرجه ابن ماجة وابن أبي شيبة وغيرهم من أهل العلم وقد صححه جمع من أهل العلم «حسنه الترمذي وصححه ابن حبان وكذلك شيخه ابن خزيمة والحاكم ووافقه الذهبي» وضعفه بعض الأئمة .لكن مما يدل على أنه يفطر أنه وارد عن ابن عمر { (1) .
__________
(1) أخرجه أحمد (2/498) وأبو داود في الصيام حديث (2380) والترمذي في الصوم رقم (720) وابن ماجة في الصيام رقم (1676) والنسائي في الكبرى (3117) وصححه ابن خزيمة (1960) وابن حبان (3518) والحاكم (1/427) وصححه الألباني في الإرواء (4/51) .(1/49)
وشيخ الإسلام ابن تيمية ~ ذهب إلى أن الاستفراغات مفطرة (1) فاستفراغ الطعام مفطر وكذلك الدم فإذا كان استفراغ الدم في الحجامة مفطر والدم هو خلاصة الطعام والشراب فكذلك نقول : استفراغ الطعام بالقيء مفطر .
الرأي الثاني : قال به جماعة من السلف كربيعة وعكرمة والقاسم رحمهم الله بأن القيء لا يفطر (2) .
ودليل ذلك : حديث أبي سعيد > مرفوعًا ثلاث لا يفطرن الصائم : القيء والحجامة والاحتلام أخرجه البيهقي وهو حديث ضعيف لا يثبت (3) .
وعلى هذا نقول : الأقرب ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله أن القيء مفطر .
قوله [ أو اسْتَمْنَى ] :
أي : استدعى خروج المني فأمنى , يقول المؤلف ~ بأنه يفطر وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله منهم الأئمة الأربعة أن الاستمناء مفطر إذا خرج المني (4) .
واستدلوا بالحديث القدسي يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي (5) فقال تعالى «شهوته» ومما يدخل في الشهوة ما يتعلق بالاستمناء فهذا يدعه الصائم من أجل الله - عز وجل - .
__________
(1) انظر الفتاوى (25/233-246) .
(2) انظر نيل الأوطار (4/204) والمغني (4/368) .
(3) أخرجه الترمذي في الصوم [ باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء ] وقال «حديث غير محفوظ » رقم (719) والبيهقي في السنن الكبرى (4/25) في كتاب الصيام [ باب من ذرعه القيء لم يفطر ] .
(4) انظر حاشية ابن عابدين (3/426) ومواهب الجليل (3/362) ومغني المحتاج (1/630) والإنصاف (3/213) .
(5) 1 أخرجه البخاري في الصوم [ باب فضل الصوم ] (1894) ,ومسلم في الصيام [ باب حفظ اللسان للصائم ] (1151) (164) عن أي هريرة > .(1/50)
والرأي الثاني : رأي ابن حزم ~ يقول بأنه لا فطر بالاستمناء (1) ,وهذا فيه نظر والصواب أنه يفطر لما ذكرنا من الحديث القدسي وأيضًا لما أشرنا أن الاستفراغات تفطر كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ~ وأن الاستقراء يدل على أنها تفطر الصائم .
قوله [أو باشَرَ فأَمْنَى ] :
أي : باشر زوجته أو أمته بأن لمسها لشهوة ونحو ذلك فأمنى (خرج منه مني ) نقول بأنه يفطر وهذا باتفاق الأئمة رحمهم الله أنه يفطر ويجب عليه أن يقضي .
قوله [ أو أَمْذَى ] :
أي :إذا استمنى فأمذى أو باشر فأمذى،المذهب وكلام المؤلف ~ أنه يفطر (2) .
الرأي الثاني : أنه لا فطر بالمذي وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (3) ~ وهو الصواب لأن المذي دون الاستمناء وإخراج المذي ليس كإخراج المني فرق بينهما والصواب لا فطر بذلك .
قوله [ أو كَرَّرَ النظَرَ فأَنْزَلَ ] :
من كرر النظر فأنزل منيًا فسد صومه ويُفهم من كلام المؤلف ~ ( أو كرر النظر ) أنه لو لم يكرر النظر وإنما نظر نظرة واحدة ثم بعد ذلك أنزل أنه لا يفسد صومه ولا شيء عليه لأن الشارع عفا عن النظرة الواحدة فقال - صلى الله عليه وسلم - لك الأولى وليست لك الآخرة (4) وهذا إذا لم يتعمد الإنسان النظر وإنما مرت امرأة ثم نظر إليها ثم أنزل ... ... إلخ نقول هذا لا شيء عليه , لكن لو أن إنسانًا تعمد النظر إلى المرأة فأنزل نقول هنا : لا يعذر .
وعلى هذا نقول بأن الإنزال ينقسم إلى ثلاثة أقسام :-
__________
(1) انظر المحلى (6/203) والإنصاف (3/213) .
(2) انظر الإنصاف (3/214) .
(3) انظر الفروع (5/10) .
(4) أخرجه الإمام أحمد (5/351) وأبو داود كتاب النكاح [ باب في ما يؤمر به من غض البصر ] (2149) والترمذي في الآداب [ باب ما جاء في نظرة الفجاءة (2777) وقال الترمذي «حسن غريب» وصححه الحاكم (2/194) على شرط مسلم ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في «غاية المرام» (183) .(1/51)
القسم الأول : أن ينزل منيًا بالاستمناء فهذا يفطر .
القسم الثاني : أن ينزل منيًا بالمباشرة فهذا يفطر .
القسم الثالث : أن ينزل مذيًا فنقول : الصواب أنه لا يفطر مطلقًا سواء كان هذا باستمناء أو كان بمباشرة أو غير ذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ~ : لا فطر بالمذي .
القسم الرابع : أن يفكر في أمر الجماع فينزل منيًا فنقول الصواب لا فطر عليه سواء أنزل منيًا أو أنزل مذيًا لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة > إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل (1) .
القسم الخامس : أن ينزل بالاحتلام فلا يفطر لأن القلم قد رفع عنه كما قال - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاث وذكر منهم النائم حتى يستيقظ .
قوله [ أو حَجَمَ أو احْتَجَمَ وظَهَرَ دمٌ عامدًا ] :
هذا أيضًا من المفطرات وهذا موضع خلاف :-
الرأي الأول : المشهور من المذهب أنه يفطر بالحجامة وهذا أيضًا اختيار شيخ الإسلام بن تيمية ~ (2) .
الرأي الثاني : أنه لا فطر بالحجامة وهذا مذهب الشافعية والمالكية والحنفية (3) ولكل منهم دليل وهذه مسألة طال فيها كلام أهل العلم رحمهم الله .
وشيخ الإسلام ابن تيمية ~ في كتابه «حقيقة الصيام» أطال الكلام في هذه المسألة فيما يتعلق بالفطر بالحجامة وذكر أقوال أهل العلم رحمهم الله وأدلتهم وما يتعلق بذلك ... ... إلخ .
ونذكر لكل قول دليل :-
أما من قال يفطر بالحجامة كما هو المشهور من المذهب واختيار شيخ الإسلام ~ استدلوا على ذلك بأدلة منها :-
__________
(1) أخرجه البخاري في العتق [ باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ] (2528) ,ومسلم في الإيمان [ باب إذا هم العبد بحسنة ] (127) من حديث أبي هريرة > .
(2) انظر الإنصاف (3/214) .
(3) انظر حاشية ابن عابدين (3/455) ,ومواهب الجليل (3/370) ,ومغني المحتاج (1/631) .(1/52)
أولاً : حديث شداد بن أوس وحديث ثوبان { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أفطر الحاجم والمحجوم وهذا الحديث ورد له طرق وشواهد كثيرة وقد صححه جمع من أهل العلم رحمهم الله , ورد عما يقرب من خمسة عشر صحابيًا بل الزيلعي ~ في نصب الراية ذكر ثمانية عشر صحابيًا كلهم يروون هذا الحديث وقد صحح هذا الحديث جمع من الأئمة منهم الإمام أحمد ~ وإبراهيم الحربي وإسحاق بن راهويه وأبو زرعة وابن حبان وابن خزيمة وابن حزم والحاكم وابن المديني وغيرهم (1) . وهذا حكم من النبي - صلى الله عليه وسلم - على فطر الحاجم والمحجوم .
وأما من قال بأنه لا فطر بالحجامة فقد استدلوا بحديث ابن عباس { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم (2) فقوله «وهو صائم» هذا دليل على أن الحجامة لا تفطر لكن الإمام أحمد ~ لا يثبت ذلك . الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم فقط دون قوله احتجم وهو صائم (3) .
وكذلك استدلوا بحديث أنس > أن ثابت البناني قال لأنس > أكنتم تكرهون الحجامة للصائم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا إلا من أجل الضعف .
وهذا رواه البخاري (4) فدل على أن الحجامة لا بأس بها إلا من أجل الضعف .
وكذلك استدلوا بحديث أبي سعيد > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «رخص في الحجامة» وهذا أخرجه النسائي (5) والصواب ما ذهب إليه الإمام أحد ~ أن الحجامة مفطرة .
__________
(1) انظر فتح الباري (4/78) والإرواء (4/65) والتلخيص (2/193) .
(2) رواه البخاري في الصوم [ باب الحجامة والقيء للصائم ] (938) .
(3) انظر كشاف القناع (2/369) والفتاوى (25/252) .
(4) رواه البخاري في الصوم [ باب الحجامة والقيء للصائم ] (1940) .
(5) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (4/178) «ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعة ووقفه»(1/53)
أما بالنسبة لاحتجام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو صائم فإن الإمام أحمد ~ لا يثبت ذلك (1) .
وأيضًا قول أنس > « إلا من أجل الضعف» دليل على أنه يفطر بها فإنه إذا ضعف أفطر وحينئذ لا يجوز الحجامة إلا لحاجة , إذا احتاج الإنسان للحجامة فلا بأس به لأن بعض الناس يعتاد الحجامة وإذا لم يحتجم وهاج عنده الدم فإنه يمرض وقد لا يستطيع أن يصبر إلى الليل فيحتاج إلى أن يحتجم وكذلك حديث أبي سعيد > رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة (2) نقول : هذا عند الحاجة .
مسألة : ما هي العلة في أن الحجامة مفطرة ؟ هذا موضع خلاف :-
الرأي الأول : أن العلة تعبدية وهو المشهور من المذهب (3) والنبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بأن الحجامة مفطرة فالعلة تعبدية وليست معقولة وعلى هذا إذا كانت تعبدية وغير معقولة هل يفطر بغير الحجامة أو لا يفطر بغير الحجامة مثل: الفصد والشرط ؟ نقول بناءًا على هذا القول لا يفطر بغير الحجامة فلا يفطر بهذه الأشياء كالفصد والشرط .
الرأي الثاني : أن العلة معقولة وهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ~ (4) فنقول بالنسبة للحاجم فالعلة أنه كان يقوم بمص الدم في الزمن السابق وإذا مص الدم فإنه غالبًا سيؤدي إلى تطاير شيء من الدم إلى حلقه فيفطر بذلك .
وأما بالنسبة للمحجوم فالعلة : هي الضعف وعلى هذا لا يقتصر على الحجامة حتى الفصد والشرط وكل ما يضعف البدن نقول بأنه يفطر وهذا القول هو الصواب . وعلى هذا الآن إذا كانت الحجامة عن طريق الآلات وليس فيها مص فنقول بأنه لا يفطر .
وأيضًا يدخل في ذلك كل ما يضعف البدن مما يكون في معنى الحجامة .
__________
(1) انظر كشاف القناع (2/369) .
(2) تقدم تخريجه .
(3) انظر المبدع (3/16) .
(4) انظر حقيقة الصيام ص(81-84) .(1/54)
أما بالنسبة لخروج دماء يسيرة من البدن مثل: الرعاف وقلع الضرس أو التحليل أو غير ذلك من الأمور اليسيرة التي تخرج من البدن فإن هذه لا تفطر لأنها ليست في معنى الحجامة ولا تضعف البدن .
قوله [ وظَهَرَ دمٌ عامدًا ذاكرًا لصومِه فَسَدَ لا ناسيًا أو مُكْرَهًا ] :
اشترط المؤلف ~ للفطر لما تقدم شروطًا :-
الشرط الأول : أن يكون متعمدًا ليس مكرهًا ويدل لذلك قوله تعالى في أعظم المحظورات وهو الكفر ژ ? ? ? ? ? ژ فارتفع الحكم بالإكراه في أعظم المحظورات وهو الكفر . فغيره من باب أولى , وأيضًا ما تقدم لنا في حديث ابن عباس { مرفوعًا إن الله تجاوز لي من أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1) .
فعلى هذا لو أن رجلاً أكره صائمًا على الأكل أو الشرب أو الحجامة أو غيرها من المفطرات فإنه لا يفطر .
الشرط الثاني : أن يكون ذاكرًا فإن كان ناسيًا فإنه لا يفطر .
ودليل ذلك : حديث أبي هريرة > في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه (2) .
وانظر أيضًا إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنما أطعمه الله وسقاه» هذا تأكيد على أن الإنسان لا يفطر , كونه نسب هذا الإطعام إلى الله - عز وجل - دل على أنه معفو عنه وإلا فإنه يكفي قوله في أول الحديث فليتم صومه هذا يدل على أن من أكل أو شرب ناسيًا فإنه لا شيء عليه .
وقوله «إنما أطعمه الله وسقاه» هذا تأكيد وتحقيق إلى أن الأكل والشرب نسيانًا لا يفطر .
الشرط الثالث : أن يكون عالمًا فإن كان جاهلاً فلا شيء عليه والجهل إما أن يكون بالحكم الشرعي وإما أن يكون بالحال فإن كان جاهلاً لا يعرف أن هذا مفطر فتناوله فإنه لا شيء عليه .
وتقدم أن أشرنا إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية ~ يقول : « إن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم» (3) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) تقدم تخريجه .
(3) تقدم .(1/55)
وتقدم حديث ابن عباس { قال - صلى الله عليه وسلم - إن الله تجاوز لي من أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وهذا يدخل في الخطأ والله تعالى يقول ژ ? ? ? ? ? ? ? ژ .
كذلك إذا كان جاهلاً بالحال فهذا أيضًا لا شيء عليه , فلو أكل يظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين أنه طلع أو أكل يظن غروب الشمس ثم تبين أنها لم تغرب فهذا لا شيء عليه .
ويدل لذلك حديث عدي بن حاتم > فإنه عمد إلى عقالين أسود وأبيض وجعلهما تحت وسادته وجعل يأكل وينظر إليهما ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إن وسادك إذن لعريض , إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل (1) فعدي > أكل بعد طلوع الفجر ومع ذلك لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء .
وكذلك مثله حديث سهل بن سعد > في الصحيحين فيمن أكل بعد طلوع الفجر ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء (2) .
وفي البخاري أيضًا من حديث أسماء < قالت : (أفطرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم ثم طلعت الشمس) (3) ولم يؤمروا بالقضاء .
فهذه ثلاث شروط للمفطرات .
وهذه الشروط الثلاثة لا بد منها في كل المحظورات سواء كان فيما يتعلق بمبطلات الصلاة أو مبطلات الصيام أو محظورات الإحرام وغير ذلك . كل المحظورات لا بد أن تتوفر فيها كل الشروط الثلاثة لكي يترتب عليها حكمها .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير باب [ وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ] رقم (4509) ومسلم في الصيام باب [ بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ] رقم (1090) .
(2) تقدم تخريجه .
(3) أخرجه البخاري في الصوم [ باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس ] رقم (1959) .(1/56)
وأيضًا مما يدل على أن الجهل بالحكم الشرعي يرفع الحكم وأنه لا يترتب عليه شيء حديث معاوية > فإن معاوية > تكلم في الصلاة والكلام في الصلاة من مبطلاتها ومع ذلك لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء (1) .
وهذه كما ذكرنا أن هذه الشروط الثلاثة في كل المحظورات وعلى الصحيح لا نستثني منها شيئًا وسيأتينا أن المؤلف ~ يستثني الجماع بالنسبة للرجل وأنه لا يُعذر إذا أكره على الجماع ... ... إلخ . والصواب أننا لا نستثني شيئًا .
قوله [ أو طارَ إلى حَلْقِه ذبابٌ أو غُبارٌ ] :
إذا طار إلى حلق الصائم ذباب أو غبار أو طحين أو غير ذلك فإنه لا يفطر ما دام أنه لم يتعمد ذلك ودليل ذلك : ما تقدم أن الإنسان يعذر في حال عدم الاختيار ومثل هذه الأشياء تَرِد على الإنسان بغير اختياره .
قوله [أو فَكَّرَ فأَنزَلَ ] :
إذا فكر في أمر الجماع حتى أنزل سواء أنزل منيًا أو مذيًا فإنه لا شيء عليه وصيامه صحيح .
ودليل ذلك : ما تقدم لنا في الصحيحين من حديث أبي هريرة > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم (2) .
قوله [ أو احْتَلَمَ ] :
أيضًا لو أن الإنسان إذا نام رأى الجماع في منامه فخرج منه المني فإنه لا شيء عليه .
لما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة وعلى { قال - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة وذكر منهم والنائم حتى يستيقظ (3) ما دام أنه احتلم ولم يكن منه عمل في حال اليقظة فإنه لا شيء عليه .
قوله [ أو أَصْبَحَ في فيه طعامٌ فلَفَظَه ] :
إذا أصبح الإنسان وفي فيه طعام من أثر السحور ثم لفظ هذا الطعام ولم يبتلعه فإنه لا شيء عليه لأن الفم في حكم الخارج ولهذا الإنسان يتوضأ ويتمضمض فيدخل الماء في فمه ولا يفطر بذلك فدل ذلك على أنه في حكم الخارج .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) سبق تخريجه .
(3) تقدم تخريجه .(1/57)
قوله [ أو اغْتَسَلَ أو تَمضمضَ أو اسْتَنْثَرَ أو زادَ على ثلاثٍ أو بالَغَ فدَخلَ الماءُ حَلْقَه لم يَفْسُدْ ] :
يعني استنشق أو زاد على ثلاث أو بالغ فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه فلو أنه اغتسل وفي أثناء الغسل دخل الماء في حلقه لم يفسد صومه .
مسالة : لا بأس أن ينغمس في الماء وهو صائم ولا بأس أن يغتسل وهو صائم وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه لا بأس للإنسان أن يتخذ ما يخفف عنه شدة العطش والجوع . فلو أن الإنسان اغتسل ثم دخل الماء إلى حلقه فهذا لا شيء عليه لأنه كما تقدم لنا يُشترط الاختيار وهذا بغير اختياره فلا شيء عليه .
وكذلك لو استنشق أو تمضمض وزاد على ثلاث فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه ,لكن الزيادة على الثلاث هذه من التعدي لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والإساءة والظلم .
قوله [ أو بالَغَ فدَخلَ الماءُ حَلْقَه لم يَفْسُدْ ] :
تقدم لنا أنه يكره أن يبالغ في المضمضة والاستنشاق لحديث لَقِيط بن صَبرة > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا (1) .
قوله [ ومَن أَكَلَ شاكًّا في طلوعِ الفجْرِ صَحَّ صومُه ] :
إذا أكل الإنسان شاكًّا في طلوع الفجر أي : شك هل طلع الفجر أو لم يطلع فالأصل بقاء الليل وأن الفجر لم يطلع .
وإذا أكل مع الشك في طلوع الفجر فهذا له ثلاث حالات :-
الحالة الأولى : أن لا يتبين له طلوع الفجر أي لا يتبين له أنه أكل بعد طلوع الفجر فنقول بأن صيامه صحيح ولا قضاء عليه ولا كفارة ما دام أنه لم يتبين له أن الفجر لم يطلع .
مسألة : وهل يكره له أن يأكل مع الشك في طلوع الفجر أو لا يكره ؟
الحنفية رحمهم الله قالوا بأنه يكره . والحنابلة رحمهم الله كرهوا الجماع . والمالكية رحمهم الله قالوا يجب أن يقضي (2) .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) انظر البحر الرائق(2/292) والفواكه الدواني (1/355) وروضة الطالبين (2/364) وكشاف القناع (2/331) والمحلى (6/346) .(1/58)
والصواب أنه لا قضاء ولا كفارة ولا كراهة لأن الأصل بقاء الليل والإنسان مأذون له أن يأكل ما دام أنه يشك في طلوع الفجر .
ولهذا ورد عن ابن عباس { في سنن البيهقي أنه قال «كل ما شككت» (1) .
وأيضًا ورد عن أبي بكر > أن الرجلين إذا اختلفا فشك أحدهما في طلوع الفجر فليأكلا حتى يتبين لهما طلوع الفجر (2) . فالصواب كما تقدم أنه لا قضاء ولا كفارة ولا كراهة .
الحالة الثانية : أن يتبين له أن الفجر لم يطلع وهذا القسم كما تقدم في القسم الأول فنقول بأنه لا قضاء ولا كفارة وهذا باتفاق الأئمة (3) .
الحالة الثالثة : أن يتبين له أنه أكل بعد طلوع الفجر فهل يجب عليه القضاء أو لا ؟
الجمهور قالوا يجب عليه القضاء لأنه تبين خطؤه .
وعند شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه لا يجب عليه القضاء (4) وهذا القول هو الصواب لأنه مأذون له في الأكل وما ترتب على المأذون غير مضمون .
وأيضًا لم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عدي بن حاتم > في أن يقضي , فالصواب أنه إذا تبين له أنه أكل بعد الفجر أنه لا شيء عليه لأنه مأذون له في الأكل .
قوله [ إلا إن أَكَلَ شاكًّا في غُروبِ الشمسِ ] :
إذا شك في غروب الشمس ثم أكل فهذا له ثلاث حالات :-
الحالة الأولى : أن يتبين له أنه أكل بعد غروب الشمس مثال ذلك : إذا شك أن الشمس غربت أولم تغرب ثم أكل ثم تبين له أنه أكل بعد الغروب فنقول بأن صيامه صحيح ؛ لأنه لم يأكل في النهار لكنه يأثم لأنه لا يجوز له أن يأكل ما دام أنه يشك في غروب الشمس إذ الأصل بقاء النهار لكنه يأثم وصيامه صحيح .
فرق بين غروب الشمس وطلوع الفجر ففي طلوع الفجر له أن يأكل ؛ لأن الأصل بقاء الليل أما غروب الشمس فلا يجوز له لأن الأصل بقاء النهار .
__________
(1) صححه الحافظ في الفتح (4/161) .
(2) رواه عبدالرزاق في مصنفه وانظر فتح الباري (4/161) .
(3) انظر المصادر السابقة .
(4) رواه عبدالرزاق في مصنفه وانظر فتح الباري (4/161) .(1/59)
الحالة الثانية : أن يتبين له أنه أكل قبل غروب الشمس فهذا يأثم ويجب عليه القضاء لأنه لم يؤذن له في الأكل مع الشك .
الحالة الثالثة : أن لا يتبين له شيء هل أكل بعد غروب الشمس أو أكل قبل غروبها نقول : يجب عليه أن يقضي لأن الأصل بقاء النهار .
قوله [ أو مُعْتَقِدًا أنه ليلٌ فبانَ نهارًا ] :
أي أن : هذا رجل يظن أن الليل لا يزال وأن الفجر لم يطلع ثم بعد ذلك أكل فتبين له أن الفجر قد طلع فإنه يقضي .
ونقول إذا أكل يظن بقاء الليل وأن الفجر لم يطلع فله ثلاثة أقسام :-
القسم الأول : أن يتبين أنه أكل بعد الفجر فالجمهور على أنه يجب عليه القضاء (1) .
الرأي الثاني : اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه لا يجب عليه القضاء (2) .
ولكل منهما دليل :-
أما جمهور أهل العلم الذين قالوا : يجب عليه القضاء لأن الله تعالى قال ژ ? ? ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ژ فالله تعالى قال ژ ? ? ژ وهذا أكل بعد الفجر الواجب أن يكون إمساكه من طلوع الفجر وهنا أمسك بعد الفجر فقالوا : يجب عليه القضاء .
الرأي الثاني : رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه لا يجب عليه القضاء . والدليل على ذلك ما تقدم من حديث عدي بن حاتم > أنه أكل بعد الفجر ومع ذلك لم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء (3) وهذا القول هو الصواب .
ولأنه كما تقدم لنا في القاعدة « أن ما ترتب على المأذون غير مضمون » وهذا الرجل قد أذن له أن يأكل ما دام أنه يظن أن الليل لا يزال باقيًا وما ترتب على المأذون غير مضمون .
القسم الثاني : إذا تبين أنه أكل قبل الفجر فصيامه صحيح بالاتفاق .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (2/406) والتاج والإكليل (2/428) وروضة الطالبين (2/364) والمبدع (3/29) .
(2) انظر الإنصاف (3/220) .
(3) تقدم تخريجه .(1/60)
القسم الثالث : إذا لم يتبين أنه أكل قبل الفجر أو أكل بعد الفجر فهذا أيضًا صيامه صحيح ولا شيء عليه لأن الإنسان مباح له أن يأكل ما دام يظن أن الليل لا يزال باقيًا .
وكذلك أيضًا إذا ظن الإنسان غروب الشمس ثم أكل فهذا أيضًا تحته ثلاثة أقسام :-
القسم الأول : إذا تبين له أنه أكل قبل غروب الشمس فهذا فيه رأيان :-
الرأي الأول : رأي جمهور أهل العلم رحمهم الله أنه يقضي (1) .
واستدلوا على ذلك بأنه ورد عن عمر > كما في سنن البيهقي أن عمر > أفطر وأفطر الناس معه فصعد المؤذن فرأى الشمس لم تغرب فقال عمر > (من كان أفطر فليصم يوما مكانه) (2) .
ويخالفه ما ورد عن عمر > أنهم كانوا في المسجد مع عمر > والشمس متغيمة ورأوا أن الشمس قد غابت فأفطر عمر> وأفطر الناس ثم ذهب السحاب
فبدت الشمس فقال عمر > (والله ما نقضيه وما يجانفنا الإثم) (3) .
الرأي الثاني : اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه إذا أكل يظن غروب الشمس ثم تبين أن الشمس لم تغرب فإنه لا قضاء عليه (4) .
ويدل لذلك : حديث أسماء < في البخاري أنهم أفطروا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم ثم طلعت الشمس . ولم يرد أنهم أُمِروا بالقضاء (5) . وهذا القول هو الصحيح .
ولا بد أن نفرق بين مسألتين : مسألة الشك ومسألة الظن , إذا شك في غروب الشمس ثم تبين أنها لم تغرب هنا يجب عليه القضاء لأن الأصل بقاء النهار ولا يجوز له أن يأكل مع الشك , لكن إذا ظن غروب الشمس يجوز له أن يأكل .
ويدل على أنه يجوز أن يأكل مع الظن في دخول العبادة أو خروج العبادة ما تقدم أن ذكرنا في حديث أسماء < أنهم أفطروا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم ومع ذلك لم يؤمروا بالقضاء .
__________
(1) انظر المصادر السابقة .
(2) انظر سنن البيهقي (4/217) .
(3) انظر التخريج السابق .
(4) انظر الإنصاف (3/220) .
(5) سبق تخريجه .(1/61)
وهنا إفطارهم عن ظن ولو كان عن يقين ما طلعت الشمس .
القسم الثاني : أن يتبين أنه أكل بعد غروب الشمس فصيامه صحيح لأنه لم يأكل إلا في الليل .
القسم الثالث : أن لا يتبين له شيء وهذا أيضًا كما تقدم نقول بأن صيامه صحيح ولا شيء عليه لأنه مأذون له أن يأكل مع ظنه غروب الشمس .
( فصلٌ )
قوله [ ومَن جامَعَ في نهارِ رمضانَ في قُبُلٍ أو دُبُرٍ فعليه القَضاءُ والكَفَّارَةُ ] :
هذا الفصل عقده المؤلف ~ فيما يتعلق بالجماع والكفارة الواجبة في الجماع ؛ لأن الجماع هو أغلظ المفطرات ولهذا ترتبت عليه الكفارة المغلظة .
والجماع مفطر . ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع .
أما القرآن فقوله تعالى ژ? ? ?? ? پ پ ژ فدل ذلك على أنه ممنوع من النساء في النهار إلى أن قال تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ژ فدل على أنه ممنوع من المباشرة في أثناء النهار .
وأما السنة كما سيأتينا إن شاء الله في حديث أبي هريرة > في الصحيحين في قصة الرجل الذي جامع امرأته في نهار رمضان (1) .
والإجماع منعقد على ذلك .
وقوله [ ومَن جامَعَ في نهارِ رمضانَ في قُبُلٍ ] . المراد بالجماع هو تغييب الحشفة في الفرج .
والمقصود بالحشفة : هي رأس الذكر التي تكون عليها الغلفة التي تقطع عند الختان .
فإذا حصل ذلك بأن غيب هذه الحشفة فقد أفطر وفسد صومه ووجبت عليه الكفارة المغلظة وسواء أنزل أو لم ينزل .
قوله [ أو دبر ] : وطء الدبر محرم ولا يجوز ومع ذلك ألزمه العلماء رحمهم الله بالكفارة تغليظًا عليه وتشديدًا وإلا فالأصل أن وطء الدبر محرم ولا يتعلق به حكم إلا ما يتعلق به من حكم العقوبة لكن ألزمه العلماء بالكفارة تغليظًا وتشديدًا فعليه القضاء والكفارة بالإجماع كما سيأتي إن شاء الله .
قوله [ وإن جامَعَ دونَ الْفَرْجِ فأَنْزَلَ ] :
__________
(1) يأتي ذكره إن شاء الله .(1/62)
إذا جامع دون الفرج كأن يجامع بين الفخذين مثلاً فلا تجب عليه الكفارة ولا تجب إلا بالجماع في نهار رمضان إذا كان يلزمه الإمساك , أما لو جامع في قضاء رمضان فهذا لا كفارة عليه لكنه يأثم ويجب عليه أن يقضي .
أو جامع في النفل نقول : لا كفارة عليه وإنما يكره أن يقطع النفل إلا لحاجة لقوله تعالى ژ ? ژ .
وكذلك إذا جامع دون الفرج فأنزل هذا لا كفارة عليه ولا تجب الكفارة إلا بالجماع في الفرج هذا ما عليه جمهور أهل العلم (1) .
وعند الإمام مالك ~ أنه تجب الكفارة (2) ومذهب الإمام مالك ~ من أوسع المذاهب في إيجاب الكفارة (كفارة الفطر في نهار رمضان) .
قوله [ أو كانت المرأةُ مَعذورةً ] :
أي : إذا كانت المرأة معذورة بأن أكرهها زوجها على الجماع فلا كفارة عليها ولا قضاء أو نسيت المرأة أنها صائمة فهذه معذورة لا كفارة عليها ولا قضاء .
وقوله [ أو كانت المرأة معذورة ] يخرج الرجل فالرجل لا يعذرونه أي : لو أُكْرِهَ على الجماع يجب عليه أن يقضي وعليه الكفارة وقالوا بأن الجماع لا يُتصور فيه الإكراه ؛ لأنه لا يكون إلا عن انتشار والانتشار لا يكون إلا عن إرادة واختيار فإن كان كذلك فلا يُعذر .
وكذلك لا يعذرونه بالجهل والنسيان في الجماع .
والصحيح : أنه لا فرق بين الرجل وبين المرأة ولا فرق أيضًا بين الجماع وبين سائر المفطرات .
فنقول : الجماع وسائر المفطرات لا بد فيهما من ثلاثة شروط :-
الأول : الذكر , الثاني : الاختيار , الثالث : العلم بالحكم الشرعي وكذلك العلم بالحال .
وسيأتينا إن شاء الله أن مذهب الإمام مالك ~ أوسع المذاهب في إيجاب الكفارة فكل هتك للصيام بلا عذر يوجب الكفارة عند الإمام مالك والصواب أن الكفارة لا تجب إلا بالجماع في نهار رمضان .
__________
(1) انظر بدائع الصنائع (2/90) والقوانين ص(83) وروضة الطالبين (2/3636) وكشاف القناع (2/323) .
(2) انظر المصدر السابق .(1/63)
قوله [ أو جامَعَ مَن نَوَى الصوْمَ في سَفَرِه أَفْطَرَ ولا كَفَّارَةَ ] :
يعني رجل سافر وفي أثناء السفر جامع أهله فنقول بأنه يفطر لأن الجماع مفطر بإجماع العلماء ولا تجب عليه الكفارة ؛ لأن هذا الصوم لا يجب عليه أن يمضي فيه وما ترتب على المأذون غير مضمون وإنما يجب عليه القضاء بالإجماع لقوله تعالى ژ ? ? ? ? ? چ چ چ چ ? ? ژ .
مسألة : هل له أن يجامع قبل أن يسافر ؟ تقدمت هذه المسألة (1) وذكرنا أن جمهور أهل العلم قالوا : ليس له أن يترخص قبل أن يسافر .
وأن طائفة من السلف قالوا له أن يترخص . واستدلوا بحديث أبي بَصْرَة وحديث أنس { وتقدم الجواب عليهما .
قوله [ وإن جامَعَ في يومينِ أو كَرَّرَه في يومٍ ولم يُكَفِّرْ فكَفَّارَةٌ واحِدةٌ في الثَانِيةِ وفي الأُولَى اثْنَتانِ وإِنْ جَامَعَ ثُمَّ كفَّرَ ثُمّ جَامَعَ في يَومِهِ فَكَفَّارةٌ ثَانِيَةٌ ] :
هذه عدة صور فيما إذا تكرر الجماع ممن يجب عليه الإمساك في نهار رمضان :-
الصورة الأولى : أن يجامع في يومين ويكفر عن اليوم الأول .
صورة ذلك : رجل جامع في يوم السبت ثم بعد ذلك أخرج الكفارة وأعتق رقبة ثم جامع في يوم الأحد مرة أخرى ففي هذه الصورة تجب عليه كفارة ثانية . وقد ذكر ابن قدامة ~ في المغني وصاحب الشرح الكبير في الشرح الكبير أنه تجب عليه كفارة ثانية بغير خلاف بين أهل العلم (2) .
الصورة الثانية : أن يجامع في اليوم الأول ثم يجامع في اليوم الثاني والثالث ... إلخ قبل أن يكفر يعني يجامع في عدة أيام قبل أن يكفر كما يحصل من بعض الناس وخصوصًا من كان حديث عهد بزواج تجد أنه يحصل منه تفريط فيجامع في اليوم الأول والثاني والثالث ... إلخ فهل تتعدد عليه الكفارة أو لا تتعدد عليه ؟
__________
(1) تقدمت .
(2) انظر المغني (4/385) والشرح الكبير (3/61) .(1/64)
المشهور من المذهب كما ذهب إليه المؤلف ~ أن الكفارة تتعدد عليه وهذا قول أكثر أهل العلم رحمهم الله (1) .
ودليلهم على ذلك قالوا بأن كل يوم عبادة مفردة فليزمه فيها كفارة . وسيأتينا إن شاء الله أن الكفارة في الوطء متفق عليها كما دل عليه حديث أبي هريرة > في الصحيحين (2) .
الرأي الثاني : رأي الحنفية رحمهم الله قالوا بأنه تلزمه كفارة واحدة وهم نظروا إلى عموم الشهر وأن الشهر عبادة واحدة فتلزمه فيه كفارة واحدة (3) .
وكذلك أيضًا قالوا بأن الكفّارات تتداخل كما تتداخل الحدود فلو أن شخصًا زنا وقتل ونحو ذلك نقول بأن القتل يحيط بهذا ... إلخ وهذا ما ذهب إليه الحنفية رحمهم الله .
والأقرب أن يقال في هذه المسألة أنه ينظر إلى حال المجامع فقد يكون المجامع عنده شيء من الغلبة يعني غُلِب على أمره ولم يظهر من حاله أنه فرط وإنما غلب على أمره وأنه رجع وتاب ... إلخ فهذا يعامل بالأسهل كما هو مذهب الحنفية وإن كان خلاف ذلك فإنه يعامل بالأشد .
الصورة الثالثة : أن يجامع في يوم ثم يكفر ثم يجامع مرة أخرى . يعني جامع في أول النهار ثم كفَّر (أعتق رقبة) ثم في نصف النهار جامع مرة ثانية ؛ لأن من أفطر بغير عذر يجب عليه أن يمسك ولا يجوز له أن يأكل مع أنه عند جمهور أهل العلم يجب عليه أن يقضي .
فإذا جامع في أول النهار ثم كفَّر ثم جامع في نصف النهار يقول المؤلف ~ (فكفارة ثانية ) وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ~ (4) .
والعلة في ذلك : أنه وطء محرم وقد تكرر فتتكرر الكفارة بتكرره .
__________
(1) انظر الاستنكار (10/110) وروضة الطالبين (2/378) والمغني (4/385) .
(2) سبق تخريجه .
(3) انظر الدر المختار (2/413) .
(4) قال في الإنصاف (3/226) [ هذا المذهب نص عليه , وعليه الأصحاب وهو من مفردات المذهب ] .(1/65)
الرأي الثاني : لا تجب عليه إلا كفارة واحدة وهو رأي أكثر أهل العلم رحمهم الله (1) ؛ لأن هذا اليوم عبادة واحدة وهذا القول لعله أقرب الأقوال أو يقال كما قلنا : إن من جامع في يومين إن ظهر من حاله أنه مغلوب عليه ونحو ذلك فهذا لا يُلزم بكفارة ثانية وإن ظهر من حاله التساهل والتفريط وعدم المبالاة ونحو ذلك فهذا يُلزم بكفارة ثانية .
الصورة الرابعة : أن يجامع ثم يجامع ثم يجامع في يوم واحد قبل أن يكفر .
مثال ذلك : رجل جامع زوجته في أول النهار ثم جامع في منتصف النهار قبل أن يكفر فهل تجب عليه كفارتان أو كفارة واحدة ؟ يقول المؤلف ~ كفارة واحدة .
قوله [ وكذلك مَن لَزِمَه الإمساكُ إذا جَامَعَ ] :
أي : كل من لزمه الإمساك إذا جامع فإنه تجب عليه الكفارة .
وذكرنا من صور من يلزمه الإمساك من أفطر لغير عذر , هذا رجل أكل أو شرب متعمدًا بلا عذر فنقول : هذا الأكل وهذا الشرب لا يبيح له أن يجامع أو أن يعاود الفطر مرة أخرى , فإنه إن جامع تجب عليه الكفارة .
قوله [ ومَن جامَعَ وهو مُعافًى ثم مَرِضَ أو جُنَّ أو سافَرَ لم تَسْقُطْ ] :
مثال ذلك : هذا رجل جامع في أول النهار ثم لما انتصف النهار سافر وأبيح له أن يفطر ذلك اليوم أو مرض وأبيح له أن يفطر ذلك اليوم أو جُن زال عنه التكليف أو امرأة طاوعت على الجماع وهي ذاكرة ومختارة وعالمة ثم حاضت في نفس اليوم هنا لا تسقط الكفارة ؛ لأن الكفارة استقرت في الذمة وكون الأعذار توجد بعد استقرارها هذا لا يسقطها ولو كان وجود مثل هذه الأعذار يُسقط الكفارة لم تجب الكفارة؛ لأنه إذا جامع سيسافر وحينئذ يتحيل على إسقاط الكفارة بالسفر وهكذا .
قوله [ ولا تَجِبُ الكَفَّارَةُ بغيرِ الجِماعِ في صِيامِ رَمضانَ ] :
الكفارة لا تجب إلا بأمرين :-
__________
(1) انظر المصادر السابقة .(1/66)
الأمر الأول : الجماع وذكرنا ضابط الجماع وهو أن يغيب الحشفة وهي رأس الذكر في الفرج . وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن لتغييب الحشفة في الفرج ما يقرب من أربعمائة (1) حكم . من هذه الأحكام ما ذكره المؤلف ~ , فإذا جامع وحصل منه تغييب رأس الذكر في الفرج فإنه تجب عليه الكفارة .
الأمر الثاني : في صيام رمضان الذي يلزمه إمساكه وعلى هذا لو جامع في قضاء رمضان لم تجب عليه الكفارة وكذا لو جامع في صيام التطوع لم تجب عليه الكفارة .
وقلنا : الذي يلزمه الإمساك يُخرج ما إذا كان لا يلزمه الإمساك كما لو سافر الإنسان وفي سفره جامع زوجته كأن يسافر للعمرة وفي النهار جامع زوجته نقول : لا كفارة عليه وهذا هو المشهور من المذهب , ومذهب الشافعي ~ أن الكفارة لا تجب إلا بالجماع في نهار رمضان الذي يلزم إمساكه (2) .
الرأي الثاني : أن الكفارة كما أنها تجب في الجماع أيضًا تجب بالأكل والشرب مما يغذي أو يتداوى به وهذا قال به أبو حنيفة ~ (3) .
الرأي الثالث : أوسع من ذلك وهو ما ذهب إليه الإمام مالك ~ (4) أن كل ما يكون هتكًا للصوم بلا عذر فإنه تجب فيه الكفارة وهو أوسع المذاهب في إيجاب الكفارة والصواب أن الكفارة لا تجب إلا في الجماع في نهار رمضان الذي يلزم إمساكه؛ لأن الكفارة حكم شرعي لا بد له من دليل شرعي ولم يرد إلا في الجماع .
قوله [ وهي عِتْقُ رَقبةٍ ] :
الكفارة وما يتعلق بها من أحكام هذه يبحثها العلماء رحمهم الله في باب الظهار فتجد أنهم يتكلمون عن عتق الرقبة وما يُشترط في عتقها وهل يُشترط أن تكون مؤمنة أو لا يُشترط وهل يشترط أن تكون مميزة أو سليمة من العيوب التي تضر بالعمل ... إلخ . يذكر العلماء رحمهم الله ما يقرب من أحد عشر شرطًا من شروط صحة إعتاق الرقبة .
__________
(1) انظر كشاف القناع (1/169) .
(2) انظر روضة الطالبين (2/377) وكشاف القناع (2/324) .
(3) انظر الاختيار (1/131) .
(4) انظر القوانين ص (83) .(1/67)
وعلى هذا نرجئ الكلام عن هذا في باب الظهار .
قوله [ فإنْ لم يَجِدْ ] :
يكون واجدًا للرقبة بواحد من أمرين :-
الأمر الأول : أن يكون واجدًا لعين الرقبة .
الأمر الثاني : أن يكون واجدًا لثمن الرقبة .
وشروط صحة الإعتاق تكلم عليها العلماء رحمهم الله في باب الظهار , لكن شروط وجوب إعتاق الرقبة أن يكون واجدًا لها ؛ إما أن يجد عينها وإما أن يجد ثمنها .
الشرط الثاني : أن يكون ذلك بعد النفقات الشرعية والحوائج الأصلية وقضاء الديون .
فإذا كان عنده دراهم وهذه الدراهم يحتاجها نفقة له ولمن يمونه نقول : احبس هذه الدراهم ولا تشتر رقبة إذا كانت هذه الدراهم يحتاجها لحوائجه الأصلية كأواني البيت والأدوات الكتابية وللفرش والغطاء والآلات التي يحتاجها للبيت ولا يجب عليه أن يكفِّر بالإعتاق . المهم أن تكون فاضلة عن نفقاته الشرعية وحوائجه الأصلية وقضاء الواجبات .
وإذا لم يجد الرقبة أو لم يجد الثمن الذي يكون فاضلاً على النفقات والحوائج الأصلية وقضاء الديون فإنه ينتقل إلى الصيام .
وجمهور أهل العلم رحمهم الله أن هذه الخصال الثلاث على الترتيب كما دل له حديث أبي هريرة > في الصحيحين (1) , وقال الإمام مالك ~ أنها على التخيير والصواب ما ذهب إليه أكثر أهل العلم رحمهم الله أنها على الترتيب وليست على التخيير (2) .
قوله [ فإنْ لم يَجِدْ فصيامُ شَهرينِ مُتتابعينِ ] :
إذا لم يجد الرقبة ينتقل إلى الخصلة الثانية وهي أن يصوم شهرين متتابعين ولا بد من التتابع , لكن لو انقطع التتابع بعذر شرعي فإنه لا ينقطع على الصحيح .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم [ باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفِّر ] (1936) ومسلم في الصيام [ باب تحريم الجماع في شهر رمضان ] (1111) .
(2) تأتي إن شاء الله في كتاب الظهار .(1/68)
مثل : المرض والسفر والحيض والنفاس ... إلخ فمثل هذه الأشياء إذا قطعت التتابع فإن ذلك لا يضر بل يجب عليه إذا زال عذره أن يتابع الصيام ويقضي متتابعًا .
قوله [ فإن لم يَستطعْ فإطعامُ سِتِّينَ مِسكينًا ] :
إذا كان لا يستطيع الصيام فإنه يطعم ستين مسكينًا .
مسألة : كيف لا يستطيع الصيام ؟ نقول : يدخل تحت ذلك صورتان :
الصورة الأولى : أن لا يستطيع الصيام حقيقة وذلك لكونه كبيرًا لا يستطيع أو مريضًا مرضًا لا يرجى برؤه ولا يستطيع معه الصيام . فهنا ينتقل إلى الإطعام .
الصورة الثانية : أن لا يستطيع الصيام حكمًا وذلك بأن يلحقه ضرر في معيشته فهنا ينتقل إلى الإطعام.
أما كونه يشق عليه الصيام فهذا لا يُعفيه أن ينتقل إلى الإطعام .
لكن إذا كان إما أن يصوم ويعطل معاشه ويلحقه ويلحق أهله ضرر وإما أن يتعيَّش ويترزَّق ويترك الصيام لا يقدر عليه فنقول هنا : ينتقل إلى الإطعام .
وقوله [ فإطعام ستين مسكينًا ] : هنا إذا لم يستطع فإنه ينتقل إلى الإطعام والإطعام وأحكامه وشروطه ... إلخ هذا سيأتي إن شاء الله كما سبق أن العلماء يبحثونه في أحكام الظهار , لكن نشير باختصار إلى أن الإطعام له كيفيتان :
الكيفية الأولى : التمليك وذلك بأن يعطيهم حَبًّا .
مسألة : وهل هو مقدر بالشرع أو مقدر بالعرف ؟ نقول : ليس مقدرًا بالشرع وإنما هو مقدر بالعرف كما قال تعالى في كفارة اليمين ژ ? ? ? ? ? ژ .
والآن لو أعطى كل واحد كيلو من الأرز هذا يجزئ إن شاء الله لأن هذا الكيلو يكفي لإطعامه وأما بالنسبة لتحديده بنصف صاع أو مد بر ... إلخ فالآثار الواردة عن الصحابة } مختلفة .
والسنة لم يثبت فيها شيء فنرجع إلى العرف .
الكيفية الثانية : أن يعشيهم أو يغديهم يعني يطبخ طعامًا فيطعمهم إياه .
وأيضًا لا بد من العدد كما في شروط الإطعام ,لا بد أن يطعم ستين مسكينًا فلو كرر الإطعام على عشرة فإن هذا لا يجزئ خلافًا للحنفية رحمهم الله .(1/69)
قوله [ فإن لم يَجِدْ سَقَطَتْ ] :
إذا لم يجد الكفارة فإنها تسقط . والدليل على ذلك : حديث أبي هريرة > في قصة الأعرابي فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أُتي بالتمر قال : خذ هذا فتصدق به فقال : أعلى أفقر مني يا رسول الله والله ما بين لابتيها _ يريد الحرتين _ أهل بيت أفقر من أهل بيتي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعمه أهلك (1) ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عليه الكفارة إذا وجدها وأنها مترتبة فدل على أنه إذا لم يجدها سقطت .
ولأن القاعدة أن الواجبات تسقط بالعجز عنها فإذا عجز الإنسان فإنه يسقط عنه هذا الواجب لكن يُستثنى من ذلك ما إذا وجد الكفارة قريبًا فإن عليه أن يكفِّر ؛ لأن هذا الأعرابي الذي جامع أهله لم يجد الكفارة فأُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتمر فلما أُتي به قال - صلى الله عليه وسلم - تصدق به .
فنقول : إذا وجدها قريبًا يخرجها وإذا لم يجدها تسقط عنه .
باب ما يُكره ويُستحب وحكم القضاء
قوله [ يُكْرَه جَمْعُ رِيقِه فيَبْتَلِعُه ] :
يكره للصائم أن يجمع ريقه ثم يبتلعه .
وعلة الكراهة : قالوا : خروجًا من خلاف من قال بفطره فإن بعض العلماء ذكروا أن من جمع ريقه ثم ابتلعه فإنه يفطر فلأجل أن نخرج من هذا الخلاف فإنه يكره أن يجمع ريقه ثم يبتلعه .
لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أن تعليل الأحكام بالخلاف ليس تعليلاً صحيحًا تثبت به الأحكام الشرعية لأن الخلاف علة حادثة بعد عهد النبوة .
ولو قلنا : بأنه تعليل صحيح للزم من ذلك أن نلحق الكراهة بكثير من الأحكام الشرعية والصواب أنه ينظر إلى القول هل له حظ من النظر سواء من القرآن أو السنة فيقال به وإلا فإنه لا ينظر إليه .
قوله [ ويَحْرُمُ بَلْعُ النُّخامةِ ] :
__________
(1) سبق تخريجه .(1/70)
سواء كانت هذه النخامة من جوفه أو كانت من صدره أو كانت من دماغه فإنه يحرم بلعها وإنما حرُمَ بلعها لأنها مضرة والله تعالى قال ژ? ? ہ ہ ہژ .
قوله [ ويُفْطِرُ بها فقط إن وَصَلَتْ إلى فَمِه ] :
أي : لو أن الإنسان جمع ريقه ثم ابتلعه فإنه لا يفطر لكن يفطر بالنخامة وهذا ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله (1) .
الرأي الثاني : رأي أبي حنيفة ومالك رحمهما الله أنه لا يفطر بها إلحاقًا لها بالريق (2) وهذا القول هو الأقرب لأن هذه ليست أكلاً ولا شربًا ولا في معنى الأكل والشرب وكما ذكر الحنفية والمالكية أن إلحاقها بالريق أقرب .
وقوله [ إن وصلت إلى الفم ] لأنها من غير الفم .
قوله [ ويُكْرَهُ ذَوقُ طَعامٍ بلا حَاجةٍ ] :
ذوق الطعام ينقسم إلى قسمين :-
القسم الأول : أن يكون لحاجة , يحتاج أن يذوق الطعام كالذي يطبخ فهو بحاجة إلى أن ينظر إلى حلاوته وملوحته ونحو ذلك فإن هذا لا بأس به كما ورد ذلك عن ابن عباس { حكاه عنه البخاري (3) .
القسم الثاني : أن يكون ذلك لغير حاجة فهذا يكره ؛ لأنه لا يأمن أن ينزل إلى جوفه فيفطر بذلك . وفي كلا الحالتين لا يبلع ريقه يعني إذا بلع الطعام فإنه لا بد أن يلفظه ولو تعمد وبلع ريقه بعد أن ذاق الطعام فإنه يفطر بذلك لأنه يصدق عليه أنه تناول طعامًا (4) .
قوله [ ومَضْغُ عِلْكٍ قَوِيٍّ، وإن وَجَدَ طَعْمَها في حَلْقِه أَفْطَرَ ] :
أي : يكره أن يمضغ العلك يعني يَلُوكَه بأسنانه وأضراسه .
والعلك ينقسم إلى قسمين :-
__________
(1) انظر روضة الطالبين (2/360) وكشاف القناع (2/329) .
(2) انظر حاشية ابن عابدين (2/400) والشرح الصغير (1/246) .
(3) أخرجه البخاري كتاب الصوم باب [ اغتسال الصائم ] .
(4) قال ابن قدامة في المغني (4/359) : قال أحمد : « أحب إلي أن يتجنب ذوق الطعام , فإن فعل لم يضره , ولا بأس به »(1/71)
القسم الأول : أن يكون العلك قويًا لا يتحلل فهذا يقول المؤلف ~ بأنه يُكره والعلك قيل بأنه ضرب من صمغ الشجر يُمضغ فلا ينماع كاللبان وقيل بأنه صمغة تعلك والقولان متقاربان .
القسم الثاني : العلك الذي يتحلل قال المؤلف ~ [ويَحْرُم العِلْكُ الْمُتَحَلِّلُ إن بَلَعَ رِيقَه] : فالذي يتحلل ويتجزأ في الفم إذا علكه الإنسان فإنه يحرم .
مسألة : هل يفطر أو لا يفطر ؟
يقول المؤلف ~ [ وإن وَجَدَ طَعْمَها في حَلْقِه أَفْطَرَ ] . وجعل المؤلف ~ المناط وجود الطعم في الحلق . والصواب أن المناط نزول الطعم إلى الجوف . إذا نزل طعمه إلى جوفه فإنه يفطر كما لو بلع ريقه ونزل طعم هذا العلك على جوفه فإنه يفطر .
قوله [ وتُكْرَهُ القُبلةُ لِمَنْ تُحَرِّكُ شَهوتَه ] :
وقوله ~ [ القبلة ] مراده ما هو أعم من القبلة يعني كل ما يتعلق بمباشرة المرأة دون الجماع كاللمس لشهوة والنظر لشهوة , ينظر إلى زوجته لشهوة أو يمسها أو يقبلها لشهوة ونحو ذلك . يقول المؤلف ~ بأن هذا مكروه .
ودليلهم على ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن القبلة فرخص للشيخ ونهى الشاب أخرجه أبو داود والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعًا وأخرجه البيهقي عن أبي هريرة موقوفًا . وهذا الحديث اختلف أهل الحديث رحمهم الله في إثباته والأقرب عدم ثبوته وأنه لا يثبت مرفوعًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو موقوف على أبي هريرة > (1) .
فتلخص لنا القول الأول : أن دواعي الوطء للصائم مكروهة وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ~ وذكرنا دليلهم وأنهم استدلوا بحديث أبي هريرة > (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصيام [ باب كراهيته للشاب ] (2387) , والبيهقي في [ باب كراهية القبلة لمن حركت شهوته ] (4/232) وضعفه ابن القيم في زاد المعاد (2/58) .
(2) انظر الإنصاف (3/232) .(1/72)
القول الثاني : إباحة دواعي الجماع مطلقًا وهذا أيضًا ورد عن أبي هريرة > (1) .
القول الثالث : أن دواعي الجماع محرمة وهذا قول الشافعية رحمهم الله (2) واستدلوا على ذلك بقوله تعالى ژ? ?ژ فهذا يدل على أنه قبل الليل لا يجوز له أن يباشر .
القول الرابع : استحباب دواعي الوطء وهذا قول ابن حزم ~ (3) والأقرب أن دواعي الوطء جائزة ولا بأس بها .
ويدل لهذا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم وكان أملككم لأَربه أو لإربه (4) . فالإرب (بالكسر) هو العضو وأما الأرب (بالفتح) فهو الحاجة .
وأيضًا حديث عائشة < في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم (5) فالأقرب أن دواعي الوطء للصائم جائزة ولا بأس بها إلا إذا ظن الإنسان فساد الصوم بالإنزال وأنه إذا قبَّل أو باشر سينزل منيًا أو سيتدرج به ذلك إلى الجماع فنقول هذا محرم ولا يجوز وإنما حرُم ذلك لأنه وسيلة إلى المحرم والوسائل لها أحكام المقاصد .
قوله [ ويَجِبُ اجتنابُ كَذِبٍ ] :
الكذب هو خلاف الصدق , والصدق هو الإخبار بما يطابق الواقع وعلى هذا يكون الكذب الإخبار بما يخالف الواقع .
ويجب اجتناب الكذب للصائم وغير الصائم لكنه بالنسبة للصائم آكد لحرمة الصوم .
والأدلة التي تدل على تحريم الكذب كثيرة جدًا :-
__________
(1) انظر فتح الباري (4/150) .
(2) انظر روضة الطالبين (2/362) .
(3) انظر المحلى (6/144) .
(4) انظر التخريج القادم .
(5) أخرجه البخاري في الصوم [باب المباشرة للصائم](1927),ومسلم في الصيام [باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته(1106) .(1/73)
فمن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابًا (1) .
وكذلك أيضًا حديث أبي هريرة > في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر من علامة المنافق أنه إذا حدث كذب (2) .
والكذب ورد الترخيص فيه في مواضع :-
الكذب في الحرب وللإصلاح بين الناس وللإصلاح بين الزوجين . فهذه الثلاثة مواضع ورد الترخيص فيها .
قوله [وغِيبةٍ ] :
الغيبة فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها ذكر أخاك بما يكره (3) وسواء كان غائبًا أو كان حاضرًا فإن هذا كله محرم إذا ذكر الإنسان أخاه بما يكره .
وكما تقدم أن الغيبة محرمة والأدلة على تحريمها كثيرة جدًا :-
من ذلك قوله تعالى ژ ? ? ? ?? ? ? ٹ ٹ ٹ ٹ ? ? ژ .
وفي الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم - كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (4) .
قوله [ وشَتْمٍ ] :
الشتم : هو السب والكلام القبيح سوى القذف وهو أيضًا محرم وكونه في الصوم آكد تحريمًا لحرمة الصوم .
وأيضًا لما ثبت في صحيح البخاري قال - صلى الله عليه وسلم - من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة > (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الأدب [ باب قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ژ ] رقم (6049) , وأخرجه مسلم كتاب البر والصلة [ باب قبح الكذب , وحسن الصدق وفضله ] رقم (2608) .
(2) رواه البخاري في كتاب الإيمان [ باب علامة المنافق ] حديث (33) , ومسلم كتاب الإيمان [ باب بيان خصال المنافق ] حديث (59) .
(3) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب [ باب تحريم الغيبة ] حديث رقم (2589) .
(4) يأتي تخريجه إن شاء الله في حديث صفة الحج .
(5) أخرجه البخاري في كتاب الصوم [ باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم ] رقم (1903) .(1/74)
قال الإمام أحمد ~ (ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري ويصون صومه) (1) .
وكان السلف رحمهم الله إذا صاموا جلسوا في المساجد وقالوا : « نحفظ صومنا ولا نغتاب أحد» (2) .
قوله [ وسُنُّ لِمَن شُتِمَ قولُه إِنِّي صَائِمٌ ] :
يُستحب لمن شُتم أو سُب ألا يجيب من سبه أو من شتمه وإنما يقول : إني صائم .
ودليل ذلك : حديث أبي هريرة > في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم (3) .
وظاهر قول المؤلف ~ أنه يقول ذلك جهرًا وهذا الذي يظهر من السنة أنه يقوله جهرًا لكي يبيّن لمن سبه أو شتمه أنه يستطيع أن يأخذ الحق لنفسه لكن منعه من ذلك حرمة الصيام (4) .
وظاهر كلام المؤلف ~ أيضًا أنه يقول ذلك سواء كان صومه فرضًا أو نفلاً وهذا الذي يدل له عموم الحديث وهو الصواب .
وقوله [ وتَأْخِيرُ سُحورٍ ] :
أي : يُستحب أن يؤخر السحور . ويؤخذ من كلام المؤلف ~ [وتَأْخِيرُ سُحور] أن السحور مستحب .
ويدل لذلك : حديث أبي سعيد > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين أخرجه أحمد وله طرق يشد بعضها بعضًا (5) .
وأيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة > نعم سحور المؤمن التمر (6) .
والسحور له فوائد :-
الفائدة الأولى : أنه هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتسحر .
__________
(1) انظر كشاف القناع (2/381) .
(2) انظر كشاف القناع (2/381) .
(3) أخرجه البخاري في الصوم [ باب هل يقول إني صائم إذا شُتم ] رقم (1904) , ومسلم في الصيام [ باب فضل الصيام ] (1151),(163) .
(4) انظر كشاف القناع (2/382) .
(5) انظر الفتح الرباني (10/15) .
(6) رواه أبو داود في الصوم [ باب من سمّى السحور الغداء ] رقم (2345) .(1/75)
الفائدة الثانية : مخالفة أهل الكتاب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر (1) أخرجه مسلم .
الفائدة الثالثة : التقوي على العبادة فإنه إذا تسحر يتقوى على العبادة .
الفائدة الرابعة : الذكر والدعاء الذي يكون للمتسحر في آخر الليل .
الفائدة الخامسة : خفة الصيام عليه والرغبة في الازدياد منه .
وقول المؤلف [ وتأخير السحور ] نقول : يؤخر السحور إلى آخر الليل أي : قبيل طلوع الفجر فيأكل الإنسان إلى أن يتبين له الفجر ثم يمسك .
واختلف العلماء رحمهم الله في وقت السحور متى يكون بحيث يكون أصاب السنة ؟
فقال بعضهم : من نصف الليل فلو أنه أكل من نصف الليل فإنه يكون حينئذ قد أصاب السنة وبه قال المالكية (2) .
الرأي الثاني : أنه يكون في السدس الأخير من الليل وعلى هذا تَقْسم الليل إلى ستة أقسام فتحسب ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر وتقسمه على ستة والسدس الأخير هو الذي يكون فيه السحور . إن أكلت في السدس الأخير أصبت السنة وإن لم تأكل فيه فإنك لا تكون مصيبًا للسنة .
وعلى هذا في وقتنا اليوم إذا قلنا بأن الشمس تغرب في الساعة السابعة والفجر يطلع في الساعة الرابعة فيكون عندنا المجموع تسع ساعات فنقسم تسعة على ستة فيكون الناتج واحد ونصف أي يكون عندنا ساعة ونصف . فيكون بدأ السحور من الساعة الثانية والنصف فإذا أكلت في هذا الوقت تكون مصيبًا للسنة .
وهذا القول ذهب إليه أبو حنيفة ~ هو الأقرب (3) .
ونفهم أيضًا أن الإنسان كلما أخر السحور فهذا هو الأفضل لأن هذا هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أما كون الإنسان يأكل من نصف الليل أو يأكل الساعة الثانية عشر ونحو ذلك ثم يقول تسحرت نقول : هنا لم يحقق السنة بل السنة إنما تكون في وقت السحر .
والأفضل هو تأخير السحور إلى أن يتبين الفجر .
__________
(1) رواه مسلم حديث (1096) .
(3) انظر البحر الرائق (2/292) .(1/76)
ويدل لهذا : حديث زيد بن ثابت > قال « تسحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قمنا إلى الصلاة قال أنس قلت لزيد كم كان بين الأذان والسحور قال قدر خمسين آية » وهذا يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر السحور إلى طلوع الفجر وهذا الحديث في الصحيحين (1) .
ويدل لهذا : أيضًا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق (2) . رواه مسلم من حديث سمرة > .
وهذا يدل على أن الإنسان يشرع له أن يأكل حتى يطلع الفجر الثاني .
قوله [وتَعجيلُ فِطْرٍ ] :
أيضًا السنة أن يعجل الفطر لما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر (3) .
مسألة : متى يكون تعجيل الفطر ؟
يكون تعجيل الفطر بغروب الشمس وغروب الشمس إما أن يكون حقيقة بأن يراها غربت فالسنة أن يبادر .
وإما أن يكون حكمًا وذلك بأن يظن أنها غربت فإذا ظن أنها غربت فيُستحب له أن يبادر .
فعندنا اليقين والحكم والشك :
فاليقين يفطر والحكم أيضًا يفطر ؛ لأنه يُعمل بغلبة الظن في دخول الوقت وفي خروجه .
وتقدم لنا حديث أسماء < قالت : أفطرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم غيم ثم طلعت الشمس (4) هذا يدل على أن إفطارهم مبني على غلبة الظن إذ لو كان عن يقين ما طلعت الشمس .
أما إذا كان يشك في غروب الشمس فإنه لا يجوز له أن يأكل .
__________
(1) رواه البخاري في الصوم [ باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر ] رقم (1921) , ومسلم في الصيام [ باب فضل السحور ] رقم (1097) .
(2) رواه مسلم في الصيام [ باب الصوم يحصل بطلوع الفجر ] حديث (1094) .
(3) أخرجه البخاري في الصوم [ باب تعجيل الإفطار ] رقم (1957) , ومسلم في الصيام [ باب فضل السحور ] رقم (1098) .
(4) تقدم تخريجه .(1/77)
فأصبح عندنا تعجيل الفطر إما أن يكون بعد اليقين أو بعد الحكم .
قوله [ على رُطَبٍ، فإن عُدِمَ فتَمْرٌ، فإن عُدِمَ فماءٌ ] :
أيضًا السنة أن يكون على رطب .
ويدل لهذا : حديث أنس > قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُفطر على رطبات فإن لم تكن فتمرات فإن لم تكن حسا حسوات من ماء وهذا حسنه الترمذي (1) .
والرطب : هو التمر الغير يابس وأما اليابس فهو التمر . فيُستحب للإنسان أن يفطر على رطب فإن لم يجد فعلى تمر .
( فإن لم يجد فيفطر على ماء ) فإن عدم الماء فإنه يفطر على ما تيسر .
قوله [ وقولُ ما وَرَدَ ] :
يُستحب عند الإفطار التسمية وهي واجبة , وأيضًا يحمد الله - عز وجل - بعد انتهاء فطره . والحمد له صيغ تقدم بيانها .
ويستحب أن يدعو الله - عز وجل - عند فطره لما في الترمذي وحسنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثلاثة لا تردُّ دعوتهم : الإمام العادل والصائم حين يفطر ودعوة المظلوم (2) .
وأيضًا يستحب أن يقول ما ورد عن ابن عمر { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله رواه أبو داود وحسنه الدارقطني (3) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد (3/164) , وأبو داود في الصيام [ باب ما يفطر عليه ] (2356) , والترمذي في الصوم [ باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار ] (699) , قال الترمذي « حسن غريب » , وصححه الحاكم (1/432) على شرط مسلم ووافقه الذهبي .
(2) أخرجه الترمذي وحسنه في كتاب الدعوات [ باب في العفو والعافية ] رقم (3598) , وابن ماجة في الصوم [ باب في الصائم لا ترد دعوته ] رقم (1752) وضعفه العلامة الألباني معللاً إياه بجهالة أي مدلة «الضعيفة (1358) » .
(3) أخرجه أبو داود في الصيام [ باب القول عند الإفطار ] (2357) , وابن السني والدارقطني (2/185) , والحاكم (1/422) . قال الدارقطني «إسناده حسن» وصححه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي .(1/78)
وأما حديث ابن عباس { اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم هذا لا يثبت (1) .
فنقول : الثابت : التسمية والحمد له والدعاء وأن يقول : « ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله » .
قوله [ ويُسْتَحَبُّ القضاءُ مُتتابعًا ] :
أي : يُستحب أن يقضي رمضان متتابعًا فيبادر بالقضاء يعني يقضي فورًا .
وتعليل ذلك : أن هذا أسرع في إبراء الذمة وأحوط للعبادة لأن الإنسان لا يدري ما يفجأه .
ويجوز له أن يؤخر إلى أن يبقى عليه من رمضان قدر ما أفطر .
ويدل لهذا : حديث عائشة < قالت : « كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان لمكاني من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - » (2) .
وقوله [ متتابعًا ] : يعني يُستحب أن يتابع في قضاء رمضان .
وعند ابن حزم ~ أنه يجب عليه أن يتابع (3) .
أما الجمهور فاستدلوا على ذلك بقوله تعالى ژ? ? ? ? ژ ولم يذكر الله تعالى أن هذه العدة تكون متتابعة .
وكذلك ورد عن الصحابة } عدم التتابع كمعاذ بن جبل وأبي عبيدة ورافع بن خديج وابن عباس } . فالصحابة وارد عنهم ما يؤيد ما دل له القرآن وهو عدم وجوب التتابع (4) .
أما من قال بوجوب التتابع فاستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة > مرفوعًا من كان عليه رمضان فليسرده ولا يقطعه وهذا الحديث ضعيف لا يثبت (5) .
__________
(1) أخرجه الدارقطني (2/185) وضعفه ابن القيم في الزاد (2/51) والهيثمي في المجمع (3/156) .
(2) أخرجه البخاري في الصوم [ باب متى يقضي قضاء رمضان ] رقم (1950) , ومسلم في الصيام [ باب جواز تأخير قضاء رمضان ما لم يجيء رمضان آخر ] رقم (1146) .
(3) انظر المحلى (6/395) .
(4) انظر صحيح البخاري (4/222) وسنن الدارقطني (2/155) حديث (2305) .
(5) انظر التلخيص الحبير (1/206) , والإرواء (4/95) .(1/79)
فعلى هذا يكون الأقرب ما ذهب إليه جمهور أهل العلم وإن ورد عن ابن عمر { التتابع , لكن أثر ابن عمر { هذا يخالف ما كان عليه أكثر الصحابة } وما دل له ظاهر القرآن أنه لا يجب التتابع (1) .
قوله [ ولا يَجوزُ إلى رمضانَ آخَرَ من غيرِ عُذْرٍ ] :
لا يجوز للإنسان أن يؤخر قضاء رمضان هذا العام إلى أن يأتي رمضان آخر . لحديث عائشة < لأنها كانت تؤخر إلى شعبان ولم تكن تؤخره إلى أن يأتي رمضان الثاني ولو كان جائزًا لفعلته عائشة < . وأيضًا هذا يؤدي إلى تراكم الواجب . وأيضًا قياسًا على الصلاة , فإن الصلاة لا تؤخر حتى يأتي وقت الصلاة الأخرى .
وظاهر كلام المؤلف ~ [ولا يَجوزُ إلى رمضانَ آخَرَ من غيرِ عُذْرٍ ] أنه يجوز للإنسان أن يؤخر إلى أن يبقى عليه من رمضان الآخر قدر ما عليه من الأيام .
وظاهر كلام المؤلف ~ أنه يجوز له أن يتطوع قبل قضاء رمضان لأنه جوز له أن يؤخر القضاء إلى أن يبقى عليه من رمضان الثاني قدر ما يجب عليه أن يقضيه .
فيؤخذ من هذا أنه يجوز له أن يؤخر وأن يتطوع وأن هذا لا بأس به .
وهذا القول أعني جواز التطوع قبل القضاء هو مذهب الحنفية وكذلك المالكية رحمهم الله (2) .
الرأي الثاني : أنه لا يجوز وهذا هو المشهور من المذهب (3) .
الرأي الثالث : التفصيل : إن كان إفطاره لعذر فإنه يتطوع وإن كان لغير عذر فإنه لا يتطوع وبه قال الشافعية رحمهم الله (4) .
__________
(1) سبق ذكره .
(2) انظر المصادر السابقة .
(3) انظر شرح منتهى الإرادات (2/379) .
(4) انظر نهاية المحتاج (3/211) .(1/80)
والأقرب ما ذهب إليه الحنفية والمالكية وأن الإنسان يجوز له أن يتطوع قبل القضاء لأنه أُذن له في التأخير والقاعدة « أن ما ترتب على المأذون فغير مضمون » لكن هناك من التطوع ما يكون بعد القضاء وهو صيام ست من شوال إذا أراد أن يصوم ستة أيام من شوال فإنه لا بد أن يصوم القضاء قبل صيام هذه الستة لأن ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من صام رمضان ثم أتبعه ست من شوال فكأنما صام الدهر (1) ولو صام الستة من شوال قبل أن يصوم رمضان لم يَصْدُق عليه أنه صام رمضان . فلا بد أن يصوم رمضان أداءً وقضاءً .
قوله [ فإن فَعَلَ فعليه مع القَضاءِ إطعامُ مِسكينٍ لكلِّ يومٍ ] :
أي : إن أخر القضاء حتى جاء رمضان الثاني فعليه أن يُطعم عن كل يوم مسكينًا وهذا هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله (2) .
وعند الشافعية رحمهم الله أن الإطعام يتكرر بتكرر الرمضانات (3) .
مثال ذلك : إذا كان الإنسان عليه صيام يومين وجاء رمضان وهو لم يصم فإنه يطعم مسكينين وإذا جاء رمضان الثاني فإنه يطعم أربعة مساكين وإذا جاء رمضان الثالث فإنه يطعم ستة مساكين ... وهكذا.
أما عند الحنابلة والمالكية يجب عليه أن يطعم عن كل يوم مسكينًا ولو أخره عدة رمضانات .
وعند الحنفية : لا يجب الإطعام .
أما الذين قالوا بإيجاب الإطعام قالوا بأنه وارد عن الصحابة} كأبي هريرة وابن عباس} (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيام [ باب استحباب صوم ستة أيام من شوا ل إتباعًا لرمضان ] رقم (1164) عن أبي أيوب الأنصاري > .
(2) انظر مواهب الجليل (3/387) , والإنصاف (3/237) .
(3) انظر مغني المحتاج (1/645) .
(4) أثر أبي هريرة أخرجه عبدالرزاق (4/234) حديث (7220,7221) , والدارقطني (2/196-197) , والبيهقي (4/253) . وقال الدارقطني : إسناده صحيح موقوف . وأما أثر ابن عباس فأخرجه الدارقطني (2/197) والبيهقي (4/253) .(1/81)
وأما الذين قالوا لا يجب وهم الحنفية رحمهم الله استدلوا بظاهر القرآن : بقوله تعالى ژ چ چ ? ? ژ .
وأيضًا قالوا : ورد عن ابن مسعود > أنه سُئِل فأفتى بالقضاء ولم يذكر إطعامًا (1) .
وعلى هذا نقول : بناء على أنه وارد عن ابن عباس وأبي هريرة } وهو لم يثبت فيه شيء مرفوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقول : الأحوط أن يطعم عن كل يوم مسكينًا .
والإطعام هنا كالإطعام في الكفارة وتقدم ما يتعلق بالإطعام في الكفارة من أحكام .
مسألة : إذا أخره وكان تأخيره لعذر فهذا لا يُلزم بشيء لعدم تفريطه , فلو أن الإنسان أفطر لمرض واستمر معه المرض حتى جاء رمضان الثاني فإنه يقضي ولا يجب عليه الإطعام .
قوله [ وإن ماتَ، ولو بعد رَمضانَ آخَرَ ] :
أي : إذا استمر به العذر حتى مات فإنه لا يجب عنه الإطعام وإن لم يستمر به العذر ومات ثم جاء رمضان الثاني فإنه يُطعم عنه حتى ولو مات يُطعم من تركته .
وقوله [ولو بعدَ رَمضانَ آخَرَ ] : هذه إشارة إلى خلاف الشافعية فإن الشافعية كما تقدم يرون أنه تُكرر الكفارة بتكرر الرمضانات وقلنا : الصواب في هذه المسألة أنه لا تتكرر لأن الأصل براءة الذمة .
وتقدم أن الإطعام فيه نزاع فكيف يقال بالتكرار أيضًا .
وقالوا أيضًا : بإخراج كفارة واحدة زال تفريطه .
قوله [ وإن ماتَ وعليه صومٌ أو حَجٌّ أو اعتكافٌ أو صلاةُ نَذْرٍ استُحِبَّ لوَلِيِّهِ قَضاؤُه ] :
تحرير المذهب في الذي يُقضى عن الميت والذي لا يُقضى عنه أن الذي وجب بأصل الشرع لا يُقضى عن الميت سواء كان صلاةً أو صيامًا وما أوجبه الميت على نفسه بالنذر فإنه يُقضى عنه فإذا نذر أن يصلي أو نذر أن يصوم أو نذر أن يعتكف أو أن يحج ... ... إلخ فإنه يُقضى عنه . وهذا هو المشهور من المذهب (2) .
__________
(1) انظر المحلى (6/395) .
(2) انظر الإنصاف (3/238-239) .(1/82)
الرأي الثاني : لا يُقضى عنه مطلقًا ما وجب بأصل الشرع أو ما وجب بالنذر وقال به أبو حنيفة ومالك رحمهما الله قالوا : إلا أن يوصي فإذا أوصى بقضاء الصيام فإنه يُطعم عنه (1) .
الرأي الثالث : أنه يُقضى عن الميت ما وجب بأصل الشرع وكذلك ما وجب بالنذر مطلقًا وهذه رواية عن الإمام أحمد ~ واختارها صاحب الفائق وهذا القول هو الصواب (2) .
ويدل لذلك : حديث ابن عباس { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من مات وعليه صوم صام عنه وليه ... وحديث عائشة وكلا الحديثين في الصحيحين (3) .
وأما الذين قالوا لا يُقضى عنه مطلقًا فاستدلوا بحديث ابن عباس { لا يصلي أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مدًا من حنطة وهذا أخرجه
النسائي وورد مرفوعًا وهذا لا يثبت مرفوعًا لكن ثبت موقوفًا على ابن عباس { وسنده صحيح (4) .
وقد ورد عن عائشة < وهو لا يثبت وأيضًا ورد عن ابن عمر { وهو لا يثبت (5) .
وعلى هذا نقول : الصواب في هذه المسألة أنه يُقضى عنه ما وجب بأصل الشرع وأيضًا ما وجب بالنذر .
فإذا مات وعليه صيام يُقضى عنه لكن هذا فيه تفصيل سنشير إليه .
وكذلك إذا نذر أن يعتكف أو نذر أن يصوم يُقضى عنه .
بالنسبة للصيام الذي وجب بأصل الشرع نقول : يُقضى عنه ,ومن أفطر فله حالتان :
الحالة الأولى : أن يكون فطره لعذر لا يرجى زواله . مثل : إنسان مريض مرضًا لا يُرجى برؤه فنقول : هذا يُطعَم عنه إذا مات سواء تمكن من عدة من أيام أخر أو لم يتمكن .
__________
(1) انظر الاختيارات والإفصاح (1/248) .
(2) انظر الإنصاف (3/239) .
(3) أخرجهما البخاري في الصوم [ باب من مات وعليه صوم ] (1952),(1953) , ومسلم في الصيام [ باب من مات وعليه صوم ] (1147),(1148) .
(4) انظر مشكل الآثار للطحاوي (3/141) , وفتح الباري (4/9,193/152) , ونيل الأوطار (4/236) .
(5) انظر التخريج السابق .(1/83)
الحالة الثانية : أن يكون إفطاره لعذر يُرجى زواله . مثل : إنسان مسافر أو مريض مرضًا يُرجى برؤه وشفاؤه فهذا إن تمكن من عدة من أيام أخر يصوم عنه وليه أو أن يطعم عنه من التركة .
إذا لم يتمكن من عدة من أيام أخر نقول : لا يجب عليه شيء .
فمثلاً : لو أنه أفطر خمسة أيام وهو مسافر ثم مات في رمضان نقول : لا يجب عليه شيء .
ولو أنه أفطر عشرة أيام ثم بعد ذلك تمكن من خمسة ومات في اليوم السادس نقول : ( يُقضى عنه خمسة أيام أو أن الولي يطعِم عنه ) .
ومثل ذلك النذر , فلو أن إنسانًا نذر أن يصوم فنقول : إن تمكن منه فإنه إذا مات يُصام عنه وإن لم يتمكن منه فإنه لا يجب أن يُصام عنه .
مثال ذلك : لو قال : لله عليَّ أن أصوم عشرة أيام من شعبان ثم مات قبل شعبان نقول : هنا لا يجب عليه شيء لكن إن تمكن منه بأن جاءه شعبان وأدرك عشرة أيام منه ثم مات نقول : يُستحب لوليه أن يصوم عنه فإن لم يصم فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا .
وقوله [ استُحِبَّ لوَلِيِّهِ قَضاؤُه ] : هل هو على سبيل الوجوب أو الاستحباب ؟ هذا موضع خلاف:-
الجمهور على سبيل الاستحباب وليس على سبيل الوجوب , فإنه لا يجب على الإنسان أن يصوم عن غيره لقوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ژ .
وخالف في ذلك ابن حزم ~ وأوجب ذلك (1) .
وقوله [ لوَلِيِّهِ ] : هل هذا على سبيل التعيين أو ليس على سبيل التعيين ؟
نقول : ليس على سبيل التعيين ,فلو صام غير الولي عن هذا الميت فإن هذا مجزئ ويبرئ الذمة .
باب صوم التطوع
التطوع مأخوذ من الطوع وهو نقيض الكره والمراد به هنا فعل طاعة من الصيام غير واجبة أو التعبد لله - عز وجل - بصيام غير واجب .
وشرعية صيام التطوع هذه من رحمة الله - عز وجل - فمن رحمته أن هذه الأصول والأركان التي فُرضت على المسلم وشرع لها ما يسد الخلل والنقص الحاصل فيها أثناء تأديتها .(1/84)
فأركان الإسلام الخمسة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله والصلاة والزكاة والصيام والحج هذه شرع الله لها من التطوعات والنوافل ما يسد الخلل والنقص الذي يحصل أثناء تأديتها وهذا كما أسلفت من رحمة الله - عز وجل - إذ لو لم تشرع هذه العبادات من النوافل والتطوعات لكان الإتيان بها بدعة والإنسان مأمور أن يأتي بهذه الأركان كما أمره الله - عز وجل - بأركانها وواجباتها وشروطها وقد يحصل شيء من الخلل فشرع له أن يسد هذا الخلل بهذه النوافل والتطوعات . هذه من حكم شرعية مثل هذه التطوعات .
ومن حكم شرعية هذه التطوعات زيادة القرب إلى الله - عز وجل - كما جاء في الحديث القدسي وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ... ... (1) .
أيضًا من الحكم زيادة الحسنات ورفعة الدرجات وتكفير السيئات فإن الإنسان لا يتقرب إلى الله - عز وجل - بشيء من هذه النوافل إلا زاد بذلك حسنات ومحيت عنه سيئات ورفع درجات عند الله - عز وجل - فعلى هذا ينبغي للإنسان أن يحافظ على مثل هذه النوافل وأن يزداد منها .
قوله [ يُسَنُّ صِيامُ أَيَّامِ البِيضِ ] :
التطوع في الصيام ينقسم إلى قسمين :-
القسم الأول : تطوع مقيد : وهو الذي قُيّد بزمان مخصوص .
القسم الثاني : تطوع مطلق : وهو الذي لم يقيد بزمان مخصوص .
يقول المؤلف ~ [ يُسَنُّ صِيامُ أَيَّامِ البِيضِ ] وهذه الأيام سميت أيام البيض لابيضاض القمر فيها وهي : اليوم الثالث عشر واليوم الرابع عشر واليوم الخامس عشر من الشهر .
__________
(1) أخرجه البخاري في الرقاق [ باب التواضع ] (6502) عن أبي هريرة > .(1/85)
ويدل على سنية صيام أيام البيض حديث أبي ذر > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة وهذا الحديث أخرجه جمع من أهل العلم فأخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والبيهقي ... ... (1) .
وشرعية هذه الأيام البيض مبني على ثبوت الحديث فهل الحديث ثابت أو ليس ثابتًا ؟ كثير من المتأخرين يثبت هذا الحديث فالترمذي يحسنه وابن حبان يصححه وبعض الأئمة لا يثبت هذا الحديث لأن مداره على يحيى بن سام ولم يتابع يحيى في الرواية عن موسى بن طلحة أحد فقالوا بأن يحيى انفرد به عن موسى بن طلحة ولم يتابع عليه أحد ومثل يحيى في مثل هذه السنة لا يحتمل تفرده فما دام أنه لم يتابعه عليه أحد فإنه لا يثبت .
وعلى كل حال السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر فهذه ثابتة سواء قلنا بأنها من أيام البيض أو في غيرها فصيام ثلاثة أيام من كل شهر ثابتة وكما قال صاحب الشرح الكبير بغير خلاف نعلمه (2) .
ويد لهذا : حديث عبدالله بن عمرو بن العاص { في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله (3) والمتأمل لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصيام يجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحافظ على هذه الأيام الثلاثة من كل شهر . واعلم أنك إذا صمت ثلاثة أيام من كل شهر استفدت بذلك فوائد :-
__________
(1) أخرجه أحمد (5/152) , والترمذي في الصوم [ باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر ] (761) , والنسائي في الصيام [ باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة ] (4/222) وابن حبان (3655) عن أبي ذر > , وحسنه الترمذي , وصححه ابن حبان , وحسنه الألباني في الإرواء (4/101) .
(2) انظر الشرح الكبير مع الإنصاف (7/520) .
(3) أخرجه البخاري في الصوم [ باب صوم داود عليه السلام ] (1979) ومسلم في الصيام [ باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به ] (1159) .(1/86)
الفائدة الأولى : أنك تأتي بالسنة الراتبة للصيام وهي صيام ثلاثة أيام من كل شهر فكما أن الصلاة الفريضة لها سنة راتبة وهي ثنتا عشرة ركعة أيضًا الصيام له سنة راتبة وهي صيام ثلاثة أيام من كل شهر ولا شك أن السنن الرواتب ينبغي أن يحافظ عليها الإنسان ولهذا قضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الفائدة الثانية : أنك تصوم الدهر كله إذا صمت ثلاثة أيام من كل شهر كما في حديث عبدالله بن عمرو { صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله .
لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبدالله بن عمرو { كان يسرد الصوم أول ما أرشده إلى أن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر (1) .
الفائدة الثالثة : الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فإن المتأمل لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يجد أنه يحافظ على صيام ثلاثة أيام من كل شهر .
وهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصيام من حيث الاستقراء ينقسم إلى أربعة أقسام :-
القسم الأول : صيام حافظ عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كصيام ثلاثة أيام من كل شهر .
القسم الثاني : رغَّب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بالصيام ولكن لم يحفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحافظ عليه مثل صيام داود - عليه السلام - فالنبي - صلى الله عليه وسلم - رغب عبدالله بن عمرو { أن يصوم يومًا ويفطر يومًا وذكر له أن ذلك صيام داود - عليه السلام - (2) ومع ذلك ما حُفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصوم يومًا ويفطر يومًا .
__________
(1) سبق ذكره .
(2) رواه البخاري في كتاب التهجد [ باب من نام عند السحر ] رقم (1131) .(1/87)
ومثل ذلك أيضًا صيام يوم الإثنين كما في حديث أبي قتادة > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن صوم يوم الإثنين فقال : ذلك يوم ولدت فيه ويوم بعثت فيه أو أُنزل علي فيه أخرجه مسلم (1) . لكن لم يرد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحافظ على صومه .
القسم الثالث : سرْد النبي - صلى الله عليه وسلم - للصيام أحيانًا ففي حديث عائشة < أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وهذا تبعٌ لأشغال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومصالحه (2) .
القسم الرابع : ما أكثَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - الصيام منه وهو شهر شعبان فإن عائشة { قالت وما رأيته في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان (3) .
فتلخص لنا أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصيام ينقسم إلى هذه الأقسام الأربعة .
فنقول : إن السنة أن يحافظ الإنسان على صيام ثلاثة أيام من كل شهر وإذا ثبت حديث أبي ذر > نقول بأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر لها وقتان :-
(1) وقت فضيلة . (2) وقت جواز .
فوقت الفضيلة أن يصوم الإنسان اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر . ووقت الجواز في أي وقت شاء من الشهر .
وإذا لم يثبت هذا الحديث كما تقدم فإن الإنسان يصوم في أول الشهر أو في آخره أو في وسطه حسب ما يتهيأ له .
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيام [ باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ] (1162) .
(2) أخرجه البخاري كتاب الصوم [ باب كيف كان يصوم النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث (2434) ومسلم في الصيام [ باب صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير رمضان ] .
(3) انظر التخريج السابق .(1/88)
وفي حديث عائشة { قالت : لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبالي صامها من أول الشهر أو من وسطه أو من آخره (1) فالإنسان إذا صامها من أول الشهر أو في وسطه أو في آخره أو صام بعضها في أول الشهر وبعضها في وسطه وبعضها في آخره فإنه يحقق هذه السنة الراتبة والحوز على الفضائل التي ذكرناها .
وصيام أيام البيض كما تقدم أنه من السنة المقيدة لأنها قُيدت بزمن .
قوله [ والإثنينِ والخميسِ ] :
أيضًا صيام الإثنين والخميس هذا من السنة المقيدة فيُستحب للإنسان أن يصوم الإثنين والخميس.
ودليل ذلك : حديث أسامة بن زيد > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في يوم الإثنين والخميس هما يومان تُعرض فيهما الأعمال على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن أبي شيبة و عبدالرزاق في مصنفه (2) .
وأيضًا ورد في حديث عائشة < في الترمذي وحسنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى صيام الإثنين والخميس (3) .
أما الإثنين فهذا ثابت في صحيح مسلم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة سُئِل عن صوم يوم الإثنين فقال : ذلك يوم ولدت فيه وبعثت أو أنزل علي فيه (4) .
__________
(1) رواه مسلم في الصيام [ باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ] (1160) .
(2) أخرجه أحمد (5/208,204,200) , وأبو داود في الصيام [ باب في صوم يوم الإثنين ] (2436) , والترمذي في الصوم [ باب ما جاء في صوم يوم الإثنين والخميس ] (747) , والنسائي في الصيام [ باب صوم النبي - صلى الله عليه وسلم - ] (4/201) , وحسنه الترمذي والمتدري في « مختصر السنن » (3/320) , وصححه الألباني في « الإرواء » (4/103) .
(3) أخرجه الترمذي في الصوم [ باب ما جاء في صوم يوم الإثنين والخميس ] رقم (745) وابن ماجة في الصوم [ باب صيام يوم الإثنين والخميس ] رقم (1739) .
(4) سبق تخريجه .(1/89)
لكن بالنسبة لصيام يوم الخميس فالقول فيه كالقول في صيام أيام البيض فإذا ثبت ما أوردنا من حديث أسامة وحديث عائشة فإنه يصار إلى ذلك أما إذا لم يثبت فإنه يُقتصر على ما وردت به السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكما أسلفنا أن كثيرًا من المتأخرين يثبتون هذه الأحاديث مثل الترمذي حسّن حديث عائشة < وأبو داود سكت عن حديث أسامة بن زيد > وبعض الأئمة لا يثبت هذه الأحاديث وأما يوم الإثنين فثابت في صحيح مسلم .
قوله [ وسِتٍّ من شَوَّالٍ ] :
أيضًا صيام ست من شوال هذا من السنة المقيدة وصيام ست من شوال تحته مسائل :-
المسألة الأولى : حكم صيام هذه الأيام الستة :
أكثر أهل العلم على أنه يُستحب صيام هذه الأيام الستة لما في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث أبي أيوب الأنصاري > : من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر (1) وهذا ظاهر .
الرأي الثاني : وهو المشهور عن الإمام مالك ~ وهو قول أبي حنيفة أنه لا يستحب صيام هذه الأيام بل يُكره (2) .
واستدلوا على ذلك لئلا يُظن الوجوب أي أنها واجبة لقربها من رمضان .
والإمام مالك ~ قال في الموطأ : « لم أر أحدًا من أهل العلم يصومها » . والإمام مالك من أصوله الأخذ بعمل أهل المدينة فقال : «لم أر أحدًا من أهل العلم يصومها » لكن هذا محمول على علم الإمام مالك ~ .
أما القول لئلا يُظن الوجوب فهذا غير مسَلَّم فلا يلزم من شرعية هذه الأيام الستة أن تكون واجبة ؛ لأن وجوب الصوم هذا أمره ظاهر في السنة فلا يخفى على عاقل ما يتعلق بالصوم الواجب والصوم المسنون .
المسألة الثانية : وقت صيامها :
بعد صيام رمضان أداءً وقضاءً يعني في شوال يقول - صلى الله عليه وسلم - : من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) انظر الإفصاح (1/252) , ونيل الأوطار (4/238) .(1/90)
وعلى هذا إذا كان الإنسان عليه شيء من القضاء فإنه يبدأ أولا بالقضاء فإذا انتهى من القضاء فإنه يصوم ستة الأيام من شوال .
المسألة الثالثة : يُستحب صيامها بعد العيد مباشرة لما في ذلك من المسارعة في الخير وامتثال الأمر ولئلا يحصل للإنسان ما يعوقه عن صيام هذه الأيام الستة .
المسألة الرابعة : أنه لا يُشترط تتابعها لكن لو تابعها الإنسان فإن هذا أحسن لكن لا يُشترط أن تكون متتابعة .
المسألة الخامسة : أن صيامها مع رمضان يعدل صيام الدهر لأن رمضان شهر بعشرة أشهر فالحسنة بعشر أمثالها . وهذه الأيام الستة بستين يومًا فتكون بشهرين . وجاء في سنن النسائي ما يؤيد ذلك كما في حديث ثوبان > (1) .
قوله [ وشهرِ الْمُحَرَّمِ ] :
أيضًا يُستحب للإنسان أن يصوم شهر الله المحرم وهذا من النفل المقيّد .
ويدل له : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم (2) والمراد بشهر الله المحرم هو صومه كله .
قوله [وآكَدُه العاشرُ ثم التاسعُ ] :
يعني آكد شهر الله المحرم هو اليوم التاسع والعاشر .
وصيام يوم عاشوراء أيضًا تحته مسائل :-
المسألة الأولى : ما المراد بيوم عاشوراء ؟ في ذلك رأيان لأهل العلم :
الرأي الأول : هو قول أكثر أهل العلم أنه اليوم العاشر من شهر الله المحرم .
الرأي الثاني : وهو المشهور عن ابن عباس { كما في صحيح مسلم أنه اليوم التاسع من شهر الله المحرم وليس اليوم العاشر (3) .
__________
(1) رواه النسائي في السنن الكبرى والبيهقي في كناب الصوم (4/293) حديث (8433) .
(2) رواه مسلم في الصيام [ باب صوم المحرم ] (1163) .
(3) انظر شرح النووي على مسلم (8/12) .(1/91)
وقد أجاب ابن القيم ~ (1) عن ما ورد عن ابن عباس { أنه لما سُئل عن يوم عاشوراء فأرشد السائل أن يصوم اليوم التاسع قال أراد بذلك أن يصوم التاسع مع العاشر لأن العاشر معروف عند الناس أما بالنسبة للتاسع فأرشد السائل إلى أن يصومه ولم يرشده إلى العاشر لأن هذا أمر معروف فأرشده لكي يحصل على هذه الفضيلة .
المسألة الثانية : مراتب صيام يوم عاشوراء .
ذكر ابن القيم ~ أن له ثلاث مراتب وكذلك أيضًا ابن حجر ~ في فتح الباري :
المرتبة الأولى : أن يصوم يومًا قبله ويومًا بعده فيصوم ثلاثة أيام يعني التاسع والعاشر والحادي عشر .
المرتبة الثانية : أن يصوم التاسع والعاشر .
المرتبة الثالثة : أن يفرد العاشر بالصيام .
أما المرتبة الأولى : فقد ورد في البيهقي وهو ضعيف صوموا يومًا قبله ويومًا بعده (2) وعلى هذا إذا كانت هذه المرتبة الحديث فيها لا يثبت فإنه لا يصار إليها لأن العبادات توقيفية يصار فيها إلى النص .
وأما المرتبة الثانية : فهذا دليله ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حديث ابن عباس { لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر (3) .
وأما المرتبة الثالثة : فقد قال العلماء لا يُكره إفراده بالصيام .
__________
(1) انظر زاد المعاد (2/75) .(1/92)
كما ورد في حديث أبي قتادة > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن صيام يوم عاشوراء فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله رواه مسلم في صحيحه (1) . فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الفضيلة مبنية على صيام يوم عاشوراء فقط فدل على أنه لا بأس أن يفرد الإنسان يوم عاشوراء بالصيام وأنه إذا صام يوم عاشوراء يجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اشترط لحصول الفضيلة أن يصوم التاسع بل سُئل عن صيام يوم عاشوراء فقط فقال أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبلها فدل ذلك أن إفراده بالصوم لا بأس به وأنه لا يُكره وأن الإنسان يحوز الفضيلة المترتبة عليه .
المسألة الرابعة : الأجر المترتب على ذلك :
هذا كما تقدم في حديث أبي قتادة > أنه يكفر السنة التي قبله .
المسألة الخامسة : هل يُشرع شيء من الأعمال في يوم عاشوراء أو لا يُشرع ؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله :-
فذهب بعض العلماء إلى أنه يُستحب للإنسان أن يوسع على عياله في يوم عاشوراء مثلاً : في الطعام والشراب واللباس ونحو ذلك .
وقد ورد ذلك في حديث لكنه لا يثبت من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله(1/93)
عليه سائر سنته وهذا لا يثبت ولا أصل له ويظهر أنه من وضع الرافضة وقال سفيان بن عيينة جربناه منذ ستين سنة فوجدناه صحيحًا لكن شيخ الإسلام ~ رد على هذا (1) فقال : بأن قول سفيان ليس حجة وهذا لم يرد ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسفيان أصلاً وسع الله عليه في الرزق وظن ذلك من التوسعة في يوم عاشوراء فالصحيح ما ذهب إليه شيخ الإسلام ~ أنه لا يُستحب للإنسان ولا يُشرع له أن يتخذ طعامًا خلاف العادة أو لباسًا خلاف العادة أو زينة من اغتسال أو اكتحال أو نحو ذلك هذا كله لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو من البدع المنكرة ولم يفعله الخلفاء الراشدون وكذلك أيضًا الأئمة المهديون فهذا كله من البدع ويظهر أنه من فعل الرافضة .
قوله [ وتِسعِ ذي الْحِجَّةِ ] :
أيضًا من النفل المقيد في صيام التطوع صيام تسع ذي الحجة .
ودليل ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري من حديث ابن عباس { ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام يعني العشر فقالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء (2) .
ففي هذا الحديث دليل على فضيلة العمل الصالح في هذه الأيام : أيام العشر . ومن العمل الصالح الصيام لكن اليوم العاشر هو يوم عيد الأضحى هذا يحرم صيامه ولهذا قال المؤلف ~ [وتِسعِ ذي الْحِجَّةِ ] .
مسألة : هل ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام هذه الأيام أو لم يثبت صيامه لها ؟
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (25/312) .
(2) أخرجه البخاري في العيدين [ باب فضل العمل في أيام التشريق ] (969) .(1/94)
هذا ورد في حديث حفصة < أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء والعشر وصيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتين قبل الغداة لكن هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وهو ضعيف لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ونحو ذلك أيضًا ما في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم تسع ذي الحجة (1) أيضًا هذا لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وورد في حديث عائشة < في صحيح مسلم قالت ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائمًا العشر قط (2) وهذا الجواب عنه من وجهين :-
الوجه الأول : أن هذا محمول على علم عائشة < وقد يخفى عليها شيء من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما خفي على أكابر الصحابة } .
الوجه الثاني : ذكرنا أقسام صيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في التطوع فمنه ما بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - فضله ولم يفعله مثل صيام يوم وإفطار يوم فيكون من هذا القسم وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصمه لا يلزم من ذلك أن يكون الصيام غير مشروع .
قوله [ ويومِ عَرَفَةَ لغيرِ حاجٍّ بها ] :
أيضًا من الصيام المقيد صيام يوم عرفة فيُستحب لغير الحاج أن يصوم يوم عرفة .
__________
(1) رواه أبو داود كتاب الصوم [ باب في صوم العشر ] , وأخرجه النسائي واختلف عن - هنيدة- في إسناده .
(2) انظر شرح مسلم (8/71) .(1/95)
ويدل لذلك : حديث أبي قتادة > في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن صيام يوم عرفة فقال : أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده (1) فصيام يوم عرفة كفارة سنتين فيُستحب أن يصومه غير الحاج أما بالنسبة للحاج فلا يُستحب له أن يصوم يوم عرفة لأن هذا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في الصحيحين من حديث أم الفضل بنت الحارث < أنها بعثت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بلبن فشربه وذلك يوم عرفة فالحاج لا يُستحب له أن يصوم .
مسألة : ما هي الحكمة في كون الحاج لا يصوم يوم عرفة ؟
اختلف أهل العلم رحمهم الله في ذلك فقال بعض العلماء : إذا كان الإنسان مفطرًا فإنه يتقوى على الدعاء والذكر (2) .
الرأي الثاني : أن ذلك اليوم هو يوم الجمعة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وافق وقوفه في حجة الوداع يوم عرفة وافق يوم الجمعة ويوم الجمعة كما سيأتينا إن شاء الله يُكره صيامه ولهذا لم يصم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الرأي الثالث : قالوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مسافرًا والأفضل للمسافر ألا يصوم .
الرأي الرابع : وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ قال بأن يوم عرفة هو يوم عيد لأهل عرفة لاجتماعهم فيه كاجتماع الناس (3) .
ويوم العيد لا يصام ويدل لذلك ما ورد في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام (4) .
ويُحتمل أن يقال: إن الحكمة هي كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ~ وأيضًا التقوِّي على الدعاء.
قوله [ وأَفْضَلُه صَوْمُ يومٍ وفِطْرُ يَومٍ ] :
__________
(1) سبق من حديث أبي قتادة > .
(2) انظر شرح منتهى الإرادات (2/386) , وكشاف القناع (2/394) .
(3) انظر زاد المعاد (2/77) .
(4) أخرجه الترمذي حديث (773) , وأبو داود حديث (2419) , والنسائي في كتاب المناسك (5/252) , والدارمي في سننه (2/37) حديث (1764) .(1/96)
أي أن أفضل صيام التطوع صيام يوم وفطر يوم وهذا صيام داود - عليه السلام - .
ويدل لذلك : حديث عبدالله بن عمرو { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرشده إلى أن يصوم يومًا ويفطر يومًا وأنه صيام داود - عليه السلام - وهو أفضل الصيام (1) .
فإذا قوي الإنسان على ذلك فلا شك أنه هذا هو الأفضل لكن يُشترط لذلك أن يقوى الإنسان على ذلك وأن لا يضعف فإن ضعف وأدى به إلى التفريط في حق الله أو في حق المخلوق فإنه يفطر ولا يصوم يومًا ويفطر يومًا .
قوله [ ويُكْرَهُ إفرادُ رَجَبٍ ] :
لأن فيه إحياء لشعار الجاهلية وأهل البدع الذين يعظمون شهر رجب والمراد بإفراد شهر رجب أن يصوم شهر رجب كاملاً دون بقية الشهور فهذا الإفراد مكروه لأنه كما تقدم لنا أن فيه إحياء لشعار الجاهلية وأهل البدع وأيضًا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خص رجب بالصوم أو بالاعتكاف ولا عن الصحابة } فإذا كان كذلك فإنه لا يخصص بشيء من العبادات (2) .
وصيام رجب ينقسم إلى أقسام :-
القسم الأول: أن يصومه وحده فقط دون بقية الشهور فهذا مكروه وهذا الذي ذكره المؤلف ~.
القسم الثاني : أن يصوم قبله شهرًا أو بعده شهرًا مثل أن يصوم رجب وشعبان أو أن يصوم جمادى الآخرة ورجب ففي هذه الحال تزول الكراهة لأنه لم يفرد رجب والمؤلف ~ قال «ويكره إفراده».
القسم الثالث : أن يصوم بعض الشهر يعني لا يصوم الشهر كله بل يصوم شهر رجب ويفطر منه بعض الأيام فنقول بأن هذا جائز لأنه لم يفرد هذا الشهر بالصيام .
وقد ورد عن أبي بكر وعمر { الإنكار على من صام في شهر رجب (3) .
قوله [ والجمُعَةِ ] :
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) انظر مجموع الفتاوى (25/290) .
(3) انظر مجموع الفتاوى (25/290) .(1/97)
أي : يُكره إفراد يوم الجمعة بالصيام وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ~ وهو قول جمهور أهل العلم (1) .
ودليل ذلك : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث أبي هريرة > لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم (2) .
وهذا نهي عن الصيام في يوم الجمعة والأصل في النهي أنه يقتضي التحريم إلا أنه ورد الصارف من التحريم إلى الكراهة من وجهين :
الوجه الأول : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في صيامه إذا صِيمَ قبله يوم أو بعده يوم فدل ذلك على أن النهي لا يبلغ رتبة التحريم فلو كان النهي للتحريم لم يرخص في صيامه مطلقًا ولهذا صوم يوم العيدين يحرم صومهما مطلقًا حتى ولو صام قبلهما يومًا أو بعدهما يومًا .
الوجه الثاني : أن يوم الجمعة عيد لكنه ليس كالعيد الأكبر فقلّت مرتبة النهي عن صيامه .
فأعياد المسلمين ثلاثة :-
عيد الأضحى وعيد الفطر وعيد الأسبوع يوم الجمعة فعيد الأضحى وعيد الفطر هذه أعياد في العام فهي أكبر من عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة .
النهي عن الصوم في عيد الأسبوع أقل من النهي في العيدين اللذين يكونان في العام .
وعند أبي حنيفة ومالك رحمهما الله لا يُكره إفراد يوم الجمعة بالصيام (3) .
وقد ورد في حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلما كان يفطر يوم الجمعة وهذا حسنه الترمذي (4) والجواب عن هذا من وجهين :
__________
(1) انظر مغني المحتاج (1/654) , والإنصاف (3/246) .
(2) اخرجه البخاري في الصوم [ باب صوم يوم الجمعة ] (1985) , ومسلم في الصيام [ باب كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته ] (1144) .
(3) انظر الإفصاح (1/254) , والموطأ (1/311) .
(4) أخرجه الترمذي في الصوم [ باب ما جاء في صوم يوم الجمعة ] وقال حديث حسن غريب رقم (742) وانظر زاد المعاد (2/85), وفتح الباري (4/234).(1/98)
الوجه الأول : أن هذا الحديث لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين رتبة من حيث الصحة كحديث أبي هريرة وغيره من الأحاديث .
الوجه الثاني : أنه لو ثبت هذا فإنه محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الجمعة وقبله يومًا أو بعده يومًا فالصواب في ذلك ما ذهب إليه أكثر أهل العلم وهو ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله أنه يكره إفراد يوم الجمعة بالصيام كما أنه هو الوارد عن الصحابة كأبي هريرة وعلي وسلمان وأبي ذر } وقال ابن حزم ~ : لا نعلم لهم مخالفًا من الصحابة (1) والحكمة في النهي عن صيامه (2) أنه يوم عيد كما تقدم ويوم العيد يُنهى عن صيامه .
وقال بعض العلماء : لئلا يضعف عن العبادة في يوم الجمعة .
وقال بعض العلماء : خشية المبالغة في تعظيمه فيُفتتن به كما افتتن اليهود بالسبت .
وقال بعض العلماء : إنه يُخشى اعتقاد وجوبه إذا صِيم هذا اليوم .
وقال بعض العلماء : الحكمة من ذلك مخالفة النصارى فإن النصارى يجب عليهم أن يصوموا هذا اليوم ونحن مأمورون بمخالفتهم .
مسألة : ذهب بعض العلماء إلى أن المكروه أو المنهي عنه في صيام يوم الجمعة هو أن يخصص يوم الجمعة بالصيام أما إذا لم يكن هناك تخصيص فلا بأس .
واستدلوا بما جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين سائر الليالي (3) فالذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - التخصيص فإذا كان الإنسان لا يقصد التخصيص وإنما وقت فراغه هو يوم الجمعة فلو صام يوم الجمعة ولم يقصد التخصيص فلا بأس ولا يُكره ولا نقول بأنك تصوم يومًا قبله أو يومًا بعده .
__________
(1) انظر نيل الأوطار (4/250) , والمحلى (6/204) .
(2) انظر فتح الباري (4/235) .
(3) أخرجه مسلم في الصيام [ باب كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته ] (1144) .(1/99)
واستدلوا بما سبق أن أشرنا في صحيح مسلم وأيضًا قالوا : يثبت تبعًا ما لا يثبت استقلالاً .
فهذا الرجل الذي صام يوم الجمعة صامه تبعًا وليس استقلالاً ؛ لأنه لا يفرغ إلا في هذا الوقت فلا يُكره في حقه بخلاف شخص صامه استقلالاً .
وأيضًا في حديث أبي هريرة > قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه (1) .
قوله [ والسبْتِ ] :
أيضًا يقول المؤلف ~ يُكره إفراد السبت بالصيام يعني تصوم يوم السبت وحده وعلى هذا لو صام الإنسان الجمعة والسبت فإنه لا كراهة في صيام يوم الجمعة ولا كراهة في صيام يوم السبت .
واستدلوا على ذلك : بحديث لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي وغيرهم.
وصححه جمع من أهل العلم فالحديث صححه ابن حبان وأيضًا ابن السَّكَن وابن خزيمة والحاكم وحسنه الترمذي (2) .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ~ إلى أن هذا الحديث شاذ أو منسوخ وأنه لا يكره إفراد يوم السبت بالصيام فلو أن الإنسان صام يوم السبت وحده فلا بأس (3) .
ويدل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه إلا فيما افترض عليكم هذا يدل على منع الصيام مطلقًا ويعارضه ما في حديث أبي هريرة>في الصحيحين لا تصوموا يوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم (4) .
__________
(1) سبق تخريجه .
(2) أخرجه أحمد (6/368) , وأبو داود في الصيام [ باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم ] (2421) , والترمذي في الصوم [ باب ما جاء في صوم يوم السبت ] (744) , والنسائي في الكبرى (2773) , وابن ماجة في الصيام [ باب ما جاء في صيام يوم السبت ] (1726) , والإمام أحمد (4/189) وذكر شيخنا من صححه .
(3) انظر الإنصاف (3/246) , والاختيارات ص (164) .
(4) سبق تخريجه .(1/100)
وأيضًا ما ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على بعض أمهات المؤمنين فوجدها صائمة يوم الجمعة قال أصمت أمس قالت : لا قال : أتصومين غدًا قالت : لا فأمرها بالإفطار (1) . فهذه الأحاديث تدل على صيام يوم السبت مع يوم الجمعة . والحديث هنا يقول : لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم لم يستثن شيئًا فثبوت هذا الحديث فيه نظر لأنه يدل على أنه لا يُصام إلا في الفرض فقط فهو يعارض ما ثبت في الصحيح .
فيظهر والله أعلم أن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنه أقرب وأن هذا الحديث شاذ أو منسوخ .
وورد في حديث أم سلمة < أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم السبت والأحد ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأريد أن أخالفهم (2) وهذا الحديث صححه ابن خزيمة والحاكم لكن ابن خزيمة والحاكم فمن بعده من المتأخرين ممن يتساهلون في التصحيح.
وعلى كل حال ما ثبت في الصحيح مقدم فلا يُعارضه ما ثبت أو ما ورد في السنن فمثل هذا الحديث حديث عبدالله بن بُسر عن أخته الصمّاء لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم يعارض ما ثبت في الصحيحين وغيرهما .
قوله [ والشكِّ ] :
يعني أنه يُكره صيام يوم الشك , وصيام يوم الشك تحته مسألتان :-
المسألة الأولى : ما المراد بيوم الشك ؟ هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم رحمهم الله على رأيين:
الرأي الأول : وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان (3) إذا لم يَحُل دون رؤية الهلال غيم ولا قتر يعني إذا كان يوم ثلاثين من شعبان ولم يكن هناك حائل من غيم أو قتر فإن هذا اليوم هو يوم الشك .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم [ باب صوم يوم الجمعة ] (1986) عن جويرية بنت الحارث < .
(2) انظر نيل الأوطار (4/252) , وتهذيب السنن (3/297-301) .
(3) انظر شرح منتهى الإرادات (2/387-388) , والإنصاف (3/247) .(1/101)
الرأي الثاني : أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر . وهذا القول هو الصواب ؛ لأنه إذا لم يكن هناك غيم أو قتر فلا شك فالأمر قد تبين وأن هذا اليوم من شعبان .
ويدل لهذا : قول عمار > من صام اليوم الذي يُشك فيه فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - وهذا أخرجه البخاري معلقًا وأيضًا في سنن أبي داود والترمذي (1) .
المسألة الثانية : حكم صيام يوم الشك :
المشهور من المذهب كما ذهب إليه المؤلف ~ أن صيام يوم الشك مكروه (2) .
واستدلوا بحديث عمار > الذي أوردناه أخرجه البخاري معلقًا (3) .
الرأي الثاني : أن صيام يوم الشك محرم ولا يجوز وهذا القول هو الأقرب (4) ؛ للنهي ولأن الشارع جعل لهذه الفرائض حِمى لئلا يُزاد فيها ولا يُنقص منها .
فالصيام له حمى في آخره يحرم صوم يوم العيد لئلا يُدخل في العبادة ما ليس منها وقبل ذلك يوم الشك يحرم صومه .
وأيضًا في حديث أبي هريرة > في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري معلقًا (2/229) الصيام [ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رأيتم الهلال فصوموا ] , وأبو داود في الصيام [ باب كراهية صوم يوم الشك ] حديث (2334) , والترمذي في الصوم [ باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك ] حديث (686) , والنسائي في الصيام [ باب صيام يوم الشك ] حديث (2188) , وابن ماجة في الصيام [ باب ما جاء في صيام يوم الشك ] حديث (1654) . وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم .
(2) انظر الإنصاف (3/246) .
(4) انظر سبل السلام (2/297) .
(5) أخرجه البخاري في الصوم [ باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين ] (1914) , ومسلم في الصيام [ باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين ] (1082) .(1/102)
فهذا يدل على أنه يحرم على الإنسان أن يتقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه .
مثال ذلك : رجل اعتاد أن يصوم الإثنين ثم بعد ذلك وافق ذلك آخر شعبان فلا بأس أن يصومه وهذا مُستثنى لأنه لم يقصد التقدم وفرق بين ما يكون استقلالاً وبين ما يكون تبعًا .
والقاعدة : « أنه يثبت تبعًا مالا يثبت استقلالاً » فكون الإنسان يتقدم رمضان بيوم أو يومين نقول : هذا إن فعله استقلالاً لا يجوز وإن فعله تبعًا فإن هذا جائز ولا بأس به .
مسألة : قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه هذا يدل على أن الإنسان لا بأس أن يصوم في شعبان حتى يبقى عليه يومان فإذا بقي عليه يومان من شعبان فإنه يجب عليه أن يفطر .
يعني بهذا الحديث وبحديث عائشة < وما رأيته أكثر منه صيامًا في شعبان نعرف عدم صحة حديث إذا انتصف شعبان فلا تصوموا وهذا الحديث غير صحيح لا يثبت ولهذا استنكره الإمام أحمد (1) . فنقول : غير صحيح لهذين الحديثين:-
الحديث الأول : لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين ... الحديث .
الحديث الثاني : قول عائشة < وما رأيته أكثر منه صيامًا في شعبان يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكثر الصيام في شعبان فيدل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى بعد انتصاف شعبان .
فهذا الحديث لا يثبت أي حديث إذا انتصف شعبان فلا تصوموا وأنه منكر ويدل على نكارته هذين الحديثين .
المؤلف ~ بدأ بالصيام المسنون ثم الصيام المكروه ثم الصيام المحرم بقي علينا أيضًا مسائل تتعلق بالصيام المكروه . بعض العلماء يجعلها من المكروه وبعض العلماء يجعلها من المحرم وهو صوم الدهر .
مسألة : ما معنى صوم الدهر ؟
__________
(1) انظر تهذيب السنن (3/223) .(1/103)
هو أن يسرد الصيام طوال العام وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ~ أنه مكروه يعني يُكره للإنسان أن يسرد الصيام وهذا أيضًا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله (1) .
الرأي الثاني : أنه لا يُكره وهذا ما عيه أكثر أهل العلم رحمهم الله (2) .
الرأي الثالث : أنه يحرم صوم الدهر وبه قال ابن حزم ~ (3) .
أما الذين قالوا بأنه يُكره جمعوا بين أدلة من قال بالتحريم وبين من قال بالجواز .
استدلوا بحديث حمزة بن عمرو الأسلمي > كما في الصحيح أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني أسرد الصيام (4) فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك .
وأيضًا قالوا بأنه ورد عن ابن الزبير > أنه كان يسرد الصوم (5) .
وأما من قال بأنه يحرم أن يسرد الصيام فاستدلوا بظاهر النهي كما في حديث عبدالله بن عمر { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا صام من صام الأبد (6) وقالوا بأن هذا دعاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من صام الأبد .
وقيل المراد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا صام من صام الأبد ليس الدعاء وإنما المراد النفي وأنه لن يستمر على صيامه بل سينقطع ولهذا في صحيح مسلم ما صام ولا أفطر وهذا القول هو الأقرب أنه يُكره صوم الدهر وهو قول الحنابلة رحمهم الله .
كذلك أيضًا ما يتعلق بمسألة الوصال وهو أن يقرن بين صوم يومين فهل هذا جائز أو ليس جائزًا ؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله :
__________
(1) انظر الاختيارات ص (110) وزاد المعاد (2/81) .
(2) انظر فتح الباري (4/222) .
(3) انظر المحلى (6/201) .
(4) رواه البخاري في الصوم [ باب الصوم في السفر والإفطار ] حديث (1943) , ومسلم في الصيام [ باب التخيير في الصوم والفطر في السفر ] .
(5) انظر المحلى (6/206) .
(6) تقدم تخريجه .(1/104)
الرأي الأول : أن الوصال مكروه وهو أن يقرن بين يومين بلا فطر إلا إذا واصل إلى السحور وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ~ فإذا واصل إلى السحر فإن هذا جائز ولا بأس به (1) .
ويدل لهذا : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد > فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر (2) .
الرأي الثاني : أن الوصال محرم ولا يجوز وهذا قال به أكثر أهل العلم رحمهم الله واستدلوا على ذلك بحديث أبي هريرة > في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الوصال فقال رجل من المسلمين إنك تواصل يا رسول الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقين فلما أبوا أن ينتهوا واصل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال وقال لو تأخر الهلال لزدتكم (3) .
ولو كان الوصال محرمًا ما واصل بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - واصل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال وقال لو تأخر الهلال لزدتكم كالمنَكِّل بهم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال . هذا يدل على أنه ليس محرمًا .
فالصواب في هذا ما ذهب إليه الحنابلة رحمهم الله وأنه يُكره أن يواصل الإنسان إلا إلى السحر فإن هذا رخص به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله [ ويَحْرُمُ صومُ العِيدينِ ولو في فَرْضٍ ] :
لما ذكر المؤلف ~ الصوم المستحب وذكرنا هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه تكلم المؤلف ~ عن القسم الثاني : وهو ما يتعلق بالصوم المكروه ثم بعد ذلك عرَّج على القسم الثالث : وهو ما يتعلق بالصوم المحرم فيقول المؤلف ~ : ويَحْرُمُ صومُ العِيدينِ يعني يحرم أن يصوم يومي العيدين .
__________
(1) انظر الإنصاف (3/247) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصوم حديث (1963) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الصوم حديث (1961) , ومسلم في الصوم حديث (1104) .(1/105)
والعيدان : جمع عيد والمراد بهما هنا عيد الفطر وعيد الأضحى .
ويدل لذلك : ما ورد من النهي كما في حديث عمر > (1) .
وكذلك أيضًا في حديث أبي سعيد > في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين : يوم الفطر ويوم الأضحى (2) .
وقد حُكِي الإجماع على ذلك كما حكاه ابن حزم ~ في كتابه مراتب الإجماع وأن الإجماع قائم على النهي عن صوم يومي العيدين (3) .
وقوله [ ولو في فَرْضٍ ] : قوله [ ولو ] هنا إشارة إلى الخلاف في هذه المسألة فكلام المؤلف ~ أنه يحرم أن يصوم يومي العيدين حتى ولو كان الصيام فرضًا وذلك كما لو كان نذرًا فلو نذر صوم يوم العيد فعلى كلام المؤلف ~ أنه لا يجزئه ولا يصح منه .
لو قال لله علي أن أصوم يوم عيد الفطر أو يوم عيد الأضحى فنقول بأن هذا نذر محرم ولا يصح منه وهذا ما عليه أكثر أهل العلم رحمهم الله لعموم ما تقدم من النهي كما جاء في حديث أبي سعيد >.
الرأي الثاني : رأي أبي حنيفة ~ (4) أنه إذا نذر صوم يوم العيد فقالوا : الأولى أن يفطره وأن لا يصومه فإن صامه فإنه يجزئه ولكن هذا القول ضعيف فالصواب في هذه المسألة أنه لا يصح صوم يومي العيدين .
قوله [ وصيامُ أيَّامِ التشريقِ ] :
أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر واليوم والثاني عشر واليوم الثالث عشر من شهر ذي الحجة.
وسُمِّيت هذه الأيام بأيام التشريق لأن الناس كانوا يشرِّقون فيها اللحم فيقددونه ويبسطونه في الشمس لكي يجف .
وقال بعض العلماء رحمهم الله : سميت بأيام التشريق لأن لحوم الأضاحي كانت تُشرَّق فيها بمنى . فأيام التشريق يحرم صومها .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) أخرجه البخاري في الصوم [ باب صوم يوم النحر ] (1993) , ومسلم في الصيام [ باب تحريم صوم يومي العيدين ] (1138) .
(3) انظر مراتب الإجماع ص (40) .
(4) انظر الإفصاح (1/248) .(1/106)
ويدل لذلك : حديث نُبَيْشَة الهذلي > في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله - عز وجل - (1) .
استثنى المؤلف ~ قال [ إلا عَن دَمِ مُتعةٍ وقِراٍن ] :
كما سيأتينا إن شاء الله قريبًا في أحكام الحج أن المتمتع يلزمه دم بنص القرآن في قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ وأن القارن أيضًا يلزمه دم وهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا وأهدى وأيضًا كانت زوجاته قارنات وذبح النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه البقر (2) .
وسيأتي إن شاء الله الخلاف في هذه المسألة . المهم أن المتمتع والقارن كما سيأتي إن شاء الله يجب على كل واحد منهما دم نسك .
مسألة : متى يبدأ وقت ذبح هذا الدم ؟ يبدأ من حين الإحرام بالعمرة ؛ لأنه وجد السبب فإذا أحرم مثلاً المتمتع بالعمرة في أول ذي الحجة وهو ليس عنده مال يشتري به دم متعة فإن له أن يصوم , يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله . ودليل ذلك : قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ .
مسألة : متى يبدأ وقت صيام الثلاثة أيام التي نص الله - عز وجل - أنها في الحج ؟ يبدأ وقت صيامها من حين الإحرام بالعمرة فإذا أحرم بالعمرة مثلاً في شهر ذي الحجة أو في شهر ذي القعدة ... إلخ بدأ وقت صيام الأيام الثلاثة ويستمر وقت صيامها إلى آخر أيام التشريق .
فلو أنه لم يصم حتى جاءه يوم عيد النحر لا يجوز له أن يصوم يوم العيد لكن يصوم اليوم الحادي عشر واليوم الثاني عشر واليوم الثالث عشر ولهذا ذكر المؤلف ~ أن المتمتع الذي لا يجد هديًا ولم يصم قبل يوم عيد النحر الأيام الثلاثة أنه يجب عليه أن يصوم في أيام التشريق .
__________
(1) أخرجه مسلم في الصيام [ باب تحريم صوم أيام التشريق ] (1141) .
(2) يأتي إن شاء الله ذكره في كتاب الحج .(1/107)
والدليل على ذلك ما في صحيح البخاري من حديث ابن عمر وعائشة } قالا : لم يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام التشريق أن يُصَمن إلا للمتمتع العادم الهدي (1) .
وهذا الاستثناء الذي أورده المؤلف ~ هو ما ذهب إليه الإمام أحمد والإمام مالك رحمهما الله (2) .
الرأي الثاني : ما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله أنه لا يجوز صيام أيام التشريق حتى للمتمتع لعموم النهي (3) لكن الصواب في هذه المسألة أنه يجوز لورود المخصص كما في حديث ابن عمر وعائشة } .
قوله [ ومَن دَخَلَ في فَرْضٍ مُوَسَّعٍ حَرُمَ قَطْعُه ] :
قوله [ دخل ] أي شرع في فرض أي في عبادة مفروضة من صوم وصلاة أو غير ذلك من العبادات المفروضة . وقوله [ موسع ] يفيد أن العبادة قد يكون وقتها موسعًا وقد يكون وقتها مضيقًا.
فمثلاً : قضاء رمضان هذا وقته موسع ؛ لأنه يبدأ من حين خروج رمضان الذي أفطر منه إلى أن يأتي رمضان الآخر فهذا كله موسع له أن يفطر حتى يبقى عليه من رمضان الثاني عدد الأيام التي أفطرها فإذا بقي عليه من رمضان الثاني عدد الأيام التي أفطرها فإنه يكون مضيقًا .
أيضًا الصلاة المفروضة كصلاة الظهر مثلاً : هذه وقتها موسع يبدأ وقتها من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله لكن لو أخر صلاة الظهر حتى يبقى على أن يصير ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال مقدار فعل صلاة الظهر فإنها تكون حينئذٍ مضيقة .
فإذا كان مضيقًا فإنه يحرم عليه أن يقطعه ؛ لأن الوقت الآن تَعيَّن للفريضة فمثلاً بقي على وقت الظهر قدر عشر دقائق ثم دخل في صلاة الظهر فإنه في هذه الحالة يحرم عليه أن يقطع صلاة الظهر أو أن يقلبها إلى نفل فهذا محرم ولا يجوز؛ لأن هذا الجزء من الوقت تعين لهذه الصلاة المفروضة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصوم [ باب صيام أيام التشريق ] (1997),(1998) .
(2) يأتي إن شاء الله في كتاب الحج .
(3) يأتي إن شاء الله في كتاب الحج .(1/108)
إذا كان الوقت موسعًا كقضاء رمضان وَشَرَع في قضائه فلما شرع في اليوم الأول أراد أن يفطره فهل له ذلك أو ليس له ذلك ؟
يقول المؤلف ~ ليس له أن يفطر حتى لو كان الوقت موسعًا ما دام أنه شرع فيه فيكون حكمه حكم المضيق .
فالموسع إذا شرع فيه أصبح حكمه حكم المضيق فيحرم عليه أن يخرج منه ؛ لأنه لما شرع فيه تعينت المصلحة في إتمامه وأيضًا لعموم قوله تعالى ژ ? ژ .
وقوله [ ومَن دَخَلَ في فَرْضٍ مُوَسَّعٍ حَرُمَ قَطْعُه ] : يُفهم من قول المؤلف ~ [حرم قطعه] أنه إذا لم يقطعه ولكن قلبه إلى نفل أن هذا جائز ولا بأس به ما دام أنه لم يتضايق .
فمثلاً : إنسان شرع في قضاء رمضان ثم بعد ذلك قلب هذا القضاء إلى نفل مطلق فإن هذا جائز ولا بأس به .
أيضًا إنسان شرع في صلاة الظهر فلما شرع فيها قلبها إلى نافلة والوقت لا يزال موسعًا فنقول بأن هذا جائز ولا بأس به فالقطع هذا محرم لكن كونه يقلبه إلى نفل فإن هذا حكمه جائز ما دام أن وقته موسع أما المضيق فلا يجوز أن يقلبه إلى نفل ؛ لأن هذا الوقت تعين للفريضة .
فأصبح عندنا الفرق بين الموسع والمضيق :
الفرق الأول : أن الموسع يصح أن تقلبه إلى نافلة وأما المضيق فلا يصح أن تقلبه إلى نافلة ؛ لأن الوقت تعين للفريضة .
الفرق الثاني : إذا كان الوقت مضيقًا لا يجوز أن تتنفل قبل الفرض ,والموسع يجوز أن تتنفل قبل الفرض .
وقول المؤلف ~ [حرم قطعه] ورد عن الإمام أحمد ~ فيما إذا شرع الإنسان في الفرض ثم جاءت جماعة ولم يصل مع الناس أنه يقطع الفرض ويلحق بالجماعة فيكون المراد بقوله [حرم قطعه] إذا لم يكن هناك مصلحة شرعية أما إذا كان هناك مصلحة شرعية فكما أشرنا إلى أنه ورد عن الإمام أحمد ~ إلى أن له أن يقطعه (1) .
قوله [ ولا يَلْزَمُ في النفْلِ ] :
يعني لا يلزم بالشروع فلك أن تقطع النفل .
فالنفل عندنا فيه مسائل :
__________
(1) انظر الإنصاف (3/249) .(1/109)
المسألة الأولى : حكم قطع النفل هل يأثم الإنسان بقطعه أو لا ؟
نقول : إنه لا يأثم وسيأتينا إن شاء الله الدليل على ذلك .
ويدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع النفل كما في حديث عائشة < أُهدي لي حيس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أرينيه فلقد أصبحت صائمًا فأكل منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أخرجه مسلم في صحيحه (1) .
المسألة الثانية : أنه يُكره أن يقطع النفل لغير مصلحة شرعية لقوله تعالى ژ ? ژ .
المسألة الثالثة : أنه لا يلزم بالشروع فيه إلا نفل الحج والعمرة يعني إذا شرعت في حج نافلة أو عمرة نافلة فإنه ليس لك أن تخرج من هذا النسك إلا بواحد من أمور ثلاثة :
الأمر الأول : إتمام النسك أي : أن تتم نسك الحج والعمرة .
الأمر الثاني : الردة نسأل الله السلامة .
الأمر الثالث : الإحصار إذا أحصر فإنه يذبح هديًا أو يحلق رأسه ويتحلل كما سيأتي إن شاء الله .
أما لو أنه أبطله بنفسه وقال : خرجت من نافلة هذا الحج أو هذه العمرة نقول بأنه لا يبطل بل يبقى على إحرامه ولا يخرج إلا بواحد من هذه الأمور الثلاثة .
المسألة الرابعة : هل يلزم قضاء النفل إذا قطعه ؟
المشهور من مذهب الإمام احمد ~ أنه لا يجب على الإنسان أن يقضيه لكن يُستحب له ذلك وهذا أيضًا قول الشافعي ~ (2) .
الرأي الثاني : أنه إذا أفسده فإن عليه القضاء وبه قال أبو حنيفة ~ (3) .
الرأي الثالث : التفصيل في هذه المسألة وأنه إذا أفسده بغير عذر وجب القضاء وإذا أفسده بعذر لا يجب القضاء وبه قال الإمام مالك ~ (4) .
ولكل منهم دليل :-
__________
(1) رواه مسلم في الصيام [ باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال ] (1154),(170) .
(2) انظر روضة الطالبين (2/386), والإنصاف (3/249) .
(3) انظر حاشية ابن عابدين (2/428) .
(4) انظر بدية المجتهد (1/311) .(1/110)
فالذين قالوا بأنه لا يجب القضاء استدلوا بما تقدم من حديث عائشة < فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أرينيه فلقد أصبحت صائمًا (1) ولم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء لأن هذا من الإحسان والخير ولا يجب عليه إلا بما دل على الوجوب .
فالأصل براءة الذمة ولأنه مأذون له في ذلك وما ترتب على المأذون فغير مضمون .
أما الذين قالوا بأنه يجب عليه القضاء كما قال به أبو حنيفة ~ فاستدلوا أيضًا بحديث عائشة < أنه أهدي لحفصة طعام وكانت صائمة هي وعائشة { فأفطرتا فذكرتا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : صوما يومًا مكانه وهذا في أبي داود لكنه لا يثبت (2) .
وعلى هذا فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله وأنه لا يجب عليه القضاء .
قوله [ ولا قَضاءُ فاسِدِه إلا الْحَجُّ ] :
هذه المسألة تكلمنا عنها وقلنا بأن الحج أو العمرة يلزمان بالشروع حتى ولو كانا نافلة ولا يخرج من الحج أو العمرة إلا بواحد من أمور ثلاثة .
وهنا قال [ ولا قضاء فاسده ] أي : لا يلزم قضاء فاسد النفل كما تقدم أن المؤلف ~ استثنى الحج فإذا أفسد الحج فإنه يلزمه القضاء .
مسألة : متى يفسد الحج ؟ نقول يفسد إذا جامع الحاج قبل التحلل الأول فإن حجه يفسد ويجب عليه أن يمضي فيه وأن يقضيه من العام القابل .
قوله [ وتُرْجَى ليلةُ القَدْرِ في العَشرِ الأواخِرِ من رَمضانَ ] :
ليلة القدر تحتها مسائل :
المسألة الأولى : هذه الليلة المباركة العظيمة سميت بهذا الاسم لوروده في القرآن والسنة . أما القرآن ففي قوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ژ .
__________
(1) تقدم تخريجه .
(2) في إسناده زميل : قال النسائي ليس بمشهور وقال البخاري : لا يُعرف لزميل سماع من عروة .(1/111)
وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين من حديث أبي هريرة > من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) .
المسألة الثانية : لماذا سميت هذه الليلة بليلة القدر ؟
اختلف العلماء رحمهم الله في ذلك كثيرًا :
فقال بعض العلماء : لعظم قدرها عند الله وقال بعضهم : لما يُقدَّر فيها من تلك السنة من الآجال والأرزاق وغير ذلك .
وقال بعض العلماء : لأن للطاعة فيها قدرًا عظيمًا عند الله - عز وجل - .
وابن القيم ~ أشار إلى أنها سميت بهذا الاسم لما يُقدر فيها من الآجال والأرزاق ... إلخ (2) وليلة القدر فيها فضل عظيم ويدل على فضلها القرآن والسنة .
أما القرآن فسورة كاملة بينت فضل هذه الليلة وسميت باسمها . والمتأمل في سورة القدر يستنبط فضائل هذه الليلة العظيمة .
أما السنة كما أشرنا من حديث أبي هريرة > من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه (3) .
وأيضًا النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأول من شهر رمضان ثم اعتكف العشر الأواسط ثم اعتكف العشر الأواخر (4) كل ذلك يلتمس هذه الليلة العظيمة .
المسألة الرابعة : متى تكون هذه الليلة ؟
قال المؤلف ~ [ وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان ] :
أولاً : اختلف أهل العلم رحمهم الله كثيرًا متى تكون ليلة القدر (5) لكن مختصر الكلام حسب ما دلت له السنة .
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان [ باب قيام ليلة القدر من الإيمان ] (35) , ومسلم في الصلاة [ باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح ] (670) .
(2) انظر شفاء العليل ص (42) , ولطائف المعارف لابن رجب ص (241) .
(3) سبق تخريجه .
(4) يأتي إن شاء الله في باب الاعتكاف .
(5) انظر الإفصاح (1/253) .(1/112)
قال المؤلف ~ [ في العشر الأواخر من رمضان ] هذا هو الصواب لما في الصحيحين من حديث عائشة < أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تحروا ليلة القدر من العشر الأواخر من رمضان (1) ولما أسلفنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكف العشر الأُوَل ثم العشر الأواسط ثم العشر الأواخر .
قوله [ وأَوتارُه آكَدُ ] :
وآكد العشر الأوتار ويدل لذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو خمس بقين أو سبع بقين أو تسع بقين (2) .
وأحسن من هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة < في صحيح البخاري تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان (3) .
فنقول : هي في العشر الأواخر وآكد العشر الأوتار وآكد الأوتار السبع الأواخر . هذه هي المرتبة الثالثة .
ويدل لهذا : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر { التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم وعجز فلا يُغلب على السبع البواقي أخرجه مسلم (4) .
المرتبة الرابعة : آكد السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين ولهذا كان أبي بن كعب > يحلف أنها ليلة سبع وعشرين .
قوله [ وليلةُ سبعٍ وعشرينَ أبلغُ ] :
فعندنا مراتب :-
المرتبة الأولى : في العشر الأواخر .
المرتبة الثانية : آكد العشر الأوتار .
المرتبة الثالثة : آكد الأوتار السبع الأواخر .
المرتبة الرابعة : آكد السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب فضل ليلة القدر حديث (2017) , ومسلم في كتاب الصوم حديث (1169) .
(2) أخرجه الترمذي في كتاب الصوم [ باب ما جاء في ليلة القدر ] حديث (794) وأحمد (5/39,36) وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم وأقره الذهبي .
(3) رواه البخاري في كتاب فضل ليلة القدر [ باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأخير ] حديث (2017) .
(4) رواه مسلم في الصوم [ باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها ] .(1/113)
والصواب أنها تتنقل في أوتار العشر, تارة تكون ليلة إحدى وعشرين كما ورد في حديث أبي سعيد > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُري ليلة القدر في المنام وأنه يسجد في صبيحتها على ماء وطين فنزل المطر تلك الليلة (1) .
فالصواب أنها تكون ليلة إحدى وعشرين وتارة ليلة ثلاث وعشرين وتارة ليلة خمس وعشرين وتارة ليلة سبع وعشرين وتارة ليلة تسع وعشرين .
لكن كثيرًا ما تكون في السبع الأواخر وكثيرًا ما تكون ليلة سبع وعشرين ولهذا يُجمع بين الأحاديث.
وشيخ الإسلام ابن تيمية ~ أنها تُطلب حتى في الأشفاع (2) تُطلب ليلة إحدى وعشرين وتُطلب ليلة اثنين وعشرين وليلة ثلاث وعشرين وليلة أربع وعشرين ... إلخ يعني كل العشر ويستدل على هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم - اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو خمس بقين أو سبع بقين أو تسع بقين .
فيقول : باعتبار ما مضى الوتر ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وباعتبار ما بقي يكون اثنين وعشرين وأربعة وعشرين..إلخ أي : إذا كان الشهر تامًا .
فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاث بقين أو خمس بقين ... فإذا كان الشهر تامًا فإن اثنين وعشرين وأربع وعشرين وست وعشرين وثمان وعشرين ... إلخ تكون هي الوتر وهذا باعتبار ما بقي .
وعلى هذا الإنسان يطلبها في كل العشر لكن كما أسلفنا أن الوتر آكد ثم السبع ثم ليلة سبع وعشرين.
المسألة الخامسة : ما هي علامة ليلة القدر ؟
نقول العلامات التي وردت :
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان [ باب هل يصلي الإمام بمن حضر ] (669) , ومسلم في الصيام [ باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها ] (1167) .
(2) انظر مجموع الفتاوى (25/284) .(1/114)
العلامة الأولى : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب > أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن من علامتها أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها (1) أي أنه يكون في الشمس ضعف .
العلامة الثانية : ورد في حديث ابن عباس { أنها ليلة طلقة لا حارة ولا باردة أي إذا كانت في وقت البرد لا تكون قوية البرودة وإذا كانت في وقت الحر لا تكون قوية الحرارة وهذا الحديث أي حديث ابن عباس { في صحيح ابن خزيمة وكذلك أخرجه الطيالسي (2) .
العلامة الثالثة : ورد في حديث واثلة بن الأسقع > في الطبراني وحسنه بعض أهل العلم أنه لا يُرمى بنجم في تلك الليلة (3) .
فتلخص أن العلامات الواردة ثلاث علامات :-
العلامة الأولى : الشمس تطلع من صبيحتها لا شعاع لها أي يكون في الشمس ضعف.
العلامة الثانية : أنها ليلة طلقة لا حارة ولا باردة .
العلامة الثالثة : أنه لا يرمى فيها بنجم في تلك الليلة .
هذا هو الذي ورد وثبت . فحديث أبي بن كعب هذا ثابت في صحيح مسلم لكن حديث ابن عباس وواثلة } بعض أهل العلم يتكلم فيهما وبعضهم يثبتها .
ما عدا ذلك من العلامات التي تُذكر ومنها : أنه لا يُسمع فيها نهيق الحمير ولا نباح الكلاب ونحو ذلك . هذه كلها غير ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4) .
وقد يُراها الإنسان في المنام كما أشار شيخ الإسلام ابن تيمية ~ (5) وهذه الليلة باقية وليست مرفوعة وقد ذكر شيخ الإسلام أن الله تعالى قد يكشفها لبعض الناس في المنام أو في اليقظة فيُرى شيئًا من أنوارها وقد يُفتح على قلبه .
قوله [ ويَدْعُو فيها بما وَرَدَ ] :
__________
(1) أخرجه مسلم في الصلاة [ باب الندب الأكيد إلى قيام ليلة القدر ] (762) .
(2) انظر صحيح ابن خزيمة (2190) , والمسند (5/324) حديث (22832) .
(3) انظر التخريج السابق .
(4) انظر الشرح الممتع (6/497) .
(5) انظر مجموع الفتاوى (25/284) .(1/115)
والذي ورد هو حديث عائشة < اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه ابن ماجة (1) .
ومعنى ذلك أن الإنسان يدعو بمثل هذا الدعاء أو بغيره ولكن يكثر من هذا الدعاء .
__________
(1) أخرجه أحمد (6/183,182,171), والترمذي في الدعوات [ باب فضل سؤال العافية والمعافاة ] (3513) ,وابن ماجة في الدعاء [ باب الدعاء بالعفو والعفية ] (3850) , والحاكم (1/530) . وقال الترمذي « حسن صحيح » وصححه الحاكم على شرطهما وأقره الذهبي .(1/116)