فصل : حكم ما إذا مر الذمي على العاشر وعليه دين بقدر ما معه
فصل : وإذا مر الذمي بالعاشر وعليه دين بقدر ما معه أو ينقص عن النصاب فظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع أخذ نصف العشر منه لأنه حق يعتبر له النصاب والحول فيمنعه الدين كالزكاة وإن ادعى أن عليه دينا لم يقبل ذلك إلا ببينة من المسلمين لأن الأصل براءة ذمته منه وان مر بجارية فادعى أنها ابنته أو اخته ففيه روايتان : إحداهما يقبل قوله قال الخلال وهو أشبه القولين لأن الاصل عدم ملكه فيها والثانية يقبل إلا ببينة لأنها في يده فأشبهت بهيمة (10/592)
مسألة : حكم ما لو دخل إلينا تاجر حربي بأمان
مسألة : قال : وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر
وقال أبو حنيفة : لا يؤخذ منه شيء إلا أن يكونوا يأخذون منا شيئا فنأخذ منهم مثله لما روي عن أبي مجلز لاحق بن حميد قال : قالوا لعمر : كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا ؟ قال : كيف يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم ؟ قالوا : العشر قال : فكذلك خذوا منهم وعن زياد بن حدير قال : كنا لا نعشر مسلما ولا معاهدا قال : من كنتم تعشرون ؟ قال : كفار أهل الحرب فنأخذ منهم كما يأخذون منا وقال الشافعي : ان دخل إلينا بتجارة لا يحتاج اليها المسلمون لم يأذن له الامام إلا بعوض يشرطه عليه ومهما شرط جاز ويستحب أن يشترط العشر ليوافق فعله فعل عمر رضي الله عنه وان أذن مطلقا من غير شرط فالمذهب أنه لا يؤخذ منهم شيء لأنه أمان من غير شرط فلم يستحق به شيء كالهدنة ويحتمل أن يجب العشر لأن عمر أخذه
ولنا ما روينا في المسألة التي قبلها وأن عمر أخذ منهم العشر واشتهر ذلك فيما بين الصحابة وعمل به الخلفاء الراشدون بعده والأئمة بعده في كل عصر من غير نكير فأي اجماع يكون أقوى من هذا ؟ ولم ينقل أنه شرط ذلك عليهم عند دخولهم ولا يثبت ذلك بالتخمين من غير نقل ولأن مطلق الأمر يحمل على المعهود في الشرع وقد استمر أخذ العشر منهم في زمن الخلفاء الراشدين فيجب أخذه فأما سؤال عمر عما يأخذون منا فانما كان لأنهم سألوه عن كيفية الأخذ ومقداره ثم استمر الأخذ من غير سؤال ولو تقيد أخذنا منهم بأخذهم منا لوجب أن يسأل عنه في كل وقت (10/592)
فصول : في العشر وشروطه
فصل : ويؤخذ منهم العشر من كل مال للتجارة في ظاهر كرم الخرقي وقال القاضي : إذا دخلوا في نقل ميرة بالناس اليها حاجة أذن لهم في الدخول بغير عشر يؤخذ منهم وهذا قول الشافعي لأن دخولهم نفع للمسلمين
ولنا عموم ما رويناه وروى صالح عن أبيه عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن الزهري عن سالم عن أبيه عن عمر أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر ومن الحنطة والزبيب نصف العشر ليكثر الحمل الى المدينة وهذا يدل على أنه يخفف عنهم إذا رأى المصلحة فيه وله الترك أيضا إذا رأى المصلحة
فصل : ويؤخذ العشر من كل حربي تاجر ونصف العشر من كل ذمي تاجر سواء كان ذكرا أو أنثى أو صغيرا أو كبيرا وقال القاضي : ليس على المرأة عشر ولا نصف عشر سواء كانت حربية أو ذمية لكن إن دخلت الحجاز عشرت لأنها ممنوعة من الاقامة به ولا يعرف هذا التفصيل عن أحمد ولا يقتضيه مذهبه لأنه يوجب الصدقة في أموال نساء بني تغلب وصبيانهم وكذلك يوجب العشر أو نصفه في مال النساء وعموم الأحاديث المروية ليس فيها تخصيص للرجال دون النساء وليس هذا بجزية وإنما هو حق يختص بمال التجارة لتوسعه في دار الاسلام وانتفاعه بالتجارة فيها فيستوي فيه الرجل والمرأة كالزكاة في حق المسلمين
فصل : ولا يعشرون في السنة إلأا مرة ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير نص عليهما أحمد وحكي عن أبي عبد الله بن حامد أن الحربي يعشر كلما دخل إلينا وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأننا لو أخذنا منه مرة واحدة لا نأمن أن يدخلوا فاذا جاء وقت السنة الأخرى لم يدخلوا فتعذر الأخذ منهم
ولنا أنه حق يؤخذ من التجارة فلا يؤخذ أكثر من مرة في السنة كالزكاة ونصف العشر من الذمي وقولهم : يفوت غير صحيح فانه يؤخذ منه أول ما يدخل مرة ويكتب الآخذ له بما أخذ منه فلا يؤخذ منه شيء حتى تمضي تلك السنة فاذا جاء في العام الثاني أخذ منه في أول ما يدخل وان لم يدخل فما فات من حق السنة الاولى شيء
فصل : وليس لأهل الحرب دخول دار الاسلام بغير أمان لأنه لا يؤمن أن يدخل جاسوسا أو متلصصا فيضر بالمسلمين فان دخل بغير امان سئل فان قال : جئت رسولا فالقول قوله لأنه تتعذر إقامة البينة على ذلك ولم تزل الرسل تأتي من غير تقدم أمان وان قال : جئت تاجرا نظرنا فان كان معه متاع يبيعه قبل قوله أيضا وحقن دمه لأن العادة جارية بدخول تجارهم إلينا وتجارنا إليهم وان لم يكن معه ما يتجر به لم يقبل قوله لأن التجارة لا تحصل بغير مال وكذلك مدعي الرسالة اذا لم يكن معه رسالة يؤديها أو كان ممن لا يكون مثله رسولا وان قال : أمنني مسلم فهل يقبل منه ؟ على وجهين :
أحدهما : يقبل تغليبا لحقن دمه كما يقبل من الرسول والتاجر والثاني لا يقبل لأن إقامة البينة عليه ممكنة فان قال مسلم : أنا أمنته قبل قوله لأنه يملك أن يؤمنه فقبل قوله فيه كالحاكم إذا قال : حكمت لفلان على فلان بحق وان كان جاسوسا خير الامام فيه بين أربعة أشياء كالأسير وان كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح إلينا في مركب فقد ذكرنا حكمه (10/594)
مسألة : من نقض العهد حل دمه وماله
مسألة : قال : ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه حل دمه وماله
وجملة ذلك أنه ينبغي للامام عند عقد الهدنة أن يشترط عليهم شروطا نحو ما شرطه عمر رضي الله عنه وقد رويت عن عمر رضي الله عنه في ذلك اخبار منها ما رواه الخلال باسناده عن اسماعيل بن عياش قال : حدثنا غير واحد من اهل العلم قالوا : كتب أهل الجزيرة الى عبد الرحمن بن غنم إنا حين قدمنا من بلادنا طلبنا اليك الأمان لأنفسنا واهل ملتنا على انا شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا ما كان منها في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار وان نوسع ابوابها للمارة وابن السبيل ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا وألا نكتم أمر من غش المسلمين وألا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في سوق المسلمين وألا نخرج باعوثا ولا شعانين ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وألا نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور ولا نظهر شركا ولا نرغب في ديننا ولا ندعو اليه أحدا ولا نتخذ شيئا من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين وألا نمنع أحدا من أقربا ئنا إذا اراد الدخول في الاسلام وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مواكبهم ولا نتكلم بكلامهم وان لا نتكنى بكناهم وان نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا نتقلد السيوف وان نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشد الطريق ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس ولا نطلع عليهم في منازلهم ولا نعلم أولادنا القرآن ولا يشارك أحد منا مسلما في تجارة إلا أن يكون إلى المسلم أمر التجارة وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل ثلاثة أيام ونطعمه من اوسط ما نجد ضمنا ذلك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكننا وان نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا وقبلنا الامان عليه فلا ذمة لنا وقد حل لك منا ما يحل لأهل المعاندة والشقاق فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب لهم عمر أن أمض لهم ما سألوه والحق فيه حرفين اشترط عليهم مع ما شرطوا على أنفسهم أن لا يشتروا من سبايانا شيئا ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده فانفذ عبد الرحمن من غنم ذلك وأقر من أقام من الروم في مدائن الشام على هذا الشرط فهذه جملة شروط عمر رضي الله عنه فاذا صولحوا عليها ثم نقض بعضهم شيئا منها فظاهر كلام الخرقي أن عهذه ينتقض به وهو ظاهر ما رويناه لقولهم في الكتاب : إن نحن خالفنا فقد حل لك منا ما يحل لك من أهل المعاندة والشقاق وقال عمر : وان ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده ولأنه عقد بشرط فمتى لم يوجد الشرط زال حكم العقد كما لو امتنع من التزام الاحكام وذكر القاضي والشريف أبو جعفر ان الشروط قسمان :
أحدهما : ينتقض العهد بمخالفته وهو أحد عشر شيئا الامتناع عن بذل الجزية وجري احكامنا عليهم إذا حكم بها حاكم والاجتماع على قتال المسلمين والزنا بمسلمة واصابتها باسم نكاح وفتن مسلم عن دينه وقطع الطريق عليه وقتله وايواء جاسوس المشركين والمعاونة على المسلمين بدلالة المشركين على عوراتهم أو مكاتبتهم وذكر الله تعالى أو كتابه أو دينه أو رسوله بسوء فالخصلتان الأوليان ينتقض العهد بهما بلا خلاف في المذهب وهو مذهب الشافعي وفي معناهما قتالهم للمسلمين منفردين أو مع أهل الحرب لأن اطلاق الأمان يقتضي ذلك فاذا فعلوه نقضوا الأمان لأنهم إذا قاتلونا لزمنا قتالهم وذلك ضد الأمان وسائر الخصال فيها روايتان :
إحداهما : أن العهد ينتقض بها سواء شرط عليهم ذلك أو لم يشترط وظاهر مذهب الشافعي قريب من هذا إلا أن ما لم يشترط عليهم لا ينتقض العهد بتركه ما خلا الخصال الثلاث الأولى فانه يتعين شرطها وينتقض العهد بتركها بكل حال وقال أبو حنيفة : لا ينتقض العهد إلا بالامتناع من الامام على وجه لا يتعذر معه أخذ الجزية منهم
ولنا ما ذكرناه ما روي أن عمر رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا فقال : ما على هذا صالحناكم وأمر به فصلب في بيت المقدس ولأن فيه ضررا على المسلمين فأشبه الامتناع من بذل الجزية وكل موضع قلنا لا ينتقض عهده فانه إن فعل ما فيه حد اقيم عليه حده أو قصاصه وإن لم يوجب حدا عزر ويفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله فان أراد أحد منهم فعل ذلك كف عنه فان مانع بالقتال نقض عهده ومن حكمنا بنقض عهده منهم خير الامام فيه بين أربعة أشياء : القتل والاسترقاق والفداء والمن كالأسير الحربي لأنه كافر قدرنا عليه في دارنا بغير عهد ولا عقد ولا شبهة ذلك فأشبه اللص الحربي ويختص ذلك به دون ذريته لأن النقض إنما وجد منه دونهم فاختص به كما لو أتى ما يوجب حدا أو تعزيرا (10/596)
فصل : أقسام أمصار المسلمين
فصل : أمصار المسلمين على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما مصره المسلمون كالبصرة والكوفة وبغداد وواسط فلا يجوز فيه إحداث كنيسة ولا بيعه ولا مجتمع لصلاتهم ولا يجوز صلحهم على ذلك بدليل ما روي عن عكرمة قال : قال ابن عباس : أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنو فيه بيعة ولا يضربوا فيه ناقوسا ولا يشربوا فيه خمرا ولا يتخذوا فيه خنزيرا رواه الامام أحمد واحتج به ولأن هذا البلد ملك للمسلمين فلا يجوز أن يبنوا فيه مجامع للكفر وما وجد في هذه البلاد من البيع والكنائس مثل كنيسة الروم في بغداد فهذه كانت في قرى أهل الذمة فأقرت على ما كانت عليه
القسم الثاني : ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز إحداث شيء من ذلك فيه لأنها صارت ملكا للمسلمين وما كان فيه من ذلك ففيه وجهان :
أحدهما : يجب هدمه وتحرم تبقيته لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن تكون فيها بيعة كالبلاد التي اختطها المسلمون
والثاني : يجوز لأن في حديث ابن عباس : أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فان للعجم ما في عهدهم ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئا من الكنائس ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت عنوة ومعلوم أنها ما أحدثت فيلزم أن تكون موجودة فأبقيت وقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عماله أن لا يهدموا بيعة ولا كنيسة ولا بيت نار ولأن الاجماع قد حصل على ذلك فانها موجودة في بلد المسلمين من غير نكير
القسم الثالث : ما فتح صلحا وهو نوعان : أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها فلهم إحداث ما يحتاجون فيها لأن الدار لهم
والثاني : أن يصالحهم على أن الدار للمسلمين ويؤدون الجزية الينا فالحكم في البيع والكنائس على ما يقع عليه الصلح معهم من إحداث ذلك وعمارته لأنه إذا جاز أن يقع الصلح معهم على أن الكل لهم جاز أن يصالحوا على أن يكون بعض البلد لهم ويكون موضع الكنائس والبيع معنا والأولى أن يصالحهم على ما صالحهم عليه عمر رضي الله عنه ويشترط عليهم الشروط المذكورة في كتاب عبد الرحمن بن غنم : أن لا يحدثوا بيعة ولا كنيسة ولا صومعة راهب ولا قلاية وان وقع الصلح مطلقا من غير شرط حمل على ما وقع عليه صلح عمر وأخذوا بشروطه فأما الذين صالحهم عمر وعقد معهم الذمة فهم على ما في كتاب عبد الرحمن بن غنم مأخوذون بشروطه كلها وما وجد في بلاد المسلمين من الكنائس والبيع فهي على ما كانت عليه في زمن فاتحيها ومن بعدهم وكل موضع قلنا : يجوز إقرارها لم يجز هدمها ولهم رم ما تشعث منها واصلاحها لأن المنع من ذلك يفضي الى خرابها وذهابها فجرى مجرى هدمها وان وقعت كلها لم يجز بناؤها وهو قول بعض أصحاب الشافعي وعن أحمد أنه يجوز وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه بناء لما استهدم فأشبه بناء بعضها إذا انهدم ورم شعثها ولأن استدامتها جائزة وبناؤها كاستدامتها وحمل الخلال قول أحمد : لهم أن يبنوا ما انهدم منها أي إذا انهدم بعضها ومنعه من بناء ما انهدم على ما إذا انهدمت كلها فجمع بين الروايتين
ولنا أن في كتاب أهل الجزيرة لعياض بن غنم : ولا نجدد ما خرب من كنائسنا وروى كثير بن مرة قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تبنى الكنيسة في الاسلام ولا يجدد ما خرب منها ] ولأن هذا بناء كنيسة في دار الاسلام فلم يجز كما لو ابتدىء بناؤها وفارق رم شعثها فانه ابقاء واستدامة وهذا إحداث (10/599)
فصل : حكم من استحدث من أهل الذمة بناء
فصل : ومن استحدث من أهل الذمة بناء لم يجز له منعه حتى يكون أطول من بناء المسلمين المجاورين له لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الاسلام يعلو ولا يعلى ] ولأن في ذلك رتبة على المسلمين وأهل الذمة ممنوعون من ذلك ولهذا يمنعون من صدور المجالس ويلجؤون الى أضيق الطرق ولا يمنع من تعلية بنائه على من ليس بمجاور له لأن علوها إنما يكون ضررا على المجاور لها دون غيره وفي جواز مساواة المسلمين وجهان :
أحدهما : الجواز لأنه ليس بمستطيل على المسلمين والثاني المنع لقوله عليه السلام : [ الاسلام يعلو ولا يعلى ] ولأنهم منعوا من مساواة المسلمين في لباسهم وشعورهم وركوبهم كذلك في بنائهم فان كان للذمي دار عالية فملك المسلم دارا الى جانبها أو بنى المسلم إلى جانب دار الذمي دارا دونها أو اشترى ذمي دارا عالية لمسلم فله سكنى داره ولا يلزمه هدمها لأنه لم يعل على المسلمين شيئا فان انهدمت داره العالية ثم جدد بناءها لم يجز تعليته على بناء المسلمين وإن انهدم ما علا منها لم تكن له اعادته وإن تشعث منه شيء ولم ينهدم فله رمه وإصلاحه لأنه ملك استدامته فملك رم شعثه كالكنيسة (10/602)
فصل : لا يجوز للمشركين سكنى الحجاز
فصل : ولا يجوز لأحد منهم سكنى الحجاز وبهذا قال مالك و الشافعي إلا أن مالكا قال أرى أن يجلوا من أرض العرب كلها لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ]
وروى أبو داود باسناده [ عن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح
وعن ابن عباس قال : [ أوصى رسول الله صلى الله عليه وصلم بثلاثة أشياء : قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالث ] رواه أبو داود وجزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن قاله سعيد بن عبد العزيز
وقال الأصمعي و أبو عبيد : هي من ريف العراق إلى عدن طولا ومن تهامة وما وراءها إلى أطراف الشام عرضا وقال أبو عبيدة : هي من حفر أبي موسى إلى اليمن طولا ومن رمل تبرين إلى منقطع السماوة عرضا
قال الخليل : إنما قيل لها جزيرة لأن بحر الحبش وبحر فارس والفرات قد أحاطت بها ونسبت إلى العرب لأنها أرضها ومسكنها ومعدنها
وقال أحمد : جزيرة العرب المدينة وما والاها يعني أن الممنوع من سكنى الكفار المدينة وما والاها وهو مكة واليمامة وخيبر والينبع وفدك ومخاليفها وما والاها وهذا قول الشافعي لأنهم لم يجلوا من تيماء ولا من اليمن
وقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال : إن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أخرجوا اليهود من الحجاز ] فأما إخراح أهل نجران منه فلأن النبي صلى الله عليه و سلم صالحهم على ترك الربا فنقضوا عهده فكأن جزيرة العرب في تلك الأحاديث أريد بها الحجاز وإنما سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد ولا يمنعون أيضا من أطراف الحجاز كتيماء وفيد ونحوهما لأن عمر لم يمنعهم من ذلك (10/603)
صل : ويجوز لهم دخول الحجاز للتجارة
فصل : ويجوز لهم دخول الحجاز للتجارة لأن النصارى كانوا يتجرون الى المدينة في زمن عمر رضي الله عنه وأتاه شيخ بالمدينة فقال : أنا الشيخ النصراني وإن عاملك عشرني مرتين فقال عمر : وأنا الشيخ الحنيف وكتب له عمر أن لا يعشروا في السنة إلا مرة ولا يأذن لهم في الاقامة أكثر من ثلاثة أيام على ما روي عن عمر رضي الله عنه ثم ينتقل عنه
وقال القاضي يقيم أربعة أيام حد ما يتم المسافر الصلاة والحكم في دخولهم إلى الحجاز في اعتبار الإذن كالحكم في دخول أهل الحرب دار الإسلام وإذا مرض بالحجاز جازت له الإقامة لأنه يشق الانتقال على المريض وتجوز الإقامة لمن يمرضه لأنه لا يستغني عنه وإن كان له دين على أحد وكان حالا أجبر غريمه على وفائه فإن تعذر وفاؤه لمطل أو تغيب عنه فينبغي أن يمكن من الإقامة ليستوفي دينه لأن التعدي من غيره وفي إخراجه ذهاب ماله وإن كان الدين مؤجلا لم يمكن من الإقامة ويوكل من يستوفيه له لأن التفريط منه وأن دعت الحاجة إلى الإقامة ليبيع بضاعته احتمل أن يجوز لأن في تكليفه تركها أو حملها معه ضياع ماله وذلك مما يمنع من الدخول بالبضائع إلى الحجاء فتفوت مصلحتهم وتلحقهم المضرة بانقطاع الجلب عنهم ويحتمل أن يمنع من الإقامة لأن له من الإقامة بدا فإن أراد الانتقال إلى مكان آخر من الحجاز جاز ويقيم فيه أيضا ثلاثة أيام أو أربعة على الخلاف فيه وكذلك إذا انتقل منه إلى مكان آخر جاز ولو حصلت الإقامة في الجميع شهرا وإذا مات بالحجاز دفن به لأنه يشق نقله وإذا جازت الإقامة للمريض فدفن الميت أولى (10/605)
فصل : لا يجوز للمشركين دخول الحرم
فصل : فأما الحرم فليس لهم دخوله بحال وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لهم دخوله كالحجاز كله ولا يستوطنون به ولهم دخول الكعبة والمنع من الاستيطان لا يمنع الدخول والتصرف كالحجاز
ولنا قول الله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والمراد به الحرم بدليل قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } يريد ضررا بتأخير الجلب عن الحرم دون المسجد ويجوز تسمية الحرم المسجد الحرام بدليل قول الله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } وإنما أسرى به من بيت أم هانىء من خارج المسجد ويخالف الحجاز لأن الله تعالى منع منه مع إذنه في الحجاز فان هذه الآية نزلت واليهود بخيبر والمدينة وغيرهما من الحجاز ولم يمنعوا من الاقامة به وأول من أجلاهم عمر رضي الله عنه ولأن الحرم أشرف لتعلق النسك به ويحرم صيده وشجره والملتجىء اليه فلا يقاس غيره عليه فان أراد كافر الدخول اليه منع منه فان كانت معه ميرة أو تجارة خرج إليه من يشتري منه ولم يترك هو يدخل وان كان رسولا الى امام بالحرم خرج إليه من يسمع رسالته ويبلغها إياه فان قال : لا بد لي من لقاء الامام وكانت المصلحة في ذلك خرج اليه الامام ولم يأذن له في الدخول فان دخل الحرم عالما بالمنع عزر وان دخل جاهلا نهي وهدد فان مرض بالحرم أو مات أخرج ولم يدفن به لأن حرمة الحرم أعظم ويفارق الحجاز من وجهين :
أحدهما : ان دخوله إلى الحرم حرام واقامته به حرام بخلاف الحجاز والثاني أن خروجه من الحرم سهل ممكن لقرب الحل منه وخروجه من الحجاز في مرضه صعب ممتنع وان دفن نبش وأخرج إلا أن يصعب إخراجه لنتنه وتقطعه وان صالحهم الامام على دخول الحرم بعوض فالصلح باطل فان دخلوا الى الموضع الذي صالحهم عليه لم يرد عليهم العوض لأنهم قد استوفوا ما صالحهم عليه وان وصلوا إلى بعضه أخذ من العوض بقدره ويحتمل أن يرد عليهم بكل حال لأن ما استوفوه لا قيمة له والعقد لم يوجب العوض لكونه باطلا (10/605)
فصل : لا يجوز للمشركين دخول مساجد الحل إلا بإذن المسلمين
فصل : فأما مساجد الحل فليس لهم دخولها بغير إذن المسلمين لأن عليا رضي الله عنه بصر بمجوسي وهو على المنبر وقد دخل المسجد فنزل وضربه وأخرجه من أبواب كندة فان اذن لهم في دخولها جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قدم عليه وفد أهل الطائف فأنزلهم من المسجد قبل اسلامهم وقال سعيد بن المسيب : قد كان أبو سفيان يدخل مسجد المدينة وهو على شركه وقدم عمير بن وهب فدخل المسجد والنبي صلى الله عليه و سلم فيه ليفتك به فرزقه الله الاسلام
وفيه رواية اخرى : ليس لهم دخوله بحال لأن أبا موسى دخل على عمر ومعه كتاب قد كتب فيه حساب عمله فقال له عمر : ادع الذي كتبه ليقرأه قال : انه لا يدخل المسجد قال : ولم قال : انه نصراني وفيه دليل على شهرة ذلك بينهم وتقرره عندهم ولأن حدث الجنابة والحيض والنفاس يمنع المقام في المسجد فحدث الشرك اولى (10/607)
فصل : أقسام المأخوذ في أحكام الذمة
فصل : والمأخوذ في أحكام الذمة ينقمس خمسة أقسام : أحدها ما لا يتم العقد الا بذكره وهو شيئان : التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم فان أخل بذكر واحد منهما لم يصح العقد وفي معناهما ترك قتال المسلمين فانه وان لم يذكر لفظه فذكر المعاهدة يقتضيه
القسم الثاني : ما فيه ضرر على المسلمين في أنفسهم وهو ثمانية خصال ذكرناها فيما تقدم
القسم الثالث : ما فيه غضاضة على المسلمين وهو ذكر ربهم أو كتابهم أو دينهم أو رسولهم بسوء
القسم الرابع : ما فيه إظهار منكر وهو خمسة أشياء : إحداث البيع والكنائس ونحوها ورفع أصواتهم بكتبهم بين المسلمين واظهار الخمر والخنزير والضرب بالنواقيس وتعلية البنيان على أبنية المسلمين والاقامة بالحجاز ودخول الحرم فيلزمهم الكف عنه سواء شرط عليهم أو لم يشرط في جميع ما في هذه الأقسام الثلاثة
القسم الخامس : التميز على المسلمين في أربعة أشياء : لباسهم وشعورهم وركوبهم وكناهم أما لباسهم فهو أن يلبسوا ثوبا يخالف لونه لون سائر الثياب فعادة اليهود العسلي وعادة النصارى الأدكن وهو الفاختي ويكون هذا في ثوب واحد لا في جميعها ليقع الفرق ويضيف إلى هذا شد الزنار فوق ثوبه إن كان نصرانيا أو علامة أخرى إن لم يكن نصرانيا كخرقة يجعلها في عمامته أو قلنسوته يخالف لونها لونها ويختم في رقبته خاتم رصاص أو حديد أو جلجل ليفرق بينه وبين المسلمين في الحمام ويلبس نساؤهم ثوبا ملونا وتشد الزنار تحت ثيابها وتختم في رقبتها ولا يمنعون لبس فاخر الثياب ولا العمائم ولا الطيلسان لأن التمييز حصل بالغيار والزنار
وأما الشعور فانهم يحذفون مقاديم رؤوسهم ويجزون شعورهم ولا يفرقون شعورهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق شعره
وأما الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز ولهم ركوب ما سواها ولا يركبون السروج ويركبون عرضا رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر لما روى الخلال بإسناده أن عمر أمر بجز نواصي أهل الذمة وأن يشدوا المناطق وأن يركبوا الأكف بالعرض ويمنعون تقلد السيوف وحمل السلاح واتخاذه وأما الكنى فلا يتكنوا بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله وأبي محمد وأبي بكر وأبي الحسن وشبههما ولا يمنعون الكنى بالكلية فإن أحمد قال لطبيب نصراني : يا أبا إسحاق وقال : أليس النبي صلى الله عليه و سلم لما دخل على سعد بن عبادة قال : [ أما ترى ما يقول أبو الحباب ] وقال لأسقف نجران : [ أسلم يا أبا الحارث ] وقال عمر لنصراني : يا أبا حسان أسلم تسلم (10/608)
فصل : وجوب كتابة أحوال أهل الذمة
فصل : وإذا عقد معهم الذمة كتب أسماءهم وأسماء آبائهم وعددهم وحلاهم ودينهم فيقول : فلان بن فلان الفلاني طويل أو قصير أو ربعة أسمر أو أبيض أدعج العين أقنى الأنف مقرون الحاجبين ونحو هذا من صفاتهم التي يتميز بها كل واحد من الآخر ويجعل لكل عشرة عريفا يراعي من يبلغ منهم أو يفيق من جنون أو يقدم من غيبة أو يسلم أو يموت أو يغيب ويجبي جزيتهم فيكون ذلك أحوط لحفظ جزيتهم (10/610)
فصل : حكم ما لو مات الإمام أو عزل
فصل : وإذا مات الامام أو عزل وولي غيره فإن عرف ما عقد عليه عقد الذمة من كان قبله وكان عقدا صحيحا أقرهم عليه لأن الخلفاء أقروا عقد عمر ولم يجددوا عقدا سواه ولأن عقد الذمة مؤبد وإن كان فاسدا رده إلى الصحة وإن لم يعرف فشهد به مسلمان أو كان أمره ظاهرا عمل به وإن أشكل عليه سألهم فإن ادعوا العهد بما يصلح أن يكون جزية قبل قولهم وعمل به وإن شاء استحلفهم استظهارا فإن بان له بعد ذلك أنهم نقضوا من المشروط عليهم شيئا رجع بما نقضوا وإن قالوا : كنا نؤدي كذا وكذا جزية وكذا وكذا هدية استحلفهم يمينا واحدة لأن الظاهر فيما يدفعونه أنه جزية واختار أبو الخطاب أنه إذا لم يعرف ما عوهدوا عليه استأنف العقد معهم لأن العقد الأول لم يثبت عنده فصار كالمعدوم (10/611)
مسألة : من هرب من ذمة المسلمين إلى دار الحرب عاد حربيا
مسألة : قال : ومن هرب من ذمتنا الى دار الحرب ناقضا للعهد عاد حربيا
يعني يصير حكمه حكم أهل الحرب سواء كان رجلا او امرأة ومتى قدر عليه أبيح منه ما يباح من الحربي من القتل والاسترقاق وأخذ المال وإن هرب الذمي بأهله وذريته أبيح من البالغين منهم ما يباح من أهل الحرب ولم يبح سبي الذرية لأن النقض إنما وجد من البالغين دون الذرية (10/612)
فصل : حكم ما لو نقضت طائفة من أهل الذمة العهد
فصل : وإن نقضت طائفة من أهل الذمة جاز غزوهم وقتلهم وإن نقض بعضهم دون بعض اختص حكم النقض بالناقض دون غيره وإن لم ينقضوا لكن خاف النقض منهم لم يجز أن ينبذ إليهم عهدهم لأن عقد الذمة لحقهم بدليل أن الامام تلزمه إجابتهم إليه بخلاف عقد الأمان والهدنة فانه لمصلحة المسلمين ولأن عقد الذمة آكد لأنه مؤبد وهو معاوضة ولذلك إذا نقض بعض أهل الذمة العهد وسكت بعضهم لم يكن سكوتهم نقضا وفي عقد الهدنة يكون نقضا (10/612)
فصل : تجب حماية أهل الذمة على المسلمين
فصل : واذا عقد الذمة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الحرب وأهل الذمة لأنه التزم بالعهد حفظهم ولهذا قال علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون اموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا وقال عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة بعده : وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرا أن يوفي لهم بعهدهم ويحاط من ورائهم (10/613)
فصل : فصل : حكم ما لو تحاكم إلينا مسلم وذمي
فصل : واذا تحاكم إلينا مسلم مع ذمي وجب الحكم بينهم لأن عليا حفظ الذمي من ظلم المسلم وحفظ المسلم منه
وان تحاكم بعضهم مع بعض أو استعدى بعضهم على بعض خير الحاكم بين الحكم بينهم والاعراض عنهم لقول الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فان حكم بينهم لم يحكم إلا بحكم الاسلام لقول الله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } وقال تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } واذا استعدت المرأة على زوجها في طلاق أو ظهار أو إيلاء فان شاء أعداها وإن شاء تركها لقول الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فان أحضر زوجها حكم عليه بما يحكم على المسلم في مثل ذلك فان كان قد ظاهر منها منعه وطأها حتى يكفر وتكفيره بالاطعام وحده لأنه لا يملك رقبة مسلم ولا يملك شراءها ولا يصح منه الصيام (10/613)
فصل : لا يجوز تمكين الذمي من شراء مصحف ولا حديث الرسول صلى الله عليه و سلم
فصل : ولا يجوز تمكينه من شراء مصحف ولا حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا فقه فان فعل فالشراء باطل لأن ذلك يتضمن ابتذاله وكره أحمد بيعهم الثياب المكتوب عليها ذكر الله قال مهنا : سألت احمد أبا عبد الله : هل تكره للرجل المسلم أن يعلم علاما مجوسيا شيئا من القرآن ؟ قال : ان أسلم فنعم وإلا فاكره ان يضع القرآن في غير موضعه قلت : فيعلمه أن يصلي على النبي صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم وقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد الله عن الرجل يرهن المصحف عند أهل الذمة ؟ قال : لا نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن نسافر بالقرآن الى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (10/614)
فصل : لا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام
فصل : ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم احدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقها ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ انا غادون غدا فلا تبدأوهم بالسلام وان سلموا عليكم فقولوا : وعليكم ] أخرجه الامام احمد باسناده وباسناده عن أنس أنه قال : نهينا أو أمرنا أن لا نزيد أهل الكتاب على : وعليكم قال أبو داود : قلت لأبي عبد الله : تكره أن يقول الرجل للذمي : كيف أصبحت ؟ أو كيف حالك ؟ أو كيف أنت ؟ أو نحو هذا ؟ قال : نعم هذا عندي أكثر من السلام
وقال أبو عبد الله : إذا لقيته في الطريق فلا توسع له وذلك بما تقدم من حديث أبي هريرة وروي عن ابن عمر أنه مر على رجل فسلم عليه فقيل : انه كافر فقال : رد علي ما سلمت عليك فرد عليه فقال : أكثر الله مالك وولدك ثم التفت إلى أصحابه فقال : أكثر للجزية وقال يعقوب بن بختان : سألت أبا عبد الله فقلت : نعامل اليهود والنصارى فنأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون أسلم عليهم ؟ قال : نعم تنوي السلام على المسلمين وسئل عن مصافحة أهل الذمة فكرهه (10/616)
فصل : فيما يذكره بعض أهل الذمة من أن الجزية لا تلزمهم
فصل : وما يذكر بعض أهل الذمة من أن الجزية لا تلزمهم وأن معهم كتابا من النبي صلى الله عليه و سلم باسقاطها عنهم لا يصح وسئل عن ذلك أبو العباس بن سريج فقال : ما نقل ذلك أحد من المسلمين وذكر انهم طولبوا بذلك فأخرجوا كنا ذكروا أنه بخط علي رضي الله عنه كتبه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان فيه شهادة سعد ين معاذ ومعاوية وتاريخه بعد موت سعد وقبل إسلام معاوية فاستدل بذلك على بطلانه ولأن قولهم غير مقبول ولم يرو ذلك من يعتمد على روايته (10/619)
فصلان : في معاملة أهل الذمة
فصل : قال ابو الخطاب : يمتهنون عند أخذ الجزية ويطال قيامهم وتجر أيديهم عند أخذها ذهب إلى قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقيل : الصغار التزامهم الجزية وجريان أحكامنا عليهم ولا يقبل منهم ارسالها بل يحضر الذمي بنفسه بها ويؤديها وهو قائم والآخذ جالس ولا يشتط عليهم في أخذها ولا يعذبون إذا أعسروا عن أدائها فان عمر رضي الله عنه أتي بمال كثير قال أبو عبيد : وأحسبه من الجزية فقال : إني لأظنكم قد أهلكتم الناس قالوا : لا والله ما أخذنا إلا عفوا صفوا قال : بلا صوت ولا بوط قالوا : نعم قال : الحمد لله الذي لم يجعل ذلك على يدي ولا في سلطاني وقدم عليه سعيد بن عامر بن حذيم فعلاه عمر بالدرة فقال سعيد : سبق سيلك مطرك إن تعاقب نصبر وان تعف نشكر وان تستعتب نعتب : فقال : ما على المسلم إلا هذا مالك تبطىء بالخراج ؟ قال : أمرتنا أن لا نزيد الفلاحين على أربعة دنانير فلسنا نزيدهم على ذلك ولكن نؤخرهم إلى غلاتهم قال عمر : لا عزلتك ما حييت رواهما أبو عبيد وقال : إنما وجه التأخير الى الغلة الرفق بهم قال : ولم نسمع في استيداء الخراج والجزية وقتا غير هذا واستعمل علي بن أبي طالب رجلا على عكبرى فقال له على رؤوس الناس : لا تدعن لهم درهما من الخراج وشدد عليه القول ثم قال : القني عند انتصاف النهار فأتاه فقال : إني كنت أمرتك بأمر وإني أتقدم إليك الآن فإن عصيتني نزعتك لا تبيعن لهم في خراجهم حمارا ولا بقرة ولا كسوة شتاء ولا صيف وارفق بهم وافعل بهم
فصل : قال أحمد في الرجل له المرأة النصرانية : لا يؤذن لها أن تخرج إلى عيد أو تذهب إلى بيعة وله أن يمنعها ذلك وكذلك في الأمة قيل له : أله أن يمنعها شرب الخمر ؟ قال : يأمرها فان لم تقبل فليس له منعها قيل له : فان طلبت منه أن يشتري لها زنارا ؟ قال : لا يشتري لها زنارا تخرج هي تشتري لنفسها وسئل عن الذمي يعامل بالربا ويبيع الخمر والخنزير ثم يسلم وذلك المال في يده فقال : لا يلزمه أن يخرج منه شيئا لأن ذلك مضى في حال كفره فأشبه نكاحهم في الكفر إذا أسلم وسئل عن المجوسيين يجعلان ولدهما مسلما فيموت وهو ابن خمس سنين فقال : يدفن في مقابر المسلمين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فابواه يهودانه ويصرانه ويمجسانه ] يعني أن هذين لم يمجساه فيبقى على الفطرة وسئل أبو عبد الله عن أولاد المشركين فقال : اذهب إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الله اعلم بما كانوا عاملين ] قال : وكان ابن عباس يقول : [ فأبواه يهودانه وينصرانه ] حتى سمع : [ الله اعلم بما كانوا عاملين ] فترك قوله وسأله ابن الشافعي فقال : يا أبا عبد الله ذراري المشركين أو المسلمين ؟ فقال : هذه مسائل أهل الزيغ وقال أبو عبد الله : سأل بشر بن السري سفيان الثوري عن أطفال المشركين فصاح به وقال : يا صبي أنت تسأل عن هذا ؟ قال أحمد : ونحن نمر هذه الاحاديث على ما جاءت ولا نقول شيئا وسئل عن أطفال المسلمين فقال : ليس فيه اختلاف أنهم في الجنة وذكروا له حديث عائشة الذي قالت فيه : عصفور من عصافير الجنة قال : وهذا حديث ؟ وذكر فيه رجلا ضعفه طلحة وسئل عن الرجل يسلم بشرط أن لا يصلي إلا صلاتين فقال : يصح إسلامه ويؤخذ بالخمس وقال : معنى حديث حكيم بن حزام - بايعت النبي صلى الله عليه و سلم على أن لا أخر إلا قائما - أنه لا يركع في الصلاة بل يقرأ ثم يسجد من غير ركوع قال : وحديث قتادة عن نصر بن عاصم أن رجلا منهم بايع النبي صلى الله عليه و سلم أن يصلي طرفي النهار (10/620)
مسألة في إرسال الكلب المعلم وشروط إرسال الجارح
الأصل في إباحة الصيد الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } وقال سبحانه : { وإذا حللتم فاصطادوا } وقال سبحانه : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } وأما السنة [ فروى أبو ثعلبة الخشني قال أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله أنا بأرض صيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ماذا يصلح لي ؟ قال : أما ما ذكرت أنكم بأرض صيد فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل ] [ وعن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله أنا نرسل الكلب المعلم فيمسك علينا قال : كل قلت وإن قتل ؟ قال : كل ما لم يشرك كلب غيره قال : وسئل رسول الله عن صيد المعراض فقال : ما خرق فكل وما قتل بعرضه فلا تأكل ] متفق عليهما وأجمع أهل العلم على إباحة الإصطياد والأكل من الصيد
مسألة : قال : وإذا سمى وأرسل كلبه أو فهده المعلم واصطاد وقتل ولم يأكل منه جاز أكله
أما ما أدرك ذكاته من الصيد فلا يشترط في إباحته سوى صحة التذكية ولذلك [ قال عليه السلام : وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل ] وأما ما قتل الجارح فيشترط في إباحته شروط سبعة
أحدهما : أن يكون الصائد من أهل الذكاة فإن كان وثنيا أو مرتدا أو مجوسيا أو من غير المسلمين وأهل الكتاب أو مجنونا لم يبح صيده لأن الإصطياد أقيم مقام الذكاة والجارح آلة كالسكين وعقره للحيوان بمنزلة افراء الأوداج [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : فإن أخذ الكلب ذكاته ] والصائد بمنزلة المذكي فتشترط الأهلية فيه
الشرط الثاني : أن يسمي عند إرسال الجارح فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي و أبي ثور و داود ونقل حنبل عن أحمد إن نسي التسمية على الذبيحة والكلب أبيح قال الخلال : سها حنبل في نقله فإن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل وممن اباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة و مالك ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] ولأن إرسال الجارحة جرى مجرى التذكية فعفي عن النسيان فيه كالذكاة وعن أحمد أن التسمية تشترط على إرسال الكلب في العمد والنسيان ولا يلزم ذلك في إرسال السهم إليه حقيقة وليس له اختيار فهو بمنزلة السكين بخلاف الحيوان فإنه يفعل بإختياره وقال الشافعي : يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا ل [ أن البراء روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم ] [ وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل فقيل أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله فقال اسم الله في قلب كل مسلم ] وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا
ولنا قوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وقال : { فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل قلت أرسل كلبي فأخذ معه كلبا آخر ؟ قال : لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] متفق عليه وفي لفظ [ وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل ] وفي حديث أبي ثعلبة : [ وما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل ] وهذه نصوص صحيحة لا يعرج على ما خالفها وقوله : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] يقتضي نفي الإثم لا جعل الشرط المعدوم كالموجود بدليل على ما لو نسي شرط الصلاة والفرق بين الصيد والذبيحة أن الذبح وقع في محله فجاز أن يتسامح فيه بخلاف الصيد فأما أحاديث أصحاب الشافعي فلم يذكرها أصحاب السنن المشهورة وإن صحت فهي في الذبيحة ولا يصح قياس الصيد عليها لما ذكرنا مع ما في الصيد من النصوص الخاصة إذا ثبت هذا فالتسمية المعتبرة قوله بسم الله لان إطلاق التسمية ينصرف إلى ذلك وقد ثبت [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا ذبح قال : بسم الله والله أكبر ] وكان ابن عمر يقوله ولا خلاف في أن قوله بسم الله يجزئه وإن قال اللهم اغفر لي لم يكف لأن ذلك طلب حاجة وإن هلل أو سبح أو كبر أو حمد الله تعالى احتمل الأجزاء لأنه ذكر اسم الله تعالى على وجه التعظيم واحتمل المنع لأن إطلاق التسمية لا يتناوله وإن ذكر اسم الله تعالى بغير العربية أجزأه وإن أحسن العربية لأن المقصود ذكر إسم الله وهو يحصل بجميع اللغات بخلاف التكبير في الصلاة فإن المقصود لفظه وتعتبر التسمية عند الإرسال لأنه الفعل الموجود من المرسل فتعتبر التسمية عنده كما تعتبر عند الذبح من الذابح وعند إرسال السهم من الرامي نص أحمد على هذا ولا تشرع الصلاة على النبي صلى الله عليه و سلم مع التسمية في ذبح ولا صيد وبه قال الليث واختار أبو إسحاق بن شاقلا استحباب ذلك وهو قول الشافعي لقوله عليه السلام : [ من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ] وجاء في تفسير قوله تعالى : { ورفعنا لك ذكرك } لا أذكر إلا ذكرت معي
ولنا قوله عليه السلام : [ موطنان لا أذكر فيهما : عند الذبيحة والعطاس ] رواه أبو محمد الخلال بإسناده ولأنه إذا ذكر غير الله تعالى أشبه المهل لغير الله
الشرط الثالث : أن يرسل الجارحة على الصيد فإن استرسلت بنفسها فقتلت لم يبح وبهذا قال ربيعة و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال عطاء و الأوزاعي يؤكل صيده إذا أخرجه للصيد وقال إسحاق إذا سمى عند انفلاته أبيح صيده وروى بإسناده عن ابن عمر أنه سئل عن الكلاب تنفلت من مرابضها فتصيد الصيد قال اذكر اسم الله وكل وقال إسحاق فهذا الذي اختار إذا لم يتعمد هو إرساله من غير ذكر اسم الله عليه قال الخلال : هذا على معنى قول أبي عبدالله
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك وسميت فكل ] ولأن إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح ولهذا اعتبرت التسمية معه وإن استرسل بنفسه فسمى صاحبه وزجره فزاد في عدوه أبيح صيده وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعية لا يباح وعن عطاء كالمذهبين
ولنا أن زجره أثر في عدوه فصار كما لو أرسله وذلك لأن فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره فالإعتبار بفعل الإنسان بدليل ما لو صال الكلب على إنسان فأغراه إنسان فالضمان على من أغراه وإن أرسله بغير تسمية ثم سمى وزجره فزاده في عدوه فظاهر كلام احمد أنه يباح فإنه قال إذا أرسل ثم سمى فانزجر أو أرسل وسمى فالمعنى قريب من السواء وظاهر هذا الإباحة لأنه انزجر بتسميتة وزجره فأشبه التي قبلها وقال القاضي لا يباح صيده لأن الحكم يتعلق بالإرسال الأول بخلاف ما إذا استرسل بنفسه فإنه لا يتعلق به حظر ولا إباحة
الشرط الرابع : أن يكون الجارح معلما ولا خلاف في اعتبار هذا الشرط لأن الله تعالى قال : { وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } وما تقدم من حديث أبي ثعلبة ويعتبر في تعليمه ثلاثة شروط : إذا أرسله استرسل وإذا زجره أنزجر وإذا أمسك لم يأكل ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى حتى يصير معلما في حكم العرف وأقل ذلك ثلاث قاله القاضي وهو قول أبي يوسف و محمد ولم يقدر أصحاب الشافعي عدد المرات لأن التقدير بالتوقيف ولا توقيف في هذا بل قدره بما يصير به في العرف معلما وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا تكرر مرتين صار معلما لأن التكرار يحصل بمرتين وقال الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب يحصل ذلك بمرة ولا يعتبر التكرار لأنه تعلم صنعة فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع
ولنا أن تركه للأكل يحتمل أن يكون لشبع ويحتمل أنه لتعلم فلا يتميز ذلك إلا بالتكرار وما اعتبر فيه التكرار عتبر ثلاثا كالمسح في الإستجمار وعدد الإقرار والشهود في العدة والغسلات في الوضوء ويفارق الصنائع فإنها لا يتمكن من فعلها إلا من تعلمها فإذا فعلها علم أنه قد تعلمها وعرفها وترك الأكل ممكن الوجود من المتعلم وغيره ويوجد من الصنفين جميعا فلا يتميز به إحداهما من الآخر حتى يتكرر وحكي عن ربيعة و مالك أنه لا يعتبر ترك الأكل ما روي أبو ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل ] ذكره الإمام أحمد ورواه أبو داود
ولنا أن العادة في المعلم ترك الأكل فاعتبر شرطا كالإنزجار إذا زجر وحديث أبي ثعلبة معارض بما [ روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ] وهذا أولى بالتقديم لأنه متفقه عليه ولأنه متضمن للزيادة وهو ذكر الحكم معللا ثم أن حديث أبي ثعلبة محمول على جارحه ثبت تعليمها لقوله : [ إذا أرسلت كلبك المعلم ] ولا يثبت التعليم حتى يترك الأكل إذا ثبت هذا فإن الإنزجار بالزجر إنما يعتبر بإرساله على الصيد أو رؤيته أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال
الشرط الخامس : أن لا يأكل من الصيد فإن أكل منه لم يبح في أصح الروايتين ويروى ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وبه قال عطاء و طاوس و عبيد بن عمير و الشعبي و النخعي و سويد بن غفلة و أبو بردة و سعيد بن جبير و عكرمة و الضحاك و قتادة و إسحاق و أبو حنيفة و أصحابه و أبو ثور والرواية الثانية : يباح وروي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وسلمان وأبي هريرة وابن عمر حكاه عنهم الإمام أحمد وبه قال مالك و لـ لشافعي قولان كالمذهبين واحتج من أباحه بعموم قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وحديث أبي ثعلبة ولأنه صيد جارح معلم فأبيح كما لو لم يأكل فإن الأكل يحتمل أن يكون لفرط جوع أو غيظ على الصيد
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عدي بن حاتم : [ إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك قلت وإن قتل قال : وإن قتل إلا أن يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ] متفق عليه ولأن ما كان شرطا في الصيد الأول كان شرطا في سائر صيوده كالإرسال والتعليم وأما الآية فلا تتناول هذا الصيد فإنه قال : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وهذا إنما أمسك على نفسه وأما حديث أبي ثعلبة فقد قال أحمد يختلفون عن هشيم فيه وعلى أن حديثنا أصح لأنه متفق عليه وعدي بن حاتم أضبط ولفظه أبين لأنه ذكر الحكم والعلة قال أحمد حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم و الشعبي يقول : كان جاري وربيطي فحدثني والعمل عليه ويحتمل أنه أكل منه بعد أن قتله وانصرف عنه وإذا ثبت هذا فإنه لا يحرم ما تقدم من صيوده في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة يحرم لأنه لو كان معلما ما أكل
ولنا عموم الآية والأخبار وإنما خص منه ما أكل منه ففيما عداه يجب القضاء بالعموم ولأن إجتماع شروط التعليم حاصلة فوجب الحكم به ولهذا حكمنا بحل صيده فإذا وجد الأكل احتمل أن يكون لنسيان أو لفرط جوعه أو نسي التعليم فلا يترك ما يثبت يقينا بالإحتمال (11/4)
فصل إن شرب الكلب دم الصيد ولم يأكل من لم يحرم
فإن شرب دمه ولم يأكل منه لم يحرم نص عليه أحمد وبه قال عطاء و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وكرهه الشعبي و الثوري لأنه في معنى الأكل
ولنا عموم الآية والأخبار وإنما خرج منه ما أكل منه بحديث عدي : [ فإن أكل منه فلا تأكل ] وهذا لم يأكل ولأن الدم لا يقصده الصائد منه ولا ينتفع به فلا يخرج بشربه عن أن يكون ممسكا على صائده (11/10)
فصل لا يحرم ما صاده الكلب بعد الصيد الذي أكل منه
ولا يحرم ما صاده الكلب بعد الصيد الذي أكل منه ويحتمل كلام الخرقي أنه يخرج عن أن يكون معلما فتعتبر له شروط التعليم ابتداء والأول لما ذكرنا في صيده الذي قبل الأكل
الشرط السادس : أن يجرح الصيد فإن خنقه أو قتله بصدمته لم يبح قال الشريف وبه قال أكثرهم وقال الشافعي في قول له يباح لعموم الآية والخبر
ولنا أنه قتله بغير جرح أشبه ما قتله بالحجر والبندق ولأن الله تعالى حرم الموقوذة وهذا كذلك وهذا يخص ما ذكروه وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله فكل ] يدل على أنه لا يباح ما لم ينهر الدم
الشرط السابع : أن يرسله على صيد فإن أرسله وهو لا يرى شيئا ولا يحس به فأصاب صيدا لم يبح هذا قول أكثر أهل العلم لأنه لم يرسله على الصيد وإنما استرسل بنفسه وهكذا إن رمى سهما إلى غرض فأصاب صيدا أو رمى به إلى فوق رأسه فوقع على صيد فقتله لم يبح لأنه لم يقصد برميه عينا فأشبه من نصب سكينا فانذبحت بها شاة (11/10)
فصل كل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به فحكمه حكم الكلب
وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم كالفهد أو جوارح الطير فحكمه حكم الكلب في إباحة صيده قال ابن عباس في قوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح } هي الكلاب المعلمة وكل طير تعلم الصيد والفهود والصقور وأشباهها وبمعنى هذا قال طاوس و يحيى بن أبي كثير و الحسن و مالك و الثوري و ابو جنيفة و محمد بن الحسن و الشافعي و أبو ثور وحكي عن ابن عمر و مجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب لقول الله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } يعني كلبتم من الكلاب
ولنا ما [ روي عن عدي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيد البازي فقال : إذا أمسك عليك فكل ] ولأنه جارح يصاد به عادة ويقبل التعليم فأشبه الكلب فأما الآية فإن الجوارح الكواسب { ويعلم ما جرحتم بالنهار } أي كسبتم وفلان جارحة أهله أي كاسبهم ( مكلبين ) من التكليب وهو الإغراء (11/11)
فصل هل يجب غسل أثر فم الكلب من الصيد ؟ فيه وجهان
وهل يجب غسل أثر فم الكلب من الصيد ؟ فيه وجهان أحدهما : لا يجب لأن الله تعالى ورسوله أمرا بأكله ولم يأمرا بغسله والثاني : يجب لأنه قد ثبتت نجاسته فيجب غسل ما أصابه كبوله (11/11)
مسألة إذا أرسل البازي وما اشبهه فصاد وقتل أكل وإن أكل من الصيد لأنه تعليمه بأن يأكل
مسألة : قال : وإذا أرسل البازي وما أشبهه فصاد وقتل أكل وإن أكل من الصيد لأن تعليمه بأن يأكل
وجملته أنه يشترط في الصيد بالبازي ما يشترط في الصيد بالكلب إلا ترك الأكل فلا يشترط ويباح صيده وإن أكل منه وبهذا قال ابن عباس وإليه ذهب النخعي و حماد و الثوري و أبو حنيفة وأصحابه ونص الشافعي على أنه كالكلب في تحريم ما أكل منه من صيده لأن مجالدا روى عن الشعبي [ عن عدي بن حاتم عن البي صلى الله عليه و سلم : فإن أكل الكلب والبازي فلا تأكل ] ولأنه جارح أكل مما صاده عقيب قتله فأشبه سباع البهائم
ولنا إجماع الصحابة روى الخلال بإسناده عن ابن عباس قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل من الصيد وإذا أكل الصقر فكل لأنك تستطيع أن تضرب الكلب ولا تستطيع أن تضرب الصقر وقد ذكرنا عن أربعة من الصحابة أباحة ما أكل منه الكلب وخالفهم ابن عباس فيه ووافقهم في الصقر ولم ينقل عن أحد في عصرهم خلافهم ولأن جوارح الطير تعلم بالأكل ويتعذر تعليمها بترك الأكل فلم يقدح في تعليمها بخلاف الكلب والفهد وأما الخبر فلا يصح يرويه مجالد وهو ضعيف قال أحمد مجالد يصير القصة واحدة كم من أعجوبة لمجالد والروايات الصحيحة تخالفه ولا يصح قياس الطير على السباع لما بينهما من الفرق فإذا ثبت هذا فكل جارح من الطير أمكن تعليمه والاصطياد به من البازي والصقر والشاهين والعقاب حل صيدها على ما ذكرناه (11/12)
مسألة ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما لأنه شيطان
مسألة : قال : ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما لأنه شيطان
البهيم الذي لا يخالط لون لون سواه قال أحمد الذي ليس فيه بياض قال ثعلب وإبراهيم الحربي : كل لون لم يخالطه لون آخر بهيم قيل لهما من كل لون ؟ قالا نعم وممن كره صيده الحسن و النخعي و قتادة و إسحاق وقال أحمد : ما أعرف أحدا يرخص فيه يعني من السلف وأباح صيده أبو حنيفة و مالك و الشافعي لعموم الآية والخبر والقياس على غيره من الكلاب
ولنا أنه كلب يحرم اقتناؤه ويجب قتله فلم يبح صيده كغير المعلم ودليل تحريم اقتنائه [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : فاقتلوا منها كل أسود بهيم ] رواه سعيد وغيره
وروى مسلم في صحيحه بإسناده [ عن عبد الله بن المغفل قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها فقال : عليكم بالأسود البهيم ذي النكتتين فإنه شيطان ] فأمر بقتله وما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه فلم يبح صيده لغير المعلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم سماه شيطانا ولا يجوز اقتناء الشيطان وإباحة الصيد المقتول رخصة فلا تستباح بمحرم كسائر الرخص والعمومات مخصوصة بما ذكرناه وإن كان فيه نكتتان فوق عينيه لم يخرج بذلك عن كونه نهيا لما ذكرناه من الخبر (11/2)
مسألة حكم ما إذا أدرك الصيد وفيه روح
مسألة : قال : وإذا أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات لم يؤكل
يعني والله أعلم ما كان فيه حياة مستقرة فأما ما كانت حياته المذبوح فهذا يباح من غير ذبح في قولهم جميعا فإن الذكاة في مثل هذا لا تفيد شيئا وكذلك لو ذبحه مجوسي ثم أعاد ذبحه مسلم لم يحل فأما ان أدركه وفيه حياة مستقرة فلم يذبحه حتى مات نظرت فإن لم يتسع الزمان لذكاته حتى مات حل أيضا
قال قتادة يأكله ما لم يتوان في ذكاته أو يتركه عمدا وهو قادر على أن يذكيه ونحوه قول مالك و الشافعي وروي عن الحسن و النخعي وقال ابو حنيفة لا يحل لأنه أدركه حيا حياة مستقرة فتعلقت إباحته بتذكيته كما لو اتسع الزمان
ولنا أنه لم يقدر على ذكاته بوجه ينسب فيه إلى التفريط ولم يتسع لها الزمان فكان عقره ذكاته كالذي قتله ويفارق ما قاسوا عليه لأنه أمكنه ذكاته وفرط بتركها ولو أدركه وفيه حياة مستقرة يعيش بها طويلا وأمكنته ذكاته فلم يدركه حتى مات لم يبح سواء كان به جرح يعيش معه أو لا وبه قال مالك و الليث و الشافعي و إسحاق و ابو ثور وأصحاب الرأي لأن ما كان كذلك فهو في حكم الحي بدليل أن عمر رضي الله عنه كانت جراحاته موحية فأوصى وأجيزت وصاياه وأقواله في تلك الحال ولا سقطت عنه الصلاة والعبادات ولأنه ترك تذكيته مع القدرة عليها فأشبه غير الصيد (11/13)
مسألة فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل
مسألة : قال : فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل
يعني أغرى الكلب به وأرسله عليه ومعنى أشلى في العربية دعا إلا أن العامة تستعمله بمعنى اغراه ويحتمل أن الخرقي أراد دعاه ثم أرسله لأن إرساله على الصيد يتضمن دعاءه إليه واختلف قول أحمد في هذه المسألة فعنه مثل قول الخرقي وهو قول الحسن و إبراهيم وقال في موضع : إني لأقشعر من هذا يعني أنه لا يراه وهو قول أكثر أهل العلم لأنه مقدور عليه فلم يبح بقتل الجارح له كبهيمة الأنعام وكما لو أخذه سليما ووجه الأولى أنه صيد قتله الجارح له من غير إمكان ذكاته فأبيح كما لو أدركه ميتا ولأنها حال تتعذر فيها الذكاة في الحلق واللبة غالبا فجاز أن تكون ذكاته على حسب الإمكان كالمتردية في بئر وحكي عن القاضي أنه قال في هذا يتركه حتى يموت فيحل لأنه صيد تعذرت تذكيته فأبيح بموته من عقر الصائد له كالذي تعذرت تذكيته لقلة لبته والأول أصح لأنه حيوان لا يباح بغير التذكية إذا كان معه آلة الذكاة فلم يبح بغيرها إذا لم يكن معه آلة كسائر المقدور على تذكيته ومسألة الخرقي محمولة على ما يخاف موته إن لم يقتله الحيوان أو يذكى فإن كان به حياة يمكن بقاؤه إلى أن يأتي به منزله فليس فيه اختلاف أنه لا يباح إلا بالذكاة لأنه مقدور على تذكيته (11/14)
مسألة حكم ما إذا أرسل كلبه فأضاف معه غيره
مسألة : قال : وإذا أرسل كلبه فأضاف معه غيره لم يؤكل إلا أن يدرك في الحياة فيذكى
معنى المسألة أن يرسل كلبه على صيد فيجد الصيد ميتا ويجد مع كلبه كلبا لا يعرف حاله ولا يدري هل وجدت فيه شرائط صيده أو لا ولا يعلم أيهما قتله ؟ أو يعلم أنهما جميعا قتلاه أو ان قاتله الكلب المجهول فإنه لا يباح إلا أن يدركه حيا فيذكيه وبهذا قال عطاء و القاسم بن مخيمرة و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا والأصل فيه ما [ روى عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر قال : لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] وفي لفظ : [ فإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فخشيت أن يكون أخذ معه وقد قتله فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ] وفي لفظ : [ فإنك لا تدري أيهما قتل ؟ ] أخرجه البخاري ولأنه شك في الإصطياد المبيح فوجب أبقاء حكم التحريم فأما إن علم أن كلبه الذي قتل وحده أو أن الكلب الآخر مما يباح صيده أبيح بدلالة تعليل تحريمه [ فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر ] وقوله : [ فإنك لا تدري أيهما قتل ] ولأنه لم يشك في المبيح فلم يحرم كما لو كان لو كان هو أرسل الكلبين وسمى ولو جهل حال الكلب المشارك لكبله ثم انكشف له أنه مسمى عليه مجتمعة فيه الشرائط حل الصيد ولو اعتقد حله لجهله بمشاركة الآخر له أو لاعتقاده أنه كلب مسمى عليه ثم بإن بخلافه حرم لأن حقيقة الإباحة والتحريم لا تتغير بإعتقاده خلافها ولا الجهل بوجودها (11/15)
فصلان
فصل : وإن أرسل كلبه فأرسل مجوسي كلبه فقتلا صيدا لم يحل لأن صيد المجوسي حرام فإذا اجتمع الحظر والإباحة غلب الحظر كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل ولأن الأصل الحظر والحل موقوف على شرط وهو تذكية من هو من أهل الذكاة أو صيده الذي حصلت التذكية به ولم يتحقق ذلك وكذلك إن رمياه بسهميهما فاصاباه فمات ولا فرق بين أن يقع سهماهما فيه دفعة واحدة أو يقع أحدهما قبل الآخر إلا أن يكون الأول قد عقره عقرا موحيا مثل أن ذبحه أو جعله في حكم المذبوح ثم أصابه الثاني وهو غير مذبوح فيكون الحكم للأول فإن كان الأول المسلم أبيح وإن كان المجوسي لم يبح وإن كان الثاني موحبا ايضا فقال أكثر أصحابنا الحكم للأول أيضا لأن الإباحة حصلت به فأشبه ما لو كان الثاني غير موح ويجيء على قول الخرقي أنه لا يباح لقوله وإذا دبح فأتى على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء أو وطىء عليها شيء لم تؤكل ولأن الروح خرجت بالجرحين فأشبه ما لو جرحاه معا وإن كان الأول ليس بموح والثاني موح فالحكم للثاني في الحظر والإباحة وإن أرسل المسلم والمجوسي كلبا واحدا فقتل صيدا لم يبح لذلك وكذلك لو أرسله مسلمان وسمى أحدهما دون الآخر وكذلك لو أرسل المسلم كلبين أحدهما معلم والآخر غير معلم فقتلا صيدا لم يحل وكذلك أن أرسل كلبه المعلم فاسترسل معه معلم آخر بنفسه فقتلا الصيد لم يحل في قول أكثر العلم منهم ربيعة و مالك و الشافعي و ابو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي يحل ههنا
ولنا أن إرسال الكلب على الصيد شرط لما بيناه ولم يوجد في أحدهما
فصل : فإن ارسل مسلم كلبه وأرسل مجوسي كلبه المجوسي الصيد إلى كلب المسلم فقتله حل أكله وهذا قول الشافعي و ابي ثور وقال أبو حنيفة : لا يحل لأن كلب المجوسي عاون في اصطياده فأشبه إذا عقره
ولنا أن جارحة المسلم انفردت بقتله فأبيح كما لو رمى المجوسي سهمه فرد الصيد فأصابه سهم مسلم فقتله أو امسك مجوسي شاة فذبحها مسلم وبهذا يبطل ما قاله (11/16)
فصل حكم ما إذا أصاب المجوسي بكلب مسلم
وإذا صاد المجوسي بكلب مسلم لم يبح صيده في قولهم جميعا وإن صاد المسلم بكلب المجوسي فقتل حل صيده وبهذا قال سعيد بن المسيب و الحكم و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد لا يباح وكرهه جابر و الحسن و مجاهد و النخعي و الثوري لقوله تعالى : { وما علمتم من الجوارح مكلبين } وهذا لم يعلمه وعن الحسن أنه كره الصيد اليهودي والنصراني لهذه الآية
ولنا أنه آلة صاد بها المسلم فحل صيده كالقوس والسهم قال ابن المسيب هي بمنزلة شفرته والآية دلت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا فهو في معناه فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه يحققه أن التعليم إنما أثر في جعله آلة ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم وإنما تشترط فيما أقيم مقام الذكاة وهو إرسال الآلة من الكلب والسهم وقد وجد الشرط ههنا (11/17)
فصل وإذا أرسل جماعة كلابا وسموا فوجدوا الصيد قتيلا لا يدرون من قتله حل أكله
وإذا أرسل جماعة كلابا وسموا فوجدوا الصيد قتيلا لا يدرون من قتله حل أكله فإن اختلفوا في قاتله وكانت الكلاب متعلقة به فهو بينهم على السواء لأن الجميع مشتركة في إمساكه فأشبه ما لو كان في أيدي الصيادين أو عبيدهم وإن كان البعض متعلقا به دون باقيها فهو لمن كلبه متعلق به وعلى من حكمنا له به اليمين في المسألتين لأن دعواه محتملة فكانت اليمين عليه كصاحب اليد وإن كان قتيلا والكلاب ناحية وقف الأمر حتى يصطلحوا ويحتمل أن يقرع بينهم فمن قرع صاحبه حلف وكان له وهذا قول أبي ثور قياسا على ما لو تداعيا دابة في يد غيرهما وعلى الأول إذا خيف فساده قبل اصطلاحهم عليه باعوه ثم اصطلحوا على ثمنه (11/18)
مسألة إذا سمى ورمى صيدا فاصابت غيره جاز أكله
مسألة : قال : وإذا سمى ورمى صيدا فأصابت غيره جاز أكله
وجملة ذلك الأمر أن الصيد بالسهام وكل محدد جائز بلا خلاف وهو داخل في مطلق قوله تعالى : { فاصطادوا } و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل ] [ وعن أبي قتادة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه وأخذ رمحه ثم شد على الحمار فقتله فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه و سلم سألوه عن ذلك فقال : إنما هي طعمة أطعمكموها الله ] متفق عليه ويعتبر فيه من الشروط ما ذكرنا في الجارح إلا التعليم وتعتبر التسمية عند ارسال السهم والطعن إن كان برمح والضرب إن كان مما يضرب لأنه الفعل الصادر منه وإن تقدمت التسمية بزمن يسير جاز كما ذكرنا في النية في العبادات ويعتبر أن يقصد الصيد فلو رمى هدفا فأصاب صيدا أو قصد رمي إنسان أو حجر أو رمى عبثا غير قاصد صيدا فقتله لم يحل وإن قصد صيدا فأصابه وغيره حلا جميعا والجارح في هذا بمنزلة السهم نص أحمد على هذه المسائل وهو قول الثوري و قتادة و ابي حنيفة و الشافعي إلا أن الشافعي قال : إذا أرسل الكلب على صيد فأخذ آخر في طريقه حل وإن عدل عن طريقه إليه ففيه روايتان ؟ وقال مالك إذا أرسل كلبه على صيد بعينه فأخذه غيره لم يبح لأنه لم يقصد صيده إلا أن يرسله على صيود كبار فتتفرق عن صغار فإنها تباح إذا أخذها
ولنا عموم قوله تعالى : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وقوله عليه السلام : [ إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى عليه فكل مما أمسك عليك ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل ما ردت عليك قوسك ] ولأنه أرسل آلة الصيد على صيد فحل ما صاده كما لو أرسلها على كبار فتفرقت عن صغار فأخذها على مالك أو كما لو أخذ صيدا في طريقه على الشافعي ولأنه لا يمكن تعليم الجارح اصطياد واحد بعينه دون واحد فسقط اعتباره فأما أن أرسل سهمه أو الجارح ولا يرى صيدا ولا يعلمه فصاد لم يحل صيده لأنه لم يقصد صيدا لأن القصد لا يتحقق لما لا يعلمه وبهذا قال الشافعي في الكلب وقال الحسن ومعاوية بن قرة يأكله لعموم الآية والخبر ولأنه قصد الصيد فحل له ما صاده كما لو رآه
ولنا أن قصد الصيد شرط ولا يصح العقد مع عدم العلم فأشبه ما لو لم يقصد الصيد (11/18)
فصل حكم ما لو رأى سوادا فظنه آدميا فإذا هو صيد
وإن رأى سوادا أو سمع حسا فظنه آدميا أو بهيمة أو حجرا فرماه فقتله فإذا هو صيد لم يبح وبهذا قال مالك و محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة يباح وقال الشافعي يباح إن كان المرسل سهما ولا يباح إن كان جارحا واحتج من أباحه بعموم الآية والخبر ولأنه قصد الإصطياد وسمى فأشبه ما لو علمه صيدا
ولنا أنه لم يقصد الصيد فلم يبح كما لو رمى هدفا فأصاب صيدا وكما في الجارح عند الشافعي وإن ظنه كلبا أو خنزيرا لم يبح لذلك وقال محمد بن الحسن : يباح لأنه مما قتله
ولنا ما تقدم فأما أن ظنه صيدا حل لأنه ظن وجود الصيد أشبه ما لو رآه وإن شك هل هو صيد أو لا ؟ أو غلب على ظنه أنه ليس بصيد لم يبح لأن صحة القصد تنبني على العلم ولم يوجد ذلك وإن رمى حجرا يظنه صيدا فقتل صيدا فقال أبو الخطاب : لا يباح لأنه لم يقصد صيدا على الحقيقة ويحتمل أن يباح لأن صحة القصد تنبني على الظن وقد وجد فصح فينبغي أن يحل صيده (11/20)
مسألة حكم ما لو رمى الصيد فغاب عن عينيه فوجده ميتا وسهمه فيه
مسألة : قال : وإذا رمى فغاب عن عينيه فوجده ميتا وسهمه فيه لا أثر به غيره حل أكله
هذا هو المشهور عن أحمد وكذلك لو أرسل كلبه على صيد فغاب عن عينه ثم وجده ميتا ومعه كلبه حل وهذا قول الحسن و قتادة وعن أحمد غاب نهارا فلا بأس وإن غاب ليلا لم يأكله وعن مالك كالروايتين وعن أحمد ما يدل على أنه إن غاب مدة طويلة لم يبح وإن كانت يسيرة لأنه قيل له إن غاب يوما قال يوم كثير ووجه ذلك قول ابن عباس : إذا رميت فأقعصت فكل وإن رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل وإن بات عنك ليلة فلا تأكل فإنك لا تدري ما حدث فيه بعد ذلك وكره عطاء و الثوري أكل ما غاب وعن أحمد مثل ذلك و لـ لشافعي فيه قولان لأن ابن عباس قال : كل ما أصميت وما أنميت فلا تأكل قال الحكم الأصماء الأقعاص يعني أنه يموت في الحال والإنماء أن يغيب عنك يعني أنه لا يموت في الحال
قال الشاعر :
( فهو لا تنمي رميته ماله لا عد من نفره )
وقال أبو حنيفة يباح إن لم يكن ترك طلبه وإن تشاغل عنه ثم وجده لم يبح
ولنا ما روى عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ] متفق عليه و [ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أفتني في سهمين قال : ما رد عليك سهمك فكل قال وإن تغيب عني ؟ قال : وإن تغيب عنك ما لم تجد فيه أثرا غير سهمك أو تجده قد صل ] رواه أبو داود و [ عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاث وسهمك فيه فكله ما لم ينتن ] ولأن جرحه بسهمه سبب إباحته وقد وجد يقينا والمعارض له مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك ولأنه وجده وسهمه فيه ولم يجد به أثرا آخر فأشبه ما لو لم يترك طلبه عند أبي حنيفة أو كما لو غاب نهارا أو مدة يسيرة أو كما لو لم تغب إذا ثبت هذا فإنه يشترط في حله شرطان :
أحدهما : أن يجد سهمه فيه أو أثره ويعلم أنه أثر سهمه لأنه إذا لم يكن كذلك فهو شاك في وجود المبيح فلا يثبت بالشك
والثاني : أن لا يجد به أثرا غير سهمه مما يحتمل أنه قتله ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : ما لم تجد فيه أثرا غير سهمك ] وفي لفظ : [ وإن وجدت فيه أثرا غير سهمك فلا تأكله فإنك لا تدري اقتلته أنت أو غيرك ] رواه الدار قطني وفي لفظ : [ إذا وجدت فيه سهمك ولم يأكل منه سبع فكل منه ] رواه النسائي وفي حديث عدي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فإن رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل ] رواه البخاري وقال عليه السلام : [ وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل ] ولأنه إذا كان به أثر يصلح أن يكون قد قتله فقد تحقق المعارض فلم يبح كما لو وجد مع كلبه كلبا سواه فأما إن كان الأثر مما يقتل مثله مثل أكل حيوان ضعيف كالسنور والثعلب من حيوان قوي فهو مباح لأنه يعلم أن هذا لم يقتله فأشبه ما لو تهشم من وقعته (11/20)
مسألة حكم ما لو رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل
مسألة : قال : وإذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل
يعني وقع في ماء يقتله أو تردى ترديا يقتله مثله ولا فرق في قول الخرقي بين كون الجراحة موحية أو غير موحية هذ المشهور عن أحمد وظاهر قول ابن مسعود و عطاء و ربيعة و إسحاق وأصحاب الرأي وأكثر أصحابنا المتأخرين يقولون إن كانت الجراحة موحية مثل أن ذبحه أو أبان حشوته لم يضر وقوعه في الماء ولا ترديه وهو قول الشافعي و مالك و الليث و قتادة و أبي ثور لأن هذا صار في حكم الميت بالذبح فلا يؤثر فيه ما أصابه ووجه الأول قوله : [ وإن وقع في الماء فلا تأكل ] ولأنه يحتمل أن الماء أعان على خروج روحه فصار بمنزلة ما لو كانت الجراحة غير موحية ولا خلاف في تحريمه إذا كانت الجراحة غير موحية ولو وقع الحيوان في الماء على وجه يقتله مثل أن يكون رأسه خارجا من الماء أو يكون من طير الماء الذي لا يقتله الماء أو كان التردي لا يقتل مثل ذلك الحيوان فلا خلاف في إباحته لأن النبي صلى الله عليه و سلم : [ فإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله ] ولأن الوقوع في لماء والتردي إنما حرم خشية أن يكون قاتلا أو معينا على القتل وهذا منتف فيما ذكرناه (11/22)
فصل حكم ما لو رمى طائرا في الهواء
فإن رمى طائرا في الهواء أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حل وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي قال مالك لا يحل إلا أن تكون الجراحة موحية أو يموت قبل سقوطه لقوله تعالى : { والمتردية } ولأنه اجتمع المبيح والحاضر فغلب الحظر كما لو غرق
ولنا أنه صيد سقط بالإصابة سقوطا لا يمكن الإحتراز عن سقوطه عليه فوجب أن يحل كما لو أصاب الصيد فوقع على جنبه ويخالف ما ذكروه فإن الماء يمكن التحرز منه وهو قاتل بخلاف الأرض (11/23)
مسألة إذا رمى صيدا فقتل جماعة فكله حلال
مسألة : قال : وإذا رمى صيدا فقتل جماعة فكله حلال
قد سبق شرح هذه المسألة فيما إذا رمى صيدا فأصاب غيره (11/23)
فصل حكم الصيد بالليل
قال أحمد لا بأس بصيد الليل فقيل له [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أقروا الطير على وكناتها ] فقال هذا كان أحدكم يريد الأمر فيثير الطير حتى يتفاءل أن كان عن يمينه قال كذا وإن جاء عن يساره قال كذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أقروا الطير على وكناتها ] وروي له [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تطرقوا الطير في أوكارها فإن الليل لها أمان ] فقال هذا ليس بشيء يرويه فرات بن السائب وليس بشيء ورواه عنه حفص بن عمر ولا أعرفه قال يزيد بن هارون وما علمت أن أحدا كره صيد الليل وقال يحيى بن معين ليس به بأس وسئل هل يكره لرجل صيد الفراخ الصغار مثل الورشان وغيره يعني من أوكارها ؟ فلم يكرهه (11/23)
مسألة حكم لو رمى صيدا فأبان منه عضوا
مسألة : قال وإذا رمى صيدا فأبان منه عضوا لم يؤكل ما أبان منه ويؤكل ما سواه في إحدى الروايتين والأخرى يأكله وما أبان منه
وجملته أنه إذا رمى صيدا أو ضربه فبان بعضه لم يخل من أحوال ثلاثة
أحدهما : أن يقطعه قطعتين رأسه فهذا جميعه حلال سواء كانت القطعتان متساويتين أو متفاوتتين وبهذا قال الشافعي وروي ذلك عن عكرمة و النخعي و قتادة وقال أبو حنيفة أن كانتا متساويتين أو التي مع الرأس أقل حلتا وإن كانت الأخرى أقل لم يحل وحل الرأس وما معه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أبين من حي فهو ميت ] ولنا أنه جزء لا تبقى الحياة مع فقده فأبيح كما لو تساوت القطعتان
الحال الثاني : أن يبين منه عضوا وتبقى فيه حياة مستقرة فالبائن محرم بكل سواء بقي الحيوان حيا أو أدركه فذكاه أو رماه بسهم آخر فقتله إلا أنه ذكاه حل بكل حال دون ما أبان منه وإن ضربه في غير مذبحه فقتله نظرت فإن لم يكن أثبته بالضربة الأولى حل دون ما أبان منه وإن كان أثبته لم يحل شيء منه لأن ذكاة المقدور عليه في الحلق واللبة
الحال الثالث : أبان منه عضوا ولم تبق فيه حياة مستقرة فهذه التي ذكر الخرقي فيها روايتين أشهرهما عن أحمد إباحتهما قال أحمد أنما حديث النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما قطعت من الحي ميتة إذا قطعت وهي حية تمشي وتذهب ] أما إذا كانت البينونة والموت جميعا أو بعده بقليل إذا كان في علاج الموت فلا بأس به ألا ترى الذي يذبح ربما مكث ساعة وربما مشى حتى يموت ؟ وهذا مذهب الشافعي وروي ذلك عن علي و عطاء و الحسن وقال قتادة وإبراهيم وعكرمة أن وقعا معا أكلهما وإن مشى بعد قطع العضو أكله ولم يأكل العضو
والرواية الثانية : لا يباح ما بان منه وهذا مذهب أبي حنيفة لقول النبي صلىالله عليه وسلم : [ ما أبين من حي فهو ميت ] ولأن هذه البينونة لا تمنع بقاء الحيوان في العادة فلم يبح أكل البائن كما لو أدركه الصياد وفيه حياة مستقرة والأولى المشهورة لأن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجميعه كما لو قده نصفين والخبر يقتضي أن يكون الباقي حيا حتى يكون المنفصل منه ميتا وكذا نقول قال أبو الخطاب فإن بقي معلقا بجلده حل رواية واحدة (11/24)
فصل حكم الطريدة
قال أحمد حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن أنه كان لا يرى بالطريدة بأسا كان المسلمون يفعلون ذلك في مغازيهم وما زال الناس يفعلونه في مغازيهم واستحسنه ابو عبد الله قال والطريدة الصيد يقع بين القوم فيقطع ذا منه بسيفه قطعة ويقطع الآخر أيضا حتى يؤتى عليه وهو حي قال وليس هو عندي إلا أن الصيد يقع بينهم لا يقدرون على ذكاته فيأخذونه قطعا (11/25)
مسألة وفصل حكم نصب المناجل وحكم ما قتلته الشبكة
مسألة : قال : وكذلك إذا نصب المناجل للصيد
وجملته أنه إذا نصب المناجل للصيد فعقرت صيدا أو قتلته حل فإن أبان منه عضوا فحكمه حكم البائن بضربة الصائد روي نحو ذلك عن ابن عمر وهو قول الحسن و قتادة وقال الشافعي لا يباح بحال لأنه لم يذكه أحد وإنما قتلت المناجل بنفسها ولم يوجد من الصائد إلا السبب فجرى ذلك مجرى من نصب سكينا فذبحت شاة ولأنه لو رمى سهما وهو لا يرى صيدا فقتل صيدا لم يحل فهذا أولى
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : كل ما ردت عليك يدك ] ولأنه قتل الصيد بحديدة على الوجه المعتاد فأشبه ما لو رماه بها ولأنه قصد قتل الصيد بما له حد جرت العادة بالصيد به أشبه ما ذكرنا والسبب جرى مجرى المباشرة في الضمان فكذلك في إباحة الصيد وفارق ما إذا نصب سكينا فإن العادة لم تجر بالصيد بها وإذا رمى سهما ولم ير صيدا فليس ذلك بمعتاد والظاهر أنه لا يصيب صيدا فلم يصح قصده وهذا بخلافه
فصل : فأما ما قتلته الشبكة أو الحبل فهو محرم ولانعلم فيه خلافا إلا عن الحسن أنه يباح ما قتله الحبل إذا سمى فدخل فيه وجرحه وهذا قول شاذ يخالف عوام أهل العلم ولأنه قتله بما ليس له حد أشبه ما لو قتله بالبندق (11/26)
مسألة وفصل حكم ما صيد بالمعراض وحكم سائر آلات الصيد
مسألة : قال : وإذا صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده ولا يأكل ما قتل بعرضه
المعراض عود محدد وربما جعل في رأسه حديدة قال أحمد المعراض يشبه السهم يحذف به الصيد فربما أصاب الصيد بحده فخرق وقتل فيباح وربما اصاب بعرضه فقتل بثقله فيكون موقوذا فلا يباح وهذا قول علي وعثمان وعمار وابن عباس وبه قال النخعي و الحكم و مالك و الثوري و الشافعي و أبو حنيفة و إسحاق و أبو ثور وقال الأوزاعي وأهل الشام يباح ما قتله بحده وعرضه وقال ابن عمر ما رمي من الصيد بجلاهق أو معراض فهو من الموقوذة وبه قال الحسن
ولنا ما [ روى عدي بن حاتم قال سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن صيد المعراض فقال : ما خرق فكل وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل ] متفق عليه وهذا نص ولأن ما قتله بحده بمنزلة ما طعنه برمحه أو رماه بسهمه ولأنه محدد خرق وقتل بحده وما قتل بعرضه إنما يقتله بثقله فهو موقوذ كالذي رماه بحجر أو ببندقة
فصل : قال وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد كالسهم يصيب الطائر فيقتله والرمح والحربة والسيف يضرب به صفحا فيقتل فكل ذلك حرام وهكذا إن أصاب بحده فلم يجرح وقتل بثقله لم يبح ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : ما خرق فكل ] ولأنه إذا لم يجرحه فإنما يقتله بثقله فأشبه ما أصاب بعرضه (11/26)
مسألة وفصل إذا رمى صيدا فعقره ورماه آخر فثبته ورماه آخر فقتله
مسألة : قال : وإذا رمى صيدا فعقره ورماه آخر فأثبته ورماه آخر فقتله لم يؤكل وكان لمن أثبته القيمة مجروحا على قاتله
أما الذي عقره ولم يثبته فلا شيء له ولا عليه لأنه حين ضربه كان مباحا لا ملك لأحد فيه ولم يثبت له فيه حق لأن باق على امتناعه وأما الذي أثبته فقد ملكه لأنه أزال امتناعه فصار بمنزلة إمساكه فإذا ضربه الثالث فقتله فعليه ضمانه لأنه قتل حيوانا مملوكا لغيره وهذا محمول على أن جرح المثبت ليس بموح بدليل أنه نسب القتل إلى الثالث ويضمنه مجروحا حين الجرح الأول والثاني لأنه قتله وهما فيه ؟ فأما إباحته فينظر فيه فإن كان القاتل أصاب مذبحه حل لأنه صادف محل الذبح وليس عليه الا أرش ذبحه كما لو ذبح شاة لغيره وإن كان أصاب غير مذبحه لم يحل لأنه لما أثبته صار مقدورا عليه لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة فإذا قتله بغير ذلك لم يحل كما لو قتل شاة وهذا قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي و أبي يوسف و محمد
فصل : وإن رمى صيدا فأثبته ثم رماه آخر فأصابه لم تخل رمية الأول من قسمين أحدهما : أن تكون موحية مثل أن تنحره أو تذبحه أو تقع في خاصرته أو قلبه فينظر في رمية الثاني فإن كانت غير موحبة فهو حلال ولا ضمان على الثاني إلا أن ينقصه برميه شيئا فيضمن ما نقصه لأن بالرمية الأولى صار مذبوحا وإن كانت رمية الثاني موحية فقال القاضي وأصحابه يحل كالتي قبلها وهو مذهب الشافعي ويجيء على قول الخرقي أن يكون حرما كقوله فيمن ذبح فأتى على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء أو وطىء عليها شيء لم يؤكل
القسم الثاني : أن يكون جرح الأول غير موح فينظر في رمية الثاني فإن كانت موحية فهو محرم لما ذكرنا إلا أن تكون ذبحته أو نحرته وإن كانت غير موحية فلها ثلاث صور
إحداهما : أنه ذكي بعد ذلك فيحل والثانية : لم يذك حتى مات فإنه يحرم لأنه مات من جرحين مبيح ومحرم فحرم كما لو مات من جرح مسلم ومجوسي وعلى الثاني ضمان جميعه لأن جرحه هو الذي حرمه فكان جميع الضمان عليه
الثالثة : قدر على ذكاته فلم يذكه حتى مات حرم لمعنيين أحدهما : أنه ترك ذكاته مع إمكانها والثاني : أنه مات من جرحين مبيح ومحرم ويلزم الثاني الضمان وفي قدره احتمالان أحدهما : يضمن جميعه كالتي قبلها قال القاضي هذا قول الخرقي يجابه الضمان في مسألته على الثالث من غير تفريق وليست هذه مسألة الخرقي لقوله ثم رماه الثالث فقتله فتعين حملها على أن جرح الثاني كان موحيا لا غير الإحتمال الثاني : أن يضمن الثاني بقسط جرحه لأن الأول إذا ترك الذبح مع إمكانه صار جرحه حاظرا أيضا بدليل ما لو انفرد وقتل الصيد فيكون الضمان منقسما عليهما وذكر القاضي في قسمته عليهما أنه يقسط أرش جرح الأول وعلى الثاني أرش جراحته ثم يقسم ما بقي من القيمة بينهما نصفين وفرض المسألة في صيد قيمته عشرة دراهم نقصه جرح الأول درهما ونقصه جرح الثاني درهما فعليه درهم ويقسم الباقي وهو ثمانية بينهما نصفين فيكون على الثاني خمسة دراهم بالمباشرة وأربعة بالسراية وتسقط حصة الأول وهي خمسة إن كان أرش جرح الثاني درهمين لزماه ويلزمه نصف السبعة الباقية ثلاثة ونصف فيلزمه خمسة ونصف وتسقط حصة الأول أربعة ونصف وإن كانت جنايتهما على حيوان مملوك لغيرهما قسم الضمان عليهما كذلك ويتوجه على هذه الطريقة أنه سوى بين الجنايتين مع أن الثاني جنى عليه وقيمته دون قيمة يوم جنى عليه الأول وإن لم يدخل أرش الجناية في بدل النفس كما يدخل في الجناية على الآدمي والجواب عن هذا أن كل واحد منهما انفرد بإتلاف ما قيمته درهم وتساويا في إتلاف الباقي بالسراية فتساويا في الضمان وإنما يدخل أرش الجناية في بدل النفس التي لا ينقص بدلها بإتلاف بعضها وهو الآدمي أما البهائم فإنه إذا جنى عليها جناية أرشها درهم نقص ذلك من قيمتها فإذا أسرى إلى النفس أوجبنا ما بقي من قيمة النفس ولم يدخل الأرش فيها وذكر أصحاب الشافعي في قسمة الضمان طرقا ستة أصحها : عندهم أن يقال أن الأول أتلف نصف نفس قيمتها عشرة فيلزمه خمسة والثاني : أتلف نصف نفس قيمتها تسعة فيلزمه أربعة ونصف فيكون المجموع تسعة ونصفا وهي أقل من قيمته لأنها عشرة فتقسم العشرة على تسعة ونصف فيسقط عن الأول ما يقابل أربعة ونصفا ويتوجه على هذا أن كل واحد منهما يلزمه أكثر من قيمة نصف الصيد حين جنى عليه وإن كانت الجراحات من ثلاثة فإن كان الأول هو أثبته فعلى طريقة القاضي على كل واحد أرش جرحه وتقسم السراية عليهم أثلاثا وإن كان المثبت له هو الثاني فجراحه الأول هدر لا عبرة بها والحكم في جراحة الآخرين كما ذكرنا وعلى الطريقة الأخرى الأول أتلف ثلث نفس قيمتها عشرة فيلزمه ثلاثة وثلث والثاني أتلف ثلثها وقيمتها تسعة قيلزمه ثلاثة والثالث أتلف ثلثها وقيمتها ثمانية فيلزمه درهمان وثلثان ومجموع ذلك تسعة تقسم عليها العشرة حصة كل واحد منهم ما يقابل ما أتلفه وإن أتلفوا شاة مملوكة لغيرهم ضمنوها كذلك (11/27)
فصل حكم مالو رمى الصيد اثنان معا فقتلاه
فإن رمياه معا فقتلاه كان حلالا وملكاه لأنهما اشتركا في سبب الملك والحل تساوي الجرحان أو تفاوتا لأن موته كان بهما فإن كان أحدهما موحيا والآخر غير موح ولا يثبته مثله فهو لصاحب الجرح الموحي لأنه الذي أثبته وقتله ولا شيء على الآخر لأن جرحه كان قبل ثبوت ملك الآخر فيه وإن أصابه أحدهما بعد صاحبه فوجدناه ميتا ولم نعلم هل صار بالأول ممتنعا أو لا حل لأن الأصل الامتناع ويكون بينهما لأن أيديهما عليه فإن قال كل واحد منهما أنا أثبته ثم قتلته أنت حرم لأنهما اتفقا على تحريمه ويتحالفان لأخذ الضمان وإن اتفقا على الأول منهما فادعى الأول أنه أثبته ثم قتله وأنكر الثاني اثبات الأول له فالقول قول الثاني لأن الأصل عدم امتناعه ويحرم على الأول لإقراره بتحريمه والقول قول الثاني في عدم الإمتناع مع يمينه وإن علمت جراحة كل واحد منهما نظرنا فيها فإن علم أن جراحة الأول لا يبقى معها امتناع مثل إن كسر جناح الطائر أو ساق الظبي فالقول قول الأول بغير يمين وإن علم أنه لا يزيل الإمتناع مثل خدش الجلد فالقول قول الثاني وإن احتمل الأمرين فالقول قول الثاني لأن الأصل معه وعليه اليمين لأن ما ادعاه الأول محتمل (11/30)
فصل حكم ما لو رمى صيدا فأصابه وبقي على امتناعه حتى دخل دار إنسان
وإن رمى صيدا فأصابه وبقي على امتناعه حتى دخل دار إنسان فأخذه فهو لمن أخذه لأن الأول لم يملكه لكونه ممتنعا فملكه الثاني بأخذه ولو رمى طائرا على شجرة في دار قوم فطرحه في دارهم فأخذوه فهو للرامي دونهم لأنه ملكه بإزالة امتناعه (11/31)
فصل حكم ما لو تعلق الصيد في شرك إنسان أو شبكته
قال أصحابنا وإذا تعلق صيد في شرك إنسان أو شبكته ملكه لأنه أثبته بآلته فإن أخذه أحد لزمه رده عليه لأن آلته أثبتته فأشبه ما لو اثبته بسهمه فإن لم تمسكه الشبكة بل انفلت منها في الحال أو بعد حين لم يملكه لأنه لم يثبته وإن أخذ الشبكة وانفلت بها فصاده إنسان ملكه ويرد الشبكة على صاحبها لأنه لم يثبته وإن كان يمشي بالشبكة على وجه لا يقدر على الإمتناع فهو لصاحبها لأنها أزالت امتناعه وإذا أمسكه الصائد وثبتت يده عليه ثم انفلت منه لم يزل ملكه عنه لأنه امتنع منه بعد ثبوت ملكه فلم يزل ملكه عنه كما لو شردت فرسه أو ند بعيره فإن اصطاد صيدا فوجد عليه علامة مثل أن يجد في عنقه قلادة أو في اذنه قرطا لم يملكه لأن الذي اصطاده ملكه فلا يزول ملكه بالإنفلات وكذلك إن وجد طائرا مقصوص الجناح فإن قيل يحتمل أن الذي أمسكه أولا محرم لم يمكله أو أنه أرسله على سبيل التخلية وإزالة الملك عنه كالقاء الشيء التافه قلنا أما الأول فنادر وهو مخالف للظاهر لأن ظاهر حال المحرم أنه لا يصيد ما حرم الله عليه وأما الثاني فخلاف الأصل فإن الأصل بقاء ملكه عليه وما ذكروه محتمل فلا يزول الملك بالشك وإن علم ان مالكه أرسله اختيارا فقال أصحابنا لا يزول الملك عنه بالإرسال والإعتاق كما لو أرسل البعير والبقرة ويحتمل أن يزول الملك لأن الأصل الإباحة فالإرسال يرده إلى أصله ويفارق بهيمة الأنعام من وجهين
أحدهما : أن الأصل ههنا الإباحة وبهيمة الأنعام بخلافه
الثاني : ان الإرسال ههنا يفيد وهو رد الصيد إلى الخلاص من أيدي الأدميين وحبسهم ولهذا روي عن أبي الدرداء أنه اشترى عصفورا من صبي فأرسله ويجب إرسال الصيد على المحرم إذا أحرم أو دخل الحرم وهو في يده بخلاف بهيمة الأنعام فإن إرساله تضييع له وربما هلك إذا لم يكن له من يقوم به (11/31)
مسألة و فصل حكم ما لو كان في سفينة فوثبت سمكة في حجره
مسألة : قال : ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فسقطت في حجره فهي له دون صاحب السفينة
وذلك لأن السمكة من الصيد المباح يملك بالسبق إليه وهذه حصلت في يد الذي هي في حجره وحجره له ويده عليه دون صاحب السفينة ألا ترى أنهما لو تنازعا كيسا في حجره كان أحق به من صاحب السفينة ؟ كذا ههنا ومفهوم كلام الخرقي أن السمكة إذ وقعت في السفينة فهي لصاحبها وذكره ابن أبي موسى لأن السفينة ملكه ويده عليها فما حصل من المباح فيها كان أحق به كحجره
فصل : فإن كانت السمكة وثبت بسبب فعل إنسان لقصد الصيد كالصياد الذي يجعل في السفينة ضوءا بالليل ويدق بشيء كالجرس ليثب السمك في السفينة فهذا للصائد دون من وقع في حجره لأن الصائد أثبتها بذلك فصار كمن رمى طائرا فألقاه في دار قوم وإن لم يقصد الصيد بهذا بل حصل اتفاقا كانت لمن وقعت في حجره (11/32)
مسألة لا يصاد السمك بشيء نجس
مسألة : قال : ولا يصاد السمك بشيء نجس
ومعنى ذلك أن يترك في الماء نجس كالعذرة والميتة وشبهها ليأكله السمك فيصيدوه به فكره أحمد ذلك وقال : هر حرام لا يصاد به وإنما كره أحمد ذلك لما يتضمن من أكل السمك النجاسة وسواء في هذا ما يتفرق كالدم والعذرة وما لا يتفرق كالجرذ وقطعة من الميتة وكره أحمد ببنات وردان وقال أن مأواها الحشوش وكره الصيد بالضفادع وقال الضفدع نهي عن قتله (11/33)
فصل يكره الصيد بالخراطيم
وكره الصيد بالخراطيم وكل شيء فيه الروح لما فيه من تعذيب الحيوان فإن اضطاد فالصيد مباح وكره الصيد بالشباش وهو طائر يخيط عينه أو يربط من أجل تعذيبه ولم ير بأسا بالصيد بالشبكة والشرك وشيء فيه دبق يمنع الطير من الطيران وأن يطعم شيئا إذا أكله سكر وأخذه (11/33)
مسألة لا يؤكل صيد مرتد ولا ذبيحته
مسألة : قال : ولا يؤكل صيد مرتد ولا ذبيحته وإن تدين بدين أهل الكتاب
يعني ما قتله من الصيد ولم تدرك ذكاته وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي و أبو حنيفة و أصحابه وقال الأوزاعي و إسحاق تباح ذبيحته إذا ذهب إلى النصرانية أو اليهودية لأن من تولى قوما فهو منهم ولنا أنه كافر لا يقر على كفره فلم تبح ذبيحته كعبدة الأوثان وقد مضت هذه المسألة في باب المرتد (11/33)
مسألة و فصلان حكم ترك التسمية على الصيد والذبيحة
مسألة : قال : ومن ترك التسمية على الصيد عامدا أو ساهيا لم يؤكل وإن ترك التسمية على الذبيحة عامدا لم يؤكل وإن تركها ساهيا أكلت
أما الصيد فقد مضى القول فيه وأما الذبيحة فالمشهور من مذهب أحمد أنها شرط مع الذكر وتسقط بالسهو وروي ذلك عن ابن عباس وبه قال مالك و الثوري و أبو حنيفة و إسحاق وممن أباح ما نسيت التسمية عليه عطاء و طاوس و سعيد بن المسيب و الحسن و عبد الرحمن بن أبي ليلى و جعفر بن محمد و ربيعة وعن أحمد أنها مستحبة غير واجبة في عمد ولا سهو وبه قال الشافعي لما ذكرنا في الصيد قال أحمد إنما قال الله : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } يعني المتية وذكر ذلك عن ابن عباس
ولنا قول ابن عباس : من نسي التسمية فلا بأس وروى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن ربيعة قال [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم ما لم يتعمد ] ولأنه قول من سمينا ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفا وقوله تعالى : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } محمول على ماتركت التسمية عليه عمدا بدليل قوله : { وإنه لفسق } والأكل مما نسيت التسمية عليه ليس بفسق ويفارق الصيد لأن ذبحه في غير محل فاعتبرت التسمية تقوية له والذبيحة بخلاف ذلك
فصل : والتسمية على الذبيحة معتبرة حال الذبح أو قريبا منه كما تعتبر على الطهارة وإن سمى على شاة ثم أخذ أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يجز سواء أرسل الأولة أو ذبحها لأنه لم يقصد الثانية بهذه التسمية وإن رأى قطيعا من الغنم فقال بسم الله ثم أخذ شاة فذبحها بغير تسمية لم يحل وإن جهل كون ذلك لا يجزىء لم يجر مجرى النسيان لأن النسيان يسقط المؤاخذة والجاهل مؤاخذ ولذلك يفطر الجاهل بالأكل في الصوم دون الناسي وإن أضجع شاة ليذبحها وسمى ثم ألقى السكين وأخذ أخرى أو رد سلاما ما أو كلم إنسانا أو استسقى ماء ونحو ذلك وذبح حل لأنه سمى على تلك الشاة بعينها ولم يفصل بينهما إلا بفصل يسير فأشبه ما لو لم يتكلم
فصل : وإن سمى الصائد على صيد فأصاب غيره حل وإن سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى به لم يبح ما صاده به لأنه لما لم يمكن اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على الآلة التي يصيد بها بخلاف الذبيحة ويحتمل أن يباح قياسا على ما لو سمى على سكين ثم ألقاها وأخذ غيرها وسقوط اعتبار تعيين الصيد لمشقته لا يقتضي اعتبار تعيين الآلة فلا يعتبر (11/33)
مسألة حكم ما لو ند بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم
مسألة : قال : وإذا ند بعير فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل
وكذلك أن تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته فجرحه في أي موضع قدر عليه فقتله أكل إلا أن تكون رأسه في الماء فلا يؤكل لأن الماء يعين على قتله هذا قول أكثر الفقهاء روى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال مسروق والأسود و الحسن و عطاء و طاوس و إسحاق و الشعبي و الحكم و حماد و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و قال مالك لا يجوز أكله إلا أن يذكى وهو قول ربيعة و الليث قال أحمد : لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج واحتج لـ مالك بأن الحيوان الأنسي إذا توحش لم يثبت له حكم الوحشي بدليل أنه لا يجب على المحرم الجزاء بقتله ولا يصير الحمار الأهلي مباحا إذا توحش
ولنا ما [ روى رافع بن خديج قال كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم فند بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله فقال صلى الله عليه و سلم : إن البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا ] وفي لقظ : [ فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا ] متفق عليه وحرب ثور في بعض دور الأنصار فضربه رجل بالسيف وذكر إسم الله عليه فسئل عنه علي فقال ذكاة وحية فأمرهم بأكله وتردى بعير في بئر فذكي من قبل شاكلته فبيع بعشرين درهما فأخذ ابن عمر عشرة بدرهمين ولأن الإعتبار في الذكاة بحال الحيوان وقت ذبحه لا بأصله بدليل الوحشي إذا قدر عليه وجبت تذكيته في الحلق واللبة وكذلك الأهلي إذا توحش يعتبر بحاله وبهذا فارق ما ذكروه فإذا تردى فلم يقدر على تذكيته فهو معجوز عن تذكيته فأشبه الوحشي فأما إن كان رأس المتردي في الماء لم يبح لأن الماء يعين على قتله فيحصل قتله بمبيح وحاظر فيحرم كما لو جرحه مسلم ومجوسي (11/35)
مسألة و فصول حكم المسلم والكتابي والعدل والفاسق والحربي والذمي وما ذبح لكنائس أهل الكتاب
مسألة : قال : والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء
يعني في الاصطياد والذبح وأجمع أهل العلم على إباحة ذبائح أهل الكتاب لقول الله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } يعني ذبائحكم قال البخاري قال ابن عباس : طعامكم ذبائحكم وكذلك قال مجاهد و قتادة وروي معناه عن ابن مسعود وأكثر أهل العلم يرون إباحة صيدهم أيضا قال ذلك عطاء و الليث و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا حرم صيد أهل الكتاب إلا مالكا أباح ذبائحهم وحرم صيدهم ولا يصح لأن صيدهم من طعامهم فليدخل في عموم الآية ولأن من حلت ذبيحته حل صيده كالمسلم
فصل : ولا فرق بين العدل والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب وعن ابن عباس رضي الله عنه لا تؤكل ذبيحة الأقلف وعن أحمد مثله والصحيح إباحته فإنه مسلم فأشبه سائر المسلمين وإذا أبيحت ذبيحة القاذف والزاني وشارب الخمر مع تحقق فسقه وذبيحة النصراني وهو كافر أقلف فالمسلم أولى
فصل : ولا فرق بين الحربي والذمي في إباحة ذبيحة الكتابي منهم وتحريم ذبيحة من سواه وسئل أحمد عن ذبائح نصارى أهل الحرب فقال لا بأس بها حديث عبد الله بن مغفل في الشحم قال إسحاق : أجاد وقال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم مجاهد و الثوري و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا فرق بين الكتابي العربي وغيره إلا أن في نصارى العرب اختلافا ذكرناه في باب الجزية وسئل مكحول عن ذبائح العرب فقال أما بهرا وتنوخ وسليح فلا بأس وأما بنو تغلب فلا خير في ذبائحهم والصحيح إباحة ذبائح الجميع لعموم الآية فيهم
فصل : فإن كان أحد أبوي الكتابي ممن لا تحل ذبيحته والآخر ممن تحل ذبيحته فقال أصحابنا لا يحل صيده ولا ذبيحته وبه قال الشافعي إذا كان الأب غير كتابي وإن كان الأب كتابيا ففيه قولان إحداهما : تباح وهو قول مالك و أبي ثور و الثاني : لا تباح لأنه وجد ما يقتضي التحريم والإباحة فغلب ما يقتضي التحريم كما لو جرحه مسلم ومجوسي وبيان وجود ما يقتضي التحريم أن كونه ابن مجوسي أو وثني يقتضي تحريم ذبيحته وقال أبو حنيفة : تباح ذبيحته بكل حال لعموم النص ولأنه كتابي يقر على دينه فتحل ذبيحته كما لو كان ابن كتابيين وأما إن كان ابن وثنيين أو مجوسيين فمقتضى مذهب الأئمة الثلاثة تحريمه ومقتضى مذهب أبي حنيفة حله لأن اعتبار بدين الذابح لا بدين أبيه بدليل أن الإعتبار في قبول الجزية بذلك ولعموم النص والقياس
فصل : فأما ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم فننظر فيه فإن ذبحه لهم مسلم فهو مباح نص عليه وقال أحمد و سفيان و الثوري في المجوسي يذبح لإلهه ويدفع الشاة إلى المسلم يذبحها فيسمى : يجوز الأكل منها وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به وإن ذبحها الكتابي وسمى الله وحده حلت أيضا لأن شرط الحل وجد وإن علم أنه ذكر اسم غير الله عليها أو ترك التسمية عمدا لم تحل قال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا يؤكل يعني ما ذبح لأعيادهم وكنائسهم لأنه أهل لغير الله به وقال في موضع يدعون التسمية على عمد إنما يذبحون للمسيح فأما ما سوى ذلك فرويت عن أحمد الكراهة فيما ذبح لكنائسهم واعيادهم مطلقا وهو قول ميمون بن مهران لأنه ذبح لغير الله وروي عن أحمد إباحته وسئل عنه العرباض بن سارية فقال كلوا وأطعموني وروي مثل ذلك عن أبي أمامه الباهلي وأبي مسلم الخولاني وأكله أبو الدرداء وجبير بن نفير ورخص فيه عمرو بن الأسود ومكحول وضمرة بن حبيب لقول الله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وهذا من طعامهم قال القاضي ما ذبحه الكتابي لعيده أو نجم أو صنم أو نبي فسماه على ذبيحته حرم لقوله تعالى : { وما أهل لغير الله به } وإن سمى الله وحده حل لقول الله تعالى : { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } لكنه يكره لقصده بقلبه الذبح لغير الله (11/36)
مسألة لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر
مسألة : ولا يؤكل ما قتل بالبندق أوالحجر لأنه موقوذ
يعني الحجر الذي لا حد له فأما المحدد كالصوان فهو كالمعراض إن قتل بحده أبيح وإن قتل بعرضه أو ثقله وقيذ لا يباح وهذا قول عامة الفقهاء وقال ابن عمر في المقتول بالبندق تلك الموقوذة وكره ذلك سالم والقاسم و مجاهد و عطاء و الحسن و إبراهيم و مالك و الثوري و الشافعي و أبو ثور ورخص فيما قتل بها ابن المسيب وروي أيضا عن عمار وعبد الرحمن بن أبي ليلى
ولنا قول الله تعالى : { والموقوذة } وروى سعيد بإسناده [ عن إبراهيم عن عدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت ] وقال في المعراض : [ إذا أصيب بعرضه فقتل فإنه وقيذ ] وقال عمر : ليتق أحدكم أن يحذف الأرنب بالعصا والحجر ثم قال : وليذك لكم الأسل الرماح والنبل إذا ثبت هذا فسواء شدخه أو لم يشدخه حتى لو رماه ببندقة فقطعت حلقوم طائر ومريئه أو اطارت رأسه لم يحل وكذلك أن فعل ذلك بحجر غير محدد (11/38)
مسألة وفصلان حكم صيد المجوسي وذبيحته وطعامه وحكم سائر الكفار والزنادقة
مسألة : قال : ولا يؤكل صيد المجوسي وذبيحته إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له
أجمع أهل العلم على تحريم صيد المجوسي وذبيحته إلا ما ذكاة له كالسمك والجراد فإنهم أجمعوا على إباحته غير أن مالكا و الليث و أبا ثور شذوا عن الجماعة وأفرطوا : فأما مالك و الليث فقالا لا نرى أن يؤكل الجراد إذا صاده المجوسي ورخصا في السمك و أبو ثور أباح صيده وذبيحته ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] ولأنهم يقرون بالجزية فيباح صيدهم وذبائحهم كاليهود والنصارى واحتج برواية عن سعيد بن المسيب وهذا قول يخالف الإجماع فلا عبرة به قال إبراهيم الحربي خرق أبو ثور الإجماع قال أحمد ههنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا ما أعجب هذا ! يعرض بـ أبي ثور وممن رويت عنه كراهية ذبائحهم ابن مسعود وابن عباس وعلي وجابر وأبو بردة و سعيد بن المسيب وعكرمة و الحسن بن محمد و عطاء و مجاهد و عبد الرحمن بن أبي ليلى و سعيد بن جبير ومرة الهمذاني و ألزهري و مالك و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي قال أحمد ولا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة ولأن الله تعالى قال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } فمفهومه تحريم طعام غيرهم من الكفار ولأنهم لا كتاب لهم فلم تحل ذبائحهم كأهل الأوثان
وقد روى الإمام أحمد بإسناده [ عن قيس بن سكن الأسدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنكم نزلتم بفارس من النبط فإذا اشتريتم لحما فإن كان من يهودي أو نصراني فكلوا وإن كانت ذبيحة مجوسي فلا تأكلوا ] ولأن كفرهم مع كونهم غير أهل كتاب يقتضي تحريم ذبائحهم ونسائهم بدليل سائر الكفار من غير أهل الكتاب وإنما أخذت منهم الجزية لأن شبهة الكتاب تقتضي التحريم لدمائهم فلما غلبت في التحريم لدمائهم فيجب أن يغلب عدم الكتاب في تحريم الذبائح والنساء احتياطا للتحريم في الموضعين ولأنه إجماع فإنه قول من سمينا ولا مخالف لهم في عصرهم ولا فيمن بعدهم إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافها ولا خلاف في إباحة ما صادوه من الحيتان حكي عن الحسن البصري أنه قال رأيت سبعين من الصحابة يأكلون صيد المجوسي من لا يختلج في صدورهم شيء من ذلك رواه سعيد بن منصور والجراد كالحيتان في ذلك لأنه لا ذكاة له ولأنه تباح ميتته فلم يحرم بصيد كالحوت
فصل : وحكم سائر الكفار من عبدة الأوثان والزنادقة وغيرهم حكم المجوس في تحريم ذبائحهم وصيدهم إلا الحيتان والجراد وسائر ما تباح ميتته فإن ما صادوه مباح لأنه لا يزيد بذلك عن موته بغير سبب وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أحلت لما ميتتان السمك والجراد ] وقال في البحر : [ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ]
فصل : قال أحمد وطعام المجوس ليس به بأس أن يؤكل وإذا أهدي إليه أن يقبل أنما تكره ذبائحهم أو شيء فيه دسم يعني من اللحم ولم ير بالسمن والخبز بأسا وسئل عما يصنع المجوس لأمواتهم ويزمزمون عليهم أياما عشرا ثم يقتسمون ذلك في الجيران قال لا بأس بذلك وعن الشعبي : كل مع المجوسي وإن زمزم
وروى أحمد أن سعيد بن جبير كان يأكل من كواميخ المجوس وأعجبه ذلك وروى هشام عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بطعام المجوس في المصر ولا بشواريزهم ولا بكواميخهم
مسألة : قال : وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء وإن طفا
قوله طفا يعني ارتفع على وجه الماء قال عبد الله بن رواحة :
( وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا )
وجملة ذلك أن السمك وغيره من ذوات الماء التي لا تعيش إلا فيه إذا ماتت فهي حلال سواء ماتت بسبب أو غير سبب ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] قال أحمد هذا خير من مائه حديث وأما ما مات بسبب مثل أن صاده إنسان أو نبذه البحر أو جزر عنه فإن العلماء أجمعوا على إباحته وكذلك ما حبس في الماء بحظيرة حتى يموت فلا خلاف أيضا في حله قال أحمد الطافي يؤكل وما جزر عنه الماء أجود والسمك الذي نبذه البحر لم يختلف الناس فيه وإنما اختلفوا في الطافي وليس به بأس وممن أباح الطافي من السمك أبو بكر الصديق وأبو أيوب رضي الله عنهما وبه قال مالك و الشافعي وممن أباح ما وجد من الحيتان عطاء و مكحول و الثوري و النخعي وكره الطافي جابر و طاوس و ابن سيرين و جابر بن زيد وأصحاب الرأي لأن جابرا قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه فطفا فلا تأكلوه ] رواه أبو داود
ولنا قول الله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة } قال ابن عباس طعامه ما مات فيه وأيضا الحديث الذي قدمناه وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه الطافي حلال ولأنه لو مات في البر أبيح فإذا مات في البحر أبيح كالجراد فأما حديث جابر فإنما هو موقوف عليه كذلك قال أبو داود رواه الثقات فأقفوه على جابر وقد أسند من وجه ضعيف وإن صح فنحمله على نهي الكراهة لأنه إذا مات رسب في أسفله فإذا انتن طفا فكرهه لنتنه لا لتحريمه (11/39)
فصلان يباح أكل الجراد
فصل : يباح أكل الجراد بإجماع أهل العلم وقد قال عبد الله بن أبي أوفى : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سبع غزوات نأكل الجراد رواه البخاري و أبو داود ولا فرق بين أن يموت بسبب أو بغير سبب في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي وأصحاب الحديث وأصحاب الرأي و ابن المنذر وعن أحمد أنه إذا قتله البرد لم يؤكل وعنه لا يؤكل إذا مات بغير سبب وهو قول مالك ويروى أيضا عن سعيد بن المسيب
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ أحلت لنا ميتتان ودمان ] فالميتتان السمك والجراد ولم يفصل ولأنه تباح ميتته فلم يعتبر له سبب كالسمك ولأنه لو افتقر إلى سبب لافتقر إلى ذبح وذابح وآلة كبهيمة الأنعام
فصل : ويباح أكل الجراد بما فيه وكذلك السمك يجوز أن يقلى من غير أن يشق بطنه وقال أصحاب الشافعي في السمك لا يجوز لأن رجعيه نجس
ولناعموم النص في إباحته وما ذكروه غير مسلم وإن بلغ إنسان شيئا منه حيا كره لأن فيه تعذيبا له (11/43)
فصل حكم السمك والجراد يلقيان في النار
وسئل أحمد عن السمك يلقى في النار فقال ما يعجبني والجراد فقال ما يعجبني والجراد أسهل فإن هذا له دم ولم يكره السمك إذا ألقي في النار إنما كره تعذيبه بالنار وأما الجراد فسهل في القائه لأنه لا دم له ولأن السمك لا حاجة إلى إلقائه في النار لإمكان تركه حتى يموت بسرعة والجراد لا يموت في الحال بل يبقى مدة طويلة وفي مسند الشافعي ان كعبا كان محرما فمرت به رجل من جراد فنسي وأخذ جرادتين فألقاهما في النار وشواهما وذكر ذلك لعمر فلم ينكر عمر تركهما في النار وذكر له حديث ابن عمر : كان الجراد يقلى له فقال إنما يؤخذ الجراد فتقطع أجنحته ثم يلقى في الزيت وهو حي (11/43)
مسألة ذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة
مسألة : قال : وذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة
قد ذكرنا حكم المعجوز عنه من الصيد والأنعام فأما المقدور عليه منهما فلا يباح إلا بالذكاة بلا خلاف بين أهل العلم وتفتقر الذكاة إلى خمسة أشياء ذابح وآله ومحل وفعل وذكر أما الذبح فيعتبر له شرطان : دينه وهو كونه مسلما أو كتابيا وعقله وهو أن يكون ذا عقل يعرف الذبح ليقصد فإن كان لا يعقل كالطفل الذي لا يميز والمجنون والسكران لم يحل ما ذبحه لأنه لا يصح منه القصد فأشبه ما لو ضرب إنسانا بالسيف فقطع عنق شاة
وأما الآلة فلها شرطان أحدهما : أن تكون محددة تقطع أو تخرق بحدها لا بثقلها والثاني : أن لا تكون سنا ولا ظفرا فإذا اجتمع هذان الشرطان في شيء حل الذبح به سواء كان حديدا أو حجرا أو بلطة أو خشبا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا ] متفق عليه
[ وعن عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله أرأيت أم أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا ؟ فقال : أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله ] والمروة الصوان وعن رجل من بني حارثة أنه كان يرى لقحة فأخذها الموت فلم يجد شيئا ينحرها به فأخذ وتدا فوجأها به في لبتها حتى أهريق دمها ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمره بأكلها رواه أبو داود وبهذا قال الشافعي و إسحاق و أبو ثور ونحوه قول مالك و عمرو بن دينار وبه قال أبو حنيفة إلا في السن والظفر قال إذا كانا متصلين لم يجز الذبح بهما وإن كانا منفصلين جاز
ولنا عموم حديث رافع ولأن ما لم تجز الذكاة به متصلا لم تجز منفصلا كغير المحدد وأما العظم غير السن فمقتضى إطلاق قول أحمد و الشافعي و أبي ثور إباحة الذبح به وهو قول مالك و عمرو بن دينار وأصحاب الرأي وقال ابن جريج يذكى بعظم الحمار ولا يذكى بعظم القرد لأنك تصلي على الحمار وتسقيه في جفنتك وعن أحمد لا يذكي بعظم ولا ظفر وقال النخعي لا يذكى بالعظم والقرن ووجهه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة ] فعلله بكونه عظما فكل عظم فقد وجدت فيه العلة والأول أصح إن شاء الله تعالى لأن العظم دخل في عموم اللفظ المبيح ثم استثنى السن والظفر خاصة فيبقى سائر العظام داخلا فيما يباح الذبح به والمنطوق مقدم على التعليل ولهذا علل الظفر بكونه من مدى الحبشة ولا يحرم الذبح بالسكين وإن كانت مدية لهم ولأن العظام يتناولها سائر الأحاديث العامة ويحصل بها المقصود فأشبهت سائر الالات وأما المحل فالحلق واللبة وهي الوهدة التي بين أصل العنق والصدر ولا يجوز الذبح في غير هذا المحل بالإجماع وقد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الذكاة في الحلق واللبة ] قال أحمد الذكاة في الحلق واللبة واحتج بحديث عمر وهو ما روى سعيد و الأثرم بإسنادهما عن الفرافصة قال : كنا عند عمر فنادى أن النحر في اللبة والحلق لمن قدر وإنما نرى أن الذكاة اختصت بهذا المحل لأنه مجمع العروق فتنسفح بالذبح فيه الدماء السيالة ويسرع زهوق النفس فيكون أطيب للحم وأخف على الحيوان : قال أحمد لو كان حديث أبي العشراء حديثا يعني ما [ روى أبو العشراء عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو طعنت في فخذها لا جزأ عنك ] قال أحمد : أبو العشراء هذا ليس بعروف وأما الذكر فالتسمية وقد مر ذكرها وأما الفعل فيعتبر قطع الحلقوم والمريء وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك و أبو يوسف لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : [ نهى رسول الله صلىالله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج ثم تترك حتى تموت ] رواه أبو داود وقال أبو حنيفة يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ولا خلاف في أن الأكمل قطع الأربعة الحلقوم والمريء والودجين فالحلقوم مجرى النفس والمريء وهو مجرى الطعام والشراب والودجان وهما عرقان محيطان بالحلقوم لأنه أسرع لخروج روح الحيوان فيخف عليه ويخرج من الخلاف فيكون أولى والأول يجزيء لأنه قطع في محل الذبح ما لا تبقى الحياة مع قطعه فأشبه ما لو قطع الأربعة (11/43)
مسألة و فصل يستحب نحر البعير وذبح ما سواه ويسن الذبح بسكين حاد
مسألة : قال : ويستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه
لا خلاف بين أهل العلم في أن المستحب نحر الإبل وذبح ما سواها قال الله تعالى : { فصل لربك وانحر } وقال الله تعالى ك { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } قال مجاهد أمرنا بالنحر وأمر بنو إسرائيل بالذبح فإن النبي صلى الله عليه و سلم بعث في قوم ماشيتهم الإبل فسن النحر وكانت بنو إسرائيل ماشيتهم البقر فأمروا بالذبح [ وثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نحر بدنة وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده ] متفق عليه ومعنى النحر أن يضربها بحرية أو نحوها في الوهدة التي بين أصل عنقها وصدرها
فصل : ويسن الذبح بسكين حاد لما روى أبو داود [ عن شداد بن أوس قال خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحد شفرته وليرح ذبيحته ] ويكره أن يسن السكين والحيوان يبصره ورأى عمر رجلا قد وضع رجله على شاة وهو يحد السكين فضربه حتى أفلت الشاة ويكره أن يذبح شاة والأخرى تنظر إليه ويستحب أن يستقل بها القبلة واستحب ذلك ابن عمر و ابن سيرين و عطاء و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي وكره ابن عمر و ابن سيرين أكل ما ذبح لغير القبلة وقال سائرهم ليس ذلك مكروها لأن أهل الكتاب يذبحون لغير القبلة وقد أحل الله ذبائحهم (11/46)
فصل لا تؤكل المصبورة ولا المجثمة
قال أحمد : ولا تؤكل المصبورة ولا المجثمة وبه قال إسحاق والمجثمة هي الطائر أو الأرنب يجعل غرضا ثم يرمى حتى يقتل والمصبورة مثله إلا أن المجثمة لا تكون إلا في الطائر والأرنب وأشباهها والمصبورة كل حيوان وأصل الصبر الحبس والأصل في تحريمه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صبر البهائم وقال : لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا ] وروى سعيد بإسناده [ عن أبي الدرداء قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كل مجثمة ] وبإسناده [ عن مجاهد قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المجثمة وعن أكلها ونهى عن المصبورة وعن أكلها ] ولأنه حيوان مقدور عليه فلم يبح بغير الذكاة كالبعير والبقرة (11/47)
مسألة و فصولفي أحكام الذبح والنحر
مسألة : قال : فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح فجائز
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و الزهري و قتادة و مالك و الليث و الثوري و ابو حنيفة و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وحكي عن داود أن الإبل لا تباح إلا بالنحر ولا يباح غيرها إلا بالذبح لأن الله تعالى قال : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } والأمر يقتضي الوجوب وقال تعالى : { فصل لربك وانحر } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نحر البدن وذبح الغنم وإنما تؤخذ الأحكام من جهته وحكي عن مالك أنه لا يجزىء في الإبل إلا النحر لأن أعناقها طويلة فإذا ذبح تعذب بخروج روحه قال ابن المنذر إنما كرهه ولم يحرمه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ امرر الدم بما شئت ] [ وقالت أسماء نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأكلناه ونحن بالمدينة ] [ عن عائشة قالت : نحر رسول الله صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع بقرة واحدة ] ولأنه ذكاة في محل الذكاة فجاز أكله كالحيوان الآخر
مسألة : قال : وإذا ذبح فأتى على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء أو وطىء عليها شيء لم تؤكل
يعني إذا وطىء عليها شيء يقتلها مثله غالبا وهذا الذي ذكره الخرقي نص عليه أحمد وقال أكثر أصحابنا المتأخرين لا يحرم بهذا وهو قول أكثر الفقهاء لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت وكذلك لو أبين رأسها بعد الذبح لم تحرم نص عليه أحمد ولو ذبح إنسان ثم ضرب آخر عنقه أو غرقه لم يلزمه قصاص ولا دية ووجه قول الخرقي قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عدي بن حاتم : [ وإن وقعت في الماء فلا تأكل ] وقال ابن مسعود : من رمى طائرا فوقع في الماء فغرق فيه فلا تأكله ولأن الغرق سبب يقتل فإذا اجتمع مع الذبح فقد اجتمع ما يبيح ويحرم فيغلب الحظر ولأنه لا يؤمن أن يعين على خروج الروح فتكون قد خرجت بفعلين مبيح ومحرم فأشبه ما لو وجد الأمران في حال واحدة أو رماه ومجوسي فمات
مسألة : قال : وإذا ذبحها من قفاها وهو مخطىء فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت
قال القاضي معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه فتأتي السكين على القفا لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها فسقط اعتبار المحل كالمتردية في بئر فأما مع عدم التوائها فلا تباح بذلك لأن الجرح في القفا سبب للزهوق وهو في غير محل الذبح فإذا اجتمع مع الذبح منع حله كما لو بقر بطنها وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا المعنى فإن الفضل ابن زياد قال : سألت أبا عبد الله عمن ذبح في القفا قال عامدا أو غير عامد ؟ قلت عامدا قال : لا تؤكل فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا بأس
فصل : فإن ذبحها من قفاها اختيارا فقد ذكرنا عن أحمد أنها لا تؤكل وهو مفهوم كلام الخرقي وحكي هذا عن علي و سعيد بن المسيب و مالك و إسحاق قال إبراهيم النخعي تسمى هذه الذبيحة القفينة وقال القاضي إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء حلت وإلا فلا ويعتبر ذلك بالحركة القوية وهذا مذهب الشافعي وهذا أصح لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله كأكيلة السبع والمتردية والنطيحة ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلت بذلك نص عليه أحمد فقال : لو أن رجلا ضرب رأس بطة أو شاة بالسيف يريد بذلك الذبيحة كان له أن يأكله
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال تلك ذكاة وحية وأفتى بأكلها عمران بن حصين وبه قال الشعبي و أبو حنيفة و الثوري و قال أبو بكر : لبي عبد الله فيها قولان والصحيح أنها مباحة لأنه اجتمع قطع ما تبقى الحياة معه مع الذبح فأبيح كما ذكرنا مع قول من ذكرنا قوله من الصحابة من غير مخالف
فصل : فإن ذبحها من قفاها فلم يعلم هل كانت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء أو لا ؟ نظرت فإن كان الغالب بقاء ذلك لحدة الآلة وسرعة القتل فالأولى إباحته لأنه بمنزلة ما قطعت عنقه بضربة السيف وإن كانت الآلة كالة وأبطأ قطعه وطال تعذيبه لم يبح لأنه مشكوك في وجود ما يحله فيحرم كما لو أرسل كلبه على الصيد فوجد معه كلبا آخر لا يعرفه (11/48)
مسألة و فصلين في ذكاة الجنين
مسألة : قال : وذكاتها ذكاة جنينها أشعر أو لم يشعر
يعني إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه ذبحها أو وجده ميتا في بطنها أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح فهو حلال روي هذا عن عمر وعلي به قال سعيد بن المسيب و النخعي و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر و قال ابن عمر ذكاته ذكاة أمه أذا أشعر وروي ذلك عن عطاء و طاوس و مجاهد و الزهري و الحسن و قتادة و مالك و الليث و الحسن ين صالح و أبي ثور لأن عبد الله بن كعب مالك قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولون إذا شعر الجنين فذكاته ذكاة أمه وهذا إشارة إلى جميعهم فكانا إجماعا وقال أبو حنيفة لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى لأنه حيوان ينفرد بحياته فلا يتذكى بذكاة غيره كما بعد الوضع قال ابن المنذر كان الناس على إباحته لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان فقال لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين
ولنا ما [ روى أبو سعيد قال : قيل يا رسول الله صلى الله إن أحدنا ينحر الناقة ويذبح البقرة والشاة فيجد في بطنها الجنين أنأكله أم نلقيه ؟ قال : كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه ]
وعن جابر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ذكاة الجنين ذكاة أمه ] رواهما أبو داود ولأن هذا إجماع من الصحابة ومن بعدهم فلا يعول على ما خالفه ولأن الجنين متصل بها إتصال خلقة يتغذى بغذائها فتكون ذكاته ذكاتها كأعضائها ولأن الذكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه والقدرة بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه فيكون ذكاة له
فصل : واستحب أبو عبد الله أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه ولأن ابن عمر كان يعجبه أن يريقوا من دمه وإن كان ميتا
فصل : وإن خرج حيا حياة مستقرة يمكن أن يذكى فلم يذكه حتى مات فليس بذكي قال أحمد : إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأن نفس أخرى (11/52)
مسألة و فصلان في قطع عضو وفي كراهة سلخ الحيوان قبل أن يبرد
مسألة : قال : ولا يقطع عضو مما ذكي حتى تزهق نفسه
كره ذلك أهل العلم منهم عطاء و عمرو بن دينار و مالك و الشافعي ولا نعلم لهم مخالفا وقد قال عمر رضي الله عنه : لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق فإن قطع عضو قبل زهوق النفس وبعد الذبح فالظاهر إباحته فإن أحمد سئل عن رجل ذبح دجاجة فأبان رأسها قال يأكلها قيل له والذي بان منها أيضا ؟ قال نعم قال البخاري قال ابن عمر وابن عباس إذا قطع الرأس فلا بأس به وبه قال عطاء و الحسن و النخعي و الشعبي و الزهري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وذلك لأن قطع ذلك العضو بعد حصول الذكاة فأشبه ما لو قطعه بعد الموت
فصل : ويكره سلخ الحيوان قبل أن يبرد لأن فيه تعذيبا للحيوان فهو كقطع العضو ويكره النفخ في اللحم الذي يريده للبيع لما فيه من الغش
فصل : وإن قطع من الحيوان شيء وفيه حياة مستقرة فهو ميتة لما روي أبو واقد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة ] رواه أبو داود ولأن إباحته إنما تكون بالذبح وليس هذا بذبح (11/54)
مسألة ذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال
مسألة : قال : وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا سموا أو نسوا التسمية
وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا كان أو امرأة بالغا أو صبيا حرا كان أو عبدا لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : اجمع كل من نحفظ عنه أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي
وقد [ روي أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيبت شاة منها فأدركتها فدكتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : كلوها ] متفق عليه وفي هذا الحديث فوائد سبع إحداها : إباحة ذبيحة المرأة والثانية : إباحة ذبيحة الأمة والثالثة : إباحة ذبيحة الحائض لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفصل والرابعة : إباحة الذبح بالحجر والخامسة : إباحة ذبح ما خيف عليه الموت والسادسة : حل ما يذبحه غير مالكه بغير إذنه والسابعة : إباحة ذبحه لغير مالكه عند الخوف عليه ويشترط أن يكون عاقلا فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل لم يصح منه الذبح وبهذا قال مالك وقال الشافعي لا يعتبر العقل وله فيما إذا أرسل المجنون الكلب على صيد وجهان
ولنا أن الذكاة يعتبر لها القصد له العقل كالعبادة فإن من لا عقل له لا يصح منه القصد فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها وقوله إذا سموا أو نسوا التسمية فالتسمية مسترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد أو ذكر اسم غير الله لم تحل ذبيحته روي ذلك عن علي وبه قال النخعي و الشافعي و حماد و إسحاق وأصحاب الرأي وقال عطاء و مجاهد و مكحول : إذا ذبح النصراني بامس المسيح حل فإن الله تعالى أحل لنا ذبيحته وقد علم أنه سيقول ذلك
ولنا قول الله تعالى { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } وقوله { وما أهل لغير الله به } والآية أريد بها ما ذبحوه بشرطه كالمسلم فإن لم يعلم اسمى الذابح أم لا ؟ أو ذكر اسم الله أم لا ؟ فذبيحته حلال لأن الله تعالى أباح لنا أكل ما ذبحه المسلم والكتابي وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح
وقد [ روي عن عائشة رضي الله عنها أنهم قالوا يا رسول الله إن قوما حديثوا عهد بشرك يأتوننا بلحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا ؟ قال : سموا أنتم وكلوا ] أخرجه البخاري (11/55)
فصل حكم ما لو ذبح الكتابي ما حرم الله عليه
وإذا ذبح الكتابي ما حرم الله عليه مثل كل ذي ظفر ـ قال قتادة هي الإبل والنعام والبط وما ليس بمشقوق الصابع ـ أو ذبح لها شحم محرم عليه فظاهر كلام أحمد و الخرقي إباحته فإن أحمد حكى عن مالك في اليهودي يذبح الشاة قال لا يأكل من شحمها قال أحمد هذا مذهب دقيق وظاهر هذا أنه لم يره صحيحا وهذا اختيار ابن حامد وأبي الخطاب وذهب أبو الحسن التميمي والقاضي إلى تحريمها وحكاه التميمي عن الضحاك و مجاهد و سوار وهو قول مالك لأن الله تعالى قال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } وليس هذا من طعامهم ولأنه جزء من البهيمة لم يبح لذابحها فلم يبح لغيره كالدم
ولنا ما [ روى عبد الله بن مغفل قال : دلي جراب من شحم من قصر خبير فدنوت لآخذه فإذا رسول الله صلى الله عليه يبتسم إلي ] متفق عليه ولأنها ذكاة أباحت اللحم والجلد فأباحت الشحم كذكاة المسلمة والآية حجة لنا فإن معنى طعامهم ذبائحهم كذلك فسره العلماء وقاسهم ينتقص بما ذبحه الغاصب (11/58)
فصل حكم ما لو ذبح ما يزعم أنه محرم عليه ولم يثبت أنه كذلك
فصل : وإن ذبح شيئا يزعم أنه محرم عليه ولم يثبت أنه محرم عليه فهو حلال لعموم الآية وقوله أنه حرام غير مقبول (11/59)
مسألة في ذبح الأخرس
مسألة : قال : فإن كان أخرس أومأ إلى السماء
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه أهل العلم على إباحة ذبيحة الأخرس منهم الليث و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وهو قول الشعبي و قتادة و الحسن بن صالح إذا ثبت هذا فإنه يشير إلى السماء لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق وإشارته إلى السماء تدل على قصده تسمية الذي في السماء ونحو هذا قال الشعبي وقد دل على هذا [ حديث أبي هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بجارية أعجمية فقال يا رسول الله ان علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ فأشارت إلى السماء فقال : من أنا ؟ فأشارت بإصبعها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلى السماء أي أنت رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اعتقها فإنها مؤمنة ] رواه الإمام أحمد والقاضي البرتي في مسنديهما فحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم بإيمانها بإشارتها إلى السماء تريد أن الله سبحانه فيها فأولى أن يكتفى بذلك علما على التسمية ولو أنه اشار إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافيا (11/60)
مسألة في ذبح الجنب
مسألة : قال : وإن كان جنبا جاز أن يسمي ويذبح
وذلك أن الجنب له التسمية ولا يمنع منها لأنه إنما يمنع من القرآن لا من الذكر ولهذا تشرع له التسمية عند اغتساله وليست الجناية أعظم من الكفر والكافر يسمي ويذبح وممن رخص في ذبح الجنب الحسن و الحكم و الليث و الشافعي و إسحاق و ابو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا منع من ذلك وتباح ذبيحة الحائض لأنها في معنى الجنب (11/61)
فصل في المنخقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع
والمنخقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأكيلة السبع وما أصابها مرض فماتت به محرمة إلا أن تدرك ذكاتها لقوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } [ وفي حديث جارية كعب أنها أصيبت شاة من غنمها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه و سلم فقال : كلوها ] فإن كانت لم يبق من حياتها إلا مثل حركة المذبوح لم تبح بالذكاة لأنه لو ذبح ما ذبحه المحوسي لم يبح وإن أدركها وفيها حياة مستقرة بحيث يمكنه ذبحها حلت لعموم الآية والخبر وسواء كانت قد انتهت إلى حل يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش لعموم الآية والخبر ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل ولم يستفصل
وقدقال ابن عباس في ذئب عدا على شاة فعقرها فوقع قصبها بالأرض فأدركها فذبحها بحجر قال يلقي ما أصاب الأرض ويأكل سائرها وقال أحمد في بهيمة عقرت بهيمة حتى تبين فيها آثار الموت إلا أن فيها الروح يعني فذبحت قال : إذا مصعت بذنبها وطرفت بعينها وسال الدم فارجو إن شاء الله تعالى أن لا يكون بأكلها بأس وروى ذلك بإسناده عن عقيل بن عمير و طاوس وقالا تحركت ولم يقولا سال الدم وهذا على مذهب أبي حنيفة وقال إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت فذبحوها فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها بضعف فنهر الدم قال فلا بأس به وقال ابن أبي موسى إذا انتهت إلى حد لا تعيش معه لم تبح بالذكاة ونص عليه أحمد فقال إذا شق الذئب بطنها فخرج قصبها فذبحها لا تؤكل وقال إن كان يعلم أنها تموت من عقر السبع فلا تؤكل وإن ذكاها وقد يخاف على الشاة الموت من العلة والشيء يصيبها فيبادرها فيذبحها وليس هذا مثل لا يدري لعلها تعيش والتي قد خرجت امعاؤها يعلم أنها لا تعيش وهذا قول أبي يوسف والأول أصح لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح إلى حد علم أنه لا يعيش معه فوصى فقبلت وصاياه ووجبت العبادة عليه وفيما ذكرنا من عموم الآية والخبر وكون النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفصل في حديث جارية كعب ما يرد هدا ويحتمل نصوص أحمد على شاة خرجت امعاؤها وبانت فتلك لا تحل بالذكاة لأنها في حكم الميت ولا تبقى حركتها إلا كحركة المذبوح فأما ما خرجت أمعاؤها ولم تبن منها فهي في حكم الحياة تباح بالذبح ولهذا قال الخرقي فيمن شق بطن رجل فأخرج حشوته فقطعها فأبانها ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأول ولو شق بطن رجل وضرب عنقه آخر فالقاتل هو الثاني وقال بعض أصحابنا إذا كانت تعيش معظم اليوم حلت بالذكاة وهذا التحديد بعيد يخالف ظواهر النصوص ولا سبيل إلى معرفته وقوله في حديث جارية كعب فأدركتها فدكتها بحجر يدل على أنها بادرتها بالذكاة حين خافت موتها في ساعتها والصحيح أنها إذا كانت تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح وأنها متى كانت مما لا يتيقن موتها كالمريضة أنها متى تحركت وسال دمها حلت والله أعلم (11/62)
مسألة المحرم من الحيوان ما نص الله عليه في كتابه
مسألة : قال : والمحرم من الحيوان ما نص الله تعالى عليه في كتابه وما كانت العرب تسمية طيبا فهو حلال وما كانت تسمية خبيثا فهو محرم لقول الله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث }
يعني بقوله ما سمى الله تعالى في كتابه : قوله سبحانه : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } الآية وما عدا هذا فما استطابته العرب فهو حلال لقول الله تعالى : { ويحل لهم الطيبات } يعني ما يستطيبونه دون الحلال بدليل قوله في الاية الأخرى : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } ولو أراد الحلال لم يكن ذلك جوابا لهم وما استخبثته العرب فهو محرم لقول الله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } والذين تعتبر استطابتهم واستخباثهم هم أهل الحجاز من أهل الأمصار لأنهم الذين نزل عليهم الكتاب وخوطبوا به وبالسنة فرجع في مطلق ألفاظهما إلى عرفهم دون غيرهم ولم يعتبر أهل البوادي لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا ولهذا سئل بعضهم عما يأكلون فقال ما دب ودرج إلا أم حبين فقال لتهن أم حبين العافية وما وجد في أمصار المسلمين مما لا يعرفه أهل الحجاز رد إلى أقرب ما يشبهه في الحجاز فإن لم يشبه شيئا منها فهو مباح لدخوله في عموم قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما } الآية ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وما سكت الله عنه فهو عفا عنه ]
وإذا ثبت هذا فمن المستخبثات الحشرات كالديدان والجعلان وبنات وردان والخنافس والفأر والاوزاغ والحرباء والعضاء والجراذين والعقارب والحيات وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ورخص مالك و ابن أبي ليلى و الأوزاعي في هذا كله إلا الأوزاغ فإن ابن عبد البر قال هو مجمع على تحريمه وقال مالك الحية حلال إذا ذكيت واحتجوا بعموم الآية المبيحة
ولنا قوله تعالى { ويحرم عليهم الخبائث } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم العقرب والفأرة والغراب والحدأة والكلب العقور ] وفي حديث [ الحية ] مكان الفأرة ولو كانت من الصيد البماح لم يبح قتلها ولأن الله تعالى قال : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } وقال : { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } ولأنها مستخبثة فحرمت كالوزغ أو مأمور بقتلها فأشبهت الوزغ (11/65)
مسائل و فصول فيما يحرم أكله وما يحل ويكره
فصل : والقنفذ حرام قال أبو هريرة هو حرام وكرهه مالك و أبو حنيفة ورخص فيه الشافعي و الليث و ابو ثور
ولنا [ أن أبا هريرة قال : ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : هو خبيث من الخبائث ] رواه أبو داود ولأنه يشبه المحرمات ويأكل الحشرات فأشبه الجرذ
مسألة : قال : وبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم الحمر الأهلية
أكثر أهل العلم يرون تحريم الحمر الأهلية قال أحمد خمسة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كرهوها قال ابن عبد البر لا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها وحكي عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما أنهما كانا يقولان بظاهر قوله سبحانه : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وتلاها ابن عباس وقال ما خلا هذا فهو حلال وسئلت عائشة رضي الله عنها عن الفأرة فقالت ما هي بحرام وتلت هذه الآية ولم ير عكرمة وأبو وائل بأكل الحمر بأسا وقد [ روي عن غالب بن الحر قال : أصابتنا سنة فقلت يا رسول الله أصابتنا سنة ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر وإنك حرمت لحوم الحمر الأهلية فقال : اطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل حوالي القرية ]
ولنا ما [ روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل ] متفق عليه قال ابن عبد البر عن النبي صلى الله عليه و سلم تحريم الحمر الأهلية علي وعبد الله بن عمرو وجابر والبراء وعبدالله ابن أبي أوفى وأنس وزاهر الأسلمي بأسانيد صحاح حسان وحديث غالب بن الحر لا يعرج على مثله مع عارضه ويحتمل أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رخص لهم في مجاعتهم وبين علة تحريمها المطلق لكونها تأكل العذرات [ قال عبد الله بن أبي أوفى : حرمها رسول الله صلى الله عليه و سلم البتة من أجل أنها تأكل العذرة ] متفق عليه
فصل : والبغال حرام عند كل من حرم الحمر الأهلية لأنها متولدة منها والمتولد من الشيء له حكمه في التحريم وهكذا ان تولد من بين الأنسي والوحشي ولد فهو محرم تغليبا للتحريم والسمع المتولد من بين الذئب والضبع محرم قال قتادة : ما البغل إلا شيء من الحمار و [ عن جابر قال : ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل ]
فصل : وألبان الحمر محرمة في قول أكثرهم ورخص فيها عطاء و طاوس و الزهري و الأول أصح لأن حكم الألبان حكم اللحمان
مسألة : قال : وكل ذي ناب من السباع وهي التي تضرب بأنيابها الشيء وتفرس
أكثر أهل العلم يرون تحريم كل ذي ناب قوي من السباع يعدو به ويكسر إلا الضبع منهم مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الحديث و أبو حنيفة وأصحابه وقال الشعبي و سعيد بن جبير وبعض أصحاب مالك هو مباح لعموم قوله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } وقوله سبحانه : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به }
[ ولنا ما روى أبو ثعلبة الخشني قال نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ] متفق عليه و [ قال أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أكل كل ذي ناب من السابع حرام ] قال ابن عبد البر : هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته وهذا نص صريح يخص عموم الآيات فيدخل في هذا الأسد والنمر والفهد والذئب والكلب والخنزير وقد روي عن الشعبي أنه سئل عن رجل يتداوى بلحم الكلب فقال لاشفاه الله وهذا يدل على أنه رأى تحريمه
فصل : ولا يباح أكل القرد وكرهه عمر و عطاء و مجاهد و مكحول و الحسن و لم يجيزوا بيعه وقال ابن عبد البر : لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا أن القرد لا ييؤكل ولا يجوز بيعه [ عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لحم القرد ولأنه سبع فيدخل في عموم الخبر وهو مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة ]
فصل : وابن آوى والنمس وابن عرس حرام سئل أحمد عن ابن آوى وابن عرس فقال : كل شيء ينهش بأنيابه ينهش بأنيابه فهو من السباع وبهذا قال أبو حنيفة وأصحابه وقال الشافعي : ابن عرس مباح لأنه ليس له ناب قوي فأشبه الضب ولأصحابه في ابن آوى وجهان
ولنا أنها من السباع فتدخل في عموم النهي ولأنها مستخبثة غير مستطابة فإن ابن آوى يشبه الكلب ورائحته كريهة فيدخل في عموم قوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث }
فصل : واختلفت الرواية في الثعلب فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه وهذا قول أبي هريرة و مالك و ابي حنيفة لأنه سبع فيدخل في عموم النهي ونقل عن أحمد إباحته اختاره الشريف أبو جعفر ورخص فيه عطاء و طاوس و قتادة و الليث و سفيان بن عيينة و الشافعي لأنه يفدي في الإحرام والحرم وقال أحمد و عطاء كل ما يودى إذا أصابه المحرم فإنه يؤكل واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر كاختلافها في الثعلب والقول فيه كالقول في الثعلب ولـ لشافعي في سنور البر وجهان فأما الأهلي فمحرم في قول إمامنا و مالك و أبي حنيفة و الشافعي [ وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن أكل الهر ]
فصل : والفيل محرم قال أحمد ليس هو من أطعمه المسلمين وقال الحسن هو مسخ وكرهه أبو حنيفة و الشافعي ورخص في أكله الشعبي
ولنا [ نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل ذي ناب من السباع ] وهو من أعظمها نابا ولأنه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة
فصل : فأما الدب فينظر فإن كان ذا ناب ييفرس فهو محرم وإلا فهو مباح قال أحمد أن لم يكن له ناب فلا بأس به وقال أصحاب أبي حنيفة هو سبع لأنه أشبه شيء بالسباع فلا يؤكل
ولنا أن الأصل الإباحة ولم يتحقق وجود فيبقى على الأصل وشبهه بالسباع إنما يعتبر في وجود العلة المحرمة وهو كونه ذا ناب يصيد به ويفرس فإذا لم يوجد ذلك كان داخلا في عموم النصوص المبيحة والله أعلم
مسألة : قال : وكل ذي مخلب من الطير وهي التي تعلق بمخالبها الشيء وتصيد بها
هذا قول أكثر أهل العلم وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك و الليث و الأوزاعي و يحيى ابن سعيد : لا يحرم من الطير شيء قال مالك لم أر أحدا من أهل العلم يكره سباع الطير واحتجوا بعموم الآيات المبيحة وقول أبي الدراداء وابن عباس ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه
ولنا ما روى ابن عباس قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ] وعن خالد بن الوليد قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حرم عليكم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ] رواهما أبو داود وهذا يخص عموم الآيات ويقدم على ما ذكروه فيدخل في هذا كل ما له مخلب يعدو به كالعقاب والبازي والصقر والشاهين والباشق والحدأة وأشباهها
فصل : ويحرم منها ما يأكل الجيف كالنسور والرخم وغراب البين وهو أكبر الغربان والأبقع قال عروة ومن يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسقا ؟ والله ما هو من الطيبات ولعله يعني [ قول النبي صلى الله عليه و سلم خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور ] فهذه الخمس محرمة لأن النبي صلى الله عليه و سلم أباح قتلها في الحرم ولا يجوز قتل صيد مأكول في الحرم ولأن ما ؤكل لا يحل قتله إذا قدر عليه وإنما يذبح ويؤكل وسئل أحمد عن العقعق فقال : إن لم يكن يأكل الجيف فلا بأس به قال بعض أصحابنا هو يأكل الجيف فيكون على هذا محرما
فصل : ويحرم الخطاب والخشاف والخفاش وهو الوطواط قال الشاعر :
( مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا ويعمي أعين الخفاش )
قال أحمد ومن يأكل الخشاف ؟ وسئل عن الخطاف فقال لا أدري وقال النخعي كل الطير حلال إلا الخفاش وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تستطيبها العرب ولا تأكلها ويحرم الزنابير واليعاسيب والنحل وإشباهها لأنها مستخبثة غير مستطابة
فصل : وما عدا ما ذكرنا فهو مباح لعموم النصوص الدالة على الإباحة من ذلك بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم قال الله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ومن الصيود الظباء وحمر الوحش وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم ابا قتادة وأصحابه يأكل الحمار الذي صاده وكذلك بقر الوحش كلها مباحة على اختلاف أنواعها من الإبل والتيتل والوعل والمها وغيرها من الصيود كلها مباحة وتفدى في الإحرام ويباح النعام وقد قضى الصحابة رضي الله عنهم في النعامة ببدنة وهذا كله مجمع عليه لا نعلم فيه خلافا إلا ما يروى عن طلحة بن مصرف قال : إن الحمار الوحشي إذا أنس واعتلف فهو بمنزلة الأهلي قال أحمد وما ظننت أنه روي في هذا شيء وليس الأمر عندي كما قال وأهل العلم على خلافه لأن الظباء إذا تأنست لم تحرم والأهلي إذا توحش لم يحل ولا يتغير منها شيء عن أصله وما كان عليه قال عطاء في حمار الوحش : إذا تناسل في البيوت لا تزول عنه أسماء الوحش وسألوا أحمد عن الزرافة تؤكل ؟ قال نعم وهي دابة تشبه البعير إلا أن عنقها أطول من عنقه وجسمها ألطف من جسمه وأعلى منه ويداها أطول من رجليها
فصل : وتباح لحوم الخيل كلها عرابها وبراذينها نص عليه أحمد وبه قال ابن سيرين وروي ذلك عن ابن الزبير و الحسن و عطاء و الأسود بن يزيد وبه قال حماد بن زيد و الليث و ابن المبارك و الشافعي و أبو ثور قال سعيد بن جبير : ما أكلت شيئا أطيب من معرفة برذون وحرمها أبو حنيفة وكرهها مالك و الأوزاعي و ابو عبيد لقول الله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها }
و [ عن خالد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حرام عليكم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها ولأنه ذو حافر فأشبه بالحمار ]
ولنا قول جابر [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم خيبر عن لحوم الحمر والأهلية وأذن في لحوم الخيل ] [ وقالت أسماء نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة ] متفق عليهما ولأنه حيوان طاهر مستطاب ليس بذي ناب ولا مخلب فيحل كبهيمة الأنعام ولأنه داخل في عموم الآيات والأخبار المبيحة وأما الآية فإنما يتعلقون بدليل خطابها وهم لا يقولون به وحديث خالد ليس له إسناد جيد قاله أحمد قال وفيه رجلان لا يعرفان يرويه ثور عن رجل ليس بمعروف وقال لا ندع أحاديثنا لمثل هذا الحديث المنكر
فصل : والأرانب مباحة أكلها سعد بن أبي وقاص ورخص فيها أبو سعيد و عطاء و ابن المسيب و الليث و مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر و لا نعلم أحدا قائلا بتحريمها إلا شيئا روي عن عمرو بن العاص وقد صح عن أنس أنه قال : أنفجنا أرنبا فسعى القوم فلعبوا فأخذتها فجئت بها إلى أبي طلحة فذبحها وبعث بوركها أو قال ـ فخذها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقبله متفق عليه [ وعن محمد بن صفوان بن محمد أنه قال : صدت أرنبين فذبحتهما بمروة فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرني بأكلهما ] رواه أبو داود ولأنها حيوان مستطاب ليس بذي أشبه الظبي
فصل : ويباح الوبر به قال عطاء و طاوس و مجاهد و عمرو بن دينار و الشافعي و ابن المنذر و أبو يوسف وقال القاضي هو محرم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف
ولنا أنه يفدى في الإحرام والحرم وهو مثل الأرنب يعتلف النبات والبقول فكان مباحا كالأرانب ولأن الأصل الإباحة وعموم النصوص يقتضها ولم يرد فيه تحريم فتجب إباحته
فصل : وسئل احمد عن اليربوع فرخص فيه وهذا قول عروة و عطاء الخراساني و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة هو محرم وروي ذلك عن أحمد أيضا وعن ابن سيرين و الحكم و حماد وأصحاب الرأي لأنه يشبه الفأر
ولنا أن عمر حكم فيه بجفره ولأن الأصل الإباحة ما لم يرد فيه تحريم وأما السنجاب فقال القاضي هو محرم لأنه ينهش بنابه فأشبه الجرذ ويحتمل أنه مباح لأنه يشبه اليربوع ومتى تردد بين الإباحة والتحريم غلبت الإباحة لأنها الأصل وعموم النصوص يقتضيها
فصل ويباح من الطيور ما لم نذكره في المحرمات من ذلك الدجاج [ قال أبو موسى رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يأكل الدجاج والحبارى لما روى سفينة قال : أكلت مع النبي صلى الله عليه و سلم لحم حبارى ] رواه أبو داود ويباح الزاغ وبذلك قال الحكم و حماد و محمد بن الحسن و الشافعي في أحد قوليه
ويباح غراب الزرع وهو الأسود الكبير الذي يأكل الزرع ويطير مع الزاغ لأن مرعاهما الزرع والحبوب فأشبها الحجل وتباح العصافير كلها [ قال عبد الله بن عرمو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها قيل يا رسول الله فما حقها ؟ قال : يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها فيرمي بها ] رواه النسائي ويباح الحمام كله على اختلاف أنواعه من الجوازل والفواخت والرقاطي والقطا والحجل وغيرها وتباح الكراكي والأوز وطير الماء كله والغرانيق والطواويس وأشباه ذلك لا نعلم فيه خلافا
واختلف عن أحمد في الهدهد والصرد فعنه أنهما حلال لأنهما ليسا من ذوات المخلب ولا يستخبثان وعنه تحريمهما [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل الهدهد والصرد والنملة والنحلة وكل ما كان لا يصيد بمخلبه ولا يأكل الجيف ولا يستخبث فهو حلال ]
فصل : قال احمد : اكره لحوم الجلالة وألبانها قال القاضي في المجرد هي التي تأكل القذر فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها وفي بيضها روايتان وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها وتحديد الجلالة بكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ولا هو ظاهر كلامه لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير وقال الليث : إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع وما أشبهه
وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان إحداهما : أنها محرمة والثانية : أنها مكروهة غير محرمة وهذا قول الشافعي وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس ورخص الحسن في لحومها وألبانها لأن الحيوانات لا تنجس بأكل النجاسات بدليل إن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الإغتسال ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس
ولنا ما روى ابن عمر قال [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أكل الجلالة وألبانها ] رواه أبو داود وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الإبل الجلالة أن يؤكل بحمها ولا يحمل عليها إلا الأدم ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة ] رواه الخلال بإسناده ولأن لحمها يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر غذائه وإنما يتغذى الطاهرات وكذلك الكافر في الغالب
فصل : وتزول الكراهة بحبسها اتفاقا واختلف في قدره فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثا سواء كانت طائرا أو بهيمة وكان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا وهذا قول أبي ثور لأن ما طهر الآخر كالذي نجس ظاهره والأخرى : تحبس الدجاجة ثلاثا والبعير والبقرة ونحوهما يحبس أربعين وهذا قول عطاء في الناقة والبقرة لحديث عبد الله بن عمر ولأنهما أعظم جسما وبقاء علفهما أكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير والله أعلم
فصل : ويكره ركوب الجلالة وهو قول عمر وابنه وأصحاب الرأي لحديث عبد الله بن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ركوبها ] ولأنها ربما عرقت فتلوث بعرقها
فصل : وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات أو سمدت بها وقال ابن عقيل يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم ولا يحكم بتنجيسها لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتظهر بالإستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان لحما ويصير لبنا وهذا قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة و الشافعي وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول مكتل عرة مكتل بر والعرة عذرة الناس
ولنا ما روي عن ابن عباس قال : كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه و سلم ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة الناس ولأنها تتغذى بالنجاسات وتترقى فيها أجزاؤها والإستحالة لا تطهر فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات (11/66)
مسألة و فصول في حكم الأكل من الميتة
مسألة : قال : ومن اضطر إلى الميتة فلا يأكل منها إلا ما يأمن منه الموت
أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الإختيار وعلى إباحة الأكل منها في الإضطرار وكذلك سائر المحرمات والأصل في هذا قول الله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ويباح له أكل ما يسد الرمق معه ويأمن الموت بالإجماع ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع أيضا وفي الشبع روايتان :
أظهرهما : لا يباح وهو قول ابي حنيفة واحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين لـ لشافعي قال الحسن يأكل قدر ما يقيمه لأن الآية دلت على تحريم الميتة واستثنى ما اضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل كحالة الإبتداء ولأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية يحققه أنه بعد سد رمقه كهو قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل كذا ههنا
والثانية : يباح له الشبع اختارها أبو بكر لما [ روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده نافة فقالت له امرأته اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله فقال حتى اسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله فقال : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال لا قال : فكلوها ] ولم يفرق رواه أبو داود ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة كحالة الإعرابي الذي سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم جاز الشبع لأنه إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ولا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة والمستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف التي ليست مستمرة فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل له والله أعلم إذا ثبت هذا اذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل قال أحمد : إذا كان يخشى على نفسه سواء كان من جوع أو يخاف أن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمن محصور
فصل : وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يجب وهو قول مسروق وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي قال الأثرم : سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل فذكر قول مسروق من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وهذا اختيار ابن حامد وذلك لقول الله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وترك الأكل مع إمكانه في هذا الحال إلقاء بيده إلى التهلكة وقال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله له فلزمه كما لو كام معه طعام حلال
والثاني : لا يلزمه لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن طاغية الروم حبسه في بيت وجعل معه خمرا ممزوجا لماء لحم خنزير مشوي ثلاثة أيام فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته فأخرجوه فقال : قد كان الله أحله لي لأني مضطر ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص ولأن له غرضا في إجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه
فصل : وتباح المحرمات عند الإضطرار إليها في الحضر والسفر جميعا لأن الآية مطلقة غير مقيدة بإحدى الحالتين وقوله : { فمن اضطر } لفظ عام في حق كل مضطر ولأن الإضطرار يكون في الحضر في سنة المجاعة وسبب الإباحة الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك لكون هذه المصلحة أعظم من مصلحة إجتناب النجاسات والصيانة عن تناول المستخبثات وهذا المعنى عام في الحالين وظاهر كلام أحمد أن الميتة لا تحل لمن يقدر على دفع ضرورته بالمسألة
وروي عن أحمد أنه قال : أكل الميتة إنما يكون في السفر يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال وهذا من أحمد خرج مخرج الغالب فإن الغالب أن الحضر يوجد فيه الطعام الحلال ويمكن دفع الضرورة بالسؤال ولكن الضرورة أمر معتبر بوجود حقيقيته لا يكتفي فيه بالمظنة بل متى وجدت الضرورة أباحت سواء وجدت المظنة أو لم توجد ومتى انتفت لم يبح الأكل لوجود مظنتها بحال
فصل : قال أصحابنا ليس للمضطر في سفر المعصية الأكل من الميتة كقاطع الطريق والآبق لقول الله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } قال مجاهد غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم وقال سعيد بن جبير : إذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له فإن تاب وأقلع عن معصية حل له الأكل
فصل : وهل للمضطر التزود من الميتة ؟ على روايتين أصحهما : له ذلك وهو قول مالك لأنه لا ضرر في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته ولا يأكل منها إلا عند ضرورته
والثانية : لا يجوز لأنه توسع فيما لم يبح إلا للضرورة فإن استصحبها فلقيه مضطر آخر لم يجز له بيعه إياه لأنه إنما أبيح له منها ما يدفع به الضرورة ولا ضرورة إلى البيع ولأنه لا يملكه ويلزمه إعطاء الآخر بغير عوض إذا لم يكن هو مضطرا في الحال إلى ما معه لأن ضرورة الذي لقيه موجودة وحاملها يخاف الضرر في ثاني الحال (11/74)
مسألة و فصل في الأكل من الثمر والزرع
مسألة : قال : ومن مر يثمرة فله أن يأكل منها ولا يحمل
هذا يحتمل أنه أراد في حال الجوع والحاجة لأنه ذكره عقيب مسألة المضطر قال أحمد إذا لم يكن عليها حائط يأكل إذا كان جائعا وإذا لم يكن جائعا فلا يأكل قال وقد فعله غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم ولكن إذا كان عليه حائط لم يأكل لأنه قد صار شبه الحريم وقال في موضع إنما الرخصة للمسافر إلا أنه لم يعتبر ههنا حقيقة الإضطرار لأن الإضطرار يبيح ما وراء الحائط ورويت عنه الرخصة في الأكل من غير المحوطة مطلقا من غير اعتبار جوع ولا غيره
وروي عن أبي زينب التميمي قال سافرت مع أنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وأبي بردة فكانوا يمرون بالثمار فيأكلون في أفواههم وهو قول عمر وابن عباس وأبي بردة قال عمر يأكل ولا يتخذ خبنة وروي عن أحمد أنه قال يأكل مما تحت الشجر وإذا لم يكن تحت الشجر فلا يأكل ثمار الناس وهو غني عنه ولا يضرب بحجر ولا يرمي لأن هذا يفسد
وقد [ روي عن رافع بن عمر قال : كنت أرمي نخل الأنصار فأخذوني فذهبوا بي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رافع لم ترمي نخلهم ؟ قلت يا رسول الله الجوع قال : لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله وأرواك ] أخرجه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح وقال أكثر الفقهاء لا يباح الأكل في الضرورة لما [ روى العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا وأن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم ] أخرجه أبو داود وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا ] متفق عليه
ولنا ما [ روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى ا لله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : ما أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن أخرج منه شيئا فعليه غرامة مثليه والعقوبة ] قال الترمذي هذا حديث حسن
وروي أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا أتيت على حائط بستان فناد صاحب البستان ثلاثا فإن أجابك وإلا فكل من غير أن تفسد ]
وروي سعيد بإسناده عن الحسن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله ولأنه قول من سمينا من الصحابة من غير مخالف فيكون إجماعا فإن قيل فقد أبى سعد أن يأكل قلنا امتناع سعد من أكله ليس بمخالف لهم لأن الإنسان قد يترك المباح غنى عنه أو تورعا أو تقذرا كترك النبي صلى الله عليه و سلم أكل الضب فأما أحاديهم عهي مخصوصة بما رويناه من الحديث والإجماع فإ كانت محوطة لم يجز الدخول إليها لقول ابن عباس إن كان عليها حائط فهو حريم فلا تأكل وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس ولأن احرازه بالحائط يدل على شح صاحبه به وعدم المسامحة فيه قال بعض أصحابنا إذا كان علينا ناطور فهو بمنزلة المحوط في أنه لا يدخل إليه ولا يأكل منه إلا في الضرورة
فصل : وعن أحمد في الأكل من الزرع روايتان إحداهما : قال لا يأكل انمار خص في الثمار ليس الزرع وقال ما سمعنا في الزرع أن يمس منه ووجهه أن الثمار خلقها الله تعالى للأكل رطبة والنفوس تتوق إليها والزرع بخلافها
والثانية : قال يأكل من الفريك لأن العادة جارية بأكله رطبا أشبه الثمر وكذلك الحكم في الباقلا والحمص وشبهه مما يؤكل رطبا فأما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الأكل منه والأولى في الثمار وغيرها أن لا يأكل منها إلا بإذن لما فيه من الخلاف والأخبار الدالة على التحريم (11/76)
فصل روايتان عن أحمد في حلب لبن الماشية
فصل : وعن أحمد في حلب لبن الماشية روايتان :
إحداهما : يجوز له أن يحلب ويشرب ولا يحمل لما [ روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن فليحلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا فإن أجابه أحد فليستأذنه وإن لم يجبه أحد فليحلب وليشرب ولا يحمل ] رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح والعمل عليه عند بعض أهل العلم وبه يقول أحمد و إسحاق
والرواية الثانية : لا يجوز له أن يحلب ولا يشرب لما [ روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته خزانته فينقل طعامه فإنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم فلا يحلبن أحد ماشية إلا بإذنه ] وفي لفظ : [ فإن ما في ضروع مواشيهم مثل ما في مشاربهم ] متفق عليه (11/78)
مسائل وفصول في المضطر وما يأكله
مسألة : قال : ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة
وبهذا قال سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وقال مالك أن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر وشرب اللبن وإن خاف أن تقطع يده أو لا يقبل منه أكل الميتة ولأصحاب الشافعي وجهان :
أحدهما : يأكل الطعام وهو قول عبد الله بن دينار لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة كما لو بذل له صاحبه
ولنا أن أكل الميتة منصوص عليه ومال الآدمي مجتهد فيه والعدول إلى المنصوص عليه أولى ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق ولأن حق الآدمي تلزمه غرامته وحق الله لا عوض له
فصل : إذا وجد المضطر من يطعمه ويسقيه لم يحل له الإمتناع من الأكل والشرب ولا العدول إلى أكل الميتة إلا أن يخاف أن يسمه فيه أو يكون الطعام الذي يطعمه مما يضره ويخاف أن يهلكه أو يمرضه
فصل : وإن وجد طعاما مع صاحبه فامتنع من بذله له أو بيعه منه ووجد ثمنه لم يجز له مكابرته عليه وأخذه منه وعدل إلى الميتة سواء كان قويا يخاف من مكابرته التلف أو لم يخف فإن بذله له بثمن مثله وقدر على الثمن لم يحل له أكل الميتة لأنه قادر على طعام حلال وإن بذله بزيادة على ثمن المثل لا يجحف بماله لزمه شراؤه أيضا لما ذكرناه وإن كان عاجزا عن الثمن فهو في حكم العادم وإن امتنع من بذله الا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه المضطر بذلك لم يلزمه أكثر من ثمن مثله لأن الزيادة أحوج إلى بذلها بغير حق فلم يلزمه كالمكره
فصل : وإن وجد المحرم ميتة وصيدا أكل وبه قال الحسن و مالك و أبو حنيفة وأصحابه وقال الشافعي في أحد قوليه يأكل الصيد ويفديه وهو قول الشعبي لأن الضرورة تبيحه ومع القدرة عليه لا تحل الميتة لغناه عنها
ولنا أن إباحة الميتة منصوص عليها وإباحة الصيد مجتهد فيها وتقديم عليه أولى فإن لم يجد ميتة ذبح الصيد وأكله نص عليه أحمد لأنه مضطر إليه عينا وقد قيل أن في الصيد تحريمات ثلاثا تحريم قتله وأكله وتحريم الميتة لأن ما ذبحه المحرم من الصيد يكون ميتة فقد ساوى الميتة في هذا وفضل عليها بتحريم القتل والأكل ولكن يقال على هذا إن الشارع إذا أباح له ذبحه لم يصر ميتة ولهذا لو لم يجد الميتة فذبحه كان ذكيا طاهرا وليس بنجس ولا ميتة ولهذا يتعين عليه ذبحه في محل الذبح وتعتبر شروط الذكاة فيه ولا يجوز قتله ولو كان ميتة لم يتعين ذلك عليه
فصل : وإذا ذبح المحرم الصيد عند الضرورة جاز له أن يشبع منه لأنه لحم ذكي لا حق فيه لآدمي سواه فأبيح له الشبع منه كما لو ذبحه حلال من أجله
فصل : فإن لم يجد المضطر شيئا لم يبح له أكل بعض أعضائه وقال بعض أصحاب الشافعي : له ذلك لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما لو وقعت فيه الأكلة
ولنا أن أكله من نفسه ربما قتله فيكون قاتلا لنفسه ولا يتقين حصول البقاء بأكله أما قطع الأكلة فإن يخاف الهلاك بذلك العضو فأبيح له إبعاده ودفع ضرره المتوجه منه بتركه كما أبيح قتل الصائل عليه ولم يبح له قتله ليأكله
فصل : وإن لم يجد ألا آدميا محقون الدم لم يبح له قتله إجماعا ولا إتلاف عضو منه مسلما كان أو كافرا لأنه مثله فلا يجوز أن يبقي نفسه بإتلافه وهذا لا خلاف فيه وإن كان مباح الدم كالحربي والمرتد فذكر القاضي أن له قتله وأكله لأن قتله مباح وهكذا قال أصحاب الشافعي لأنه لا حرمة له فهو بمنزلة السباع وإن وجده ميتا أبيح أكله لأن أكله مباح بعد قتله فكذلك بعد موته وإن وجد معصوما ميتا لم يبح أكله في قول أصحابنا وقال الشافعي وبعض الحنفية يباح وهو أولى لأن حرمة الحي أعظم قال أبو بكر بن داود : أباح الشافعي أكل لحوم الأنبياء واحتج أصحابنا بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ] واختار أبو الخطاب أن له أكله وقال لا حجة في الحديث ههنا لأن الأكل من اللحم لا من العظم والمراد بالحديث التشبيه في أصل الحرمة لا في مقدارها بدليل اختلافهما في الضمان والقصاص ووجوب صيانة الحي بما لا يجب به صيانة الميت
مسألة : قال : فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه قهرا ليحيي به نفسه وأعطاه ثمنه إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته
وجملته أن إذا اضطر فلم يجد إلا طعاما لغيره نظرنا فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به ولم يجز لأحد أخذه منه لأنه ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة وإن أخذه منه أحد فمات لزمه ضمانه لأن قتله بغير حق وإن لم يكن صاحبه مضطرا إليه لزمه بذله للمضطر لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما لزمه بذل منافعه في انجائه من الغرق والحريق فإن لم يفعل فللمضطر أخذه منه لا مستحق له دون مالكه فجاز له أخذه كغير ماله فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه وإن آل أخذه إلى قتل صاحبه فهو هدر لأنه ظالم بقتاله فأشبه الصائل إلا أن يمكن أخذه بشراء أو استرضاء فليس له المقاتلة عليه لامكان الوصول إليه دونها وإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فذكر القاضي أن له قتاله والأولى أن لا يجوز له ذلك لامكان الوصول إليه بدونها وإن اشتراه بأكثر من ثمن مثله لم يلزمه إلا ثمن مثله لأنه صار مستحقا له بقيمته ويلزمه عوضه في كل موضع أخذه فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته ولا يباح للمضطر من مال أخيه إلا ما يباح من الميتة [ قال أبو هريرة : قلنا يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه ؟ قال : يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل ]
فصل : وإذا اشتدت المخمصة في سنة المجاعة وأصابت الضرورة خلقا كثيرا وكان عند بعض الناس قدر كفايته وكفاية عياله لم يلزمه بذله للمضطرين وليس لهم أخذه منه لأن ذلك يفضي إلى وقوع الضرورة به ولا يدفعها عنهم وكذلك أن كانوا في سفر ومعه قدر كفايته من غير فضلة لم يلزمه بذل ما معه للمضطرين ولم يفرق أصحابنا بين هذه الحال وبين كونه لا يتضرر بدفع ما معه إليهم في أن ذلك واجب عليه لكونه غير مضطر في الحال والآخر مضطر فوجب تقديم حاجة المضطر
ولنا أن هذا مفض به إلى هلاك عياله فلم يلزمه كما لو أمكنه إنجاء الغريق بتغريق نفسه ولأن في بذله إلقاء بيده إلى التهلكة وقد نهى الله عن ذلك
مسألة : قال : ولا بأس بأكل الضب والضبع
أما الضب فإنه مباح في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو سعيد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ورضي عنهم قال أبو سعيد : كنا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة فقال عمر ما يسرني أن مكان كل ضب دجاجة سمينة ولوددت أن في كل حجر ضب ضبين وبهذا قال مالك و الليث و الشافعي و ابن المنذر
وقال أبو حنيفة هو حرام وبهذا قال الثوري لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن أكل لحم الضب ] وروي نحوه عن علي ولأنه ينهش فأشبه ابن عرس
ولنا ما [ روى ابن عباس قال : دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فقيل هو ضب يا رسول الله فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا ولكنه لم يكن بأرض قوم فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه و سلم ينظر ] متفق عليه [ قال ابن عباس ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم الضب تقذرا وأكل على مائدته ولو كان حراما ما أكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه و سلم ] و [ قال عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يحرم الضب ولكنه قذره ولو كان عندي لأكلته ] ولأن الأصل الحل ولم يوجد المحرم فبقي على الإباحة ولم ثبت فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم نهي ولا تحريم ولأن الإباحة قول من سمينا من الصحابة ولم يثبت عنهم خلافه فيكون إجماعا
فصل : فأما الضبع فرويت الرخصة فيها عن سعد وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعكرمة وإسحاق وقال عروة ما زالت العرب تأكل الضبع ولا ترى بأكلها بأسا
وقال أبو حنيفة و الثوري و مالك هو حرام وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب لأنها من السباع وقد [ نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وهي من السباع فتدخل في عموم النهي وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الضبع فقال : ومن يأكل الضبع ؟ ]
ولنا ما [ روى جابر قال امرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بأكل الضبع قلت صيد هي ؟ قال : نعم احتج به أحمد وفي لفظ قال سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الضبع فقال هو صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم ] رواه أبو داود
قال ابن عبد البر هذا لا يعارض حديث النهي عن كل ذي ناب من السباع لأنه أقوى منه قلنا هذا تخصيص لا معارض ولا يعتبر في التخصيص كون المخصص في رتبة المخصص بدليل تخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد فأما الخبر الذي فيه [ ومن يأكل الضبع ؟ ] فحديث طويل يرويه عبد الكريم بن أبي المخارق ينفرد به وهو متروك الحديث ولأن الضبع قد قيل أنها ليس لها ناب وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس فعلى هذا لا تدخل في عموم النهي والله أعلم (11/79)
مسائل و فصول ما لا يؤكل
مسألة : قال : ولا يؤكل الترياق لأنه يقع فيه لحوم الحيات
الترياق دواء يتعالج به من السم ويجعل فيه من لحوم الحيات فلا يباح أكله ولا شريه لأن لحم الحية حرام وممن كرهه الحسن و ابن سيرين ورخص فيه الشعبي و مالك لأنه يرى إباحة لحوم الحيات ويقتضيه مذهب الشافعي لإباحته التداوي ببعض المحرمات
ولنا أن لحم الحيات حرام بما قد ذكرناه فيما مضى ولا يجوز التداوي بمحرم ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ]
فصل : ولا يجوز التداوي بمحرم ولا بشيء فيه محرم مثل ألبان الاتن ولحم شيء من المحرمات ولا شرب الخمر للتداوي به لما ذكرنا من الخبر ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكر له النبيذ يصنع للدواء فقال : انه ليس بدواء ولكنه داء ]
فصل : ويجوز أكل الأطعمة التي فيها الدود والسوس كالفواكه والفثاء والبطيخ والحبوب والخل إذا لم تقذره نفسه وطابت به لأن التحرز من ذلك يشق ويجوز أكل العسل بقشه وفيه فراخ لذلك وإن نقاه فحسن فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أتى بتمر عتيق فجعل يفتشه ويخرج السوس منه وينقيه وهذا أحسن
مسألة : قال : ولا يؤكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم إذا علم أن السم أعان على قتله
إنما كان كذلك لأن ما قتله السم محرم وما قتله السهم وحده مباح فإذا مات بسبب مبيح ومحرم حرم كما لو مات برمية مسلم ومجوسي أو قتل الصيد كلب معلم وغيره أو وجد مع كلبه كلبا لا يعرف حاله أو رمى صيدا بسهم فوجده غريقا في الماء أو تردى من جبل أو وطىء عليه شيء فإن علم أن السم لم يعن على قتله لكون السهم أوحى منه فهو مباح لانتفاء المحرم
مسألة : قال : وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر لم يؤكل إذا مات في بر أو بحر
كل ما يعيش في البر من دواب لا يحل بغير ذكاة كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء إلا ما لآدم فيه كالسرطان فإنه يباح بغير ذكاة قال أحمد السرطان لا بأس به قيل له يذبح ؟ قال لا وذلك لأن مقصود الذبح إنما هو إخراج الدم منه وتطييب اللحم بإزالته عنه فما لا دم فيه لا حاجة إلى ذبحه وأما سائر ما ذكرنا فلا يحل إلا أن يذبح قال أحمد كلب الماء يذبحه ولا أرى بأسا بالسلحفاة إذا ذبح والرق يذبحه وقال قوم يحل من غير ذكاة ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في البحر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته ] ولأنه من حيوان البحر فأبيح بغير ذكاة كالسمك والسرطان وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه كل ما في البحر قد ذكاه الله تعالى لكم وروى الإمام أحمد بإسناده عن شريح رجل أدرك النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل شيء في البحر مذبوح ] [ وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الله ذبح كل شيء في البحر لابن آدم ]
ولنا أنه حيوان يعش في البر له نفس سائله فلم يبح بغير ذبح كالطير ولا خلاف في الطير فيما علمناه والأخبار محمولة على ما لا يعيش إلا في البحر كالسمك وشبهه لأنه لا يتمكن من تذكيته لأنه لا يذبح إلا بعد إخراجه من الماء وإذا خرج مات (11/83)
فصول حكم ما لا يعيش إلا في الماء وحكم الضفدع وكلب البحر وغيرهما
فصل : فأما ما لا يعيش إلا في الماء كالسمك وشبهه فإنه يباح بغير ذكاة لا نعلم في هذا خلافا لما ذكرنا من الأخبار وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد ] [ وقد صح أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر ميتة فأكلوا منها شهرا حتى سمنوا وادهنوا فلما قدموا على النبي صلى الله عليه و سلم أخبروه فقال : هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا ؟ ] متفق عليه
فصل : وكل صيد البحر مباح إلا الضفدع وهذا قول الشافعي وقال الشعبي لو أكل أهل الضفادع لاطعمتهم وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في كل ما في البحر قد ذكاه الله لكم وعموم قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه } يدل على إباحة جميع صيده وروى عطاء و عمرو بن دينار أنهما بلغهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إن الله ذبح كل شيء فيي البحر لابن آدم ] [ فأما الضفدع فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتله ] رواه النسائي فيدل ذلك على تحريمه فأما التمساح فقد نقل عنه ما يدل على أنه لا يؤكل وقال الأوزاعي لا بأس به لمن اشتهاه وقال ابن حامد لا يؤكل التمساح ولا الكوسج لأنهما يأكلان الناس وقد روي عن إبراهيم النخعي وغيره أنه قال كانوا يكرهون سباع البحر كما يكرهون سباع البر وذلك لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن كل ذي ناب من السباع وقال أبو علي النجاد ما حرم نظيره في البر فهو حرام في البحر ككلب الماء وخنزيره وإنسانه وهو قول الليث إلا في كلب الماء فإنه يرى إباحة كلب البر والبحر وقال أبو حنيفة لا يباح إلا السمك وقال مالك كل ما في البحر مباح لعموم قوله تعالى : { أحل لكم صيد البحر وطعامه }
فصل : وكلب الماء مباح وركب الحسن بن علي رضي الله عنه سرجا عليه جلد من جلود كلاب الماء وهذا قول مالك و الشافعي و الليث و يقتضيه قول الشعبي و الأوزاعي ولا يباح عند أبي حنيفة وهو قول أبي علي النجاد وبعض أصحاب الشافعي
ولناعموم الآية والخبر قال عبد الله سألت أبي عن كلب الماء فقال حدثنا يحيى بن سعييد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار وأبي الزبير شريحا رجل أدرك النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ كل شيء في البحر فهو مذبوح ] قال فذكرت ذلك لـ عطاء فقال أما الطير فنذبحه وقال أبو عبد الله كلب الماء نذبحه
فصل : قيل لأبي عبد الله يكره الجري ؟ قال لا والله وكيف لنا بالجري ؟ ورخص فيه علي و الحسن و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وسائر أهل العلم وقال ابن عباس الجري لا تأكله اليهود ووافقتهم الرافضة ومخالفتهم صواب
فصل : وعن أحمد في السمكة توجد في بطن سمكة أخرى أو حوصلة طائر أو يوجد في حوصلته جراد فقال في موضع : كل شيء أكل مرة لا يؤكل وقال في موضع : الطافي أشد من هذا وقد رخص فيه أبو بكر رضي الله عنه وهذا هو الصحيح وهو مذهب الشافعي فيما في بطن السمكة دون ما في حوصلة الطائر لأنه كالرجيع ورجيع الطائر عنده نجس
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أحلت لنا ميتتان ودمان ] ولأنه حيوان طاهر في محل طاهر لا تعتبر له ذكاة فأبيح كالطافي من السمك وهكذا يخرج في الشعير يوجد في بعر الجمل أو خث الجواميس ونحوها (11/85)
مسألة حكم ما لو وقعت النجاسة في مائع كالدهن وشبهه
مسألة : قال : وإذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه نجس واستصبح به إن أحب ولم يحل أكله ولا ثمنه
ظاهر هذا أن النجاسة إذا وقعت في مائع غيرالماء نجسته وإن كثر وهذا ظاهر المذهب وعن أحمد رواية أخرى أنه لا ينجس إذا كثر قال حرب سألت أحمد عن كلب ولغ في سمن أو زيت قال إذا كان في آنية كبيرة مثل حب أو نحوه رجوت أن لا يكون به بأس يؤكل وإذا كان في آنية صغيرة فلا يعجبني أن يؤكل وسئل عن كلب وقع خل أكثر من قلتين فخرج منه وهو حي فقال هذا أسهل من أنه لو مات
وعنه رواة ثالثة ما أصله الماء كالخل التمري يدفع النجاسة عن نفسه إذا كثر وما ليس أصله الماء لا يدفع عن نفسه قال المروذي قلت لأبي عبد الله فإن وقعت النجاسة في خل أو دبس ؟ فقال أما الخل فاصله الماء يعود إلى أن يكون إذا حمل عليه وقال ابن مسعود في فأرة وقعت في سمن : إنما حرم من الميتة لحمها ودمها
ولنا ما [ روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن قال : إن كان جامدا فخذوها وما حولها فألقوله وإن كان مائعا فلا تقربوه ] ولأن غير الماء ليس بطهور فلا يدفع النجاسة عن نفسه وحكم الجامد قد ذكرناه فيما تقدم واختلفت الرواية في الإستصباح بالزيت النجس فأكثر الروايات إباحته لأن ابن عمر أمر أن يستصبح به ويجوز أن تطلى به سفينة وهذا قول الشافعي وعن أحمد لا يجوز الاستصباح به وهو قول ابن المنذر ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال : لا هو حرام ] وهذا في معناه ولنا أنه زيت أمكن الانتفاع به من غير ضرر فجاز كالطاهر وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم في العجين الذي عجن بماء من آباء ثمود أنه نهاهم عن أكله وأمرهم أن يعلفوه النواضح وهذا الزيت ليس بميته ولا هو من شحومها فيتناوله الخبر إذا ثبت هذا فإنه يستصبح به على وجه لا يمسه ولا تتعدى نجاسته إليه : إما أن جعل الزيت في أبريق له بلبل ويصب منه في المصباح ولا يمسه وإنا أن يدع على رأس الجرة التي فيها الزيت سراجا مثقوبا أو قنديلا فيه ثقب ويطينه على رأس أناء الزيت أو يشمعه وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء بحيث يرتفع الزيت فيملأ السراج وما أشبهه هذا ولم ير أبو عبد الله أن تدهن بها الجلود وقال يجعل منه الأسقية والقرب
ونقل عن عمر أنه تدهن به الجلود وعجب أحمد من هذا وقال إن في هذا لعجبا شيء يلبس يطيب بشيء فيه ميتة ؟ فعلى قول أحمد كل انتفاع يفضي إلى تنجيس إنسان لا يجوز وإن لم يفض إلى ذلك جاز فأما أكله فلا إشكال في تحريمه ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقربوه ] ولأن النجس خبيث وقد حرم الله الخبائث وأما بيعه فظاهر كلام أحمد رحمه الله تحريمه ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : إذا حرم الله شيئا حرم ثمنه ] وقال أبو موسى : لتوه بالسويق وبيعوه ولا تبيعوه من مسلم وبينوه
وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أنه يباع لكافر بشرط أن يعلم بنجاسته لأن الكفار يعتقدون حله ويستبيحون أكله
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ] متفق عليه وكونهم يعتقدون حله لا يجوز لنا بيعه لهم كالخمر والخنزير (11/87)
فصول حكم شحوم الميتة وأنواع ما يكره أكله
فصل : فأما شحوم الميتة وشحم الخنزير فلا يجوز الانتفاع به بإستصباح ولا غيره ولا أن تطلى به السفن ولا الجلود لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إن الله حرم الميتة والخنزير والأصنام قالوا يا رسول الله شحوم الميتة تطلى بها السفن ويدهن به الجلود ويستصبح الناس ؟ قال : لا هي حرام ] متفق عليه
فصل : إذا استصبح بالزيت النجس فدخانه نجس لأنه جزء يستحيل منه والإستحالة لا تظهر فإن علق بشيء وكان يسيرا عفي عنه لأنه لا يمكن التحرر منه فأشبه دم البراغيث وإن كان كثيرا لم يعف عنه
فصل : سئل أحمد عن خباز خبز خبزا فباع منه ثم نظر في الماء عجن منه فإذا فيه فأرة فقال لا يبيع الخبز من أحد وإن باعه استرده فإن لم يعرف صاحبه تصدق بثمنه ويطعمه من الدواب ما لا يؤكل لحمه ولا يطعم لما يؤكل إلا أن يكون إذا أطعمه لم يذبح حتى يكون له ثلاثة أيام على معنى الجلالة قيل له أليس [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تنتفعوا من الميتة ] ؟ قال ليس هذا بمنزلة الميت إنما اشتبه عليه قيل له فهو بمنزلة كسب الحجام يطعم الناضح والرقيق ؟ قال هذا أشد عندي لا يطعم الرقيق لكن يعلفه البهائم قيل له أن الحجة ؟ قال حدثنا عبد الصمد عن صخر عن نافع [ عن ابن عمر أن قوما اختبزوا من آبار الذين مسخوا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أطعموه النواضح ]
فصل : قال أحمد لا أرى أن يطعم كلبه المعلم الميتة ولا الطير المعلم لأنه يضريه على الميتة فإن أكل الكلب فلا أرى صاحبه حرجا ولعل أحمد كره أن يكون الكلب المعلم إذا صار وقتل أكل منه لتضريته بإطعامه الميتة ولم يكره مالك إطعام كلبه وطيره الميتة لأنه غير مأكول إذا كان لا يشرب في إنائه
فصل : قال أحمد : أكره أكل الطين ولا يصح فيه حديث إلا أنه يضر بالبدن ويقال أنه رديء وتركه خير من أكله وإنما كرهه أحمد لأجل مضرته فإن كان منه ما تدواى به كالطين الأرمني فلا يكره وإن كان مما لا مضرة فيه ولا نفع كالشيء اليسير جازأكله لأن الأصل الإباحة والمعنى الذي لأجله كره ما يضر وهو منتف ههنا فلم يكره
فصل : ويكره أكل البصل والثوم والكراث والفجل وكل ذي رائحة كريهة من أجل رائحته سواء أراد دخول المسجد أو لم رد لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس ] رواه ابن ماجة وإن أكله لم يقرب من المسجد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا ] وفي رواية : [ فلا يقربنا في مساجدنا ] رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وليس أكلها محرما [ لما روى أبو أيوب أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث إليه بطعام لم يأكل منه النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فيه الثوم فقال يا رسول الله أحرام هو ؟ قال لا ولكنني أكرهه من أجل ريحه ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح [ وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعلي : كل الثوم فلولا أن الملك يأتيني لأكلته ] وإنما منع أكلها يؤذيي الناس برائحته ولذلك نهى عن قربان المساجد فإن أتى المساجد كره له ذلك ولم يحرم عليه [ لما روى المغيرة بن شعبة قال : أكلت ثوما مصلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد سبقت بركعة فلما دخلت المسجد وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ريح الثوم فلما قضى صلاته قال : من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا حتى يذهب ريحها فجئت فقلت يا رسول الله صلى الله عليه و سلم لتعطني يدك قال فادخلت يده في كم قميصي إلى صدري فإذا أنا معصوب الصدر فقال : إن لك عذرا ] رواه أبو داود وقد روي عن أحمد أنه يأثم لأن ظاهر النهي التحريم ولأن أذى المسلمين حرام وهذا فيه أذاهم
فصل : ويكره أكل الغدة واذن القلب لما [ روي عن مجاهد قال كره رسول الله صلى الله عليه و سلم من الشاة ستا وذكر هذين ] ولأن النفس تعافهما وتستخبثهما ولا أظن أحمد كرههما إلا لذلك لا للخبر لأنه قال فيه هذا حديث منكر ولأن في الخبر ذكر الطحال وقد قال أحمد لا بأس به ولا أكره منه شيئا
فصل : وقيل لأبي عبد الله الجبن ؟ قال : يؤكل من كل وسئل عن الجبن الذي صنعه المجوس فقال ما أدري إلا أن أصح حديث فيه حديث الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل قال سئل عمر عن الجبن وقيل له يعمل فيه الأنفحة الميتة فقال : سموا أنتم وكلوا رواه معاوية عن الأعمش وقال : أليس الجبن الذي نأكله عامته يصنعه المجوس ؟
فصل : ولا يجوز أن يشتري الجوز الذي يتقامر به الصبيان ولا البيض الذي يتقامرون به يوم العيد لأنهم يأخذونه بغير حق (11/88)
فصل في الضيافة
قال أحمد والضيافة على كل المسلمين كل من نزل عليه ضيف كان عليه أن يضيفه قيل أن ضاف الرجل ضيف كافر يضيفه ؟ قال [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم ] وهذا الحديث بين ولما أضاف المشرك دل على أن المسلم والمشرك يضاف وأنا أراه كذلك والضيافة معناها معنى صدقة التطوع على المسلم والكافر واليوم والليلة حق واجب وقال الشافعي ذلك مستحب وليس بواجب لأنه غير مضطر إلى طعامه فلم يجب عليه بذله كما لو لم يضفه
ولنا ما روى المقدام بن أبي كريمة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليلة الضيف حق واجب فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه إن شاء اقتضى وإن شاء ترك ] حديث صحيح وفي لفظه : [ ايما رجل ضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن نصره على كل مسلم حتى يأخذ بحقه من زرعه وماله ] رواه أبو داود والواجب يوم ليلة والكمال ثلاثة أيام لما روى أبو شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الضيافة ثلاثة أيام وجائزته يوم ليلة ولا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه قالوا يا رسول الله كيف يؤثمه ؟ قال : يقيم عنده وليس عنده ما يقريه ] متفق عليه قال أحمد جائزته يوم وليلة كأنه أوكد من سائر الثلاثة ولم يرد يوما وليلة سوى الثلاثة لأنه يصير أربعة أيام وقد قال وما زاد على الثلاثة فهو صدقة فإن امتنع من إضافته فللضيف بقدر ضيافته [ قال أحمد له أن يطالبهم بحقه الذي جعله له النبي صلى الله عليه و سلم ولا يأخذ شيئا إلا بعلم أهله وعنه رواية أخرى أن له أن يأخذ ما يكفيه بغير إذنهم لما روى عقبة بن عامر قال قلنا يا رسول الله انك تبعثنا فننزل بقوم لا يقروننا قال : إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ] متفق عليه وقال أحمد في تفسير قول النبي صلى الله عليه و سلم [ فله أن يعقبهم بمثل قراه ] يعني أن يأخذ من أرضهم وزرعهم وضرعهم بقدر ما يكفيه بغير إذنه وعن أحمد رواية أخرى أن الضيافة على أهل القرى دون أهل الأمصار قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الضيافة أي شيء تذهب فيها ؟ قال هي مؤكدة وكأنها على أهل الطرق والقرى الذين ير بهم الناس أوكد فأ مثلنا الآن فكأنه ليس مثل أولئك (11/91)
فصول فيما يستحب عند الطعام وفي آداب الأكل
فصل : قال المروذي سألت أبا عبد الله قلت تكره الخبز الكبار قال نعم أكرهه ليس فيه بركة إنما البركة في الصغار وقال مرهم أن لا يخبزوا كبارا قال رأيت أبا عبد الله يغسل يديه قبل الطعام وبعده وإن كان على وضوء وقال مهنا ذكرت ليحيى بن معين حديث قيس بن الربيع عن أبي هاشم عن زادان عن سلمان عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ بركة الطعام الوضوء قبله وبعده ] فقال لي يحيى ما أحسن الوضوء قبله وبعده وذكرت الحديث لـ أحمد فقال ما حدث بهذا إلا قيس بن الربيع وهو منكر الحديث قلت بلغني عن يحيى بن سعيد قال كان سفيان يكره غسل اليد عند الطعام لم كره سفيان ذلك ؟ قال لأنه من زي العجم قلت بلغني عن يحيى بن سعيد قال كان سفيان يكره أن يكون تحت القصعة الرغيف لم كرهه سفيان ؟ قال كره أن يستعمل الطعام قلت تكرهه أنت ؟ قال نعم وروي عن عقيل قال حضرت مع ابن شهاب وليمة ففرشوا المائدة بالخبز فقال لا تتخذوا الخبز بساطا وقال المروذي قلت لأبي عبد الله إن أبا معمر قال إن أبا أسامة قدم اليهم خبزا فكسره قال هذا لئلا تعرفوا كم تأكلون وقيل لأبي عبد الله يكره الأكل متكئا ؟ قال أليس [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا آكل متكئا ] رواه أبو داود و [ عن شعيب بن عبد الله بن عمرو عن أبيه قال ما رئي رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل متكئا قط ] رواه أبو داود و [ عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأكل الرجل وهو منبطح ] رواه أبو داود
فصل : وتستحب التسمية عند الطعام وحمد الله عند آخره لما [ روى عمر بن أبي مسلمة قال : أكلت مع النبي صلى الله عليه و سلم فجالت يدي في القصعة فقال : سم الله كل بيمينك وكل مما يليك قال فما زالت أكلتي بعد ] رواه ابن ماجة : بمعناه و أبو داود وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي هريرة قال : لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ للطاعم الشاكر مثل ما للصائم الصابر ] قال أحمد معناه إذا أكل وشرب يشكر الله ويحمده على ما رزقه وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسي إن يذكر اسم الله في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره ] رواه أبو داود وعن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من أكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه ] [ عن أبي سعيد قال كان النبي صلى الله عليه سلم إذا أكل طعاما قال : الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ] [ عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا رفع طعامه أو ما بين يديه قال : الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه غير مكفى ولا مودع ] رواهن ابن ماجة
فصل : ويأكل بيمينه ويشرب بها لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه سلم قال : [ إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ] رواه مسلم و أبو داود و ابن ماجة
ويستحب الأكل بثلاث أصابع لما روى كعب بن مالك قال [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يأكل بثلاث أصابع ولا يمسح يده حتى يلعقها ] رواه الإمام أحمد وذكر له حديث ترويه ابنة الزهري أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأكل بكفه كلها فلم يصححه ولم ير ثلاث أصابع وروي عن أحمد أنه أكل خبيصا بكفه كلها وروي عن عبد الله بن بريدة أنه كان ينهى بناته أن يأكلن بثلاث أصابع وقال : لا تشبهن الرجال
فصل : قال مهنا : سألت أحمد عن حديث عائشة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقطعوا اللحم بالسكين فإن ذلك صنيع الأعاجم ] فقال ليس بصحيح لا نعرف هذا وقال حديث عمرو بن أمية الضمري خلاف هذا [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يختز من لحم الشاة فقام إلى الصلاة وطرح السكين ] وحديث مسعر عن جامع بن شداد عن المغيرة اليشكري [ عن المغيرة بن شعبة : ضفت برسول الله صلى الله عليه و سلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي ثم أخذ الشفرة فجعل يحز فجاء بلال يؤذنه بالصلاة فألقى الشفرة ] قال وسألت أحمد عن حديث أبي جحيفة [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : اكفف جشاءك يا أبا جحيفة فإن أكثركم شبعا اليوم أكثركم جوعا يوم القيامة ] فقال هو ويحيى جميعا ليس بصحيح
فصل : [ وروي عن ابن عباس قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه و سلم ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في الإناء ] و [ عن أنس قال ما أكل النبي صلى الله عليه و سلم على خوان ولا في سكرجة ] قال قتادة فعلام كانوا يأكلون ؟ قال على السفر [ وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يقام على الطعام حتى يرفع ] وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا وضعت المائدة فلا يقم رجل حتى ترفع المائدة ولا يرفع يده وإن شبع حتى يفرغ القوم وليعذر فإن الرجل يخجل جليسه فيقبض يده وعسى أن يكون له في الطعام حاجة ] وعن نبيشة قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أكل في قصعة فلحسها استغفرت له القصعة ] وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يمسح أحدكم يده حتى يلعقها فإنه لا يدري في أي طعامه البركة ] رواهن ابن ماجة
فصل : وسئل أبو عبد الله عن غسل اليد بالنخالة فقال لا بأس به نحن نفعله وسئل عن الرجل يأتي القوم وهم على طعام فجأة لم يدع إليه فلما دخل إليهم دعوه هل يأكل ؟ قال نعم ومابأس وسئل عن حديث النبي صلى الله عليه و سلم أنه ادخر لأهله قوت سنة هو صحيح ؟ قال نعم ولكنهم يختلفون في لفظه
فصل : [ عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم جاء إلى سعد بن عبادة فجاء بخبز وزيت فأكل ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم : أفطر عندكم الصائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة ] و [ عن جابر قال : صنع أبو الهيثم بن التيهان للنبي صلى الله طعاما فدعا النبي وأصحابه فلما فرغوا قال : اثيبوا أخاكم قالوا يا رسول الله وما إثابته ؟ قال : إن الرجل إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فذلك إثابته ] رواه أبو داود والله أعلم (11/92)
مسألة الأضحية سنة
الاصل في مشروعية الأضحية الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه : { فصل لربك وانحر } قال بعض أهل التفسير المراد بالأضحية بعد صلاة العيد [ أما السنة فما روى أنس قال ضحى النبي صلى الله عليه و سلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما ] متفق عليه والأملح الذي بياض وسواد بياضه أغلب قال الكسائي وقال ابن الأعرابي هو النقس البياض قال الشاعر :
( حتى أكتسى الرأس قناعا أشيبا ... أملح لا لدا ولا محببا )
وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية
مسألة : قال : والأضحية سنة لا يستحب تركها لمن يقدر عليها
أكثر أهل العلم يرون الأضحية سنة مؤكدة غير واجبة روي ذلك عن أبي بكر عمر بلال و أبي مسعود البدري رضي الله عنهم وبه قال سويد بن عفلة و سعيد بن المسيب و علقمة والأسود عطاء و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال ربيعة و مالك و الثوري و الأوزاعي و الليث و أبو حنيفة هي واجبة لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا ] وعن محنف بن سليم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يا أيها الناس : إن على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة ]
ولنا ما روى الدار قطني بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاث كتبت علي وهن لكم تطوع ] وفي رواية : [ الوتر والنحر وركعتا الفجر ] ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئا ] رواه مسلم علقه على الارادة والواجب لا يعلق على الإرادة ولأنها ذبيحة لا يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة فأما حديثهم فقد ضعفه أصحاب الحديث ثم نحمله على تأكيد الإستحباب كما قال : [ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] وقال : [ من أكل من هاتين الشجرتين فلا يقربن مصلانا ] وقد روي عن أحمد في اليتيم : يضحي عنه وليه إذا كان موسرا وهذا على سبيل التوسعة في يوم العيد لا على سبيل الإيجاب (11/95)
فصل الأضحية أفضل من الصدقة
والأضحية أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه أحمد وبهذا قال ربيعة و أبو داود و أبو الزناد وروي عن بلال أنه قال : ما أبالي أن لا أضحي إلا بديك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فوه فهو أحب إلي من أن أضحي وبهذا قال الشعبي و ابو ثور وقالت عائشة : لأن أتصدق بخاتمي هذا أوجب إلي من أن أهدي إلى البيت ألفا
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى والخلفاء بعده ولو علموا أن الصدقة أفضل لعدلوا إليها وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ماعمل ابن آدم يوم النحر عملا أحب الله من اراقه دم وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها واظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطيبوا بها نفسا ] رواه ابن ماجة ولأن إيثار الصدقة على الأضحية يفضي إلى ترك سنة سنها رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما قول عائشة فهو في الهدي دون الأضحية وليس الخلاف فيه (11/96)
مسألة حكم من أراد أن يضحي فدخل العشر
مسألة : قال : ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته شيئا
ظاهر هذا تحري قص الشعر وهو قول بعض أصحابنا وحكاه ابن المنذر عن أحمد و إسحاق و سعيد بن المسيب وقال القاضي وجماعة من أصحابنا هو مكروه غير محرم وبه قال مالك و الشافعي لقول عائشة كنت أفتل قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم يقلدها بيده ثم يبعث بها ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي متفق عليه وقال أبو حنيفة لا يكره ذلك لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس فلا يكره له حلق الشعر وتقليم الأظفار كما لو لم يرد أن يضحي
ولنا ما روت أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من اظفاره شيئا حتى يضحي ] رواه مسلم ومقتضى النهي التحريم وهذا يرد القياس ويبطله وحديثهم عام وهذا خاص يجب تقديمه بتنزيل العام على ما عدا ما تناوله الحديث الخاص ولأنه يجب حمل حديثهم على غير محل النزاع لوجوه منها : أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن ليفعل مانهى عنه وإن كان مكروها قال الله تعالى إخبارا عن شعيب : { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } ولأن أقل أحوال النهي أن يكون مكروها ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليفعله فيتعين حمل ما فعله في حديث عائشة على غيره ولأن عائشة تعلم ظاهرا ما يباشرها به من المباشرة أو ما يفعله دائما كاللباس والطيب فأما ما يفعله نادرا كقص الشعر وقلم الأظفار مما لا يفعله في الأيام إلا مرة فالظاهر أنها لم ترده بخبرها وإن احتمل أرادتها إياه فهو احتمال بعيد وما كان هكذا فاحتمال تخصيصه قريب فيكفي فيه أدنى دليل وخبرنا دليل قوي فكان أولى بالتخصيص ولأن عائشة تخبر عن فعله وأم سلمة عن قوله والقول يقدم على الفعل لاحتمال أن يكون فعله خاصا له إذا ثبت هذا فإنه يترك قطع الشعر وتقليم الأظفار فإن فعل استغفر الله تعالى ولا فدية فيه إجماعا سواء فعله عمدا أو نسيانا (11/96)
مسألة تجزىء البدنة عن سبعة وكذلك البقرة
مسألة : قال : وتجزىء البدنة عن سبعة وكذلك البقرة
وهذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء و طاوس و سالم و الحسن و عمرو بن دينار و الثوري و الأوزاعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن عمر أنه قال لا تجزىء نفس واحدة عن سبعة ونحوه قول مالك قال أحمد ماعلمت أحدا لا يرخص في ذلك إلا ابن عمر وعن سعيد بن المسيب أن الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة وبه قال إسحاق لما روى رافع [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير ] متفق عليه [ وعن ابن عباس قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في الجزور عن عشرة والبقرة عن سبعة ] رواه ابن ماجة
ولنا ما روى جابر قال : [ نحرنا بالحديبية مع النبي صلى الله عليه و سلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وقال أيضا كنا نتمتع مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها ] رواه مسلم وهذا إن صح من حديثهم وأما حديث رافع فهو في القسمة لا في الأضحية إذا ثبت هذا فسواء كان المشتركون من أهل بيت أو لم يكونوا مفترضين أو متطوعين أو كان بعضهم يريد القربة وبعضهم يريد اللحم لأن كل إنسان منهم إنما يجزىء عنه نصيبه فلا تضره نية غيره في عشرة (11/97)
فصل لا بأس أن يذبح الرجل عن أهله شاة واحدة
ولا بأس أن يذبح الرجل عن أهل بيته شاة واحدة أو بقرة أو بدنة نص عليه أحمد وبه قال مالك و الليث و الأوزاعي و إسحاق [ وروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة قال صالح قلت لأبي يضحي بالشاة عن أهل البيت ؟ قال نعم لا بأس قد ذبح النبي صلى الله عليه و سلم كبشين فقرب أحدهما فقال : بسم الله اللهم هذا عن محمد وأهل بيته وقرب الآخر فقال : بسم الله اللهم هذا منك ولك عمن وحدك من أمتي ] وحكي عن أبي هريرة أنه كان يضحي بالشاة فتجيء ابنته فتقول عني ؟ فيقول وعنك وكره ذلك الثوري و أبو حنيفة لأن الشاة لا تجزىء عن أكثر من واحد فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزىء عنهما كالأجنبيين
ولنا ما روى مسلم بإسناده عن عائشة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بكبشين ليضحي به فأضجعه ثم ذبحه ثم قال : بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ] وعن جابر قال [ ذبح رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الذبح كبشين أملحين أقرنين فلما وجههما قال : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر ] ثم ذبح رواه أبو داود وروى ابن ماجة عن أبي أيوب قال [ كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه و سلم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون الناس ] حديث حسن صحيح (11/98)
فصلان ترتيب الأضاحي والسنة استسمانها
وافضل الأضاحي البدنة ثم البقرة ثم الشاة ثم شرك في بقرة وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و قال مالك الأفضل الجذع من الضأن ثم البقرة ثم البدنة لأن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين ولا يفعل إلا الأفضل ولو علم الله خيرا منه لفدى إسحاق به
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في الجمعة : من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ] ولأنه ذبح يتقرب به إلى الله تعالى البدنة فيه أفضل كالهدي فإنه قد سلمه ولأنها أكثر ثمنا ولحما وأنفع فأما التضحية بالكبش فلأنه أفضل أجناس الغنم وكذلك حصول الفداء به أفضل والشاة أفضل من شرك في بدنة لأن اراقة الدم مقصودة في الأضحية والمنفرد يتقرب بإراقته كله والكبش أفضل الغنم لأنه أضحية النبي صلى الله عليه و سلم وهو أطيب لحما [ وذكر القاضي أن جذع الضأن أفضل من ثني المعز لذلك ولأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : نعم الأضحية الجذع من الضأن وهو حديث غريب ويحتمل أن الثني أفضل لقول النبي صلىالله عليه وسلم : لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر علكم فاذبحوا الجذع من الضأن ] رواه مسلم و أبو داود وهذا يدل على فضل الثني على الجذع لكونه جعل الثني أصلا والجذع بدلا لا ينتقل إليه إلا عند عدم الثني
فصل : ويسن استسمان الأضحية واستحسانها لقول الله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } قال ابن عباس تعظيمها استسمانها واستعظامها واستحسانها ولأن ذلك أعظم لأجرها وأكثر لنفعها والأفضل في الأضحية من الغنم في لونها البياض لما روي عن مولاة أبي ورقة بن سعيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دم عفراء أزكى عند الله من دم سوداوين ] رواه أحمد بمعناه وقال أبو هريرة : [ دم بيضاء أحب إلى الله من دم سوداوين ] ولأنه لون الأضحية النبي صلى الله عليه و سلم ثم ما كان أحسن لونا فهو أفضل (11/99)
مسألتان و فصلان ما لا يجزىء من الأضحية معنى الجذع من الضأن
مسألة : قال : ولا يجزىء إلا الجذع من الضأن والثني من غيره
وبهذا قال مالك و الليث و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال ابن عمر و الزهري لا يجزىء الجذع لأنه لا يجزىء من غير الضأن فلا يجزىء منه كالحمل وعن عطاء و الأوزاعي فلا يجزىء الجذع من جميع الأجناس لما روى مجاشع ابن سليم قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن الجذع يوفي مما يوفى منه الثني ] رواه أبو داود و النسائي
ولنا أن الجذع من الضأن يجزىء حديث مجاشع وأبي هريرة وغيرهما وعلى أن الجذعة من غيرها لا تجزىء قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تذبحوا إلا مسنة فإن عسر عليكم فاذبحوا الجذع من الضأن وقال أبو بردة بن نيار عندي جذعة أحب إلي من شاتين فهل تجزىء عني ؟ قال : نعم ولا تجزىء عن أحد بعدك ] متفق عليه وحديثهم محمول على الجذع من الضأن لما ذكرنا قال إبراهيم الحربي إنما يجزىء الجذع من الضأن لأنه ينزو فيلقح فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يكون ثنيا
فصل : ولا يجزىء في الأضحية غير بهيمة الأنعام وإن كان أحد أبويه وحشيا لم يجزىء أيضا وحكي عن الحسن بن صالح أن بقرة الوحش تجزىء عن سبعة والظبي عن واحد وقال أصحاب الرأي : ولد البقرة الأنسية يجزىء وإن كان أبوه وحشيا وقال أبو ثور يجزىء إذا كان منسوبا إلى بهيمة الأنعام
ولنا قول الله تعالى : { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم وعلى أصحاب الرأي أنه متولد من بين ما يجزىء وما لا يجزىء فلم يجزىء كما لو كانت الأم وحشية
مسألة : قال : والجذع من الضأن ما له ستة أشهر ودخل في السابع
قال أبو القاسم وسمعت أبي يقول سألت بعض أهل البادية كيف تعرفون الضأن إذا أجذع ؟ قال لا تزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملا فإذا قامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية والبقرة إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة والإبل إذا كمل لها خمس سنين ودخلت في السادسة قال الأصمعي وأبو زياد الكلابي وأو زيد الأنصاري : إذا مضت السنة الخامسة على البعير ودخل في السادسة والقى ثنيته فهو حينئذ ثني ونرى إنما سمي ثنيا لأنه ألقى ثنيته وأما البقرة فهي التي لها سنتان لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تذبحوا إلا مسنة ] ومسنة البقرة التي لها سنتان وقال وكيع : الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أو ستة أشهر (11/100)
مسألة فيما يجتنب من الضحايا
مسألة : قال : ويجتنب في الضحايا العوراء البين عورها والعجفاء التي لا تنقي والعرجاء البين عرجها والمريضة التي لا يرجى برؤها والعضباء والعضب ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن
أما العيوب الأربعة الأول فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في أنها تمنع الأجزاء لما روى البراء قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والعجفاء التي لا تنقي ] رواه أبو داود و النسائي ومعنى العوراء البين عورها التي قد انخسفت عينها وذهبت لأنها قد ذهبت عينها والعين عضو مستطاب فإن كان على عينها بياض ولم تذهب جازت التضحية بها لأن عورها ليس ببين ولا ينقص ذلك لحمها والعجفاء المهزولة التي لا تنقي هي التي لا مخ لها في عظامها لهزالها والنقي المخ قال الشاعر :
( لا تشكين عملا ما أنقين ... ما دام مخ في سلامى أو عين )
فهذه لا تجزىء لأنها لا لحم فيها إنما هي عظام مجتمعة وأما العرجاء البين عرجها فهي التي بها عرج فاحش وذلك يمنعها من اللحاق بالغنم فتسبقها إلى الكلأ فيرعينه ولا تدركهن فينقص لحمها فإن كان عرجا يسيرا لا يفضي بها إلى ذلك أجزأت وأما المريضة التي لا يرجى برؤها فهي التي بها مرض قد يئس من زواله لأن ذلك ينقص لحمها وقيمتها نقصا كبيرا والذي في الحديث المريضة البين مرضها وهي التي يبين أثره عليها لأن ذلك ينقص لحمها ويفسده وهو أصح وذكر القاضي أن المراد بالمريضة الجرباء لأن الجرب يفسد اللحم ويهزل إذا كثر وهذا قول أصحاب الشافعي وهذا تقييد للمطلق وتخصيص للعموم بلا دليل فالمعنى يقتضي العموم كما يقتضيه اللفظ فإن كان المرض يفسد اللحم وينقصه فلا معنى للتخصيص مع عموم اللفظ والمعنى
وأما العضب فهو ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن وذلك يمنع الأجزاء أيضا وبه قال النخعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة و الشافعي تجزىء مكسورة القرن وروي نحو ذلك عن علي وعمار و ابن المسيب و الحسن و قال مالك أن كان قرنها يدمى لم يجز وإلا جاز وقال عطاء و مالك إذا ذهبت الأذن كلها لم يجز وان ذهب يسير جاز واحتجوا بأن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أربع لا تجوز في الأضاحي ] يدل على أن غيره يجزىء ولأن في حديث البراء عن عبيد بن فيروز قال : قلت للبراء فإني أكره النقص من القرن ومن الذنب فقال أكره لنفسك ما شئت وإياك أن تضيق على الناس ولأن المقصود اللحم ولا يؤثر ذهاب ذلك فيه
[ ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يضحى بأعضب القرن والأذن ] قال قتادة فسألت سعيد بن المسيب فقال نعم العضب النصف فأكثر من ذلك رواه الشافعي و ابن ماجة [ وعن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن ] رواه أبو داود و النسائي وهذا منطوق يقدم على المفهوم (11/101)
فصول لا تجزىء العمياء و تجزىء الخصي وتجزىء الجماء وتكره المشقوقة الأذن
فصل : ولا تجزىء العمياء لأن النهي عن العوراء تنبيه على العمياء وإن لم يكن عماها بينا لأن العمى يمنع مشيها مع الغنم ومشاركتها في العلف ولا تجزىء ما قطع منها عضو كالألية والأطباء لأن ابن عباس قال : لا تجوز العجفاء ولا الجداء قال أحمد هي التي قد يبس ضرعها ولأن ذلك أبلغ في الإخلال بالمقصود من ذهاب شحمة العين
فصل : ويجزىء الخصي ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين موجوءين ] والوجأ رض الخصيتين وما قطعت خصيتاه أو شلتا فهو كالموجوء لأنه في معناه ولأن الخصاء ذهاب عضو غير مستطاب بطيب اللحم بذهابه ويكثر ويسمن قال الشعبي ما زاد في لحمه وشحمه أكثر مما ذهب منه وبهذا قال الحسن و عطاء و الشعبي و النخعي و مالك و الشافعي و أبو ثور و أصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا
فصل : وتجزىء الجماء وهي التي لم يخلق لها قرن والصمعاء وهي الصغيرة الأذن والبتراء وهي التي لا ذنب لها سواء كان خلقة أو مقطوعا وممن لم ير بأسا بالبتراء ابن عمر و سعيد بن المسيب و الحسن وسعيد بن جبير و النخعي و الحكم و كره الليث أن يضحى بالبتراء ما فوق القصبة
وقال ابن حامد لا تجوز التضحية بالجماء لأن ذهاب أكثر من نصف القرن يمنع فذهاب جميعه أولى ولأن ما منع منه العور منع منه العمى وكذلك ما منع منه العضب يمنع منه كونه أجم أولى
ولنا أن هذا نقص لا ينقص اللحم ولا يخل بالمقصود ولم يرد به نهي فوجب أن يجزىء وفارق العضب فإن النهي عنه وارد وهو عيب فإنه ربما أدمى وآلم الشاة فيكون كمرضها ويقبح منظرها بخلاف الأجم فإنه حسن في الخلقة ليس بمرض ولا عيب إلا أن الأفضل ما كان كامل الخلقة [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبش أقرن محيل وقال : خير الأضحية الكبش الأقرن ] وأمر باستشراف العين والأذن
فصل : وتكره المشقوقة الأذن والمثقوبة وما قطع شيء منها لما روي عن علي رضي الله عنه قال [ أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء ] قال زهير قلت لأبي إسحاق ما المقابلة ؟ قال تقطع طرف الأذن قلت فما المدابرة ؟ قال تقطع من مؤخرة الأذن قلت فما الخرقاء ؟ قال تشق الأذن قلت فما الشرقاء ؟ قال تشق أذنها السمة رواه أبو داود و النسائي قال القاضي : الخرقاء التي انبثقت أذنها وهذا نهي تنزيه ويحصل الأجزاء بها ولا نعلم فيه خلافا ولأن اشتراط السلامة من ذلك يشق إذ لا يكاد يوجد سالم من هذا كله (11/101)
فصول في الأضحية وحكم ما لو اشترى أضحية فلم يوجبها حتى علم بها عيبا
مسألة : قال : ولو أوجبها سليمة فنابت عنده ذبحها وكانت أضحية
وجملته أنه إذا أوجب أضحية صحيحة سليمة من العيوب ثم حدث بها عيب بمنع الأجزاء ذبحها وأجزأته روي هذا عن عطاء و الحسن و الزهري و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق وقال أصحاب الرأي لا تجزئه لأن الأضحية عندهم واجبة فلا يبرأ منها إلا بإراقة دمها سليمة كما لو أوجبها في ذمته ثم عينها فعابت
ولنا ما [ روى أبو سعيد قال : ابتعنا كبشا نضحي به فأصاب الذئب من الميتة فسألنا النبي صلى الله عليه و سلم فأمرنا أن نضحي به ] رواه ابن ماجة ولأنه عيب حدث في الأضحية الواجبة فلم يمنع الأجزاء كما لو حدث بها عيب بمعالجة الذبح ولا نسلم أنها واجبة في الذمة وإنما تعلق الوجوب بعينها فلما أن تعيبت بفعله فعليه بدلها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا عالج ذحبها فقلعت السكين عينها أجزأت استحسانا
ولنا أنه عيب أحدثه بها قبل ذبحها فلم تجزئه كما لو كان قبل معالجة الذبح
فصل : وإن نذر أضحية في ذمته ثم عينها في شاة تعين فإن عابت تلك الشاة قبل ذبحها لم تجزىء لأن ذمته لا تبرأ إلا بذبح شاة سليمة كما لو نذر رقبة أو كان عليه عتق رقبة في كفارة فاشتراها ثم عابت عنده لم تجزئه وإن قال لله علي عتق هذ العبد فعاب أجزأ عنه
فصل : وإذا أتلف الأضحية الواجبة فعليه قيمتها لأنها من المتقومات وتعتبر القيمة يوم أتلفها فإن غلت الغنم فصار مثلها خيرا من قيمتها فقال أبو الخطاب يلزمه مثلها لأنه أكثر الأمرين ولأنه تعلق بها حق الله تعالى في ذبحها فوجب عليه مثلها كما لو لم تتعيب بخلاف الآدمي وهذا مذهب الشافعي وظاهر قول القاضي أنه لا يلزمه إلا القيمة يوم أتلافها وهو قول أبي حنيفة لأنه إتلاف أوجب القيمة فلم يجب أكثر من القمية يوم الإتلاف كما لو أتلفها أجنبي وكسائر المضمونات فإن رخصت الغنم فزادت فيمتها على مثلها مثل أن كانت قيمتها عند إتلافها عشرة فصارت قيمة مثلها خمسة فعليه عشرة وجها واحدا فإن شاء اشترى بها أضحية واحدة تساوي عشرة وإن شاء اشترى اثنتين وإن شاء اشترى أضحية واحدة فإن فضل من العشرة ما لا يجيء به أضحية اشترى به شركا في بدنة فإن لم يتسع لذلك أو لم تمكنه المشاركة ففيه وجهان
أحدهما : يشتري لحما ويتصدق به لأن الذبح وتفرقة اللحم مقصودان فإذا تعذر أحدهما وجب الآخر
والثاني : يتصدق بالفضل لأنه إذا لم يحصل له التقرب بإراقة الدم كان اللحم وثمنه سواء فإن كان المتلف أجنبيا فعليه قيمتها يوم أتلفها وجها واحدا ويلزمه دفعها إلى صاحبها فإن زاد على ثمن مثلها فحكمه حكم ما لو أتلفها صاحبها وإن لم تبلغ القيمة ثمن أضحية فالحكم فيه على ما مضى فيما زاد على ثمن الأضحية في حق المضحي فإن تلفت الأضحية في يده بغير تفريط أو سرقت أو ضلت فلا شيء عليه لأنها أمانة في يده فلم يضمنها إذا لم يفرط كالوديعة
فصل : وإن اشترى أضحية فلم يوجبها حتى علم بها عيبا فله ردها إن شاء وإن شاء أخذ أرشها ثم إن كان عيبها يمنع إجزاءها لم يكن له التضحية بها وإلا فله أن يضحي بها ولا أرش له وإن أوجبها ثم علم أنها معيبة فذكر القاضي أنه مخير بين ردها وأخذ أرشها فإن أخذ أرشها فحكمه حكم الزائد عن قيمة الأضحية على ما ذكرناه ويحتمل أن يكون الأرش له لأن إيجابها إنما صادفها بدون هذا الذي أخذ أرشه فلم يتعلق الإيجاب بالأرش ولا بمبدله فأشبه ما لو تصدق بها ثم أخذ أرشها وعلى قول أبي الخطاب لا يملك ردها لأنه قد زال ملكه عنها بإيجابها فأشبه ما لو اشترى عبدا معيبا فأعتقه ثم علم عيبه وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا يتعين أخذ الأرش وفي كون الأرش للمشتري ووجوبه في التضحية وجهان ثم ننظر فإن كان عيبها لا يمنع أجزاءها فقد صح إيجابها والتضحية بها وإن كان عيبها يمنع إجزاءها فحكمه حكم ما لو أوجبها عاملا بعيبها على ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى (11/104)
مسألة إذا ذبحت الأضحية ذبح ولدها معها
مسألة : قال : وإن ولدت ذبح ولدها معها
وجملته أنه إذا عين أضحية فولدها تابع لها حكمه حكمها سواء كان حملا حين التعيين أو حدث بعده وبهذا قال الشافعي وعن أبي حنيفة لا يذبحه ويدفعه إلى المساكين حيا وإن ذبحه دفعه إليهم مذبوجا وأرش ما نقصه الذبح لأنه من نمائها لزمه دفعه إليهم على صفته كصوفها وشعرها
ولنا أن استحقاق ولدها حكم يثبت لولد بطريق السراية من الأم فيثبت له ما يثبت لها كولد أو الولد والمدبرة إذا ثبت هذا فإنه يذبحه كما يذبحها لأنه صار أضحية على وجه التبع لأمه ولا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ولا تأخيره عن أيامه كأمه
وقد روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا سأله فقال يا أمير المؤمنين إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها وأنها وضعت هذا العجل ؟ فقال علي لا تحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة رواه سعيد بن منصور عن أبي الأحوص عن زهير العبسي عن المغيرة بن حذف عن علي (11/106)
فصلان حكم لبن الأضحية وصوفها
فصل : ولا يشرب من لبنها إلا الفاضل عن ولدها فإن لم يفضل عنه شيء أو كان الحلب يضر بها أو ينقص لحمها لم يكن له أخذه وإن لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحلبها ويرش على الشرع الماء حتى ينقطع اللبن فإن احتلبها تصدق به لأن اللبن متولد من الأضحية الواجبة فلم يجز للمضحي الانتفاع به كالولد
ولنا قول علي رضي الله عنه لا يحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها ولأنه انتفاع لا يضرها فأشبه الركوب ويفارق الولد فإنه يمكن أيصاله إلى محله أما اللبن فإن حلبه وتركه وإن لم يحلبه تعقد الضرع وأضر بها فجوز له شربه وإن تصدق به كان أفضل وإن احتلب ما يضر بها أو بولدها لم يجز له وعليه أن يتصدق به فإن قيل فصوفها وشعرها ووبرها إذا جزه تصدق به ولم ينتفع به فلم أجزتم له الانتفاع باللبن ؟ قلنا الفرق بينهما من وجهين أحدهما : أن لبنها يتولد من غذائها وعلفها وهو القائم به فجاز صرفه إليه كما أن المرتهن إذا علف الرهن كان له أن يحلب ويركب وليس له أن يأخذ الصوف ولا الشعر
الثاني : ان الصوف والشعر ينتفع به على الدوام فجرى مجرى جلدها وأجزائها واللبن يشرب ويؤكل شيئا فشيئا فجرى مجرى منافعها وركوبها ولأن اللبن يتجدد كل يوم والصوف والشعر عين موجودة دائمة في جميع الحول
فصل : وأما صوفها فإن كان جزه أنفع لها مثل أن يكون في زمن الربيع تخف بجزه وتسمن جاز جزه ويتصدق به وإن كان لا يضر بها لقرب مدة الذبح أو كان بقاؤه أنفع لها لكونه يقيها الحر والبرد لم يجز له أخذه كما أنه ليس له أخذ بعض أجزائها (11/106)
مسألتان في إيجاب الأضحية
مسألة : قال : وإيجابها أن يقول هي أضحية
وجملة ذلك أن الذي تجب به الأضحية وتتعين به هو القول دون النية وهذا منصوص الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة إذا اشترى شاة أو غيرها بنية الأضحية صارت أضحية لأنه مأمور بشراء أضحية فإذا اشتراها بالنية وقعت عنها كالوكيل
ولنا أنه إزالة ملك على وجه القربة فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف ويفارق البيع فإنه لا يمكنه جعله لموكله بعد إيقاعه وههنا بعد الشراء يمكنه جعلها أضحية فأما إذا قال هذه أضحية صارت واجبة كما يعتق العبد بقول سيده هذا حر ولو أنه قلدها أو أشعرها ينوي به جعلها أضحية لم تصر أضحية حتى ينطق به لما ذكرنا
مسألة : قال : ولو أوجبها ناقصة ذبحها لم تجزئه
يعني إذا كانت ناقصة نقصا يمنع الأجزاء فأوجبها وجب عليه ذبحها لأن إيجابها كالنذر لذبحها فيلزمه الوفاء به ولأن إيجابها كنذر هدي من غير بهيمة الأنعام فإنه يلزمه الوفاء به ولا يجزئه عن الأضحية الشرعية ولا تكون أضحية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أربع لا تجزىء في الأضاحي ] ولكنه يذبحها ويثاب على ما تصدق به منها كما يثاب على الصدقة بما لا يصلح أن يكون هديا وكما لو أعتق عن كفارته عبدا لا يجزىء في الكفارة إلا أنه ههنا لا يلزمه بدلها لأن الأضحية في الأصل غير واجبة ولم يوجد منه ما يوجبها وإن كانت الأضحية واجبة عليه مثل من نذر أضحية في ذمته أو أتلف أضحيته التي أوجبها لم تجزئه هذه عما في ذمته فإن زال عيبها كأن كانت عجفاء فزال عجفها أو مريضة فبرأت أو عرجاء فزال عرجها فقال القاضي قياس المذهب أنها تجزىء وقال أصحاب الشافعي لا تجزىء لأن الإعتبار بحال إيجابها ولأن الزيادة فيها كانت للمساكين كما أن نقصها بعد إيجابها عليهم لا يمنع من كونها أضحية
ولنا أن هذه أضحية يجزىء مثلها فيجزىء كما لو لم يوجبها إلا بعد زوال عينها (11/107)
مسألة لا تباع أضحية الميت في دينه ويأكلها ورثته
مسألة : قال : ولا تباع أضحية الميت في دينه ويأكلها ورثته
يعني إذا أوجب أضحية ثم مات لم يجز بيعها وإن كان على الميت دين لا وفاء له وبهذا قال أبو ثور ويشبه مذهب الشافعي وقال الأوزاعي إن ترك دينا لا وفاء له إلا منها بيت فيه وقال مالك إن تشاجر الورثة فيها باعوها
ولنا أنه تعين ذبحها فلم يصح بيعها في دينه كما لو كان حيا إذا ثبت هذا فإن ورثته يقومون مقامه في الأكل والصدقة والهدية لأنهم يقومون مقام موروثهم فيما له وعليه (11/108)
مسألة فصلان ما يستحب وما يجوز في الأضحية
فصل : واختلفت الرواية هل تجوز التضحية عن اليتيم من ماله ؟ فروي أنه ليس للولي ذلك لأنه إخراج شيء من ماله بغير فلم يجز كالصدقة والهدية وهذا مذهب الشافعي وروي أن للولي أن يضحي عنه إذا كان موسرا وهذا قول أبي حنيفة و مالك قال مالك : إذا كان له ثلاثون دينارا يضحي عنه بالشاة بنصف دينار لأنه إخراج مال يتعلق بيوم العيد فجاز إخراجه من مال اليتيم كصدقة الفطر فعلى هذا يكون هذا يكون إخراجها من ماله على سبيل التوسعة عليه والتطييب لقلبه واشراكه لامثاله في مثل هذا اليوم كما يشتري له الثياب الرفيعة للتجمل والطعام الطيب ويوسع عليه في النفقة وإن لم يجب ذلك ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الروايتين على حالين فالموضع الذي منع التضحية إذا كان اليتيم طفلا لا يعقل التضحية ولا يفرح بها ولا يكسر قلبه بتركها لعدم الفائدة فيها فيحصل إخراج ثمنها تضييع مال لا فائدة فيه والموضع الذي أجازها إذا كان اليتيم يعقلها وينجبر قلبه بها وينكسر بتركها لحصول الفائدة منها والضرر بتفويتها واستدل أبو الخطاب بقول أحمد : يضحي عنه على وجوب الأضحية والصحيح إن شاء الله تعالى ما ذكرناه وعلى كل حال متى ضحى عن اليتيم لم يتصدق بشيء منها ويوفرها لنفسه لأنه لا يجوز الصدقة بشيء من مال اليتيم تطوعا
مسألة : قال : والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها ولو أكل أكثر جاز
قال أحمد نحن نذهب إلى حديث عبد الله يأكل هو الثلث ويطعم من أراد الثلث ويتصدق على المساكين بالثلث قال علقمة : بعث معي عبد الله بهدية فأمرني أن آكل ثلثا وإن أرسل إلى أهل أخيه عتبة بثلث وإن تصدق بثلث وعن ابن عمر قال الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين وهذا قول إسحاق وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر يجعلها نصفين يأكل نصفا ويتصدق بنصف لقول الله تعالى : { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } وقال أصحاب الرأي : [ ما كثر من الصدقة فهو أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم أهدى مائة بدنة وأمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وحسيا من مرقها ونحو خمس بدنات أو ست بدنات وقال : من شاء فليتقطع ولم يأكل منهن شيئا ]
ولنا ماروي عن ان عباس في صفة أضحيه النبي صلى الله عليه و سلم قال ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤال بالثلث رواه الحافظ أبو موسى الأصفهاني في الوظائف وقال حديث حسن ولأنه قول ابن مسعود وابن عمر ولم نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان إجماعا ولأن الله تعالى قال : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } والقانع السائل يقال قنع قنوعا إذا سأل وقنع قناعة إذا رضي قال الشاعر :
( لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع )
والمعتر الذي يعتريك أي ويتعرض لك لتطعمه فلا يسأل فذكر ثلاثة أصناف فينبغي أن يقسم بينهم أثلاثا وأما الآية التي احتج بها أصحاب الشافعي فإن الله تعالى لم يبين قدر المأكول منها والمتصدق به وقد نبه عليه في آيتنا وفسره النبي صلى الله عليه و سلم بفعله وابن عمر بقوله وابن مسعود بأمره وأما خبر أصحاب الرأي فهو في الهدي والهدي يكثر فلا يتمكن الإنسان من قسمه وخذ ثلثه فتتعين الصدقة بها والأمر في هذا واسع فلو تصدق بها كلها أو بأكثرها جاز وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز وقال أصحاب الشافعي يجوز أكلها كلها
ولنا قول الله تعالى قال : { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } وقال : { وأطعموا البائس الفقير } والأمر يقتضي الوجوب وقال بعض أهل العلم يجب الأكل منها ولا تجوز الصدقة بجيمعها للأمر بالأكل منها
ولنا [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نحر خمس بدنات ولم يأكل منهن شيئا وقال : من شاء فليقتطع ] ولأنها ذبيحة يتقرب إلى الله تعالى بها فلم يجب الأكل منها كالعقيقة والأمر للاستحباب أو الإباحة كالأمر بالأكل من الثمار والزرع والنظر إليها
فصل : ويجوز ادخار لحوم الأضاحي فوق في قول عامة أهل العلم ولم يجزه علي ولا ابن عمر وBهما لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الاضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ] رواه مسلم وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنما نهيتكم للذاقة التي ذفت فكلوا وتزودوا وتصدقوا وادخروا ] وقال أحمد فيه أسانيد صحاح فأما علي وابن عمر فلم يبلغهما ترخيص رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد كانوا سمعوا النهي فرووا على ما سمعوا
فصل : ويجوز أن يطعم منها كافرا وبهذا قال الحسن و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك غيرهم أحب إلينا وكره مالك و الليث إعطاء النصراني جلد الأضحية
ولنا أنه طعام له أكله فجاز إطعامه للذمي كسائر طعامه ولأنه صدقة تطوع فجاز إطعامها الذمي والأسير كسائر صدقة التطوع فأما الصدقة الواجبة منها فلا يجزىء دفعها إلى كافر لأنها صدقة واجبة فأشبهت الزكاة وكفارة اليمين (11/109)
مسألة و فصل لا يعطى الجازر بأجرته شيئا من الأضحية وله أن ينتفع بجلدها
مسألة : قال : ولا يعطى الجازر بأجرته شيئا منها
وبهذا قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي ورخص الحسن و عبدالله بن عبيد بن عمير في إعطائه الجلد
ولنا ما [ روى علي رضي الله عنه قال : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر شيئا منها وقال : نحن نعطيه من عندنا ] متفق عليه ولأن ما يدفعه إلى الجزار أجرة عوض عن عمله وجزارته ولا تجوز المعاوضة بشيء منها فأما أن دفع إليه لفقره أو على سبيل الهدية فلا بأس لأنه مستحق للأخذ فهو كغيره بل هو أولى لأنه باشرها وتاقت نفسه إليها
مسألة : قال : وله أن ينتفع بجلدها ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئا منها
وجملة ذلك أنه لا يجوز بيع شيء من الأضحية لا لحمها ولا جلدها واجبة كانت أو تطوعا لأنها تعينت بالذبح قال أحمد لا يبيعها ولا يبيع شيئا منها وقال : سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها الله تبارك وتعالى ؟ وقال الميموني قالوا لأبي عبد الله فجلد الأضحية يعطاه السلاح ؟ قال لا وحكى قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا يعطى الجازر في جزارتها شيئا منها ] ثم قال إسناده جيد وبهذا قال أبو هريرة وهو مذهب الشافعي ورخص الحسن و النخعي في الجلد أن يبيعه ويشتري به الغربال والمنخل وآلة البيت وروي نحو هذا عن الأوزاعي لأنه ينتفع به هو وغيره فجرى مجرى تفريق اللحم وقال أبو حنيفة يبيع ما شاء منها ويتصدق بثمنه وروي عن ابن عمر أنه يبيع الجلد ويتصدق بثمنه وحكاه ابن المنذر عن أحمد و إسحاق
ولنا أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقسم جلودها وجلالها ونهيه أن يعطى الجازر شيئا منها ولأنه جعله لله تعالى فلم يجز بيعه كالوقف وما ذكروه في شراء آلة البيت يبطل باللحم لا يجوز بيعه بآلة البيت وإن كان ينتفع به فأما جواز الانتفاع بجلودها وجلالها فلا خلاف فيه لأنه جزء منها فجاز للمضحي الإنتفاع به كاللحم وكان علقمة ومسروق يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه
[ وروت عائشة قالت : قلت يا رسول الله قد كانوا ينتفعون من ضحاياهم يجملون منها الودك ويتخذون منها الاسقية قال : ما ذاك ؟ قالت نهيت عن إمساك لحوم الأضاحي فوق ثلاث قال : إنما نهيتكم للذاقة التي ذفت فكلوا وتزودوا وتصدقوا ] حديث صحيح رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها ولأنه انتفاع له فجاز كلحمها (11/111)
مسألة حكم إبدال الأضحية
مسألة : قال : ويجوز أن يبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها
هذا المنصوص عن أحمد وبه قال عطاء و مجاهد و عكرمة و مالك و أبو حنيفة و محمد بن الحسن واختار أبو الخطاب أنه لا يجوز بيعها ولا إبدالها لأن أحمد نص في الهدي إذا عطب أنه يجزىء عنه وفي الضحية إذا هلكت أو ذبحها فسرقت لا بدل عليه ولو كان ملكه ما زال عنها لزمه بدلها في هذه المسائل وهذا مذهب ابي يوسف و الشافعي و أبي ثور لأنه قد جعلها لله تعالى فلم يملك التصرف فيها بالبيع والإبدال كالوقف
ولنا ما [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم ساق مائة بدنة في حجته وقدم علي من اليمن فأشركه فيها ] رواه مسلم وهذا نوع من الهبة أو بيع ولأنه عدل عن عين وجبت لحق الله تعالى إلى خير منها من جنسها فجاز كما لو وجبت عليه بنت لبون فأخرج حقه في الزكاة فأما بيعها فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز وقال القاضي يجوز أن يبيعها ويشتري خيرا منها وهو قول عطاء و مجاهد و أبي حنيفة لما ذكرنا من حديث بدن النبي صلى الله عليه و سلم واشراكه فيها ولأن ملكه لم يزل عنها بدليل جواز إبدالها ولأنها عين يجوز إبدالها فجاز بيعها كما قبل إيجابها
ولنا أنه جعلها لله تعالى فلم يجز بيعها كالوقف وإنما جاز إبدالها بجنسها لأنه لم يزل الحق فيها عن جنسها وإنما انتقل إلى خير منها فكأنه في المعنى ضم زيادة إليها وقد جاز إبدال المصحف ولم يجز بيعه وأما حديث النبي صلى الله عليه و سلم فالظاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يبعها وإنما شرك عليا في ثوابها وأجرها ويحتمل أن ذلك كان قبل إيجابها وقول الخرقي : بخير منها يدل على أنه لايجوز بدونها ولا خلاف في هذا لأنه تفويت جزء منها فلم يجز كإتلافه وإنه لا يجوز بمثلها لعدم الفائدة في هذا وقال القاضي فيإبدالها بمثلها احتمالان
أحدهما : جوازه لأنه لا ينقص مما وجب عليه شيء ولنا أنه بغير ما أوجبه لغير فائدة فلم يجز كإبداله بما دونها (11/112)
مسألتان وفصول الإختلاف في وقت التضحية وحكم ما لو فات الوقت ولم يذبح أو ذبح قبل الوقت
مسألة : قال : وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة العيد وخطبته فقد حل الذبح إلى آخر يومين من أيام التشريق نهارا ولا يجوز ليلا
الكلام في وقت الذبح في ثلاثة أشياء : أوله وآخره وعموم وقته أو خصوصه أما أوله فظاهر كلام الخرقي أنه إذا مضى من نهار يوم العيد قدر تحل فيه الصلاة وقدر الصلاة والخطبتين تامتين في أخف ما يكون فقد حل وقت الذبح ولا تعتبر نفس الصلاة لا فرق في هذا بين أهل المصر وغيرهم وهذا مذهب الشافعي و ابن المنذر وظاهر كلام أحمد أن من شرط جواز التضحية في حق أهل المصر صلاة الإمام وخطبته وروي نحو هذا عن الحسن و الأوزاعي و مالك و أبي حنيفة و إسحاق لما روى جندب بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ]
وعن البراء قال : قال رسول الله عليه وسلم : [ من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ] متفق عليه وفي لفظ قال : [ إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فمن ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم قدمها لأهله ليس من النسك في شيء ] وظاهر هذا اعتبار نفس الصلاة
وقال عطاء وقتها إذا طلعت الشمس لأنها عبادة يتعلق آخرها بالوقت فتعلق أولها بالوقت كالصيام وهذا وجه قول الخرقي ومن وافقه والصحيح إن شاء الله تعالى أن وقتها في الموضع الذي يصلي فيه بعد الصلاة لظاهر الخبر والعمل بظاهره أولى فأما غير أهل الأمصار والقرى فأول وقتها في حقهم قدر الصلاة والخطبة بعد الصلاة لأنه لا صلاة في حقهم تعتبر فوجب الإعتبار بقدرها وقال أبو حنيفة : أول وقتها في حقهم إذا طلع الفجر الثاني لأنه من يوم النحر فكان وقتها كسائر اليوم
ولنا أنها عبادة وقتها في حق أهل المصر بعد إشراق الشمس فلا تتقدم وقتها في حق غيرهم كصلاة العيد وما ذكروه يبطل بأهل الأمصار فإن لم يصل الإمام في المصر لم يجز الذبح حتى تزول الشمس لأنها حينئذ تسقط فكأنه قد صلى وسواء ترك الصلاة عمدا أو غير عمد لعذر أو غيره فأما الذبح في اليوم الثاني فهو في أول النهار لأن الصلاة فيه غير واجبة ولأن الوقت قد دخل في اليوم الأول وهذا من اثنائه فلا تعتبر فيه صلاة ولا غيرها وإن صلى الإمام في المصلى واستخلف من صلى في المسجد فمتى صلوا في أحد الموضعين جاز الذبح لوجود الصلاة التي يسقط بها الفرض عن سائر الناس فإن ذبح بعد الصلاة قبل الخطبة أجزأ في ظاهر كلام أحمد لأن النبي صلى الله عليه و سلم علق المنع على فعل الصلاة فلا يتعلق بغيره ولأنه الخطبة غير واجبة وهذا قول الثوري
الثاني : آخر الوقت وآخره اليوم الثاني من أيام التشريق فتكون أيام النحر ثلاثة : يوم العيد ويومان بعده وهذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأنس قال أحمد أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي رواية قال خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يذكر أنسا وهو قول مالك و الثوري و أبي حنيفة وروي عن علي : آخر أيام التشريق وهو مذهب الشافعي وقول عطاء و الحسن لأنه روي عن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أيام منى كلها منحر ] ولأنها أيام تكبير وإفطار فكانت محلا للنحر كالأولين وقال ابن سيرين لا تجوز إلا في يوم النحر خاصة لأنها وظيفة عيد فلا تجوز إلا في يوم واحد كاداء الفطرة يوم الفطر وقال سعيد بن جبير وجابر بن زيد كقول ابن سيرين في اهل الأمصار وقولنا في أهل منى وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن و عطاء بن يسار تجوز التضحية إلى هلال المحرم وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف كان الرجل من المسلمين يشتري أضحية فيسمنها حتى يكون آخر ذي الحجة فيضحي بها رواه الإمام أحمد بإسناده وقال : هذا الحديث عجيب وقال أيام الأضحى التي أجمع عليها ثلاثة ايام
[ ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه ولأن اليوم الرابع لا يجب الرمي فيه فلم تجز التضحية فيه كالذي بعده ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم إلا رواية عن علي وقد روي عنه مثل مذهبنا وحديثهم إنما هو ومنى كلها منحر ] ليس فيه ذكر الأيام والتكبير أعم من الذبح وكذلك الأفطار بدليل أول يوم النحر ويوم عرفة يوم التكبير ولا يجوز الذبح فيه
الثالث : في زمن الذبح وهو النهار دون الليل نص عليه أحمد في رواية الأثرم وهو قول مالك وروي عن عطاء ما يدل عليه وحكي عن أحمد رواية أخرى أن الذبح يجوز ليلا وهو اختيار أصحابنا المتأخرين وقول الشافعي و إسحاق و أبي حنيفة وأصحابه لأن الليل زمن يصح فيه الرمي فأشبه النهار
ووجه قول الخرقي قول الله تعالى : { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن الذبح بالليل ولأنه ليل يوم يجوز الذبح فيه فأشبه ليلة يوم النحر ولأن الليل تتعذر فيه تفرقة اللحم في الغالب فلا يفرق طريا فيفوت بعض المقصود ولذا قالوا يكره الذبح فيه فعلى هذا أن ذبح ليللا لم يجزئه عن الواجب وإن كان تطوعا فذبحها كانت شاة لحم ولم تكن أضحية فإن فرقها حصلت القربة بتفريقها دون ذبحها
فصل : إذا فات وقت الذبح ذبح الواجب قضاء وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته وهو مخير في التطوع فإن فرق لحمها كانت القربة بذلك دون الذبح لأنها شاة لحم وليست أضحية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يسلمها إلى الفقراء ولا يذبحها فإن ذبحها فرق لحمها وعليه أرش ما نقصها الذبح لأن الذبح قد سقط بفوات وقته
ولنا أن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم وذلك أنه لو ذبحها في الأيام ثم خرجت قبل تفريقها فرقها بعد ذلك ويفارق الوقوف والرمي ولأن الأضحية لا تسقط بفواتها بخلاف ذلك
فصل : وإذا وجبت الأضحية بإيجابه لها فضلت أو سرقت بغير تفريط منه فلا ضمان عليه لأنها أمانة في يده فإن عادت إليه ذبحها سواء كان في زمن الذبح أو فيما بعده على ما ذكرناه
مسألة : قال : وإن ذبح قبل ذلك لم يجزئه ولزمه البدل
وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ] ولأنها نسيكة واجبة ذبحها قبل وقتها فلزمه بدلها كالهدي إذا ذبحه قبل محله ويجب أن يكون بدلها مثلها أو خيرا منها لأن ذبحها قبل محلها إتلاف لها وكلام الخرقي ومن طلق من أصحابنا محمول على الأضحية الواجبة بنذر أو تعيين فإن كانت غير واجبة بواحد من الأمرين فهي شاة لحم ولا بدل عليه إلا ان يشاء لأنه قصد التطوع فأفسده فلم يجب عليه بدله كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها إلى غير مستحقها والحديث يحمل على أحد أمرين إما الندب وإما على التخصيص بمن وجبت عليه بدليل ما ذكرنا فأما الشاة المذبوحة فهي شاة لحم كما وصفها النبي صلى الله عليه و سلم ومعناه يصنع بها ما شاء كشاة ذبحها للحمها لا لغير ذلك فإن هذه إن كانت واجبة فقد لزمه إبدالها وذبح ما يقوم مقامها فخرجت هذه عن كونها واجبة كالهدي الواجب إذا عطب دون محله وإن كان تطوعا فقد أخرجها بذبحه إياها قبل محلها عن القربة فبقيت مجرد شاة لحم
ويحتمل أن يكون حكمها حكم الأضحية كالهدي إذا عطب لا يخرج عن حكم الهدي على رواية ويكون معنى قوله شاة لحم أي في فضلها وثوابها خاصة دون ما يصنع بها (11/113)
مسألة لا يستحب ان يذبح الأضحية إلا المسلم
مسألة : قال : ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم وإن ذبحها بيده كان أفضل
وجملته أنه يستحب أن لا يذبح الأضحية إلا مسلم لأنها قربة فلا يليها غير أهل القربة وإن استناب ذميا في ذبحها جاز مع الكراهة وهذا قول الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وحكي عن أحمد لا يجوز أن يذبحها إلا مسلم وهذا قول مالك وممن كره ذلك علي وابن عباس وجابر رضي الله عنهم وبه قال الحسن و ابن سيرين ؟ وقال جابر : لا يذبح النسك إلا مسلم لما روي في حديث ابن عباس الطويل عن النبي صلى الله عليه و سلم [ ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر ] ولأن الشحوم تحرم علينا مما يذبحونه على رواية فيكون ذلك بمنزلة إتلافه
ولنا أن من جاز له ذبح غير الأضحية جاز له ذبح الأضحية كالمسلم ويجوز أن يتولى الكافر ما كان قربة للمسلم كبناء المساجد والقناطر ولا نسلم تحريم الشحوم علينا بذبحهم والحديث محمول على الاستحباب والمستحب أن يذبحها المسلم ليخرج من الخلاف وإن ذبحها بيده كان أفضل [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما ونحر البدنات الست بيده ونحر من البدن التي ساقها في حجته ثلاثا وستين بدنة ] ولأن فعله قربة وفعل القربة أولى من استنابته فيها فإن استناب فيها جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم استناب من نحر باقي بدنه بعد ثلاث وستين وهذا لا شك فيه
ويستحب أن يحضر ذبحها لأن في حديث ابن عباس الطويل [ واحضروها إذا ذبحتم فإنه يغفر لكم عند أول قطرة من دمها ] [ وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة : احضري أضحيتك يغفر لك بأول قطرة من دمها ] (11/117)
مسألة وفصول ما يجب أن يقول المضحي عند الذبح وفصول فيما إذا ذبحها غيره وفي نذر الأضحية
مسألة : قال : وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن لأن النية تجزىء
لا أعلم خلافا في أن النية تجزىء وإن ذكر أن يضحى عنه فحسن لما روينا من الحديث قال الحسن : يقول بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان وكره أهل الرأي هذا وقد ذكرناه في التي قبلها
فصل : وإن عين أضحية فذبحها غيره بغير إذنه أجزأت عن صاحبها ولا ضمان على ذابحها وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك هي شاة لحم لصاحبها أرشها وعليه بدلها لأن الذبح عبادة فإذا فعلها غير صاحبها عنه بغير إذنه لم تقع الموقع كالزكاة وقال الشافعي تجزىء عن صاحبها وله على ذابحها أرش ما بين قيمتها صحيحة ومذبوحة لأن الذبح أحد مقصودي الهدي فإذا فعله فاعل بغير إذن المضحي ضمنه كتفرقة اللحم
ولنا على مالك أنه فعل لا يفتقر إلى النية فإذا فعله غير الصاحب أجزأ عنه كغسل ثوبه من النجاسة وعلى الشافعي أنها أضحية أجزأت عن صاحبها ووقعت موقعها فلم يضمن ذابحها كما لو كان بإذن ولأنه إراقة دم تعين إراقته لحق الله تعالى فلم يضمن مريقه كقاتل المرتد بغير إذن الإمام ولأن الأرش لو وجب فإنما يجب ما بين كونها وجود الأرش ووجوبه ولأنه لو وجب الأرش لم يخل إما أن يجب للمضحي أو للفقراء : لا جائز أن يجب للفقراء لأنهم إنما يستحقونها مذبوحة ولو دفعها إليهم في الحياة لم يجز ولا جائز أن يجب له لأنه لا يجوز أن يأخذ بدل شيء منها كعضو من أعضائها ولأنهم وافقونا في أن الأرش لا يدفع إليه فيتعذر إيجابه لعدم مستحقه
فصل : وإن نذر أضحية في ذمته ثم ذبحها فله أن يأكل منها وقال القاضي من أصحابنا من منع الأكل منها وهو ظاهر كلام أحمد وبناه على الهدي المنذور
ولنا أن النذر محمول على المعهود والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها والأكل منها والنذر لا يغير من صفة المنذور إلا الإيجاب وفارق الهدي الواجب بأصل الشرع لا يجوز الأكل منه فالمنذور محمول عليه بخلاف الأضحية
فصل : ولا يضحي عما في البطن وروي ذلك عن ابن عمر وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ولا نعلم مخالفا لهم وليس للعبد والمدبر والمكاتب وأم الولد أن يضحوا إلا بإذن سادتهم لأنهم ممنوعون من التصرف بغير إذنهم إلا المكاتب فإنه ممنوع من التبرع والأضحية تبرع وأما من نصفه حر إذا ملك بجزئه الحر شيئا له أن يضحي بغير إذن سيده لأن له لأن يتبرع بغير إذنه (11/118)
مسألة وفصل يجوز اشتراك السبعة يضحوا ببدنة أو بقرة ويجوز لهم اقتسام اللحم
مسألة : قال : ويجوز أن يشترك السبعة يضحوا بالبدنة والبقرة
وجملته أنه يجوز أن يشترك في التضحية بالبدنة والبقرة سبعة واجبا كان أو تطوعا سواء كانوا كلهم متقربين أو يريد بعضهم القربة وبعضهم اللحم وبهذا قال الشافعي وقال مالك لا يجوز الاشتراك في الهدي وقال ابو حنيفة يجوز للمتقربين ولا يجوز إذا كان بعضهم غير متقرب لأن الذبح واحد فلا يجوز أن تختل نية القربة فيه
[ ولنا ما روى جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن نشترك في الأبل والبقر كل سبعة منا في بدنة ] رواه مسلم
ولنا على أبي حنيفة أن الجزء المجزىء لا ينقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلف جهات القرب فأراد بعضهم التضحية وبعضهم الفدية
فصل : ويجوز للمشتركين قسمة اللحم ومنع منه أصحاب الشافعي في وجه بناء على أن القسمة بيع وبيع لحم الهدي والأضحية غير جائز
ولنا أن أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالاشتراك مع أن سنة الهدي والأضحية إلا كل منها دليل على تجويز القسمة إذ لا يتمكن واحد منهم من الأكل إلا بالقسمة وكذلك الصدقة والهدية ولا نسلم أن القسمة بيع بل هي إفراز حق على ما ذكرنا ي باب القسمة (11/119)
مسائل وفصول في العقيقة
مسألة : قال : والعقيقة سنة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة
العقيقة الذبيحة التي تذبح عن المولود وقيل هي الطعام الذي يصنع ويدعى إليه من أجل المولود قال أبو عبيد في العقيقة الشعر الذي على المولود وجمعها عقائق ومنها قول الشاعر
( أيا هند لا تنكحي بوهة ... عليه عقيقته أحسبا )
ثم أن العرب سمت الذبيحة عند حلق شعره عقيقة على عاداتهم في تسمية الشيء باسم سببه أو مما جاوره ثم اشتهر ذلك حتى صار من الأسماء العرفية وصارت الحقيقة مغمورة فيه فلا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة وقال ابن عبد البر أنكر أحمد هذا التفسير وقال ان العقيقة الذبح نفسه ووجهه أن أصل العق القطع ومنه عق والديه إذا قطعهما والذبح قطع الحلقوم والمريء والودجين والعقيقة سنة في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس وابن عمر وعائشة وفقهاء التابعين وأئمة الأمصار إلا أصحاب الرأي قالوا ليست سنة وهي من أمر الجاهلية [ وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن العقيقة فقال : إن الله تعالى لا يحب العقوق ] فكأنه كره الاسم وقال : [ من ولد له مولود فأحب أن ينسك عنه فليفعل ] رواه مالك في موطئه وقال الحسن و داود هي واجبة وروي عن بريدة أن الناس يعرضون عليها كم يعرضون على الصلوات الخمس لما روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه وتحلق رأسه ] وعن أبي هريرة مثله قال أحمد اسناده جيد وروى حديث سمرة الأثرم و أبو داود [ وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرهم عن الغلام بشاتين وعن الجارية بشاة ] وظاهر الأمر الوجوب
ولنا على استحبابها هذه الأحاديث وعن أم كرز الكعبية قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ] وفي لفظ : [ عن الغلام شاتان مثلان وعن الجارية شاة ] رواه أبو داود وفي رواية قال : [ العقيقة عن الغلام شاتان ] والإجماع قال أبو الزناد العقيقة من أمر الناس كانوا يكرهون تركه وقال أحمد العقيقة سنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عق عن الحسن و الحسين وفعله أصحابه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الغلام مرتهن بعقيقته ] وهو اسناد جيد يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وجعلها أبو حنيفة من أمر الجاهلية وذلك لقلة علمه ومعرفته بالأخبار وأما بيان كونها غير واجبة فدليله ما احتج به أصحاب الرأي من الخبر وما رووه محمول على تأكيد الأستحباب جمعا بين الأخبار ولأنها ذبيحة لسرور حادق فلم تكن واجبة كالوليمة والنقيعة
فصل : والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمتها نص عليه أحمد وقال إذا لم يكن عنده ما يعق فاستقرض رجوت أن يخلف الله عليه احياء السنة قال ابن المنذر : صدق أحمد احياء السنن واتباعها أفضل وقد ورد فيها من التأكيد في الأخبار التي رويناها ما لم يرد في غيرها ولأنها ذبيحة أمر النبي صلى الله عليه و سلم بها فكانت أولى كالوليمة والأضحية
مسألة : قال : عن الغلام وعن الجارية شاة
هذا قول أكثر القائلين بها وبه قال ابن عباس وعائشة و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وكان ابن عمر يقول : [ شاة عن الغلام والجارية لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه عق عن الحسن شاة وعن الحسين شاة ] رواه أبو داود كان الحسن و قتادة لا يريان عن الجارية عقيقة لأن العقيقة شكر للنعمة الحاصلة بالولد والجارية لا يحصل بها سرور فلا يشرع لها عقيقة
ولنا حديث عائشة وأم كرز وهذا نص وما روه محمول على الجواز [ إذا ثبت هذا فالمستحب أن تكون الشاتان متماثلتين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : شاتان مكافئتان ] وفي رواية [ مثلان ] قال أحمد يعني متقاربتين أو متساويتين لما جاء من الحديث فيه ويجوز فيها الذكر والأنثى لما روي في حديث أم كرز أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ولا بأس أن يكون ذكورا أو إناثا ] رواه أبو سعيد و أبو داود والذكر أفضل لأن النبي صلى الله عليه و سلم عق عن الحسن بكبش كبش وضحى بكبشين أقرنين والعقيقة تجري مجرى الأضحية والأفضل في لونها البياض على ما ذكرنا في الأضحية لأنها تشبهها ويستحب استسمانها واستعظامها واستحسانها كذلك وإن خالف ذلك أو عق بكبش واحد أجزأ لما روينا من حديث الحسن و الحسين
مسألة : قال : ويذبح يوم السابع
قال أصحابنا السنة أن تذبح يوم السابع فإن فات ففي أربع عشرة فإن فات ففي إحدى وعشرين ويروى هذا عن عائشة وبه قال إسحاق وعن مالك في الرجل يريد أن يعق عن ولده فقال ما علمت هذا من أمر الناس وما يعجبني ولا نعلم خلافا بين أهل العلم القائلين بمشروعيتها في استحباب ذبحها يوم السابع والأصل فيه حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل غلام رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى فيه ويحلق رأسه ] وأما كونه في أربع عشرة ثم في إحدى وعشرين فالحجة فيه قول عائشة رضي الله عنها وهذا تقدير الظاهر أنها لا تقوله إلا توقيفا وإن ذبح قبل ذلك أو بعده أجزأه لأن المقصود يحصل وإن تجاوز أحدا وعشرين احتمل أن يستحب في كل سابع فيجعله في ثمانية وعشرين فإن لم يكن فقي خمسة وثلاثين وعلى هذا قياسا على ما قبله واحتمل أن يجوز في كل وقت لأن هذا قضاء فائت فلم يتوقف كقضاء الأضحية وغيرها وإن لم يعق أصلا فبلغ الغلام وكسب فلا عقيقة عليه وسئل أحمد عن هذه المسألة فقال ذلك على الوالد يعني لا يعق عن نفسه لأن السنة في في حق غيره وقال عطاء و الحسن يعق عن نفسه لأنها مشروعة عنه ولأنه مرتهن بها فينبغي أن يشرع له فكاك نفسه
ولنا أنها مشروعة في حق الوالد فلا يفعلها غيره كالأجنبي وكصدقة الفطر
فصل : ويستحب أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ويسمى لحديث سمرة وإن تصدق بزنة شعره فضة فحسن لما [ روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفاطمة لما ولدت الحسن : احلقي رأسه وتصدقي بزنة شعره فضة على المساكين والأفاوض ] يعني أهل الصفة رواه الإمام أحمد وروى سعيد في سننه عن محمد بن علي [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عق عن الحسن والحسين بكبش كبش وأنه تصدق بوزن شعورهما ورقا ] وإن فاطمة كانت إذا ولدت ولدا حلقت شعره وتصدقت بوزنه ورقا [ وإن سماه قبل السابع جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ولد الليلة لي غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ] وسمى الغلام الذي جاءه به أنس بن مالك فحنكه وسماه عبد الله [ ويستحب أن يحسن اسمه لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : أنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فاحسنوا أسماءكم ] وقال عليه السلام : [ أحب الأسماء إلي عبد الله وعبد الرحمن ] حديث صحيح
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : أحب الأسماء إلى الله تعالى أسماء الأنبياء وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ تسموا باسم ولا تكنوا بكنيتي ] وفي رواية [ لا تجمعوا بين اسمي وبين كنيتي ]
فصل : ويكره أن يلطخ رأسه بدم كره ذلك أحمد و الزهري و مالك و الشافعي و ابن المنذر و حكي عن الحسن و قتادة أنه مستحب لما روي في حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويدمى ] رواه همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا قال هذا إلا الحسن و قتادة وأنكر أهل العلم وكرهوه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مع الغلام عقيقته فهر يقوا عنه دما وأميطوا عنه الأذى ] رواه ابو داود وهذا يقتضي أن لا يمس بدم لأنه أذى
وروى يزيد بن عبد المزني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم ] قال مهنا ذكرت هذا الحديث ل أحمد فقال ما أظرفه ورواه ابن ماجة ولم يقل عن أبيه ولأن هذا تنجيس له فلا يشرع كلطخه بغيره من النجاسات
وقال بريدة كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ويلطخ رأسه بدمها فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران رواه أبو داود فأما رواية من روى [ ويدمى ] فقال أبو داود ويسمى أصح هكذا قال سلام ابن أبي مطيع عن قتادة وإياس بن دغفل عن الحسن : وهم همام فقال ويدمى قال أحمد قال فيه ابن أبي عروبة يسمى وقال همام يدمى وما أراه إلا أخطأ وقد قيل هو تصحيف من الراوي
مسألة : قال : ويجتنب فيها من العيب ما يجتنب في الأضحية
وجملته أن حكم العقيقة حكم الأضحية في سنها وإنه يمنع فيها من العيب ما يمنع ويستحب فيها من الصفة ما يستحب فيها وكانت عائشة تقول ائتوني به أعين أقرن وقال عطاء : لذكر أحب إلي من الأنثى : والضأن أحب من المعز فلا يجزىء فيها أقل من الجذع من الضأن والثني من المعز ولا تجوز فيها العوراء البين عورها والعرجاء البين ظلعها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي والعضباء التي ذهب أكثر من نصف أذنها أو قرنها وتكره فيه الشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة ويستحب استشراف العين والأذن كما ذكرنا في الأضحية سواء لأنها تشبهها فتقاس عليها
مسألة : قال : وسبيلها في الأكل والهدية والصدقة سبيلها لا أنها تطبخ أجدالا
وبهذا قال الشافعي وقال ابن سيرين اصنع بلحمها كيف شئت وقال ابن جريج تطبخ بما وملح وتهدى الجيران والصديق ولا يتصدق منها بشيء وسئل أحمد عنها فحكى قول ابن سيرين وهذا يدل على أنه ذهب إليه وسئل هل يأكلها كلها ؟ قال لم أقل يأكلها كلها ولا يتصدق منها بشيء والأشبه قياسها على الأضحية لأنها نسيكة مشروعة غير واجبة فأشبهت الأضحية ولأنها أشبهتها في صفاتها وسنها وقدرها وشروطها فأشبهتها في مصرفها وإن طبخها ودعا إخوانه فأكلوها فحسن ويستحب أن تفصل أعضاؤها ولا تكسر عظامها لما روي عن عائشة أنها قالت : السنة شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة تطبخ جدولا ولا يكسر عظم ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك يوم السابع
قال أبو عبيد الهروي في العقيقة تطبخ جدولا لا يكسر لها عظم أي عضوا عضوا وهو الجدال بالدال غير المعجمة والأرب والشلو والعضو والوصل كله واحد وإنما فعل بها ذلك لأنها أول ذبيحة ذبحت عن المولود فاستحب فيها ذلك تفاؤلا بالسلامة كذلك قالت عائشة وروي أيضا عن عطاء و ابن جريج وبه قال الشافعي
فصل : قال أحمد يباع الجلد والرأس والسقط ويتصدق به وقد نص في الأضحية على خلاف هذا وهو أقيس في مذهبه لأنها ذبيحة لله فلا يباع منها شيء كالهدي ولأنه تمكن الصدقة بذلك بعينه فلا حاجة إلى بيعه وقال أبو الخطاب يحتمل أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى فيخرج في المسألتين روايتان ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث أن الأضحية ذبيحة شرعت يوم النحر فأشبهت الهدي والعقيقة شرعت عند سرور حادث وتجدد نعمة فأشبهت الذبيحة في الوليمة ولأن الذبيحة ههنا لم تخرج عن ملكه فكان له أن يفعل بها ما شاء من بيع وغيره والصدقة بثمن ما بيع منها بمنزلة الصدقة به في فضلها وثوابها وحصول النفع به فكان له ذلك
فصل : قال بعض أهل العلم يستحب للوالد أن يؤذن في أذن ابنه حين يولد لما روى عبد الله ابن رافع عن أمه أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا ولد له مولود أخذه في خرقة فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وسماه وروينا أن رجلا قال لرجل عند الحسن يهنئه بابن له ليهنئك الفارس فقال الحسن وما يدريك أنه فارس هو أو حمار ؟ فقال كيف نقول ؟ قال قل بورك في الموهوب وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره [ وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحنك أولاد الأنصار بالتمر وروى أنس قال ذهبت بعبد الله بن طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ولد قال : هل معك تمر ؟ فناولته تمرات فلاكهن ثم فغر فاه ثم مجه فيه فجعل يتلمظ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : حب الأنصار التمر ] وسماه عبد الله
فصل : قال أصحابنا لا تسن الفرعة ولا العتيرة وهو قول علماء الأمصار سوى ابن سيرين فإنه كان يذبح العتيرة في رجب ويروي فيها شيئا والفرعة والفرع بفتح الراء أول ولد الناقة كانوا يذبحونه لآلهتهم في الجاهلية فنهوا عنها قال ذلك أبو عمرو الشيباني وقال أبو عبيد العتيرة : هي الرجبية كان أهل الجاهلية إذا طلب أحدهم أمرا نذر أن يذبح من غنمه شاة في رجب وهي العتائر والصحيح إن شاء الله تعالى [ أنهم كانوا يذبحونها في رجب من غير نذر جعلوا ذلك سنة فيما بينهم كالأضحية في الأضحى وكان منهم من ينذرها كما قد تنذر الأضحية بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : على كل أهل بيت أضحاة وعتيرة ] وهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه و سلم في بدء الإسلام تقرير لما كان في الجاهلية وهو يقتضي ثبوتها بغير نذر ثم نسخ ذلك بعد ولأن العتيرة لو كانت في المنذروة لم تكن منسوخة فإن الإنسان لو نذر ذبح شاة في أي وقت كان لزمه الوفاء بنذره والله أعلم [ وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالفرعة من كل خمس واحدة ] قال ابن المنذر هذا حديث ثابت
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا فرع ولا عتيرة ] متفق عليه وهذا الحديث متأخر عن الأمر بها فيكون ناسخا ودليل تأخره أمران أحدهما : أن رواية أبي هريرة وهو متأخر الإسلام فإن إسلامه في سنة فتح خيبر وهي السنة السابعة من الهجرة والثاني : أن الفرع والعتيرة كان فعلهما أمرا متقدما على الإسلام فالظاهر بقاؤهم عليه إلى حين نسخه واستمرار النسخ من غير رفع له ولو قدرنا تقدم النهي على الأمر بها لكانت قد نسخت ثم نسخ ناسخها وهذا خلاف الظاهر إذا ثبت هذا فإن المراد بالخبر نفي كونها سنة لا تحريم فعلها ولا كراهته فلو ذبح إنسان ذبيحة في رجب أو ذبح ولد الناقة لحاجته إلى ذلك أو للصدقة به وإطعامه لم يكن ذلك مكروها والله تعالى أعلم (11/120)
مسألة السبق في النصل والحافر والخف لا غير
كتاب السبق والرمي : المسابقة جائزة بالسنة والإجماع أما السنة ف [ روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ] متفق عليه قال موسى بن عقبة من الحفياء إلى ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة أميال وقال سفيان من الثنية إاى مسجد بني زريق ميل أو نحوه وأجمع المسلمون على جواز المسابقة في الجملة والمسابقة على ضمر بين مسابقة بغير عوض ومسابقة بعوض فأما المسابقة بغير عوض فتجوز مطلقا من غير تقييد بشيء معين كالمسابقة على الاقدام والسفن والطيور والبغال والحمير والفيلة والمزاريق وتجوز المصارعة ورفع الحجر ليعرف الأشد وغير هذا ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في سفر مع عائشة فسابقته على رجلها فسبقته قالت فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال : هذه بتلك ] رواه أبو داود و [ سابق سلمة ابن الأكوع رجلا من الأنصار بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم في يوم ذي قرد ] و [ صارع النبي صلى الله عليه و سلم ركانة فصرعه ] رواه الترمذي ومر بقوم يربعون حجرا يعني يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم فلم ينكر عليهم وسائر المسابقة يقاس على هذا
وأما المسابقة بعوض فلا تجوز إلا بين الخيل والإبل والرمي لما سنذكره إن شاء الله تعالى واختصت هذه الثلاثة بتجهيز العوض فيها لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وإحكامها والتفوق فيها وفي المسابقة بها مع العوض مبالغة في الإجتهاد في النهاية لها والأحكام لها وقد ورد الشرع بالأمر بها والترغيب في فعلها قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ] [ وروى سعيد في سننه عن خالد بن زيد قال كنت رجلا راميا وكان عقبة بن عامر الجهني يمر بي فيقول يا خالد اخرج بنا نرمى فلما كان ذات يوم أبطأت عنه فقال هلم أحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة : صانعه يحتسب في صنعه الخير والرامي به ومنبله أرموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وليس من اللهو إلا ثلاث : تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها ] وعن مجاهد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان والنضال ] قال الزهري النضال في الرمي والرهان في الخيل والسباق فيهما قال مجاهد ورأيت ابن عمر يشتد بين الهدفين إذا أصاب خصلة قال أنا بها أنا بها وعن حذيفة مثله
مسألة : قال : والسبق في النصل والحافر والخف لاغير
السبق بسكون الباء المسابقة والسبق بفتحها الجعل المخرج في المسابقة والمراد بالنصل ههنا السهم ذو النصل وبالحافر الفرس وبالخف البعير عبر عن كل واحد منها بجزء بجزء منه يختص به ومراد الخرقي ان المسابقة بعوض لا تجوز لا في هذه الثلاثة وبهذا قال الزهري و مالك وقال أهل العراق يجوز ذلك في المسابقة على الاقدام والمصارعة لورود الأثر بهما فإن النبي صلى الله عليه و سلم سابق عائشة وصارع ركانة ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين ولهم في المسابقة في الطيور والسفن وجهان بناء على الوجهين في المسابقة على الاقدام والمصارعة
ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ] رواه أبو داود فنفى السبق في غير هذه الثلاثة ويحتمل أن يراد به نفي الجعل أي لا يجوز الجعل إلا في هذه الثلاثة ويحتمل أن يراد به نفي المسابقة بعوض فإنه يتعين حمل الخبر على أحد الأمرين للإجماع على جواز المسابقة بغير عوض في هذه الثلاثة وعلى كل تقدير فالحديث حجة لنا
ولأن غير هذه الثلاثة لا يحتاج إليها في الجهاد كالحاجة إليها فلم تجز المسابقة عليها بعوض كالرمي بالحجارة ورفعها إذا ثبت هذا فالمراد بالنصل السهام من النشاب والنبل دون غيرهما والحافر الخيل وحدها والخف الإبل وحدها وقال أصحاب الشافعي تجوز المسابقة بكل ما له نصل من الزراريق وفي الرمح والسيف وجهان وفي الفيل والبغال والحمير وجهان لأن للمزاريق والرماح والسيوف نصلا وللفيل خف وللبغال والحمير حوافر فتدخل في عموم الخبر
ولنا أن هذه الحيوانات المختلف فيها لا تصلح للكر والفر ولا يقاتل عليها ولا يسهم لها والفيل لا يقاتل عليه أهل الإسلام والرماح والسيوف لا يرمى بها فلم تجز المسابقة عليها كالبقر والتراس والخبر ليس بعام فيما تجوز المسابقة به لأنه نكرة في إثبات وإنما هو عام في نفي ما لا تجوز المسابقة به بعوض لكونه نكرة في سياق النفي ثم كان عاما لحمل على ما عهدت المسابقة عليه وورد الشرع بالحث على تعلمه وهو ما ذكرناه (11/129)
مسألتان وفصلان في السبق والرهان
مسألة : قال : وإذا أراد أن يستبقا أخرج أحدهما ولم يخرج الآخر فإن سبق من أخرج احرز سبقه ولم يأخذ من المسبوق شيئا وإن سبق من لم يخرج احرز سبق صاحبه
وجملته أن المسابقة إذا كانت بين اثنين أو حزبين لم تخل أما أن يكون العوض منهما أو من غيرهما فإن كان من غريهما نظرت فإن كان من الإمام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال لأن في ذلك مصلحة وحثا على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين وإن كان غير إمام جاز له بذل العوض من ماله وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك لا يجوز بذل العوض من غير الإمام لأن هذا مما يحتاج إليه للجهاد فاختص به الإمام لتولية الولايات وتأمير الأمراء
ولنا أنه بذل لماله فيما فيه مصلحة وقربة فجاز كما لو اشترى به خيلا وسلاحا فأما إن كان منهما أنه اشترط كون الجعل من أحدهما دون الآخر فيقول أن سبقتني فلك عشرة وإن سبقتك فلا شيء عليك فهذا جائز وحكي عن مالك أنه لا يجوز لأنه قمار
ولنا أن أحدهما يختص بالسبق فجاز كما لو أخرجه الإمام ولا يصح ما ذكره لأن القمار أن لا يخلو كل واحد منهما من أن يغنم أ ويغرم وههنا لا خطر على أحدهما فلا يكون قمارا فإذا سبق المخرج أحرز سبقه ولا شيء له على صاحبه وإن سبق الآخر أخذ سبق المخرج فملكه وكان كسائر ماله لأنه عوض في الجعالة فيملك فيها كالعوض المجهول في رد الضالة والآبق وإن كان العوض في الذمة فهو دين يقضى به عليه ويجبر على تسليمه إن كان موسرا وإن أفلس ضرب مع الغرماء
فصل : والمسابقة عقد جائز ذكره ابن حامد وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر هو لازم إن كان العوض منهما وجائز إذا كان من أحدهما أو من غيرهما وذكره القاضي احتمالا لأنه عقد من شرطه أن يكون العوض والمعوض معلومين فكان لازما كالإجارة
ولنا أنه عقد على ما لا تتحقق القدرة على تسليمه فكان جائزا كرد الآبق فإنه عقد على الإصابة ولا يدخل تحت قدرته وبهذا فارق الإجارة فعلى هذا لكل واحد من المتعاقدين الفسخ قبل الشروع في المسابقة وإن أراد أحدهما الزيادة فيها أو النقصان منها لم يلزم الآخر إجابته وأما بعد الشروع في المسابقة فإن كان لم يظهر لأحدهما فضل على الآخر جاز الفسخ لكل واحد منهما وإن ظهر لأحدهما فضل مثل أن يسبقه بفرسه في بعض المسابقة أو يصيب بسهامه أكثر منه فللفاضل الفسخ ولا يجوز للمفضول لأنه لو جاز له ذلك لفات غرض المسابقة لأنه متى بان له سبق صاحبه له فسخها وترك المسابقة فلا يحصل المقصود وقال أصحاب الشافعي إذا قلنا العقد جائز ففي جواز الفسخ من المفضول وجهان
فصل : ويشترط أن يكون العوض معلوما لأنه مال في عقد فكان معلوما كسائر العقود ويكون معلوما بالمشاهدة أو بالقدر والصفة على ما تقدم في غير موضع ويجوز أن يكون حالا ومؤجلا كالعوض في البيع ويجوز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا فلو قال أن نضلتني فلك دينار حال وقفيز حنطة بعد شهر جاز وصح النضال لأن ما جاز أن يكون حالا ومؤجلا جاز أن يكون بعضه حالا وبعضه مؤجلا كالثمن غير أنه يحتاج إلى صفة الحنطة بما تصير به معلومة
فصل : فإن شرط أن يطعم السبق أصحابه فالشرط فاسد لأنه عوض على عمل فلا يستحق غير العامل كالعوض في رد الآبق ولا يفسد العقد وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يفسد
ولنا أنه عقد لا تقف صحته على تسمية بدل فلم يفسد بالشرط الفاسد كالنكاح وذكر القاضي أن الشروط الفاسدة في المسابقة تنقسم قسمين
أحدهما : ما يخل بشرط صحة العقد نحو أن يعود إلى جهالة العوض أو المسافة ونحوهما فيفسد العقد لأن العقد لا يصح مع فوات شرطه
والثاني : ما لا يخل بشرط العقد نحو أن يشترط أن يطعم السبق أصحابه أو غيرهم أو يشرط أنه إذا نضل لا يرمي أبدا أو لا يرمي شهرا أو شرطا أن لكل واحد منهما أو لأحدهما فسخ العقد متى شاء بعد الشروع في العمل وأشباه هذا فهذه شروط باطلة في نفسها وفي العقد المقترن بها وجهان :
أحدهما : صحته لأن العقد تم بأركانه وشروطه فإذا حذف الزائد الفاسد بقي العقد صحيحا
والثاني : يبطل لأنه بذل العوض لهذا الغرض فإذا لم يحصل له غرضه لا يلزمه العوض وكل موضع فسدت المسابقة فإن كان السابق المخرج أمسك سبقه وإن كان الآخر فله أجر عمله لأنه عمل بعوص لم يسلم له فاستحق أجر المثل كالإجارة الفاسدة
فصل : وإذا كان المخرج غير المتسابقين فقال لهما أو لجماعة أيكم سبق فله عشرة جاز لأن كل منهم يطلب أن يكون سابقا وأيهم سبق استحق العسرة وإن جاؤوا جميعا فلا شيء لواحد منهم لأنه لا سابق فيهم وإن قال لاثنين أيكما سبق فله عشرة وأيكما صلى فله عشرة لم يصح لأنه لا فائدة في طلب السبق فلا يحرص عليه لعدم فائدته فيه وإن قال : ومن صلى فله خمسة صح لأن كل واحد يطلب السبق لفائدته فيه بزيادة الجعل وإن كانوا أكثر من اثنين فقال من سبق فله عشرة ومن صلى فله كذلك صح لأن كل واحد منهم يطلب أن يكون سابقا أو مصليا والمصلي هو الثاني لأن رأسه عند صلي الآخر والصلوان هما العظمان الناتئان من جانبي الذنب وفي الأثر عن علي رضي الله عنه أنه قال : سبق أبو بكر وصلى عمر وخبطتنا عشواء وقال الشاعر :
( إن تبتدر غاية يوما لمكرمة ... تلق السوابق منا والمصلينا )
فإن قال للمجلي وهو الأول مائة وللمصلي وهو الثاني تسعون وللتالي وهو الثالث ثمانون وللنازع هو الرابع سبعون وللمرتاح وهو الخامس ستون وللحظي وهو السادس خمسون وللعاطف وهو السابع أربعون وللمؤمل وهو الثامن ثلاثون وللطيم وهو التاسع عشرون وللسكيت وهو العاشر عشرة وللفسكل وهو الآخر خمسة صح لأن كل واحد يطلب السبق فإذا فاته طلب ما يلي السابق والفسكل اسم للآخر ثم يستعمل هذا في غير المسابقة بالخيل تجوزا كما روي أن أسماء ابنة عميس كانت تزوجت جعفر بن أبي طالب وولدت له عبد الله ومحمدا وعونا ثم تزوجها أبو بكر الصديق فولدت له محمد بن أبي بكر ثم تزوجها علي بن أبي طالب فقالت له أن ثلاثة أنت آخرهم لأخيار فقال لولدها فسكلتني أمكم وإن جعل للمصلي أكثر من السابق أو مثله أو جعل للتالي أكثر من المصلي أو مثله أو لم يجعل للمصلي شيئا لم يجز لأن ذلك يفضي إلى أن لا يقصد السبق بل بقصد التأخر فيفوت المقصود
فصل : إذا قال لعشرة من سبق منكم فله عشرة صح فإن جاؤوا معا فلا شيء لهم لأنه لم يوجد الشرط الذي يستحق به الجعل في واحد منهم وإن سبقهم واحد فله العشرة لوجود الشرط فيه وإن سبق اثنان فلهما العشرة وإن سبق تسعة وتأخر واحد فالعشرة للتسعة لأن الشرط وجد فيهم فكان الجعل بينهم كما لو قال من رد عبدي الآبق فله عسرة فرده تسعة ويحتمل أن يكون لكل واحد من السابقين عشرة لأن كل واحد منهم سابق قيستحق الجعل لكماله كما لو قال من رد عبدا لي فله عشرة فرد كل واحد عبدا وفارق ما لو قال من رد عبدي فرده تسعة لأن كل واحد منهم لم يرده إنما رده حصل من الكل ويصير هذا كما لو قال من قتل قتيلا فله سلبه فإن قتل كل واحد واحدا فلكل واحد سلب قتيله كاملا وإن قتل الجماعة واحدا فلجميعهم سلب واحد وههنا كل واحد له سبق مفرد فكان له الجعل كاملا فعلى هذا لو قال من سبق فله عشرة ومن صلى فله خمسة وصلى خمسة فعلى الأول من الوجهين للسابقين عشرة لكل واحد منهم درهمان وللمصلين خمسة لكل واحد منهم درهم وعلى الوجه الثاني لكل واحد من السابقين عشرة فيكون لهم خمسون ولكل واحد من الصلين خمسة فيكون لهم خمسة وعشرون ومن قال بالوجه الأول احتمل على قوله أن لا يصح العقد على هذا الوجه لأنه يحتمل أن يسبق تسعة فيكون لهم عشرة لكل واحد درهم وتسع ويصلي واحد فيكون له خمسة فيصير للمصلي من الجعل فوق ما للسابق فيفوت المقصود
مسألة : قال : وإن أخرجا جميعا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافىء فرسه فرسيهما أو بعيره بعيرهما أو رميه رمييهما فإن سبقهما أحرز سبقيهما وإن كان السابق أحدهما أحرز سبقه وأخذ سبق صاحبه فكان كسائر ماله ولم يأخذ من المحلل شيئا
السبق بالفتح الجعل الذي يسابق عليه ويسمى الخطر والندب والقرع والرهن ويقال سبق إذا أخذ وإذا أعطى وهو من الأضداد ومتى استبق الاثنان والجعل بينهما فأخرج كل واحد منهما لم يجز وكان قمارا لأن كل واحد منهما لا يخلو من أن يغنم أو يغرم وسواء كان ما أخرجاه متساويا مثل أن يخرج كل واحد منهما عشرة أو متفاوتا مثل أن أخرج أحدهما عشرة والآخر خمسة ولو قال أن سبقتين فلك علي عشرة وإن سبقتك فلي عليك قفيز حنطة أو قال ان سبقتني فلك علي عشرة ولي عليك قفيز لم يجز لما ذكرناه فإن أدخلا بينهما محللا وهو ثالث لم يخرج شيئا جاز وبهذا قال سعيد بن المسيب و الزهري و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي وحكي أشهب عن مالك أنه قال في المحلل لا أحبه وعن جابر بن زيد أنه قيل له أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا لا يرون بالدخيل بأسا قال هم أعف من ذلك ولنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فليس بقمار ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار ] رواه أبو داود فجعله قمارا إذا أمن أن يسبق لأنه لا يخلو كل واحد منهما من أن يغنم أو يغرم وإذا لم يؤمن أن يسبق لم يكن قمارا لأن كل واحد منهما يجوز أن يخلو عن ذلك ويشترط أن يكون فرس المحلل مكافئا لفرسيهما أو بعيره مكافئا لبعيريهما ورميه لرمييهما فإن لم يكن مكافئا مثل أن يكون فرساهما جوادين وفرسه بطيء فهو قمار للخبر ولأنه مأمون سبقه فوجوده كعدمه وإن كان مكافئا لهما جاز فإن جاؤوا كلهم الغاية دفعة واحدة أحرز كل واحد منهما سبق نفسه ولا شيء للمحلل لأنه لا سابق فيهما وكذلك أن سبق المستبقان المحلل وإن سبق المحلل وحده أحرز السبقين بالاتفاق وإن سبق أحد المستبقين وحده أحرز سبق نفسه وأخذ سبق صاحبه ولم يأخذ من المحلل شيئا وإن سبق أحد المستبقين والمحلل أحرز السابق مال نفسه ويكون سبق المسبوق بين السابق والمحلل نصفين سواء كان المستبقون اثنين او أكثر حتى لو كانوا مائة وبينهم محلل لا سبق منه جاز وكذلك لو كان المحلل جماعة جاز لأنه لا فرق بين الأثنين والجماعة وهذا كله مذهب الشافعي
فصل : ويشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وأن يكون لابتداء عدوهما وآخرة غاية لا يختلفان فيها لأن الغرض معرفة أسبقهما ولا يعلم ذلك إلا بتساويهما في الغاية ولأن أحدهما قد يكون مقصرا في أول عدوه سريعا في انتهائه وقد يكون بضد ذلك فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه ومن الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر من غيره [ وقد روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية ] رواه أبو داود وسبق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع وذك ستة أميال أو سبعة وبين التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق وذلك ميل أو نحوه فإن استبقا بغير غاية لينظرا أيهما يقف أو لا لم يجز لأنه يؤدي إلى أن لا يقف أحدهما حتى ينقطع فرسه ويتعذر الأشهاد على السبق فيه ويشترط في المسابقة إرسال الفرسين أو البعيرين دفعة واحدة فإن أرسل احدهما قبل الآخر ليعلم هل يدركه الآخر أو لا ؟ لم يجز هذ في المسابقة بعوض لأنه قد لا يدركه مع كونه أسرع منه لبعد المسافة بينهما ويكون عند أول المسافة من يشاهد ارسالهما ويرتبهما وعند الغاية من يضبط السابق منهما لئلا يختلفا في ذلك ويحصل السبق في الخيل بالرأس إذا تماثلت الأعناق فإن اختلفا في طول العنق أو كان ذلك في الإبل اعتبر السبق بالكتف لأن الاعتبار بالرأس متعذر فإن طويل العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا لسرعة عدوه وفي الإبل ما يرفع راسه وفيها ما يمد عنقه فربما سبق رأسه لمد عنفه لا لسبقه فلذلك اعتبرنا الكتف فإن سبق رأس قصير العنق فهو سابق لأن من ضرورة ذلك كونه سابقا وإن سبق طويل العنق بأكثر مما بينهما في طول العنق فقد سبق وإن كان بقدره لم يسبقه وإن كان أقل فالآخر السابق ونحو هذا كله قول الشافعي وقال الثوري إذا سبق أحدهما بالأذن كان سابقا ولا يصح لأن أحدهما قد يرفع رأسه ويمد الآخر عنقه فيكون سابقا بإذنه لذلك لا لسبقه وان شرطا السبق باقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح وقال بعض أصحاب الشافعي يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمي وليس بصحيح لأن هذا لا ينضبط ولا يقف الفرسان عند الغاية بحيث يعرف مساحة ما بينهما
وقد [ روى الدار قطني بإسناده عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعلي : قد جعلت لك هذه السبقة بين الناس ] فخرج علي فدعا سراقة بن مالك فقال يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه و سلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا أتيت الميطان ـ قال أبو عبد الرحمن الميطان مرسلها من الغاية ـ فصف الخيل ثم ناد هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة فيسعد الله بسبقه من شاء من خلقه وكان علي يقعد على منتهى الغاية يخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفيه بين ابهامي ارجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول لهما إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلا السبقة له فإن شككتما فاجعلوا سبقهما نصفين فإذا قرنتم ثنتين فاجعلا الغاية من غاية اصغر الثنتين ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام وهذا الأدب الذي ذكره في هذا الحديث في ابتداء الإرسال وانتهاء الغاية من أحسن ما قيل في هذا وهو مروي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في قضية أمره بها رسول الله صلى الله عليه و سلم وفوضها إليه فينبغي أن تتبع ويعمل بها
فصل : ويشترط في الرهان أن تكون الدابتان من جنس واحد فإن كانا من جنسين كالفرس والبعير لم يجز لأن البعير لا يكاد يسبق الفرس فلا يحصل الغرض من هذه المسابقة وإن كانا من نوعين كالعربي والبرذون أو البختي والعرابي ففيه وجهان :
أحدهما : لا يصح ذكره أبو الخطاب لأن التفاوت بينهما في الجري معلوم بحكم العادة فأشبها الجنسين
والثاني : يصح ذكره القاضي وهذا مذهب الشافعي لأنهما من جنس واحد وقد يسبق كل واحد منهما الآخر والضابط الجنس وقد وجد ويكفي في المظنة احتمال الحكمة ولو على بعد (11/131)
مسألة وفصول في المناضلة
وهي المسابقة في الرمي بالسهام والمناضلة مصدر ناضلته نضالا ومناضلة وسمي الرمي نضالا لأن السهم التام يسمى نضلا فالرمي به عمل بالنضل فسمي نضالا ومناضلة مثل قاتلته قتالا ومقاتلة وجادلته جدالا ومجادلة ويشترط لصحته ثمانية شروط :
أحدهما : أن يكون عدد الرشق معلوما والرشق بكسر الراء عدد الرمي وأهل اللغة يقولون هو عبارة عما بين العشرين والثلاثين والرشق بفتح الراء الرمي نفسه مصدر رشقت رشقا أي رميت رميا وإنما اشترط علمه لأنه لو كان مجهولا لأفضى إلى الخلاف لأن أحدهما يريد القطع والآخر يريد الزيادة فيختلفان
الثاني : أن يكون عدد الإصابة معلوما فيقولان الرشق عشرون والإصابة خمسة أو ستة أو ما يتفقان عليه منها إلا أنه لا يجوز اشتراط إصابة نادرة كإصابة جميع الرشق أو إصابة تسعة أعشاره ونحو هذا لأن الظاهر أن هذا لا يوجد فيفوت الغرض
الثالث : استواؤهما في عدد الرشق والإصابة وصفتها وسائر أحوال الرمي فإن جعلا رشق أحدهما عشرة والآخر عشرين أو شرطا وأن يصيب أحدهما خمسة والآخر ثلاثة أو شرطا إصابة أحدهما خواسق والآخر خواصل أو شرطا أن يحط أحدهما من إصابته سهمين أو يحط سهمين من إصابته بسهم من إصابة صاحبه أو شرطا أن يرمي أحدهما من بعد والآخر من قرب أو أن يرمي أحدهما وبين أصابعه سهم والآخر بين أصابعه سهمان أو أن يرمي أحدهما وعلى رأسه شيء والآخر خال عن شاغل أو أن يحط عن أحدهما واحدا من خطئه لا له ولا عليه واشباه هذا مما تفوت به المساواة لم يصح لأن موضوعها على المساواة والغرض معرفة الحذق وزيادة أحدهما على الآخر فيه ومع التفاضل لا يحصل فإنه ربما أصاب أحدهما لكثرة رميه لا لحذفه فاعتبرت المساواة كالمسابقة على الحيوان
الرابع : ان يصفا الإصابة فيقولان خواصل وهو المصيب للغرض كيفما كان قال الأزهري يقال خصلت مناضلي خصلة وخصلا ويسمى ذلك القرع والقرطسة يقال قرطس إذا أصاب أو حوابي وهو ما وقع بين يدي الغرض ثم وثب إليه ومنه يقال حبا الصبي أو خواصر وهو ما وقع في أحد جانبي الغرض ومنه قيل الخاصرة لأنها في جانب الإنسان أو خوارق وهو ما خرق الغرض ثم وقع بين يديه أو خواسق وهو ما خرق الغرض وثبت فيه أو موارق وهو ما أنفذ الغرض ووقع من ورائه أو خوازم وهو ما خزم جانب الغرض وإن شرطا الخواسق والحوابي معا أصح
الخامس : قدر الغرض والغرض هو ما يقصد إصابته من قرطاس أو ورق أو جلد أو خشب أو قرع أو غيره ويسمى غرضا لأنه يقصد ويسمى شارة وشنا قال الأزهري ما نصب في الهدف فهو القرطاس وما نصب في الهواء فهو الغرض ويجب أن يكون قدره معلوما بالمشاهدة أو بتقديره بشبر أو شبرين بحسب الاتفاق فإن الإصابة تختلف بإختلاف سعته وضيقه
السادس : معرفة المسافة أما بالمشاهدة أو بالذرعان فيقول مائة ذراع أو مائتي ذراع لأن الإصابة تختلف بقربها وبعدها ومهما اتفقا عليه جاز إلا أن يجعلا مسافة بعيدة تتعذر الإصابة في مثلها وهو ما زاد على ثلاثمائة ذراع فلا يصح لأن الغرض يفوت بذلك وقد قيل أنه ما رمى إلى أربعمائة ذراع إلا عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه
السابع : تعيين الرماة فلا يصح مع الإبهام لأن الغرض معرفة حذق الرامي بعينه لا معرفة حذق رام في الجملة ولو عقد اثنان نضالا على أربع مع كل واحد منهما ثلاثة لم يجز لذلك ولا يشترط تعيين القوس والسهام ولو عينها لم تتعين لأن القصد معرفة الحذق وهذا لا يختلف إلا بالرامي لا بإختلاف القوس والسهام وفي الرهان يعتبر تعيين الحيوان الذي يسابق به ولا يعتبر تعيين الراكب لأن الغرض معرفة عدو الفرس لا حذق الراكب وكل ما يعتبر تعيينه إذا تلف انفسخ العقد ولم يقم غيره مقامه لأن العقد تعلق بعينه فانفسخ بتلف العين ولأن الغرض معرفة حذق الرامي أو عدو الفرس وقد فاتت معرفة ذلك بموته ولا يعرف حذقه من غيره وما لا يتعين يجوز إبداله لعذر وغيره فإذا تلف قام غيره مقامه فإن شرطا أن لا يرمي بغير هذا القوس ولا بغير هذا السهم أو لا يركب غير هذا الراكب فهذه شروط فاسدة لأنها تنافي مقتضى العقد أشبهت ما إذا شرط إصابة بإصابتين
الثامن : أن تكون المسابقة في الإصابة ولو قالا السبق لأبعدنا رميا لم يجز لأن الغرض من الرمي الإصابة لا بعد المسافة فإن المقصود من الرمي أما قتل العدو أو جرحه أو الصيد أو نحو ذلك وكل هذا إنما يحصل من الإصابة لا من الأبعاد
فصل : والمناضلة على ثلاثة أضرب
أحدها : تسمى المبادرة وهو أن يقولا من سبق إلى خمس إصابات من عشرين رمية فهو السابق فأيهما سبق إليها مع تساويهما في الرشق فقد سبق فإذا رميا عشرة عشرة فأصاب أحدهما خمسا ولم يصب الآخر خمسا فالمصيب خمسا هو السابق لأنه قد سبق إلى خمسة وسواء أصاب الآخر أربعا أو ما دونها أو لم يصب شيئا ولا حاجة إلى اتمام الرشق لأن السبق قد حصل بسبقه إلى ما شرطا السبق إليه وإن أصاب كل واحد منهما من العشر خمسا فلا سابق فيهما ولا يكملان الرشق لأن جميع الإصابة المشروطة قد حصلت واستويا فيها فإن رمى أحدهما عشرا فأصاب خمسا ورمى الآخر تسعا فأصاب أربعا لم يحكم بالسبق ولا بعدمه حتى يرمي العاشر فإن أخطأ به فقد سبق الأول وإن أصاب به فلا سابق فيهما وإن لم يكن أصاب من التسعة إلا ثلاثا فقد سبقه الأول ولا يحتاج إلى رمي العاشر لأن أكثر ما يحتمل أنه يصيب به ولا يخرجه ذلك عن كونه مسبوقا
الضرب الثاني : أن يقول أينا فضل صاحبه بإصابة أو إصابتين أو ثلاث من عشرين رمية فقد سبق ويسمى مفاضلة ومحاطة لأن ما تساويا فيه من الإصابة محطوط غير معتد به ويلزم إكمال الرشق إذا كان في اتمامه فائدة فإذا قالا أينا فضل صاحبه بثلاثة فهو سابق فرميا اثنتي عشرة رمية فأصابها أحدهما وأخطأها الآخر كلها لم يلزم اتمام الرشق لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب الآخر الثماني الباقية ويحطها الأول ولا يخرج الأول بهذا عن كونه سابقا وإن كان الأول أنما أصاب من الاثنتي عشرة عشرا لزمهما أن يرميا الثالثة عشرة فإن أصاباها أو أخطآ أو اصابها الأول وحده فقد سبق ولا يحتاج إلى اتمام الرشق فإن أصابها الآخر وأخطأها الأول فعليهما أن يرميا الرابعة عشرة والحكم فيها وفيما بعدها كالحكم في الثالثة عشرة وأنه متى أصاباها أو أخطآ أو أصابها الأول فقد سبق ولا يرميان ما بعدها وإن أصابها الآخر وحده رميا ما بعدها وهكذا كل موضع كان اتمام الرشق فائدة لأحدهما لزم اتمامه وإن يئس من الفائدة لم يلزم اتمامه فإذا بقي من العدد ما يمكن ان يسبق أحدهما به صاحبه أو يسقط أحدهما به سبق صاحبه لزم الاتمام والا فلا فإذا كان السبق يحصل بثلاث إصابات من عشرين فرميا ثماني عشرة فأخطآها أو أصاباها أو تساويا في الإصابة فيها لم يلزم إتمام الرشق لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب أحدهما هاتين الرميتين ويخطئهما الآخر ولا يحصل السبق بذلك وكذلك أن فضل أحدهما الآخر بخمس إصابات فما زاد لم يلزم الاتمام لأن إصابة الآخر بالسهمين الباقيين لا يخرج الآخر عن كونه فاضلا بثلاث إصابات وإن لم يفضله إلا بأربع رميا السهم الآخر فإن اصابه المفضول وحجه فعليهما رمي الآخر فإن أصابه المفضول أيضا سقط سبق الأول وإن أخطآ في أحد السهمين أو أصاب الأول في أحدهما فهو سابق
فصل : الثالث : أن يقولا أينا أصاب خمسا من عشرين فهو سابق فمتى أصاب أحدهما خمسا من العشرين ولم يصبها الآخر فالأول سابق وإن أصاب كل واحد منهما خمسا أو لم يصب واحد منهما خمسا فلا سابق فيهما وهذه في معنى المحاطة في أنه يلزم اتمام الرشق ما كان في إتمامه فائدة فإذا خلا عن الفائدة لم يلزم اتمامه ومتى أصاب كل واحد منهما خمسا لم يلزم اتمامه ولم يكن فيهما سابق فإن رميا ست عشرة رمية ولم يصب واحد منهما شيئا لم يلزم اتمامه ولا سابق فيهما لأن أكثر ما يحتمل أن يصيب أحدهما الأربعة كلها ولا يحصل السبق بذلك
واختلف أصحابنا فقال أبو الخطاب لا بد من معرفة الرمي هل هو مبادرة أو محاطة أو مفاضلة ؟ لأن غرض الرماة يختلف فمنهم من تكثر إصابته في الابتداء دون الانتهاء ومنهم من هو بالعكس فوجب بيان ذلك ليعلم ما دخل فيه وظاهر كلام القاضي أنه لا يحتاج إلى اشتراط ذلك لأن مقتضى النضال المبادرة وإن من بادر إلى الإصابة فهو السائق فإنه إذا شرط أن السبق لمن أصاب خمسة من عشرين فسبق إليها واحد فقط وجد الشرط ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : فإن شرطا إصابة موضع من الهدف على أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابه الآخر ففعل ثم فضل أحدهما الاخر بما شرطاه كان سابقا ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن هذا نوع من المحاطة فإذا أصاب أحدهما موضعا بينه وبين الغرض شبر وأصاب الآخر موضعا بينه وبين الغرض أقل من شبر أسقط الأول وإن اصاب الأول الغرض أسقط فإن أصاب الثاني الدائرة التي في الغرض لم يسقط به الأول لأن الغرض كله موضع للإصابة فلا يفضل أحدهما صاحبه إذا أصاباه جميعا إلا أن يشترطا ذلك وإن شرطا أن يحتسب كل واحد منهما خاسقه بإصابتين جاز لأن أحدهما لم يفضل صاحبه في شيء فقد استويا
فصل : والسنة أن يكون لهما غرضان يرميان أحدهما ثم يمضيان فيأخذان السهام يرميان الآخر لأن هذا كان فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ما بين الغرضين روضة من رياض الجنة ] وقال إبراهيم التيمي رأيت حذيفة يشتد بين الهدفين يقول أنا بها في قميص وعن ابن عمر مثل ذلك والهدف ما ينصب الغرض عليه إما تراب مجموع وأما حائط ويروى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنهم كانوا يشتدون بين الأغراض يضحك بعضهم إلى بعض فإذا جاء الليل كانوا رهبانا فإن جعلوا غرضا واحدا جاز لأن المقصود يحصل به وهو عاة أهل عصرنا
ولا بد في المناضلة أن يبتدىء أحدهما بالرمي لأنهما لو رميا معا أفضى إلى الإختلاف ولم يعرف المصيب منهما فإن كان المخرج أجنبيا قدم من يختاره منهما فإن لم يختر وتشاحا أقرع بينهما وأيهما كان أحق بالتقديم فبدره الآخر فرمى لم يعتد له بسهمه أصاب أو أخطأ وإذا بدأ أحدهما في وجه بدأ الآخر في الثاني تعديلا بينهما وإن شرطا البداءة لأحدهما في كل الوجوه لم يصح لأن موضوع المناضلة على المساواة وهذا تفاضل فإن فعل ذلك من غير شرط باتفاق منهما جاز لأن البداءة لا أثر لها في الإصابة ولا في تجويد الرمي وإن شرطا أن يبدأ كل واحد منهما من وجهين متواليين جاز لتساويهما ويحتمل أن يكون اشتراط البداءة في كل موضع ذكرنا غير لازم ولا يؤثر في العقد لأنه لا أثر له في تجويد رمي البادىء ولا كثرة إصابة وكثير من الرماة يختار التأخر على البداية فيكون وجود هذا الشرط كعدمه فإذا رمى البادىء بسهم رمى الثاني بسهم كذلك حتى يقضيا رميهما لأن إطلاق المناضلة يقتضي المراسلة ولأن ذلك أقرب إلى التساوي وأنجز للرمي لأن أحدهما يصلح قوسه ويعدل سهمه حتى يرمي الآخر وإن رميا بسهمين سهمين فحسن وهو العادة بين الرماة فيما رأينا وإن اشترطا أن يرمي أحدهما رشقا ثم يرمي الآخر أو يرمي أحدهما عددا ثم يرمي الآخر مثله جاز لأن هذا لا يؤثر في مقصود المناضلة وإن خالف مقتضى الإطلاق كما يجوز أن يشترط في البيع ما لا يقتضيه الإطلاق من النقود والخيار والأجل لما كان غير مانع من المقصود
فصل : وإن شرطا أن يرميا إرشاقا كثيرة جاز لأنه إذا جاز على القليل جاز على الكثير ولا بد أن تكون معلومة ثم أن شرطا أن يرميا منها كل يوم قدرا اتفقا عليه جاز لأن الغرض في هذا صحيح فإنهما أو أحدهم قد يضعف عن الرمي كله مع حذقه وإن اطلقا العقد جاز وحمل على التعجيل والحلول كسائر العقود فيرميان من أول النهار إلى آخره إلا أن يعرض عذر يمنع من مرض أو ريح أو تشوش السهام أو لحاجته إلى طعام أو شراب أو صلاة أو قضاء حاجة لأن هذه مستثناة بالعرف وكذلك المطر فإنه يرخي الوتر ويفسد الرشق فإذا جاء الليل تركاه لأن العادة ترك الرمي بالليل فحمل العقد عليه مع الإطلاق إلا أن يشترطا الرمي ليلا فيأخذ أحدهما صاحبه بذلك وإن كانت الليلة مقمرة منيرة اكتفي بذلك وإلا رميا في ضوء شمعة أو مشعل وإن عرض عارض يمنع الرمي كما ذكرنا أو كسر قوس أو قطع وتر أو انكسر سهم جاز إبداله فإن لم يمكن أخر الرمي حتى يزول العارض
فصل : فإن أراد أحدهما التطويل والتشاغل عن الرمي بما لا حاجة إليه من مسح القوس والوتر ونحو ذلك أرادة التطويل على صاحبه لعله ينسى القصد الذي أصاب به أو يفتر منع من ذلك وطولب بالرمي ولا يدهش بالاستعجال بالكلية بحيث يمنع من تحري الإصابة ويمنع كل واحد منهما من الكلام الذي يغيظ به صاحبه مثل أن يرتجز ويفتخر ويتبجح بالإصابة ويعنف صاحبه على الخطأ أو يظهر له أنه يعلمه وهكذا الحاضر معهما مثل الأمير والشاهدين وغيرهم يكره لهم مدح المصيب وزهرهته وتعنيف المخطىء وزجره لأنه فيه كسر قلب أحدهما وغيظه
فصل : وإذا تشاحا في موضع الوقوف فإن كان ما طلبه أحدهما أولى مثل أن يكون في أحد الموقفين يستقبل الشمس أو ريحا يؤذيه استقبالها ونحو ذلك والآخر يستدبرها قدم قول من طلب استدبارها لأنه العرف إلا أن يكون في شرطهما استقبال ذلك فالشرط أملك كما قلنا في الرمي ليلا وإن كان الموقفان سواء كان ذلك إلى الذي له البداءة فيتبعه الآخر فإذا كان في الوجه الثاني وقف حيث شاء ويتبعه الأول
فصل : ويجوز عقد النضال على جماعة لأنه يروى [ أن النبي صلى الله عليه و سلم مر على أصحاب له ينتضلون فقال : ارموا وأنا مع ابن الأدرع فأمسك الآخرون وقالوا كيف نرمي وأنت مع ابن الأدرع ؟ قال : ارموا وأنا معكم كلكم ] رواه البخاري ولأنه إذا جاز أن يكونا اثنين جاز أن يكونوا جماعتين لأن المقصود معرفة الحذق وهذا يحصل في الجماعتين فجاز كما في سباق الخيل وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم سبق بين الخيل المضمرة وسبق بين الخيل التي لم تضمر وعلى هذا يكون كل حزب بمنزلة واحد فإن عقد النضال جماعة ليتناضلوا حزبين فذكر القاضي أنه يجوز وهو مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يجوز لأن التعيين شرط وقبل التفاضل لم يتعين من في كل واحد من الحزبين فعلى هذا إذا تفاضلوا عقدوا النضال بعده وعلى قول القاضي يجوز العقد قبل التفاضل ولا يجوز أن يقتسموا بالقرعة لأنها ربما وقعت على الحذق في أحد الحزبين وعلى الكوادن في الآخر فيبطل مقصود النضال بل يكون لكل حزب رئيس فيختار أحدهما واحدا ثم يختار الآخر واحدا كذلك الحذاق حتى يتفاضلوا جميعا ولا يجوز أن يجعل الخيار إلى أحدهما في الجميع ولا أن يختار جميع حزبه أولا لأنه يختار الحذاق كلهم في حزبه ولا يجوز أن يجعل رئيس الحزبين واحدا لأنه يميل إلى حزبه فتلحقه التهمة ولا يجوز أن يختار كل واحد من الرئيسين أكثر من واحد لأنه أبعد من التساوي وإذا اختلفا في المبتدىء بالخيار منهما أقرع بينهما ولو قال أحدهما أنا أختار أولا وأخرج السبق أو يخرجه أصحابي لم يجز لأن السبق أنما يستحق بالسبق لا في مقابلة تفضل أحدهما بشيء
فصل : وإذا خرج أحد الزعيمين السبق من عنده فسبق حزبه لم يكن على حزبه شيء لأنه جعله على نفسه دونهم وإن شرطه عليهم فهو عليهم بالسوية ويكون للحزب الاخر بالسوية من أصاب منهم ومن لم يصب في أحد الوجهين كما أنه على الحزب الآخر بالسوية وفي الوجه الآخر يقسم بينهم على قدر الإصابة وليس لمن لم يصب منهم شيء لأن استحقاقه بالإصابة فكان على قدرها واختص بمن وجدت منه بخلاف المسبوقين فإنه وجب عليهم لالتزامهم له وقد استووا في ذلك
فصل : ومتى كان النضال بين حزبين اشترطا كون الرشق قسمه بينهم بغير كسر ويتساوون فيه فإن كانوا ثلاثة وجب أن يكون له ثلث وإن كانوا أربعة وجب أن يكون له ربع وكذلك ما زاد لأنه إذا لم يكن كذلك بقي سهم أو أكثر لا يمكن الجماعة الإشتراك فيه
فصل : وإذا كانوا حزبين فدخل معهم رجل لا يعرفونه في احد الحزبين وكان يحسن الرمي جاز وإن كان لا يحسنه بطل العقد فيه وإخراج من الحزب الآخر من جعل بإزائه لأن كل واحد يجعل في مقابلة آخر أو يختار أحد الزعيمين واحدا ويختار الآخر آخر في مقابلته وهل يبطل في الباقين ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا لا يبطل فلكل حزب الخيار لتبعيض الصفقة في حقهم وإن بان راميا لكنه قليل الإصابة فقال حزبه ظنناه كثير الإصابة أو لم نعلم حاله أو بان كثير الإصابة فقال الحزب الآخر ظنناه قليل الإصابة لم يسمع ذلك منهم وكان كمن عرفوه لأن شرط دخوله أن يكون في العقد من أهل الصنعة دون الحذق كما لو اشترى عبدا على أنه كاتب فبان حاذقا أو ناقصا فيها لم يؤثر
فصل : ولا يجوز أن يقولوا نقرع فمن خرجت قرعته فهو السابق ولا أن من خرجت قرعته فالسبق عليه ولا أن يقولوا نرمي فأينا أصاب فالسبق على الآخر لأنه عوض في عقد فلا يستحق بالقرعة ولا بالإصابة وإن شرطوا أن يكون أن يكون فلان مقدم حزب وفلان مقدم الآخر ثم فلان ثانيا من الحزب الأول وفلان ثانيا من الحزب الثاني كان فاسدا لأن تقديم كل واحد من الحزب يكون إلى زعيمه وليس للحزب الآخر مشاركته في ذلك فإذا شرطوه كان فاسدا
فصل : وإذا تناضل اثنان وأخرج أحدهما السبق فقال أجنبي أنا شريكك في الغنم والغرم أن نضلك فنصف السبق علي وان نضلته فنصفه لي لم يجز وكذلك لو كان المتناضلون ثلاثة فيهم محلل فقال رابع للمستبقين أنا شريككما في الغنم والغرم كان باطلا لأن الغنم والغرم إنما يكون من المناضل فأما من لا يرمي فلا يكون له غنم ولا غرم ولو شرطا في النضال أنه إذا جلس عليه السبق لم يجز لأن السبق على النضال وهذا الشرط يخالف مقتضى النضال فكان فاسدا
فصل : ولو فضل أحد المتناضلين صاحبه فقال المفضول اطرح فضلك واعطيك دينارا لم يجز لأن المقصود معرفة الحذق وذلك يمنع منه وإن فسخا العقد وعقدا عقدا آخر جاز وإن لم يفسخاه ولكن رميا تمام الرشق فتمت افصابة له مع ما أسقطه استحق السبق ورد الدينار إن كان أخذه
فصل : إذا كان شرطهما خواصل وهي الإصابة المطلقة اعتد بها كيفما وجدت بشرط أن يصيب بنصل السهم فإن اصاب بعرضه أو بفوقه نحو أن ينقلب السهم بين يدي الغرض فيصيب فوقه الغرض لم يعتد به لأن هذا من سيء الخطأ وإن انقطع السهم قطعتين فأصابت القطعة الأخرى لم يحتسب به فإن كان الغرض جلدا خيط عليه شنبر كشنبر المنخل وجعلا له عرى وخيوطا تعلق به في العرى فأصاب الشنبر أو العرى نظرت في شرطهما فإن شرطا اصابة الغرض اعتد له لأن ذلك من الغرض فأما المعاليق وهي الخيوط فلا يعتد له بإصابتها على كلا الشرطين لأنها ليست من الجلدة ولا من الغرض فأشبه إصابة الهدف
فصل : وإن أطارت الريح الغرض فوقع السهم في موضعه فإن كان شرطهما خواصل احتسب به لعلمنا أنه لو كان الغرض في موضعه أصابه وإن كان شرطهما خواسق فقال القاضي ينظر فإن كانت صلابة الهدف كصلابة الغرض فثبت في الهدف احتسب له به لأنه لو بقي مكانه لثبت فيه كثبوته في الهدف وإن لم يثبت فيه مع التساوي لم يحتسب وإن كان الهدف أصلب فلم يثبت فيه أو كان رخوا لم يحتسب السهم له ولا عليه لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض لو بقي مكانه أو لا وهذا مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب إن كان شرطهما خواسق لم يحاسب له بالسهم الذي وقع في موضعه ولا عليه لأننا لا ندري هل يثبت في الغرض لو كان موجودا أو لا ؟ وإن وقع السهم في غير موضع الغرض احتسب به على راميه لأنه خطأ ولو وقع في الغرض في الموضع الذي طار إليه حسب عليه ايضا لا له إلا أن يكونا اتفقا على رميه في الموضع الذي طار إليه وكذلك الحكم إذا ألقت الريح الغرض على وجهه
فصل : وإذا رمى فأخطأ لعارض من كسر قوس أو قطع وتر أو حيوان اعترض بين يديه وريح شديدة ترد السهم عرضا لم يحسب عليه بذلك السهم لأن خطأه للعارض لا لسوء رميه قال القاضي ولو أصاب لم يحتسب له لأنه إذا لم يحتسب عليه لم يحتسب له ولأن الريح الشديدة كما يجوز أن تصرف الرمي الشديد فيخطىء يجوز أن تصرف السهم المخطىء عن خطئه فيقع مصيبا فتكون إصابته بالريح لا بحذق رميه فأما أن وقع السهم في حائل بينه وبين الغرض فمرقه وأصاب الغرض حسب له لأن إصابته لسداد رميه ومروقه لقوته فهو أولى من غيره وإن كانت الريح لينة خفيفة لا ترد السهم عادة لم يمنع لأن الجو لا يخلو من ريح ولأن الريح اللينة لا تؤثر إلا في الرمي الرخو الذي لا ينتفع به
فصل : وإن كان شرطهما خواسق والخاسق ما ثقب الغرض وثبت فيه فمتى أصاب الغرض بنصله وثبت فيه حسب له وإن خدشه ولم يثقبه لم يحتسب له وحسب به عليه وإن مرق منه احتسب له به لأن ذلك لقوة رميه فهو ابلغ من الخاسق وإن خرقه وهو أن يثقبه ويقع بين يديه ففيه وجهان :
احدهما : يحتسب له لأنه ثقب ثقبا يصلح للخسق وإنما لم يثبت السهم لسبب آخر من سعة الثقب أو غيره والثاني : لا يحتسب له لأن شرطهما الخواسق والخاسق ما ثبت وثبوته يكون بحذق الرامي وقصده برميه ما اتفقا عليه فإن كان امتناع السهم من الثبوت لمصادفته ما يمنع الثبوت من حصاة أو حجر أو عظم أو أرض غليظة ففيه الوجهان إلا أنه إذا لم يحتسب له لم يعد عليه لأن العارض منعه من الثبوت فأشبه ما لو منعه عارض من الإصابة وإن اختلفا في وجود العارض نظرت فإن علم موضع الثقب باتفاقهما أو ببينة نظر في الموضع فإن لم يكن فيه ما يمنع فالقول قول المنكر وإن كان فيه ما يمنع فالقول قول المدعي ولا يمين لأن الحال تشهد بصدق ما ادعاه وإن لم يعلما موضع الثقب إلا أنهما اتفقا على أنه خرق الغرض ولم يكن وراءه شيء يمنع فالقول قول المنكر بغير يمين أيضا لأنه لا مانع وإن كان وراءه ما يمنع وادعى المصاب عليه أنه لم يكن لسهم في موضع وراءه ما يمنع فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الإصابة مع احتمال ما يقوله المصيب وإن أنكر أن يكون خرق أيضا فالقول ايضا قوله مع يمينه لما ذكرناه
فصل : وإن شرطا خاسقا فوقع السهم في نقب في الغرض أو موضعه بال فنقبه وثبت في الهدف معلقا في الغرض نظرت فإن كان الهدف صليبا كصلابة الغرض فثبت فيه حسب له لأنه علم أن الغرض لو كان صحيحا لثبت فيه وإن كان الهدف ترابا أهيل لم يحتسب له ولا عليه لأننا لا نعلم هل كان يثبت في الغرض لو أصاب موضعا منه قويا أو لا ؟ وإن صادف السهم في ثقب في الغرض قد ثبت في الهدف مع قطعة من الغرض فقال الرامي خسفت وهذه الجلدة قطعها سهمي لشدة الرمية فأنكر صاحبه وقال بل هي كانت مقطوعة فإن علم أن الغرض كان صحيحا فالقول قول الرامي وإن اختلفا فذكر القاضي أنها كالتي قبلها إن كان الهدف رخوا لم يعتد به وإن كان قويا صلبا اعتد به وإن وقع سهمه في سهم ثابت في الغرض اعتد له به فإن كان شرطهما خواسق لم يحتسب له به ولا عليه لأننا لا نعلم يقينا أنه لولا فوق السهم الثابت لخسق فإن اصاب السهم ثم سبح عنه فخسق احتسب له به
فصل : إذا قال رجل لآخر : ارم هذا السهم فإن أصبت به فلك درهم صح وكان جعالة لأنه بذل مالا له في فعل له فيه غرض صحيح ولم يكن هذا نضالا لأن النضال يكون بين اثنين أو جماعة على أن يرموا جيمعا ويكون الجعل لبعضهم إذا كان سابقا وإن قال إن أصبت به فلك درهم وإن أخطأت فعليك درهم لم يصح لأنه قمار
وإن قال ارم عشرة أسهم فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم صح لأنه جعل الجعل في مقابلة الإصابة المعلومة فإن أكثر العشرة أقله ستة وليس ذلك بمجهول لأنه بالأقل يستحق الجعل وإن قال إن كان صوابك أكثر فلك بكل سهم أصبت به درهم صح وكذلك أن قال ارم عشرة ولك بكل سهم أصبت به منها درهم أو قال فلك بكل سهم زائد على النصف من المصيبات درهم لأن الجعل معلوم بتقديره بالإصابة فأشبه ما لو قال استق لي من هذا البئر ولك بكل دلو تمرة أو قال : من رد عبدا من عبيدي فله بكل عبد درهم وإن قال : وإن كان خطؤك أكثر فعليك درهم أو نحو هذا لم يجز لأنه قمار وإن قال ارم عشره فإن أخطأتها فعليك درهم ونحو هذا لم يجز لأن الجعل يكون في مقابلة عمل ولم يوجد من القابل عمل يستحق به شيئا ولو قال الرامي لأجنبي أن أخطأت فلك درهم لم يصح لذلك
فصل : وإذا عقد النضال ولم يذكروا قوسا فظاهر كلام القاضي أنه يصح ويستويان في القوس إما العربية وإما العجمية وقال غيره لا يصح حتى يذكرا نوع القوس الذي يرميان عليه في الابتداء لأن إطلاقه ربما أفضى إلى الاختلاف وقد أمكن التحرز عنه بالتعيين للنوع فيجب ذلك وإن اتفقا على أنهما يرميان بالنشاب في الابتداء صح وينصرف إلى الرمي بالقوس الأعجمية لأن سهامها هو المسمى بالنشاب وسهام العربية يسمى نبلا فإن عينا نوعا من القسيي لم يجز العدول عنها إلى غيرها لأن أحدهما قد يكون احذق بالرمي بأحد النوعين دون الآخر وإن عينا قوسا بعينها لم تتعين لأنها قد تنكسر ويحتاج إلى إبدالها لأن الحذق لا يختلف بإختلاف عين القوس بخلاف النوع وإن تناضلا على أن يرمي أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو أحدهما بقوس الزنبور والآخر بقوس الجرخ أو قوس الحسبان وهو قوس سهامه قصار يجعل في مجرى مثل القصبة ثم يرمى بها ففيها وجهان :
أحدهما : يصح وهو قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما نوعا جنس فصحت المسابقة مع اختلافهما كالخيل والإبل
والثاني : لا تصح المسابقة مع اختلافهما لأنهما يختلفان في الإصابة فجرى مجرى المسابقة بين جنسين وكذلك الحكم في المسابقة بين نوعي الخيل والإبل
فصل : وظاهر كلام أحمد إباحة الرمي بالقوس الفارسية ونص على جواز المسابقة بها وقال أبو بكر بن جعفر يكره لأنه [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رأى مع رجل قوسا فارسية فقال : القها فإنها معلونة ولكن عليكم بالقسي العربية وبرماح القنا فيها يؤيد الله الدين وبها يمكن الله لكم في الأرض ] رواه الأثرم
ولنا انعقاد الإجماع على الرمي بها وإباحة حملها فإن ذلك جار في اكثر الأعصار وهي التي يحصل الجهاد بها في عصرنا وأكثر الأعصار المتقدمة وأما الخبر فيحتمل أنه لعنها لأن حملتها في ذلك العصر العجم ولم يكونا أسلموا بعد ومنع العرب من حملها لعدم معرفتهم بها ولهذا أمر برماح القنا ولو حمل إنسان رمحا غيرها لم يكن مذموما وحكى أحمد أن قوما استدلوا على القسي الفارسية بقول الله تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } يعني أن هذا مما استطاعه من القوة فيدخل في عموم الآية
مسألة : قال : ولا يجوز إذا أرسل الفرسان أن يجنب أحدهما إلى فرسه فرسا يحرضه على العدو ولا يصيح به وقت سباقه لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا جنب ولا جلب ]
معنى الجنب أن يجنب المسابق إلى فرسه فرسا لا راكب عليه يحرض الذي تحته على العدو ويحثه عليه هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي معناه أن يجنب فرسا يتحول عند الغاية عليه لكونها أقل كلالا وإعياء قال ابن المنذر كذا قيل ولا أحسب هذا يصح لأن الفرس التي يسابق عليها لا بد من تعيينها فإن كانت التي يتحول عنها فما حصل السبق بها وإن كانت التي يتحول إلبها فما حصلت المسابقة بها في جميع الحلبة ومن شرط السباق ذلك ولأن هذا متى احتاج إلى التحول والاشتغال به فربما سبق بإشتغاله لا سرعة غيره ولأن المقصود معرفة عدو الفرس في الحلبة كلها فمتى كان إنما يركبه في آخر الحلبة فما حصل المقصود وأما الجلب فهو أن يتبع الرجل فرسه يركض خلفه ويجلب عليه ويصيح وراءه يستحثه بذلك على العدو وهكذا فسره مالك وقال قتادة : الجلب والجنب في الرهان وروي عن أبي عبيد كقول مالك وحكي عنه أن معنى الجلب أن يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم قال فلا يفعل ليأتهم على مياههم فيصدقهم والتفسير الأول هو الصحيح لما روى عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا جلب ولا جنب في الرهان ] رواه أبو داود وفي حديث علي في السباق وفي آخره ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام : يروى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا ] (11/140)
فصلان الذي تصح منه اليمين
كتاب الأيمان الأصل في مشروعيتها وثبوت حكمها الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } الآية وقال تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } وأمر نبيه صلى الله عليه و سلم بالحلف في ثلاثة مواضع فقال : { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين } وقال : { قل بلى وربي لتأتينكم } والثالث : { قل بلى وربي لتبعثن } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] متفق عليه [ وكان أكثر قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم : ومصرف القلوب - ومقلب القلوب ] ثبت هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في آي وأخبار سوى هذين كثير وأجمعت الأمة على مشروعية اليمين وثبوت أحكامها ووضعها في الأصل لتوكيد المحلوف عليه
فصل : وتصح من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين ولا تصح من غير مكلف كالصبي والمجنون والنائم لقوله عليه السلام : [ رفع القلم عن ثلاث ] ولأنه قول يتعلق به وجوب حق فلم يصح من غير مكلف أو غير مكلف ولا تنعقد يمين مكره وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة تنعقد لأنها يمين مكلف فانعقدت كيمين المختار
ولنا ما روى أبو امامة وواثلة بن الأسقع ان رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ليس على مقهور يمين ] ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح ككلمة الكفر
فصل : وتصح اليمين من الكافر وتلزمه الكفارة بالحنث سواء حنث في كفره أو بعد اسلامه وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر إذا حنث بعد إسلامه وقال الثوري وأصحاب الرأي لا ينعقد يمينه لأنه ليس بمكلف
ولنا ان عمر رضي الله عنه نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالوفاء بنذره ولأنه من أهل القسم بدليل قوله تعالى : { فيقسمان بالله } ولا نسلم أنه غير مكلف وانما تسقط عنه العبادات باسلامه لأن الاسلام يجب ما قبله فاما ما يلزمه بنذره أو يمينه فينبغي أن يبقى حكمه في حقه لأنه من جهته (11/161)
فصلان لا يجوز الحلف بغير الله ويكره الافراط بالحلف بالله
فصل : ولا يجوز الحلف بغير الله وصفاته نحو أن يحلف بأبيه أو الكعبة أو صحابي أو إمام قال الشافعي أخشى أن يكون معصية قال ابن عبد البر وهذا أصل مجمع عليه وقيل يجوز ذلك لأن الله تعالى أقسم بمخلوقاته فقال : { والصافات صفا } { والمرسلات عرفا } { والنازعات غرقا } [ وقال النبي صلى اله عليه وسلم للأعرابي السائل عن الصلاة : أفلح وأبيه ان صدق ] وقال في حديث أبي الشعراء : [ وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزأك ]
[ ولنا ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه و سلم أدركه وهو يحلف بأبيه فقال : ان الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] قال عمر : فما حلفت بها بعد ذلك ذاكرا ولا آثرا متفق عليه يعني ولا حاكيا لها عن غيري وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] قال الترمذي هذا حديث حسن وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ] وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال ] متفق عليه وفي لفظ : [ من حلف أنه بريء من الاسلام فان كان قد كذب فهو كما قال وان كان صادقا لم يرجع الى الاسلام سالما ] رواه ابو داود فأما قسم الله بمصنوعاته فإنما أقسم به دلالة على قدرته وعظمته ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه ولا وجه للقياس على إقسامه وقد قيل أن في إقسامه اضمار القسم برب هذه المخلوقات فقوله : { والضحى } أي ورب الضحى
وأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفلح وأبيه إن صدق ] فقال ابن عبد البر هذه اللفظة غير محفوظة من وجه صحيح فقد رواه مالك وغيره من الحفاظ فلم يقولوها فيه وحديث أبي العشراء قد قال أحمد لو كان يثبت ؟ يعني أنه لم يثبت ولهذا لم يعمل به الفقهاء في إباحة الذبح في الفخذ ثم لو ثبت فالظاهر أن النهي بعده لأن عمر قد كان يحلف بها كما حلف النبي صلى الله عليه و سلم ثم نهى عن الحلف بها ولم يرد بعد النهي إباحة ولذلك قال عمر وهو يروي الحديث بعد موت النبي صلى الله عليه و سلم فما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا ثم إن لم يكن الحلف بغير الله محرما فهو مكروه فإن حلف فليستغفر الله تعالى أو ليذكر الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف باللات والعزى فليقل لا إله الله ] لأن الحلف بغير الله سيئة والحسنة تمحو السيئة وقد قال الله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا عملت سيئة فاتبعها حسنة تمحها ] ولأن من حلف بغير الله فقد عظم غير الله تعظيما يشبهه تعظيم الرب تبارك وتعالى ولهذا سمي شركا لكونه أشرك غير الله مع الله تعالى في تعظيمه بالقسم به فيقول لا إله إلا الله توحيدا لله تعالى وبراءة من الشرك وقال الشافعي : من حلف بغير الله تعالى فليقل أستغفر الله
فصل : ويكره الإفراط في الحلف بالله تعالى لقول تعالى : { ولا تطع كل حلاف مهين } وهذا ذم له يقتضي كراهة فعله فإن لم يخرج إلى حد الإفراط فليس بمكروه إلا أن يقترن به ما يوجب كراهته ومن الناس من قال الأيمان مكروهة لقول الله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم }
[ ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحلف كثيرا وقد كان يحلف في الحديث الواحد أيمانا كثيرة وربما كرر اليمين الواحدة ثلاثا فإن قال في خطبة الكسوف : والله يا أمة محمد ما أحد أغير من الله يزني عبده أو تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ] ولقيته امرأة من الأنصار معها أولادها فقال : [ والذي نفسي بيده أنكم لأحب الناس إلي ] ثلاث مرات وقال : [ والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ] ولو كان هذا مكروها لكان النبي صلى الله عليه و سلم أبعد الناس منه ولأن الحلف بالله تعظيم له وربما ضم إلى يمنيه وصف الله تعالى بتعظيمه وتوحيده فيكون مثابا على ذلك [ وقد روي أن رجلا حلف على شيء فقال والله الذي لا آله إلا هو ما فعلت كذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : أما أنه قد كذب ولكن قد غفر له بتوحيده ] وأما الإفراط في الحلف فأنما كره لأنه لا يكاد يخلو من الكذب والله أعلم
فأما قوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } فمعناه لا تجعلوا أيمانكم بالله مانعة لكم من البر والتقوى والإصلاح بين الناس وهو أن يحلف بالله أن لا يفعل برا ولا تقوى ولا يصلح بين الناس ثم يمتنع من فعله ليبر في يمنيه ولا يحنث فيها فنهوا عن المضي فيها
قال أحمد وذكر حديث ابن عباس بإسناده في قوله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } الرجل يحلف أن لا يصل قرابته وقد جعل الله له مخرجا في التكفير فأمره أن لا يعتل بالله فليكفر وليبر وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لأن يستلج أحدكم في يمينه آثم له عند الله من أن يؤدي الكفارة التي فرض الله عليه ] متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] وقال : [ إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] متفق عليهما وإن كان النهي عاد إلى اليمين فالمنهي عنه الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح بين الناس لا على كل يمين فلا حجة فيها لهم إذا (11/163)
فصل خمسة أقسام
فصل : والإيمان تنقسم خمسة أقسام :
أحدها : واجب وهي التي ينجي بها إنسانا معصوما من هلكة كما [ روي عن سويد بن حنظلة قال : خرجنا نريد النبي صلى الله عليه و سلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنا أنه أخي فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم : صدقت المسلم أخو المسلم ] رواه أبو داود و النسائي فهذا ومثله واجب لأن انجاء المعصوم واجب وقد تعين في اليمين فيجب وكذلك انجاء نفسه مثل أن تتوجه عليه إيمان القسامة في دعوى القتل عليه وهو بريء
الثاني : مندوب وهو الحلف الذي تتعلق به مصلحة من إصلاح بين متخاصمين أو إزالة حقد من قلب مسلم عن الحالف أو غيره أو دفع شر فهذا مندوب لأن فعل هذه الأمور إليه واليمين مفضية إليه وإن حلف على فعل طاعة أو ترك معصية ففيه وجهان :
أحدهما : أنه مندوب إليه وهو قول بعض أصحابنا وأصحاب الشافعي لأن ذلك يدعوه إلى فعل الطاعات وترك المعاصي
والثاني : ليس بمندوب إليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك في الأكثر الأغلب ولا حنث النبي صلى الله عليه و سلم أحدا عليه ولا ندبه إليه ولو كان ذلك طاعة لم يخلوا به ولأن ذلك يجري النذر [ وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن النذر وقال : أنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ] متفق عليه
الثالث : المباح مثل الحلف على فعل مباح أو تركه والحلف على الخبر بشيء هو صادق فيه أو يظن أنه فيه صادق فإن الله تعالى قال : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ومن صور اللغو أن يحلف على شيء يظنه كما حلف عليه ويبين بخلافه فأما الحلف على الحقوق عند الحاكم ففيه وجهان :
أحدهما : أن تركه أولى من فعله فيكون مكروها ذكر ذلك أصحابنا وأصحاب الشافعي لما روي أن عثمان والمقداد تحاكما إلى عمر في مال استقرضه المقداد فجعل عمر اليمين على المقداد فردها على عثمان فقال عمر لقد أنصفك فأخذ عثمان ما أعطاه المقداد ولم يحلف فقال خفت أن يوافق قدر بلاء فيقال بيمين عثمان
والثاني : أنه مباح فعله كتركه لأن الله تعالى أمر نبيه بالحلف على الحق في ثلاثة مواضع وروي محمد ابن كعب القرظي أن عمر قال على المنبر وفي يده عصا : يا أيها الناس لا تنمعكم اليمين من حقوقكم فوالذي نفسي بيده أن في يدي لعصا
وروى عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن الشعبي أن عمرا وأبيا تحاكما إلى زيد في نخل ادعاه أبي فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد أعف أمير المؤمنين فقال عمر ولم يعفي أمير المؤمنين ؟ إن عرفت شيئا استحققته بيميني وإلا تركته والله الذي لا آله إلا هو أن النخل لنخلي وما لأبي فيه حق لما خرجا وهب حقوقهم بعدي فيكون سنة ولأنه حلف صدق على حق فأشبه الحلف عند غير الحاكم
الرابع : المكروه وهو الحلف على فعل مكروه أو ترك مندوب قال الله تعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس }
وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حلف لا ينفق على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال وكان من جملة أهل الإفك الذين تكلموا في عائشة رضي الله عنها فأنزل الله تعالى : { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا } وقيل المراد بقوله { ولا يأتل } أي لا يمتنع ولأن اليمين على ذلك مانعة من فعل الطاعة أو حاملة على فعل المكروه فتكون مكروهة فإن قيل لو كانت مكروهة لانكر النبي صلى الله عليه و سلم على الأعرابي الذي سأله عن الصلوات فقال هل علي غيرها ؟ فقال : لا إلا أن تطوع فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولا أنقص منها ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه و سلم بل قال : أفلح الرجل أن صدق قلنا لا يلزم هذا فإن اليمين على تركها لا تزيد ولو تركها لم ينكر عليه ويكفي في ذلك بيان أن ما تركه تطوع وقد بينه له النبي صلى الله عليه و سلم بقوله : إلا أن تطوع ولأن هذه اليمين أن تضمنت ترك المندوب فقد تناولت فعل الواجب والمحافظة عليه كله بحيث لا ينقص منه شيئا وهذا في الفضل يزيد على ما قابله من ترك التطوع فيترجح جانب الإثبات بها على تركها فيكون من قبيل المندوب فكيف ينكر ؟ ولأن في الإقرار على هذه اليمين بيان حكم محتاج إليه وهو بيان أن ترك التطوع غير مؤاخذ به فلو أنكر على الحالف لحصل ضد هذا وتوهم كثير من الناس لحوق الأثم فيفوت الغرض ومن قسم المكروه الحلف في البيع والشراء ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الحلف منفق للسلعة ممحق للبركة ] رواه ابن ماجة
القسم الخامس : المحرم وهو الحلف الكاذب فإن الله تعالى ذمة بقوله تعالى : { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } ولأن الكذب حرام فإذا كان محلوقا عليه كان أشد في التحريم وإن بطل به حقا أو اقتطع به مال معصوم كان أشد فإنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حلف يمينا فاجرة يقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ] وأنزل الله عز و جل في ذلك { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } ومن هذا القسم الحلف على فعل معصية أو ترك واجب فإن المحلوف عليه حرام فكان الحلف حراما لأنه وسيلة إليه والوسيلة تأخذ حكم المتوسل إليه (11/167)
فصل حكم ما لو كانت اليمين على فعل واجب
فصل : ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرم كان حلها محرما لأن حلها بفعل المحرم وهو محرم وإن كانت على فعل مندوب أو ترك كروه فجعلها مكروه وإن كانت على فعل مباح فحلها مباح فإن قيل وكيف يكون حلها مباحا وقد قال الله تعالى : { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } قلنا هذا في الايمان في العهود والواثيق بدليل قوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } إلى قوله { تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة } والعهد يجب الوفاء به بغير يمين فمع اليمين أولى فإن الله تعالى قال : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } وقال : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } ولهذا نهى عن نقض اليمين والنهي يقتضي التحريم وذمهم عليه وضرب لهم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ولا خلاف في أن الحل المختلف فيه لا يدخله شيء من هذا وإن كانت على فعل مكروه أو ترك مندوب فحلها مندوب إليه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني والله إن شاء لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] وإن كانت اليمين على فعل محرم أو ترك واجب فحلها واجب لأن حلها بفعل الواجب وفعل الواجب (11/172)
مسألتان وفصول في الحالف وأحكام اليمين
مسألة : قال : ومن حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله أولا يفعل شيئا ففعله فعليه الكفارة
لا خلاف في هذا عند فقهاء الأمصار قال ابن عبد البر اليمين التي فيها الكفارة بإجماع المسلمين هي التي على المستقبل من الأفعال وذهبت طائفة إلى أن الحنث متى كان طاعة لم يوجب كفارة وقال قوم من حلف على فعل معصية فكفارتها تركها وقال سعيد بن جبير : اللغو أن يحلف الرجل فيما لا ينبغي له يعني فلا كفارة عليه في الحنث وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله تعالى ولا في قطعية رحم ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارة ] رواه أبو داود ولأن الكفارة إنما تجب لرفع الإثم ولا إثم في الطاعة ولأن اليمين كالنذر ولا نذر في معصية الله تعالى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمنيه ] وقال : [ إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ] أخرجه البخاري وحديثهم لا يعارض حديثنا لأن حديثنا أصح منه وأثبت ثم أنه يحتمل أن تركها كفارة لاثم الحلف والكفارة المختلف فيها كفارة المخالفة وقولهم أن الحنث طاعة قلنا فاليمين غير طاعة فتلزمه كفارة للمخالفة ولتعظيم اسم الله تعالى إذا حلف به ولم يبر يمينه
إذا ثبت هذا نظرنا في يمينه فإن كانت على ترك شيء ففعله حنث ووجبت الكفارة وإن كانت على فعل شيء فلم يفعله وكانت يمينه مؤقتة بلفظه أو نيته أو قرينة حاله ففات حنث وكفر فإن كانت مطلقة لم يحنث إلا بفوات وقت الإمكان لأنه كا دام في الوقت والفعل ممكن فيحتمل أن يفعل فلا يحنث ولهذا [ قال عمر للنبي صلى الله عليه و سلم ألم تخبرنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ قال : فاخبرتك أنك تاتيه العام ؟ قال لا قال : فإنك آتية ومطوف به ] وقد قال الله تعالى : { قل بلى وربي لتبعثن } وهو حق ولم يأت بعد
مسألة : قال : وإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق
وجملة ذلك أن من حلف ان لا يفعل شيئا ففعله ناسيا فلا كفارة عليه نقله عن أحمد الجماعة إلا في الطلاق والعتاق فإنه يحنث هذا ظاهر المذهب واختاره الخلال وصاحبه وهو قول أبي عبيدة وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يحنث في الطلاق والعتاق أيضا وهذا قول عطاء و عمرو دينار وابن أبي نجيح و إسحاق قالوا لا حنث على الناسي في طلاق ولا غيره وهو ظاهر مذهب الشافعي لقوله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه غير قاصد للمخالفة فلم يحنث كالنائم والمجنون ولأنه أحد طرفي اليمين فاعتبر فيه القصد كحالة الابتداء بها وعن أحمد رواية أخرى أنه يحنث في الجميع وتلزمه الكفارة في اليمين المكفرة وهو قول سعيد بن جبير و مجاهد و الزهري و قتادة و ربيعة و مالك وأصحاب الرأي والقول الثاني لـ لشافعي لأنه فعل ما حلف عليه قاصدا لفعله فلزمه الحنث كالذاكر وكما لو كانت اليمين بالطلاق والعتاق
ولنا على أن الكفارة لا تجب في اليمين المكفرة ما تقدم ولأنها تجب لرفع الإثم ولا إثم على الناسي وأما الطلاق والعتاق فهو متعلق بشرط فيقع بوجود شرطه من غير قصد كما لو قال أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج
فصل : وإن فعله غير عالم بالمحلوف عليه كرجل حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه يحسبه أجنبيا أو حلف أنه لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه فأعطاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه ردئيا أو حلف لا بعت لزيد ثوبا فوكل زيد من يدفعه إلى من يبيعه فدفعه إلى الحالف فباعه من غير علمه فهو كالناسي لأنه غير قاصد للمخالفة أشبه الناسي
فصل : والمكره على الفعل ينقسم قسمين أحدهما : أن يلجأ إليه مثل من يحلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها أو لا يخرج منها فأخرج محمولا أو مدفوعا بغير اختياره ولم يمكنه الامتناع فهذا لا يحنث في قول أكثرهم وبه قال أصحاب الرأي وقال مالك إن دخل مربوطا لم يحنث وذلك لأنه لم يفعل الدخول والخروج فلم يحنث كما لو لم يوجد ذلك الثاني : أن يكره بالضرب والتهديد بالقتل ونحوه فقال أبو الخطاب فيه روايتان كالناسي ولـ لشافعي قولان وقال مالك و أبو حنيفة يحنث لأن الكفارة لا تسقط بالشبهة فوجبت مع الإكراه والنسيان ككفارة الصيد
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه نوع إكراه فلم يحنث به كما لو حمل ولم يمكنه الامتناع ولأن الفعل لا ينسب إليه فأشبه من لم يفعله ولا نسلم الكفارة في الصيد بل إنما تجب على المكره والله أعلم
مسألة : قال : ومن حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة
هذا ظاهر المذهب نقله الجماعة عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود و سعيد بن المسيب و الحسن و الأوزاعي و الثوري و الليث و أبو عبيد و أبو ثور و أصحاب الرأي من أهل الكوفة وهذه اليمين تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم قال ابن مسعود كنا بعد من اليمين التي لا كفارة لها اليمين الغموس وعن سعيد بن المسيب قال : هي من الكبائر وهي أعظم من أن تكفر وروي عن أحمد أن فيها الكفارة وروي ذلك عن عطاء و الزهري و الحكم و البتي هو قول الشافعي لأنه وجدت منه اليمين بالله تعالى والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة
ولنا أنها يمين غير منعقدة فلا توجب الكفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبهت اللغو وبيان كونها غير منعقدة أنها لا توجب برا ولا يمكن فيها ولأنه قارنها وهو الحنث فلم تنعقد كالنكاح الذي قارنه الرضاع ولأن الكفارة لا ترفع إثمها فلا تشرع فيها ودليل ذلك أنها كبيرة فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس ] رواه البخاري وروى فيه : [ خمس من الكبائر لا كفارة لهن : الإشراك بالله والفرار من الزحف وبهت المؤمن وقتل المسلم بغير حق والحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرىء مسلم ] ولا يصح القياس على المستقبلة لأنها يمين منعقدة يمكن حلها والبر فيها وهذه غير منعقدة فلا حل لها وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ] يدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف على فعل يفعله فيما يستقبله قاله ابن المنذر (11/173)
مسائل وفصول أحكام الكفارة واليمين المكفرة والقسم بصفات الله والقسم بحذف حرف
مسألة : قال : والكفارة إنما تلزم من حلف يريد عقد اليمين
وجملته أن اليمين التي تمر على لسانه في عرض حديثه من غير قصد إليها لا كفارة فيها في قول أكثر أهل العلم لأنها من لغو اليمين نقل عبد الله عن أبيه أنه قال : اللغو عندي أن يحلف على اليمين يرى انها كذلك والرجل يحلف فلا يعقد قلبه على شيء وممن قال ان اللغو اليمين التي لا يعقد عليها قلبه عمر وعائشة رضي الله عنهما وبه قال عطاء و القاسم وعكرمة و الشعبي و الشافعي لما روي عن عطاء قال : [ قالت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يعني اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله ] أخرجه أبو داود قال ورواه الزهري و عبد الملك بن أبي سليمان و مالك بن مغول عن عطاء عن عائشة موقوفا وروى الزهري أن عروة حدثه عن عائشة قالت : أيمان اللغو ما كان في المراء والهزل والمزاحة والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وأيمان الكفارة كل يمين حلف عليها على وجه من الأمر في غضب أو غيره ليفعلن أو ليتركن فذلك عقد الإيمان التي فرض الله تعالى فيها الكفارة ولأن اللغو في كلام العرب الكلام غير المعقود عليه وهذا كذلك وممن قال لا كفارة في هذا ابن عباس وأبو هرية وأبو مالك وزرارة ابن أوفى و الحسن و النخعي و مالك وهو قول من قال إنه من لغو اليمين ولا نعلم في هذا خلافا ووجه ذلك قول الله تعالى ك { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } فجعل الكفارة لليمين التي يؤاخذ بها ونفى المؤاخذة باللغو فيلزم انتفاء الكفارة ولأن المؤاخذة يحتمل أن يكون معناها إيجاب الكفارة بدليل أنها تجب في الأيمان التي لا مأثم فيها وإذا كانت المؤاخذة إيجاب الكفارة فقد نفاها في اللغو فلا تجب ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فكان إجماعا ولأن قول عائشة في تفسير اللغو وبيان الأيمان التي فيها الكفارة خرج منها تفسيرا لكلام الله تعالى وتفسير الصحابي مقبول
مسألة : قال : ومن حلف على شيء يظنه كما حلف فلم يكن فلا كفارة عليه لأنه من لغو اليمين
أكثر أهل العلم على أن هذه اليمين لا كفارة فيها قاله ابن المنذر يروى هذا ابن عباس وأبي هريرة وأبي مالك وزرارة بن أوفى و الحسن و النخعي و مالك و أبي حنيفة و الثوري وممن قال هذا لغو اليمين مجاهد و سليمان بن يسار و الأوزاعي و الثوري و أبو حنيفة وأصحابه وأكثر أهل العلم على أن لغو اليمين لا كفارة فيه وقال ابن عبد البر : أجمع المسلمون على هذا وقد حكي عن النخعي في اليمين على شيء يظنه حقا فتبين بخلافه أنه من لغو اليمين وفيه الكفارة وهو أحد قولي الشافعي وروي عن أحمد أن فيه الكفارة وليس من لغو اليمين لأن اليمين بالله تعالى وجدت مع المخالفة فأوجبت الكفارة كاليمين على مستقبل
ولنا قول الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } وهذه منه ولأنها يمين غير منعقدة فلم تجب فيها كفارة كيمين الغموس ولأنه غير مقصود للمخالفة فأشبه ما لو حنث ناسيا وفي الجملة لا كفارة في يمين على ماض لأنها تنقسم ثلاثة أقسام ما هو صادق فيه فلا كفارة فيه إجماعا وما تعمد الكذب فيه فهو يمين الغموس لا كفارة فيها لأنها أعظم من أن تكون فيها كفارة وما يظنه حقا فيتبين بخلافه فلا كفارة فيه لأنه من لغو اليمين أما اليمين على المستقبل فما عقد عليه قلبه وقصد اليمين عليه ثم خالف فعليه الكفارة وما لم يعقد عليه قلبه ولم يقصد اليمين عليه وإنما جرت على لسانه فهو من لغو اليمين وكلام عائشة يدل على هذا فإنها قالت أيمان اللغو ما كان في المراء والمزاحة والهزل والحديث الذي لا يعقد عليه القلب وأيمان الكفارة كل يمين حلف عليها على وجه من الأمر في غضب أو غيره ليفعلن أو ليتركن فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة وقال الثوري : في جامعة الأيمان أربعة يمينان يكفران وهو أن يقول الرجل : والله لا افعل فيفعل أو يقول والله لأفعلن ثم لا يفعل ويمينان لا يكفران أن يقول والله ما فعلت وقد فعل أو يقول والله لقد فعلت وما فعل مسألة : قال : واليمين المكفرة فأن يحلف بالله عز و جل أو باسم من اسمائه
أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز و جل فقال والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة قال ابن المنذر وكان مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي يقولون من حلف باسم من أسماء الله تعالى فحنث أن عليه الكفارة ولا نعلم في هذا خلافا إذا كان من أسماء الله عز و جل التي لا يسمى بها سواه وأسماء الله تنقسم ثلاثة أقسام :
احدها : ما لا يسمى بها غيره نحو قوله والله والرحمن والأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء ورب العالمين و مالك يوم الدين ورب السموات والأرض والحي الذي لا يموت ونحو هذا فالحلف بهذا يمين بكل حال
والثاني : ما يسمى به غير الله تعالى مجازا وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى مثل الخالق والرازق والرب والرحيم والقادر والقاهر والملك والجبار ونحوه فهذا يسمى به غير الله مجازا بدليل قول الله تعالى : { وتخلقون إفكا } { وتذرون أحسن الخالقين } وقوله : { ارجع إلى ربك } { اذكرني عند ربك } { فأنساه الشيطان ذكر ربه } وقال : { فارزقوهم منه } وقال : { بالمؤمنين رؤوف رحيم } فهذا أن نوى به اسم الله تعالى أو أطلق كان يمينا لأنه بإطلاقه ينصرف إليه وإن نوى به غير الله تعالى لم يكن يمينا لأنه يستعمل في غيره فينصرف بالنية إلى ما نواه وهذا مذهب الشافعي وقال طلحة العاقولي إذا قال : والرب والخالق والرازق كان يمينا على كل حال كالأول لأنها لا تستعمل مع التعريف بلام التعريف إلا في إسمه تعالى فأشبهت القسم الأول
الثالث : ما يسمى به الله تعالى وغيره ولا ينصرف إليه بإطلاقه كالحي والعالم والموجود والمؤمن والكريم والشاكر فهذا إن قصد به اليمن بإسم الله تعالى كان يمينا وإن أطلق أو قصد غير الله تعالى لم يكن يمينا فيختلف هذا القسم والذي قبله في حالة الإطلاق ففي الأول يكون يمينا وفي الثاني لا يكون يمينا وقال القاضي و الشافعي في هذا القسم لا يكون يمينا وإن قصد به إسم الله تعالى لأن اليمين إنما تنعقد لحرمة الإسم فمع الإشتراك لا تكون له حرمة والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين
ولنا أنه أقسم باسم الله تعالى قاصدا به الحلف به فكان يمينا مكفرة كالقسم الذي قبله وقولهم أن النية المجردة لا تنعقد بها اليمين نقول به وما انعقد بالنية المجردة إنما انعقد بالإسم المحتمل المراد به اسم الله تعالى فإن النية تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته فيصير كالمصرح به كالكنايات وغيرها ولهذا لو نوى بالقسم الذي قبله غير الله تعالى لم يكن يمينا لنيته
فصل : والقسم بصفات الله تعالى كالقسم بأسمائه وصفاته تنقسم أيضا ثلاثة أقسام :
أحدها : ما هو صفات لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها كعزة الله تعالى وعظمته وجلاله وكبريائه وكلامه فهذه تنعقد بها اليمين في قولهم جميعا وبه يقول الشافعي وأصحاب الرأي لأن هذه من صفات ذاته لم يزل موصوفا بها وقد ورد الأثر بالقسم ببعضها فروي أن النار تقول : قط قط عزتك رواه البخاري والذي يخرج من النار يقول : وعزتك لا أسألك غيرها وفي كتاب الله تعالى : { فبعزتك لأغوينهم أجمعين }
والثاني : ما هو صفة للذات ويعبر به عن غيرها مجازا كعلم الله وقدرته فهذه صفة للذات لم يزل موصوفا بها وقد تستعمل في المعلوم والمقدور اتساعا كقولهم اللهم اغفر لنا علمك فينا ويقال اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك ويقال انظر إلى قدرة الله أي مقدوره فمتى أقسم بهذا كان يمينا وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قال وعلم الله لا يكون يمينا لأنه يحتمل المعلوم
ولنا أن العلم من صفات الله تعالى فكانت اليمين به يمينا موجبة للكفارة كلاعظمة والعزة والقدرة وينتقض ما ذكروه بالقدرة فإنهم قد سلموها وهي قرينتها فأما أن نوى القسم بالمعلوم والمقدور احتمل أن لا يكون يمينا وهو قول أصحاب الشافعي لأنه نوى بالإسم غير صفة الله مع احتمال اللفظ ما نواه فأشبه ما لو نوى القسم بمحلوف في الأسماء التي يسمى بها غير الله تعالى وقد روي عن أحمد أن ذلك يكون بيمينا بكل حال ولا تقبل منه نية غير صفة الله تعالى وهو قول أبي حنيفة في القدرة لأن ذلك موضوع للصفة فلا يقبل منه نية غير الصفة كالعظمة وقد ذكر طلحة العاقولي في أسماء الله تعالى المعرفة بلام التعريف كالخالق والرازق أنها تكون يمينا بكل حال لأنها لا تنصرف إلا إلى اسم الله كذا هذا
الثالث : ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى لكن ينصرف بإضافته إلى الله سبحانه لفظا أو نية كالعهد والميثاق والأمانة ونحوه فهذا لا يكون يمينا مكفرة إلا بإضافته أو نيته وسنذكره ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى
فصل : وإن قال وحق الله فهي يمين مكفرة وبهذا قال مالك و الشافعي وقال ابو حنيفة لا كفارة لها لأن حق الله طاعته ومفروضاته وليست صفة له
ولنا أن لله حقوقا يستحقها لنفسه من البقاء والعظمة والجلال والعزة وقد اقترن عرف الإستعمال بالحلف بهذه الصفة فتنصرف إلى صفة الله تعالى كقوله وقدرة الله وإن نوى بذلك القسم بمخلوق فالقول فيه كالقول في الحلف بالعلم والقدرة إلا أن إحتمال المخلوق بهذا اللفظ أظهر
فصل : وإن قال لعمر الله فهي يمين موجبة للكفارة وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي إن قصد اليمين فهي يمين وإلا فلا وهو اختيار أبي بكر لأنها إنما تكون يمينا بتقدير خبر محذوف فكأنه قال لعمر الله ما أقسم به فيكون مجازا والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق
ولنا أنه أقسم بصفة من صفات ذات الله فكان يمينا موجبا للكفارة كالحلف ببقاء الله تعالى فإن معنى ذلك الحلف ببقاء الله تعالى وحياته ويقال العمر والعمر واحد وقيل معناه وحق الله وقد ثبت له عرف الشرع والإستعمال قال الله تعالى : { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون }
وقال النابغة : ( فلا لعمر الذي قد زرته حججا ... وما أريق على الأنصاب من جسد )
وقال آخر : ( إذا رضيت كرام بني قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها )
وقال آخر : ( ولكن لعمر الله ما ظل مسلما ... كغر الثنايا واضحات الملاغم )
وهذا في الشعر والكلام كثير وأما احتياجه إلى التقدير فلا يصح فإن اللفظ إذا اشتهر في العرف صار من الأسماء العرفية يجب حمله عليه عند الإطلاق دون موضوعه الأصلي على ما عرف من سائر الأسماء العرفية ومتى احتاج اللفظ إلى التقدير وجب التقدير له ولم يجز اطراحه ولهذا يفهم مراد المتكلم به من غير اطلاع على نية قائله وقصده كما يفهم أن مراد المتكلم بهذا من المتقدمين القسم ويفهم بغير حرف القسم في أشعارهم القسم في مثل قوله
( فقلت يمين الله أبرح قاعدا )
ويفهم من القسم الذي حذف في جوابه حرف لا أنه مقدر مراد كهذا البيت ويفهم من قول الله تعالى : { واسأل القرية } { وأشربوا في قلوبهم العجل } التقدير فكذا ههنا وإن قال عمرك الله كما في قوله :
( أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان ؟ )
فقد قيل هو مثل قوله نشدتك الله ولهذا ينصب اسم الله تعالى فيه وإن قال لعمري أو لعمرك أو عمرك فليس بيمين في قول أكثرهم وقال الحسن في قوله لعمري عليه الكفارة
ولنا أنه أقسم بحياة مخلوق فلم تلزمه كفارة كما لو قال وحياتي وذلك لأن هذا اللفظ يكون قسما بحياة الذي أضيف إليه لعمر فإن التقدير لعمرك قسمي أو ما أقسم به والعمر الحياة أو البقاء
فصل : وإن قال وايم الله أو وايمن الله فهي يمين موجبة للكفارة والخلاف فيه كالذي ذكرنا في الفصل الذي قبله وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يقسم به وانضم إليه عرف الإستعمال فوجب أن يصرف إليه واختلف في اشتقاقه فقيل هو جمع يمين وحذفت النون فيه في البعض تخفيفا لكثرة الإستعمال وقيل هو من اليمين فكأنه قال ويمين الله لأفعلن وألفه ألف وصل
فصل : وحروف القسم ثلاثة : الباء وهي الأصل وتدخل على المظهر والمضمر جميعا والواو وهي بدل من الباء تدخل على المظهر دون المضمر لذلك وهي أكثر استعمالا وبها جاءت أكثر الأقسام في الكتاب والسنة وإنما كانت الباء الأصل لأنها الحرف الذي تصل به الأفعال القاصرة عن التعدي إلى مفعولاتها والتقدير في القسم أقسم بالله كما قال الله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } والتاء بدل من الواو وتحتص باسم واحد من أسماء الله تعالى وهو الله ولا تدخل على غيره فيقال تالله ولو قال تالرحمن أو تالرحيم لم يكن قسما فإذا أقسم باحد هذه الحروف الثلاثة في موضعه كان قسما صحيحا لأنه موضوع له وقد جاء في كتاب الله تعالى وكلام العرب قال الله تعالى : { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } { تالله لقد آثرك الله علينا } { تالله تفتأ تذكر يوسف } { تالله لقد علمتم } { وتالله لأكيدن أصنامكم } قال الشاعر :
( الله يبقى على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الضيان والآس )
فإن قال ما أردت به القسم لم يقبل منه لأنه أتى باللفظ الصريح في القسم واقترنت به قرينة دالة عليه وهو الجواب بجواب القسم ويحتمل أن يقبل منه في قوله تالله لأقومن إذا قال أردت أن قيامي بمعونة الله وفضله لأنه فسر كلامه بما يحتمله ولا يقبل في الحرفين الآخرين لعدم الإحتمال ويحتمل أن لا يقبل بحال لأنه أجاب بجواب القسم فيمنع صرفه إلى غيره
فصل : وإن أقسم بغير حرف القسم فقال الله لأقومن بالجر أو النصب كان يمينا وقال الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوي لأن ذكر اسم الله تعالى بغير حرف القسم ليس بصريح في القسم فلا ينصرف إليه إلا بالنية
ولنا أنه سائغ في العربية وقد ورد به عرف الإستعمال في الشرع [ فروي أن عبد الله بن مسعود أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه قتل أبا جهل فقال : الله أنك قتلته ؟ ] قال الله إني قتلته ذكره البخاري وقال لركانة بن عبد يزيد : الله ما أردت إ لا واحدة قال ما أردت إلا واحدة وقال امرؤ القيس :
( فقلت يمين الله أبرح قاعدا )
وقال أيضا ( فقلت يمين الله مالك حيلة )
وقد اقترنت به قرينتان تدلان عليه إحداهما : الجواب بجواب القسم والثاني : النصب والجر في اسم الله تعالى فوجب أن تكون يمينا كما لو قال والله وإن قال الله لأفعلن بالرفع ونوى اليمين فهيي يمين لكنه قد لحن فهو كما لو قال والله بالرفع وإن لم ينو اليمين فقال أبو الخطاب يكون يمينا لأن قرينة الجواب بجواب القسم كافية والعامي لا يعرف الإعراب فيأتي به إلا أن يكون من أهل العربية فإن عدوله عن إعراب القسم دليل على أنه لم يرده ويحتمل أن لا يكون قسما في حق العامي لأنه ليس بقسم في حق أهل العربية فلم يكن قسما في غيرهم كما لو لم يجبه بجواب القسم
فصل : ويجاب القسم باربعة أحرف : حرفان للنفي هما ما ولا وحرفان للإثبات وهما ان واللام المفتوحة وتقوم أن المكسورة مقام ما النافية مثل قوله : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } وإن قال والله أفعل بغير حرف فالمحذوف ههنا لا وتكون يمينه على النفي لأن موضوعه في العربية كذلك قال الله تعالى : { تالله تفتأ تذكر يوسف } أي لا تفتؤ وقال الشاعر تالله يبقى على الأيام ذو حيد وقال آخر فقلت يمين الله أبرح قاعدا أي لا أبرح
فصل : فإن قال لا ها لله ونوى اليمين فهو يمين [ لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في سلب قتيل أبي قتادة لاها لله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صدق ] وإن لم ينو اليمين فالظاهر أنه لا يكون يمينا لأنه لم يقترن به عرف ولا نية ولا في جوابه حرف يدل على القسم وهذا مذهب الشافعي رضي الله عنه
مسألة : قال : أو بآية من القرآن
وجملته أن الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام الله يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها وبهذا قال ابن مسعود و الحسن و قتادة و مالك و الشافعي و أبو عبيد و عامة أهل العلم وقال أبو حنيفة وأصحابه ليس بيمين ولا تجب به كفارة فمنهم من زعم أنه مخلوق ومنهم من قال : لا يعهد اليمين به
ولنا أن القرآن كلام الله وصفة من صفات ذاته فتنعقد اليمين به كما لو قال وجلال الله وعظمته وقولهم هو مخلوق قلنا هذا كلام المعتزلة وإنما الخلاف مع الفقهاء وقد روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ القرآن كلام الله غير مخلوق ] وقال ابن عباس في قوله تعالى : { قرآنا عربيا غير ذي عوج } أي غير مخلوق وأما قولهم لا يعهد اليمين به فيلزمهم قولهم وكبرياء الله وعظمته وجلاله إذا ثبت هذا فإن الحلف بآية منه كالحلف بجميعه لأنها من كلام الله تعالى
فصل : وإن حلف بالمصحف انعقدت يمينه وكان قتادة يحلف بالمصحف ولم يكره ذلك أمامنا و إسحاق لأن الحالف بالمصحف إنما قصد بالمكتوب فيه وهو القرآن فإنه بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين
مسألة : قال : أو تصدق بملكه أو بالحج
وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا أو يحث به على شيء مثل أن يقول ان كلمت زيدا فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة فهذا يمين حكمة أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه فلا يلزمه شيء وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين ويسمى نذر اللجاج والغضب ولا يتعين عليه الوفاء به وإنما يلزم نذر التبرر وسنذكره في بابه وهذا قول عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة وزينب بنت أبي سلمة وبه قال عطاء و طاوس و عكرمة و القاسم و الحسن و جابر بن زيد و النخعي و قتادة و عبد الله بن شريك و الشافعي و العنبري و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر وقال سعيد بن المسيب لا شيء في الحلف بالحج وعن الشعبي و الحارث العكلي و حماد و الحكم لا شيء في الحلف بصدقة ماله لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله تعالى لحرمة الإسم وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه لأنه لم يخرجه مخرج القربة وإنما التزمه على طريق العقوبة فلم يلزمه وقال أبو حنيفة و مالك يلزمه الوفاء بنذره لأنه نذر فيلزمه الوفاء به كنذر التبرر وروي نحو ذلك عن الشعبي
ولنا ما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين ] رواه سعيد بن منصور و الجوزجاني في المترجم وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة اليمين ] ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم ولأنه يمين فيخل في عموم قوله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } ودليل أنه يمين أنه يسمى بذلك ويسمى قائله حالفا وفارق نذر التبرر لكونه قصد به التقرب إلى الله تعالى والبر ولم يخرجه مخرج اليمين وههنا خرج مخرج اليمين ولم يقصد به قربة ولا برا فاشبه اليمين من وجه والنذر من وجه فخير بين الوفاء به وبين الكفارة
وعن أحمد رواية ثانية أنه تتعين الكفارة ولا يجزئه الوفاء بنذره وهو قول لبعض أصحاب الشافعي لأنه يمين والأول أولى لأنه انما التزم فعل ما نذره فلا يلزمه أكثر منه كنذر التبرر وفارق اليمين بالله تعالى لأنه أقسم بالإسم المحترم فإذا خالف لزمته الكفارة تعظيما للإسم بخلاف هذا
مسألة : قال : أو بالعهد
وجملته أنه إذا حلف بالعهد أو قال وعهد الله وكفالته فذلك يمين يجب تكفيرها إذا حنث فيها وبهذا قال الحسن و طاوس و الشعبي و الحارث العكلي و قتادة و الحكم و الأوزاعي و مالك وحلفت عائشة رضي الله عنها بالعهد أن لا تكلم ابن الزبير فلما كلمته اعتقت أربعين رقبة وكانت إذا ذكرته تبكي وتقول واعهداه قال أحمد شديد في عشرة مواضع من كتاب الله : { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا } ويتقرب إلى الله تعالى إذا حلف بالعهد وحنث ما استطاع وعائشة أعتقت أربعين رقبة ثم تبكي حتى تبل خمارها وتقول واعهداه وقال عطاء و أبو عبيد و ابن المنذر لا يكون يمينا إلا أن ينوي وقال الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوي اليمين بعهد الله الذي هو صفته وقال أبو حنيفة ليس بيمين ولعلهم ذهبوا إلى أن العهد من صفات الفعل فلا يكون الحلف به يمينا كما لو قال : وخلق الله وقد وافقنا أبو حنيفة في أنه إذا قال علي عهد الله وميثاقه لأفعلن ثم حنث أنه يلزمه الكفارة
ولنا أن عهد الله يحتمل كلامه الذي أمرنا به ونهانا كقوله تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني آدم } وكلامه قديم صفة له ويحتمل أنه استحقاقه لما تعبدنا به وقد ثبت له عرف الإستعمال فيجب أن يكون يمينا بإطلاقه كما لو قال : وكلام الله إذا ثبت هذا فإنه إن قال علي عهد الله وميثاقه لأفعلن أو قال وعهد الله وميثاقه لأفعلن فهو يمين وإن قال والعهد والميثاق لأفعلن ونوى عهد الله كان يمينا لأنه نوى الحلف بصفة من صفات الله تعالى وإن أطلق فقال القاضي فيه روايتان إحداهما : يكون يمينا لأن لام التعريف إن كانت للعهد يجب أن تنصرف إلى عهد الله لأنه الذي عهدت اليمين به وإن كانت للاستغراق دخل فيه ذلك والثانية : لا يكون يمينا لأنه يحتمل غير ما وجبت به الكفارة ولم يصرفه إلى ذلك بنيته فلا تجب الكفارة لأن الأصل عدمها
مسألة : قال : أو بالخروج من الإسلام
اختلفت الرواية عن أحمد في الحلف بالخروج من الإسلام مثل أن يقول هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أن فعل كذا أو هو بريء من الإسلام أو من رسول الله أو من القرآن أن فعل أو يقول هو يعبد الصليب أو يعبدك أو يعبد غير الله تعالى إن فعل أو نحو هذا فعن أحمد عليه الكفارة إذا حنث يروى هذا عن عطاء و طاوس و الحسن و الشعبي و الثوري و الأوزاعي و إسحاق و أصحاب الرأي ويروى ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه
والرواية الثانية : لا كفارة عليه وهو قول مالك و الشافعي و الليث و أبي ثور و ابن المنذر لأنه لم يحلف باسم الله ولا صفته فلم تلزمه كفارة كما لو قال عصيت الله تعالى فيما أمرني ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الرواية الأولى على الندب دون الإيجاب لأنه قال في رواية حنبل إذا قال أكفر بالله أو أشرك بالله فأحب إلي أن يكفر كفارة يمين إذا حنث ووجه الرواية الأولى ما [ روي عن الزهري عن خارجة بن زيد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الرجل يقول هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها بالله في هذه الأشياء فقال : عليه كفارة يمين ] أخرجه أبو بكر ولأن البراء من هذه الأشياء توجب الكفر بالله فكان الحلف بها يمينا كالحلف بالله تعالى
والرواية الثانية : أصح إن شاء الله تعالى فإن الوجوب من الشارع ولم يرد في هذه اليمين نص ولا هي في قياس المنصوص فإن الكفارة إنما وجبت في الحلف باسم الله تعظيما لاسمه واظهارا لشرفه وعظمته ولا تتحقق التسوية
فصل وإن قال هو يستحل الخمر والزنا إن فعل ثم حنث أو قال هو يستحل ترك الصلاة أو الصيام أو الزكاة فهو كالحلف بالبراءة من الإسلام لأن استحلال ذل يوجب الكفر وإن قال عصيت الله فيما أمرني أو في كل ما افترض علي أو محوت المصحف أو أنا أسرق أو أقتل النفس التي حرم الله إن فعلت وحنث لم تلزمه كفارة لأن هذ دون الشرك وإن قال أخزاه الله وأقطع يده أو لعنه الله إن فعل ثم حنث فلا كفارة عليه نص عليه أحمد وبهذا قال عطاء و الثوري و أبو عبيد وأصحاب الرأي وقال طاوس و الليث عليه كفارة ويه قال الأوزاعي إذا قال عليه لعنة الله
ولنا أن هذا يوجب للكفر فأشبه ما لو قال محوت المصحف وإن ا قال لا يراني الله في موضع كذا إن فعلت وحنث فقال القاضي عليه كفارة وذكر أن أحمد نص عليه والصحيح إن هذا لا كفارة فيه لأن إيجابها في هذا ومثله تحكم بغير نص ولا قياس صحيح (11/180)
مسألتان لا يجوز الحلف بالبراءة من الإسلام ولا بتحريم المملوك
فصل : ولا يجوز الحلف بالبراءة من الإسلام ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : من قال إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال وإن كان صادقا لم يعد إلى الإسلام سالما ] رواه أبو داود
مسألة : قال : أو بتحريم مملوكه أو شيء من ماله
وجملته أنه إذا قال هذا حرام علي أن فعلت وفعل أو قال ما أحل الله عليه حرام إن فعلت ثم فعل فهو مخير إن شاء ترك ما حرمه على نفسه وإن شاء كفر وإن قال هذا الطعام حرام علي فهو كالحلف على تركه ويروى نحو هذا عن ابن مسعود و الحسن و جابر بن زيد و قتادة و إسحاق و أهل العراق وقال سعيد بن جبير فيمن قال الحل علي حرام يمين من الايمان يكفرها وقال الحسن هي يمين إلا أن ينوي طلاقه امرأته وعن إبراهيم مثله وعنه نوى طلاقا وإلا فليس بشيء وعن الضحاك أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا الحرام يمين وقال طاوس هو ما نوى وقال مالك الشافعي ليس بيمين ولا شيء عليه لأنه قصد تغيير المشروع فلغا ما قصده كما قال : هذه ربيبتي
ولنا قول الله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ـ إلى قوله ـ { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } سمى تحريم ما أحل الله يمينا وفرض له تحلة وهي الكفارة [ وقالت عائشة رضي الله عنها : كان النبي صلى الله عليه و سلم يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه و سلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير فدخل على إحدانا فقالت له ذلك فقال : لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له ] فنزل { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؟ تبتغي مرضاة أزواجك } متفق عليه فإن قيل إنما نزلت الآية في تحريم مارية القبطية كذلك قال الحسن و قتادة قلنا ما ذكرناه أصح فإنه متقق عليه وقول عائشة صاحبة القصة الحاضرة للتنزيل المشاهدة للحال أولى و الحسن و قتادة لو سمعا قول عائشة لم يعدلا به شيئا ولم يصيرا إلى غيره فكيف يصار إلى قولهما ويترك قولها ؟ وقد روي عن ابن عباس وابن عمر عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه جعل تحريم الحلال يمينا ولو ثبت أن الآية نزلت في تحريم مارية كان حجة لنا لأنها من الحل الذي حرم وليست زوجة فوجدت الكفارة بتحريمها يقتضي وجوبه في كل حلال حرم بالقياس عليها لأنه حرم الحل فأوجب الكفارة كتحريم الأمة والزوجة وما ذكروه يبطل بتحريمها وإذا قال هذه ربيبتي يقصد تحريمها فهو ظهار (11/202)
مسائل وفصول ألفاظ الحلف وأحكامها
مسألة : قال : أو يقول أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله
هذا قول عامة الفقهاء لا نعلم فيه خلافا وسواء نوى اليمين أو أطلق لأنه لو قال بالله ولم يقل أقسم ولا أشهد ولم يذكر الفعل كان يمينا وإنما كان يمينا بتقدير الفعل قبله لأن الباء تتعلق بفعل مقدر على ما ذكرناه فإذا أظهر الفعل ونطق بالمقدر كان أولى بثبوت حكمه وقد ثبت له عرف الإستعمال قال الله تعالى : { فيقسمان بالله } وقال تعالى : { وأقسموا بالله } ـ وقال { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } ويقول الملاعن في لعانه أشهد بالله إني لمن الصادقين وتقول المرأة أشهد بالله أنه لمن الكاذبين وأنشد أعرابي عمر
( أقسم بالله لتفعلنه )
وكذلك الحكم إن ذكر الفعل بلفظ الماضي فقال أقسمت بالله أو شهدت بالله قال عبد الله بن رواحة ( أقسمت بالله لتنزلنه ) وإن أراد بقوله أقسمت بالله الخبر عن قسم ماض أو بقوله أقسم بالله عن قسم يأتي به فلا كفارة عليه وإن ادعى إرادة ذلك قبل منه وقال القاضي لا يقبل في الحكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه خلاف الظاهر
ولنا أن هذا حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإذا علم من نفسه أنه نوى شيئا أو أراده مع احتمال اللفظ إياه لم تلزمه كفارة وإن قال شهدت بالله إني آمنت بالله فليس بيمين وإن قال أعزم بالله يقصد اليمين فهو يمين وإن أطلق فظاهر كلام الخرقي أنه يمين وهو قول ابن حامد وقال أبو بكر ليس بيمين وهو قول الشافعي لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الإستعمال وظاهره غيراليمين لأنه معناه أقصد بالله لأفعلن ووجه الأول أنه يحتمل اليمين وقد اقترن به ما يدل عليه وهو جوابه بجواب القسم فيكون يمينا فأما إن نوى بقوله غير اليمين لم يكن يمينا
فصل : وإن قال أحلف بالله أو أولي أو حلفت بالله أو آليت بالله أو ألية بالله أو حلفا بالله أو قسما بالله فهو يمين سواء نوى به اليمين أو أطلق لما ذكرناه في أقسم بالله وحكمه حكمه في تفصيله لأن الإيلاء والحلف والقسم واحد قال الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } وقال سعد ين معاذ أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به وقال الشاعر
( أولي برب الراقصات إلى منى ... ومطارح الأكوار حيث تبيت )
وقال ابن دريد : ( الية باليعملات ترتمي ... بها النجاء بين أجواز الفلا )
وقال : ( بل قسما بالشم من يعرب هل ... لمقسم من بعد هذا منتهى ؟ )
فصل : وإن قال أقسمت أو آليت لأو حلفت أو شهدت لأفعلن ولم يذكر بالله فعن أحمد روايتان إحداهما : أنها يمين وسواء نوى اليمين أو أطلق وروي نحو ذلك عن عمر وابن عباس و النخعي و الثوري و أبي حنيفة وأصحابه
وعن أحمد أن نوى اليمين بالله كان يمينا وإلا فلا وهو قول مالك و إسحاق و ابن المنذر لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة وقال الشافعي ليس بيمين وإن نوى وروي نحو ذلك عن عطاء و الحسن و الزهري و قتادة و أبي عبيد لأنها عريت عن اسم الله وصفته فلم تكن يمينا كما لو قال أقسمت بالبيت
ولنا أنه قد ثبت لها عرف الشرع والإستعمال ف [ إن أبا بكر قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرنيبما أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تقسم يا أبا بكر ] رواه أبو داود [ وقال العباس للنبي صلى الله عليه و سلم أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنه فبايعه النبي صلى الله عليه و سلم وقال : أبررت قسم عمي ولا هجرة ] وفي كتاب الله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } ـ إلى قوله ـ { اتخذوا أيمانهم جنة } فسماها يمينا وسماها رسول الله صلى الله عليه و سلم قسما وقالت عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( حلفت لئن عادوا لنصطلمنهم ... لجاؤ وا ترى حجرتيها المقانب )
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل :
( فآليت ... تنفك عيني حزينة عليك و ينفك جلدي أغبرا )
وقولهم يحتمل القسم بغير الله قلنا إنما يحمل على القسم المشروع ولهذا لم يكن هذا مكروها ولو حمل على القسم بغير الله كان مكروها ولو كان مكروها لم يفعله أبو بكر بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم و أبر النبي صلى الله عليه و سلم قسم العباس حين أقسم عليه
فصل : وإن قال أعزم أو عزمت لم يكن قسما نوى به القسم أو لم ينو لأنه لم يثبت لهذا اللفظ عرف في شرع و إستعمال و هو موضع للقسم و فيه دلالة عليه وكذلك لو قال استعين بالله أو أعتصم بالله أو أتوكل على الله أو علم الله أو عز الله أو تبارك الله ونحو هذا لم يكن يمينا نوى أو لم ينو لأنه ليس بموضوع للقسم لغة ولا ثبت له عرف في شرع ولا إستعمال فلم يجب به شيء كما لو قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
مسألة : قال : أو بأمانة الله
قال القاضي لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا تنعقد اليمين بها إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } يعني الودائع والحقوق وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] وإذا كان اللفظ محتملا لم يصرف إلى أحد محتملاته إلا بنية أو دليل صارف إليه
ولنا أن أمانة الله صفة له بدليل وجوب الكفارة على من حلف بها إذا نوى ويجب حملها على ذلك عند الاطلاق لوجوه :
أحدها : أن حملها على غير ذلك صرف ليمين المسلم إلى المعصية أو المكروه لكونه قسما بمخلوق والظاهر من حال المسلم خلافه
والثاني : أن القسم في العادة يكون بالمعظم المحترم دون غيره وصفة الله تعالى أعظم حرمة وقدرا
والثالث : أن ما ذكروه من الفرائض والودائع لم يعهد القسم بها ولا يستحسن ذلك لو صرح به فذلك لا يقسم بما هو عبارة عنه
الرابع : أن أمانة الله المضافة إليه هي صفته وغيرها يذكر غير مضاف إليه كما ذكر في الآيات والخبر
الخامس : أن اللفظ عام في كل أمانة الله لأن إسم الجنس إذا أضيف إلى معرفة أفاد الإستغراق فيدخل فيه أمانة الله التي هي صفته فتنعقد اليمين بها موجبة للكفارة كما لو نواها
فصل : فإن قال والأمانة لافعلت ونوى الحلف بأمانة الله فهو يمين مكفرة موجبة للكفارة وإن أطلق فعلى روايتين :
إحداهما : يكون يمينا لما ذكرنا من الوجوه والثانية : لا يكون يمينا لأنه لم يضفها إلى الله تعالى فيحتمل غير ذلك قال أبو الخطاب : وكذلك إذا قال والعهد والميثاق والجبروت والعظمة والأمانات فإن نوى يمينا كان يمينا وإلا فلا وقد ذكرنا في الأمانة روايتين فيخرج في سائر ما ذكروه وجهان قياسا عليها
فصل : ويكره الحلف بالأمانة لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : من حلف بالأمانة فليس منا ] رواه أبو داود وروي عن زياد بن خدير أن رجلا حلف عنده بالأمانة فجعل يبكي بكاء شديدا فقال له الرجل : هل كان هذا يكره ؟ قال نعم كان عمر ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي
فصل : ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء وقال أصحابنا الحلف برسول الله صلى الله عليه و سلم يمين موجبة للكفارة وروي عن أحمد أنه قال إذا حلف بحق رسول الله صلى الله عليه و سلم فحنث فعليه الكفارة قال أصحابنا لأنه أحد شرطي الشهادة فالحلف به موجب للكفارة كالحلف بإسم الله تعالى ووجه الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] ولأنه حلف بغير الله فلم يوجب الكفارة كسائر الأنبياء ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كإبراهيم عليه السلام ولأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه لعدم الشبه وانتفاء المماثلة وكلام أحمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الإيجاب
مسألة : قال : ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شيء واحد فحنث فعليه كفارة واحدة
وجملته أنه إذا حلف بجيمع هذه الأشياء التي ذكرها الخرقي وما يقوم مقامها أو كرر اليمين على شيء واحد مثل أن قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا فحنث فليس عليه إلا كفارة واحدة روي نحو هذا عن ابن عمر وبه قال الحسن و عروة و إسحاق وروي أيضا عن عطاء و عكرمة و النخعي و حماد و الأوزاعي وقال أبو عبيد فيمن قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته ثم حنث فعليه ثلاث كفارات وقال أصحاب الرأي عليه بكل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد والتفهيم ونحوه عن الثوري و أبي ثور وعن الشافعي قولان المذهبين وعن عمرو بن دينار أن كان في مجلس واحد كقولنا وإن كان في مجالس كقولهم واحتجوا بأن أسباب الكفارات تكررت فتكرر الكفارات كالقتل لآدمي وصيد حرمي ولأن اليمين الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه
ولنا أنه حنث واحد أوجب جنسا واحدا من الكفارات فلم يجب به أكثر من كفارة كما لو قصد التأكيد والتفهيم وقولهم أنها أسباب تكررت لا نسلمه فإن السبب الحنث وهو واحد وإن سلمنا فينتقض بما إذا تكرر الوطء في رمضان في أيام وبالحدود إذا تكررت أسبابها فإنها كفارات وبما إذا قصد التأكيد ولا يصح القياس على الصيد الحرمي لأن الكفارة بدل ولذلك تزداد بكبر الصيد وتتقدر بقدره فهي كدية القتيل ولا على كفارة قتل الآدمي لأنها أجريت مجرى البدل أيضا لحق الله تعالى لأنه لما أتلف آدميا عابدا لله تعالى ناسب أن يوجد عبدا يقوم مقامه في العبادة فلما عجز عن الإيجاب لزمه اعتاق رقبة لأن العتق إيجاد للعبد بتخليصه من رق العبودية وشغلها إلى فراغ البال للعبادة بالحرية التي حصلت بالإعتاق ثم الفرق ظاهر وهو أن السبب ههنا تكرر بكماله وشروطه وفي محل النزاع لم يوجد ذلك لأن الحنث إما أن يكون هو السبب أو جزءا منه أو شرطا له بدليل توقف الحكم على وجوده وأياما كان فلم يجز الإلحاق ثم وإن صح القياس فقياس كفارة اليمين على مثلها أولى من قياسها على القتل لبعد ما بينهما
فصل : وإذا حلف يمينا واحدة على أجناس مختلفة فقال والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست فحنث في الجميع فكفارة واحدة لا أعلم فيه خلافا لأن اليمين واحدة والحنث واحد فإنه بفعل واحد من المحلوف عليه يحنث وتنحل اليمين وإن حلف أيمانا على أجناس فقال والله لا أكلت ولا شربت والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته كفارة أخرى لا نعلم في هذا أيضا خلافا لأن الحنث في الثانية تجب به الكفارة بعد أن كفر عن الأولى فأشبه ما لو وطىء في رمضان فكفر ثم وطىء مرة أخرى فإن حنث في الجميع قبل التكفير فعليه في كل يمين كفارة وهذا ظاهر كلام الخرقي ورواه المروذي عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم
وقال أبو بكر تجزئه كفارة واحدة ورواها ابن منصور عن أحمد قال القاضي وهي الصحيحة وقال أبو بكر ما نقله المروذي عن أحمد قول لأبي عبد الله ومذهبه إن كفارة واحدة تجزئه وهو قول إسحاق لأنها كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس وإن اختلفت محالها بأن يسرق من جماعة أو يزني بنساء
ولنا أنهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفر أحداهما بكفارة الأخرى ما لو كفر عن أحداهما قبل الحنث في الأخرى وكالأيمان المختلفة للكفارة وبهذا فارق الأيمان على شيء واحد فإنه متى حنث في أحداهما كان حانثا في الأخرى فإن كان الحنث واحدا كانت الكفارة واحدة وههنا تعدد الحنث فتعددت الكفارات وفارق الحدود فإنها وجبت للزجر وتندرىء بالشبهات بخلاف مسألتنا ولأن الحدود عقوبةبدنية فالموالاة بينها ربما أفضت إلى التلف فاجتزىء بأحدها وههنا الواجب إخراج مال يسير أو صيام ثلاثة أيام فلا يلزم الضرر الكثير بالموالاة فيه و يخشى منه التلف (11/204)
مسألة حكم لو حلف على شيء بيمينين مختلفي الكفارة
مسألة : قال ولو حلف على شيء بيمينين مختلفي الكفارة لزمته في كل واحدة من اليمينين كفارتها
هذا مثل الحلف بالله وبالظهار وبعتق عبده فإذا حنث فعليه كفارة يمين وكفارة ظهار ويعتق العبد لأن تداخل الأحكام إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس والكفارات ههنا أجناس وأسبابها مختلفة فلم تتداخل كحد الزنا والسرقة والقذف والشرب (11/214)
مسألة حكم ما لو حلف بحق القرآن
مسألة : قال : ومن حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين
نص على هذا أحمد وهو قول ابن مسعود و الحسن وعنه أن الواجب كفارة واحدة وهو قياس المذهب و مذهب الشافعي و أبي عبيد لأن الحلف بصفات الله كلها وتكرر اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة واحدة فالحلف بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزئه كفارة واحدة
ووجه الأول ما روى مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية كفارة يمين صبر فمن شاء بر ومن شاء فجر ] رواه الأثرم ولأن ابن مسعود قال : عليه بكل آية كفارة يمين ولم نعرف مخالفا له في الصحابة فكان إجماعا قال أحمد وما أعلم شيئا يدفعه ويحتمل أن كلام أحمد : في كل آية كفارة على الاستحباب لمن قدر عليه فإنه قال عليه بكل آية كفارة فإن لم يمكنه فكفارة واحدة ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب وكلام ابن مسعود أيضا يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله والمبالغة في تعظيمه ما ان عائشة اعتقت أربعين رقبة حين حلفت بالعهد وليس ذلك بواجب ولا يجب أثر من كفارة لقول الله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } وهذه يمين فتدخل في عموم الأيمان المنعقدة ولأنها يمين واحدة فلم توجب الناس كسائر الأيمان ولأن إيجاب كفارات بعدد الآيات يفضي إلى المنع من البر والتقوى والإصلاح بين الناس لأن من علم أنه بحنثه تلزمه هذه الكفارات كلها ترك المحلوف عليه كائنا ما كا وقد يكون برا وتقوى وإصلاحا فتمنعه منه وقد نهى الله تعالى عنه بقوله : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس } وإن قلنا بوجوب كفارات بعدد الآيات فلم يطق أجزأته كفارة واحدة نص عليه أحمد (11/214)
مسألة وفصلان حم من حلف بنحر ولده وذبح نفسه أو أجنبي
مسألة : قال : وعن أبي عبد الله فيمن حلف بنحر ولده روايتان احداهما كفارة يمين والأخرى يذبح كبشا
اختلفت الرواية فيمن حلف بنحر ولده نحو أن يقول إن فعلت كذا فلله علي أن أذبح ولدي أو يقول ولدي نحير إن فعلت كذا أو نذر ذبح ولده مطلقا غير معلق بشرط فعن أحمد عليه كفارة يمين وهذا قياس المذهب لأن هذا نذر معصية أو نذر لجاج وكلاهما يوجب الكفارة وهو قول ابن عباس فإنه روي عنه أنه قال لامرأة نذرت أن تذبح ابنها : لا تنحري ابنك وكفري عن يمينك
والرواية الثانية : كفارته ذبح كبش ويطعمه للمساكين وهو قول أبي حنيفة وروى ذلك عن ابن عباس أيضا لأن نذر ذبح الولد جعل في الشرع كنذر ذبح شاة بدليل أن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده وكان أمرا بذبح شاة وشرع من قبلنا شرع لما ما لم يثبت نسخه ودليل أنه أمر بذبح شاة أن الله يأمر بالفحشاء ولا بالمعاصي وذبح الولد من كبائر المعاصي قال الله تعالى : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك قيل ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ]
وقال الشافعي ليس هذا بشيء ولا يجب به شيء لأنه نذر معصية لا يجب الوفاء به ولا يجوز ولا تجب به كفارة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم ] وقوله عليه السلام : [ ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ]
ولنا قوله عليه السلام [ من نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ] ولأن النذر حكمه حكم اليمين بدليل قوله عليه السلام : [ النذر حلفه وكفارته كفارة يمين ] فيكون بمنزلة من حلف ليذبحن ولده وقولهم أن النذر لذبح الولد كناية عن ذبح كبش لا يصح لأن إبراهيم لو ان مأمورا بذبح كبش لم يكن الكبش فداء ولا كان مصدقا للرؤيا قبل ذبح الكبش وإنما أمر بذبح ابنه ابتلاء ثم فدي بالكبش وهذا أمر اختص بإبراهيم عليه السلام لا يتعداه إلى غيره لحكمة علمها الله تعالى فيه ثم لو كان إبراهيم مأمورا بذبح كبش فقد ورد شرعا بخلافه فإن نذر ذبح الابن ليس بقربة في شرعنا ولا مباح بل هو معصية فتكون كفارته ككفارة سائر نذور المعاصي
فصل : وإن نذر ذبح نفسه أو أجنبي ففيه أيضا عن أحمد روايتان وعن ابن عباس أيضا فيه روايتان نقل ابن منصور عن أحمد فيمن نذر أن ينحر نفسه إذا حنث يذبح شاة وكذلك إن نذر ذبح أجنبي لأنه روي عن ابن عباس في الذي قال أنا أنحر فلانا فقال عليه ذبح كبش ولأنه نذر ذبح آدمي فكان عليه ذبح كبش كنذر ذبح ابنه والثانية : عليه كفارة يمين لأنه نذر معصية فكان موجبه كفارة لما ذكرنا فيما تقدم
وروى الجوزجاني بإسناده عن الأوزاعي قال حدثني أبو عبيد قال : جاء رجل إلى ابن عمر فقال إني نذرت أن أنحر نفسي قال فتجهمه ابن عمر وأفف منه ثم أتى ابن عباس فقال له اهد مائة بدنة ثم أتى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال له أرأيت لو نذرت أن لا تكلم أباك أو أخاك ؟ إنما هذه خطوة من خطوات الشيطان استغفر الله وتب إليه ثم رجع إلى ابن عباس فأخبره فقال : أصاب عبد الرحمن ورجع ابن عباس عن قوله والصحيح في هذا أنه نذر معصية حكمه حكم نذر سائر المعاصي لا غير
فصل : قال أحمد في امرأة نذرت نحر ولدها ولها ثلاثة أولاد تذبح عن كل واحد كبشا وتكفر يمينها وهذا على قوله أن كفارة نذر ذبح الولد ذبح كبش جعل عن كل واحد كبشا لأن لفظ الواحد إذا أضيفت اقتضى التعميم فكان عن كل واحد كبش فإن عنت بنذرها واحدا فإنما عليها كبش واحد بدليل أن إبراهيم عليه السلام لما أمر بذبح ابنه الواحد فدي بكبش واحد ولم يفد غير من أمر بذبحه من أولاده وكذا ههنا وعبد المطلب لما نذر ذبح ابن من بنيه إن بلغوا عشرة لم يفد منهم إلا واحد وسواء نذرته معينا أو عنت واحدا غير معين فأما قول أحمد وتكفر يمينها فيحتمل أنه أراد أن ذبح الكبش كفارة يمينها ويحتمل أنه كان مع نذرها يمين وأما على الرواية الأخرى تجزئها كفارة يمين على ما سبق (11/216)
مسألة وفصول حكم من حلف أن يعتق ما يملك أو عبده أو عبد غيره
مسألة : قال : ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده وإمائه ومكاتبيه ومدبريه وأمهات أولاده وشقص يملكه من مملوكه
معناه إذا قال إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر أو عتيق أو فكل ما أملك حر فإن هذا إذا حنث عتق مماليكه ولم تغن عنه كفارة روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ما به قال ابن أبي ليلى و الثوري و مالك و الأوزاعي و الليث و الشافعي و إسحاق وروي عن ابن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي سلمة وحفصة وزينب بنت أبي سلمة و الحسن و أبي ثور تجزئه كفارة يمين لأنها ييمن فتدخل في عموم قول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين }
وروي عن أبي رافع قال : قالت مولاتي ليلى بنت العجماء : كل مملوك لها محرر وكل مال لها هدي وهي يهودية وهي نصرانية إن لم تفرق بينك وبين امرأتك قال فأتيت زينب بنت أم سلمة ثم أتيت حفصة إلى أن قال ثم أتيت ابن عمر فجاء معي إليها فقام على الباب فسلم فقال أمن حجارة أنت أم من حديد أفتتك زينب وأفتتك أم المؤمنين كفري عن يمينك وخلي بين الرجل وامرأته رواه الأثرم و الجوزجاني مطولا
ولنا أنه علق العتق على شرط وهو قابل للتعليق فيقع بوجود شرطه كالطلاق والآية مخصوصة بالطلاق والعتق في معناه ولأن العتق ليس بيمين في الحقيقة إنما هو تعليق على شرط فأشبه الطلاق فأما حديث أبي رافع قال أحمد قال فيه : كفري يمينك وأعتقي جاريتك وهذه زيادة يجب قبولها ويحتمل أنها لم يكن لها مملوك سواها
فصل : فأما أن قال فإن فعلت فلله علي أن أعتق عبدي أو أحرره أو نحو هذا لم يعتق بحنثه وكفر كفارة يمين على ما ذكرنا في نذر اللجاج لأن هذا لم يعلق عتق العبد إنما حلف على تعليق العتق بشرط بخلاف الذي قبله
فصل : وإذا حنث عتق عليه عبيده وإماؤه ومدبروه وأمهات أولاده ومكاتبوه والأشقاص التي يملكها من العبيد والإماء وبهذا قال أبو ثور و المزني و ابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى لا يعتق الشقص إلا أن ينويه ولعله ذهب إلى أن الشقص لا يقع عليه اسم العبد وقال أبو حنيفة وصاحباه و إسحاق لا يعتق المكاتب وهو قول الشافعي لأنه خارج عن ملك سيده وتصرفه فلم يدخل في اسم مماليكه كالحر وقال الربيع سماعي من الشافعي أنه يعتق
ولنا أنه مملوكة فيعتق كالمدبر ودليل كونه مملوكة [ قوله عليه السلام : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] [ وقوله لعائشة : اشتري بريرة وأعتقيها ] وكانت مكاتبة ويصح شراء غير المملوك ولا عتقه ولأنه يصح إعتاقه بالإجماع وأحكامه أحكام العبيد ولأنه مملوك فلا بد له من مالك ولأنه يصح إعتاقه بالمباشرة فدخل في العتق بالتعليق كسائر عبيده وأما الشقص فإنه مملوك له قابل للتحرير فيدخل في عموم لفظه
فصل : : فإن قال عبد فلان حر إن دخلت الدار ثم دخلها لم يعتق العبد بغير خلاف لأنه لا يعتق بإعتاقه ناجزا فلا يعتق بالتعليق أولى : وهل تلزمه كفارة يمين ؟ فيه عن أحمد روايتان ذكرهما ابن أبي موسى إحداهما : عليه كفارة لأنه حلف بالعتق فيما لا يقع بالحنث فلزمته كفارة كما لو قال لله عليه أن أعتق فلانا
والثانية : لا كفارة عليه لأنه حلف بإخراج مال غيره فلم يلزمه شيء كما لو قال مال فلان صدقة أن دخلت الدار ولأنه تعليق للعتق على صفة فلم تجب به كفارة كسائر التعليق وأما إذا قال لله علي أن أعتق عبدا فإنه نذر فأوجب الكفارة لكون النذر كاليمين وليس كذلك ههنا فإنه إنما علق العتق على صفة فوجود الصفة أثر في جعل المعلق كالمنجز ولو نجز العتق لم يلزمه شيء فكذلك ههنا
فصل : فإن قال أن فعلت كذا فمال فلان صدقة أو فعلى فلان حجة أو فمال فلان حرام عليه أو هو بريء من الإسلام وأشباه هذا فليس ذلك بيمين ولا تجب به كفارة ولا نعلم بين أهل العلم فيه خلافا لأنه لم يرد الشرع فيه بكفارة ولا هو في معنى ما ورد الشرع به (11/220)
مسألة وفصول هل الكفارة قبل الحنث أو بعده
مسألة : قال : ومن حلف فهو مخير في الكفارة قبل الحنث وبعده وسواء كانت الكفارة صوما أو غيره إلا في الظهار والحرام فعليه الكفارة قبل الحنث
الظهار والحرام شيء واحد وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين ولا خلاف بين العلماء فيما علمنا في وجوب تقديم كفارته على الوطء والأصل فيه قول الله تعالى : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } فأما كفارة سائر الأيمان فإنها تجوز قبل الحنث وبعده صوما كانت أو غيره في قول أكثر أهل العلم وبه قال مالك وممن روي عنه جواز تقديم التكفير عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد رضي الله عنهم وبه قال الحسن و ابن سيرين و ربيعة و الأوزاعي و الثوري و ابن المبارك و إسحاق و أبو عبيد و أبو خثيمة و سليمان بن داود وقال أصحاب الرأي لا تجزىء الكفارة قبل الحنث لأنه تكفير قبل وجود سببه فأشبه ما لو كفر قبل اليمين ودليل ذلك أن سبب التكفير الحنث إذ هو هتك الإسم المعظم المحترم ولم يوجد وقال الشافعي كقولنا في الإعتاق والإطعام والكسوة وكقولهم في الصيام من أجل أنه عبادة بدنية فلم يجز فعله قبل وجوبه لغير مشقة كالصلاة
ولنا روى عبد الرحمن بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير ] رواه أبو داود وفي لفظ : [ وائت الذي هو خير ] راوه البخاري و الأثرم وروى أبو هريرة وأبو الدرداء وعدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو ذلك ورواه الأثرم وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إني إن شاء لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير ـ أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ] رواه البخاري ولأنه كفر بعد وجود السبب فأجزأ كما لو كفر بعد الجرح وقبل الزهوق والسبب بدليل قوله تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم } وقوله سبحانه : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وكفرت عن يميني ـ وكفر يمينك ] وتسمية الكفارة كفارة اليمين وبهذا ينفصل عما ذكروه فإن الحنث شرط وليس بسبب وتعجيل حق المال بعد وجود سببه وقبل وجود شرطه جائز بدليل تعجيل الزكاة بعد وجود النصاب قبل الحلول وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الزهوق قال ابن عبد البر العجب من أصحاب أبي حنيفة أجازوا تقديم الزكاة من غير أن يرووا فيها مثل هذه الآثار الواردة في تقديم الكفارة ويأبون تقديم الكفارة مع كثرة الرواية الواردة فيها والحجة في السنة ومن خالفها محجوج بها فأما أصحاب الشافعي فهم محجوبون بالأحاديث مع أنهم قد احتجوا بها في البعض وخالفوها في البعض وفرقوا بين ما جمع بينه النص ولأن الصيام نوع تكفير فجاز قبل الحنث كالتكفير بالمال وقياس الكفارة على الكفارة أولى من قياسها على الصلاة المفروضة بأصل الوضع
فصل : فأما التكفير قبل اليمين فلا يجوز عند أحد من العلماء لأنه تقديم للحكم قبل سببه فلم يجز كتقديم الزكاة قبل ملك النصاب وكفارة القتل قبل الجرح
فصل : والتكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة وقال ابن أبي موسى : بعده أفضل عند أحمد وهو قول الشافعي و مالك و الثوري لما فيه من الخروج من الخلاف وحصول اليقين ببراءة الذمة
ولنا أن الأحاديث الواردة فيه فيها التقديم مرة والتأخير أخرى وهذا دليل التسوية ولأنه تعجيل مال يجوز تعجيله قبل وجوبه فلم يكن التأخير أفضل كتعجيل الزكاة وكفارة القتل وما ذكروه معارض بتعجيل النفع للفقراء والتبرع بما لم يجب عليه وعلى أن الخلاف المخالف للنصوص لا يوجب تفضيل المجمع عليه كترك الجمع بين الصلاتين
فصل : وإن كان الحنث في اليمين محظورا فعجل الكفارة قبله ففيه وجهان :
أحدهما : تجزئه لأنه عجل الكفارة بعد سببها فأجزأته كما لو كان الحنث مباحا
والثاني : لا تجزئه لأن التعجيل رخصة فلا يستباح بالمعصية كالقصر في سفر المعصية والحديث لم يتناول المعصية فإنه قال : إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر وهذا لم ير غيرها خيرا منها ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان كما ذكرنا (11/223)
مسألة وفصول حكم ما لو حلف واستثنى
مسألة : قال : وإذا حلف فقال إن شاء الله تعالى فإن شاء فعل وإن شاء ترك ولا كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام
وجملة ذلك أن الحالف إذا قال إن شاء الله مع يمينه فهذا يسمى استثناء فإن ابن عمر روى عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : [ من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى ] رواه أبو داود وأجمع العلماء على تسمية استثناء وأنه متى استثنى في يمينه لم يحنث فيها والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] رواه الترمذي
وروى أبو داود : [ من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك ] ولأنه وما قال لأفعلن إن شاء الله فقد علمنا أنه متى شاء الله فعل ومتى لم يفعل لم يشأ الله ذلك فإن ما شاء الله كان ومتى لم يشأ لم يكن إذا ثبت هذا فإنه يشترط أن يكون الاستثناء متصلا باليمين بحيث لا يفصل بينهما كلام أجنبي ولا يسكت بينهما سكوتا يمكنه الكلام فيه فأما السكوت لانقطاع نفسه أو صوته أو عي أو عارض من عطشه أو شيء غيرها فلا يمنع صحة الاستثناء وثبوت حكمه وبهذا قال مالك و الشافعي و الثوري و أبو عبيد وأصحاب الرأي و إسحاق لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من حلف فاستثنى ] وهذا يقتضي كونه عقيبه ولأن الاستثناء من تمام الكلام فاعتبر اتصاله به كالشرط وجوابه وخبر المبتدأ والاستثناء بالا ولأن الحالف إذا سكت ثبت الحكم يمينه وانعقدت موجبة لحكمها وبعد ثبوته لا يمكن دفعه ولا تغييره قال أحمد حديث النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الرحمن بن سمرة : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ] ولم يقل فاستثن ولو جاز الاستثناء في كل حال لم يحنث حانث به
وعن احمد رواية أخرى أنه يجوز الاستثناء إذا لم يطل الفصل بينهما قال في رواية المروذي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لأغزون قريشا ـ ثم سكت ثم قال ـ إن شاء الله ] إنما هو استثناء بالقرب ولم يخلط كلامه بغيره
ونقل عنه إسماعيل بن سعيد مثل هذا وزاد قال ولا أقول فيه بقول هؤلاء من لم يرد ذلك إلامتصلا ويحتمل كلام الخرقي هذا لأنه قال إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام ولم يشترط اتصال الكلام وعدم السكوت وهذا قول الأوزاعي قال في رجل حلف لا أفعل كذا وكذا ثم سكت ساعة لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء فقال له إنسان قل إن شاء الله فقال إن شاء الله أيكفر يمينه ؟ فال أراه قد استثنى وقال قتاة له أن يستثني قبل أن يقوم أو يتكلم ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم استثنى بعد سكوته إذ قال : [ والله لأغزون قريشا ـ ثم سكت ثم قال ـ إن شاء الله ] واحتج به أحمد ورواه أبو داود وزاد قال الوليد بن مسلم ثم لم يغزهم ويشترط على هذه الرواية أن لا يطيل الفصل بينهما ولا يتكلم بينهما بكلام أجنبي
وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه قال يصح الاستثناء ما دام في المجلس وحكي ذلك عن الحسن و عطاء وعن عطاء أنه قال قدر حلب الناقة العزوزة وعن ابن عباس أنه له أن يستثني بعد حين وهو قول مجاهد وهذا القول لا يصح لما ذكرناه وتقديره بمجلس أو غيره لا يصح لأن التقديرات بابها التوقيف فلا يصار إليها بالتحكم
فصل : ويشترط أن يستثني بلسانه ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامة أهل العلم منهم الحسن و النخعي و مالك و الثوري و الأوزاعي و الليث و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أبو حنيفة و ابن المنذر ولا نعلم لهم خالفا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من حلف فقال إن شاء الله ] والقول هو النطق ولأن اليمين لا تنعقد بالنية فكذلك الاستثناء وقد روي عن أحمد إن كان مظلوما فاستثنى في نفسه رجوت أن يجوز إذا خاف على نفسه فهذا في حق الخائف على نفسه لأن يمينه غير منعقد أو لأنه بمنزلة المتأول وأما في حق غيره فلا
فصل : واشترط القاضي أن يقصد الاستثناء فلو أراد الجزم فسبق لسانه إلى الاستثناء من غير قصد أو كانت عادته جارية بالاستثناء فجرى لسانه على العادة من غير قصد لم يصح لأن اليمين لما لم ينعقد من غير قصد فكذلك الاستثناء وهذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم أنه لا يصح الاستثناء حتى يقصده مع ابتداء يمينه فلو حلف غير قاصد للاستثناء ثم عرض له بعد فراغه من اليمين فاستثنى لم ينفعه ولا يصح لأن هذا يخالف عموم الخبر فإنه قال : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] ولأن لفظ الاستثناء يكون عقيب يمينه فكذلك نيته
فصل : يصح الاستثناء في كل يمين مكفرة كاليمين بالله والظهار والنذر وقال ابن أبي موسى : من استثنى في يمين تدخلها كفارة فله ثنياه لأنها أيمان مكفرة فدخلها الاستثناء كاليمين بالله تعالى فلو قال : أنت علي كظهر أمي إن شاء الله أو لله علي أن أتصدق بمائة درهم إن شاء الله لم يلزمه شيء لأنها أيمان فتدخل في عموم قوله [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ]
فصل : وإن قال : والله لأشربن اليوم إلا أن يشاء الله أو لا أشرب إلا أن يشاء الله لم يحنث بالشرب ولا بتركه لما ذكرنا في الإثبات ولا فرق بين تقديم الاستثناء وتأخيره في هذا كله فماذا قال والله إن شاء الله لا أشرب اليوم أو لأشربن ففعل أو ترك لم يحنث لأن تقديم الشرط وتأخيره سواء قال الله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد }
فصل : وإن قال والله لأشربن اليوم إن شاء زيد فشاء زيد لزمه الشرب فإن تركه حتى مضى اليوم حنث وإن لم يشأ زيد لم يلزمه يمين فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت انحلت اليمين لأنه لم يوجد الشرط وإن قال والله لا أشرب إلا أن يشاء زيد فقد منع نفسه الشرب إلا أن توجد مشيئة زيد فإن شاء فله الشرب وإن لم يشأ لم يشرب وإن خفيت مشيئته لغيبه أو موت أو جنون لم يشرب وإن شرب حنث لأنه منع نفسه إلا أن توجد المشيئة فلم يكن له أن يشرب قبل وجودها وإن قال والله لأشربن إلا أن يشاء زيد فقد ألزم نفسه الشرب إلا أن يشاء زيد أن لا يشرب لأن الاستثاناء ضد المستثنى منه والمستثنى إيجاب لشربه بيمينه فإن شرب قبل مشيئة زيد بر وإن قال زيد قد شئت أن لا يشرب انحلت اليمين لأنها معلقة بعدم مشيئته لترك الشرب ولم تتقدم فلم يوجد شرطها وإن قال قد شئت أن يشرب أو ما شئت أن لا يشرب لم تنحل اليمين لأن هذه المشئية غير المستثناة فإن خفيت مشيئته لزمه الشرب لأنه علق وجوب الشرب بعدم المشيئة وهي معدومة بحكم الأصل وإن قال والله لا أشرب اليوم إن شاء زيد فقال زيد قد شئت أن لا تشرب فشرب حنث وإن شرب قبل مشئيته لم يحنث لأن الامتناع من الشرب معلق بمشيئته ولم تثبت مشيئته فلم يثبت الامتناع بخلاف التي قبلها وإن خفيت مشيئته فهي في حكم المعدومة والمشيئة في هذه المواضع أن يقول بلسانه
مسألة : قال : وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله رحمه الله أنه توقف عن الجواب وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء
يعني إذا قال لزوجته أنت طالق إن شاء الله أولعبده أنت حر إن شاء الله فقد توقف أحمد في الجواب لاختلاف الناس فيها وتعارض الأدلة وفي موضع قطع أنه لا ينفعه الاستثناء فيهما ال في رواية إسحاق بن منصور و حنبل من حلف فال إن شاء الله لم يحنث وليس له استثناء في الطلاق والعتاق قال حنبل لأنهما ليسا من الإيمان وبه قال مالك و الأوزاعي و الحسن و قتادة وقال طاوس و حماد و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي يجوز الاستثناء فيهما لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] ولأنه علق الطلاق والعتاق بشرط لم يتحقق وجوده فلم يقعا كما لو علقه بمشيئة زيد ولم تتحقق مشيئته
ولنا أنه أوقع الطلاق والعتاق في محل قابل فوقع كما لو لم يستثن والحديث إنما تناول الأيمان وليس هذا بيمين إنما هو تعليق على شرط قال ابن عبد البر إنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله تعالى وقول المتقدمين الأيمان بالطلاق والعتاق إنما جاز على التقريب والاتساع ولا يمين في الحقيقة إلا بالله وهذا طلاق وعتاق وقد ذكرنا هذه المسألة في الطلاق بأبسط من هذا
مسألة : قال : وإذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لم تطلق إن تزوج بها وإن قال إذا ملكت فلانا فهو حر فملكه صار حرا
اختلفت الرواية عن أحمد في هاتين المسألتين فعنه لا يقع طلاق ولا عتق روي هذا عن ابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و عروة وجابر بن زيد و سوار والقاضي و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ورواه الترمذي عن علي وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين وشريح وغير واحد من فقهاء التابعين قال وهو قول أكثر أهل العلم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك ولا طلاق لابن أدم فيما لا يملك ] قال الترمذي وهذا حديث حسن وهو أحسن ما روي في هذا الباب وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها ] رواه الدار قطني وروى أبو بكر في الشافي عن الخلال عن الرمادي عن عبد الرزاق عن معمر عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا طلاق قبل نكاح ] قال أحمد هذا عن النبي صلى الله عليه و سلم وعدة من الصحابة ولأن من لا يقع طلاقه وعتقه بالمباشرة لم تنعقد له صفة كالمجنون ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا والرواية الثانية : عن احمد أنه يصح في العتق ولا يصح في الطلاق قال في رواية أبي طالب إذا قال إن اشتريت هذا الغلام فهو حر فاشتراه عتق وأن قال أن تزوجت فلانة فهي طالق فهذا غير الطلاق هذا حق لله تعالى والطلاق يمين ليس هو لله تعالى ولا فيه قربة إلى الله تعالى قال أبو بكر في كتاب الشافي لا يختلف قول أبي عبد الله أن الطلاق إذا وقع قبل النكاح لا يقع وإن العتاق يقع إلا ما روى محمد بن الحسن بن هارون في العتق أنه لا يقع وما أراه إلا غلطا كذلك سمعت الخلال يقول فإن كان حفظ فهو قول آخر والفرق بينهما إن ناذر الطلاق لا يلزمه الوفاء به فكما افترقا في النذر جاز أن يفترقا في اليمين ولأنه لو قال لأمته : أول ولد تلدينه فهو حر لإنه يصح وهو تعليق للحرية على الملك
وعن أحمد رحمه الله ما يدل على وقوع الطلاق والعتق وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه يصح تعليقه على الأخطار فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية والنذر واليمين وقال مالك : إن خص جنسا من الأجناس أو عبدا بعينه عتق إذا ملكه وإن قال : كل عبد أملكه فهو حر لم يصح والأول أصح إن شاء الله تعالى لأنه تعليق للطلاق والعتاق قبل الملك فأشبه ما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق أو لأمة غيره إن دخلت الدار فأنت حرة ثم تزوج الأجنبية وملك الأمة ودخلتا الدار فإن الطلاق لا يقع ولا تعتق الأمة بغير خلاف نعلمه (11/227)
مسألتان وفصول حكم ما لو حلف أن لا يفعل شيئا وفعله أو أن يفعل شيئا ولم يفعله
مسألة : قال : ولو حلف أن لا ينكح فلانة أو لا اشتريت فلانة فنكحها نكاحا فاسدا أو اشتراها شراء فاسدا لم يحنث
وبهذا قال الشافعي وقال ابو حنيفة : إذا قال لعبده إن زوجتك أو بعتك فأنت حر فزوجه تزويجا فاسدا لم يعتق وإن باعه بيعا فاسدا يملك به حنث لأن البيع الفاسد عنده يثبت به الملك إذا اتصل به القبض ولنا أن اسم البيع ينصرف إلى الصحيح بدليل أن قول الله تعالى : { وأحل الله البيع } وأكثر ألفاظه في البيع إنما ينصرف إلى الصحيح فلا يحنث بما دونه كما في النكاح وكالصلاة وغيرها وما ذكروه من ثبوت الملك به لا نسلمه
وقال ابن أبي موسى لا يحنث بالنكاح الفاسد وهل يحنث بالبيع الفاسد ؟ على روايتين وقال أبو الخطاب إن نكحها نكاحا مختلفا فيه مثل أن يتزوجها بلا ولي ولا شهود أو باع في وقت النداء فعلى وجهين وقال ابن أبي موسى إن تزوجها تزويجا مختلفا فيه أو ملك ملكا مختلفا فيه حنث فيهما جميعا ولنا أنه نكاح فاسد وبيع فاسد فلم يحنث بهما كالمتفق على فسادهما
فصل : والماضي والمستقبل سواء في هذا وقال محمد بن الحسن ما صليت ولا تزوجت ولا بعت وكان قد فعله فاسدا حنث لأن الماضي لا يقصد منه إلا الاسم والإسم يتناوله والمستقبل بخلافه فإنه يراد بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة
ولنا أن ما لا يتناوله الإسم في المستقبل لا يتناوله في الماضي كالإيجاب وكغير المسمى وما ذكروه ولا يصح لأن الإسم لا يتناول إلا الشرعي ولا يحصل
فصل : : وإن حلف لا يبيع فباع بيعا فيه الخيار حنث وقال أبو حنيفة : لا يحنث لأن الملك لا يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع الفاسد
ولنا أنه بيع صحيح شرعي فيحنث به كالبيع اللازم وما ذكروه لا يصح فإن بيع الخيار يثبت ذلك به بعد انقضاء الخيار بالإتفاق وهو سبب له ولا نسلم أن الملك لا يثبت في مدة الخيار
فصل : وإن حلف لا يبيع أو لا يزوج فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل المتزوج والمشتري لم يحنث وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن البيع والنكاح عقدان لا يتمان إلا بالقبول فلم يقع الإسم على الإيجاب بدونه فلم يحنث به وإن حلف لا يهب ولا يعير فأوجب ذلك ولم يقبل الآخر فقال القاضي يحنث وهو قول أبي حنيفة و ابن سريج لأن الهبة والعارية لا عوض فيهما فكان مسماهما الإيجاب والقبول شرط لنقل الملك وليس هو من السبب فيحنث بمجرد الإيجاب فيهما كالوصية
وقال الشافعي لا يحنث بمجرد الإيجاب لأنه عقد لا يتم إلا بالقبول فلم يحنث فيه بمجرد الإيجاب كالنكاح والبيع فأما الوصية والهدية والصدقة فقال أبو الخطاب يحنث فيها بمجرد الإيجاب ولا أعلم قول الشافعي فيها إلا أن الظاهر أنه لا يخالف في الوصية والهدية لأن الإسم يقع عليهما بدون القبول ولهذا لما قال الله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } إنما أراد الإيجاب دون القبول ولأن الوصية صحيحة قبل موت الموصي ولا قبول لها حينئذ
فصل : وإن حلف لا يتزوج حنث بمجرد الإيجاب والقبول الصحيح لا نعلم فيه خلافا لأن ذلك يحصل به المسمى الشعري فتناولته يمينه وإن حلف ليتزوجن بر بذلك سواء كانت له امرأة أو لم يكن وسواء تزوج نظيرتها أو دونها أو أعلى منها إلا أن يحتال على حل يمينه بتزويج لا يحصل مقصودها مثل أن يواطىء امرأته على نكاح لا يغيطها به ليبر في يمينه فلا يبر بهذا وقال أصحابنا : إذا حلف ليتزوجن على امرأته لا يبر حتى يتزوج نظيرتها ويدخل بها وهو قول مالك لأنه قصد غيظ زوجته ولا يحصل إلا بذلك
ولنا أنه تزوج تزويجا صحيحا فبر به كما لو تزوج نظيرتها ودخل بها وقولهم أن الغيظ لا يحصل إلا بتزويج نظيرتها والدخول غير مسلم فإن الغيظ يحصل بمجرد الخطبة وإن حصل بما ذكروه زيادة في الغيظ فلا تلزمه الزيادة على الغيظ الذي يحصل بما تناولته يمينه كما أنه يلزمه نكاح اثنتين ولا ثلاث ولا أعلى من نظيرتها والذي تناولته يمينه مجرد التزويج ولذلك لو حلف لا يتزوج على امرأته حنث بهذا فكذلك يحصل البر به لأن المسمى واحد فما تناوله النفي تناوله في الإثبات وإنما لا يبر إذا تزوج تزويجا لا يحصل به الغيظ كما ذكرناه من الصورة ونظائرها لأن مبنى الأيمان على المقاصد والنيات ولم يحصل مقصوده ولأن التزويج ههنا يحصل حيلة على التخلص من يمينه بما لا يحصل مقصودها فلم تقبل منه حيلته وقد نص أحمد على هذا فقال إذا حلف ليتزوجن على امرأته فتزوج بعجوز أو زنجية لا يبر لأنه أراد أن يغمها ويغيرها وبهذا لا تغار ولا تغتم فعلله أحمد بما لا يغيظ بها والزوجة ولم يعتبر أن تكون نظيرتها لأن الغيظ لا يتوقف على ذلك ولو قدر أن تزوج العجوز يغيظها والزنجية لبر به وإنما ذكره أحمد لأن الغالب أنه لا يغيظها لأنها تعلم أنه إنما فعل ذلك حيلة لئلا يغيظها ويبر به
فصل : إذا حلف لا تسريب فوطىء جاريته حنث ذكره أبو الخطاب وقال القاضي لا يحنث حتى يطأ فينزل فحلا كان أو خصيا وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يحصنها ويحجبها عن الناس لأن التسري مأخوذ من السر ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه كهذه
ولنا أن التسري مأخوذ من السر وهو الوطء لأنه يكون في السر قال الله تعالى : { ولكن لا تواعدوهن سرا } وقال الشاعر :
( فلن تتطلبوا سرها للغنى ... ولن تسلموها لازهادها )
وقال آخر :
( إلا زعمت بسباسة القوم أنني ... كبرت وإن لا يحسن السر أمثالي )
ولأن كل حكم تعلق بالوطء لم يعتبر فيه الإنزال ولا التحصين كسائر الأحكام
فصل : إذا حلف لا يهب له فأهدى إليه أو أعمره حنث لأن ذلك من أنواع الهبة وإن أعطاه من الصدقة الواجبة أو نذر أو كفارة لم يحنث لأن ذلك حق لله تعالى عليه يجب اخراجه فليس هو بهبة منه وإن تصدق عليه تطوعا فقال القاضي يحنث وهو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا يحنث وهو قول اصحاب الرأي لأنهما يختلفان اسما وحكما بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ هو عليها صدقة ولنا هدية ] وكانت الصدقة محرمة عليه والهدية حلال له وكان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة ومع هذا الاختلاف لا يحنث في إحداهما بفعل الآخر
ووجه الأول أنه تبرع بعين في الحياة فحنث به كالهدية ولأن الصدقة تسمى هبة فلو تصدق بدرهم قيل وهب درهما وتبرع بدرهم واختلاف التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة فيختص بإسم دونها كاختصاص الهدية والعمري باسمين ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة وكذلك اختلاف الأحكام فإنه قد يثبت للنوع ما لا يثبت للجنس كما يثبت للآدمي من الأحكام ما لا يثبت لمطلق الحيوان فإن وصى له لم يحنث لأن الهبة تمليك في الحياة والوصية إنما تملك بالقبول بعد الموت فإن أعاره لم يحنث لأن الهبة تمليك الأعيان وليس في العارية تمليك عين ولأن المستعير لا يملك المنفعة وإنما يستبيحها ولهذا يملك المعير الرجوع فيها ولا يملك المستعير إجارتها ولا إعارتها هذا قول القاضي ومذهب الشافعي وقال أبو الخطاب يحنث لأن العارية هبة المنفعة والأول أصح وإن أضافه لم يحنث لأنه لم يملكه شيئا وإنما أباحه ولهذا لا يملك التصرف بغير الأكل وإن باعه وحاباه لم يحنث لأنه معاوضة يملك الشفيع أخذ جميع المبيع ولو كان هبة أو بعضه هبة لم يملك أخذه كله
وقال أبو الخطاب يحنث في أحد الوجهين لأنه يترك له بعض المبيع بغير ثمن أو وهبه بعض الثمن وإن وقف عليه فقال أبو الخطاب يحنث لأنه تبرع له بعين في الحياة ويحتمل أن لا يحنث لأن الوقف لا يملك في رواية وإن حلف لا يتصدق عليه فوهب له لم يحنث لأن الصدقة نوع من الهبة ولا يحنث الحالف على نوع بفعل نوع آخر ولا يثبت للجنس حكم النوع ولهذا حرمت الصدقة على النبي صلى الله عليه و سلم ولم تحرم الهبة ولا الهدية وإن حلف لا يهب له شيئا فاسط عنه دينا لم يحنث إلا أن ينوي لأن الهبة تمليك عين وليس له إلا دين في ذمته
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يشتري فلانا أو لا يضربه فوكل في الشراء والضرب حنث
وجملته أن من حلف لا يفعل شيئا فوكل من فعله حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه ونحو هذا قول مالك و أبي ثور وقال الشافعي لا يحنث إلا أن ينوي بيمينه أن لا يستنيب في فعله أو يكون ممن لم تجر عادته بمباشرته لأن إطلاق إضافة الفعل يقتضي مباشرته بدليل أنه لو وكله في البيع لم يجز للوكيل توكيل غيره وإن حلف لا يبيع ولا يضرب فأمر من فعله فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه لم يحنث وإن كان ممن لا يتولاه كالسلطان ففيه قولان وإن حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه فقيل فيه قولان وقيل يحنث قولا واحدا وقال أصحاب الرأي إن حلف لا يبيع فوكل من باع لم يحنث وإن حلف لا يضرب ولا يتزوج فوكل من فعله حنث
ولنا أن الفعل يطلق على من وكل فيه وأمر به فيحنث به كما لو كان ممن لا يتولاه بنفسه وكما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه أو لا يضرب فوكل من ضرب عند أبي حنيفة وقد قال الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وقال : { محلقين رؤوسكم ومقصرين } وكان هذا متناولا للاستنابة فيه ولأن المحلوف عليه وجد من نائبه فحنث به كما لو حلف لا يدخل دارا فأمر من حمله إليها وقولهم إن اضافة الفعل إليه تقتضي المباشرة نمنعه ولا نسلم إنه إذا وكل في فعل يمتنع على الوكيل التوكيل فيه ولئن سلمنا فلأن التوكيل يقصد به الأمانة والحذق والناس يختلفون فيهما فإذا عين واحدا لم تجز مخالفة تعيينه بخلاف اليمين فأما أن نوى بيمينه المباشرة للمحلوف عليه أو كان سبب يمينه يقتضيها أو قرينة حاله تخصص بها لأن إطلاقه يقيد بنيته أو بما دل عليها فأشبه ما لو صرح به بلفظه وإن حلف ليشترين أو ليبيعن أو ليضربن فوكل من فعل ذلك بر لما ذكرنا في طرف النفي وذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ رحم الله المحلقين ] تناول من حلق رأسه بأمره
فصل : وإن حلف ليطلقن زوجته أو لا يطلقها فوكل من طلقها أو قال لها طلقي نفسك فطلقتها أو قال لها اختاري أوامرك بيدك فطلقت نفسها بر وحنث والخلاف فيه على ما تقدم وإن قال أنت طالق إن شئت أو أن قمت فشاءت او قامت حنث بغير خلاف لأن الطلاق منه وإنما حققت شرطه
فصل : فإن حلف لا يضرب امرأته فلطمها أو لكمها أو ضربها بعصا أو غيرها حنث بغير خلاف وإن عضها أو خنقها أو جز شعرها هاجزا يؤلمها قاصدا للاضرار بها حنث وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يحنث لأن ذلك لا يسمى ضربا فلا يحنث به كما لو شتمها شتما آلمها وقد نقل عن أحمد ما يدل على هذا فإن مهنا نقل عنه فيمن قال لامرأته : إن لم أضربك اليوم فأنت طالق فعضها أو قرصها أو أمسك شعرها فهو على ما نوى من ذلك قال القاضي فظاهر هذا أنه لم يدخله في إطلاق إسم الضرب
ولنا أن هذا في العرف يستعمل لكف الأذى المؤلم للجسم فيدخل فيه كل ما اختلفنا فيه ولهذا يقال تضاربا إذا فعل كل واحد منهما هذا بصاحبه وإن لم يكن معهما آلة وفارق الشتم فإنه لا يؤلم الجسم وإنما يؤلم القلب
مسألة : قال : ومن حلف بعتق أو طلاق أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا حنث
وبهذا قال مجاهد و سعيد بن جبير و الزهري و قتادة و ربيعة و مالك و أبو عبيد وأصحاب الرأي وهو المشهور عن الشافعي وقال عطاء وعمرو بن دينار وابن أبي نجيح و إسحاق و ابن المنذر لا يحنث وهو رواية عن أحمد لأن الناسي لا يكلف حال نسيانه فلا يلزمه الحنث كالحلف بالله تعالى (11/235)
مسألة فيمن حلف فتأول في يمينه
مسألة : قال : وإذا حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوما وإن كان ظالما لم ينفعه تأويله لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يمينك على ما يصدقك به صاحبك ]
معنى التأويل أن يقصد بكلامه محتملا يخالف ظاهره نحو أن يحلف أنه أخي يقصد أخوة الإسلام أو المشابهة أو يعني بالسقف والبناء السماء وبالبساط والفراش الأرض وبالأوتاد الجبال وباللباس الليل أو يقول ما رأيت فلانا يعني ما ضربت رئته ولا ذكرته يريد ما قطعت ذكره أو يقول جواري أحرار يعني سفنه ونسائي طوالق يعني نساء الأقارب منه أو يقول ما كاتبت فلانا ولا عرفته ولا أعلمته ولا سألته حاجة ولا أكلت له دجاجة ولا فروجة ولا شربت له ماء ولا في بيتي فرش ولا حصير ولا بارية وينوي بالمكاتبة مكاتبة الرقيق وبالتعريف جعله عريفا وبالإعلام جعله أعلم الشفة والحاجة شجرة صغيرة والدجاجة الكنة من الغزل والفروجة الدراعة والفرش صغار الإبل والحصير والحبس والبارية السكين التي يبرى بها أو يقول ما لفلان عندي وديعة ولا شيء يعني بما الذي أو يقول ما فلان ههنا ويعني موضعا بعينه أو يقول والله ما أكلت من هذا شيئا ولا أخذت منه يعني الباقي بعد أخذه وأكله فهذا وأشباهه مما يسبق إلى فهم السامع خلافه إذا عناه بيمينه فهو تأويل لأنه خلاف الظاهر ولا يخلو حال الحلف المتأول من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون مظلوما مثل من يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لظلمه أو ظلم غيره أو نال مسلما منه ضرر فهذا له تأويله قال مهنا سألت أحمد عن رجل له امرأتان اسم كل واحدة منهما فاطمة فماتت واحدة منهما فحلف بطلاق فاطمة ونوى التي ماتت قال إن كان المستحلف له ظالما فالنية نية صاحب الطلاق وإن كان المطلق الظالم فالنية نية الذي استحلف [ وقد روى أبو دواد بإسناده عن سويد بن حنظلة قال خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت أنه أخي فخلى سبيله فأتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : أنت أبرهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم وقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ] يعني سعة المعاريض التي يوهم بها السامع غير ما عناه قال محمد بن سيرين الكلام أوسع من أن يكذب ظريف يعني لا يحتاج أن يكذب لكثرة المعاريض وخص الظريف بذلك يعني به الكيس الفطن فإنه يفطن للتأويل فلا حاجة به إلى الكذب
الحال الثاني : أن يكون الحالف ظالما كالذي يستحلفه الحاكن على حق عنده فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي عناه المستحلف ولا ينفع الحالف تأويله وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا فإن أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يمينك على ما يصدقك به صاحبك ] رواه مسلم و أبو داود وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اليمين على نية المستحلف ] رواه مسلم وقالت عائشة على ما وقع للمحلوف له ولأنه لو ساغ التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين إذ مقصودها تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة فمتى ساغ التأويل له انتفى ذلك وصار التأويل وسيلة إلى جحد الحقوق ولا نعلم في هذا خلافا قال إبراهيم في رجل استحلفه السلطان بالطلاق على شيء فورى في يمينه إلى شيء آخر أجزأ عنه وإن كان ظالما لم تجزىء عنه التورية
الحال الثالث : لم يكن ظالما و لا مظلوما فظاهر كلام أحمد أن له تأويله فروي أن مهنا كان عنده هو والمروذي وجماعة فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه فوضع مهنا أصبعه في كفه وقال ليس المروذي ههنا وما يصنع المروذي ههنا ؟ يريد ليس هو في كفه ولم ينكر ذلك أبو عبد الله [ وروى أن مهنا قال له إني أريد الخروج يعني السفر إلى بلده واحب أن تسمعني الجزء الفلاني فأسمعه إياه ثم رآه بعد ذلك فقال ألم تقل أنك تريد الخروج ؟ فقال له مهنا قلت لك إني أريد الخروج الآن ؟ فلم ينكر عليه وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم في هذا خلافا روى سعيد عن جرير عن المغيرة قال كان إذا طلب إنسان إبراهيم ولم يرد إبراهيم أن يلقاه خرجت إليه الخادم وقالت اطلبوه في المسجد وقال له رجل إني ذكرت رجلا بشيء فكيف لي أن أعتذر إليه ؟ قال قل له والله إن الله يعلم ما قلت من ذلك من شيء وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يمزح ولا يقول إلا حقا ومزاحه إن يوهم السامع بكلامه غير ما عناه وهو التأويل وقال لعجوز : لا تدخل الجنة عجوز يعني أن الله ينشئهن أبكارا عربا أترابا ] وقال أنس [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله احملني فقال رسول الله : إنا حاملوك على ولد الناقة قال وما أصنع بولد الناقة ؟ قال : وهل تلد الإبل إلا النوق ] رواه أبو داود [ وقال لامرأة وقد ذكرت له زوجها : أهو الذي في عينه بياض فقالت يا رسول الله أنه لصحيح العين وأراد النبي صلى الله عليه و سلم البياض الذي حول الحدق ] [ وقال لرجل احتضنه من ورائه : من يشتري هذا العبد ؟ فقال يا رسول الله تجدني إذا كاسدا قال : لكنك عند الله لست بكاسد ] [ وهذا كله من التأويل والمعاريض وقد سماه النبي صلى الله عليه و سلم حقا فقال : لا أقول إلا حقا ] وروي عن شريح أنه خرج من عند زياد وقد حضره الموت فقيل له كيف تركت الأمير ؟ قال تركته يأمر وينهى فلما مات قيل له كيف قلت ذلك قال ؟ تركته يأمر بالصبر وينهى عن البكاء والجزع ويروى عن شقيق أن رجلا خطب امرأة وتحته أخرى فقالوا لأزوجك حتى تطلق امرأتك فقال أشهدوا إني قد طلقت ثلاثا فزوجوه فأقام على امرأته فقالوا قد طلقت ثلاثا قال ألم تعلموا أنه كان لي ثلاث نسوة فطلقتهن ؟ قالوا بلى قال قد طلقت ثلاثا فقالوا ما هذا أردنا فذكر ذلك شقيق لعثمان فجعلها نيته وروي عن الشعبي أنه كان في مجلس فنظر إليه رجل ظن أنه طلب منه التعريف به والثناء عليه فقال الشعبي أن له بيتا وشرفا فقيل لـ لشعبي بعد ما ذهب الرجل تعرفه ؟ قال لا ولكنه نظر إلي فيل فكيف اثنيت عليه ؟ قال : شرفه أذناه وبيته الذي يسكنه وروي أن رجلا أخذ على شراب فقيل له من أنت ؟ فقال :
( أنا ابن الذي لا ينزل الدهر قدره ... وإن نزلت يوما فسوف تعود )
( ترى الناس أفواجا على باب داره ... فمنهم قيام حولها وقعود )
فظنوه شريفا فخلوا سبيله فسألوا عنه فإذا هو ابن الباقلاني وأخذ الخوارج رافضيا فقالوا له تبرأ من عثمان وعلي فقال أنا من علي ومن عثمان بريء فهذا وشبهه هو التأويل الذي لا يعذر به الظالم ويسوغ لغيره مظلوما كان أو غير مظلوم لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول ذلك في المزاح من غير حاجة به إليه (11/243)
فصل في المستحيل والحلف عليه
فصل : والمستحيل نوعان أحدهما : مستحيل عادة كصعود السماء والطيران وقطع المسافة البعيدة في مدة قليلة فإذا حلف على فعله انعقدت يمينه ذكره القاضي وأبو الخطاب لأنه يتصور وجوده فإذا حلف عليه انعقدت يمينه ولزمته الكفارة في الحال لأنه مأيوس من البر فيها فوجبت الكفارة كما لو حلف ليطلقن امرأته فماتت
والثاني : المستحيل عقلا كرد أمس وشرب الماء في الكوز ولا ماء فيه فقال أبو الخطاب لا تنعقد يمينه ولا تجب بها كفارة وهو مذهب مالك لأنها يمين قارنها ما يحلها فلم تنعقد كيمين الغموس أو يمين على غير متصور فأشبهت يمين الغموس وهذا لأن اليمين إنما تنعقد على متصور أو متوهم التصور وليس ههنا واحد منهما
وقال القاضي تنعقد موجبة للكفارة في الحال وهذا قول أبي يوسف و الشافعي لأنه حلف على نفسه في المستقبل ولم يفعل كما لو حلف ليطلقن امرأته فماتت قبل طلاقها وبالقياس على المستحيل عادة ولا فرق بين أن يعلم استحالته أو لا يعلم مثل أن يحلف ليشربن الماء في الكوز ولا ماء فيه فالحكم واحد فيمن علم أنه لا ماء فيه ومن لا يعلم وإن حلف ليقتلن فلانا وهو ميت فهو كالمستحيل عادة لأنه يتصور أن يحييه الله فيقتله وتنعقد يمينه على قول أصحابنا وإن حلف لأقتلن الميت يعني في حال موته فهو مستحيل عقلا فيكون فيه من الخلاف ما قد ذكرناه (11/247)
فصل حكم من حلف ليفعلن فلان كذا أو لا يفعل
فإن قال والله ليفعلن فلان كذا أو لا يفعل أو حلف على حاضر فقال والله لتفعلن كذا فأحنثه ولم يفعل فالكفارة على الحالف كذلك قال ابن عمر وأهل المدينة و عطاء و قتادة و الأوزاعي وأهل العراق و الشافعي لأن الحالف هو الحانث فكانت الكفارة عليه كما لو كان هو الفاعل لما يحنثه ولأن سبب الكفارة إما اليمين وإما الحنث أو هما وأي ذلك قدر فهو موجود في الحالف وإن قال أسأل بالله لتفعلن وأراد اليمين فهي كالتي قبلها وإن أراد الشفاعة إليه بالله فليس بيمين ولا كفارة على واحد منهما وإن قال بالله لتفعلن فهي يمين لأنه أجاب بجواب القسم إلا أن ينوي ما يصرفها وإن قال بالله أفعل فليست يمينا لأنه لم يجبها بجواب القسم ولذلك لا يصلح أن يقول والله لأفعل ولا بالله أفعل وإنما صلح ذلك في التاء لأنها لا تختص بالقسم فيدل على أنه سؤال فلا تجب به كفارة (11/248)
فصل أمر النبي بإبرار المقسم
[ وثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم وسلم أمر بإبرار المقسم ] رواه البخاري وهذا والله أعلم على سبيل الندب لا على سبيل الإيجاب بدليل [ أن أبا بكر قال أقسمت عليك يا رسول الله صلى الله عليه و سلم لتخبرني بما أصبت مما أخطأت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تقسم يا أبا بكر ] ولم يخبره ولو وجب عليه أبراره لأخبره ويحتمل أن يجب عليه أبراره إذا لم يكن فيه ضرر ويكون امتناع النبي صلى الله عليه و سلم من إبرار أبي بكر لما علم من الضرر فيه وإن أجابه إلى صورة ما أقسم عليه دون معناه تعذر المعنى فحسن فإنه [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن العباس جاءه برجل ليبايعه على الهجرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لا هجرة بعد الفتح وقال العباس أقسمت عليك يا رسول الله صلى الله عليه و سلم لتبايعنه فوضع النبي صلى الله عليه و سلم يده في يده وقال : أبررت قسم عمي ولا هجرة ] وأجابه إلى صورة المبايعة دون ما قصد بيمينه (11/248)
فصل يستحب إجابة من سأل بالله
ويسحتب إجابة من سأل بالله لما [ روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من استعاذ بالله فأعيذه ومن سألكم بالله فأعطوه ومن استجار بالله فأجيروه ومن أتى إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ]
وعن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله أما الذين يحبهم الله فرجل سأل قوما فسألهم بالله ولم يسألهم بقرابة بينه وبينهم فتخلف رجل باعقابهم فأعطاه سرا لا يعلم بعطيته إلا الله عز و جل والذي أعطاه وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤوسهم فقام يتملقني ويتلو آياتي ورجل كان في سرية فلقوا العدو فهزموا فاقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له والثلاثة الذين يبغضهم الله الشيخ الزاني والفقير المختال والغني الظلوم ] رواهما النسائي (11/249)
فصل حكم من لم يحلف وقال حلفت
فصل : إذا قال حلفت ولم يكن حلف فقال أحمد هي كذبة ليس عليه يمين وعنه عليه الكفارة لأنه أقر على نفسه والأول هو المذهب لأنه حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإذا كذب في الخبر به لم يلزمه حكمه كما لو قال ما صليت وقد صلى ولو قال علي يمين ونوى الخبر فهي كالتي قبلها وإن نوى القسم فقال أبو الخطاب هي يمين وهو قول أصحاب الرأي وقال الشافعي ليس بيمين لأنه لم يأت باسم الله تعالى المعظم ولا صفته فلم يكن يمينا كما لو قال حلفت وهذا أصح إن شاء الله فإن هذه ليست صيغة اليمين والقسم وإنما هي صيغة الخبر فلا يكون بها حالفا وإن قدر ثبوت حكمها لزمه أقل ما يتناوله الاسم وهو يمين ما وليست كل يمين للكفارة فلا يلزمه شيء ووجه الأول أنه كناية عن اليمين وقد نوى اليمين فتكون يمينا كالصريح (11/249)
فصل حكم ما لو حلف على فعل شيء أو تركه
فصل : وإذا حلف على ترك شيء أو حرمه لم يصر محرما وقال أبو حنيفة يصير محرما لقول الله تعالى : { لم تحرم ما أحل الله لك ؟ } وقوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ولأن الحنث يتضمن هتك حرمة الإسم المعظم فيكون حراما ولأنه إذا حرمه فقد حرم الحلال فيحرم كما لو حرم زوجته
ولنا أنه إذا أراد التكفير فله فعل المحلوف عليه وحل فعله مع كونه محرما تناقض وتضاد والعجب أن أبا حنيفة لا يجوز التكفير إلا بعد الحنث وقد فرض الله تعالى تحلة اليمين فعلى قوله يلزم كون المحرم مفروضا أو من ضرورة المفروض لأنه لا يصل إلى التحلة إلا بفعل المحلوف عليه وهو عنده محرم وهذا غير جائز ولأنه لو كان محرما لوجب تقديم الكفارة عليه كالظهار ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] فأمر بفعل المحلوف عليه ولو كان محرما لم يأمره به وسماه خيرا والمحرم ليس بخير وأما الآية فإنما أراد بها قوله هو علي حرام أو منع نفسه منه وذلك يسمى تحريما قال الله تعالى : { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } وقال : { وحرموا ما رزقهم الله } ولم يثبت فيه التحريم حقيقة ولا شرعا (11/250)
مسألتان وفصول شروط من تدفع إليه الكفارة وقدر ما لكل منهم وما يجب أن يعطوا
كتاب الكفارات : الأصل في كفارة اليمين الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } الآية وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] في اخبار سوى هذا وأجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله ومن وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير ان شاء أطعم عشرة مساكين مسلمين أحرار اكبار كانوا أو صغار إذا أكلوا الطعام
أجمع أهل العلم على أن الحانث في يمينه بالخيار إن شاء اطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق أي ذلك فعل أجزأه لأن الله تعالى عطف بعض هذه الخصال على بعض بحرف أو وهو للتخيير قال ابن عباس ما كان في كتاب الله ( أو ) فهو مخير فيه وما كان ( فمن لم يجد ) فالأول الأول ذكره الإمام أحمد في التفسير والواجب في الاطعام إطعام عشرة مساكين لنص الله تعالى على عددهم إلا أن لا يجد عشرة مساكين فيأتي ذكره إن شاء الله تعالى ويعتبر في المدفوع إليهم أربعة أوصاف
أن يكونوا مساكين وهم الصنفان اللذان تدفع إليهم الزكاة المذكوران في أول أصنافهم في قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } والفقراء مساكين وزيادة لكون الفقير أشد حاجة من المسكين على ما بيناه ولأن الفقر والمسكنة في غير الزكاة شيء واحد لأنهما جميعا اسم للحاجة إلى ما لا بد منه في الكفاية ولذلك لو وصى للفقراء أو وقف عليهم أو للمساكين لكان ذلك لهم جميعا وإنما جعلا صنفين في الزكاة وفرق بينهما لأن الله تعالى ذكر الصنفين جميعا باسمين فاحتيج إلى التفريق بينهما فأما من غير الزكاة فكل واحد من الإسمين يعبر به عن الصنفين لأن جهة استحقاقهم واحدة وهي الحاجة إلى ما تتم به الكفاية ولا يجوز صرفها إلى غيرهم سواء كان من أصناف الزكاة أو لم يكن لأن الله تعالى أمر بها للمساكين وخصهم بها فلا تدفع إلى غيرهم ولأن القدر المذفوع إلى كل واحد من الكفارة قدر يسير يراد به دفع حاجة يومه في مؤنته وغيرهم من الأصناف لا تندفع حاجتهم بهذا لكثرة حاجتهم وإذا صرفوا ما يأخذونه في حاجتهم صرفوه إلى غير ما شرع له
الثاني أن يكونوا أحرارا فلا يجزىء دفعها إلى عبد ولا مكاتب ولا أم وبهذا قال مالك و الشافعي واختار الشريف أو جعفر جواز دفعها إلى مكاتب نفسه وغيره وقال أبو الخطاب يتخرج جواز دفعها إليه بناء على جواز اعتاقه في كفارته لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته أشبه المسكين
ولنا أن الله تعالى عده صنفا في الزكاة غير صنف المساكين ولا هو في معنى المساكين لأن حاجته غير جنس حاجتهم فدل على أنه ليس بمسكين والكفارة انما هي للمساكين بدليل الآية ولأن المسكين يدفع إليه لتتم كفايته والمكاتب إنما يأخذ لفكاك رقبته أما كفايته فإنها حاصلة بكبسه وماله فإن لم يكن له كسب ولا مال عجزه سيده ورجع إليه واستغنى بإنفاقه وخالف الزكاة فإنها تصرف إلى الغني والكفارة بخلافها
الثالث : أن يكونوا مسلمين فلا يجوز صرفها إلى كافر ذميا كان أو حربيا وبذلك قال الحسن و النخعي و الأوزاعي و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد وقال أبو ثور وأصحاب الرأي يجوز دفعها إلى الذمي لدخوله في اسم المساكين فيدخل في عموم الآية ولأنه مسكين من أهل دار الإسلام فأجزأ الدفع إليه من الكفارة كالمسلم وروي نحو هذا عن الشعبي وخرجه أبو الخطاب وجها في المذهب بناء على جواز اعتاقه في الكفارة وقال الثوري يعطيهم أن لم يجد غيرهم
ولنا أنهم كفارة فلم يجز إعطاؤهم كمستأمني أهل الحرب والآية مخصوصة بهذا فنقيس
الرابع : أن يكونوا قد أكلوا الطعام فإن كان طفلا لم يطعم لم يجز الدفع إليه في ظاهر كلام الخرقي وقول القاضي وهو ظاهر قول مالك فإنه قال يجوز الدفع إلى الفطيم وهو إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الثانية : يجوز دفعها إلى الصغير الذي لم يطعم ويقبض للصغير وليه وهو الذي ذكره أبو الخطاب في المذهب وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو الخطاب وهو قول أكثر الفقهاء لأنه حر مسلم محتاج فأشبه الكبير ولأن أكله للكفارة ليس بشرط وهذا يصرف الكفارة إلى ما يحتاج إليه مما تتم به كفايته فأشبه الكبير
ولنا قوله تعالى : { إطعام عشرة مساكين } وهذا يقتضي أكلهم له فإذا لم تعتبر حقيقة أكله اعتبر إمكانه ومظنته ولا تتحقق مظنته فيمن لا يأكل ولأنه لو كان المقصود دفع حاجته لجاز دفع القيمة ولم يتعين الإطعام وهذا يقيد ما ذكروه فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الأربعة في واحد جاز الدفع إليه سواء كان صغيرا أو كبيرا محجورا أو غير عليه إلا أن من لا حجر عليه يقبض لنفسه أو يقبض له وكيله والمحجور عليه كالصغير والمجنون يقبض له وليه
مسألة : قال : لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق أو رطلان خبرزا أو مدان تمرا أو شعيرا
أما مقدار ما يعطى كل مسكين وجنسه فقد ذكرناه في باب الظهار ونص الخرقي على أنه يجزىء الدقيق والخبز ونص أحمد عليه أيضا وروي عنه لا يجزىء الخبز وهو قول مالك و الشافعي وقال لا يجزىء دقيق ولا سويق لأنه خرج عن حالة الكمال والادخار ولا يجزىء في الزكاة فلم يجزىء في الكفارة كالقيمة
ولنا قول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } وهذا قد أطعمهم من أوسط ما يطعم أهله فوجب أن يجزئه روى الإمام احمد في كتاب التفسير بإسناده عن ابن عمر : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال الخبز واللبن
وفي رواية عنه قال : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن وقال أبو رزين : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } خبز وزيت وخل وقال الأسود بن يزيد الخبز والتمر وعن علي الخبز والتمر الخبز والسمن الخبز واللحم وعن ابن سيرين قال كانوا يقولون أفضله الخبز واللحم وأوسطه الخبز والسمن وأخسه الخبز والتمر وقال عبيدة الخبز والزيت وسأل رجل شريحا ما أوسط طعام أهلي ؟ فقال شريح أن الخبز والخل والزيت لطيب فقال له رجل أفرأيت الخبز واللحم ؟ قال أرفع طعام أهلك وطعام الناس وعن علي و الحسن و الشعبي و قتادة و مالك و ابي ثور يعذبهم أو يعشيهم وهذا اتفاق على تفسير ما في الآية بالخبز ولأنه أطعم المساكين من أوسط طعام أهله فأجزأه كما لو أعطاه حبا ويفارق الزكاة من وجهين
أحدهما : أن الواجب عليه عشر الحب وعشر الحب حب فاعتبر الواجب وههنا الواجب الإطعام والخبز أقرب إليه
والثاني : إن دفع الزكاة يراد للاقتيات في جميع العام فيحتاج إلى ادخاره فاعتبر أن يكون على صفة تمكن من ادخاره عاما والكفارة تراد لدفع حاجة يومه ولهذا تقدرت بما الغالب أنه يكفيه ليومه والخبز أقرب إلى ذلك لأنه قد كفاه مؤنة طحنه وخبزه إذا تقرر هذا فإنه أن أعطى المسكين رطلي خبز بالعراقي أجزأه لأنه لا يكون من أقل من مد وقدر ذلك بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم خمس اواق وسبع أوقية وإن طحن مدا وخبزه أجزأه نص عليه أحمد وكذلك إذا دفع دقيق المد إلى المسكين أجزأه وإن دفع الدقيق من غير تقدير حنطته فقال أحمد يجزئه بالوزن رطل وثلث ولا يجزئه مد دقيق بالكيل لأنه يروع بالطحن فحصل في مد دقيق الحب أقل من مد الحب وإن زاد في الدقيق عن مد بحيث يعلم أنه قدر مد حنطة جاز وقول الخرقي في مد من دقيق يحتمل أنه أراد إخراجه بالوزن كما ذكر أحمد ويحتمل أنه أراد مدا من الحنطة طحنه ثم أخرج دقيقه ويحتمل أنه أراد إخراج ما يعلم أن حبه مد لما ذكرنا ويجب أن يحمل قوله في الدقيق والخبز على دقيق الحنطة وخبزها فإن اعطى من الشعير لم يجزئه إلا ضعف ذلك كما لا يجزىء من حبها إلا ضعف ما يجزىء من حب البر
فصل : والأفضل إخراج الحب لأن فيه خروجا من الخلاف قال أحمد التمر أعجب إلي والدقيق ضعيف والتمر أحب إلي ويحتمل أن يكون إخراج الخبز أفضل لأنه أنفع للمسكين وأقل كلفة وأقرب إلى حصول المقصود منه بغنيته والظاهر أن المسكين يأكله ويستغني به في يومه ذلك والحب يعجز عن طحنه وعجنه فالظاهر أنه يحتاج إلى بيعه ثم يشتري بثمنه خبزا فيتكلف حمل كلفة البيع والشراء وغبن البائع والمشتري له وتأخر حصول النفع به وربما لم يحصل له بثمنه من الخبز ما يكفيه ليومه فيفوت المقصود مع حصول الضرر
فصل : ويجب أن يكون المخرج في الكفارة سالما من العيب ولا يكون الحب مسوسا ولا متغيرا طعمه ولا فيه زؤان أو تراب يحتاج إلى تنقية وكذلك دقيقه وخبزه لأنه مخرج في حق الله تعالى عما وجب في الذمة فلم يجز ان يكون معيبا الشاة في الزكاة (11/251)
مسألة لا يجزىء مكان الطعام أن يعطيهم أضعاف قيمة الطعام ورقا
مسألة : قال : ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته ورقا لم يجزه
وجملته أنه لا يجزىء في الكفارة إخراج قيمة الطعام ولا الكسوة في قول امامنا و مالك و الشافعي و ابن المنذر وهو ظاهر قول من سمينا قولهم في تفسير الآية في المسألة التي قبلها وهو ظاهر من قول عمر بن الخطاب وابن عباس و عطاء و مجاهد و سعيد بن جبير و النخعي وأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي لأن المقصود دفع حاجة المسكين وهو يحصل بالقيمة
ولنا قول الله تعالى : { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } هذا ظاهر في عين الطعام والكسوة فلا يحصل التكفير بغيره لأنه لم يؤد الواجب إذا لم يؤد ما أمره الله بأدائه ولأن الله تعالى خير بين ثلاثة أشياء ولو جاز القيمة لم ينحصر التخيير في الثلاثة ولأنه لو أريدت القيمة لم يكن للتخيير معنى لأن قيمة الطعام ان ساوت قيمة الكسوة فهما شيء واحد فكيف يخير بينهما ؟ وإن زادت قيمة احداهما على الآخر فكيف يخير بين شيء وبعضه ؟ ثم ينبغي أنه إذا أعطاه في الكسوة ما يساوي إطعامه أن يجزئه وهو خلاف الآية وكذلك لو غلت قيمة الطعام فصار نصف المد يساوي كسوة المسكين ينبغي أن يجزئه نصف المد وهو خلاف الآية ولأنه أحد ما يكفر به فتعين ما ورد به النص كالعتق أو فلا تجزىء فيه القيمة كالعتق فعلى هذا لو أعطاهم أضعاف قيمة الطعام لا يجزئه لأنه لم يؤد الواجب فلا يخرج عن عهدته (11/257)
مسألة وفصل كل من يعطى من الزكاة يعطى من الكفارة والعكس
مسألة : قال : ويعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله
وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و لا نعلم فيه مخالفا ولأن الكفارة حق مال يجب لله تعالى فجرى مجرى الزكاة فيمن يدفع إليه من أقاربه ومن لا يدفع إليه وقد سبق ذلك في باب الزكاة
فصل : وكل من يمنع الزكاة من الغني والكافر والرقيق يمنع أخذ الكفارة وهل يمنع منها بنو هاشم ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يمنعون منها لأنها صدقة واجبة فمنعوا منها ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أنا لا تحل لنا الصدقة ] وقياسا على الزكاة والثاني : لا يمنعون لأنها لم تجب بأصل الشرع فأشبهت صدقة التطوع (11/258)
مسألة وفصلان حكم ما لو اطعم مسكينا واحدا
مسألة : قال : ومن لم يصب إلا مسكينا واحدا ردد عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام
وجملته أن المكفر لا يخلو من أن يجد المساكين بكمال عددهم أو لا يجدهم فإن وجدهم لم يجزئه إطعام أقل من عشرة في كفارة اليمين ولا أقل من ستين في كفارة الظهار وكفارة الجماع في رمضان وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأجاز الأوزاعي دفعها إلى واحد وقال أبو عبيد أن خص بها أهل شديدي الحاجة جاز بدليل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للمجامع في رمضان حين أخبره بشدة حاجته وحاجة أهله : أطعمه عيالك ] ولأنه دفع حق الله تعالى إلى من هو من أهل الاستحقاق فأجزأه كما لو دفع زكاته إلى واحد وقال أصحاب الرأي يجوز أن يرددها على مسكين واحد في عشرة أيام إن كانت كفارة يمين أو في ستين إن كان الواجب إطعام ستين مسكينا ولا يجوز دفعها إليه في يوم واحد وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد لأنه في كل يوم قد أطعم مسكينا ما يجب للمسكين فأجزأ كما لو أعطى غيره ولأنه لو أطعم هذا المسكين من كفارة أخرى أجزأه فكذلك إذا أطعمه من هذه الكفارة
ولنا قول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } ومن أطعم واحدا فما أطعم عشرة فما امتثل الأمر فلا يجزئه ولأن الله تعالى جعل كفارته إطعام عشرة مساكين فإذا لم يطعم عشرة فما اتى بالكفارة ولأن من لم يجز الدفع إليه في اليوم الأول لم يجز في اليوم الثاني مع اتفاق الحال كالولد فأما الواقع على أهله فإنما اسقط الله تعالى الكفارة عنه لعجزه عنها فإنه لا خلاف في أن الإنسان لا يأكل كفارة نفسه ولا يطعمها عائلته وقد أمر بذلك
الحال الثاني : العاجز عن عدد المساكين كلهم فإنه يردد على الموجودين منهم في كل يوم حتى تتم عشرة فإن لم يجد إلا واحدا ردد عليه تتمة عشرة أيام وإن وجد اثنين ردد عليهما خمسة أيام وعلى هذا ونحو هذا قال الثوري وهو اختيار أكثر الأصحاب وعن أحمد رواية أخرى لا يجزئه إلا كمال العدد وهو مذهب مالك و الشافعي لما ذكرنا في حال القدرة
ولنا أن ترديد الإطعام في عشرة أيام في معنى إطعام عشرة لأنه يدفع الحاجة في عشرة أيام فأشبه ما لو أطعم في كل يوم واحدا والشيء بمعناه يقوم مقامه بصورته عند تعذرها ولهذا شرعت الإبدال لقيامها مقام المبدلات في المعنى ولا يجتزأ بها مع القدرة على المبدلات كذا ههنا
فصل : وإن أطعم كل يوم مسكينا حتى أكمل العشرة أجزأه بلا خلاف نعلمه لأن الواجب إطعام عشرة مساكين وقد أطعمهم وإن دفعها إلى من يظنه مسكينا فبان غنيا ففي ذلك وجهان بناء على الروايتين في دفع الزكاة إليه
أحدهما : لا يجزئه وهو قول الشافعي و أبي يوسف و أبي ثور و ابن المنذر لأنه لم يطعم المساكين فلم يجزئه كما لو علم
والثاني : يجزئه وهو قول أبي حنيفة و محمد لأنه دفعها إلى من يظنه مسكينا وظاهره المسنة فأجزأه كما لو لم يعلم حاله وهذا لأن الفقر يخفى وتشق معرفة حقيقته قال الله تعالى : { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } فوجب أن يكتفى بظهوره وظنه [ وكذلك لما سأل الرجلان النبي صلى الله عليه و سلم من الصدقة قال : إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ] وإن بان كافر أو عبدا لم يجزئه وجها واحدا كقولنا في الزكاة لأن ذلك لا يكاد يخفى وليس هو في مظنة الخفاء فإن كان الدافع الإمام فأخطأ في الفقر لم يضمن وإن أخطأ في الحرية والإسلام فهل يضمن ؟ على الوجهين بناء على خطئه في الحد
فصل : إذا أطعم مسكينا في يوم واحد من كفارتين ففيه وجهان
أحدهما : يجزئه لأنه أطعم عن كل كفارة عشرة مساكين فأجزأه كما لو أطعمه في يومين ولأن من جاز له أن يأخذ من اثنين جاز أن يأخذ من واحد كالقدر الذي يجوز له أخذه من الزكاة
والثاني : لا يجزئه إلا عن واحد وهو قول أبي حنيفة و أبي يوسف لأنه أعطى مسكينا في يوم طعام اثنين فلم يجزئه إلا عن واحد كما لو كان في كفارة واحدة وإن أطعم اثنين من كفارتين في يوم واحد جاز ولا نعلم في جوازه خلافا وكذلك ان أطعم واحدا من كفارتين في يومين جاز أيضا بغير خلاف نعلمه فلو كان على واحد عشر كفارات وعنده عشرة مساكين يطعمهم كل يوم كفارة يفرقها عليهم جاز لأنه أتى بما أمر به فخرج عن عهدته وبيان أنه أتى بما أمر أنه أطعم عن كل كفارة عشرة مساكين من أوسط ما يطعم أهله والحكم في الكسوة كالحكم في الطعام على ما فصلناه (11/258)
مسألة و فصلان ما يجزىء من كسوة الكفارة
مسألة : قال : وإن شاء كسا عشرة مساكين للرجل ثوب يجزئه أن يصلي فيه وللمرأة درع وخمار
لا خلاف في أن الكسوة أحد أصناف كفارة اليمين لنص الله تعالى عليها في كتابه بقوله تعالى : { أو كسوتهم } ولا تدخل في كفارة غير كفارة اليمين ولا يجزئه أقل من كسوة عشرة لقول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } وتتقدر الكسوة بما تجزىء الصلاة فيه فإن كان رجلا فثوب تجزئه الصلاة فيه وإن كانت امرأة فدرع وخمار وبهذا قال مالك و ممن قال لا تجزئه السراويل الأوزاعي و أبو يوسف وقال إبراهيم ثوب جامع وقال الحسن كل مسكين حلة ازار ورداء قال ابن عمر و عطاء و طاوس و مجاهد وعكرمة وأصحاب الرأي يجزئه ثوب ثوب ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة وحكي عن الحسن قال تجزىء العمامة وقال سعيد بن المسيب عباءة وعمامة وقال الشافعي يجزىء أقل ما يقع الإسم من سراويل أو ازار أو رداء أو مقنعة أو عمامة وفي القلنسوة وجهان واحتجوا بأن ذلك يقع عليه اسم الكسوة فأجزأ كالذي تجوز الصلاة فيه
ولنا أن الكسوة أحد أنواع الكفارة فلم يجز فيه ما يقع عليه الإسم كالإطعام والإعتاق ولأن التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة فلم يجز فيها أقل مما ذكرناه كالصلاة ولأنه مصروف إلى المساكين في الكفارة فيتقدر كالإطعام ولأن الابس ما لا يستر عورته إنما يسمى عريانا ولا مكتسبا وكذلك لابس السراويل وحده أو مئزرا يسمى عريانا فلا يجزئه لقول الله تعالى : { أو كسوتهم }
إذا ثبت هذا فإنه إذا كسا امرأة أعطاها درعا وخمارا لأنه أقل ما يستر عورتها وتجزئها الصلاة فيه وإن أعطاها ثوبا واسعا يمكنها أن تستر به بدنها ورأسها أجزأه ذلك وإن كسا الرجل أجزأه قميص أو ثوب يمكنه أن يستر عورته ويجعل على عاتقه منه شيئا أو ثوبين يأتزر باحدهما ويرتدي بالآخر ولا يجزئه مئزر وحده ولا سروال وحده لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يصلي أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء ]
فصل : ويجوز أن يكسوهم من جميع أصناف الكسوة من القطن والكتان والصوف والشعر والوبر والخز والحرير لأن الله تعالى أمر بكسوتهم ولم يعين جنسا فأي جنس كساهم منه خرج به عن العهدة لوجود الكسوة المأمور بها ويجوز أن يكسوهم لبيسا أو جديدا إلا أن يكون مما قد بلي وذهبت منفعته لأنه معيب فلا يجزىء كالحب المعيب والرقبة إذا بطلت منفعتها وسواء كان ما أعطاهم مصبوغا أو غير مصبوغ أو خاما أو مقصورا لأنه تحصل الكسوة المأمور بها والحكمة المقصودة منها
فصل : والذين تجزىء كسوتهم هم المساكين الذين يجزىء إطعامهم لأن الله تعالى قال { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } فينصرف الضمير إليهم وقد تقدم الكلام في المساكين وأصنافهم (11/261)
مسألة وفصول الشروط التي تعتبر في الرقبة المجزئة
مسألة : قال : وإن شاء أعتق رقبة مؤمنة قد صلت وصامت لأن الأيمان قول وعمل وتكون سليمة ليس فيها نقص يضر بالعمل
وجملته أن اعتاق الرقبة أحد خصال الكفارة بغير خلاف لنص الله تعالى عليه بقوله : { أو تحرير رقبة } ويعتبر في الرقبة ثلاثة أوصاف
أحدها : أن تكون مؤمنة في ظاهر المذهب وهو قول مالك و الشافعي و أبي عبيد وعن أحمد رواية أخرى أن الذمية تجزىء وهو قول عطاء و أبي ثور وأصحاب الرأي لقول الله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة } وهذا مطلق فتدخل فيه الكافرة
ولنا أنه تحرير في كفارة فلا تجزىء فيه الكافرة ككفارة القتل والجامع بينهما أن الإعتاق يتضمن تفريغ العبد المسلم لعبادة ربه وتكميل أحكامه وعبادته وجهاده ومعونة المسلم فناسب ذلك شرع اعتاقه في الكفارة تحصيلا لهذه المصالح والحكم مقرون بها في كفارة القتل المنصوص على الأيمان فيها فيعلل بها ويتعدى ذلك الحكم إلى كل تحرير في كفارة فيختص بالمؤمنة لاختصاصها بهذه الحكمة وأما المطلق الذي احتجوا به فإنه يحمل على المقيد في كفارة القتل كما حمل مطلق قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } على المقيد في قوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وإن لم يحمل عليه من جهة اللغة حمل عليه من جهة القياس
الثاني : أن تكون قد صلت وصامت وهذا قول الشعبي و مالك و إسحاق قال القاضي لا يجزىء من له دون السبع لأنه لا تصح منه العبادات في ظاهر كلام أحمد وظاهر كلام الخرقي المعتبر الفعل دون السن فمن صلى وصام ممن له عقل يعرف الصلاة والصيام ويتحقق منه الإتيان به بنيته وأركانه فإنه يجزىء في الكفارة وإن كان صغيرا ولم يوجدا منه لم يجزىء في الكفارة وإن كان كبيرا وقال أبو بكر وغيره من أصحابنا يجوز اعتاق الطفل في الكفارة وهو قول الحسن و عطاء و الزهري و الشافعي و ابن المنذر لأن المراد بالأيمان ههنا الإسلام بدليل اعتاق الفاسق قال الثوري المسلمون كلهم مؤمنون عندنا في الأحكام ولا ندري ما هم عند الله ولهذا تعلق حكم القتل يكل مسلم بقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ } والصبي محكوم بإسلامه يرثه المسلمون ويرثهم ويدفن في مقابر ويغسل ويصلى عليه وإن سبي منفردا عن أبويه أجزأه عتقه لأنه محكوم بإسلامه وكذلك إن سبي مع أحد أبويه ولو كان أحد أبوي الطفل مسلما والآخركافرا أجزأ اعتاقه لأنه محكوم بإسلامه وقال القاضي في موضع يجزىء اعتاق الصغير في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإنها على روايتين
وقال إبراهيم النخعي ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزىء إلا ما صام وصلى وما كان في القرآن رقبة ليست بمؤمنة فالصبي يجزىء ونحو هذا قول الحسن ووجه قول الخرقي أن الواجب رقبة مؤمنة والأيمان قول وعمل فما لم تحصل الصلاة والصيام لم يحصل العمل
وقال مجاهد و عطاء في قوله : { فتحرير رقبة مؤمنة } قال قد صلت ونحو هذا قول الحسن و إبراهيم وقال مكحول إذا ولد المولد فهو نسمة فإذا تقلب ظهرا لبطن فهو رقبة فإذا صلى فهو مؤمنة ولأن الطفل لا تصح منه عبادة لفقد التكليف فلم يجزىء في الكفارة كالمجنون ولأن الصبا نقص يستحق به النفقة على القريب أشبه الزمانة والقول الآخر أقرب إلى الصحة إن شاء الله لأن الأيمان الإسلام وهو حاصل في حق الصغير [ ويدل على هذا أن معاوية بن الحكم السلمي أتى النبي صلى الله عليه و سلم بجارية فقال لها : أين الله ؟ قالت في السماء قال : من أنا ؟ قالت أنت رسول الله قال : أعتقها فإنها مؤمنة ] رواه مسلم وفي حديث عن أبي هريرة [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم بجارية أعجمية فقال يا رسول الله أن علي رقبة فقلا لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ فأشارت برأسها إلى السماء قال : من أنا ؟ فأشارت إلى رسول الله وإلى السماء أي أنت رسول الله قال : أعتقها ] فحكم لها بالإيمان بهذا القول
فصل : ولا يجزىء اعتاق الجنين في قول أكثر أهل العلم وبه قال ابو حنيفة و الشافعي وقال أبو ثور يجزىء لأنه آدمي مملوك فصح اعتاقه عن الرقبة كالمولود
ولنا أنه لم تثبت له أحكام الدنيا بعد فإنه لا يملك بالإرث والوصية ولا يشترط لهما كونه آدميا لكونه ثبت له ذلك وهو نطفة أو علقة وليس بآدمي في تلك الحال
الثالث : أن لا يكون بها نقص يضر بالعمل وقد شرحنا ذلك في الظهار ويجزىء الصبي وإن كان عاجزا عن العمل لأن ذلك ماض إلى زوال وصاحبه سائر إلى الكمال ولا يجزىء المجنون لأن نقصه لا غاية لزواله معلومة فأشبه الزمن
فصل : وإن أعتق غائبا تعلم حياته وتجيء أخباره صح وأجزأه عن الكفارة كالحاضر وإن شك في حياته وانقطع خبره لم يحكم بالأجزاء فيه لأن الأصل شغل ذمته ولا تبرأ بالشك وهذا العبد مشكوك فيه وفي وجوده فشك في إعتاقه فإن قيل الأصل حياته قلنا إلا أنه قد علم أن الموت لا بد منه وقد وجدت دلالة عليه وهو انقطاع أخباره فإن تبين بعد هذا كونه حيا تبينا صحة عتقه وبراءة الذمة من الكفارة وإلا فلا
فصل : وإن أعتق غيره عنه بغير أمره لم يقع عن المعتق عنه إذا كان حيا وولاؤه للمعتق ولا يجزىء عن كفارته وإن نوى ذلك وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك أنه إذا أعتق عن واجب على غيره بغير أمره صح لأنه قضى عنه واجبا فصح كما لو قضى عنه دينا
ولنا أنه عبادة من شرطها النية فلم يصح أداؤها عمن وجبت عليه بغير أمره مع كونه من أهل الأمر كالحج ولأنه أحد خصال الكفارة فلم يصح عن المكفر بغيره أمره كالصيام وهكذا الخلاف فيما إذا كفر عنه بإطعام أو كسوة ولا يجوز أن ينوب عنه في الصيام بإذنه ولا بغير إذنه لأنه عبادة بدنية فلا تدخلها النيابة فأما إن أعتق عنه بأمره نظرت فإن جعل له عوضا صح العتق عن العتق عنه وله ولاؤه وأجزأ عن كفارته بغير خلاف علمناه وبه يقول أبو حنيفة و مالك و الشافعي وغيرهم لأنه حصل العتق عنه بماله فأشبه ما لو اشتراه ووكل البائع في إعتاقه عنه وإن لم يشترط عوضا ففيه روايتان
إحداهما : يقع العتق عن المعتق عنه ويجزىء في كفارته وهو قول مالك و الشافعي لأنه أعتق بأمره فصح كما لو شرط عوضا
والأخرى : لا يجزىء وولاؤه للمعتق وهو قول أبي حنيفة لأن العتق بعوض كالبيع وبغير عوض كالهبة ومن شرط الهبة القبض ولم يحصل فلم يقع عن الموهوب له وفارق البيع فإنه لا يشترط فيه القبض فإن كان المعتق عنه ميتا نظرت فإن وصى بالعتق صح لأنه بأمره وإن لم يوص به فأعتق عنه أجنبي لم يصح لأنه ليس بنائب عنه وإن أعتق عنه وارثه فإن لم يكن عليه واجب لم يصح العتق عنه ووقع عن المعتق وإن كان عليه عتق واجب صح العتق عنه لأنه نائب له في ماله وأداء واجباته فإن كانت عليه كفارة يمين فكسا عنه أو اطعم عنه جاز وإن أعتق عنه ففيه وجهان :
أحدهما : ليس له ذلك لأنه غير متعين فجرى مجرى التطوع والثاني : يجزىء لأن العتق يقع واجبا لأن الوجوب يتعين فيه بالفعل فأشبهه المعين من العتق ولأنه أحد خصال كفارة اليمين فجاز أن يفعله عنه كالإطعام والكسوة ولو قال من عليه الكفارة أطعم عن كفارتي أو أكس ففعل صح رواية واحدة سواء ضمن له عوضا أو لم يضمن له عوضا
مسألة : قال : ولو اشتراها بشرط العتق فأعتقها في الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة
وهذا مذهب الشافعي روري عن معقل بن يسار ما يدل عليه وذلك لأنه إذا اشتراها بشرط العتق فالظاهر إن البائع نقصه من الثمن لأجل هذا الشرط فكأنه أخذ عن العتق عوضا فلم تجزئه عن الكفارة قال أحمد إن كانت رقبة واجبة لم تجزئه لأنها ليست رقبة سليمة ولأن عتقها يستحق بسبب آخر وهو الشرط فلم تجزئه كما لو اشترى قريبه فنوى بشرائه العتق عن الكفارة أو قال إن دخلت الدار فأنت حر ثم نوى عند دخوله أنه عن كفارته
فصل : ولو قال له رجل أعتق عبدك من كفارتك ولك عشرة دنانير ففعل لم يجزئه عن الكفارة لأن الرقبة لم تقع خالصة عن الكفارة وقال القاضي العتق كله يقع عن باذل العوض وله ولاؤه وهذا فيه نظر فإن المعتق لم يعتقه عن باذل العوض ولا رضي بإعتاقه عنه ولا بذال العوض طلب ذلك والصحيح ان اعتاقه من المعتق والولاء له وقد ذكر الخرقي أنه إذا قال أعتقه والثمن علي فالثمن عليه والولاء للمعتق فإن رد العشرة على باذلها ليكون العتق عن الكفارة وحدها أو عزم على رد العشرة أو رد العشرة قبل العتق فأعتقه عن كفارته أجزأه
فصل : وإذا اشترى عبدا ينوي إعتاقه عن كفارته فوجد به عيبا لا يمنع من الإجراء في الكفارة فأخذ أرشه ثم أعتق العبد عن كفارته أجزأه وكان الأرش له لأن العتق إنما وقع على العبد المعيب دون الأرش وإن أعتقه قبل العلم بالعيب ثم ظهر على العيب فأخذ أرشه فهو له أيضا كما لو أخذه قبل اعتاقه وعنه أنه يصرف ذلك الأرش وفي الرقاب لأنه أعتقه معتقدا أنه سليم فكان بمنزلة العوض عن حق الله تعالى وكفارة الأرش مصروفة في حق الله تعالى كما لو باعه كان الأرش للمشتري وإن علم العيب ولم يأخذ أرشه حتى أعتقه كان الأرش للمعتق لأنه أعتقه معيبا عالما بعيبه فلم يلزمه أرش كما لو باعه ولم يعلم عيبه
مسألة : قال : وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه ينوي بشرائه الكفارة عتق ولم يجزئه
وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وقال أصحاب الرأي يجزئه استحسانا لأنه يجزىء عن كفارة البائع فأجزأ عن كفارة المشتري كغيره
ولنا قوله تعالى : { فتحرير رقبة } والتحرير فعل العتق ولم يحصل العتق ههنا بتحرير منه ولا إعتاق فلم يكن ممتثلا للأمر ولأن عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه كما لو ورثه ينوي به العتق عن كفارته وكأم الولد ويخالف المشتري البائع من وجهين :
أحدهما : أن البائع يعتقه والمشتري لم يعتقه أنما يعتق بإعتاق الشرع وهذا عن غير اختيار منه
والثاني : أن البائع لا يستحق عليه اعتاقه والمشتري بخلافه
فصل : إذا ملك نصف عبد فأعتقه من كفارته عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا بقيمة باقية ولم يجزئه عن كفارته في قول أبي بكر الخلال وصاحبه وحكاه عن أحمد وهو قول أبي حنيفة لأن عتق نصيب شريكه لم يحصل بإعتاقه إنما حصل بالسراية وهي غير فعله وإنما هي من آثار فعله فأشبه ما لو اشترى من يعتق عليه ينوي به الكفارة يحقق هذا أنه لم يباشر بالإعتاق إلا نصيبه فسرى إلى غيره ولو خص نصيب غيره بالإعتاق لم يعتق منه شيء ولأنه إنما يملك إعتاق نصيبه لا نصيب غيره وقال القاضي : قال غيرهما من أصحابنا يجزئه إذا نوى إعتاق جميعه عن كفارته وهو مذهب الشافعي لأنه أعتق عبدا كامل الرق سليم الخلق غير مستحق العتق ناويا به الكفارة فأجزأه كما لو كان الجميع ملكه والأول أصح إن شاء الله ولا نسلم أنه أعتق العبد كله وإنما أعتق نصفه وعتق الباقي عليه فأشبه شراء قريبه ولأن إعتاق باقيه مستحق بالسراية فهو كالقريب فعلى هذا هل يجزئه عتق نصفه الذي هو ملكه ويعتق نصفا آخر فتكمل الكفارة ؟ ينبني على ما إذا أعتق نصفي عبدين وسنذكره إن شاء الله وإن نوى عتق نصيبه عن الكفارة ولم ينو ذلك في نصيب شريكه لم يجزئه نصيب شريكه وفي نصيبه نفسه ما سنذكره إن شاء الله ولو كان معسرا فأعتق نصيبه عن كفارته فكذلك فإن ملك باقيه فأعتقه عن الكفارة أجزأه ذلك وإن أراد صيام شهر وإطعام ثلاثين مسكينا لم يجزئه كما لو أعتق نصف عبد في كفارة اليمين وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه
فصل : وإن كان العبد كله له فأعتق جزءا منه معينا أو مشاعا عتق جميعه وإن كان نوى به الكفارة أجزأ عنه لأن إعتاق بعض العبد إعتاق لجميعه وإن نوى إعتاق الجزء الذي باشره بالإعتاق عن الكفارة دون غيره لم يجزئه عتق غيره وهل يحتسب لما نوى به الكفارة ؟ على وجهين
فصل : وإن قال إن ملكت فلانا فهو حر وقلنا يصح هذا التعليق فاشتراه ينوي العتق عن كفارته عتق ولم يجزئه عن الكفارة ويخرج فيه من الخلاف مثل ما في شراء قريبه والله أعلم (11/263)
مسائل وفصول لا يجزىء في الكفارة أم الولد ولا مكاتب أدى كتابته ويجزىء المدبر والخصي وولد الزنا
مسألة : قال : ولا تجزىء في الكفارة أم ولد
هذا ظاهر المذهب وبه قال الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى أنها تجزىء ويروى ذلك عن الحسن و طاوس و النخعي وعثمان البتي لقول الله تعالى : { فتحرير رقبة } ومعتقها قد حررها
ولنا أن عتقها يستحق بسبب آخر فلم تجزىء نه كما لو اشترى قريبه أو عبدا بشرط العتق فأعتقه وكما لو قال لعبده أنت حر إن دخلت الدار ثم نوى عتقه عن كفارته عند دخوله والآية مخصوصة بما ذكرناه فنقيس عليه ما اختلفنا فيه
فصل : ولد أم الولد الذي ولدته بعد كونها أم ولد حكمه حكمها فيما ذكرناه لأن حكمه حكمها في العتق بموت سيدها
مسألة : قال : ولا مكاتب قد أدى من كتابته شيئا
روي عن أحمد رحمه الله في المكاتب ثلاث روايات :
إحداهن : يجزىء مطلقا اختاره أبو بكر وهو مذهب أبي ثور لأن المكاتب عبد يجوز بيعه فأجزأ عتقه كالمدبر ولأنه رقبة فدخل في مطلق قوله سبحانه : { فتحرير رقبة }
والثانية : لا يجزىء مطلقا وهو قول مالك و الشافعي و أبي عبيد لأن عتقه مستحق بسبب آخر ولهذا لا يملك إبطال كتابته فأشبه أم الولد
والثالثة : إن أدى من كتابته شيئا لم يجزئه وإلا أجزأه وبهذا قال الليث و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي قال القاضي هو الصحيح لأنه إذا أدى شيئا فقد حصل العوض عن بعضه فلم يجزىء كما لو أعتق بعض رقبة وإذا لم يؤد فقد أعتق رقبة كاملة مؤمنة سالمة الخلق تامة الملك لم يحصل عن شيء منها عوض فأجزأ أعتقها كالمدبر ولو أعتق عبدا على مال فأخذه من العبد لم يجزىء عن كفارته في قولهم جميعا
مسألة : قال : ويجزئه المدبر
وهذا قول طاوس و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وقال الأوزاعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي لا يجزىء لأن عتقه مستحق بسبب آخر فأشبه أم الولد ولأن بيعه عندهم غير جائز فأشبه أم الولد
ولنا قوله تعالى : { فتحرير رقبة } وقد حرر رقبة ولأنه عبد كامل المنفعة يجوز بيعه ولم يحصل عن شيء منه عوض فجاز عتقه كالقن والدليل على جواز بيعه أن النبي صلى الله عليه و سلم باع مدبرا وسنذكر حديثه في بابه إن شاء الله ولأن التدبير إما أن يكون وصية أو عتقا بصفة وأيا ما كان فلا يمنع التكفير بإعتاقه قبل وجود الصفة والصفة ههنا الموت ولم يوجد
مسألة : قال : والخصي
ولا نعلم في إجزاء الخصي خلافا سواء كان مقطوعا أو مشلولا أو موجوءا لأن ذلك نقص لا يضر بالعمل ولا يؤثر فيه بل ربما زادت بذلك قيمته فاندفع فيه ضرر شهوته فأجزأ كالفحل
مسألة : قال : وولد الزنا
هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن فضالة بن عبيد وأبي هريرة وبه قال ابن المسيب و الحسن و طاوس و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و ابن المنذر
وروي عن عطاء و الشعبي و النخعي و الأوزاعي و حماد أنه لا يجزىء لأن أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ولد الزنا شر الثلاثة ] قال أبو هريرة : لأن أدفع بسوط في سبيل الله أحب إلي منه رواه أبو داود
ولنا دخوله في مطلق قوله تعالى : { فتحرير رقبة } ولأنه مملوك مسلم كامل العمل لم يعتض عن شيء منه ولا استحق عتقه بسبب آخر فأجزأ عتقه كولد الرشيدة فأما الأحاديث الواردة في ذمه فاختلف أهل العلم في تفسيرها فقال الطحاوي ولد الزنا هو الملازم للزنا كما يقال ابن السبيل الملازم لها وولد الليل الذي لا يهاب السرقة وقال الخطابي عن بعض أهل العلم قال هو شر الثلاثة أصلا وعنصرا ونسبا لأنه خلق من ماء الزنا وهو خبيث وأنكر قوم هذا التفسير وقالوا ليس عليه من وزر والديه شيء وقد قال الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وفي الجملة هذا يرجع إلى أحكام الآخرة أما أحكام الدنيا فهو كغيره في صحة امامته وبيعه وعتقه وقبول شهاة فكذلك في أجزاء عتقه عن الكفارة لأنه من أحكام الدنيا (11/271)
مسألة يجزىء الصيام لمن لم يجد من يكفر به
مسألة : قال : فإن لم يجد من هذه الثلاثة واحدا أجزأه صيام ثلاثة أيام متتابعة
يعني إن لم يجد طعاما ولا كسوة ولا عتقا انتقل إلى صيام ثلاثة أيام لقول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وهذا لا خلاف فيه إلا في اشتراط التتابع في الصوم وظاهر المذهب اشتراطه كذلك قال إبراهيم النخعي و الثوري و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي وروي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء و مجاهد و عكرمة
وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية خرى أنه يجوز تفريقها وبه قال مالك و الشافعي في أحد قوليه لأن الأمر بالصوم مطلق ولا يجوز تقييده إلا بدليل ولأنه صام الأيام الثلاثة فلم يجب التتابع فيه كصيام المتمتع ثلاثة أيام في الحج ولنا أن في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) كذلك ذكره الإمام أحمد في التفسير عن جماعة وهذا إن كان قرآنا فهو حجة لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وإن لم يكن قرآنا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه و سلم إذ يحتمل أن يكونا سمعاه من النبي صلى الله عليه و سلم تفسيرا فظناه قرآنا فثبتت له رتبة الخبر ولا ينقص عن درجة تفسير النبي صلى الله عليه و سلم للآية وعلى كلا التقديرين فهوحجة يصار إليه ولأنه صيام في كفارة فوجب فيه التتابع ككفارة القتل والظهار والمطلق يحمل على المقيد على ما قررناه فيما مضى فعلى هذا إن أفطرت المرأة لمرض أو حيض أو الرجل لمرض لم ينقطع التتابع وبهذا قال أبو ثور و إسحاق
وقال أبو حنيفة ينقطع فيهما لأن التتابع لم يوجد وفوات الشرط يبطل به المشروط وقال الشافعي ينقطع في المرض في أحد القولين ولا ينقطع في الحيض
ولنا أنه عذر يبيح الفطر أشبه الحيض في كفارة القتل (11/274)
مسألة وفصلان إذا كان الحانث عبدا لم يكفر بغير الصوم وحكم ما لو أعتق العبد عبدا
مسألة : قال : ولو كان الحانث عبدا لم يكفر بغير الصوم
لا خلاف في أن العبد يجزئه الصيام في الكفارة لأن ذلك فرض المعسر من الأحرار وهو أحسن حالا من العبد فإنه يملك في الجملة ولأن العبد داخل في قوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وإن أذن السيد لعبده في التكفير بالمال لم يلزمه لأنه ليس بمالك لما أذن له فيه وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئه التكفير بغير الصيام وقد قال غيره من أصحابنا فيما إذن له سيده في التكفير بالمال روايتان
احداهما : يجوز تكفيره به والأخرى : لا يجوز إلا بالصيام وقد ذكرنا علل ذلك في الظهار والاختلاف فيه
وذكر القاضي أن أصل هذا عنده الروايتان في ملك العبد بالتمليك إن قلنا يملك بالتمليك فملكه سيده وأذن له بالتكفير بالمال جاز لأنه مالك لما يكفر به وإن قلنا لا يملك بالتمليك ففرضه الصيام لأنه لا يملك شيئا يكفر به وكذلك إن قلنا يملك ولم يأذن له سيده بالتكفير في المال ففرضه الصيام وإن ملك لأنه محجور عليه ممنوع من التصرف فيما في يديه قال وأصحابنا يجعلون في العبد روايتين مطلقا سواء قلنا يملك أو لا يملك ثم على الرواية التي تجيز له التكفير بالمال له إن يطعم وهل له أن يعتق ؟ على روايتين
إحداهما : ليس له ذلك لأن العتق يقتضي الولاء والولاية والإرث وليس ذلك للعبد ولكن يكفر بالإطعام وهذا رواية عن مالك وبه قال الشافعي على القول الذي يجيز له التكفير بالمال
والثانية : له التكفير بالعتق لأن من صح تكفيره بالمال صح بالعتق كالحر ولأنه يملك العبد فصح تكفيره بإعتاقه كالحر وقولهم أن العتق يقتضي الولاء والولاية لا نسلم ذلك في العتق في الكفارة على ما أسلفناه وإن سلمنا فتخلف بعض الأحكام لا يمنع ثبوت المقتضي فإن الحكم يتخلف بتخلف سببه لا لتخلف أحكامه كما أنه يثبت لوجود سببه ولأن تخلف بعض الأحكام مع وجود المقتضي إنما يكون لمانع منعها ويجوز أن يختص المنع بها دون غيرها ولهذا السبب المقتضي لهذه الأحكام لا يمنع ثبوته تخلفها عنه في الرقيق على أن الولاء يثبت بإعتاق العبد لكن لا يرث به كما لو اختلف ديناهما وهذا اختيار أبي بكر وفرع عليه إذا أذن له سيده فأعتق نفسه ففيه قولان
أحدهما : يجزئه لأنه رقبة تجزىء عن غيره فأجزأت عن نفسه كغيره والآخر لا يجزئه لأن الإذن له في الإعتاق ينصرف إلى إعتاق غيره وهذا التعليل يدل على أن سيده لو أذن له في إعتاق نفسه عن كفارته جاز فأما ان أطلق الإذن في الإعتاق فليس له أن يعتق إلا أقل رقبة تجزىء عن الواجب وليس له إعتاق نفسه إذا كانت أفضل مما يجزىء وهذا من أبي بكر يقتضي أنه لا يعتبر في التكفير أن يملكه سيده ما يكفر به لأنه لا يملك نفسه بل متى أذن له في التكفير بالعتق أو الإطعام أجزأه لأنه لو اعتبر التمليك لما صح له أن يعتق نفسه لأنه لا يملكها ولأن التمليك لا يكون إلا في معين ولا يصح أن يأذن فيه مطلقا
فصل : وإذا أعتق العبد عبدا عن كفارته بإذن سيده وقلنا إن الإعتاق في الكفارة يثبت به الولاء لمعتقه ثبت ولاؤه للعبد الذي أعتقه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما الولاء للمعتق ] ولا يرث لأنه ليس من أهل الميراث ولا يمتنع ثبوت الولاء مع انتفاء الإرث كما لو اختلف دينهما أو قتل المعتق عتيقه فإنه لا يرثه مع ثبوت الولاء له عليه فإن عتق المعتق له ورث بالولاء لزوال المانع كما إذا كانا مختلفي الدين فاسلم الكافر منهما ذكر هذا طلحة العاقولي ومقتضى هذا أن سيد العبد لا يرث عتيقه في حياة عبده كما لا يرث ولد عبده فإن أعتق عبده ثم مات ورث السيد مولى عبده لأنه مولى مولاه كما أنه لو أعتق العبد وله ولد عليه الولاء لمولى أمه يجر ولاءه ويرثه سيده إذا مات أبوه
فصل : وليس للسيد منع عبده من التكفير بالصيام سواء كان الحلف أو الحنث بإذنه أو بغير إذنه وسواء أضر به الصيام أو لم يضر به وقال الشافعي أن حنث بغير إذنه والصوم يضر به فله منعه لأن السيد لم يأذن له فيما ألزمه نفسه مما يتعلق به ضرر على السيد فكان له منعه وتحليله كما لو أحرم بالحج بغير إذنه
ولنا أنه صوم واجب لحق الله تعالى فلم يكن لسيده منعه منه كصيام رمضان وقضائه ويفارق الحج لأن ضرره كثير لطول مدته وغيبته عن سيده وتفويف خدمته ولهذا ملك تحليل زوجته منه ولم يملك منعها صوم الكفارة فأما صوم التطوع فإن كان فيه ضرر عليه فللسيد منعه منه لأنه يفوت حقه بما ليس بواجب عليه وإن كان لا يضر به لم يكن لسيده منعه منه لأنه يعبد ربه بما لا مضرة فيه فأشبه ذكر الله تعالى وصلاة النافلة في غير وقت خدمته وللزوج منع زوجته منه في كل حال لأنه يفوت حقه من الإستمتاع ويمنعه منه (11/275)
مسألة وفصل حكم من حنث وهو عبد أو نصفه حر ونصفه عبد
مسألة : قال : ولو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق عليه فعليه الصوم لا يجزئه غيره
ظاهر هذا أن الإعتبار في الكفارات بحالة الحنث لأنه وقت الوجوب وهو حينئذ عبد فوجب عليه الصوم فلا يجزئه غير ما وجب عليه وقال القاضي هذا فيه نظر فإن المنصوص أنه يكفر كفارة عبد لأنه إنما يكفر بما وجب عليه يوم حنث ومعناه أنه لا يلزمه التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه وهذا منصوص عن الشافعي ومن أصحابه من قال بقول الخرقي وليس على الخرقي حجة من كلام احمد بل هو حجة له لقوله إنما يكفر ما وجب عليه وإنما للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه ولم يجب عليه إلا الصوم فلا يكفر بغيره ووجه ذلك أنه حكم تعلق بالعبد في رقه فلم يتغير بحريته كالحد وهذا على القول الذي لم يجز فيه للعبد التكفير بالمال بإذن سيده فأما على القول الآخر فله التكفير ههنا بطريق الأولى لأنه إذا جاز له في حال رقه التكفير بالمال ففي حال حريته أولى وإنما احتاج إلى إذن سيده في حال رقه لأن المال لسيده أو لتعلق حقه بماله وبعد الحرية قد زال ذلك ولا حاجة إلى إذنه وإن قلنا التكفير بأغلظ الأحوال لم يكن له التكفير بغير المال إن كان موسرا وإن حلف عبد وحنث وهو حر فحكمه حكم الأحرار لأن الكفارة لا تجب قبل الحنث فما وجبت إلا وهو حر
فصل : ومن نصفه حر فحكمه في التكفير حكم الحر الكامل فإذا ملك بجزئه الحر مالا يكفر به لم يجز له الصيام وله التكفير بأحد الأمور الثلاثة وظاهر مذهب الشافعي أن له التكفير بالإطعام والكسوة دون الإعتاق لأنه لا يثبت له الولاء ومنهم من قال لا يجزئه إلا الصيام لأنه منقوص بالرق أشبه القن
ولنا قول الله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وهذا واجد لأنه يملك ملكا تاما فأشبه الحر الكامل ولا نسلم أنه لا يثبت له الولاء ثم إن امتناع بعض أحكامه لا يمنع صحته كعتق المسلم رقيقه الكافر (11/277)
مسألتان وفصول حكم من وجد ما يكفر به وليس لديه غيره أو لديه ما يكفر به وعليه دين
مسألة : قال : ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته مقدار ما يكفر به
وجملة ذلك أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا فيتخير بين الخصال الثلاث فإن لم يجدها انتقل إلى صيام ثلاثة أيام ويعتبر أن لا يجد فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته قدرا يكفر به وهذا قول إسحاق و نحوه قال أبو عبيد و ابن المنذر و قال الشافعي من جاز له الأخذ من الزكاة لحاجته وفقره أجزأه الصيام لأنه فقير ولأن النخعي قال إذا كان مالكا لعشرين درهما فله الصيام وقال عطاء الخراساني لا يصوم من ملك عشرين درهما ولم يملك دونها الصيام وقال سعيد بن جبير إذا لم يملك إلا ثلاثة دراهم كفر بها وقال الحسن درهمين وهذان القولان نحو قولنا
ووجه ذلك أن الله تعالى اشترط الصيام أن لا يجد بقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ومن وجد ما يكفر به فاضلا عن قوته وقوت عياله فهو اجد فيلزمه التكفير بالمال لظاهر الآية ولأنه حق لا يزيد بزيادة المال فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته كصدقة الفطر
فصل : فلو ملك ما يكفر به وعليه دين مثله وهو مطالب به فلا كفارة عليه لأنه حق لآدمي والكفارة حق لله تعالى فإذا كان مطالبا بالدين وجب تقديمه كزكاة الفطر فإن لم يكن مطالبا بالدين فكلام أحمد يقتضي روايتين
إحداهما : تجب الكفارة لأنه لا يعتبر فيها قدر من المال فلم يسقط بالدين كزكاة الفطر
والثانية : لا تجب لأنها حق لله تعالى يجب في المال فأسقطها الدين كزكاة المال وهذا أصح لأن حق الآدمي أولى بالتقديم لشحه وحاجته إليه وفيه نفع للغريم وتفريغ ذمة المدين وحق الله تعالى مبني على المسامحة لكرمه وغناه ولأن الكفارة بالمال لها بدل ودين الآدمي لا بدل له ويفارق صدقة الفطر لكونها أجريت مجرى النفقة ولهذا يتحملها الإنسان عن غيره كالزوج عن امرأته وعائلته ورقيقه ولا بدل لها بخلاف الكفارة
فصل : فإن كان له مال غائب أو دين يرجو وفاءه لم يكفر بالصيام وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة يجزئه الصيام لأنه غير واجد فأجزأه الصيام عملا بقوله تعالى : { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } وقياسا على المعسر والدليل على أنه غير واجد أن المتمتع لو عدم الهدي في موضعه انتقل إلى الصيام ولو عدم الماء في موضعه انتقل إلى التيمم ولو عدم المظاهر المال في موضعه انتقل إلى الصيام والإنتقال في هذه المواضع مشروط بعدم الوجدان ولأنه غير متمكن من التكفير بالمال أشبه هذه الأصول
ولنا أنه حق مال يجب على وجه الطهرة فلم تمنع الغيبة وجوبه كالزكاة ولأنه غير مؤقت ولا ضرر في تأخيره فلم يسقط بغيبته كالزكاة وفارق الهدي فإن له وقتا يفوت بالتأخير والتيمم يفضي تأخيره إلى فوات الصلاة وتأخير كفارة الظهار يفضي إلى ترك الوطء وفيه ضرر بخلاف مسألتنا ولا نسلم عدم التمكن ولهذا صح بيع الغائب مع أن التمكن من التسليم شرط
مسألة : قال : ومن له دار لا غنى له عن سكناها أو دابة يحتاج إلى ركوبها أو خادم يحتاج إلى خدمته أجزأه الصيام في الكفارة
وجملته أن الكفارة إنما تجب فيما يفضل عن حاجته الأصلية والسكنى من الحوائج الأصلية وكذلك الدابة التي يحتاج إلى ركوبها لكونه لا يطيق المشي فيما يحتاج إليه أو لم تجر عادته به وكذلك الخادم الذي يحتاج إلى خدمته لكونه ممن لا يخدم نفسه لمرض أو كبر أو لم تجر عادته به وهذه الثلاثة من الحوائج الأصلية لا تمنع التكفير بالصيام ولا الزكاة من الأخذ والكفارة
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك من ملك رقبة تجزىء في الكفارة لا يجزئه الصيام وإن كان محتاجا إليها لخدمته لأنه واجد لرقبة يعتقها فيلزمه ذلك لقوله تعالى : { أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } فاشترط للصيام أن لا يجدها
ولنا أنها مستغرقة لحاجته الأصلية فلم تمنع جواز الإنقال كالمسكن والمركوب والطعام الذي هو محتاج إليه وما ذكروه يبطل بالطعام المحتاج إليه وبما إذا وجد الماء وهو محتاج إليه للعطش فإنه لا يمنع الإنتقال إلى التيمم ولأن وجدان ثمن الرقبة كوجدانها ولهذا لم يجز لمن وجد ثمنها الإنتقال إلى الصيام ومع هذا لو وجد ثمنها الذي يحتاج إليه لم يمنعه الإنتقال كذا ههنا
إذا ثبت هذا فإنه إن كان في شيء من ذلك فضل عن حاجته مثل من له دار كبيرة تساوي أكثر من دار مثله ودابة فوق دابة مثله وخادم فوق خادم مثله يمكن أن يحصل به قدر ما يحتاج إليه وتفضل فضلة يكفر بها فإنه يباع منه الفاضل عن كفايته أو يباع الجميع ويبتاع له قدر ما يحتاج إليه ويكفر بالباقي وإن تعذر بيعه أو أمكن البيع ولم يمكن شراء ما يحتاج إليه ترك ذلك وكان له الإنتقال إلى الصيام لأنه تعذر الجمع بين القيام بحاجته والتكفير بالمال فأشبه ما لو لم يكن فيه فضل
فصل : ومن له عقار يحتاج إلى أجرته لمؤنته وحوائجه الأصلية أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه بالتكفير منها أو سائمة يحتاج إلى نمائها حاجة أصلية أو أثاث يحتاج إليه وأشباه هذا فله التكفير بالصيام لأن ذلك مستغرق لحاجته الأصلية فأشبه المعدم (11/278)
مسألة وفصل حكم ما لو أطعم مساكين وكسا خمسة أو كسا بعض الكسوة وأطعم بعض الطعام
مسألة : قال : ويجزئه أن أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة
وجملته أنه إذا أطعم بعض المساكين وكسا الباقين بحيث يستوفي العدد أجزأه في قول إمامنا و الثوري وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يجزئه لقول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم } فوجه الدلالة من وجهين :
أحدهما : أنه جعل الكفارة احد هذه الخصال الثلاث ولم يأت بواحد منها
الثاني : إن اقتصاره على هذه الخصال الثلاث دليل على انحصار التكفير فيها وما ذكرتموه خصلة رابعة ولأنه نوع من التكفير فلم يجزئه تبعيضه كالعتق ولأنه لفق الكفارة من نوعين فأشبه ما لو أعتق نصف عبد وأطعم خمسة أو كساهم
ولنا أنه أخرج من المنصوص عليه بعده العدد الواجب فأجزأ كما لو أخرجه من جنس واحد ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد فقام مقامه في بعضه كالكفارتين وكالتيمم لما قام مقام الماء في البدن كله في الجنابة جاز في بعضه في طهارة الحدث فيما إذا كان بعض بدنه صحيحا وبعضه جريحا وفيما إذا وجد من الماء ما يكفي بعض بدنه ولأن معنى الطعام والكسوة متقارب إذ القصد منها سد الخلة ودفع الحاجة وقد استويا في العدد واعتبار المسكنة في المدفوع إليه وتنوعهما من حيث كونهما في الإطعام سدا لجوعه وفي الكسوة ستر العورة لا يمنع الأجزاء في الكفارة الملفقة منهما كما لو كان أحد الفقيرين محتاجا إلى ستر عورته والآخر إلى الاستدفاء ولأنه قد خرج عن عهدة الذين أطعمهم بالإطعام فيخرج عن عهدة الذين كساهم بالكسوة بدليل أنه لا يلزمه بالانفاق أكثر من اطعام من بقي ولا كسوة أكثر ممن بقي وإذا خرج عن عهدة عشرة مساكين وجب أن يجزئه كما لو اتفق النوع
وأما الآية فإنها تدل بمعناها على ما ذكرناه فإنها دلت على أنه مخير في كل فقير بين أن يطعمه أو يكسوه وهذا يقتضي ما ذكرناه ويصير كما يخير في الصيد الحرمي بين أن يفديه بالنظير أو يقوم النظير بدراهم فيشتري بها طعاما يتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما فلو صام عن بعض الأمداد وأطعم بعضا أجزأ كذلك ههنا وكذلك الدية لما كان مخيرا بين إخراج ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم ولو أعطى البعض ذهبا والبعض دراهم جاز وفارق ما إذا أعتق نصف عبد وأطعم خمسة أو كساهم لأن تنصيف العتق يخل بالآخر لما سنذكره بعد هذا
فصل : وإن أطعم المسكين بعض الطعام وكساه بعض الكسوة لم يجزئه لأنه ما أطعمه الطعام الواجب له ولا كساه الكسوة الواجبة فصار كمن لم يطعمه شيئا ولم يكسه وإن أطعم بعض المساكين برا وبعضهم تمرا أو من جنس آخر أجزأه وقال الشافعي لا يجزئه
ولنا قوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين } وقد أطعمهم من جنس ما يجب عليه ولأنه لو كسا بعض المساكين قطنا وبعضهم كتانا جاز مع اختلاف النوع كذلك الإطعام (11/280)
مسائل وفصول في أحكام عامة في الكفارة والإعتاق
مسألة : قال : وإن أعتق نصفي عبدين أو نصفي أمتين أو نصفي عبد وأمة أجزأ عنه
قال الشريف أبو جعفر هذا قول أكثرهم يعني أكثر الفقهاء وقال أبو بكر بن جعفر لا يجزىء لأن المقصود من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل من إعتاق نصفين واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أوجه فمنهم من قال كقول الخرقي ومنهم من قال كقول أبي بكر ومنهم من قال إن كان نصف الرقيق حرا أجزأ لأنه يحصل تكميل الأحكام وإن كان رقيقا لم يجز لأنه لا يحصل
ولنا أن الأشقاص كالأشخاص فيما لا يمنع منه العيب اليسير دليله الزكاة ونعني به إذا كان له نصف ثمانين شاة مشاعا وجبت الزكاة كما لو ملك أربعين منفردة وكالهدايا والضحايا إذا اشتركوا فيها والأولى أنه لا يجزىء إعتاق نصفين اذا لم يكن الباقي بينهما حرا لأن اطلاق الرقبة إنما ينصرف إلى إعتاق الكاملة ولا يحصل من الشقصين ما يحصل من الرقبة الكاملة من تكميل الأحكام وتخليص الآدمي من ضرر الرق وشقصه فلا يثبت به من الأحكام ما يثبت بإعتاق رقبة كاملة ويمتنع قياس الشقصين على الرقبة الكاملة ولهذا لو أمر انسانا بشراء رقبة أو بيعها أو بإهداء حيوان أو بالصدقة به لم يكن له أن يشقصه كذا ههنا
مسألة : قال : وإن أعتق نصف عبد وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه
لا نعلم في هذا خلافا وذلك لأن مقصودهما مختلف متباين إذ كان الفصد من العتق تكميل الأحكام وتخليص المعتق من الرق والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة وإبقاء النفس بدفع المجاعة في الطعام وستر العورة ودفع ضرر الحر والبرد في الكسوة فلتقارب معناهما واتحاد مصرفهما جريا مجريا الجنس الواحد فكملت الكفارة من أحدهما بالآخر ولذلك سوي بين عددهما ولتباعد قصد العتق منهما واختلاف مصرفهما ومباينتهما له لم يجريا مجرى الجنس الواحد فلم يكمل به واحد منهما ولذلك خالف عدده عددهما
فصل : ولو أطعم المساكين أو كساهم أو أعتق نصف عبد ولم يكن له ما يتم به الكفارة فصام عن الباقي لم يجزئه ولأنه يدل في الكفارة فلم تكمل به كسائر الإبدال مع مبدلاتها ولأن الصوم من الطعام والكسوة أبعد من العتق فإذا لم يجز تكميل أحد نوعي المبدل من الآخر فتكميله بالبدل أولى فإن قيل يبطل هذا بالغسل والوضوء مع التيمم قلنا التيمم لا يأتي ببعضه بدلا عن بعض الطهارة وإنما يأتي به بكماله وههنا لو أتى بالصيام جميعه أجزأه
مسألة : قال : ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء
مسألة : قال : في هذه المسألة فصلان الفصل الأول : أنه إذا شرع في الصوم ثم قدر على العتق أو الإطعام أو الكسوة لم يلزمه الرجوع إليها وروي ذلك عن الحسن و قتادة وبه قال مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وروي عن النخعي و الحكم أنه يلزمه الرجوع إلى أحدها وبه قال الثوري وأصحاب الرأي لأنه قدر على المبدل قبل إتمام البدل فلزمه الرجوع كالمتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام صلاته
ولنا أنه بدل لا يبطل بالقدرة على المبدل فلم يلزمه الرجوع إلى المبدل بعد الشروع فيه كما لو شرع المتمتع العاجز عن الهدي في صوم السبعة الأيام فإنه لا يخرج بلا خلاف
والدليل على أن البدل لا يبطل أن البدل الصوم وهو صحيح مع قدرته اتفاقا وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه ولأن الرجوع إلى طهارة الماء لا مشقة فيه ليسره والكفارة يشق الجمع فيها بين خصلتين وإيجاب الرجوع يفضي إن ذلك فإن قيل ينتقض دليلكم بما إذا شرع المتمتع في صوم الثلاثة قلنا إذا قدر على الهدي في صوم الثلاثة تبينا أنه ليس بعادم له في وقته لأن وقت الهدي يوم النحر بخلاف مسألتنا
الفصل الثاني : أنه أن واجب الإنتقال إلى الأعلى فله ذلك في قول أكثرهم ولا نعلم خلافا إلا في العبد إذا حنث ثم عتق
وقال أبو الخطاب لا يجوز الإنتقال في مسألتنا محتجا بقول الخرقي إذا حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق قال وهو ظاهر كلام أحمد لقوله في العبد إنما يكفر ما وجب عليه
ولنا أن العتق والإطعام الأصل فأجزأه التكفير به كما لو تكلف الفقير فاستدان وأعتق وأما العبد إذا عتق فيحتمل أنه يجوز له الإنتقال كمسألتنا ويحمل كلام أحمد على أنه لا يلزمه الإنتقال ويحتمل أنه يفرق بينه وبين الحر من حيث أن الحر كان يجزئه التكفير بالمال لو تكلفه والعبد لم يكن يجزئه إلا الصيام على رواية
فصل : ولو وجبت الكفارة على موسر فأعسر لم يجزئه الصيام وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور وأصحاب الرأي يجزئه لأنه عاجز عن المبدل فجاز له العدول إلى البدل كما لو وجبت عليه الصلاة ومعه ماء فاندفق قبل الوضوء به
ولنا أن الإطعام وجب عليه في الكفارة فلم يسقط بالعجز عنه كالإطعام في كفارة الظهار وفارق الوضوء لأن الصلاة واجبة ولا بد من أدائها فاحتيج إلى الطهارة لها في وقتها بخلاف الكفارة
فصل : والكفارة في حق العبد والحر والرجل والمرأة والمسلم والكافر سواء لأن الله تعالى ذكر الكفارة بلفظ عام في جميع المخاطبين فدخل الكل في عمومه إلا أن الكافر لا يصح منه التكفير بالصيام لأنه عبادة وليس هو من أهلها ولا بالإعتاق لأن من شرطه الأيمان في الرقبة ولا يجوز لكافر شراء مسلم إلا أن يتفق إسلامه في يديه أو يرث مسلما فيعتقه فيصح إعتاقه وإن ل ميتفق ذلك فتكفيره بالإطعام أو الكسوة فإذا كفر به ثم أسلم لم يلزمه أعادة التكفير وإن أسلم قبل التكفير كفر بما يجب عليه في تلك الحال من إعتاق أو إطعام أو كسوة أو صيام ويحتمل على قول الخرقي إلا يجزئه الصيام لأنه إنما يكفر بما وجب عليه حين الحنث ولم يكن الصيام مما وجب عليه (11/281)
مسألة وفصل يرجع في الأيمان إلى النية وحكم ما لو لم ينو شيئا أو اختلف السبب والنية
مسألة : قال ابو القاسم رحمه الله تعالى : ويرجع في الأيمان إلى النية
وجملة ذلك أن مبنى اليمين على نية الحالف فإذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له فالموافق للظاهر أن ينوي باللفظ موضوعه الأصلي مثل أن ينوي باللفظ العام العموم وبالمطلق الإطلاق وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الأفهام منها والمخالف يتنوع أنواعا أحدها : أن ينوي بالعام الخاص وينوي أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة ويريد لحما بعينه وفاكهة بعينها ومنها أن يحلف على فعل شيء أو تركه مطلقا وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه مثل أن يحلف لا أتغذى يعني اليوم أو لآكلن يعني الساعة ومنها أن ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه كما ذكرنا في المعاريض في مسألة إذا تأول في يمينه فله تأويله ومنها أن يريد بالخاص العام مثل أن يحلف لا شربت لفلان الماء من العطش ينوي قطع كل ما له فيه منة أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد جفاءها بترك اجتماعها معه في جميع الدور أو حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها به فيتعلق يمينه بالإنتفاع به أو بثمنه مما لها فيه منة عليه
وبهذا قال مالك و قال أبو حنيفة و الشافعي لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه لأن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه فلو أحنثناه على ما سواءه لأحنثنا على ما نوى لا على ما حلف ولأن النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفتها
ولنا أنه نوى بكلامه ما يحتمله ويسوغ في اللغة التعبير به عنه فنيصرف يمينه إليه كالمعاريض وبيان احتمال اللفظ أنه يسوغ في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام قال الله تعالى : { ما يملكون من قطمير } { ولا يظلمون فتيلا } { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } والقطمير لفافة النواة والفتيل ما في شقها والنقير النقرة التي في ظهرها ولم يرد ذلك بعينه بل نفي كل شيء وقال الحطيئة يهجو بني العجلان :
( ولا يظلمون الناس حبة خردل )
ولم يرد الحبة بعينها إنما أراد لا يظلمونهم وقد يذكر العام ويراد به الخاص كقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } يعني رجلا واحدا : { إن الناس قد جمعوا لكم } يعني أبا سفيان وقال تعالى : { تدمر كل شيء } ولم يرد السماء والأرض ولا مساكنهم [ وإذا احتمله اللفظ وجب صرف اليمين إليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : إنما لامرىء ما نوى ] ولأن كلام الشارع يحمل على مراده إذا ثبت ذلك بالدليل فكذلك كلام غيره وقولهم أن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين قلنا وهذا كذلك فإنما انعقدت عليه اليمين على ما نواه ولفظه مصروف إليه وليست هذه نية مجردة بل لفظ منوي به ما يحتمله
فصل : ومن شرط انصراف اللفظ إلى ما نواه احتمال اللفظ له فإن نوى ما لا يحتمله اللفظ مثل أن يحلف لا يأكل خبزا يعني به لا يدخل بيتا فإن يمينه لا تنصرف إلى المنوي لأنها نية مجردة لا يحتملها اللفظ فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين
مسألة : قال : فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها
وجملته أنه إذا عدمت النية نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالته على النية فإذا حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار نظرنا فإن كان سبب يمينه غيظا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها اختصت بيمينه بها وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقتضي جفاءها ولا أثر للدار فيه تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فإن كان سببه المنة عليه منها فكيفما انتفع به أو بثمنه حنث وإن كان سبب يمينه خشونة غزلها ورداءته لم يتعد بيمنه لبسه والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في التي قبلها قد دللنا على تعلق اليمين بما نواه والسبب دليل على النية فيتعلق اليمين به وقد ثبت أن كلام الشارع إذا كان خاصا في شيء لسبب عام تعدى إلى ما يوجد فيه السبب كتنصيصه على تحريم التفاضل في أعيان ستة أثبت الحكم في كل ما يوجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي مثله فأما إن كان اللفظ عاما والسبب خاصا مثل من دعي إلى غذاء فحلف لا يتغذى أو حلف لا يقعد فإن كانت له نية فيمينه على ما نوى وإن لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين :
إحداهما : أن اليمين محمولة على العموم لأن أحمد سئل عن رجل حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم فقال النذر يوفي به يعني لا يدخله ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذلك يمين الحالف وذكر القاضي فيمن حلف على زوجته أو عبده أن لا يخرج إلا بإذنه فعتق العبد وطلق الزوجة وخرجا بغير إذنه لا يحنث لأن قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وإنما يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما فكأنه قال ما دمتما في ملكي ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم ولو نوى الخصوص لاختصت يمينه به فكذلك إذا وجد ما يدل عليها ولو حلف لعامل لا يخرج إلا بإذنه فعزل أو حلف أن لا يرى منكرا إلا رفعه إلى فلان القاضي فعزل ففيه وجهان بناء على ما تقدم :
أحدهما : لا تنحل اليمين بعزله قال القاضي هذا قياس المذهب لأن اليمين إذا تعلقت بعين موصوفة تعلقت بالعين وإن تغيرت الصفة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر تنحل اليمين بعزله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يقال رفعه إليه إلا في حال ولايته فعلى هذا إن رأى المنكر في ولايته فأمكنه رفعه فلم يرفعه إليه حتى عزل لم يبر برفعه إليه حال كونه معزولا وهل يحنث بعزله ؟ فيه وجهان أحدهما : يحنث لأنه قد فات رفعه إليه فأشبه ما لو مات والثاني : لا يحنث لأنه لم يتحقق فواته لاحتمال أن يلي فيرفعه إليه بخلاف ما إذا مات فإنه يحنث قد تحقق فواته وإذا مات قبل إمكان رفعه إليه حنث أيضا لأنه قد فات فأشبه ما لو حلف ليصربن عبده في غد فمات العبد اليوم ويحتمل ان لا يحنث لأنه لم يتمكن من فعل المحلوف عليه فأشبه المكره وإن قلنا لا تنحل يمينه بعزله فرفعه إليه بعد عزله بر بذلك
فصل : فإن اختلف السبب والنية مثل أن امتنت عليه امرأته بغزلها فحلف أنه لا يلبس ثوبا من غزلها ينوي اجتناب اللبس خاصة دون الانتفاع بثمنه وغيره قدمت النية على السبب وجها واحدا لأن النية وافقت مقتضى اللفظ وإن نوى بيمينه ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي يقدم السبب لأن اللفظ ظاهر في العموم والسبب يؤكد ذلك الظاهر ويقويه لأن السبب هو الامتنان وظاهر حالة قطع النية فلا يلتفت إلى نيته المخالفة للظاهرين والأول أصح لأن السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد فإذا خالف حقيقة القصد لم يعتبر فكان وجوده كعدمه فلم يبق إلا لفظه بعمومه والنية تخصه على ما بيناه فيما مضى (11/284)
مسائل وفصول حكم ما لو حلف لا يسكن دارا وهو ساكنها أو حلف لا يساكن فلانا أو لا يدخل دارا
مسألة : قال : ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته فإن تخلف عن الخروج من وقته حنث
وجملة ذلك أن ساكن الدار إذا حلف لا يسكنها فمتى أقام فيها بعد يمينه زمنا يمكنه فيه الخروج حنث لأن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها ألا تراه يقول سكنت هذه الدار شهرا كما يقول لبست هذا الثوب شهرا ؟ وبهذا قال الشافعي وإن أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث لأن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال فيحتاج أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا وحكي عن مالك أنه إن أقام دون اليوم والليلة لم يحنث لأن ذلك قليل يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به وعن زفر أنه قال يحنث وإن انتقل في الحال لأنه لا بد من أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها وليس بصحيح فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يراد باليمين ولا يقع عليه وأما إذا أقام زمنا يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به كموضع الاتفاق ألا ترى أنه لو حلف لا يدخل الدار فدخل إلى أول جزء منها حنث وإن كان قليلا ؟
فصل : وإن أقام لنقل متاعه وأهله لم يحنث وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يحنث
ولنا أن الانتقال إنما يكون بالأهل والمال على ما سنذكره ولا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا يقع اليمين عليها وعلى هذا إن خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع إمكان نقلهم عنه حنث
وقال الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس بساكن ولأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله
ولنا أن السكنى تكون بالأهل والمال ولهذا يقال فلان ساكن بالبلد الفلاني وهو غائب عنه بنفسه وإذا نزل بلدا بأهله وماله يقال سكنه ولو نزله بنفسه لا يقال سكنه وقولهم أنه نوى السكنى بنفسه لا يصح فإن من خرج إلى مكان لينقل أهله إليه ولم ينو السكنى بنفسه فأشبه من خرج يشتري متاعا وإن خرج عازما على السكنى بنفسه منفردا عن أهله الذي في الدار لم يحنث ويدين فيما بينه وبين الله تعالى ذكره القاضي
وحكي عن مالك أنه اعتبر نقل عياله دون ماله والأولى إن شاء الله أنه إذا انتقل بأهله فسكن في موضع آخر فإنه لا يحنث وإن بقي متاعه في الدار لأن مسكنه حيث حل أهله به ونوى الإقامة به ولهذا لو حلف لا يسكن دارا لم يكن ساكنا لها فنزلها بأهله ناويا للسكنى بها حنث وقال القاضي : إن نقل إليها ما يتأثث به ويستعمله في منزلة فهو ساكن وإن سكنها بنفسه
فصل : وإن أكره على المقام لم يحنث لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد منزلا يتحول إليه أو يحول بينه وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكنه أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله فأقام في طلب النقلة أو انتظار لزوال المانع منها أو خرج طالبا للنقلة فتعذرت عليه أما لكونه لم يجد مسكنا يتحول إليه لتعذر الكراء أو غيره أو لم يجد بهائم ينتقل عليها ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام ناويا للنقلة متى قدر عليها لم يحنث وإن أقام اياما وليالي لأن إقامته عن غير اختيار منه لعدم تمكينه من النقلة فإنه إذا لم يجد مسكنا لا يمكنه ترك أهله والقاء متاعه في الطريق فلم يحنث به كالمقيم للإكراه
وإن أقام في هذا الوقت غيرناو للنقلة حنث ويكون نقله لما يحتاج إلى نقله على ماجرت به العادة فلو كان ذا متاع كثير فنقله قليلا قليلا على العادة بحيث لا يترك النقل المعتاد لم يحنث وإن أقام أياما ولا يلزمه جمع دواب البلد لنقله ولا النقل بالليل ولا وقت الاستراحة عند التعب ولا أوقات الصلوات لأن العادة لم تجر بالنقل فيها ولو ذهب رحله أو أودعه أو أعاره وخرج لم يحنث لأن يده زالت عن المتاع فإن تردد إلى الدار لنقل المتاع أو عائدا لمريض أو زائرا لصديق لم يحنث وقال القاضي إن دخلها ومن رأيه الجلوس عنده حنث وإلا فلا
ولنا أن هذا ليس بسكنى ولذلك لو حلف ليسكنن دارا لم يبر بالجلوس فيها لأنه على هذا الوجه لا يسمى ساكنا به بهذا العذر فلم يحنث به كما لو لم ينو الجلوس وإن كان له في الدار امرأة أو عائلة فارادهم على الخروج معه والانتقال عنها فأبوا ولم يمكنه إخراجهم فخرج وتركهم لم يحنث لأن هذا مما لا يمكنه فأشبه ما لم يمكنه نقله من رحله
فصل : وإن حلف لا يساكن فلانا فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا في الحلف على السكنى وإن انتقل أحدهما وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة وإن سكنا في دار واحدة وكل واحد في بيت ذي باب وغلق رجع إلى بيته بيمينه أو إلى سببها وما دلت عليه قرائن أحواله في المحلوف على المساكنة فيه فإن عدم ذلك كله حنث وهذا قول مالك
وقال الشافعي إن كانت الدار صغيرة فهما متساكنان لأن الصغيرة مسكن واحد وإن كانت كبيرة إلا أن أحدهما في البيت والآخر في الصفة أو كانا في صفتين أو بيتين ليس على أحدهما غلق دون صاحبه فهما متساكنان وإن كانا في بيتين كل واحد منهما له غلق أو كانا في خان فليسا متساكنين لأن كل واحد منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فأشبها المتجاورين كل واحد منهما بنفرد بمسكنه
ولنا أنهما في دار واحدة فكانا متساكنين كالصغيرة وفارق المتجاورين في الدارين فإنهما ليسا متساكنين ويمينه على نفي المساكنة لا على المجاورة ولو كانا في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين وفتحا لكل واحدة منهما بابا وبينهما حاجز ثم سكن كل واحد منهما في حجرة لم يحنث لأنهما غير متساكنين وإن تشاغلا ببناء الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث لأنهما تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا
فصل : فإن حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار قسماها حجرتين وبينا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما لنفسه بابا ثم سكنا فيهما لم يحنث لما ذكرنا في التي قبلها وهذا قول الشافعي و ابن المنذر و أبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك لا يعجبني ذلك ويحتمله قياس المذهب لكونه عين الدار ولا ينحل بتغيرها كما لو حلف لا يدخلها فصارت نصا والأول أصح لأنه لم يساكنه فيها لكون المساكنة في الدار لا تحصل مع كونهما دارين وفارق الدخول فإنه دخلها متغيرة
فصل : وإن حلف ليخرجن من هذه الدار اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله كما لو حلف لا يسكنها وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة تناولت يمينه الخروج بنفسه لأن الدار يخرج منها صاحبهما في اليوم مرات عادة فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة والخروج من البلد بخلاف ذلك وإذا خرج الحالف فهل له العود فيه ؟ عن أحمد روايتان
إحداهما : لا شيء عليه في العود ولا يحنث به لأن يمينه على الخروج وقد خرج فانحلت يمينه لفعل ما حلف عليه فلم يحنث فيما بعد
والثانية : يحنث بالعود لأن ظاهر حاله قصد هجران ما حلف على الرحيل منه ولا يحصل ذلك بالعود ويمكن حمل هذه الرواية على أن للمحلوف عليه سببا هيج يمينه أو دلت قرينة حاله على إرادته هجرانه أو نوى ذلك بيمينه فاقتضت يمينه دوام اجتنابها وإن لم يكن كذلك لم يحنث بالعود لأن اليمين تحمل عند عدم ذلك على مقتضى اللفظ ومقتضاه ههنا الحروج وقد فعله فانحلت يمينه وكذلك الحكم إذا حلف على الرحيل منها إلا أنه إذا حلف على الرحيل من بلد لم يبر إلا بالرحيل بأهله
مسألة : قال : ولو حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث
نص عليه أحمد هذا في رواية أبي طالب وهو قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولا نسلم فيه خلافا وذلك لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه وإن حمل بأمره فأدخلها حنث لأنه دخل مختارا فأشبه ما لو دخل راكبا وإن حمل بغير أمره ولكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث أيضا لأنه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حمل بأمره وقال أبو الخطاب في الحنث وجهان :
أحدهما : لا يحنث لأنه لم يفعل الدخول ولم يأمر به فأشبه ما لو يمكنه الامتناع ومتى دخل بإختياره حنث سواء كان ماشيا أو راكبا أو محمولا أو ألقى نفسه في ماء فجره إليها أو سبح فيه فدخلها سواء دخلها من بابها أو تسور حائطها أو دخل من طاقة فيها أو نقب حائطا ودخل من ظهرها أو غير ذلك
فصل : فإن أكره بالضرب ونحوه على دخولها فدخلها لم يحنث في أحد الوجهين وهو أحد قولي الشافعي وفي الآخر يحنث وهو قول أصحاب الرأي ونحوه قول النخعي لأنه فعل ما حلف على تركه ودخلها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه دخلها مكرها فأشبه ما لو حمل مكرها
فصل : وإن رقي فوق سطحها حنث وبهذا قال مالك و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث ولأصحابه فيما إذا كان السطح محجرا وجهان واحتجوا بأن السطح يقيها الحر والبرد ويحرزها فهو كحيطانها
ولنا أن سطح الدار منها وحكمه حكمها سواء فحنث بدخلوه كالمحجر أو كما لو دخل بين حيطانها ودليل ذلك أنه يصح الاعتكاف في سطح المسجد ويمنع الجنب من اللبث فيه ولو حلف ليخرجن من الدار فصعد سطحها لم يبر ولو حلف أن لا يخرج منها فصعد سطحها لم يحنث ولأنه داخل في حدود الدار ومملوك لصاحبها ويملك بشرائها ويخرج من ملك صاحبها ببيعها والبائت عليه يقال بات في داره وبهذا يفارق ما وراء حائطها فإن كان في اليمين قرينة لفظية أو حالية تقتضي اختصاص الإرادة بداخل الدار مثل أن يكون سطح الدار طريقا وسبب يمينه يقتضي ترك وصلة أهل الدار لم يحنث بالمرور على سطحها وكذلك إن نوى بيمينه باطن الدار تقيدت يمينه بما نواه لأنه ليس للمرء إلا ما نواه
فصل : فإن تعلق بغصن شجرة في الدار لم يحنث وإن صعد حتى صار في مقابلة سطحها بين حيطانها حنث وإن لم ينزل بين حيطانها احتمل أن يحنث لأنه في هوائها وهواؤها ملك لصاحبها فأشبه ما لو قام على سطحها واحتمل أن لا يحنث لأنه داخلا ولا هو على شيء من أجزائها وكذلك إن كانت الشجرة في غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة سطحها فإن قام على سطحها فإن قام على حائط الدار احتمل وجهين أحدهما : أنه يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي لأنه داخل في حدها فأشبه القائم على سطحها والثاني : لا يحنث لأنه لا يسمى دخولا وإن قام في طبق الباب فكذلك لأنه بمنزلة حائطها وقال القاضي إذا قام على العتبة لم يحنث لأن الباب إذا غلق حصل خارجا منها ولا يسمى داخلا فيها
فصل : وإن حلف أن لا يضع قدمه في الدار فدخلها راكبا أو ماشيا منقولا أو حافيا حنث كما لو حلف أن لا يدخلها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور إن دخلها راكبا لم يحنث لأنه لم يضع قدمه فيها
ولنا أنه قد دخل الدار فحنث كما لو دخلها ماشيا ولا نسلم أنه لم يضع قدمه فيها فإن قدمه موضوعة على الدابة فيها فأشبه ما لو دخلها منتعلا وعلى أن هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول فتحمل اليمين عليه فإن قيل هذا مجاز لا يحمل اليمين عليه قلنا المجاز إذا اشتهر صار من الأسماء العرفية فينصرف اللفظ بإطلاقه إليه كلفظ الرواية والدابة وغيرهما
فصل : وإن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها فدخلها من غير الباب لم يحنث لأن يمينه لم تتناول غير الباب ويتخرج أنه يحنث إذا أراد بيمينه اجتناب الدار ولم يكن للباب سبب هيج يمينه كما لو حلف لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها وإن حول بابها في مكان آخر فدخل فيه حنث لأنه دخلها من بابها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وإن حلف لأدخلت من باب هذه الدار فكذلك وإن جعل لها باب آخر مع بقاء الأول فدخل منه حنث لأنه دخل من باب الدار وإن قلع الباب ونصف في دار أخرى وبقي الممر حنث بدخوله ولم يحنث بالدخول من الموضع الذي نصب فيه الباب لأن الدخول في الممر لا من المصراع
فصل : فإن حلف لا يدخل دار فلان دارا مملوكة له أو دارا يسكنها بأجرة أو عارية أو غصب حنث وبذلك قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث إلا بدخول دار يمكلها لأن الإضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال هذه الدار لفلان كان مقرا له بمكلها ولو قال أردت أن يسكنها لم يقبل
ولنا أن الدار تضاف إلى ساكنها كافاضتها إلى مالكها قال الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } أراد بيوت أزواجهن التي يسكنها وقال تعالى : { وقرن في بيوتكن } ولأن الإضافة للإختصاص وكذلك يضاف إضافتها إلى أخيه بالأخوة وإلى أبيه بالبنوة وإلى ولده بالأبوة وإلى امرأته بالزوجية وساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة وهي مستعملة في العرف فوجب أن يحنث بدخولها كالمملوكة له وقولهم أن هذه الإضافة مجاز ممنوع بل هي حقيقة لما ذكرناه ولو كانت مجازا لكنه مشهور فيتناوله اللفظ كما لو حلف لا شربت من رواية فلان فإنه يحنث بالشرب من مزادته وأما الإقرار فإنه لو قال هذه دار زيد وفسر إقراره بسكناها احتمل أن نقول يقبل تفسيره وإن سلمنا فإن قرينه الإقرار تصرفه إلى الملك وكذلك لو حلف لا دخلت مسكن زيد حنث بدخوله الدار التي يسكنها ولو قال هذا المسكن لزيد كان مقرا له بها ولا خلاف في هذه المسألة وهي نظيره مسألتنا
فصل : ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة استأجرها فلان حنث وإن ركب دابة استعارها لم يحنث ذكره أبو الخطاب وكذلك لو ركب دابة غصبها فلان وفارق مسألة الدار فإنه لم يحنث في الدار لكونه استعارها ولا غصبها وإنما حنث لسكناه بها فأضيفت الدار إليه لذلك ولو غصبها أو استعاها من غير ان يسكنها لم تصح إضافتها إليه ولا يحنث الحالف فيكون كمستعير الدابة وغاصبها سواء
فصل : وإن حلف لا يدخل دار هذه العبد ولا يركب دابته ولا يلبس ثوبه فدخل دارا جعلت برسمه أو ركب دابة جعلت برسمه أو لبس ثوبا جعل برسمه حنث وعند الشافعي لا يحنث لأنه لا يملك شيئا والإضافة تقتضي الملك وقد قدمنا الكلام معه في الفصل الذي قبل هذا ويختص هذا الفصل بإن الملكية لا تمكن ههنا ولا تصح الإضافة بمعناها فتعين حمل الإضافة ههنا على إضافة الإختصاص دون الملك وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل دار عبده حنث وبه قال أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن دار العبد ملك لسيده وإن حلف لا يلبس ثوب السيد ولا يركب دابته فلبس ثوب عبده وركب دابته حنث وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأن العبد بهما خص
ولنا أنهما مملوكان للسيد فتناولتهما يمين الحالف كالدار وما ذكروه يبطل بالدار
مسألة : قال : ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه حنث ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل بجميعه أما إذا حلف ليدخلن أو يفعل شيئا لم يبر إلا يفعل جميعه والدخول إليها بجملته
لا يختلف المذهب في شيء من ذلك ولا نعلم بين أهل العلم فيه إختلافا لأن اليمين تناولت فعل الجميع كما لو أمره الله تعالى بفعل شيء لم يخرج من عهدة الأمر إلا بفعل الجميع ولأن اليمين على فعل شيء اخبار بفعله في المستقبل مؤكد بالقسم والخبر بفعل شيء يقتضي فعله كله فأما إن حلف لا يدخل فأدخل بعضه ولا يفعل شيئا ففعل بعضه ففيه روايتان
احداهما : لا يحنث وحكي عن مالك لأن اليمين يقتضي المنع من فعل المحلوف عليه فاقتضت المنع من فعل شيء منه كالنهي فنظير الحالف على الدخول قوله تعالى : { وادخلوا الباب سجدا } و { ادخلوا عليهم الباب } فلا يكون المأمور ممتثلا إلا بدخلو جملته ونظير الحلف على ترك الدخول قوله سبحانه : { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم }
وقوله : { لا تدخلوا بيوت النبي } لا يكون المنهي ممتثلا إلا بترك الدخول كله فكذلك الحالف على ترك الدخول لا يبرأ إلا بتركه فمتى أدخل بعضه لم يكن تاركا لما حلف عليه فكان مخالفا كالمنهي عن الدخول ووجه الجمع بينهما أن الآمر والناهي يقصد الحمل على فعل الشيءأو المنع منه والحالف يقصد بيمينه ذلك فكانا سواء يحققه أن الآمر بالفعل أو الحالف عليه يقصد فعل الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بفعله كله والناهي والحالف على الترك يقصد ترك الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بترك الجميع وفاعل البعض ما فعل الجميع ولا ترك الجميع فلا يكون ممتثلا للأمر ولا النهي ولا بارا بالحلف على الفعل ولا الترك
والرواية الثانية : لا يحنث إلا بأن يدخل كله قال أحمد في رواية صالح و حنبل فيمن حلف على امرأته لا تدخل بيت أخيها لم تطلق حتى تدخل كلها ألا ترى أن عوف بن مالك قال كلي أو بعضي لأن الكل لا يكون بعضا والبعض لا يكون كلا وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب أبي حنيفة و الشافعي وهكذا كل شيء حلف أن لا يفعله ففعل بعضه لا يحنث حتى يفعله كله لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يخرج رأسه على عائشة وهو معكتف فترجله وهي حائض والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد والحائض ممنوعة من اللبث فيه
[ وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال لأبي بن كعب : إني لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها ] ولأن يمينه تعلقت بالجميع فلم تنحل بالبعض كالإثبات وهذا الخلاف في اليمين المطلقة فأما إن نوى الجميع أو البعض فيمينه على ما نوى وكذلك إن اقترنت به قرينة تقتضي أحد الأمرين تعلقت يمينه به فلو قال والله لأشربت هذا النهر أو هذه البركة تعلقت يمينه ببعضه وجها واحدا لأن فعل الجميع ممتنع فلا ينصرف يمينه إليه وكذلك لو قال والله لا آكل الخبز ولا أشرب الماء وما أشبهه مما علق على اسم جنس أو علقه على اسم جمع كالمسلمين والمشركين والفقراء والمساكين فإنما يحنث بالبعض وبهذا قال أبو حنيفة وسلمه أصحاب الشافعي في اسم الجنس دون الجمع وإن علقه على إسم جنس مضاف كماء النهر حنث أيضا بفعل البعض إذا كان مما لا يمكن شربه كله وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر لا يحنث لأن لفظه يقتضي جميعه فلم يتعلق ببعضه كماء الأدواة
ولنا أنه لا يمكن شرب جميعه فتعلقت اليمين كما لو حلف لا يكلم الناس فكلم بعضهم وبهذا فارق ماء الأداوة وإن نوى بيمينه فعل الجميع أو كان في لفظه ما يقتضي ذلك لم يحنث إلا بفعل الجميع وإن قال والله لا صمت يوما لم يحنث حتى يكمله وإن حلف لا صليت صلاة ولا أكلت أكلة لم يحنث حتى يكمل الصلاة والأكلة وإن قال لامرأته إن حضت حيضة فأنت طالق حتى تطهر من حيضة مستقبلة وإن قال لامرأتيه إن حضتما فأنتما طالقتان لم تطلق واحدة منهما حتى تحيضا كلتاهما فهذا وأشباهه مما يدل على إرادته فعل الجميع فوجب تعلق اليمين به
وقال أحمد في رجل قال لامرأته إذا صمت يوما فأنت طالق إذا غابت الشمس من ذلك طلقت وقال القاضي إذا حلف لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ مما يسمى صلاة ولو حلف لا يصلي ولا يصوم حنث في الصلاة بتكبيرة الإحرام وفي الصيام بطلوع الفجر إذا نوى الصيام وبهذا قال الشافعي ووافق أبو حنيفة في الصيام وقال في الصلاة لا يحنث حتى يسجد سجدة
ولنا أنه يسمى مصليا بدخوله في الصلاة فحنث به كما لو سجد سجدة ولأنه شرع فيما حلف عليه أشبه الصيام يشرع فيه واختار أبو الخطاب أن لا يحنث حتى يصلي ركعة بسجدتيها ولا يحنث في الصيام حتى يصوم يوما كاملا لأن ما دون ذلك لا يكون بمفرده صوما ولا صلاة والأول أولى فإن كل جزء من ذلك صلاة وصيام لكن يشترط لصحته إتمامه وكذلك يقال لمن أفسد ذلك بطل صومه وصلاته (11/286)
مسألة وفصول حكم من حلف لا يلبس ثوبا وهو لابس أو لا يدخل دارا وهو فيها
مسألة : قال : ومن حلف ألا يلبس ثوبا وهو لابسه نزعه من وقته فإن لم يفعل حنث
وجملة ذلك أن من حلف لا يلبس ثوبا هو لابسه فإن نزعه في الحال وإلا حنث وكذلك إن حلف لا يركب دابة هو راكبها فإن نزل في أول حالة الإمكان وإلا حنث وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور لا يحنث باستدامته اللبس والركوب حتى يبتدئه لأنه لو حلف لا يتزوج ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث كذا ههنا
ولنا أن استدامة اللبس والركوب تسمى لبسا وركوبا ويسمى به لابسا وراكبا ولذلك يقال لبست هذا الثوب شهرا وركبت دابتي يوما فحنث باستدامته كما لو حلف لا يسكن فاستدام السكنى وقد اعتبر الشرع هذا في الإحرام حيث حرم لبس المخيط فأوجب الكفارة في استدامته كما أوجبها في ابتدائه وفارق التزويج فإنه لا يطلق على الإستدامة فلا يقال زوجت شهرا وإنما يقال منذ شهر ولهذا لم تحرم استدامته في الإحرام كابتدائه
فصل : فإن حلف لا يتزوج ولا يتطيب ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث في قولهم جميعا لأنه لا يطلق على مستديم هذه الأفعال اسم الفعل فلا يقال تزوجت شهرا ولا تطهرت شهرا ولا تطيبت شهرا وإنا يقال منذ شهر ولم ينزل الشارع استدامة التزويج والطيب منزلة ابتدائها في تحريمه في الإحرام وإيجاب الكفارة فيه
فصل : وإن حلف لا يدخل دارا هو فيها فأقام فيها ففيه وجهان أحدهما : يحنث لأن استدامة المقام في ملك الغير كابتدائه في التحريم قال أحمد في رجل حلف على امرأته لادخلت أنا وأنت هذه الدار وهما جميعا فيها قال أخاف أن يكون قد حنث
والثاني : لا يحنث ذكره القاضي واختاره أبو الخطاب وهو قول أصحاب الرأي لأن الدخول لا يستعمل في الإستدامة ولهذا يقال دخلتها منذ شهرفجرى مجرى التزويج ولأن الدخول الانفصال من خارج إلى داخل فلا يوجد في الإقامة ولـ لشافعي قولان كالوجهين ويحتمل أن من أحنثه إنما كان لأن ظاهر حال الحالف أنه يقصد هجران الدار ومباينتها والإقامة فيها تخالف ذلك فجرى مجرى الحالف على ترك السكنى به
فصل : فإن حلف لا يضاجع امرأته على فراش وهما متضاجعان فاستدام ذلك حنث لأن المضاجعة تقع على الإستدامة ولهذا يقال اضطجع على الفراش ليلة وإن كان هو مضطجعا على الفراس وحده فاضطجعت عنده عليه نظرت فإن قام لوقته لم يحنث وإن استدام حنث لما ذكرنا وإن حلف لا يصوم وهو صائم فأتم يومه فقال القاضي لا يحنث ويحتمل أن يحنث لأن الصوم يقع على الاستدامة يقال صام يوما ولو شرع في صوم يوم العيد فظن انه من رمضان فبان أنه يوم العيد حرمت عليه استدامته وإن حلف لا يسافر وهو مسافر فأخذ في العود أو أقام لم يحنث وإن مضى في سفره حنث لأن الاستدامة سفر ولهذا يقال سافرت شهرا
فصل : وإن حلف لا يلبس هذا وكان رداء في حال حلفه فارتدى به أو ائتزر أو اعتم به أو جلعه قميصا أو سراويل أو قباء ولبسه حنث وكذلك إن كان قميصا فارتدى به أو سراويل فائترز به حنث هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي لأنه قد لبسه وإن قال في يمينه لا ألبسه وهو رداء فغيره عن كونه رداء ولبسه لم يحنث لأن اليمين وقعت على ترك لبسه رداء وإن قال والله لا لبست شيئا فلبس قميصا أو عمامة أو قلنسوة أو درعا أو جوشنا أو خفا أو نعلا حنث وقال أصحاب الشافعي في الخف والنعل وجهان أحدهما : لا يحنث
ولنا أنه ملبوس حقيقة وعرفا فحنث به كالثياب وفي الحديث [ أن النجاشي أهدى إلى النبي صلى الله عليه و سلم خفين فلبسهما وقيل لابن عمر أنك تلبس هذا النعال قال : إني رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يلبسهما وإن ترك القلنسوة في رجله أو ادخل يده في الخف أو النعل لم يحنث لأن ذلك ليس بلبس لهما ]
فصل : وإن حلف ليلبسن امرأته حليا فلبسها خاتما من فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو جوهر وحده بر في يمينه وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يبر لأنه ليس بحلي وحده
ولنا قول الله تعالى : { وتستخرجوا منه حلية تلبسونها } وقال تعالى : { يحلون فيها من أساور من ذهب } وجاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو أنه قال الله تعالى للبحر الشرقي إني جاعل فيك الحلية والصيد والطيب ولأن الفضة حلي إذا كانت سوارا أو خلخالا فكانت حليا إذا كانت خاتما كالذهب ولاجوهر واللؤلؤ حلي مع غيره فكان حليا وحده كالذهب وإن ألبسها عقيقا أو سبجا لم يبر وقال الشافعي إن كان من أهل السواد بر وفي غيرهم وجهان لأن هذا حلي في عرفهم
ولنا أن هذا ليس بحلي فلا يبر به كالودع وخرز الزجاج وما ذكروه يبطل بالودع وإن حلف لا يلبس حليا فلبس دراهم أو دنانير في مرسلة ففيه وجهان أحدهما : لا يحنث لأنه ليس بحلي إذا لم يلبسه فكذلك إذا لبسه
والثاني : يحنث لأنه ذهب وفضة لبسه فكان حليا كالسوار والخاتم وإن لبس سيفا محلى لم يحنث لأن السيف ليس بحلي وإن لبس منطقة محلاة ففيه وجهان أحدهما : لا يحنث لأن الحلية لها دونه فأشبه السيف المحلى
والثاني : يحنث لأنها من حلي الرجال ولا يقصد بلبسها محلاة في الغالب إلا التجمل بها وإن حلف لا يلبس خاتما فلبسه في غير الخنصر من أصابعه حنث وقال الشافعي لا يحنث لأن اليمين تقتضي لبسا معينا معتادا وليس هذا معتادا فأشبه ما لو أدخل القلنسوة في رجله
ولنا أنه لابس لما حلف على ترك لبسه فأشبه ما لو ائتزر بالسروايل وإما ادخال القلنسوة في رجله فهو عبث وسفه بخلاف هذا فإنه لا فرق بين الخنصر وغيره إلا من حيث الإصطلاح على تخصيصه بالخنصر (11/295)
مسائل وفصول في أنواع من الحلف مختلفة وأحكامها
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد وبكر حنث إلا ان يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء
وبهذا قال أبو حنيفة و مالك وقال الشافعي لا يحنث وذكره أبو الخطاب احتمالا لأن كل جزء لم ينفرد أحدهما بشرائه فلم يحنث به كما لو حلف لا يلبس ثوبا اشتراه زيد فلبس ثوبا اشتراه زيد هو وغيره
ولنا أن زيدا مشتر لنصفه وهو طعام وقد أكله فيجب أن يحنث كما لو اشتراه زيد ثم خلطه بما اشتراه عمرو فأكل الجميع وأما الثوب فلا نسلم وإن سلمناه فالفرق بينهما إن نصف الثوب ليس بثوب ونصف الطعام طعام وقد أكله بعد إن اشتراه زيد وإن اشترى زيد نصفه مشاعا أو اشترى نصفه ثم اشترى الآخر باقيه فأكل منه حنث والخلاف فيه على ما تقدم ولو اشترى زيد نصفه معينا ثم خلطه بالنصف الآخر فأكل الجيمع أو أكثر من النصف حنث بغير خلاف لأنه أكل مما اشتراه زيد يقينا وإن أكل نصفه أو أقل من نصفه ففيه وجهان أحدهما : يحنث بغير خلاف لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه زيد من غيره فيكون الحنث ظاهرا ظهورا كثيرا
والثاني : لا يحنث لأن الأصل عدم الحنث ولم يتيقن أكله مما اشتراه زيد وكل موضع لا يحنث فحكمه حكم من حلف لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإن أكل من طعام اشتراه زيد ثم باعه أو اشتراه لغيره حنث ويحتمل أن لا يحنث
فصل : وإن حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل عيرها حنث وبه قال الشافعي وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها ففيه روايتان إحداهما : يحنث كالتي قبلها والثانية : لا يحنث وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه لم يلبس ثوبا كاملا من غزلها وكذلك إن حلف لا يلبس ثوبا نسجه زيد ولا يأكل من قدر طبخها ولا يدخل دارا اشتراها ولا يلبس ثوبا خاطه زيد فلبس ثوبا نسجه هو وغيره أو خاطاه أو أكل من قدر طبخاها أو دخل دارا اشترياها ففي هذا كله من الخلاف والقول مثلما في المسألة الأولى وإن حلف أن لا يلبس ما خاطه زيد حنث بلبس ثوب خاطاه جميعا لأنه ليس مما خاطه زيد بخلاف ما إذا قال ثوبا خاطه زيد وإن حلف أن لا يدخل دارا لزيد فدخل دارا له ولغيره خرج فيه وجهان والخلاف فيها على ما مضى
مسألة : قال : ولو حلف لا يزورهما أو لا يكلمهما فزار أو كلم أحدهما حنث إلا أن يكون أراد ألا يجتمع فعله بهما
يمكن أن تكون هذه المسألة مبنية على من حلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه فإن هذا حالف على كلام شخصين وزيارتهما فتكليمه احدهما وزيارته فعل لبعض ما حلف عليه وقد مضى الكلام في هذا ويمكن أن يقال تقدير يمينه لا كلمت هذا ولا كلمت هذا لأن المعطوف بقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه فيصير كقوله سبحانه : { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } أي وحرمت عليكم بناتكم فيصير كل واحد منهما محلوفا عليه منفردا فيحنث به فإن قصد ألا يجتمع فعله بهما لم يحنث إلا بذلك لأنه قصد بيمينه ما يحتمله فانصرف إليه وإن قصد ترك كلام كل واحد منهما منفردا حنث بفعله لأنه عقد يمينه على ترك ذلك وإن قال والله لاكلمت زيدا ولا عمرا حنث بكلام كل واحد منهما بغير إشكال فإن هذا يقتضي ترك كلام كل واحد منهما منفردا قال الله تعالى : { ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا } أي لا يملكون شيئا من ذلك
فصل : فإن قال أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا أو عبدي حران إن كلمت زيدا وعمرا لم يقع الطلاق ولا العتق إلا بتكليمها لأنه جعل تكليمهما معا شرطا لوقوع ذلك ولا يثبت المشروط إلا بوجود الشرط جميعه وكذلك لو قال لامرأتيه ان حضتما فأنتما طالقتان لم يقع الطلاق على واحدة منهما إلا بحيضهما جميعا وتفارق اليمين بالله تعالى فإن مقتضاها المنع من فعل المحلوف عليه فتحصل المخالفة بفعل البعض وقد جمع بعض أصحابنا بينهما في الحنث بفعل البعض لكون المقصود من الحلف كله على ترك شيء المنع من فعله فيستويان اما إذا قال إذا حضتما فأنتما طالقتان فليس ذلك بيمين لأنه لا يقصد بهذا منع من شيء ولا حث عليه إنما هو شرط مجرد وليس فيه معنى اليمين
فصل : ومن حلف على فعل شيء فقال والله لا آكل خبزا ولحما ولا زبدا وتمرا ولا أدخل هاتين الدارين ولا أعصي الله في هذني البلدين ولا أمسك هاتين المرأتين ففعل بعض ما حلف عليه مثل أن أكل أحدهما أو دخل إحدى الدارين أو عصى الله في أحد البلدين أو أمسك إحدى المرأتين فهل يحنث ؟ يخرج على روايتين وإن قصد بيمنه أن لايجمع بينهما أو المنع من كل واحد منهما فيمينه على ما نواه وإن قال والله لا آكل سمكا وأشرب لبنا بالفتح وهو من أهل العربية لم يحنث إلا بالجمع بينهما لأن الواو ههنا بمعنى مع ولذلك اقتضت الفتح وإن عطف احدهما على الآخر بتكرار ـ لا ـ اقتضى المنع من كل واحد منهما منفردا وحنث بفعله
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يلبس ثوبا فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب وكذلك ان انتفع بثمنه
هذه المسألة فرع أصل تقدم ذكره في أول الباب وهو أن الأسباب معتبرة في الأيمان فيتعدى الحكم بتعديها فإذا امتن عليه بثوب فحلف أن لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في غير اللبس من أخذ ثمنه لأنه نوع انتفاع به يلحق المنة به وإن لم يقصد قطع المنة ولا كان سبب يمينه يقتضي ذلك لم يحنث إلا بما تناولته يمينه وهو لبسه خاصة فلو ابدله بثوب غيره ثم لبسه أو انتفع به في غير اللبس أو باعه وأخذ ثمنه لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا
فصل : وإن فعل شيئا عليه فيه لها منة سوى الانتفاع بالثوب وبعوضه مثل أن سكن دارها أو أكل طعامها أو لبس ثوبا لها غير المحلوف عليه لم يحنث لأن المحلوف عليه الثوب فتعلقت يمينه به أو بما حصل به ولم يتعد إلى غيره لاختصاص اليمين والسبب به
فصل : وإن امتنت عليه امرأته بثوب فحلف أن لا يلبسه قطعا لمنتها فاشتراه غيره ثم كساه إياه أو اشتراه الحالف ولبسه على وجه لا منة لها فيه فهل يحنث ؟ على وجهين
أحدهما : يحنث لمخالفته ليمينه ولأن لفظ الشارع إذا كان أعم من السبب وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذا في اليمين ولأنه لو خاصمته امرأة له فقال نسائي طوالق طلقن كلهن وإن كان سبب الطلاق واحدة كذا ههنا والثاني : لا يحنث لأن السبب اقتضى تقييد لفظه بما وجد فيه السبب فصار كالمنوي أو كما لو خصصه بقرينة لفظية
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها حنث إذا كان أراد بيمنه جفاء زوجته ولم يكن للدار سبب هيج يمينه
وهذه أيضا من فروع اعتبار النية وذلك أنه متى قصد جفاءك بترك الأوي معها ولم يكن للدار أثر في يمينه كان ذكر الدار كعدمه وكأنه حلف ألا يأوي معها فإذا أوى معها في غيرها فقد أوى معها فحنث لمخالفته ما حلف على تركه وصار هذا بمنزلة [ سؤال الأعرابي رسول الله صلى الله عليه و سلم واقعت أهلي في نهار رمضان فقال : أعتق رقبة ] لما كان ذكر أهله لا أثر له في إيجاب الكفارة حذفناه من السبب وصار السبب الوقاع سواء كان للأهل أو لغيرهم وإن كان للدار أثر في يمينه مثل إن كان يكره سكناها أو خوصم من أجلها أو أمتن عليه بها لم يحنث إذا أوى معها في غيرها لأنه قصد بيمينه الجفاء في الدار بعينها فلم يخالف ما حلف عليه وإن عدم السبب والنية لم يحنث إلا بفعل ما تناوله لفظه وهو الأوي معها في تلك الدار بعينها لأنه يجب اتباع لفظه إذا لم تكن نية ولا سبب يصرف اللفظ عن مقتضاه أو يقتضي زيادة عليه ومعنى الأوي الدخول فمتى حلف لا يأوي معها فدخل معها الدار حنث قليلا كان لبثهما أو كثيرا قال الله تعالى مخبرا عن فتى موسى : { إذ أوينا إلى الصخرة } قال أحمد ما كان ذلك إلا ساعة أو ماشاء الله يقال أويت أنا وآويت غيري قال الله تعالى : { إذ أوى الفتية إلى الكهف } وقال الله تعالى : { وآويناهما إلى ربوة }
فصل : وإن برها بهدية أو غيرها أو اجتمع معها فيما ليس بدار ولا بيت لم يحنث سواء كانت الدار سببا في يمينه أو لم تكن لأنه قصد جفاءها بهذا النوع فلم يحنث بغيره وإن حلف لا يأوي معها في دار لسبب فزال السبب الموجب ليمينه مثل إن كان السبب امتنانها بها عليه فملك الدار أو صارت لغيرها فأوى معها فيها فهل يجنث ؟ على وجهين تقدم ذكرهما وتعليلهما
فصل : فإن حلف أن لا يدخل عليها فيما ليس ببيت فحكمه حكم المسألة التي قبلها إذا قصد جفاءها ولم يكن البيت سببا هيج يمينه حنث وإلا فلا فإن دخل على جماعة هي فيهم يقصد الدخول عليها معهم حنث وكذلك إن لم يقصد شيئا وإن استثناها بقلبه ففيه وجهان :
إحداهما : لا يحنث كما لو حلف ألا يسلم عليها فسلم على جماعة هي فيهم يقصد بقلبه السلام على غيرها فإنه لا يحنث والثاني : يحنث لأن الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد وقد وجد في حق الكل على السواء وهي فيهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءها وفارق السلام فإنه قول يصح تخصيصه بالقصد ولهذا يصح أن يقال السلام عليكم إلا فلانا ولا يصح أن يقال دخلت عليكم إلا فلانا ولأن السلام قول يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم والضمير عام يصح أن يراد به الخاص فصح أن يراد به من سواها والفعل لا يتأتى هذا فيه وإن دخل بيتا لا يعلم أنها فيه فوجدها فيه فهو كالدخول عليها ناسيا فإن قلنا لا يحنث بذلك فخرج حين علم بها لم يحنث وكذلك إن حلف لا يدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج في الحال لم يحنث وإن أقام فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على من حلف لا يدخل دارا هو فيها فاستدام المقام بها فهل يحنث ؟ على وجهين
مسألة : قال : ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه وإن مات العبد حنث
أما إذا مات الحالف من يومه فلا حنث عليه لأن الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه في وقته وهو الغد والحالف قد خرج على أن يكون من أهل التكليف قبل الغد فلا يمكن حثه وكذلك إن جن الحالف في يومه فلم يفق إلا بعد خروج الغد لأنه خرج عن كونه من أهل التكليف وإن هرب العبد أو مرض العبد أو الحالف أو نحو ذلك فلم يقدر على ضربه في الغد حنث وإن لم يمت الحالف ففيه مسائل
أحدها : أن يضرب العبد في غد أي وقت كان منه فإنه يبر في يمينه بلا خلاف
الثانية : أمكنه ضربه في غد فلم يضربه حتى مضى الغد وهما في الحياة حنث أيضا بلا خلاف
الثالثة : مات العبد من يومه فإنه يحنث وهذا أحد قولي الشافعي ويتخرج إلا يحنث وهو قول أبي حنيفة و مالك والقول الثاني : لـ لشافعي لأنه فقد ضربه بغير اختياره فلم يحنث كالمكره والناسي
ولنا أنه لم يفعل ما حلف عليه في وقته من غير إكراه ولا نسيان وهو من أهل الحنث فحنث كما لو أتلفه باختياره وكما لو حلف ليحجن العام فلم يقدر على الحج لمرض أو عدم النفقة وفارق الإكراه والنسيان فإن الامتناع لمعنى في الحالف وههنا الامتناع لمعنى في المحل فأشبه ما لو ترك ضربه لصعوبته أو ترك الحالف الحج لصعوبة الطريق وبعدها عليه فأما إن كان تلف المحلوف عليه بفعله واختياره حنث وجها واحدا لأنه فوت الفعل على نفسه قال القاضي ويحنث الحالف ساعة موته لأن يمنيه انعقدت من حين حلفه وقد تعذر عليه الفعل في الحال كما لو لم يؤقت ويتخرج إلا يحنث قبل الغد لأن الحنث مخالفة ما عقد يمينه عليه فلا تحصل المخالفة إلا بترك الفعل في وقته
الرابعة : مات العبد في غد قبل التمكن من ضربه فهو كما لو مات في يومه الخامسة : مات العبد في غد بعد التمكن من ضربه قبل ضربه فإنه يحنث وجها واحدا وقال بعض أصحاب الشافعي يحنث قولا واحدا وقال بعضهم فيه قولان
ولنا أنه يمكنه ضربه في وقته فلم يضربه فحنث كما لو مضى الغد قبل ضربه
السادسة : مات الحالف في غد بعد التمكن من يضربه فلم يضره حنث وجها واحدا لما ذكرنا
السابعة : ضربه في يومه فإنه لا يبر وهذا قول أصحاب الشافعي وقال القاضي وأصحاب أبي حنيفة يبر لأن يمينه للحنث على ضربه فإذا ضربه اليوم فقد فعل المحلوف عليه وزيادة فأشبه ما لو حلف ليقضينه حقه في غد فقضاه اليوم
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته فلم يبر كما لو حلف ليصومن يوم الجمعة فصام يوم الخميس وفارق قضاء الدين فإن المقصود تعجيله لا غير وفي قضاء اليوم زيادة في التعجيل فلا يحنث فيها لأنه علم من قصده ارادة أن لا يتجاوز غدا بالقضاء فصار كالملفوظ به إذ كان مبني الأيمان على النية ولا يصح قياس ما ليس بمثله عليه وسائر المحلوفات لا تعلم منها إرادة التعجيل عن الوقت الذي وقته لها فامتنع الإلحاق وتعين التمسك باللفظ
الثامنة : ضربه بعد موته لم يبر لأن اليمين تنصرف إلى ضربه حيا يتألم بالضرب وقد زال هذا بالموت
التاسعة : ضربه ضربا لا يؤلمه لم يبر لما ذكرناه
العاشرة : خنقه أو نتف شعره أو عصر ساقه بحيث يؤلمه فإنه يبر لأنه يسمى ضربا لما تقدم ذكرنا له
الحادية عشر : جن العبد فضربه فإنه يبر حي يتألم بالضرب وإن لم يضربه حنث وإن حلف لا يضربه في غد ففيه نحو من هذه المسائل ومتى فات ضربه بموته أو غيره لم يحنث لأنه لم يضربه
فصل : وإن قال والله لأشربن ماء هذا الكوز غدا فاندفق اليوم أو لآكلن هذا الخبز غدا فتلف فهو على نحو مما ذكرنا في ا لعبد قال صالح سألت أبي عن الرجل يحلف أن يشرب هذا الماء فانصب قال يحنث وكذلك إن حلف أن يأكل هذا الرغيف فأكله كلب قال يحنث لأن هذا لا يقدر عليه
مسألة : قال : ومن حلف ألا يكلمه حينا فكلمه قبل الستة أشهر حنث
وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يكلمه حينا فإن قيد ذلك بلفظه أو بنيته بزمن تقيد به وإن أطلقه انصرف إلى ستة أشهر روي ذلك عن ابن عباس وهو قول أصحاب الرأي وقال مجاهد و الحكم و مالك وهو سنة لقول الله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } أي كل عام وقال الشافعي و أبو ثور لا قدر له ويبر بأدنى زمن لأن الحين اسم مبهم يقع على القليل والكثير قال الله تعالى : { ولتعلمن نبأه بعد حين } قيل أراد يوم القيامة وقال : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر ؟ } وقال : { فذرهم في غمرتهم حتى حين } وقال { حين تمسون وحين تصبحون } ويقال جئت منذ حين وإن كان أتاه من ساعة
ولنا أن الحين المطلق في كلام الله أقله ستة أشهر قال عكرمة وسعيد بن جبير و أبو عبيد في قوله تعالى : { تؤتي أكلها كل حين } إنه ستة أشهر فيحمل مطلق كلام الآدمي على مطلق كلام الله تعالى ولأنه قول ابن عباس ولا نعلم له مخالفا في الصحابة وما استشهدوا به من المطلق في كلام الله تعالى فما ذكرناه أقله فيحمل عليه لأنه اليقين
فصل : وإن حلف لا يكلمه حقبا فذلك ثمانون عاما وقال مالك أربعون عاما لأن ذلك يروى عن ابن عباس وقال القاضي وأصحاب الشافعي : هو أدنى زمان لأنه لم ينقل فيه عن أهل اللغة تقدير
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } الحقب ثمانون سنة وما ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لا يصح لأن قول ابن عباس حجة ولأن ما ذكروه يفضي إلى حمل كلام الله تعالى : { لابثين فيها أحقابا } وقول موسى : { أو أمضي حقبا } إلى اللكنة لأنه أخرج ذلك مخرج التكثير فإذا صار معنى ذلك لابثين فيها ساعات ولحظات أو أمضي لحظات أو ساعات صار مقتضى ذلك التقليل وهو ضد ما أراد الله تعالى بكلامه وضد المفهوم منه ولم يذكره أحد من المفسرين فيما نعلم فلا يجوز تفسير الحقب به
فصل : فإذا حلف لا يكلمه زمنا أو وقتا أو دهرا أو عمرا أو مليا أو طويلا أو بعيدا أو قريبا بر بالقليل والكثير في قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي لأن هذه الأسماء لا حد لها في اللغة وتقع على القليل والكثير فوجب حمله على أقل ما يتناوله اسمه وقد يكون القرب بعيدا بالنسبة إلى ما هو أقرب منه وقريبا بالنسبة إلى ما هو أبعد منه ولا يجوز التحديد بالتحكم إنما يصار إليه بالتوقيف ولا توقيف ههنا فيجب حمله على اليقين وهو أقل ما يتناوله الإسم
وقال ابن أبي موسى الزمان ثلاثة أشهر وقال طلحة العاقولي الحين والزمان والعمر واحد لأنهم لا يفرقون في العادة بينها والناس يقصدون بذلك التبعيد فلو حمل على القليل حمل على خلاف قصد الحالف والدهر يحتمل أنه كالحين أيضا لهذا المعنى وقال في بعيد ومليء وطويل هو أكثر من شهر وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك ضد القليل ولا يجوز حمله على ضده ولو حمل العمر على أربعين عاما كان حسنا لقول الله تعالى مخبرا عن نبيه عليه السلام : { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } وكان أربعين سنة فيجب حمل الكلام عليه ولأن العمر في الغالب لا يكون إلا مدة طويلة فلا يحمل على خلاف ذلك
فصل : فإن حلف لا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان فذلك على الأبد لأن ذلك بالألف واللام وهي للاستغراق فتقتضي الدهر كله
فصل : فإن حلف على أيام فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع قال الله تعالى : { واذكروا الله في أيام معدودات } وفي أيام التشريق وإن حلف على أشهر فهي ثلاثة لأنها أقل الجمع وإن حلف على شهور فاختار أبو الخطاب أنها ثلاثة لذلك وقال غيره يتناول اثني عشر شهرا لقول الله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } ولأن الشهور جمع الكثرة وأقله عشرة فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة
مسألة : قال : وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت فقضاه قبله لم يحنث إذا كان أراد بيمينه ألا يجاوز ذلك الوقت
وبهذا قال أبو حنيفة و محمد و أبو ثور وقال الشافعي يحنث إذا قضاه قبله لأنه ترك فعل ما حلف عليه مختارا فحنث كما لو قضاه بعده
ولنا أن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضى قبل خروج الغد وزاد خيرا ولأن مبني الأيمان على النية ونية هذا بيمينه ترك تعجيل القضاء قبل خروج الغد فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به فإن لم تكن له نية رجع إلى سبب اليمين فإن كانت تقتضي التعجيل فهو كما لو نواه لأن السبب يدل على النية وإن لم ينو ذلك ولا كان السبب يقتضيه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يبر إلا بقضائه في الغد فلا يبر بقضائه قبله وقال القاضي يبر على كل حال لأن اليمين للحث على الفعل فمتى عجله فقد أتى بالمقصود فيه كما لو نوى ذلك والأول أصح إن شاء الله لأنه ترك فعل ما تناولته يمينه لفظا ولم تصرفها عنه نية ولا سبب فتصرف كما لو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا ويحتمل ما قاله القاضي في القضاء خاصة لأن عرف هذه اليمين في القضاء التعجيل لتصرف اليمين المطلقة إليه
فصل : فأما غير قضاء الحق كأكل شيء أو شربه أو بيع شيء أو شرائه أو ضرب عبد ونحوه فمتى عين وقته ولم ينو ما يقتضي تعجيله ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر إلا بفعله في وقته وذكر القاضي أنه يبر بتعجيله عن وقته وحكي ذلك عن أصحاب أبي حنيفة
ولنا أنه لم يفعل المحلوف عليه في وقته من غير نية تصرف يمينه ولا سبب فيحنث كالصيام ولو فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته وبعضه في وقته لم يبر لأن اليمين في الإثبات لا يبر فيها إلا بفعل جميع المحلوف عليه فترك بعضه في وقته كترك جميعه إلا أن ينوي أن لا يجاوز ذلك الوقت أو يقتضي ذلك سببها
فصل : ومن حلف لا يبيع ثوبه بعشرة فباعه بها أو بأقل منها حنث وإن باعه بأكثر منها لم يحنث وقال الشافعي لا يحنث إذ باعه بأقل لأنه لم يتناوله يمينه
ولنا أن العرف في هذا ألا يبيعه بها ولا بأقل منها بدليل أنه لو وكل في بيعه انسانا وأمره أن لا يبيعه بعشرة لم يكن له بيعه بأقل منها ولأن هذا تنبيه على امتناعه من بيعه بما دون العشرة والحكم يثبت بالبينة كثبوته باللفظ فإن حلف لا اشتريته بعشرة فاشتراه بأقل لم يحنث وإن اشتراه بها أو بأكثر منها حنث لما ذكرنا ومقتضى مذهب الشافعي ألا يحنث إذا اشتراه بأكثر منها لأن يمينه لم تتناوله لفظا
ولنا أنها تناولته عرفا وتنبيها فكان حانثا كما لو حلف : ما له علي حبة فإنه يحنث إذا كان له عليه أكثر منها ويبرأ بيمينه مما زاد عليها كبراءته منها قيل لـ أحمد رجل إن حلف لا ينقص هذا الثوب عن كذا قال قد أخذته ولكن هب لي كذا ؟ قال هذا حيلة قيل له فإن قال البائع بعتك بكذا وأهب لفلان شيئا آخر ؟ قال هذا كله ليس بشيء فكرهه
فصل : فإن حلف ليقضينه حقه في غد فمات الحالف من يومه لم يحنث لما ذكرنا فيما إذا حلف ليضربن عبده في غد فمات من يومه وإن مات المستحق فحكي عن القاضي أنه يحنث لأنه قد تعذر قضاؤه فأشبه ما لو حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد قبل اليوم
وقال أبو الخطاب إن قضى ورثته لم يحنث لأن قضاء ورثته يقوم مقام قضائه في إبراء ذمته فكذلك في البر في يمينه بخلاف ما إذا مات العبد فإنه لا يقوم ضرب غيره مقام ضربه
وقال أصحاب الرأي و أبو ثور تنحل اليمين بموت المستحق ولا يحنث سواء قضى ورثته أو لم يقضهم لأنه تعذر عليه فعل ما حلف عليه بغير اختياره أشبه المكره وقد سبق الكلام على هذا في مسألة من حلف ليضربن عبده غدا فمات العبد اليوم وإن أبرأه المستحق من الحق فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على المكره هل يحنث ؟ على روايتين وإن قضاه عوضا عن حقه لم يحنث عن ابن حامد لأنه قد قضى حقه وقال القاضي يحنث لأنه لم يقضه الحق الذي عليه بعينه
فصل : فإن حلف ليقضينه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو إلى رأس الهلال أو إلى استهلاله أو عند رأس الشهر أو مع رأسه فقضاه عند غروب الشمس من ليلة الشهر بر في يمينه وإن أخر ذلك مع إمكانه حنث وإن شرع في عده أو وكيله أو وزنه فتأخر القضاء لكثرته لم يحنث لأنه لم يترك القضاء وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في هذا الوقت فشرع في أكله فيه فتأخر الفراغ لكثرته لم يحنث لأن أكله كله غير ممكن في هذا الوقت اليسير فكانت يمينه على الشروع فيه في ذلك الوقت أو على مقارنة فعله لذلك الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا
مسألة : قال : ولو حلف ألا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله
وجملة ذلك أنه إذا حلف ليفعلن شيئا لم يبر إلا بفعل جميعه وإن حلف ألا يفعله وأطلق ففعل بعضه ففيه روايتان تقدم ذكرهما وإن نوى فعل جميعه أو كان في يمينه ما يدل عليه لم يحنث إلا بفعل جميعه وإن نوى فعل البعض أو كان في يمينه ما يدل عليه حنث بفعل البعض رواية واحدة فإن حلف لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه فهل يحنث بذلك ؟ فيه روايتان
وإن حلف لا يشرب ماء دجلة أو ماء هذا النهر حنث بشرب أدنى شيء منه لأن شرب جميعه ممتنع بغير يمينه فلا حاجة إلى توكيد المنع بيمينه فتصرف يمينه إلى منع نفسه مما يمكن فعله وهو شرب البعض كما لو حلف لا شربت الماء وبهذا قال أبو حنيفة
وقال أصحاب الشافعي إن حلف على الجنس كالناس والماء والخبز والتمر ونحوه حنث بفعل البعض وإن تناولت قمينه الجميع كالمسلمين والمشركين والمساكين لم يحنث بفعل البعض وإن تناولت اسم جنس يضاف كماء النهر وماء دجلة وجهان ولنا أنه حلف على ما لا يمكنه فعل جميعه فتناولت يمينه بعضه منفردا كاسم الجنس
وإن حلف لا شربت من الفرات فشرب من مائه حنث سواء كرع فيه أو أغترف منه ثم شرب وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد و قال أبو حنيفة لا يحنث حتى يكرع فيه لأن حقيقة ذلك الكرع فلم يحنث بغيره كما لو حلف لا شربت من هذا الإناء فصب منه في غيره وشرب
ولنا أن معنى يمينه أن لا يشرب من ماء الفرات لأن الشرب يكون من مائها ومنها في العرف فحملت اليمين عليه كما لو حلف لا شربت من هذه البئر ولا أكلت من هذه الشجرة ولا شربت من هذه الشاة ويفارق الكوز فان الشرب في العرف منه لأنه آلة للشرب بخلاف النهر وما ذكروه يبطل بالبئر والشاة والشجرة وقد سلموا أنه لو استقى من البئر أو احتلب لبن الشاة أو التقط من الشجرة وشرب وأكل حنث فكذا في مسألتنا
فصل : وإن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه حنث لأنه من ماء الفرات ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه ففيه وجهان
أحدهما : يحنث لأن معنى الشرب منه الشرب من مائه فحنث كما لو حلف لا شربت من مائه وهذا أحد الاحتمالين لأصحاب الشافعي
والثاني : لا يحنث وهو قول ابي حنيفة وأصحابه إلا ابا يوسف فإن عنه رواية أنه يحنث وإنما قلنا أنه لا يحنث لأن ما أخذه النهر يضاف إلى ذلك النهر لا إلى الفرات ويزول بإضافته إليه عن إضافته إلى الفرات فلا يحنث به كغير الفرات
مسألة : قال : ولو قال والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك فهرب منه لم يحنث ولو قال لا افترقنا فهرب منه حنث
أما إذا حلف لا فارقتك ففيه مسائل عشر : إحداها : أن يفارقه الحالف مختارا فيحنث بلا خلاف سواء أبرأه من الحق أو فارقه والحق عليه لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه والثانية : فارقه مكرها فينظر فإن حمل مكرها حتى حق بينهما لم يحنث وإن أكره بالضرب والتهديد لم يحنث وفي قول أبي بكر يحنث وفي الناسي تفصيل ذكرناه فيما مضى
الثالثة : هرب منه الغريم بغير اختياره فلا يحنث وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أنه يحنث لأن معنى يمينه ألا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت
ولنا أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة وما فعل ولا فعل بإختياره فلم يحنث كما لو حلف لا قمت فقام غيره
الرابعة : أذن له الحالف في الفرقة ففارقه فمفهوم كلام الخرقي أنه يحنث وقال الشافعي لا يحنث قال القاضي وهو قول الخرقي لأنه لم يفعل الفرقة التي حلف أنه لا يفعلها
ولنا أن معنى يمينه لألزمنك فإذا فارقه بإذنه فما لزمه ويفارق ما إذا هرب منه لأنه فر بغير اختياره وليس هذا قول الخرقي ولأن الخرقي قال فهرب منه فمفهومه أنه إذا فارقه بغير هرب أنه يحنث
الخامسة : وفارقه من غير إذن ولا هرب على وجه يمكنه ملازمته والمشي معه وإمساكه فلم يفعل فالحكم فيها كالتي قبلها
السادسة : قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه وفاه فخرج رديئا أو بعضه فيخرج في الحنث روايتان بناء على الناسي ولـ لشافعي قولان كالروايتين أحدهما : يحنث وهو قول مالك لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختارا والثاني : لا يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفا وإن وجد أكثرها نحاسا فإنه يحنث وإن وجدها مستحقة فأخذها صاحبها خرج أيضا على الراويتين في الناسي لأنه ظان أنه مستوف حقه فأشبه ما لو وجدها ردئية وقال أبو ثور وأصحاب الرأي لا يحنث وإن علم بالحال ففارقه حنث لأنه لم يوفه حقه
السابعة : فلسه الحاكم ففارقه نظرت فإن ألزمه الحاكم فهو كالمكره وإن لم يلزمه مفارقته لكنه فارقه لعلمه بوجوب مفارقته حنث لأنه فارقه من غير إكراه فحنث كما لم حلف لا يصلي فوجبت عليه صلاة فصلاها
الثامنة : أحاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يحنث لأنه قد برىء إليه منه
ولنا أنه ما استوفى حقه بدليل أنه لم يصل إليه شيء ولذلك يملك المطالبة به فحنث كما لو لم يحله فإن ظن أنه قد بر بذلك ففارقه أبو الخطاب يخرج على الروايتين والصحيح أنه يحنث لأن هذا جهل بحكم الشرع فيه فلا يسقط عنه الحنث كما لوجهل كون هذه اليمين موجبة للكفارة فأما إن كانت يمينه لا فارقتك ولي قبلك حق فأحاله به ففارقه لم يحنث لأنه لم يبق له قبله حق وإن أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ففارقه حنث بلا إشكال لأنه يملك مطالبة الغريم
التاسعة : قضاه عن حقه عوضا عنه ثم فارقه فقال ابن حامد لا يحنث وهو قول أبي حينفة لأنه قد قضاه حقه وبرىء إليه منه بالقضاء وقال القاضي يحنث لأن يمينه على نفس الحق وهذا بدله وإن كانت يمينه لا فارقتك حتى تبرأ من حقي أو لي قبلك حق لم يحنث وجها واحدا لأنه لم يبق له قبله حق وهذا مذهب الشافعي والأول أصح لأنه قد استوفى حقه
العاشرة : وكل وكيلا يستوفي له حقه فإن فارقه قبل استيفاء الوكيل حنث لأنه فارقه قبل استيفاء حقه وإن استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث لأن استيفاء وكيله استيفاء له يبرأ به غريمه ويصير في ضمان الموكل
فصل : فأما إن قال لا فارقتني حتى استوفي حقي منك نظرت فإن فارقه المحلوف عليه مختارا حنث وإن أكره على فراقه لم يحنث وإن فارقه الحالف مختارا حنث إلا على ما ذكره القاضي في تأويل كلام الخرقي وهو مذهب الشافعي وسائر الفروع تأتي ههنا على نحو ما ذكرناه
فصل : وإن كانت يمينه لا فترقنا فهرب منه المحلوف عليه حنث لأن يمينه تقتضي إلا تحصل بينهما فرقة بوجه وقد حصلت الفرقة بهربه وإن أكرها على الفرقة لم يحنث إلا على قول من لم ير الإكراه عذرا
فصل : فإن حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك فابرأه الغريم منه فهل يحنث ؟ على وجهين بناء على المكره وإن كان الحق عينا فوهبها له الغريم فقبلها حنث لأنه ترك أيفاءها له بإختياره وإن قبضها منه ثم وهبها إياه لم يحنث وإن كانت يمينه لا فارقتك ولك قبلي حق لم يحنث إذا أبرأه أو وهب العين له
فصل : والفرقة في هذا كله ما عده الناس فراقا في العادة وقد ذكرنا الفرقة في البيع وما نواه بيمينه مما يحتمله لفظه فهو على ما نواه والله أعلم
مسألة : قال : ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك على كل مرة إلا أن يكون نوى مرة
وجملته إن من قال لزوجته إن خرجت إلا بإذني أو بغير إذني فأنت طالق أو قال إن خرجت إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك أو إلى آذن لك فالحكم في هذه الألفاظ الخمسة أنها متى خرجت بغير إذنه طلقت وانحلت يمينه لأن حرف أن لا يقتضي تكرارا فإذا حنث مرة انحلت كما لو قال أنت طالق إن شئت وإن خرجت بإذنه لم يحنث لأن الشرط ما وجد وليس في هذا اختلاف ولا تنحل اليمين فمتى خرجت بعد هذا بغير إذنه طلقت
وقال الشافعي تنحل فلا يحنث بخروجها بعد ذلك لأن اليمين تعلقت بخروج واحد بحرف لا يقتضي التكرار وإذا وجد بغير إذن حنث وإن وجد بإذن بر لأن البر يتعلق بما يتعلق به الحنث
وقال أبو حنيفة في قوله إن خرجت إلا بإذني أو بغير إذني كقولنا لأن الخروج بإذنه في هذين الموضعين مستثنى من يمينه فلم يدخل فيها ولم يتعلق به بر ولا حنث وإن قال ان خرجت إلا أن آذن لك أو حتى آذن لك أو إلى أن آذن لك متى أذن لها انحلت يمينه ولم يحنث بعد ذلك بخروجها بغير إذنه لأنه جعل الإذن فيها غاية ليمينه وجعل الطلاق معلقا على الخروج قبل إذنه فمتى أذن انتهت غاية يمينه وزال حكمها كما لو قال أن خرجت إلى أن تطلع الشمس أو إلا أن تطلع الشمس أو حتى تطلع الشمس فأنت طالق فخرجت بعد طلوعها ولأن حرف إلى وحتى للغاية لا للاستثناء
ولنا أنه علق الطلاق على شرط وقد وجد فيقع الطلاق كما لو لم تخرج بإذنه وقولهم قد بر غير صحيح لوجهين أحدهما : أن المأذون فيه مستثنى من يمينه غير داخل فيها فكيف يبر ألا ترى أنه لو قال لها أن كلمت رجلا إلا أخاك أو غير أخيك فأنت طالق فكلمت أخاها ثم كلمت رجلا آخر فإنها تطلق ولا تنحل يمينه بتكليمها أخاها ؟
والثاني : أن المحلوف عليه خروج موصوف بصفة ولا تنحل اليمين بوجود ما لم توجد فيه الصفة ولا يحنث به فلا يتعلق بما عداه بر ولا حنث كما لو قال خرجت عريانه فأنت طالق أو أن خرجت راكبة فأنت طالق فخرجت مستترة ماشية لم يتعلق به بر ولا حنث ولأنه لو قال لها إن كلمت رجلا فاسقا أو من غير محارمك فأنت طالق لم يتعلق بتكليمها لغير من هو موصوف بتلك الصفة بر ولا حنث فكذلك في الأفعال وقولهم تعلقت اليمين بخروج واحد قلنا إلا أنه خروج موصوف بصفة فلا تنحل اليمين بوجود غيره ولا يحنث به
وأما قول أصحاب أبي حنيفة أن الألفاظ الثلاثة ليست من ألفاظ الاستثناء قلنا قوله إلا أن آذن لك من ألفاظ الاستثناء واللفظتان الأخريان في معناه في إخراج المأذون ن يمينه فكان حكمهما كحكمه هذا الكلام فيما إذا أطلق فإن نوى تعليق الطلاق على خروج واحد تعلقت يمينه به وقبل قوله في الحكم لأنه فسر لفظه بما يحتمله إحتمالا غير بعيد وإن أذن لها مرة واحدة ونوى الإذن في كل مرة فهو على ما نوى وقد نقل عبد الله بن أحمد عن ابيه إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه أذن لها مرة فهو أذن لكل مرة وتكون يمينه على ما نوى وإن قال كلما خرجت فهو بإذني أجزأه مرة واحدة وإن نوى بقوله إلى أن آذن لك أو حتى آذن لك والغاية وأن الخروج المحلوف عليه ما قبل الغاية دون ما بعدها قبل قوله وانحلت يمينه بالإذن لنيته فإن مبني الأيمان على النية
فصل : وإن قال إن خرجت بغير إذني فأنت طالق فأذن لها ثم نهاها فخرجت طلقت لأنها خرجت بغير إذنه وكذلك إن قال إلا بإذني وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه قد أذن ولا يصح لأن نهيه قد ابطل إذنه فصارت خارجة بغير إذنه وكذلك لو أذن لوكيله في بيع ثم نهاه عنه فباعه كان باطلا وإن قال إن خرجت بغير إذني لغير عيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض ثم تشاغلت بغيره أو قال إن خرجت إلة غير الحمام بغير إذني فأنت طالق فخرجت إلى الحمام ثم عدلت إلى غيره ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحنث لأنها ما خرجت لغير عيادة مريض ولا إلى غير الحمام وهذا مذهب الشافعي
الثاني : يحنث لأن قصده في الغالب ألا تذهب إلى غير الحمام وعيادة لمريض وقد ذهبت إلى غيرهما ولأن حكم الاستدامة حكم الابتداء ولهذا لو حلف ألا يدخل دارا هو داخلها فأقام فيها حنث في أحد الوجهين وإن قصدت بخروجها الحمام وغيره أو العيادة وغيرها حنث لأنها خرجت لغيرهما وإن قال إن خرجت لا لعيادة مريض فأنت طالق فخرجت لعيادة مريض وغيره لم يحنث لأن الخروج لعيادة مريض وغيره لم يحنث لأن الخروج لعيادة المريض وإن قصدت معه غيره وإن قال إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ثم أذن لها ولم تعلم فخرجت ففيه وجهان :
أحدهما : تطلق وبه قال أبو حنيفة و مالك و محمد بن الحسن
والثاني : لا يحنث وهو قول الشافعي و ابي يوسف لأنها أخرجت بعد وجود الأذن من جهته فلم يحنث كما لو علمت به ولأنه لو عزل وكيله انعزل وإن لم يعلم بالغزل فكذلك تصير مأذونا لها وإن لم تعلم ووجه الأول إن الأذن إعلام وكذلك قيل في قوله : { آذنتكم على سواء } أي أعلمتكم فاستويا في العلم { وأذان من الله ورسوله } أي أعلام : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فاعلموا به واشتقاقه من الإذن يعني أوقعته في أذنك واعلمتك به ومع عدم العلم لا يكون إعلاما فلا يكون إذنا ولأن إذن الشارع في أوامره ونواهيه لا يثبت إلا بعد العلم بها كذلك إذن الآدمي وعلى هذا يمنع وجود الإذن من جهته
فصل : فإن حلف عليه أن لا تخرج من هذه الدار إلا بإذنه فصعدت سطحها أو خرجت إلى صحنها لم يحنث لأنها لم تخرج من الدار وإن حلف لا تخرج من البيت فخرجت إلى الصحن أو إلى سطحه حنث وهذا مقتضى مذهب الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولو حلف على زوجته لا تخرج ثم حملها فأخرجها فإن أمكنها الامتناع فلم تمتنع حنث وقال الشافعي لا يحنث لأنها لم تخرج إنما أخرجت
ولنا أنها خرجت مختارة فحنث كما لو أمرت من حملها والدليل على خروجها إن الخروج الانفصال من داخل إلى خارج وقد وجد ذلك وما ذكره يبطل بما إذا أمرت من حملها فأما إن لم يمكنها الامتناع فيحتمل أن لا يحنث وهو قول أصحاب الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي لأن الخروج لا ينسب إليها فأشبه ما لو حملها غير الحالف ويحتمل أن يحنث لأنه مختار لفعل ما حلف على تركه وإن حلف لا تخرجي إلا بإذن زيد فمات زيد ولم يأذن فخرجت حنث الحالف لأنه علقه على شرط ولم يوجد ولا يجوز فعل المشروط
مسألة : قال : ولو حلف ألا يأكل هذا الرطب فأكله تمرا حنث وكذلك كل ما تولد من ذلك الرطب
وجملة ذلك أنه إذا حلف على شيء عينه بالإشارة مثل أن حلف لا يأكل هذ الرطب لم يخل من حالين أحدهما : أن يأكله رطبا فيحنث بلا خلاف بين الجميع لكونه فعل ما حلف على تركه صريحا الثاني : ان تتغير صفته وذلك يقسم خمسة أقسام
أحدها : أن تستحيل اجزاؤه ويتغير اسمه مثل أن يحلف لا أكلت هذه البيضة فصارت فرخا أو لا اكلت هذه الحنطة فصارت زرعا فأكله فهذا لا يحنث لأنه زال واستحالت أجزاؤه وعلى قياسه إذا حلف لا شربت هذا الخمر فصارت خلا فشربه
القسم الثاني : تغيرت صفته وزال اسمه مع بقاء أجزائه مثل أن يحلف لا آكل هذا الرطب فصار تمرا ولا أكلم هذا الصبي فصار شيخا ولا آكل هذا الحمل فصار كبشا أو لا آكل هذا الرطب فصار دبسا أو خلا أو ناطقا أو غيره من الحلواء ولا يأكل هذه الحنطة فصارت دقيقا أو سويقا أو خبزا أو هريسة أو لا أكلت هذا العجين أو هذا الدقيق فصار خبزا أو لا أكلت هذا اللبن فصار سمنا أو جبنا أو كشكا أو لا دخلت هذه الدار فصارت مسجدا أو حماما أو فضاء ثم دخلها أو أكله حنث في جميع ذلك وبه قال أبو حنيفة فيما إذا حلف لا كملت هذا الصبي فصار شيخا ولا أكلت هذا الحمل فصار كبشا ولا دخلت هذه الدار فدخلها بعد تغيرها وقال به أبو يوسف في الحنطة إذا صارت دقيقا ولـ لشافعي في الرطب إذا صار تمرا والصبي إذا صار شيخا والحمل إذا صار كبشا وجهان وقالوا في سائر الصور لا يحنث لأن اسم المحلوف عليه وصورته زالت فلم يحنث كما لو حلف لا يأكل هذه البيضة فصارت فرخا
ولنا أن عين المحلوف عليه باقية فحنث بها كما لو حلف لا أكلت هذا الحمل فأكل لحمه أو لا لبست هذا الغزل فصار ثوبا فلبسه أو لا لبست هذا الرداء فلبسه بعد أن صار قميصا أو سراويل وفارق البيضة إذا صارت فرخا لأن أجزاءها استحالت فصارت عينا أخرى ولم تبق عينها ولأنه لا اعتبار بالإسم مع التعيين كما لو حلف لا كلمت زيدا هذا فغير اسمه لا كلمت صاحب هذ الطيلسان فكلمه بعد بيعه ولأنه متى اجتمع التعيين مع غيره مما رعف به كان الحكم للتعيين كما لو اجتمع مع الإضافة
القسم الثالث : تبدلت الإضافة مثل أن حلف لا كلمت زوجة زيد هذه ولا عبده هذا ولا دخلت داره هذه فطلق الزوجة وباع العبد والدار فكلمهما ودخل الدار حنث وبه قال مالك و الشافعي و محمد وزفر وقال أبو حنيفة و أبو يوسف لا يحنث إلا في الزوجة لأن الدار لا توالي ولا تعادي وإنما الامتناع لأجل مالكها فتعلقت اليمين بها مع بقاء ملكه عليها وكذلك العبد في الغالب
ولنا أنه إذا اجتمع في اليمين التعيين والإضافة كان الحكم للتعيين كما لو قال والله لا كلمت زوجة فلان ولا صديقه وما ذكروه لا يصح في العبد لأنه يوالي ويعادي ويلزمه في الدار إذا أطلق ولم يذكر مالكها فإنه يحنث بدخولها بعد بيع مالكها إياها
القسم الرابع : إذا تغيرت صفته بما يزيل اسمه ثم عادت كمقص انكسر ثم أعيد وقلم انكسر ثم بري وسفينة تفصمت ثم أعيدت ودار هدمت ثم بنيت واسطوانة نقضت ثم أعيدت فإنه يحنث لأن أجزاءها واسمها موجود فأشبه ما لو لم تتغير
القسم الخامس : إذا تغيرت صفته بما لم يزل اسمه كلحم شوي أو طبخ وعبد بيع ورجل مرض فإنه يحنث به بلا خلاف نعلمه لأن الإسم الذي علق عليه اليمين لم يزل ولا زال التغير فحنث به كما لو لم يتغير حاله
فصل : وإن قال والله لا كلمت سعدا زوج هند أو سيد صبيح أو صديق عمرو أو مالك هذه الدار أو صاحب هذا الطيلسان أو لا كلمت هند امرأة سعد أ وصبيحا عبده أو عمرا صديقه فطلق الزوجة وباع العبد والدار والطيلسان وعادى عمرا وكلمهم حنث لأنه متى اجتمع الإسم والإضافة غلب الإسم بجريانه مجرى التعيين لتعريف المحل
فصل : ومتى نوى بيمينه في هذه الأشياء ما دام على تلك الصفة أو الإضافة أو لم يتغير فيمينه على ما نواه ل [ قوله عليه السلام : وإنما لامرىء ما نوى ] والله أعلم
مسألة : قال : ولو حلف ألا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث
وجملة ذلك أنه إذا لم يعين المحلوف ولم ينو بيمينه ما يخالف ظاهر اللفظ ولا صرفه السبب عنه تعلقت يمينه بما تناوله الإسم الذي علق يمينه ولم يتجاوزه فإذا حلف ألا يأكل تمرأ لم يحنث إذا أكل رطبا ولا بسرا ولا بلحا وإذا حلف لا يأكل رطبا لم يحنث إذا أكل تمرا ولا بسرا ولا بلحا ولا سائر ما لا يسمى رطبا وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا
فصل : ولو حلف لا يأكل عبنا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطفا أو لا يكلم شابا فكلم شيخا أو لا يشتري جديا فاشترى تيسا أو لا يضرب عبدا فضرب عتيقا لم يحنث بغير خلاف لأن اليمين تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة فجرى مجرى قوله لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها
فصل : فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا وهو الذي بعضه بسر وبعضه تمر أو مذنبا وهو الذي بدأ فيه الإرطاب من ذنبه وباقيه بسر أو حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك حنث وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد و الشافعي وقال أبو يوسف وبعض أصحاب الشافعي لا يحنث لأنه لا يسمى رطبا ولا تمرا
ولنا أنه أكل رطبا وبسرا فحنث كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردتين وما ذكروه لا يصح فإن القدر الذي أرطب رطب والباقي بسر ولو أنه حلف لا يأكل الرطب فأكل القدر الذي أرطب من النصف حنث ولو حلف لا يأكل البسر فأكل البسر الذي في النصف حنث وإن أكل البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد منهما وإن حلف واحد ليأكلن رطبا وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل الرطب ما في المنصف من الرطبة وأكل الآخر باقيها برا جميعا وإن حلف ليأكلن رطبة أو بسرة أو لا يأكل ذلك فأكل منصفا لم يبر ولم يحنث لأنه ليس فيه رطبة ولا بسرة
فصل : وإن حلف لا يأكل لبنا فأكل من لبن الانعام أو الصيد أو لبن آدمية حنث لأن الإسم يتناوله حقيقة وعرفا وسواء كان حليبا أو رائبا أو مائعا أو مجمدا لأن الجميع لبن ولا يحنث بأكل الجبن والسمن والمصل والأقط والكشك ونحوه فإن أكل زبدا لم يحنث نص عليه وقال القاضي يحتمل أن يقال في الزبد إن ظهر فيه لبن حنث لا بأكله زبدا وإلا فلا كما قلنا فيمن حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن وهذا مذهب الشافعي وإن حلف ألا يأكل زبدا فأكل سمنا أو لبنا لم يظهر فيه الزبد لم يحنث وإن كان الزبد ظاهرا فيه حنث وإن أكل جبنا لم يحنث وكذلك سائر ما يصنع من اللبن وإن حلف لا يأكل سمنا فأكل زبدا أو لبنا أو شيئا مما يصنع من اللبن سوى السمن لم يحنث وإن أكل السمن منفردا أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ فظهر فيه طعمه حنث ولذلك إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل طبيخا فيه لبن أو لا يأكل خلا فأكل طبيخا فيه خل يظهر طعمه فيه حنث وبهذا قال الشافعي وقال بعض أصحابه لا يحنث لأنه لم يفرده بالأكل ولا يصح لأنه أكل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث كما لو أكله ثم كل غيره
فصل : وإن حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها حبات شعير حنث لأنه أكل شعيرا فحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا ويحتمل أن لا يحنث لأنه يستهلك في الحنطة فأشبه السمن في الخبيص وإن نوى بيمينه ألا يأكل الشعير منفردا أو كان سبب يمينه يقتضي ذلك أو يقتضي أكل شعير يظهر أثر أكله لم يحنث إلا بذلك لما قدمنا
فصل : فإن حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل كل ما يسمى فاكهة وهي كل ثمرة تخرج من الشجرة يتفكه بها من العنب والرطب والرمان والسفرجل والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والأترج والتوت والنبق والموز والجوز والجميز وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة و أبو ثور لا يحنث بأكل ثمرة النخل والرمان لقول الله تعالى : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } والمعطوف يغاير المعطوف عليه
ولنا أنهما ثمرة شجرة يتفكه بهما فكانا من الفاكهة كسائر ما ذكرنا ولأنهما في عرف الناس فاكهة ويسمى بائعهما فاكهانيا وموضع بيعهما دار الفاكهة والأصل في العرف الحقيقة والعطف لشرفهما وتخصيصهما كقوله تعالى : { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وهما من الملائكة فأما يابس هذه الفواكه كالزبيب والتمر والتين والمشمش اليابس والإجاص ونحوها فهو من الفاكهة لأنه ثمر شحرة يتفكه بها ويحتمل أنه ليس منها لأنه يدخر ومنه ما يقتات فأشبه الحبوب والزيتون ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه بأكله وإنما المقصود زيته وما يؤكل منه يقصد به التأدم لا التفه والبطم في معناه لأن المقصود زيته ويحتمل أنه فاكهة لأنه ثمر شجر يؤكل غضا ويابسا على جته فأشبه التوت والبلوط ليس بفاكهة لأنه لا يتفكه به وإنما يؤكل عند المجاعة أو التداوي وكذلك سائر ثمر شجر البر الذي لا يستطاب كالزعرور الأحمر وثمر القيقب والعفص وحب الآس ونحوه وإن كان فيها ما يستطاب كحب الصنوبر فهو فاكهة لأنه ثمر شجرة يتفكه به
فصل : فأما القثاء والخيار والقرع والباذنجان فهو من الخضر وليس بفاكهة وفي البطيخ وجهان
أحدهما : هو من الفاكهة ذكره القاضي وهو قول الشافعي و أبي ثور لأنه ينضج ويحلو أشبه ثمر الشجر
الثاني : ليس من الفاكهة لأنه ثمر بقلة أشبه الخيار والقثاء وأما ما يكون في الأرض كالجزر واللفت والفجل والقلقاس والسوطل ونحوه فليس شيء من ذلك فاكهة لأنه لا يسمى بها ولا هو في معناها
فصل : وإن حلف لا يأكل أدما حنث بأكل كل ما جرت العادة بأكل الخبز به لأن هذا معنى التأدم وسواء في هذا ما يصطبغ كالطبيخ والمرق والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال الله تعالى في الزيت : { وصبغ للآكلين } وقال عليه السلام : [ نعم الادام الخل ـ وقال ـ ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة ] رواه ابن ماجة أو من الجامدات كالشواء والجبن والباقلاء والزيتون والبيض وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و أبو يوسف : ما لا يصطبغ به فليس بأدم لأن كل واحد منهما يرفع إلى ا لفم منفردا
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سيد الإدام اللحم ] وقال : [ سيد ادامكم الملح ] رواه ابن الماجة لأنه يؤكل به الخبز عادة فكان ادما كالذي يصطبغ به ولأن كثيرا مما ذكرنا لا يؤكل في العادة وحده إنما بعد للتأدم به وأكل الخبز به فكان أدما كالخل واللبن وقولهم أنه يرفع إلى الفم وحده مفردا عنه جوابان أحدهما : أن منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه
والثاني : أنهما يحتمعان في الفم والمضغ والبلع الذي هو حقيقة الأكل فلا يضر افتراقهما قبله فأما التمر ففيه وجهان
أحدهما : هو أدم لما [ روى يوسف عن عبد الله بن سلام قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وضع تمرة على كسرة وقال : هذه ادام هذه ] رواه أبو داود وذكره الإمام أحمد
والثاني : ليس بأدم لأنه لا يؤتدم به عادة إنما يؤكل قوتا أو حلاوة وإن أكل الملح مع الخبز فهو ادام لما ذكرنا من الخبز ولأنه يؤكل به الخبز ولا يؤكل منفردا عادة أشبه الجبن والزيتون
فصل : فإن حلف لا يأكل طعاما فأكل ما يسمى طعاما من قوت وأدم وحلواء وتمر وجامد ومائع حنث قال الله تعالى : { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } وقال تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه } يعني على محبة الطعام لحاجتهم إليه وقيل على حب الله تعالى وقال الله تعالى : { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير } وسمى النبي صلى الله عليه و سلم : [ اللبن طعاما ] وقال : [ إنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم ] وفي الماء وجهان :
أحدهما : هو طعام لقول الله تعالى : { إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } والطعام ما يطعم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم سمى اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء
والثاني : ليس بطعام لأنه لا يسمى طعاما ولا يفهم من إطلاق اسم الطعام ولهذا يعطف عليه فيقال طعام وشراب وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إني لا أعلم ما يجزىء من الطعام والشراب إلا اللبن ] ورواه ابن ماجة ويقال باب الأطعمة والأشربة ولأنه إن كان طعاما في الحقيقة فليس بطعام في العرف فلا يحنث بشربه لأن مبني الأيمان على العرف لكون الحالف في الغالب لا يريد بلفظه إلا ما يعرفه فإن أكل دواء ففيه وجهان :
أحدهما : يحنث لأنه يطعم حال الاختيار وهذا مذهب الشافعي
والثاني : لا يحنث لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام ولا يؤكل إلا عند الضرورة فإن أكل من نبات الأرض ما جرت العادة بأكله حنث وإن أكل ما لا يجزئه عادة كورق الشجر ونشارة الخشب احتمل وجهين :
أحدهما : يحنث لأنه قد أكله فأشبه ما جرت العادة بأكله ولأنه روي عن عتبة بن غزوان أنه قال : لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم سابع سبعة مالنا طعام إلا ورق الحبلة حتى قرحت أشداقنا والثاني : لا يحنث لأنه لا يتناوله اسم الطعام في العرف
فصل : فإن حلف لا يأكل قوتا فأكل خبزا أو تمرا أو زبيبا أو لحما أو لبنا حنث لأن كل واحد من هذه يقتات في بعض البلدان ويحتمل أن لا يحنث إلا بأكل ما يقتاته أهل بلده لأن يمينه تنصرف إلى القوت لمتعارف عندهم في بلدهم ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإن أكل سويقا أو استف دقيقا حنث لأنه لا يقتات كذلك ولهذا قال بعض اللصوص
( لا تخبزا خبزا وبسابسا ... ولا تطيلا بمقام حبسا )
وإن أكل حبا يقتات خبزه لأنه يسمى قوتا ولذلك روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يدخر قوت عياله لسنة وإنما يدخر الحب ويحتمل أن لا يحنث لأنه لا يقتات كذلك وإن أكل عنبا أو حصرما أو خلا لم يحنث لأنه لم يصر قوتا
فصل : فإن حلف لا يملك مالا حنث بملك كل ما يسمى مالا سواء كان من الأثمان أو غيرها من العقار والأثاث والحيوان وبهذا قال الشافعي وعن أحمد أنه إذا نذر الصدقة بجميع ماله إنما يتناول نذره الصامت من ماله ذكرها ابن أبي موسى لأن إطلاق المال ينصرف إليه
وقال ابو حنيفة لا يحنث إلا أن ملك مالا زكويا استحسانا لأن الله تعالى قال : { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } فلم يتناول إلا الزكوية
ولنا أن غير الزكوية أموال قال الله تعالى : { أن تبتغوا بأموالكم } وهي مما يجوز ابتغاء النكاح بها [ وقال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه و سلم أن أحب أموالي إلي بيرجاء يعني حديقة وقال عمر أصبت مالا بأرض خيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه وقال أو قتادة اشتريت مخرفا فكان أول مال تأثلته وفي الحديث : خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة ] ويقال خير المال عين خرارة في أرض خوارة ولأنه يسمى مالا فحنث به كالزكوي وأما قوله : { وفي أموالهم حق } فالحق ههنا غير الزكاة لأن هذه الآية مكية نزلت قبل فرض الزكاة فإن الزكاة إنما فرضت بالمدينة ثم لو كان الحق الزكاة فلا حجة فيها فإن الحق إذا كان في بعض المال فهو في المال كما إن من هو في بيت من دار أو في بلدة فهو في الدار والبلدة قال الله عز و جل : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } ولا يلزم أن يكون في كل أقطارها ثم لو اقتضى هذا العموم لوجب تخصيصه فإن ما دون النصاب مال ولا زكاة فيه فإن حلف لا مال له وله دين حنث ذكره أبو الخطاب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأنه لا ينتفع به
ولنا أنه ينعقد عليه حول الزكاة ويصح اخراجها عنه ويصح التصرف فيه بالابراء والحوالة والمعاوضة عنه لمن هو في ذمته والتوكيل في استيفائه فيحنث به كالمودع وإن كان له مال مغصوب حنث لأنه باق على ملكه فإن كان له مال ضائع ففيه وجهان أحدهما : يحنث لأن الأصل بقاؤه على ملكه والثاني : لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه وإن ضاع على وجه قد يئس من عوده كالذي يسقط في بحر لم يحنث لأن وجوده كعدمه ويحتمل أن لا يحنث في كل موضع لا يقدر على أخذ ماله كالمجحود والمغصوب والذي على غير مليء لأنه لا نفع فيه وحكمه حكم المعدوم في جواز الأخذ من الزكاة وانتفاء وجوب أدائها عليه عنه وإن تزوج لم يحنث لأنه ما يملكه ليس بمال وإن وجب له حق شفعة لم يحنث لأنه لم يثبت له الملك به وإن استأجر عقارا أو غيره لم يحنث لأنه لا يسمى مالكا لمال
مسألة : قال : ولو حلف لا يأكل لحما فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم فيحنث بأكل الشحم
وجملته أن الحالف على ترك أكل اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم من الشحم والمخ وهو الذي في العظام والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد والطحال والرئة والقلب والكرش والمصران والقانصة ونحوها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك يحنث بأكل هذا كله لأنه لحم حقيقة ويتخذ منه ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ
ولنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه بإسمه وصفته ولو أمر وكيله بشراء لحم فاشترى هذا لم يكن ممتثلا لأمره ولا بنفذ الشراء للموكل فلم يحنث بأكله كالبقل [ وقد دل على أن الكبد والطحال ليستا بلحم قول النبي صلى الله عليه و سلم : أحلت لنا ميتتان ودمان أما الدمان فالكبد والطحال ] ولا نسلم أنه لحم حقيقة بل هو من الحيوان مع اللحم كالعظم والدم فأما إن قصد اجتناب الدسم حنث بأكل الشحم لأن له دسما وكذلك المخ وكل ما فيه دسم
فصل : ولا يحنث بأكل الآلية وقال بعض أصحاب الشافعي يحنث لأنها نابته في اللحم وتشبهه في الصلابة وليس بصحيح لأنها لا تسمى لحما ولا يقصد بها ما يقصد به وتخالفه في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها كشحم البطن فأما الشحم الذي على الظهر والجنب وفي تضاعيف اللحم فلا يحنث بأكله في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال اللحم لا يخلو من شحم يشير إلى ما يخالط اللحم مما تذيبه النار وهذا كذلك وهذا قول طلحة العاقولي وممن قال هذا شحم أبو يوسف ومحمد وقال القاضي هو لحم يحنث بأكله ولا يحنث بأكله من حلف لا يأكل شحما وهذا مذهب الشافعي لأنه لا يسمى شحما ولا بائعه شحاما ولا يفرد عن اللحم مع الشحم ويسمى بائعه ويسمى لحاما سمينا ولو وكل في شراء لحم فاشتراه الوكيل لزمه ولو اشتراه الوكيل في شراء الشحم لم يلزمه
ولنا قوله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم } ولأنه يشبه الشحم في صفته وذوبه ويسمى دهنا فكان شحما كالذي في البطن ولا نسلم أنه لا يسمى شحما ولا أنه يسمى بمفرده لحما وإنما يسمى اللحم الذي هو عليه لحما سمينا ولا يسمى بائعه شحاما لأنه لا يباع بمفرده وإنما يباع تبعا للحم وهو تابع له في الوجود والبيع فلذلك سمي بائعه لحاما ولم يسم شحاما لأنه سمي بما هو الأصل فيه دون التبع
فصل : وإن أكل المرق لم يحنث ذكره أبو الخطاب قال وقد روي عن احمد أنه قال لا يعجبني الأكل من المرق وهذا على طريق الورع وقال ابن أبي موسى والقاضي يحنث لأن المرق لا يخلو من أجزاء اللحم الذائبة وقد قيل المرق أحد اللحمين
ولنا أنه ليس بلحم حقيقة ولا يطلق عليه اسمه فلم يحنث به كالكبد ولا نسلم أن أجزاء اللحم فيه وإنما فيه ماء اللحم ودهنه وليس ذلك بلحم وأما المثل فإنما أريد به المجاز كما في نظائره من قولهم : الدعاء أحد الصدقتين وقلة العيال أحد اليسارين وهذا دليل على أنها ليست بلحم لأنه جعلها غير اللحم الحقيقي
فإن أكل رأسا أو كارعا فقد روي عن أحمد ما يدل على أنه لا يحنث لأنه روي عنه ما يدل على أن من حلف لا يشتري لحما فاشترى راسا أو كارعا لا يحنث إلا أن ينوي أن لا يشتري من الشاة شيئا قال القاضي لأن إطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والكوارع ولو وكله في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعا لم يلزمه ويسمى بائع ذلك رآسا ولا يسمى لحاما وقال أبو الخطاب يحنث بأكل لحم الخد لأنه لحم حقيقة وحكي عن أبي موسى أنه لا يحنث إلا أن ينويه باليمن وإن أكل اللسان احتمل وجهين أحدهما : يحنث لأنه لحم حقيقة والثاني : لا يحنث لأنه ينفرد عن اللحم بإسمه وصفته فأشبه القلب
مسألة : قال : فإن حلف ألا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث لأن اللحم لا يخلو من شحم
ظاهر كلام الخرقي أن الشحم كل ما يذوب بالنار مما في الحيوان فظاهر الآية والعرف يشهد لقوله وهذا ظاهر قول أبي الخطاب وطلحة وقال به أبو يوسف ومحمد بن الحسن فعلى هذا لا يكاد لحم يخلو من شيء منه وإن قل فيحنث به وقال القاضي الشحم هو الذي في الجوف من شحم الكلى أو غيره وإن أكل من كل شيء من الشاة من لحمها الأحمر والأبيض والألية والكبد والطحال والقلب فقال شيخنا لا يحنث يعني ابن حامد لأن اسم الشحم لا يقع عليه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وقد سبق الكلام في أن شحم الظهر والجنب شحم فيحنث به وأما أن أكل لحما أحمر وحده لا يظهر فيه شيء من الشحم فظاهر كلام الخرقي أنه يحنث لأنه لا يخلو من شحم وإن قل ويظهر في الطبخ فإنه يبين على وجه المرق وإن قل وبهذا يفارق من حلف لا يأكل سمنا فأكل خبيصا فيه سمن لا يظهر فيه طعمة ولا لونه فإن هذا قد يظهر الدهن فيه وقال غير الخرقي من اصحابنا لا يحنث وهو الصحيح لأنه لا يسمى شحما ولا يظهر فيه طعمة ولا لونه والذي يظهر في المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل اللحم الذي كان فيه
فصل : ويحنث بالأكل من الألية في ظاهر كلام الخرقي وموافقيه لأنها دهن يذوب بالنار ويباع مع الشحم ولا يباع مع اللحم وعلى قول القاضي وموافقيه ليست شحما ولا لحما فلا يحنث به الحالف على تركها
مسألة : قال : وإذا حلف ألا يأكل لحما ولم يرد لحما بعينه فأكل من لحم الانعام أو الطيور أو السمك حنث
أما إذا أكل من لحم الانعام أو الصيد أو الطائر فإنه يحنث في قول عامة علماء الأمصار وأما السمك فظاهر المذهب أنه يحنث بأكله وبهذا قال قتادة و الثوري و مالك و أبو يوسف وقال ابن أبي موسى في الإرشاد لا يحنث به إلا أن ينويه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي و أبي ثور لأنه لا ينصرف إليه إطلاق اسم اللحم ولو وكل وكيلا في شراء اللحم فاشترى له سمكا لم يلزمه ويصح أن ينفى عنه الإسم فيقول ما أكلت لحما وإنما أكت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الإطلاق كما لو حلف لأقعدت تحت سقف فإنه لا يحنث بالقعود تحت السماء وقد سماها الله تعالى سقفا محفوظا لأنه مجاز كذا ههنا
ولنا قول الله تعالى : { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا } وقال : { ومن كل تأكلون لحما طريا } ولأنه من جسم حيوان ويسمى لحما فحنث بأكله كلحم الطائر وما ذكروه يبطل بلحم الطائر وإما السماء فإن الحالف ألا يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحتها فيعلم أنه لم يردها بيمينه ولأن التسمية ثم مجاز وههنا هي حقية لكونه من جسم حيوان يصلح للأكل فكان الإسم فيه حقيقة كلحم الطائر حيث قال الله تعالى : { ولحم طير مما يشتهون }
فصل : ويحنث بأكل اللحم المحرم كلحم الميتة والخنزير والمغصوب وبه قال ابو حنيفة وقال الشافعي في أحد الوجهين لا يحنث بأكل المحرم باصله لأن يمينه تنصرف إلى ما يحل لا إلى ما يحرم فلم يحنث بما لا يحل وكما لو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث
ولنا أن هذا لحم حقيقة وعرفا فيحنث بأكله كالمغصوب وقد سماه الله تعالى لحما فقال : { ولحم الخنزير } وما ذكروه يبطل بما إذا حلف لا يلبس ثوبا فلبس ثوب حرير وأما البيع الفاسد فلا يحنث به لأنه ليس ببيع في الحقيقة (11/297)
مسألة أقسام الأسماء
فصل : والأسماء تنقسم إلى ستة أقسام :
أحدها : ما له مسمى واحد كالرجل والمرأة والنمسان والحيوان فهذا تنصرف اليمين إلى مسماه بغير خلاف
الثاني : ما له موضوع شرعي وموضوع لغوي كالوضوء والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة والبيع ونحو ذلك فهذا تنصرف اليمن عند الإطلاق إلى موضوعه الشرعي دون اللغوي لا نعلم فيه أيضا خلافا غير ما ذكرناه فيما تقدم
الثالث : ما له موضوع حقيقي ومجاز لم يشتهر أكثر من الحقيقة كالأسد والبحر فيمن الحالف تنصرف عند الإطلاق إلى الحقيقة دون المجاز لأن كلام الشارع إذا ورد في مثل هذا حمل على حقيقته دون مجازه كذلك اليمين
الرابع : الأسماء العرفية وهي ما يشتهر مجازه حتى تصير الحقيقة مغمورة فيه فهذا على ضروب أحدها : ما يغلب على الحقيقة بحيث لا يعلمها أكثر الناس كالرواية هي في العرف اسم المزادة وفي الحقيقة اسم لما يستقى عليه من الحيوانات والظعينة في العرف المرأة وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها والعذرة والغائط في العرف الفصلة المستقذرة وفي الحقيقة العذرة فناء الدار ولذلك قال علي عليه السلام لقوم مالكم لا تنظقون عذراتكم ؟ يريد افنيتكم والغائط المكان المطمئن فهذا واشباهه تنصرف يمين الحالف إلى المجاز دون الحقيقة لأنه الذي يريده بيمينه ويفهم من كلامه فأشبه الحقيقة في غيره
الضرب الثاني : أن عرف الإستعمال بعض الحقيقة بالإسم وهذا يتنوع أنواعا فمنه ما يشتهر التخصيص فيه كلفظ الدابة هو في الحقيقة اسم لكل ما يدب قال الله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وقال : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } وفي العرف اسم للبغال والخيل والحمير ولذلك لو وصى إنسان رجل بدابة من دوابه كان له أحد هذه الثلاث فالظاهر أن يمين الحالف تنصرف إلى العرف دون الحقيقة عند الإطلاق كالذي قبله ويحتمل أن تتناول يمينه الحقيقة بناء على قولهم فيما سنذكره وعلى قول من قال في الحالف على ترك أكل اللحم إن يمينه تتناول السمك ومن هذا النوع إذا حلف ألا يشم الريحان فإنه في العرف اسم مختص بالريحان الفارسي وهو في الحقيقة اسم لكل نبت أو زهر طيب الريح مثل الورد والبنفسج والنرجس
وقال القاضي : لا يحنث إلا بشم الريحان الفارسي وهو مذهب الشافعي لأن الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه وقال أبو الخطاب يحنث بشم ما يسمى في الحقيقة ريحانا لأن الاسم يتناوله حقيقة ولا يحنث بشم الفاكهة وجها واحدا لأنها لا تسمى ريحانا حقيقة ولا عرفا ومن هذا لو حلف لا يشم وردا ولا بنفسجا فشم دهن البنفسج وماء الورد فقال القاضي لا يحنث وهو مذهب الشافعي لأنه لم يشم وردا ولا بنفسجا
وقال أبو الخطاب يحنث لأن الشم أنما هو للرائحة دون الذات ورائحة الورد والبنفسج موجودة فيهما وقال أبو حنيفة يحنث بشم دهن البنفسج لأنه يسمى بنفسجا ولا يحنث بشم ماء الورد لأنه لا يسمى وردا والأول أقرب إلى الصحة إن شاء الله وإن شم الورد والبنفسج اليابس حنث وقال بعض أصحاب الشافعي لا يحنث كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل تمرا
ولنا أن حقيقته باقية فحنث به كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل قديدا وفارق ما ذكروه فإن التمر ليس رطبا وإن حلف لا يأكل شواء حنث باكل اللحم المشوي دون غيره من البيض المشوي وما عداه وبه قال أصحاب الرأي وقال أبو يوسف و ابن المنذر ويحنث بأكل كل ما يشوى لأنه شواء
ولنا أن هذا لا يسمى شواء فلم يحنث بأكله كالمطبوخ وقولهم هو شواء في الحقيقة قلنا لكنه لا يسمى شواء في العرف والظاهر أنه إنما يريد المسمى شواء في عرفهم وإن حلف لا يدخل بيتا فدخل مسجدا أو حماما فإنه يحنث نص عليه أحمد ويحتمل أن لا يحنث وهو قول أكثر الفقهاء لأنه لا يسمى بيتا في العرف فأشبه ما قبله من الأنواع والأول المذهب لأنهما بيتان حقيقة وقد سمى الله المساجد بيوتا فقال : { في بيوت أذن الله أن ترفع } وقال : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا } وروي في حديث : [ المسجد بيت كل تقي ]
وروي في خبر : [ بئس البيت الحمام ] وإذا كان بيتا في الحقيقة ويسميه الشارع بيتا حنث بدخوله كبيت الإنسان ولا يسلم أنه من الأنواع فإن هذا يسمى بيتا في العرف بخلاف الذي قبله وإن دخل بيتا من شعر أو غيره حنث سواء كان الحالف حضريا أو بدويا فإن اسم البيت يقع عليه حقيقة وعرفا قال الله تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم } فأما ما لا يسمى في العرف بيتا كالخيمة فالأولى أن لا يحنث بدخوله من لا يسميه بيتا لأن يمينه لا تنصرف إليه فإن دخل دهليز دار أو صفتها لم يحنث وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة يحنث لأن جميع الدار بيت
ولنا أنه لا يسمى بيتا ولهذا يقال ما دخلت البيت إنما وقفت في الصحن وإن حلف لا يركب فركب سفينة فقال أبو الخطاب يحنث لأنه ركوب قال الله تعالى : { اركبوا فيها بسم الله مجريها } وقال : { فإذا ركبوا في الفلك }
الضرب الثالث : أن يكون الإسم المحلوف عليه عاما لكن أضاف إليه فعلا لم تجر العادة به وإلا في بعضه أو اشتهر في البعض دون البعض مثل أن يحلف أن لا يأكل راسا فإنه يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم والصيود والطيور والحيتان والجراد ذكره القاضي وقال أبو الخطاب لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة ببيعه للأكل منفردا وقال الشافعي لا يحنث إلا بأكل رؤوس بهيمة الأنعام دون غيرها إلا أن يكون في بلد تكثر فيه الصيود وتميز رؤوسها فيحنث بأكلها وقال أبو حنيفة لا يحنث بأكل رؤوس الإبل لأن العادة لم تجر ببيعها مفردة وقال صحباه لا يحنث إلا بأكل رؤوس الغنم لأنها التي تباع في الأسواق دون غيرها فيمينه تنصرف إليها
ووجه الأول أن هذه رؤوس حقيقة وعرفا مأكولة فحنث بأكلها كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم التعام والزرافة وما ينذر وجوده وبيعه ومن ذلك إذا حلف لا يأكل بيضا حنث بأكل بيض كل حيوان سواء كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل وجوده كبيض النعام وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا يحنث بأكل بيض النعام وقال أبو ثور لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق
ولنا أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا وهو مأكول فيحنث بأكله كبيض الدجاج ولأنه لو حلف لا يشرب ماء فشرب ماء البحر أو ماء نجسا أو لا يأكل خبزا فأكل الأرز أو الذرة في مكان لا يعتاد أكله فيه حنث فأما أن أكل بيض السمك أو الجراد فقال القاضي يحنث لأنه بيض حيوان أشبه بيض النعام
وقال أبو الخطاب : لا يحنث إلا بأكل بيض يزايل بائضه في الحياة وهذا قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي وأكثر العلماء وهو الصحيح لأن هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض ولا يذكر إلا مضافا إلى بائضه ولا يحنث بأكل شيء يسمى بيضا غير بيض الحيوان ولا بأكل شيء يسمى رأسا غير ؤوس الحيوان لأن ذلك ليس برأس ولا بيض في الحقيقة والله أعلم (11/322)
مسألة وفصلان حكم ما لو حلف الا يأكل سويقا فأكل أو لا شرب شيئا فمصه أو حلف ليأكلن فلم يبر
مسألة : قال : وإن حلف ألا يأكل سويقا فشربه أو لا يشربه فأكله حنث إلا أن تكون له نية
وجملته أن من حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله فقد نقل عن أحمد ما يدل على روايتين إحداهما : يحنث لأن اليمين على ترك أكل شيء أو شربه يقصد بها في العرف اجتناب ذلك الشيء فحملت اليمين عليه إلا أن ينوي ألا ترى أن قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم } و { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } لم يرد به الأكل على الخصوص ؟ ولو قال طبيب لمريض لا تأكل العسل لكان ناهيا له عن شربه
والثانية : لا يحنث وهذا مذهب الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولأن الأفعال أنواع كالأعيان ولو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره وكذلك الأفعال وقال القاضي إنما الروايتان فيمن عين المحلوف عليه مثل من حلف لا أكلت هذا السويق فشربه أو لا يشربه فأكله اما إذا أطلق فقال لا أكلت سويقا فشربه لم يحنث رواية واحدة لا يختلف المذهب فيه وهذا مخالف لإطلاق الخرقي وليس للتعيين أثر في الحنث وعدمه فإن بين الحنث في المعين إنما هو لتناوله ما حلف عليه وإجراء معنى الأكل والشرب على التناول العام فيهما وهذا لا فرق فيه بين التعيين وعدمه وعدم الحنث يتعلل بأنه لم يفعل الفعل الذي حلف على تلاكه وإنما فعل غيره وهذا في المعين روايتان كانتا في المطلق لعدم الفارق بينهما ولأن الرواية في الحنث أخذت من كلام الخرقي وليس فيه تعيين ورواية عدم الحنث أخذت من رواية مهنا عن أحمد فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ فأكله لا يحنث لأنه لا يسمى شربا وهذا في المعين فإن عديت كل رواية إلى محل الأخرى وجب أن يكون في الجميع روايتان وإن قصرت كل رواية على محلها كل الأمر على خلاف ما قال القاضي وهو أن يحنث في المطلق ولا يحنث في المعين فأما إن حلف ليأكلن شيئا فشربه أو ليشربنه فأكله فيخرج فيه وجهان بناء على الروايتين في الحنث إذا حلف على الترك ومتى تقيدت يمينه بنية أو سبب يدل عليها كانت يمينه على ما نواه أو دل عليه السبب لأن مبني الأيمان على النية
فصل : وإن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى به فقد روي عن أحمد فيمن حلف لا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث وقال ابن أبي موسى إذا حلف لا يأكل ولا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث وهذا قول أصحاب الرأي فإنهم قالوا إذا حلف لا يشرب فمص حب رمان ورمى بالثفل لا يحنث لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب ويجيء على قول الخرقي أنه يحنث لأنه قد تناوله ووصل إلى بطنه وحلقه فإنه يحنث على ما قلنا فيمن حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله وإن حلف لا يأكل سكرا فتركه في فيه حتى ذاب فابتلعه خرج على الروايتين وإن حلف لا يطعم شيئا حنث بالأكل والشرب والمص لأن ذلك كله طعم قال الله تعالى في النهر : { ومن لم يطعمه } وإن حلف لا يأكله أو لا يشربه فذاقه لم يحنث في قولهم جميعا لأنه ليس بأكل ولا شرب ولذلك لم يفطر به الصائم وإن حلف لا يذوقه فأكله أو شربه أو مصه حنث لأنه ذوق وزيادة وإن مضغه ورمى به حنث لأنه قد ذاقه
فصل : وإن حلف ليأكلن أكله بالفتح لم يبر حتى يأكل ما يعده الناس أكلة وهي المرة من الأكل والأكلة بالضم اللقمة ومنه : فيناوله في يده أكلة أو أكلتين (11/324)
مسألة حكم ما لو حلف بالطلاق الا يأكل تمرة فوقعت في تمر
مسألة : قال : ومن حلف بالطلاق ألا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله
وجملته أن خالف هذه اليمين لا يخلو من أحوال ثلاثة
أحدها : أن يتحقق أكل التمرة المحلوف عليها فأما أن يعرفها بعينها أو بصفتها أو يأكل التمر كله أو الجانب الذي وقعت فيه كله فهذا يحنث بلا خلاف بين أهل العلم وبه يقول الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي لأنه أكل التمرة المحلوف عليها
الثاني : أن يتحقق أنه لم يأكلها أما بان لا يأكل من التمر شيئا أو أكل شيئا يعلم انه غيرها فلا يحنث أيضا بلا خلاف ولا يلزمه اجتناب زوجته
الثالث : أكل من التمر شيئا إما واحدة أو أكثر إلى أن لا يبقى منه إلا واحدة ولم يدر هل أكلها أم لا ؟ فهذه مسألة الخرقي فلا يتحقق حنثه لأن الباقية يحتمل أنها المحلوف عليها ويقين النكاح ثابت فلا يزول بالشك وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي فعلى هذا يكون حكم الزوجية باقيا في لزوم نفقتها وكسوتها ومسكنها وسائر أحكامها إلا الوطء فإن الخرقي قال يمنع وطأها لأنه شاك في حلها فحرمت عليه كما لو اشتبهت عليه امرأته بأجنبية وذكر أبو الخطاب أنها باقية على الحل وهو مذهب الشافعي لأن الأصل الحل فلا يزول بالشك كسائر أحكام النكاح ولأن النكاح باق حكما فاثبت الحل كما لو شك هل طلق أم لا ؟ وإن كانت يمينه ليأكلن هذه التمرة فلا يتحقق بره حتى يتحقق أنه أكلها (11/326)
مسألة وفصل حكم ما لو حلف أن يضربه عشرة أسواط فجمعها فضربه ضربة واحدة
مسألة : قال : ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه
وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وقال ابن حامد يبر لان أحمد قال في المريض عليه الحد يضرب بعثكال النخل فيسقط عنه الحد وبهذا قال الشافعي إذا علم أنها مسته كلها وإن علم أنها لم تمسه كلها لم يبر وإن شك لا يحنث في الحكم لان الله تعالى قال : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } وقال النبي صلى الله عليه و سلم في المريض الذي زنى : [ خذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة ] ولانه ضربه بعشرة اسواط فبر في يمينه كما لو فرق الضرب
ولنا ان معنى يمينه ان يضربه عشرة ضربات ولم يضربه الا ضربة واحدة فلم يبر كما لو حلف ليضربنه عشر مرات بسوط والدليل على هذا انه لو ضربه عشر ضربات بسوط واحد يبر في يمينه بغير خلاف ولو عاد العدد الى السوط لم يبربالضرب بسوط واحد كما لو حلف ليضربنه بعشرة اسواط ولان السوط ههنا آلة اقيمت مقام المصدر فانتصب انتصابه فمعنى كلامه لا ضربنه عشر ضربات بسوط وهذا هو المفهوم من يمينه والذي يقتضيه لغة فلا يبر بما يخالف ذلك واما أيوب عليه السلام فان الله تعالى ارخص له رفقا بامرأته لبرها به واحسانها اليه ليجمع له بين بره في يمينه ورفقه بامرأته ولذلك امتن عليه بهذا وذكره في جملة ما من عليه به من معافاته اياه من بلائه واخراج الماء له فيختص هذا به كاختصاصه بما ذكر معه ولو كان هذا الحكم عاما لكل واحد لما اختص أيوب بالمنة عليه وكذلك المريض الذي يخاف تلفه ارخص له بذلك في الحد دون غيره واذا لم يتعده هذا الحكم في الحد الذي ورد النص به فيه فلئلا يتعداه الى اليمين اولا ولو خص بالبر من له عذر يبيح العدول في الحد الى الضرب بالعثكال لكان له وجه وأما تعديته الى غيره فبعيدة جدا ولو حلف أن يضربه بعشرة أسواط فجمعها فضربه بها بر لأنه قد فعل ما حلف عليه وإن حلف ليضربنه عشر مرات لم يبر بضربه بعشرة أسواط دفعة واحدة بغير خلاف لأنه لم يفعل ما تناولته يمينه وإن حلف ليضربنه عشر ضربات فكذلك إلا وجها لأصحاب الشافعي أنه يبر وليس بصحيح لأن هذه ضربة واحدة باسواط ولهذا يصح أن يقال ما ضربته إلا ضربة واحدة ولو حلف لا يضربه أكثر من ضربة واحدة ففعل هذا لم يحنث في يمينه
فصل : ولا يبر حتى يضربه ضربا يؤلمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي : يبر بما لا يؤلم لأنه يتناوله الإسم فوقع البر به كالمؤلم
ولنا أن هذا يقصد به في العرف التأليم فلا يبر بغيره وكذلك كل موضع وجب الضرب في الشرع في حد أو تعزير كان من شرطه التأليم كذا ههنا (11/326)
مسألة وفصول حكم ما لو حلف ألا يكلمه فكتب إليه أو أشار إليه أو كلم غيره وقصد اسماعه أو ناداه
مسألة : قال : ولو حلف ألا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا حنث ألا أن يكون أراد أ لا يشافهه
أكثر أصحابنا على هذا وهو مذهب مالك و الشافعي وقد روى الأثرم وغيره عن أحمد في رجل حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه كتابا قال وأي شيء كان سبب ذلك ؟ إنما ينظر إلى سبب يمينه ولم حلف أن الكتاب قد يجري مجرى الكلام والكتاب قد يكون بمنزلة الكلام في بعض الحالات وهذا يدل على أنه لا يحنث بالكتاب إلا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي هجرانه وترك صلته وإن لم يكن كذلك لم يحنث بكتاب ولا رسول لأن ذلك ليس بتكلم في الحقيقة وهذا يصح نفيه فيقال ما كلمته وإنما كاتبته أو راستله ولذلك قال الله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } وقال : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } وقال : { وكلم الله موسى تكليما } ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل ولم يختص بكونه كليم الله ونجيه وقد قال أحمد حين مات بشر الحافي لقد كان فيه أنس وما كلمته قط وقد كانت بينهما مراسلة وممن قال لا يحنث بهذا الثوري و أبو حنيفة و ابن المنذر و الشافعي في الجديد واحتج اصحابنا بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي } فاستثنى الرسول من التكلم والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ولأنه وضع لافهام الآدميين أشبه الخطاب والصحيح أن هذا ليس بتكلم وهذا الاستثناء من غير الجنس كما قال في الآية الأخرى { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } والرمز ليس بتكلم لكن أن نوى ترك مواصلته أو كان سبب يمينه يقتضي هجرانه حنث لذلك ولذلك قال أحمد أن الكتاب يجري مجرى الكلام وقد يكون بمنزلة الكلام فلم يجعله كلاما إنما قال هو بمنزلته في بعض الحالات إذا كان السبب يقتضي ذلك وإذا أطلق احتمل أن لا يحنث لأنه لم يكلمه واحتمل أن يحنث لأن الغالب من الحالف هذه اليمين قصد ترك المواصلة فتعلق يمينه بما يراد في الغالب كقولنا في المسألة قبلها والله أعلم
فصل : وإن أشار إليه ففيه وجهان قال القاضي يحنث لأنه في معنى المكاتبة والمراسلة في الإفهام والثاني : لا يجنث ذكره أبو الخطاب لأنه ليس بكلام قال الله تعالى لمريم عليها السلام : { فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } إلى قوله { فأشارت إليه } وقال في زكريا : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } إلى قوله { فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } [ ولأن الكلام حروف وأصوات ولا يوجد في الإشارة ولأن الكلام شيء مسموع وتبطل به الصلاة قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ] والإشارة بخلاف هذ فإن قيل فقد قال الله تعالى : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } قلنا هذا استثناء من غير الجنس بدليل ما ذكرنا وصحة نفيه عنه فيقال ما كلمه وإنما أشار إليه
فصل : فإن كلم غير المحلوف عليه بقصد اسماع المحلوف عليه فقال أحمد يحنث لأنه قد اراد تكليمه وقد روينا عن أبي بكر نفيع بن الحارث أنه كان قد حلف أن لا يكلم أخاه زيادا فلما أراد زياد الحج جاء أبو بكر إلى قصر زياد فدخل فأخذ بنيا لزياد صغيرا في حجره ثم قال يا ابن أخي إن أباك يريد الحج ولعله يمر بالمدينة فيدخل على أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا النسب الذي ادعاه وهو يعلم أنه ليس بصحيح وإن هذا لا يحل له ثم قام فخرج وهذا يدل على أنه لم يعتقد ذلك تكليما له ووجه الأول أنه أسمعه كلامه قاصدا لاسماعه وإفهامه فأشبه مالو خاطبه وقال الشاعر : ( اياك أعني فاسمعي ياجارة )
فصل : فإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث نص عليه أحمد فإنه سئل عن رجل حلف أن لا يكلم فلانا فناداه والمحلوف عليه لا يسمع قال يحنث لأنه قد أراد تكليمه وهذا لكون ذلك يسمى تكليما يقال كلمته فلم يسمع وإن كان ميتا أو غائبا أو مغمى عليه أو أصم لا يعلم بتكليمه إياه لم يحنث وبهذا قال الشافعي [ وحكي عن أبي بكر أنه يحنث بنداء الميت لأن النبي صلى الله عليه و سلم كلمهم وناداهم وقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ]
ولنا قوله تعالى : { وما أنت بمسمع من في القبور } ولأنه قد بطلت حواسه وذهبت نفسه فكان أبعد من السماع من الغائب البعيد لبقاء الحواس في حقه وإنما كان ذلك من النبي صلى الله عليه و سلم كرامة له وأمرا اختص به فلا يقاس عليه غيره
فصل : وإن سلم على المحلوف عليه حنث لأن الإسلام كلام تبطل الصلاة به وإن سلم على جماعة هو فيهم أو كلمهم فإن قصد المحلوف عليه مع الجماعة حنث لأنه كلمه وإن قصدهم دونه لم يحنث قال القاضي لا يحنث رواية واحدة وهو مذهب الشافعي لأن اللفظ العام يحتمل التخصيص فإذا نواه به فهو على ما نواه وإن أطلق حنث وبه قال الحسن و أبو عبيد و مالك و أبو حنيفة لأنه مكلم لجميعهم لأن مقتضى اللفظ العموم فيحمل على مقتضاه عند الإطلاق وقال القاضي فيه روايتان ولـ لشافعي قولان
أحدهما : لا يحنث لأن العام يصلح للخصوص فلا يحنث بالإحتمال والأول أولى لأن هذا الإحتمال مرجوح فيتعين العمل بالراجح كما احتمل اللفظ المجاز الذي ليس بمشتهر فإنه يمنع حمله على الحقيقة عند إطلاقه فإن لم يعلم أن المحلوف عليه فيهم ففيه روايتان إحداهما : لا يحنث لأنه لم يرده فأشبه ما لو استثناه والثانية : يحنث لأنه قد أرادهم بسلامة وهو منهم وهذا بمنزلة الناسي وإن كان وحده فسلم عليه ولا يعرفه فقال أحمد يحنث ويحتمل أن لا يحنث بناء على الناسي والجاهل
فصل : فإن حلف لا يكلمه ثم وصل يمينه بكلامه مثل أن قال فتحقق ذلك أو فاذهب فقال أصحابنا يحنث وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحنث بالقليل لأن هذا تمام الكلام الأول والذي يقتضيه يمينه أن لا يكلمه كلاما مستأنفا واحتج أصحابنا بأن هذا القليل كلام منه له حقيقة وقد وجد بعد يمينه فيحنث به كما لو فصله ولأن ما يحنث به إذا فصله يحنث به إذا وصله كالكثير وقولهم أن اليمين يقتضي خطابا مستأنفا قلنا وهذا الخطاب مستأنف غير الأول بدليل أننه لو قطعه حنث به وقياس المذهب أنه لا يحنث لأن قرينة صلته هذا الكلام بيمينه تدل على إرادة كلام يستأنفه بعد انقضاء هذا الكلام المتصل فلا يحنث به كما لو وجدت النية حقيقة وإن نوى كلاما غير هذا لم يحنث بهذا في المذهبين
فصل : وإن صلى بالمحلوف عليه إماما ثم سلم من الصلاة لم يحنث نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال أصحاب الشافعي يحنث لأنه شرع له أن ينوي السلام على الحاضرين ولنا أنه قول مشروع في الصلاة فلم يحنث به كتكبيرها وليست نية الحاضرين بسلامه واجبة في السلام وإن أرتج عليه في الصلاة ففتح عليه الحالف لم يحنث لأن ذلك كلام الله وليس بكلام الآدميين
فصل : وإن حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن قرأ في الصلاة لم يحنث وإن قرأ خارجا منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله وإن ذكر الله تعالى لم يحنث ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنه يحنث لأنه كلام قال الله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أفضل الكلام أربع : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ] وقال : [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم ]
ولنا أن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ] لم يتناول المختلف فيه وقال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال الله تعالى : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } فأمره بالتسبيح مع قطع الكلام عنه ولأن ما لا يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجا منها كالإشارة وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة وذكر الله المشروع فيها وإن استأذن عليه إنسان فقال : { ادخلوها بسلام آمنين } يقصد القرآن لم يحنث وإلا حنث
فصل : وإن حلف لا يتكلم ثلاث ليال أو ثلاثة أيام لم يكن له أن يتكلم في الأيام التي بين الليالي ولا في الليالي التي بين الأيام إلا أن ينوي لأن الله تعالى قال : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } وفي موضع آخر { ثلاث ليال سويا } فكان كل واحد من اللفظين عبارة عن الزمانين جميعا وقال الله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر } فدخل فيه الليل والنهار
فصل : ومن حلف أن لا يتكفل بمال فكفل ببدن إنسان فقال أصحابنا يحنث لأن المال يلزمه بكفالته إذا تعذر تسليم المكفول به والقياس أنه لا يحنث لأنه لم يكفل بمال وإنما يلزمه المال بتعذر إحضار المكفول به وأما قبل ذلك فلا يلزمه ولأن هذا لا يسمى كفالة بالمال ولا يصح نفيها عنه فيقال ما تكفل بمال وإنما تكفل بالبدن وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي
فصل : وإن حلف لا يستخدم عبدا فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه فقال القاضي أن كان عبده حنث وإن كان عبد غيره لم يحنث وهذا قول أبي حنيفة لأن عبده يخدمه عبادة بحكم استحقاقه ذلك عليه فيكون معنى يمينه لامنعتك خدمتي فإذا لم ينهه لم يمنعه فيحنث وعبد غيره بخلافه وقال أبو الخطاب يحنث في الحالين لأن إقراره على الخدمة استخدام ولهذا يقال فلان يستخدم عبده إذا خدمه وإن لم يأمره ولأن ما حنث به في عبده حنث به في غيره كسائر الأشياء وقال الشافعي لا يحنث في الحالين لأنه حلف على فعل نفسه ولا يحنث بفعل غيره كسائر الأفعال
فصل : وإذا حلف رجل بالله لا يفعل شيئا فقال له آخر يميني في يمينك لم يلزمه شيء لأن يمين الأول ليست ظرفا ليمين الثاني وإن نوى أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك لم يلزمه حكمها قاله القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية لأن تعلق الكفارة بها لحرمة اللفظ باسم الله المحترم أو صفة من صفاته ولا يوجد ذلك في الكناية وإن حلف بطلاق فقال آخر يميني في يمينك ينوي أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك انعقدت يمينه نص عليه أحمد وسئل عن رجل حلف بالطلاق لا يكلم رجلا فقال رجل وأنا على مثل يمينك فقال عليه مثل ما قال الذي حلف لأن الكناية تدخل في الطلاق وكذلك يمين العتاق والظهار وإن لم ينو شيئا لم تنعقد يمينه لأن الكناية لا تعمل بغير نية وليس هذا بصريح وإن كان المقول له لم يحلف بعد وإنما أراد أنه يلزمه الآخر من يمين يحلف بها فحلف المقول له لم تنعقد يمين القائل وإن كان في الطلاق والعتاق لأنه لا بد أن يكون هناك ما يكنى عنه وليس ههنا ما يكنى عنه وذكر القاضي في موضع آخر فيمن قال أيمان البيعة تلزمني أنه أن عرفها ونوى جميع ما فيها انعقدت يمينه بجميع ما فيها وهذا خلاف ما قاله في هذه المسألة فيكون فيها وجهان
فصل : فان قال ايمان البيعة تلزمني فقال ابو عبد الله بن بطة كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن ايمان البيعة فقال لست افتي فيها بشيء ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي في هذه اليمين قال : وكان أبي رحمه الله يعني ابا علي يهاب الكلام فيها ثم قال ابو القاسم : الا ان يلتزم الحالف بها جميع مافيها من الايمان فقال له السائل عرفها أو لم يعرفها ؟ فقال نعم وايمان البيعة هي التي رتبها الحجاج يستحلف بها عند البيعة والامر المهم للسلطان وكانت البيعة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وخلفائه الراشدين بالمصافحة فلما ولي الحجاج رتبها أيمانا تشتمل على اليمين بالله والطلاق والعتاق وصدقة المال فمن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيء منها فيها لان هذا ليس بصريح في القسم والكناية لا تصح إلا بالنية ومن لم يعرف شيئا لم يصح أن ينويه وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم يصح أيضا لما ذكرناه ومن عرفها ونوى اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق لأن اليمين بها تنعقد بالكناية وما عدا ذلك من اليمين بالله وما عدا الطلاق والعتاقة فقال القاضي ههنا تنعقد يمينه أيضا لأنها يمين فتنعقد بالكناية المنوية كيمين الطلاق والعتاق وقال في موضع آخر لا تنعقد اليمين بالله بالكناية وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة وجبت فيها لما ذكر فيها من اسم الله العظيم المحرم ولا يوجد ذلك في الكناية والله أعلم (11/327)
مسألة وفصل اقسام النذور وحكم ما لو نذر فعل طاعة وما ليس بطاعة
كتاب النذور : الأصل في النذر الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { يوفون بالنذر } وقال { وليوفوا نذورهم } وأما السنة فروت عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن ] رواهما البخاري وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به
فصل : لا يستحب ل [ أن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن النذر وأنه قال : لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ] متفق عليه وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأنه لو كان حراما لما مدح الموفين به لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه ولأن النذر لو كان مستحبا لفعله النبي صلى الله عليه و سلم وأفاضل اصحابه
مسألة : قال : ومن نذر أن يطيع الله عز و جل لزمه الوفاء به ومن نذر أن يعصيه لم يعصه وكفر كفارة يمين
ونذر الطاعة الصلاة والصيام والحج والعمرة والعتق والصدقة والإعتكاف والجهاد وما في هذه المعاني سواء نذره مطلقا بأن يقول لله علي أن أفعل كذا وكذا أو علقه بصفة مثل قوله إن شفاني الله من علتي أو شفى فلانا أو سلم مالي الغائب أو ما كان في هذا المعنى فادرك ما أمل بلوغه من ذلك فعليه الوفاء به ونذر المعصية أن يقول لله علي أن أشرب الخمر أو أقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا يفعل ذلك ويكفر كفارة يمين وإذا قال لله علي أن أركب دابتي أو أسكن داري أو البس أحسن ثيابي وما أشبهه لم يكن هذا نذر طاعة ولا معصية فإن لم يفعله كفر كفارة يمين لأن النذر كاليمين وإذا نذر أن يطلق زوجته استحب له أن لا يطلقها ويكفر كفارة يمين وجملته أن النذر سببه أقسام :
أحدها : نذر اللجاج والغضب وهو الذي يخرجه مخرج اليمين للحث على فعل شيء أو المنع منه غير قاصد به للنذر ولا القربة فهذا حكمه حكم اليمين وقد ذكرناه في باب الأيمان
والقسم الثاني : فنذر طاعة وتبرر مثل الذي ذكر الخرقي فهذا يلزم الوفاء به للآيتين والخبرين وهو ثلاثة أنواع :
أحدها : التزام طاعة في مقابلة نعمة استجلبها أو نقمة استدفعها كقوله إن شفاني الله فلله علي صوم شهر فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع كالصوم والصلاة والصدقة والحج فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم
النوع الثاني : التزام طاعة من غير شرط كقوله ابتداء لله علي صوم شهر فيلزمه الوفاء به في قول أكثر أهل العلم وهو قول أهل العراق وظاهر مذهب الشافعي وقال بعض أصحابه لا يلزم الوفاء به لأن أبا عمر غلام ثعلب قال : النذر عند العرب وعد بشرط ولأن ما التزمه الآدمي بعوض يلزمه بالعقد كالمبيع والمستأجر وما التزمه بغير عوض لا يلزمه بمجرد العقد كالهبة
النوع الثالث : نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض فيلزم الوفاء به لأن النذر فرع على المشروع فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ] وذمه الذين ينذرون ولا يوفون وقول الله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون }
وقد صح [ أن عمر قال للنبي صلى الله عليه و سلم إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أوف بنذرك ] ولأنه ألزم نفسه قربة على وجه التبرر فتلزمه كموضع الإجماع وكما لو ألزم نفسه أضحية أو أوجب هديا وكالاعتكاف وكالعمرة فإنهم قد سلموها وليست واجبة عندهم وما ذكروه يبطل بهذين الأصلين وما حكوه عن أبي عمر لا يصح فإن العرب تسمي الملتزم نذرا وإن لم يكن بشرط قال جميل :
( فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني )
والجعالة وعد بشرط وليست بنذر
القسم الثالث : النذر المبهم وهو أن يقول لله علي نذر فهذا تجب به الكفارة في قول أكثر أهل العلم وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعائشة وبه قال الحسن و عطاء و طاوس و القاسم و سالم و الشعبي و النخعي و عكرمة وسعيد بن جبير و مالك و الثوري ومحمد بن الحسن ولا أعلم فيه مخالفا إلا الشافعي قال لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه لأن من النذر ما لا كفارة فيه
ولنا ما روى عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة اليمين ] رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب ولأنه نص وهذا قول من سمينا من الصحابة والتابعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا فيكون إجماعا
القسم الرابع : [ نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] ولأن معصية الله لا تحل في حال ويجب على الناذر كفارة يمين روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب وبه قال الثوري و أبو حنيفة وأصحابه وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه فإنه قال فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة لبنة لا كفارة عليه وهذا في معناه وروي هذا عن مسروق و الشعبي وهو مذهب مالك و الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد ] رواه مسلم وقال ليس على الرجل نذر فيما لا يملك متفق عليه وقال : [ لا نذر إلا ما ابتغي به وجه الله ] رواه أبو داود وقال : [ من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] ولم يأمر بكفارة [ ولما نذرت المرأة التي كانت مع الكفار ـ فنجت على ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن تنحرها قالت يا رسول الله إني نذرت إن أنجاني الله عليها أن أنحرها ؟ قال : بئس ما جزيتها لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد ] رواه مسلم ولم يأمرها بكفارة [ وقال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم : مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه ] رواه البخاري ولم يأمره بكفارة لأن النذر التزام الطاعة وهذا التزام معصية ولأنه نذر غير منعقد فلم يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة ووجه الأول ما [ روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ] رواه الإمام أحمد في مسنده و أبو داود في سننه وقال الترمذي هو حديث غريب
وعن أبي هريرة وعمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله روى الجوزجاني بإسناده عن عمران بن حصين قال سممعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه وبكفره ما يكفر اليمين ] وهذا نص [ ولأن النذر يمين ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : النذر حلفة ] [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فلم تطقه : تكفر يمينها ] صحيح أخرجه أبو داود وفي رواية : [ ولتصم ثلاثة أيام ] قال أحمد إليه اذهب
وقال ابن عباس في التي نذرت ذبح ابنها كفري يمينك ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفارة فكذلك إذا نذرها فأما أحاديثهم فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله وهذا لا خلاف فيه وقد جاء مصرحا به هكذا في رواية مسلم ويدل على هذا أيضا أن في سياق الحديث : [ ولا يمين في قطيعة رحم ] يعني لا يبر فيها ولو لم يبين الكفارة في أحاديثهم فقد بينها في أحاديثنا فإن فعل ما نذره من المعصية فلا كفارة عليه كما لو حلف ليفعلن معصية ففعلها ويحتمل أن تلزمه الكفارة حتما لأن النبي صلى الله عليه و سلم عين فيه الكفارة ونهى عن فعل المعصية
القسم الخامس : المباح كلبس الثوب وركوب الدابة وطلاق المرأة على وجه مباح فهذا يتخير الناذر فيه بين فعله فيبر بذلك لما [ روي أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت إني نذرت أن اضرب على رأسك بالدف فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوفي بنذرك ] رواه أبو داود ولأنه لو حلف على فعل مباح بر بفعله فكذلك إذا نذره لأن النذر كاليمين وإن شاء تركه وعليه كفارة يمين ويتخرج أن لا كفارة ومن نذر فيه فإن أصحابنا قالوا فيمن نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد معين كان له أن يصلي ويعتكف في غيره ولا كفارة ومن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأته الصدقة بثلثه بلا كفارة وهذا مثله وقال مالك و الشافعي لا ينعقد نذره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ] وقد روى ابن عباس قال : [ بينا النبي صلى الله عليه و سلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو اسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : مروه فليستظل وليجلس وليتكلم وليتم صومه ] رواه البخاري [ وعن أنس قال نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسئل نبي الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب ] قال الترمذي هذا حديث صحيح ولم يأمر بكفارة [ وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم رأي رجلا يهادي بين اثنين فسأل عنه فقالوا نذر أن يحج ماشيا فقال : إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه مروه فليركب ] متفق عليه ولم يأمره بكفارة ولأنه نذر غير موجب لفعل ما نذره فلم يوجب كفارة كنذر المستحيل
ولنا ما تقدم في القسم الذي قبله فأما حديث التي نذرت المشي فقد أمر فيه بالكفارة في حديث آخر [ وروى عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقال : مروها فلتركب ولتكفر عن يمينها ] صحيح أخرجه أبو داود وهذه زيادة يجب الأخذ بها ويجوز أن يكون الرواي للحديث روى البعض وترك البعض أو يكون النبي صلى الله عليه و سلم ترك ذكر الكفارة في بعض الحديث إحالة على ما علم من حديثه في موضع آخر ومن هذا القسم إذا نذر فعل مكروه كطلاق امرأته فإنه مكروه بدليل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] فالمستحب أن لا يفي ويكفر فإن وفى بنذره فلا كفارة عليه والخلاف فيه كالذي قبله
القسم السادس : نذر الواجب كالصلاة المكتوبة فقال أصحابنا لا ينعقد نذره وهو قول أصحاب الشافعي لأن النذر التزام ولا يصح التزام ما هو لازم له ويحتمل أن ينعقد نذره موجبا كفارة يمين إن تركه كما لو حلف على فعله فإن النذر كاليمين وقد سماه النبي صلى الله عليه و سلم يمينا وكذلك لو نذر معصية أو مباحا لم يلزمه ويكفر إذا لم يفعله
القسم السابع : نذر المستحيل كصوم أمس فهذا لا ينعقد ولا يوجب شيئا لأنه لا يتصور انعقاده ولا الوفاء به ولو حلف على فعله لم تلزمه كفارة فالنذر أولى وعقد الباب في صحيح المذهب أن النذر كاليمين وموجبه موجبها إلا في لزوم الوفاء به إذا كان قربة وأمكنه فعله ودليل هذا الأصل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأخت عقبة لما نذرت المشي فلم تطقه : ولتكفر يمينها ] وفي رواية : [ فلتصم ثلاثة أيام ] قال أحمد إليه أذهب وعن عقبة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] أخرجه مسلم وقول ابن عباس للتي نذرت ذبح ولدها كفري يمينك ولأنه قد ثبت أن حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه وهو نذر اللجاج فكذلك سائره في سوى ما استثناه الشرع
فصل : وإن نذر فعل طاعة وما ليس بطاعة لزمه فعل الطاعة كما في خبر أبي اسرائيل فإن النبي صلى الله عليه و سلم أمره بإتمام الصوم وترك ما سواه لكونه ليس بطاعة وفي وجبو الكفارة لما تركه الاختلاف الذي ذكرناه [ وقد روى عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية غير مختمرة فذكر ذلك عقبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : مر أختك فلتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام ] رواه الجوزجاني و الترمذي فإن كان المتروك خصالا كثيرة أجزأته كفارة واحدة لأنه نذر واحد فتكون كفارته واحدة كاليمين الواحدة على أفعال ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم أخت عقبة بن عامر في ترك التحفي والاختمار بأكثر من كفارة (11/332)
مسألة وفصلان حكم من نذر أن يتصدق بماله كله أو قسم منه
مسألة : قال : ومن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأه أن يتصدق بثلثه كما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأبي لبلبة حين قال إن من توبتي يا رسول الله إن أنخلع من مالي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يجزئك الثلث ]
وجملة ذلك أن من نذر أن يتصدق بماله كله أجزأه ثلثه وبهذا قال الزهري و مالك وروى الحسين بن إسحاق الخرقي عن أحمد قال سألته عن رجل قال جميع ما أملك في المساكين صدقة قال كفارته كفارة اليمين قال وسئل عن رجل قال ما يرث عن فلان فهو للمساكين فذكروا أنه قال يطعم عشرة مساكين وقال ربيعة يتصدق منه بقدر الزكاة لأن المطلق محمول على معهود الشرع ولا يجب في الشرع إلا قدر الزكاة وعن جابر بن زيد قال إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشرة وإن كان متوسطا وهو ألف تصدق بسبعة وإن كان قليلا وهو خمسمائة تصدق بخمسة وقال أبو حنيفة يتصدق بالمال الزكوي كله وعنه في غيره روايتان :
إحداهما : يتصدق به والثانية : لا يلزمه منه شيء وقال النخعي والبتي والشافعي يتصدق بماله كله لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من نذر ان يطيع الله فليطعمه ] ولأنه نذر طاعة فلزمه الوفاء به كنذر الصلاة والصيام
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي لبابة حين قال إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول فقال : يجزئك الثلث ] [ وعن كعب بن مالك قال قلت يا رسول الله ان من توبتي ان اخلع من مالي صدقة الى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أمسك عليك بعض مالك ] متفق عليه ولـ أبي داود [ يجزئك عنك الثلث ] فإن قالوا هذا ليس بنذر وإنما أراد الصدقة بجميعه فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالاقتصار على ثلثه كما أمر سعدا حين أراد الوصية بجميع ماله بالاقتصار على الوصية بثلثه وليس هذا محل النزاع فيمن نذر الصدقة بجميعه فلنا عنه جوابان :
أحدهما : ان قوله : [ يجزئ عنك الثلث ] دليل على انه أتى بلقظ يقتضي الايجاب لانها إنما تستعمل غالبا في الواجبات ولو كان مخيرا بارادة الصدقة لما لزمه شيء يجزئ عنه بعضه
الثاني : ان منعه من الصدقة بزيادة على الثلث دليل على انه ليس يقربه لان النبي صلى الله عليه و سلم لا يمنع أصحابه من القرب ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به وما قاله أبو حنيفة فقد سبق الكلام عليه وما قاله ربيعة لا يصح فان هذا ليس بزكاة ولا في معناها فان الصدقة وجبت لا غناء الفقراء ومواستهم وهذه صدقة تبرع بها صاحبها تقربا الى الله تعالى ثم ان المحمول على معهود الشرع المطلق وهذه صدقة معينة غير مطلقة ثم تبطل بما لو نذر صياما فانه لا يحمل على صوم رمضان وكذلك الصلاة وما ذكره جابر بن زيد تحكم بغير دليل
فصل : وإذا نذر الصدقة بمعين من ماله أو بمقدار كألف فروي عن أحمد انه يجوز ثلثه لأنه مال نذر الصدقة به فأجزأه ثلثة كجميع المال والصحيح في المذهب لزوم الصدقة بجميعه لانه منذور وهو قربة فيلزمه الوفاء به كسائر المنذورات
ولعموم قوله تعالى : { يوفون بالنذر } وإنما خولف هذا في جميع المال للاثر فيه ولما في الصدقة بجميع المال من الضرر اللاحق به اللهم الا ان يكون المنذور ههنا يستغرق جميع المال فيكون كنذر ذلك ويحتمل انه ان كان المنذور ثلث المال فما دون لزمه وفاء نذره وان زاد على الثلث لزمه الصدقة بقدر الثلث منه لانه حكم يعتبر فيه الثلث فأشبه الوصية به
فصل : وإذا نذر الصدقة بقدر المال فابرأ غريمه من قدره يقصد به وفاء النذر لم يجزئه وإن كان الغريم من اهل الصدقة قال احمد : لا يجزئه حتى يقبضه وذلك لان الصدقة تقتضي التمليك وهذا إسقاط فلم يجزئه كما في الزكاة
وقال احمد فيمن نذر ان يتصدق بمال وفي نفسه أنه ألف اجزأه ان يخرج ما شاء وذلك لان اسم المال يقع على القليل وما نواه زيادة على ما تناوله الاسم والنذر لا يلزم بالنية والقياس ان يلزمه ما نواه لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فتعلق الحكم به كاليمين وقد نص احمد فيمن نوى صوما او صلاة وفي نفسه اكثر مما يتناوله لفظه أنه يلزمه ذلك وهذا كذلك والله أعلم (11/340)
مسألة وفصلان حكم ما لو نذر الصوم وهو لا يطيق الصيام أو عجز لعارض أو نذر غير الصيام كالصلاة مثلا
مسألة : قال : ومن نذر أن يصوم وهو شيخ كبير لا يطبق الصيام كفر كفارة يمين وأطعم لكل يوم مسكينا
وجملته أن من نذر طاعة لا يطيقها أو كان قادرا عليها فعجز عنها فعليه كفارة يمين لما [ روى عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية فامرتني أن استفتي لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستفتيته فقال : لتمش والتركب ] متفق عليه ولـ أبي داود [ وتكفر يممينها ] ولـ لترمذي [ ولتصم ثلاثة أيام ] وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لانذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين ] قال : [ ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ] رواه أبو داود وقال وقفه من رواه عن ابن عباس
وقال ابن عباس من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصيته فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا يطقيه فليف لله بما نذر فإذا كفر وكان المنذور غير الصيام لم يلزمه شيء آخر وإن كان صياما فعن أحمد روايتان إحداهما : يلزمه لكل يوم إطعام مسكين قال القاضي وهذا صح لأنه صوم وجد سبب إيحابه عينا فإذا عجز لزمه أن يطعم عن كل يوم مسكينا كصيام رمضان ولأن المطلق من كلام الآدميين يحمل على المعهود شرعا ولو عجز عن الصوم المشروع أطعم عن كل يوم مسكينا وكذلك إذا عجز عن الصوم المنذور والثانية : لا يلزمه شيء آخر من إطعام ولا غيره لقوله عليه السلام : [ ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ] وهذا يقتضي أن تكون كفارة اليمين جميع كفارته ولأنه نذر عجز عن الوفاء به فكان الواجب فيه كفارة يمين كسائر النذور ولأن موجب النذر موجب اليمين إلا مع إمكان الوفاء به إذا كان قربة ولا يصح قياسه على صوم رمضان لوجهين إحداهما : إن رمضان يطعم عنه عند العجز بالموت فكذلك في الحياة وهذا بخلافه ولأن صوم رمضان آكد بدليل وجوب الكفارة بالجماع فيه وعظم إثم من أفطر بغير عذر والثاني : أن قياس المنذور أولى من قياسه على المفروض بأصل الشرع ولأن هذا قد وجبت فيه كفارة فأجزأت عنه بخلاف المشروع وقولهم أن المطلق من كلام الآدمي محمول على المعهود في الشرع قلنا ليس هذا بمطلق وإنما هو منذور معين ويتخرج أن لا تلزمه كفارة في العجز عنه كما في العجز الواجب بأصل الشرع
فصل : وإن عجز لعارض يرجى زواله من مرض أو نحوه انتظر زواله ولا تلزمه كفارة ولا غيرها لأنه لم يفت الوقت فيشبه المريض في شهر رمضان فإن استمر عجزه إلى أن صار غير مرجو الزوال صار إلى الكفارة والفدية على ما ذكرنا من الخلاف فيه فإن كان العجز المرجو الزوال عن صوم معين فات وقته انتظر الإمكان ليقضيه وهل تلزمه لفوات الوقت كفارة ؟ على روايتين : ذكرهما أبو الخطاب
أحدهما : تجب الكفارة لأنه أخل بما نذره على وجهه فلزمته الكفارة كما لو نذر المشي إلى بيت الله الحرام فعجز ولأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن هذا الشهر فافطره لعذر لزمته كفارة كذا ههنا والثانية : لا تلزمه لأنه أتى بصيام أجزأه عن نذر من غير تفريط منه فلم تلزمه كفارة يمين كما لو صام ما عينه
فصل : وإن نذر غير الصيام فعجز عنه كالصلاة ونحوها فليس عليه إلا الكفارة لأن الشرع لم يجعل لذلك بدلا يصار إليه فوجبت الكفارة لخالفته نذره فقط وإن عجز عنه لعارض فحكمه حكم الصيام سواء فيما فصلناه (11/343)
مسألة حكم ما لو نذر صوما ولم يذكر عددا
مسألة : قال : وإذا نذر صياما ولم يذكر عددا ولم ينوه فأقل ذلك صيام يوم وأقل الصلاة ركعتان
أما إذا نذر صياما مطلقا فأقل ذلك يقوم صيام يوم لا خلاف فيه لأنه ليس في الشرع صوم مفردا أقل من يوم فيلزمه لأنه اليقين وأما الصلاة ففيها روايتان :
إحداهما : يجزئه ركعة نقلها إسماعيل بن سعيد لأن أقل الصلاة ركعة فإن الوتر صلاة مشروعة وهي ركعة واحدة وروي عن عمر رضي الله عنه أنه تطوع بركعة واحدة
والثانية : لا يجزئه إلا ركعتان وبه قال أبو حنيفة لأن أقل صلاة وجبت بالشرع ركعتان فوجب حمل النذر عليه وأما الوتر فهو نفل والنذر فرض فحمله على المفروض أولى ولأن الركعة لا تجزىء في الفرض فلا تجزىء في النفل كالسجدة ولـ لشافعي قولان كالروايتين فأما إن عين بنذره عددا لزمه قل أو كثر لأن النذر ثابت يقوله وكذلك عدده فإن نوى عددا فهو كما لو سماه لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فلزمه حكمه كاليمين (11/345)
مسألة وفصول حكم ما لو نذر المشي إلى البيت الحرام أو نذر الحج راكبا
مسألة : قال : وإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين
وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد و ابن المنذر ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو عمرة وبه يقول الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وذلك لأن المشي المعهود في الشرع هو المشي في حج أو عمرة فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي فيه لنذره فإن عجز عن المشي ركب وعليه كفارة يمين
وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم وهو قول لـ لشافعي وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تركب وتهدي هديا رواه أبو داود وفيه ضعف ولأنه أحل بواجب في الإحرام فلزمه هدي كتارك الإحرام من الميقات وعن ابن عمر وابن الزبير قالا يحج من قابل ويركب ما مشى ويمشي ما ركب ونحوه قال ابن عباس وزاد فقال يهدي وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة وعن النخعي روايتان :
إحداهما : كقول ابن عمر والثانية : كقول ابن عباس وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة عليه هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة وقال الشافعي لا تلزمه مع العجز كفارة بحال إلا أن يكون النذر مشيا إلى بيت الله فهل يلزمه هدي فيه قولان وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم حين قال لأخت عقبة بن عامر لما نذرت المشي إلى بيت الله : لتمش ولتركب ولتكفر عن يمينها ] وفي رواية : [ فلتصم ثلاثة أيام ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] ولأن المشي مما لا يوجبه الإحرام فلم يجب الدم بتركه كما لو نذر صلاة ركعتين فتركهما وحديث الهدي ضعيف وهذا حجة على الشافعي حيث أوجب الكفارة عليها من غير العجز فإن قيل : فإن النبي صلى الله عليه و سلم أوجب الكفارة عليها من غير ذكر العجز قلنا يتعين حمله على حالة العجز لأن المشي قربة لأنه مشي إلى عبادة والمشي إلى العبادة أفضل ولهذا [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يركب في عيد ولا جنازة ] فلو كانت قادرة على المشي لأمرها به ولم يأمرها بالركوب والتكفير ولأن المشي المقدور عليه لا يخلو من أن يكون واجبا أو مباحا فإن كان واجبا لزم الوفاء به وإن كان مباحا لم تجب الكفارة بتركه عند الشافعي وقد أوجب الكفارة ههنا وترك ذكره في الحديث إما لعلم النبي صلى الله عليه و سلم بحالها وعجزها وإما لأن الظاهر من حال المرأة العجز عن المشي إلى مكة أو يكون قد ذكر في الخبر فترك الراوي ذكره وقول أصحاب أبي حنيفة أنه أخل بواجب في الحج قلنا المشي لم يوجبه الإحرام ولا هو من مناسكه فلم يجب بتركه هدي كما لو نذر صلاة ركعتين في الحج فلم يصلهما فأما إن ترك المشي مع إمكانه فقد أساء وعليه كفارة أيضا لتركه صفة النذر
وقياس المذهب أن يلزمه استئناف الحج ماشيا لتركه صفة المنذور كما لو نذر صوما متتابعا فأتى به متفرقا وإن عجز عن المشي بعد الحج كفر وأجزأه وإن مشي بعض الطريق وركب بعضا فعلى هذا القياس يحتمل أن يكون كقول ابن عمر وهو أن يحج فيمشي ما ركب ويركب ما مشى ويحتمل أن لا يجزئه إلا حج شيء في جميعه لأن ظاهر النذر يقتضي هذا
ووجه القول الأول أنه لا يلزمه بترك المشي المقدور عليه أكثر من كفارة لأن المشي غير مقصود في الحج ولا ورد الشرع بإعتباره في موضع فلم يلزم بتركه أكثر من كفارة كما لو نذر التحفي وشبهه وفارق التتابع في الصيام فإنها صفة مقصودة فيه إعتبرها الشرع في صيام الكفارات : كفار الظهار والجماع واليمين
فصل : فإن نذر الحج راكبا لزمه الحج كذلك لأن فيه إنفاقا في الحج فإن ترك الركوب فعليه كفارة وقال أصحاب الشافعي يلزمه دم لترفهه بترك الإنفاق وقد تبينا أن الواجب بترك النذر الكفارة دون الهدي إلا أن هذا إذا مشى ولم يركب مع إمكانه لم يلزمه أكثر من كفار لأن الركوب في نفسه ليس بطاعة ولا قربة وكل موضع نذر المشي فيه أو الركوب فإنه يلزمه الإتيان بذلك من دويرة أهله إلا أن ينوي موضعا بعينه فيلزمه من ذلك الموضع لأن النذر محمول على أصله في الفرض والحج المفروض بأصل الشرع يجب كذلك ويحرم للمنذور من حيث يحرم للواجب قال بعض الشافعية يجب الإحرام من دويرة أهله لأن إتمام الحج كذلك
ولنا أن المطلق محمول على المعبود في الشرع والإحرام الواجب إنما هو من الميقات ويلزمه المنذور من المشي أو الركوب في الحج أو العمرة إلى أن يتحلل لأن ذلك انقضاء الحج والعمرة
قال أحمد : يركب في الحج إذا رمى وفي العمرة إذا سعى لأنه لو وطىء بعد ذلك لم يفسد حجا ولا عمرة وهذا يدل على أنه إنما يلزمه في الحج التحلل الأول
فصل : وإذا نذر المشي إلى بيت الله أو الركوب إليه ولم يرد بذلك حقيقة المشي والركوب إنما أراد اتيانه لزمه اتيانه في حج أو عمرة ولم يتعين عليه مشي ولا ركوب لأنه عنى ذلك بنذره وهو محتمل له فأشبه ما لو صرح به ولو نذر أن يأتي بيت الله الحرام أو يذهب إليه لزمه اتيانه في حج أو عمرة وعن أبي حنيفة لا يلزمه شيء لأن مجرد اتيانه ليس بقربة ولا طاعة
ولنا أنه علق نذره بوصول البيت فلزمه كما لو قال : لله علي المشي إلى الكعبة إذا ثبت هذا فهو مخير في المشي والركوب وكذلك إذا نذر أن يحج البيت أو يزوره لأن الحج يحصل بكل واحد من الأمرين فلم يتعين أحدهما وإن قال : لله علي أن آتي البيت الحرام غير حاج ولا معتمر لزمه الحج والعمرة وسقط شرطه وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن قوله لله علي أن آتي البيت يقتضي حجا أو عمرة وشرط سقوط ذلك يناقض نذره فسقط حكمه
فصل : إذا نذر المشي إلى البلد الحرام أو بقعة منه كالصفا والمروة وأبي قبيس أو موضع في الحرم لزمه الحج أو عمرة نص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يلزمه إلا أن ينذر المشي إلى الكعبة أو إلى مكة وقال أبو يوسف ومحمد إن نذر المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام كقولنا وفي باقي الصور كقول أبي حنيفة
ولنا أنه نذر المشي إلي موضع من الحرم أشبه النذر إلى مكة فأما إن نذر المشي إلى غير الحرم كعرفة ومواقيت الإحرام وغير ذلك لم يلزمه ذلك ويكون كنذر المباح وكذلك إن نذر اتيان مسجد سوى المساجد الثلاثة لم يلزمه اتيانه وإن نذر الصلاة فيه لزمه الصلاة دون المشي ففي أي موضع صلى أجزأه لأن الصلاة لا تخص مكانا دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع ولا نعلم في هذا خلافا إلا عن الليث فإنه قال لو نذر صلاة أو صياما بموضع لزمه فعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشى إليه
قال الطحاوي ولم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] متفق عليه ولو لزمه المشي إلى مسجد بعيد لشد الرحل إليه ولأن العبادة لا تختص بمكان دون مكان فلا يكون فعلها فيما نذر فعلها فيه قربة تلزمه بنذره وفارق ما لو نذر العبادة في يوم بعينه لزمه فعلها فيه لأن الله تعالى عين لعبادته زمنا معينا ولم يعين لها مكانا وموضعا والنذور مردودة إلى أصولها في لاشرع فتعينت بالزمان دون المكان
فصل : وإن نذر المشي إلى بيت الله تعالى ولم ينوبه شيئا ولم يعينه انصرف إلى بيت الله الحرام لأنه المخصوص بالقصد دون غيره وإطلاق بيت الله ينصرف إليه دون غيره في العرف فينصرف إليه إطلاق النذر
فصل : وإن نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه و سلم الأقصى لزمه ذلك وبهذا قال مالك و الأوزاعي و أبو عبيد و ابن المنذر و هو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : لا يبين لي وجوب المشي إليهما لأن البر بإتيان بيت الله فرض والبر بإتيان هذين نفل
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى ] ولأنه أحد المساجد الثلاثة فيلزم الشيء إليه بالنذر كالمسجد الحرام ولا يلزم ما ذكره لأن كل قربة تجب بالنذر وإن لم يكن لها أصل في الوجوب كعيادة المريض وشهود الجنائز ولزمه بهذا النذر أن يصلي في الموضع الذي أتاه ركعتين لأن القصد بالنذر القربة والطاعة وإنما تحصيل ذلك بالصلاة فتضمن ذلك نذره كما يلزم ناذر المشي إلى بيت الله الحرام أحد النكسين ونذر الصلاة في أحد المسجدين كنذر المشي إليه كما أن نذر أحد النكسين في المسجد الحرام كنذر المشي إليه
وقال أبو حنيفة لا تتعين عليه الصلاة في موضع بالنذر سواء كان في المسجد الحرام أو غيره لأن ما لا أصل له في الشرع لا يجب بالنذر بدليل نذر الصلاة في سائر المساجد
[ ولنا ما روي أن عمر قال : يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوف بنذرك ] متفق عليه ولأن الصلاة فيها أفضل من غيرها بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ] متفق عليه وروي عنه صلى الله عليه و سلم : [ صلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة ] وإذا كان فضيلة وقربة لزم بالنذر كما لو نذر طول القراءة وما ذكروه يبطل بالعمرة فإنها تلزم بنذرها وهي غير واجبة عندهم
فصل : وإذا نذر الصلاة في المسجد الحرام لم تجزئه الصلاة في غيره لأنه أفضل المساجد وخيرها وأكثرها ثوابا للمصلي فيها وإن نذر الصلاة في المسجد الأقصى أجزأته الصلاة في المسجد الحرام لما [ روى جابر أن رجلا يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال : صل ههنا ثم أعاد عليه فقال : صل ههنا ثم أعاد عليه قال : صل ههنا ثم أعاد فقال شأنك ] رواه أبو داود ورواه الإمام أحمد ولفظه : [ والذي نفسي بيده لو صليت ههنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس ] وإن نذر اتيان المسجد الأقصى والصلاة فيه أجزأته الصلاة فيه وفي مسجد المدينة لأنه أفضل وإن نذر ذلك في مسجد المدينة لم يجزئه فعله في المسجد الأقصى لأنه مفضول وقد سبق هذا في باب الإعتكاف
فصل : وإن أفسد الحج المنذور ماشيا وجب القضاء ماشيا لأن القضاء يكون على صفة الأداء وكذلك إن فاته الحج لكن إن فاته الحج سقط توابع الوقوف من المبيت بمزدلفة ومنى والرمي وتحلل بعمرة ويمشي بالحج الفاسد مشايا حتى يتحلل منه (11/346)
مسألة وفصول حكم من نذر عتق رقبة أو نذر هديا
مسألة : قال : وإذا نذر عتق رقبة فهي التي تجزىء عن الواجب إلا أن يكون نوى رقبة بعينها
يعني لا تجزئه إلا رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل وهي اتلي تجزىء في الكفارة لأن النذر المطلق يحمل على المعهود في الشرع والواجب بأصل الشرع كذلك وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر : يجزئه أي رقبة كانت صحيحة أو معيبة مسلمة أو كافرة لأن الإسم يتناول جميع ذلك
ولنا أن المطلق يحمل على معهود الشرع وهو الواجب في الكفارة وما ذكروه يبطل بنذر المشي إلى بيت الله الحرام فإنه لا يحمل على تناوله الإسم فأما إن نوى رقبة بعينها أجزأه عتقها أي رقبة كانت لأنه نوى بلفظه ما يحتمله وإن نوى ما يقع عليه إسم الرقبة أجزأه ما نواه لما ذكرناه فإن المطلق يتقيد بالنية كما يتقيد بالقرينة اللفظية قال أحمد فيمن نذر عتق عبد بعينه فمات قبل أن يعتقه : تلزمه كفارة يمين ولا يلزمه عتق عبد لأن هذا شيء فاته على حديث عقبة بن عامر وإليه أذهب في الفائت وما عجز عنه
فصل : وإذا نذر هديا مطلقا لم يجزئه إلا ما يجزىء في الأضحية وبه قال ابو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه لأن المطلق يحمل على معهود الشرع وإن عين الهدي بلفظه أو نيته أجزأه ما عينه صغيرا كان أو كبيرا جليلا كان أو حقيرا لأن ذلك يسمى هديأ قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة ] وإنما صرفنا المطلق إلى معهود الشرع لأن غلب على الإسم كما لو نذر أن يصلي لزمته صلاة شرعية دون اللغوية وإن قال لله علي أن أهدي بدنة أو بقرة أو قال شاة لزمه أقل ما يجزىء من ذلك الجنس الذي عينه فإن نذر بدنة أجزأه ثنية من الإبل أو ثني فإن لم يجد من الإبل فبقرة فإن لم يجد فسبع من الغنم لأن النذر محمول على معهود الشرع وقد تقرر في الشرع إن البقرة تقوم مقام البدنة وكذلم سبع من الغنم فإن أراد إخراج البقرة أو الغنم مع القدرة على البدنة فقال القاضي لا يجزئه وهو المنصوص عن الشافعي والذي يقتضيه مذهب الخرقي جواز ذلك لقوله ومن وجب عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه فإن نوى بنذره بدنة من الإبل لم يجزئه غيرها مع وجودها وجها واحدا لأنها وجبت بإيجابه بخلاف ما إذا أطلق فإنها انصرفت إلى الإبل بمعهود الشرع ومعهود الشرع فيها أن تقوم البقرة مقامها فأما إن نواها من الإبل أو غيره فمقتضى المذهب أنه لا يقوم غيرها مقامها كسائر المنذورات وكذلك أن صرح بها في نذره مثل أن يقول لله علي أن أهدي ناقة ويحتمل أن تقوم البقرة مقامها عند لأنها تعينت هديا شرعيا والهدي الشرعي له بدل
فصل : ومن نذر هديا لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم لأن إطلاق الهدي يقتضي ذلك قال الله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } فإن عين شيئا بنذره مثل أن يقول أهدي شاة أو ثوبا أو برا أو ذهبا فكان مما ينقل حمل إلى الحرم ففرق في مساكينه وإن كان مما لا ينقل نحو أن يقول لله علي أن أهدي داري هذه أو أرضي أو شجرتي هذه يبعث وبعث بثمنها إلى الحرم لأنه لا يمكن اهداؤه بعينه فانصرف بذلك إلى بدله وقد روي عن ابن عمران رجلا سأله في امرأة نذرت أن تهدي دارا فقال تبيعها وتتصدق بثمنها على مساكين الحرم وكذلك لو كان المنذور مما ينقل لكن يشق نقله كخشبة ثقيلة فإنه يبعها لأنه أحظ للمساكين من نقلها وإن كان مما لا كلفه في نقله إلا أنه لا يمكن تفريقه بنفسه ويحتاج إلى البيع نظر إلى الحظ للمساكين في يبيعها في بلده أو نقله ليباع ثم وإن استوى الأمر أن بيع في أي موضع شاء
فصل : وإن نذر أن يهدي إلى غير مكة كالمدينة أو الثغور أو يذبح لها لزمه الذبح وإيصال ما أهداه إلى ذلك المكان وتفرقة الهدي ولحم الذبيحة على أهله إلا أن يكون بذلك المكان ما لا يجوز النذر له ككنيسة أو صنم أو نحوه مما يعظمه الكفارة أو غيرهم مما لا يجوز تعظيمه كشجرة أو قبر أو حجر أو عين ماء ونحو ذلك لما روى أبو داود وقال : [ نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينحر ابلا ببوانة فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ ـ قالوا لا قال ـ هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ ـ قالوا لا قال رسول الله صلى الله عليه ـ أوف بنذرك ] ولأنه ضمن نذره نفع فقراء ذلك البلد بإيصال اللحم اليهم وهذه قربة فتلزمه كما لو نذر التصدق عليهم فإن كان بها شيء مما ذكرنا لم يجز النذر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ هل كان بها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية ؟ ] وهذا يدل على أنه لو كان بها ذلك لمنعه من الوفاء بنذره ولأن في هذا تعظيما لغير ما عظم الله يشبه تعظيم الكفار للأصنام فحرم كتعظيم الأصنام [ ولذلك لعن النبي صلى الله عليه و سلم المتخذات على القبور المساجد والسرج وقال : لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ] يحذر مثلما صنعوا وعلى هذا نذر الشمع والزيت وأشباهه للأماكن التي فيها القبور لا يصح
فصل : وإن نذر الذبح بمكة فهو كنذر الهدي إليها لأن مطلق النذر محمول على معهود الشرع ومعهود الشرع في الذبح الواجب بها إن يفرق اللحم بها (11/353)
مسألتان وفصول حكم ما لو نذر صوم شهر من يوم من يوم يقدم فلان
مسألة : قال : وإذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان فقدم أول يوم من شهر رمضان أجزأه صيامه لرمضان ونذره
ظاهر كلام الخرقي أن نذر هذا منعقد لكن صيامه يجزىء عن النذر ورمضان وهو قول أبي يوسف وهو قياس قول ابن عباس وعكرمة لأنه نذر صوما في وقت صام فيه وقال القاضي ظاهر كلام الخرقي أن النذر غير منعقد لأن نذره وافق زمنا يستحق صومه فلم ينعقد نذره كنذر صوم رمضان قال والصحيح عندي صحة النذر لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالبا فانعقد كما لو وافق شعبان فعلى هذا يصوم رمضان ثم يقضي ويكفر وهذا اختيار أبي بكر ونقل جعفر بن محمد عن أحمد أن عليه القضاء وقول الخرقي أجزأه صيامه لرمضان ونذره دليل على أن نذره انعقد عنده لولا ذلك لما كان صومه عن نذره وقد نقل أبو الخطاب عن أحمد فيمن نذر أن يحج وعليه حجة مفروضة فأحرم عن النذر وقعت عن المفروض ولا يجب عليه شيء آخر وهذا مثل قول الخرقي وروى عكرمة عن ابن عباس في رجل نذر أن يحج ولم يكن حج الفريضة قال يجزىء لهما جيمعا وعن عكرمة انه سئل عن ذلك فقال عكرمة يقضي حجته عن نذره وعن حجة الإسلام أرأيتم لو أن رجلا نذر أن يصلي أربع ركعات فصلى العصر أليس ذلك يجزئه من العصر والنذر ؟ قال فذكرت قولي لابن عباس فقال أصبت وأحسنت وقال ابن عمر وأنس وعروة : يبدأ بحجة الإسلام ثم يحج لنذره وفائدة انعقاد نذره لزوم الكفارة بتركه وأنه لو لم ينوه لنذره لزمه قضاؤه وعلى هذا لو وافق نذره بعض رمضان وبعض شهر آخر إما شعبان وإما شوال لزمه صوم ما خرج عن رمضان ويتمه من رمضان ولو قال لله علي صوم رمضان فعلى قياس قول الخرقي يصح نذره ويجزئه صيامه عن الأمرين وتلزمه الكفارة أن أخل به وعلى قول القاضي لا ينعقد نذره وهو مذهب الشافعي لأنه لا يصح صومه عن النذر فأشبه الليل ولنا أن النذر يمين فينعقد في الواجب موجبا للكفارة كاليمين بالله تعالى
فصل : ونقل عن أحمد فيمن نذر أن يحج العام وعليه حجة الإسلام روايتان إحداهما : تجزئه حجة الإسلام عنها وعن نذره نقلها أبو طالب والثانية : ينعقد نذره موجبا لحجة غير حجة الإسلام يبدأ بحجة الإسلام ثم يقضي نذره نقلها ابن منصور لأنهما عبادتان تجبان بسببين مختلفين فلم يسقط إحداهما بالأخرى كما لو نذر حجتين ووجه الأولى أنه نذر عبادة في وقت معين وقد أتى بها فيه فأشبه ما لو قال لله علي أن أصوم رمضان
فصل : فإن قال لله علي أن أصوم شهرا فنوى صيام شهر رمضان لنذره ورمضان لم يجزئه لأن شهر رمضان واجب بفرض الله تعالى ونذره يقتضي إيجاب شهر فيجب شهران بسببين ولا يجزىء إحدهما عن الآخر كما لو نذر صوم شهرين وكما لو نذر أن يصلي ركعتين لم تجزئه صلاة الفجر عن نذره وعن صلاة الفجر
مسألة : قال : وإذا نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم يوم فطر أو أضحى لم يصمه وصام يوما مكانه وكفر كفارة يمين
وجملته أن من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فإن نذره صحيح وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر لا يصح نذره لأنه لا يمكن صومه بعد وجود شرطه فلم يصح كما لو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي قيل اليوم الذي يقدم فيه ولنا أنه زمن صح فيه صوم التطوع فانعقد نذره لصومه كما لو أصبح صائما تطوعا قال لله علي أن أصوم يومي وقولهم لا يمكن صومه لا يصح فإنه قد يعلم اليوم الذي يقدم فيه قبل قدومه فينوي صومه من الليل لأنه قد يجب عليه ما لا يمكنه كالصبي يبلغ في أثناء يوم من رمضان أو الحائض تطهر فيه ولا نسلم ما قاسوا عليه إذا ثبتت صحته ولا يخلو من أقسام خمسة
أحدها : أن يعلم قدومه من الليل فينوي صومه ويكون يوما يجوز فيه صوم النذر فيصح ويجزئه لأنه وفى بنذره الثاني : أن يقدم يوم فطر أو أضحى فاختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فعنه لا يصومه ويقضي ويكفر نقله عن أحمد جماعة وهو قول أكثر اصحابنا ومذهب الحكم و حماد الرواية الثانية : يقضي ولا كفارة عليه وهو قول الحسن و الأوزاعي و أبي عبيد و قتادة و ابي ثور وأحد قولي الشافعي فإنه فاته الصوم الواجب بالنذر فلزمه قضاؤه كما لو تركه نسيانا ولم تلزمه كفارة لأن الشرع قنعه من صومه فهو كالمكره
وعن أحمد رواية ثالثة أن صامه صح صومه وهو مذهب أبي حنيفة لأنه وفى بما نذر فأشبه ما لو نذر معصية ففعلها ويتخرج أن يكفر من غير قضاء لأنه وافق يوما صومه حرام فكان موجبه الكفارة كما لو نذرت المرأة صوم يوم حيضها ويتخرج أن لا يلزمه شيء من كفارة ولا قضاء بناء على من نذر المعصية وهذا قول مالك و الشافعي في أحد قوليه بناء على نذر المعصية
ووجه قول الخرقي أن النذر ينعقد لأنه نذر نذرا يمكن الوفاء به غالبا فكان منعقدا كما لو وافق غير يوم العيد ولا يجوز أن يصوم يوم العيد لأن الشرع حرم صومه فأشبه زمن الحيض ولزمه القضاء لأنه نذر منعقد وقد فاته الصيام بالعذر ولزمته الكفارة لفواته كما لو فاته بمرض وإن وافق يوم حيض أو نفاس فهو كما لو وافق يوم فطر أو أضحى إلا أنه لا يصومه بغير خلاف في المذهب ولا بين أهل العلم
الثالث : أن يقدم في يوم يصح صومه والناذر مفطر ففيه روايتان أحدهما : يلزمه القضاء والكفارة لأنه نذر صوما نذرا صحيحا ولم يف به فلزمه القضاء والكفارة كسائر المنذورات ويتخرج أن لا تلزمه كفارة وهو مذهب الشافعي لأنه ترك المنذور لعذر
والثانية : لا يلزمه شيء من قضاء ولا غيره وهو قول أبي يوسف وأصحاب الرأي و ابن المنذر لأنه قدم في زمن لا يصح صومه فيه فلم يلزمه شيء كما لو قدم ليلا
الرابع : قدم والناذر صائم فلا يخلو من أن يكون تطوعا أو فرضا فإن كان تطوعا فقال القاضي يصوم بقيته ويعقده عن نذره ويجزئه ولا قضاء ولا كفارة وهو قول أبي حنيفة لأنه يمكن صوم يوم بعضه تطوع وبعضه واجب كما لو نذر في أثناء التطوع إتمام صوم ذلك اليوم وإنما وجد سبب الوجوب في بعضه وذكر القاضي احتمالا آخر أنه يلزمه القضاء والكفارة لأنه صوم واجب فلم يصح بنية من النهار كقضاء رمضان وذكر أبو الخطاب هذين الاحتمالين روايتين وعند الشافعي عليه القضاء فقط كما لو قدم وهو مضطر ويتخرج لما مثله وإما أن كان الصوم واجبا فحكمه حكم المسألة التي قبل هذه وقد ذكرناه وإن قدم وهو ممسك لم ينو الصيام ولم يفعل ما يفطره فحكمه حكم الصائم تطوعا
الخامس : أن يقدم ليلا فلا شيء عليه في قولهم جميعا لأنه لا يقدم في اليوم ولا في وقت يصح فيه الصيام
فصل : وإن قال لله علي صوم يوم العيد فهذا نذر معصية على ناذره الكفارة لا غير نقله حنبل عن أحمد وفيه رواية أخرى أن عليه القضاء مع الكفارة كالمسألة المذكورة والأولى هي الصحيحة قاله القاضي لأن هذا نذر معصية فلم يوجب قضاء كسائر المعاصي وفارق المسألة التي قبلها لأنه لم يقصد بنذره المعضية وإنما وقع اتفاقا وههنا تعمدها بالنذر فلم ينعقد نذره ويدخل في قوله عليه السلام : [ لا نذر في معصية ] ويتخرج إلا يلزمه شيء بناء على نذر المعصية فيما تقدم وإن نذرت المرأة صوم يوم حيضها ونفاسها فعليها الكفارة لا غير ولم أعلم عن أصحابنا في هذا خلافا
مسألة : قال : وإن وافق قدومه يوما من أيام التشريق صامه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله وارواية الأخرى لا يصومه ويصوم يوما مكانه ويكفر كفارة يمين
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في صيام أيام التشريق عن الفرض وقد ذكرنا ذلك في الصيام فإن قلنا يصومها عن الفرض صامها ها هنا وأجزأته وإن قلنا لا يصومها فحكمه حكم من وافق يوم العيد وقد مضى
فصل : وإن قال لله علي صوم يوم يقدم فلان أبدا أو قال لله علي صوم يوم كل خميس أبدا لزمه ذلك في المستقبل فأما اليوم الذي يقدم فيه فقد مضى بيان حكمه ولا يدخل في نذره ذلك اليوم من شهر رمضان لأن رمضان لا يتصور انفكاكه عن دخول ذلك اليوم فيه ولا يمكنه صومه عن غير رمضان لأنه لا يقبل ذلك ويجيء على قول الخرقي أن يدخل في نذره ويجزئه صومه لرمضان ونذره وإن وافق يوم عيد أو يوما من أيام التشريق أو يوم حيض ففيه من الاختلاف ما قد مضى وإن وجب عليه صوم شهرين عن كفارة الظهار أو نحوه صامهما عن الكفارة دون النذر لأنه متى نوى النذر في ابتدائهما انقطع التتابع فلا يقدر على التكفير فحينئذ يقضي نذره ويكفر لأنه ترك صوم النذر مع إمكانه لعذر ويفارق الأيام التي دخلت في رمضان فإنها لم تدخل في نذره لعدم انفكاكه عنها وههنا تنفك الأيام عن دخول الكفار فيها ولا فرق بين كون نذره قبل وجوب الكفارة أو بعدها لأن الأيام التي في رمضان لا يصح صومها عن نذره وأيام الكفارة يصح صومها عن نذره وإذا نواها عن نذره انقطع التتابع وأجزأت عن المنذور وإن فاتته أيام كثيرة لزمته كفارة واحدة عن الجميع فإذا كفر ثم فاته شيء بعد ذلك لزمته كفارة ثانية نص عليه أحمد فإنه قال فيمن نذر صيام أيام فمرض فإن كان قد كفر عن الأول ثم أفطر بعد ذلك كفر كفارة أخرى وإن لم يكن كفر عن الأول فكفارة واحدة ولا يكون مثل اليمين إذا حنث وكفر سقطت عنه ويتخرج أنه متى كفر مرة لم تلزمه كفارة أخرى لأن النذر كاليمين ويشبه اليمين وإيجاب الكفارة فيه لذلك واليمين لا يوجب أكثر من كفارة فمتى كفرها لم يجب بها أخرى كذلك النذر فعلى هذا متى فاته شيء فكفر عنه ثم فاته شيء آخر قضاه من غير كفارة لأن وجوب الكفارة الثانية لا نص فيه ولا إجماع ولا قياس ولا يمكن إيجابها بغير دليل (11/357)
فصل حكم ما لو نذر صوم سنة بعينها
فصل : إذا نذر صوم سنة بعينها لم يدخل في نذره رمضان لأنه لا يقبل غير صوم رمضان فأشبه الليل ولا يوما العيدين لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن صيامهما ولا يصح صومهما عن النذر فأشبها رمضان وعن أحمد فيمن نذر صوم شوال يقضي يوم الفطر ويكفر فعلى هذه الرواية يدخل في نذره العيدان وأيام التشريق لأنها أيام من جملة السنة والأول أصح وفي أيام التشريق روايتان وإن نذر صوم سنة مطلقة فهل يلزمه صوم سنة متتابعة أو لا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : يلزمه لأن السنة المطلقة تنصرف إلى المتتابعة فعلى هذه الرواية حكمها حكم المعينة في أنه لا يدخل فيها العيدان ولا رمضان وفي أيام التشريق روايتان فإن ابتدأها من أول شهر أتم أحد عشر شهرا بالهلال إلا شهر شوال فإنه يتمه بالعدد لأنه لم يصم من أوله وإن ابتدأها من أثناء شهر أتم ذلك الشهر بالعدد وبالباقي بالهلال على ما ذكرنا
والرواية الثانية : لا تلزمه متابعة وهو مذهب الشافعي لأن المتفرقة تسمى سنة فيتناولها نذره فيلزمه اثنا عشر شهرا بالأهلة إن شاء وإن شاء صامها بالعدد وإن ابتدأ الشهر من أثنائه أتمه ثلاثين يوما وإنما لزمه ههنا اثنا عشر شهرا لأنه يمكن حمل النذر على سنة ليس فيها رمضان ولا أيام التي لا يجوز صيامها فحمل نذره على ما ينعقد فيه النذر بخلاف ما إذا عين السنة وهذا كمن عين سلعة بالعقد فوجد بها عيبا لم يكن له إبدالها ولو وصفها ثم وجدها معيبة ملك إبدالها ويتم شوال بالعدد لأنه لم يبدأه من أوله وإن صام ذا الحجة من أوله قضى أربعة أيام تاما كان أو ناقصا لأنه بدأه من أوله وقيل إن كان ناقصا قضى خمسة ليكمله ثلاثين لأنه لم يصم الشهر كله فأشبه شوال وإن شرط التتابع صار حكمها حكم المعينة (11/364)
مسألة وفصول حكم من نذر صوم شهر متتابعا أو أشهر
مسألة : قال : ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه فإذا عوفي بنى وكفر كفارة يمين وإن أحب أتى بشهر متتابع ولا كفارة عليه وكذلك المرأة إذا نذرت صيام شهر متتابع وحاضت فيه
وجملته أن من نذر صياما متتابعا غير معين ثم أفطر فيه لم يخل من حالين : أحدهما : أن يفطر لعذر من حيض أو مرض ونحوهما فهذا مخير بين أن يبتدىء الصوم ولا شيء لأنه أتى بالمنذور على وجهه بين أن يبني على صيامه ويكفر لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور وإن كان عاجزا بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي ولأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن متتابعا لم يأت به متتابعا لزمته الكفارة وإنما جوز له البناء ههنا لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما بدليل أنه لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين من عذر كان له البناء فإن كان العذر يبيح الفطر كالسفر فهل يقطع التتابع ؟ فيه وجهان
أحدهما : يقطعه لأنه يفطر بإختياره والثاني : لا يقطعه لأنه عذر في فطر رمضان فأشبه المرض
الثاني : أن يفطر لغير عذر فهذا يلزمه استئناف الصيام ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع المنذور لغير عذر مع إمكان الإتيان به فلزمه فعله كما لو نذر صوما معينا فصام قبله وبهذا الفصل قال الشافعي إلا في الكفارة فإنه لا يوجبها في المنذور وقد ذكرنا دليل وجوبها
فصل : إذا صام شهرا من أول الهلال أجزأه ناقصا كان أو تاما لأن ما بين الهلالين شهر ولذلك [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : إنما الشهر تسع وعشرون ] وإن بدأ من أثناء شهر لزمه شهر بالعدد ثلاثون يوما لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاكملوا ثلاثين ] فإن صام شوال لزمه إكماله ثلاثين لأنه بدأ من أثنائه وإن كان ناقصا قضى يومين وإن كان تاما أتم يوما واحدا وإن صام ذا الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ولم ينقطع تتابعه كما لو أفطرت المرأة بحيض وعليه كفارة ويقضي أربعة أيام إن كان تاما وخمسة إن كان ناقصا ويحتمل أن لا لزمه إلا الأربعة وإن كان ناقصا لأنه بدأه من أوله فيقضي المتروك منه لا غير ولو صام شهرا من أول الهلال فمرض فيه أياما معلومة أو حاضت المرأة ثم طهرت قبل خروجه قضى ما أفطر منه بعدته إن كان الشهر تاما وإن كان الشهر تاما وإن كان ناقصا فهل يلزمه الإتيان بيوم آخر ؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا في فطر العيد وأيام التشريق
فصل : ومن نذر صيام شهر فهو مخير بين أن يصوم شهرا بالهلال وهو أن يبتدئه من أوله فيجزئه وبين أن يصومه بالعدد ثلاثين يوما وهل يلزمه التتابع ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمه وهو قول أبي ثور لأن إطلاق الشهر يقتضي التتابع
والثاني : لا يلزمه التتابع وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوما ولا خلاف أنه يجزئه ثلاثون يوما فلم يلزمه التتابع كما لو نذر ثلاثين يوما فأما إن نذر صيام ثلاثين يوما لم يلزمه التتابع فيها نص عليه أحمد
وقد روي عن أحمد فيمن قال لله علي صيام عشرة أيام يصومها متتابعة وهذا يدل على وجوب التتابع في الأيام المنذورة وحمل بعضها أصحابنا كلام أحمد على من شرط التتابع أو نواه لأن لفظ العشرة لا يقتضي تتابعا والنذر لا يقتضيه ما لم يكن في لفظه أو نيته
وقال بعضهم كلام أحمد على ظاهره ويلزمه التتابع في نذر العشرة دون الثلاثين شهر فلو أراد التتابع لقال شهرا فعدوله إلى العدد دليل على إرادة التفريق بخلاف العشرة والصحيح أنه يلزمه التتابع فإن عدم ما يدل على التفريق ليس بدليل على إرادة التتابع فإن الله تعالى قال في قضاء رمضان : { فعدة من أيام أخر } ولم يذكر تفريقها ولا تتابعها ولم يجب التتابع فيها بالإتفاق
وقال بعض أصحابنا إن نذر إعتكاف أيام لزمه التتابع ولا يلزمه مثل ذلك في الصيام لأن الإعتكاف يتصل بعضه ببعض من غير فضل والصوم يتخلله الليل فيفضل بعضه من بعض ولذلك لو نذر اعتكاف يومين متتابعين لدخل فيه الليل والصحيح التسوية لأن الواجب ما اقتضاه لفظه ولفظه لا يقتضي التتابع بدليل نذر الصوم ما ذكروه من العرف لا أثر له ومن قال يلزمه التتابع لزمته الليالي التي بين أيام الإعتكاف كما لو قال متتابعة
فصل : إذا نذر صيام أشهر متتابعة فابتدأها من أول شهر أجزأه صومها بالأهلة بلا خلاف وإن ابتدأها من أثناء شهر كمله بالعدد وباقي الأشهر بالأهلى وهذا قول مالك و الشافعي وأحد الروايتين عن أبي حنيفة والرواية الأخرى يكمل الجميع بالعدد وروي ذلك عن أحمد وقد تقدم توجيه الروايتين
مسألة : قال : ومن نذر أن يصوم شهرا بعينه فأفطر يوما بغير عذر ابتدأ شهرا وكفر كفارة يمين
وجملته أنه إذا نذر صوم شهر معين فأفطر في أثنائه لم يخل من حالين أحدهما : أفطر لغير عذر ففيه روايتان :
أحدهما : يقطع صومه ويلزمه استئنافه لأنه صوم يجب متتابعا بالنذر فأبطله الفطر لغير عذر كما لو شرط التتابع وفارق رمضان فإن تتابعه بالشرع لا بالنذر وههنا أوجبه على نفسه على صفة ثم فوتها فأشبه ما لو شرطه متتابعا
الثاينة : لا يلزمه الاستئناف إلا أن يكون قد شرط التتابع وهذا قول الشافعي لأنه وجوب التتابع ضرورة التعيين لا بالشرط فلم يبطله الفطر في أثنائه كشهر رمضان ولأن الإستئناف يجعل الصوم في الوقت الذي لم يعينه والوفاء بنذره في غير وقته وتفويت يوم واحد ولا يوجب تفويت غيره من الأيام فعلى هذا يكفر عن فطره ويقضي يوما مكانه بعد إتمام صومه وهذا أقيس إن شاء الله تعالى وعلى الرواية الأولى يلزمه الاستئناف عقيب اليوم الذي أفطر فيه ولا يجوز تأخيره لأن باقي الشهر منذور ولا يجوز ترك الصوم فيه وتلزمه كفارة أيضا لا حلاله بصوم هذا اليوم الذي أفطره
الحال الثاني : أفطر لعذر فإنه يبني على ما مضى من صيامه ويقضي ويكفر هذا قياس المذهب وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه لا كفارة عليه وهذا مذهب مالك و الشافعي و أبي عبيد لأن المنذور محمول على المشروع ولو أفطر رمضان لعذر لم يلزمه شيء
ولنا أنه فات ما نذره فلزمته كفارة ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأخت عقبة بن عامر : ولتكفر يمينها ] وفارق رمضان فإنه لو أفطر لغير عذر لم تجب عليه كفارة إلا في الجماع
فصل : فإن جن جميع الشهر المعين لم يلزمه قضاء ولا كفارة وقال أبو ثور يلزمه القضاء لأنه من أهل التكليف حالة نذره وقضائه فلزمه القضاء كالمغمى عليه
ولنا أنه ليس من أهل التكليف في وقت الوجوب فلم يلزمه القضاء كما لو كان في شهر رمضان وإن حاضت المرأة جميع الزمن المعين فعليها القضاء وفي الكفارة وجهان وقال الشافعي لا كفارة عليها وفي القضاء وجهان أحدهما : لا يلزمها النذر لأن زمن الحيض لا يمكن الصوم فيه ولا يدخل في النذر كزمن رمضان
ولنا أن المنذور يحمل على المشروع ابتداء ولو حاضت في شهر رمضان لزمها القضاء وذلك النذور
فصل : ولو قال لله علي الحج في عامي هذا فلم يحج لعذر أو غيره فعليه القضاء والكفارة ويحتمل ألا كفارة عليه إذا كان معذورا وقال الشافعي إن تعذر عليه الحج لعدم أحد الشرئط السبعة أو منعه منه سلطان أو عدو فلا قضاء عليه وإن حدث به مرض أو أخطأ عددا أو نسي أو توانى قضاه
ولنا أنه فاته الحج المنذور فلزمه قضاؤه كما لو مرض ولأن المنذور محمول على المشروع ابتداء ولو فاته المشروع لزمه قضاؤه كذلك المنذور
فصل : ولو نذر صوم شهر بعينه أو الحج في عام بعينه وفعل ذلك قبله لم يجزئه وقال أبو يوسف : يجزئه كما لو حلف ليقضينه حقه في وقت فقضاه قبله
ولنا أن المنذور محمول على المشروع ولو صام قبل رمضان لم يجزئه فكذلك إذا صام المنذور قبله ولأنه لم يأتي بالمنذور في وقته فلم يجزئه كما لو لم يفعله أصلا (11/365)
مسألة حكم من نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به
مسألة : قال : ومن نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به صام عنه ورثته من أقاربه وكذلك كل ما كان من نذر طاعة
يعني من نذر حجا أو صياما أو صدقة أو عتقا أو اعتكافا أو صلاة أو غيره ن الطاعات ومات قبل فعله فعله الولي عنه وعن أحمد في الصلاة لايصلي عن الميت لأنها لا بدل لها بحال وأما سائر الأعمال فيجوز أن ينوب الولي عنه فيها وليس بواجب عليه ولكن يستحب له ذلك على سبيل الصلة له والمعروف وافتى بذلك ابن عباس في امرأة نذرت أن تشي إلى قباء فماتت ولم تقضه ان تمشي ابنتها عنها وروى سعيد عن سفيان عن عبد الكريم بن أبي أمية أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف قال صم عنها واعكف عنها وقال حدثنا أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن عار بن شعيب أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات وقال مالك : لا يمشي أحد عن أحد ولا يصلي ولا يصو عنه وكذلك سائر أعمال البدن قياسا على الصلاة وقال الشافعي : يقضي عنه الحج ولا يقضي الصلاة قولا واحدا ولا يقضي الصوم في أحد القولين عنه كل يوم مسكين لأن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين ] أخرجه ابن اجة وقال أهل الظاهر يجب القضاء على وليه بظاهر الأخبار الواردة فيه وجممهور أهل العلم على أن ذلك ليس بواجب على الولي ألا أن يكون حقا في المال ويكون للميت تركه وأمر النبي صلى الله عليه و سلم في هذا محمول على الندب والاستحباب بدليل قرائن في الخبر منها [ أن النبي صلى الله عليه و سلم شبهه بالدين وقضاء الدين على الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركه يقضي بها ومنها أن السائل سأل النبي صلى الله عليه و سلم هل يفعل ذلك أم لا ؟ وجوابه يختلف باختلاف مقتضى سؤاله فإن كان مقتضاه السؤال عن الإباحة فالأمر في جوابه يقتضي الإباحة وإن كان السؤال عن الأجزاء فأمره يقتضي الوجوب كقولهم أنصلي في مرابض الغنم ؟ قال : صلوا في مرابض الغنم وإن كان سؤالهم عن الوجوب فأمره يقتضي الوجوب كقولهم : أيتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : توضؤوا من لحوم الإبل ] وسؤال السائل في مسألتنا كان عن الأجواء فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالفعل يقتضيه لا غير
ولنا على جواز الصيام عن الميت ما [ روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه ] وعن ابن عباس قال [ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول إن أمي ماتت وعليها صوم شهر افأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ ـ قال نعم قال ـ فدين الله أحق أن يقضى ] وفي رواية قال : [ جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمك دين فقيضته أكان يؤدى ذلك عنها ؟ قالت نعم قال : فصومي عن أمك ] متفق عليهن وعن ابن عباس [ أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي صلى الله عليه و سلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فافتاه أن يقضيه فكانت سنة بعد ] وعنه [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ ـ قال نعم قال ـ فاقض الله فهو أحق بالقضاء ] رواهما البخاري وهذا صريح في الصوم والحج ومطلق في النذر وما عدا المذكور في لحديث يقاس عليه وحجيث ابن عمر في الصوم الواجب بأصل الشرع ويتعين حمله عليه جمعا بين الحديثين ولو قدر التعارض لكانت أحاديثنا أصح وأكثر وأولى بالتقديم إذا ثبت هذا فإن الأولى أن يقضي النذر عنه وارثه فإن قضاه غير أجزأه عنه كما لو قضى عنه دينه فإن النبي صلى الله عليه و سلم شبهه بالدين وقاسه عليه ولأن ما يقضيه الوارث إنما هو تبرع منه وغيره مثله في التبرع وإن كان النذر في مال تعلق بتركته (11/370)
فصل فيمن نذر أن يطوف على أربع
ومن نذر أن يطوف على أربع فعليه طوافان قال ذلك ابن عباس [ لما روى معاوية بن خديج الكندي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم ومعه أمه كبشة بنت معديكرب عمة الأشعث بن قيس فقالت يا رسول الله صلى الله عليه و سلم إني آليت أن أطوف بالبيت حبوا فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : طوفي على رجليك سبعين سبعا عن يديك وسبعا عن رجليك ] أخرجه الدارقطني بإسناده
وقال ابن عباس في امرأة نذرت أن تطوف بالبيت على أربع قال تطوف عن يديها سبعا وعن رجليها سبعا
رواه سعيد والقياس أن يلزمه طواف واحد على رجليه ولا يلزمه ذلك على يديه لأنه غير مشروع فيسقط كما أن أخت عقبة نذرت أن تحج غير مختمرة فأمرها النبي صلى الله عليه و سلم أن تحج وتختمر
[ وروى عكرمة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في سفر فحانت منه نظرة فإذا امرأة ناشرة شعرها فقال مروها فتختمر ومر برجلين مقترنين فقال أطلقا قرانكما ] وقد ذكرنا حديث أبي إسرائيل الذي نذرأن يصوم ويفعل أشياء فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالصوم وحده ونهاه عن سائر نذوره وهل تلزمه كفارة ؟ يخرج فيه وجهان بناء على ما تقدم وقياس المذهب لزوم الكفارة لا خلاله بصفة نذره وإن كان غير مشروع كما لو كان أصل النذر غير مشروع
وأما وجه الأول فلأن من نذر الطواف على أربع فقد نذر الطواف على يديه ورجليه فأقيم الطواف الثاني مقام طوافه على يديه (11/372)
فصل حكم ما لو نذر صوم الدهر
فصل : فإن نذر صوم الدهر لزمه ولم يدخل في نذره رمضان ولا أيام العيد والتشريق فإن أفطر لعذر أو غيره لم يقضه لأن الزمن مستغرق بالصوم المنذور ولكن تلزمه كفارة لتركه وإن لزمه قضاء من رمضان أو كفارة قدمه على النذر لأنه واجب بأصل الشرع فقدم على ما أوجبه على نفسه كتقديم حجة الإسلام على المنذورة فإذا لزمته كفارة لتركه صوم يوم أو أكثر وكانت كفارته الصيام احتمل أن لا يجب لأنه لا يمكن التكفير إلا بترك الصوم المنذور وتركه يوجب كفارة فيفضي ذلك إلى التسلسل وترك المنذور بالكلية ويحتمل أن تجب الكفارة ولا تجب بفعلها كفارة لأن ترك النذر لعذر لا يوجب كفارة فلا يفضي إلى التسلسل (11/373)
فصل صيغة النذر
فصل : وصيغة النذر أن يقول لله علي أن أفعل كذا وإن قال علي نذر كذا لزمه أيضا لأنه صرح بلفظ النذر وإن قال إن شفاني الله فعلي صوم شهر كان نذرا وإن قال لله علي المشي إلى بيت الله قال ابن عمر في الرجل يقول على المشي إلى الكعبة لله قال هذا نذر فليمش ونحوه عن القاسم بن محمد ويزيد بن إبراهيم التيمي و مالك وجماعة من العلماء واختلف فيه عن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد فروي عنهما مثل قولهم وروي عنهما فيمن قال عل المشي إلى بيت الله فليس بشيء إلا أن يقول علي نذر مشي إلى بيت الله ولنا أن لفظه علي للإيجاب على نفسه فإذا قال علي المشي إلى بيت الله فقد أوجبه على نفسه فلزمه كما لو قال : هو علي نذر والله أعلم (11/373)
فصل القضاء فرض كفاية
كتاب القضاء : الأصل في القضاء ومشروعيته الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } وقول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } وقوله : { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم } وقوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وأما السنة فما روى عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر ] متفق عليه في آي وأخبار سوى ذلك كثيرة وأجمع المسلمون على مشروعية نصب القضاء والحكم بين الناس
فصل : والقضاء من فروض الكفايات لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه فكان واجبا عليهم كالجهاد والإمامة قال أحمد لا بد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس ؟ وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأداء الحق فيه ولذلك جعل الله فيه أجرا مع الخطأ وأسقط عنه حكم الخطأ ولأن فيه أمرا بالمعروف ونصرة المظلوم وأدار الحق إلى مستحقه وردا للظالم عن ظلمه وإصلاحا بين الناس وتخليصا لبضعهم من بعض وذلك من أبواب القرب ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه و سلم والأنبياء قبله فكانوا يحكمون لأممهم وبعث عليا إلى اليمن قاضيا وبعث أيضا معاذا قاضيا
وقد روي عن ابن مسعود أنه قال لأن أجلس قاضيا بين اثنين أحب إلي من عبادة سبعين سنة وعن عقبة بن عامر قال [ جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : اقض بينهما قلت أنت أولى بذلك قال : وإن كان قلت علام أقضي ؟ قال : اقض فإن أصبت فلك عشرة أجور وإن أخطأت فلك أجر واحد ] رواه سعيد في سننه (11/374)
فصل خطورة القضاء
فصل : وفيه خطر عظيم ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه ولذلك كان السلف رحمة الله عليهم يمتنعون منه أشد الإمتناع ويخشون على أنفسهم خطره
قال خاقان بن عبد الله : أريد أبو قلابة على قضاء البصرة فهرب إلى اليمامة فأريد على قضائها فهرب إلى الشام فأريد على قضائها وقيل ليس ههنا غيرك قال فانزلوا الأمر على ما قلتم فإنما مثلي مثل سابح وقع في البحر فسبح يومه فانطلق ثم سبح اليوم الثاني فمضى أيضا فلما كان اليوم الثالث فترت يداه وان يقال : [ أعلم الناس بالقضاء أشدهم له كراهة ولعظم خطره قال النبي صلى الله عليه و سلم : من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين ] قال الترمذي هذا حديث حسن وقيل في هذا الحديث أنه لم يخرج مخرج الذم للقضاء وإنما وصفه بالمشقة فكأن من وليه قد حمل على مشقة كمشقة الذبح (11/375)
فصل ضروب الناس في القضاء
فصل : والناس في القضاء على ثلاثة أضرب منهم : من لا يجوز له الدخول فيه وهو من لا يحسنه ولم تجتمع فيه شروطه فقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ القضاء ثلاثة ] ذكرمنهم رجلا قضى بين الناس بجهل فهو في النار ولأن من لا يحسنه لا يقدر على العدل فيه فيأخذ الحق من مستحقه فيدفعه إلى غيره ومنهم : من يجوز له ولا يجب عليه وهو من كان من أهل العدالة والإجتهاد ويوجد غيره مثله فله أن يلي القضاء بحكم حالة وصلاحيته ولا يجب عليه لأنه لم يتعين له وظاهر ككلام أحمد أنه لا يستحب له الدخول فيه لما فيه من الخطر والغرر وفي تركه من السلامة ولما ورد فيه من التشديد والذم ولأن طريقة السلف الامتناع منه والتوقي وقد أراد عثمان رضي الله عنه تولية ابن عمر القضاء فأباه وقال أبو عبد الله بن حامد إن كان رجلا خاملا لا يرجع إليه في الأحكام ولا يعرف فالأولى له توليه ليرجع إليه في الأحكام ويقوم به الحق وينتفع به المسلمون وإن كان مشهورا في الناس بالعلم يرجع إليه في تعليم العلم والفتوى فالأولى الاشتغال بذلك لما فيه من النفع مع الأمن من الغرر ونحو هذا قال أصحاب الشافعي وقالوا أيضا إذا كان ذا حاجة له في القضاء رزق فالأولى له الاشتغال به فيكون أولى من سائر المكاسب لأنه قربة وطاعة وعلى كل حال فإنه يكره للإنسان طلبه والسعي في تحصيله لأن أنسا روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده ] قال الترمذي هذا حديث حسن غريب [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لعبد الرحمن بن سمرة : يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فإنك أن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ] متفق عليه
الثالث : من يجب عليه وهو من يصلح للقضاء ولا يوجد سواه فهذا يتعين عليه لأنه فرض كفاية لا يقدر على القيام به غيره فيتعين عليه كغسل الميت وتكفينه
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه لا يتعين عليه فإنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ؟ قال لا يأثم فهذا يحتمل أنه يحمل على ظاهره في أنه لا يجب عليه لما فيه من الخطر بنفسه فلا يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره ولذلك امتنع أبو قلابة منه وقد قيل له ليس غيرك ويحتمل أن يحمل على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان أو غيره فإن قال أحمد قال لا بد للناس من حاكم أتذهب حقوق الناس ؟ (11/376)
فصل يجوز للقاضي أخذ الرزق
فصل : ويجوز للقاضي أخذ الرزق ورخص فيه شريح و ابن سيرين و الشافعي وأكثر أهل العلم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم وبعث إلى الكوفة عمارا وعثمان بن حنيف وابن مسعود ورزقهما كل يوم شاة نصفها لعمار ونصفها لابن مسعوج وعثمان وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام أن انظرا رجالا من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله
وقال أبو الخطاب يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة فأما مع عدمها فعل وجهين وقال أحمد ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجرا وإن كان فبقدر شغله مثل والي اليتيم وكان ابن مسعود و الحسن يكرهان الأجر على القضاء وكان مسروق وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليه أجرا وقالا لا نأخذ أجرا على أن نعدل بين اثنين وقال أصحاب الشافعي أن لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق عليه وإن تعين لم يجز إلا مع الحاجة والصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له الرزق كل يوم درهمين ولما ذكرناه من أن عمر رزق زيدا و شريحا وابن مسعود وأمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة ولأن بالناس حاجة إليه ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل وضاعت الحقوق فأما الاستئجار عليه فلا يجوز قال عمر رضي الله عنه : لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجرا وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وذلك لأنه قربة يختص فاعله أن يكون في أهل القربة فأشبه الصلاة ولأنه لا يعمله الإنسان عن غيره وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة ولأنه عمل غير معلوم فإن لم يكن للقاضي رزق فقال للخصمين لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا عليه جاز ويحتمل أن لا يجوز (11/377)
فصلان بعث القضاة وتوليتهم
فصل : وإذا كان الإمام في بلد فعليه أن يبعث القضاة إلى الأمصار غير بلده ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عليا قاضيا إلى اليمن وبعث معاذ بن جبل إلى اليمن أيضا وقال له : بم تحكم ؟ ـ قال بكتاب الله تعالى قال ـ فإن لم تجد ـ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ـ فإن لم تجد ـ قال اجتهد رأيي ـ قال الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه و سلم ] وبعث عمر شريحا على قضاء الكوفة وكعب بن سور على قضاء البصرة وكتب إلى أبي عبيدة ومعاذ يأمرهما بتولية القضاء في الشام لأن أهل كل بلد يحتاجون إلى القاضي ولا يمكنهم المصير إلى بلد الإمام ومن أمكنه ذلك شق عليه فوجب اغناؤهم عنه
فصل : وإذا أراد الإمام تولية قاض فإن كان له خبرة بالناس ويعرف من يصلح للقضاء ولاه وإن لم يعرف ذلك سأل أهل المعرفة بالناس واسترشدهم على من يصلح وإن ذكر له رجل لا يعرفه أحضره وسأله وإن عرف عدالته وإلا بحث عن عدالته إذا عرفها ولاه ويكتب له عهدا يأمره فيه بتقوى الله والتثبت في القضاء ومشاورة أهل العلم وتصفح أحوال الشهود وتأمل الشهادات وتعاهد اليتامى وحفظ أموالهم وأموال الوقوف وغير ذلك مما يحتاج إلى مراعاته ثم إن كان البلد الذي ولاه قضاءه بعيدا لا يستفيض إليه بالخبر بما يكون في بلد الإمام أحضر شاهدين عدلين وقرأ عليهما العهد وأقرأه غيره بحضرته وأشهدهما على توليته ليمضيا معه إلى بلد ولايته فيقيما له الشهادة ويقول لهما أشهدا على أني قد وليته قضاء البلد الفلان وتقدمت إليه بما اشتمل هذا العهد عليه وإن كان البلد قريبا من بلد الإمام يستفيض إليه ما يجري في بلد الإمام مثل أن يكون بينهما خمسة أيام أو ما دونها جاز أن يكتفى بالاستفاضة دون الشهادة لأن الولاية تثبت بالاستفاضة وبهذا قال الشافعي إلا أن عنده في ثبوت الولاية بالاستفاضة في البلد القريب وجهين وقال أصحاب أبي حنيفة تثبت بالاستفاضة ولم يفصلوا بين القريب والبعيد لأن النبي صلى الله عليه و سلم ولى عليا ومعاذا قضاء اليمن وهو بعيد من غير شهادة وولى الولاة في البلدان البعيدة وفوض إليهم الولاية والقضاء ولم يشهد وكذلك خلفاؤه ولم ينقل منهم الاشهاد على تولية القضاء مع بلدانهم
ولنا أن القضاء لا يثبت إلا بأحد الأمرين وقد تعذرت الاستفاضة في البلد البعيد لعدم وصولها إليه فتعين الأشهاد ولا نسلم أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يشهد على توليته فإن الظاهر أنه لم يبعث واليا إلا ومعه جماعة فالظاهر أنه أشهدهم وعدم نقله لا يلزم منه عدم فعله وقد قام دليله فتعين وجوده (11/379)
مسألة شروط القاضي وشروط الاجتهاد
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله تعالى : ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عدلا عالما فقيها ورعا
وجملته أنه يشترط في القاضي ثلاثة شروط أحدها : الكمال وهو نوعان كمال الأحكام وكمال الخلقة أما كمال الأحكام فيعتبر في أربعة أشياء أن يكون بالغا عاقلا حرا ذكرا وحكي عن ابن جرير أنه لا تشترط الذكورية لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية فيجوز أن تكون قاضية وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما أفلح قوم ولو أمرهم امرأة ] ولأن القاضي يحضر محافل الخصوم والرجال ويحتاج فيه إلى كمال الرأي وتمام العقل والفطنة والمرأة ناقصة العقل قليلة الرأي ليست أهلا للحضور في محافل الرجال ولا تقبل شهادتها ولو كان معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل وقد نبه الله تعالى على صلالهن ونسيانهن بقوله تعالى : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه و سلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا وأما كمال الخلقة فإن يكون متكلما سميعا بصيرا لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ولا يفهم جميع الناس إشارته والأصم لا يسمع قول الخصمين والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه والمقر من المقر له والشاهد من المشهود له وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز أن يكون أعمى لأن شعيبا كان أعمى ولهم في الأخرس لذي تفهم إشارته وجهان
ولنا أن هذه الحواس تؤثر في الشهادة فيمنع فقدها ولاية القضاء كالسمع وهذا لأن منصب الشهادة دون منصب القضاء والشاهد يشهد في أشياء يسيرة يحتاج اليه وربما أحاط بحقيقة علمها والقاضي ولايته عامة ويحكم في قضايا الناس عامة فإذا لم يقبل منه الشهادة فالقضاء أولى وما ذكروه عن شعيب فلا نسلم فيه فإنه لم يثبت أنه كان أعمى ولو ثبت فيه ذلك فلا يلزم ههنا فإن شعيبا عليه السلام كان من آمن معه من الناس قليلا وربما لا يحتاجون إلى الحكم بينهم لقلتهم وتناصفهم فلا يكون حجة في مسألتنا
الشرط الثاني : العدالة فلا يجوز تولية فاسق ولا من فيه نقص يمنع الشهادة وسنذكر ذلك في الشهادة إن شاء الله تعالى [ وحكي عن الأصم أنه قال يجوز أن يكون القاضي فاسقا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : سيكون بعدي امراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها فصلوها لوقتها واجعلوا صلاتكم معهم سبحة ]
ولنا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } فأمر بالتبين عند قول الفاسق ولا يجوز أن يون الحاكم ممن لا يقبل قوله ويجب التبين عند حكمه ولأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا فلألا يكون قاضيا أولى فأما الخبر فاخبر بوقوع كونهم أمراء لا بمشروعتيه والنزاع في صحة توليته لا في وجودها
الشرط الثالث : : أن يكون من أهل الاجتهاد وبهذا قال مالك و الشافعي وبعض الحنفية وقال بعضهم يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد لأن الغرض منه فصل الخصائم فإذا أمكنه ذلك بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقومين
ولنا قول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولم يقل بالتقليد وقال : { لتحكم بين الناس بما أراك الله } وقال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل جار في الحكم فهو في النار ] رواه ابن ماجة والعامي يقضي على جهل ولأن الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا والزام ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى فإن قيل : فالمفتي يجوز أن يخبر بما سمع قلنا نعم إلا أنه لا يكون مفتيا تلك الحال وإنما هو مخبر فيحتاج أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد فيكون معمولا بخبره لا بفتياه ويخالف قول المقومين لأن ذلك لا يمكن معرفته بنفسه بخلاف الحكم
إذا ثبت هذا فمن شرط الاجتهاد معرفة ستة أشياء الكتاب والسنة والإجماع والاختلاف والقياس ولسان العرب أما الكتاب فيحتاج أن بعرف منه عشرة أشياء : الخاص والعام والمطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والمجمل والمفسر والناسخ والمنسوخ في الآيات المتعلقة بالأحكام وذلك نحو خمسمائة ولا يلزمه معرفة سائر القرآن فأما السنة فيحتاج إلى معرفة ما يتعلق منها بالأحكام دون سائر الأخبار من ذكر الجنة والنار والرقائق ويحتاج أن يعرف منها ما يعرف من الكتاب ويزيد معرفة التواتر والآحاد والمرسل والمتصل والمسند والمنقطع والصحيح والضعيف ويحتاج إلى معرفة ما أجمع عليه وما أجمع عليه وما اختلف فيه ومعرفة القياس وشروطه وأنواعه وكيفية استنباطه الأحكام ومعرفة لسان العرب فيما يتعلق بما ذكرنا ليتعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه فإن قيل هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز اشتراطها ؟ قلنا ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه و سلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال امامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة يسألا الناس فيخبرا فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة فقال : مالك في كتاب الله شيء ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا ولكن ارجعي حتى أسأل الناس ثم قام فقال أنشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجدة فقام المغيرة بن شعبة فقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطاها السدس وسئل عمر عن املاص المرأة فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي قضى فيه بغرة ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة منصب الاجتهاد فلا تكون شرطا له وهو سابق عليها وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل بل من عرف أدلة مسألة وما يتعلق بها فهو مجتهد فيها وإن جهل غيرها كمن يعرف الفرائض وأصولها ليس من شرط اجتهاده فيها معرفته بالبيع ولذلك ما من إمام إلا وقد توقف في مسائل وقيل من يجيب في كل مسألة فهو مجنون وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله
وحكي أن مالكا سئل عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها لا أدري ولم يخرجه ذلك عن كونه مجتهدا وإنما المعتبر أصول هذه الأمور وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه والله أعلم (11/381)
فصلان من شروط الحاكم
فصل : ليس من شرط الحاكم كونه كاتبا وقيل يشترط ذلك لعلم ما يكتبه كاتبه ولا يتمكن من اخفائه عنه
ولنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان أميا وهو سيد الحكام وليس من ضرورة الحاكم الكتابة فلا تعتبر شروطها وإن احتاج إلى ذلك جاز توليته لمن يعرفه كما أنه قد يحتاج إلى القسمة بين الناس وليس من شرطه معرفة المساحة ويحتاج إلى التقويم وليس من شرط القضاء أن يكون عالما بقيمة الأشياء ولا معرفته بعيوب كل شيء
فصل : وينبغي أن يكون الحاكم قويا من غير عنف لينا من غير ضعف لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله ويكون حليما متأنيا ذا فطنة وتيقظ لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة صحيح السمع والبصر عالما بلغات أهل ولايته عفيفا ورعا نزها بعيدا من الطمع صدوق اللهجة ذا رأي ومشورة لكلامه لين إذا قرب وهيبة إذا أوعد ووفاء إذا وعد ولا يكون جبارا ولا عسوفا فيقطع ذا الحجة عن حجته قال علي رضي الله عنه لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال : عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال إن فاتته واحدة كانت فيه وصمة : العقل والفقه والورع والنزاهة والصرامة والعلم بالسنن والحكم ورواه سعيد فيه يكون فهما حليما عفيفا صلبا سآلما عما لا يعلم وفي رواية محتملا للأئمة ولا يكون ضعيفا مهينا لأن ذلك يبسط المختاصمين إلى التهاتر والتشائم بين يديه قال عمر رضي الله عنه : لأعزلن فلانا عن القضاء ولأستعملن رجلا إذا رآه الفاجر فرقه (11/386)
فصلان أمور تراعى في تولية القضاء
فصل : وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصيح عليه وإن استحق التعزير عزره بما يرى من أدب أو حبس وإن افتات عليه بأن يقول حكمت علي بغير الحق أو ارتشيت فله تأديبه وله أن يعفو وإن بدأ المنكر باليمين قطعها عليه وقال البينة على خصمك فإن عاد نهره فإن عاد عزره إن رأى وأمثال ذلك مما فيه إساءة الأدب فله مقابلة فاعله وله العفو
فصل : وإن ولى الإمام رجلا القضاء فإن كانت ولايته في غير بلده فاراد السير إلى بلاد ولايته بحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه ويتعرف منهم ما يحتاج إلى معرفته فإن لم يجد سأل في طريقه فإن لم يجد سأل إذا دخل البلد عن أهله ومن به من العلماء والفضلاء وأهل العدالة والسير وسائر ما يحتاج إلى معرفته وإذا قرب من البلد بعث من يعلمهم بقدومه ليتلقوه ويجعل قدومه يوم الخميس إن أمكنه لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ثم يقصد فيصلي فيه ركعتين كما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعل إذا دخل المدينة ويسأل الله تعالى التوفيق والعصمة والمعونة وأن يجعل عمله صالحا ويجعله لوجهه خالصا ولا يجعل لأحد فيه شيئا ويفوض أمره إلى الله تعالى ويتوكل عليه ويأمر مناديه فينادي في البلدان فلانا قدم عليكم قاضيا فاجتمعوا لقراءة عهده وقت كذا وكذا وينصرف إلى منزله الذي قد أعد له وينبغي أن يكون في وسط البلد ليتساوى أهل المدينة فيه ولا يشق على بعضهم قصده فإذا اجتمعوا أمر بعهده فقرىء عليهم ليعلموا التولية ويأتوا إليه ويعد الناس يوما يجلس فيه للقضاء ثم ينصرف إلى منزله وأول ما يبدأ فيه من أمر الحكم أن يبعث إلى الحاكم المعزول فيأخذ منه ديوان الحكم وهو ما فيه وثائق الناس من المحاضر وهي نسخ ما ثبت عند الحاكم والسجلات نسخ ما حكم به وما كان عنده من حجج الناس ووثائقهم مودعة في ديوان الحكم وكانت عنده بحكم الولاية فإذا انتقلت الولاية إلى غيره كان عليه تسليمها إليه فتكون مودعة عنده في ديوانه ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه إلى مجلسه على أكمل حالة وأعد لها خليا من الغضب والجوع الشديد والعطش والفرح الشديد والحزن الكثير والهم العظيم والزجع المؤلم ومدافعة الأخبثين أو أحدهما والنعاس الذي يغمر القلب ليكون أجمع لقلبه وأحضر لذهنه وأبلغ في تيقظه للصواب وفطنته لموضع الرأي ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ] فنص على الغضب ونبه على ما في معناه من سائر ما ذكرناه ويسلم على من يمر به من المسلمين في طريقه ويذكر الله بقلبه ولسانه حتى يأتي مجلسه ويستحب أن يجعله في موضع بارز للناس فسيح كالرحبة والفضاء الواسع أو الجامع ولا يكره القضاء في المساجد فعل ذلك شريح و الحسن و الشعبي و محارب بن دثار ويحيى بن يعمر و ابن أبي ليلى وابن خلدة قاض لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وروي عن عمر وعثمان وعلي انهم كانوا يقضون في المسجد
وقال مالك : القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وبه قال مالك و إسحاق و ابن المنذر وقال الشافعي يكره ذلك إلا أن يتفق خصمان عنده في المسجد لما روي أن عمر كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا تقض في المسجد لأنه تأتيك الحائض والجنب ولأن الحاكم يأتيه الذمي والحائض والجنب وتكثر غاشيته ويجري بينهم اللغط والتكاذب والتجاحد وربما أدى إلى السبب وما لم تبن له المساجد
ولنا إجماع الصحابة بما قد رويناه عنهم وقال الشعبي رأيت عمر وهو مستند إلى القبلة يقضي بين الناس وقال مالك هو من أمر الناس القديم ولأن القضاء قربة وطاعة وانصاف بين الناس فلم يكره في المسجد ولا نعلم صحة ما رووه عن عمر وقد روي عنه خلافه وأما الحائض فإن عرضت لها حاجة إلى القضاء وكلت أو أتته في منزله إليه للحكومة والفتيا وغير ذلك من حوائجهم وكان أصحابه يطالب بعضهم بعضا بالحقوق في المسجد وربما رفعوا أصواتهم [ فقد روي عن كعب بن مالك أنه قال : تقاضيت ابن أبي حدرد دينا في المسجد حتى ارتفعت أصواتنا فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فأشار إلي أن ضع من دينك الشطر فقلت نعم يا رسول الله قال : فقم فاقضه ] وينبغي أن يكون جلوسه في وسط البلد لئلا يبعد على قاصديه ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه [ لما روى القاسم بن مخيمرة عن أبي مريم صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من ولي من أمور الناس شيئا واحتجب دون حاجتهم احتجب الله دون حاجته وفاقته وفقره ] رواه الترمذي ولأن حاجبه ربما قدم المتأخر وأخر المتقدم لغرض له وربما كسرهم بحجبهم والاستئذان لهم ولا بأس باتخاذ حاجب في غير مجلس القضاء ويبسط له شيء ولا يجلس على التراب ولا على حصير المسجد لأن ذلك يذهب بهيبته من أعين الخصوم ويجعل جلوسه مستقبل القبلة لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة وهذه الآداب المذكورة في هذا الفصل ليست شرطا في الحكم إلا الخلو من الغضب وما في معناه فإن في اشتراطه روايتين (11/387)
فصول فيما ينظر فيه القاضي وتسلسل ذلك
فصل : وإذا جلس الحاكم في مجلسه فأول ما ينظر فيه أمر المحبوسين لأن الحبس عذاب وربما كان فيهم من لا يستحق البقاء فيه فينفذ إلى حبس القاضي الذي كان قبله ثقة يكتب اسم كل محبوس وفيم حبس ؟ ولمن حبس ؟ فيحمله إليه فيأمر مناديا ينادي في البلد ثلاثة أيام إلا أن القاضي فلان بن فلان ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا فمن كان له محبوس فليحضر فإذا حضر ذلك اليوم وحضر الناس ترك الرقاع التي فيها اسم المحبوسين بين يديه ومد يده إليها فما وقع في يده منها نظر إلى اسم المحبوس وقال من خصم فلان المحبوس فإذا قال خصمه أنا بعث معه ثقة إلى الحبس فاخرج خصمه وحضر معه مجلس الحكم ويفعل ذلك في قدر ما يعلم أنه يتسع زمانه للنظر فيه في ذلك المجلس ولا يخرج غيرهم فإذا حضر المحبوس وخصمه لم يسأل خصمه لما حبسته لأن الظاهر أن الحاكم أنما حبسه بحق لكن يسأل المحبوس بم حبست ؟ ولا يخلو جوابه من خمسة أقسام
أحدها : أن يقول حبسني بحق له حال أنا مليء به فيقول له الحاكم اقضه وإلا رددتك في الحبس
الثاني : أن يقول له علي دين أنا معسر به فيسأل خصمه فإن صدقه فلسه الحاكم وأطلقه وإن كذبه نظر في سبب الدين فإن كان شيئا حصل له به مال كقرض أو شراء لم يقبل قوله في الإعسار إلا ببينة بأن ماله تلف أو نفذ أو ببينة أنه معسر فيزول الأصل الذي ثبت ويكون القول قوله فيما يدعيه عليه من المال وإن لم يثبت له أصل مال ولم تكن لخصمه بينة بذلك فالقول قول المحبوس مع يمينه أنه معسر لأن الأصل الإعسار وإن شهدت لخصمه بينة بأن له مالا لم تقبل حتى تعين ذلك المال بما يتميز به فإن شهدت عليه البينة بدار معينة أو غيرها وصدقها فلا كلام وإن كذبها وقال ليس هذا لي وإنما هو في يدي لغيري لم يقبل إلا أن يقر به إلى واحد بعينه فإن كان الذي أقر له به حاضرا نظرت فإن كذبه في إقراره سقط وقضى من المال دينه وإن صدقه نظرت فإن كان له به بينة فهو أولى لأن له بينة وصاحب اليد يقر له به وإن لم تكن له بينة فذكر القاضي أنه لا يقبل قولهما ويقضي الدين منه لأن البينة شهدت لصاحب اليد بالملك فتضمنت شهادتها وجوب القضاء منه فإذا لم تقبل شهادتها في حق نفسه قبلت فيما تضمنته لأنه حق لغيره ولأنه متهم في إقراره لغيره لأنه قد يفعل ذلك ليخلص ماله ويعود إليه فتحلقه تهمة فلم تبطل البينة بقوله وفيه وجه آخر يثبت الإقرار وتسقط البينة لأنها تشهد بالملك لمن لا يدعيه وينكره
الجواب الثالث : أن يقول حبسني لأن البينة شهدت علي لخصمي بحق ليبحث عن حال الشهود فهذا ينبني على اصل وهو أن الحاكم هل له ذلك أو لا ؟ فيه وجهان
أحدها : ليس له ذلك لأن الحبس عذاب فلا يتوجه عليه قبل ثبوت الحق عليه فعلى هذا لا يرده إلى الحبس أن صدقه خصمه في هذا
والثاني : يجوز حبسه لأن المدعي قد أقام ما عليه وإنما بقي ما على الحاكم من البحث ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين فعلى هذا الوجه يرده إلى الحبس حتى يكشف عن حال شهوده وإن كذبه خصمه وقال بل قد عرف الحاكم عدالة شهودي وحكم عليه بالحق فالقول قوله لأن الظاهر أن حبسه بحق
الجزاب الرابع : يقول حبسني الحاكم بثمن كلب أو قيمة خمر أرقته لذمي لأنه كان يرى ذلك فإن صدقه خصمه فذكر القاضي أن يطلقه لأن غرم هذا ليس بواجب وفيه وجه آخر أن الحاكم ينفذ حكم الحاكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده وفيه وجه آخر أنه يتوقف ويجتهد أن يصطلحا على شيء لأنه لا يمكنه فعل أحد الأمرين المتقدمين ولـ لشافعي قولان كهذين الوجهين الأخيرين وإن كذبه خصمه وقال بل حبست بحق واجب غير هذا فالقول قوله لأن الظاهر حبسه بحق
الجواب الخامس : أن يقول حبست ظلما ولا حق علي فينادي منادي الحاكم بذكر ما قاله فإن حضر رجل فقال أنا خصمه فأنكره وكانت للمدعي بينة كلف الجواب على ما مضى وإن لم تكن له بينة أو لم يظهر له خصم فالقول قوله مع يمينه أنه لا خصم له أو لا حق عليه ويخلى سبيله
فصل : ثم ينظر في أمر الأوصياء لأنهم يكونون ناظرين في أموال اليتامى والمجانين وتفرقة الوصية بين المساكين فيقصدهم الحاكم بالنظر لأن المنظور عليه لا يمكنه المطالبة بحقه فإن الصغير والمجنون لا قول لهما والمساكين لا يتعين الأخذ منهم فإذا قدم إليه الوصي فإن كان الحاكم قبله نفذ وصيته لم يعزله لأن الحاكم ما نفذ وصيته إلا وقد عرف أهليته في الظاهر ولكن يراعيه فإن تغيرت حاله بفسق أو ضعف أضاف إليه أمينا قويا يعينه وإن كان الأول ما نفذ وصيته نظر فيه كان أمينا قويا أقره وإن كان أمينا ضعيفا ضم إليه من يعينه وإن كان فاسقا عزله وأقام غيره وعلى قول الخرقي يضم إليه أمين ينظر عليه وإن كان قد تصرف أو فرق الوصية وهو أهل للوصية نفذ تصرفه وإن كان ليس بأهل وكان أهل الوصية بالغين عاقلين معينين صح الدفع إليهم لأنهم قبضوا حقوقهم وإن كانوا غير معينين كالفقراء والمساكين ففيه وجهان
أحدهما : عليه الضمان ذكره القاضي وأصحاب الشافعي لأنه ليس له التصرف
والثاني : لا ضمان عليه لأنه أوصله إلى أهله وكذلك إن فرق الوصية غير الموصى إليه بتفريقهما فعلى وجهين
فصل : ثم ينظر في أمناء الحاكم وهم من رد إليهم الحاكم النظر في أمر الأطفال وتفرقة الوصايا التي لم يعين لها وصي فإن كانوا بحالهم أقرهم لأن الذي قبله ولاهم ومن تغير حاله منهم عزله إن فسق وإن ضعف ضم إليه أمينا
فصل : ثم ينظر في أمر الضوال واللقطة التي تولى الحاكم حفظها فإن كانت مما يخاف تلفه كالحيوان أو في حفظه مؤنة كالأموال الجافية باعها وحفظ ثمنها لأربابها وإن لم تكن كذلك كالأثمان حفظها أربابها ويكتب عليها لتعرف (11/391)
مسألة لا يحكم القاضي بين اثنين وهو غضبان
مسألة : قال : ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان
لا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان كره ذلك شريح وعمر ابن عبد العزيز و أبو حنيفة و الشافعي وكتب أبو بكر إلى عبد الله بن أبي بكرة وهو قاض بسجستان أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ] متفق عليه وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى اياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس والتنكر لهم عند الخصومة فإذا رأيت الخصم يتعمد الظلم فأوجع رأسه ولأنه إذا غضب تغير عقله ولم يستوف رأيه وفكره وفي معنى الغضب كلما شغل فكره من الجوع المفرط والعطش الشديد والوجع المزعج ومدافعه أحد الأخبثين وشدة النعاس والهم والغم والحزن والفرح فهذه كلها تمنع الحاكم لأنها تمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب فهي في معنى الغضب المنصوص عليه فتجري مجراه فإن حكم في الغضب أو ما شاكله فحكى عن القاضي أنه لا ينفذ قضاؤه لأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وقال في المجرد ينفذ قضاؤه وهو مذهب الشافعي [ لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شراح الحرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم للزبير : اسق ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري إن ان ابن عمتك فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ] متفق عليه فحكم في حال غضبه وقيل أنما يمنع الغضب الحاكم إذا كان قبل ان يتضح له الحكم في المسألة فأما إن اتضح الحكم ثم عرض الغضب لم يمنعه لأن الحق قد استبان قبل الغضب فلا يؤثر الغضب فيه (11/395)
مسألة وفصول استحباب المشاورة في القضاء وحضور أهل العلم والمشورة مجلس القاضي
مسألة : قال : وإذا نزل به الأمر المشكل عليه مثله شاور فيه أهل العلم والأمانة
وجملته أن الحاكم إذا حضرته قضية تبين له حكمها في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو إجماع أو قياس جلي حكم ولم يحتج إلى رأي غيره ل [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : بم تحكم ؟ ـ قال بكتاب الله قال ـ فإن لم تجد ؟ قال ـ بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ـ فإن لم تجد ـ قال اجتهد رأيي ولا آلو ـ قال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه و سلم ] فإن احتاج إلى الاجتهاد استحب له أن يشاور لقول الله تعالى : { وشاورهم في الأمر } قال الحسن إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لغنيا عن مشاورتهم وإنما أراد أن يستن بذلك الحكام بعده وقد شاور النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه في أسارى بدر وفي مصالحة الكفار يوم الخندق وفي لقاء الكفار يوم بدر
وروي ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم وشاور أبو بكر الناس في ميراث الجدة وعمر في دية الجنين وشاور الصحابة في حد الخمر وروي أن عمر كان يكون عنده جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف إذا نزل به الأمر شاورهم فيه ولا مخالف في استحباب ذلك قال أحمد لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما وولي محارب بن دثار قضاء الكوفة فكان يجلس بين الحكم و حماد يشاورهما ما أحسن هذا لو كان الحكام يفعلونه يشاورون وينتظرون ولأنه قد ينتبه بالمشاورة ويتذكر ما نسيه بالمذاكرة ولأن الإحاطة بجميع العلوم متعذرة وقد ينتبه لإصابة الحق ومعرفة الحادثة من هو دون القاضي فكيف بمن يساويه أو يزيد عليه ؟ فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه جائته الجدتان فورث أم الأم وأسقط أم الأب فقال له عبد الرحمن بن سهل يا خليفة رسول الله لقد أسقطت التي لو ماتت ورثها وورثت التي لو ماتت لم يرثها فرجع أبو بكر فاشرك بينهما
وروى عمر بن شبة عن الشعبي أن كعب بن سوار كان جالسا عند عمر فجاءته امرأة فقالت يا أمير المؤمنين مل رأيت رجلا قط أفضل من زوجي والله أنه ليبيت ليله قائما ويظل نهاره صائما في اليوم الحار ما يفطر فاستغفر لها وأثنى عليها وقال مثلك اثنى الخير قال واستحيت المرأة فقامت راجعة فقال كعب يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها قال وما شكت قال شكت زوجها أسد الشكاية ؟ قال أو ذاك أرادت ؟ قال نعم قال ردوا علي المرأة فقال لا بأس بالحق أن تقوليه إن هذا زعم أنك جئت تشكين زوجك أنه يجتنب فراشك قالت أجل إني امرأة شابة وإني لأبتغي ما يبتغي النساء فأرسل إلى زوجها فجاء فقال لكعب اقض بينهما قال أمير المؤمين أحق أن يقضي بينهما قال عزمت عليك لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهم قال فإني أرى كأنها عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن فاقضي له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة فقال عمر والله ما رأيك الأول أعجب إلي من الآخر اذهب فأنت قاض على البصرة إذا ثبت هذا فإنه يشاور أهل العلم والأمانة لأن من ليس كذلك فلا قول له في الحادثة ولا يسكن إلى قوله قال سفيان : وليكن أهل مشورتك أهل التقوى وأهل الأمانة ويشاور الموافقين والمخالفين ويسألهم عن حجتهم ليبين له الحق
فصل : والمشاروة ههنا لاستخراج الأدلة ويعرف الحق بالاجتهاد ولا يجوز أن يقلد غيره ويحكم بقول سواه سواء ظهر له الحق فخالفه غيره فيه أو لم يظهر له شيء وسواء ضاق الوقت أو لم يضق وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتقليد وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة إذا كان الحاكم من أهل الاجتها جاز له ترك رأيه لرأي من هو أفقه منه عنده إذا صار إليه فهو ضرب من الاجتهاد ولأنه يعتقد أنه أعرف منه بطريق الاجتهاد
ولنا أنه من أهل الاجتهاد فلم يجز له تقليد غيره كما لو كان مثله كالمجتهدين في القبلة وما ذكره ليس بصحيح فإن من هو أفقه منه يجوز عليه الخطأ فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ لم يجز له أن يعمل به وإن كان لم يبن له الحق فلا يجوز له أن يحكم بما يجوز أن يبين له خطؤه إذا اجتهد
فصل : قال أصحابنا يستحب أن يحضر مجلسه أهل العلم من كل مذهب حتى إذا حدثت حادقة يفتقر إلة أن يسألهم عنها سألهم ليذكروا أدلتهم فيها وجوابهم عنها فإنه أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه فإن حكم بإجتهاده فليس لأحد منهم أن يرد عليه وإن خالف اجتهاده لأن فيه افتئاتا عليه إلا أن يحكم بما يحالف نصا أو إجماعا
فصل : وينبغي له أن يحضر شهوده مجلسه ليستوفي بهم لحقوق وتثبت بهم الحجج والمحاضر فإن كان ممن يحكم بعلمه فإن شاء أدناهم إليه وإن شاء باعدهم منه بحيث إذا احتاج إلى اشهادهم على حكمه استدعاهم ليشهدوا بذلك وإن كان ممن لا يحكم بعلمه أجلسهم بالقرب منه حتى يسمعوا كلام المختاصمين لئلا يقر منهم مقر ثم ينكر ويجحد فيحفظوا عليه إقراره ويشهدوا به
فصل : وإذا اتصلت به الحادثة واستنارت الحجة لأحد الخصمين حكم وإن كان فيها لبس أمرهما بالصلح فإن أبيا أخرهما إلى البيان فإن عجلها قبل البيان لم يصح حكمه
وممن رأى الإصلاح بين الخصمين شريح وعبد الله بن عتبة و أبو حنيفة و الشعبي و العنبري وروي عن عمر أنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن قال أبو عبيد إنما يسعه الصلح في الأمور المشكلة أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين وتبين له موضع الظالم فليس له أن يحملهما على الصلح ونحوه قول عطاء واستحسنه ابن المنذر وروي عن شريح أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرة واحدة
فصل : وإذا حدثت حادثة نظر في كتاب الله فإن وجدها وإلا نظر في سنة رسوله فإن لم يجدها نظر في القياس فألحقها بأشبه الأصول بها لما ذكرنا من حديث معاذ بن جبل وهو حديث يرويه عمرو بن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة عن رجال من أصحاب معاذ من أهل حمص وعمرو والرجال مجهولون إلا انه حديث مشهور في كتب أهل العلم رواه سعيد بن منصور والإمام أحمد وغيرهما وتلقاه العلماء بالقبول وجاء عن الصحابة من قولهم ما يوافقه فروى سعيد أن عمر قال لـ شريح انظر ما يتبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا وما لا يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه السنة وما لم يتبين لك في السنة فاجتهد فيه رأيك وعن ابن مسعود مثل ذلك (11/396)
مسألة لا يحكم الحاكم بعلمه
مسألة : قال : ولا يحكم الحاكم بعلمه
ظاهر المذهب أن الحاكم لا يحكم بعلمه في حد ولا غيره لا فيما علمه قبل الولاية ولا بعدها هذا قول شريح و الشعبي و مالك و إسحاق و أبي عبيد و محمد بن الحسن وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى يجوز له ذلك وهو قول أبي يوسف والقول الثاني لـ لشافعي واختيار المزني [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما قالت له هند أن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فحكم لها من غير بينة ولا إقرار لعلمه بصدقها
وروى ابن عبد البر في كتابه إن عروة و مجاهدا رويا أن رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا وقال عمر إني لأعلم الناس بذلك وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان فأتني بأبي سفيان فأتاه به فقال له عمر يا أبا سفيان انهض بنا إلى موضع كذا وكذا فنهضوا ونظر عمر فقال يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من ههنا فضعه ههنا فقال وا لله لا أفعل فقال والله لتفعلن فقال والله لا أفعل فعلاه بالدرة وقال خذه لا أم لك فضعه ههنا فإنك ما علمت قديم الظلم فأخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال عمر ثم إن عمر استقبل القبلة فقال اللهم لك الحمد حيث لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام قال فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما أذل به لعمر قالوا فحكم بعلمه ولأن الحاكم يحكم بالشاهدين لأنهما يغلبان على الظن فما تحققه وقطع به كان أولى ولأنه يحكم بعلمه في تعديل الشهود وجرحهم فكذلك في ثبوت الحق قياسا عليه
وقال أبو حنيفة : ما كان من حقوق الله لا يحكم فيه بعلمه لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة والمسامحة وأما حقوق الآدميين فما علمه قبل ولايته لم يحكم به وما علمه في ولايته حكم به لأن ما علمه قبل ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود قبل ولايته وما علمه في ولايته بمنزلة ما سمعه من الشهود في ولايته
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه ] فدل على أنه إنما يقضي بما سمع لا بما يعلم [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم في قضية الحضرمي والكندي : شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك ]
وذكر ابن عبد البر في كتابه [ عن عائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث أبا جهم على الصدقة فلاحاه رجل في فريضة فوقع بينهما شجاج فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاهم الأرش ثم قال : إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم أرضيتم ؟ قالوا نعم فصعد النبي صلى الله عليه و سلم فخطب وذكر القصة وقال : أرضيتم ؟ قالوا لا فهم بهم المهاجرون فنزل النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاهم ثم صعد فخطب الناس ثم قال : أرضيتم ؟ قالوا نعم وهذا يبين أنه لم يأخذ بعلمه ]
وروي عن أبي بكر الصديق أنه قال لو رأيت حدا على رجل لم أحده حتى تقوم البينة ولأن تجويز القضاء بعلمه يفضي إلى تهمته والحكم بما اشتهى ويحيله على علمه فأما حديث أبي سفيان فلا حجة فيه لأنه فتيا لا حكم بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم أفتى في حق أبي سفيان من غير حضوره ولو كان حكما عليه لم يحكم عليه في غيبته وحديث عمر الذي رووه كان إنكارا لمنكره رآه لا حكم بدليل أنه ما وجدت منهم دعوى وإنكار بشروطهما ودليل ذلك ما رويناه عنه ثم لو كان حكما كان معارضا بما رويناه عنه ويفارق الحكم بالشاهدين فإنه لا يفضي إلى تهمة بخلاف مسألتنا وأما الجرح والتعديل فإنه يحكم فيه بعلمه بغير خلاف لأنه لو يحكم فيه بعلمه لتسلسل فإن المزكيين يحتاج إلى معرفة عدالتهما وجرحهما فإذا لم يعمل بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين ثم كل واحد منهما يحتاج إلى مزكيين فيتسلسل وما نحن فيه بخلافه (11/401)
فصل الحاكم يحكم بالبينة والإقرار
فصل : ولا خلاف في أن للحاكم أن يحكم بالبينة واقرار في مجلس حكمه إذا سمعه معه شاهدان فإن لم يسمعه معه أحد أو سمعه شاهد فنص أحمد على أنه يحكم به وقال القاضي لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان لأنه حكم بعلمه (11/404)
مسألة ما ينقضه الحاكم
مسألة : قال : ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه إلا ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماعا
وجملة ذلك أن الحاكم إذا رفعت إليه قضية قد قضى بها حاكم سواه فبان له خطؤه أو بان له خطأ نفسه نظرت فإن كان الخطأ لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع نقض حكمه وبذها قال الشافعي وزاد إذا خالف نصا جليا نقضه وعن مالك و أبي حنيفة أنهما قالا لا ينقض الحكم إلا إذا خالف الإجماع ثم ناقضا ذلك فقال مالك إذا حكم بالشفعة للجار نقض حكمه وقال أبو حنيفة إذا حكم ببيع متروك التسمية أو حكم بين العبيد بالقرعة نقض حكمه وقال محمد بن الحسن إذا حكم بالشاهد واليمين نقض حكمه وهذه مسائل خلاف موافقة للسنة واحتجوا على أنه لا ينقض ما لم يخالف الإجماع بأنه يسوغ فيه الخلاف فلم ينقض حكمه فيه كما لا نص فيه
وحكي عن أبي ثور و داود أنه ينقض جميع ما بان له خطؤه لأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى : لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت نفسك فيه اليوم فهديت لرشدك أن تراجع فيه الحق فإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ولأنه خطأ فوجب الرجوع عنه كما لو خالف الإجماع وحكي عن مالك أنه وافقهما في قضاء نفسه
ولنا على نقضه إذا خالف نصا أو إجماعا أنه قضاء لم يصادف شرطه فوجب نقضه كما لو لم يخالف الإجماع وبيان مخالفته للشرط أن شرط الحكم بالاجتهاد عدم النص بدليل خبر معاذ ولأنه ترك الكتاب والسنة فقد فرط فوجب نقض حكمه كما لو خالف الإجماع أو كما لو حكم بشهادة كافرين وما قالوه يبطل بما حكيناه عنهم فإن قيل أليس إذا صلى بالاجتهاد إلى جهة ثم بان له الخطأ لم يعد ؟ قلنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه :
أحدها : إن استقبال القبلة يسقط حال العذر في حال المسايفة والخوف من عدو أو سبع أو نحوه مع العلم ولا يجوز ترك الحق إلى غيره مع العلم بحال الثاني : إن الصلاة من حقوق الله تعالى تدخلها المسامحة
الثالث : أن القبلة يتكرر فيها اشتباه القبلة فيشق القضاء وههنا إذا بان له الخطأ لا يعود الاشتباه بعد ذلك
وأما إذا تغير اجتهاده من غير أن يخالف نصا ولا إجماعا أو خالف اجتهاده اجتهاد من قبله لم ينقضه لمخالفته لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك فإن أبا بكر حكم في مسائل بإجتهاده وخالفه عمر ولم ينقض أحكامه وعلي خالف عمر في اجتهاده فلم ينقض أحكامه وخالفهما علي فلم ينقض أحكامهما فإن أبا بكر سوى بين الناس في العطاء وأعطى العبيد وخالفه عمر ففاضل بين الناس وخالفهما علي فسوى بين الناس وحرم العبيد ولم ينقض واحد منهم ما فعله من قبله وجاء أهل نجران إلى علي فقالوا يا أمير المؤمنين كتابك بيدك وشفاعتك بلسانك فقال ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر ولن أرد قضاء قضى به عمر رواه سعيد
وروي أن عمر حكم في المشركة بإسقاط الأخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا وقضى في الجد بقضايا مختلفة ولم يرد الأولى ولأنه يؤدي إلى نقض الحكم بمثله وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت الحكم أصلا لأن الحاكم الثاني يخالف الذي قبله والثالث يخالف الثاني فلا يثبت حكم فإن قيل فقد روي أن شريحا حكم في ابني عم أحدهما أخ لأم أن المال للأخ فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال : علي بالعبد فجيء به فقال في أي كتاب الله وجدت ذلك ؟ فقال : قال الله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } فقال له علي : قد قال الله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } ونقض حكمه قلنا لم يثبت عندنا أن عليا نقض حكمه ولو ثبت فيحتمل أن يكون علي رضي الله عنه اعتقد أنه خالف نص الكتاب في الآية التي ذكرها فنقض حكمه لذلك (11/404)
فصل حكم ما لو تغير اجتهاد القاضي
فصل : إذا تغير اجتهاده قبل الحكم فإنه يحكم بما تغير اجتهاده إليه ولا يجوز أن يحكم باجتهاده الأول لأنه إذا حكم فقد حكم بما يتعقد أنه باطل وهذا ما قلنا فيمن تغير اجتهاده في القبلة بعدما صلى لا يعيد وإن كان قبل أن يصلي إلى الجهة التي تغير اجتهاده إليها ولذلك إذا بان فسق الشهود قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم ولو بان بعد الحكم لم ينقضه (11/407)
فصل ليس على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله
فصل : وليس على الحاكم تتبع قضايا من كان قبله لأن الظاهر صحتها وصوابها وأنه لا يولى القضاء إلا من هو من أهل الولاية فإن تتبعها نظر في الحاكم قبله فإن كان ممن يصلح للقضاء فما وافق من أحكامه الصواب أو لم يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا لم يسغ نقضه وإن كان مخالفا لأحد هذه الثلاثة وكان في حق الله تعالى كالعتاق والطلاق نقضه لأن له النظر في حقوق الله سبحانه وإن كان يتعلق بحق آدمي لم ينقضه إلا بمطالبة صاحبه لأن الحاكم لا يستوفي حقا لمن لا ولاية عليه بغير مطالبته فإن طلب صاحبه ذلك نقضه وإن كان القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقضت قضاياه المخالفة للصواب كلها سواء كانت مما يسوغ فيه الاجتهاد أو لا سوغ لأن حكمه غير صحيح وقضاؤه كلاقضاء لعدم شرط القضاء فيه وليس في نقض قضاياه نقض الاجتهاد لأن الأول ليس بإجتهاد ولا ينقض ما وافق الصواب لعدم الفائدة في نقضه فإن الحق وصل إلى مستحقه وقال أبو الخطاب : تنقض قضاياه كلها ما أخطأ فيه وما أصاب وهو مذهب الشافعي لأن وجود قضائه كعدمه ولا أعلم فيه فائدة فإن الحق لو وصل إلى مستحقه بطريق القهر من غير حكم لم يغير ذلك وككذلك إذا كان بقضاء وجوده كعدمه والله أعلم (11/408)
فصل حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته
فصل : وحكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته في قول جمهور العلماء منهم مالك و الأوزاعي و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور و داود و محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة إذا حكم الحاكم بعقد أو فسخ أو طلاق نفذ حكمه ظاهرا وباطنا فلو أن رجلين تعمدا الشهادة على رجل أنه طلق امرأته فقبلهما القاضي بظاهر عدالتهما ففرق بين الزوجين لجاز لأحد الشاهدين نكاحها بعد قضاء عدتها وهو عالم بتعمده لكذب ولو أن رجلا ادعى نكاح امرأة وهو يعلم أنه كاذب وأقام شاهدي زور فحكم الحاكم حلت له بذلك وصارت زوجته قال ابن المنذر وتفرد أبو حنيفة فقال : لو استأجرت امرأة شاهدين شهدا لها بطلاق زوجها وهما يعلمان كذبهما وتزويرهما فحكم الحاكم بطلاقها لحل لها أن تتزوج وحل لأحد الشاهدين نكاحها واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا ادعى على امرأة نكاحها فرفعها إلى علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك فقضى بينهما بالزوجية فقالت والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين اعقد بيننا عقدا حتى أحل له فقال شاهداك زوجاك فدل على أن النكاح ثبت بحكمه ولأن اللعان ينفسخ به النكاح وإن كان أحدهما كاذبا فالحكم أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنما أنا بشر وأنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون الحن بحجته من بعض فاقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار ] متفق عليه وهذا يدخل فيه ما إذا ادعى أنه اشترى منه شيئا فحكم له ولأنه حكم بشهادة زور فلا يحل له ما كان محرما عليه كالمال المطلق وأما الخبر عن علي أن صح فلا حجة لهم فيه لأنه أضاف التزويج إلى الشاهدين لا إلى حكمه ولم يجبها إلى التزويج لأن فيه طعنا على الشهود فأما اللعان فإنما حصلت الفرقة به لا بصدق الزوج ولهذا لو قامت البينة به لم ينفسخ النكاح إذا ثبت هذا فإذا شهد على امرأة بنكاح وحكم به الحاكم ولم تكن زوجته فإنها لا تحل له ويلزمها في الظاهر وعليها أن تمتنع ما أمكنها فإن أكرهها عليه فالإثم عليه دونها وإن وطئها الرجل فقال أصحابنا وبعض الشافعية عليه الحد لأنه وطئها وهو يعلم أنها أجنبية وقيل لا حد عليه لأن وطء مختلف في حله فيكون ذلك شبهة وليس لها أن تتزوج غيره وقال أصحاب الشافعي تحل لزوج ثان غير أنها ممنوعة منه في الحكم وقال القاضي يصح النكاح
ولنا أن هذا يفضي إلى الجمع بين الوطء للمرأة من اثنين أحدهما يطؤها بحكم الظاهر والآخر بحكم الباطن وهذا فساد فلا يشرع ولأنها منكوحة لهذا الذي قامت له البينة في قول بعض الأئمة فلم يجز تزويجها لغيره كالمتزوجة بغير ولي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى مثل مذهب أبي حنيفة في أن حكم الحاكم يزيل الفسخ والعقود والأول هو المذهب (11/408)
فصول حكم ما لو استعدى رجل على رجل إلى الحاكم
فصل : وإذا استعدى رجل على رجل إلى الحاكم ففيه روايتان
احداهما : أنه يلزمه أن يعديه ويستدعي خصمه سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم وسواء كان المستعدي ممن يعامل المستعدى عليه أو لا يعامله كالفقير يدعي على ذي ثروة وهيئة نص على هذا في رواية الأثرم في الرجل يستعدي على الحاكم أنه يحضره ويستحلفه وهذا اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة و الشافعي لأن في تركه تضييعا للحقوق وإقرارا للظلم فإنه قد ثبت له الحق على من هو أرفع منه بغصب أو يشتري منه شيئا ولا يوفيه أو يودعه شيئا أو يعيره أياه فلا يرده ولا تعلم بينهما معاملة فإذا لم يعد عليه سقط حقه وهذا أعظم ضررا من حضور مجلس الحاكم فإنه لا نقيصة فيه وقد حضر عمر وأبي عند زيد وحضر هو وآخر عند شريح وحضر علي عند شريح وحضر المنصور عند رجل من ولد طلحة بن عبيد الله
والرواية الثانية : لا يستدعيه إلا أن يعلم بينهما معاملة ويتبين أن لما ادعاه أصلا روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو مذهب مالك لأن في اعدائه على كل أحد تبذيل أهل المروءات وإهانة لذوي الهيئات فإنه لا يشاء أحد أن يبذلهم عند الحاكم إلا فعل وربما فعل هذا من لا حق له ليفتدي المدعى عليه من حضوره وشر خصمه بطائفة من ماله والأولى أولى لأن ضرر تضييع الحق أعظم من هذا وللمستدعى عليه أن يوكل من يقوم مقامه إن كره الحضور وإن كان المتسدعى عليه امرأة نظرت فإن كانت برزة وهي تبرز لقضاء حوائجها فحكمها حكم الرجل وإن كانت مخدرة وهي التي لا تبرز لقضاء حوائجها أمرت بالتوكيل فإن توجهت اليمين عليها بعث الحاكم أمينا معه شاهدان فيستحلفها بحضرتهما فإن أقرت شهدا عليها وذكر القاضي أن الحاكم يبعث من يقضي بينها وبين خصمها في دارها وهو مذهب الشافعي لأن النبي قال : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] فبعث إليها ولم يستدعها وإذا حضروا عندها كان بينها وبينهم ستر تتكلم من ورائه فإن اعترفت للمدعي أنها خصمه حكم بينهما وإن أنكرت ذلك جيء بشاهدين من ذوي رحمها يشهدان أنها المدعى عليها ثم يحكم بينهما فإن لم تكن له بينة التحفت بجلبابها وأخرجت من وراء الستر لموضع الحاجة وما ذكرناه أولى إن شاء الله لأنه أستر لها وإذا كانت خفرة منعها الحياء من النطق بحجتها والتعبير عن نفسها سيما مع جباتها بالحجة وقلة معرفتها بالشرع وحججه
فصل : ولا يخلو المستعدى عليه من أن يكون حاضرا أو غائبا فإن كان حاضرا في البلد أو قريبا منه فإن شاء الحاكم بعث مع المستعدي عونا يحضر المدعي عليه وإن شاء بعث معه قطعة من شمع أو طين مختوما بخاتمه فإذا بعث معه ختما فعاد فذكر أنه امتنع أو كسر الختم بعث إليه عيونا فإن امتنع صاحب المعونة فأحضره فإذا حضر وشهد عليه شاهدان بالامتناع عرزه أن رأى ذلك بحسب ما يراه تأديبا له إما بالكلام وكشف رأسه أو بالضرب أو بالحبس فإن اختبأ بعث الحاكم من ينادي على بابه ثلاثا أنه إن لم يحضر سمر بابه وختم عليه ويجمع أماثل جيرانه ويشهدهم على اعذاره فإن لم يحضر وسأل المدعي أن يسمر عليه منزله ويختم عليه وتقرر عند الحاكم أن المنزل منزله سمره أو ختمه فإن لم يحضر بعث الحاكم من ينادي على بابه بحضرة شاهدي عدل أنه إن لم يحضر مع فلان أقام عنه وكيلا وحكم عليه فإن لم يحضر أقام عنه وكيلا وسمع البينة عليه وحكم عليه كما يحكم على الغائب وقضى حقه من ماله أن وجد له مالا وهذا مذهب الشافعي و أبي يوسف وأهل البصرة حكاه عنهم أحمد وإن لم يجد له مالا ولم تكن للمدعي بينة فكان أحمد ينكر التهجم عليه ويشتد عليه حتى يظهر وقال الشافعي إن علم له مكانا أمر بالهجوم عليه فيبعث خصيانا أو غلمانا لم يبلغوا الحلم وثقات من النساء معهم ذوو عدل من الرجال فيدخل النساء والصبيان فإذا حصلوا في صحن الدار دخل الرجال ويؤمر الخصيان بالتفتيش ويتفقد النساء النساء فإن ظفروا به أخذوه فاحضروه وإن استعدى على غائب نظرت فإن كان الغائب في غير ولاية القاضي لم يكن له أن يعدي عليه وله الحكم عليه على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإن كان في ولايته وله في بلده خليفة فإن كانت له بينة ثبت الحق عنده وكتب به إلى خليفته ولم يحضره وإن لم تكن له بينة حاضرة نفذه إلى خصمه ليخاصمه عند خليفته وإن لم يكن له فيه خليفة وكان فيه من يصلح للقضاء أذن له في الحكم بينهما وإن لم يكن فيه من يصلح للقضاء قيل له حرر دعواك لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وقيمة الكلب أو خمر الذمي فلا يكلفه الحضور لما لا يقضى عليه به مع المشقة فيه بخلاف الحاضر فإنه لا مشقة في حضوره فإذا تحررت بعث فاحضر خصمه بعدت المسافة أو قربت
وبهذا قال الشافعي وقال ابو يوسف إن كان يمكنه أن يحضر ويعود فيأوي إلى موضعه أحضره وإلا لم يحضره ويوجد من يحكم بينهما وقيل إن كانت المسافة دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا
ولنا أنه لا بد من فضل الخصومة بين المتخاصمين فإذا لم يمكن إلا بمشقة فعل ذلك كما لو امتنع من الحضور فإنه يؤدي ويعزر ولأن إلحاق المشقة به أولى من إلحاقها بمن ينفذه الحاكم ليحكم بينهما وإن كانت امرأة برزة لم يشترط في سفرها هذا محرم نص عليه أحمد لأنه لحق آدمي وحق الآدمي مبني على الشح والضيق
فصل : وإن استعدى على الحاكم المعزول لم يعده حتى يعرف ما يدعيه فيسأله عنه صيانة للقاضي عن الامتهان فإن ذكر أنه يدعي عليه حقا من دين أو غصب اعداه وحكم بينهما كغير القاضي وكذلك إن ادعى أنه أخذ منه رشوة على الحكم لأن أخذ الرشوة عليه لا يجوز فهي كالغصب وإن ادعى عليه الجوز في الحكم وكان للمدعي بينة أحضره وحكم بالبينة وإن لم يكن معه بينة ففيه وجهان :
أحدهما : لا يحضره لأن في إحضاره وسؤاله امتهانا له وأعداء القاضي كثير وإذا فعل هذا معه لم يؤمن إلا يدخل في القضاء أحد خوفا من عاقبته
والثاني : يحضره لجواز أن يعترف فإن حضر واعترف حكم عليه وإن أنكر فالقول قوله من غير يمين لأن قول القاضي مقبول بعد العزل كما يقبل في ولايته وإن ادعى عليه أنه قتل ابنه ظلما فهل يستحضره من غير بينة ؟ فيه وجهان فإن أحضره فاعترف حكم عليه وإلا فالقول قوله وإن ادعى أنه أخرج عينا من يده بغير حق فالقول قول الحاكم من غير يمين ويقبل قوله للمحكوم له بها على ما سنذكره إن شاء الله تعالى (11/411)
مسائل وفصول في أحكام الشهور
فصل : وإن ادعى عل شاهدين أنهما شهدا عليه زورا أحضرهما فإن اعترفا أغرمهما وإن أنكرا وللمدعي بينة على إقرارهما بذلك فأقامها لزمهما ذلك وإن أنكرا لم يستحلفا لأن إحلافهما يطرق عليهما الدعاوى في الشهادة والامتهان وربما منع ذلك إقامة الشهادة وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا
مسألة : قال : وإذا شهد عنده من لا يعرفه سأل عنه فإن عدله اثنان قبل شهادته
وجملته أنه إذا شهد عند الحاكم شاهدان فإن عرفهما عدلين حكم بشهادتهما وإن عرفهما فاسقين لم يقبل قولهما وإن لم يعرفهما سأل عنهما لأن معرفة العدالة شرط في قبول الشهادة بجميع الحقوق وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد وعن أحمد رواية أخرى بشهادتهما إذا عرف إسلامهما بظاهر الحال إلا أن يقول الخصم هما فاسقان وهذا قول الحسن والمال والحد في هذا سواء لأن الظاهر من المسلمين العدالة ولهذا قال عمر رضي الله عنه المسلمون عدول بعضه على بعض
[ وروي أن إعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فشهد برؤية لهلال فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : أتشهد ألا إله إلا الله ؟ فقال نعم فقال : أتشهد أني رسول الله ؟ قال نعم فصام وأمر الناس بالصيام ] ولأن العدالة أمر خفي سببها الخوف من الله تعالى ودليل ذلك الإسلام فإذا وجد فليكتف به ما لم يقم على خلافه دليل وقال أبو حنيفة في الحدود والقصاص كالرواية وفي سائر الحقوق كالثانية لأن الحدود والقصاص ما يحتاط لها وتندرىء بالشهبات بخلاف غيرها
ولنا أن عدالة شرط فرجب العلم بها كالإسلام أو كما لو طعن الخصم فيهما فأما الإعرابي المسلم فإنه كان من أصحاب الرسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ثبتت عدالتهم بثناء الله تعالى عليهم فإن من ترك دينه في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم ايثارا لدين الإسلام وصحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثبتتت عدالته
وأما قول عمر فالمراد به أن الظاهر العدالة ولا يمنع ذلك في وجوب البحث ومعرفة حقيقة العدالة فقد روي عنه أنه أتي بشاهدين فقال لهما عمر لست أعرفكما ولا يضر كما أن لم أعرفكما جيئا بمن يعرفكما فأتيا برجل فقال له عمر تعرفهما ؟ فقال نعم فقال عمر صحبتهما في السفر الذي تبين فيه جواهر الناس ؟ قال لا قال عاملتهما في الدنانير والدارهم التي تقطع فيها الرحم ؟ قال لا قال كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما ؟ قال لا قال يا ابن أخي لست تعرفهما جيئا بمن يعرفكما وهذا بحث يدل على أنه لا يكتفى بدونه
إذا ثبت هذا فإن الشاهد يعتبر فيه أربعة شروط : الإسلام والبلوغ والعقل والعدالة فليس فيها ما يخفى ويحتاج إلى البحث إلا العدالة فيحتاج إلى البحث عنها لقول الله تعالى : { ممن ترضون من الشهداء } ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه أو نخبر عنه فيأمر الحاكم بكتب أسمائهم وكناهم ونسبهم ويرفعون فيها بما يتميزون به عن غيرهم ويكتب صنائعهم ومعائشهم وموضع مساكنهم وصلاتهم ليسأل عن جيرانهم وأهل سوقهم ومسجدهم ومحلتهم فيكتب أسود أو أبيض أو أنزع أو أغم أو أشهل أو أكحل أقنى الأنف أو أفطس أو رقيق الشفتين أو غليظهما طويل أو قصير أو ربعة ونحو هذا ليتميز ولا يقع اسم على اسم ويكتب اسم المشهود له والمشهود عليه وقدر الحق ويكتب ذلك كله لأصحاب مسائله لكل واحد رقعة وإنما ذكرنا المشهود له لئلا يكون بينه وبين الشاهد قرابة تمنع الشهادة أو شركه وذكرنا اسم المشهود عليه لئلا تكون بينه وبين الشاهد عداوة وذكرنا قدر الحق لأنه ربما كان ممن يرون قبوله في اليسير دون الكثير فتطيب نفس المزكي به إذا كان يسيرا ولا تطب إذا كان كثيرا
وينبغي للقاضي أن يخفي عن كل واحد من أصحاب مسائله ما يعطي الآخر من الرقاع لئلا يتواطؤوا وإن شاء الحاكم عين لصاحب مسائله من يسأله ممن يعرفه من جوار الشاهد وأهل الخبرة به وإن شاء أطلق ولم يعين المسؤول ويكون السؤال سرا لئلا يكون فيه هتك المسؤول عنه وربما يخاف المسؤول من الشاهد أو من المشهود له أو المشهود عليه أن يخبر بما عنده أو يستحي وينبغي أن يكون أصحاب مسائله غير معروفين له لئلا يقصدوا بهدية أو رشوة وأن يكونوا أصحاب عفاف في الطعمة والأنفس ذوي عقول وافرة أبرياء من الشحناء والبغض لئلا يطعنوا في الشهود أو يسألوا عن الشاهد عدوه فيطعن فيه فيضيع حق المشهود له ولا يكونون من أهل الأهواء والعصبية يميلون إلى من وافقهم على من خالفهم ويكونون أمناء ثقات لأن هذا موضع أمانة فإذا رجع أصحاب مسائله فأخبر اثنان بالعدالة قبل شهادته وإن أخبرا بالجرح رد شهادته وإن أخبر أحدهما بالعدالة والآخر بالجرح بعث آخرين فإن عادا فأخبرا بالتعديل تمت بينة التعديل وسقط الجرح لأن بينة لم تتم وإن أخبرا بالجرح ثبت ورد الشهادة وإن أخبر أحدهما بالجرح والآخر بالتعديل تمت البينتان ويقدم الجرح ولا يقبل الجرح ولا يقبل الجرخ والتعديل إلا من اثنين ويقبل قول أصحاب المسائل وقيل لا يقبل إلا شهادة المسؤولين ويكلف اثنين منهم أن يشهدوا بالتزكية والجرح عنده على شروط الشهادة في اللفظ وغيره ولا تقبل من صاحب المسألة لأن ذلك شهادة على شهادة مع حصولا شهود الأصل
ووجه القول الأول إن شهادة أصحاب المسائل شهادة استفاضة لا شهادة فيكتفي بمن يشهد بها كسائر شهادات الاستفاضة ولأنه موضع حاجة فلا يلزم المزكي الحضور للتزكية وليس للحاكم إجباره عليها فصار كالمرض والغيبة في سائر الشهادات ولأننا لو لم نكتف بشهادة أصحاب المسائل لتعذرت التزكية لأنه قد يتفق ألا يكون في جيران الشاهد من يعرفه الحاكم فلا يقبل قوله فيفوت التعديل والجرح
فصل : قال القاضي : ولا بد من معرفة إسلام الشاهد ويحصل ذلك بأحد أربعة أمور :
أحدها : اخباره عن نفسه أنه مسلم أو اتيانه بكلمة الإسلام وهي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله لأنه لو لم يكن مسلما صار مسلما بذلك
الثاني : اعتراف المشهود عليه بإسلامه لأن ذلك حق عليه الثالث : خبرة الحاكم لأننا اكتفينا بذلك في عدالته فكذلك فلا إسلامه
الرابع : بينة تقوم به ولا بد من معرفة الحرية في موضع تعتبر فيه ويكفي في ذلك أحد أمور ثلاثة : بينة أو اعتراف المشهود عليه أو خبرة الحاكم ولا يكفي اعتراف الشاهد لأنه لا يملك أن يصير حرا فلا يملك الإقرار به بخلاف الإسلام
فصل : وإذا شهد عند الحاكم مجهول الحال فقال المشهور عليه هو عدل ففيه وجهان أحدهما : يلزم الحاكم الحكم بشهادته لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وقد اعترف بها ولأنه إذا أقر بعدالته فقد أقر بما يوجب الحكم لخصمه عليه فيؤخذ بإقراره كسائر أقاريره
والثاني : لا يجوز الحكم بشهادته لأن في الحكم بها تعديلا له فلا يثبت بقول واحد ولأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي الخصم بأن يحكم عليه بقول فاسق لم يجز الحكم به ولأنه لا يخلو أما أن يحكم عليه مع تعديله أو مع انتفائه لا يجوز أن يقال مع تعديله لأن التعديل لا يثبت بقول الواحد ولا يجوز مع انتفاء تعديله لأن الحكم بشهادة غير العدل غير جائز بدليل شهادة من ظهر فسقه ومذهب الشافعي مثل هذا فإن قلنا بالأول فلا يثبت تعديله في حق غير المشهود عليه لأنه لم توجد بينة التعديل وإنما حكم عليه لإقراره بوجود شروط الحكم وإقراره يثبت في حقه دون غيره كما لو أقر بحق عليه وعلى غيره ثبت في حقه دون غيره
مسألة : قال : وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجراحة أولى
وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك ينظر أيهما أعدل ؟ اللذان جرحاه أو اللذان عدلاه ؟ فيؤخذ بقول أعدلهما
ولنا أن الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدل فوجب تقديمه لأن التعديل يتضمن ترك الريب والمحارم والجارح مثبت لوجود ذلك والإثبات مقدم على النفي ولأن الجارح يقول رأيته يفعل كذا والمعدل مستنده أنه لم يره يفعل ويمكن صدقهما والجمع بين قوليهما بان يراه الجارح يفعل المعصية ولا يراه المعدل فيكون مجروحا
فصل : ولا يقبل الجرح والتعديل إلا من اثنين وبهذا قال مالك و الشافعي ومحمد بن الحسن و ابن المنذر وروي عن أحمد يقبل ذلك من واحد وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة لأنه خبر لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فقبل من واحد كالرواية
ولنا أنه إثبات صفة من يبني الحاكم حكمه على صفته فاعتبر فيه العدد كالحضانة وفارق الرواية فإنها على المساهلة ولا نسلم أنها لا تفتقر إلى لفظ الشهادة ويعتبر في التعديل والجرح لفظ الشهادة فيقول في التعديل أشهد أنه عدل ويكفي هذا وإن لم يقل علي ولي وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول شريح وأهل العراق و مالك وبعض الشافعية وقال أكثرهم لا يكفيه إلا أن يقول عدل علي ولي واختلفوا في تعليله فقال بعضهم لئلا تكون بينهم عداوة أو قرابة وقال بعضهم لئلا يكون عدلا في شيء دون شيء
ولنا قول الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } فإذا شهدا أنه عدل ثبت ذلك بشهادتهما فيدخل ذلك في عموم الأمر لأنه إذا كان عدلا لزم أن يكون له وعليه وفي حق سائر الناس وفي كل شيء فلا يحتاج إلى ذكره ولا يصح ما ذكروه فإن الإنسان لا يكون عدلا في شيء دون شيء ولا في حق شخص دون شخص فإنها لا توصف بهذا ولا تنتفي أيضا بقوله عدل علي ولي فإن من ثبتت عدالته لم تزل بقرابة ولا عدواة وإنما ترد شهادته للتهمة مع كونه عدلا ثم أن هذا إذا كان معلوما انتفاؤه بينهما لم يحتج إلى ذكره ولا نفيه عن نفسه كما لو شهد بالحق من عرف الحاكم عدالته لم يحتج إلى أن ينفي عن نفسه ذلك ولأن العداوة لا تمنع من شهادته له بالتزكية وإنما تمنع الشهاة عليه وهذا شاهد له بالتزكية والعدالة فلا حاجة به إلى نفي العدواة
فصل : ولا يكفي أن يقول لا أعلم منه إلا الخير وهذا مذهب الشافعي وقال أبو يوسف يكفي لأنه إذا كان من أهل الخبرة به ولا يعلم إلا الخير فهو عدل
ولنا أنه لم يصرح بالتعديل فلم يكن تعديلا كما لو قال أعلم منه خيرا وما ذكروه لا يصح لأن الجاهل بحال أهل الفسق لا يعلم منهم إلا الخير لأنه يعلم إسلامهم وهو خير ولا يعلم منهم غير ذلك وهم غير عدول
فصل : قال أصحابنا ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة وهذا مذهب الشافعي لخبر عمر الذي قدمناه ولأن عادة الناس اظهار الصالحات وإسرار المعاصي فإذا لم يكن ذا خبرة باطنة ربما اغتر بحسن ظاهره وهو فاسق في الباطن وهذا يحتمل أن يريدوا به أن الحاكم إذا علم أن المعدل لا خبرة له لم تقبل شهادته بالتعديل كما فعل عمر رضي الله عنه ويحتمل أنهم أرادوا أنه لا تجوز للمعدل الشهادة بالعدالة إلا أن تكون له خبرة باطنة فأما الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتعديل ولم يعرف حقيقة الحال فله أن يقبل الشهادة من غير كشف وإن استكشف الحال كما فعل عمر رضي الله عنه فلا بأس
فصل : ولا يسمع الجرح إلا مفسرا ويعتبر فيه اللفظ فيقول أشهد أنني رأيته يشرب الخمر أو يعامل بالربا أو يظلم الناس بأخذ أموالهم أو ضربهم أو سمعته يقذف أو يعلم ذلك باستفاضته في الناس ولا بد من ذكر السبب وتعيينه وبهذا قال الشافعي وسوار وقال أبو حنيفة يقبل الجرح المطلق وهو أن يشهد أنه فاسق أو أنه ليس بعدل وعن أحمد مثله لأن التعديل يسمع مطلقا فكذلك الجرح ولأن التصريح بالسبب يجعل الجارح فاسقا ويوجب عليه الحد في بعض الحالات وهو أن يشهد عليه بالزنا فيفضي الجرح إلى جرح الجارح وتبطيل شهادته ولا يتجرح بها المجروح
ولنا أن الناس يختلفون في أسباب الجرح كاختلافهم في شارب النبيذ فوجب أن لا يقبل مجرد الجرح لئلا يجرحه بما لا يراه القاضي جرحا ولأن الجرح ينقل عن الأصل فإن الأصل في المسلمين العدالة والجرح ينقل عنها فلا بد أن يعرف الناقل لئلا يعتقد نقله بما لا يراه الحاكم ناقلا
وقولهم أنه يفضي إلى جرح الجارح وإيجاب الحد عليه قلنا ليس كذلك لأنه يمكنه التعريض من غير تصريح فإن قيل ففي بيان السبب هتك المجروح قلنا لا بد من هتكه فإن الشهادة عليه بالفسق هتك له ولكن جاز ذلك للحاجة الداعية إليه كما جازت الشهادة عليه به لإقامة الحد عليه بل ههنا أولى فإن فيه دفع الظلم عن المشهود عليه وهو حق آدمي فكان أولى بالجواز ولأن هتك عرضه بسببه لأنه تعرض للشهادة مع ارتكابه ما يوجب جرحه فكان هو الهاتك لنفسه إذ كان فعله هو المحوج للناس إلى جرحه فإن صرح الجارح بقذفه فعليه الحد إن لم يأت بتمام أربعة شهداء وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا حد عليه إذا كان بلفظ الشهادة لأنه لم يقصد إدخال المعرة عليه
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } الآية ولأن أبا بكرة ورفيقيه شهدوا على المغيرة بالزنا ولم يكمل زياد شهادته فجلدهم عمر حد القذف بمحضر الصحابة فلم ينكره منكر فكان إجماعا ويبطل ما ذكروه بما إذا اشهدوا عليه لإقامة الحد عليه
فصل : وإذا أقام المدعى عليه بينة أن هذين الشاهدين شهدا بهذا الحق عند حاكم فرد شهادتهما لفسقهما بطلت شهادتهما لأن الشهادة إذا ردت لفسق لم تقبل مرة ثانية
فصل : ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء وقال أبو حنيفة يقبل لأنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة فأشبه الرواية وإخبار الديات
ولنا أنها شهادة فيما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فأشبه الشهادة في القصاص وما ذكروه غير مسلم
فصل : ولا يقبل الجرح من الخصم بلا خلاف بين العلماء فلو قال المشهود عليه هذان فاسقان أو عدوان لي أو آباء للمشهود له لم يقبل قوله لأنه متهم في قوله ويشهد بما يجر إليه نفعا فأشبه الشهادة لنفسه ولو قبلنا قوله لم يشأ أحد أن يبطل شهادة من شهد عليه إلا أبطلها فتضيع الحقوق وتذهب حكمة شرع البينة
فصل : ولا تقبل شهادة المتوسمين وذلك إذا حضر مسافران فشهدا عند حاكم لا يعرفهما لم تقبل شهادتهما وقال مالك يقبلهما إذا رأى فيهما سيما الخير لأنه لا سبيل إلى معرفة عدالتهما ففي التوقف عن قبولهما تضييع الحقوق فوجب الرجوع فيهما إلى السيماء الجميلة
ولنا أن عدالتهما مجهولة فلم يجز الحكم بشهادتهما كشاهدي الحضر وما ذكروه معارض بأن قبول شهادتهما يفضي إلى أن يقضي بشهادتهما بدفع الحق إلى غير مستحقه
فصل : قال أحمد ينبغي للقاضي أن يسأل عن شهوده كل قليل لأن الرجل ينتقل من حال إلى حال وهل هذا مستحب أو واجب ؟ فيه وجهان :
أحدهما : مستحب لأن الأصل بقاء ما كان فلا يزول حتى يثبت الجرح والثاني : يجب البحث كلما مضت مدة يتغير الحال فيها لأن العيب يحدث وذلك على ما يراه الحاكم ولأصحاب الشافعي وجهان مثل هذين
فصل : وليس للحاكم أن يرتب شهودا لا يقبل غيرهم لأن الله تعالى قال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ولأن فيه إضرارا بالناس لأن كثيرا من الوقائع التي يحتاج إلى البينة فيها تقع عند غير المرتبين فمتى ادعى إنسان شهادة غير المرتبين وجب على الحاكم سماع بينته والنظر في عدالة شاهديه ولا يجوز ردهم بكونهم من غير المرتبين لأن ذلك يخالف الكتاب والسنة والإجماع لكن له أن يرتب شهودا يشهدهم الناس فيستغنون بإشهادهم عن تعديلهم ويستغني الحاكم عن الكشف عن أحوالهم فيكون فيه تخفيف من وجه ويكونون أيضا يزكون من عرفوا عدالته من غيرهم إذا شهد
فصل : ولا بأس أن يعظ الشاهدين كما روي عن شريح أنه كان يقول للشاهدين إذا حضرا يا هذان ألا تريان ؟ أني لم أدعكما ولست أمنعكما أن ترجعا وإنما يقضي على هذا أنتما وأنا متق بكما فاتقيا وفي لفظ وإني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة
[ وروى ابو حنيفة قال كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة فجاء رجل فادعى على رجل حقا فأنكره فاحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه والذي به تقوم السماء والأرض لقد كذبا علي في الشهادة وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : إن الطير لتخفق باجنحتها وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار فإن صدقتما فأثبتا وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا فغطيا رؤوسهما وانصرفا ] (11/415)
مسألة شروط كاتب القاضي
مسألة : قال : ويكون كاتبه عدلا وكذلك قاسمه
وجملته أنه يستحب للحاكم أن يتخذ كاتبا لأن النبي صلى الله عليه و سلم استكتب زيد بن ثابت وغيره ولأن الحاكم تكثر أشغاله ونظره فلا يمكنه أن يتولى الكتابة بنفسه وإن أمكنه تولي الكتابة بنفسه جاز والاستنابة فيه أولى ولا يجوز أن يستنيب في ذلك إلا عدلا لأن الكتابة موضع أمانة ويستحب أن يكون فقيها ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام ويفرق بين الجائز والواجب وينبغي أن يكون وافر العقل ورعا نزها لئلا يستمال بالطمع ويكون مسلما لأن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } ويروى أن أبا موسى قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فأحضر أبو موسى شيئا من مكتوباته عند عمر فاستحسنه وقال قل لكاتبك يجيء فيقرأ كتابه قال أنه لا يدخل المسجد قال ولم ؟ قال أنه نصراني فانتهره عمر وقال لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله تعالى ولا تعزوهم وقد أذلهم الله تعالى ولأن الإسلام من شروط العدالة والعدالة شرط وقال أصحاب الشافعي في اشتراط عدالته وإسلامه وجهان
أحدهما : تشترط لما ذكرنا والثاني : لا تشترط لأن ما يكتبه لا بد من وقوف القاضي عليه فيؤمن الخيانة فيه ويستحب أن يكون جيد الحظ لأنه أكمل وأن يكون حرا ليخرج من الخلاف وإن كان عبدا جاز لأن شهادة العبد جائزة ويكون القاسم على الصفة التي ذكرنا في الكاتب ولا بد من كونه حاسبا لأنه عمله وبه يقسم فهو كالحظ للكاتب والفقه للحاكم ويستحب للحاكم أن يجلس كاتبه بين يديه ليشاهد ما يكتبه ويشافهه بما يملي عليه وإن قعد ناحية جاز لأن المقصود يحصل فإن ما يكتبه يعرض على الحاكم فيستبرئه (11/429)
فصل حكم ما لو رفع إلى الحاكم خصمان فأقر أحدهما لصاحبه وصفة المحضر والسجل
فصل : وإذا ترافع إلى الحاكم خصمان فأقر أحدهما لصاحبه فقال المقر له للحاكم اشهد لي على إقراره شاهدين لزمه ذلك لأن الحاكم لا يحكم بعلمه فربما جحد المقر فلا يمكنه الحكم عليه بعلمه ولو كان يحكم بعلمه احتمل أن ينسي فإن الإنسان عرضة النسيان فلا يمكنه الحكم بإقراره وإن ثبت عنده حق بنكول المدعى عليه أو بيمين المدعي بعد النكول فسأله المدعي أن يشهد على نفسه لزمه لأنه لا حجة للمدعي سوى الإشهاد وإن ثبتت عنده بينة فسأله الإشهاد ففيه وجهان أحدهما : لا يلزمه لأن بالحق بينة فلا يجب جعل بينة أخرى
والثاني : يجب لأن في الأشهاد فائدة جديدة وهي إثبات تعديل بينته وإلزام خصمه وإن حلف المنكر وسأل الحاكم الأشهاد على براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط المطالبة مرة أخرى وفي جميع ذلك إذا سأله أن يكتب له محضرا بما جرى ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه ذلك لأنه وثيقة له كالاشهاد لأن الشاهدين ربما نسيا الشهادة أو نسيا الخصمين فلا يذكرهما إلا ذوي خطيهما
والثاني : لا يلزمه لأن الأشهاد يكفيه والأول أصح لأن الشهود تكثر عليهما الشهادات ويطول عليهم الأمد فالظاهر أنهما لا يتحققان الشهادة تحققا يحصل به اداؤها فلا يتقيد إلا بالكتاب فإن اختار أن يكتب له محضرا فصفته : حضر القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام فلان على كذا وكذا وإن كان خليفة القاضي قال خليفة القاضي فلان بن فلان الفلاني عبد الله قاضي الإمام بجلس حكمه وقضائه فإن كان يعرف المدعي والمدعي عليه بأسمائهما وأنسابهما قال فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما حتى يتميز أو يستحب ذكر حليتهما وإن أخل به جاز لأن ذكر نسبهما إذا رفع فيه أغنى عن ذكر الحلية وإن كان الحاكم لا يعرف الخصمين قال : مدع ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه مدعى عليه ذكر أنه فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبهما ويذكر حليتهما لأن الاعتماد عليها فربما استعار النسب ويقول أغم أو أنزع ويذكر صفة العينين والأنف والفم والحاجبين واللون والطول والقصر ما ادعى عليه كذا وكذا فأقر له ويحتاج أن يقول بمجلس حكمه لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم وإن كتب أنه شهد على إقراره شاهدان كان أوكد ويكتب الحاكم على رأس المحضر الحمد لله رب العالمين أو ما أحب من ذلك فأما إن أنكر المدعى عليه وشهدت عليه بينة قال : فادعى عليه كذا وكذا فأنكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة فأحضرها وسأل الحاكم سماعها ففعل وسأله أن يكتب له محضرا بما جرى فأجابه إليه وذلك في وقت كذا ويحتاج ههنا أن يذكر بمجلس حكمه وقضائه بخلاف الإقرار لأن البينة لا تسمع إلا في جلس الحكم والإقرار بخلافه ويكتب الحاكم في آخر المحضر : شهدا عندي بذلك فإن كان مع المدعي كتاب فيه خط الشاهد كتب تحت خطوطهما أو تحت خط كل واحد منهما شهد عندي بذلك ويكتب علامته في رأس المحضر وإن أقتصر على ذلك دون المحضر جاز
فأما إن لم تكن للمدعي بينة فاستحلف المنكر ثم سأل المنكر الحاكم محضرا لئلا يحلف في ذلك ثانيا كتب له مثل ما تقدم إلا أنه يقول : فانكر فسأل الحاكم المدعي ألك بينة فلم تكن له بينة فقال لك يمينه فسأله أن يستحلفه فاستحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا وكذا ولا بد من ذكر تحليفه لأن الاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحكم ويعلم في اوله خاصة وإن نكل المدعي عليه عن اليمين قال : فعرض اليمين على المدعى عليه فنكل عنها فسأل خصمه الحاكم أن يقضي عليه بالحق فقضي عليه في وقت كذا ويعلم في آخره ويذكر أن ذلك في مجلس حكمه وقضائه فهذه صفة المحضر فأما إن سأل صاحب الحق الحاكم أن يحكم له بما ثبت في المحضر لزمه أن يحكم له به وينفذه فيقول : حكمت له به ألزمته الحق أنفذت الحكم به فإن طلبه أن يشهد له على حكمه لزمه ذلك لتحصل له الوثيقة به فإن طالبه أن يسجل له به وهو أن يكتب في المحضر ويشهد على إنفاذه سجل له وفي وجوب ذلك الوجهان المذكوران في المحضر وهذه صورة السجل
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام على كذا وكذا في مجلس حكمه وقضائه في موضع كذا وكذا في وقت كذا وكذا أنه يثبت عنده بشهادة فلان وفلان ونسبهما وقد عرفهما بما ساغ له به قبول شهادتهما عنده بما في كتاب نسخه ويسنخ الكتاب إن كان معه أو المحضر في أي حكم كان فإذا فرغ منه قال بعد ذلك فحكم به فانفذه وأمضاه بعد أن ساله فلان بن فلان أن يحكم له به ولا يحتاج أن يذكر أنه بمحضر المدعى عليه لأن القضاء على الغائب جائز فإن أراد أن يذكر احتياطا قال بعد أن حضره من ساغ له الدعوى عليه ويكتب الحاكم بالسجل والمحضر نسختين
إحداهما : تكون في يد صاحب الحق والأخرى : تكون في ديوان الحكم فإن هلكت أحداهما نابت الأخرى عنها ويختم الذي في ديوان الحكم ويكتب على طيه سجل فلان بن فلان أو محضر فلان بن فلان أو وثيقة فلان بن فلان فإن كثر ما عنده جمع ما يجتمع في كل يوم أو اسبوع أو شهر على قدر كثرتها وقلتها وشدها اضبارة ويكتب عليها اسبوع كذا من شهر كذا من سنة كذا ثم يضم ما يجتمع في السنة ويدعها ناحية ويكتب عليها كتب سنة كذا حتى إذا حضر من يطلب شيئا منها سام عن السنة فيخرج كتب تلك السنة ويسهل وينبغي أن يتولى جمعها وشدها بنفسه لئلا يزور عليه فإن تولى ذلك ثقة من ثقاته جاز (11/431)
فصول في أمور متفرقة في القضاء والمتقاضين
فصل : وينبغي أن يجعل من بيت المال شيء برسم الكاغد الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات لأنه من المصالح فإنه يحفظ به الوثائق ويذكر الحاكم حكمه والشاهد شهادته ويرجع بالدرك على من رجع عليه فإن أعوز ذلك لم يلزمه الحاكم ذلك ويقول لصاحب الحق ان شئت جئت بكاغد أكتب لك فيه فإنه حج لك وليست أكرهك عليه
فصل : وإذا ارتفع إليه خصمان فذكر أحدهما أن حجته في ديوان الحكم فاخرجها الحاكم من ديوانه فوجدها مكتوبة بخطه تحت ختمه وفيها حكمه فإن ذكر ذلك حكم به وإن لم يذكره لم يحكم به نص عليه أحمد في الشهادة قاله بعض أصحابنا وهو قول أبي حنيفة و الشافعي ومحمد بن الحسن وعن أحمد رضي الله عنه أنه يحكم به وبه قال ابن أبي ليلى وهذا الذي رأيته عن أحمد في الشهادة لأنه إذا كان في قمطرة تحت ختمه لم يحتمل أن يكون إلا صحيحا
ووجه الأولى أنه حكم حاكم لم يعلمه فلم يجز انفاذه إلا ببينة كحكم غيره ولأنه يجوز أن يزور عليه وعلى ختمه والخط يشبه الخط فإن قيل فلو وجد في دفتر أبيه حقا على إنسان جاز له أن يدعيه ويحلف عليه قلنا هذا يخالف الحكم والشهادة بدليل الإجماع على أنه لو وجد بخط أبيه شهادة لم يجز له أن يحكم بها ولا يشهد بها ولو وجد حكم أبيه مكتوبا بخطه لم يجز له انفاذه ولأنه يمكنه الرجوع في ما حكم به عليه إلى نفسه لأنه فعل نفسه فروعي ذلك وأما ما كتبه أبوه فلا يمكنه الرجوع فيما حكم به إلى نفسه فيكفي فيه الظن
فصل : فإن ادعى رجل على الحاكم أنك حكمت لي بهذا الحق على خصمي فذكر الحاكم حكمه أمضاه وألزم خصمه ما حكم به عليه وليس هذا حكما بالعلم أنما هو إمضاء لحكمه السابق وإن لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لزمه قبولها وإمضاء القضاء وبه قال ابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن قال القاضي هذا قياس قول أحمد لأنه قال يرجع الإمام إلى قول اثنين فصاعدا من المأمومين
وقال أبو حنيفة و ابو يوسف و الشافعي لا يقبل لأنه يمكنه الرجوع إلى الإحاطة والعلم فلا يرجع إلى الظن كالشاهد إذا نسي شهادته فشهد عنده شاهدان أنه شهد لم يكن له أن يشهد
ولنا أنهما لو شهدا عنده بحكم غيره قبل فكذلك إذا شهدا عنده بحكم نفسه ولأنهما شهدا بحكم حاكم وما ذكروه لا يصح لأن ذكر ما نسيه ليس غليه ويخالف الشاهد لأن الحاكم يمضي ما حكم به إذا ثبت عنده والشاهد لا يقدر على إمضاء شهادته وإنما يمضيها الحاكم (11/435)
مسألة وفصول في الهدية إلى القاضي والرشوة والبيع والشراء وحضور الولائم وعيادة المرضى
مسالة : قال : ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي إليه قبل ولايته
وذلك لأن الهدية يقصد بها في الغالب استمالة قلبه ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة قال مسروق إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت وإذا قبل لرشوة بلغت به الكفر وقد روى أبو حميد الساعدي قال : [ بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام النبي صلى الله عليه و سلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أمه فينظر أيهدي إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا نبعث أحدا منكم فيأخذ شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر فرفع يديه حتى رأيت عفرة أبطية فقال : اللهم هل بلغت ثلاثا ؟ ] متفق عليه ولأن حدوث الهدية عند حدوث الولاية يدل على أنها من أجلها ليتوسل بها إلى ميل الحاكم معه على خصمه فلم يجز قبولها منه كالرشوة فأما إن كان يهدي إليه قبل ولايته جاز قبولها منه بعد الولاية لأنها لم تكن من أجل الولاية لوجود سببها قبل الولاية بدليل وجودها قبلها قال القاضي ويستحب له التنزه عنها وإن أحس أنه يقدمها بين يدي خصومه أو فعلها حال الحكومة حرم أخذها في هذه الحال لأنها كالرشوة وهذا كله مذهب الشافعي وروي عن أبي حنيفة وأصحابه أن قبول الهدية مكروه غير محرم وفيما ذكرنا دلالة على التحريم
فصل : فأما الرشوة في الحكم ورشوة العالم فحرام بلا خلاف قال الله تعالى : { أكالون للسحت } قال قال الحسن و سعيد بن جبير في تفسيره هو الرشوة وقال إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به إلى الكفر
وروى عبد الله بن عمر قال : [ لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم الراشي والمرتشي ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم ورواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد والرائش وهو السفير بينهما ولأن المرتشي إنما يرتشي ليحكم بغير الحق أو ليوقف الحكم عنه وذلك من أعظم الظلم قال مسروق سألت ابن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم قال لا : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ـ و { الظالمون } ـ و { الفاسقون } ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل وقال قتادة قال كعب : الرشوة تسفه الحليم وتعمي عين الحكيم فأما الراشي فإن رشاه ليحكم له بباطل أو يدفع عنه حقا فهو ملعون وإن رشاه ليدفع ظلمه ويجزيه على واجبه فقد قال عطاء و جابر بن زيد و الحسن لا بأس أن يصانع عن نفسه قال جابر بن زيد ما رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا ولأنه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره فإن ارتشى الحاكم أو قبل هدية ليس له قبولها فعليه ردها إلى أربابها لأنه أخذها بغير حق فأشبه المأخوذ بعقد فاسد ويحتمل أن يجعلها في بيت المال لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يأمر ابن اللتبية بردها على أربابها وقد قال أحمد إذا أهدى البطريق لصاحب الجيش عينا أو فضة لم تكن له دون سائر الجيش قال أبو بكر : يكونون فيه سواء
فصل : ولا ينبغي للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه لما [ روى أبو الأسود المالكي عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا ] ولأنه يعرف فيحابي فيكون كالهدية ولأن ذلك يشغله عن النظر في أمور الناس
وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه لما بويع أخذ الذراع وقصد السوق فقالوا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يسعك أن تشتغل عن أمور المسلمين قال فإني لا أدع عيالي يضيعون قالوا فنحن نفرض لك ما يكفيك ففرضوا له كل يوم درهمين فإن باع واشترى صح البيع لأن البيع تم بشروطه وأركانه وإن احتاج إلى مباشرته ولم يكن له من يكفيه جاز ذلك ولم يكره لأن أبا بكر رضي الله عنه قصد السوق ليتجر فيه حتى فرضوا له ما يكفيه ولأن القيام بعياله فرض عين فلا يتركه لوهم مضرة وأما إذا استغنى عن مباشرته ووجد من يكفيه ذلك كره له لما ذكرناه من المعنيين وينبغي ان يوكل في ذلك من لا يعرف أنه وكيله لئلا يحابي وهذا مذهب الشافعي وحكي عن ابي حنيفة أنه قال لا يكره له البيع والشراء وتوكيل من يعرف لما ذكرنا من قضية أبي بكر رضي الله عنه
ولنا ما ذكرناه وروي عن شريح أنه قال شرط علي عمر حين ولاني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرتشي ولا أقضي وأنا غضبان وقضية أبي بكر حجة لنا فإن الصحابة أنكروا عليه فاعتذر بحفظ عياله عن الضياع فلما أغنوه عن البيع والشراء بما فرضوا لهم قبل قولهم وترك التجارة فحصل الإتفاق منهم على تركها عند الغنى عنها
فصل : ويجوز للحاكم حضور الولائم ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يحضرها ويأمر بحضورها وقال : من لم يجب فقد عصى الله ورسوله ] فإن كثرت وازدحمت تركها كلها ولم يجب أحدا لأن ذلك يشغله عن الحكم الذي قد تعين عليه لكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل ولا يجيب بعضا دون بعض لأن في ذلك كسرا لقلب من لم يجبه إلا أن يختص بعضها بعذر يمنعه دون بعض مثل أن يكون في إحداهما منكر أو تكون في مكان بعيد أو يشتغل بها زمنا طويلا والأخرى بخلاف ذلك فله الإجابة إليها دون الأولى لأن عذره ظاهر في التخلف عن الأولى
فصل : وله عيادة المرضى وشهود الجنائز واتيان مقدم الغائب وزيادة إخوانه والصالحين من الناس لأنه قربة وطاعة وإن كثر ذلك فليس له الاشتغال به عن الحكم لأن هذا تبرع فلا يشتغل به عن الفرض وله حضور البعض دون البعض لأن هذا يفعله لنفع نفسه لتحصيل الأجر والقربة له والولائم يراعى فيها حق الداعي فينكسر قلب من لم يجبه إذا أجاب غيره (11/437)
مسألة وفصول وجوب العدل بين الخصوم وحكم سماع الدعاوى
مسألة : قال : ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه والمجلس والخطاب
وجملته أن على القاضي العدل بين الخصمين في كل شيء من المجلس والخطاب واللحظ واللفظ والدخول عليه والإنصات إليهما والاستمتاع منهما وهذا قول شريح و أبي حنيفة و الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا وقد روى عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من بلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر ] وفي رواية : [ فليسو بينهم في النظر والمجلس والإشارة ] وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي سو بين الناس في مجلسك وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع شريف في حيفك وقال سعيد ثنا هشيم ثنا سيار ثنا الشعبي قال كان بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي بن كعب بدار في شيء فجعلا بينهما زيد ابن ثابت فأتياه في منزله فقال له عمر أتيناك لتحكم بيننا في بينة تؤتي الحاكم فوسع له زيد عن صدر فراشه فقال ههنا يا أمير المؤمنين فقال له عمر جرت في أول القضاء ولكن اجلس مع خصمي فجلسا بين يديه فادعى أبي وأنكر عمر فقال زيد أبي اعف أمير المؤمنين من اليمين وماكنت لأسألها لأحد غيره فحلف عمر ثم أقسم لا يدرك زيد باب القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء ورواه عمر بن شبة وفيه فلما أتيا باب زيد خرج فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلى لأتيتك قال في بينة تؤتي الحكم فلما دخلا عليه قال ههنا يا أمير المؤمنين قال بل اجلس مع خصمي فادعى أبي وأنكر عمر ولم تكن لأبي بينة فقال زيد اعف أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر تالله إن زلت ظالما السلام عليك يا أمير المؤمنين ههنا يا أمير المؤمنين اعف أمير المؤمنين ؟ إن كان لي حق استحققته بيميني وإلا تركته والله الذي لا إله إلا هو أن النخل لنخلي وما لأبي فيها حق ثم أقسم عمر لا يصيب زيد وجه القضاء حتى يكون عمر وغيره من الناس عنده سواء فلما خرجا وهب النخل لأبي فقيل له يا أمير المؤمنين فهلا كان هذا قبل أن تحلف ؟ قال خفت أن أترك اليمين فتصير سنة فلا يحلف الناس على حقوقهم وقال إبراهيم : جاء رحل إلى شريح وعنده السري بن وقاص فقال الرجل لـ شريح أعني على هذا الجالس عندك فقال شريح للسري قم فاجلس مع خصمك قال إني أسمعك من مكاني قال لا قم فاجلس مع خصمك فأبى أن يسمع منه حتى أجلسه مع خصمه
وفي رواية قال ان مجلسك يريبه وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر ولما تحاكم علي رضي الله عنه واليهودي إلى شريح قال علي إن خصمي لو كان ميلما لجلست معه بين يديك ولأن الحاكم إذ ميز أحد الخصمين على ألآخر حصر وانكسر قلبه وربما لم تقم حجته فأدى ذلك إلى ظلمه وإن أذن أحد الخصمين للحاكم في رفع الخصم الآخر عليه في المجلس جاز لأن الحق له ولا ينكسر قلبه إذا كان هو الذي رفعه
والسنة أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم رواه أبو داود وقال علي رضي الله عنه لو أن خصمي مسلم لجلست معه بين يديك ولأن ذلك أمكن للحاكم في العدل بينهما والإقبال عليهما والنظر في خصومتهما وإن كان الخصمان ذميين سوى بينهما أيضا لاستوائهما في دينهما وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا جاز رفع المسلم عليه لما روى إبراهيم التيمي قال : [ وجد علي كرم الله وجهه درعه مع يهودي فقال درعي سقطت وقت كذا فقال اليهودي درعي وفي يدي بيني وبينك قاض المسلمين فارتفعا إلى شريح فلما رآه شريح قام من مجلسه وأجلسه في موضعه وجلس مع اليهودي بين يديه فقال علي : ان خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تساووهم في المجالس ] ذكره أبو نعيم في الحلية ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه أما أن يضيفهما معا أو يدعهما
[ وقد روى عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل فقال له أنك خصم ؟ قال نعم قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه ] ولأن ذلك يوهم الخصم ميل الحاكم إلى من اضافه ولا يلقن أحدهما حجته ولا ما فيه ضرر على خصمه مصل أن يريد أحدهما الإقرار فيلقنه الإنكار أو اليمين فيلقنه النكول أو المنكول فيجزئه على اليمين أو يحس من الشاهد بالتوقف فيجسره على الشهادة أو يكون مقدما على الشهادة فيوقفه عنها أو يقول لأحدهما وحده تكلم ونحو هذا مما فيه اضرار بخصمه لأن عليه العدل بينهما
فإن قيل : فقد [ لقن النبي صلى الله عليه و سلم السارق فقال : ما إخالك سرقت ] وقال عمر لزياد أرجو أن لا يفضح الله علي يديك رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا لا يرد هذا الإلزام ههنا فإن هذا في حقوق الله وحدوده ولا خصم للمقر ولا للمشهود عليه فليس في تلقينه حيف على أحد الخصمين ولا ترك للعدل في أحد الجانبين والذي قلنا في المختلفين في حق من حقوق الآدميين ولا ينبغي أن يعنت الشاهد ولا يداخله في كلامه ويعنفه في الفاظه
فصل : وإذا حضر القاضي خصوم كثيرة قدم الأول فالأول وينبغي أن يبعث من يكتب من جاء الأول فالأول فيقدمه قال ابن المنذر : الأحسن أن يتخذ خيطا ممدودا طرفه يلي مجلس الحاكم والطرف الآخر يلي مجلس الخصوم فكل من جاء كتب اسمه في رقعة وثقبها وادخلها في الخيط مما يلي مجلس الخصوم حتى يأتي على آخرهم فإذا جلس القاضي مد يده إلى الطرف الذي يليه فأخذ الرقعة التي تليه ثم التي بعدها كذلك حتى يأتي على آخرها فإن بقي منها شيء وزال الوقت الذي يقضي فيه عرف الطرف الذي يليه حين جلس فيتناول في المجلس الثاني الرقاع كفعله بالأمس والاعتبار بسبق المدعي لأن الحق له ومتى قدم رجلا لسبقه فحكم بينه وبين خصمه فقال لي دعوى أخرى لم يسمع منه لأنه قد قدمه بسبقه في خصومة فلا يقدمه بأخرى ويقول له اجلس حتى إذا لم يبق أحد من الحاضرين نظرت في دعواك الأخرى أن أمكن فإذا فرغ الكل فقال الأخير بعد فصل خصومته لي دعوى أخرى لم يسمع منه حتى يسمع دعوى الأول الثانية ثم يسمع دعواه وإن ادعى المدعى عليه على المدعي حكم بينهما لأننا إنما نعتبر الأول فالأول في الدعوى لا في المدعى عليه وإذا نقدم الثاني فادعى على المدعي الأول أو المدعى عليه الأول حكم بينهما وإن حضر اثنان أو جماعة دفعة واحدة أقرع بينهم فقدم من خرجت له القرعة لتساوي حقوقهم وإن كثر عددهم كتب أسماءهم في رقاع وتركها بين يديه ومد يده فأخذ رقعة رقعة واحدة بعد أخرى ويقدم صاحبها حسب ما يتفق
فصل : فإن حضر مسافرون ومقيمون فكان المسافرون قليلا بحيث لا يضر تقديمهم على المقيمين قدمهم لأنهم على جناح السفر ويشتغلون بما يصلح للرحيل وقد خفف الله عنهم الصوم وشطر الصلاة تخفيفا عنهم وفي تأخيرهم ضرر بهم فإن شاء أفرد لهم يوما يفرغ من حوائجهم فيه وإن شاء قدمهم من غير افراد يوم لهم فإن كانوا كثيرا بحيث يضر تقديمهم فهم والمقيمون سواء لأن تقديمهم مع القلة إنما كان لدفع الضرر والمختص بهم فإذا آل دفع الضرر عنهم إلى الضرر بغيرهم تساووا ولا خلاف في أكثر هذه الآداب وأنها ليست شرطا في صحة القضاء فلو قدم المسبوق أو قدم الحاضرين أو نحوه كان قضاؤه صحيحا
فصل : وإذا تقدم إليه خصمان فإن شاء قال من المدعي منكما ؟ لأنهما حضرا لذلك وإن شاء سكت ويقول القائم على رأسه من المدعي منكما ؟ إن سكتا جميعا ولا يقول الحاكم ولا صاحبه لأحدهما تكلم لأن في افراده بذلك تفضيلا له وتركا للإنصاف
قال عمر بن قيس : شهدت شريحا إذا جلس إليه الخصمان ورجل قائم على رأسه يقول أيكما المدعي فليتكلم ؟ وإن ذهب الآخر يشغب غمزه حتى يفرغ المدعي ثم يقول تكلم فإن بدأ أحدهما فادعي فقال خصمه أنا المدعي لم يلتفت الحاكم إليه وقال أجب عن دعواه ثم ادع بعد ما شئت فإن ادعيا معا فقياس المذهب أن يقرع بينهما وهو قياس قول الشافعي لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر وقد تعذر الجمع بينهما فيقرع بينهما كالمرأتين إذا زفتا في ليلة واحدة واستحسن ابن المنذر أن يسمع منهما جميعا وقيل يرجىء أمرهما حتى يتبين المدعي منهما وما ذكرناه أولى لأنه لا يمكن الجمع بين الحكم في القضيتين معا وإرجاء أمرهما اضرار بها وفيما ذكرنا دفع الضرر بحسب الإمكان وله نظير في مواضع من الشرع فكان أولى
فصل : ولا يسمع الحاكم الدعوى إلا محررة إلا في الوصية والإقرار لأن الحاكم يسأل المدعى عليه عما ادعاه فإن اعترف به لزمه ولا يمكنه أن تلزمه مجهولة ويفارق الإقرار فإن الحق عليه فلا يسقط بتركه اثباته وإنما صحت الدعوى في الوصية مجهولة لأنها تصح مجهولة فإنه لو وصى له بشيء أو سهم صح فلا يمكنه أن يدعيها إلا مجهولة كما ثبت وكذلك الإقرارلما صح أن يقر بمجهول صح لخصمه أن يدعي عليه أنه أقر له بمجهول
إذا ثبت هذا فإن كان المدعى أثمانا فلا بد من ذكر ثلاثة أشياء : الجنس والنوع والقدر فيقول عشرة دنانير بصرية وإن اختلفت بالصحاح والمكسرة قال صحاح أو قال مكسرة وإن كانت الدعوى في غير الأثمان وكانت عينا تنضبط بالصفات كالحبوب والثياب والحيوان واحتاج أن يذكر الصفات التي تشترط في السلم وإن ذكر القيمة كان آكد إلا أن الصفة تغني فيه كما تغني في العقد وإن كانت جواهر ونحوها ما لا ينضبط بالصفة فلا بد من ذكر قيمتها لأنها لا تنضبط إلا بها وإن كان المدعي تالفا وهو مما له مثل كالمكيل والموزون ادعى مثله وضبطه بصفته وإن كان مما لا مثل له كالنبات والحيوان ادعى قيمته لأنها تجب بتلفه وإن كان التالف شيئا محلى بفضة أو بذهب قومه بغير جنس حليته وإن كان مخلى بذهب وفضة قومه بما شاء منهما لأنه موضع حاجة وإن كان المدعى عقارا فلا بد من بيان موضعه وحدوده فيدعي أن هذه الدار بحدودها وحقوقها لي وأنها في يده ظلما وأنا أطالبه بردها علي وإن ادعى عليه أن هذه الدار لي وأنه يمنعني منها صحت الدعوى وإن لم يقل أنها في يده لأنه يجوز أن ينازعه ويمنعه وإن لم تكن في يده وإن ادعى جراحة لها ارش معلوم كالموضحة من الحر جاز أن يدعي الجراحة ولا يذكر أرشها لأنه معلوم وإن كانت من عبد أو كانت من حر لا مقدر فيها فلا بد من ذكر أرشها وإن أدعى على أبيه دينا لم تسمع الدعوى حتى يدعي أن أباه مات وترك في يده مالا لأن الولد لا يلزمه قضاء دين والده ما لم يكن كذلك ويحتاج أن يذكر تركة أبيه ويحررها ويذكر قدرها كما يصنع في قدر الدين هكذا ذكره القاضي والصحيح أنه يحتاج إلى ذكر ثلاثة أشياء تحرير دينه وموت أبيه وأنه وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء لدينه وإن قال ما فيه وفاء لبعض دينه احتاج أن يذكر ذلك القدر والقول قول المدعى عليه في نفي تركة الأب مع يمينه وإن أنكر موت أبيه فالقول قوله مع يمينه ويكفيه أن يحلف على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير وقد يموت ولا يعلم به ابنه ويكفيه أن يحلف أن ما وصل إليه من تركة أبيه ما فيه وفاء حقه ولا شيء منه ولا يلزمه أن يحلف أن أباه لم يخلف شيئا لأنه قد يخلف تركة فلا تصل إليه فلا يلزمه الإيفاء منه فإن لم يحسن المدعي تحرير الدعوى فهل للحاكم أن يلقنه تحريرها ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : يجوز لأنه لا ضرر على صاحبه في ذلك والثاني : لا يجوز لأن فيه إعانة أحد الخصمين في حكومته
فصل : إذا حرر المدعي دعواه فللحاكم أن يسأل خصمه الجواب قبل أن يطلب منه المدعي ذلك لأن شاهد الحال يدل عليه لأن احضاره والدعوى أنما يراد ليسأل الحاكم المدعى عليه فقد أغنى ذلك عن سؤاله فيقول لخصمه ما تقول فيما يدعيه ؟ فإن أقر لزمه وليس للحاكم أن يحكم عليه إلا بمسألة المقر له لأن الحكم عليه حق له فلا يستوفيه إلا بمسألة مستحقة هكذا ذكر أصحابنا ويحتمل أن يجوز له الحكم عليه قبل مسألة المدعي لأن الحال تدل على إرادته ذلك فاكتفي بها كما اكتفى بها في مسألة المدعى عليه الجواب ولأن كثيرا من الناس لا يعرف مطالبة الحاكم بذلك فيترك مطالبته به لجهله فيضيع حقه فعلى هذا يجوز له الحكم قبل مسألته وعلى القول الأول ان سأله الخصم فقال احكم لي حكم عليه والحكم أن يقول قد ألزمتك ذلك أو قضيت عليك له أو يقول اخرج له منه فمتى قال له أحد هذه الثلاثة كان حكما بالحق ؟ وإن أنكر فقال لا حق لك قبلي فهذا موضع البينة قال الحاكم ألك بينة ؟ [ لما روي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم حضرمي وكندي فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي هي أرضي وفي يدي وليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه و سلم للحضرمي : ألك بينة ؟ قال لا قال : فلك يمينه ] وهو حديث حسن صحيح وإن كان المدعي عارفا بأنه موضع البينة فالحاكم مخير بين أن يقول ألك بينة ؟ وبين أن يسكت فإذا قال له ألك بينة ؟ وذكر أن له بينة حاضرة لم يقل له الحاكم أحضرها لأن ذلك حق له فله أن يفعل ما يرى وإذا أحضرها لم يسألها الحاكم عما عندها حتى يسأله المدعي ذلك لأنه حق له فلا يسأله ولا يتصرف فيه من غير من غير إذنه فإذا سأله المدعي سؤالها قال من كانت عنده شهادة فليذكرها إن شاء ؟ ولا يقول لهما أشهدا لأنه أمر وكان شريح يقول للشاهدين ما أنا دعوتكما ولا أنها كما إن ترجعا وما يقضي على هذا المسلم غيركما وإني بكما أقضي اليوم وبكما أتقي يوم القيامة وإن رأى الحاكم عليهما ما يوجب رد شهادتهما ردها كما روي عن شريح أنه شهد عنده شاهد وعليه قباء مخروط الكمين فقال له شريح أتحسن أن توضأ ؟ قال نعم قال فاحسر عن ذراعيك فذهب يحسر عنهما فلم يستطع فقال له شريح قم فلا شهادة لك وان أديا الشهادة على غير وجهها مثل أن يقولا بلغنا ان عليه ألفا أو سمعنا ذلك ردت شهادتهما وشهد رجل عند شريح فقال أشهد أنه أتكأ عليه بمرفقه حتى مات فقال شريح أتشهد أنه قتله ؟ قال أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات قال أتشهد أنه قتله ؟ قال أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات قال قم لا شهادة لك وإن كانت شهادة صحيحة وعرف الحاكم عدالتهم قال للمشهود عليه قد شهدا عليك فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهما فبينه عندي فإن سأل الأنظار أنظره اليومين والثلاثة فإن لم يجرح حكم عليه لأن الحق قد وضح على وجه لا إشكال فيه وإن ارتاب بشهادتهم فرقهم فسأل كل واحد عن شهادته وصفتها فيقول كنت أول من شهد أو كتبت أو لم تكتب وفي أي مكان شهدت ؟ وفي أي شهر ؟ وأي يوم ؟ وهل كنت وحدك أو معك غيرك ؟ فإن اختلفوا سقطت شهادتهم وإن اتفقوا بحث عن عدالتهم ويقال أول من فعل هذا دانيال ويقال فعله سليمان وهو صغير
وروي عن علي رضي الله عنه أن سبعة نفر خرجوا ففقد واحدمنهم فأتت زوجته عليا فدعا الستة فسألهم عنه فأنكروا ففرقهم وأقام كل واحد عند سارية ووكل به من يحفظه ودعا واحدا فسأله فأنكر فقال الله أكبر فظن الباقون أنه قد اعترف فدعاهم فاعترفوا فقال للأول قد شهدوا عليك وأنا قاتلك فاعترف فقتلهم وإن لم يعرف عدالتهما بحث عنها فإن لم تثبت عدالتهما قال للمدعي زدني شهودا وإن لم تكن له بينة عرفه الحاكم أن لك يمينه وليس للحاكم أن يستحلفه قبل مسألة المدعي لأن اليمين حق له فلم يجز استيفاؤها من غير مطالبة مستحقها كنفس الحق فإن استحلفه من غير مسألة أو بادر المنكر فحلف لم يعتد بيمينه لأنه أتى به في غير وقتها وإذا سألها المدعي أعادها له لأن الأولى لم تكن يمينه وإن أمسك المدعي عن إحلاف المدعي عليه ثم أراد إحلافه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه منها وإنما أخرها وإن قال أبرأتك من هذه اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله أن يستأنف الدعوى لأن حقه لا يسقط بالإبراء من اليمين فإن استأنف الدعوى فأنكر المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين فإن حلف سقطت الدعوى ولم يكن للمدعي أن يحلفه يمينا أخرى لا في هذا المجلس ولا في غيره وإن كان الحق لجماعة فرضوا بيمين واحدة جاز وسقطت دعواهم باليمين لأنها حقهم ولأنه لما جاز ثبوت الحق بينة واحدة لجماعة جاز سقوطه بيمين واحدة
قال القاضي : ويحتمل أن لا يصح حتى يحلف لكل واحد يمينا وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اليمين حجة في حق الواحد فإذا رضي بها اثنان صارت الحجة في كل واحد منهما ناقصة والحجة الناقصة لا تكمل برضا الخصم كما لو رضى أن يحكم عليه بشاهد واحد والصحيح الأول لأن الحق لهما فإذا رضيا به جاز ولا يلزم من رضاهما بيمين واحدة أن يكون لكل واحد بعض اليمين كما أن الحقوق إذا قامت بها بينة واحدة لا يكون لكل حق بعض البينة فأما أن حلفه لجميعهم يمينا واحدة بغير رضاهم لم تصح يمينه بلا خلاف نعلمه
وقد حكى الاصطخري ان اسماعيل بن إسحاق القاضي حلف رجلا بحق لرجلين يمينا واحدة فخطأه أهل عصره وإن قال المدعي لي بينة غائبة قال له الحاكم لك يمنيه فإن شئت فاستحلفه وإن شئت أخرته إلى أن تحضر بينتك وليس لك مطالبته بكفيل ولا ملازمته حتى تحضر البينة نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ] فإن أحلفه ثم حضرت بينته حكم بها ولم تكن مزيلة للحق لأن اليمين إنما يصار إليها عند عدم البينة فإذا وجدت البينة بطلت اليمين وتبين كذبها وإن قال لي بينة حاضرة وأريد يمنيه ثم أقيم بينتي لم يملك ذلك وقال أبو يوسف يستحلفه وإن نكل قضى عليه لأن في الاستحلاف فائدة وهو أنه ربما نكل فقضى عليه فأغنى عن البينة
ولنا قول عليه السلام : [ شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ] وأو للتخيير بين شيئين فلا يكون له الجمع بينهما ولأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة فلم يشرع غيرها مع إرادة المدعي إقامتها وحضورها كما لو لم يطلب يمينه ولأن اليمين بدل فلم يجب الجمع بينها وبين مبدلها كسائر الإبدال مع مبدلاتها وإن قال المدعي لا أريد إقامتها وإنما أريد يمينه اكتفي بها استحلف لأن البينة حقه فإذا رضي باسقاطها وترك إقامتها فله ذلك كنفس الحق فإن حلف المدعي عليه ثم اراد المدعي اقامة بينته فهل يملك ذلك ؟ يحتمل وجهين أحدهما : له ذلك لأن البينة لا تبطل بالاستحلاف كما لو كانت غائبة والثاني : ليس له ذلك لأنه قد أسقط حقه من إقامتها ولأن تجويز إقامتها يفتح باب الحيلة لأنه يقول لا اريد إقامتها ليحلف خصمه ثم يقيمها فإن كان له شاهد واحد في الأموال عرفه الحاكم أن له أن يحلف مع شاهده ويستحق فإن قال لا أحلف أنا وأرضى بيمينه استحلف له فإذا حلف سقط الحق عنه فإن عاد المدعي بعدها فقال أنا أحلف مع شاهدي لم يستحلف ولم يسمع منه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين فعله وهو قادر عليها فأمكنه أن يسقطها بخلاف البينة وإن عاد قبل أن يحلف المدعى عليه فبذل اليمين فقال القاضي ليس له ذلك في هذا المجلس وكل موضع قلنا يستحلف المدعى عليه فإن الحاكم يقول له إن حلفت وإلا جعلتك ناكلا وقضيت عليك ثلاثا فإن حلف وإلا حكم عليه بنكوله إذا سأله المدعي ذلك فإن سكت عن جواب الدعوى فلم يقر ولم ينكر حبسه الحاكم حتى يجيب بذلك ناكلا ذكره القاضي في المجرد
وقال أبو الخطاب : يقول له الحاكم أن أوجبت وإلا جعلتك ناكلا وحكمت عليك ويكرر ذلك عليه فإن أجاب وإلا جعله ناكلا وحكم عليه لأنه ناكل عما توجه عليه الجواب فيه فيحكم عليه بالنكول عنه كاليمين (11/442)
مسألة كتابة القاضي إلى القاضي
مسألة : قال : وإذا حكم على رجل في عمل غيره فكتب بانفاذ القضاء عليه إلى قاضي ذلك البلد قبل كتابه وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق
ثم الأصل في كتاب القاضي إلى القاضي والأمير إلى الأمير الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب بقول الله تعالى : { إني ألقي إلي كتاب كريم * إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين }
وأما السنة [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وملوك الأطراف وكان يكتب إلى ولاته ويكتب لعماله وسعاته وكان في كتابه إلى قيصر : بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم وأسلم يؤتك الله أجرا عظيما فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ]
و [ روى الضحاك بن سفيان قال : كتب إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم ان ورث امرأة اشيم الضبابي من دية زوجها ]
وأجمعت الأمة على كتاب القاضي إلى القاضي ولأن الحاجة إلى قبوله داعية فإن من له حق في بلد غير بلده ولا يمكنه اتيانه والمطالبة به إلا بكتاب القاضي فوجب قبوله وإذا ثبت هذا فإن كتاب القاضي يقبل في الأموال وما يقصد به المال ولا يقبل في الحدود كحق الله تعالى وهل يقبل فيما عدا هذا ؟ على وجهين وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أصحاب الشافعي يقبل في كل حق لآدمي من الجراح وغيرها وهل يقبل في الحدود التي لله تعالى ؟ على قولين وتمام الكلام في هذا الفصل يذكر في الشهادة إن شاء الله تعالى والكتاب على ضربين :
احداهما : أن يكتب بما حكم به وذلك مثل أن يحكم على رجل بحق فيغيب قبل إيفائه أو يدعي جقا على غائب ويقيم به بينة ويسأل الحاكم الحكم عليه فيحكم عليه ويسأله أن يكتب له كتابا يحمله إلى قاضي البلد الذي فيه الغائب فيكتب له اليه أو تقوم البينة على حاضر فيهرب قبل الحكم عليه فيسأل صاحب الحق الحاكم الحكم عليه وأن يكتب له كتابا بحكمه ففي هذه الصور الثلاث يلزم الحاكم اجابته إلى الكتابة ويلزم المكتوب إليه قبوله سواء كانت بينهما مسافة بعيدة أو قريبة حتى لو كانا في جانبي بلد أو مجلس لزمه قبوله وإمضاؤه سواء كان حكما على حاضر أو غائب لا نعلم في هذا خلافا لأن حكم الحاكم يجب امضاؤه على كل حاكم
الضرب الثاني : أن يكتب بعلمه بشهادة شاهدين عنده بحق لفلان مثل أن تقوم البينة عنده بحق لرجل على آخر ولم يحكم به فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتابا بما حصل عنده فإنه يكتب له ايضا قال القاضي ويكون في كتابه : شهد عندي فلان وفلان بكذا وكذا ليكون المكتوب إليه هو الذي يقضي به ولا يكتب ثبت عندي لأن قوله ثبت عندي حكم بشهادتهما فهذا لا يقبله المكتوب إليه إلا في المسافة البعيدة التي هي مسافة القصر ولا يقبله فيما دونها لأنه نقل شهادة فاعتبر فيه ما يعتبر في الشهادة على الشهادة ونحو هذا قول الشافعي
وقال أبو يوسف ومحمد يجوز أن يقبله في بلده وحكي عن أبي حنيفة مثل هذا وقال بعض المتأخرين من أصحابه الذي يقتضيه مذهبه أنه لا يجوز ذلك في الشهادة واحتج من أجازه بأنه كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز قبوله مع القرب ككتابه بحكمه
ولنا أن ذلك نقل الشهادة إلى المكتوب إليه فلم يجز مع القرب كالشهادة ويفارق كتابه بالحكم فإن ذلك ليس بنقل وإنما هو خبر وكل موضع يلزمه قبول الكتاب فإنه يأخذ المحكوم عليه بالحق الذي حكم عليه به فيبعث إليه فيستدعيه فإن اعترف بالحق أمره بادائه وألزمه إياه وإن قال لست المسمى في هذا الكتاب فالقول قوله مع يمينه إلا أن يقيم المدعي بينة أنه المسمى في الكتاب وإن اعترف أن هذا الإسم اسمه والنسب نسبه والصفة صفته إلا أن الحق ليس هو عليه إنما هو على آخر يشاركه في الإسم والنسب والصفة فالقول قول المعي في نفي ذلك لأن الظاهر عدم المشاركة في هذا كله فإن أقام المدعي عليه بينة بما ادعاه من وجود مشارك له في هذا كله أحضره الحاكم وسأله عن الحق فإن اعترف به ألزمه به وتخلص الأول وإن أنكره وفق الحكم وكتب إلى الحاكم يعلمه الحال وما وقع من الإشكال حتى يحضر الشاهدين فيشهدا عنده بما يتميز به المشهود عليه منهما
وإن ادعى المسمى أنه كان في البلد من يشاركه في الإسم والصفة وقد مات نظرنا فإن كان موته قبل وقوع المعاملة التي وقع الحكم بها أو كان ممن لم يعاصره المحكوم عليه أو المحكوم له لم يقع إشكال وكان وجوده كعدمه وإن كان موته بعد الحكم أو بعد المعاملة وكان ممن أمكن أن تجري بينه وبين المحكوم له معاملة فقد وقع الإشكال كما لو كان حيا لجواز أن يكون الحق على الذي مات (11/458)
فصل كتابة الحاكم بثبوت البينة أو الإقرار بالدين
فصل : وإذا كتب الحاكم بثبوت بينة أو إقرار بدين جاز وحكم به المكتوب إليه وأخذ المحكوم عليه به وإن كان ذلك عينا كعقار محدود وعين مشهودة لا تشتبه بغيرها كعبد معروف مشهور أو دابة كذلك حكم به المكتوب إليه أيضا وألزم تسليمه إلى المحكوم له به وإن كان عينا لا تتميز إلا بالصفة كعبد غير مشهود أو غيره من الأعيان التي لا تتميز إلا بالوصف ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل كتابة وبه قال أبو حنيفة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن الوصف لا يكفي بدليل أنه لا يصح أن يشهد لرجل بالوصف والتحلية كذلك المشهود به
والثاني : يجوز لأنه ثبت في الذمة بالعقد على هذه الصفة فأشبه الدين ويخالف المشهود له فإنه لا حاجة إلى ذلك فيه فإن الشهادة له لا تثبت إلا بعد دعواه ولأن المشهود عليه يثبت بالصفة والتحلية فكذلك المشهود به
فعلى هذا الوجه ينفذ العين مختومة وإن كان عبد أو أمة ختم في عنقه وبعثه إلى القاضي الكاتب ليشهد الشاهدان على عينه فإن شهدا عليه دفع إلى المشهود له به وإن لم يشهدا على عينه أو قال المشهود به غير هذا وجب على آخذه رده إلى صاحبه ويكون حكمه حكم المغصوب في ضمانه وضمان نقصه ومنفعته فليزمه أجره أن كان له أجر من يوم أخذه إلى أن يصل إلى صاحبه لأنه أخذه من صاحبه قهرا بغير حق (11/463)
فصل فيمن استوفى الحق من المحكوم عليه الخ
ومن استوفى الحق من المحكوم عليه فقال للحاكم عليه اكتب لي محضرا بما جرى لئلا يلقاني خصمي في موضع آخر فيطالبني به مرة أخرى ففيه وجهان أحدهما : تلزمه إجابته ليخلص من المحذور الذي يخافه
والثاني : لا تلزمه لأن الحاكم إنما يكتب بما ثبت عنده أو حكم به فأما استئناف ابتداء فيكفيه فيه الأشهاد فيطالبه أن يشهد على نفسه بقبض الحق لأن الحق ثبت عليه بالشهادة والأول أصح لأنه قد حكم عليه بهذا الحق ويخاف الضرر بدون المحضر فأشبه ما حكم به ابتداء وإن طالب المحكوم له بدفع الكتاب الذي ثبت به الحق لم يلزمه دفعه إليه لأنه ملكه فلا يجب عليه دفعه إلى غيره وكذلك كل من له كتاب بدين فاستوفاه أو عقار فباعه لا يلزمه دفع الكتاب لأنه ملكه ولأنه يجوز أن يخرج ما قبضه مستحقا فيعود إلى ماله (11/466)
فصل يقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر
فصل : ويقبل الكتاب من قاضي مصر إلى قاضي مصر وإلى قاضي قرية ومن قاضي قرية إلى قاضي قرية وقاضي مصر ومن القاضي إلى خليفته ومن خليفته إليه لأنه كتاب من قاض إلى قاض فأشبه ما لو استويا ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى من وصله كتابي من قضاة المسلمين وحكامهم من غير تعيين ويلزم من وصله قبوله وبهذا قال أبو ثور واستحسنه أبو يوسف وقال أبو حنيفة لا يجوز أن يكتب إلى غير معين ولنا أنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم فلزمه قبوله كما لو كان الكاتب إليه بعينه (11/467)
فصل وصفة الكتاب
سبب هذا الكتاب أطال الله بقاء من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم أنه ثبت عندي في مجلس حكمي وقضائي الذي أتولاه بمكان كذا وإن كان نائبا قال الذي أنوب فيه عن القاضي فلان بمحضر من خصمين مدع ومدعى عليه جاز استماع الدعوى منهما وقبول البينة من أحدهما على الآخر بشهادة فلان وفلان وهما من الشهود المعدلين عندي عرفتهما وقبلت شهادتهما بما رايت معه قبولها معرفة فلان بن فلان الفلاني بعينه واسمه ونسبه فإن كان في إثبات أسر أسير قال وإن الفرنج خذلهم الله أسروه بمكان كذا في وقت كذا وأخذوه إلى مكان كذا وهو مقيم تحت حوطتهم ابادهم الله وأنه رجل فقير من فقراء المسلمين ليس له شيء من الدنيا ولا يقدر على فكاك نفسه ولا على شيء منه وأنه مستحق للصدقة على ما يقتضيه كتاب المحضر المشار إليه المتصل أوله بآخر كتابي هذا المؤرخ بكذا
وإن كان في إثبات دين كتب وأنه استحق في ذمة فلان بن فلان الفلاني ويرفع في نسبه ويصفه بما يتميز به من الدين كذا وكذا دينا عليه حالا وحقا واجبا لازما وأنه يستحق مطالبته واستيفاءه منه وإن كان في إثبات عين كتب وأنه مالك لما في يدي فلان من الشيء الفلاني ويصفه صفة يتميز بها مستحق لأخذه وتسليمه على ما يقتضيه كتاب المحضر المتصل بآخر كتابي هذا المؤرخ بتارخ كذا وقال الشاهدان المذكوران أنهما بما شهدا به عن عالمان وله محققان وأنهما لا يعلمان خلاف ما شهدا به إلى حين أقاما الشهادة عندي فأمضيت ما ثبت عندي من ذلك وحكمت بموجبه بسؤال منجازت مسألته وسألني من جاز سؤاله وسوغت الشريعة المطهرة اجابته المكاتبة بذلك إلى القضاة والحكام فأجبته إلى ملتمسه لجوازه له شرعا وتقدمت بهذا الكتاب فكتب وبالصاق المحضر المشار إليه فألصق فمن وقف عليه منهم وتأمل ما ذكرته وتصفح ما سطرته واعتمد في انفاذه والعمل بموجب ما يوجبه الشرع المطهر أحرز من الأجر أجزله وكتب من مجلس الحكم المحروس من مكان كذا في وقت كذا ولا يشترط أن يذكر القاضي اسمه في العنوان ولا ذكر اسم المكتوب إليه في باطنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا لم يذكر اسمه فلا يقبل لأن الكتاب ليس إليه ولا يكفي ذكر اسمه في العنوان دون باطنه لأن ذلك لم يقع على وجه المخاطبة
ولنا أن المعول فيه على شهادة الشاهدين على القاضي الكاتب بالحكم وذلك لا يقدح فيها ولو ضاع الكتاب أو امتحى سمعت شهادتهما وحكم بها (11/468)
مسألة لا يقبل كتاب القاضي إلا بشهادة عدلين
مسألة : قال : ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدلين يقولان قرأه علينا أو قرىء عليه بحضرتنا فقال اشهدا علي أنه كتابي إلى فلان
وجملته أنه يشترط لقبول كتاب القاضي شروط ثلاثة أحدها : أن يشهد به شاهدان عدلان ولا يكفي معرفة المكتوب إليه خط الكاتب وختمه ولا يجوز له قبوله بذلك في قول أئمة الفتوى وحكي عن الحسن وسوار والعنبري أنهم قالوا إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور و الأصطخري ويتخرج لنا مثله بناء على قوله في الوصية إذا وجدت بخطه لأن ذلك تحصل به غلبة الظن فأشبه شهادة الشاهدين
ولنا أن ما أمكن إثباته بالشهادة لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر كإثبات العقود ولأن الخط يشبه الخط والختم يمكن التزوير علهي ويمكن الرجوع إلى الشهادة فلم يعول على الخط كالشاهد لا يعول في الشهادة على الخط وفي هذا انفصال عما ذكروه
إذا ثبت هذا فإن القاضي إذا كتب الكتاب دعا رجلين يخرجان إلى البلد الذي فيه القاضي المكتوب إليه فيقرأ عليهما الكتاب أو يقرؤه غيره عليهما والأحوط أن ينظرا معه فيما يقرؤه فإن لم ينظرا جاز لأنه لا يستقرأ إلا ثقة فإذا قرىء عليهما قال اشهدا علي أن هذا كتابي إلي فلان وإن قال اشهدا علي بما فيه كان أولى وإن اقتصر على قوله : هذا كتابي إلى فلان فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزىء لأنه يحملهما الشهادة فاعتبر فيه أن يقول اشهدا علي كالشهادة على الشهادة
وقال القاضي يجزىء وهو مذهب الشافعي ثم أن كان ما في الكتاب قليلا اعتمد على حفظه وإن كثر فلم يقدرا على حفظه كتب كل واحد منهما مضمونه وقابل بها لتكون معه يذكر بها ما يشهد به ويقبضان الكتاب قبل أن يغيبا لئلا يدفع إليهما غيره فإذا وصل الكتاب معهما إليه قرأه الحاكم أو غيره عليهما فإذا سمعاه قالا نشهد أن هذا كتاب فلان القاضي إليك أشهدنا على نفسه بما فيه لأنه قد يكون كتابه غير الذي أشهدهما عليه
قال أبو الخطاب ولا يقبل إلا أن يقولا نشهد أن هذا كتاب فلان لأنها أداء فلا بد فيها من لفظ الشهادة ويجب أن يقولا من عمله لأن الكتاب لا يقبل إلا إذا وصل من مجلس عمله وسواء وصل الكتاب مختوما أو غير مختوم مقبولا أو غير مقبول لأن الاعتماد على شهادتهما لا على الخط والختم فإن امتحى الكتاب وكانا يحفظان ما فيه جاز لهما أن يشهدا بذلك وإن لم يحفظا ما فيه لم تمكنهما الشهادة
وقال أبو حنيفة و أبو ثور لا يقبل الكتاب حتى يشهد شاهدان على ختم القاضي ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب كتابا إلى قيصر ولم يختمه فقيل له أنه لا يقرأ كتابا غير مختوم فاتخذ الخاتم واقتصاره على الكتاب دون الختم دليل على أن الختم ليس بشرط في القبول وإنما فعله النبي صلى الله عليه و سلم ليقرؤوا كتابه ولأنهما شهدا بما في الكتاب وعرفا ما فيه فوجب قبوله كما لو وصل مختوما وشهدا بالختم
إذا ثبت هذا فإنه إنما يعتبر ضبطهما لمعنى الكتاب وما يتعلق به الحكم قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن قوم شهدوا على صحيفة وبعضهم ينظر فيها وبعضهم لا ينظر قال إذا حفظ فليشهد قيل كيف يحفظ هو كلام كثير ؟ قال يحفظ ما كان عليه الكلام والوضع قلت يحفظ المعنى ؟ قال نعم قيل له والحدود والثمن وأشباه ذلك ؟ قال نعم ولو أدرج الكتاب وختمه وقال هذا كتابي اشهدا علي بما فيه أو قد اشهدتكما على نفسي بما فيه لم يصح هذا التحمل وبه قال أبو حنيفة و الشافعي
وقال أبو يوسف إذا ختمه بختمه وعنونه جاز أن يتحملا الشهادة عليه مدرجا فإذا وصل الكتاب شهدا عنده أنه كتاب فلان ويتخرج لما مثل هذا لأنهما شهدا بما في الكتاب فجاز وأن لم يعلما تفصيله كما لو شهدا لرجل بما في هذا الكيس من الدراهم جازت الشهادة وإن لم يعرفا قدرها
ولنا أنهما شهدا بمجهول لا يعلمانه فلم تصح شهادتهما كما لو شهد أن لفلان على فلان مالا وفارق ما ذكره فإن تعيينه الدراهم التي في الكيس أغنى عن معرفة قدرها وههنا الشهادة على ما في الكتاب دون الكتاب وهما لا يعرفانه
الشرط الثاني : أن يكتبه القاضي من موضع ولايته وحكمه فإن كتبه من غير ولايته لم يسغ قبوله لأنه لا يسوغ له في غير ولايته حكم فهو فيه كالعامي
الشرط الثالث : أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه في موضع ولايته فإن وصله في غيره لم يكن له قبوله حتى يصير إلى موضع ولايته ولو ترافع إليه خصمان في غير موضع ولايته لم يكن له الحكم بينهما بحكم ولايته إلا أن يتراضيا به فيكون حكمه حكم غير القاضي إذا تراضيا به وسواء كان الخصمان من أهل عمله أو لم يكونا ولو ترافع إليه خصمان وهو في موضع ولايته من غير أهل ولايته كان له الحكم بينهما لأن الاعتبار بموضعهما إلا أن يأذن الإمام لقاض أن يحكم بين أهل ولايته حيث كانوا ويمنعه من الحكم بين غير أهل ولايته حيثما كان فيكون الأمر على ما اذن فيه ومنع منه لأن الولاية بتوليته فيكون الحكم على وفقها (11/470)
فصل في تغير حال القاضي
ولا يخلو من أن يتغير حال الكاتب أو المكتوب إليه أو حالهما معا فإن تغيرت حال الكاتب بموت أو عزل بعد أن كتب الكتاب وأشهد على نفسه لم يقدح في كتابه وكان على من وصله الكتاب قبوله والعمل به سواء تغيرت حاله قبل خروج الكتاب من يده أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به في الحالين
وقال أبو يوسف إن مات قبل خروجه من يده لم يعمل به وإن مات بعد خروجه من يده عمل به لأن كتاب الحاكم بمنزلة الشهادة على الشهادة لأنه ينقل شهادة شاهدي الأصل فإذا مات قبل وصول الكتاب صار بمنزلة موت شاهدي الفرع قبل أداء شهادتهما
ولنا أن المعول في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان فيجب أن يقبل كتابه كما لو لم يمت ولأن كتابه إن كان فيما حكم به فحكمه لا يبطل بموته وعزله وإن كان فيما ثبت عنده بشهادة فهو أصل واللذان شهدا عليه فرع ولا تبطل شهادة الفرع بموت شاهد الأصل وما ذكروه حجة عليهم لأن الحاكم قد أشهدا على نفسه وإنما يشهد عند المكتوب إليه شاهدان عليه وهما حيان وهما شاهدا الفرع وليس موته مانعا من شهادتهما فلا يمنع قبولها كموت شاهدي الأصل
وإن تغيرت حاله بفسق قبل الحكم بكتابته لم يجز الحكم به لأن حكمه بعد فسقه لا يصح فكذلك لا يجوز الحكم بكتابه ولأن بقاء عدالة شاهدي الأصل شرط في صحة الحكم بشاهدي الفرع فكذلك بقاء عدالة الحاكم لأنه بمنزلة شاهدي الأصل فإن فسق بعد الحكم بكتابه لم يتغير كما لو حكم بشيء ثم بان فسقه فإنه لا ينقض ما مضى من أحكامه كذا ههنا
وأما أن تغيرت حال المكتوب إليه بأي كان من موت أو عزل أو فسق فلمن وصل إليه الكتاب ممن قام مقامه قبول الكتاب والعمل به وبه قال الحسن حكي عنه أن قاضي الكوفة كتب إلى اياس بن معاوية قاضي البصرة كتابا فوصل وقد عزل وولي الحسن فعمل به
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يعمل به لأن كتاب القاضي بمنزلة شهادة على الشهادة عند المكتوب إليه وإذا شهد شاهدان عند قاض لم يحكم بشهادتهما غيره
ولنا أن المعول على شهادة الشاهدين بحكم الأول أو ثبوت الشهادة عنده وقد شهدا عند الثاني فوجب أن يقبل كالأول وقولهم أنه شهادة عند الذي مات ليس بصحيح فإن الحاكم الكاتب ليس بفرع ولو كان فرعا لم يقبل وحده وإنما الفرع الشاهدان اللذان شهدا عليه وقد أديا الشهادة عند المتجدد ولو ضاع الكتاب فشهدا بذلك عند الحاكم المكتوب إليه قبل فدل بذلك على أن الاعتبار بشهادتهما دون الكتاب وقياس ما ذكرناه أن الشاهدين لو حملا الكتاب إلى غير المكتوب إليه في حال حياته وشهدا عنده عمل به لما بيناه وإن كان المكتوب إليه خليفة للكاتب فمات الكاتب أو عزل انعزل المكتوب إليه لأنه نائب عنه فينعزل بعزله وموته كوكلائه وقال بعض أصحاب الشافعي لا ينعزل خليفته كما لا ينعزل القاضي الأصلي بموت الإمام ولا عزله
ولنا ما ذكرناه ويفارق الإمام لأن الإمام يعقد القضاء والإمارة للمسلمين فلم يبطل ما عقده لغيره كما لو مات الولي في النكاح لم يبطل النكاح ولهذا ليس للإمام أن يعزل القاضي من غير تغير حاله ولا ينعزل إذا عزله بخلاف نائب الحاكم فإنه تنعقد ولايته لنفسه نائبا عنه فملك عزله ولأن القاضي لو انعزل بموت الإمام لدخل الضرر على المسلمين لأنه يفضي إلى عزل القضاة في جميع بلاد المسلمين وتتعطل الأحكام وإذا ثبت أنه لا ينعزل فليس له قبول الكتاب لأنه حينئذ ليس بقاض (11/473)
مسألة حكم ما لو تحاكم إلى القاضي أعجميان
مسألة : قال : ولا تقبل الترجمة عن أعجمي تحاكم إليه إذا لم يعرف لسانه إلا من عدلين يعرفان لسانه وجملته أنه إذا تحاكم إلى القاضي العربي أعجميان لا يعرف لسانهما أو أعجمي وعربي فلا بد من مترجم عنهما ولا تقبل الترجمة إلا من اثنين عدلين
وبهذا قال الشافعي وعن أحمد رواية أخرى انها تقبل من واحد وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز و ابن المنذر وقول ابي حنيفة وقال ابن المنذر من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يتعلم كتاب يهود قال : فكنت أكتب له إذا كتب إليهم وأقرأ له إذا كتبوا ولأنه مما لا يفتقر إلى لفظ الشهادة فأجزأ فيه الواحد كأخبار الديانات
ولنا أنه نقل ما خفي على الحاكم إليه فيما يتعلق بالمتخاصمين فوجب فيه العدد كالشهادة ويفارق أخبار الديانات فإنها لا تتعلق بالمختاصمين ولا نسلم أنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة ولأن ما لا يفهمه الحاكم وجوده عنده كعدمه فإذ ترجم له كان كنقل الإقرار إليه من غير مجلسه ولا يقبل ذلك إلا من شاهدين كذا ههنا فعلى هذه الرواية تكون الترجمة شهادة تفتقر إلى العدد والعدالة ويعتبر فيها من الشروط ما يعتبر في الشهادة على الإقرار بذلك الحق فإن كان مما يتعلق بالحدود والقصاص اعتبر فيه الحرية ولم يكف إلا شاهدان ذكران وإن كان مما لا يتعلق بها كفى فيه ترجمة رجل وامرأتين ولم تعتبر الحرية فيه وإن كان في حد زنا خرج في الترجمة فيه وجهان :
أحدهما : لا يكفي فيه اقل من أربعة رجال احرار عدول والثاني : يكفي فيه اثنان بناء على الروايتين في الشهادة على الإقرار به ويعتبر فيه لفظ الشهادة لأنه شهادة وإن قلنا يكفي فيه واحد فلا بد من عدالته ولا تقبل من كافر ولا فاسق وتقبل من العبد لأنه من أهل الشهادة والرواية وقال أبو حنيفة لا تقبل من العبد لأنه ليس من أهل الشهادة
ولنا أنه خبر يكفي فيه قول الواحد فيقبل فيه خبر العبد كاخبار الديانات ولا نسلم إن هذا شهادة ولا أن العبد ليس من أهل الشهادة ولا يعتبر فيه لفظ الشهادة كالرواية وعلى هذا الأصل ينبغي أن تقبل ترجمة المرأة إذا كانت من أهل العدالة لأن روايتها مقبولة (11/475)
فصل الحكم في التعريف والرسالة والجرح والتعديل كالحكم في الترجمة
فصل : والحكم في التعريف والرسالة والجرح والتعديل كالحكم في الترجمة وفيها من الخلاف من فيها ذكره الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب وقد ذكرنا الجرح والتعديل فيما مضى (11/477)
مسألة وفصلان فيما لو قال كنت حكمت في ولايتي لفلان الخ
مسألة : قال : وإذا عزل فقال كنت حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحق قبل قوله وأمضى ذلك الحق
وبهذا قال إسحاق قال أبو الخطاب ويحتمل أن لا يقبل قوله وقول القاضي في فروع هذه المسألة يقتضي أن لا يقبل قوله ههنا وهو قول أكثر الفقهاء لأن من لا يملك الحكم لا يملك الإقرار به كمن أقر بعتق عبد بعد بيعه ثم اختلفوا فقال الأوزاعي و ابن أبي ليلى هو بمنزلة الشاهد إذا كان معه شاهد آخر قبل وقال أصحاب الرأي لا يقبل إلا شاهدان سواه يشهدان بذلك وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن شهادته على فعل نفسه لا تقبل
ولنا أنه لو كتب إلى غيره ثم عزل ووصل الكتاب بعد عزله لزم المكتوب إليه قبول كتابه بعد عزل كاتبه فكذلك ههنا ولأنه أخبر بما حكم به وهو غير متهم فيجب قبوله كحال ولايته
فصل : فأما إن قال في ولايته كنت حكمت لفلان بكذا قبل قوله سواء قال قضيت عليه بشاهدين عدلين أو قال سمعت بينته وعرفت عدالتهم أو قال قضيت عليه بنكوله أو قال أقر عندي فلان لفلان بحق فحكمت به وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو يوسف وحكي عن محمد بن الحسن أنه لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل لأن فيه إخبارا بحق على غيره فلم يقبل قول واحد كالشهادة
ولنا أنه يملك الحكم فملك الإقرار به كالزوج إذا أخبر بالطلاق والسيد إذا أخبر بالعتق ولأنه لو أخبر أنه رأى كذا وكذا فحكم به قبل كذا ههنا وفارق الشهادة فإن الشاهد لا يملك إثبات ما أخبر به فأما إن قال حكمت بعلمي أو بالنكول أو بشاهد يمين في الأموال فإنه يقبل أيضا وقال الشافعي لا يقبل قوله في القضاء بالنكول وينبني قوله حكمت عليه بعلمي على القولين في جواز القضاء بعلمه لأنه لا يملك الحكم بذلك فلا يملك الإقرار به
ولنا أنه أخبر بحكمه فيما لو حكم به لنفذ حكمه فوجب قبوله كالصور التي تقدمت ولأنه حاكم أخبر بحكمه في ولايته فوجب قبوله كالذي سلمه ولأن الحاكم إذا حكم في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد لم يسغ نقض حكمه ولزم غيره امضاؤه والعمل به فصار بمنزلة الحكم بالبينة العادلة ولا نسلم ما ذكره وإن قال حكمت لفلان على فلان بكذا ولم يضف حكمه إلى بينة ولا غيرها وجب قبوله وهو ظاهر مسألة الخرقي فإنه لم يذكر ما ثبت به الحكم وذلك لأن الحاكم متى ما حكم بحكم يسوغ فيه الاجتهاد وجب قبوله وصار بمنزلة ما أجمع عليه
فصل : وإذا أخبر القاضي بحكمه في غير موضع ولايته فظاهر كلام الخرقي إن قوله مقبول وخبره نافذ لأنه إذا قبل قوله بحكمه بعد العزل وزوال ولايته بالكلية فلأن يقبل مع بقائها في غير موضع ولايته أولى وقال القاضي لا يقبل قوله وقال لو اجتمع قاضيان في غير ولايتهما كقاضي دمشق وقاضي مصر اجتمعا في بيت المقدس فأخبر أحدهما الآخر بحكم حكم به أو شهادة ثبتت عنده لم يقبل أحدهما قول صاحبه ويكونان كشاهدين أخبر أحدهما الآخر بما عنده وليس له أن يحكم به إذا رجع إلى عمله لأنه خبر من ليس بقاض في موضعه وإن كانا جميعا في عمل احدهما كأنهما اجتمعا جميعا في دمشق فإن قاضي دمشق لا يعمل بما أخبره به قاضي مصر لأنه يخبره به غير عمله وهل يعمل قاضي مصر بما أخبر به قاضي دمشق إذا رجع إلى مصر ؟ فيه وجهان : بناء على القاضي هل له أن يقضي بعلمه ؟ على روايتين لأن قاضي دمشق أخبره به في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ههنا (11/477)
فصول فيما إذا ولى الإمام قاضيا
فصل : إذا ولى الإمام قاضيا ثم مات لم ينعزل لأن الخلفاء رضي الله عنهم ولوا حكاما في زمنهم فلم ينعزلوا بموتهم ولأن في عزله بموت الإمام ضررا على المسلمين فإن البلدان تتعطل من الحاكم وتقف أحكام الناس إلى أن يولي الإمام الثاني حاكما وفيه ضرر عظيم وكذلك لا ينعزل القاضي إذا عزل الإمام لما ذكرنا فأما إن عزله الإمام الذي ولاه أو غيره ففيه وجهان :
أحدهما : لا ينعزل وهو مذهب الشافعي لأنه عقده لمصلحه المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما لو عقد النكاح على موليته لم يكن له فسخه
والثاني : له عزله لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لأعزلن أبا مريم وأولين رجلا إذا رآه الفاجر فرقه فعزله عن قضاء البصرة وولى كعب بن سوار مكانه وولى علي رضي الله عنه أبا الأسود ثم عزل فقال لم عزلتني وما خنت ولا جنيت ؟ فقال إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين ولأنه يملك عزل أمرائه وولاته على البلدان فكذلك قضاته
وقد كان عمر رضي الله عنه يولي ويعزل فعزل شرحبيل بن حسنة عن ولايته في الشام وولى معاوية فقال له شرحبيل أمن جبن عزلتني أو خيانة ؟ قال من كل لا ولكن أردت رجلا أقوى من رجل وعزل خالد بن الوليد وولى أبا عبيدة وقد كان يولي بعض الولاة الحكم مع الإمارة فولى أبا موسى البصرة قضاءها وأمرتها ثم كان يعزلهم هو ومن لم يعزله عزله عثمان بعده إلا القليل منهم فعزل القاضي أولى ويفارق عزله بموت من ولاه أو عزله لأن فيه ضررا وههنا لا ضرر فيه لأنه لا يعزل قاضيا حتى آخر مكانه ولهذا لا ينعزل الوالي بموت الإمام وينعزل بعزله وقد ذكر أبو الخطاب في عزله بالموت أيضا وجهين والأول إن شاء الله تعالى ما ذكرناه
فأما إن تغيرت حال القاضي بفسق أو زوال عقل أو مرض يمنعه من القضاء أو اختل فيه بعض شروطه فإنه ينعزل بذلك ويتعين على الإمام عزله وجها واحدا
فصل : وللإمام تولية القضاء في بلده وغيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم ولى عمر بن الخطاب القضاء وولى عليا ومعاذا وقال عثمان بن عفان لابن عمر : إن أباك قد كان يقضي وهو خير منك قال إن أبي قد كان يقضي وإن أشكل عليه شيء سأل عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر الحديث رواه عمر بن شبة في كتاب قضاة البصرة
[ وروى سعيد في سننه عن عمرو بن العاص قال جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لي : يا عمرو اقض بينهما قلت أنت أولى بذلك مني يا رسول الله قال : إن أصبت القضاء بينهما فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة ] وعن عقبة بن عامر مثله ولأن الإمام يشتغل بأشياء كثيرة من مصالح المسلمين فلا يتفرغ للقضاء بينهم فإذا ولى قاضيا استحب أن يجعل له أن يستحلف لأنه قد يحتاج إلى ذلك فإذا أذن له في الاستخلاف جاز له بلا خلاف نعلمه وإن نهاه عنه لم يكن له أن يستخلف لأن ولايته بإذنه فلم يكن له ما نهاه عنه كالوكيل وإن أطلق فله الاستخلاف ويحتمل أن لا يكون له ذلك لأنه يتصرف بالإذن فلم يكن له ما لم يأذن فيه كالوكيل ولأصحاب الشافعي في هذا وجهان
ووجه الأول أن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين فإذا فعله بنفسه أو بغيره جاز كما لو أذن له ويفارق التوكيل لأن الإمام بولي القضاء للمسلمين لا لنفسه بخلاف التوكيل فإن استخلف في موضع ليس له الاستخلاف فحكمه حكم من لم يول
فصل ويجوز أن يولي قاضيا عموم النظر في خصوص العمل فيقلده النظر في جميع الأحكام في بلد بعينه فينفذ حكمه فيمن سكنه ومن أتى إليه من غير سكانه ويجوز أن يقلده خصوص النظر في عموم العمل فيقول جعلت اليك حكم في المداينات خاصة في جميع ولايتي ويجوز أن يجعل حكمه في قدر من المال نحو أن يقول احكم في المائة فما دونها فلا ينفذ حكمه في أكثر منها ويجوز أن يوليه عموم النظر في عموم العمل وخصوص النظر في خصوص العمل
ويجوز أن يولي قاضين وثلاثة في بلد واحد يجعل لكل واحد عملا فيولي أحدهم عقود الأنكحة والآخر الحكم في المداينات وآخر النظر في العقار ويجوز أن يولي كل واحد منهم عموم النظر في ناحية من نواحي البلد فإن قلد قاضيين أو أثر عملا واحدا في مكان ففيه وجهان أحدهما : لا يجوز اختاره أبو الخطاب وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه يؤدي إلى إيقاف الحكم والخصومات لأنهما يختلفان في الإجتهاد ويرى أحدهما ما لا يرى الآخر والآخر : يجوز ذلك وهو قول أصحاب أبي حنيفة وهو أصح إن شاء الله تعالى لأنه يجوز أن يستخلف في البلدة التي هو فيها فيكون فيها قاضيان فجاز أن يكون فيها قاضيان أصليان ولأن الغرض فصل الخصومات وإيصال الحق إلى مستحقه وهذا يحصل فأشبه القاضي ولأنه يجوز للقاضي أن يستخلف خليفتين في موضع واحد فالإمام أولى توليته أقوى
وقولهم : يفضي إلى إيقاف الحكومات غير صحيح فإن كل حاكم يحكم بإجتهاده بين المتخاصمين إليه وليس للآخر الإعتراض عليه ولا نقض حكمه فيما خالف اجتهاده
فصل : وإذا قال الإمام من نظر في الحكم من فلان وفلان فقد وليته لم تنعقد الولاية لمن نظر لأنه علقها على شرط ولم يعين بالولاية أحدا منهم [ ويحتمل أن تنعقد الولاية لمن نظر لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أميركم زيد فإن قتل فأميركم جعفر فإن قتل فأميركم عبد الله بن رواحة ] فعلق ولاية الإمارة على شرط فكذلك ولايو الحكم وإن قال وليت فلانا وفلانا فأيهما نظر فهو خليفتي انعقدت الولاية لمن نظر منهم لأنه عقد الولاية لهما جميعا
فصل : ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه وهذا مذهب الشافعي ولم أعلم فيه خلافا لأن الله تعالى قال : { فاحكم بين الناس بالحق } والحق لا يتعين في مذهب وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع
فصل : وإن فوض الإمام إلى إنسان تولية القضاء جاز لأنه يجوز أن يتولى ذلك فجاز له التوكيل فيه كالبيع وإن فوض إليه اختيار قاض جاز ولا يجوز له اختيار نفسه ولا والده ولا ولده كما لو وكله في الصدقة بمال لم يجز له أخذه ولا دفعه إلى هذين ويحتمل أنه يجوز له اختيارهما إذا كانا صالحين للولاية لأنهما يدخلان في عموم من أذن له في الاختيار منه مع أهليتهما فأشبها الأجانب (11/480)
فصل لا يجوز للحاكم أن يحكم لنفسه
وليس للحاكم أن يحكم لنفسه كما لا يجوز أن يشهد لنفسه فإن عرضت له حكومة مع بعض الناس جاز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه أو بعض رعيته فإن عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم رجلا عراقيا إلى شريح وحاكم علي اليهودي إلى شريح وحاكم عثمان طلحة إلى جبير بن مطعم فإن عرضت حكومة لوالديه أو ولده أو من لا تقبل شهادته له ففيه وجهان أحدهما : لا يجوز له الحكم فيها بنفسه وإن حكم لم ينفذ حكمه وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه لا تقبل شهادته له فلم ينفذ حكمه له كنفسه والثاني : ينفذ حكمه اختاره أبو بكر وهو قول أبي يوسف و ابن المنذر و أبي ثور لأنه حكم لغيره أشبه الأجانب وعلى القول الأول متى عرضت لهؤلاء حكومة حكم بينهم الإمام أو حاكم آخر أو بعض خلفائه فإن كانت الخصومة بين والديه أو ولديه أو والده وولده لم يجز له الحكم بينهما على أحد الوجهين لأنه لا تقبل شهادته لأحدهما على الآخر فلم يجز الحكم بينهما كما لو كان خصمه أجنبيا وفي الآخر يجوز وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنهما سواء عنده فارتفعت تهمة الميل فاشبها الأجنبيين (11/484)
فصلان حكم ما لو حكم رجلان حكما بينهم ورضياه
فصل : وإذا تحاكم رجلان إلى رجل حكماه بينهما ورضياه وكان ممن يصلح للقضاء فحكم بينهما جاز ذلك ونفذ حكمه عليهما وبهذا قال أبو حنيفة ولـ لشافعي قولان أحدهما : لا يلزمهما حكمه إلا بتراضيهما لأن حكمه إنما يلزم بالرضا به ولا يكون الرضا إلا بعد المعرفة بحكمه
[ ولنا ما روى أبو شريح أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : أن الله هو الحكم فلم تكنى أبا الحكم ؟ قال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ورضي علي الفريقان قال : ما أحسن هذا فمن أكبر ولدك ؟ قال شريح قال : فأنت أبو شريح ] أخرجه النسائي
وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من حكم بين اثنين تراضيا به فلم يعدل بينهما فهو ملعون ] ولولا أن حكمه يلزمهما لما لحقه هذا الذم ولأن عمر وأبيا تحاكما إلى زيد وحاكم عمر إعرابيا إلى شريح قبل أن يوليه وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم ولم يكونوا قضاة
فإن قيل فعمر وعثمان كانا إمامين فإذا ردا الحكم إلى رجل صار قاضيا قلنا لم ينقل عنهما إلا الرضا بتحكيمه خاصة وبهذا لا يصير قاضيا وما ذكروه يبطل بما إذا رضي بتصرف وكيله فإنه يلزمه قبل المعرفة به إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز نقض حكمه فيما لا ينقض فيه حكم من له ولاية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : للحاكم نقضه إذا خالف رأيه لأن هذا عقد في حق الحاكم فملك فسخه كالعقد الموقوف في حقه
ولنا أن هذا حكم صحيح لازم فلم يجز فسخه لمخالفته رأيه كحكم من له ولاية وما ذكروه غير صحيح فإن حكمه لازم للخصمين فيكف يكون موقوفا ؟ ولو كان كذلك لملك فسخه وإن لم يخالف رأيه ولا نسلم الوقوف في العقود
إذا ثبت هذا فإن لكل واحد من الخصمين الرجوع عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم لأنه لا يثبت إلا برضاه فأشبه ما لو رجع عن التوكيل قبل التصرف وإن رجع بعد شروعه ففيه وجهان أحدهما : له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه قبل الشروع والثاني : ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع فبطل المقصود به
فصل : قال القاضي : وينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء : النكاح واللعان والقذف والقصاص لأن لهذه الأحكام مزية على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ونائبه يقوم مقامه وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنه ينفذ حكمه فيها ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا كتب هذا القاضي بماحكم به كتابا إلى قاض من قضاة المسلمين لزمه قبوله وتنفيذ كتابه لأنه حاكم نافذ الأحكام فلزم قبول كتابه كحاكم الإمام (11/484)
مسألة وفصول الحكم على الغائب
مسألة : قال : ويحكم على الغائب إذا صح الحق عليه
وجملته أن من ادعى حقا على غائب في بلد آخر وطلب من الحاكم سماع البينة والحكم بها عليه فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشرائط وبهذا قال شبرمة و مالك و الأوزاعي و الليث و سوار و أبو عبيد و ابن المنذر فكان شريح لا يرى القضاء على الغائب وعن أحمد مثله وبه قال ابن أبي ليلى و الثوري و أبو حنيفة وأصحابه
وروي ذلك عن القاسم و الشعبي إلا أن أبا حنيفة قال إذا كان له خصم حاضر من وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه واحتجوا بما روي [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لعلي : إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر فإنك تدري بما تقضي ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ولأنه قضاء لأحد الخصمين وحده فلم يجز كما لو كان الآخر في البلد ولأنه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البينة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه
ولنا [ أن هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي ؟ قال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] متفق عليه فقضى لها ولم يكن حاضرا ولأن هذا له بينة مسموعة عادلة فجاز الحكم بها كما لو كان الخصم حاضرا وقد وافقنا أبو حنيفة في سماع البينة ولأن ما تأخر عن سؤال المدعي إذا كان حاضرا يقدم عليه إذا كان غائبا كسماع البينة
وأما حديثهم فنقول به إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما وهذا يقتضي أن يكونا حاضرين ويفارق الحاضر الغائب فإن البينة لا تسمع على حاضر إلا بحضرته والغائب بخلافه وقد ناقض أبو حنيفة أصله فقال إذا جاءت امرأة فادعت أن لها زوجا غائبا وله مال في يد رجل وتحتاج إلى النفقة فاعترف لها بذلك فإن الحاكم يقضي عليه بالنفقة ولو ادعى رجل على حاضر أنه اشترى من غائب ما فيه شفعة وأقام بينة بذلك حكم له بالبيع والأخذ بالشفعة ولو مات المدعى عليه فحضر بعض ورثته أو حضر وكيل الغائب وأقام المدعى بينة بذلك حكم له بما ادعاه
إذا ثبت هذا فإنه إن قدم الغائب قبل الحكم وقف الحكم على حضوره فإن خرج الشهود لم يحكم عليه وإن استنظر الحاكم أجله ثلاثا فإن جرحهم وإلا حكم عليه وإن ادعى القضاء أو الإبراء فكانت له بينة برىء وإلا حلف المدعي وحكم له وإن قدم بعد الحكم فجرح الشهود بأمر كان قبل الشهادة بطل الحكم وإن جرحهم بأمر بعد أداء الشهادة أو مطلقا لم يبطل الحكم ولم يقبله الحاكم لأنه يجوز أن يكون بعد الحكم فلا يقدح فيه وإن طلب التأجيل أجل ثلاثا فإن جرحهم وإلا نفذ الحكم وإن ادعى القضاء أو الإبراء فكانت له به بينة وإلا حلف الآخر ونفذ الحكم
فصل : لا يقضي على الغائب إلا في حقوق الآدميين فأما في الحدود التي لله تعالى فلا يقضي بها عليه لأن مبناها على المساهلة والإسقاط فإن قامت بينة على غائب بسرقة مال حكم بالمال دون القطع
فصل : وإذا قامت البينة على غائب أو غير مكلف كالصبي والمجنون لم يستحلف المدعي مع بينته في أشهر الروايتين لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] ولأنها بينة عادلة فلم تجب اليمين معها كما لو كانت على حاضر
والرواية الثانية : يستحلف معها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون استوفى ما قامت به البينة أو ملكه العين التي قامت بها البينة ولو كان حاضرا فادعى ذلك لوجبت اليمين فإذا تعذر ذلك منه لغيبته أو عدم تكليفه يجب أن يقوم الحاكم مقامه فيما يمكن دعواه ولأن الحاكم مأمور بالإحتياط في حق الصبي والمجنون والغائب لأن كل واحد منهم لا يعبر عن نفسه وهذا من الإحتياط
فصل : ظاهر كلام الخرقي أنه إذا قضى على الغائب بعين سلمت إلى المدعي وإن قضى عليه بدين ووجد له مال وفي منه فإنه قال في رواية حرب في رجل أقام بينة أن له سهما من ضيعة في أيدي قوم فتواروا عنه يقسم عليهم شهدوا أو غابوا أو يدفع إلى هذا حقه لأنه يثبت حقه بالبينة فيسلم إليه كما لو كان خصمه حاضرا ويحتمل أن لا يدفع إليه شيء حتى يقيم كفيلا أنه متى حضر خصمه وأبطل دعواه فعليه ضمان ما أخذه لئلا يأخذ المدعي ما حكم له به ثم يأتي خصمه فيبطل حجته أو يقيم بينة بالقضاء والإبراء او يملك العين التي قامت بها البينة بعد ذهاب المدعي وغيبته أو موته فيضيع مال المدعى عليه وظاهر كلام أحمد الأول فإنه قال في رجل عنده دابة مسروقة فقال هي عندي وديعة إذا أقيمت البينة أنها له تدفع إلى الذي أقام البينة حتى يجيء صاحب الوديعة فيثبت
فصل : فأما الحاضر في البلد أو قريب منه إذا لم يمنع من الحضور فلا يقضى عليه قبل حضوره في قول أكثر أهل العلم وقال أصحاب الشافعي في وجه لهم أنه يقضى عليه في غيبته لأنه غائب عن البلد
ولنا أنه أمكن سؤاله فلم يجز الحكم عليه قبل سؤاله كحاضر مجلس الحاكم ويفارق الغائب البعيد فإنه لا يمكن سؤاله فإن امتنع من الحضور أو توارى فظاهر كلام أحمد جواز القضاء عليه لما ذكرنا عنه في رواية حرب وروى عنه أبو طالب في رجل وجد غلامه عند رجل فأقام البينة أنه غلامه فقال الذي عنده الغلام أودعني هذا رجل فقال أحمد أهل المدينة يقضون على الغائب يقولون إنه لهذا الذي أقام البينة وهو مذهب حسن وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الأعذار وهو إذا ادعى على رجل ألفا وأقام البينة فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه فينادي الرسول ثلاثا فإن جاء وإلا قد أعذروا إليه فهذا يقوي قول أهل المدينة وهو معنى حسن
وقد ذكر الشريف أبو جعفر وأبو الخطاب أنه يقضى على الغائب الممتنع وهو قول الشافعي لأنه تعذر حضوره وسؤاله فجاز القضاء عليه كالغائب البعيد بل هذا أولى لأن البعيد معذور وهذا لا عذر له وقد ذكرنا فيما تقدم شيئا من هذا (11/486)
مسألة وفصلان القسمة وقسمة المكيلات والموزونات وغيرها
كتاب القسمة : الأصل في القسمة قول الله تعالى : { ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر } وقوله تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى } الآية وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الشفعة فيما لم يقسم ] فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وقسم النيي صلى الله عليه و سلم خيبر على ثمانية عشر سهما وكان يقسم الغنائم
وأجمعت الأمة على جواز القسمة ولأن بالناس حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد من الشركاء من التصرف على إيثاره ويتخلص من سوء المشاركة وكثرة الأيدي
مسألة : قال : وإذا أتاه شريكان في ربع أو نحوه فسألاه أن يقسمه بينهما قسمه وأثبت في القضية بذلك أن قسمه إياه بينهما كان عن إقرارهما لا عن بينة شهدت لهما بملكهما
إذا ثبت هذا فإن الشريكين في أي شيء كان ربعا أو غيره والربع هو العقار من الدور ونحوها إذا طلبا من الحاكم أن يقسمه بينهما أجابهما إليه وإن لم يثبت عنده ملكهما وبهذا قال أبو يوسف و محمد
وقال أبو حنيفة إن كان عقارا نسبوه إلى ميراث لم يقسمه حتى يثبت الموت والورثة لأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه احتياطا للميت وأما ما عدا العقار يقسمه وإن كان ميراثا لأنه يبور ويهلك وقسمته تحفظه وكذا العقار الذي لا ينسب إلى الميراث وظاهر الشافعي أنه لا يقسم عقارا كان أو غيره ما لم يثبت ملكهما لأن قسمه بقولهم لو رفع بعد ذلك إلى حاكم آخر يستسهله أن يجعله حكما لهم ولعله يكون لغيرهم ولنا أن اليد تدل على الملك ولا منازع لهم فيثبت لهم من طريق الظاهر ولهذا يجوز لهم التصرف ويجوز شراؤه منهم وانتهابه واستئجاره وما ذكره الشافعي يندفع إذا ثبت في القضية إني قسمته بينهم بإقرارهم لا عن بينة شهدت لهم بملكهم وكل ذي حجة على حجته وما ذكروه أبو حنيفة لا يصح لأن الظاهر ملكهم ولا حق للميت فيه إلا أن يظهر عليه دين وما ظهر والأصل عدمه ولهذا اكتفينا به غير القعار وفيما لم ينسبوه إلى الميراث
فصل : وتجوز قسمة المكيلات والموزونات من المطعومات وغيرها لأن جواز قسمة الأرض مع اختلافها يدل على جواز قسمة ما لا يختلف بطريق التنبيه وسواءفي ذلك الحبوب والثمار والنورة والأشنان والحديد والرصاص ونحوها من الجامدات والعصير والخل واللبن والعسل والسمن والدبس والزيت والرب ونحوها من المائعات وسواء قلنا إن القسمة بيع أو إفراز حق لأن بيعه جائز وافرازه جائز فان كان فيها أنواع كحنطة وشعير وتمر وزبيب فطلب أحدهما قسمها كل نوع على حدته أجبر الممتنع وان طلب قسمها أعيانا بالقيمة لم يجبر الممتنع لان هذا بيع نوع بنوع آخر فليس بقسمة فلم يجبر عليه كغير الشريك فان تراضيا عليه جاز وكان بيعا يعتبر فيه التقابض قبل التفرق فيما يعتبر التقابض فيه وسائر شروط البيع
فصل : فان كان بينهما ثياب أو حيوان أو أواني أو خشب أو عمد أو أحجار فاتفقا على قسمتها جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قسم الغنائم يوم بدر ويوم خيبر وهي تشتمل على أجناس من المال وسواء اتفقا على قسمة كل جنس بينهما أو على قسمتها أعيانا بالقيمة وان طلب أحدهما قسمة كل نوع على حدته وطلب الآخر قسمته أعيانا بالقيمة قدم قول من طلب قسمة كل نوع على حدته إذا أمكن وان طلب أحدهما القسمة وأبى الآخر وكان مما لا يمكن قسمته الا بأخذ عوض عنه من غير جنسه أو قطع ثوب في قطعه نقص أو كسر اناء أو ورد عوض لم يجبر الممتنع وان أمكن قسمة كل نوع على حدته من غير ضرر ولا رد عوض فقال القاضي يجبر الممتنع وهو ظاهر مذهب الشافعي وهو قول أبي الخطاب : لا أعرف في هذا عن امامنا رواية ويحتمل ان لا يجبر الممتنع وهو قول ابن خير ان من أصحاب الشافعي لأن هذا انما يقسم أعيانا بالقيمة فلم يجبر الممتنع عليه كما لا يجبر على قسمة الدور بأن يأخذ هذا دارا وكالجنسين المختلفين
ووجه الأول أن الجنس الواحد كالدار الواحدة وليس اختلاف الجنس الواحد في القيمة بأكثر من اختلاف قيمة الدار الكبيرة والقرية العظيمة فان أرض القرية تختلف سيما اذا كانت ذات أشجار مختلفة وأراض متنوعة والدار ذات بيوت واسعة وضيقة وحديثة وقديمة ثم هذا الاختلاف لم يمنع الاجبار على القسمة كذلك الجنس الواحد وفارق الدور فانه أمكن قسمة كل دار على حدتها وههنا لا يمكن قسمة كل ثوب منها أو اناء على حدته وان كانت الثياب أنواعا كالحرير والقطن والكتان فهي كالأجناس وكذلك سائر الأموال ويقسم النوع الواحد منه وبه قال الشافعي و أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يقسم الرقيق قسمة اجبار لأنه تختلف منافعه ويقصد منه العقل والدين والفطنة وذلك لا يقع فيه التعديل
ولنا ان النبي صلى الله عليه و سلم جزأ العبيد الذين أعتقهم الأنصاري في مرضه ثلاثة أجزاء ولأنه نوع حيوان يدخله التقويم فجازت قسمته كسائر الحيوان وما ذكره غير صحيح لأن القيمة ذلك تجمع ذلك وتعد له كسائر الأشياء المختلفة (11/489)
فصل معنى القسمة
فصل : والقسمة افراز حق وتمييز أحد النصيبين من الآخر وليست بيعا وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر هي بيع وحكي عن أبي عبد الله بن بطة لأنه يبدل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر وهذا حقيقة البيع
ولنا أنها لا تفتقر الى لفظ التمليك ولا تجب فيها الشفعة ويدخلها الاجبار وتلزم باخراج القرعة ويتقدر أحد النصيبين بقدر الآخر والبيع لا يجوز فيه شيئ من ذلك ولأنها تنفرد عن البيع باسمها وأحكامها فلم تكن بيعا كسائر العقود وفائدة الخلاف أنها إذا لم تكن بيعا جازت قسمة الثمار خرصا والمكيل وزنا والموزون كيلا والتفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في البيع ولا يحنث إذا حلف لا يبيع بها وإذا كان العقار أو نصفه وقفا جازت القسمة وان قلنا : هي بيع انعكست هذه الأحكام هذا إذا خلت من الرد فان كان فيها رد عوض فهي بيع لأن صاحب الرد يبذل المال عوضا عما حصل له من مال شريكه وهذا هو البيع فان فعلا ذلك في وقف لم يجز لأن بيعه غير جائز وان كان بعضه وقفا وبعضه طلقا والرد من صاحب الطلق لم يجز لأنه يشتري بعض الوقف فان كان من أهل الوقف جاز لأنهم يشترون بعض الطلق وذلك جائز (11/492)
فصل تقبل شهادة القاسم إذا كان متبرعا
وتقبل شهادة القاسم بالقسمة إذا كان متبرعا ولا تقبل إذا كان باجرة وبهذا قال الاصطخري وقال أبو حنيفة تقبل وإن كان باجرة لأنه لا يلحقه تهمة فقبل قوله كالمرضعة وقال الشافعي لا تقبل لأنه شهد على فعل نفسه الذي يوجب تعديله فلم تقبل كشهادة القاضي المعزول على حكمه
ولنا أنه شهد بما لا نفع له فيه فقبل كالأجنبي وإذا كان باجرة لم يقبل لأنه متهم لكونه يوجب الأجرة لنفسه وهذا نفع فتكون شهادته لنفسه وقول الشافعي انه يوجب تعديله ممنوع ولا نسلم لهم ما ذكروه في الحكم (11/493)
مسألة حكم ما لو سأل شريكه القسمة فامتنع وأمور مختلفة
مسألة : قال : ولو سأل احدهما شريكه مقاسمته فامتنع أجبره الحاكم على ذلك اذا اثبت عنده ملكها وكان مثله ينقسم وينتفعان به مقسوما
أما إذا طلب أحدهما القسمة فامتنع الآخر لم يخل من حالين أحدهما يجبر الممتنع على القسمة وذلك إذا اجتمع ثلاثة شروط :
أحدها : ان يثبت عند الحاكم ملكهما ببينة لأن في الاجبار على القسمة حكما على الممتنع منهما فلا يثبت إلا بما يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه بخلاف حالة الرضا فانه لا يحكم على أحدهما انما يقسم بقولهما ورضاهما
الشرط الثاني : أن لا يكون فيها ضرر فان كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا ضرر ولا ضرار ] رواه ابن ماجة ورواه مالك في موطئه مرسلا [ وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار ]
لشرط الثالث : ان يمكن تعديل السهام من غير شيء يجعل معها فان لم يمكن ذلك لم يجبر الممتنع لأنها تصير بيعا والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين ومثال ذلك أرض قيمتها مائة فيها شجرة أو بئر تساوي مائتين فاذا جعلت الآرض سهما كانت الثلث فيحتاج أن يجعل معها خمسين يردها عليه من لم يخرج له البئر أو الشجرة ليكونا نصفين متساويين فهذه فيها بيع ألا ترى أن آخذ الأرض قد باع نصيبه من الشجرة أو البئر بالثمن الذي أخذه والبيع لا يجبر عليه لقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ؟ فإذا اجتمعت الشروط الثلاثة أجبر الممتنع منعما على القسمة لأنها تتضمن إزالة ضرر الشركة عنهما وحصول النفع لهما لأن نصيب كل واحد منهما إذا تميز كان له أن يتصرف فيه بحسب اختياره ويتمكن من احداث الغراس والبناء والزرع والساقية والاجارة والعارية ولا يمكنه ذلك مع الاشتراك فوجب أن يجبر الآخر عليه لقوله عليه السلام : [ لا ضرر ولا ضرار ]
إذا ثبت هذا فقد اختلفوا في الضرر المانع من القسمة ففي قول الخرقي وهو ما لا يمكن معه انتفاع أحدهما بنصيبه مفردا فيما كان ينتفع به مع الشركة مثل أن تكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كل واحد منهما موضعا لا ينتفع به ولو أمكن أن ينتفع به في شيئ غير الدار ولا يمكن أن ينتفع به دارا لم يجبر على القسمة أيضا لأنه ضرر يجري مجرى الاتلاف
وعن أحمد رواية أخرى أن المانع هو أن ننقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة سواء انتفعوا به مقسوما أو لم ينتفعوا
وقال القاضي هذا ظاهر كلام أحمد لأنه قال في رواية الميموني إذا قال بعضهم يقسم وبعضهم لا يقسم فان كان فيه نقصان من ثمنه بيع وأعطوا الثمن فاعتبر نقصان الثمن وهذا ظاهر كلام الشافعي لأن نقص قيمته ضرر والضرر منفي شرعا وقال مالك يجبر الممتنع وإن استضر قياسا على مالا ضرر فيه ولا يصح لقوله عليه السلام : [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأن في قسمته ضررا فلم يجبر عليه كقسمة الجوهرة بكسرها ولأن في قسمته اضاعة للمال وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن اضاعته ولا يصح القياس على مالا ضرر فيه لما بينهما من الفرق فان كان أحد الشريكين يستضر بالقسمة دون الآخر كرجلين بينهما دار لأحدهما ثلثها وللآخر ثلثا ها فاذا قسماها يستضر صاحب الثلث لكونه لا تحصل له ما يكون دارا ولا يستضر الآخر لأنه يبقى له ما يصير دارا مفردة فطلب صاحب الثلثين القسمة لم يجبر الآخر عليها ذكره ابو الخطاب وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل قال : كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها وهذا قول ابن أبي ليلى و أبي ثور
وقال القاضي يجبر الآخر عليها وهو قول الشافعي وأهل العراق لأنه طلب إفراد نصيبه الذي لا يستضر بتمييزه فوجبت إجابته إليه كما لو كانا لا يستضران بالقسمة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأنها قسمة يستضر بها صاحبه فلم يجبر عليها كما لو استضرا معا ولأن فيه إضاعة المال وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعته وإذا حرم عليه إضاعته ماله فإضاعتة مال غيره أولى
وقد روى عمرو بن جميع عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تعصبة على أهل الميراث إلا ما حصل القسم ] قال أبو عبيدة هو أن يخلف شيئا إذا قسم كان فيه ضرر على بعضهم أو عليهم جميعا ولأننا اتفقنا على أن الضرر مانع من القسمة وإن الضرر في حق أحدهما مانع ولا يجوز أن يكون المانع هو ضرر الطالب لأنه مرضي به من جهته فلا يجوز كونه مانعا كما لو تراضيا عليها مع ضررهما أو ضرر أحدهما فتعين الضرر المانع من جهة المطلوب ولأنه ضرر غير مرضي به من جهة صاحبه فمنع القسمة كما لو استضرا معا وإن طلب القسمة المستضر بها كصاحب الثلث في المسألة المفروضة أجبر الآخر عليها هذا مذهب أبي حنيفة و مالك لأنه طلب دفع ضرر الشركة عنه بأمر لا ضرر على صاحبه فيه فأجبر عليه كما لا ضرر فيه
يحققه أن ضرر الطالب مرضي به من جهته فسقط حكمه والآخر لا ضرر عليه فصار كما لا ضرر فيه وذكر أصحابنا أن المذهب أنه لا يجبر الممتنع على القسم لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعة المال ولأن طلب القسمة من المستضر سفه فلا تجب إجابته إلى السفه قال الشريف متى كان أحدهما يستضر لم تجب القسمة وقال أبو حنيفة متى كان أحدهما ينتفع بها وجبت
وقال الشافعي ان انتفع بها الطالب وجبت وإن استضربها الطالب فعلى وجهين وقال مالك تجب على كل حال ولو كانت دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخرين نصفها لكل واحد منهما ربعها فإذا قسمت استضر كل واحد منهما ولا يستضر صاحب النصف فطلب النصف القسمة وجبت إجابته لأنه يمكن قسمتها نصفين فيصير حقهما لهما دارا وله النصف فلا يستضر أحد منهما ويحتمل أن لا تجب عليهما الإجابة لأن كل واحد منهما يستضر بإفراز نصيبه وإن طلبا المقاسمة فامتنع صاحب النصف أجبر لأنه لا ضرر على واحد منهم وإن طلبا إفراز نصيب كل واحد منهما أو طلب أحدهما إفراز نصيبه لم تجب القسمة على قياس المذهب لأنه إضرار بالمطالب وسفه وعلى الوجه الذي ذكرناه تجب القسمة لأن المطلوب منه لا ضرر عليه
الحال الثاني : الذي لا يجبر أحدهما على القسمة وهي ما إذا عدم أحد الشروط الثلاثة فلا تجوز القسمة إلا برضاهما وتسمى قسمة التراضي وهي جائزة مع اختلال الشروط كلها لأنها بمنزلة البيع والمناقلة وبيع ذلك جائز (11/493)
فصلان فيما إذا كانت دار بين اثنين
فصل : إذا كانت دار بين اثنين سفلها وعلوها فإذا طلبا قسمها نظرت فإن طلب أحدهما قسمة السفل والعلو بينهما ولا ضرر في ذلك أجبر عليه لأن البناء في الأرض يجري مجرى الغرس فيتبعها في البيع والشفعة ثم لو طلب قسمة أرض فيها غراس أجبر شريكه عليه كذلك البناء وإن طلب أحدهما جعل السفل لأحدهما والعلو للآخر ويقرع بينهما لم يجبر عليه الآخر لثلاثة معان :
أحدها : أن العلو يتبع للسفل ولهذا إذا بيعا تثبت الشفعة فيهما وإذا أفرد العلو بالبيع لم تثبت فيه الشفعة وإذا كان تبعا له لم يجعل المتبوع والتبع سهما فيصير التبع أصلا
الثاني : إن السفل والعلو يجريان مجرى الدارين المتلاصقتين لأن كل واحد منهما يسكن منفردا ولو كان بينهما دار إن لم يكن لأحدهما المطالبة بجعل كل دار نصيبا كذا ههنا
الثالث : أن صاحب القرار يملك قرارها وهواءها فإذا جعل السفل نصيبا انفرد صاحبه بالهواء وليست هذه قسمة عادلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يقسمه الحاكم يجعل ذراعا من السفل بذراعين من العلو وقال أبو يوسف ذراع وقال محمد يقسمها بالقيمة واحتجوا بأنها دار واحدة فإذا قسمها على ما يراه جاز كالتي لا علو لها
ولنا ما ذكرناه من المعاني الثلاثة وفيها رد ما ذكروه وما يذكرونه من كيفية القسمة تحكم وبعضه يرد بعضا وإن طلب أحدهما قسمة العلو وحده أو السفل وحده لم يجب إليه لأن القسمة تراد للتمييز ومع بقاء الإشاعة في أحدهما لا يحصل التمييز وإن طلب قسمة السفل منفردا أو العلو منفردا لم يجب إليه لأنه قد يحصل لك واحد منهما علو سفل الآخر فيستضر كل واحد منهما ولا يتميز الحقان
فصل : وإذا كان بينهما دار أو خان كبير فطلب أحدهما قسمة ذلك ولا ضرر في قسمته أجبر الممتنع على القسمة وتفرد بعض المساكن عن بعض وإن كثرت المساكن وإن كان بينهما داران أو خانان أو أكثر فطلب أحدهما أن يجمع نصيبه في إحدى الدارين أو أحد الخانين ويجعل الباقي نصيبا لم يجبر الممتنع وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد إذا رأى الحاكم ذلك فله فعله سواء تقاربتا أو تفرقتا لأنه انفع وأعدل
وقال مالك إن كانتا متجاورتين أجبر الممتنع من ذلك عليه لأن المتجاورتين تتقارب منفعتهما بخلاف المتباعدتين وقال أبو حنيفة إن كانت احداهما أحجزة الأخرى أجبر الممتنع وإلا فلا لأنهما يجريان مجرى الدار الواحدة
ولنا أنه نقل حقه من عين إلى عين أخرى فلم يجبر عليه كالمتفرقين على ملك وكما لو لم تكن حجة بها مع أبي حنيفة وكما لو كانتا دارا ودكانا مع أبي يوسف ومحمد والحكم في الدكاكين كالحكم في الدور كما لو كانت لها عضائد صغار لا يمكن قسمة كل واحدة منهما منفردة لم يجبر الممتنع من قسمها عليها (11/498)
فصلان لو كانت بينهما أرض
فصل : فإن كانت بينهما أرض واحدة يمكن قسمتها ويتحقق فيها الشروط التي ذكرناها أجبر الممتنع على قسمها سواء كانت فارغة أو ذات شجر وبناء فإن كان فيها نخل وكرم وشجر مختلف وبناء فطلب أحدهما قسمة كل عين على حدتها وطلب الآخر قسمة الجميع بالتعديل بالقيمة فقال أبو الخطاب تقسم كل عين على حدتها وكذلك كل مقسوم إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه كان أولى ونحو هذا قال أصحاب الشافعي فإنهم قالوا إذا أمكنت التسوية بين الشريكين في جيده ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها فإذا قسمناها صار لكل واحد من الجيد والرديء مثل ما للآخر وجبت القسمة وأجبر الممتنع عليها وإن لم تمكن القسمة هكذا بأن تكون العمارة أو الشجر والجيد لا تمكن قسمته وحده وأمكن التعديل بالقيمة عدلت بالقيمة وأجبر الممتنع من القسمة عليها
وقال الشافعي في أحد القولين : لا يجبر الممتنع من القسمة عليها وقالوا إذا كانت الأرض ثلاثين جريبا قيمة عشرة أجربة منها كقيمة عشرين لم يجبر الممتنع من القسمة عليها لتعذر التساوي في الذراع ولأنه لو كان حقلان متجاوران لم يجبر الممتنع من القسمة إذا لم تمكن إلا بأن يجعل كل واحد منهما سهما كذا ههنا
ولنا أنه مكان واحد أمكنت قسمته وتعديله من غير رد عوض ولا ضرر فوجبت قسمته كالدور ولأن ما ذكروه يفضي إلى منع وجوب القسمة في البساتين كلها والدور فإنه لا يمكن تساوي الشجر وبناء الدور ومساكنها إلا بالقيمة ولأنه لو بيع بعضه وجبت فيه الشفعة لشريك البائع فوجبت قسمته كما لو أمكنت التسوية بالزرع
وأما إذا كان بستانان لكل واحد منهما طريق أو حقلان أو داران أو دكانان متجاوران أو متباعدان فطلب أحد الشريكين قسمته بجعل كل واحد بينهما لم يجبر الآخر على هذا سواء كانا متساويين أو مختلفين وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنهما شيئان متميزان لو بيع أحدهما لم تجب الشفعة فيه لمالك الآخر بخلاف البستان الواحد والأرض الواحدة وإن عظمت فإنه إذا بيع بعضها وجبت الشفعة لمالك البعض الباقي والشفعة كالقسمة لأن كل واحد منهما يراد لإزالة ضرر الشركة ونقصان التصرف فما لا تجب قسمته لا تجب الشفعة فيه فكذلك ما لا شفعة فيه لا تجب قسمته وعكس هذا ما تجب قسمته تجب فيه الشفعة وما تجب الشفعة فيه تجب قسمته ولأنه لو بد الصلاح في بعض البستان كان صلاحا لباقيه وإن كان كبيرا ولم يكن صلاحا لما جاوزه وإن كان صغيرا
فصل : وإذا كان في الأرض رزع فطلب أحدهما قسمتها دون الزرع أجبر الممتنع لأن الزرع في الأرض كالقماش في الدار فلم يمنع القسمة كالقماش وسواء خرج الزرع أو كان بذرا لم يخرج فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مشتركا كما لو باعا الأرض لغيرهما وإن طلب أحدهما قسمة الزرع منفردا لم يجبر الآخر عليه لأن القسمة لا بد فيها من تعديل المقسوم وتعديل الزرع بالسهام لا يمكن لأنه يشترط بقاؤه في الأرض المشتركة وإن طلب قسمتها مع الزرع وكان قد خرج جاز وأجبر الممتنع عليه سواء كان قصيلا أو اشتد الحب فيه لأن الزرع كالشجر في الأرض والقسمة إفراز حق وليست بيعا وإن قلنا هي بيع لم يجبر إذا اشتد الحب لأنه يتضمن بيع السنبل بعضه ببعض ويحتمل الجواز لأن السنابل ههنا دخلت تبعا للأرض فليست المقصود فأشبه بيع النخلة المثمرة بمثلها وقال الشافعي لا يجبر الممتنع من قسمتها مع الزرع لأن الزرع مودع في الأرض للنقل عنها فلم تجب قسمته معه كالقماش فيها
ولنا أنه نابت فيها للنماء والنفع فأشبه الغراس وفارق القماش فإنه غير متصل بالدار ولا ضرر عليه في نقله وإن كان الزرع بذرا في الأرض فقال أصحابنا لا تجوز قسمته لجهالته وكونه لا يمكن إفرازه وهذا مذهب الشافعي ويحتمل الجواز لأنه يدخل تبعا للأرض فلا تصر جهالته كأساسات الحيطان وكذلك لو اشترى أرضا فيها رزع فاشترطوا ملكه بالشرط وإن كان بذرا مجهولا
فصل : إذا كانت بينهما أرض قيمتها مائة في أحد جانبيها بئر قيمتها مائة وفي الآخر شجرة قيمتها مائة عدلت بالقيمة وجعلت البئر مع نصف الأرض نصيبا والشجرة مع النصف الآخر نصيبا فإن كانت بين ثلاثة أو أكثر نظرت في الأرض فإن كانت قيمتها مائة أو أقل لم تجب القسمة لأنها إذا كانت أقل لم يمكن التعديل إلا بقسمة البئر والشجرة وذلك مما لا تجب قسمته وإن كانت قيمتها مائة فجعلناها سهما والبئر سهما والشجرة سهما لم يحصل مع البئر والشجرة وشيء من الأرض فيصير هذا كقسمة الشجر وحده وقسمة ذلك وحده ليست قسمة إجبار وإن كانت الأرض كبيرة القيمة بحيث يأخذ بعض الشركاء سهامهم منها ويبقى منها شيء مع البئر والشجرة وجبت القسمة ومثاله أن تكون قيمة الأرض مائتين وخمسين فيجعلها مائة وخمسين سهما ويضم إلى البئر ما قيمته خمسون وإلى الشجرة مثل ذلك فتصير ثلاثة سهام متساوية وفي كل سهم جزء من أجزاء الأرض فتجب القسمة حينئذ وكذلك لو كانوا أربعة وقيمة الأرض أربعمائة وجبت القسمة لأننا تجعل ثلاثمائة منها سهمين ومائة مع البئر والشجرة سهمين فتعدلت السهام ولو كانت الأرض لاثنين فأراد قسمة البئر والشجرة دون الأرض لم تكن قسمة إجبار وهكذا الأرض ذات الشجر إذا اقتسما الشجر دون الأرض لم تكن قسمة إجبار ولو اقتسماها بشجرها كانت قسمة إجبار لأن الشجر يدخل تبعا للأرض فيصير الجميع كالشيء الواحد ولهذا تجب فيه الشفعة إذا بيع شيء من الأرض بشجرة وإذا قسم ذلك دون الأرض صار أصلا في القسمة ليس بتابع لشيء واحد فيصير كأعيان مفردة من الدور والدكاكين المتفرقة ولهذا لا تجب فيه الشفعة إذا بيع مفردا وكل قسمة غير واجبة إذا تراضيا بها فهي بيع حكمها حكم البيع (11/499)
مسألة وفصل في طرح السهام إذا قسم وشروط القاسم
مسألة : قال : وإذا قسم طرحت السهام فيصير لكل واحد ما وقع سهمه عليه إلا ان يتراضيا فيكون لكل واحد ما رضي به
وجملته أن القسمة على ضربين قسمة إجبار وقسمة تراضي وقد ذكرنا أن قسمة الإجبار ما أمكن التعديل فيها من غير رد ولا تخلو من أربعة أقسام أحدها : أن تكون السهام متساوية وقيمة أجزاء المقسوم متساوية الثاني : أن تكون السهام متساوية وقيمة الأجزاء مختلفة الثالث : أن تكون السهام مختلفة وقيمة الأجزاء متساوية الرابع : أن تكون السهام مختلفة والقيمة مختلفة فأما الأول فمثل أرض بين ستة لكل واحد منهم سدسها وقيمة أجزاء الأرض متساوية فهذه تعدلها بالمساحة ستة أجزاء متساوية لأنه يلزم من تعديلها بالمساحة تعديلها بالقيمة لتساوي أجزائها في القيمة ثم يقرع بينهم وكيفما أقرع بينهم جاز في ظاهر كلام أحمد فإنه قال في رواية أبي داود إن شاء الله رقاعا وإن شاء خواتيم يطرح ذلك في حجر من لم يحضر ويكون لكل واحد خاتم معين ثم يقال اخرج خاتما على هذا السهم فمن خرج خاتمه فهو له وعلى هذا لو أقرع بالحصا أو غيره جاز واختار أصحابنا في القرعة أن يكتب رقاعا متساوية بعددالسهام وهو ههنا مخير بين أن يخرج الأسماء على السهام وبين اخراج السهام على الأسماء فإن أخرج الأسماء على السهام كتب في كل رقعة اسم واحد من الشركاء وتترك في بنادق طين أو شمع متساوية القدر والوزن ويترك في حجر من لم يحضر القسمة ويقال له أخرج بندقة على هذا السهم فإذا أخرجها كان ذلك السهم لمن خرج اسمه في البندقة ثم يخرج أخرى على سهم آخر كذلك حتى يبقى الأخير فيتعين لمن بقي وإن اختار اخراج السهام على الأسماء كتب الرقاع أسماء السهام فيكتب في رقعة الأول مما يلي جهة كذا وفي أخرى الثاني حتى يكتب الستة ثم يخرج الرقعة واحد بعينه فيكون له السهم الذي في الرقعة ويفعل ذلك حتى يبقى الأخير لمن بقي وذكر أبو بكر أن البنادق تجعل طينا وتطرح في ماء ويعين واحد فأي البنادق انحل الطين عنها وخرجت رقعتها على الماء فهي له وكذلك الثاني والثالث وما بعده فإن خرج اثنان أعيد الإقراع والأول أولى وأسهل
القسم الثاني : أن تكون السهام متفقة والقيمة مختلفة فإن الأرض تعدل بالقيمة وتجعل ستة أسهم متساوية القيمة ويفعل في إخراج السهام مثل الذي قبله سواء لا فرق بينهما إلا أن التعديل ثم بالسهام وههنا بالقيمة
القسم الثالث : أن تكون القيمة متساوية والسهام مختلفة مثل أرض ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها وللآخر سدسها وأجزاؤها متساوية القيمة فإنها تجعل سهاما بقدر أقلها وهو السدس فتجعل ستة أسهم وتعدل بالأجزاء ويكتب ثلاث رقاع باسمائهم ويخرج رقعة على السهم الأول فإن خرجت لصاحب السدس أخذه ثم يخرج أخرى على الثاني فإن خرجت لصاحب الثلث أخذ الثاني والثالث وكانت الثلاثة الباقية لصاحب النصق بغير قرعة وإن خرجت القرعة الثانية لصاحب النصف أخذ الثاني والثالث والرابع وكان الخامس والسادس لصاحب الثلث وإن خرجت القرعة الأولى لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول وتخرج الثانية على الرابع فإن خرجت لصاحب الثلث أخذه والذي يليه وكان السدس لصاحب السدس فان خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ الآخر الخامس والسادس وإن خرجت الأولى لصاحب الثلث أخذ الأول والثاني ثم يخرج الثانية على الثالث فان خرجت لصاحب النصف أخذ الثالث والرابع والخامس وأخذ الآخر السادس وإن خرجت الثانية لصاحب السدس أخذه وأخذ صاحب النصف ما بقي وقيل تكتب ستة رقاع باسم صاحب النصف ثلاث وباسم صاحب الثلث اثنان وباسم صاحب السدس واحدة وهذا لا فائدة فيه فان المقصود خروج اسم صاحب النصف وإذا كتب ثلاث رقاع حصل المقصود فاغنى ولا يصح أن يكتب رقاعا بأسماء السهام ويخرجها على أسماء الملاك لأنه إذا أخرج واحدة فيها السهم الثاني لصاحب السدس ثم أخرج أخرى لصاحب النصف أو الثلث فيهما السهم الأول احتاج أن يأخذ نصيبه متفرقا فيتضرر بذلك
القسم الرابع : إذا اختلف السهام والقيمة فان القاسم يعدل السهام بالقيمة ويجعلها ستة أسهم متساوية القيم ثم يخرج الرقاع فيها الاسماء على السهام كما ذكرنا في القسم الثالث سواء لا فصل بينهما إلا أن التعديل ههنا بالقيم وفي التي قبلها بالمساحة وأما الضرب الثاني وهي قسمة التراضي التي فيها رد ولا يمكن تعديل السهام إلا أن يجعل مع بعضها عوض فهذه لا اجبار فيها لأنها معاوضة ولا يجبر على المعاوضة وكذلك سائر ما لا تجب قسمته الدارين تجعل كل واحدة منهما سهما وما يدخل الضرر عليهما بقسمته وأشباه هذا وقد ذكرنا منه صورا فيما تقدم
إذا ثبت هذا فان قسمة الاجبار تلزم باخراج القرعة لأن قرعة قاسم الحاكم بمنزلة حكمه فيلزم باخراجها كلزوم حكم الحاكم وأما قسمة التراضي ففيها وجهان أحدهما : يلزمه أيضا كقسمة الاجبار لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمة والثاني : لا تلزم لأنها بيع والبيع يلزم بالتراضي لا بالقرعة وإنما القرعة ههنا لتعريف البائع من المشتري فأما ان تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما واحدا من السهمين بغير قرعة فانه يجوز لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما وكذلك لو خير أحدهما صاحبه فاختار ويلزم ههنا بالتراضي وتفرقهما كما يلزم البيع
فصل : ويجوز للشريكين أن يقتسما بانفسهما وان يأتيا الحاكم لينصب بينهما قاسما يقسم لهما وان ينصبا قاسما يقسم لهما فان نصيب الحاكم قاسما لهما فمن شرطه العدالة ومعرفة الحساب والقيمة والقسمة ليوصل إلى كل ذي حق حقه وهذا قول الشافعي إلا أنه يشترط كونه حرا وان نصيبا قاسما بينهما فكان على صفة قاسم الحاكم في العدالة والمعرفة فهو كقاسم الحام في لزوم قسمته بالقرعة وان كان كافرا أو فاسقا أو غير عارف بالقسمة لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما بها ويكون وجوده كعدمه فيما يرجع إلى لزوم القسمة ويجزئ قاسم واحد فيما الا يحتاج الى تقويم فان احتاج القسم الى التقويم احتاج الى قاسمين لأنه يحتاج الى أن يكون المقوم اثنين ولا يكفي في التقويم واحد فمتى نصبا قاسما أو نصبه الحاكم وكانت الشروط فيه متحققة لزمت القسمة بقرعته إن اختل فيه بعض الشروط لم تلزم القسمة الا بتراضيهما لأن وجوده وعدمه واحد وإن قسما بانفسهما وأقرعا لم تلزم القسمة الا بتراضيهما بعد القرعة لأنه لا حاكم بينهما ولا من يقوم مقامه (11/503)
فصول أحكام مختلفة في القسمة والمتقاسمين
فصل : وعلى الامام أن يرزق القاسم من بيت المال لأن هذا من المصالح وقد روي أن عليا رضي الله عنه اتخذ قاسما وجعل له رزقا من بيت المال فان لم يرزقه الامام قال الحاكم للمتقاسمين ادفعا الى القاسم أجرة ليقسم بينكما فان استأجره كل واحد منهما بأجر معلوم ليقسم نصيبه جاز وإن استأجروه جميعا اجارة ليقسم بينهم الدار بإجر واحد معلوم لزم كل واحد منهم من الأخر بقدر نصيبه من المقسوم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يكون عليهم على عدد روؤسهم لأن عمله في نصيب أحدهما كعملة في نصيب الآخر سواء تساوت سهامهم أو اختلف فكان الأجر بينهم سواء
ولنا أن أجر القسمة يتعلق بالملك فكان بينهم على قدر الاملاك كنفقة العبد وما ذكروه لا يصح لأن العمل في أبر النصيبين أكثر ألا ترى أن المقسوم لو كان مكيلا أو موزونا كان كيل الكثير أكثر عملا من كيل القليل ؟ وكذل الوزن والزرع وعلى أنه يبطل بالحافظ فان حفظ القليل والكثير سواء ويختلف أجره باختلاف المال
فصل : وأجرة القسمة بينهما وإن كان أحدهما الطالب لها وبهذا قال أبو يوسف ومحمد و الشافعي وقال أبو حنيفة هي على الطالب للقمسة لأنها حق له
ولنا أن الأجرة تجب بإفراز الأنصباء وهم فيها سواء فكانت الأجرة عليها كما لو تراضوا عليها
فصل : وإذا ادعى أحد المتقاسمين غلظا في القسمة وأنه أعطي دون حقه نظرت فإن كانت قسمته تلزم بالقرعة ولا تقف على تراضيهما فالقول قول عليه مع يمينه ولا تقبل دعوى المدعى إلا ببينة عادلة فإن أقام شاهدين عدلين نقصت القسمة وأعيدت وإن لم تكن بينة وطلب يمين شريكه أنه لا فضل معه احلف له وإنما قدمنا قول المدعى عليه لأن الظاهر صحة القسمة وأداء الأمانة فيها وإن كانت مما لا تلزم إلا بالتراضي كالذي قسماه بأنفسهما ونحوه لم تسمع دعوى من ادعى الغلط هكذا قال أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه قد رضي بذلك ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه تلزمه والصحيح عندي أن هذه كالتي قبلها وأنه متى أقام البينة بالغلط نقضت القسمة لأن ما ادعاه محتمل ثبت ببينة عادلة فأشبه ما لو شهد على نفسه بقبض الثمن أو المسلم فيه ثم ادعى غلطا في كيله أو وزنه
وقولهم أن حقه من الزيادة سقط برضاه لا يصح فإنه إنما يسقط مع علمه أما إذا ظن أنه أعطي حقه فرضي بناء على هذا ثم بان له الغلط فلا يسقط به حقه كالثمن والمسلم فيه فإنه لو قبض المسلم فيه بناء على أنه عشرة مكاييل راضيا بذلك ثم ثبت أنه ثمانية أو ادعى المسلم إليه أنه غلط فأعطاه اثني عشر وثبت ذلك ببينة لم يسقط حق واحد منهما بالرضا ولا يمنع سماع دعواه وبينته ولأن المدعى عليه في مسألتنا لو أقر بالغلط لنقضت القسمة ولو سقط حق المدعي بالرضا لما نقضت القسمة بإقراره كما لو وهبه الزائد وقد ذكر أصحابنا وغيرهم فيمن باع دارا على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة أو أحد عشر أن البيع باطل في أحد الوجهين وفي الآخر تكون الزيادة للبائع والنقص عليه والبيع إنما يلزم بالتراضي فلو كان التراضي يسقط حقه من الزيادة لسقط حق البائع من الزيادة وحق المشتري من النقص والله أعلم
ولأن من رضي بشيء بناء على ظن تبين خلافه لم يسقط به حقه كما لو اقتسما شيئا وتراضيا به ثم بان نصيب أحدهما مستحقا فإن قيل : فلم لا تعطي المظلوم حقه في هاتين المسألتين ولا تنقض القسمة كما لو تبين الغلط في الثمن أو المسلم فيه قلنا لأن الغلط ههنا في نفس القسمة بتفويت شرط من شروطها وهو تعديل السهام فتبطل لفوات شرطها وفي المسلم والثمن الغلط في القبض دون العقد فإن العقد قد تم بشروطه فلا يؤثر الغلط في قبض عوضه في صحته بخلاف مسألتنا
فصل : إذا اقتسم الشريكان شيئا فبان بعضه مستحقا نظرت فإن كان معينا في نصيب أحدهما بطلت القسمة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا تبطل بل يخير من ظهر المستحق في نصيبه بين الفسخ والرجوع بما بقي من حقه كما لو وجد عيبا فيما أخذه
ولنا أنها قسمة لم تعدل فيها السهام فكانت باطلة كما لو فعلا ذلك علمهما بالحال وأما إذا بان نصيب أحدهما معيبا فيحتمل أن تمنع المسألة ونقول ببطلان القسمة لعدم التعديل بالقيمة ويحتمل أن يفرق بينهما فإن العيب لا يمكن التحرز منه فلم يؤثر في البطلان كالبيع وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء لم تبطل القسمة لأن ما يبقى لكل واحد منهما بعد المستحق قدر حقه ولأن القسمة إفراز حق أحدهما من الآخر وقد أفرز كل واحد منهما حقه إلا أن يكون ضرر المستحق في نصيب أحدهما أكثر مثل أن يسد طريقه أو مجرى مائة أو ضوئه أو نحو هذا فتبطل القسمة لأن هذا يمنع التعديل وإن كان المستحق في نصيب أحدهما أكثر من الآخر بطلت لما ذكرناه وإن كان المستحق مشاعا في نصيبهما بطلت القسمة لأن الثالث شريكهما وقد اقتسما من غير حضوره ولا إذنه فأشبه ما لو كان لهما شريك يعلمانه فاقتسما دونه وإن كانا يعلمان المستحق حال القسمة أو أحدهما فالحكم فيها كما لو لم يعلما على ما ذكرنا من التفصيل فيه والله أعلم
فصل : وإذا ظهر في نصيب أحدهما عيب لم يعلمه قبل القسمة فله فسخ القسمة أو الرجوع بأرش العيب لأنه نقص في نصيبه فملك ذلك كالمشتري ويحتمل أن تبطل القسمة لأن التعديل فيها شرط ولم يوجد بخلاف البيع
فصل : وإذا اقتسما دارين فأخذ كل واحد منهما دارا وبنى فيها أو اقتسما أرضين فبنى أحدهما في نصيبه أو غرش ثم استحق نصيبه ونقض بناؤه وقلع غرسه فإنه يرجع على شريكه بنصف البناء والغرس ذكره الشريف أبو جعفر وحكاه أبو الخطاب عن القاضي وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن ليس له الرجوع عليه بشيء لأنه بنى وغرس بإختيار نفسه فلم يرجع بنقص ذلك على غيره كما لو بنى في ملك نفسه
ولنا أن هذه القسمة بمنزلة البيع فإن الدارين لا يقسمان قسمة إجبار على أن تكون كل واحدة منهما نصيبا وإنما يقسمان كذللك بالتراضي فتكون جارية مجرى البيع ولو باعه الدار جميعها ثم بانت مستحقة رجع عليه بالبناء كله فإذا باعه نصفها رجع عليه بنصفه وكذلك يخرج في كل قسمة جارية مجرى البيع وهي قسمة التراضي الذي فيه رد عوض وما لا يجبر على قسمته لضرر فيه ونحو ذلك فأما قسمة الإجبار إذا ظهر نصيب أحدهما مستحقا بعد البناء والغرس فيه فنقض البناء وقلع الغرس فإن قلنا القسمة بيع فالحكم فيها كذلك وإن قلنا ليست بيعا لم يرجع لأن شريكه لم يغره ولم ينقل إليه من جهته بيع وإنما أفرز حقه من حقه فلم يضمن له ما غرم فيه هذا الذي يقتضيه قول اصحابنا
فصل : وإذا اقتسم الورثة تركة الميت ثم بان عليه دين لا وفاء له إلا مما اقتسموه لم تبطل القسمة لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها لأنه تعلق بها بغير رضاهم فأشبه تعلق دين الجناية برقبة الجاني ويفارق الرهن لأن الحق يتعلق به برضا مالكه واختياره فعلى هذا يقال للورثة إن شئتم وفيتم الدين والقسمة بحالها وإن شئتم نقضت القسمة وبيعت التركة في الدين فإن أجاب أحدهم وامتنع الآخر بيع نصيب الممتنع وحده وبقي نصيب المجيب بحاله وإن كان ثم وصية يجزء من المقسوم فالحكم فيه كما لو ظهر مستحقا على مر من التفصيل فيه لأنه يستحق أخذه وإن كانت الوصية بمال غير معين مثل أن يوصي بمائة دينار فحكمها حكم الدين على ما بينا
فصل : وإذا طلب أحد الشريكين من الآخر المهايأة من غير قسمة ما في الأجزاء بأن يجعل لأحدهما بعض الدار يسكنها أو بعض الحقل يزرعه ويسكن الآخر ويزرع في الباقي أو يسكن أحدهما ويزرع سنة ويسكن الآخر ويزرع سنة أخرى لم يجبر الممتنع منهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك يجبر لأن في الامتناع ضررا فينتفي بقوله عليه السلام : [ لا ضرر ولا ضرار ] ووافقنا أبو حنيفة في العبيد خاصة على أنه لا يجبر على المهايأه
ولنا أن النهايأة فلا يجبر عليها كالبيع ولأن حق كل واحد في المنفعة عاجل فلا يجوز تأخيره بغير رضاه كالدين وكما في العبيد عند أبي حنيفة ويخالف قسمة الأصل فإنه إفراز النصيبين وتمييز أحد الحقين
إذا ثبت هذا فإنهما إذا اتفقا على المهايأة جاز لأن الحق لهما فجاز فيه ما تراضيا عليه كقسمة التراضي ولا يلزم بل متى رجع أحدهما عنها انتقضت المهايأة ولو طلب أحدهما القسمة كان له ذلك وانتقضت المهايأة ووافق أبو حنيفة وأصحابه في انتقاضها بطلب القسمة وقال مالك تلزم المهايأة لأنه يجبر لأنه يجبر عليها عنده فلزمت كقسمة الأصل
ولنا أنه بذل منافع ليأخذ من غير إجارة فلم يلزم كما لو أعاره شيئا ليعيره شيئا آخر إذا احتاج إليه وفارق القسمة فإنها إفراز حق على ما ذكرناه
فصل : قال أحمد في قوم اقتسموا دارا وحصل لبعضهم فيها زيادة أذرع ولبعضهم نقصان ثم باعوا الدار جملة واحدة قسمت الدارب بينهم على قدر الأذرع يعني أن الثمن يقسم بينهم على قدر ملكهم فيها وهذا محمول على أن زيادة أحدهما في الأذرع كزيادة ملكه فيها مثل أن يكون لأحدهما الخمسان فيحصل له أربعون ذراعا وللآخر ثلاثة أخماس فيحصل له ستون فإن الثمن يقسم بينهما أخماسا على قدر ملكهما في الدار فإن كانت زيادة الأذرع لرداءة ما أخذه صاحبها مثل دار بينهما نصفين فأخذ أحدهما بنصيبه من جيدها أربعين ذراعا وأخذ الآخر من رديئها ستين ذراعا فلا ينبغي أن يقسم الثمن على قدر الأذرع بل يقسم بينهما نصفين لأن الستين ههنا معدولة بالأربعين فكذلك يعدل بها في الثمن والله أعلم وقال أحمد في قوم اقتسموا دارا كانت أربعة سطوح يجري عليها الماء فلما اقتسموا أراد أحدهم منع جريان ماء الآخر عليه وقال هذا شيء قد صار لي قال إن كان بينهما شرط أنه يرد الماء فله ذلك فإن لم يشترط فليس له منعه ووجهه أنهم اقتسموا الدار واطلقوا فاقتضى ذلك أن يملك كا واحد حصته بحقوقها وكما لو اشتراها بحقوقها ومن حقها جريان مائها في ماء كان يجري إليه معتادا له وهو على سطح المانع فلهذا استحقه حالة الإطلاق فإن تشارطا على رده فالشرط أملك والمؤمنون على شروطهم وقال أبو الخطاب إذا اقتسما دارا فحصل الطريق في نصيب أحدهما وكان لنصيب الآخر منفذ يتطرق منه وإلا بطلت القسمة وذلك لأن القسمة تقتضي التعديل والنصيب الذي لا طريق له لا قيمة له إلا قيمة قليلة فلا يحصل التعديل ولأن من شرط الإجبار على القسمة أن يكون ما يأخذه كل واحد منهما يمكن الانتفاع به وهذا لا ينتفع به وهذا لا ينتفع به آخذه فإن كان قد أخذه راضيا به عالما بأنه لا طريق له جاز لأن قسمة التراضي بيع وشراؤه على هذا الوجه جائز وقياس المسألة التي قبل هذه أن الطريق تبقى بحالها في نصيب الآخر ما لم يشترط صرفها عنه كمجرى الماء والله أعلم
فصل : قال وللأب والوصي قسمة مال الصغير مع شريكه لأن القسمة أما إفراز حق أو بيع وكلاهما جائز لهما ولأن في القسمة مصلحة للصبي فجازت كالشراء له ويجوز لهما قسمة التراضي من غير زيادة في العوض لأن فيه دفعا لضرر الشركة فأشبه ما لو باعه لضرر الحاجة إلى قضاء الدين أو الحاجة إلى النفقة
فصل : ولا تصح ولاية القضاء إلا بتولية الإمام أو من فوض الإمام إليه ذلك فإن كان من ولاه ليس بعدل فهل تصح ولايته ؟ على وجهين ويلزم الإمام أن يختار للقضاء بين المسلمين أفضل من يقدر عليه لهم والألفاظ التي تنعقد بها الولاية تنقسم إلى صريح وكناية فالصريحة سبعة ألفاظ وهي قد وليتك الحكم وقلدتك واستنبتك واستخلفتك ورددت إليك الحكم وفوضت إليك وجعلت إليك فإذا وجد أحد هذه الألفاظ من المولي وجوابها من المولى بالقبول انعقدت الولاية وأما الكناية فهي أربعة ألفاظ قد اعتمدت عليك وعولت عليك ووكلت إليك واستندت إليك فلا تنعقد الولاية بها حتى تقترن بها قرينة نحو قوله فاحكم فيما وكلت إليك وانظر فيما أسندت إليك وتول ما عولت فيه عليك وإذا صحت الولاية وكانت عامة استفاد بها النظر في عشرة أشياء فصل الخصومات بين المتنازعين واستيفاء الحق ممن ثبت عليه ودفعه إلى مستحقه والنظر في أموال اليتامى والمجانين والحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس والنظر في الوقوف في عمله في حفظ أصولها وإجراء أصولها فروعها على ما شرطه الواقف وتزويج الأيامى اللاتي لا أولياء لهن وإقامة الحدود والنظر في مصالح المسلمين في عمله بكف الأذى عن طرقات المسلمين وأفنيتهم وتصفح حال شهوده وأمنائه والاستبدال بمن ثبت جرحه منهم والإمامة في صلاة الجمعة والعيد وفي جباية الخراج وأخذ الصدقة وجهان
فصل : قال ويوصي الوكلاء والأعيان على بابه بتقوى الله تعالى والرفق بالخصوم وقلة الطمع ويجتهد أن لا يكونوا شيوخا أو كهولا من أهل الدين والصيانة والعفة
فصل : قال ابن المنذر يكره للقاضي أن يفتي في الأحكام كان شريح يقول أنا أقضي ولا أفتي وأما الفتيا في الطهارة وسائر ما لا يحكم في مثله فلا بأس بالفتيا فيه (11/508)
كتاب الشهادات
والأصل في الشهادات الكتاب والسنة والإجماع والعبرة أما الكتاب فقول الله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } وقال تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } { وأشهدوا إذا تبايعتم }
وأما السنة فما [ روى وائل بن حجر قال : جاء رجل من حضرموت ورجل من كنده إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال الحضرمي : يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي فقال الكندي : هي أرضي وفي يدي فليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه و سلم للحضرمي : ألك بينة ؟ فقال : لا قال : فلك يمينه قال يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء قال : ليس لك منه إلا ذلك قال : فانطلق الرجل ليحلف له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أدبر لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله تعالى وهو عنه معرض ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وروى محمد بن عبد الله العزرمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي قال : [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] قال الترمذي هذا حديث في إسناده مقال و العزرمي يضعف في الحديث من قبل حفظه ضعفه ابن مبارك وغيره إلا أن أهل العلم أجمعوا على هذا قال الترمذي : والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وغيرهم ولأن الحاجة داعية إلى الشهادة لحصول التجاحد بين الناس فوجب الرجوع إليها قال شريح : القضاء جمر فنحه عنك بعودين يعني الشاهدين وإنما الخصم داء والشهود شفاء فأفرغ الشفاء على الداء (12/3)
تحمل الشهادة وأداؤها فرض كفاية
فصل : وتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية لقول الله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } وقال تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وإنما خص القلب بالإثم لأنه موضع العلم بها ولأن الشهادة أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات
إذا ثبت هذا فإن دعي إلى تحمل شهادة في نكاح أو دين أو غيره لزمته الإجابة وإن كانت عنده شهادة فدعي إلى أدائها لزمه ذلك فإن قام بالفرض في التحمل أو الأداء اثنان سقط عن الجميع وإن امتنع الكل أثموا وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر وكانت شهادته تنفع فإن كان عليه ضرر في التحمل أو الأداء أو كان ممن لا تقبل شهادتهم أو يحتاج إلى التبذل في التزكية ونحوها لم يلزمه لقول الله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ضرر ولا ضرار ] ولأنه لا يلزمه أن يضر بنفسه لنفع غيره وإذا كان ممن لا تقبل شهادته لم يجب عليه لأن المقصود الشهادة لا يحصل منه وهل يأثم بالامتناع إذا وجد غيره ممن يقوم مقامه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يأثم لأنه قد تعين بدعائه ولأنه منهي عن الامتناع بقوله { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا }
والثاني : لا يأثم لأن غيره يقوم مقامه فلم يتعين في حقه كما لو لم يدع إليها فأما قول الله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } فقد قرئ بالفتح والرفع فمن رفع فهو خبر معناه النهي ويحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون الكاتب فاعلا أي لا يضر الكاتب و الشهيد من يدعوه بأن لا يجيب أو يكتب ما لم يستكتب أو يشهد ما لم يستشهد به
والثاني : أن يكون يضار فعل ما لم يسم فاعله فيكون معناه ومعنى الفتح واحدا أي لا يضر الكاتب والشهيد بأن يقطعهما عن شغلهما بالكتابة والشهادة ويمنعا حاجتهما
واشتقاق الشهادة من المشاهدة لأن الشاهد يخبر عما يشاهده وقيل لأن الشاهد بخبره جعل الحاكم كالمشاهد للمشهود عليه وتسمى بينة لأنها تبين ما التبس وتكشف الحق فيما اختلف فيه (12/4)
شهود الزنا وما يشترط فيهم و حكم الإقرار بالزنا
مسألة : قال : ولا يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة رجال عدول أحرار مسلمين
أجمع المسلمون أنه لا يقبل في الزنا أقل من أربعة شهود وقد نص الله تعالى عليه بقوله سبحانه { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } في آي سواها وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أربعة وإلا حد في ظهرك ] في أخبار سوى هذا وأجمعوا على أنه يشترط كونهم مسلمين عدولا ظاهرا وباطنا وسواء كان المشهود عليه مسلما أو ذميا وجمهور العلماء على أنه يشترط أن يكونوا رجالا أحرارا فلا تقبل شهادة النساء ولا العبيد وبه يقول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وشذ أبو ثور فقال : تقبل فيه شهادة العبيد
وحكي عن عطاء و حماد : أنهما قالا : تجوز شهادة ثلاثة رجال وامرأتين لأنه نقص واحد من عدد الرجال فقام مقامه امرأتان كالأموال
ولنا ظاهر الآية وأن العبد مختلف في شهادته في المال فكان ذلك شبهة في الحد لأنه بالشبهات يندرئ ولا يصح قياس هذا على الأموال لخفة حكمها وشدة الحاجة إلى إثباتها لكثرة وقوعها والاحتياط في حفظها ولهذا زيد في عدد شهود الزنا على شهود المال
فصل : وفي الإقرار بالزنا روايتان ذكرهما أبو بكر و للشافعي فيه قولان : أحدهما : يثبت بشاهدين قياسا إلى سائر الأقارير والثاني : لا يثبت إلا بأربعة لأنه موجب لحد الزنا أشبه فعله (12/6)
لا يقبل فيما سوى الأموال أقل من رجلين
مسألة : قال : ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين
وهذا القسم نوعان : أحدهما : العقوبات وهي الحدود والقصاص فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين إلا ما روي عن عطاء و حماد أنهما قالا : يقبل فيه رجل وامرأتان قياسا على الشهادة في الأموال
ولنا أن هذا مما يحتاط لدرئه وإسقاطه ولهذا يندرئ بالشبهات ولا تدعو الحاجة إلى إثباته وفي شهادة النساء شبهة بدليل قوله تعالى { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } وأنه لا تقبل شهادتهن وإن كثرن ما لم يكن معهن رجل فوجب أن تقبل شهادتهن فيه ولا يصح قياس هذا على الأموال لما ذكرنا من الفرق وبهذا الذي ذكرنا قال سعيد بن المسيب و الشعبي و النخعي و حماد و الزهري و ربيعة و مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو الثور وأصحاب الرأي واتفق هؤلاء وغيرهم على أنها تثبت بشهادة رجلين ما خلا الزنا إلا الحسن فإنه قال : الشهادة على القتل كالشهادة على الزنا لأنه يتعلق به إتلاف النفس فأشبه الزنا
ولنا أنه أحد نوعي القصاص فأشبه القصاص في الطرف وما ذكره من الوصف لا أثر له فإن الزنا الموجب للحد لا يثبت إلا بأربعة ولأن حد الزنا حق لله تعالى يقبل الرجوع عن الإقرار به ويعتبر في شهداء هذا النوع من الحرية والذكورية والإسلام والعدالة ما يعتبر في شهداء الزنا على ما سنذكره الثاني : ما ليس بعقوبة كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإيلاء والنسب والتوكيل والوصية إليه والولاء والكتابة وأشباه هذا فقال القاضي : المعول عليه في المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال وقد نص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق وقد نقل عن أحمد في الوكالة إن كانت بمطالبة دين يعني تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين فأما غير ذلك فلا ووجه ذلك أن الوكالة في اقتضاء الدين يقصد منها المال فيقبل فيها شهادة رجل وامرأتين كالحوالة قال القاضي : فيخرج من هذا أن النكاح وحقوقه من الرجعة وشبهها لا تقبل فيها شهادة النساء رواية واحدة وما عداه يخرج على روايتين وقال أبو الخطاب : يخرج في النكاح والعتاق أيضا روايتان : إحداهما : لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين وهو قول النخعي و الزهري و مالك وأهل المدينة و الشافعي وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وربيعه في الطلاق والثانية : تقبل فيه شهادة رجلين وامرأتين روى ذلك عن جابر بن زيد و إياس ابن معاوية و الشعبي و الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك في النكاح عن عطاء واحتجوا بأنه لا يسقط بالشبهة فيثبت برجل وامرأتين كالمال
ولنا أنه ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال فلم يكن للنساء في شهادته مدخل كالحدود والقصاص وما ذكروه لا يصح فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح وإن تصور بأن تكون مرتابة بالحمل لم يصح النكاح (12/7)
ما يثبت به الإعسار والوصية
فصل : وقد نقل عن أحمد رضي الله عنه في الإعسار ما يدل على أنه لا يثبت إلا بثلاثة لحديث قبيصة بن المخارق [ حتى يشهد من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة ] قال أحمد : هكذا جاء الحديث فظاهر هذا أنه أخذ به وروي عنه أنه يقبل قوله أنه وصى حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل فظاهر هذا أنه يقبل في الوصية شهادة رجل واحد وقال في الرجل يوصي ولا يحضره إلا النساء قال : أجيز شهادة النساء فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد إذا لم يحضره الرجال قال القاضي : المذهب أن هذا كله لا يثبت إلا بشاهدين وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار
فصل : ولا يثبت شيء من هذين النوعين بشاهد ويمين المدعي لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين فلأن لا يثبت بشهادة واحد ويمين أولى قال أحمد و مالك في الشاهد واليمين : إنما يكون ذلك في الأموال خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل
وقد قال الخرقي : إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا ونص عليه أحمد وقال في شريكين في عبد ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا فيخرج مثل هذا في الكتابة والولاء والوصية والوديعة والوكالة فيكون في الجميع روايتان ما خلا العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه فإنها لا تثبت بشاهد ويمين قولا واحدا قال القاضي : المعمول عليه في جميع ما ذكرناه أنه لا يثبت إلا بشاهدين وهو قول الشافعي وروى الدارقطني بإسناده عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : [ استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار علي في الأموال لا تعد ذلك ] وقال عمرو بن دينار عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قضي بالشاهد واليمين قال نعم في الأموال وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره رواه الإمام أحمد وغيره بإسنادهم (12/9)
لا يقبل في شهادة الأموال أقل من رجل وامرأتين
مسألة : قال : ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتين ورجل عدل مع يمين الطالب
وجملة ذلك أن المال كالقرض والغضب والديون كلها وما يقصد به المال كالبيع والوقف والإجارة والهبة والصلح والمساقاة والمضاربة والشركة والوصية له والجناية الموجبة للمال كجناية الخطأ وعمد الخطأ والعمد الموجب للمال دون القصاص كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج تثبت بشهادة رجل وامرأتين وقال أبو بكر : لا تثبت الجناية في البدن بشهادة رجل وامرأتين لأنها جناية فأشبهت ما يوجب القصاص والأول أصح لأن موجبها المال فأشبهت البيع وفارق ما يوجب القصاص لأن القصاص لا تقبل فيه شهادة النساء وكذلك ما يوجبه والمال يثبت بشهادة النساء وكذلك ما يوجبه ولا خلاف في أن المال يثبت بشهادة النساء مع الرجال وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه بقوله سبحانه { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } وإلى قوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } وأجمع أهل العلم على القول به وقد ذكرنا خبر أبي هريرة وابن عباس فيه (12/10)
فصل : في المال يثبت لمدعيه بشاهد ويمين
فصل : وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رصي الله عنهم وهو قول الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز و الحسن و شريح و إياس و عبد الله بن عتيبة و أبي سلمة بن عبد الرحمن و يحيى بن يعمر و ربيعه و مالك و ابن أبي ليلى و أبي الزناد و الشافعي وقال الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي و الأوزاعي : لا يقضى بشاهد ويمين قال محمد بن الحسن : من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه لأن الله تعالى قال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فمن زاد فقد زاد في النص والزيادة في النص نسخ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ البينة على المدعي واليمين على من أنكر ] فحصر اليمين في جانب المدعى عليه كما حصر البينة في جانب المدعي
ولنا ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم باليمين مع الشاهد الواحد رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل السنن والمسانيد قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب وفي الباب عن علي وابن عباس وجابر ومسروق وقال النسائي : إسناد حديث ابن عباس في اليمين مع الشاهد إسناد جيد ولأن اليمين تشرع في حق من ظهر صدقة وقوي جانبه ولذلك شرعت في حق صاحب اليد لقوة جنبته بها وفي حق المنكر لقوة جنبته فإن الأصل براءة ذمته والمدعي ههنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع اليمين في حقه ولا حجة لهم في الآية لأنها دلت على مشروعية الشاهدين والشاهد والمرأتين ولا نزاع في هذا وقولهم إن الزيادة في النص نسخ غير صحيح لأن النسخ الرفع والإزالة والزيادة في الشيء تقرير له لا رفع والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه ولأن الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن نسخا وكذلك إذا انفصلت عنه ولأن الآية واردة في التحمل دون الأداء ولهذا قال { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } والنزاع في الأداء وحديثهم ضعيف وليس هو للحصر بدليل أن اليمين تشرع في حق المودع إذا ادعى رد الوديعة وتلفها وفي حق الأمناء لظهور جنايتهم وفي حق الملاعن وفي القسامة وتشرع في حق البائع والمشتري إذا اختلفا في ثمن والسلعة قائمة وقول محمد في نقض قضاء من قضى بالشاهد واليمين يتضمن القول بنقض فضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم والخلفاء الذين قضوا به وقد قال الله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } والقضاء بما قضى به محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم أولى من قضاء محمد بن الحسن المخالف له
فصل : قال القاضي : يجوز أن يحلف على ما لا تسوغ الشهادة عليه مثل أن يجد بخطه دينا له على إنسان وهو يعرف أنه لا يكتب إلا حقا ولم يذكره أو يجد في رزمانج أبيه بخطه دينا له على إنسان ويعرف من أبيه الأمانة وأنه لا يكتب إلا حقا فله أن يحلف عليه ولا يجوز أن يشهد به ولو أخبره بحق أبيه ثقة فسكن إليه جاز أن يحلف عليه ولم يجز له أن يشهد به وبهذا قال الشافعي والفرق بين اليمين والشهادة من وجهين :
أحدهما : أن الشهادة لغيره فيحتمل أن من له الشهادة قد زور على خطه ولا يحتمل هذا فيما يحلف عليه لأن الحق إنما هو للحالف فلا يزور أحد عليه والثاني : أن ما يكتبه الإنسان من حقوقه يكثر فينسى بعضه بخلاف الشهادة
فصل : وكل موضع قبل فيه الشاهد واليمين فلا فرق بين كون المدعي مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا رجلا أو امرأة نص عليه أحمد لأن من شرعت في حقه واليمين لا يختلف حكمه باختلاف هذه الأوصاف كالمنكر إذا لم تكن بينة
فصل : قال أحمد : مضت السنة أن يقضي باليمين مع الشاهد الواحد فإن أبى أن يحلف استحلف المطلوب وهذا قول مالك و الشافعي ويروي عن أحمد فإن أبىالمطلوب أن يحلف ثبت الحق عليه
فصل : ولا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي وبه قال الشافعي وقال مالك : يقبل ذلك في الأموال لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل فحلف معهما كما يحلف مع الرجل
ولنا أن البينة على المال إذا خلت من الرجل لم تقبل كما لو شهد أربع نسوة وما ذكروه يبطل بهذه الصورة فإنهما لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين ولقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين ولأن شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بالرجل واليمين ضعيفة فيضم ضعيف إلى ضعيف فلا يقبل
فصل : إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق نصابا من حرزه وأقام بذلك شاهدا وحلف معه أو شهد له بذلك رجل وامرأتان وجب المال المشهود به إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا ولا يجب القطع لأن هذه حجة في المال دون القطع وإن ادعى رجل أنه قتل وليه عمدا فأقام شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده لم يثبت قصاص ولا دية والفرق بين المسألتين أن السرقة توجب القطع والغرم معا فإذا لم يثبت أحدهما ثبت الآخر والقتل العمد موجبه القصاص عينا في إحدى الروايتين والدية بدل عنه ولا يجب البدل ما لم يوجد المبدل
وفي الرواية الأخرى الواجب أحدهما لا بعينه فلا يحوز أن يتعين أحدهما إلا باختيار أو التعذر ولم يوجد واحد منهما
وقال ابن أبي موسى : لا يجب في المال السرقة أيضا إلا بشاهدين لأنها شهادة على فعل يوجب الحد والمال فإذا بطلت في أحدهما بطلت في الأخرى والأول أولى لما ذكرناه وإن ادعى رجل على رجل أنه ضرب أخاه بسهم عمدا فقتله ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو شاهدا وحلف معه ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجبه المال ولم يثبت قتل الأول لأنه عمد موجبة القصاص فهما كالجنايتين المفترقتين وعلى قوا أبي بكر لا يثبت شيء منهما لأن الجناية عنده لا تثبت إلا بشاهدين سواء كان موجبها المال أو غيره ولو ادعى رجل على آخر أنه سرق منه وغصبه مالا فحلف بالطلاق والعتاق ما سرق منه ولا غصبه فأقام المدعي شاهدا وامرأتين شهدا بالسرقة والغصب وأقام شاهدا وحلف معه استحق المسروق والمغضوب لأنه أتى ببينة يثبت ذلك بمثلها ولم يثبت طلاق ولا عتاق لأن هذه البينة حجة في المال دون الطلاق والعتاق وظاهر مذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا إلا فيما ذكرناه من الخلاف عن أصحابنا
فصل : ولو ادعى جارية في يد رجل أنها أم ولده وأن ابنها ابنه منها ولد في ملكة وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده حكم له بالجارية لأن أم الولد مملوكة له ولهذا يملك وطأها وإجارتها وتزويجها ويثبت لها حكم الاستيلاد بإقراره لأن إقراره ينفذ في ملكه ويثبت بالشاهد والمرأتين والشاهد واليمين ولا يحكم له بالولد لأنه يدعي نسبه والنسب لا يثبت بذلك ويدعي حريته أيضا فعلى هذا يقر الولد في يد المنكر مملوكا له وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : يأخذها وولدها ويكون ابنه لأن من يثبت له العين ثبت له نماؤها والولد نماؤها وذكر أبو الخطاب فيها عن أحمد روايتين كقولي الشافعي
ولنا أنه لم يدع الولد ملكا وإنما يدعي حريته ونسبه وهذان لا يثبتان بهذه البينة فيبقيان على ما كانا عليه
فصل : وإن ادعى رجل أنه خالع امرأته فأنكرت ثبت ذلك بشاهد وامرأتين أو يمين المدعي لأنه يدعي المال الذي خالعت به وإن ادعت ذلك المرأة لم يثبت إلا بشهادة رجلين لأنها لا تقصد منه الفسخ وخلاصها من الزوج لا يثبت ذلك إلا بهذه البينة (12/11)
تقبل شهادة امرأة عدل فيما لا يطلع عليه الرجال
مسألة : قال : ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع والولادة والحيض والعدة وما أشبهها شهادة امرأة عدل
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة قال القاضي : والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص وانقضاء العدة وعن أبي حنيفة : لا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع لأنه يجوز أن يطلع عليه محارم النساء من الرجال فلم يثبت بالنساء منفردات كالنكاح
ولنا ما [ روى عقبة بن الحارث قال تزوجت أم يحي بنت أبي إهاب فأتت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك فأعرض عني ثم أتيته فقلت يا رسول الله إنها كاذبة قال : كيف وقد زعمت ذلك ] متفق عليه ولأنها شهادة على عورة للنساء فيها مدخل فقبل فيها شهادة النساء كالولادة وتخالف العقد فإنه ليس بعورة وحكي عن أبي حنيفة أيضا أن شهادة النساء المنفردات لا تقبل في الاستهلال لأنه يكون بعد الولادة وخالفه صاحباه وأكثر أهل العلم لأنه يكون حال الولادة فيتعذر حضور الرجال فأشبه الولادة نفسها
وقد روي عن علي رحمه الله أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال رواه الإمام أحمد و سعيد بن منصور إلا أنه من حديث جابر الجعفي وأجازه شريح و الحسن و الحارث العلكي و حماد (12/16)
فيما يجوز فيه شهادة المرأة وحدها وفيما لو شهد رجل بذلك
فصل : إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا تقبل فيه شهادة النساء المنفردات تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة قال طاوس تجوز شهادة المرأة في الرضاع وإن كانت سوداء وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل فيه إلا امرأتان وهو قول الحكم و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة وإليه ذهب مالك و الثوري لأن كل جنس يثبت به الحق كفى فيه اثنان كالرجال ولأن الرجال أكمل منهن عقلا ولا يقبل منهم إلا اثنان وقال عثمان البتي : يكفي ثلاث لأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل وقال أبو حنيفة : تقبل شهادة المرأة الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة وقال عطاء و الشعبي و قتادة و الشافعي و أبو ثور : لا تقبل فيه إلا أربع لأنها شهادة من شرطها الحرية فلم يقبل فيها الواحدة كسائر الشهادات ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ شهادة امرأتين بشهادة رجل ]
ولنا ما [ روى عقبة بن الحارث أنه قال : تزوجت أم يحي بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما فجئت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له ذلك فأعرض عني ثم ذكرت له ذلك فقال : وكيف وقد زعمت ذلك ] متفق عليه وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه و سلم أجاز شهادة القابلة ذكره الفقهاء في كتبهم و [ روى أبو الخطاب عن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة ] ولأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات فلا يشترط فيه العدد كالرواية وأخبار الديانات وما ذكره الشافعي من اشتراط الحرية غير مسلم وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ وسلم شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد في الموضع الذي تشهد فيه مع الرجل ]
فصل : فإن شهد الرجل بذلك فقال أبو الخطاب : تقبل شهادته وحده لأنه أكمل من المرأة فإذا اكتفي بها وحدها فلأن يكتفى به أولى ولأن ما قبل فيه قول المرأة الواحدة قبل فيه قول الرجل كالرواية (12/17)
فيمن لزمته الشهادة
مسألة : قال ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك
وجملته أن أداء الشهادة من فروض الكفايات فأن تعينت عليه بأن لا يتحملها من يكفي فيما سواه لزمه القيام بها وإن قام بها اثنان غيره سقط عنه أداؤها إذا قبلها الحاكم فإن كان تحملها جماعة فأداؤها واجب على الكل وإن امتنعوا أثموا كلهم كسائر فروض الكفايات ودليل وجوبها قول الله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } وفي الآية الأخرى : { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } ولأن الشهادة أمانة فلزمه أداؤها عند طلبه كالوديعة ولقوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } فإن عجز عن إقامتها أو تضرر بها لم تجب عليه لقول الله تعالى : { ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } (12/19)
لا يجوز لمن له كفاية أخذ الجعل على الشهادة
فصل : ومن له كفاية فليس له أخذ الجعل على الشهادة لأنه أداء فرض فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا وإن لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه حل له أخذه والنفقة على عياله فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية فإذا أخذ الرزق جمع الأمرين وإن تعينت عليه الشهادة احتمل ذلك أيضا واحتمل أن لا يجوز لئلا يأخذ العوض عن أداء فرض عين وقال أصحاب الشافعي : لا يجوز الأجرة لمن تعينت عليه وهل يجوز لغيره ؟ على وجهين (12/20)
من سمع أو نظر متيقنا شهد وإن لم ير المشهود به والمرأة في ذلك كالرجل
مسألة : قال : وما أدركه من الفعل نظرا أو سمعه تيقنا وإن لم ير المشهود عليه شهد به
وجملة ذلك أن الشهادة لا تجوز إلا بما عمله بدليل قول الله تعالى : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } وقوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وتخصيصه لهذه الثلاثة بالسؤال لأن العلم بالفؤاد وهو يستند إلى السمع والبصر ولأن مدرك الشهادة الرؤية والسماع وهما بالبصر والسمع وروي عن ابن عباس أنه قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الشهادة قال : هل ترى الشمس قال : نعم قال : على مثلها فاشهد أو دع ] رواه الخلال في الجامع بإسناده إذا ثبت هذا فأن مدرك العلم الذي تقع به الشهادة اثنان : الرؤية والسماع وما عداهما من مدارك العلم كالشم والذوق و اللمس لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب فأما يقع بالرؤية فالأفعال كالغضب والإتلاف والزنا وشرب الخمر وسائر الأفعال وكذلك الصفات المرئية كالعيوب في المبيع ونحوها فهذا لا تتحمل الشهادة إلا بالرؤية لأنه تمكن الشهادة عليه قطعا فلا يرجع إلى غير ذلك وأما السماع فنوعان :
أحدهما : من المشهود عليه مثل العقود كالبيع والإجارة وغيرهما من الأقوال فيحتاج إلى أن يسمع كلام المتعاقدين ولا نعتبر رؤية العقد إذا عرفهما وتيقن أنه كلامهما وبهذا قال ابن عباس و الزهري و ربيعه و الليث و شريح و عطاء و ابن أبي ليلى و مالك وذهب أبو حنيفة و الشافعي إلى أن الشهادة لا تجوز حتى يشاهد القائل المشهود عليه لأن الأصوات تشتبه فلا يجوز أن يشهد عليها من غير رؤية كالخط
ولنا أنه عرف المشهود عليه يقينا فجازت شهادته كما لو رآه وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور وإنما تجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقينا وقد يحصل العلم بالسماع يقينا وقد اعتبره الشرع بتجويزه الرواية من غير رؤية ولهذا قبلت رواية الأعمى ورواية من روى عن أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم من غير محارمهن
وأما النوع الثاني فسنذكره إن شاء الله تعالى في المسألة التي تلي هذا
فصل : إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه جاز أن يشهد عليه حاضرا كان غائبا وإن لم يعرف ذلك لم يجز أن يشهد عليه مع غيبته وجاز أن يشهد عليه حاضرا بمعرفة عينه ونص عليه أحمد قال مهنا : سألت أحمد عن رجل شهد لرجل بحق له على رجل وهو لا يعرف أسم هذا ولا اسم هذا إلا أنه يشهد له فقال : إذا قال : أشهد أن لهذا على هذا وهما شاهدان جميعا فلا بأس وإن كان غائبا فلا يشهد حتى يعرف اسمه
فصل : والمرأة كالرجل في أنه إذا عرفها وعرف اسمها ونسبها جاز أن يشهد عليها مع غيبتها وإن لم يعرفها لم يشهد عليها مع غيبتها قال أحمد في رواية الجماعة : لا تشهد إلا لمن تعرف وعلى من تعرف ولا يشهد إلا على امرأة قد عرفها وإن كانت ممن قد عرف اسمها ودعيت وذهبت وجاءت فليشهد وإلا فلا يشهد فأما إن لم يعرفها فلا يجوز أن يشهد مع غيبتها ويجوز أن يشهد على عينها إذا عرف عينها ونظر إلى وجهها قال أحمد : ولا يشهد على امرأة حتى ينظر إلى وجهها وهذا محمول على الشهادة على من لم يتيقن معرفتها فأما من تيقن معرفتها وتعرف بصوتها يقينا فيجوز أن يشهد عليها إذا تيقن صوتها على ما قدمناه في المسألة قبلها فإن لم يعرف المشهود عليه فعرفه عنده ومن يعرفه فقد روي عن أحمد أنه قال : لا يشهد على شهادة غيره إلا بمعرفته لها وقال : لا يجوز للرجل أن يقول للرجل : أنا أشهد أن هذه فلانة ويشهد على شهادته وهذا صريح في المنع من الشهادة على من لا يعرفه بتعريف غيره وقال القاضي : يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب لتجويزه الشهادة بالاستفاضة وظاهر قوله المنع منه وقال أحمد : لا يشهد على امرأة إلا بإذن زوجها وهذا يحتمل أنه لا يدخل عليها بيتها ليشهد عليها إلا بإذن زوجها لما روى عمرو بن العاص قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يستأذن على النساء إلا بإذن أزواجهن رواه أحمد في مسنده فأما الشهادة عليها في غير بيتها فجائزة لأن إقرارها صحيح وتصرفها إذا كانت رشيدة صحيح فجاز أن يشهد عليها به (12/20)
حكم ما لو عرف الشاهد خطه ونسي أنه شهد به
فصل : وإذ عرف الشاهد خطه ولم يذكر أنه شهد به فهل يجوز له أن يشهد بذلك ؟ فيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز أن يشهد بها قال أحمد في رواية حرب في من يرى خطه وخاتمه ولا يذكر الشهادة ؟ وقال : لا يشهد إلا بما يعلم وقال في رواية غيره : يشهد إذا عرف خطه وكيف تكون الشهادة إلا هكذا ؟ وقال في موضع آخر : إذا عرف خطه ولم يحفظ فلا يشهد إلا أن يكون منسوخا عنده موضوعا تحت ختمه وحرزه فيشهد وإن لم يحفظ وقال أيضا : إذا رديء الحفظ فيشهد ويكتبها عنده وهذه رواية ثالثة : وهو أن يشهد إذا كانت مكتوبة عنده بخطه في حرزه ولا يشهد إذا لم تكن كذلك بمنزلة القاضي في إحدى الروايتين إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه أمضاه ولا يمضيه إذا لم يكن كذلك (12/23)
في الشهادة على ما تظاهرت به الأخبار
مسألة قال : وما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في قلبه شهد به كالشهادة على النسب والولادة
هذا النوع الثاني من السماع وهو يعلمه بالاستفاضة وأجمع أهل العلم على صحة الشهادة بها في النسب والولادة قال ابن المنذر : أما النسب فلا أعلم أحدا من أهل العلم منع منه ولو منع ذلك لاستحالت معرفة الشهادة به إذ لا سبيل إلى معرفته قطعا بغيره ولا تمكن المشاهدة فيه ولو اعتبرت المشاهدة لما عرف أحد أباه ولا أمه ولا أحدا من أقاربه وقال : قال الله تعالى : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } واختلف أهل العلم فيما تجوز عليه الشهادة بالاستفاضة غير النسب والولادة فقال أصحابنا هو تسعة أشياء : النكاح والملك والمطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية والعذل وبهذا قال أبو سعيد الاصطخري وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : لا تجوز في الوقف والولاء والعتق والزوجية لأن الشهادة ممكنة فيه بالقطع فإنها شهادة بعقد فأشبه سائرالعقود قال أبو حنيفة : لا تقبل إلا في النكاح والموت ولا تقبل في الملك المطلق لأنها شهادة بمال أشبه بالدين وقال صاحباه : يقبل في الولاء مثل عكرمة مولى ابن عباس
ولنا أن هذه الأشياء تتعذر الشهادة عليها في الغالب بمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها فجازت الشهادة عليها بالاستفاضة كالنسب قال مالك : ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بالسماع وقال مالك : السماع في الأحباس والولاء جائز وقال أحمد في رواية المروذي : اشهد أن دار بختان لبختان وإن لم يشهدك وقيل له : تشهد أن فلانة امرأة فلان ولم تشهد النكاح ؟ فقال : نعم إذا كان مستفيضا فأشهد أقول إن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن خديخة وعائشة زوجاه وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة فإن قيل : يمكنه العلم في هذه الأشياء بمشاهدة السبب قلنا : وجود السبب لا يفيد العلم بكونه سببا يقينا فإنه يجوز أن يشتري ما ليس بملك البائع ويصطاد صيدا صاده غيره ثم انفلت منه وإن تصور ذلك فهو نادر وقول أصحاب الشافعي تمكن الشهادة في الوقف باللفظ لا يصح لأن الشهادة ليست بالعقود ههنا وإنما يشهد بالوقف الحاصل بالعقد فهو بمنزلة الملك وكذلك يشهد بالزوجية دون العقد وكذلك الحرية والولاء وهذه جميعها لا يمكن القطع بها كما لا يمكن القطع بالملك لأنها مترتبة على الملك فوجب أن تجوز الشهادة فيها بالاستفاضة كالملك سواء قال مالك : ليس عندنا من شهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا على السماع إذا ثبت هذا فكلام أحمد و الخرقي يقتضي أن لا يشهد بالاستفاضة حتى تكثر به الأخبار ويسمعه من عدد كثير يحصل به العلم لقول الخرقي فيما تظاهرت به الأخبار واستقرت معرفته في القلب يعني حاصل العلم به وذكر القاضي في المجرد أنه يكفي أن يسمع من أثنين عد لين ويسكن قلبه إلى خبرهما لأن الحقوق تثبت بقول اثنين وهذا قول المتأخرين من أصحاب الشافعي والقول الأول هو الذي يقتضيه لفظ الاستفاضة فأنها مأخوذة من فيض الماء لكثرته ولأنه لو اكتفي فيه بقول اثنين لا يشترط فيه ما يشترط في الشهادة على الشهادة وإنما اكتفي بمجرد السماع (12/24)
إذا كان في يد رجل دار يتصرف بها تصرف الملاك جازت الشهادة أنها له
فصل : فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى والإعارة والإجارة والعمارة والهدم والبناء من غير منازع فقال أبو عبد الله بن حامد : يجوز أن يشهد له بملكها وهو قول أبي حنيفة و الاصطخري من أصحاب الشافعي قال القاضي : ويحتمل أن لا يشهد إلا بما شاهده من الملك واليد والتصرف لأن اليد ليست منحصرة في الملك قد تكون بإجارة وإعارة وغصب وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ووجه الأول أن اليد دليل الملك واستمرارها من غير منازع يقويها فجرت مجرى الاستفاضة فجاز أن يشهد بها كما لو شهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة واحتمال كونها من غصب أوإجارة يعارضه استمرار اليد من غير منازع فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب اليد فإن احتمال كون البائع غير مالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا ههنا فإن قيل : فإذا بقي الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم قلنا : الظن يسمى علما قال الله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات } ولا سبيل إلى العلم اليقيني ههنا فجازت بالظن (12/26)
إذا سمع رجلا يقول لصبي هذا ابني جاز أن يشهد به
فصل : وإذا سمع رجلا يقول لصبي : هذا ابني جاز أن يشهد به لأنه مقر بنسبه وإن سمع الصبي يقول : هذا أبي والرجل يسمعه فسكت جاز أن يشهد أيضا لأن سكوت الأب إقرار له والإقرار يثبت النسب فجازت الشهادة به وإنما أقيم السكوت ههنا مقام الإقرار لأن على الانتساب الباطل جائز بخلاف سائر الدعاوى ولأن النسب يغلب فيه الإثبات ألا ترى أنه يلحق بالإمكان في النكاح ؟ وذكر أبو الخطاب أنه يحتمل أن لا يشهد مع السكوت حتى يتكرر لأن السكوت ليس بإقرار حقيقي وإنما أقيم مقامه فاعتبرت تقويته بالتكرار كما اعتبرت تقوية اليد في العقار بالاستمرار (12/26)
حكم ما لو شهد عدلان أن فلانا مات وخلف فلانا وفلانا
فصل : وإذا شهد عدلان أن فلانا مات وخلف من الورثة فلانا وفلانا لا نعلم وارثا غيرهما قبلت شهادتهما وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي و العنبري وقال ابن أبي ليلى : لا تقبل حتى يبينا أنه لا وارث له سواهما
ولنا أن هذا مما لا يمكن علمه فيكفي فيه الظاهر مع شهادة الأصل بعدم وارث آخر قال أبو الخطاب : سواء كانا من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا ويحتمل أن لا تقبل إلا من أهل الخبرة الباطنة لأن عدم علمهم بوارث آخر ليس بدليل على عدمه بخلاف أهل الخبرة الباطنة فإن الظاهر أنه لو كان له وارث آخر لم يخف عليهم وهذا قول الشافعي فأما إن قالا : لا نعلم له وارثا بهذه البلدة أو بأرض كذا وكذا لم تقبل وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : يقضى به كما لو قالا : لا نعلم له وارثا وذكر ذلك مذهبا ل أحمد أيضا
ولنا أن هذا ليس بدليل على عدم الوارث لأنهما قد يعلمان أنه لا وارث له في تلك الأرض ويعلمان له وارثا في غيرها فلم تقبل شهادتهما كما لو قالا : لا نعلم له وارثا في هذا البيت (12/27)
شروط الشهادة
مسألة : قال : من لم يكن من الرجال والنساء عاقلا مسلما بالغا عدلا لم تجز شهادته
وجملته أن يعتبر في الشاهد سبعة شروط : أحدها : أن يكون عاقلا ولا تقبل شهادة من ليس بعاقل إجماعا قاله ابن المنذر وسواء ذهب عقله بجنون أو سكر أو طفولية وذلك لأنه ليس بمحصل ولا تحصل الثقة بقوله ولأنه لا يأثم بكذبه ولا يتحرز منه الثاني : أن يكون مسلما ونذكر هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى الثالث : أن يكون بالغا فلا تقبل شهادة صبي لم يبلغ بحال يروى هذا عن ابن عباس وبه قال القاسم و سالم و عطاء و مكحول و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و أبو حنيفة وأصحابه وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن شهادتهم تقبل في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحالة التي تجارحوا عليها وهذا قول مالك
لأن الظاهر صدقهم وضبطهم فإن تفرقوا لم تقبل شهادتهم لأنه يحتمل أن يلقنوا قال ابن الزبير : إن أخذوا عند مصاب ذلك فبالحري أن يعقلوا ويحفظوا وعن الزهري أن شهادتهم جائزة ويستحلف أولياء المشجوج وذكره عن مروان وروي عن أحمد رواية ثالثة أن شهادته تقبل إذا كان ابن عشر قال ابن حامد : فعلى هذه الرواية تقبل شهادتهم في غير الحدود والقصاص كالعبيد وروي عن علي رضي الله عنه أن شهادة بعضهم تقبل على بعض وروي ذلك عن شريح و الحسن و النخعي قال إبراهيم كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض فيما كان بينهم قال المغيرة : وكان أصحابنا لا يجيزون شهادتهم على رجل ولا على عبد
وروى الإمام أحمد بإسناده عن مسروق قال : كنا عند علي فجاءه خمسة غلمة فقالوا : إنا كنا ستة غلمة نتغاط فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الاثنين أنهما غرقاه وشهد الاثنان على الثلاثة أنهم غرقوه فجعل على الاثنين ثلاثة أخماس الدية وجعل على الثلاثة خمسيها وقضى بنحو هذا مسروق والمذهب أن شهادتهم لا تقبل في شيء لقول الله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وقال : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال : { ممن ترضون من الشهداء } والصبي ممن لا يرضى وقال : { ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه } فأخبر أن الشاهد الكاتم لشاهدته آثم والصبي لا يأثم فيدل على أنه ليس بشاهد ولأن الصبي لا يخاف من مأثم الكذب فينزعه عنه ويمنعه منه فلا تحصل الثقة بقوله ولأن من لا يقبل قوله على نفسه في الإقرار لا تقبل شهادته على غيره كالمجنون ويحقق هذا أن الإقرار أوسع لأنه يقبل من الكافر والفاسق والمرأة ولا تصح الشهادة منهم ولأن من لا تقبل شهادته في المال لا تقبل في الجراح كالفاسق ومن لا تقبل شهادته على من ليس بمثله لا تقبل على مثله كالمجنون
الشرط الرابع : العدالة لقول الله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ولا تقبل شهادة الفاسق لذلك ولقول الله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } فأمر بالتوقف عن نبأ الفاسق والشهادة نبأ فيجب التوقف عنه وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ولا ذي غمر على أخيه ] رواه أبو عبيده وكان أبو عبيده لا يراه خص بالخائن والخائنة أمانات الناس بل جميع ما افترض الله تعالى على العباد القيام به اجتنابه من صغير ذلك وكبيره قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال } الآية وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا يؤسر رجل بغير العدول ولأن دين الفاسق لم يزعه عن ارتكاب محظورات الدين فلا يؤمن أن لا يزعه عن الكذب فلا تحصل الثقة بخبره إذا تقرر هذا فالفسوق نوعان :
أحدهما : من حيث الأفعال فلا نعلم خلافا في رد شهادته والثاني : من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد البدعة فيوجب رد الشهادة أيضا وبه قال مالك و شريك و إسحاق و أبوعبيد و أبو ثور وقال شريك : أربعة لا تجوز شهادتهم : ( رافضي ) يزعم أن له إماما مفترضة طاعته ( وخارجي ) يزعم أن الدنيا دار حرب ( وقدري ) يزعم أن المشيئة إليه ( ومرجئ ) ورد شهادة يعقوب وقال : ألا أرد شهادة من يزعم أن الصلاة ليست من الأيمان ؟ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي : المختلفون على ثلاثة أضرب : ( ضرب ) اختلفوا في الفروع فهؤلاء لا يفسقون بذلك ولا ترد شهادتهم وقد اختلف الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التابعين
الثاني : من نفسقه ولا نكفره وهو من سب القرابة كالخوارج أو سب الصحابة كالروافض فلا تقبل لهم شهادة لذلك
الثالث : من نكفره وهو من قال بخلق القرآن ونفي الرؤية وأضاف المشيئة إلى نفسه فلا تقبل له شهادة وذكر القاضي أبو يعلي مثل هذا سواء قال : وقال أحمد : ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة وظاهر قول الشافعي و ابن أبي ليلى و أبي حنيفة وأصحابه قبول شهادة أهل الأهواء وأجاز سوار شهادة ناس من بني العنبر ممن يرى الاعتزال قال الشافعي : إلا يكونوا ممن يرى الشهادة بالكذب بعضهم لبعض كالخطابية وهم أصحاب أبي الخطاب يشهد بعضهم لبعض بتصديقه
ووجه قول من أجاز شهادتهم أنه اختلاف لم يخرجهم عن الإسلام أشبه الاختلاف في الفروع ولان فسقهم لا يدل على كذبهم لكونهم ذهبوا إلى ذلك تدينا واعتقادا أنه الحق ولم يرتكبوه عالمين بتحريمه بخلاف فسق الأفعال
قال أبو الخطاب : ويتخرج على قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض أن الفسق الذي يتدين به من جهة الاعتقاد لا ترد الشهادة به وقد روي عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن داعية فكذلك الشهادة ولنا أنه أحد نوعي الفسق فترد به الشهادة كالنوع الآخر ولأن المبتدع فاسق فترد شهادته للآية والمعنى
الشرط الخامس : أن يكون متيقظا حافظا لم يشهد به فإن كان مغفلا أو معروفا بكثرة الغلط لم تقبل شهادته
الشرط السادس : أن يكون ذا مروءة
الشرط السابع : انتفاء الموانع وسنشرح هذه الشروط في مواضعها إن شاء الله تعالى (12/28)
شهادة البدوي على القروي وشهادة القروي على البدوي
فصل : ظاهر كلام الخرقي أن شهادة البدوي على من هو من أهل القرية وشهادة أهل القرية على البدوي صحيحة إذا اجتمعت هذه الشروط وهو قول ابن سيرين و أبي حنيفة و الشافعي و أبو ثور واختاره أبو الخطاب
وقال الإمام أحمد أخشى أن لا تقبل شهادة البدوي على صاحب القرية فيحتمل هذا أن لا تقبل شهادته وهو قول الجماعة من أصحابنا ومذهب أبي عبيد وقال مالك كقول أصحابنا فيما عدا الجراح وكقول الباقين في الجراح احتياطا للدماء واحتج أصحابنا بما روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة عن النبي أنه قال [ لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ] ولأنه منهم حيث عدل عن أن يشهد قرويا وأشهد بدويا قال أبو عبيد : ولا أرى شهادتهم ردت إلا لما فيهم من الجفاء بحقوق الله تعالى والجفاء في الدين
ولنا أن من قبلت شهادته على أهل البدو قبلت شهادته على أهل القرية كأهل القرى ويحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ونخصه بهذا لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم فيعرف عدالته (12/32)
العدل من لم تظهر منه ريبة
مسألة : قال : والعدل من لم تظهر منه ريبة وهذا قول إبراهيم النخعي وإسحاق
وجملته أن العدل هو الذي تعتدل أحواله في دينه وأفعاله قال القاضي : يكون ذلك في الدين والمروءة والأحكام أما الدين فلا يرتكب كبيرة ولا يداوم على صغيرة فإن الله تعالى أمر أن لا تقبل شهادة القاذف فقياس عليه كل مرتكب كبيرة ولا يخرجه عن العدالة فعل صغيرة لقول الله تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } قيل : اللمم صغار الذنوب ولأن التحرز منها غير ممكن جاء عن النبي
صلى الله عليه و سلم أنه قال :
[ إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما ؟ ]
أي لم يلم فإن لا مع الماضي بمنزلة لم مع المستقبل وقيل اللمم يلم الذنوب ثم يعود فيه والكبائر كل معصية فيها حد والإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وشهادة الزور وعقوق الوالدين
وروى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وعقوق الوالدين ـ وكان متكئا فجلس فقال : ـ ألا قول الزور وقول الزور ] فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليه
قال أحمد : ولا تجوز شهادة آكل الربا والعاق وقاطع الرحم ولا تقبل شهادة من لا يؤدي زكاة ماله وإذا أخرج في الطريق المسلمين الأسطوانة والكنيف لا يكون عدلا ولا يكون ابنه عدلا إذا ورث أباه حتى يرد ما أخذه من طريق المسلمين ولا يكون عدلا إذا كذب الكذب الشديد لأن النبي صلى الله عليه و سلم رد شهادة رجل في كذبه
وقال عن الزهري وعن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود في الحد ولا ذي غمر على أخيه في عداوة ولا القاطع لأهل البيت ولا مجرب عليه شهادة زور ولا ضنين في ولاء ولا قرابة ] وقد رواه أبو داود وفيه [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه ] فأما الصغائر فإن كان مصرا عليها ردت شهادته وإن كان الغالب من أمره الطاعات يرد لما ذكرنا من عدم إمكان التحرز منه
وأما المروءة فاجتناب الأمور الدنيئة المزرية به وذلك نوعان أحدهما : من الأفعال كالأكل في السوق يعني به الذي ينصب مائدة في السوق ثم يأكل والناس ينظرون ولا يعني به أكل الشيء اليسير كالكسرة ونحوها وإن كان يكشف ما جرت العادة بتغطيته من بدنه أو يمد رجليه في مجمع الناس أو يتمسخر بما يضحك الناس به أو يخاطب امرأته أو جاريته أو غيرهما بحضرة الناس بالخطاب الفاحش أو يحدث الناس بمباضعته أهله ونحو هذا من الأفعال الدنيئة ففاعل هذه لا تقبل شهادته لأن هذا سخف ودناءة فمن رضيه لنفسه واستحسنه فليست له مروءة فلا تحصل الثقة بقوله قال أحمد في رجل شتم بهيمة قال الصالحون : لا تقبل شهادته حتى يتوب
وقد روى أبو مسعود البدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ] يعني من لم يستح صنع ما شاء ولأن المروءة تمنع الكذب وتزجر عنه ولهذا يمتنع منه ذو المروءة وإن لم يكن ذا دين
وقد روي عن أبي سفيان أنه حين سأله قيصر عن النبي صلى الله عليه و سلم وصفته فقال : والله لولا أني كرهت أن يؤثر عني الكذب لكذبته ولم يكن يومئذ ذا دين ولأن الكذب دناءة والمروءة تمنع من الدناءة وإذا كانت المروءة مانعة من الكذب اعتبرت في العدالة كالدين ومن فعل شيئا من هذا مختفيا به لم يمنع من قبول شهادته لأن مروءته لا تسقط به وكذلك إن فعله مرة أو شيئا قليلا لم ترد شهادته ولأن صغير المعاصي لا يمنع الشهادة إذا قل فهذا أولى ولأن المروءة لا تختل بقليل هذا ما لم يكن عادته
النوع الثاني : في الصناعات الدنيئة كالكساح والكناس لا تقبل شهادتهما لما روى سعيد في سننه أن رجلا أتى ابن عمر فقال له : إني رجل كناس قال : أي شيء تكنس ؟ الزبل ؟ قال : لا قال : فالعذرة ؟ قال : نعم قال : منه كسبت المال ومنه تزوجت ومنه حججت ؟ قال : نعم قال : الأجر خبيث وما تزوجت خبيث حتى تخرج منه كما دخلت فيه وعن ابن عباس مثله في الكساح ولأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات فأشبه الذي قبله فأما الزبال والقراد والحجام ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقبل شهادتهم لأنه دناءة يجتنبه أهل المروءات فهو كالذي قبله
والثاني : تقبل : لأن بالناس إليه حاجة فعلى هذا الوجه إنما تقبل شهادته إذا كان يتنظف للصلاة في وقتها ويصليها فإن صلى بالنجاسة لم تقبل شهادته وجها واحدا وأما الحائك والدباغ فهي أعلى من هذه الصنائع فلا ترد بها الشهادة وذكرها أبو الخطاب في جملة ما فيه وجهان
وأما سائر الصناعات التي لا دناءة فيها فلا ترد الشهادة بها إلا من كان منهم يحلف كاذبا أو يعد ويخلف وغلب هذا عليه فإن شهادته ترد وكذلك من كان منهما يؤخر الصلاة عن أوقاتها أو لا يتنزه عن النجسات فلا شهادة له ومن كانت صناعته محرمة كصانع المزامير والطنابير فلا شهادة له ومن كانت صناعته يكثر فيها الربا كالصائغ والصيرفي ولم يتوق ذلك ردت شهادته (12/33)
لعب النردشير والقمار والشطرنج والحمام يرد الشهادة
فصل : في اللعب كل لعب فيه قمار فهو محرم أي لعب كان وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته وما خلا من القمار وهو اللعب الذي لا عوض فيه من الجانبين ولا من أحدهما فمنه ما هو محرم ومنه ما هو مباح فأما المحرم فاللعب بالنرد وهذا قول أبي حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي قال بعضهم : وهم مكروه غير محرم
ولنا ما روى أبو موسى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من لعب بالنردشير فقد عصى الله ورسوله ] وروى بريدة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه ] رواهما أبو داود وكان سعيد بن جبير إذا مر على أصحاب النردشير لم يسلم عليهم
إذا ثبت هذا فمن تكرر منه اللعب به لم تقبل شهادته سواء لعب قمارا أو غير قمار وهذا قول أبي حنيفة و مالك وظاهر مذهب الشافعي قال مالك : من لعب بالنرد فلا أرى شهادته طائلة لأن الله تعالى قال : { فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ } وهذا ليس من الحق فيكون من الضلال
فصل : فأما الشطرنج فهو كالنرد في التحريم إلا أن النرد آكد منه في التحريم لورود النص في تحريمه ولكن هذا في معناه فيثبت فيه حكمه قياسا عليه
وذكر القاضي أبو حسين ممن ذهب إلى تحريمه علي ابن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب و القاسم و سالما و عروة و محمد بن علي بن الحسين و مطر الوراق و مالكا وهو قول أبي حنيفة وذهب الشافعي إلى إباحته وحكى ذلك أصحابه عن أبي هريرة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير واحتجوا بأن الأصل الإباحة ولم يرد بتحريمها نص ولا هي في المعنى المنصوص عليه فتبقى على الإباحة ويفارق الشطرنج النرد من وجهين :
أحدهما : أن الشطرنج تدبير الحرب فأشبه اللعب بالحراب والرمي بالنشاب والمسابقة بالخيل
والثاني : أن المعول في النرد على ما يخرجه الكعبتان فأشبه الأزلام والمعول في الشطرنج على حذقه بتدبيره فأشبه المسابقة بالسهام
ولنا قول الله تعالى : { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } قال علي رضي الله عنه : الشطرنج من الميسر ومر علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ قال أحمد أصح ما في الشطرنج قول علي رضي الله عنه
وروى واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن شاء الله عز و جل ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين ليس لصاحب الشاه فيها نصيب ] رواه أبو بكر بإسناده ولأنه لعب يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة فأشبه اللعب بالنرد
وقولهم : لا نص فيها قد ذكرنا فيها نصا وهي أيضا في المعنى النرد المنصوص على تحريمه وقولهم إن فيها تدبير الحرب قلنا : لا يقصد هذا منها وأكثر اللاعبين بها إنما يقصدون منها اللعب أو القمار وقولهم : إن المعول فيها على تدبيره فهو أبلغ في اشتغاله بها وصدها عن ذكر الله والصلاة
إذا ثبت هذا فقال أحمد : النرد أشد من الشطرنج وإنما قال لورود النص في النرد والإجماع على تحريمها بخلاف الشطرنج وإذا ثبتتحريمها فقال القاضي : هوكالنرد في رد الشهادة به وهذا قول مالك و أبو حنيفة لأنه محرم مثله
وقال أبو بكر : إن فعله من يعتقد تحريمه فهو كالنرد في حقه وإن فعله من يعتقد إباحته لم ترد شهادته إلا أن يشغله عن الصلاة في أوقاتها أو يخرجه إلى الحلف الكاذب ونحوه من المحرمات أو يلعب بها على الطريق أو يفعل في لعبه ما يستخف به من أجله ونحو هذا مما يخرجه عن المروءة وهذا مذهب الشافعي وذلك لأنه مختلف فيه فأشبه سائر المختلف فيه
فصل : واللاعب بالحمام يطيرها لا شهادة له وهذا قول أصحاب الرأي وكان شريح لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام وذلك لأنه سفه ودناءة وقلة مروءة ويتضمن أذى الجيران بطيره وإشرافه على دورهم ورميه إياها بالحجارة
وقد رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا يتبع حماما فقال : [ شيطان يتبع شيطانه ] وإن اتخذ الحمام لطلب فراخها أو لحمل الكتب أو للأنس بها من غير أذى يتعدى إلى الناس لم ترد شهادته وقد روى عبادة بن الصامت [ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فشكا إليه الوحشة فقال اتخذ زوجا من الحمام ] (12/36)
المسابقة المشروعة
فصل : فأما المسابقة المشروعة بالخيل وغيرها من الحيوانات أو على الأقدام فمباحة لا دناءة فيها ولا ترد به الشهادة وقد ذكرنا مشروعية ذلك في باب المسابقة وكذلك ما في معناه من الثقاف واللعب بالحراب [ وقد لعب الحبشة بالحراب بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وقامت عائشة خلفه تنظر إليهم وتستتر به حتى ملت ] ولأن في هذا تعلما للحرب فإنه من آلاته فأشبه المسابقة بالخيل والمناضلة وسائر اللعب إذا لم يتضمن ضررا ولا شغلا عن فرض فالأصل إباحته فما كان منه فيه دناءة يترفع عنه ذوو المروءات منع الشهادة إذا فعله ظاهرا تكرر ومنه وما كان منه لا دناءة فيه لم ترد بها الشهادة بحال (12/39)
فصل في الملاهي
وهي على ثلاثة أضرب : ( محرم ) وهو ضرب الأوتاد والنايات والمزامير كلها والعود والطنبور والمعزفة والرباب ونحوها فمن أدام استماعها ردت شهادة لأنه يروى عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا ظهرت في أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء ] فذكر منها إظهار المعازف والملاهي
وقال سعيد ثنا فرج بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله بعثني رحمة للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير لا يحل بيعهن ولا شراؤهن ولا تعليمهن ولا التجارة فيهن وثمنهن حرام ] يعني الضاربات
وروي نافع قال : سمع ابن عمر مزمارا قال فوضع إصبعيه في أذنيه عن الطريق وقال لي : يا نافع هل تسمع شيئا ؟ قلت لا قال فرفع إصبعيه من أذنيه وقال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا رواه الخلال في جامعه من طريقين ورواه أبو داود في سننه وقال : حديث منكر
وقد احتج قوم بهذا الخبر على إباحة المزمار وقالوا : لو كان حراما لمنع النبي ابن عمر من سماعه ومنع عمر نافعا من استماعه ولأنكر على الزامر بها قلنا : أما الأول فلا يصح لأن المحرم استماعه دون سماعها والاستماع غير السماع ولهذا فرق الفقهاء في سجود التلاوة بين السامع والمستمع ولم يوجبوا على من سمع شيئا محرما سد أذنيه وقال الله تعالى : { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه } ولم يقل سدوا آذانهم والمستمع هو الذي يقصد السماع ولم يوجد هذا من ابن عمر وإنما وجد منه السماع ولأن النبي في حاجة إلى معرفة انقطاع الصوت عنه لأنه عدل عن الطريق وسد أذنيه فلم يكن ليرجع إلى الطريق ولا يرفع عن أذنيه حتى ينقطع الصوت عنه فأبيح للحاجة
وأما الإنكار فلعله كان في أول الهجرة حين لم يكن واجبا أو قبل إمكان الإنكار لكثرة الكفار وقلة أهل الإسلام فإن قيل : فهذا الخبر ضعيف فإن أبا داود رواه وقال : وهو حديث منكر قلنا : قد رواه الخلال بإسناد من طريقين فلعل أبا داود ضعفه لأنه لم يقع له إلا من إحدى الطريقين
وضرب مباح وهو الدف فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف ] أخرجه مسلم وذكر أصحابنا وأصحاب الشافعي أنه مكروه في غير النكاح لأنه يروي عن عمر أنه كان إذا سمع الدف بعث فنظر فإن كان في وليمة سكت وإن كان في غيرها عمد بالدرة
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أن امرأة جاءته فقالت : إني نذرت إن رجعت من سفرك سالما أن أضرب على رأسك بالدف فقال النبي صلى الله عليه و سلم أوفي بنذرك ] رواه أبو داود ولو كان مكروها لم يأمرها به وإن كان منذورا
وروت الربيع بنت معوذ قالت [ دخل علي رسول الله سلى الله عليه وسلم صبيحة بنى بي فجعلت جويريات يضربن بدف لهن ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر إلى أن قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في غد فقال : دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين ] متفق عليه
وأما الضرب به للرجال فمكروه وعلى كل حال لأنه إنما كان يضرب به النساء والمخنثون المتشبهون بهن ففي ضرب الرجال تشبه بالنساء وقد لعن النبي صلى الله عليه و سلم المتشبهين من الرجال بالنساء
فأما الضرب بالقضيب فمكروه إذا انضم إليه محرم أو مكروه كالتصفيق والغناء والرقص وإن خلا عن ذلك كله لم يكره لأنه ليس بآلة ولا يطرب ولا يسمع منفردا بخلاف الملاهي ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا (12/40)
حكم الغناء
فصل : واختلف أصحابنا في الغناء فذهب أبو بكر الخلال وصاحبه أبو بكر عبد العزيز إلى إباحته : قال أبو بكر عبد العزيز : والغناء والنوح معنى واحد مباح ما لم يكن معه منكر ولا فيه طعن وكان الخلال يحمل الكراهية عن أحمد على الأفعال المذمومة لا على القول بعينه
وروي عن أحمد أنه سمع عند ابنه صالح قوالا فلم ينكر عليه وقال له صالح : يا أبه أليس كنت تكره هذا ؟ فقال إنه قيل لي إنهم يستعملون المنكر وممن ذهب إلى إباحته من غير الكراهية سعد بن إبراهيم وكثير من أهل المدينة والعنبري لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت [ كانت عندي جاريتان تغنيان فدخل أبو بكر فقال : مزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعهما فإنها أيام عيد ] متفق عليه
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : الغناء زاد الراكب واختار القاضي أنه مكروه غير محرم وهو قول الشافعي قال : هو من اللهو المكروه وقال أحمد : الغناء ينبت النفاق في القلب ولا يعجبني
وذهب آخرون من أصحابنا إلى تحريمه قال أحمد في من مات وخلف ولدا يتيما وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها : تباع ساذجة قيل له : أنها تساوي مغنية ثلاثين ألفا وتساوي ساذجة عشرين دينارا قال لا تباع إلا على أنها ساذجة واحتجوا على تحريمه بما روي عن أبي حنيفة في قوله تعالى { واجتنبوا قول الزور } قال : الغناء وقال ابن عباس وابن مسعود في قوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } قال : هو الغناء
وعن أبي أمامة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن شراء المغنيات وبيعهن والتجارة فيهن وأكل أثمانهن حرام ] أخرجه الترمذي وقال : لا نعرفه إلا من حديث علي بن يزيد وقد تكلم فيه أهل العلم وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ الغناء ينبت النفاق في القلب ] والصحيح أنه من قول ابن مسعود وعلى كل حال من اتخذ الغناء صناعة يؤتى له ويأتي له أو اتخذ غلاما أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس فلا شهادة له لأن هذا عند من لم يحرمه سفه ودناءة وسقوط مروءة ومن حرمه مع سفهه عاص مصر متظاهر بفسوقه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء وإنما يترنم لنفسه ولا يغني الناس أو كان غلامه وجاريته إنما يغنيان له انبنى هذا الخلاف فيه فمن أباحه أو كرهه لم ترد شهادته ومن حرمه قال إن داوم عليه ردت شهادته كسائر الصغائر وإن لم يداوم عليه لم ترد شهادته وإن فعله من يعتقد حله فقياس المذهب إنه لا ترد شهادته بما لا يشتهر به منه كسائر المختلف فيه من الفروع ومن كان يغشى بيوت الغناء أو يغشاه المغنون للسماع متظاهرا بذلك وكثر منه ردت شهادته في قولهم جميعا لأنه سفه ودناءة وإن كان معتبرا به كالمغني لنفسه على ما ذكر من التفصيل فيه (12/42)
حكم الحداء والشعر
فصل : وأما الحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل فمباح لا بأس به في فعله واستماعه : لما [ روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفره وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال وكان أنجشة مع النساء فقال النبي صلى الله عليه و سلم لابن رواحة : حرك القوم فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة فأعنقت الإبل فقال النبي صلى الله عليه و سلم لأنجشة رويدك رفقا بالقوارير ] يعني النساء وكذلك نشيد الأعراب وهو النصب لا بأس به وسائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يسمع إنشاد الشعر فلا ينكره والغناء من الصوت ممدود مكسور والغنى من المال مقصور والحداء مضموم ممدود كالدعاء و الرعاء ويجوز الكسر كالنداء والهجاء والغذاء
فصل : والشعر كالكلام حسنه كحسنه وقبحه كقبحه : وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إن من الشعر لحكما ] وكان يضع لحسان منبرا يقوم عليه فيهجو من هجا الرسول صلى الله عليه و سلم والمسلمين وأنشده كعب بن زهير في قصيدة بانت سعاد فقلبي اليوم متبول في المسجد وقال له عمه العباس : يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك فقال : قل لا يفضض الله فاك فأنشده :
( من قبلها طبت في الظلال ... وفي مستودع حيث يخصف الورق )
وقال عمرو بن الشريد [ أردفني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أمعك من شعر بني أمية ؟ قلت : نعم فأنشدته بيتا فقال : هيه فأنشدته بيتا فقال : هيه حتى أنشدته مائة قافية ] و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم حنين :
( أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب ) ]
وقد اختلف في هذا فقيل : ليس شعرا وإنما كلام موزون وقيل : بل هو شعر ولكنه بيت واحد قصير فهو كالنثر ويروي أبا الدرداء قيل له : ما من أهل بيت في الأنصار إلا وقد قال الشعر قال : وأنا قد قلت :
( يريد المرء أن يعطى مناه ... ويأبى الله إلا ما أرادا )
( يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما استفادا )
وليس في إباحة الشعر خلاف وقد قال الصحابة والعلماء والحاجة تدعو إليه لمعرفة اللغة والعربية والاستشهاد به في التفسير وتعرف معاني كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم ويستدل به أيضا على النسب والتاريخ وأيام العرب ويقال : الشعر ديوان العرب فإن قيل : فقد قال الله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا ] رواه أبو داود و أبو عبيد وقال معنى يريه : يأكل جوفه يقال : ورواه يريه قال الشاعر :
( وراهن ربي مثل ما قد ورينني ... وأحمى على أكبادهن المكاويا )
قلنا : أما الآية فالمراد بها من أسرف وكذب وبدليل وصفه لهم بقوله : { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ثم استثنى المؤمنين فقال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا } ولأن الغالب على الشعراء قلة الدين والكذب وقذف المحصنات وهجاء الأبرياء سيما من كان في ابتداء الإسلام ممن يهجو المسلمين ويهجو النبي صلى الله عليه و سلم ويعيب على الإسلام ويمدح الكفار فوقع الذم على الأغلب واستثنى منهم من لا يفعل الخصال المذمومة فالآية دليل على إباحته ومدح أهله المتصفين بالصفات الجميلة
وأما الخبر فقال أبو عبيد : معناه أن يغلب عليه الشعر حتى يشغله عن القرآن والفقه وقيل : المراد به ما كان كالهجاء وفحشا فما كان الشعر يتضمن هجوه المسلمين والقدح في أعراضهم أو التشبيب بامرأة بعينها والإفراط في وصفها فذكر أصحابنا أنه محرم وهذا إن أريد به أنه محرم على قائلة فهو صحيح وأما على راوية فلا يصح فإن المغازي تروى فيها قصائد الكفار الذين هاجوا بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينكر ذلك أحد
وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يوم بدر وأحد وغيرهما إلا قصيدة أمية بن أبي الصلت الحائية وكذلك يروى شعر قيس بن الحطيم في التشبيب بعمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة وأم النعمان بن بشير
وقد سمع النبي صلى الله عليه و سلم قصيدة كعب بن زهير وفيها التشبيب بسعاد ولم يزل الناس يرون أمثال هذا ولا ينكر وروينا أن النعمان بن بشير دخل مجلسا فيه رجل يغنيهم بقصيدة قيس بن الحطيم فلما دخل النعمان سكتوه من قبل أن فيها ذكر أمه فقال النعمان : دعوه فإنه لم يقل بأسا إنما قال :
( وعمرة من سروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها )
وكان عمران بن طلحة في مجلس فغناهم رجل بشعر فيه ذكر أمه فسكتوه من أجله فقال : دعوه فإن قائل هذا الشعر كان زوجها
فأما الشاعر فمتى كان يهجو المسلمين أو يمدح بالكذب أو يقذف مسلما أو مسلمة فإن شهادته ترد وسواء قذف المسلمة بنفسه أو بغيره وقد قيل : أعظم الناس ذنبا رجل يهاجي رجلا فيهجو القبيلة بأسرها وقد روينا أن أبا دلامة شهد عند قاض أظنه ابن أبي ليلى فخاف أن يرد شهادته فقال :
( إن الناس غطوني تغطيت عنهم ... وإن يحثوا عني ففيهم مباحث )
فقال القاضي : ومن يبحثك يا أبا دلامة وغرم المال من عنده ولم يظهر أنه رد شهادته (12/44)
قراءة القرآن بالألحان
أما قراءته من غير تلحين فلا بأس به وإن حسن صوته فهو أفضل فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ زينوا أصواتكم بالقرآن ] وروي [ زينوا القرآن بأصواتكم ] وقال : [ لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود ]
وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبي موسى : [ لقد مررت بك البارحة وأنت تقرأ ولقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود فقال أبو موسى : لو أعلم أنك تسمع لحبرته لك تحبيرا ]
وروي [ أن عائشة رضي الله عنها أبطأت على النبي صلى الله عليه و سلم ليلة فقال : أين كنت يا عائشة ؟ قالت : يا رسول الله كنت أستمع قراءة رجل في المسجد لم أسمع أحدا يقرأ أحسن من قراءته فقام النبي صلى الله عليه و سلم فاستمع قراءته ثم قال : هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا ] وقال صالح : قلت لأبي زينوا أصواتكم في القرآن ما معناه ؟ فقال : أن يحسنه وقيل له : ما معنى [ من لم يتغنى بالقرآن ] قال : يرفع صوته به وهكذا قال الشافعي وقال الليث يتحزن به ويتخشع به ويتباكى به وقال ابن عيينة وعمرو بن الحارث ووكيع : يستغني به
فأما القراءة بالتلحين فينظر فيه فإن لم يفرط في التمطيط والمد وإشباع الحركات فلا بأس به فإن النبي سلى الله عليه وسلم قد قرأ ورجع ورفع صوته قال الراوي : لولا يجتمع الناس علي لحكيت لكم قراءته وقال عليه السلام [ ليس منا من لم يتغن في القرآن ] وقال : [ ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ] ومعنى أذن استمع قال الشاعر : في سماع يأذن الشيخ له
وقال القاضي : وهو مكروه على كل حال ونحوه قول أبي عبيد وقال : معنى قوله [ ليس منا من لم يتغن بالقرآن ] أي يستغني به قال الشاعر :
( وكنت امرأ زمنا بالعراق ... عفيف المناخ كثير التغني )
قال : ولو كان من الغناء بالصوت لكان من لم يغن بالقرآن ليس من النبي صلى الله عليه و سلم وروي نحو هذا التفسير عن ابن عيينة وقال القاضي أحمد بن محمد البرني : هذا قول من أدركنا من أهل العلم وقال الوليد بن مسلم : يتغنى بالقرآن يجهر به وقيل : يحسن صوته به
والصحيح أن هذا القدر من التلحين لا بأس به لأنه لو كان مكروها لم يفعله النبي صلى الله عليه و سلم ولا يصح حمله على التغني في حديث [ ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن ] على الاستغناء لأن معنى أذن استمع وإنما تستمع القراءة ثم قال : يجهر به والجهر صفة القراءة لا صفة الاستغناء فأما إن أفرط في المد والتمطيط وإشباع الحركات بحيث يجعل الضمة واوا والفتحة ألفا والكسرة ياء كره ذلك ومن أصحابنا من حرمه لأنه يغير القرآن ويخرج الكلمات عن ضمها ويجعل الحركات حروفا
وقد روينا عن أبي عبد الله أن رجلا سأله عن ذلك فقال : ما اسمك ؟ قال محمد قال : أيسرك أن يقال لك : يا مو حامد ؟ قال لا فقال : لا يعجبني أن يتعلم الرجل الألحان إلا أن يكون حرمه مثل حرم أبي موسى فقال له رجل : فيكلمون فقال : لا كل ذا واتفق العلماء على أنه تستحب قراءة القرآن بالتحزين والترتيل والتحسين وروى بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ اقرؤوا القرآن بالحزن فإنه نزل بالحزن ] وقال المروذي : سمعت أبا عبد الله قال لرجل : لو قرأت وجعل أبو عبد الله ربما تغرغرت عينه وقال زهير بن حرب : كنا عند يحيى القطان فجاء محمد بن سعيد الترمذي فقال له يحيى : اقرأ فقرأ فغشي على يحيى حتى حمل فأدخل وقال محمد بن صالح العدوي : قرأت عند يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه حتى فاته خمس صلوات (12/47)
لا تقبل شهادة الطفيلي ومن سأله من غير أن تحل له المسأله
فصل : ولا تقبل شهادة الطفيلي وهو الذي يأتي طعام الناس من غير دعوة وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من أتى إلى طعام لم يدع إليه دخل سارقا وخرج معيرا ] ولأنه يأكل محرما ويفعل ما فيه سفه ودناءة وذهاب مروءة فإن لم يتكرر منه لم ترد شهادته لأنه من الصغائر
فصل : ومن سأل من غير أن تحل له المسألة فأكثر ردت شهادته لأنه فعل محرما وأكل سحتا وأتى دناءة وقد روى قبيصة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسالة حتى يصيب قواما من عيش ـ أوـ سداد من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش ـ أو ـ سدادا من عيش ورجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك فما سوى ذلك من المسالة فهو سحت يأكله صاحبه سحتا يوم القيامة ] رواه مسلم
وأما السائل ممن تباح له المسألة فلا ترد شهادته بذلك إلا أن يكون أكثر عمره سائلا أو يكثر ذلك منه فينبغي أن ترد شهادته لأن ذلك دناءة وسقوط مروءة ومن أخذ من الصدقة ممن يجوز له الأخذ من غير مسألة لم ترد شهادته لأنه فعل جائز لا دناءة فيه وإن أخذ منها لا يجوز له وتكرر ذلك منه ردت شهادته لأنه مصر على الحرام (12/50)
من فعل شيئا من الفروع مختلفا فيه لم ترد شهادته
فصل : ومن فعل شيئا من الفروع مختلفا فيه معتقدا إباحته لم ترد شهادته كالمتزوج بغير ولي أو بغير شهود وأكل متروك التسمية وشارب يسير النبيذ نص عليه أحمد في شارب النبيذ يحد ولا ترد شهادته وبهذا قال الشافعي وقال مالك : ترد شهادته لأنه فعل ما يعتقد الحاكم تحريمه فأشبه المتفق على تحريمه
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يختلفون في الفروع فلم يكن بعضهم يعيب من خالفه ولا يفسقه ولأنه نوع مختلف فيه فلم ترد شهادة فاعله كالذي يوافقه عليه الحاكم وإن فعل ذلك معتقدا تحريمه ردت شهادته به إذا تكرر وقال أصحاب الشافعي : لا ترد شهادته به لأنه فعل لا ترد به شهادة بعض الناس فلا ترد به الشهادة البعض الآخر كالمتفق على حله
ولنا أنه فعل يحرم على فاعله ويأثم به فأشبه المجمع على تحريمه وبهذا فارق معتقد حله وقد روي عن أحمد فيمن يجب عليه الحج ترد شهادته وهذا يحمل على من اعتقد وجوبه على الفور فأما من يعتقد أنه على التراخي ويتركه بنية فعله فلا ترد شهادته كسائر ما ذكرنا ويحتمل أن ترد شهادته مطلقا لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من قدر على الحج فلم يحج فيمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا ] وقال عمر : لقد هممت أن أنظر في الناس فمن وجدته يقدر على الحج ولا يحج ضربت عليه الجزية ثم قال : ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين (12/51)
تجوز شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر ولا تجوز في غير ذلك
مسألة : قال : وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم
وجملته أنه إذا شهد بوصية المسافر الذي مات في سفره شاهدان من أهل الذمة قبلت شهادتهما إذا لم يوجد غيرهما ويستحقان بعد العصر ما خانا ولا كتما ولا اشتريا به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين
قال ابن المنذر : وبهذا قال أكابر الماضين يعني الآية التي في سورة المائدة وممن قاله شريح و النخعي و الأوزاعي و يحيى بن حمزة وقضى بذلك ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما
وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا تقبل لأن من تقبل شهادته على غير الوصية لا تقبل في الوصية كالفاسق ولأن الفاسق لا تقبل شهادته فالكافر أولى واختلفوا في تأويل الآية فمنهم من حملها على التحمل دون الأداء ومنهم قال : المراد بقوله من غيركم أي من غير عشيرتكم ومنهم من قال : الشهادة في الآية اليمين
ولنا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } هذا نص الكتاب وقد قضى به رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه [ فروى ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن زيد فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم ] فنزلت فيهم { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الآية
وعن الشعبي أن رجلا من للمسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهد على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال : الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما رواهما أبو داود في سننه
وروى الخلال حديث أبي موسى بإسناده : وحمل الآية على أنه أراد من غير عشيرتكم لا يصح لأن الآية نزلت في قضية عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين وقد فسرها بما قلنا سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وعبيده وسعيد بن جبير والشعبي وسلمان التيمي وغيرهم ودلت عليه الأحاديث التي رويناه و لأنه لو صح ما ذكروه لم تجب الأيمان لأن الشاهدين من المسلمين لا قسامة عليهم وحملها على التحمل لا يصح لأنه أمر بأحلافهم ولا أيمان في التحمل وحملها على اليمين لا يصح لقوله { فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله } الآية ولأنه عطفها على ذوي العدل من المؤمنين وهما شاهدان
وروى أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ أن ابن مسعود قضى بذلك في زمن عثمان قال أحمد : أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى من أين يعرفونه ؟ فقد ثبت هذا الحكم بكتاب الله وقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وقضاء الصحابة به وعملهم بما ثبت في الكتاب والسنة فتعين المصير إليه والعمل به سواء وافق القياس أو خالفه
مسألة : قال : ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك
مذهب أبي عبد الله أن شهادة أهل الكتاب لا تقبل في شيء على مسلم ولا كافر غير ما ذكرنا رواه عنه نحو عشرين نفسا وممن قال لا تقبل شهادتهم الحسن و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أبو ثور ونقل حنبل عن أحمد أن شهادة بعضهم على بعض لم تقبل وخطأه الخلال في نقله هذا وكذلك صاحبه أبو بكر قال : هذا لا شك فيه وقال ابن حامد : المسألة على روايتين وقال أبو حفص البرمكي : تقبل شهادة السبي بعضهم لبعض في النسب إذا ادعى أحدهما أن الآخر أخوه والمذهب الأول والظاهر غلط من روى خلاف ذلك وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن شهادة بعض على بعض تقبل ثم اختلفوا فمنهم من قال : الكفر كله ملة واحدة فتقبل شهادة اليهودي على النصراني وشهادة النصراني على اليهودي هذا قول حماد و سوار و الثوري و البتي و أبي حنيفة وأصحابه وعن قتادة و الحكم و أبي عبيد و إسحاق : تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض ولا تقبل شهادة يهودي على نصراني ولا نصراني على يهودي وروي عن الزهري و الشعبي كقولنا وكقولهم واحتجوا بما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم [ أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ] ورواه ابن ماجة ولأن بعضهم يلي بعض فتقبل شهادة بعضهم على بعض كالمسلمين
ولنا قول الله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } والكافر ليس بذي عدل ولا هو منا ولا من رجالنا ولا ممن ترضاه ولأنه لا تقبل شهادته على غير أهل دينه فلا تقبل على أهل دينه كالحربي والخبر يرويه مجالد وهو ضعيف وإن ثبت فيحتمل أنه أراد اليمين فإنها تسمى شهادة قال الله تعالى في اللعان { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } وأما الولاية فمتعلقها القرابة والشفقة وقرابتهم ثابتة وشفقتهم كشفقة المسلمين وجازت لموضع الحاجة فإن غير أهل دينهم لا يلي عليهم والحاكم يتعذر عليه ذلك لكثرتهم بخلاف الشهادة فإنها ممكنة من المسلمين وقد روي عن معاذ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يقبل شهادة أهل دين إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم ] (12/52)
لا تقبل شهادة خصم جار إلى نفسه ولا دافع عنها
مسألة قال : ولا تقبل شهادة خصم ولا جار إلى نفسه ولا دافع عنها
أما الخصم فهو نوعان أحدهما : كل خصم في حق لا تقبل شهادته فيه كالوكيل لا تقبل شهادته فيما هو وكيل فيه ولا الوصي فيما هو وصي فيه والشريك فيما هو شريك فيه ولا المضارب بمال أو حق للمضاربة ولو غصب الوديعة من المودع وطالب بها لم تقبل شهادته فيها وكذلك ما أشبه هذا لأنه خصم فيه فلم تقبل شهادته به كالمالك والثاني : العدو فشهادته غير مقبولة على عدوه في قول أكثر أهل العلم وروي ذلك عن ربيعه و الثوري و إسحاق و مالك و الشافعي ويريد بالعداوة ههنا العداوة الدنيوية مثل أن يشهد المقذوف على القاذف والمقطوع عليه على القاطع والمقتول وليه القاتل والمجروح على الجارح والزوج يشهد على امرأته بالزنا فلا تقبل شهادته لأنه يقر بنفسه على عدواته لها لإفسادها فراشه
فأما العداوة في الدين كالمسلم يشهد على الكافر أو الحق من أهل السنة يشهد على مبتدع فلا ترد شهادته لأنه العدالة في الدين والدين يمنعه من ارتكاب محظور دينه وقال أبو حنيفة : لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخل العدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة
ولنا ما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه ] رواه أبو داود الغمر الحقد ولأن العداوة تورث التهمة فتمنع الشهادة كالقرابة القريبة وتخالف الصداقة فإن شهادة الصديق لصديقه بالزور تقع غيره بمضرة نفسه وبيع آخرته بدنيا غيره وشهادة العدو يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا فإن قيل : فلم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة ؟ قلنا : العداوة هاهنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور ولا أن يترك دينه بموجب دينه (12/56)
حكم ما لو شهد بحق فقذفه المشهود عليه
فصل : فإن شهد على رجل بحق فقذفه المشهود عليه لم ترد شهادته بذلك لأننا لو أبطلنا شهادته بهذا لتمكن كل المشهود عليه من إبطال شهادة الشاهد بأن يقذفه ويفارق ما لو طرأ الفسق بعد أداء الشهادة وقبل الحكم فإن رد الشهادة فيه لا يقضي إلى ذلك بل إلى عكسه ولأن طريان الفسق يورث تهمة في حال أداء الشهادة لأن العادة إسراره فظهوره بعد أداء الشهادة يدل على أنه كان يسره حاله أدائها وههنا حصلت العداوة بأمر لا تهمة على الشاهد فيه وأما المحاكمة في الأموال فليست بعداوة تمنع الشهادة في غير ما حاكم فيه
وأما قوله ولا جار إلى نفسه فإن الجار إلى نفسه هو الذي ينتفع بشهادته ويجر إليه بها نفعا كشهادة الغرماء للمفلس بدين أو عين وشهادتهم للميت بدين أو مال فإنه لو ثبت للمفلس أو الميت دين أو مال تعلقت حقوقهم به ويفارق ما لو شهد الغرماء لحي لا حجر عليه بمال فإن شهادتهم تقبل لأن حقهم لا يتعلق في ماله وإنما يتعلق بذمته
فإن قيل : إذا كان معسرا سقطت عنه المطالبة فإذا شهدا له بمال ملكا مطالبته فجروا إلى أنفسهم نفعا قلنا : لم تثبت المطالبة بشهادتهم إنما تثبت بيساره وإقراره لدعواه الحق الذين شهدوا به ولا تقبل شهادة الوارث للموروث بالجرح قبل الاندمال لأنه قد يسري الجرح إلى نفسه فتجب الدية لهم بشهادتهم ولا شهادة الشفيع ببيع شقص له فيه الشفعة ولا شهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة ولا لمكاتبه قال القاضي : ولا تقبل شهادة الأجير لمن استأجره وقال : نص عليه أحمد
فإن قيل : فلم قبلتم الشهادة الوارث لموروثه مع أنه مات فقد جر إلى نفسه شهادة نفعا قلنا : لا حق له في المال حين الشهادة وإنما يحتمل أن يتجدد له حق وهذا لا يمنع لقبول الشهادة كما لو شهد لامرأة يحتمل أن يتزوجها أو لغريم له بمال يحتمل أنه يوفيه منه أو يفلس فيتعلق حقه به وإنما المانع يحصل للشاهد به نفع حال الشهادة
فإن قيل : فقد منعتم قبول شهادته لموروثة بالجرح قبل الاندمال لجواز أن يتجدد له الحق وإن لم يكن له حق في الحال فإن قلتم : قد انعقد سبب حقه قلنا : يبطل بالشاهد لموروثة المريض بحق فإن الشهادة تقبل مع انعقاد سبب استحقاقه بدليل أن عطيته له لا تنفذ وعطيته لغيره تقف على الخروج من الثلث قلنا إنما منعنا الشهادة لموروثة بالجرح لأنه ربما أفضى بالموت فتجب الدية للوارث الشاهد به ابتداء فيكون شاهدا لنفسه موجبا له بها حقا ابتداء بخلاف الشاهد للمريض أو المجروح بمال فإنه إنما يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل ويجوز أن لا ينتقل فلم يمنع الشهادة له كالشهادة لغريمه فإن قيل : فقد أجزتم شهادة الغريم لغريمه بالجرح قبل الاندمال كما أجزتم شهادته له بماله
قلنا : إنما أجزناها لأن الدية ابتداء لا تجب للشاهد إنما تجب للقتيل أو لورثته ثم يستوفي الغريم منها فأشبهت الشهادة له بالمال
وأما الدافع عن نفسه فمثل أن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود أو تشهد عاقلة القاتل خطأ بجرح الشهود الذين شهدوا به لما فيه من دفع الدية عن أنفسهم فإن كان الشاهدان بالجرح فقيرين احتمل قبول شهادتهما لأنهما لا يحملان شيئا من الدية واحتمل أن لا تقبل لأنه يخاف أن يوسرا قبل الحول فيحملا وكذلك الخلاف في البعيد الذي لا يحمل لبعده فإنه لا يأمن أن يموت من هو أقرب منه قبل الحول فيحمل ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق أو الإبراء منه ولا شهادة أحد الشفيعين على الآخر بإسقاط شفعته لأنه يوفر الحق على نفسه ولا شهادة بعض غرماء المفلس على بعضهم البعض بإسقاط دينه أو استيفائه ولا بعض من أوصى له بمال على آخر بما يبطل وصيته إذا كانت وصيته تحصل بها مزاحمته إما لضيق الثلث عنهما أو لكون الوصيتين بمعين فهذا وأشباهه لا تقبل الشهادة فيه لأن الشاهد به متهم لما يحصل بشهادته من نفع نفسه ودفع الضرر عنها فيكون شاهدا لنفسه
وقد قال الزهري : مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة الخصم ولا ظنين والظنين المتهم وروى طلحة بن عبد الله بم عوف قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا شهادة لخصم ولا ظنين ] ممن رد شهادة الشريك لشريكه شريح و النخعي و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا (12/57)
تقبل شهادة الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه
فصل : وإن شهد الشريك لشريكه في غير ما هو شريك فيه الوكيل لموكله في غير ما هو وكيل فيه أو العدو لعدوه أو الوارث لموروثه بمال أو بالجرح بعد الاندمال أو شهد أحد الشفيعين بعد أن أسقط شفعته على الآخر بإسقاط شفعته أو أحد الموصيين بعد سقوط وصيته على الآخر بما يسقط وصيته أو كانت إحدى الوصيتين لا تزاحم ونحو ذلك مما لا تهمة فيه قبلت لأن المقتضي لقبول الشهادة متحقق والمانع منتف فوجب قبولها عملا بالمقتضى (12/61)
لا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة
مسألة : قال : ولا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة
وجملته أنه يعتبر في الشاهد أن يكون موثوقا بقوله لتحصل غلبة الظن بصدقه ولذلك اعتبرنا العدالة ومن يكثر غلطه وتغفله لا يوثق بقوله لاحتمال أن يكون من غلطاته فربما شهد على غير من استشهد عليه أو لغير من شهد له أو بغير ما استشهد به وإذا كان مغفلا فربما استزله الخصم بغير شهادته فلا تحصل الثقة بقوله ولا يمنع من الشهادة وجود غلط نادر أو غفلة نادرة لأن أحدا لا يسلم من ذلك فلو منع ذلك من الشهادة لانسد بابها فاعتبرنا الكثرة في المنع كما اعتبرنا كثرة المعاصي في الإخلال بالعدالة (12/61)
تجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
مسألة : قال : وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت
روي هذا عن ابن عباس وبه قال ابن سيرين و عطاء و الشعبي و الزهري و مالك و ابن أبي ليلى و إسحاق و ابن المنذر
وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا تقبل شهادته وروي ذلك عن النخعي و أبي هاشم واختلف عن الحسن و إياس و ابن أبي ليلى وأجاز الشافعي شهادته بالاستفاضة والترجمة وإذا أقر عند أذنه ويد الأعمى على رأسه ثم ضبطه حتى حضر عند الحاكم فشهد عليه ولم يجزها في غير ذلك لأن من لا تجوز شهادته على الأفعال لا تجوز على الأقوال كالصبي ولأن الأصوات تتشبه فلا يحصل اليقين فلن تجز أن يشهد بها كالخط
ولنا قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } وسائر الآيات في الشهادة ولأنه رجل عدل مقبول الرواية فقبلت شهادته كالبصير وفارق الصبي فإنه ليس برجل ولا عدل ولا مقبول الرواية ولأن السمع أحد الحواس التي تحصل بها اليقين وقد يكون المشهود عليه من ألفه الأعمى وكثرت صحبته له وعرف صوته يقينا فيجب أن تقبل شهادته فيما تيقنه كالبصير ولا سبيل إلى إنكار حصول اليقين في بعض الأحوال
قال قتادة : للسمع قيافة كقيافة البصر ولهذا قال أصحاب الشافعي : تقبل شهادته فيما يثبت بالاستفاضة ولا يثبت عندهم حتى يسمعها من عدلين ولا بد أن يعرف عدالتهما فإذا صح أن يعرف الشاهدين صح أن يعرف المقر ولا خلاف في قبول روايته وجواز استماعه من زوجته إذا عرف صوتها وصحة قبوله النكاح وجواز اشتباه الأصوات كجواز اشتباه الصور ويفارق الأفعال فإن مدركها الرؤية وهي غير ممكنة من الأعمى والأقوال مدركها السمع وهو يشارك البصير فيه وربما زاد عليه ويفارق الخط فإنه لو تيقن من كتب الخط أو رآه وهو يكتبه لم يجز أن يشهد بما كتب فيه إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز أن يشهد إلا إذا تيقن الصوت وعلم المشهود عليه يقينا فإن جواز أن يكون صوت غيره لم يجز أن يشهد به كما لو اشتبه على البصير المشهود عليه فلم يعرفه (12/62)
حكم ما لو تحمل الشهادة ثم عمي
فصل : فإن تحمل الشهادة على فعل ثم عمي جاز أن يشهد به إذا عرف عليه باسمه ونسبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تجوز أصلا أن يكون حاكما
ولنا ما تقدم به ولأن العمى فقد حاسة لا تخل بالتكلف فلم يمنع قبول الشهادة كالصمم ويفارق الحكم فإنه يعتبر له من شروط الكمال وما لا يعتبر للشهادة و لذلك يعتبر له السمع والاجتهاد وغيرهما فإن لم يعرف المشهود عليه باسمه ونسبه لكن تيقن صوته لكثرة إلفه له صح أن يشهد به أيضا لما ذكرنا في أول المسألة
وإن شهد عند الحاكم ثم عمي قبل الحكم بشهادته جاز الحكم بها وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : لا يجوز الحكم بها لأنه معنى يمنع قبول الشهادة مع صحة النطق فمنع الحكم كالفسق
ولنا أنه معنى طرأ بعد أداء الشهادة لا يورث تهمة في حال الشهادة فلم يمنع قبولها كالموت وفارق الفسق فإنه يورث تهمة حال الشهادة (12/63)
لا تجوز شهادة الأخرس بحال
فصل : ولا تجوز شهادة الأخرس بحال نص عليه أحمد رضي الله عنه فقال : لا تجوز شهادة الأخرس قيل له : وإن كتبها ؟ قال : لا أدري وهذا قول أصحاب الرأي وقال مالك و الشافعي و ابن المنذر : تقبل إذا فهمت إشارته لأنها تقوم مقام نطقه في أحكامه من طلاقه ونكاحه و ظهاره و إيلائه فكذلك في شهادته واستدل ابن المنذر [ بأن النبي صلى الله عليه و سلم أشار وهو جالس في الصلاة إلى الناس وهم قيام أن اجلسوا فجلسوا ]
ولنا أنها شهادة بالإشارة فلم تجز كإشارة الناطق يحققه أن الشهادة يعتبر فيها اليقين ولذلك لا يكتفي بإيمان الناطق ولا يحصل اليقين بالإشارة وإنما اكتفى بإشارته في أحكامه المختصة به للضرورة ههنا ولهذا لم يجزأن يكون حاكما لأن الحاكم لا يمضي حكمه إذا وجد حكمه بخطه تحت ختمه ولم يذكر حكمه والشاهد لا يشهد برؤية خطه فلأن لا يحكم بخط غيره أولى
وما استدل به ابن المنذر لا يصح فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان قادرا على الكلام وعمل بإشارته في الصلاة ولو شهد الناطق بالإيمان والإشارة لم يصح إجماعا فعلم أن الشهادة مفارقة لغيرها من الأحكام (12/64)
لا تجوز شهادة الوالدين للولد وإن علوا ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا
مسألة : قال : ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا
ظاهر المذهب أن شهادة الوالد لولده لا تقبل ولا لولد ولده وإن سفل وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات ولا تقبل شهادة الولد لوالده ولا لوالدته ولا جده ولا جدته من قبل أبيه وأمه وإن علوا وسواء في ذلك الآباء والأمهات وآبائهم وأمهاتهم وبه قال شريح و الحسن و الشعبي و النخعي و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد وأصحاب الرأي
وروي عن أحمد رحمه الله رواية ثانية تقبل شهادة الابن لأبيه ولا تقبل شهادة الأب له لأن مال الابن في حكم مال الأب له أن يمتلكه إذا شاء فشهادته له شهادة لنفسه أو يجر بها لنفسه نفعا قال النبي صلى الله عليه و سلم [ أنت ومالك لأبيك ] وقال : [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم ] لا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه وعنه رواية ثالثة تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه في ما لا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنى عنه لأن كل واحد منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك فلا تهمة بحقه وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شهادة كل واحد منهما للآخر مقبولة
وروي ذلك عن شريح وبه قال عمر بن عبد العزيز و أبو ثور المزني و إسحاق و ابن المنذر لعموم الآيات ولأنه تقبل شهادته في غير هذا فتقبل شهادته فيه كالأجنبي
ولنا ما روى الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة ولا ولاء ] و الظنين المتهم والأب يتهم لولده لأن ماله كماله بما ذكرنا ولأن بينهما بعضية فكأنه يشهد لنفسه ولهذا قال عليه السلام : [ فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ] ولأنه متهم في الشهادة لولده كتهمة العدو في الشهادة على عدوه والخبر أخص في الآيات فتخص به (12/65)
حكم شهادة أحد الوالدين على الآخر
فصل : فأما شهادة أحدهما على صاحبه فتقبل نص عليه أحمد وهذا قول عامة أهل العلم ولم أجد عن أحمد في الجامع فيه خلافا وذلك لقول الله تعالى : { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } فأمر بالشهادة عليهم ولو لم تقبل لما أمر بها ولأنها إنما ردت للتهمة في إيصال النفع ولا تهمة في شهادته عليه فوجب أنه تقبل كشهادة الأجنبي بل أولى فإن شهادته لنفسه لما ردت للتهمة في إيصال النفع إلى نفسه كان إقراره عليه مقبولا وحكي القاضي في المجرد رواية أخرى أن شهادة أحدهما لا تقبل على صاحبه لأن شهادته له غير مقبولة فلا تقبل عليه كالفاسق
وقال بعض الشافعية : لا تقبل شهادة الابن في قصاص ولا حد قذف لأنه لا يقتل بقتله ولا يحد بقذفه فلا يلزمه ذلك والمذهب الأول لما ذكرنا ولأنه يتهم له ولا يتهم عليه فشهادته عليه أبلغ في الصدق كإقراره على نفسه (12/67)
إذا شهد اثنان بطلاق ضرة أمهما قبلت شهادتهما
فصل : وإن شهد اثنان بطلاق ضرة أمهما وقذف زوجها لها قبلت شهادتهما لأن حق أمهما لا يزداد به سواء كان المشهود عليه أباهما أو أجنبيا وتوفير الميراث لا يمنع قبول الشهادة بدليل قبول شهادة الوارث لموروثه (12/67)
تجوز شهادة الرجل لابنه من الرضاعة وأبيه منها وسائر أقاربه منها
فصل : وتجوز شهادة الرجل لابنه من الرضاعة وأبيه منها وسائر أقاربه منها لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق والصلة وعتق أحدهما على صاحبه وتبسطه في ماله بخلاف قرابة النسب (12/68)
لا تجوز شهادة العبد لسيده ولا السيد لعبده
مسألة : قال : ولا السيد لعبده ولا العبد لسيده
أما شهادة السيد لعبده فغير مقبولة لأن مال العبد لسيده فشهادته له شهادة لنفسه ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من باع عبدا وله ماله فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ] ولا نعلم في هذا خلافا ولا تقبل شهادته أيضا له بنكاح ولا لأمته بطلاق لأن في طلاق أمته تخليصها له وإباحة بضعها له وفي نكاح العبد نفع له ونفع مال الإنسان نفع له ولا تقبل شهادة العبد لسيده لأنه يتبسط في مال سيده وينتفع به ويتصرف فيه وتجب نفقته منه ولا يقطع بسرقته فلا تقبل شهادته له كالابن مع أبيه (12/68)
لا تجوز شهادة الزوج لامرأته ولا المرأة لزوجها
مسألة قال ولا الزوج لامرأته ولا المرأة لزوجها
وبهذا قال الشافعي و النخعي و مالك و إسحاق و أبو حنيفة وأجاز شهادة كل واحد منهما لصاحبه شريح و الحسن و الشافعي و أبو ثور لأنه عقد على منفعة فلا يمنع قبول الشهادة كالإجارة وعن أحمد رواية أخرى كقولهم وقال الثوري و ابن إسحاق و ابن أبي ليلى : تقبل شهادة الرجل لامرأته لأنه لا تهمة في حقه ولا تقبل شهادتها له لأن يساره وزيادة حقها في النفقة تحصل بشهادتها له بالمال فهي متهمة لذلك
ولنا أن كل واحد منهما يرث الآخر من غير حجب ويتبسط في ماله عادة فلم تقبل شهادته له كالابن مع أبيه ولأن يسار الرجل يزيد نفقة امرأته ويسار المرأة تزيد به قيمة بضعها المملوك لزوجها فكان كل واحد منهما ينتفع بشهادته لصاحبه فلم تقبل كشهادته لنفسه ويحقق هذا أن مال كل واحد منهما يضاف إلى مال الآخر قال الله تعالى : { وقرن في بيوتكن } وقال { لا تدخلوا بيوت النبي } فأضاف البيوت إليهن تارة وإلى النبي صلى الله عليه و سلم أخرى وقال { لا تخرجوهن من بيوتهن } وقال عمر للذي قال له إن غلامي سرق مرآة امرأتي : لا قطع عليه عبدكم سرق مالكم ويفارق عقد الإجارة من هذه الوجوه كلها (12/69)
وتجوز شهادة الأخ لأخيه كما تجوز شهادة العم والخال وسائر الأقارب
مسألة : قال : وشهادة الأخ لأخيه جائزة
قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم أن شهادة الأخ لأخيه جائزة وروى هذا ابن الزبير وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز و الشعبي و النخعي و الثوري و مالك و الشافعي و أبو عبيد و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي
وحكي عن ابن المنذر عن الثوري أنه لا تقبل شهادة كل ذي رحم محرم وعن مالك أنه لا تقبل شهادته لأخيه إذا كان منقطعا إليه في صلته وبره لأنه متهم في حقه وقال ابن المنذر : قال مالك : لا تجوز شهادة الأخ لأخيه في النسب وتجوز في الحقوق
ولنا عموم الآيات ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته له كالأجنبي ولا يصح القياس على الوالد والولد لأن بينهما بعضية وقرابة قوية بخلاف الأخ
فصل : وشهادة العم وابنه والخال وابنه وسائر الأقارب أولى بالجواز فإن شهادة الأخ إذا أجيزت مع قربه كان تنبيها على شهادة من هو أبعد منه بطريق الأولى
فصل : وتقبل شهادة أحد الصديقين لصاحبه في قول عامه العلماء إلا مالكا قال : لا تقبل شهادة الصديق والملاطف لأنه يجر إلى نفسه نفعا بها فهو متهم فلم تقبل شهادته كشهادة العدو على عدوه
ولنا عموم أدله الشهادة وما قاله يبطل شهادة الغريم للمدين قبل الحجر وإن كان ربما قضاه دينه منه فجر إلى نفسه نفعا أعظم مما يرجى ههنا ين الصديقين فأما العداوة فسببها محظور وفي الشهادة عليه شفاء غيظه منه فخالفت الصداقة (12/70)
تجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء
مسألة : قال : وتجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : في قبول شهادة العبد فيما عدا الحدود والقصاص فالمذهب أنها مقبولة روي ذلك عن علي و أنس رضي الله عنهما قال أنس : ما علمت أن أحدا رد شهادة العبد وبه قال عروة و شريح و إياس و ابن سيرين و البتي و أبو ثور و داود و ابن المنذر وقال عطاء و مجاهد و الحسن و مالك و الأوزاعي و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و أبو عبيد : لا تقبل شهادته لأنه غير ذي مروءة ولأنها مبنية على الكمال لا تتبعض فلم يدخل فيها العبد كالميراث وقال الشعبي و النخعي و الحكم : تقبل في الشيء اليسير
ولنا عموم آيات الشهادة وهو داخل فيها فإنه من رجالنا وهو عدل تقبل روايته وفتياه وأخباره الدينية وروى عقبه بن الحارث قال : [ تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكم فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كيف وقد زعمت ذلك ] متفق عليه و [ في رواية أبي داود فقلت : يا رسول الله إنها لكاذبة قال : وما يدريك وقد قالت ما قالت دعها عنك ] ولأنه عدل غير متهم فتقبل شهادته كالحر ولا نسلم أنه غير ذي مروءة فإنه كالحر ينقسم إلى من له مروءة ومن لا مروءة له وقد يكون منهم الأمراء والعلماء والصالحون والأتقياء
سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبد فقال : أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب وكان منهم زياد ابن أبي زياد مولى ابن عباس من العلماء الزهاد وكان عمر بن عبد العزيز يرفع قدره ويكرمه ومنهم عكرمة مولى ابن عباس أحد العلماء الثقات وكثير من العلماء الموالي كانوا عبيدا أو أبناء عبيد لم يحدث فيهم بالإعتاق إلا الحرية والحرية لا تغير طبعا ولا تحدث علما ولا مروءة ولا يقبل منهم إلا من كان ذا مروءة ولا يصح قياس الشهادة على الميراث فإن الميراث خلافة للموروث في ماله وحقوقه والعبد لا تمكنه الخلافة لأن ما يصير إليه يملكه فلا يمكن أن يختلف فيه ولأن الميراث يقتضي التملك والعبد لا يملك ومبني الشهادة على العدالة التي هي مظنة وحصول الثقة من القول والعبد أهل لذلك فوجب أن تقبل شهادته
الفصل الثاني : أن شهادته لا تقبل في الحد وفي القصاص احتمالان : أحدهما : تقبل شهادته فيه لأنه حق آدمي لا يصح الرجوع عن الإقرار به فأشبه الأموال والثاني : لا تقبل لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات الحد وذكر الشريف و الخطاب في العقوبات كلها من الحدود والقصاص روايتين : إحداهما : تقبل لما ذكرنا ولأنه رجل عدل فتقبل شهادته فيها كالحر والثانية : لا تقبل وهو ظاهر المذهب لأن الاختلاف في قبول شهادته في الأموال نقص وشبهة فلم تقبل شهادته فيما يدرأ بالشبهات ولأنه ناقص الحال فلم تقبل شهادته في الحد والقصاص كالمرأة
الفصل الثالث : شهادة الأمة جائزة فيما تجوز فيه شهادة النساء لأن النساء لا تقبل شهادتهن في الحدود والقصاص وإنما تقبل في المال أو سببه والأمة كالحرة فيما عداهما فساوتهن في الشهادة وقد دل عليه حديث عقبة بن الحارث
فصل : وحكم المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه حكم القن فيما ذكرنا لأن الرق فيهم وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لا تجوز شهادة المكاتب وبه قال عطاء و الشعبي و النخعي
ولنا ما ذكرناه في العبد إذا ثبت الحكم في القن ففي هؤلاء أولى لأنهم أكمل منه لوجود أسباب الحرية فيهم (12/71)
شهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره
مسألة : قال وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و الحسن و الشعبي و الزهري و إسحاق و أبو عبيد و أبو حنيفة وأصحابه وقال مالك و الليث لا تجوز شهادته في الزنا وحده لأنه متهم فإن العادة في من فعل قبيحا أنه يحب أن يكون له نظراء وحكي عن عثمان أنه قال : ودت الزانية أن النساء كلهن زنين
ولنا عموم الآيات وأنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا فقبل في الزنا كغيره ومن قبلت شهادته في القتل قبلت في الزنا كولد الرشدة قال ابن المنذر وما احتجوا به غلط من وجوه : أحدها : أن ولد الزنا لم يفعل فعلا قبيحا يجب أن يكون له نظراء فيه والثاني أنني لا أعلم ما ذكر عن عثمان ثابتا عنه وأشبه ذلك أن لا يكون ثابتا عنه وغير جائز أن يطلق عثمان كلاما بالظن عن ضمير امرأة لم يسمعها تذكره الثالث : أن الزاني لو تاب لقبلت شهادته وهو الذي فعل الفعل القبيح فإذا قبلت شهادته مع ما ذكروه فغيره أولى فأنه لا يجوز أن يلزم ولده من وزره أكثر مما لازمه وما يتعدى الحكم إلى غيره من غير أن يثبت فيه مع أن ولده لا يلزمه شيء من وزره لقول الله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وولد الزنا لم يفعل شيئا يستوجب به حكما (12/74)
إذا تاب القاذف قبلت شهادته وتوبته إن يكذب نفسه
مسألة : قال : وإذا تاب القاذف قبلت شهادته
جملته أن القاذف إن كان زوجا فحقق بينة أو لعان أو كان أجنبيا فحققه بالبينة أو بإقرار المقذوف لم يتعلق بقذفه فسق ولا حد ولا رد شهادة وإن لم يحقق قذفه بشيء من ذلك المتعلق به وجب الحد عليه والحكم بفسقه ورد شهادته لقول الله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } فإن تاب لم يسقط عنه الحد وزال الفسق بلا خوف وتقبل شهادته عندنا وروي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وابن عباس وبه قال عطاء و طاووس و مجاهد و الشعبي و الزهري و عبد الله بن عتبة و جعفر بن أبي ثابت و أبو الزناد و مالك و الشافعي و البتي و إسحاق و أبو عبيد و ابن المنذر وذكره ابن عبد البر عن يحي بن سعيد وربيعه وقال ضريح و الحسن و النخعي و سعيد بن جبير و الثوري و أصحاب الرأي : لا تقبل شهادته إذا جلد وإن تاب وعن أبي حنيفة ترد شهادته قبل الجلد وإن لم يتب فالخلاف معه في فصلين :
أحدهما : أنه عندنا تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه وعند أبي حنيفة و مالك لا تسقط إلا بالجلد
والثاني : أنه إذا تاب قبلت شهادته وإن جلد وعند أبي حنيفة لا تقبل وتعلق بقول الله تعالى : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } وروي ابن ماجة بإسناده عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ] واحتج في الفصل الآخر بأن القذف قبل حصول الجلد يجوز أن تقوم به البينة فلا يجب به التفسيق
ولنا في الفصل الأول إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه يروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول لأبي بكر حين يشهد على المغيرة بن شعبة : تب أقبل شهادتك ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعا قال سعيد ابن المسيب : شهد على المغيرة ثلاثة رجال : أبو بكرة ونافع بن الحارث وشبل بن معبد ونكل زياد فجلد عمر الثلاثة وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم وتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبى أبو بكرة فلم يقبل شهادته وكان قد عاد مثل النصل من العبادة ولأنه تائب من ذنبه فقبلت شهادته كالتائب من الزنا يحققه أن الزنا أعظم من القذف به وكذلك قتل النفس التي حرم الله وسائر الذنوب إذا تاب فاعلها قبلت شهادته فهذا أولى و أما الآية فهي حجة لنا فأنه استثنى التائبين بقوله تعالى : { إلا الذين تابوا } والاستثناء من النفي إثبات فيكون تقديره { إلا الذين تابوا } فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين فإن قالوا : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة التي تليه بدليل أنه لا يعود إلى الجلد قلنا : بل يعود إليه أيضا لأن هذه الجمل معطوف بعضها على بعض بالواو وهي للجمع تجعل الجمل كلها كالجملة الوحدة فيعود الاستثناء إلى جميعها إلا ما منع منه مانع ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ] عاد الاستثناء إلى الجملتين جميعا ولأن الاستثناء يغاير ما قبله فعاد إلى الجمل المعطوف بعضها على بعض بالواو كالشرط فإنه لو قال : امرأته طالق وعبده حر إن لم يقم عاد الشرط إليهما كذا الاستثناء بل عود الاستثناء إلى رد الشهادة أولى لأن رد الشهادة هو المأمور به فيكون هو الحكم والتفسيق خرج مخرج الخبر والتعليل لرد الشهادة فعود الاستثناء إلى الحكم المقصود أولى من رده إلى التعليل وحديثهم ضعيف يرويه حجاج بن أرطاة وهو ضعيف قال ابن عبد البر : لم يرفعه من روايته حجة وقد روي من غير طريقه ولم تذكر فيه هذه الزيادة فدل ذلك على أنها من غلطة ويدل على خطئه قبول شهادة كل محدود في غير القذف بعد توبته ثم لو قدر صحته المراد به من لم يتب بدليل كل محدود تائب سوى هذا
وأما الفصل الثاني : فدليلنا فيه الآية فإنه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء : إيجاب الجلد ورد الشهادة والفسق فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد ولأن الرمي هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة وتثبت به المعصية الموجبة لرد الشهادة والحد كفارة وتطهير فلا يجوز تعليق رد الشهادة به وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان جميعا به وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر وقولهم : إنما يتحقق بالجلد لا يصح لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه فلا يستوفى قبل تحقيق القذف وكيف يجوز أن يستوفى حد قبل تحقيق سببه ويصير متحققا بعده ؟ هذا باطل
فصل : والقاذف في الشتم ترد شهادته وروايته حتى يتوب والشاهد بالزنا إذا لم تكمل البينة تقبل روايته دون شهادته وحكي عن الشافعي أن شهادته لا ترد
ولنا أن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة وقال له : تب أقبل شهادتك وروايته مقبولة ولا نعلم خلافا في قبول رواية أبي بكرة و مع رد عمر شهادته
مسألة : قال : وتوبته أن يكذب نفسه
ظاهر كلام أحمد الخرقي أن توبة القاذف إكذاب نفسه فيقول : كنت : كذبت فيما قلت وهذا منصوص الشافعي واختيار الاصطخري من أصحابه قال ابن عبد البر : ومن قال هذا سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و الشعبي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب [ عن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } قال توبته إكذاب نفسه ] ولأن عرض المقذوف تلوث بقذفه فإكذابه نفسه يزيل التلوث فتكون التوبة به وذكر القاضي أن القذف إن كان سبا فالتوبة منه إكذاب نفسه وإن كان شهادة فالتوبة منه أن يقول القذف حرام باطل ولن أعود إلى ما قلت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي قال : وهو المذهب لأنه قد يكون صادقا فلا يؤمر بالكذب والخبر محمول على الإقرار بالبطلان لأنه نوع إكذاب
والأولى أنه متى علم من نفسه الصدق فيما قذف به فتوبته الاستغفار والإقرار ببطلان ما قاله وتحريمه وأنه لا يعود وإن لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه سواء كان القذف بشهادة أو سب لأنه قد يكون كاذبا في الشهادة صادقا في السب
ووجه الأول أن الله تعالى سمى القاذف كاذبا إذا لم يأت بأربعة شهداء على الإطلاق بقوله سبحانه { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله وإن كان في نفس الأمر صادقا
فصل : وكل ذنب تلزم فاعله التوبة منه متى تاب منه قبل الله توبته بدليل قوله تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم } الآية وقال : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من تاب من الذنب كمن لا ذنب له ] وقال عمر رضي الله عنه : بقية عمر المؤمن لا قيمة له يدرك فيه ما فات ويحيى فيه ما أمات ويبدل الله سيئاته حسنات
والتوبة على ضربين : باطنه وحكميه فأما الباطنة فهي بين العبد وربه تعالى فإن كانت المعصية لا توجب حقا عليه في الحكم كقبلة أجنبية أو الخلوة بها وشرب مسكر أو كذب فالتوبة منه ندم والعزم على أن لا يعود وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ الندم توبة ] وقيل : التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء الندم في القلب والاستغفار باللسان وإضمار أن لا يعود ومجانبة خلطاء السوء وإن كانت توجب عليه حقا لله تعالى أو لآدمي كمنع الزكاة والغصب فالتوبة منه بما ذكرنا وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدي الزكاة ويرد المغصوب أو مثله إن كان مثليا وإلا قيمته وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر عليه فإن كان عليه فيها حق البدن فإن كان حقا لآدمي كالقصاص وحد القذف اشترط في التوبة التمكين من نفسه وبذلها للمستحق وإن كان حقا لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر فتوبته أيضا بالندم والعزم على ترك العود ولا يشترط الإقرار به فإن كان لم يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه والتوبة فيما بينه وبين الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى فإنه من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد ] فإن الغامدية حين أقرت بالزنا لم ينكر عليها النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وإن كانت معصية مشهورة فذكر القاضي أن الأولى الإقرار به ليقام عليه الحد لأنه إذا كان مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحد عليه والصحيح أن ترك الإقرار أولى لأن النبي صلى الله عليه و سلم عرض للمقر عنده بالرجوع عن الإقرار فعرض لماعز وللمقر عنده بالسرقة بالرجوع مع اشتهاره عنه بإقراره وكره الإقرار حتى أنه قيل : لما قطع السارق : كأنما أسف وجهه رمادا ولم يرد الأمر بالإقرار ولا الحث عليه في كتاب ولا سنة ولا يصح له قياس إنما ورد الشرع بالستر والاستتار والتعريض للمقر بالرجوع عن الإقرار [ وقال لهزال وكان هو الذي أمر ماعزا بالإقرار : هزال لو سترته بثوبك كان خيرا لك ]
وقال أصحاب الشافعي : توبة هذا إقرار لقيام الحد عليه وليس بصحيح لما ذكرنا ولأن التوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجب ما قبلها كما ورد في الإخبار مع ما دلت عليه الآيات في مغفرة الذنوب بالاستغفار وترك الإصرار وأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها والرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها
فصل : ظاهر كلام أحمد و الخرقي أنه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة ولايته في النكاح إصلاح العمل وهو أحد القولين للشافعي وفي القول الآخر يعتبر إصلاح العمل إلا أن يكون ذنبه الشهادة بالزنا ولم يكمل عدد الشهود فإنه يكفي مجرد التوبة من غير اعتبار إصلاح وما عداه فلا تكفي التوبة حتى تمضي عليه سنة تظهر فيها توبة و يتبين فيها صلاحه وذكر أبو الخطاب هذا رواية ل أحمد لأن الله تعالى قال { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } وهذا نص فإنه نهى عنة قبول شهادتهم ثم استثنى التائب المصلح ولأن عمر رضي الله عنه لما ضرب صبيغا أمر بهجرانه حتى بلغه توبته فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة
ولنا قوله عليه السلام : [ التوبة تجب ما قبلها ] وقوله [ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ] ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ولأن التوبة من الشرك بالإسلام لا تحتاج إلى اعتبار ما بعده وهو أعظم الذنوب كلها فما دونه أولى فأما الآية فيحتمل أن يكون الإصلاح هو التوبة وعطفه عليها لاختلاف اللفظين ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك ولم يعتبر أمرا آخر ولأن من كان غاضبا فرد ما في يديه أو مانعا للزكاة فأداها وتاب إلى الله تعالى قد حصل منه الإصلاح وعلم منه نزوعه عن المعصية بأداء ما عليه ولو لم يرد التوبة ما أدى ما في يديه ولأن تقييده بالسنة تحكم لم يرد الشرع به والتقدير إنما يثبت بالتوقيف وما ورد عن عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة وكانت توبته بسبب الضرب والهجران فيحتمل أنه أظهر التوبة تسترا بخلاف مسألتنا
وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال : ومن علامة توبته أن يتجنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة بفعل يشبه الإكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة تظهر أن توبته على إخلاص لا على إكراه وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية : تب اقبل شهادتك قال مالك : لا أعرف هذا قال الشافعي : كيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتوبة وقاله عمر لأبي بكرة (12/75)
من ردت شهادته وهو غير عدل لم تقبل منه وهو عدل
مسألة : قال : ومن شهد بشهادة قد كان شهد بها وهو غير عدل وردت عليه لم تقبل منه في حال عدالته
وجملته أن الحاكم إذا شهد عنده فاسق فرد شهادته لفسقه ثم تاب وأصلح وأعاد تلك الشهادة لم يكن له أن يقبلها وقال بهذا الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور و المزني و داود : تقبل قال ابن المنذر : والنظر يدل على هذا لأنها شهادة عدل فتقبل كما لو شهد وهو كافر فردت شهادته ثم شهد بها بعد إسلامه
ولنا أنه متهم في أدائها لأنه يعير بردها و لحقته غضاضة لكونها ردت بسبب نقص يتغير به وصلاح حاله بعد ذلك من فعله يزول به العار فتلحقه تهمة في أنه قصد إظهار العدالة وإعادة الشهادة لتقبل فيزول ما حصل بردها ولأن الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد فعند ذلك نقول شهادة مردودة بالاجتهاد فلا تقبل بالاجتهاد لأن ذلك يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد وفارق ما إذا ردت شهادة كافر لكفره أو صبي لصغره أو عبد لرقه ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي وعتق العبد وأعادوا تلك الشهادة فإنها لا ترد لأنها لم ترد أولا بالاجتهاد وإنما ردت باليقين ولأن البلوغ والحرية ليسا من فعل الشاهد فيتهم في أنه فعلهما لتقبل شهادته والكافر لا يرى في كفره عارا ولا يترك دينه من أجل شهادته ردت عليه
وقد روي عن النخعي و الزهري و قتادة و أبي الزناد و مالك أنها ترد أيضا في حق من أسلم وبلغ وعن أحمد رواية أخرى كذلك لأنها شهادة مروءة فلم تقبل كشهادة من كان فاسقا وقد ذكرنا ما يقتضي فرقا بينهما فيفرقان وروي عن أحمد في العبد إذا ردت شهادته لرقه ثم عتق وادعى تلك الشهادة روايتان وقد ذكرنا أن الأولى أن شهادته تقبل لأن العتق من غير فعله وهو أمر يظهر بخلاف الفسق (12/83)
حكم ما لو شهد السيد لمكاتبه فردت شهادته
فصل : وإن شهد السيد لمكاتبه فردت شهادته أو شهد وارث لموروثة بالجرح قبل الاندمال فردت شهادته ثم عتق المكاتب وبرأ الجرح وأعادوا تلك الشهادة ففي قبولهما وجهان :
أحدهما : تقبل لأن زوال المانع ليس من فعلهم فأشبه زوال الصبي بالبلوغ ولأن ردها بسبب لا عار فيه فلا يتهم في قصد نفي العار بإعادتها بخلاف الفسق
والثاني : لا تقبل لأنه ردها باجتهاده فلا ينقضها باجتهاده والأول أشبه بالصحة فإن الأصل قبول شهادة العدل ما لم يمنع منه مانع ولا يصح القياس على الشهادة المردودة للفسق لما ذكرنا بينهما من الفرق ويخرج على هذا كل شهادة مردودة إما لتهمة أو لعدم الأهلية إذا أعادها بعد زوال التهمة ووجود الأهلية فهل تقبل ؟ على وجهين (12/84)
وحكم ما لو لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا
مسألة : قال : وإن كان لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا قبلت منه
وذلك لأن التحمل لا تعتبر فيه العدالة ولا البلوغ ولا الإسلام لأنه تهمة في ذلك وإنما يعتبر ذلك في الأداء فإذا رأى الفاسق شيئا أو سمعه ثم عدل وشهد به قبلت شهادته بغير خلاف نعلمه وهكذا الصبي والكافر إذا شهد بعد الإسلام والبلوغ قبلت وكذلك الرواية ولذلك كان الصبيان في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم يروون عنه بعد أن كبروا كالحسن والحسين وابن عباس والنعمان بن بشير وابن الزبير وابن جعفر والشهادة في معنى الرواية ولذلك اعتبرت لها العدالة وغيرها من الشروط المعتبرة للشهادة (12/85)
إذا شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه ما لا تجوز شهادته معه لم يحكم بها
مسألة : قال : ولو شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث ما لا تجوز شهادته معه لم يحكم بها
وجملة ذلك أن الشاهدين إذا شهدا عند الحاكم وهما ممن تقبل شهادته ولم يحكم بها حتى فسقا أو كفرا لم يحكم بشهادتهما وبهذا قال أبو يوسف و الشافعي وقال أبو ثور و المزني : يحكم بها لأن بقاء أهلية الشهادة ليس شرطا في الحكم بدليل ما لو ماتا ولأن فسقهما تجدد بعد أداء الشهادة فأشبه ما لو تجدد بعد الحكم بها ووجه ذلك من طريقين : أحدهما : أن عدالة الشاهد شرط للحكم فيعتبر دوامها إلى حين الحكم لأن الشروط لا بد من وجودها في المشروط وإذا فسق انتفى الشرط فلم يجز الحكم
والثاني : أن ظهور فسقه وكفره يدل على تقدمه لأن العادة أن الإنسان يسر الفسق ويظهر العدالة والزنديق يسر كفره ويظهر إسلامه فلا نأمن كونه كافرا أو فاسقا حين أداء الشهادة فلم يجز الحكم بها مع الشك فيها فأما إن حدث هذا منه بعد الحكم بشهادته لم ينقص لأن الحكم وقع صحيحا لاستمرار شرطه إلى انتهائه ولأنه قد وجد مقرونا بشرطه ظاهرا فلا ينقض بالشك كما لو رجع عن الشهادة وكما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء لكن إن كان ذلك قبل الاستيفاء وكان حدا لله تعالى لم يجز استيفاؤه بالشبهات لأنه يدرأ وهذا شبهة فيه فأشبه ما لو رجع عن الإقرار به قبل استيفائه وإن كان مالا استوفي لأن الحكم قد تم وثبت الاستحقاق بأمر ظاهر الصحة فلا يبطل بأمر محتمل ولذلك لم يبطل رجوعه عن إقراره وإن كان حد قذف أو قصاصا احتمل وجهين :
أحدهما : يستوفي وهذا قول أبي حنيفة لأنه حق آدمي مطالب به أشبه المال
والثاني : لا يستوفي وهو قول محمد لأنه عقوبة على البدن تدرأ بالشبهات أشبه الحد و ل الشافعي وجهان كهذين وأما ما حدث بعد الاستيفاء فلا يؤثر في حد ولا حق لأن الحق استوفي بما ظاهره الصحة وسوغ الشرع استيفاء فلم يؤثر فيه ما طرأ بعده كما لو لم يظهر شيء (12/85)
إن أديا الشهادة وهما من أهلها ثم ماتا قبل الحكم بها حكم الحاكم بشهادتهما
فصل : فأما إن أديا الشهادة وهما من أهلها ثم ماتا قبل الحكم بها حكم الحاكم بشهادتهما سواء ثبت عدالتهما في حياتهما أو بعد موتهما وسواء كان المشهود به حدا أو غيره وكذلك إن جنوا أو أغمي عليهم وبهذا قال الشافعي لأن الموت لا يؤثر في شهادته ولا يدل الكذب فيها ولا يحتمل أن يكون موجودا حال أداء الشهادة والجنون والإغماء في معناه بخلاف الفسق والكفر (12/87)
شهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا وشروط شهادة العدل على العدل
مسألة : قال : وشهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : في جوازها والثاني في موضعها والثالث في شرطها أما الأول فإن الشهادة على الشهادة جائزة بإجماع العلماء وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي قال أبو عبيد : أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال ولأن الحاجة داعية إليها فإنها لو لم تقبل لبطلت الشهادة على الوقف وما يتأخر إثباته عند الحاكم ثم يموت شهوده وفي ذلك ضرر على الناس ومشقة شديدة فوجب أن تقبل كشهادة الأصل
الفصل الثاني : أنها تقبل في الأموال وما يقصد به المال بإجماع كما ذكر أبو عبيد ولا تقبل في حد وهذا قول النخعي و الشعبي و أبي حنيفة وأصحابه وقال مالك و الشافعي في قول و أبو ثور : تقبل في الحدود وكل حق لآن ذلك يثبت بشهادة الأصل فيثبت بالشهادة على الشهادة كالمال
ولنا أن الحدود مبنية على الستر والدرء بالشبهات والإسقاط بالرجوع عن الإقرار والشهادة على الشهادة فيها شبهة فإنها يتطرق إليها احتمال الغلط والسهو والكذب في شهود الفرع مع احتمال ذلك في شهود الأصل وهذا احتمال زائد لا يوجد في شهادة الأصل وهو معتبر بدليل أنها لا تقبل مع القدرة على شهود الأصل فوجب أن لا تقبل في ما يندرئ بالشبهات ولأنها إنما تقبل للحاجة ولا حاجة إليها في الحد لأن ستر صاحبه أولى من الشهادة عليه ولأنه لا نص فيها ولا يصح قياسها على الأموال لما بينهما من الفرق في الحاجة والتساهل فيها ولا يصح قياسها على شهادة الأصل لما ذكرنا من الفرق فبطل إثباتها وظاهر كلام أحمد أنها لا تقبل في القصاص أيضا ولا حد القذف لأنه قال إنما تجوز في الحقوق أما الدماء والحد فلا وهذا قول أبي حنيفة
وقال مالك و الشافعي و أبو ثور : تقبل وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله : في كل شيء إلا في الحدود لأنه حق آدمي لا يسقط بالرجوع عن الإقرار به ولا يستحب ستره فأشبه الأموال وذكر أصحابنا هذا رواية عن أحمد لأن ابن منصور نقل أن سفيان قال : شهادة رجل مكان رجل في الطلاق جائزة قال أحمد : ما أحسن ما قال ؟ فجعله أصحابنا رواية في القصاص وليس هذا برواية فإن الطلاق لا يشبه القصاص والمذهب أنها لا تقبل فيه لأنه عقوبة بدنية تدرأ بالشبهات وتبني على الإسقاط فأشبهت الحدود فأما ما عدا الحدود والقصاص والأموال كالنكاح والطلاق وسائر ما لا يثبت إلا بشاهدين فنص أحمد على قبولها في الطلاق والحقوق فيدل قلى قبولها في جميع هذه الحقوق وهو قول الخرقي
وقال ابن حامد : لا تقبل في النكاح ونحوه قول أبي بكر فعلى قولهما لا تقبل إلا في المال وما يقصد به المال وهو قول أبي عبيد لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين فأشبه حد القذف ووجه الأول في أنه حق لا يدرأ بالشبهات فيثبت بالشهادة كالمال وبهذا فارق الحدود
الفصل الثالث : في شروطها : ولها أربعة شروط أحدها : أن تتعذر شهادة الأصل لموت أو غيبة أو مرض أو حبس أو خوف من سلطان أو غيره وبهذا قال مالك و أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن أبي يوسف ومحمد جوازها مع القدرة على شهادة الأصل قياسا على الرواية وأخبار الديانات وروي عن الشعبي أنها لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل لأنهما إذا كانا حيين رجي حضورهما فكانا كالحاضرين وعن احمد مثل هذا إلا أن القاضي تأوله على الموت وما معناه في الغيبة البعيدة ونحوها ويمكن تأويل قول الشعبي على هذا فينزل هذا الخلاف
ولنا على اشتراط تعذر شهادة الأصل أنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل استغنى عن البحث عن عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط للشهادة فإن سماعه منهما معلوم وصدق شاهدي الفرع مظنون والعمل باليقين مع إمكانه أولى من اتباع الظن ولأن شهادة الأصل تثبت نفس الحق وهذه إنما تثبت الشهادة عليه ولأن شهادة الفرع ضعفا لأنه يتطرق إليها احتمالان : احتمال غلط شاهدي الأصل واحتمال غلط شاهدي الفرع فيكون ذلك وهنا فيها ولذلك لم تنتهض لإثبات الحدود والقصاص فينبغي أن لا تثبت إلا عند عدم شاهدي الأصل كسائر الأبدال ولا يصح قياسها على أخبار الديانات لأنه خفف فيها ولهذا لا يعتبر فيها العدد ولا الذكورية ولا الحرية ولا اللفظ والحاجة داعية إليها في حق عموم الناس بخلاف مسألتنا
ولنا على قبولها عند تعذرها بغير الموت أنه تعذرت شهادة الأصل فتقبل شهادة الفرع كما لو مات شاهد الأصل ويخالف الحاضرين فإن سماع شهادتهما ممكن فلم يجز غير ذلك
إذا ثبت هذا فذكر القاضي أن الغيبة المشترطة لسماع شهادة الفرع أن يكون شاهد الأصل بموضع لا يمكنه أن يشهد ثم يرجع من يومه وهذا قاله أبو يوسف و أبو حامد من أصحاب الشافعي لأن الشاهد تشق عليه المطالبة بمثل هذا السفر وقد قال الله تعالى { ولا يضار كاتب ولا شهيد } وإذا لم يكلف الحضور تعذر سماع شهادته فاحتيج إلى سماع شهادة الفرع
وقال أبو الخطاب : تعتبر مسافة القصر وهو قول أبي حنيفة و أبي الطيب الطبري مع اختلافهما في مسافة القصر كل على أصله لأن ما دون ذلك في حكم الحاضر في الترخيص وغيره بخلاف مسافة القصر ويعتبر دوام هذا الشرط إلى الحكم فلو شهد شاهدا الفرع فلم يحكم بشهادتهما حتى حضر شاهدا الأصل وقف الحكم على سماع شهادتهما لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فلم يجز العمل به كالمتيمم يقدر على الماء قبل الصلاة ولأن حضورهما لو وجد قبل أداء شهادة الفرع منع فإذا طرأ قبل الحكم منع منه كالفسق
الشرط الثاني : أن يتحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد شهود الأصل والفروع على الوجه الذي ذكرناه لأن الحكم ينبني على الشهادتين جميعا فاعتبرت الشروط في كل واحد منهما ولا خلاف في هذا نعلمه فإن عدل شهود الأصل فشهدا بعدالتهما وعلى شهادتهما جاز بغير خلاف نعلمه وإن لم يشهدا بعدالتهما جاز ويتولى الحاكم ذلك فإن علم عدالتهما حكم وإن لم يعرفها بحث عنها وبهذا قال الشافعي
وقال الثوري و أبو يوسف : إن لم يعدل شاهدا الفرع شاهدي الأصل لم يسمع الحاكم شهادتهما لأن ترك تعديله يرتاب به الحاكم وليس بصحيح لأنه يجوز أن لا يعرفا ذلك فيرجع فيه إلى بحث الحاكم ويجوز أن يعرفا عدالتهما ويتركاها اكتفاء بما يثبت عند الحاكم من عدالتهما ولا بد من استمرار هذه الشروط ووجود العدالة في الجميع إلى انقضاء الحكم لما ذكرنا في شاهد الأصل قبل هذا وإن مات شهود الأصل والفرع لم يمنع الحكم وكذلك لو مات شهود الأصل قبل أداء الفروع وشهادتهم لم يمنع من أدائها والحكم بها لأن موتهم من شرط سماع شهادة الفروع والحكم فلا يجوز جعله مانعا وكذلك إن جنوا لأن جنونهم بمنزلة موتهم
الشرط الثالث : أن يعينا شاهدي الأصل ويسمياهما وقال ابن جرير : إذا قالا : ذكرين حرين عدلين جاز وإن لم يسميا لأن الغرض معرفة الصفات دون العين وليس بصحيح لجواز أن يكونا عدلين عندهما مجروحين عند غيرهما ولأن المشهود عليه بما أمكنه جرح الشهود فإذا لم يعرف أعيانهما تعذر عليه ذلك
الشرط الرابع : أن يسترعيه شاهدا الأصل الشهادة فيقول : أشهد على شهادتي أني أشهد أن لفلان على فلان كذا أو أقر عندي بكذا أو سمع شاهدا يسترعي آخر شهادة يشهده عليها فيجوز لهذا السامع أن يشهد بها لحصول الاسترعاء ويحتمل أن لا يجوز له أن يشهد إلا أن يسترعيه بعينه وهو قول أبي حنيفة قال أحمد : لا تكون شهادة إلا أن يشهدك فأما إذا سمعته يتحدث فإنما ذلك حديث وبما ذكرناه قال الشافعي وأصحاب الرأي و أبو عبيد فأما إن سمع شاهدا يشهد عند الحاكم بحق أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سبب نحو أن يقول : أشهد أن لفلان على فلان ألفا ثمن مبيع فهل يشهد به ؟ قال أبو الخطاب وفيه روايتان
وذكر القاضي أن له الشهادة به وهو مذهب الشافعي لأنه بالشهادة عند الحاكم ونسبته للحق إلى سببه يزول الاحتمال ويرفع الإشكال فتجوز له الشهادة على شهادته كما لو استرعاه
والرواية الأخرى : فلا يجوز أن يشهد على شهادته وهو قول أبي حنيفة و أبو عبيد لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة فلا ينوب عنه إلا بإذنه ومن نصر الأول قال : هذا ينقل شهادته ولا ينوب عنه لأنه لا يشهد مثل شهادته وإنما يشهد على شهادته فإما إن قال : اشهد أني أشهد على فلان بكذا فالأشبه أن يجوز أن يشهد على شهادته وهذا قول أبي يوسف لأن معنى ذلك اشهد على شهادتي
وقال أبو حنيفة : لا يجوز إلا أن يقول : اشهد على شهادتي أني أشهد لأنه إذا قال : اشهد فقد أمره بالشهادة ولم يسترعه وما هذه المواضع لا يجوز أن يشهد فيها على الشهادة فإذا سمعه يقول : أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه لم يسترعه الشهادة فيحتمل أن يكون وعده بها وقد ويوصف الوعد بالوجوب مجازا فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ العدة دين ] ويحتمل أن يريد بالشهادة العلم فلم يجز لسماعه الشهادة به فإن قيل : فلو سمع رجلا يقول : لفلان علي ألف درهم جاز أن يشهد بذلك فكذا هذا قلنا : الفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن الشهادة تحتمل العلم ولا تحتمل الإقرار
الثاني : أن الإقرار أوسع لزومه من الشهادة بدليل صحته في المجهول وأنه لا يراعي فيه العدد بخلاف الشهادة ولأن الإقرار قول الإنسان على نفسه وهو غير متهم عليها فيكون أقوى منها ولهذا لا تسمع الشهادة في حق المقر ولا يحكم بها ولو قال شاهد الأصل : أنا أشهد أن لفلان على فلان ألفا فاشهد به أنت عليه لم يجز أن يشهد على شهادته لأنه ما استرعاه شهادته فيشهد عليها ولا هو شاهد بالحق لأنه ما سمع الاعتراف به ممن هو عليه ولا شاهد سببه (12/87)
كيفية أداء الشهادة الشاهد على الشاهد
فصل : فأما كيفية الأداء إذا كان قد استرعاه الشهادة فإنه يقول : أشهد أن فلانا بن فلان وقد عرفته بعينه واسمه ونسبه وعدالته أشهدني أنه يشهد لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا أو أن فلانا أقر عندي بكذا وإن لم يعرف عدالته لم يذكرها وإن سمعه يشهد غيره قال : أشهد : أشهد أن فلان ابن فلان أشهد على شهادته أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا وإن كان سمعه يشهد عند الحاكم قال : أشهد أن فلان بن فلان شهد على فلان بن فلان عند الحاكم بكذا وإن كان نسب الحق إلى سببه قال : أشهد أن فلانا بن فلان قال : اشهد أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا من جهة كذا وكذا وإذا أراد الحاكم أن يكتب ذلك في كتبه على ما ذكرنا في الأداء (12/94)
اختلفت الرواية في شرط خامس وهو الذكورية
فصل : واختلفت الرواية في شرط خامس وهو الذكورية في شهود الفرع فعن أحمد أنها شرط فلا يقبل في شهود الفرع نساء بحال سواء كان الحق مما تقبل فيه شهادة النساء أولى وهذا قول مالك و الثوري و الشافعي لأنهم يثبتون بشهادتهم شهود الأصل دون الحق وليس ذلك بمال لا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال فأشبه القصاص والحد
والثانية للنساء مدخل فيما لو كان المشهود به يثبت بشهادتين في الأصل قال حرب : قيل لأحمد فشهادة امرأتين على شهادة امرأتين تجوز ؟ قال : نعم يعني إذا كان معهما رجل وذكر الأوزاعي قال : سمعت نمير بن أوس يجيز شهادة المرأة على شهادة المرأة ووجهه أن المقصود بشهادة الفروع إثبات الحق الذي يشهد به شهود الأصل فقبلت شهادتهن كالبيع ويفارق الحد القصاص فإنه ليس القصد من الشهادة به إثبات مال بحال فأما شهود الأصل فيدخل النساء فيه فيجوز أن يشهد رجلان على شهادة رجل وامرأتين في كل حق يثبت بشهادتهن مع الرجال في قول أكثر أهل العلم وذكر أبو الخطاب في المنع منه رواية أخرى لأن في الشهادة على الشهادة ضعيفا لما ذكرنا من قبل فلا مدخل للنساء فيها لأنها تزداد بشهادتين ضعيفا
ولنا أن شهود الفرع إن كانوا يثبتون شهادة الأصل فهي تثبت بشهادتهم وإن كانوا يثبتون نفس الحق فهي تثبت بشهادتهم ولأن النساء شهدن في المال أو ما يقصد به المال فيثبت بشهادتهن كما لو أدينها عند الحاكم وما ذكر للرواية الأخرى لا أصل له (12/94)
لا يقبل على شاهد أصل إلا شاهدا فرع
فصل : ويجوز أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل شاهد فرع فيشهد شاهدا فرع على شاهدي أصل قال القاضي : لا يختلف كلام أحمد في هذا وهو قول شريح و الشعبي و الحسن و ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و إسحاق و البتي و العنبري و نمير بن أوس قال إسحاق : لم يزل أهل العلم على هذا حتى جاء هؤلاء وقال أحمد : وشاهد على شاهد يجوز لم يزل الناس على ذا شريح فمن دونه إلا أن أبا حنيفة أنكره وذهب عبد الله بن بطة إلى أنه لا يقبل على كل شاهد أصل إلا شاهدا فرع وهذا قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لأن شاهدي الفرع يثبتان شهادة شاهدي الأصل فلا يثبت شهادة كل واحد منهما بأقل من شاهدين كما لا يثبت إقرار مقرين بشهادة اثنين يشهد على كل واحد منهما واحد
ولنا أن هذا يثبت بشاهدين وقد شهد اثنان بما يثبته فيثبت كما لو شهدا بنفس الحق ولأن شاهدي الفرع بدل شهود الأصل فيكفي في عددها ما يكفي في شهادة الأصل ولأن هذا إجماع على ما ذكره أحمد وإسحاق ولأن شاهدي الفرع لا ينقلان عن شاهدي الأصل حقا عليهما فوجب أن يقبل فيه قول واحد كأخبار الديانات فإنهم إنما ينتقلون الشهادة وليست حقا ولهذا لو أنكراها لم يعد الحاكم عليهما ولم يطلبها منهما وهذا الجواب عما ذكروه فإذا ثبت هذا فمن اعتبر لكل شاهد أصل شاهدي فرع أجاز أن يشهد شاهدان على كل واحد من شاهدي الأصل وبهذا قال مالك و أصحاب الرأي قال الشافعي : ورأيت كثيرا من الحكام والمفتين يجيزه وخرجه على قولين : أحدهما جوازه والآخر لا يجوز حتى يكون شهود الفرع أربعة على كل شاهد أصل شاهدا فرع واختاره المزني لأن من يثبت به أحد طرفي الشهادة لا يثبت به الطرف الآخر كما لو شهد أصل مع شاهد ثم شهد مع آخر على شهادة شاهد الأصل الآخر
ولنا أنهما شهدا على قولين فوجب أن يقبل كما لو شهدا بإقرارين بحقين أو بإقرار اثنين وإنما لم يجز أن يشهد شاهدا الأصل فرعا لأنه يؤدي إلى أن يكون بدل أصلا في شهادة بحق وذلك لا يجوز ولأنهم يثبتون بشهادتهم شهادة الأصل وليست شهادة أحدهما ظرفا لشهادة الآخر فعلى قول الشافعي أن يثبت الحق بشهادة رجل وامرأتين وجب أن يكون شهود الفرع ستة وإن كان حق يثبت بأربع نسوة فوجب أن يكون شهود الفرع ثمانية وإن كان المشهود به زنا خرج فيه خمسة أقوال : أحدهما : لا مدخل لشهادة الفرع في إثباته
والثاني : يجوز أن يكون شهود الفرع ستة عشر فيشهد على شهادة كل واحد من شهود الأصل أربعة الثالث : يكفي ثمانية والرابع يكونون أربعة يشهدون على كل واحد والخامس : يكفي شاهدان يشهدان على كل واحد من شهود الأصل وهذا إثبات لحد الزنا بشاهدين وهو بعيد (12/95)
إن شهد بالحق شاهدا اصل وشاهدا فرع يشهدان على شهادة أصل آخر جاز
فصل : وإن شهد بالحق شاهدا أصل وشاهدا فرع يشهدان على شهادة أصل آخر جاز وإن شهد شاهد أصل وشاهد فرع خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا من قبل وإن شهد شاهد أصل ثم شهد هو وآخر فرعا على شاهد أصل آخر لم تفد شهادته الفرعية شيئا وكان حكم ذلك حكم ما لو شهد على شهادته شاهد واحد (12/97)
ويشهد على من سمعه يقر بحق وإن لم يقل للشاهد : اشهد علي
مسألة : قال : ويشهد على من سمعه يقر بحق وإن لم يقل للشاهد : اشهد علي
اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فالمذهب ما ذكره الخرقي وبه قال : الشافعي و الشعبي وعن أحمد رواية ثانية لا يشهد حتى يقول له المقر : اشهد علي كما أنه لا يجوز أن يشهد على شهادة رجل حتى يسترعيه إياها ويقول له : اشهد على شهادتي وعنه رواية ثالثة إذا سمعه يقر بقرض لا يشهد وإذا سمعه يقر بدين يشهد لأن المقر بالدين معترف أنه عليه والمقر بالقرض لا يعترف بذلك لجواز أن يكون افترض منه ثم وفاه وعنه رواية رابعة إذا سمع شيئا فدعي إلى الشهادة فهو بالخيار إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد قال : ولكن يجب عليه إذا أشهد إذا دعي { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قال : إذا أشهدوا وقال ابن أبي موسى : إذا سمع رجلا يقر بحق ولم يقل : اشهد علي بذلك وسمع الشاهد فله أن يشهد عليه فيقول : أشهد أني حضرت إقرار فلان بكذا ولا يقول : أشهد على إقراره وإن سمعه يقول : اقترضت من فلان أو قلضت من فلان لم يجز أن يشهد به والصحيح الأول لأن الشاهد يشهد بما علمه وقد حصل له العلم بسماعه فجاز إن شهد به كما يجوز أن يشهد بما رآه من الأفعال وذكر القاضي أن في الأفعال روايتين :
إحداهما : لا يشهد به حتى يقول المشهود عليه : اشهد وهذا إن أراد به العموم في جميع الأفعال فلا يصح لأن ذلك يؤدي إلى منع الشهادة عليها بالكلية فإن الغاصب لا يقول لأحد : اشهد علي أني أغصب ولا السارق ولا السارقة ولا الزاني ولا القاتل وأشباه هؤلاء وقد شهد أبو بكر وأصحابه على المغيرة بالزنا فلم يقل عمر : هل أشهدكم أولا ؟ ولم يقل هذا أحد من الصحابة ولا من غيرهم ولا قاله الذين شهدوا على قدامة بشرب الخمر ولا قاله عمر للذين شهدوا على الوليد بن عقبة وإن أراد به الأفعال التي تكون بالتراضي كالقرض والقبض فيه وفي الوهن والبيع والافتراق ونحو ذلك جاز (12/98)
حكم ما لو حضر شاهدان حسابا بين اثنين
فصل : ولو حضر شاهدان حسابا بين اثنين شرطا عليهما أن يحفظا عليهما شيئا كان للشاهدين أن يشهدا بما سمعه منهما ولم يسقط ذلك شرطهما لأن للشاهدين أن يشهد بما سمعه أو علمه وذلك قد حصل له سواء أشهده أو سمعه وكذلك يشهدان على العقود بحضورها وعلى الجنايات بمشاهدتها ولا يحتاجان إلى إشهاد وبهذا قال ابن سيرين و مالك و الثوري و الشافعي (12/99)
الحقوق ضربان
فصل والحقوق على ضربين :
أحدهما : حق لآدمي معين كالحقوق المالية والنكاح وغيره من العقود والعقوبات كالقصاص وحد والقذف والوقف على آدمي فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد الدعوى لأن الشهادة فيه حق لآدمي فلا تستوفي إلا بعد مطالبته وإذنه ولأنها حجة على الدعوى ودليل لها فلا يجوز تقدمها عليها
الضرب الثاني : ما كان حقا لآدمي غير معين كالوقف على الفقراء والمساكين أو جميع المسلمين أو على مسجد أو سقاية أو مقبرة مسبلة أو الوصية لشيء من ذلك ونحو هذا وأما ما كان حقا الله تعالى كالحدود الخالصة لله تعالى أو الزكاة أو الكفارة فلا تفتقر الشهادة به إلى تقدم الدعوى لأن ذلك ليس له مستحق معين من الآدميين يدعيه ويطالب به ولذلك شهد أبو بكر وأصحابه على المغيرة وشهد الجارود وأبو هريرة على قدامة بن مظغون بشرب الخمر وشهد الذين شهدوا على الوليد بن عقبة بشرب الخمر أيضا من غير تقدم دعوى فأجيزت شهادتهم ولذلك لم يعتبر في ابتداء الوقف قبول من أحد ولا رضا منه وكذلك ما لا يتعلق به حق أحد الغريمين كتحريم الزوجة بالطلاق أو الظهار أو إعتاق الرقيق تجوز الحسبة به ولا تعتبر فيه دعوى ولو شهد شاهدان بعتق عبد أو أمه ابتداء ثبت ذلك سواء صدقهما المشهود يعتقه أو لم يصدقهما وبهذا قال الشافعي وبه قال أبو حنيفة في الأمة وقال في العبد : لا يثبت ما لم يصدق العبد به ويدعيه لأن العتق حقه فأشبه سائر حقوقه
ولنا أنها شهادة بعتق فلا تفتقر إلى تقديم الدعوى كعتق الأمة ويخالف سائر الحقوق لأنه حق الله تعالى لهذا لا يفتقر إلى قبول المعتق بدليل ذلك الأمة وما ذكروه يبطل بعتق الأمة فإن قيل : الأمة يتعلق بإعتاقها تحريم الوطء قلنا : هذا لا أثر فإن المنع لوجب تحريمها عليه ولا تسمع الشهادة يه إلا بعد الدعوى (12/99)
فيمن كانت عنده شهادة لآدمي
فصل : ومن كانت عنده شهادة لآدمي لم يخل إما أن يكون عالما بها أو غير عالم فإن كان عالما بها لم يجز لشاهد أداءها حتى يسأله ذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون ويشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون ] رواه البخاري ولأن أداؤها حق للمشهود له فلا يستوفى إلا برضاه كسائر حقوقه وإن كان المشهود غير عالم بها جاز للشاهد أداؤها قبل طلبها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ألا أنبئكم بخير الشهداء ؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ] رواه مسلم و أبو داود و مالك وقال مالك : هو الذي يأتي بشهادته ولا يعلم بها الذي هي له وهذا الحديث وإن كان مطلقا فإنه يتعين حمله على هذه الصور جميعا بين الحديثين ولأنه إذا لم يكن عالما به فتركه طلبها لا يدل على أنه لا يريد إقامتها بخلاف العالم بها وهذا مذهب الشافعي (12/101)
يعتبر لفظ الشهادة في أدائها
فصل : ويعتبر لفظ الشهادة في أدائها فيقول : أشهد أنه أقر بكذا ونحوه ولو قال : أعلم أو أحق وأتيقن أو أعرف لم يعتد به لأنه الشهادة مصدر شهد يشهد شهادة فلا بد من الإتيان بفعلها المشتق منها ولأن فيها معنى لا يحصل في غيرها من اللفظات بدليل أنه تستعمل في اليمين فيقال : أشهد بالله ولهذا تستعمل في اللعان ولا يحصل ذلك من غيرها وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا (12/101)
تجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلا
مسألة : قال و تجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلا
المستخفي هو الذي يخفي نفسه عن المشهود عليه ليسمع إقراره ولا يعلم به مثل من يجحد الحق علانية ويقربه سرا فيختبئ شاهدان في موضع لا يعلم بهما ليسمعا إقراره به ثم يشهدا به فشهادتهما مقبولة على الرواية الصحيحة وبهذا قال عمرو بن حريث وقال : كذلك يفعل بالخائن والفاجر وروي مثل ذلك عن شريح وهو قول الشافعي وروي عن أحمد رواية أخرى لا تسمع شهادته وهو اختيار أبي بكر و ابن أبي موسى وروي ذلك عن شريح و الشعبي ولأن الله تعالى قال { ولا تجسسوا } وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من حدث بحديث ثم التفت فهي أمانة ] يعني لا يجوز لسامعه ذكره عنه لالتفاته وحذره وقال مالك : إن كان المشهود عليه ضعيفا ينخدع لم يقبلا عليه وإن لم يكن كذلك قبلت ولنا أنهما شهداء بما سمعاه يقينا فقبلت شهادتهما كما لو علم بها (12/102)
كتاب الأقضية : حكم من هلك وخلف أبوين وبنين ومالا
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : وإذا هلك رجل وخلف ولدين ومائتي درهم فأقر أحدهما بمائة درهم دينا على أبيه لأجنبي دفع إلى المقر له نصف ما في يده من إرثه عن أبيه إلا أن يكون المقر عدلا فيشاء الغريم أن يحلف مع شهادة الابن ويأخذ مائة وتكون المائة الباقية بين الابنين
هذه المسألة في الإقرار من بعض الورثة وقد ذكرناها في باب الإقرار وإنه إنما يلزم المقر من الدين بقدر ميراثه من وميراثه ههنا النصف فيكون عليه نصف الدين وهو نصف المائة ونصفها الباقي يشهد به على أخيه فإن كان عدلا فشاء الغريم حلف مع شهادته واستحق الباقي لأنه تهمه في حق الابن المقر فإنه لا يجر إلى نفسه بهذه الشهادة نفعا ولا يدفع ضرا وإن شهد أجنبي مع الوارث المقر كملت شهادته وحكم للمدعي بما شهدا به له إذا كانا عدلين وأديا الشهادة بلفظ الشهادة ولا يكتفي بلفظ الإقرار في الشهادة لما ذكرنا من قبل وإن كان الإقرار من اثنين من الورثة عدلين مثل أن يخلف ثلاثة بنين فيقر اثنين منهما بالدين ويشهدان به فإن شهادتهما تقبل ويثبت باقي الدين في حق المنكر وبهذا كله قال الحسن و الشعبي و الشافعي و ابن المنذر وقال حماد وأصحاب الرأي : المقر به كله في نصيب المقر وهو قول الشعبي وعلى هذا ينبغي أن لا تقبل شهادة المقر بالدين لأنه يجز بشهادته نفعا هو إسقاط بعض ما أقر به عن نفسه والإقرار بوصية تخرج من الثلث كالإقرار بالدين فيما ذكرناه
فصل : ولو ثبت لرجل على رجل دين ببينة لم يمنع ذلك من قبول شهادته عليه بدين أو وصية في قول عامة أهل العلم إلا ابن أبي ليلى قال : لا تقبل شهادته على غريمه الميت بذلك فيحتمل أنه منع من ذلك لئلا يواطئ من يشهد له بدين فيحاص الغرماء بما شهد له به ثم يقاسمه
ولنا أنه عدل غير منهم فتقبل شهادة له كغيره وذلك لأنه لا يجر بشهادته إلى نفسه نفعا ولا يدفع بها ضرا بل يضر نفسه بها لكون المشهود له يزاحمه في الاستيفاء وينقص ما يأخذه فهو أقرب إلى الصدق وأحرى أن تقبل شهادته وما ذكرنا له من الاحتمال يوجد في الأجنبي فلم يمنع قبول شهادته
مسألة : قال : ولو هلك رجل عن ابنين وله حق بشاهد وعليه من الدين ما يستغرق ميراثه فأبى الوارثان أن يحلفا مع الشاهد لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت ويستحق فإن حلف الوارثان مع الشاهد حكم بالدين فدفع إلى الغريم
وجملته أن الرجل الميت إذا مات مفلسا وادعى ورثته دينا على رجل فأنكر فأقاموا شاهدا عدلا وحلفوا معه حكم بالدين للميت ثم تقضى منه ديونه ثم تنفذ وصاياه من الثلث إلا أن يجيز الورثة فإن أبى الورثة أن يحلفوا لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت وبهذا قال إسحاق و أبو ثور و الشافعي في الجديد وقال في القديم : للغريم أن يحلف ويستحق وهذا قول مالك لأن حقه متعلق به ودليل أنه لو ثبت المال قدم حقه على الورثة وكانت له اليمين كالوارث
ولنا أن الدين دون الغريم فلم يكن له أن يحلف عليه كما لو لم يستغرق الدين ميراثه والدليل على أنه للوارث أن يكتفي بيمينه ولو كان لغيره لما اكتفي بها ولأن حق الغريم في ذمة الميت والدين للميت ولهذا يشهد الشاهد بأن الدين للميت والذي يحلف معه إنما يحلف على هذا ولا يجوز للغريم أن يحلف لي في ذمة المدعى عليه دينا بالاتفاق فلم يجز أن يحلف على دين غيره الذي لا فعل له فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل اليمين للمالك ولا يلزم على هذا الوكيل لأنه يحلف على فعل نفسه ولأن الغريم لو حلف مع الشاهد ثم أبرأ الميت من الدين لرجع الدين إلى الورثة ولو كان قد ثبت بيمينه لم يرجع إليهم وهكذا لو وصى الميت لإنسان ثم لم يحلف الورثة لم يكن للموصى له أن يحلف لما ذكرناه
فصل : فإن حلف الابنين مع الشاهد لم يثبت من الدين إلا قدر حصته وهكذا إذا ادعى الورثة وصية لأبيهم أو دينا وأقاموا شاهدا لم يثبت جمعه إلا بأيمان جميعهم وإن حلف بعضهم ثبت من الدين والوصية بقدر حقه ولو يشاركه في باقي الورثة لأنه لا يثبت لهم حق بدون أيمانهم ولا يجوز أن يستحقوا بيمين غيرهم ويقضي من دين أبيه بقدر ما ثبت له فإن كان في الورثة صغير أو معتوه وقف حقه حتى يبلغ الصغير ويعقل المعتوه لأنه لا يمكن أن يحلف على حاله ولا يحلف وليه لكون اليمين لا تدخلها النيابة وإن كان فيهم أخرس مفهوم الإشارة حلف وأعطى حصته وإن لم تفهم إشارته وقف حقه أيضا فإن مات أو مات الصبي والمعتوه قام ورثتهم مقامهم في اليمين والاستحقاق فإن طالب أولياؤهما في حياتهما بحبس المدعى عليه حتى يبلغ الصبي ويفيق المجنون ويعقل الأخرس الإشارة أو بإقامة كفيل لم يجابوا إلى ذلك لأن الحبس عذاب لا يستحق على من لم يثبت عليه حق
فصل : وتركة الميت يثبت الملك فيها لورثته وسواء كان عليه دين أو لم يكن نص عليه أحمد فيمن أفلس ثم مات قال : قد انتقل المبيع إلى الورثة وحصل ملكا لهم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان الدين يستغرق التركة منع نقلها إلى الوارثة فإن كان لا يستغرقها لم يمنع انتقال شيء منها
وقال أبو سعيد الاصطخري : يمنع بقدره وقد أومأ أحمد إلى مثل هذا فإنه قال في أربعة بنين ترك أبوهم دارا وعليه دين فقال أحد البنين أنا أعطي ودعوا لي الربع فقال أحمد : هذه الدار للغرماء لا يورثون شيئا حتى يؤدوا الدين وهذا يدل على أنها لم تنتقل إليهم عنده لأنه يمنع الوارث من إمساك الربع بدفع قيمته لأن الدين لم يثبت في ذمم الورثة فيجب أن يتعلق بالتركة والمذهب الأول ولهذا قلنا : إن الغريم لا يحلف على دين الميت وذلك لأن الدين محله الذمة وإنما يتعلق بالتركة فيتخير الورثة بين قضاء الدين منها أو من غيرها كالرهن والجاني ولهذا لا يلزم الغرماء نفقة العبيد ولا يكون نماء التركة لهم ولأنه لا يخلو من أن تنتقل إلى الورثة أو الغرماء أو تبقى للميت أو لا تكون لأحد لا يجوز أن تنتقل إلى الغرماء لأنها لو انتقلت إليهم لزمهم نفقة الحيوان وكان نماؤها لهم غير محسوب من دينهم ولا يجوز أن تبقى للميت لأنه لم يبق أهلا لملك ولا يجوز أن لا تكون أحد لأنها مال مملوك فلا بد من مالك ولأنها لو بقيت بغير مالك لأبيحت لمن يمتلكها كسائر المباحات فثبت أنها انتقلت إلى الورثة فعلى هذا إذا نمت التركة مثل أن غلت الدار وأثمرت النخيل ونتجت الماشية فهو للوارث ينفرد به لا يتعلق به حق الغرماء لأنه نماء ملكه فأشبه كسب الجاني ويحتمل أن يتعلق به الغرماء كنماء الرهن ومن اختار الأول قال : تعلق الحق بالرهن آكد لأنه ثبت باختيار المالك ورضاه ولهذا منع التصرف فيه وهذا يثبت بغير رضا المالك ولم يمنع التصرف فكان أشبه بالجاني
وعلى الرواية الأخرى يكون نماء التركة حكمه كحم التركة وما يحتاج إليه من المؤنة منها وإن تصرف الورثة في التركة ببيع أو هبة أو قسمة فعلى الرواية الأولى تصرفهم صحيح فإن قضوا الدين وإلا نقضت تصرفاتهم كما لو تصرف السيد في العبد الجاني ولم يقض دين الجناية وعلى الرواية الأخرى تصرفاتهم فاسدة لأنهم تصرفوا فيما لم يملكوه
فصل : إذا خلف ثلاثة بنين وأبوين فادعى البنون أن أباهم وقف داره عليهم في صحته وأقاموا بذلك شاهدا واحدا حلفوا معه صارت وقفا عليهم وسقط حق الأبوين وإن لم يحلفوا معه ولم يكن على الميت دين ولا وصية وحلف الأبوان وكان نصيبهما طلقا لهما و نصيب البنين وقفا عليهم بإقرارهم لأنه ينفذ بإقرارهم وإن كان على الميت دين أو وصى بشيء قضي دينه ونفذت وصيته وما بقي بين الورثة فما حصل للبنين كان وقفا وإن حلف واحد منهم كان ثلث الدار وقفا عليه والباقي يقضى منه الدين وما فضل يكون ميراثا فما حصل للابنين منه كان وقفا عليهما ولا يرث الحالف شيئا لأنه يعترف أنه لا يستحق منه شيئا سوى ما وقف عليه وإن حلفوا كلهم فثبت الوقف عليهم ولم يخل من أن يكون الوقف مرتبا على بطن ثم على بطن بعد بطن أبدا أو مشتركا فإن كان مرتبا فإذا انقرض الأولاد الثلاثة انتقل الوقف إلى البطن الثاني بغير يمين لأنه قد ثبت كونه وقفا بالشاهدين ويمين الأولاد فلم يحتج من انتقل إليه إلى بينة كما لو ثبت بشاهدين كالمال الموروث وكذلك إذا انقرض الأولاد ورجع المساكين لم يحتاجوا في ثبوته لهم إلى يمين لما ذكرناه
وإن انقرض أحد الأولاد انتقل نصيبه منه إلى أخوته أو إلى من شرط الواقف انتقاله إليه بغير يمين لما ذكرنا فإن امتنع البطن الأول من اليمين فقد ذكرنا أن نصيبهم يكون وقفا عليهم وقفا عليهم بإقرارهم فإذا انقرضوا كان ذلك وقفا على حسب ما اقروا به فإذا كان إقرارهم أنه وقف عليهم ثم على أولادهم فقال أولادهم : نحن نحلف مع شاهدنا لتكون جميع الدار وقفا لنا فلهم ذلك لأنهم ينقلون الوقف من الواقف فلهم إثباته كالبطن الأول فأما إن حلف أحد البنين ونكل أخواه ثم مات الحالف نظرت فإن مات بعد موت اخوته صرف نصيبه إلى أولاده وجها واحدا وإن مات في حياة إخوته ففيه ثلاثة أوجه
أحدها : ينصرف إلى اخوته لأنه لا يثبت للبطن الثاني شيء مع بقاء أحد من البطن الأول
والثاني : ينتقل إلى أولاده لأن أخويه أسقطا حقهما بنكولهما فصارا كالمعدومين
والثالث : يصرف إلى أقرب عصبة الواقف لأنه لم يمكن صرفه غلى الأخوين ولا إلى البطن الثاني لما ذكرنا فيصرف إلى أقرب عصبة الواقف إلى أن يموت الأخوان ثم يعود إلى البطن الثاني والأول أصح لأن الأخوين لم يسقطا حقوقهما وإنما امتنعا من إقامة الحجة عليه ولذلك لو اعترف لهما الأبوان ثبت الوقف من غير يمين وههنا قد حصل الاعتراف من البطن الثاني فوجب أن ينصرف إليهما الاتفاق من الجميع على استحقاقهما له
فإن قيل : فإذا كان البطن الثاني صغارا فما حصل الاعتراف منهم قلنا : قد حصل الاعتراف من الحالف الذي ثبتت الحجة بيمينه والبينة التي ثبت بها الوقف وبها يستحق البطن الثاني فاكتفي بذلك في انتقاله إلى الأخوين كما يكتفي به في انتقاله إلى البطن الثاني بعد انقراض الأخوين ويدل على صحة هذا أننا اكتفينا بالبينة في أصل الوقف وفي كيفيته وصفته وترتيبه فيما عدا هذا المختلف فيه فيجب أن يكتفى به فيه فأما إن كان شرط الواقف أن من مات منهم عن ولد انتقل نصيبه إليه انتقل إلى أولاده وجها واحدا لأنه لا منازع لهم فيه وإن مات من غير الولد انتقل إلى أخويه على وجه الصحيح ويخرج فيه الوجهان الآخران
الحال الثاني : إذا كان الوقف مشتركا وهو أن يدعوا أن أباهم وقف داره على ولده وولد ولده ما تناسلوا فقد شرك بين البطون ففي هذه الحال إذا حلف أولاده الثلاثة مع شاهدهم ولم يكن أحد من أولادهم معهم موجودا ثبت الوقف على الثلاثة وإن كان من أولادهم أحد موجودا فهو شريكهم فإن كان كبيرا حلف واستحق وإن لم يحلف كان نصيبه ميراثا تقضي منه الديون وتنفذ الوصايا وباقيه للورثة لأنه يأخذ الوقف ابتداء من الواقف بغير واسطة فهم كأحد البنين وإن كان صغيرا أو حدث لأحد البنين ولد يشاركهم في الوقف أو كان أحد البنين الصغار وقف نصيبه من الوقف عليه ولا يسلم إلى وليه حتى يبلغ فيحلف أو يمتنع لأنه يتلقى الوقف من غير واسطة
فإن قيل : فلم يستحق بغير يمين وكون البنين المستحقين معترفين له بذلك فيكتفي اعترافهم كما لو كان في أيديهم دار فاعترفوا لصغير منها بشرك فإنه يسلم إلى وليه ؟ قلنا : الفرق بينهما أن الدار التي في أيديهم لم يكن لهم فيها منازع ولا يوجب على أحد منهم اليمين وهذه ينازعهم فيها الأبوان وأصحاب الديون والوصايا وإنما يأخذونها بأيمانهم فإذا أقروا بمشارك لهم فقد اعترفوا بأنه كواحد منهم لا يستحق إلا بيمينه كما لا يستحق واحد منهم إلا باليمين ويفارق ما إذا كان الوقف مرتابا على بطن بعد بطن فإنه لا يشاركهم أحد من البطن الثاني فإذا بلغ الصغير الموقوف نصيبه فحلف كان له وإن امتنع نظرت إن كان موجودا حين الدعوى أو قبل حلفهم كان نصيبه ميراثا كما لو كان بالغا فامتنع عن اليمين فإن حدث بعد أيمانهم وثبوت الوقف نماء كان له نصيبه أيضا لأن الوقف ثبت في جميع الدار بأيمان البنين فلا يبطل بامتناع من حدث إلا أنه إن أقرأنها ليست وقفا وكذب البنين في ذلك كان نصيبه من الغلة ميراثا حكمه حكم نماء الميراث وإن لم يكذبهم فنصيبه وقف له
وقال القاضي : إن امتنع من اليمين رد إلى أولاده الثلاثة ولم يفرق بين من كان موجودا حال الدعوى والحادث بعدها لأنه لا يجوز أن يستحق شيئا بغير يمين ولا يجوز أن يبطل الوقف الثابت بأيديهم فتعين رد نصيبه إليهم
ولنا أنه إن كان موجودا حال الدعوى وحلفهم فهو شريكهم حين يثبت الوقف فلم يجزأن يثبت الوقف في نصيبه بغير يمين كالبالغ وإن كان حادثا بعد ثبوت الوقف بأيمانهم فهم مقرون له بنصيبه وهو يصدقهم في إقرارهم فلم يجز لهم أخذ نصيبه كما لو اقروا له بمال ولأنهم يقرون بأنهم لا يستحقون أكثر من ثلاثة أرباع الوقف فلا يجوز لهم أخذ أكثر من ذلك وإن مات الصغير قبل بلوغه قام وارثه مقامه فيما ذكرنا وإن مات أحد البنين البالغين قبل بلوغ الصبي وقف أيضا نصيبه مما كان لعمه الميت وكان الحكم فيه كالحكم في نصيبه الأصلي
وقال القاضي : إن بلغ فامتنع من اليمين فالربع موقوف إلى حين موت الثالث ويقسم بين البالغين وورثة الميت لأنه كان بين الثلاثة ونصيبه من الميت للبالغين الحيين خاصة لأنهما مستحقا الوقف (12/102)
فيمن ادعى دعوى وذكر أن بينته بالبعد وفيما لو طلب حبس المدعي عليه
مسألة : قال ومن ادعى دعوى وذكر أن بينته بالبعد منه فحلف المدعي عليه ثم أحضر المدعي بينته حكم ولم تكن اليمين مزيلة للحق
وجملته أن المدعي إذا ذكر أن بينته بعيدة عنه أو لا يمكنه إحضارها أو لا يريد إقامتها فطلب اليمين من المدعى عليه أحلف له ثم أحضر المدعي ببينة حكم له وبهذا قال شريح و الشعبي و مالك و الثوري و الليث و الشافعي و أبو حنيفة و أبو يوسف و إسحاق وحكى عن أبن أبي ليلى و داود أن بينته لا تسمع لأن اليمين حجة المدعى عليه فلا تسمع بعدها حجة المدعي كما لا تسمع يمين المدعى عليه بعد البينة المدعي
ولنا قول عمر رضي الله عنه : البينة الصادقة أحب إلي من اليمين الفاجرة وظاهر هذه البينة الصدق ويلزم من صدقها فجور اليمين المتقدمة فتكون أولى ولأن كل حالة يجب عليه الحق فيها بإقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين وما ذكروه لا يصح لأن البينة الأصل واليمين بدل عنها ولهذا لا تشرع إلا عند تعذرها والبدل يبطل بالقدرة على المبدل كبطلان التيمم بالقدرة على الماء ولا يبطل الأصل بالقدرة على البدل ويدل على الفرق بينهما أنهما حال اجتماعها وإمكان سماعهما تسمع البينة ويحكم بها ولا تسمع اليمين ولا يسأل عنها
فصل : فإن طلب المدعي حبس المدعى عليه أو إقامة كفيل به إلى أن تحضر بينته البعيدة لم يقبل منه ولم يكن ملازمة خصمه نص عليه أحمد لأنه لم يثبت له قبله حق يحبس به ولا يقيم به كفيل ولأن الحبس عذاب فلا يلزم معصوما لم يتوجب عليه حق ولأنه لو جاز ذلك لتمكن كل ظالم من حبس من شاء بغير حق وإن كانت بينته قريبة فله ملازمته حتى يحضرها لأن ذلك من ضرورة إقامتها فإنه لو لم يتمكن من ملازمته لذهب من مجلس الحاكم ولا تمكن إقامتها إلا بحضرته ولأنه لما تمكن من إحضار مجلس الحاكم ليقيم البينة عليه تمكن من ملازمته فيه حتى تحضر البينة وتفارق البينة البعيدة أو من لا يمكن حضورها فإنه إلزامه الإقامة إلى حين حضورها يحتاج إلى حبس أو ما تفارق أو ما يقوم مقامة ولا سبيل إليه
فصل : ولو أقام المدعي شاهدا واحدا ولم يحلف معه وطلب يمين المدعى عليه أحلف له ثم إن أحضر شاهدا آخر بعد ذلك كملت بينته وقضي بها لما ذكرنا في التي قبلها وإن فال المدعي : لي بينة حاضرة وأريد إحلاف المدعى عليه ثم أقيم البينة عليه ففيه وجهان :
أحدهما : له ذلك ويستحلف خصمه لأنه يملك استحلافه إذا كانت بينته بعيدة فكذلك إذا كانت قريبة ولأنه لو قال أريد إقامة بينتي القريبة ملك استحلافه فكذلك إذا راد إقامتها
الثاني : لا يملك استحلافه لأن في البينة غنية عن اليمين فلم تشرع معها ولأن البينة أصل واليمين بدل فلا يجمع بين البدل والأصل كاليتيم مع الماء وفارق البعيدة فإنها في الحال كالمعدومة للعجز عنها وكذلك التي يريد إقامتها لأنه قد تكون عليه مشقة في إحضارها أو عليها في الحضور مشقة فيسقط ذلك للمشقة بخلاف التي يريد إقامتها (12/111)
اليمين التي يبرأ بها المطلوب
مسألة : قال : واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله وإن كان الحالف كافرا
وجملته أن اليمين المشروعة في الحقوق التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله في قول عامة أهل العلم إلا أن مالكا أحب أن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو وإن استحلف حاكم بالله أجزأ قال ابن المنذر : هذا أحب إلي لأن ابن عباس روى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ استحلف رجلا فقال له قل والله الذي لا إله إلا هو ماله عندك شيء ] رواه أبو داود وفي حديث عمر حين حلف لأبي قال : والله الذي لا إله هو إن النخل لنخلي وما لأبي فيه شيء
وقال الشافعي إن كان المدعي قصاصا أو عتاقا أو حدا أو مالا يبلغ نصابا غلطت اليمين فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة والرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وقال في القسامة عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذا اختيار أبي الخطاب وذكر القاضي أن هذا في إيمان القسامة خاصة وليس بشرط
ولنا قول الله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا } وقال تعالى : { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } وقال تعالى في اللعان : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } وقال تعالى { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } قال بعض أهل التفسير : من أقسم بالله فقد أقسم جهد اليمين
[ واستحلف النبي صلى الله عليه و سلم ركانة بن عبد يزيد في الطلاق فقال : آلله ما أردت إلا واحدة ] وفي حديث الحضرمي والكندي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ ألك بينة ؟ قال : ولكن أحلفه والله ما يعلم أنه أرضي غصبنيها ] رواه أبو داود
وقال عثمان لابن عمر : تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ولأن في الله كفاية فوجب أن يكتفى باسمه في اليمين كالموضع الذي سلموه فأما حديث ابن عباس وعمر فإنه يدل على جواز الاستحلاف كذلك وما ذكرناه يدل على الاكتفاء باسم الله وحده وما ذكره الباقون فتحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه
إذا ثبت هذا فإن اليمين في حق المسلم والكافر جميعا بالله تعالى لا يحلف أحد بغيره لقوله الله تعالى { فيقسمان بالله } ولقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] (12/113)
تشرع اليمين في كل مدعى عليه
فصل : وتشرع اليمين في حق كل مدعى عليه سواء كان مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا امرأة أو رجلا لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ اليمين على المدعى عليه ]
و [ روى شقيق عن الأشعث بن قيس قال : قال : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم هل لك بينة ؟ قلت : لا : قال لليهودي : احلف قلت : إذا يحلف فيذهب بمالي فأنزل الله عز و جل : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } إلى آخر الآية ] رواه البخاري و أبو داود و ابن ماجة وفي حديث الحضرمي قلت : أنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه قال ليس لك منه إلا ذلك (12/115)
كيف يقسم اليهودي والنصراني وتغلظ الأيمان
مسألة : قال : إلا أنه كان يهوديا قيل له : قل : والله الذي أنزل التوراة على موسى وإن كان نصرانيا قيل له قل : والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها
ظاهر الكلام الخرقي رحمه الله أن اليمين لا تغلظ إلا في حق أهل الذمة ولا تغلظ في حق المسلمين ونحو هذا قال أبو بكر ووجه تغليظها في حقهم ما روى أبو هريرة قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يعني لليهود نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى ؟ ] رواه أبو داود وكذلك قال الخرقي : تغلظ بالمكان فيحلف في المواضع التي يعظمها ويتوقى الكذب فيها ولم يذكر التغليظ بالزمان قال أبو الخطاب : إن رأى التغليظ في اليمين في اللفظ بالزمان والمكان فله ذلك قال : وقد أومأ إليه أحمد في رواية الميموني وذكر التغليظ في حق المجوسي قال والله الذي خلقني ورزقني وإن كان وثنيا حلفه بالله وحده وكذلك إن كان لا يعبد الله لأنه لا يجوز أن يحلف بغير الله لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] ولأن هذا إن لم يكن يعتد هذه يمينا فإنه يزداد بها إثما وعقوبة وربما عجلت عقوبته فيتعظ بذلك ويعتبر به غيره وهذا كله ليس بشرط اليمين وإنما للحاكم فعله إذا رأى
وممن قال يستحلف أهل الكتاب بالله وحده مسروق و أبو عبيده بن عبد الله و عطاء و شريح و الحسن و إبراهيم بن كعب و مالك و الثوري و أبو عبيد
وممن قال لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق مسلم أبو حنيفة وصاحباه وقال مالك و الشافعي تغلظ ثم اختلفا فقال مالك : يحلف في المدينة على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ويحلف قائما ولا يحلف قائما إلى في منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ويستحلفونه في غير المدينة في مساجد الجماعات ولا يحلف عند المنبر إلا على ما يقطع اليد فيه السارق فصاعدا وهو ثلاثة دراهم وقال الشافعي : يستحلف المسلم بين الركن والمقام بمكة وفي المدينة عند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي سائر البلدان في الجوامع عند المنبر وعند الصخرة في بيت المقدس وتغلظ في الزمان في الاستحلاف بعد العصر ولا تغلظ في المال إلا في نصاب فصاعدا وتغلظ في الطلاق والعتاق والحد والقصاص وهذا اختيار أبي الخطاب وقال ابن جرير تغلظ في القليل والكثير واحتجوا بقول الله تعالى { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } قيل أراد بعد العصر وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار ] فثبت أنه يتعلق بذلك تأكيد اليمين وروى مالك قال : اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع في دار كانت بينهما إلى مروان ابن الحكم فقال : زيد : أحلف له مكاني فقال مروان : لا والله إلا عند مقاطع الحقوق قال : فجعل زيد يحلف إن حقه لحق ويأبى أن يحلف عند المنبر فجعل مروان يعجب
ولنا قول الله تعالى : { فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } ولم يذكر مكانا ولا زمنا ولا زيادة في اللفظ [ واستحلف النبي صلى الله عليه و سلم ركانة في الطلاق فقال : آالله ما أردت إلا واحدة ؟ قال : آالله ما أردت إلا واحدة ] ولم يغلظ يمينه بزمن ولا مكان ولا زيادة لفظ وسائر ما ذكرنا في التي قبلها وحلف عمر لأبي بكر حين تحاكما إلى زيد في مكانه وكانا في بيت زيد وقال عثمان لابن عمر : تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه ؟ وفي ما ذكروه تقييد لمطلق هذه النصوص ومخالفة الإجماع فإن ما ذكرنا عن الخليفتين عمر وعثمان مع من حضرهما لم ينكر وهو في محل الشهرة فكان إجماعا وقوله تعالى { تحبسونهما من بعد الصلاة } وإنما كان في حق أهل الكتاب في الوصية في السفر وهي قضية خولف فيها القياس في مواضع منها قبول شهادة أهل الكتاب على المسلمين ومنها استحلاف الشاهدين ومنها استحلاف خصومهما عند العثور على استحقاقهما الإثم وهم لا يعلمون بها أصلا فكيف يحتجون بها ولما ذكر أيمان المسلمين أطلق اليمين ولم يقيدها والاحتجاج بهذا أولى من المصير إلى ما خولف فيه القياس وترك العمل به وأما حديثهم فليس فيه دليل على مشروعية اليمين عند المنبر إنما فيه تغلظ اليمين على الحالف عنده ولا يلزم من هذا الاستحلاف عنده وأما قصة مروان فمن العجب احتجاجهم بها وذهابهم إلى قول مروان في قضية خالفه زيد فيها وقول زيد فقيه الصحابة وقاضيهم وأفرضهم أحق أن يحتج به من قول مروان فإن قول مروان لو انفرد ما جاز الاحتجاج به على مخالفة فعل النبي صلى الله عليه و سلم وإطلاق كتاب الله تعالى ؟ وهذا ما لا يجوز وإنما ذكر الخرقي التغليظ بالمكان واللفظ في حق الذمي لاستحلاف النبي صلى الله عليه و سلم اليهود بقوله : [ نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ] ولقول الله تعالى في حق الكتابيين { تحبسونهما من بعد الصلاة } ولأنه روي عن كعب بن سور في نصراني قال : اذهبوا به إلى المذبح واجعلوا الإنجيل في حجر التوراة على رأسه وقال الشعبي في نصراني اذهب به إلى البيعة فاستحلفه بما استحلف به مثله وقال ابن المنذر : لا أعلم حجة توجب أن يستحلف في مكان بعينه ولا بيمين غير الذي يستحلف بها المسلمون وعلى كل حال فلا خلاف بين أهل العلم في أن التغليظ بالزمان والمكان والألفاظ غير واجب إلى أن ابن الصباغ ذكر أن في وجوب التغليظ بالمكان قولين للشافعي وخالفه ابن العاصي فقال : لا خلاف بين أهل العلم في أن القاضي حيث استخلف المدعى عليه في عمله وبلد قضائه جاز وإنما التغليظ بالمكان في اختيار فيكون التغليظ عند من رآه اختيارا واستحسانا (12/115)
الحلف في المصحف
فصل : قال ابن المنذر : لم نجد أحدا يوجب اليمين بالمصحف وقال الشافعي : رأيتهم يؤكدون بالمصحف ورأيت ابن مازن وهو قاضي بصنعاء يغلظ بالمصحف قال أصحابه : فليغلظ عليه بإحضار المصحف لأنه يشتمل على كلام الله تعالى وأسمائه وهذا زيادة على ما أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليمين وفعله الخلفاء الراشدون وقضاتهم من غير دليل ولا حجة يستند إليها ولا يترك فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه لفعل ابن مازن ولا غيره (12/119)
يحلف الرجل فيما عليه على البت
مسألة : قال : ويحلف الرجل فيما عليه على البت ويحلف الوارث على دين الميت على العلم
معنى البت القطع أي حلف بالله ماله على شيء وجملة الأمر أن الأيمان كلها على البت والقطع إلا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم وبهذا قال أبو حنيفة مالك و الشافعي وقال الشعبي و النخعي : كلها على العلم وذكره ابن أبي موسى رواية أحمد حديث الشيباني عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه سلم [ لا تضطروا الناس في إيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون ] ولأنه لا يكلف ما لا علم له به وقال ابن أبي ليلى كلها على البت كما يحلف على فعل نفسه
ولنا حديث ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم استحلف رجلا فقال : قل والله الذي لا إله إلا هو ما له عليك حق ] وروى الاشعث بن قيس [ أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم في أرض من اليمن فقال الحضرمي : يا رسول الله أن أرضي اغتصبها أبو هذا وهي في يده قال : هل لك بينة ؟ قال لا ولكن أحلفه والله العظيم ما يعلم أنه أرض اغتصبنيها أبوه فتهيأ الكندي لليمين ورواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ] وما ذكروه لا يصح لأنه يمكنه الإحاطة بفعل نفسه ولا يمكنه ذلك في فعل غيره فافترقا في اليمن كما افتقرت الشهادة فإنها تكون بالقطع فيما من العقود وعلى الظن فيما لا يمكن فيه القطع من الأملاك والأنساب وعلى النفي العلم فيما لا تمكن الإحاطة بانتفائه كالشهادة على وارث له غير فلان وفلان وحديث القاسم بن عبد الرحمن محمول على اليمين على نفي فعل الغير
إذا ثبت هذا فإنه يحلف عليه على البت نفيا كان أو إثباتا وأما ما يتعلق بفعل غيره فإن كان إثباتا مثل أن يدعي أنه فرض أو باع ويقيم شاهدا بذلك فإنه يحلف مع شاهده على البت والقطع وإن كان على نفي العلم مثل أن يدعي عليه دين أو غصب أو جناية فإنه يحلف على نفي العلم لا غير وإن حلف عليه على البت كفاه وكان التقدير فيه العلم كما الشاهد إذا شهد بعدد الورثة وقال ليس له وارث غيرهم سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه ولو ادعى عليه أن عبده جنى أو استدان فأنكر ذلك فيمينه نفي العلم لأنها يمين على نفي فعل الغير فأشبهت يمين الوارث على نفي الموروث
فصل : قال ابن أبي موسى : اختلف قول أحمد في من باع سلعة وظهر المشتري على عيب بها وأنكره البائع هل اليمين على البتات أو على علمه ؟ على روايتين ولو أبق عند المشتري فادعى على البائع أنه أبق عنده فأنكر هل يلزمه أن يحلف أنه لم يأبق قط أو على نفي علمه ؟ على روايتين إلا أن يكون ولده فيحلف أنه لم يأبق قط ووجه كون اليمين على علمه أنها على نفي فعل الغي فأشبه ما لو ادعى عليه أن عبده جنى ووجه الأخرى أنه إذا ادعى عليه أنه باعه معيبا يستحق به رده عليه فلزمته اليمين على البت كما لو كان إثباتا (12/119)
فيما لو توجهت عليه يمين هو فيها صادق
فصل : ومن توجهت عليه يمين وهو فيها صادق أو توجهت له أبيح له الحلف ولا شيء عليه من أثم ولا غيره لأن الله تعالى شرع اليمين ولا تشرع محرما وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقسم على الحق في ثلاثة مواضع من كتابه وحلف عمر لأبي بكر على نخيل ثم وهبه له وقال : خفت إن لم أحلف أن تمنع الناس من الحلف على حقوقهم فتصير سنة وقال حنبل : بلي أبو عبد الله بنحو هذا جاء هذا إليه ابن عمه فقال : لي قبلك حق من ميراث أبي وأطالبك بالقاضي وأحلفك فقيل لأبي عبد الله ما ترى ؟ قال أحلف له إذا لم يكن له قبلي حق أنا غير شاك في ذلك حلفت له وكيف لا أحلف وابن عمر قد حلف وأنا من أنا وعزم أبو عبد الله على اليمين فكفاه الله ذلك ورجع الغلام عنه تلك المطالبة واختلف في الأولى فقال قوم : الحلف أولى من افتداء يمينه لأن عمر حلف ولأن في الحلف فائدتين : أحدهما : حفظ ماله عن الضياع وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن أضاعته والثانية : تخليص أخيه الظالم من ظلمه وأكل المال بغير حقه وهذا من نصيحته ونصرته بكفه عن ظلمه وقد [ أشار النبي صلى الله عليه و سلم على رجل أن يحلف ويأخذ حقه ] وقال أصحابنا الأفضل افتداء يمينه فإن عثمان افتدى يمينه وقال : خفت أن تصادق قدرا فيقال حلف فعوقب أو هذا شؤم يمينه
وروى الخلال بإسناده أن حذيفة عرف جملا سرق له فخاصم فيه القاضي المسلمين فصارت اليمين على حذيفة فقال : لك عشرة دراهم فأبى فقال حذيفة : أتراني أترك جملي ؟ فحلف بالله أنه له ما باع ولا وهب ولأن في اليمين عند الحاكم تبذلا ولا يأمن أن يصادف قدرا فينسب إلى الكذب وأنه عوقب بحلفه كاذبا وفي ذهاب ماله له أجر وليس هذا تضييعا للمال ؟ فإن أخاه المسلم ينتفع به في الدنيا ويغرمه له في الآخرة (12/121)
في الحلف الكذب
فصل : فأما الحلف الكاذب ليقتطع به مال أخيه ففيه إثم كبير وقد قيل أنه من الكبائر لأن الله تعالى وعد عليه العذاب الأليم فقال سبحانه تعالى { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } [ قال الأشعث بن قيس : نزلت هذه الآية وكان لي بئر في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : بينتك لو يمينه قلت إذا يحلف عليها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان ] أخرجه البخاري
وروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من حلف يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان ] متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه و سلم في حديث الكندي [ لئن حلف على ماله ليأكله ظالما ليلقين الله وهو عنه معرض ] وهو حديث حسن صحيح وقد روي في حديث أن يمين الغموس تذر الديار بلاقع ويستحب للحاكم أن يخوف المدعى عليه من اليمين الفاجرة ويقرأ عليه الآية والأخبار (12/122)
حكم من ادعى عليه دين وهو معسر به هل يحلف أم لا
فصل : ومن ادعى عليه دين وهو معسر به لم يحل له أن يحلف أنه لا حق له علي وبهذا قال المزني وقال أبو ثور : له ذلك لأن الله تعالى قال { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ولأنه لا يستحق مطالبته به في الحال ولا يجب عليه أداؤه إليه ولنا أن الدين في ذمته وهو حق له عليه ولو لم يكن عليه حق لم يجب إنظاره به (12/123)
يمين الحالف على حسب جوابه
ويمين الحالف على حسب جوابه فإذا ادعى عليه أنه غصبه أو استودعه وديعة أو اقترض منه نظرنا في جواب المدعى عليه قال : ما غصبتك ولا استودعتني ولا أقرضتني كلف أن يحلف على ذلك فإن قال مالك علي حق أو لا تستحق علي شيئا أولا تستحق علي ما ادعيته ولا شيئا منه كان جوابا صحيحا ولا يكلف الجواب عن الغصب والوديعة والقرض لأنه يجوز أن يكون غصب منه ثم رده عليه فلو كلف جحد ذلك كان كاذبا وإن أقر به ثم أدعى الرد يقبل منه فإذا طلب منه اليمين حلف على حسب ما أجاب
ولو ادعى أنني ابتعت منك الدار التي في يدك فأنكره وطلب يمينه نظرنا في جوابه فإن أجاب بأنك لا تستحقها حلف على ذلك ولم يلزمه أن يحلف أنه ما ابتاعها لأنه قد يبتاعها منه ثم يردها عليه وإن أجاب بأنك لم تبتعها مني حلف على ذلك
قال أحمد في رجل ادعى على رجل أنه أودعه فأنكره هل يحلف ما أودعتني ؟ قال : إذا حلف ما لك عندي شيء ولا لك في يدي شيء فهو يأتي على ذلك وهذا يدل على أنه لا يلزمه الحلف على حسب الجواب وأنه متى حلف ما لك قبلي حق برئ بذلك ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين (12/123)
لا تدخل اليمين النيابة
فصل : ولا تدخل اليمين النيابة ولا يحلف أحد عن غيره فلو كان المدعى عليه صغيرا أو مجنونا لم يحلف عنه ووقف الأمر حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ولم يحلف عنه وليه ولو ادعى الأب لابنه الصغير حقا أو ادعاه الوصي أو الأمين له فأنكر المدعى عليه فالقول قوله مع يمينه فإن نكل قضى عليه ومن لم ير القضاء بالنكول ورأي رد اليمين على المدعي لم يحلف الولي عنهما ولكن تقف اليمين ويكتب الحاكم محضرا بنكول المدعى عليه وإن ادعى على العبد دعوى نظرت فإن كانت مما يقبل قول العبد فيها على نفسه كالقصاص والطلاق والقذف فالخصومة معه دون سيده فإن قلنا أن اليمين تشرع في هذا أحلف العبد دون سيده وأن نكل لم يحلف غيره وإن كان مما لا يقبل قول العبد فيه كإتلاف مال أو جناية توجب المال فالخصم السيد واليمين عليه ولا يحلف العبد فيها بحال (12/124)
حكم ما لو نكل من توجهت عليه اليمين
فصل : وإذا نكل من توجهت عليه اليمين عنها قال لي بينة أقيمها استثبته لأحلف على ما أتيقن فذكر أبو الخطاب أنه لا يمهل وإن لم يحلف جعل ناكلا وقيل لا يكون ذلك نكولا ويمهل مدة قريبة وإن قال : ما أريد أن أحلف أو سكت فلم يذكر شيئا نظرنا في المدعى فإن كان مالا أو المقصود منه المال قضي عليه بنكوله ولم ترد اليمين على المدعي نص أحمد فقال : أنا لا أرى رد اليمين وإن حلف المدعى عليه وإلا دفع إليه حقه وبهذا قال أبو حنيفة واختار أبو طالب أن له رد اليمين على المدعي إن ردها حلف المدعي وحكم له بما ادعاه قال : وقد صوبه أحمد فقال ما هو ببعيد يحلف ويستحق هو قول أهل المدينة وروي ذلك عن على رضي الله عنه وبه قال شريح و الشعبي و النخعي و ابن سيرين و مالك في المال خاصة قال الشافعي في جميع الدعاوى لما روي عن نافع عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رد اليمين على طالب الحق ] رواه الدار قطني ولأنه إذا نكل ظهر المدعي وقوي جانبه فتشرع اليمين في حقه كالمدعى عليه قبل نكوله وكالمدعي إذا شهد له شاهدا واحد ولأن النكول قد يكون لجهله بالحال وتورعه عن الحلف على ما لا يتحققه أو للخوف من عاقبة اليمين أو ترفعا عنها مع علمه بصدقه في إنكاره ولا يتعين بنكوله صدق المدعي فلا يجوز الحكم له من غير دليل فإذا حلف كانت بيمينه دليلا عند عدم ما هو أقوى منها كما في موضع الوفاق وقال ابن أبي ليلى لا أدعه حتى يقر أو يحلف
ولنا قول النبي صلى الله عليه مسلم [ ولكن اليمين على جانب المدعى عليه ] فحصرها في جانب المدعى عليه وقوله [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] فجعل في جانب جنس اليمين المدعى عليه كما جعل جنس البينة في جنبة المدعي وقال أحمد : قدم عمر إلى عثمان في عبد له فقال له احلف أنك ما بعته وبه عيب علمته فأنى ابن عمر أن يحلف فرد العبد عليه ولم يرد اليمين على المدعي ولأنها بينة المال فحكم فيها بالنكول كما لو مات و من لا وارث له فوجد الإمام في دفتره دينا له على إنسان فطالبه به فأنكره وطلب منه اليمين فأنكره فإنه لا خلاف أن اليمين لا ترد وقد ذكر أصحاب الشافعي في هذا أنه يقضي بالنكول في أحد الوجهين وفي الآخر يحبس المدعى عليه حتى يقر أو يحلف وكذلك لو ادعى رجل على ميت أنه وصى إليه بتفريق الثلث وأنكر الورثة ذلك ونكلوا عن اليمين قضى عليهم والخبر لا تعرف صحته ومخالفة ابن عمر له في القصة التي ذكرنها تدل على ضعفه فإنه لم يرد اليمين على المدعي ولا ردها عثمان فعلى هذا إذا نكل عن اليمن قال له الحاكم إن حلفت وإلا قضيت عليك ثلاثا فإن حلف وإلا قضي عليه وعلى القول الآخر يقول له لك رد اليمين على المدعي فإن ردها حلف وقضي له وإن نكل عن اليمين سئل عن سبب نكوله فإن قال لي بينة أقيمها أو حساب أستثبته لأحلف على ما أتيقنه أخرت الحكومة وإن قال ما أريد أن أحلف سقط حقه من اليمين فلو بذلها في ذلك المجلس بعد هذا لم تسمع منه إلى أن يعود في مجلس آخر فإن قبل المدعى عليه لو امتنع من اليمين ثم بذلها سمعت منه فلم منعتم سماعها ههنا ؟ قلنا اليمين في حق المدعى عليه هي الأصل فمتى قدر عليه أبذلها وجب قبولها والمصير إليها كالمبدلات مع إبدالها وأما يمين المدعي فهي بدل فإذا امتنع منها لم ينتقل الحق إلى غيره فإذا امتنع منها سقط حقه منها لضعفها وأما إذا حلف وقضى له فعاد المدعى عليه وبذل اليمين لم يسمع منه وهكذا لو بذلها بعد الحكم عليه بنكولة لم يسمع لأن الحكم قد تم فلا ينقض كما لو قامت به بينة فأما غير المال وما لا يقصد به المال يقضى فيه بالنكول نص عليه أحمد في القصاص
ونقل عنه في رجل ادعى على رجل أنه قذفه فقال : استحلفوه فإن قال لا أحلف أقيم عليه قال أبو بكر : هذا قول قديم والمذهب أنه لا يقضي في شيء من هذا بالنكول ولا فرق بين القصاص في النفس والقصاص في الطرف وبهذا قال أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : يقضي بالنكول في القصاص فيما دون النفس وعن أحمد مثله والأول هو مذهب لأن هذا أحد نوعي القصاص فأشبه النوع الآخر فعلى هذا ما يصنع فيه وجهان أحدهما : يخلى سبيله لأنه لم يثبت عليه حجة وتكون فائدة شرعية اليمين الردع والزجر والثاني : يحبس حتى يقر أو يحلف وأصل الوجهين المرأة إذا نكلت عن اللعان (12/124)
حكم ما لو حلف ثم قال إن شاء الله
فصل : وإذا حلف فقال إن شاء الله تعالى أعيدت عليه اليمين لأن الاستثناء يزيل حكم اليمين وكذلك إن وصل يمينه بشرط أو كلام غير مفهوم وإن حلف قبل أن يستخلفه الحاكم أعيدت عليه ولم يعتد بما حلف قبل الاستحلاف وكذلك إن استحلفه الحاكم قبل أن يسأله المدعي استحلافه لم يعتد بها (12/127)
حكم ما لو ادعى رجل دينا فقال قد أبرأتني منه
فصل : ولو ادعى على رجل دينا أو حلف فقال أبرأتني منه أو استوفيته مني فالقول قول من ينكر الإبراء والاستيفاء مع يمينه ويكفيه أن يحلف بالله أن هذا الحق ويسميه تسمية يصير بها معلوما ما برئت ذمتك منه ولا من شيء منه أو ما برئت ذمتك من ذلك الحق ولا من شيء منه وإن ادعى استيفاءه أو البراءة بجهة معلومة حلف على تلك الجهة وحدها وكفاه (12/127)
الحقوق ضربان
فصل : والحقوق على ضربين : أحدهما : ما هو حق الآدمي والثاني : ما هو حق الله تعالى فحق الآدمي ينقسم قسمين : أحدهما : ما هو مال أو المقصود منه المال فهذه تشرع فيه اليمين بلا خلاف بين أهل العلم فإذا لم تكن للمدعي بينة حلف المدعى عليه وبرئ وقد ثبت هذا في قصة الحضرمي والكندي اللذين اختلفا في الأرض وعموم قول النبي صلى الله عليه و سلم [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] القسم الثاني : ما ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص وحد القذف والنكاح والطرق والرجعة والعتق والنسب والاستيلاء والولاء والرقة ففيه روايتان : أحدهما : لا يستحلف المدعى عليه ولا تعرض عليه اليمين قال أحمد : لم أسمع من مضى جوزوا الأيمان إلا في الأموال والعروض خاصة وهذا قول مالك ونحوه قول أبي حنيفة فإنه قال : لا يستحلف في النكاح وما يتعلق به من دعوى الرجعة والفيئة في الإيلاء ولا في الرق وما يتعلق به من الاستيلاء والولاء والنسب لأن هذه الأشياء لا يدخلها البدل وإنما تعرض اليمين فيما يدخله بدل فإن المدعى عليه يخير بين أن يحلف أو يسلم ولأن هذه الأشياء لا تثبت إلا بشاهدين ذكرين فلا تعرض فيها اليمين كالحدود والرواية الثانية : يستحلف في الطلاق والقصاص والقذف وقال الخرقي إذا قال أرجعتك فقالت انقضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها مع يمينها وإذا اختلفا في مضي أربعة أشهر فالقول قوله مع يمينه فيخرج من هذا أن يستحلف في كل حق لآدمي وهذا قول الشافعي و أبي يوسف و محمد لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] أخرجه مسلم وهذا عام في كل مدعى عليه وهو ظاهر في دعوى الدماء لذكرها في الدعوى مع عموم الأحاديث ولأنها دعوى صحيحة في حق لادمي فجاز أن يحلف المدعى عليه كدعوى المال الضرب الثاني : حقوق الله تعالى وهو نوعان أحدهما : الحدود فلا تشرع فيها يمين ولا نعلم في هذا خلافا لأنه لو أقر ثم رجع عن إقراره قبل منه وخلي من غير يمينه فلأن لا يستحلف مع عدم الإقرار أولى ولأنه يستحب ستره والتعريض للمقر به بالرجوع عن إقراره وللشهود بترك الشهادة والستر عليه [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لهزال في قصة ماعز : يا هزال لو سترته بثوبك لكان خيرا لك ] فلا تشرع فيه يمين بحال النوع الثاني : الحقوق المالية كدعوى الساعي الزكاة على رب المال وأن الحول قد تم وكمل النصاب فقال أحمد : القول قول رب المال من غير يمين ولا يستحلف الناس على صدقاتهم وقال الشافعي و أبو يوسف و محمد : يستحلف لأنها دعوى مسموعة أشبه حق الآدمي
ولنا أنه حق لله تعالى أشبه الحد ولأن ذلك عبادة فلا يستحلف عليها كالصلاة ولو ادعى عليه أن عليه كفارة يمين أو ظاهر أو نذر صدقة أو غيرها فالقول قوله في نفي ذلك من غير يمين ولا تسمع الدعوى في هذا ولا في حد لله تعالى لأنه لا حق للمدعي فيه ولا ولاية له عليه مثل أن يدعي سرقة ماله ليضمن السارق أو يأخذ منه ما سرقه أو يدعي عليه الزنا بجاريته ليأخذ مهرها منه سمعت دعواه ويستحلف المدعى عليه لحق الآدمي دون حق الله تعالى (12/128)
في الشهادة
مسألة : قال : وإذا شهد من الأربعة اثنان أن هذا زنى بها في هذا البيت وشهد الآخران أنه زنى بها في البيت الآخر فالأربعة قذفه وعليهم الحد
وجملته أن من شروط صحة الشهادة على الزنا اجتماع الأربعة على فعل واحد فإن لم يجتمعوا لم تكمل الشهادة وكان الجميع قذفه عليهم الحد فإن شهد اثنان أنه زنا بها في هذا البيت وشهد اثنان أنه زنا بها في بيت آخر فما اجتمعوا على الشهادة بزنا واحد لأن الزنا في هذا البيت غير الزنا في الآخر فلم تكمل شهادتهم ويحدون حد القذف وبهذا قال مالك و الشافعي في أحد قوليه وقال أبو بكر : تكمل شهادتهم ويحد المشهود عليه واستبعده أبو الخطاب وقال : هذه سهو من الناقل لأنه يخالف الأصول والإجماع والحد يدرأ بالشبهات فكيف يجب بها ؟
وقال النخعي وأصحاب الرأي و أبو ثور و الشافعي في قول : لا حد على الشهود لأنهم كملوا أربعة ولا على المشهود عليه لأنهم لم يشهدوا زنا واحد يجب الحد به
ولنا أنهم لم يشهدوا بزنا واحد فلزمهم الحد كما لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة وأنه زنى بغيرها ولأنه لا يخلو من أن تكون شهادتهم بزنا واحد أو باثنين فإن كانت بفعل واحد مثل أن يعين الجميع وقتا واحدا لا يمكن زناه فيه في الموضعين فاثنان منهم كاذبان يقينا واثنان منهما لو خلوا من المعارضة لشهادتهم لكانا قذفه فمع التعارض أولى وإن كانت شهادتهم بفعلين كانوا قذفه كما لو عينوا في شهادتهم أنه زنى مرة أخرى وما ذكروه يبطل الأصل الذي ذكرناه
فصل : وكذلك كل شهادة على فعلين مثل أن يشهد اثنان أنه زنى بامرأة وآخران أنه زنى بأخرى أو يشهدان أنه زنى بها في يوم وآخران أنه زنى بها في آخر أو يشهدان أنه زنى بها ليلا وآخران أنه زنى بها نهارا أو يشهدان أنه زنى بها غدوة ويشهد آخران أنه زنى بها عشيا وأشباه هذا فأنهم قذفه في هذه المواضع وعليهم الحد لما ذكرناه فإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية منه أخرى وكانتا متباعدتين فالحكم فيه كما ذكرنا وقال أبو حنيفة : تقبل شهادتهم ويحد المشهود عليه استحسانا وهو قول أبي بكر
ولنا أنهما مكانان لا يمكن وقوع الفعل الواحد فيهما ولا يصح نسبته إليهما فأشبها البيتين وأما إن كانتا متقاربتين تمكن نسبته إلى كل واحد منهما لقربه منها كملت الشهادة لإمكان صدقهم في نسبته إلى الزاويتين جميعا
فصل : ومتى كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمنه أو مكانه أو صفة له تدل على تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما مثل أن يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا يوم السبت ويشهد الآخر أنه غصبه دينارا يوم الجمعة أو يشهد أحدهما أنه غصبه بدمشق ويشهد الآخر أنه غصبه بمصر أو يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا ويشهد الآخر أنه غصبه ثوبا فلا تكمل الشهادة لأن كل فعل لم يشهد به شاهدان وهكذا إن اختلفا في زمن القتل أو مكانه أو صفته أو في شرب الخمر أو القذف لم تكمل الشهادة لأن ما يشهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر فلم يشهد بكل واحد من الفعلين إلا شاهد واحد فلم يقبل إلا على قول أبي بكر فإن هذه الشهادة لم تكمل ويثبت المشهود به إذا اختلفا في الزمان والمكان فأما إن اختلفا في صفة الفعل فشهد أحدهما أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض وشهد آخر أنه سرق مع الزوال كيسا اسود أو شهد أحدهما أنه سرق هذا الكيس غدوه وشهد الآخر أنه سرق عشيا لم تكمل الشهادة ذكره ابن حامد وقال أبو بكر : تكمل : الأول أصح لأن كل فعل لم يشهد به إلا واحد على ما قدمناه
وإن اختلفا في صفة المشهود به اختلافا يوجب تغايرهما مثل أن يشهد أحدهما بثوب والآخر بدينار فلا خلاف في أن الشهادة لا تكمل لأنه لا يمكن إيجابهما جميعا لأنه يكون إيجابا بالحق عليه بشهادة واحد ولا إيجاب أحدهما بعينه لأن الآخر لم يشهد به وليس أحدهما أولى من الآخر فأما إن شهد بكل فعل شاهدان واختلفا في الزمان والمكان أو الصفة ثبتا جميعا لأن كل واحد منهما قد شهدت به بينة عادله لو انفردت أثبت الحق وشهادة الأخرى لا تعارضها لإمكان الجمع بينهما إلا أن يكون الفعل مما لا يمكن تكرره كقتل رجل بعينه فتتعارض البينتان لعلمنا أن إحداهما كاذبة ولا نعلم أيتهما هي بخلاف ما تكرر ويمكن صدق البينتين فيه فإنهما جميعا يثبتان إن ادعاهما وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما دعاه دون ما لم يدعه
وإن شهد اثنان أنه سرق مع الزوال كيسا أسود وشهد آخران أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض أو شهد اثنان أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد آخران أنه سرقه عشيا فقال القاضي : يتعارضان : وهو مذهب الشافعي كما لو كان المشهود به قتلا والصحيح أن هذا لا تعارض فيه لأنه يمكن صدق البينتين بأن يسرق عند الزوال كيسين أبيض وأسود فتشهد كل بينة بأحدهما ويمكن أن يسرق كيسا غدوة ثم يعود إلى صاحبه أو غيره فيسرقه عشيا ومع إمكان الجمع لا تعارض فعلى هذا إن ادعاهما المشهود له ثبت له في الصورة الأولى وأما في الصورة الثانية فيثبت له الكيس المشهود به حسب فإن المشهود به وإن كان فعلين لكنهما في محل واحد فلا يجب أكثر من ضمانة وإن لم يدع المشهود له إلا أحد الكيسين ثبت له ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه وإن شهد له شاهد بسرقة كيس في يوم وشهد آخر بسرقة كيس في يوم آخر أو شهد أحدهما في مكان وشهد آخر بسرقته في مكان آخر أو شهد أحدهما بغصب كيس أبيض وشهد آخر بغصب كيس أسود فادعاهما المشهود له فله أن يحلف مع كل واحد منهما ويحكم له به لأنه مال قد شهد له به شاهد وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه
فصل : فأما الشهادة على الإقرار مثل أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي يوم الخميس بدمشق أنه قتله أو قذفه أو غصبه كذا أوأن له في ذمته كذا و يشهد آخر أنه أقر عندي بهذا يوم السبت بحمص كملت شهادتهما وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال زفر : لا تكمل شهادتهما لأن كل إقرار لم يشهد به إلا واحد فلم تكمل الشهادة فأشبه الشهادة على الفعل
ولنا أن المقر به واحد وقد شهد اثنان بالإقرار به فكملت شهادتهما كما لو كان الإقرار بهما واحدا وفارق الشهادة على الفعل فإن الشهادة فيها على فعلين مختلفين فنظيرة من الإقرار أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي أنه قتله في يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قتله يوم الجمعة فإن شهادتهما لا تقبل ههنا ويحقق ما ذكرنا أنه لا يمكن جمع الشهود لسماع الشهادة في حق كل واحد والعادة جارية بطلب الشهود في أماكنهم لا في جمعهم إلى المشهود له فيمضي إليهم في أوقات متفرقة وأماكن مختلفة فيشهدهم على إقراره وإن كان الإقرار على فعلين مختلفين مثل أن يقول أحدهم أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الجمعة أو قال أحدهما : أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعربية وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن الذي شهد به أحدهما غير الذي شهد به صاحبه فلم تكمل الشهادة كما لو شهد أحدهما أنه اقر أنه غصبه دينار وشهد الآخر أنه أقر أنه غصبه دراهم لم تكمل الشهادة وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة في القتل والقذف لأن القذف بالعربية أو العجمية والقتل بالبصرة أو الكوفة ليس من المقتضى فلا يعتبر في الشهادة ولم يؤثر والأول أصح
فصل : فإن شهد أحدهما أنه باع أمس وشهد الآخر أنه باع اليوم أو شهد أحدهما أنه طلقها أمس وشهد الآخر أنه طلقها اليوم فقال أصحابنا : تكمل الشهادة وقال الشافعي : لا تكمل الشهادة لأن كل واحد من البيع والطلاق لم يشهد به إلا واحد أشبه ما لو شهد بالغصب في وقتين
ووجه قول أصحابنا بأن المشهود به شيء واحد يجوز أن يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحدا فاختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه فلم يؤثر كما لو شهد أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية
فصل : وكذلك الحكم في كل شهادة على قول فالحكم فيه كالحكم في البيع إلا النكاح فإنه كالفعل الواحد فإن شهد أحدهما أنه تزوجها أمس وشهد الآخر أنه تزوجها اليوم لم تكمل الشهادة في قولهم جميعا لأن النكاح الأمس غير النكاح اليوم فلم يشهد بكل واحد من العقدين إلا شاهد واحد فلم يثبت كما لو كانت الشهادة على فعل وكذلك القذف فإنه لا تكمل إلا الشهادة أن يشهد على قذف واحد
فصل : فإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد وشهد آخر أنه أقر بغصبه منه كملت الشهادة وحكم به لأنه لا يجوز أن يكون الغصب الذي أقر به هو الذي شهد به الشاهد فلم يختلف الفعل وكملت الشهادة كما لو شهدا في وقتين على إقرار بالغصب قال القاضي : لا تكمل الشهادة بها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون ما أقر به غير ما شهد به الشاهد وهذا يبطل بالشهادة على إقرارين فأنه يجوز أن يكون ما أقر به عند أحدالشاهدين غير ما أقر به عند الآخر إذا كانا في وقتين مختلفين و لأنه إذا أمكن جعل الشهادة على واحد لم تحمل على اثنين كالإقرارين وكما لو شهد بالغصب اثنان وشهدعلى الإقرار به اثنان وإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد من زيد أو أنه أقر بغصبه منه وشهد الآخر أنه ملك زيد لم تكمل شهادتهما لأنهما لم يشهدا على شيء واحد وإن شهد أنه أخذ من يديه ألزمه الحاكم رده إلى يديه لأن اليد دليل الملك فترد إلى يده لتكون دلالتها ثابتة له قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن رجل ادعى دارا في يد رجل وأقام شاهدين شهد أحدهما أن هذه الدار لفلان وقال الآخر أشهد أن هذه الدار دار فلان قال : شهادتهما جائزة
فصل : ومن شهد بالنكاح فلا بد من ذكر شروطه لأن الناس يختلفون في شروطه فيجب ذكرها لئلا يكون الشاهد يعتقد أن النكاح صحيح وهو فاسد وإن شهد بعقد سواه كالبيع والإجارة فهل يشترط ذكر شروطه ؟ على روايتين أحدهما : يشترط ذكرها لأن الناس يختلفون في شروطه فاشترط ذكرها كالنكاح والثاني : لا يشترط ذكر شروطه لأنه لا يشترط ذكرها في الدعوى فكذلك في الشهادة به بخلاف النكاح وإن شهد بالرضاع فلا بد من ذكر أنه شرب من ثديها أو من لبن حلب منه وعدد الرضعات لأن الناس يختلفون في عدد الرضعات وفي الرضاع المحرم وإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها ولا بد من ذكر أن ذلك كان في الحولين وإن شهد بالقتل فلا بد من وصف القتل فيقول جرحه فقتله أو ضربه بكذا فقتله ولو قال : ضربه فمات لم يحكم بذلك لجواز أن يكون مات بغير هذا وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل فقال : أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات فقال له شريح : فمات منه أو فقتله ؟ فأعاد القول الأول وأعاد شريح سؤاله فلم يقل فقتله ولا فمات منه فقال له شريح : قم فلا شهادة لك رواه سعيد ومن شهد بالزنا فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها ومكان الزنا وصفته لأن اسم الزنا يطلق على ما لا يوجب الحد وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنا زنا فاعتبر ذكر صفته ليزول الاحتمال واعتبر ذكر المرأة لئلا تكون ممن تحل له أو له في وطئها شبهة وذكر المكان لئلا تكون الشهادة منهم على فعلين ومن أصحابنا من قال : لا يحتاج إلى ذكر المزني بها ولا ذكر المكان لأنه محل للفعل فلم يعتبر ذكره كالزمان وإن شهد بالسرقة فلا بد من ذكر سرقة نصاب من الحرز وذكر المسروق منه وصفة السرقة وإن شهد بالقذف فلا بد من ذكر المقذوف وصفة القذف وإن شهد بمال احتاج إلى تحريزه بمثل ما ذكرنا في الدعوى وإن ترك الشاهد شيء يحتاج إلى ذكره سأله الحاكم عنه كما سأل شريح الشاهد الذي شهد عنده أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات وإن حرر المدعي دعواه أو حرر أحد الشاهدين شهادته وشهد بها وقال الآخر : أشهد بمثل ذلك أو قال حين حرر المدعي دعواه أشهد بذلك أو بهذا أجزأه
مسألة : قال : ولو جاء أربعة متفرقون والحاكم جالس في مجلس حكمه لو يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد
هذه مسألة قد ذكرناها في كتاب الحدود بما أغنى عن إعادتها هنا
مسألة : قال : ومن حكم بشهادتهما بجرح أو قتل ثم رجعا وقالا عمدنا اقتص منهما وإن قالا أخطأنا غرما الدية أو أرش الجرح
وجملته الأمر أن الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها لم يخل من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يرجعوا قبل الحكم بها فلا يجوز الحكم بها في قول عامة أهل العلم وحكى عن أبي ثور أنه شذ عن أهل العلم وقال : يحكم بها لأن الشهادة قد أديت فلا تبطل برجوع من شهد بها كما لو رجعا بعد الحكم وهذا فاسد لأن الشهادة شرط الحكم فإذا زالت قبله لم يجز كما لو فسقا ولأن رجوعهما يظهر به كذبهما فلم يجز الحكم بها كما لو شهد بقتل رجل ثم علم حياته ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق فلم يجز الحكم به كما لو تغير اجتهاده وفارق ما بعد الحكم فإنه تم بشرطه ولأن الشك لا يزيل ما حكم به كما لو تغير اجتهاده
الحال الثاني : أن يرجع بعد الحكم وقبل الاستيفاء فينظر فإن كان المحكوم به عقوبة كالحد والقصاص لم يجز استيفاؤه لأن الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعهما من أعظم الشبهات ولأن المحكوم به عقوبة ولم يتعين استحقاقها ولا سبيل إلى جبرها فلم يجز استيفاؤها كما لو رجعا قبل الحكم وفارق المال فإنه يمكن جبره بإلزام الشاهدين عوضه والحد والقصاص لا ينجبر بإيجاب مثله على الشاهدين لأن ذلك ليس بجبر ولا يحصل لمن وجب منه عوض وإنما شرع للزجر والتشفي والانتقام لا للجبر فإن قيل : فقد قلتم أنه إذا حكم بالقصاص ثم فسق الشاهدان استوفي في أحد الوجهين قلنا : الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران أن شهادتهما زور وأنهما كانا فاسقين حين شهدا وحين حكم الحاكم بشهادتهما وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق كون شهادته كذبا ولا أنه كان فاسقا حين أدى الشهادة ولا حين الحكم بها ولهذا لو فسق بعد الاستيفاء لم يلزمه شيء والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا وإن كان المشهود به مالا استوفى ولم ينقص حكمه في قول أهل الفتيا من علماء الأمصار وحكى سعيد بن المسيب و الأوزاعي أنهما قالا : ينقض الحكم وإن استوفى الحق ثبت بشهادتهما فإذا رجعا زال ما ثبت به فينقض الحكم كما لو تبين أنهما كانا كافرين
ولنا أن حق المشهود له وجب له فلا يسقط بقولهما كما لو ادعياه لأنفسهما يحقق هذا أن حق الإنسان لا يزول إلا ببينة أوإقرار ورجوعهما ليس بشهادة ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ولا هو إقرار من صاحب الحق وفارق ما إذا تبين أنهما كانا كافرين لأننا تبينا أنه لم يوجد شرط الحكم وهو شهادة العدول وفي مسألتنا لن يتبين ذلك بجواز أن يكونا عدلين صادقين في شهادتهما وإنما كذبا في رجوعهما ويفارق العقوبات حيث لا تستوفى فإنها تدرأ بالشبهات
الحال الثالث : أن يرجعا بعد الاستيفاء فإنه لا يبطل الحكم ولا يلزم المشهود له شيء سواء كان المشهود به مالا أو عقوبة لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ووصول الحق إلى مستحقه ويرجع به على الشاهدين ثم ينظر فإن كان المشهود به إتلافا في مثله القصاص كالقتل والجرح نظرنا في رجوعهما فإن قالا : عمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع فعليهما القصاص وبهذا قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد
وقال أصحاب الرأي : لا قود عليهما لأنهما لم يباشرا الإتلاف فأشبها حافر البئر وناصب السكين إذا تلف بهما شيء
ولنا أن عليا رضي الله عنه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه ثم عادا فقالا : أخطأنا ليس هذا هو السارق فقال علي لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا مخالف له في الصحابة فيكون إجماعا ولأنهما تسببا إلى قتله أو قطعه بما يفضي إليه غالبا فلزمهما القصاص كالمكره وفارق الحفر ونصب السكين فإنه لا يفضي إلى القتل غالبا
وقد ذكرنا هذه المسألة في القصاص فأما إن قالا : عمدنا الشهادة عليه ولا نعلم أنه يقتل بهذا وكانا ممن يجوز أن يجهلا ذلك وجبت الدية في أموالهما مغلظة لأنه شبه عمد ولم تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافهما والعاقلة لا تحمل اعترافا وإن قال أحدهما : عمدت قتله وقال الآخر أخطأت فعلى العامد نصف دية مغلظة وعلى الآخر نصف دية مخففة ولا قصاص في الصحيح من المذهب لأنه قتل عمد وخطأ
وإن قال كل واحد منهما : عمدت وأخطأ صاحبي احتمل أن يجب القصاص عليهما لاعتراف كل واحد منهما بعمد نفسه واحتمل وجوب الدية لأن كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه مخطئا وهذا لا يوجب القصاص والإنسان إنما يؤاخذ بإقراره لا باقرار غيره فعلى هذا تجب عليهم دية مغلظة وإن قال أحدهما عمدنا جميعا وقال الآخر : عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القصاص وفي الثاني وجهان كالتي قبلها
وإن قالا جميعا : أخطأنا فعليهما الدية مخففة في أموالهما لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن قال أحدهما : عمدنا معا وقال الآخر : أخطأنا معا فعلى الأول القصاص وعلى الثاني نصف دية مخففة لأن كلا منهما يؤاخذ بحكم إقراره وإن قال كل واحد منهما : عمدت ولا أدري ما فعل صاحبي ؟ فعليهما القصاص لإقرار كل واحد منهما بالعمد ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص لأن إقرار كل واحد منهما لو انفرد لم يجب عليه قصاص وإنما يؤاخذ الإنسان بإقرار صاحبه وإن قال أحدهما : عمدت ولا أدري ما قصد صاحبي سئل صاحبه فإذا قال عمدت ولا أدري ما قصد صاحبي فهي كالتي قبلها وإن قال : عمدنا فعليه القصاص وفي الأول وجهان وإن قال : أخطأنا فلا قصاص على واحدا منهما وإن جهل حال الآخر بأن يجن أو يموت أو لا يقدر عليه فلا قصاص على المقر وعليه نصيبه من الدية المغلظة
فصل : وإن رجع أحد الشاهدين وحده فالحكم فيه كالحكم في رجوعهما في أن الحاكم لا يحكم بشهادتهما إذا كان رجوعه قبل الحكم وفي أنه لا يستوفي العقوبة إذا رجع قبل استيفائها لأن الشرط يختل برجوعه كاختلاله برجوعهما وإن كان رجوعه بعد الاستيفاء لومه حكم إقراره فإن أقر بما يوجب القصاص وجب عليه وإن أقر بما يوجب دية مغلظة وجب عليه قسطه منها وإن اقر بالخطأ وجب عليه نصيبه من الدية المخففة وإن كان الشهود أكثر من اثنين في الحقوق المالية أو القصاص ونحوه فما ثبت بشاهدين أو أكثر من أربعة فرجع الزائد منهم قبل الحكم والاستيفاء لم يمنع ذلك الحكم ولا الاستيفاء لأن ما بقي من البينة كاف في إثبات الحكم واستيفائه وإن رجع بعد الاستيفاء فعليه القصاص إن أقر بما يوجبه أو قسطه من الدية أو من المفوت بشهادتهما إن كان غير ذلك وفي ذلك اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى
مسألة : قال : وإن كانت شهادتهما بمال غرماه ولم يرجع به على المحكوم له به سواء كان المال قائما أو تالفا
أما كونه لا يرجع به على المحكوم له به فلا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا سواء ما حكيناه عن سعيد بن المسيب و الأوزاعي وقد ذكرنا الكلام معهما فيما مضى فأما الرجوع به على الشاهدين فهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي القديم وقال في الجديد : لا يرجع عليهما بشيء إلا أن يشهدا بعتق عبد فيضمنا قيمته لأنه لم يوجد منهما إتلاف للمال ولا يد عادية عليه فلم يضمنا كما لو ردت شهادتهما
ولنا أنهما أخرجا ماله من يده بغير حق وحالا بينه وبينه فلزمهما الضمان كما لو شهدا بعتقه ولأنهما أزالا يد السيد عن عبده بشهادتهما المرجوع عنها فأشبه ما لو شهدا بحريته ولأنهما تسببا إلى إتلاف حقه بشهادتهما بالزور عليه فلزمهما الضمان كشاهدي القصاص ويحقق هذا أنه إذا ألزمهما القصاص الذي يدرأ بالشبهات فوجوب المال أولى وقولهم إنهما أتلفا المال يبطل بما إذا شهدا بعتقه فإن الرق في الحقيقة لا يزول بشهادة الزور وإنما حالا بين سيده وبينه وفي موضع إتلاف المال فهما تسببا إلى تلفه فيلزمهما ضمان ما تلف بسببهما كشاهدي القصاص وشهود الزنا وحافر البئر وناصب السكين (12/130)
في الشهادة
مسألة : قال : وإن كان محكوما به عبدا أو أمة غرما قيمته
أما إذا شهد بالعبد أو الأمة لغير مالكه فالحكم في ذلك كالحكم في الشهادة بالمال على ما ذكرنا من الخلاف فيه لأنها من جملة المال وإن شهدا بحريتهما ثم رجعا عن الشهادة لزمهما غرامة قيمتها لسيدهما بغير خلاف بينهم فيه فإن المخالف في التي قبلها هو الشافعي وقد وافق ههنا وهو حجة عليه فيما خالف فيه فإن إخراج العبد عن يد سيده بالشهادة بحريته كإخراجه عنها بالشهادة به لغير مالكه فإذا لزمه الضمان ثم لزمه ههنا وغرما القيمة لأن العبيد من المتقومات لا من ذوات الأمثال
فصل : وإن شهدوا بطلاق امرأتين تبين به فحكم الحاكم بالفرقة ثم رجع عن الشهادة وكان قبل الدخول فالواجب عليهما نصف المسمى وبهذا قال أبو حنيفة
وقال الشافعي في أحد قوليه : يجب مهر المثل لأنهما أتلفا عليه البضع فلزمهما عوضه وهو مهر المثل وفي القول الآخر لزمهما نصف مهر المثل لأنه إنما ملك نصف البضع بدليل إنما يجب عليه نصف المهر
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم بدليل ما أخرجته من ملكه بردتها أو إسلامها أو قتلها نفسها فإنها لا تضمن شيئا ولو فسخت نكاحها قبل الدخول برضاع من ينفسخ به نكاحها لم يغرم شيئا وإنما وجب عليهما نصف المسمى لأنهما ألزماه للزوج بشهادتهما وقراره عليه فرجع عليهما كما يرجع به عل من فسخ نكاحه برضاع أو غيره
وقوله أنه ملك نصف البضع غير صحيح فإن البضع لا يجوز تمليك نصفه ولأن العقد ورد على جميعه والصداق واجب جميعه ولهذا تملكه المرأة إذا قبضته ونماءه لها وتملك طلبه إذا لم تقبضه وإنما يسقط نصفه بالطلاق وأما إن كان الحكم بالفرقة بعد الدخول فلا ضمان عليهما وبه قال أبو حنيفة
وعن أحمد رواية أخرى عليهما ضمان المسمى في الصداق لأنهما فوتا عليه نكاحا وجب عليه به عوض فكان عليهما ضمان ما وجب به كما لو شهدا بذلك قبل الدخول
وقال الشافعي : يلزمهما له مهر المثل لأنهما أتلفا البضع عليه وقد سبق الكلام معه في هذا ولا يصح القياس على ما قبل الدخول لأنهما قررا عليه نصف المسمى وكان بعرض السقوط وههنا قد تقرر المهر كله بالدخول فلم يقررا عليه شيئا ولم يخرجا من ملكه متقوما فأشبه ما لو أخرجنا من ملكه بقتلها أو أخرجته هي بردتها
فصل : وإن شهدا على المرأة بنكاح فحكم به الحاكم ثم رجعا نظرت فإن طلقها الزوج قبل دخوله بها لم يغرما شيئا لأنهما لم يفوتا عليهما شيئا وإن دخل بها وكان الصداق المسمى بقدر مهر المثل أو أكثر منه ووصل إليها فلا شيء عليهما لأنها أخذت عوض ما فوتاه عليها وإن كان دونه فعليهما ما بينهما وإن لم يصل إليهما فعليهما ضمان مهر مثلها لأنه عوض ما فوتاه عليها
فصل : وإن شهدا بكتابة عبده ثم رجعا نظرت فإن عجز ورد في الرق فلا شيء عليهما فإن أدى وعتق فعليهما ضمان جميعه لأنهما فوتاه عليه بشهادتهما ويحتمل أن يلزمهما ما بين قيمته وما قبضه من كتابته والأول لأن ما قبضه من كسب عبده فلا يحسب عليه وإن أراد تغريمهما بشهادتهما ويحتمل أن يلزمهما قبل انكشاف الحال فينبغي أن يغرمهما ما بين قيمته سلميا و مكاتبا وإن شهدا باستيلاد أمته ثم رجعا فينبغي أن يرجع عليهما بما نقصتها الشهادة من قيمتها وإن عتقت بموته رجع الورثة بما بقي من قيمتها
فصل : وكل موضع وجب الضمان على الشهود بالرجوع وجب أن يوزع بينهم على عددهم قلوا أو أكثروا قال أحمد : في رواية إسحاق بن منصور : إذا شهد بشهادة ثم رجع وقد أتلف مالا فإنه ضامن بقدر ما كانوا في الشهادة فإن كانوا اثنين فعليه النصف وإن كانوا ثلاثة فعليه الثلث وعلى هذا لو كانوا عشرة فعليه العشر وسواء رجع وحده أو رجعوا جميعا وسواء رجع الزائد عن القدر الكافي في الشهادة أو من ليس بزائد فلو شهد أربعة بالقصاص فرجع واحد منهم وقال : عمدنا قتله فعليه القصاص وإن قال : أخطأنا فعليه ربع الدية وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو نصف الدية وإن شهد ستة بالزنا على محصن فرجم بشهادتهم ثم رجع واحد فعليه القصاص أو سدس الدية وإن رجع اثنان فعليهما القصاص أو ثلث الدية وبهذا قال أبو عبيد وقال أبو حنيفة : إن رجع واحد أو اثنان فلا شيء عليهما لأن بينة الزنا قائمة فدمه غير محقون وإن رجع ثلاثة فعليهم ربع الدية وإن رجع أربعة فعليهم نصف الدية وإن رجع خمسة فعليهم ثلاثة أرباعها وإن رجع الستة فعلى كل واحد منهم سدسها ومنصوص الشافعي فيما إذا رجع اثنان كمذهب أبي حنيفة واختلف وأصحابه فيما إذا شهد بالقصاص ثلاثة فرجع أحدهم فقال أبو إسحاق لا قصاص عليه لأن بينة القصاص قائمة وهل يجب عليه ثلث الدية ؟ على وجهين قال ابن الحداد : عليه القصاص وفرق بينه وبين الراجع من شهود الزنا إذا كان زائدا فإن دم المشهود عليه بالزنا غير محقون وهذا دمه محقون وإنما أبيح دمه لولي القصاص وحده واختلفوا فيما إذا شهد بالمال ثلاثة فرجع أحدهم على وجهين : أحدهما : يضمن الثلث والثاني : لا شيء عليه
ولنا أن الإتلاف حصل بشهادتهم فالراجع مقر بالمشاركة فيه عمدا عدوانا لمن هو مثله في دلك فلزمه القصاص كما لو أقر بمشاركتهم في مباشرة قتله ولأنه أحد من قتل المشهود عليه بشهادته فأشبه الثاني من شهود القصاص والرابع من شهود الزنا ولأنه أحد من حصل الإتلاف بشهادته فلزمه من الضمان بقسطه كما لو رجع الجميع ولأن ما تضمنه كل واحد مع اتفاقهم على الرجوع يضمنه إذا انفرد بالرجوع كما لو كانوا أربعة وقولهم : إن دمه غير محقون غير صحيح فإن الكلام فيما إذا قتل ولم يبق له دم بحقن ولا عدمه وقيام الشهادة لا يمنع وجوب القصاص كما لو شهدت لرجل باستحقاق القصاص فاستوفاه ثم أقر بأنه قتله ظلما وأن الشهود شهدوا بالزور والتفريق بين القصاص والرجم بكون دم القاتل غير محقون لا يصح لأنه غير محقون بالنسبة إلى من قتله ولأن كل واحد مؤاخذ بإقراره ولا يعتبر قول شريكه ولهذا لو أقر أحد الشريكين بعمدهما وقال الآخر : أخطأنا وجب القصاص على المقر بالعمد
فصل : وإذا حكم الحاكم في المال بشهادة رجل وامرأتين ثم رجعوا عن الشهادة توزع الضمان عليهم على الرجل نصفه وعلى كل امرأة ربعه وإن رجع أحدهم وحده فعليه من الضمان حصته وإن كان الشهود رجلا وعشرة نسوة فرجعوا فعلى الرجل السدس وعلى امرأة نصف السدس وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي لأن كل امرأتين كرجل فالعشر كخمسة رجال ويحتمل أن يجب عليهن النصف وعلى الرجل النصف وبهذا قال أبو يوسف و محمد لأن الرجل نصف البينة بدليل أنه لو رجع وحده قبل الحكم كان كرجوعهن فيكون الرجل حزبا والنساء حزبا فإن رجع بعض النسوة وحده أو الرجل فعلى الراجع مثل ما عليه إذا رجع الجميع وعند أبي حنيفة وأصحابه متى رجع من النسوة ما زاد على اثنين فليس على الراجعات شيء وقد مضى الكلام معهم في هذا
فصل : وإذا شهد أربعة بأربعمائة فحكم الحاكم بها ثم رجع واحد عن مائة وآخر عن مائتين والثالث عن ثلاثمائة والرابع عن أربعمائة فعلى كل واحد مما رجع عنه بقسطه فعلى الأول خمسة وعشرون وعلى الثاني خمسون وعلى الثالث خمسة وسبعون وعلى الرابع مائة لأن كل واحد منهم مقر بأنه فوت على المشهود عليه ربع ما رجع عنه ويقتضي مذهب أبي حنيفة أن لا يلزم الراجع عن الثلاثمائة لو الأربعمائةأكثر من خمسين خمسين لأن المائتين لاتلزم الراجع عن الثلاثمائة لأن المائتين التي رجعا عنهما قد بقي بها شاهدان
فصل : وإذا شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجعوا عن الشهادة فالضمان على جميعهم وقال أبو حنيفة : لا ضمان على شهود الإحصان لأنهم شهدوا بشرط دون السبب الموجب للقتل وإنما يثبت ذلك بشهادة الزنا ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين
ولنا أن قتله حصل بمجموع الشهادتين فتجب الغرامة على الجميع كما لو شهدوا جميعهم بالزنا وفي كيفية الضمان وجهان
أحدهما : يوزع على عدد رؤوسهم كشهود الزنا لأن القتل حصل من جميعهم والثاني : على شهود الزنا النصف وعلى شهود الإحصان النصف لأنهم حزبان فلكل حزب نصف فإن شهد أربعة بالزنا واثنان منهم بالإحصان ثم رجعوا فعلى الوجه الأول على شاهدي الإحصان الثلثان وعلى الآخران الثلث لأن على شاهدي الإحصان الثلث لشهادتهما به والثلث لشهادتهما بالزنا وعلى الآخرين الثلث لشهادتهما بالزنا وحده
وعلى الوجه الثاني على شهود الإحصان ثلاثة أرباع الدية لأن عليهما النصف لشهادتهما بالإحصان ونصف الباقي لشهادتهما بالزنا ويحتمل أن لا يجب على شاهدي الإحصان إلا النصف لأن كل واحد منهما جنى جنايتين وجنى كل واحد من الآخرين جناية واحدة فكانت الدية بينهم على عدد رؤوسهم لا على عدد جناياتهم كما لو قتل اثنان واحدا جرحه أحدهما جرحا والآخر جرحين
فصل : وإذا شهد شاهدان أنه أعتق هذا العبد على ضمان مائة درهم وقيمة العبد مائتان فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجعا رجع السيد على الشاهدين بمائة لأنه تمام القيمة وكذلك لو شهدا على رجل أنه طلق زوجته قبل الدخول على مائة ونصف المسمى مائتان غرما للزوج مائة لأنهما فوتاها بشهادتهما المرجوع عنها
فصل : وإذا شهد رجلان على رجل بنكاح امرأة بصداق ذكراه وشهد آخران بدخوله بها ثم رجعوا بعد الحكم عليه بصداقها فعلى شهداء النكاح الضمان لأنهم ألزموه المسمى ويحتمل أن يكون عليهم النصف وعلى الآخرين النصف لأنهما قرراه وشاهدا النكاح أوجباه فقسم بين الأربعة أرباعا وإن شهد مع هذا شاهدان بالطلاق لم يلزمهم شيء لأنهما لم يفوتا عليه شيئا يدعيه ولا أوجبا عليه ما لم يكن عليه واجبا
فصل : وإن شهد شاهدا فرع على شاهدي أصل فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجع شاهدا الفرع فعليهما الضمان لا أعلم بينهم في ذلك خلافا وإن رجع شاهدا الأصل وحدهما لزمهما الضمان أيضا وبه قال الشافعي و محمد بن الحسن
وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنه لا ضمان عليهما وهو قول أبي حنيفة و أبي يوسف لأن الحكم تعلق بشهادة شاهدي الفرع بدليل أنهما شهادة جعلا شاهدي الأصل شهادة فلم يلزم شاهدي الأصل ضمان لعدم تعلق الحكم بشهادتهما ولنا أن الحق ثبت بشهادة شاهدي الأصل بدليل اعتبار عدالتهما فإذا رجعا ضمنا كشاهدي الفرع
فصل : وإذا حكم الحاكم بشاهد ويمين فرجع الشاهد غرم جميع المال ونص عليه أحمد في رواية جماعة وقال مالك و الشافعي : يلزمه النصف لأنه أحد حجتي الدعوى فكان عليه النصف كما لو كانا شاهدين
ولنا أن الشاهد حجة الدعوى فكان الضمان عليه كشاهدين يحققه أن اليمين قول الخصم وقول الخصم ليس بحجة وإنما هو شرط الحكم فجرى مجرى مطالبته الحاكم بالحكم وبهذا ينفصل عما ذكروه ولو سلمنا أنها حجة لكن إنما جعلها حجة شهادة الشاهد ولهذا لم يجز تقديمها على شهادته بخلاف شهادة الشاهد الآخر قال أبو الخطاب : ويتخرج أن لا يلزمه إلا النصف المحكوم به إذا قلنا ترد اليمين على المدعي
فصل : وإذا رجعوا عن الشهادة بعد الحكم وقالوا عمدنا ووجب عليهم القصاص لم يعزروا لأن القصاص يغني عن تعزيزهم وإن كان في مال عزروا وغرموا لأنهم جنوا جناية كبيرة وارتكبوا جريمة عظيمة وهي شهادة الزور ويحتمل أن لا يعزروا لأن رجوعهم توبة منهم فيسقط عنهم التعزير ولأن شرعية تعزيرهم تمنعهم الرجوع خوفا منه فلا يشرع وإن قالوا أخطأنا لم يعزروا لأن الله تعالى قال { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } هذا إن كان قولهم يحتمل الصدق في الخطأ وإن لم يحتمله عزروا ولم يقبل قولهم
مسألة : قال : وإذا قطع الحاكم يد السارق بشهادة اثنين ثم بان أنهما كافران أو فاسقان كانت دية اليد في بيت المال
وجملته أن الحاكم إذا حكم بشهادة اثنين في قطع أو قتل وأنفذ ذلك ثم بان أنهما كافران أو فاسقان أو عبدان أو أحدهم فلا ضمان على الشاهدين لأنهما مقيمان على أنهما صادقان فيما شهدا به وإنما الشرع منع قبول شهادتهما بخلاف الراجعين عن الشهادة فإنهما اعترفا بكذبهما ويجب الضمان على الحاكم أو الإمام الذي تولى ذلك لأنه حكم بشهادة من لا يجوز له الحكم بشهادته ولا قصاص عليه لأنه مخطئ وتجب الدية وفي محلها روايتان :
إحداهما : في بيت المال لأنه نائب المسلمين ووكيلهم وخطأ الوكيل في حق موكله عليه ولأن خطأ الحاكم يكثر لكثرة تصرفاته وحكوماته فإيجاب ضمان ما يخطئ فيه على عاقلته إجحاف بهم فاقتضى ذلك التخفيف عنه بجعله في بيت المال ولهذا المعنى حملت العاقلة دية الخطأ عن القاتل
والرواية الثانية : هي على عاقلته مخففة مؤجلة لما روى أن امرأة ذكرت عند عمر بسوء فأرسل إليها فأجهضت ذا بطنها فبلغ ذلك عمر فشاور الصحابة فقال بعضهم : لا شيء عليك إنما أنت مؤدب وقال علي : عليك الدية فقال عمر عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك يعني قريشا لأنهم عاقلة عمر ولو كانت في بيت المال لم يقسمها على قومه ولأنه من خطئه فتحمله عاقلته كخطئه في غير الحكومة و للشافعي قولان كالروايتين : فإذا قلنا أن الدية على عاقلته لم تحمل إلا الثلث فصاعدا ولا تحمل الكفارة لأن العاقلة لا تحمل الكفارة في محل الوفاق كذا ههنا وتكون الكفارة في ماله وإذا قلنا أنه في بيت المال فينبغي أن يكون فيه القليل والكثير لأن جعله في بيت المال لعله أنه نائب عنهم وخطأ النائب على مستنيبه وهذا يدخل يكثر خطؤه فجعل الضمان في ماله يجحف به وإن قال لكثرة تكرره وسواء تولى الحاكم الاستيفاء بنفسه أو أمر من تولاه قال أصحابنا : وإن كان الولي استوفاه فهو كما لو استوفاه الحاكم لأن الحاكم سلطه على ذلك ومكنه منه وللولي يدعي أنه حقه فإذا قيل إذا كان الولي استوفى حقه فينبغي أن يكون الضمان عليه كما لو حكم له بمال فقبضه ثم بان فسق شهوده كان الضمان على المستوفي دون الحاكم كذا هاهنا قلنا : ثم حصل في يد المستوفي مال المحكوم عليه بغير حق فوجب عليه رده أو ضمانه إن تلف وهاهنا لم يحصل في يده شيء وإنما أتلف شيئا بخطأ الإمام وتسليطه عليه فافترقا
فصل : وإن شهد بالزنا أربعة فزكاهم اثنان ورجم المشهود عليه ثم بان أن الشهود فسقة أو عبيد أو بعضهم فلا ضمان على الشهود لأنهم يزعمون أنهم محقون ولم يعلم كذبهم يقينا والضمان على المزكين وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال القاضي : الضمان على الحاكم لأنه حكم بقتله من غير تحقيق شرطه ولا ضمان على المزكين لأن شهادتهما شرط وليست الموجبة وقال أبو الخطاب في رؤوس المسائل : الضمان على الشهود الذين شهدوا بالزنا
ولنا أن المزكين شهدوا بالزور شهادة أفضت إلى قتله فلزمهما الضمان كشهود الزنا إذا رجعوا ولا ضمان على الحاكم لأنه أمكن إحالة الضمان على الشهود فأشبه ما إذا رجعوا عن الشهادة وقوله إن شهادتهم شرط لا يصح لأن من أصلنا أن شهود الإحصان يلزمهم الضمان وإن لم يشهدوا بالسبب وقد نص عليه أحمد وقول أبي الخطاب لا يصح لأن شهود الزنا لم يرجعوا ولا علم كذبهم بخلاف المزكين فإنه تبين كذبهم وأنهم شهدوا بالزور وأما إن تبين فسق المزكين فالضمان على الحاكم لأن التفريط منه حيث قبل شهادة فاسق من غير تزكية ولا بحث فيلزمه الضمان كما لو قبل الشهادة شهود الزنا من غير تزكية ثم تبين فسقهم
فصل : ولو جلد الإمام إنسانا بشهادة شهود ثم بان أنهم فسقة أو كفرة أو عبيد فعلى الإمام ضمان ما حصل من أثر الضرب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفه : لا ضمان عليه
ولنا أنها جناية صدرت عن خطأ الإمام فكانت مضمونة عليه كما لو قطعه أو قتله
فصل : ولو حكم الحاكم بمال بشهادة شاهدين ثم بان أنهما فاسقان أو كافران فإن الإمام ينقض حكمه ويرد المال إن كان قائما وعوضه إن كان تالفا فإن تعذر ذلك لإعساره أو غيره فعلى الحاكم ضمانه ثم يرجع على المشهود له وعن أحمد رواية أخرى لا ينقض حكمه إذا كانا فاسقين ويغرم الشهود المال وكذلك الحكم إذا شهد عنده عدلان أن الحاكم قبله بشهادة فاسقين ففيه روايتان ولا يغرم الشهود المال وكذلك الحاكم إذا شهد واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضا ولا خلاف بين الجميع في أنه ينقض حكمه إذا كانا كافرين وينقض حكم غيره إذا ثبت عنده أنه حكم بشهادة كافرين فقيس على ذلك ما إذا حكم بشهادة فاسقين فإن شهادة الفاسقين مجمع على ردها وقد نص الله تعالى على التبين فيها فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } وأمر بإشهاد العدول وقال { وأشهدوا ذوي عدل منكم } واعتبر الرضا بالشهداء فقال تعالى { ممن ترضون من الشهداء } فيجب نقض الحكم لفوات العدالة كما يجب نقضه لفوات الإسلام ولأن الفسق معنى لو ثبت عند الحاكم قبل الحكم منعه فإذا شهد شاهدان أنه كان موجودا حالة الحكم وجب نقض الحكم كالكفر والرق في العقوبات إذا ثبت هذا فإن أبا حنيفة قال لا يسمع الحاكم الشهادة بفسق الشاهدين لا قبل الحكم ولا بعده ومتى جرح المشهود عليه البينة لم تسمع بينته بالفسق ولكن يسأله عن الشاهدين ولا تسمع على الفسق شهادة لأن الفسق لا يتعلق به حق أحد فلا تسمع في الدعوى والبينة
ولنا أنه معنى يتعلق الحكم به فسمعت فيه الدعوى والبينة كالتزكية وقوله لا يتعلق به حق أحد ممنوع فإن المشهود عليه يتعلق حقه بفسقه في منع الحكم عليه قبل الحكم ونقضه بعده وتبرئته من أخذ ماله أو عقوبته بغير حق فوجب أن تسمع فيه الدعوى والبينة كما لو ادعى رق الشاهدين ولم يدعه لنفسه ولأنه إذا لم تسمع البينة الفسق أدى إلى ظلم المشهود عليه لأنه يمكن أن لا يعرف فسق الشاهدين إلا شهود المشهود عليه فإذا لم تسمع شهادتهم وحكم عليه بشهادة الفاسقين كان ظالما له فأما إن قامت البينة أنه حكم بشهادة والدين أو والدين أو ولدين أو عدوين نظر في الحاكم الذي حكم بشهادتهما فإن كان ممن يرى الحكم به لم ينقض حكمه لأنه حكم باجتهاده فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم يخالف نصا ولا إجماعا وإن كان ممن لا يرى الحكم بشهادتهم نقضه لأن الحاكم به يعتقد بطلاته والفرق بين المال والإتلاف أن المال إن كان باقيا وجب رده إلى صاحبه لأن كل واحد أحق بماله وإن كان تالفا وجب ضمانه على آخذه لأنه أخذه بغير إذن صاحبه ولا استحقاق لأخذه أما الإتلاف فإنه لم يحصل به في يد المتلف شيء برده ولم يمكن تضمينه لأنه إنما أتلف بحكم الحاكم وتسليطه عليه وهو لا يقر بعداوته بل يقول استوفيت حقي ولم يثبت خلاف دعواه ولم يمكن تضمين الشهود لأنهم يقولون شهدنا بما علمنا وأخبرنا بما رأينا وسمعنا ولم نكتم شهادة الله تعالى التي لزمنا أداؤها ولم يثبت كذبهم فوجب إحالة الضمان على الحاكم لأنه حكم من غير وجود شرط الحكم ومكن من إتلاف المعصوم من غير بحث عن عدالة الشهود وكان التفريط منه فوجب إحالة الضمان عليه (12/143)
إذا ادعى عبد أن سيده أعتقه حلف مع شاهده وصار حرا
مسألة : قال : وإذا ادعى العبد أن سيده أعتقه حلف مع شاهده وصار حرا
وروي عن أحمد في هذا روايتان أحدهما : أن العتق يثبت بشاهد ويمين وهو اختيار أبي بكر لأنه إزالة ملك فيثبت بشاهد ويمين كالبيع والهبة ولأنه إتلاف للمال فيقبل فيه شاهد ويمين كالإتلاف بالفعل وإفضاؤه إلى تكميل الأحكام لا يمنع ثبوته بشاهد ويمين بدليل أن الولادة تثبت بشهادة النساء وينبني عليها النسب الذي لا يثبت بشهادتهن والرواية الثانية : لا نثبت الحرية إلا بشاهدين عدلين ذكرين لأنها ليست بمال ولا المقصود منها المال ويطلع عليها الرجال في غالب الأحوال فأشبهت الحدود والقصاص والله أعلم (12/153)
في شهادة الزور
مسألة : قال : ومن شهد بشهادة زور أدب وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر أنه شاهد زور إذا تحقق تعمده لذلك
وجملته ذلك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر قد نهى الله عنها في كتابه مع نهيه عن الأوثان فقال تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } وقد [ روي عن خريم بن فاتك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاث مرات ثم تلا قوله تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ] رواه أبو داود وروي عن ابن مسعود من قوله وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ] متفق عليه ورو أبو حنيفة عن محارب بن دثار عن عمر عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال [ شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار ] فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنه شهد بزور عمدا عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه يقول شريح و القاسم بن محمد و سالم بن عبد الله و الأوزاعي و ابن أبي ليلى و مالك و الشافعي و عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة وقال أبو حنيفة : لا يعزر ولا يشهر لأنه قول منكر وزور فلا يعزر به كالظهار وروى عنه الطحاوي أنه يشهر وأنكره المتأخرون
ولنا أنه قول محرم يضر به الناس فأوجب العقوبة على قائله كالسب والقذف ويخالف الظهار من وجهين أحدهما : أنه يختص بضرره والثاني : أنه أوجب كفارة شاقة هي أشد من التعزير ولأنه قول عمر رضي الله عنه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا وإذا ثبت هذا فإن تأديبه غير مقدور وإنما هو مفوض إلى رأي الحاكم إن رأى ذلك بالجلد جلده وإن رآه بحبس أو كشف رأسه وإهانته وتوبيخه فعل ذلك ولا يزيد في جلده على عشر جلدات وقال الشافعي : لا يزيد على تسع وثلاثين لئلا يبلغ به أدنى الحدود وقال ابن أبي ليلى : يجلد خمسة وسبعين سوطا وهو أحد قولي أبي يوسف وقال الأوزاعي في شاهدي الطلاق : يجلدان مائة مائة ويغرمان الصداق
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى ] متفق عليه وقال القاسم و سالم يخفق سبع خفقات وقال شريح يجلد أسواطا فأما شهرته بين الناس فإنه يوقف في سوقه إن كان من أهل السوق أو قبيلته إن كان من أهل القبائل أو في مسجده إن كان من أهل المسجد ويقول الموكل به : إن الحاكم يقرأ عليكم السلام ويقول : هذا شاهد زور فاعرفوه وهذا مذهب الشافعي وأتى الوليد بن عبد الملك بشاهد زور فأمر بقطع لسانه وعنده القاسم وسالم فقالا : سبحان الله بحسبه أن يخفق سبع خفقات ويقام بعد العصر فيقال هذا أبو قبيس وجدناه شاهد زور ففعل ذلك به ولا يسخم وجهه ولا يركب ولا يكلف أن ينادي على نفسه وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه يجلد أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطال حبسه رواه الإمام أحمد وقال سوار : يلبب ويدار به على حلق المسجد فيقول : من رآني فلا يشهد بزور وروي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة أنه أمر بحلق رؤوسهم وتسخيم وجوههم ويطاف بهم في الأسواق والذي شهدوا له معهم
ولنا أن هذا مثله وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن المثلة وما روي عن عمر فقد روي عنه خلافه وأنه حبسه يوما وخلى سبيله وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعي فما فعل الحاكم مما يراه ما لم يخرج إلى مخالفة نص أو معنى نص فله ذلك ولا يفعل به شيء من ذلك حتى يحقق أنه شاهد زور وتعمد ذلك إما بإقراره أو يشهد على رجل بفعل في الشام في وقت ويعلم أن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق أو يشهد بقتل رجل وهو حي أو أن هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنها أقل من ذلك أو يشهد على رجل أنه فعل شيئا في وقت وقد مات قبل ذلك الوقت أو لم يولد إلا بعده وأشباه هذا مما يتقين به كذبه ويعلم تعمده لذلك فأما تعارض البينتين أو ظهور فسقه أو غلطه في شهادته فلا يؤدب به لأن الفسق لا يمنع الصدق والتعارض لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها والغلط قد يعرض للصادق العدل ولا يتعمده فيعفى عنه وقد قال الله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ]
فصل : ومتى علم أن الشاهدين شهدا زور تبين أن الحكم كان باطلا ولزم نقضه لأنا تبينا كذبهما فيما شهدا به بطلان ما حكم به فإن كان المحكوم به مالا رد إلى صاحبه وإن كان إتلافا فعلى الشاهدين ضمانه لأنهما سبب إتلافه إلا أن يثبت ذلك بإقرارهما على أنفسهم من غير موافقة المحكوم له فيكون ذلك رجوعا منهما عن شهادتهما وقد بينا حكم ذلك
فصل فإذا تاب شاهد الزور وأتت على ذلك مدة تظهر فيها توبته وتبين صدقه فيها وعدالته قبلت شهادته وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وقال مالك لا تقبل شهادته أبدا لأن ذلك لا يؤمن منه
ولنا أنه تائب من ذنبه فقبلت توبته كسائر التائبين وقوله : لا يؤمن منه ذلك قلنا مجرد الاحتمال لا يمنع قبول الشهادة بدليل سائر التائبين فإنه لا يؤمن منهم معاودة ذنوبهم ولا غيرها وشهادتهم مقبولة والله أعلم (12/154)
فيما لو غير العدل شهادته
مسألة : قال : وإذا غير العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها ونقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته
وهذا مثل أن يشهد بمائة ثم يقول : هي مائة وخمسين أو يقول بل هي تسعون فإنه يقبل منه رجوعه ويحكم بما شهد به أخيرا وبهذا قال أبو حنيفة و الثوري و سليمان بن حبيب المحاربي و إسحاق وقال الزهري : لا تقبل شهادته الأولى ولا الآخرة لأن كل واحدة منهما ترد الأخرى وتعارضها ولأن الأولى مرجوع عنها والثانية غير موثوق بها لأنها من مقر بغلطه وخطأه في شهادته فلا يؤمن أن يكون في الغلط كالأولى وقال مالك : يؤخذ بأقل قوليه لأنه أدى الشهادة وهو غير متهم فلم يقبل رجوعه عنها كما لو اتصل بها الحكم
ولنا أن شهادته الآخرة من عدل غير متهم لم يرجع عنها فوجب الحكم بها كما لو لم يتقدمها ما يخالفها ولا تعارضها الأولى لأنها قد بطلت برجوعه عنها ولا يجوز الحكم بها لأنها شرط الحكم فيعتبر استمرارها إلى انقضائه ويفارق رجوعه بعد الحكم لأن الحكم قد تم باستمرار شرطه فلا ينقض بعد تمامه
فصل : وإن شهد بألف ثم قال قبل الحكم قضاه منه خمسمائة فسدت شهادته ذكره أبو الخطاب فقال : إذا شهد أن عليه ألفا ثم قال أحدهم قضاه منه خمسمائة بطلت شهادته وذلك أنه شهد بأن الألف جميعه عليه وإذا قضاه خمسمائة لم تكن الألف كله عليه فيكون كلامه متناقضا فتفسد شهادته وفارق هذا ما لو شهد بألف ثم قال بل بخمسمائة لأن ذلك رجوع عن الشهادة بخمسمائة وإقرار بغلط نفسه وهذا لا يقول هذا على سبيل الرجوع والمنصوص عن أحمد أن شهادته تقبل بخمسمائة فإنه قال : إذا شهد بألف ثم قال أحدهما قبل الحكم : قضاه منه خمسمائة أفسد شهادته والمشهود له ما اجتمعا عليه وهو خمسمائة فصحح شهادته في نصف الألف الباقي وأبطلها في النصف الذي ذكر أنه قضاه لأن ذلك بمنزلة الرجوع عن الشهادة به فأشبه ما لو قال : أشهد بألف بل خمسمائة
قال أحمد ولو جاء بعد هذا المجلس فقال : أشهد أنه قضاه منه خمسمائة لم يقبل منه لأنه قد أمضى الشهادة فهذا يحتمل أنه أراد إذا جاء بعد الحكم فشهد بالقضاء لم يقبل منه لأن الألف قد وجب بشهادتهما وحكم الحاكم ولا تقبل شهادته بالقضاء لأنه لا يثبت بشاهد واحد فأما إن شهد أنه أقرضه ألفا ثم قال : قضاه منه خمسمائة قبلت شهادته في باقي الألف وجها واحدا لأنه لا تناقض في كلامه ولا اختلاف (12/156)
إذا شهد الشهود واختلفت شهادتهم
مسألة : قال : إذا شهد شاهد بألف وآخر بخمسمائة حكم لمدعي الألف بخمسمائة وحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب
وجملة ذلك أنه إذا شهد أحد الشاهدين بشيء وشهد الآخر ببعضه صحت الشهادة وثبت ما اتفقا عليه وحكم به وهذا قول شريح و مالك و الشافعي و ابن أبي ليلى و أبي يوسف و محمد و إسحاق و أبي عبيد وحكي عن الشعبي أنه شهد عنده رجلان وشهد أحدهما أنه طلقها تطليقه وشهد الآخر أنه طلقها تطليقتين فقال قد اختلفتما قوما وحكي عن أبي حنيفة أنه شهد شاهد أنه أقر بألف وشهد آخر أنه أقر بألفين لم تصح الشهادة لأن الإقرار بالألف غير الإقرار بالألفين فلم يشهد بكل إقرار إلا واحد
ولنا أن الشهادة قد كملت فيما اتفقا عليه فحكم به كما لو لم يزد أحدهم على صاحبه وما ذكره من أن كل إقرار إنما يشهد به واحد يبطل بما إذا شهد أحدهما أنه اقر بألف غدوة وشهد الآخر أنه أقر بألف عشيا فإن الشهادة تكمل مع أن كل إقرار إنما يشهد به واحد فأما ما انفرد به أحدهما فإن للمدعي أن يحلف معه ويستحق وهذا قول من يرى الحكم بشاهد ويمين وهذا فيما إذا أطلق الشهادة أو لم تختلف الأسباب والصفات فأما إن اختلفت مثل أن يشهد شاهد بألف من قرض وشاهد بخمسمائة من ثمن مبيع ويشهد شاهد بألف بيض وآخر بخمسمائة سود أو يشهد شاهد بألف دينار والآخر بخمسمائة درهم لم تكمل البينة وكان له أن يحلف مع كل واحد منهما ويستحقها ويحلف مع أحدهما ويستحق ما شهد به
فصل : فإن شهد له الشاهدان ويحلف وشاهدان بخمسمائة ولم تختلف الأسباب والصفات دخلت الخمسمائة في الألف ووجب له بالشهادتين مائة وإن اختلفت الأسباب والصفات وجب له الألف والخمسمائة ولم يدخل أحدهما في الآخر لأنهما مختلفان
فصل : وإن شهد له شاهد أنه باعه هذا العبد بألف وشهد آخر أنه باعه إياه بخمسمائة لم تكمل البينة لاختلافهما في صفة البيع وله أن يحلف مع أحدهما ويثبت له ما حلف عليه وإن شهد له بكل عقد شاهدان ثبت البيعان وإن أضاف البيع إلى وقت واحد مثل أن يشهد أنه باعه هذا العبد مع الزوال بألف وشهد آخر أنه باعه إياه مع الزوال بخمسمائة تعارضت البينتان وسقطتا لأنه لا يمكن اجتماعهما وكل بينة تكذب الأخرى وإن شهد بكل واحد من هذين شاهد واحد كان له أن يحلف مع أحدهما ولا يتعارضان لأن التعارض إنما يكون بين البينتين الكاملتين
فصل : وإن شهد أحدهما أنه غصبه ثوبا قيمته درهمان وشهد آخر أن قيمته ثلاث ثبت له ما اتفقا عليه وهو درهمان وله أن يحلف مع الآخر على درهم لأنهما اتفقا على درهمين وانفرد أحدهما بدرهم فأشبه ما لو شهد أحدهما بألف وآخر بخمسمائة وإن شهد شاهدان أن قيمته درهمان وشاهدان أن قيمته ثلاثة ثبت له درهمان وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : له ثلاثة لأنه قد شهد بها شاهدان وهما حجة فيجب الأخذ بهما كما يؤخذ بالزيادة في الأخبار وكما لو شهد له شاهدان بألف وشاهدان بألفين فإنه يجب له ألفان قال القاضي : ويتوجه لنا مثل هذا بناء على مسألة الألف وخمسمائة
ولنا أن من شهد أن قيمته درهمان ينفي أن تكون قيمته ثلاثة فقد تعارضت البينتان في الدرهم وتخالف الزيادة في الأخبار فإن من يروي الناقص لا ينفي الزيادة وكذلك من شهد بألف لا ينفي أن عليه ألفا آخر فإن قيل فلم قلتم إنه إذا شهد بكل واحد من القيمتين شاهدان تعارضتا وإن شهد واحد لم تتعارضا وكان له أن يحلف مع الشاهد بالزيادة عليها ؟ قلنا : لأن الشاهدين حجة وبينة فإذا كملت من الجانبين تعارضت الحجتان لتعذر الجمع بينهما وأما الشاهد الواحد فليس بحجة وحده إنما يصير حجة مع يمين فإذا حلف مع أحدهما كملت الحجة بيمينه ولم يعارضهما ما ليس بحجة كما لو شهد بأحدهما شاهدان وبالآخر شاهد واحد (12/157)
من ادعى شهادة عدل فأنكر أن عنده شهادة
مسألة : قال : ومن ادعى شهادة عدل فأنكر أن تكون عنده ثم شهد بها بعد ذلك وقال : كنت أنسيتها قبلت منه
وجملة ذلك أن العدل إذا أنكر أن تكون عنده شهادة ثم شهد بها قال : كنت أنسيتها قبلت ولم ترد شهادته وبهذا قال الثوري و الشافعي و إسحاق ولا أعلم فيه مخالفا وذلك لأنه يجوز أن يكون نسيها وإذا كان ناسيا لها فلا شهادة عنده فلا نكذبه مع إمكان صدقه ولا يشبه هذا إذا ما قال : لا بينة لي ثم أتى ببينة حيث لا تسمع فإن ذلك إقرار منه على نفسه بعدم البينة والإنسان يؤاخذ بإقراره وقول الشاهد : لا شهادة عندي ليس بإقرار فإن الشهادة ليست له إنما هي حق فيكون منكرا لها فإذا اعترف بها كان إقرارا بعد الإنكار وهو مسموع بخلاف الإنكار بعد الإنكار ولأن الناسي للشهادة لا شهادة له عنده فهو صادق في إنكاره فإذا ذكرها صارت عنده فلا تنافي بين القولين وصار هذا كمن أنكر أن يكون عنده شهادة قبل أن يستشهد ثم استشهد بعد ذلك فصارت عنده بخلاف من أنكر أن له بينة فإنه لا يخرج عن أن يكون له بينة بنسيانها (12/158)
من شهد بشهادة يجر إلى نفسه يعضها
مسألة : قال : ومن شهد بشهادة يجر إلى نفسه بعضها بطلت شهادته في الكل
وجملته أن من شهد بشهادة له بعضها مثل أن يشهد الشريك لشريكه بمال من الشركة أو يشهد على زيد بدار له ولعمرو فإن شهادته تبطل في الكل وقال الشافعي : فيهما قولان : أحدهما كقولنا والثاني : تصح شهادته لغيره لأنه أجنبي فتصح شهادته له كما لو لم يكن له فيها شرك ويتخرج لنا مثل هذا بناء على قولنا في عبد بين ثلاثة اشترى نفسه منهم بثلاثمائة درهم فادعى أنهم قبضوها منه فأنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا فأقر له اثنان وشهدا على المنكر بالقبض فإن شهادتهما تقبل عليه ويشاركهما فيما أخذا من المال
ولنا أنها شهادة رد بعضها للتهمة فترد جميعها كما لو شهد المضارب لرب المال بمال من المضاربة ولو شهد بدين لأبيه وأجنبي أو شهد بشهادة ترد في بعض ما شهد به بطلت كلها (12/159)
حكم ما لو مات رجل وخلف ابنا وألف درهم
مسألة : قال : وإذا مات رجل وخلف ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم وصدقه الأب وادعى آخر مثل ذلك وصدقه الابن فإن كان في مجلس واحد كان الألف بينما وإن كان في مجلسين كان الألف للأول ولا شيء للثاني
وجملته أن الميت إذا خلف وارثا وتركة فأقر الوارث لرجل بدين على الميت يستغرق ميراثه فقد أقر بتعلق دينه بجمع التركة استحقاقه لجميعها فإذا أقر بعد ذلك لآخر نظرت فإن كان المجلس صح الإقرار واشتركا في التركة لأن حالة المجلس كلها كحالة واحدة بدليل القبض فيما يعتبر القبض فيه وإمكان الفسخ في البيع ولحوق الزيادة في العقد فكذلك في الإقرار وإن كان في مجلس آخر لم يقبل إقراره لأنه يقر بحق على غيره فإنه يقر بما يقتضي مشاركة الأول في التركة ومزاحمته فيها وتنقيص حقه منها ولا يقبل إقرار الإنسان على غيره وقال الشافعي : يقبل إقراره ويشتركان فيها لأن الوارث يقوم مقام الموروث ولو أقر الموروث لهما لقبل فذلك الوارث ولأن منعه من الإقرار يفضي إلى إسقاط حق الغرماء فإنه قد لا يتفق حضورهم في مجلس واحد فيبطل حقه بغيبته ولأن من قبل إقراره أولا قبل اقراره ثانيا إذا لم يتغير حاله كالموروث
ولنا أنه أقر بما يتعلق بمحل تعلق به حق غيره على وجه يضر به تعلقا يمنع صحة تصرفه فيه فلم يقبل كإقرار الراهن بجناية عبده المرهون أو الجاني وأما الموروث فإن أقر في صحته صح لأن الدين لا يتعلق بماله وإنما يتعلق بذمته وإن أقر في مرضه لم يحاص المقر له غرماء الصحة لذلك وإن أقر في مرضه لغريم يستغرق دينه تركته ثم أقر لآخر في مجلس آخر صح وشارك الأول والفرق بينه وبين الوارث أن إقراره الأول لم يمنعه التصرف في ماله ولا أن يتعلق به دين آخر بأن يستدين دينا آخر فلم يمنع ذلك تعلق الدين بتركته الإقرار بخلاف الوارث فإنه لا يملك أن يعلق بالتركة دينا آخر بفعله فلا يملكه بقوله ولا يملك التصرف في التركة ما لم يلتزم قضاء الدين
فصل : وإن مات وترك ألفا فأقر به ابنه لرجل ثم أقر به لغيره فهو للأول ولا شيء للثاني فيه سواء كان في مجلس أو مجلسين لأنه باعترافه للأول ثبت له الملك فيه فصار إقراره للثاني إقرار له بملك غيره فلم يقبل وتلزم المقر غرامته للثاني لأنه فوته عليه بإقرار لغيره فأشبه ما لو غصبه منه فدفعه إلى غيره (12/159)
في إشارة المريض بالإقرار
مسألة : قال : ومن ادعى دعوى على مريض فأومأ برأسه أي نعم لم يحكم بها حتى يقول بلسانه
وجملته أن إشارة المريض لا تقوم مقام نطقه وسواء كان عاجزا عن الكلام أو قادرا عليه وبهذا قال الثوري وقال الشافعي : يقبل إقراره بإشارته إذا كان عاجزا عن الكلام لأنه إقرار بالإشارة من عاجز عن الكلام فأشبه إقرار الأخرس
ولنا أنه غير ميئوس من نطقه فلم تقم إشارته مقام نطقه كالصحيح وبهذا فارق الأخرس فأنه ميئوس من نطقه ولهذا لو ارتج عليه في الصلاة لم تصح صلاته بغير قراءة بخلاف الأخرس والآيسة بفرق بينها وبين من ارتفع حيضها مع إمكانه في العدة ولأن عجزه عن النطق غير متحقق فإنه يحتمل أن يترك الكلام لصعوبته عليه ومشقته لا لعجزه وإن صار إلى حال يتحقق الإياس من نطقه لم يوثق بإشارته لأن المرض الذي أعجزه عن النطق لم يختص بلسانه فيجوز أن يكون أثر في عقله أو في سمعه فلم يدر ما قيل له بخلاف الأخرس ولأن الأخرس قد تكررت إشارته حتى صارت عند من يعاشره كاليقين ومثله النطق وهذا لم يتكرر إشارته فلعله لم يرد الإقرار إنما أراد الإنكار أو إسكات من يسأله ومع هذه الفروق لا يصح القياس (12/160)
فيمن قال لا بينة لي ثم جاء ببينة
مسألة : قال : ومن ادعى دعوى وقال لا بينة ثم أتى بعد ذلك ببينة لم تقبل لأنه مكذب لبينته
وبهذا قال محمد بن الحسن وقال أبو يوسف و ابن المنذر : تقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه يجوز أن ينسى أن يكون الشاهدان سمعا منه وصاحب الحق لا يعلم فلا يثبت بذلك أنه كذب بينته وقال بعض أصحاب الشافعي : وإن كان الأشهاد أمرا تولاه بنفسه لم تسمع بينته لأنه أكذبها وإن كان وكيله أشهد على المدعى عليه أو شهد من غير علمه أو من غير أن يشهدهم سمعت بينته لأنه معذور في نفيه إياها وهذا القول حسن ولنا أنه أكذب بينته بإقراره أنه لا يشهد له أحد فإذا شهد له إنسان كان تكذيبا له ويفرق الشاهد إذا قال لا شهادة عندي ثم قال كنت نسيتها لأن ذلك إقرار لغيره بعد الإنكار وههنا هو مقر لخصمه بعدم البينة فلم يقبل رجوعه عنه والحكم في ما إذا قال كل بينة لي زور كالحكم في ما إذا قال لا بينة لي على ما ذكرنا من الخلاف فيه (12/160)
إذا قال : ما علم لي بينة ثم جاء بينة سمعت
فصل : وإن قال : ما أعلم لي بينة ثم أتى ببينة سمعت لأنه يجوز أن تكون له بينة لم يعلمها ثم علمها قال أبو الخطاب : ولو قال ما أعلم لي بينة فقال شاهدان نحن نشهد لك سمعت بينته (12/161)
تقبل شهادة الوصي على من هو موصى عليهم
مسألة : قال : وإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم قبلت شهادته وإن شهد لهم لم يقبل إذا كانوا في حجره
أما شهادته عليهم فمقبولة لا نعلم فيه خلافا فإنه لا يتهم عليهم ولا يجر بشهادته عليهم نفعا ولا يدفع عنهم بها ضررا وأما شهادته لهم إذا كانوا في حجره فغير مقبولة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشعبي و الثوري و مالك و الشافعي و الأوزاعي و أبو حنيفة و ابن أبي ليلى وأجاز شريح و أبو ثور شهادته لهم إذا كان الخصم غيره لأنه أجنبي منهم فقبلت شهادته لهم كما بعد زوال الوصية
ولنا أنه شهد بشيء هو خصم فيه فإنه الذي يطالب بحقوقهم ويخاصم فيها ويتصرف فيها فلم تقبل شهادته كما لو شهد بمال نفسه ولأنه يأخذ من مالهم عند الحاجة فيكون متهما في الشهادة به فأما قوله إذا كانوا في حجره فإنه يعني أنه لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم قبلت شهادته لزوال المعنى الذي منع قبولها والحكم في أمين الحاكم يشهد للأيتام الذين هم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء (12/161)
تقبل شهادة من يخنق أحيانا في حالة إفاقته
مسألة : قال : وإذا شهد من يخنق في الأحيان قبلت شهادته في إفاقته
قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور ولا أحسبه إلا مذهب أهل الكوفة وذلك لأن الاعتبار في الشهادة بحال أدائها وهو في وقت الأداء من أهل التحصيل والعقل الثابت فقبلت شهادته كالصبي إذا كبر ولأنه عدل غير متهم فقبلت شهادته كالصحيح وزوال عقله في غير حال الشهادة لا يمنع قبولها كالصحيح الذي ينام كالمريض الذي يغمى عليه في بعض الأحيان (12/161)
قبول شهادة الطبيب في الموضحة
مسألة : قال : وتقبل شهادة الطبيب في الموضحة إذا لم يقدر على طبيبين وكذلك البيطار في داء الدابة
وجملته أنه إذا اختلف في الشجة هل هي موضحة أو لا فيما كان أكثر منها كالهاشمة والمنقله والآمة والدامغة أو أصغر منها كالباضعة والمتلاحمة والسمحاق أو في الجائفة وغيرها من الجراح التي لا يعرفها الأطباء أو اختلفا في داء يختص بمعرفته الأطباء أو في داء الدابة فظاهر كلام الخرقي أنه إذا قدر على طبيبين أو بيطارين لا يجزئ واحد لأنه مما يطلع عليه الرجال فلم تقبل فيه شهادة واحد كسائر الحقوق فإن لم يقدر على اثنين أجزأ واحد لأنه مما لا يمكن كل واحد أن يشهد به لأنه مما يختص به أهل الخبرة من أهل الصنعة فاجتزئ فيه بشهادة واحد بمنزلة العيوب تحت الثياب يقبل فيها قول المرأة الواحدة فقبول قول الرجل الواحد أولى (12/162)
قول أحمد في أنواع الشهادة
فصل : قال أحمد رحمه الله : إذا قال : اشهد على مائة درهم فشهد على مائة دون مائة كره إلا أن يقول أشهد ولي على مائة ومائة يحيكه كله للحاكم كما كان وقال أحمد : إذا شهد على ألف وكان الحاكم لا يحكم إلا على مائة ومائتين فقال له صاحب الحق أريد أن تشهد لي على مائة لم يشهد إلا بألف قال القاضي : وذلك أن على الشاهد نقل الشهادة على ما شهد قال الله تعالى { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } ولأنه لو ساغ للشاهد أن يشهد ببعض ما أشهد عليه لساغ للقاضي أن يقضي ببعض ما شهد به الشاهد
وقال أبو الخطاب : عندي يجوز أن يشهد بذلك لأن من شهد بألف فقد شهد بمائة فإذا شهد بمائة لم يكن كاذبا في شهادته فجاز كما لو كان قد أقرضه مائة مرة وتسعمائة مرة أخرى والأول أصح لما ذكره القاضي ولأن شهادته بمائة ربما أوهمت أن هذه المائة غير التي شهدت بأصله فيؤدي إلى إيجابها عليه مرتين
فصل : قال أحمد : إذا شهد بألف درهم ومائة دينار فله من دراهم ذلك البلد ودنانيره قال القاضي : لأنه لما جاز أن يحمل مطلق العقد على ذلك جاز أن تحمل الشهادة عليه والله أعلم (12/162)
كتاب الدعاوى والبينات
الدعوى في اللغة إضافة الإنسان إلى نفسه شيئا ملكا أو استحقاقا أو صفقة أو نحو ذلك وهي في الشرع إضافته إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شيء عليه
وقال ابن عقيل : الدعوى الطلب قال الله تعالى { ولهم ما يدعون } وقيل : المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره أو إثبات حق في ذمته والمدعى عليه من ينكر ذلك وقيل : المدعي من إذا ترك لم يسكت والمدعى عليه من إذا ترك سكت وقد يكون كل واحد منهما مدعيا ومدعى عليه بأن يختلفا في العقد فيدعى كل واحد منهما أن الثمن غير الذي ذكره صاحبه والأصل في الدعوى قول النبي صلى الله عليه و سلم [ لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم وفي حديث [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف (12/163)
حكم ما لو ادعى زوجية امرأة فأنكرته وشرائط ادعاء النكاح وحكم المرأة تدعي على زوجها النكاح وتذكر معه حقا من حقوق النكاح
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : ومن ادعى زوجية امرأة فأنكرته ولم تكن له بينة فرق بينهما ولم يحلف
وجملته أنه النكاح لا يستحلف فيه رواية واحدة ذكره القاضي وهو قول أبي حنيفة ويتخرج أن يستحلف في كل حق لآدمي وهو قول الشافعي و ابن المنذر ونحوه قول أبي يوسف ومحمد لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق لآدمي فيستحلف فيه كالمال ثم اختلفوا فقال أبو يوسف و ومحمد : يستحلف في النكاح فإن نكل ألزم النكاح وقال الشافعي : إن نكل ردت اليمين على الزوج فحلف وثبت النكاح
ولنا أن هذا مما لا يحل بذله فلم يستحلف فيه كالحد يحقق هذا أن الابضاع مما يحتاط فيها فلا تباح بالنكول ولا به وبيمين المدعي كالحدود وذلك لأن النكول ليس بحجة قوية إنما هو سكوت مجرد يحتمل أن يكون لخوفه من اليمين أو للجهل بحقيقة الحال و للحياء من الحلف والتبذل في مجلس الحاكم ومع هذه الاحتمالات لا ينبغي أن يقضى به فيما يحتاط له ويمين المدعي إنما هي قول نفسه لا ينبغي أن يعطى بها أمرا فيه خطر عظيم وأثم كبير ويمكن من وطء امرأة يحتمل أن تكون أجنبية منه
وأما الحديث فإنما تناول الأموال والدماء فلا يدخل النكاح فيه ولو دخل فيه كل دعوى لكان مخصوصا بالحدود فالنكاح في معناه بل النكاح أولى لأنه لا يكاد يخلو من شهود لكون الشهادة شرطا في انعقاده أو من اشتهاره فيشهد بالاستفاضة والحدود بخلاف ذلك إذا ثبت هذا فإنه يفرق بينهما ويحال بينه وبينها ويخلى سبيلها وإن قلنا أنها تحلف على الاحتمال الآخر فنكلت لم يقض بالنكول وتحبس في أحد الوجهين حتى تقر أو تحلف وفي الآخر يخلى سبيلها وتكون فائدة شرع اليمين التخوف والردع لتقر إن كان المدعي محقا تحلف فتبرأ إن كان مبطلا
فصل : وإذا ادعى رجل نكاح امرأة احتاج إلى ذكر شرائط النكاح فيقول : تزوجتها بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها إن كانت ممن يعتبر رضاها وهذا منصوص الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك لا يحتاج إلى ذكر شرائطه لأنه نوع ملك فأشبه ملك العبد ألا ترى أنه لا يحتاج أن يقول : وليست معتدة ولا مرتدة ؟
ولنا أن الناس اختلفوا في شرائط النكاح فمنهم من يشترط الولي والشهود والمشهود ومنهم من لا يشترط ومنهم من يشترط إذن البكر البالغ لأبيها في تزويجها ومنهم من لا يشترطه وقد يدعي نكاحا يعتقده صحيحا والحاكم لا يرى صحته ولا ينبغي أن يحكم بصحته مع جهله بها ولا يعلم بها ما لم تذكر الشروط وتقوم البينة بها وتفارق المال فإن أسبابه تنحصر وقد يخفى على المدعي سبب ثبوت حقه والعقود تكثر شروطها ولذلك اشترطنا لصحة البيع شروطا سبعة وربما لا يحسن المدعي عدها ولا يعرفها والأموال مما يتساهل فيها ولذلك افترقا في اشتراط الولي والشهود في عقوده فافترقا في الدعوى وعدم العدة والردة لم يختلف الناس فيه والأصل عدمها ولا تختلف به الأغراض فإن كانت المرأة أمة والزوج حرا فقياس ما ذكرناه أنه يحتاج إلى ذكر عدم الطول وخوف العنت لأنهما من شرائط صحة نكاحها وأما إن ادعى استدامة الزوجية ولم يدع العقد لم يحتج إلى ذكر الشروط في أحد الوجهين يثبت في الاستفاضة ولو اشترط ذكر الشروط لاشترطت الشهادة به ولا يلزم ذلك شهادة الاستفاضة وفي الثاني يحتاج إلى ذكر الشروط لأنه دعوى نكاح فأشبه دعوى العقد
فصل : وإن ادعت المرأة النكاح على زوجها وذكرت معه حقا من حقوق النكاح كالصداق والنفقة ونحوها سمعت دعواها بغير خلاف نعلمه لأنها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه فتسمع دعواها كما لو ادعت ملكا أضافته إلى الشراء وإن أفردت دعوى النكاح فقال القاضي : تسمع دعواها أيضا لأنه سبب لحقوق لها فتسمع دعواها فيه كالبيع وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر لا تسمع دعواها أيضا لأن النكاح حق للزوج عليها فلا تسمع دعواها حقا لغيرها فإن قلنا بالأول سئل الزوج فإن أنكر ولم تكن بينة فالقول قوله من غير يمين لأنه إذا لم تستحلف المرأة والحق عليها فلأن لا يستحلف من الحق له وهو ينكره أولى ويحتمل أن يستحلف لأن دعواها إنما سمعت لتضمنها دعوى حقوق مالية تشرع فيه اليمين وإن قامت البينة بالنكاح ثبت لها ما تضمنه النكاح من حقوقها فأما إباحتها له فيتبنى على باطن الأمر فإن علم أنها زوجته حلت له لأن إنكاره النكاح ليس بطلاق ولا نوى به الطلاق وإن علم أنها ليست امرأته إما لعدم العقد أو لبينونتها منه لم تحل له وهل يمكن منها في الظاهر ؟ يحتمل وجهين أحدهما : يمكن منها لأن الحاكم قد حكم بالزوجية والثاني : لا يمكن منها لإقراره على نفسه بتحريمها عليه فيقبل قوله في حق نفسه دون ما عليه كما لو تزوج امرأة ثم قال : هي أختي من الرضاعة فإذا ثبت هذا فإن دعواها النكاح كدعوى الزوج فيما ذكرنا من الكشف عن سبب النكاح وشرائط العقد ومذهب الشافعي قريب ما ذكرنا في هذا الفصل (12/163)
حكم سائر العقود غير النكاح من حيث الكشف وذكر الشروط
فصل : فأما سائر العقود غير النكاح كالبيع والإجارة والصلح وغيرها فلا يفتقر إلى الكشف وذكر الشروط في أصح الوجهين لأنها لا يحتاط لها ولا تفتقر إلى الولي والشهود فلم تفتقر إلى الكشف كدعوى العين وسواء كان المبيع جارية أو غيرها لأنها مبيع فأشبهت الجارية وكذلك إذا كان المدعى عينا أو دينا لم يحتج إلى ذكر السبب لأن أسباب ذلك تكثر ولا تنحصر وربما خفي على المستحق سبب استحقاقه فلا يكلف بيانه ويكفيه أن يقول : استحق هذه العين التي في يده أو أستحق كذا وكذا في ذمته ويقول في البيع : إني اشتريت منه هذه الجارية بألف درهم أو بعتها منه بذلك ولا يحتاج أن يقول وهي ملكه أو وهي ملكي ونحن جائز الأمر وتفرقنا عن تراض وذكر أبو الخطاب في العقود وجها آخر أنه يشترط ذكر شروطها قياسا على النكاح وذكر أصحاب الشافعي هذين الوجهين و وجها ثالثا أنه إن كان المبيع جارية اشترط ذكر شروط البيع لأنه عقد يستباح به الوطء فأشبه النكاح وإن كان المبيع غيرها لم يشترط لعدم ذلك والأول أولى لأنها دعوى فيما لا يشترط فيه الولي والشهود أشبه دعوى العين وما لزم ذكره في الدعوى فلم يذكره سأله الحاكم عنه لتصير الدعوى معلومة فيمكن الحاكم الحكم بها وقد ذكرنا سائر الدعاوى فيما سبق بما أغنى عن إعادته ههنا (12/167)
حكم ما لو ادعى دابة في يد رجل فأنكر وأقام كل واحد بينة وحكم ما لو كان في يد رجل شاه فادعاها آخر
مسألة : قال : ومن ادعى دابة في يد رجل فأنكر وأقام كل واحد منهما بينة حكم للمدعي ببينته ولم يلتفت إلى بينه المدعى عليه لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمرنا بسماع بينة المدعي ويمين المدعى عليه وسواء شهدت بينة المدعى عليه أنها له أو قالت ولدت في ملكه عليه
وجملة ذلك أن من ادعى شيئا في يد غيره فأنكره ولكل واحد منهما بينة فإن بينة المدعي تسمى بينة الخارج وبينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيما إذا تعارضنا فالمشهور عنه تقديم بينة المدعي ولا تسمع بينة المدعى عليه بحال وهذا قول إسحاق وعنه رواية ثانية إن شهدت بينة الداخل بسبب الملك وقالت : نتجت في ملكه أو اشتراها أو نسجها أو كانت بينته أقدم تاريخا قدمت وإلا قدمت بينة المدعي وهو قول أبي حنيفة و أبي ثور في النتاج والنساج فيما لا يتكرر نسجه فأما ما يتكرر نسجه كالصوف والخز فلا تسمع بينته لأنها إذا شهدت بالسبب فقد أفادت ما لا تفيده اليد وقد روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم [ اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير فأقام كل واحد منهم البينة بأنها له أنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم للذي هي في يده ] وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة أن بينة المدعى عليه تقدم بكل حال وهو قول شريح و الشعبي و النخعي و الحكم و الشافعي و أبي عبيد وقال : هو قول أهل المدينة وأهل الشام وروي عن طاوس وأنكر القاضي كون هذا رواية عن أحمد وقال : لا تقبل بينة الداخل إذا لم تفد إلا ما أفادته يده رواية واحدة واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن جنبة المدعى عليه أقوى لأن الأصل معه ويمينه تقدم على يمين المدعي فإذا تعارضت البينتان وجب إبقاء يده على ما فيها وتقديمه كما لو لم تكن بينة لواحد منهما وحديث جابر يدل على هذا فإنه إنما قدمت بينته ليده
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] فجعل جنس البينة في جنبة المدعي فلا يبقى في جنبة المدعى عليه بينة ولأن بينة المدعي أكثر فائدة فوجب تقديمها كتقديم بينة الجرح على التعديل ودليل كثرة فائدتها أنها تثبت شيئا لم يكن وبينة المنكر إنما تثبت ظاهرا تدل اليد عليه فلم تكن مفيدة ولأن الشهادة بالملك يجوز أن يكون مستندها رؤية اليد والتصرف فإن ذلك جائز عند كثير من أهل العلم فصارت البينة بمنزلة اليد المفردة فتقدم عليها بينة المدعي كما تقدم على اليد كما أن شاهدي الفرع لما كانا مبينين على شاهدي الأصل لم تكن لهما مزية عليهما
فصل : وأي البينتين قدمناها لم يحلف صاحبها معها وقال الشافعي في أحد قوليه يستحلف صاحب اليد لأن البينتين سقطتا بتعارضهما فصارا كمن لا بينة لهما فيحلف الداخل كم لو لم تكن لواحد منهما بينة
ولنا أن إحدى البينتين راجحة فيجب الحكم بها منفردة كما لو تعارض خبران خاص وعام أو أحدهما أرجح بوجه من الوجوه ولا نسلم أن البينة الراجحة تسقط وإنما ترجح ويعمل بها وتسقط المرجوحة
فصل : فإن كانت البينة لأحدهما دون الآخر نظرت فإن كانت البينة للمدعي وحده حكم بها ولم يحلف بغير خلاف في المذهب وهو قول أهل الفتيا من أهل الأمصار منهم الزهري و أبو حنيفة و مالك و الشافعي وقال شريح و عون بن عبد الله و النخعي و الشعبي و ابن أبي ليلى يستحلف الرجل مع بينته قال شريح لرجل : لو أثبت عندي كذا وكذا شاهدا ما قضيت لك حتى تحلف
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم للحضرمي بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] ولأن البينة إحدى حجتي الدعوى فيكتفي بها كاليمين قال أصحابنا : و لا فرق بين الحاضر والغائب والحي والميت والصغير والكبير والمجنون والمكلف
وقال الشافعي : إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه أحلف المشهود له لأنه لا يمكنه أن يعبر عن نفسه في دعوى القضاء والإبراء فيقوم الحاكم مقامه في ذلك لنزول الشبهة وهذا حسن فإن قيام البينة للمدعي بثبوت حقه لا ينفي احتمال القضاء والإبراء بدليل أن المدعى عليه لو ادعاه سمعت دعواه وبينته فإن كان حاضرا مكلفا فسكوته عن دعوى ذلك دليل على انتفائه فيكتفي بالبينة وإن كان غائبا أو ممن لا قول له نفي احتمال ذلك من غير دليل يدل على انتفائه فتشرع اليمين لنفيه وإن لم تكن للمدعي بينة وكانت للمنكر بينة سمعت بينته ولم يحتج إلى الحلف معها لأنا إن قلنا بتقديمها مع التعارض وإنه لا يحلف معها فمع انفرادها أولى وإن قلنا بتقديم بينة المدعى عليه فيجب أن يكتفي بها عن اليمين لأنها أقوى من اليمين فإذا اكتفي باليمين فما هو أقوى منه أولى ويحتمل أن تشرع اليمين أيضا لأن البينة ههنا يحتمل أن يكون مستندها اليد والتصرف فلا تفيد إلا ما أفادته اليد والتصرف وذلك لا يغني عن اليمين فكذلك ما قام مقامه
فصل : وإن ادعى الخارج أن الدابة ملكه وأنه أودعها للداخل أو أعاره إياها أو آجرها منه ولم يكن لواحد منهما بينة فالقول قول المنكر مع يمينه ولا نعلم فيه خلافا وإن كان لكل واحد منهما بينة فبينة الخارج مقدمة وهذا قول الشافعي
وقال القاضي : بينة الداخل مقدمة لأنه هو الخارج في المعنى لأنه ثبت أن المدعي صاحب اليد وأن يد الداخل نائبة عنه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ البينة على المدعي ] ولأن اليمين في حق المدعى عليه فتكون البينة للمدعي كما لو لم يدع الإيداع يحققه أن دعواه الإيداع زيادة في حجته وشهادة البينة بها تقوية لها فلا يجوز أن تكون مبطلة لبينته وإن ادعى الخارج أن الداخل غصبه إياها وأقاما بينتين فهي للخارج ويقتضي قول القاضي أنها للداخل والأولى ما ذكرناه
فصل : فإن كان في يد رجل شاة مسلوخة ورأسها وسواقطها وباقيها في يد رجل آخر فادعاها كل واحد منهما كلها ولا بينة لواحد منهما فلكل واحد منهما ما في يده مع يمينه وإن أقاما بينتين وقلنا تقدم بينة الخارج فلكل واحد منهما ما في يد صاحبه وإن قلنا تقدم بينة الداخل فلكل واحد منهما ما في يده من غير يمين
فصل : فإن كان في يد كل واحد منهما شاة فادعى كل واحد منهما أن الشاة التي في يد صاحبه له ولا بينة لهما حلف كل واحد منهما لصاحبه وكانت الشاة التي في يده له وإن أقاما بينتين فلكل واحد منهما الشاة التي في يد صاحبه ولا تعارض بينهما وإن كل واحد منهما قال : هذه الشاة التي في يدك لي من نتاج شاتي هذه فالتعارض في النتاج لا في الملك إذ يستحيل أن يكون كل واحد منهما يثبت الأخرى والحكم على ما تقدم : وإن ادعى كل واحد منهما أن الشاتين لي دون صاحبي وأقاما بينتين تعارضتا وانبنى ذلك على القول في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الخارج جعل لكل واحد منهما ما في يد الآخر ومن قدم بينة الداخل أو قدمها إذا شهدت بالنتاج جعل لكل واحد منهما ما في يده
فصل : وإذا ادعى زيد شاة في يد عمرو أقام بها بينة فحكم له بها حاكم ثم ادعاها عمرو على زيد وأقام بها بينة فإن قلنا بينة الخارج مقدمة لم تسمع بينة عمرو لأن بينة زيد مقدمة عليها وإن قلنا بينة الداخل مقدمة نظرنا في الحكم كيف وقع فإن كان حكم بها لزيد لأن عمرو لا بينة له ردت إلى عمرو لأنه قد قامت له بينة واليد كانت له وإن حكم بها لزيد لأنه يرى تقديم بينة الخارج لم نقض حكمه لأنه حكم بما يسوغ الاجتهاد فيه وإن كانت بينة عمرو قد شهدت له أيضا وردها الحاكم لفسقها ثم عدلت لم ينقض الحكم أيضا لأن الفاسق إذا ردت شهادته لفسقه ثم أعادها بعد لم تقبل وإن لم يعلم الحكم كيف كان لم ينقض لأن حكم الحاكم الأصل جريانه على العدل والإنصاف والصحة فلا ينقض بالاحتمال فإن جاء ثالث فادعاها وأقام البينة فبينته وبينة زيد متعارضتان ولا يحتاج إلى إقامة بينة لأنها قد شهدت مرة وهما سواء في الشهادة حال التنازع فلم يحتج إلى إعادتها كالبينة إذا شهدت ووقف الحكم على البحث عن حالها ثم بانت عدالتها فإنها تقبل ويحكم من غير إلى إعادة شهادتها وكذا ههنا
فصل : وإن كان في يد رجل شاة فادعاها رجل أنها له منذ سنة وأقام بذلك بينة وادعى الذي هي بيده أنها في يده منذ سنتين وأقام بذلك بينة فهي للمدعي بغير خلاف لأن بينته تشهد له بالملك وبينة الداخل تشهد باليد خاصة فلا تعارض بينهما لإمكان الجمع بينهما بأن تكون اليد على غير ملك فكانت بينة الملك أولى فإن شهدت بينة بأنها ملكه منذ سنتين فقد تعارض ترجيحان تقدم التاريخ من جهة بينة الداخل وكون الأخرى بينة الخارج ففيه روايتان :
إحداهما : تقدم بينة الخارج وهو قول أبي يوسف و محمد و أبي ثور ويقتضيه عموم كلام الخرقي لقوله صلى الله عليه و سلم [ البينة على المدعي ] ولأن بينة الداخل يجوز أن يكون مستندها اليد فلا تفيد أكثر مما تفيده اليد أشبهت الصورة التي قبلها
الثانية : تقدم بينة الداخل وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنهت تضمنت زيادة فإن كانت بالعكس فشهدت بينة الداخل أنه يملكها منذ سنة وشهدت بينة الخارج أنه يملكها منذ سنتين قدمت بينة الخارج إلا على الرواية التي تقدم فيها بينة الداخل فيخرج فيها وجهان بناء على الروايتين في التي قبلها وظاهر مذهب الشافعي تقديم بينة الداخل على كل حال وقال بعضهم : فيها قولان وإن ادعى الخارج أنها ملكه منذ سنة وادعى الداخل أنه اشتراها منذ سنتين ولقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة الداخل ذكره القاضي وهو قول أبي ثور فإن اتفق تاريخ السنين إلا أن بينة الداخل تشهد بنتاج أو بشراء أو غنيمة أو إرث أو هبة من مالك أو قطيعة من الإمام أو سبب من أسباب الملك ففي أيهما تقدم روايتان ذكرناهما وإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من الآخر قضي له بها لأن بينة الابتياع شهدت بأمر حدث خفي على البينة الأخرى فقدمت عليها كتقديم بينة الجرح على بينة التعديل (12/168)
حكم لو كانت الدابة في يد لهما وقدم كل واحد بينة
مسألة قال ولو كانت الدابة في أيديهما فأقام أحدهما البينة أنها له وأقام الآخر البينة أنها له نتجت في ملكه سقطت البينتان وكانا كمن لا بينة لهما وكانت اليمين لكل واحد منهما على صاحبه في النصف المحكوم له به
وجملته أنه إذا تنازع رجلان في عين في أيدهما فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه ولم تكن لهما بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وجعلت بينهما نصفين لا نعلم في هذا خلافا لأن يد كل واحد منهما على نصفها والقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن نكلا جميعا عن اليمين فهي بينهما أيضا لأن كل واحد منهما يستحق ما في يد الآخر بنكوله وإن نكل أحدهما وحلف الآخر قضي له بجميعها لأنه يستحق ما في يده بيمينه وما في يد صاحبه إما بنكوله وإما بيمينه التي ردت عليه عند نكول صاحبه وإن كانت لأحدهما بينة دون الآخر حكم له بها لا نعلم في هذا خلافا وإن أقام كل واحد منهما بينة وتساوتا تعارضت البينتان وقسمت العين بينهما نصفين وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لما روى أبو موسى رضي الله عنه [ أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعير فأقام كل واحد منهما شاهدين فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالبعير بينهما نصفين ] رواه أبو داود ولأن كل واحد منهما داخل في نصف العين خارج عن نصفها فتقدم بينة كل واحد منهما فيما في يده عند من يقدم بينة الداخل وفيما في يد صاحبه عند من يقدم بينة الخارج فيستويان على كل واحد من القولين
وذكر أبو الخطاب فيها رواية أخرى أنه يقرع بينهما فمن خرجت قرعته حلف أنه لا حق للآخر فيها وكانت العين له كما لو كانت في يد غيرهما والأول أصح للخبر والمعنى واختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به أو يكون له من غير يمين فروي أنه يحلف وهذا ذكره الخرقي لأن البينتين لما تعارضتا من غير ترجيح وجب إسقاطهما كالخبرين إذا تعارضا وتساويا وإذا سقطا صار المختلفان كمن لا بينة لهما ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به وهذا أحد قولي الشافعي بناء على أن اليمين تجب على الداخل مع بينته وكل واحد منهما داخل في نصفها فيحكم له به ببينته ويحلف معها في أحد القولين والرواية الأخرى أن العين تقسم بينهما من غير يمين وهو قول مالك و أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وهو أصح للخبر والمعنى الذي ذكرناه ولا يصح قياس هاتين البينتين على الخبرين المتساويين لأن كل بينة راجحة في نصف العين على كل واحد من القولين وقد ذكرنا أن البينة الراجحة يحكم بها من غير حاجة إلى يمين فأما إن شهدت إحدى البينتين بأن العين لهذا وشهدت الأخرى أنها لهذا الآخر نتجت في ملكه فقد ذكرنا الترجيح بهذا روايتين : إحداهما : لا يرجح به وهو اختيار الخرقي لأنهما تساويا في ما يرجع إلى المختلف فيه وهو ملك العين الآن فوجب تساويهما في الحكم والثانية : تقدم بينة النتاج وما في معناه وهو مذهب أبي حنيفة لأنها تتضمن زيادة علم وهو معرفة السبب والأخرى خفي عليها ذلك فيحتمل أن تكون شهادتهما مستندة إلى مجرد اليد والتصرف فتقدم الأولى عليها كتقدم بينة الجرح على التعديل وهذا قول القاضي فيما إذا كانت العين في يد غيرهما
فصل : فإن شهدت إحداهما أنها له منذ سنة وشهدت الأخرى أنها له منذ سنتين فظاهر كلام الخرقي التسوية بينهما وهو أحد قولي الشافعي وقال القاضي : قياس المذهب تقديم أقدمهما تاريخا وهو قول أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي لأن المتقدمة التاريخ أثبت الملك له في وقت لم تعارضه فيه البينة الأخرى فيثبت الملك فيه ولهذا له المطالبة بالنماء في ذلك الزمان وتعارضت البينتان في الملك في الحال فسقطتا وبقي ملك السابق تجب استدامته وأن لا يثبت لغيره ملك إلا من جهته ووجه قول الخرقي أن الشاهد بالملك الحادث أحق بالترجيح لجواز أن يعلم به دون الأول ولهذا لو ذكر أنه اشتراه من الآخر أو وهبه له لقدمت بينته اتفاقا فإذا لم يرجح بهذا فلا أقل من التساوي وقولهم أنه يثبت الملك في الزمن الماضي من غير معارضة قلنا إنما يثبت تبعا لثبوته في الحال ولو انفرد بأن يدعي الملك في الماضي لم تسمع دعواه ولا بينته إن وقتت إحداهما وأطلقت الأخرى فهما سواء ذكره القاضي : وقال أبو الخطاب : يحتمل أن يحكم به لمن لم يوقت وهو قول أبي يوسف و محمد
ولنا أنه ليس في إحداهما ما يقتضي الترجيح من تقديم الملك ولا غيره فوجب استواؤهما كما لو أطلقتا أو استوى تاريخهما
فصل : ولا ترجح إحدى البينتين بكثرة العدد ولا اشتهار العدالة وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ويتخرج أن ترجح بذلك مأخوذا من قول الخرقي ويتبع الأعمى أوثقهما في نفسه وهذا قول أبي حنيفة و مالك لأن أحد الخبرين يرجح بذلك فكذلك الشهادة لأنها خبر ولأن الشهادة إنما اعتبرت لغلبة الظن بالمشهود به وإذا كثر العدد أو قويت العدالة كان الظن به أقوى وقال الاوزاعي : يقسم على عدد الشهود فإذا شهد لأحدهما شاهدان وللآخر أربعة قسمت العين بينهما أثلاثا لأن الشهادة سبب الاستحقاق فيوزع الحق عليها
ولنا أن الشهادة مقدرة بالشرع فلا تختلف بالزيادة كالدية وتخالف الخبر فأنه مجتهد في قبول خبر الواحد دون العدد فرجح بالزيادة والشهادة يتفق فيها على خبر الاثنين فصار الحكم متعلقا بهما دون اعتبار الظن ألا ترى أنه لو شهد النساء منفردات لا تقبل شهادتهن وإن كثرن حتى صار الظن بشهادتهن أغلب من شهادتين من شهادة الذكرين ؟ وعلى هذا لا ترجح شهادة الرجلين على شهادة الرجل والمرأتين في المال لأن كل واحدة من البينتين حجة في المال فإذا اجتمعتا تعارضتا فإما إن كان لأحدهما شاهدان وللآخر شاهد فبذل يمينه معه ففيه وجهان
أحدهما : يتعرضان لأن كل واحد منهما حجة بمفرده فأشبها الرجلين مع الرجل والمرأتين
والثاني : يقدم الشاهدان لأنهما حجة متفق عليها والشاهد واليمين مختلف فيهما ولأن اليمين قوله لنفسه والبينة الكاملة شهادة الأجنبيين فيجب تقديمها كتقديمها على اليمين المنكر وهذا الوجه أصح إن شاء الله و للشافعي قولان كالوجهين (12/174)
حكم لو كانت دار في يد اثنين وثلاثة وأربعة
فصل : إذا كان في أيديهما دار فادعاها أحدهما كلها وادعى الآخر نصفها ولا بينة لديهما فهي بينهما نصفين نص عليه أحمد وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه ولا يمين على الآخر لأن النصف المحكوم له به لا منازع له فيه ولا نعلم في هذا خلافا إلا أنه حكى عن ابن شبرمة أن لمدعي الكل ثلاثة أرباعها لأن النصف له لا منازع فيه والنصف الآخر يقسم بينهما على حسب دعواهما فيه
ولنا أن يد مدعي النصف على ما يدعيه فكان القول قوله فيه مع يمينه كسائر الدعاوى فإن كان لكل واحد منهما بينة بما يدعيه فقد تعارضت بينتهما فالنصف لمدعي الكل والنصف الآخر ينبني على الخلاف في أي البينتين تقدم وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي فتكون الدار كلها لمدعي الكل وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه فإن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها فالنصف لصاحب الكل لا منازع له فيه ويقرع بينهما في النصف الآخر فمن خرجت له القرعة حلف وكان له وإن كان لكل واحد بينة تعرضتا وسقطتا وصارا كمن لا بينة لهما وإن قلنا : تستعمل البينتان أقرع بينهما وقدم من تقع له القرعة في أحد الوجهين
والثاني : يقسم النصف المختلف فيه بينهما فيصير لمدعي الكل ثلاثة أرباعها
فصل : فإن كانت الدار في يد ثلاثة ادعى أحدهما نصفها وادعى الآخر ثلثها وادعى الآخر سدسها فهذا اتفاق منهم على كيفية ملكهم وليس ههنا اختلاف ولا تجاحد فإن ادعى كل واحد منهم باقي الدار وديعة أو عارية معي وكانت لكل واحد منهم بما ادعاه من الملك بينة قضي له به لأن بينته تشهد له بما ادعاه ولا معارض لها وإن لم تكن لواحد منهما بينة حلف كل واحد منهم وأقر في يده ثلثها
فصل : فإن ادعى أحدهم جميعها وادعى الآخر نصفها والآخر ثلثها فإن لم تكن لواحد منهم بينة قسمت بينهم أثلاثا وعلى كل واحد منهم اليمين على ما والحكم له به وأن يد كل واحد منهم على ثلثها وإن كانت لأحدهم بينة نظرت فإن كانت لمدعي الجميع فهي له وإن كانت لمدعي النصف أخذه والباقي بين الآخرين نصفين لمدعي الكل السدس بغير يمين ويحلف على نصف السدس ويحلف الآخر على الربع الذي يأخذه جميعه فإن كانت البينة لمدعي الثلث أخذه والباقي بين الآخرين لمدعي الكل السدس بغير يمين ويحلف على السدس الآخر ويحلف الآخر على جميع ما يأخذه وإن كانت لكل واحد بما يدعيه بينة فإن قلنا تقدم بينة صاحب اليد قسمت بينهم أثلاثا لأن يد كل واحد منهم الثلث وإن قلنا تقدم بينة الخارج فينبغي أن تسقط بينة صاحب الثلث لأنها داخلة ولمدعي النصف السدس لأن بينته خارجة فيه ولمدعي الكل خمسة أسداس لأن له السدس بغير بينة لكونه لا منازع له فيه فإن أحدا لا يدعيه وله الثلثان لكون بينته خارجة عنهما وقيل : بل لمدعي الثلث السدس لأن بينة مدعي الكل ومدعي النصف تعارضتا فيه فتساقطتا وبقي لمن هو في يده ولا شيء لمدعي النصف لعدم ذلك فيه وسواء كان لمدعي الثلث بينة أو لم تكن وإن كانت العين في يد غيرهم واعترف أنه لا يملكها ولا بينة لهم فالنصف لمدعي الكل لأنه ليس منهم من يدعيه ويقرع بينهم في النصف الباقي فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو لصاحب النصف حلف وأخذه وإن خرجت لصاحب الثلث حلف وأخذ الثلث ثم يقرع بين الآخرين في السدس فمن قرع صاحبه حلف وأخذه
وإن أقام كل واحد منهم بينة بما ادعاه فالنصف لمدعي الكل لما ذكرنا والسدس الزائد يتنازعه مدعي الكل ومدعي النصف والثلث يدعيه الثلاثة وقد تعارضت البينات فيه فإن قلنا تسقط البينات أقرعنا بين المتنازعين فيما تنازعوا فيه فمن قرع صاحبه حلف وأخذه ويكون الحكم فيه كما لو لم تكن لهم بينة وهذا قول أبي عبيد وقول الشافعي إذ كان بالعراق
وعلى الرواية التي نقول إذا تعارضت البينات قسمت العين بين المتداعين فلمدعي الكل النصف ونصف السدس الزائد عن السدس عن الثلث وثلث الثلث ولمدعي النصف السدس وثلث الثلث ولمدعي الثلث ثلثه وهو التسع فتخرج المسألة من ستة وثلاثين سهما لمدعي الكل النصف ثمانية عشر سهما ونصف السدس ثلاثة والتسع أربعة فذلك خمسة وعشرون سهما ولصاحب النصف سبعة ولمدعي الثلث أربعة وهو التسع وهذا قياس قول قتادة و الحارث العكلي و ابن شبرمة و حماد و أبي حنيفة وهو قول الشافعي وقال أبو ثور يأخذ مدعي الكل النصف ويوقف الباقي حتى يتبين ويروي هذا عن مالك وهو قول للشافعي
وقال ابن أبي ليلى وقوم من أهل العراق : تقسم العين بينهم على حسب عول الفرائض لصاحب الكل ستة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان فتصبح من أحد عشر سهما
وسئل سهل بن عبد الله بن أبي أوس عن ثلاثة ادعوا كيسا وهو بأيديهم ولا بينة لهم وحلف كل واحد منهم على ما ادعاه ادعى أحدهم جميعه وادعى آخر ثلثه وادعى آخر نصفه فأجاب فيهم بشعر يقول :
( نظرت أبا يعقوب في الحسب التي ... طرت فأقامت منهم كل قاعد )
( فللمدعي الثلثين ثلث وللذي ... استلاط جميع المال عند التحاشد )
( من المال نصف غير ما ... سينوبه وحصته من نصف ذا المال زائد )
( وللمدعي نصفا من المال ربعه ... ويؤخذ نصف السدس من كل واحد )
وهذا قول من قسم المال بينهم على حسب العول فكأن المسألة عالت من ستة إلى ثلاثة عشر ولذلك أنه أخذ مخرج الكسور وهي ستة فجعلها لمدعي الكل وثلثها أربعة لمدعي الثلثين ونصفها ثلاثة لمدعي النصف صارت ثلاثة عشر
فصل : فإن كانت الدار في أيدي أربعة فادعى أحدهم جميعها والثاني ثلثيها والثالث نصفها والرابع ثلثها ولا بينة لهم حلف كل واحد وله ربعها لأنها في يده فالقول قول صاحب اليد مع يمينه وإن أقام كل واحد منهم بما ادعاه بينة قسمت بينهم أرباعا أيضا لأننا إن قلنا قدم بينة الداخل فكل واحد منهم داخل في ربعها فتقدم بينة فيه وإن قلنا تقدم بينة الخارج فإن الرجلين إذا ادعيا عينا في يد غيرهما فأنكرهما وأقام كل واحد منهم بدعواه تعارضتا وأقر الشيء في يد من هو في يده وإن كانت الدار في يد خامس لا يدعيها ولا بينة لواحد منهم بما ادعاه فالثلث لمدعي الكل لأن لا ينازعه فيه ويقرع بينهم في الباقي فإن خرجت القرعة لصاحب الكل أو لمدعي الثلثين أخذه وإن وقعت لمدعي النصف أخذه وأقرع بين الباقين في الباقي وإن وقعت لصاحب الثلث أخذه وأقرع بين الثلاثة في الثلث الباقي وهذا قول أبي عبيد و الشافعي إذ كان بالعراق إلا أنهم عبروا عن بعبارة أخرى فقالوا : لمدعي الكل الثلث ويقرع بينه وبين مدعي الثلثين في السدس الزائد عن النصف ثم يقرع بينهما بين مدعي النصف في السدس الزائد عن الثلث ثم يقرع بين الأربعة في الثلث الباقي و يكون الإقراع في ثلاثة مواضع وعلى الرواية الأخرى : الثلث لمدعي الكل ويقسم السدس الزائد عن النصف بينه وبين مدعي الثلثين ثم يقسم السدس الزائد عن الثلث بينهما وبين مدعي النصف أثلاثا ثم يقسم الثلث الباقي بين الأربعة أرباعا وتصح المسألة من ستة وثلاثين سهما لصاحب الكل ثلثها اثنا عشر ونصف السدس الزائد على النصف ثلاثة وثلث السدس الزائد عن الثلث سهمان وربع الثلث الباقي ثلاثة فيحصل له عشرون سهما وهي خمسة أتساع الدار ولمدعي الثلثين ثمانية أسهم تسعان وهي مثل ما لمدعي الكل بعد الثلث الذي انفرد به ولمدعي النصف خمسة أسهم تسع وربع تسع ولمدعي الثلث ثلاثة نصف السدس وعلى قول من قسمها على العول هي من خمسة عشر لصاحب الكل ستة ولصاحب الثلثين أربعة ولصاحب النصف ثلاثة ولصاحب الثلث سهمان وعلى قول أبي ثور لصاحب الكل الثلث ويوقف الباقي حتى يتبين (12/178)
ما لو كانت دابة أو عين في يد غيرهما واعترف أو أنكر
مسألة قال : ولو كانت الدابة في يد غيرهما واعترف أنه يملكها وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا قرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه
وجملته أن رجلين إذا تداعيا عينا في يد غيرهما فأنكرهما القول قوله مع يمينه بغير خلاف نعلمه وإن اعترف أنه لا يملكها قال : لا أعرف صاحبها أو قال : هي لأحدكما لا أعرفه عينا أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف أنها له وسلمت إليه لما [ روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا عينا لم تكن لواحد منهم بينة فأمرهما النبي صلى الله عليه و سلم أن يستهما على اليمين أحبا أم كرها ] رواه أبو داود ولأنهما تساويا في الدعوى ولا بينة لواحد منهما ولا يد والقرعة تميز عند التساوي كما لو اعتق عبيدا لا مال له غيرهم في مرض موته وأما إن كانت لأحدهما بينة حكم بها بغير حكم بها بغير خلاف نعلمه وإن كانت لكل واحد منهما ففيه روايتان ذكرهما أبو الخطاب :
إحداهما : تسقط البينتان ويقترع المدعيان على اليمين كما لو لم تكن بينة وهذا الذي ذكره القاضي وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه ذكر القرعة ولم يفرق بين أن تكون معهما بينة أو لم تكن وروي هذا عمر وابن الزبير وبه قال إسحاق و أبو عبيد وهو رواية عن مالك وقديم قولي الشافعي وبذلك لما روى ابن المسيب [ أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر وجاء مل منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم النبي صلى الله عليه و سلم بينهما ] رواه الشافعي في مسنده ولأن البينتين حجتان تعرضتا من غير ترجيح إحداهما على الأخرى فسقطتا كالخبرين
والرواية الثانية : تستعمل البينتان وفي كيفية استعمالهما روايتان إحداهما تقسم العين بينهما وهو قول الحارث العكلي و قتادة و ابن شبرمة و حماد و أبي حنيفة وقول الشافعي لما روى أبو موسى أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعير وأقام كل واحد منهما البينة أنه له فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم به بينهما نصفين ولأنهما تساويا في دعواه فيتساويان في قسمته
والرواية الثانية : تقدم إحداهما بالقرعة وهو قول الشافعي وله قول رابع يوقف الأمر حتى يتبين وهو قول أبي ثور لأنه اشتبه الأمر فوجب التوقف كالحاكم إذا لم يتضح له الحكم في قضيته
ولنا الخبران وإن تعارض الحجتين لا يوجب التوقف كالخبرين بل إذا تعذر الترجيح أسقطناهما ورجعنا إلى دليل غيرهما إذا ثبت هذا فإننا إذا قلنا إن البينتين تسقطان أقرع بينهما فمن خرجت له قرعته حلف وأخذها كما لو لم تكن لهما بينة وإن قلنا يعمل في البينتين ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة أخذها من غير يمين وهذا قول الشافعي لأن البينة تغني عن اليمين قال أبو الخطاب : عليه اليمين مع البينة ترجيحا لها وعلى هذا القول تكون هذه الرواية كالأولى في هذا الحكم وإنما يظهر الفرق بينهما في شيء آخر سنذكره إن شاء الله تعالى
فصل : فإن أنكرهما من العين في يده وكانت لأحدهما بينة حكم له بها وإن أقام كل واحد منهما بينة فإن قلنا تستعمل البينتان أخذت العين من يده وقسمت بينهما على قول من يرى القسمة أو تدفع إلى من تخرج له القرعة على قول من يرى ذلك وإن قلنا تسقط البينتان حلف صاحب اليد وأقرت في يده كما لو لم تكن لهما بينة وإن اقر بها بعد ذلك لهما أو لأحدهما قبل إقراره وإن أقر بها في الابتداء لأحدهما صار منهما المقر له صاحب اليد لأن من هي في يده مقر بأن يده نائبه عن يده وإن أقر لهما جميعا فاليد لكل واحد منهما في الجزء الذي أقر به لذلك
فصل : وإن تداعيا عينا في يد غيرهما فقال : هي لأحدكما لا أعرفه عينا أو قال : لا أعرف صاحبها أهو أحدكما أو غيركما أو قال : أودعنيها أحدكما أو رجل لا أعرفه عينا فادعى كل واحد منهما أنك تعلم أني صاحبها أو أني الذي أودعتكها أو طلبت يمينه لزمه أن يحلف له لأنه لو أقر له لزمه تسليمها إليه ومن لزمه الحق مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار ويحلف على ما دعاه من نفي العلم وإن صدقاه فلا يمين عليه وإن صدقه أحدهما حلف للآخر وإن أقر بها لواحد منهما أو غير صار المقر له صاحب اليد فإن قال غير المقر له احلف لي أن العين ليست ملكي أو أني لست الذي أودعتكها لزمه اليمين على ما ادعاه من ذلك لما ذكرنا وإن نكل عن اليمين قضي عليه بقيمتها وإن اعترف بها لهما كان الحكم فيها كما لو كانت في أيديهم ابتداء وعليه اليمين لكل واحد منهما في النصف المحكوم به لصاحبه وعلى كل واحد منهما اليمين لصاحبه في النصف المحكوم له به
فصل : وإذا كان في يد رجل دار فادعاها نفسان قال أحدهما آجرتكها وقال الآخر هي داري أعرتكها أو قال هي داري ورثتها من أبي أو قال هي داري ولم يذكر شيئا آخر فأنكرها صاحب اليد وقال : هي داري فالقول قوله مع يمينه وإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن أقام كل واحد منهما بما ادعاه بينة تعارضتا وكان الحكم على ما ذكرنا فيما مضى إلا على الرواية التي تقدم فيها البينة الشاهدة بالسبب فإن بينة من ادعى أنه ورثها مقدمة لشهادتها بالسبب وإن أقام أحدهما بينة أنه غصبها منه وأقام الآخر بينة أنه أقر له بها فهي للمغصوب منه ولا تعارض بينهما لأن الجمع بينهما ممكن بأن يكون غصبها من هذا وأقر بها لغيره وإقرار الغاصب باطل وهذا مذهب الشافعي فتدفع إلى المغصوب منه ولا يغرم للمقر له شيئا لأنه ما حاب بينه وبينها وإنما حالت البينة بينهما ولو أقر بها لأحدهما أو أقر أنه غصبها من غيره لزمه تسليمها إلى من أقر له بها أولا ولزمه غرامتها للآخر لأنه حال بينه وبينها بإقراره الأول
فصل : نقل ابن منصور عن أحمد في رجل أخذ من رجلين ثوبين أحدهما بعشرة والآخر بعشرين ثم لم يدر أيهما ثوب هذا من ثوب هذا فادعى أحدهما ثوبا من هذين الثوبين يعني وادعاه الآخر يقرع بينهما فأيهما أصابته القرعة حلف وكان الثوب الجيد له والآخر للآخر وإنما قال ذلك لأنهما تنازعا عينا في يد غيرهما (12/184)
فيما إذا تداعيا عينا وقال كل واحد هي لي
فصل : إذا تداعيا عينا فقال كل واحد منهما هذه العين لي اشتريتها من زيد بمائة ونقدته إياها ولا بينة لواحد منهما فإن أنكرهما زيد حلف وكانت العين له وإن أقر بها لأحدهما سلمها إليه وحلف للآخر وإن أقر لكل واحد منهما بنصفها سلمت إليهما وحلف لكل واحد منهما على نصفها وإن قال لا أعلم لمن هي منكما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها وإن حلف البائع أنه له ثم أقر بها لأحدهما سلمت إليه ثم إن أقر بها للآخر لزمته غرامتها له وإن أقام كل واحد منهما بما ادعاه بينة نظرنا فإن كانت البينتان مؤخرتين بتاريخين مختلفين مثل أن يدعي أحدهما أنه اشتراها في المحرم وادعى الآخر أنه اشتراها في صفر وشهدت بينة كل واحد منهما للآخر بدعواه فهي للأول لأنه ثبت أنه باعها للأول فزال ملكه عنها فيكون بيعه في صفر باطلا لكونه باع ما لا يملكه ويطالب برد الثمن وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو أحدهما مطلقة والأخرى مؤرخة تعارضتا لتعذر الجمع فينظر في العين فإن كانت في يد أحدهما انبنى ذلك على الخلاف في بينة الداخل والخارج فمن قدم بينة الداخل جعلها لمن هي في يده ومن قدم بينة الخارج جعلها للخارج وإن كانت في يد البائع وقلنا تسقط البينتان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لهما وكانت له وإن أقر لأحدهما سلمت إليه وحلف للآخر وإن أقر لهما فهي بينهما ويحلف لكل واحد منهما على نصفها كما لو لم تكن لهما بينة وإن قلنا لا تسقط البينتان لم يلتفت إلى إنكاره ولا اعترافه وهذا قول القاضي وأكثر أصحاب الشافعي لأنه قد ثبت زوال ملكه وأن يده لا حكم لها فلا حكم لقوله فمن قال : يقرع بينهما أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة فهي له مع يمينه وهذا قول القاضي لم يذكر شيئا سوى هذا ومن قال : تقسم بينهما قسمت وهذا ذكره الخطاب
وقد نص عليه أحمد في رواية الكوسج في رجل أقام البينة أنه اشترى سلعة بمائة وأقام الآخر بينة أنه اشتراها بمائتين فكل واحد منهما يستحق النصف من السلعة بنصف الثمن فيكونان شريكين
وحمل القاضي هذه الرواية على أن العين في أيديهما أو على أن البائع أقر لهما جميعا وإطلاق الرواية يدل على صحة قول أبي الخطاب
فعلى هذا إن كان المبيع مما لا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضة فلكل واحد منهما الخيار لأن الصفقة تبعضت عليه فإن اختارا الإمساك رجع كل واحد منهما بنصف الثمن وإن اختارا الفسخ رجع كل واحد منهما بجميع الثمن وإن اختار أحدها الفسخ توفرت السلعة كلها على الآخر إلا أن يكون الحاكم قد حكم له بنصف السلعة ونصف الثمن فلا يعود النصف الآخر إليه وهذا قول الشافعي في كل مبيع
فصل : فإن ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد بمائة وهي ملكه الآخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه وأقام كل واحد منهما بدعواه بينة فهذه تشبه التي قبلها في المعنى فإن كانت في يد أحد المشترين انبنى ذلك على الروايتين في تقديم بينة الداخل والخارج وإن كانت في يديهما قسمت بينهما لأن بينة كل واحد منهما داخلة في أحد النصفين خارجة في النصف الآخر وإن كانت في يد أحد البائعين فأنكرهما وادعاها لنفسه فإن قلنا تسقط البينتان حلف وكانت له وإن أقر بها لأحدهما صار الداخل إلا أن يقر له بعد أن يحلف أنها له وإن قلنا تقدم إحداهما بالقرعة فهي لمن تخرج له القرعة مع يمينه وإن قلنا تقسم بينهما قسمت ورجع كل واحد منهما بنصف ثمنها وإن كان المبيع مما يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد أو كان المشتري مقرا بقبضه فلا خيار لواحد منهما ولا رجوع بشيء من الثمن لاعترافه بسقوط الضمان عن البائع وإن كان من المكيل والموزون ولم يقبض فلكل واحد منهما الخيار في الفسخ والإمضاء فإن اختار أحدهما الفسخ لم يتوفر المبيع على الآخر لأن البائع اثنان بخلاف التي قبلها (12/188)
حكم ما لو كانت دار في يد رجل فادعاها عليه رجلان
فصل : ولو كان في يد رجل دار فادعى عليه رجلان كل واحد منهما يزعم أنه غصبها منه وأقام بذلك بينة فالحكم في هذه كالحكم فيما إذا ادعى كل واحد منهما أنني اشتريتها منه على ما مضى من التفصيل فيه وإن اتفق تاريخهما أو كانتا مطلقتين أو إحداهما تعرضتا وإن قدم تاريخ إحداهما فهل ترجح بذلك على وجهين فإما إن شهدت البينة أنه أقر بغصبها من كل واحد منهما لزمه دفعها إلى الذي أقر له بها أولا ويغرم قيمتها للآخر
فصل : فإن ادعى كل واحد منهما أنك اشتريتها مني بألف وأقام بذلك بينة واتفق تاريخهما مثل أن يقول كل واحد منهما : اشتراها مني مع الزوال يوم كذا ليوم واحد فهما متعارضتان فإن قلنا تسقطان رجع إلى قول المدعى عليه فإن أنكرهما حلف لهما وبرئ وإن أقر لأحدهما فعليه له الثمن ويحلف للآخر وإن أقر لهما فعليه لكل واحد منهما الثمن لأنه يحتمل أن يشتريها من أحدهما ثم يهبها للآخر ويشتريها منه وإن قال : اشتريتها منكما صفقة واحدة بألف فقد أقر لكل واحد منهما بالنصف الثمن وله أن يحلفه على الباقي وإن قلنا يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة وجب له الثمن ويحلف للآخر ويبرأ وإن قلنا تقسم الثمن بينهما ويحلف لكل واحد منهما على الباقي فإن كان التاريخان مختلفين أو كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة ثبت العقدان ولزمه الثمنان لأنه يمكن أن يشتريها من أحدهما ثم يملكها الآخر فيشتريها منه وإن أمكن صدق البينتين و الجمع بينهما وجب تصديقهما فإن قيل : فلم قلتم إنه إذا كان البائع واحدا والمشتري اثنان فأقام أحدهما بينة أنه اشتراها في المحرم وأقام الآخر بينة أنه اشتراها في صفر يكون الشراء الثاني باطلا ؟ قلنا : لأنه إذا ثبت الملك الأول لم يبطله بأن يبيعه الثاني ملك نصفه ويجوز أن يبيع البائع ما ليس له فافترقا فإن قيل : كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة احتمل أن يكون تاريخهما واحدا فيتعارضان والأصل براءة ذمة المشهود عليه فلا تشتغل بالشك قلنا : أنه متى أمكن صدق البينتين وجب تصديقهما ولم يكن ثم شك وإنما يبقى الوهم لا تبطل به البينة لأنها لو بطلت به لم يثبت بها حق أصلا لأنه ما من بينة إلا ويحتمل أن يكون كاذبة أو غير عادلة أو متهمة أو معارضة ولم يلتفت إلى هذا الوهم كذا ههنا (12/190)
حكم ما لو شهد رجلان هذا الغلام ابن هذا الميت
فصل : وإذا مات رجل فشهد رجلان أن هذا الغلام ابن هذا الميت لا نعلم له وارثا سواه وشهد آخران لآخر أن هذا الغلام ابن هذا الميت لا نعلم له وارثا سواه فلا تعارض بينهما وثبت نسب الغلامين منه ويكون الإرث بينهما لأنه يجوز أن تعلم كل بينة ما لا تعلمه الأخرى (12/192)
حكم ما لو ادعى رجل عبدا أو ادعى زوجية امرأة
فصل : وإذا ادعى رجل عبدا في يد آخر أنه اشتراه منه وادعى العبد أن سيده أعتقه ولا بينة بينهما فأنكرهما حلف لهما والعبد له وإن أقر لأحدهما ثبت ما أقر له به ويحلف الآخر وإن قام أحدهما بينة بما ادعاه ثبت أقام كل واحد منهما بينة بدعواه وكانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين قدمنا الأولى وبطلت الأخرى لأنه إن سبق العتق لم يصح البيع لأن بيع الحر لا يصح وإن سبق البيع لم يصح العتق لأنه أعتق عبد غيره فإن قيل يحتمل أنه عاد إلى ملكه فأعتقه قلنا قد ثبت الملك للمشتري فلا يبطله عتق البائع وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد أو مطلقتين أو إحداهما مطلقة تعرضتا لأنه لا ترجيح لإحداهما على الأخرى فإن كان في يد المشتري انبنى ذلك على الخلاف في تقديم بينة الداخل والخارج فإن قدمنا بينة الداخل فهو للمشتري وإن قدمنا بينة الخارج قدم العتق لأنه خارج وإن كان في يد البائع وقلنا إن البينتين تسقطان بالتعارض صارا كمن لا بينة لهما ويرجع إلى السيد فإن أنكرهما حلف لهما وإن أقر بالعتق ثبت ولو يحلف العبد لأنه لو أقر بأنه ما أعتقه لم يلزمه شيء فلا فائدة في إحلافه ويحلف البائع للمشتري وإن أقر للمشتري ثبت الملك ولم يحلف العبد لأنه لو أقر له كان أعتقه لم يلزمه غرم فلا فائدة في أحلافه وإن قلنا يستعملان فاعترف لأحدهما لم يرجح باعترافه لأن ملكه قد زال فإن قلنا ترجح إحدى البيتين بالقرعة أقرعنا بينهما فمن خرجت قرعته قدمناه قال أبو بكر : هذا قياس قول أبي عبد الله فعلى هذا يحلف من خرجت له القرعة في أحد الوجهين وإن قلنا يقسم قسمنا العبد فجعلنا نصفه مبيعا ونصفه حرا ويسري العتق إلى جمعية إن كان البائع موسرا لأنه البينة قامت عليه بأنه أعتقه مختارا وقد ثبت العتق في نصفه بشهادتهما
فصل : إذا ادعى رجل زوجية امرأة فأقرت بذلك قبل إقرارها لأنها أقرت على نفسها وهي غير متهمة فإنها لو أرادت ابتداء النكاح لم تمنع منه وإن ادعاها اثنان فأقرت لأحدهما لم يقبل منها لأن الآخر يدعي ملك نصفها وهي معترفة أن ذلك قد ملك عليها فصار إقرارها بحق غيرها ولأنها متهمة فإنها لو أرادت ابتداء تزويج أحد المتداعين لم يكن لها ذلك قبل الانفصال من دعوى الآخر فإن قيل فلو تداعيا عينا في يد ثالث فأقر لأحدهما قبل قلنا لا يثبت الملك بإقراره في العين وإنما يجعله كصاحب اليد فيحلف والنكاح لا يستحق باليمين فلم ينفع الإقرار به ههنا فإن كان لأحد المتداعيين بينة حكم له بها لأن البينة حجة في النكاح وغيره وإن أقاما بينتين تعارضتا وسقطتا وحيل بينهما وبينها ولا يرجح أحد المتداعيين بإقرار المرأة لما ذكرنا ولا بكونها في بينة ويده لأنه اليد لا تثبت على حرة ولا سبيل إلى القسمة ههنا ولا إلى القرعة لأنه لا بد مع القرعة من اليمين ولا مدخل لها في النكاح (12/192)
حكم ما لو قال لعبده قتلت فأنت حر
فصل : إذا قال السيد لعبده إن قتلت فأنت حر ثم مات فادعى أنه قتل وأنكر الورثة فالقول قولهم مه أيمانهم لأن الأصل عدم القتل فإن أقام بينة بدعواه عتق وإن أقام الورثة بينة بموته قدمت بينة العبد في أحد الوجهين لأنها تشهد بزيادة وهي القتل والثاني : تتعارضان لأن أحدهما تشهد بضد ما شهدت به الأخرى فيبقى على الرق إن قال إن مت في رمضان فعبدي سالم حر وإن مت في شوال فعبدي غانم حر ثم مات فادعى كل واحد منهما موته في الشهر الذي يعتق بموته فيه وأنكر الورثة فالقول قولهم مع أيمانهم وإن أقروا لأحدهما عتق بإقرارهم وإن أقام كل واحد منهم بينة فبجب عتقه ففيه ثلاثة أوجه
أحدها : تقدم بينة سالم لأن ومعها زيادة علم فإنه أثبت ما يجوز أن يخفى على البينة وهو موته في رمضان
والثاني يتعارضان ويبقى العبدان على الرق لأنهما سقطا فصارا كمن لا بينة لهما
والثالث : يقرع بينهما فيعتق من تقع له القرعة وإن قال إن برئت من مرضي هذا فسالم حر وإن مت منه فغانم حر فمات وادعى كل واحد منهما موجب عتقه أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق لأنه لا يخلو من أن يكون بريء أو لم يبرأ فيعتق أحدهما على كل حال ولم تعلم عينه فيخرج بالقرعة كما لو اعتق أحدهما فأشكل علينا ويحتمل أن يقدم قول غانم لأن الأصل عدم البرء وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه فقال أصحابنا : يتعارضان يبقى العبدان رق وهذا مذهب الشافعي لأن كل واحد منهما تكذب الأخرى وثبت زيادة تنفيها الأخرى ولا يصح هذا القول لأن التعارض أثره في إسقاط البينتين ولم يكونا أصر لعتق أحدهما فكذلك إذا سقطتا وذلك لأنه لا يخلو من إحدى الحالتين اللتين علق على كل واحد منهما عتق أحدهما فيلزم وجوده كما لو قال : إن كان هذا الطائر غرابا فسالم حر وإن لم يكن غرابا فغانم خر ولم يعلم حاله ولكن يحتمل وجهين : أحدهما أن يقرع بينهما كما في مسألة الطائر لأن البينتين إذا تعارضتا قدمت إحداهما بالقرعة وفي رواية ثانية تقدم رواية سالم لأنها شهدت بزيادة هي البرء وإن أقر الورثة لأحدهم عتق بإقرارهم ولم يسقط حق الآخر مما ذكر إلا أن يشهد اثنان عدلان منهم بذلك مع انتفاء التهمة ويعتق وحده إذا لم تكن للآخر بينة (12/194)
حكم ما لو كان ادعى سالم أن سيده اعتقه في مرض موته
فصل : وإذا ادعى سالم أن سيده أعتقه في مرض موته وادعى عبد الآخر غانم أنه أعتقه في مرض موته وكل واحد منهما ثلث ماله فأقام كل واحد منهما بدعواه بينة فلا تعارض بينهما لأن ما شهدت به كل بينة لا ينفي ما شهدت به الأخرى ولا تكذب إحداهما الأخرى فيثبت إعتاقه لهما ثم ينظر فإن كانت البينين مؤرخين بتاريخين مختلفين عتق الأول ورق الثاني إلا أن يجيز الورثة لأن المريض إذا تبرع بتبرعات يعجز ثلثه عن جميعها قدم الأول فالأول وإن اتفق تاريخهما أو أطلقتا أو إحداهما فهما سماء لأنه لا مزية لأحدهما على الأخرى فيستويان ويقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق ورق الآخر إلا أن يجيز الورثة لأنه لا يخلو أما أن يكون أعتقهما معا يقرع بينهما [ كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم في العبيد الستة الذين أعتقهم سيدهم عند موته ولم يكن له مال غيرهم ] أو يكون أعتق أحدهم قبل صاحبه وأشكل علينا فيخرج بالقرعة كما في مسألة الطائر وقيل : يعتق من كل واحد نصفه وهو قول الشافعي لأنه أقرب إلى التعديل بينهما فإن في القرعة قد يرق السابق المستحق للعتق ويعتق الثاني المستحق للرق وفي القسمة لا يخلو المستحق للعتق من حرية ولا المستحق للرق من الرق ولذلك قسمنا المختلف فيه على إحدى الروايتين إذا تعارضت به بينتان والأول المذهب لأنه لا يخلو من الشبهة إحدى الصورتين اللتين ذكرنهما والقرعة ثابتة في كل واحدة بينهما وقولهم إن في القرعة احتمال إرقاق نصف الحر قلنا : في القسمة إرقاق نصف الحر يقينا وتحرير نصف الرقيق يقينا وهو أعظم ضررا وإن كانت قيمة أحدهما الثلث وقيمة الآخر دون الثلث فكان الأول أو الذي خرجت قرعته الثلث عتق ورق الآخر وإن كان هو الناقص عن الثلث عتق وعتق من الآخر تمام الثلث وإن كانت لأحدهما بينة ولا بينة للآخر أو فاسقة عتق صاحب البينة العادلة ورق الآخر وإن كان لكل واحد منهما بينة عادلة إلا أن إحداهما تشهد أنه أعتق سالما في مرضه والأخرى تشهد بأنه أوصى بعتق غانم وكان سالم ثلث المال وعتق وحده ووقف عتق غنام على إجازة الورثة لأن التبرع يقدم على الوصية وإن كان سالم أقل من الثلث عتق من غانم تمتم الثلث وإن شهدت إحداهما أنه أوصى بعتق سالم وشهدت الأخرى أنه أوصى بعتق غانم قهما سواء ويقرع بينهما سواء اتفق تاريخهما أو اختلف لأنه الوصية يستوي فيها المتقدم والمتأخر وقال أبو بكر وابن أبي موسى : يعتق نضف كل واحد منهما بغير قرعة لأن القرعة إنما تجب إذا كان أحدهما عبدا والآخر حرا ولا كذلك هاهنا فيجب أن تقسم الوصية بينهما ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر وصيته كما لو وصى لاثنين بمال والأول قياس المذهب لأن الإعتاق بعد الموت كالإعتاق في مرض الموت وقد ثبت في الإعتاق فيمرض الموت أنه يقرع بينهما لحديث عمران بن حصين فكذلك بعد الموت في مرض الموت ولأن المقتضى لتكميل العتق في أحدهما في الحياة موجود بعد الممات فيثبت فأما إن صرح فقال إذا مت فنصف كل واحد من سالم وغانم حر أو في لفظه ما يقتضيه أو دلت عليه القرينة ثبت ما اقتضاه
فصل : فإن خلف المريض ابنين لا وارث له سواهما فشهدا أنه اعتق سالما في مرض موته وشهد أجنبيان أنه أعتق غانما في مرض موته وكل واحد ثلث ماله ولم يطعن الابنان في شهادتهما وكانت البينتان عادلتين فالحكم فيما إذا كانا أجنبيين سواء لأنه قد ثبت أن الميت أعتق العبدين فإن طعن الاثنان في شهادة الأجنبيين وقالا ما أعتق غانما في مرض موته وكل ثلث ماله إنما أعتق سالما لم يقبل شهادتهما في رد شهادة الأجنبية لأنها بينة عادلة مثبتة والأخرى نافية وقول المثبت يقدم على قول النافي ويكون الحكم ما إذا لم يطعن الورثة في شهادتهما في أنه يعتق أن يقدم تاريخ عتقه أو خرجت له القرعة ويرق إذا تأخر تاريخه أو خرجت القرعة لغيره وأما الذي شهد به الابنان فيعتق كله لإقرارهما بإعتاقه وحده واستحقاقه للحرية وهذا قول القاضي وقيل : يعتق ثلثاه إن حكم بعتق سالم وهو الثلث الباقي لأن العبد الذي شهد به الأجنبيان كالمغصوب من التركة وكالذاهب من التركة بموت أو تلف فيعتق ثلث الباقي وهو ثلثا غانم والأول أصح لأن المعتبر خروجه من الثلث حال الموت وحال الموت في قول الابنين لم يعتق سالم إنما عتق بالشهادة فيكن ذلك بمنزلة موته بعد موت سيده فلا يمنع من عتق من خرج من الثلث قبل موته فإن كان الابنان فاسقان ولم يردا شهادة الأجنبية تثبت العتق لسالم ولم يزاحمه من شهد له الابنان لفسقهما لأن شهادة الفاسق كعدمها فلا يقبل قولهما في إسقاط حق ثبت بينة عادلة وقد أقر الابنان بعتق غانم فينظر فإن تقدم تاريخ عتقه أو أقرع فخرجت القرعة له عتق كله كما قلنا في التي قبلها وإن تأخر تاريخ عتقه أو خرجت القرعة لغيره لم يعتق منه شيء لأن الابنين لو كانا عدلين لم يعتق منه شيء فإذا كانا فاسقين أولى
وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي : يعتق نصفه في الأحوال كلها لأنه استحق العتق بإقرار الورثة مع ثبوت العتق للآخر بالبينة العادلة فصار بالنسبة كأنه أعتق العبدين فيعتق منه نصفه وهذا لا يصح فإنه لو أعتق العبدين لأعتقنا أحدهما بالقرعة لأنه في حال تقدم تاريخ عتق من شهدت له البينة لا يعتق منه شيء ولو كانت بينته عادلة فمع فسوقها أولى وإن كذبت الورثة الأجنبية فقالت : ما أعتق غانما إنما أعتق سالما عتق العبدان وقيل : يعتق من سالم ثلثاه والأول أولى
فصل : فإن شهد عدلان أجنبيان أنه وصى بعتق سالم وشهد عدلان وارثان أنه رجع عن الوصية بعتق سالم ووصى بعتق غانم وقيمتها سواء أو كانت قيمة غانم أكثر قبلت شهادتهما وبطلت وصية سالم لأنهما لا يجران إلى نفسهما نفعا ولا يدفعان عنها ضررا فإن فهما يثبتان لأنفسهما ولاء غانم قلنا وهما يسقطان ولاء سالم وعلى أن الولاء إثبات سبب الميراث وهذا لا يمنع قبول الشهادة بدليل ما لو شهدا بعتق غانم من غير معارض ثبت عتقه ولهما ولاؤه ولو شهدا بثبوت نسب أخ لهما قبلت شهدتهما مع ثبوت سبب الإرث لهما وتقبل شهادة المرأة لأخيه بالمال وإن جاز أن يرثه فإن كان الوارثان فاسقين لم يقبل شهادتهما في الرجوع ويلزمهما قرارهما لغانم فيعتق سالم بالبينة العادلة ويعتق غانم بإقرار الورثة بالوصية بإعتاقه وحده
وذكر القاضي و أصحاب الشافعي أنه إنما يعتق ثلثاه لأنه لما أعتق سالم بشهادة الأجنبيين صار كالمغصوب فصار غانم نصف التركة فيعتق ثلثاه وهو ثلث التركة
ولنا أن الوارثة تقر بأنه حين الموت ثلث التركة وأن عتق سالم إنما كان بشهادتهما بعد الموت فصار كالمغصوب بعد الموت ولو غضب بعد الموت لم يمنع عتق غانم كله فكذلك الشهادة بعتقه وقد ذكر القاضي فيما إذا شهدت بينة عادلة بإعتاق سالم في مرضه ووارثة فاسق بإعتاق غانم في مرضه وأنه لم يعتق سالما أن غانما يعتق كله وهذا مثله
فأما إن كانت قيمة غانم أقل بمن قيمة سالم فالورثة متهمة لكونها ترد إلى الرق من كثرت قيمته فترد شهادتها في الرجوع كما ترد شهادتهما بالرجوع عن الوصية ويعتق سالم وغانم كله أو ثلثاه وهو ثلث الباقي على ما ذكرنا من الاختلاف فيما إذا كانت فاسقة وإن لم تشهد الورثة بالرجوع عن عتق سالم لكن شهدت بالوصية بعتق غانم وهو بينة عادلة ثبت الوصيتان سماء كانت قيمتها سواء أو مختلفة فيعتقا إن خرجا من الثلث وإن لم يخرجا من الثلث أقرع بينهما فيعتق من خرجت له القرعة ويعتق تمام الثلث من الآخر وسواء تقدمت إحدى الوصيتين على الأخرى أو لو استوتا لأن المتقدم والمتأخر من الوصايا سواء
فصل : ولو شهدت بينة عادلة أنه وصي لزيد بثلث ماله وشهدت بينة أخرى أنه رجع عن الوصية لزيد ووصى لعمر بثلث ماله وشهدت بينة ثالثة أنه رجع عن الوصية لعمرو ووصى لبكر بثلث ماله صحت الشهادات كلها وكانت الوصية لبكر سماء كانت البينتان من الورثة أو لم تكن لأنه لا تهمه في حقهم وإن كانت شهادة البينة الثالثة أنه رجع عن إحدى الوصيتين لم تفد هذه الشهادة شيئا لأنه قد ثبت بالبينة الثانية أنه رجع عن وصية زيد وهي إحدى الوصيتين فعلى هذا تثبت الوصية لعمرو وإن كانت البينة الثانية شهدت الوصية لعمرو ولم تشهد بالرجوع عن زيد فشهدت الثالثة بالرجوع عن إحدى الوصيتين تشهد أن لهذا على أحد هذين ألفا وأن لأحد هذين على هذا ألفا ويكون الثلث بين الجميع أثلاثا
وقال أبو بكر : قياس قول أبي عبد الله أنه يصح بالرجوع عن إحدى الوصيتين ويقرع بينهما فمن خرجت له قرعة الرجوع عن وصيته بطلت وصيته وهذا قول أبي موصى وإذا صح الرجوع عن إحداهما بعير تعين صحت الشهادة به كذلك ووجه ذلك أن الوصية تصح الشاهدة فيها بالمجهول فجازت في الرجوع منه غير تعين المرجوع عن وصيته
فصل : وإن شهد شاهدان أنه وصي لزيد بثلث ماله وشهد واحد أنه أوصى لعمرو بثلث ماله انبنى هذا على إن الشاهد واليمين هل يعارض الشاهدين أو لا ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يعارضهما فيحلف عمرو مع شاهده ويقسم الثلث بينهما لأن الشاهد واليمين حجة في المال فأشبه الشاهدين
والثاني : لا يعارضهما لأن الشاهدين أقوى فيرجحان على الشاهد واليمين فعلى هذا ينفرد زيد بالثلث وتقف وصية عمرو على إجازة الورثة فإما إن شهد واحد أنه رجع عن وصية زيد ووصى لعمرو بثلثه فلا تعارض بينهما ويحلف عمرو مع شاهده وتثبت الوصية لعمرو والفارق بين المسألتين أن في الأولى تقابلت البنتان فقدمتا أقواهما وفي الثانية لم يتقابلا وإنما يثبت الرجوع وهو يثبت بالشاهد واليمين لأن المقصود به المال وهذا مذهب الشافعي والله أعلم (12/195)
حكم ما لو كان في يده دار فادعاها رجل فأقر بها لغيره
مسألة : قال : ولو كان في يده دار فادعاها رجل فأقر بها لغيره فإن كان المقر له بها حاضرا جعل الخصم فيها وإن كان غائبا وكانت للمدعي بينة حكم بها للمدعي ببينته وكان الغائب على خصومته متى حضر
وجملته أن الإنسان إذا ادعى دارا في يد غيره فقال الذي هي في يده ليست لي إنما هي لفلان وكان المقر له بها حاضرا سئل عن ذلك فإن صدقه صار الخصم فيها وكان صاحب اليد لأن من هي في يده اعترف أن يده نائبة عن يده وإقرارالإنسان بما في يده إقرار صحيح فيصير خصما للمدعي فإن كانت للمدعي بينة حكم له بها وإن لم تكن له بينة فالقول قول المدعى عليه مع يمينه وإن قال للمدعي : احلفوا لي المقر الذي كانت العين في يده أنه لا يعلم أنها لي فعليه اليمين لأنه لو أقر له بها بعد اعترافه لزمه الغرم كما لو قال : هذه العين لزيد ثم قال هي لعمرو فإنها تدفع إلى زيد ويدفع قيمتها لعمرو ومن لزمه الغرم مع الإقرار لزمته اليمين مع الإنكار فإن رد المقرله الإقرار وقال ليست لي وإنما هي للمدعي وحكم له بها وإن لم يقل للمدعي ولكن قال : ليست لي فإن كانت للمدعي بينة حكم له بها وإن لم تكن له بينة ففيه وجهان
أحدهما : تدفع إلى المدعي لأنه يدعيها ولا منازع له فيها ولأن من هي في يده لو ادعاها ثم نكل قضينا بها للمدعي فمع عدم ادعائه لها أولى
والثاني : لا تدفع إليه لأنه لم يثبت لها مستحق لأن المدعي لا يد له ولا بينة وصاحب اليد معترف أنها ليست له فيأخذها الإمام فيحفظها لصاحبها وهذا الوجه الثاني ذكره القاضي والأول أولى لما ذكرنا من دليله ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين ووجه ثالث أن المدعي يحلف أنها له وتسلم إليه ويتخرج لنا مثله بناء على القول برد اليمين إذ نكل المدعى عليه وإن قال المقر له : هي لثالث انتقلت الخصومة إليه وصار بمنزلة صاحب اليد لأنه أقر له بها من اليد له حكما وأما إن أقر بها المدعى عليه لمجهول قيل له ليس هذا بجواب فإن أقررت بها لمعروف وإلا جعلناك ناكلا وقصيبنا عليك فإن أصر قضي عليه بالنكول وإن اقر بها لغائب أو لغير مكلف معين كالصبي والمجنون صارت الدعوى عليه فإن لم تكن للمدعي بينة لم يقض له بها لأن الحاضر يعترف أنها ليست له ولا يقضى على الغائب بمجرد الدعوى ويقف الأمر حتى يقدم الغائب ويصير غير المكلف مكلفا فتكون الخصومة معه فإن قال المدعي : احلفوا لي المدعى عليه أحلفناه لما تقدم وإن أقر بها للمدعي لم تسلم إليه لأنه اعترف أنها لغيره ويلزمه أن يغرم له قيمتها لأنه فوتها عليه بإقراره بها لغيره وإن كان مع المدعي بينة سمعها الحاكم وقضى بها وكان الغائب على خصومته متى حضر له أن يقدح في بينة المدعي وأن يقيم بينة تشهد بانتقال الملك إليه من المدعي وإن أقام بينة أنه ملكه فهل يقضى بها ؟ على وجهين بناء على تقديم بينة الداخل والخارج فإن قلنا تقدم بينة الخارج فأقام الغائب بينة تشهد له بالملك والنتاج أو سبب من أسباب الملك فهل تسمع بينته ويقضى بها ؟ على وجهين وإن كان مع المقر بينة تشهد بها للغائب سمعها الحاكم ولم يقض بها لأن البينة للغائب والغائب لم يدعها هو ولا وكيله وإنما سمعها الحاكم لما فيها من فائدة وهو زوال التهمة عن الحاضر وسقوط اليمين عنه إذا ادعى عليه أنك تعلم أنها لي ويتخرج أن يقضى بها إذا قلنا بتقديم بينة الداخل وأن للمودع المخاصمة في الوديعة إذا غصبت ولأنها بينة مسموعة فيقضى بها كبينة المدعي إذا لم تعارضها بينة أخرى فإن ادعى من هي في يده أنها معه بإجارة أو عارية وأقام بينة بالملك للغائب لم يقض بها لوجهين : أحدهما : أن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على الملك المؤجر بهذه البينة فلا تثبت الإجارة المترتبة عليها والثاني : أن بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل ويخرج القضاء بها على تقديم بينة الداخل وكون الحاضر له فيها حق فإنه يقضي بها وجها واحدا ومتى عاد المقر بها لغيره وادعاها لنفسه لم تسمع دعواه لأنه أقر بأنه لا يملكها فلا يسمع منه الرجوع عن إقراره والحكم في غير المكلف كالحكم في الغائب على ما ذكرنا (12/202)
فيما لو طلب المدعي أن يكتب له محضرا بما جرى
فصل : وإذا طلب المدعي أن يكتب له محضرا بما جرى لزمته إجابته فيكتب له محضرا : حضر القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي عبد الله الإمام فلان بن فلان أو خليفة القاضي فلان بن فلان إن كان نائبا فلان بن فلان الفلاني وأحضر معه فلان بن فلان الفلاني فادعى دارا في يديه ويعينها ويذكر حدودها وصفتها فاعترف بها المدعى عليه لفلان بن فلان الفلاني وهو حينئذ غائب عن بلد القاضي فأقام المدعي بينة وهي فلان بن فلان الفلاني وفلان بن فلان الفلاني فشهدا عنده للمدعى بما ادعاه وعرف الحاكم عدالتهما بما يسوغ معه قبول شهادتهما أو يشهد عنده بعدالتهما فلان بن فلان فقبل شهادتهما فقضى بها على الغائب جعل كل ذي حجة على حجته فإن كان الغائب قد قدم ولم يأت بحجة زاد وقدم الغائب المقر له بها فلان ولم يأت بحجة تدفع المدعي عن دعواه وإن قام عند حضوره بينة زاد وأقام بينة وكانت بينة المدعي مقدمة على بينته لأنها بينة خارج (12/205)
حكم ما لو ادعى إنسان أن أباه مات وخلفه وأخا له غائبا
فصل : إذا ادعى إنسان أن أباه مات وخلفه وأخا له غائبا ولا وارث له سواهما وترك دارا في يد هذا الرجل فأنكر صاحب اليد فأقام المدعي بينة بما ادعاه ثبتت الدار للميت وانتزعت الدار من يد المنكر ودفع نصفها إلى المدعي وجعل النصف الآخر في يد أمين للغائب يكريه له وكذلك إن كان المدعى مما ينقل ويحول وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن كان مما ينقل ولا يحول أو مما ينحفظ ولا يخاف هلاكه لم ينزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه لأن الغائب لم يدعه هو ولا وكيله فلم ينزع من يد من هو في يده كما لو ادعى أحد الشريكين دارا مشتركة بينه وبين أجنبي فإنه يسلم إلى المدعي نصيبه ولا ينزع نصيب الغائب كذا ههنا
ولنا أنها تركه ميت ثبتت بينته فوجب أن ينزع نصيب الغائب كالمنقول وكما لو كان أخوة صغيرا أو مجنونا ولأن فيما قاله ضررا لأنه قد يتعذر على الغائب إقامة البينة وقد يموت الشاهدان أو يغيبان أو تزول عنهما عدالتهما ويعزل الحاكم فيضيع حقه فوجب أن يحفظ بانتزاعه كالمنقول ويفارق الشريك الأجنبي إجمالا وتفصيلا أما الإجمال فإن المنقول ينتزع نصيب شريكه في الميراث ولا ينتزع نصيب شريكه الأجنبي وأما التفصيل فأن البينة ثبت بها الحق للميت بدليل أنه يقضى منه ديونه وتنفذ منه وصاياه ولأن الأخ يشاركه فيما أخذه تعذر عليه أخذ الباقي فأما إن كان دينا في ذمة إنسان فهل يقبض الحاكم نصيب الغائب فيه وجهان : أحدهما : يقبضه كما يقبض العين
والثاني : لا يقبضه لأنه إذا كان في ذمة من هو عليه كان أحوط من أن يكون أمانة في يد الأمين لأنه لا يؤمن عليه التلف إذا قبضه والأول أولى لأنه في الذمة أيضا يعرض للتلف بالفلس والموت وعزل الحاكم وتعذر البينة إذا ثبت هذا فإننا دفعنا إلى الحاضر نصف الدار أو الدين لم نطالبه بضمين لأننا دفعناه بقول الشهود والمطالبة بالضمين طعن عليهم قال أصحابنا : سواء كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة أو لم يكونا يحتمل أن لا تقبل شهادتهما في نفي وارث وآخر حتى يكونا من أهل الخبرة الباطنة والمعرفة المتقادمة لأن من ليس من أهل المعرفة ليس جهله بالوارث دليلا على عدمه ولا يكتفى به وهذا قول الشافعي فعلى هذا تكون الدار موقوفة ولا يسلم إلى الحاضر نصفها حتى يسأل الحاكم ويكشف عن المواضع التي كان يطوفها ويأمر مناديا ينادي أن فلانا مات فإن كان له وارث فليأت فإذا غلب على ظنه أنه لو كان له وارث لظهر دفع إلى الحاضر نصيبه وهل يطلب منه ضمينا ؟ يحتمل وجهين وهكذا الحكم إذا كان الشاهدان من أهل الخبرة الباطنة ولكن لم يقولا ولا نعلم له وارثا سواه فإن كان مع الابن ذو فرض فعلى ظاهر المذهب يعطى فرضه كاملا وعلى هذا التخريج يعطى اليقين فإن كانت له زوجة أعطيت ربع الثمن لجواز أن يكون له أربع نسوة وإن كانت له جدة ولم يثبت موت أمه لم تعط شيئا وإن ثبت موتها أعطيت ثلث السدس لجواز أن يكون لا ثلاث جدات ولا تعطى العصبة شيئا فإن كان الوارث أخا لم يعط شيئا لجواز أن يكون للميت وارث يحجبه وإن كان معه أم أعطيت السدس عائلا والمرأة ربع الثمن عائلا والزوج الربع عائلا لأنه اليقين فإن المسألة قد تعول مع وجود الزوج مثل أن يخلف أبوين وابنين وزوجا فإذا كشف الحاكم أعطى الزوج نصيبه وكمل لذوي الفروض فروضهم (12/205)
حكم ما لو اختلف في دار في يد أحدهما وأقام أحدهما بينة
فصل : وإذا اختلف في دار في يد أحدهما فأقام المدعي بينة أن هذه الدار كانت أمس ملكه أو منذ شهر فهل تسمع هذه البينة ويقضى بها ؟ على وجهين : أحدهما : تسمع ويحكم بها لأنها تثبت الملك في الماضي وإذا ثبت استديم حتى يعلم زواله
والثاني : لا تسمع قال القاضي : هو الصحيح لأن الدعوى لا تسمع ما لم يدع المدعي الملك في الحال فلا تسمع بينة على ما لم يدعه ولكن إن انضم إلى شهادتهما بيان سبب يد الثاني وتعريف تعديها فقالا نشهد إنها كانت ملكه أمس فقبضها هذا منه أو سرقها أو ضلت منه فالتقطها هذا ونحو ذلك سمعت وقضي بها لأنها إذا لم تبين السبب فاليد دليل الملك ولا تنافي بين ما شهدت به البينة وبين دلاله اليد لجواز أن تكون ملكه أمس ثم تنتقل إلى صاحب اليد فإذا ثبت أن سبب اليد عدوان خرجت عن كونها دليلا فوجب القضاء باستدامة الملك السابق وإن أقر المدعى عليه أنها كانت ملك للمدعي أمس أو فيما مضى سمع إقراره وحكم به في الصحيح لأنه حينئذ يحتاج إلى بيان سبب انتقالها إليه فيصير هو المدعي فيحتاج إلى البينة ويفارق البينة من وجهين :
أحدهما : أنه أقوى من البينة لكونه شهادة من الإنسان على نفسه ويزول به النزاع بخلاف البينة ولهذا يسمع في المجهول ويقضى به بخلاف البينة والثاني : أن البينة لا تسمع إلى على ما ادعاه والدعوى يجب أن تكون معلقة بالحال والإقرار يسمع ابتداء وإن شهدت البينة أنها كانت في يده أمس ففي سماعها وجهان وإن أقر المدعى عليه بذلك فالصحيح أنه تسمع ويقضى به لما ذكرنا (12/208)
حكم ما لو ادعى أمة أنها له
فصل : وإن ادعى أمة أنها له وأقام بينة فشهدت أنها ابنة أمته أو ادعى ثمرة فشهدت له البينة أنها ثمرة شجرته لم يحكم له بها لجواز أن تكون ولدتها قبل تملكها وأثمرت الشجرة هذه الثمرة قبل ملكه إياها وإن قالت البينة ولدتها أو ثمرتها في ملكه حكم له بها لأنها شهدت أنها ملكه ونماء ملكه ما لم يرد سبب ينقله عنه فإن قيل فقد قلتم لا تقبل شهادته بالملك السابق على الصحيح وهذه شهادة بملك سابق قلنا الفرق بينهما على تقدير التسليم أن النماء تابع للملك في الأصل فإثبات ملكه في الزمن الماضي على وجه التبع وجرى ما قال : ملكته منذ سنة وأقام البينة بذلك فإن ملكه يثبت في الزمن الماضي تبعا للحال ويكون له نماء فيما مضى ولأن البينة ههنا شهدت بسبب الملك وهو ولادتها أو وجودها في ملكه فقويت بذلك ولهذا لو شهدت بالسبب في الزمن الماضي فقالت : أقرضه ألفا أو باعه ثبت الملك وإن يذكره فمع ذكره أولى
وإن شهدت له البينة أن هذا الغزل من قطنه وهذا الدقيق من حنطته وأن هذا الطائر من بيضته حكم له به وإن لم يضفه إلى ملكه لأن الغزل عين القطن وإنما تغيرت صفته والدقيق أجزاء الحنطة تفرقت والطير هو أجزاء البيضة استحال وكأن البينة قالت : هذا غزله ودقيقه وطيره وليس كذلك الولد والثمرة فإنهما غير الأم والشجرة ولو شهد أن هذه البيضة من طيره لم يحكم له بها حتى يقولا باضها في ملكه لأن البيضة غير الطير وإنما هي من نمائه فهي كالولد ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كما ذكرنا (12/209)
حكم ما لو كان في يد زيد دار فادعاها عمرو
فصل : وإذا كانت في يد زيد دار فادعاها عمرو وأقام البينة أنه اشتراها من خالد بثمن مسمى نقده إياه أوإن خالدا وهبه تلك الدار لم تقبل بينته بهذا حتى يشهد أن خالدا باعه إياها أو وهبها له وهو يملكها أو يشهد أنها دار عمرو اشتراها من خالد أو يشهد أنه باعها أو وهبها أو سلمها إليه وإنما لم تسمع البينة بمجرد الشراء والهبة لأن الإنسان قد يبيع ما لا يملكه ويهبة فلا تقبل شهادتهم به فإن انضم إلى ذلك الشهادة للبائع بالملك أو شهدوا للمشتري بالملك أو شهدوا للمشتري بالملك أو شهدوا بالتسليم فقد شهدوا بتقديم اليد أو بالملك للمدعى أو لمن باعه فالظاهر أنه ملكه لأن اليد تدل على الملك وهذا مذهب الشافعي وإنما قبلناها وهي شهادة بملك ماض لأنها شهدت بالملك مع السبب وظاهر استمراره بخلاف ما إذا لم يذكر السبب (12/210)
حكم ما لو كان في يد رجل طفل لا يعبر عن نفسه
فصل : وإذا كان في يد رجل طفل لا يعبر عن نفسه وادعى أنه مملوكه قبلت دعواه ولم يحل بينه وبينه لأن اليد دليل الملك والصبي ما لم يعبر عن نفسه فهو كالبهيمة والمتاع إلا أن يعرف أن سبب يده غير الملك مثل أن يلتقطه فلا يقبل دعواه لرقه لأن اللقيط محكوم بحريته وأما غيره فقد وجد فيه دليل الملك من غير معارض فيحكم برقه فإذا بلغ فادعى الحرية لم تقبل دعواه لأنه محكوم برقه قبل دعواه وإن لم يدع ملكه لكنه كان يتصرف فيه بالاستخدام وغيره فهو كما لو ادعى رقه ويحكم له برقه لأن اليد دليل الملك فإن ادعى أجنبي نسبه لم يقبل لما فيه من ضرر على السيد لأن النسب مقدم على الولاء في الميراث فإن أقام البينة بنسبه ثبت ولم يزل الملك عنه لأنه يجوز أن يكون ولده وهو مملوك بأن يتزوج بأمة أو يسبي الصغير ثم يسلم أبوه إلا أن يكون الأب عربيا فلا يسترق ولده في رواية وهو قول الشافعي القديم وإن أقام بينة أنه حر فهو حر لأن ولد الحرة لا يكون إلا حرا وإن كان الصبي مميزا يعبر عن نفسه فادعى من هو في يده رقه ولم يعرف تقدم اليد قبل تمييزه إلا أننا إن رأينا في يده وهما يتنازعان ففيه وجهان : أحدهما : لا يثبت ملكه عليه لأنه معرب عن نفسه ويدعي الحرية أشبه البالغ والثاني : يثبت ملكه عليه لأنه صغير ادعى رقه وهو في يده فأشبه الطفل فأما البالغ إذا ادعى رقه فأنكر لم يثبت رقه إلا ببينة وإن لم تكن بينة فالقول قوله مع يمينه في الحرية لأنها الأصل وهذا الفصل بجميعه مذهب الشافعي و أبي الثوري وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا : متى أقام إنسان بينة أنه ولده ثبت النسب والحرية لأن ظهور الحرية في ولد الحر أكثر من احتمال الرق الحاصل باليد لا سيما إذا لم يعرف من الرجل كفر ولا تزوج بأمه فلا ينفى احتمال الرق وهذا القول هو الصواب إن شاء الله (12/211)
حكم ما لو ادعى اثنان رق بالغ في أيديهما فأنكر
فصل : إن ادعى اثنان رق بالغ في أيديهما فأنكرهما فالقول قوله مع يمينه وإن اعترف لهما بالرق ثبت رقه فإن ادعاه كل واحد منهما لنفسه فاعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يكون بينهما نصفين لأن يدهما عليه فأشبه الطفل والثوب
ولنا أنه إنما حكم برقه باعترافه فكان مملوكا لمن اعترف له كما لو لم تكن يده عليه ويخالف الثوب والطفل فإن الملك حصل فيهما باليد وقد تساويا فيه وههنا حصل بالاعتراف وقد اختص به أحدهما فكان مختصا به فإن أقام كل واحد منهما بينة أنه مملوكه تعارضتا وسقطتا ويقرع بينهما أو يقسم بينهما على ما مضى من التفصيل فيه فإن قلنا بسقوطهما ولم يعترف لهما بالرق فهو حر وإن اعترف لأحدهما فهو لمن اعترف له وإن أقر لهما معا فهو بينهما لأن البينتين سقطتا وصارتا كالمعدومتين فإن قلنا بالقرعة أو القسمة فأنكرهما لم يلتفت إلى إنكاره وإن اعترف لأحدهما لم يلتفت إلى اعترافه لأن رقه ثابت بالبينة فلم تبق له يد على نفسه كما قلنا فيما إذا ادعى رجلان دارا في يد ثالث وأقام كل واحد منهما بينة أنها ملكه واعترف أنها ليست له ثم أقر أنها لأحدهما لم يرجح بإقراره (12/212)
حكم لو كان في يده صغيرة فادعى نكاحها
فصل : ولو كان في يده صغيرة فادعى نكاحها لم يقبل منه ولا يخلى بينه وبينها ولو ادعى رقها قبل منه إذا كانت طفلة لا تعبر عن نفسها لأن الدليل الملك وإما المدعي للنكاح فهو مقر بحريتها أو بأنها غير مملوكة له واليد لا تثبت على حر فإذا كبرت فاعترفت له بالنكاح قبل إقرارها (12/213)
حكم ما لو ادعى ملك عين وأقام البينة فادعى آخر أنه اشتراها منه
فصل : ولو ادعى ملك عين وأقام به بينة وادعى آخر أنه باعها منه أو وهبها إياه أو أوقفها عليه أو ادعت امرأته أنه أصدقها إياها أو اعتقها وأقام بذلك بينة قضي لها بغير خلاف نعلمه لأن بينة هذا شهدت بأمر خفي على البينة الأخرى والبينة الأخرى شهدت بالأصل فيمكن أنه كان ملكه ثم صنع به ما شهدت به البينة الأخرى ولو مات رجل وترك دارا فادعى ابنه أنه خلفها ميراثا وادعت امرأته أنه أصدقها إياها وأقاما بينتين حكم بها للمرأة ولأنها تدعي أمرا زائدا خفي على بينة الابن وسواء شهدت البينة بالشراء وما في معناه بأنه باع ملكه أو ما في يده أو لم تشهد بذلك وسواء شهدت بالبيع والقبض أو لم تذكر القبض وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يثبت الملك للمشتري ولا تزال يد البائع إلا أن تشهد البينة بأنه باع ملكه أو ما في يده لأن البيع المطلق ليس بحجة لأنه قد يبيع ما لا يملك
ولنا أن بينة البائع أثبت الملك له فإذا أقامت بثينة الشراء عليه كانت حجة عليه في إزالة ملكه عنها إلى المشتري فوجب القضاء له بها ولو ادعى إنسان دارا في يد رجل أنه لي منذ سنة وأقام بهذا بينة فجاء ثالث فادعى أنه اشتراها من مدعيها منذ سنتين وأقام بهذا بينة ثبت لمدعي الشراء وليس في شهادة البينة الأولى أنه تملكها منذ سنة يستمر ما يبطل أنها له منذ سنتين لأنه لا تنافي بين ملكها منذ سنتين وملكها منذ سنة فإن المالك منذ سنتين يستمر في السنة الثانية فإن قالت بينة الشراء هو مالكها ثبت الملك بغير خلاف وإن لم تقل ذلك كان فيه من الخلاف ما قد ذكرنا (12/213)
فصل : حكم ما لو ادعى رجل ملك دار في يد آخر وادعى الآخر أنها في يده منذ سنتين
فصل : ولو ادعى رجل ملك دار في يد آخر وادعى صاحب اليد أنها في يده منذ سنتين وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه فهي لمدعي الملك بلا خلاف نعلمه لأنه لا تنافي بين الدعوتين ولا البينتين لأنها قد تكون ملكا له وهي في يد الآخر وإن ادعى دابته أنها له منذ عشر سنين وأقام بهذا بينة فوجدت الدابة لها أقل من عشر سنين فالبينة كاذبة لها والدابة لمن هي في يده (12/214)
حكم لو شهد شاهدان على رجل أنه اقر لفلان بألف
فصل : وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أقر لفلان بألف وشهد أحدهما أنه قضاه ثبت الإقرار فإن حلف مع شاهده على القضاء ثبت وإلا حلف المقر له أنه لم يقضه ويثبت له الألف وإن شهد أحدهما أنه له عليه ألفا وشهد الآخر أنه قضاه ألفا ثبت عليه الألف لأن شاهد القضاء لم يشهد بألف عليه وإنما تضمنت شهادته أنها كانت عليه والشهادة لا تقبل إلا صريحة بخلاف المسألة الأولى فأن البينة أثبتت الألف بشهادتها الصريحة بها ولو ادعى أنه أقرضه ألفا فقال : لا يستحق علي شيئا فأقام بينة بالقرض وأقام المدعي عليه أنه قضاه ألفا ولم يعرف التاريخ برئ بالقضاء لأنه لم يثبت عليه إلا ألف واحد ولا يكون القضاء إلا لما عليه فلهذا جعل القضاء للألف الثابتة وإن قال : ما أقرضتني ثم أقام بينة بالقضاء لم تقبل بينته في أنه قضاه للقرض لأنه بإنكاره القرض تعين صرفها إلى القضاء غيره ولو لم ينكر القرض إلا بينة القضاء كانت مؤرخة بتاريخ سابق على القرض لم يجز صرفها إلى القضاء القرض لأنه لا يقضي القرض قبل وجوده (12/214)
حكم ما لو مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا
مسألة : قال : ولو مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى المسلم أن أباه مات مسلما وادعى الكافر أن أباه مات كافرا فالقول قول الكافر مع يمينه لأن المسلم باعترافه بأخوة الكافر يعترف بأن أباه كان كافرا مدعيا لإسلامه وإن لم يعترف بأخوة الكافر ولم تكن بينة بأخوته كان الميراث بينهما نصفين لتساوي أيديهما
وجملته أنه إذا مات رجل لا يعرف دينه وخلف تركة وابنين يعترفان أنه أبوهما أحدهما مسلم والآخر كافر فادعى كل واحد منهما أنه مات على دينه وأن الميراث له دون أخيه فالميراث للكافر لأن دعوى المسلم لا تخلو من أن يدعي كون الميت مسلما أصليا فيجب كون أولاده مسلمين ويكون أخوه الكافر مرتدا وهذا خلاف الظاهر فإن المرتد لا يقر على ردته في دار الإسلام أو يقول إن أباه كان كافرا فأسلم قبل موته فهو معترف بأن الأصل ما قاله أخوه مدع زواله وانتقاله والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت زواله وهذا معنى قول الخرقي : إن المسلم باعترافه بأخوة الكافر معترف أن أباه كان كافرا مدعيا لإسلامه وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أنهما في الدعوى سواء فالميراث بينهما نصفين كما لو تنازع اثنان عينا في أيديهما ويحتمل أن يكون الميراث للمسلم منهما وهو قول أبي حنيفة لأن الدار دار الإسلام يحكم بإسلام لقيطها ويثبت للميت فيها إذا لم يعرف أصل دينه حكم الإسلام في الصلاة عليه ودفنه وتكفينه من الوقف الموقوف على أكفان موتى المسلمين ولأن هذا حكمه حكم الموتى المسلمين في تغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وسائر أحكامه فذلك في ميراثه ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ويجوز أن يكون أخوه الكافر مرتدا لم تثبت عند الحاكم ردته ولم ينته إلى الإمام خبره وظهور الإسلام بناء على هذا أكثر من ظهور الكفر بناء على كفر أبيه ولهذا جعل الشرع أحكامه أحكام المسلمين فيما عدا المتنازع فيه وقال القاضي : قياس المذهب أنا ننظر فإن كانت التركة في أيديهما قسمت بينهما نصفين وإن لم تكن في أيديهما أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف واستحق كما قلنا فيما إذا تداعيا عينا ويقتضي كلامه أنها إذا كانت في يد أحدهما فهي له مع يمينه وهذا لا يصلح لأن كل واحد منهما يعترف أن هذه التركة تركة هذا الميت وأنه إنما يستحقها بالميراث فلا حكم ليده وقال أبو الخطاب : يحتمل أن يقف الأمر حتى يعرف أصل دينه أو يصطلحا وهذا قول الشافعي ولنا ما ذكرناه من الدليل على ظهور كفره وعند ذلك يتعين الترجيح لقوله وصرف الميراث إليه وأما ظهور حكم الإسلام في الصلاة عليه فلأن الصلاة لا ضرر فيها على أحد وكذلك تغسيله ودفنه وأما قوله إن الإسلام يعلو ولا يعلى فإنما يعلو إذا ثبت والنزاع في ثبوته وهذا فيما إذا لم يثبت فأما إن ثبت أصل دينه فالقول قول من ينفيه عليه مع يمينه وهذا قول الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : القول قول المسلم على كل حال لما ذكرنا في التي قبلها ولنا أن الأصل بقاء ما كان عليه وكان القول قول من يدعيه كسائر المواضع فأما إن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر وادعى كل واحد منهما أن الميت أبوه دون الآخر فهما سواء في الدعوة لتساوي أيديهما ودعاويهما فإن المسلم والكافر في الدعوة سواء ويقسم ميراثه نصفين كما لو كان في أيديهما دار فادعاها كل واحد منهما ولا بينة لهما ويحتمل أن يقدم قول المسلم لما ذكرناه والله أعلم (12/215)
حكم ما لو أقام بينة أنه مات مسلم
مسألة : قال : وإن أقام المسلم بينة أنه مات مسلما وأقام الكافر بينة انه مات كافرا أسقطت البينتان وكانا كمن لا بينية لهما وإن قال شاهدان : نعرفه كان كافرا وقال شاهدان : نعرفه كان مسلما فالميراث للمسلم لأن الإسلام يطرأ على الكفر إذا لم يؤرخ شهود معرفتهم
وجملته ذلك انه إذا خلف الميت ولدين مسلما وكافرا فادعى المسلم انه مات مسلما وأقام بذلك بينة وأقام الكافر بينة من المسلمين أنه مات كافرا ولم يعرف أصل دينه فهما متعرضتان وإن عرف أصل دينه نظرنا في لفظ الشهادة فإن شهدت كل واحدة منهما كان آخر كلامه التلفظ بما شهدت به فهما متعارضان وإن شهدت إحداهما أنه مات على دين الإسلام وشهدت الأخرى أنه مات على دين الكفر قدمت بينة من يدعي انتقاله عن دينه لأن المبقية له على أصل دينه ثبتت شهادتها على الأصل الذي تعرفه لأنهما إذا عرفا أصل دينه ولم يعرفا انتقاله عنه جاز لهما أن يشهدا أنه مات على دينه الذي عرفاه والبينة الأخرى معها علم لم تعلمه الأولى فقدمت عليها كما لو شهدا بأن هذا العبد كان ملكا لفلان إلى أن مات وشهد آخران أنه أعتقه أو باعه قبل موته قدمت بينة العتق والبيع فأما إن قال شاهدان : نعرفه قبل موته قد كان مسلما وقال شاهدان نعرفه كان كافرا نظرنا في تاريخهما فإن كانتا وؤرختين بتاريخين مختلفين عمل بالآخرة منهما لأنه ثبت أنه انتقل عما شهدت به الأولى إلى ما شهدت به الآخرة وإن كانتا مطلقتين أو إحداهما مطلقة قدمت بينة المسلم لأن المسلم لا يقر على الكفر في دار الإسلام وقد يسلم الكافر فيقر وإن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد نظرت في شهادتهما فإن كانت على اللفظ فهما متعرضتان وإن لم تكن على اللفظ ولم يعرف أصل دينه فهما متعارضتان وأن عرف أصل دينه قدمت الناقلة له عن أصل دينه وكل موضع تعارضت البينتان فقال الخرقي : تسقط البينتان ويكونان كمن لا بينة لهما وقد ذكرنا روايتين آخرتين : إحداهما : يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف وأخذ والثانية : تقسم بينهما ونحو هذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تقدم بينة الإسلام على كل حال وقد مضى الكلام معه وقول الخرقي فيما إذا قال شاهدان نعرفه كان مسلما وقال شاهدان نعرفه كان كافرا محمول على من لم يعرف أصل دبنه أو على أن أصل دينه الكفر أما من كان مسلما في الأصل فينبغي أن تقدم بينة الكفر لأن بينة الإسلام يجوز أن تستند إلى ما كان عليه في الأصل (12/216)
حكم ما لو خلف ابنا مسلما وأخا كافرا
فصل : وإن خلف ابنا مسلما وأخا كافرا فاختلفا في دينه حال الموت فالحكم فيها كالتي قبله وهكذا سائر الأقارب إلا أن يخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين أو غيرهما من الأقارب يختلفون في دينه فإن كون الأبوين كافرين بمنزلة معرفة أصل دينه لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه فثبت أنه كان كافرا وإن الابنين يدعيان إسلامه فيكون القول قول الأبوين وإن كانا مسلمين فالقول قولهما في إسلامه لأن كفره ينبني على أنه كان مسلما فارتد أو أن أبويه كانا كافرين فأسلما بعد بلوغه والأصل خلافه (12/218)
حكم ما لو مات مسلم وخلف زوجة كافرة وورثة غيرها
فصل : ولو مات مسلم وخلف زوجة كافرة وورثة سواها وكانت الزوجة كافرة ثم أسلمت فادعت أنها أسلمت قبل موته فأنكرها الورثة فالقول قول الورثة لأن الأصل عدم ذلك وإن لم يثبت أنها كافرة فادعى عليها الورثة أنها كانت كافرة فأنكرتهم فالقول قولها لأن الأصل عدم ما ادعوه عليها وإن ادعوا أنه طلقها قبل موته فأنكرتهم فالقول قولها وإن اعترف بالطلاق وانقضاء العدة وادعت أنها راجعها فالقول قولهم وإن اختلفوا في انقضاء عدتها فالقول قولها في أنها لم تنقض لأن الأصل بقاؤها ولا نعلم في هذا كله خلافا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي و أبو ثور ولو خلف ولدين مسلمين اتفقا على أن أحدهما كان مسلما حين موت أبيه وادعى الآخر أنه اسلم في حياة أبيه وجحده أخوه فالميراث للمتفق عليه لأن الأصل بقاء الكفر إلى أن يعلم زواله وعلى أخيه اليمين ويكون على نفي العلم لأنها على نفي فعل أخيه إلا أن يكون ثبت أنه كان مسلما قبل القسمة فإن من أسلم على الميراث قبل أن يقسم قسم له وإن كان أحدهما حرا والآخر رقيقا ثم عتق واختلفا في حريته عند الموت فالقول قول من ينفيها وإن لم يثبت أنه كان رقيقا ولا كافرا فادعى عليه أنه كذلك فأنكر فالقول قوله والميراث بينهما لأن الأصل الحرية والإسلام وعدم ما سواهما (12/218)
حكم ما لو أسلم أحد الابنين في غرة شعبان وأسلم الآخر في غرة رمضان
فصل : وإن أسلم أحد الابنين في غرة شعبان وأسلم الآخر في غرة رمضان واختلفا في موت أبيهما فقال الأول منهما مات في شعبان فورثته وحدي وقال الآخر مات في رمضان فالميراث بينهما لأن الأصل بقاء حتى يعلم زوالها فإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه ففيه وجهان : أحدهما : يتعارضان والثاني : تقدم بينة موته في شعبان لأن معها زيادة علم لأنها بينت موته في شعبان ويجوز أن يخفى ذلك على البينة الأخرى (12/219)
حكم ما لو اختلفا في دار
فصل : وإن اختلفا في دار فادعى أن هذه داري ورثتها عن أبي وادعى الآخر أنها داره ورثها عن أبيه وليس أحدهما أخا للآخر وكانت في يد أحدهما فهي للذي هي في يده سواء كان مسلما أو كافرا وإن كانت في أيديهم فهي بينهما وإن كان لكل واحد منهم بينة وهي في أيديهما تعارضتا وكان الحكم فيها على ما قدمنا في مثلها (12/219)
حكم ما لو ماتت امرأة وابنها فقال الزوج ماتت قبل ابنها
مسألة : قال : وإذا ماتت امرأة وابنها فقال زوجها : ماتت قبل ابنها فورثناها ثم مات ابني فورثته وقال أخوها : مات ابنها فورثته ثم ماتت فورثناها حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وكان ميراث الابن لأبيه وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين
وجملته أنه إذا مات جماعة يرث بعضهم بعضا واختلف الأحياء من ورثتهم في أسبقهم بالموت كامرأة وابنها ماتا فقال الزوج : ماتت المرأة أولا فصار ميراثها كله لي ولابني ثم مات ابني فصار ميراثه لي وقال أخوها : مات ابنها فورثت ثلث ماله ثم ماتت فكان ميراثها بيني وبينك نصفين حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه وجعلنا ميراث كل واحد منهما للأحياء من ورثته دون من مات معه لأن سبب استحقاق الحي من موروثه موجود وإنما يمتنع لبقاء موروث الآخر بعده وهذا أمر مشكوك فيه فلا نزول عن اليقين بالشك فيكون ميراث الابن لأبيه لا مشارك له فيه وميراث المرأة بين أخيها وزوجها نصفين وهذا مذهب الشافعي فإن قيل فقد أعطيتم الزوج نصف ميراث المرأة وهو لا يدعي إلا الربع قلنا : بل هو مدع له كله ربعه بميراثه منها وثلاثة أرباعه بإرثه من ابنه قال أبو بكر : وقد ثبتت البنوة بيقين فلا يقطع ميراث الأب منه إلا ببينة تقوم للأخ وهذا تعليل لقول الخرقي في هذه المسألة وذكر قولا آخر أنه يحتمل أن الميراث بينهما نصفين قال : وهذا اختياري أن كل رجلين ادعيا مالا يمكن صدقهما فيه فهو بينهما نصفين وهذا لا يدري ما أراد به إن أراد أن مال المرأة بينهما نصفين فهو قول الخرقي وليس بقول آخر إن أراد أن مالها ومال الابن بينهما نصفين لم يصح لأنه يفضي إلى إعطاء الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه يقينا لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن أن يستحق أكثر منه وإن أراد أن ثلث مال الابن يضم إلى مال المرأة فيقتسمانه نصفين لم يصح لأن نصف ذلك للزوج باتفاق منهما لا ينازعه الأخ فيه وإنما النزاع بينهما في نصفه ويحتمل أن يكون هذا مراده كما لو تنازع الأخ فيه وإنما النزاع بينهما خفي كما لو تنازع رجلان دارا في أيديهما فادعاها أحدهم كلها وادعى الآخر نصفها فإنها تقسم بينهما نصفين وتكون اليمين على مدعي النصف إلا أن الفرق بين هذه المسألة وتلك أن الدار في أيديهما فكل واحد منهما في يده نصفها فمدعي النصف يدعيه وهي في يده فقبل قوله فيه مع يمينه وفي مسألتنا يعترفان أن هذا ميراث عن الميتين فلا يد لأحدهما عليه لاعترافهما بأنه لم يكن لهما وإنما هو ميراث يدعيانه عن غيرهما وإن أراد أن يضم سدس مال الابن إلى نصف مال المرأة فيقسم بينهما نصفين فله وجه لأنهما تساويا في دعواه فيقسم بينهما كما لو تنازعا دابة في أيديهما وعلى كل واحد منهما اليمين فيما حكم له به والذي يقتضيه قول أصحابنا في الغرقي والهدمى أن يكون سدس ميراث الابن للأخ وباقي الميراثين للزوج لأننا نقدر أن المرأة ماتت أولا فيكون ميراثها لابنها وزوجها ثم مات الابن فورث الزوج كل ما في يده فصار ميراثها كله لزوجها ثم نقدر أن الابن مات أولا فورثه أبواه لأمه الثلث ثم ماتت فصار الثلث بين أخيها وزوجها نصفين لكل واحد منهما السدس فلم يرث الأخ إلا سدس مال الابن كما ذكرنا ولعل هذا القول يختص بمن جهل موتهما واتفق وارثهما على الجهل به والقولان المتقدمان قول الخرقي وقول أبي بكر فيما إذا ادعى ورثة كل ميت أنه مات أخيرا وأن الآخر مات قبله فإن كان لأحدهما بينة بما ادعاه حكم بها وإن أقاما بينتين تعارضتا وهل تسقطان أو تستعملان فيقرع بينهما أو يقتسمان ما اختلفا فيه ؟ يخرج على الروايات الثلاث والله أعلم (12/219)
حكم ما لو كان في يد رجل دار فادعت امرأته أنه أصدقها إياها
فصل : ولو كان في يد رجل دار فادعت امرأته أنه أصدقها إياها أو أنها اشترتها منه فأنكرها فالقول قوله مع يمينه لأن القول قول المنكر مع يمينه وإن أقام كل واحد منهما بينة قدمت بينة المرأة لأنها تشهد بزيادة خفيت على بينة الرجل وإن مات الرجل وخلف ابنا فادعى الابن أنه خلف الدار ميراثا وادعت المرأة أنه أصدقها إياها أو باعها إياها وأقاما بينتين قدمت بينة المرأة لذلك فإن لم تكن بينة فالقول قول الابن مع يمينه لا نعلم في هذا خلافا (12/221)
حكم ما لو ادعى رجل أنه اكترى بيتا من دار لرجل أخر
فصل : وإذا ادعى رجل أنه اكترى بيتا من دار لرجل شهرا بعشرة فادعى الرجل أنه اكترى الدار كلها بعشرة ذلك الشهر ولا بينة لواحد منهما فقد اختلفا في صفة العقد في قدر المكترى فيتحالفان وقد مضى حكم التحالف في البيع وذكر أبو الخطاب فيما إذا ادعى البائع أنه باعه عبده هذا بعشرة وقال المشتري بل هو والعبد الآخر بعشرة فالقول قول البائع مع يمينه ولم يجعل بينهما تحالفا لأن المشتري يدعي بيعا في العبد الزائد ينكره البائع والقول قول المنكر وهذا مثله فعلى هذا يكون القول قول المكري مع يمينه إذا عدمت البينة وإن أقام أحدهما بدعواه بينة حكم له وإن كان مع كل واحد بينة تعرضتا سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين بتاريخ واحد أو إحداهما مؤرخة والأخرى مطلقة لأن العقد على البيت مفردا وعلى الدار كلها في زمن واحد محال فإن تسقطان فالحكم فيه كما لو لم يكن بينهما بينة وإن قلنا يقرع بينهما قدمنا قول من تقع له القرعة وهذا قول القاضي وظاهر مذهب الشافعي وعلى قول أبي الخطاب تقدم بينة المكتري لأنها تشهد بزيادة وهو قول بعض أصحاب الشافعي فإن قيل فهلا أوجبتم الأخريين معا على المكتري كما قلتم فيما إذا قامت البينة أنه تزوجها يوم الخميس بألف فقامت بينة أخرى أنه تزوجها يوم الجمعة بمائة يجب المهران قلنا : ثم يجوز أن يكون المهران مستقرين بأنها يتزوجها يوم الخميس ويدخل بها ثم يخالعها ثم يتزوجها يوم الجمعة وأما الأجرة فلا يستقر إلا بمضي الزمان فإذا عقد عقدا قبل مضي المدة لم يجز أن تجب الأجرتان (12/221)
حكم ما لو شهد شاهدان على رجل أنه أخذ من صبي ألفا
مسألة : قال : ولو شهد شاهدان على رجل أنه أخذ من صبي ألفا وشهد آخران على رجل آخر أنه أخذ من الصبي ألفا كان على ولي الصبي أن يطالب أحدهما بالألف إلا أن تكون كل بينة لم تشهد بالألف الذي شهدت به الأخرى فيأخذ الولي الألفين
أما إذا كانت كل بينة شهدت بألف غير معين فإن الولي يطالب بالألفين جميعا لأن كل واحد من الرجلين ثبت عليه أحد الألفين فيلزمه أداؤها وعلى الولي أن يطالب بها كما لو أقر كل واحد منهما بألف وأما إن كان المشهود به ألفا معينا فشهدت بينة أن هذا الرجل هو الآخذ لها لم يجب إلا ألف واحد وللولي مطالبة أيهما شاء لأنه قد ثبت أن كل واحد منهما أخذ الألف فإن كان لم يرده فقد استقر في ذمته وإن كان رده إلى الصبي لم تبرأ ذمته برده إليه لأنه ليس له قبض صحيح فإن غرمه الذي لم يرده لم يرجع على أحد لأنه استقر عليه وإن غرمه الراد له رجع على الذي لم يرده فإن غرمه أحدهما فادعى أن الضمان استقر على صاحبه ليرجع عليه فالقول قول الآخر مع يمينه لأن الأصل عدم استقراره عليه (12/222)
حكم ما لو إلينا أهل الحرب فأقر بعضهم بنسب بعض
مسألة : قال : ولو أن رجلين حربيين جاءا من أرض الحرب فذكر كل واحد منهما أنه أخو صاحبه جعلناهما أخوين وإن كانا سبيا فادعيا ذلك بعد أن أعتقا فميراث كل واحد منهما لمعتقه إذا لم يصدقهما إلا أن تقوم بما ادعياه بينة من المسلمين فثبت النسب ويورث كل واحد منهما من أخيه
وجملته أن أهل الحرب إذا دخلوا إلينا مسلمين أو غير مسلمين فأقر بعضهم بنسب بعض ثبت نسبهم كما يثبت نسب أهل دار الإسلام من المسلمين وأهل الذمة بإقرارهم ولأنه إقرار لا ضرر على أحد فيه فيقبل كإقرارهم بالحقوق المالية ولا نعلم في هذا خلافا وإن كانوا سبيا فأقر بعضهم بنسب بعض وقامت بذلك بينة من المسلمين ثبت أيضا سواء كان الشاهد أسيرا عندهم أو غير أسير ويسمى الواحد من هؤلاء حميلا أي محمولا كما يقال للمقتول قتيل وللمجروح جريح لأنه حمل من دار الكفر وقيل سمي حميلا لأنه حمل نسبه على غيره وإن شهد بنسبه الكفار لم تقبل وعن أحمد رواية أخرى أن شهادتهم في ذلك تقبل لتعذر شهادة المسلمين به وفي الغالب أشبه شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم والمذهب الأول لأننا إذا لم نقبل شهادة الفاسق فشهادة الكافر أولى وإنما لم يقبل إقرارهم لما في ذلك من ضرر على السيد بتفويت إرثه بالولاء على تقدير العتق وإن صدقهما معتقهما قبل لأن الحق له وإن لم يصدقهما ولم تقم بينة بذلك لم يرث بعضهم من بعض وميراث كل واحد منهما لمعتقه وهذا قول الشافعي فيما إذا أقر بنسب أب أو أخ أو جد أو ابن عم وإن أقر بنسب ففيه ثلاثة أوجه : أحدهما : لا يقبل والثاني يقبل لأنه يملك أن يستولد فملك الإقرار به والثالث : إن أمكن أن يستولد بعد عتقه قبل لأنه يملك الاستيلاد بعد عتقه وإلا لم يقبل لأنه لا يملك قبل عتقه أو يستولد قبل عتقه ويروى عن ابن مسعود ومسروق والحسن وابن سيرين أن إقراره يقبل فيما يقبل فيه الإقرار من الأحرار الأصليين وبه قال أبو حنيفة لأنه مكلف أقر بنسب وإرث مجهول النسب يمكن صدقه فيه ووافقه المقر له فيه فقبل كما لو أقر من له أخ بنسب ابن وبهذا الأصل يبطل ما ذكروه
ولنا ما روى الشعبي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى شريح أن لا تورث حميلا حتى تقوم به بينة رواه سعيد وقال أيضا : حدثنا سفيان عن ابن جدعان عن سعيد بن المسيب قال : كتب عمر بن الخطاب أن لا تورث حميلا إلا ببينة ولأن إقراره يتضمن إسقاط حق معتقه من ميراثه فلم يقبل كما لو أقر أنه مولى لغيره فإن غيره شريكه في ولائه وفارق الإقرار من الحر الذي له أخ لأن الولاء نتيجة الملك فجرى مجراه ولأن الولاء ثبت عن عوض والأخوة بخلافه إلا ترى أنه لو قال لغيره أعتق عبدك عني وعلي ثمنه صح ولم يثبت له إلا الولاء ؟ وإذا ثبت أنه بعوض كان أقوى من النسب وإنما قدمنا النسب في الميراث لقربه لا لقوته كما نقدم ذوي الفروض على العصبة مع قربهم (12/223)
إذا كان مختلفي الدين لم يثبت النسب بإقرارهم
فصل : وإذا كانا مختلفي الدين لم يثبت النسب بإقرارهما وإن لم يتوارثا لأنه يحتمل أن يسلم الكافر منهما فيرث ولذلك لو أقرا بالنسب في حال رقهما لم يثبت لاحتمال التوارث بالعتق وإن ولد لكل واحد منهما ابن من حرة فأقر كل واحد منهما للآخر أنه ابن عمه احتمل أن يقبل إقراره لأنه لا ولاء عليه فيقبل إقراره لوجود المقتضي لقبوله وانتفاء المعارض واحتمل أن لا يقبل لأنه يرثه المسلمون ولأنه إذا لم يقبل إقرار الأصول فالفروع أولى فإن قلنا يقبل إقرارهم فأقر أحدهما لأبي الآخر أنه عمه لم يثبت الإقرار بالنسبة إلى ابن أخيه لأنه لو ثبت لورث عمه دون مولاه المعتق له وهل يثبت بالنسبة إلى العم فيرث ابن أخيه ؟ يحتمل أن يثبت لانتفاء الولاء عن ابن الأخ فلا تفضي صحة الإقرار إلى إسقاط الولاء والأولى أنه لا يثبت لأنه لم يثبت بالنسبة إلى أحد الطرفين فلم يثبت في الآخر (12/224)
حكم لو اختلف الزوجان في متاع البيت
مسألة : قال : وإذا كان الزوجان في البيت فافترقا أو ماتا فادعى كل واحد منهما ما في البيت أن له أو ورثته حكم بما كان يصلح للرجال للرجل وما كان يصلح للنساء للمرأة وما كان يصلح أن يكون لهما فهو بينهما نصفين
وجملة ذلك أن الزوجين إذا اختلفا في متاع البيت أو في بعضه فقال كل واحد منهما جميعه لي أو قال كل واحد منهما هذه العين لي وكانت لأحدهما بينة ثبت له بلا خلاف وإن لم يكن لواحد منهما بينة فالمنصوص عن أحمد أن ما يصلح للرجال من العمائم وقمصانهم وجبابهم والأقبية والطيالسة والسلاح وأشباه ذلك القول فيه قول الرجال مع يمينه وما يصلح للنساء كحليهن وقمصهن ومقانعهن ومغازلهن فالقول قول المرأة مع يمينها وما يصلح لهما كالمفراش والأواني فهو بينهما وسواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة أو من طريق الحكم وسواء اختلفا في حال الزوجية أو بعد البينونة وسواء اختلفا أو اختلف ورثتهما أحدهما وورثة الآخر قال أحمد : في رواية الجماعة منهم يعقوب بن بختان في الرجل يطلق زوجته أو يموت فتدعي المرأة المتاع فما كان يصلح للرجال فهو للرجل وما كان من متاع النساء فهو للنساء وما استقام أن يكون بين الرجال و النساء فهو بينهما وإن كان المتاع على يدي غيرهما فمن أقام البينة دفع إليه وإن لم تكن لهما بينة أقرع بينهما فمن كانت له القرعة حلف وأعطى المتاع وقال في رواية مهنا : وكذلك إن اختلفا وأحدهما مملوك وبهذا قال الثوري و ابن أبي ليلى
وقال القاضي : هذا إنما هو فيما إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم وأما ما كان في يد أحدهما من طريق المشاهدة فهو له مع يمينه وإن كان في أيديهما قسم بينهما نصفين سواء كان يصلح لهما أو لأحدهما وهذا قول أبي حنيفة و محمد بن الحسن إلا أنهما قالا : ما يصلح لهما ويدهما عليه من طريق الحكم فالقول فيه قول الرجل مع يمينه وإذا اختلف أحدهما وورثة الآخر فالقول قول النافي منهما لأن اليد المشاهدة أقوى من اليد الحكمية بدليل أنه لو تنازع الخياط وصاحب الدار في الإبرة والمقص كانت للخياط
وقال أبو يوسف : القول قول المرأة فيما جرت العادة أنه قدر جهاز مثلها وقال مالك : ما صلح لكل واحد منهما فهو له وما صلح لهما كان للرجل سواء كان في أيديهما من طريق المشاهدة أو من طريق الحكم لأن البيت للرجل ويده أقوى عليه لأن عليه السكنى
وقال الشافعي و زفر و البتي : كل ما في البيت بينهما نصفين فيحلف كل واحد منهما على نصفه ويأخذه وروي نحو ذلك عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما لأنهما تساويا في ثبوت يدهما على المدعي وعدم البينة فلم يقدم أحدهما على صاحبه كالذي يصلح لهما أو كان في يدهما من حيث المشاهدة عند من سلم ذلك
ولنا أن أيديهما جميعا على متاع البيت بدليل ما لو نازعهما فيه أجنبي كان القول قولهما وقد يرجح أحدهما على صاحبه يدا وتصرفا فيجب أن يقدم كما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها أو قميصا أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه أو جدارا متصلا بداريهما معقودا ببناء أحدهما أو له عليه أزج
ولنا على أبي حنيفة والقاضي أنهما تنازعا فيما في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا كان في اليد الحكمية فأما ما كان يصلح لهما فإنه في أيديهما ولا مزية لأحدهما على صاحبه أشبه إذا كان في أيديهما من جهة المشاهدة والدلالة على أنه ليس للنافي أن وارث الميت قائم مقامه أشبه ما لو وكل أحدهما لنفسه وكيلا فإما إذا لم يكن لهما يد حكمية بل تنازع رجل وامرأة في عين غير قماش بينهما فلا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له بل إن كانت في أيديهما فهي بينهما وإن كانت في يد أحدهما فهي له وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها فمن خرجت له القرعة فهي له واليمين على من حكمنا بها له في كل المواضع لأنه ليس لهما يد حكمية فأشبها سائر المختلفين (12/225)
حكم ما لو كان في الدكان نجار وعطار
فصل : وإذا كان في الدكان نجار وعطار فاختلفا فيما فيها حكم بآلة كل صناعة لصاحبها فآلة العطارين للعطار وآلة النجارين للنجار وإن لم يكونا في دكان واحد اختلفا في عين لم يرجح أحدهما بصلاحية العين المختلف فيها له كما ذكرنا في الزوجين ويكون ذلك كتنازع الأجنبيين (12/226)
إذا اختلف المكري والمكتري في شيء في الدار
فصل : وإذا اختلف المكري والمكتري في شيء في الدار نظرت فإن كان مما ينقل ويحول كالأثاث والأواني والكتب فهي للمكتري لأن العادة أن الإنسان يكري داره فارغة من رحله وقماشه وإن كان في شيء مما يتبع في البيع كالأبواب المنصوبة والخوابي المدفونة والرفوف المسمرة والسلالم المسمرة والمفاتيح والرحى المنصوبة وحجرها التحتاني فهو للمكري لأنه من توابع الدار فأشبه الشجرة المغروسة فيها وإن كانت الرفوف موضوعة على أوتاد فقال أحمد : إذا اختلفا في الرفوف فهي لصاحب الدار فظاهر هذا العموم في الرفوف كلها وقال القاضي : كلام أحمد محمول على المسمرة فأما غير المسمرة فهي بينهما إذا تحالفا لأنها لا تتبع في البيع فأشبهت القماش وهذا ظاهر يشهد للمكتري وللمكري ظاهر يعارض هذا وهو أن المكري يترك الرفوف في الدار ولا ينقلها عنها فإذا تعارض الظاهران من الجانبين استويا وهذا مذهب الشافعي فعلى هذا إذا تخالفا كانت بينهما وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهي لمن حلف وذكر القاضي في موضع آخر و أبو الخطاب أنه إن كان للرف شكل منصوب في الدار فهو لصاحب الدار مع يمينه وإن لم يكون له شكل منصوب تحالفا وكان بينهما لأنه إذا كان له شكل منصوب في الدار فالشكل التابع للدار فهو لصاحبها والظاهر أن أحد الرفين لمن له الآخر وكذلك إن اختلفا في مصراع باب مقلوع فالحكم فيه كما ذكرنا لأن أحدهما لا يستغني عن صاحبه فكان أحدهما لمن له الآخر كالحجر الفوقاني من الرحى والمفتاح مع السكرة ووجه ظاهر كلام أحمد في أن الرفوف لصاحب الدار على كل حال أن العادة جارية بترك الرفوف في الدار ولم تجر بنقل المكتري لها معه فكانت لصاحب الدار كالذي له شكل منصوب ولأنها إذا كانت لها أوتاد منصوبة فالأوتاد لصاحب الدار فكذلك ما نصبت له كالحجر الفوقاني من الرحى إذا كان السفلاني منصوبا ومفتاح السكرة المسمرة (12/226)
إذا كان الخياط في دار فاختلفا في الإبرة والمقص
فصل : وإذا كان الخياط في دار غيره فاختلفا في الإبرة والمقص فهي للخياط لأن تصرفه فيهما أكثر وأظهر والظاهر معه لأن الإنسان إذا دعا خياطا ليخيط له فالعادة أنه يحمل معه إبرته ومقصه وإن اختلفا في القميص فهو لصاحب الدار إذ ليست العادة أن يحمل القميص معه يخيطه في دار غيره وإنما العادة أن يخيط قميص صاحب الدار فيها وإن اختلف صاحب الدار والنجار في القدوم والمنشار وآلة النجارة فهي للنجار وإن اختلفا في الخشبة والمنجورة والأبواب والرفوف المنشورة فهي لصاحب الدار وإن اختلف النجاد ورب الدار في قوس الندف فهي للنجاد وإن اختلفا في الفرش والقطن والصوف فهو لصاحب الدار وإن اختلف رب الدار والسقا في القربة فهي للسقا وإن اختلفا في الخابية والجرار فهي لصاحب الدار لما ذكرنا (12/227)
حكم ما لو تنازعا دابة أو عمامة أو اختلفا في أرض ونهر
فصل : وإذا تنازع رجلان دابة أحدهما راكبها والآخر آخذ زمامها فالراكب أولى بها لأن تصرفه فيها أقوى ويده آكد وهو المستوفي لمنفعتها وإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر آخذ بزمامها فهي لصاحب الحمل لذلك وإن كان لأحدهما عليها حمل والآخر راكب عليها فهي للراكب لأنه أقوى تصرفا وإن اختلفا في الحمل فادعاه الراكب وصاحب الدابة فهو للراكب لأن يده على الدابة والحمل معا فأشبه ما لو اختلف الساكن وصاحب الدار في قماش فيها وإن تنازع صاحب الدابة والراكب في السرج فهو لصاحب الدابة لأن السرج في العادة يكون لصاحب الفرس وإن تنازع اثنان في ثياب على عبد لأحدهما فهي لصاحب العبد لأن يد العبد عليها وإن تنازع صاحب الثياب والآخر في العبد اللابس لها فهما سواء لأن نفع الثياب يعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب ومذهب الشافعي في هذا الفصل والذي قبله كما ذكرنا
فصل : فإن اختلف صاحب أرض ونهر في حائط بينهما فهو لهما ويحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به
وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هو لصاحب النهر لأنه لنفعه وقال أبو يوسف و محمد هو لصاحب الأرض لأنه متصل بأرضه
ولنا أنه حاجز بين ملكيهما فكانت يدهما عليه فيكون لهما كما لو تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما أو حائط بين داريهما وما ذكروه من الترجيحين متقابل فيستويان وإن تنازع صاحب العلو والسفل في السقف الذي بينهما فهو بينهما لذلك وكل موضوع قلنا يقسم بينهما نصفين فإنما يحلف كل واحد منهما على النصف الذي يحصل له دون النصف الآخر لأن ما يحصل له لا يفيده الحلف عليه شيئا فلا يستحلف عليه كالمدعي لا يحلف ما يأخذه المدعى عليه
فصل : وإن تنازعا عمامة طرفها في يد أحدهما وباقيها في يد الآخر أو قميصا كمه في يد أحدهما وباقيه مع الآخر فهما سواء فيها لأن يد الممسك بالطرف عليها بدليل أنه لو كان باقيها على الأرض فنازعه فيها غيره كانت له وإذا كانت في أيديهما تساويا فيها ولو كانت في دار فيها أربعة أبيات وفي أحد أبياتها ساكن وفي الثلاثة الباقية ساكن آخر فاختلفا فيها كان لكل واحد ما هو ساكن فيه لأن كل بيت ينفصل عن صاحبه ولا يشارك الخارج منه الساكن فيه في ثبوت اليد عليه ولو تنازعا الساحة التي يتطرق منه إلى البيوت فهي بينهما نصفين لاشتراكهما في ثبوت اليد عليها فأشبهت العمامة في ما ذكرنا (12/228)
حكم ما لو كان له على أحد حق وقدر له على المال
مسألة : قال : ومن كان له على أحد حق فمنعه منه وقدر له على مال لم يأخذ منه مقدار حقه لما روي عن البني صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] رواه الترمذي
جملته أنه إذا كان لرجل على غيره حق وهو مقر به باذل له لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه بلا خلاف بين أهل العلم فإن أخذ من ماله شيئا بغير إذنه لزمه رده إليه وإن كان قدر حقه لأنه لا يجوز أن يملك عليه عينا من أعيان ماله بغير اختياره لغير ضرورة وإن كانت من جنس حقه لأنه قد يكون للإنسان غرض في العين فإن أتلفها أو تلفت فصارت دينا في ذمته وكان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا في قياس المذهب المشهور من مذهب الشافعي وإن كان مانعا له لأمر يبيح المنع كالتأجيل والإعسار لم يجز أخذ شيء من ماله بغير خلاف وإن أخذ شيئا لزمه رده إن كان باقيا أو عوضه إن كان تالفا ولا يحصل التقاص ههنا لأن الدين الذي له لا يستحق أخذه في الحال بخلاف التي قبلها وإن كان مانعا له بغير حق وقدر على استخلاصه بالحاكم أو السلطان أم يجز له الأخذ أيضا بغيره لأنه قدر على استيفاء حقه بمن يقوم مقامه فأشبه ما لو قدر على استيفائه من وكيله وإن لم يقدر على ذلك لكونه جاحدا له ولا بينة له به أو لكونه لا يجيبه إلى المحاكمة ولا يمكنه إجباره على ذلك أو نحو هذا فالمشهور في المذهب أنه ليس له أخذ قدر حقه وهو إحدى الروايتين عن مالك قال ابن عقيل : وقد جعل أصحابنا المحدثون لجواز الأخذ وجها في المذهب أخذا من حديث هند حين قال لها النبي صلى الله عليه و سلم [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] وقال أبو الخطاب : ويتخرج لنا جواز الأخذ فإن كان المقدور عليه من جنس حقه بقدره وإن كان من غير جنسه تحرى واجتهد في تقويمه مأخوذ من حديث هند ومن قول أحمد في المرتهن : يركب ويحلب بقدر ما ينفق والمرأة تأخذ مؤنتها وبائع السلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضا
وقال الشافعي : إن لم يقدر على استخلاص حقه بعينه فله أخذ قدر حقه من جنسه أو من غير جنسه وإن كانت له بينة وقدر على استخلاصه ففيه وجهان والمشهور من مذهب مالك أنه لم يكن لغيره عليه دين فله أن يأخذ بقدر حقه وأن كان عليه دين لم يجز لأنهما يتحاصان في ماله إذا أفلس
وقال أبو حنيفة : له أن يأخذ بقدر حقه إن كان عينا أو ورقا أو من جنس حقه وإن كان المال عرضا لم يجز لأن أخذ العرض عن حقه اعتياض ولا تجوز المعارضة إلا برضا من المتعارضين قال الله تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } واحتج من أجاز الأخذ بحديث هند حين جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم [ فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] متفق عليه وإذا جاز لها أن تأخذ من ماله ما يكفيها بغير إذنه جاز للرجل الذي له الحق على الرجل
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن ومتى أخذ منه قدر حقه من ماله بغير علمه فقد خانه فيدخل في عموم الخبر وقال صلى الله عليه و سلم [ لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ] ولأنه إن أخذ من غير جنس حقه كان معاوضة بغير تراض وإن أخذ من جنس حقه له تعين الحق بغير رضا صاحبه فإن التعين إليه ألا ترى أن لا يجوز له أن يقول اقضني حقي من هذا الكيس دون هذا ؟ ولأن كل ما لا يجوز له تملكه إذا لم يكن له دين لا يجوز أخذه إذا كان له دين كما لو كان باذلا له وأما حديث هند فإن أحمد اعتذر عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت وهذا إشارة منه إلى الفرق بالشفقة في المحاكمة في كل وقت والمخاصمة كل يوم تجب فيه النفقة بخلاف الدين وفرق أبو بكر بينهما بفرق آخر وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة فكأن الحق صار معلوما يعلم قيام مقتضيه وبينهما فرقان آخران أحدهما : أن للمرأة من التبسيط في ماله بحكم العادة ما يؤثر قي إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف بخلاف الأجنبي والثاني : أن النفقة تراد لإحياء النفس وإبقاء المهجة وهذا مما لا يصبر عنه ولا سبيل إلى تركه فجاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة بخلاف الدين حتى نقول لو صارت النفقة ماضية لم يكن لها أخذها ولو وجب لها عليه دين آخر لم يكن لها أخذه فعلى هذا إن أخذ شيئا لزمه رده إن كان باقيا وإن كان تالفا وجب مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان متقوما فإن كان من جنس دينه تقاصا في قياس المذهب وإن كان من غير جنسه لزمه غرمه ومن جوز من أصحابنا الأخذ فإنه قال إن وجد من جنس حقه جاز له الأخذ منه بقدر حقه من غير زيادة وليس له الأخذ من غير جنس حقه مع قدرته على أخذه من جنسه وإن لم يجد إلا من غير جنس حقه فيحتمل أن لا يجوز له تملكه لأنه لا يجوز أن يبيعه من نفسه وهذا يبيعه من نفسه وتلحقه فيه تهمة ويحتمل أن يجوز له ذلك كما قالوا : الرهن ينفق عليه إذا كان مركوبا أو محلوبا يركب ويحلب بقدر النفقة وهي من غير الجنس واختلاف أصحاب الشافعي فمنهم من جوز له هذا : و منهم من قال : يواطئ رجلا يدعى عليه عند الحاكم دينا فيقر له بملك الشيء الذي أخذه فيمتنع عليه الدعوى من قضاء الدين لبيع الحاكم الشيء المأخوذ ويدفعه إليه (12/229)
حكم ما لو كان على إنسان حق وأقام به الشاهدين
فصل : إ ذا ادعى إنسان على إنسان حقا وأقام به شاهدين فلم يعرف الحاكم عدالتهما فسأل حبس غريمه حتى تثبت عدالة شهوده أجيب إلى ذلك لأنة الظاهر من المسلمين العدالة ولأن الذي على الغريم قد أتى به وإنما بقي ما على الحاكم وهو الكشف عن عدالة الشهود وإن أقام شاهدا واحدا وسأل حبس غريمه ليقيم شاهدا آخر وكان الحق مما لا يثبت إلا بشاهدين لم يحبس المدعى عليه لأن البينة ما تمت والحبس عذاب فلا يتوجه عليه دون تمام البينة وإن كان الحق مما يثبت بشاهد ويمين ففيه وجهان : أحدهما يحبس له لأن الشاهد الواحد حجة في المال وإنما اليمين مقوية له والثاني : لا يحبس وهو الصحيح لأنه إن يحبس ليقيم شاهدا آخر يتم به البينة فهو كالحقوق التي لا يثبت إلى بشاهدين وإن حبس ليحلف معه فلا حاجة إليه فإن الحلف ممكن في الحال فإن حلف ثبت حقه وإلا لم يجب شيء ويحتمل أن يقال : إن كان المدعى باذلا لليمين والتوقف لأجل إثبات عدالة الشاهد حبس لما ذكرنا في التي قبلها وإن كان التوقف عن الحكم بغير ذلك لم يحبس لما ذكرناه قال القاضي : وكل موضع حبس فيه بشاهدين استديم الحبس حتى تثبت عدالة الشهود أو فسقهم وكل موضع حبس فيه بشاهد واحد فإنه يقال للمشهود له : إن جئت بشاهد آخر إلى ثلاث وإلا أطلقناه (12/231)
حكم لو ادعى العبد أن سيده أعتقه
فصل : وإن ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام شاهدين ولم يعدلا فسأل العبد الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة الشهود فعلى الحاكم ذلك ويؤجره من ثقة وينفق عليه من كسبه ويحبس الباقي فإن عدل الشاهدين سلم إليه الباقي من كسبه وإن فسقا رد إلى سيده وإنما حلنا بينهما لما ذكرناه في الفصل الذي قبل هذا ولأننا لو لم نحل بينهما أفضى إلى أن تكون أمة فيطأها وإن أقام شاهدا واحدا وسأل أن يحال بينهما ففيه وجهان
وإن أقامت المرأة شاهدين يشهدان بطلاقها ولم تعرف عدالة الشهود حيل بينه وبينها وإن أقامت شاهدا واحدا لم يحل بينهما لأن البينة لم تتمم وهذا مما لا يثبت إلا بشاهدين فلا يثبت بشاهد واحد والله أعلم (12/232)
كتاب العتق
العتق في اللغة الخلوص ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير أي خالصتها وسمى البيت الحرام عتيقا لخلوصه من أيدي الجبابرة وهو في الشرع تحرير رقبة وتخليصها من الرق يقال : عتق العبد وأعتقته أنا وهو عتيق ومعتق والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع
أما الكتاب فقول الله تعالى { فتحرير رقبة } وقال تعالى : { فك رقبة } وأما السنة فما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إربا منه من النار حتى إنه ليعتق اليد باليد والرجل بالرجل والفرج بالفرج ] متفق عليه في أخبار كثيرة سوى هذا وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به (12/233)
العتق من أفضل القرب إلى الله تعالى
فصل : والعتق من أفضل القرب إلى الله تعالى لأن الله تعالى جعله كفارة للقتل والوطء في رمضان والأيمان وجعله النبي صلى الله عليه و سلم فكاكا لمعتقه من النار ولأن فيه تخليصا للآدمي المعصوم من ضرر الرق وملك نفسه ومنافعه وتكميل أحكامه وتمكنه من التصرف في نفسه ومنافعه على حسب إرادته واختياره وإعتاق الرجل أفضل من إعتاق المرأة لما روى كعب بن مرة البهزي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إيما رجل أعتق رجلا مسلما كان فكاكه من النار يجزى بكل عظم من عظامه عظما من عظامه وأيما رجل مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزى بكل عظم من عظامهما عظما من عظامه وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار تجزي بكل عظم من عظامها عظما من عظامها ]
والمستحب عتق من له دين وكسب ينتفع بالعتق فأما من يتضرر بالعتق كمن لا كسب له تسقط نفقته عن سيده فيضيع أو يصير كلا على الناس ويحتاج إلى المسألة فلا يستحب عتقه وإن كان ممن يخاف عليه المضي إلى دار الحرب والرجوع عن دين الإسلام أو يخاف عليه الفساد كعبد يخاف أنه إذا أعتق واحتاج سرق وفسق وقطع الطريق أو جارية يخاف منها الزنا والفساد كره إعتاقه وإن غلب على الظن إفضاؤه إلى هذا كان محرما لأن التوسل إلى الحرام حرام وإن أعتقه صح لأنه إعتاق صدر من أهله في محله فصح كإعتاق غيره (12/233)
يحصل العتق بالقول والملك والاستيلاء
فصل : ويحصل العتق بالقول والملك والاستيلاء ونذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى ولا يحصل بالنية المجردة لأنه إزالة ملك فلا يحصل بالنية المجردة كسائر الإزالة وألفاظه تنقسم إلى صريح وكناية فالصريح لفظ الحرية والعتق وما تصرف منهما نحو أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق أو أعتقتك لأن هذين الفظين وردا في الكتاب والسنة وهما يستعملان في العتق عرفا فكانا صريحين فيه فمتى أتى بشيء من هذه الألفاظ حصل به العتق وإن لم ينو شيئا عتق أيضا
قال أحمد في رجل لقي امرأة في الطريق فقال : تنحى يا حرة فإذا هي جاريته قال قد عتقت عليه وقال في رجل قال لخدم قيام في وليمة مروا أنتم أحرار وكانت معهم أم ولد له لم يعلم بها قال : هذا عندي تعتق أم ولده ويحتمل أن لا تعتق في هذين الموضعين لأنه قصد باللفظة الأولى غير العتق فلم تعتق بها كما لو قال عبدي حر يريد أنه عفيف كريم الأخلاق وباللفظة الثانية أراد غير أم ولده فأشبه ما لو نادى من نسائه فأجابته غيرها فقال : أنت طالق يحسبها التي ناداها فإنها لا تطلق على رواية وهكذا ههنا فأما أن قصد غير العتق كالرجل يقول عبدي هذا حر يريد عفته وكرم أخلاقه أو يقول لعبده ما أنت حر إلا أي إنك لا تطيعني ولا ترى لي عليك حقا ولا طاعة فلا يعتق في ظاهر المذهب
قال حنبل : سئل أبو عبد الله عن رجل قال لغلامه أنت حر وهو يعاتبه فقال : إذا كان لا يريد به العتق يقول كأنك حر ولا يريد أن يكون حرا أو كلاما نحو هذا رجوت أن لا يعتق وأنا أهاب المسألة لأنه نوى بكلامه ما يحتمله فانصرف إليه كما نوى بكناية العتق العتق وبهذا قال الثوري و ابن المنذر قال : وإن طلب استحلافه حلف وبيان احتمال اللفظ لما أراده أن المرأة الحرة تمدح بهذا فيقال : امرأة حرة يعنون عفيفة وتمدح المملوكة به أيضا ويقال للحي الكريم الأخلاق حر قالت سبيعة ترثي عبد المطلب شعرا :
( ولا تسأما أن تبكيا كل ليلة ... ويوم على حر كريم الشمائل )
وأما الكناية فنحو قوله : لا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك وأنت سائبة واذهب حيث شئت وقد خليتك فهذا نوى به العتق عتق لأنه يحتمله وإن ينوه به لم يعتق لأنه يحتمل غيره ولم يرد به كتاب ولا سنة ولا عرف استعمال وذكر القاضي و أبو الخطاب في قوله : لا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك : روايتين إحداهما : أنه صريح والثانية : أنه كناية وهو الصحيح لما ذكرناه فأما إن قال : لا رق لي عليك ولا ملك لي عليك وأنت لله فقال القاضي : هو صريح نص عليه أحمد وذكر أبو الخطاب فيه روايتين ولا خلاف في المذهب أنه يعتق به إذا نوى وممن قال يعتق بقوله أنت لله إذا نوى الشعبي و المسيب بن رافع و حماد و الشافعي و قال أبو حنيفة : لا يعتق به لأن مقتضاه أنت عبد الله أو مخلوق لله وهذا لا يقتضي العتق
ولنا أنه يحتمل أنه حر لله أو عتيق لله أو عبد لله وحده لست بعبد لي ولا لأحد سوى الله فإذا نوى الحرية به وقعت كسائر الكنايات وما ذكروه لا يصح لأن احتماله لما ذكروه لا يمنع احتماله لما ذكرناه بدليل سائر الكنايات فإنها تحتمل العتق وغيره ولو لم تحتمل إلا العتق لكانت صريحة فيه وما يحتمل أمرين انصرف إلى أحدهما بالنية وهذا شأن الكنايات وما ذكروه من الاحتمال يدل على أن هذا ليس بصريح وإنما هو كناية وقوله : لا ملك لي عليك ولا رق لي عليك خبر عن انتفاء ملكه ورقه لم يرد به شرع ولا عرف استعمال في العتق فلم يكن صريحا فيه كقوله : ما أنت عبدي ولا مملوكي وقوله لامرأته ما أنت امرأتي ولا زوجتي (12/234)
حكم ما لو قال لأمته أنت طالق ينوي العتق
فصل : وإن قال لأمته : أنت طالق ينوي العتق به ففيه روايتان : إحداهما : لا تعتق به وهو قول أبي حنيفة لأن الطلاق لفظ وضع لإزالة الملك عن المنفعة فلم يزل به الملك عن الرقبة كفسخ الإجارة ولأن ملك الرقبة لا يستدرك بالرجعة فلا ينحل بالطلاق كسائر الأملاك والرواية الثانية : هو كناية تعتق به الأمة إذا نوى العتق وهو قول مالك و الشافعي ولأن الرق أحد الملكين على الآدمي فيزول بلفظ الطلاق كالآخر أو فيكون اللفظ الموضوع لإزالة أحدهما كناية في إزالة الآخر كالحرية في إزالة النكاح ولأن فيه معنى الإطلاق فإذا نوى به إطلاقها من ملكه فقد نوى بلفظه ما يحتمله فتحصل به الحرية كسائر كنايات العتق (12/236)
حكم ما لو قال لأكبر منه هذا ابني
فصل : فإن قال لأكبر منه و لمن لا يولد لمثله هذا ابني مثل أن يقول من له عشرون سنة لمن له خمس عشر سنة هذا ابني لم يعتق ولم يثبت نسبه وقال أبو حنيفة : يعتق وخرجه أبو الخطاب وجها لنا لأنه اعترف بما تثبت به حريته فأشبه ما لو أقر بها
ولنا أنه قول يتحقق كذبه فيه فلم تثبت له الحرية كما لو قال لطفل : هذا أبي أو لطفلة هذه أمي قال ابن المنذر : هذا من قول النعمان شاذ لم يسبقه أحد إليه ولا تبعه أحد عليه وهو محال من الكلام وكذب يقينا ولو جاز هذا القول جاز أن يقول الرجل لطفل هذا أبي ولأنه لو قال لزوجته وهي أسن منه هذه ابنتي و قال لها وهو أسن منها أمي لم تطلق كذا هذا (12/237)
فيما يصح العتق منه وما لا يصح
فصل : فإن قال لأمته أنت حرام على ما ينوي به العتق عتقت وذكر أبو الخطاب أن فيها رواية أخرى لا تعتق كقوله لها أنت طالق والصحيح أنها تعتق به لأنه يحتمل : أنت حرام علي لكونك حرة فتعتق به كقوله : لا سبيل لي عليك
فصل : ويصح العتق من كل من يجوز تصرفه في المال وهو العاقل الرشيد سواء كان مسلما و ذميا أو حربيا ولا نعلم في هذا خلافا إلا عن أبي حنيفة ومن وافقه في أن عتق الحربي لا يصح لأنه لا ملك له على التمام بدليل إباحة أخذه منه وانتفاء عصمته في نفسه وماله
ولنا أنه يصح طلاقه فصح إعتاقه كالذمي ولأنه مالك بالغ عاقل رشيد فصح إعتاقه كالذمي وقولهم لا ملك له لا يصح فإنهم قد قالوا : أنهم يملكون أموال المسلمين بالقهر فلأن يثبت لهم في غير ذلك أولى
فصل : ولا يصح من غير جائز التصرف فلا يصح عتق الصبي والمجنون قال ابن المنذر هذا قول عامة أهل العلم وممن حفظنا عنه ذلك الحسن و الشعبي و الزهري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ] ولأنه تبرع في المال فلم يصح منهما كالهبة ولا يصح عتق السفيه المحجور عليه وهو قول القاسم بن محمد وذكر أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنه يصح عتقه قياسا على طلاقه وتدبيره
ولنا أنه محجور عليه في ماله لحظ نفسه فلم يصح عتقه كالصبي ولأنه تصرف في المال في حياته فأشبه بيعه وهبته ويفارق الطلاق لأن الحجر عليه في ماله والطلاق ليس بتصرف فيه ويفارق التدبير لأنه تصرف فيه بعد موته وغناه عنه بالموت ولهذا صحت وصيته ولم تصح هبته المنجزة وعتق السكران مبني على طلاقه وفيه من الخلاف ما فيه ولا يصح عتق المكره كما لا يصح طلاقه ولا بيعه ولا شيء من تصرفاته
فصل : ولا يصح العتق من غير المالك فلو أعتق عبيد ولده الصغير أو يتيمه الذي في حجره لم يصح وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر وقال مالك : يصح عتق عبد ولده الصغير لقوله صلى الله عليه و سلم [ أنت ومالك لأبيك ] ولأن عليه ولاية وله فيه حق فصح إعتاقه كماله
ولنا أنه عتق من غير مالك فلم يصح كإعتاق عبد ولده الكبير قال ابن المنذر : لما ورث الأب من مال ابنه السدس مع ولده دل على أنه لا حق له في سائره
وقوله صلى الله عليه و سلم [ أنت ومالك لأبيك ] لم يرد به حقيقة الملك وإنما أراد المبالغة في وجوب حقه عليك وإمكان الأخذ من مالك وامتناع مطالبتك له بما أخذ منه ولهذا لا ينفذ إعتاقه لبد ولده الكبير الذي ورد الخبر فيه وثبوت الولاية له على مال ولده أبلغ من امتناع إعتاقه عبده ولأنه إنما أثبت الولاية عليه لحظ الصبي ليحفظ ماله عليه وينميه له ويقوم بمصالحة التي يعجز الصبي عن القيام بها وإذا كان المقصود الولاية الحفظ اقتضت منع التضييع والتفريط بإعتاقه رقيقه والتبرع بماله ولو قال رجل لعبد آخر : أنت حر من مالي فليس بشيء فإن اشتراه بعد ذلك فهو مملوكه ولا شيء عليه وبهذا قال مالك و الشافعي وعامة الفقهاء ولو بلغ رجلا أن رجلا قال لعبده : أنت حر من مالي فقال : قد رضيت فليس بشيء وبهذا قال الثوري و إسحاق (12/237)
حكم ما لو كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه وأحكام مختلفة
مسألة : قال : أبو القاسم رحمه الله : وإذا كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه معا أو وكل نفسان الثالث أن يعتق حقوقهما مع حقه ففعل و عتق كل واحد منهم حقه وهو معسر فقد صار حرا وولاؤه بينهم أثلاثا
وجملته أن العبد متى كان لثلاثة فأعتقوه معا إما بأنفسهم بأن يتلفظوا بعتقه معا أو يعلقوا عتقه على صفة واحدة فتوجد أو يوكلوا واحدا فيعتقه أو يوكل نفسان منهم الثالث فيعتقه فإنه يصير حرا وولاؤه بينهم على قدر حقوقهم فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إنما الولاء لمن أعتق ] وكل واحد منهم قد أعتق حقه فيثبت له الولاء عليه وهذا لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا فأما إن أعتقه سادته الثلاثة واحدا بعد واحد وهم معسرون أو كان المعتقان الأولان معسرين والثالث موسرا فالصحيح فيه أنه يعتق على كل واحد منهم حقه وله ولاؤه وهذا قول أكثر أهل العلم وحكي ابن المنذر فيما أعتق المعسر نصيبه قولين شاذين
أحدهما : باطل لأنه لا يمكن أن يعتق نصفه منفردا إذ لا يمكن أن يكون إنسان نصفه حرا ونصفه عبد كما لا يمكن أن يكون نصف المرأة طالقا ونصفها زوجة ولا سبيل إلى عتقه جميعه فبطل كله
والثاني : يعتق كله وتكون قيمة نصيب الذي لم يعتق في ذمة المعتق يتبع بها إذا أيسر كما لو أتلفه وهذان القولان شاذان لم يقلهما من يحتج بقوله ولا يعتمد على مذهبه ويردهما قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شركا له في عبد فكان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل وأعطى شركاؤه حصصهم وعتق جميع العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق ] متفق عليه وإذا ثبت أنه لا يعتق على المعسر إلا نصيبه فباقي العبد على الرق وإذا أعتقه مالكه عتق بإعتاقه وكان لكل واحد منهم ولاء ما أعتق لأن الولاء لمن أعتق ويفارق العتق الطلاق لكون المرأة لا يمكن الاشتراك فيها ولا ورود النكاح على بعضها ولا تكون إلا لواحد فنظيره إذا كان العبد لواحد فأعتق لواحد جزءا منه فإنه يعتق جميعه
فصل : وإذا قال كل واحد من الشركاء للعبد إذا دخلت الدار فنصيبي منك حر فدخل عتق عليهم جميعا وسواء قالوا ذلك دفعة واحدة أو في دفعات متفرقة لأن العتق في أنصبائهم يقع دفعة واحدة وإن اختلفت أوقات تعليقه
مسألة : قال : ولو أعتقه أحدهم وهو موسر عتق كله وصار لصاحبه عليه قيمة ثلثيه
وجملته أن الشريك إذا أعتق نصيبه من العبد وهو موسر عتق نصيبه ولا نعلم خلافا فيه لما فيه من الأثر ولأنه جائز التصرف أعتق ملكه الذي لم يتعلق به حق غيره فينفذ فيه كما لو أعتق جميع العبيد المملوك له وإذا أعتق نصيبه سرى العتق إلى جميعه فصار جميعه حرا وعلى المعتق قيمة أنصباء شركائه والولاء له وهذا قول مالك و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و الثوري و الشافعي و أبي يوسف و محمد و إسحاق
وقال البتي : لا يعتق إلا حصة المعتق ونصيب الباقين باق على الرق ولا شيء على المعتق لما روى ابن التلب عن أبيه [ أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه و سلم ] ذكره أحمد ورواه ولأنه لو باع نصيبه لاختص البيع به فكذلك العتق إلا أن تكون جارية نفيسة يغالى فيها فيكون ذلك بمنزلة الجناية من المعتق للضرر الذي أدخله على شريكه
وقال أبو حنيفة لا يعتق إلا حصة المعتق ولشريكه الخيار في ثلاثة أشياء إن شاء أعتق وإن شاء استسعى لعبد وإن شاء ضمن شريكه فيعتق حينئذ
ولنا الحديث الذي رويناه وهو حديث صحيح متفق عليه ورواه مالك في موطئه عن نافع عن ابن عمر فأثبت النبي صلى الله عليه و سلم العتق في جميعه وأوجب قيمة نصيب شريك المعتق الموسر عليه ولم يجعل له خيرة ولا لغيره
وروى قتادة عن أبي المليح عن أبيه [ أن رجلا من قومه أعتق شقصا له من مملوك فرفع له ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فجعل خلاصه عليه في ماله وقال ليس لله شريك ] قال أبو عبد الله : الصحيح أنه عن أبي المليح عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسل وليس في عن أبيه هذا معنى كلامه وقول البتي شاذ يخالف الأخبار كلها فلا يعول عليه وحديث التلب يتعين حمله على المعسر جميعا بين الأحاديث وقياس العتق على البيع لا يصح فإن البيع لا يسري فيما إذا كان العبد كله له والعتق يسري فإنه لو باع نصف عبده لم يسر ولو أعتق نصفه عتق كله وإذا ثبت هذا فإن ولاءه يكون له لأنه عتق بإعتاقه من ماله وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ إنما الولاء لمن أعتق ] ولا خلاف في هذا عند من يرى عتقه عليه
فصل : ولا فرق في هذا بين كون الشركاء مسلمين أو كافرين أو بعضهم مسلما وبعضهم كافرا ذكره القاضي وهو قول الشافعي
وقال أبو الخطاب في الكافر وجه أنه إذا أعتق نصيبه من مسلم أنه لا يسري إلى باقيه ولا يقوم عليه لأنه لا يصح شراء الكافر عبدا مسلما
ولنا عموم الخبر ولأن ذلك ثبت لإزالة الضرر فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب والغرض ههنا تكميل العتق ودفع الضرر عن الشريك دون التمليك بخلاف الشراء ولو قدر أن ههنا تمليكا لكان تقديرا في أدنى زمان حصل ضرورة تحصيل العتق ولا ضرر فيه فإن قدر فيه ضرر فهو مغمور بالنسبة إلى ما يحصل من العتق فوجوده كالعدم وقياس هذا على الشراء غير صحيح لما بينهما من الفرق والله أعلم
مسألة : قال : فإن أعتقاه بعد عتق الأول وقبل أخذ القيمة لم يثبت لهما فيه عتق لأنه قد صار حرا بعتق الأول له
يعني أن العتق يسري إلى جميعه باللفظ لا يدفع القيمة فيعتق كله لفظ بالعتق ويصير حرا وتستقر القيمة عليه فلا يعتق بعد ذلك غيره وبهذا قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و أبو يوسف و محمد و إسحاق و ابن المنذر و الشافعي في قوله واختاره المزني وقال الزهري و عمرو بن دينار و مالك و الشافعي في قوله له : لا يعتق إلا بدفع القيمة ويكون قبل ذلك ملكا لصاحبه ينفذ عتقه فيه ولا ينفذ تصرفه فيه بغير العتق وهذا مقتضى قول أبي حنيفة واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه و سلم [ قوم عليه قيمة العدل فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق جميع العبد ] وفي لفظ رواه أبو داود [ فإن كان موسرا يقوم عليه قيمة عدل ولا وكس ولا شطط ثم يعتق ] فجعله عتيقا بعد دفع القيمة ولأن العتق إذا ثبت بعوض ورد الشرع به مطلقا لم يعتق إلا بالأداء كالمكاتب وللشافعي قول ثالث أن العتق مراعى فإن دفع القيمة تبينا أنه كان عتق من حين أعتق نصيبه وإن لم يدفع القيمة تبينا أنه لم يكن عتق لأن فيه احتياطا لهما جميعا
ولنا حديث ابن عمر روي بألفاظ مختلفة تجتمع في الدلالة على الحرية باللفظ فمنها لفظ رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من اعتق شركا له في عبد فكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتيق ] رواه البخاري و أبو داود و النسائي وفي لفظ رواه ابن أبي مليكة عن نافع عن ابن عمر [ فكان له مال فقد عتق كله ] وفي رواية ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر [ وكان للذي يعتق ما يبلغ ثمنه فهو يعتق كله ] وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شقصا في مملوك فهو حر من ماله ] وهذه النصوص في محل النزاع فإنه جعله حرا عتيقا بإعتاقه مشروطا بكونه موسرا ولأنه عتق بالسراية فكانت حاصلة عقيب لفظه كما لو أعتق حرا من عبيده ولأن القيمة معتبرة وقت الإعتاق ولا ينفذ تصرف الشريك فيه بغير الإعتاق وعند الشافعي لا ينفذ بالإعتاق أيضا فدل على أن العتق حصل فيه بالإعتاق الأول فأما حديثهم فلا حجة لهم فيه فإن الواو لا تقتضي ترتيبا وأما العطف يتم في اللفظ الآخر فلم يرد بها الترتيب فإنها قد ترد لغير الترتيب كقوله تعالى { ثم الله شهيد على ما يفعلون } أما العوض فإنما وجب على المتلف بالإعتاق بدليل اعتباره بقيمته حين الإعتاق وعدم اعتبار التراضي فيه ووجوب القيمة لم يثبت لهما فيه عتق ولا لهما عليه ولاء وولاءه كله للعتق الأول وعليه القيمة لأنه قد صار حرا بإعتاقه وعند المالك يكون ولاؤه بينهم أثلاثا ولا شيء على المعتق الأول من القيمة ولو أن المعتق الأول لم يؤد القيمة حتى أفلس عتق العبد وكانت القيمة في ذمته دينا يزاحم بها الشريكان عندنا وعند مالك لا يعتق منه إلا ما عتق ولو كان المعتق جارية حاملا فلم تؤد القيمة حتى وضعت حملها فليس على المعتق إلا قيمتها حين أعتقها لأنه حينئذ حررها وعند مالك يقوم ولدها أيضا ولو تلف العبد قبل أداء القيمة مات حرا والقيمة على المعتق لأنه فوت عليه رقه وعند مالك لا شيء على المعتق ما لم يقوم ويحكم بقيمته فهو في جميع أحكامه عبد
فصل : والقيمة معتبرة حين اللفظ بالعتق لأنه حين الإتلاف وهو أحد أقوال الشافعي وللشريك مطالبة المعتق بالقيمة على الأقوال كلها فإن اختلفا في قدرها رجع إلى قول المقومين فإن كان العبد قد مات أو غاب أو تأخر تقويمه زمنا تختلف فيه القيم ولم تكن بينة فالقول قول المعتق لأنه ينكر الزيادة والأصل براءة ذمته منها وهذا أحد قولي الشافعي وإن اختلف في صناعة في العبد توجب زيادة القيمة فالقول قول المعتق لذلك إلا أن يكون العبد يحسن الصناعة في الحال ولم يمض زمن يمكن تعليمها فيه فالقول قول الشريك لأننا علمنا صدقة وإن مضى زمن يمكن حدوثها فيه ففيه وجهان :
أحدهما : القول قول المعتق لأن الأصل براءة ذمته والثاني : القول قول الشريك لأن الأصل بقاء ما كان وعدم الحدوث وإن اختلفا في عيب ينقص كسرقة أو إباق فالقول قول الشريك لأن الأصل السلامة فبالجهة التي رجحنا قول المعتق في نفي الصناعة يرجح قول الشريك في نفي العيب وإن كان العيب فيه بحال الاختلاف واختلفا في حدوثه فالقول قول المعتق لأن الأصل براءة الذمة وبقاء ما كان على ما كان وعدم حدوث العيب فيه ويحتمل أن يكون القول قول الشريك لأن الأصل براءته من العيب حين الإعتاق
فصل : والمعتبر في اليسار في هذا أن يكون له فضل عن قوته يومه وليلته وما يحتاج إليه من حوائجه الأصلية من الكسوة والمسكن وسائر ما لا بد له منه يدفعه إلى شريكه ذكره أبو بكر في التنبيه وإن وجد بعض ما يفي بالقيمة قوم عليه قدر ما يملكه منه ذكره أحمد في رواية ابن منصور وهو قول مالك وقال أحمد لا تباع فيه دار ولا رباع ومقتضى هذا أن لا يباع له أصل مال قال مالك و الشافعي : يباع عليه سوار بيته وما له بال من كسوته ويقضى عليه في ذلك ما يقضى عليه في سائر الدعاوى والمعتبر في ذلك حال تلفظه بالعتق لأنه حال الوجوب فإن أيسر المعسر بعد ذلك لم يسر إعتاقه وإن أعسر الموسر لم يسقط ما وجب عليه فلم يسقط بإعساره كدين الإتلاف نص على هذا أحمد
فصل : إذا قال أحد الشريكين لشريكه إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر مع نصيبك فأعتق نصيبه عتقا معا ولم يلزم المعتق شيء وقيل يعتق كله على المعتق لأن إعتاق نصيبه شرط عتق نصيب شريكه فيلزم أن يكون سابقا عليه والأول أولى لأنه أمكن العمل بمقتضى شرطه فوجب حمله عليه كما لو وكله في إعتاق نصيبه مع نصيبه فأعتقهما معا وإن قال : إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر فقال أصحابنا : إذا أعتق نصيبه سرى وعتق عليه وقوم عليه ولا يقع إعتاق شريكه لأن السراية سبقت فمنعت عتق الشريك ويحتمل أن يعتق عليهما جميعا لأن عتق نصيبه سبب للسراية وشرط لعتق نصيب الشريك فلم يسبق أحدهما الآخر لوجودهما في حال واحد وقد يرجح وقوع عتق الشريك لأنه تصرف منه في ملكه والسراية تقع في غير الملك على خلاف الأصل فكان نفوذ عتق الشريك أولى ولأن سراية العتق على خلاف الأصل لكونها إتلافا للملك المعصوم بغير رضاه وإلزاما للمعتق غرامة لو يلتزمها بغير اختياره وإنما يثبت لمصلحة تكميل العتق فإذا حصلت هذه المصلحة بإعتاق المالك كان أولى وأن قال إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل إعتاقك نصيبك وقعا معا إذا أعتق نصيبه وهذا مقتضى قول أبي بكر والقاضي ومقتضى قول ابن عقيل أن يعتق كله على المعتق ولا يقع اعتاق شريكه لأنه أعتق في زمن ماض ومقتضىلا قول ابن سريج ومن وافقه ممن قال بسراية العتق أن لا يلح إعتاقه لأنه يلزم من عتقه نصيبه تقدم عتق الشريك وسرايته فيمتنع إعتاق نصيب هذا ويمتنع عتق نصيب الشريك ويفضي إلى الدور فيمتنع الجميع وقد مضى الكلام في هذا في مسائل الطلاق والله تعالى أعلم
مسألة : قال : وإن أعتقه الأول وهو معسر وأعتقه الثاني وهو موسر عتق عليه نصيبه ونصيبه شريكه وكان ثلث ولائه للمعتق الأول وثلثاه للمعتق الثاني
ظاهر المذهب أن المعسر إذا أعتق نصيبه من العبد استقر فيه العتق ولم يسر إلى نصيب شريكه بل يبقى على الرق فإذا إعتق الثاني نصيبه وهو موسر عتق عليه جميع ما بقي منه نصيبه بالمياسرة ونصيب شريكه الثالث بالسراية وصار له ثلثا ولائه وللأول ثلثه وهذا قول إسحاق و أبي عبيد و ابن المنذر و داود و ابن جرير وهو قول مالك و الشافعي على الوجه الذي بيناه من قولهما فيما مضى وروي عن عروة أنه اشترى عبدا أعتق نصفه كان عروة يشاهره شهر عبد وشهر حر وروي عن أحمد أن المعسر إذا أعتق نصيبه استسعى العبد في قيمة حصة الباقين حتى يؤديها فيعتق وهو قول ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و أبي يوسف ومحمد لما روى أبو هريرة قال : رسول الله صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شقصا له في مملوك فعليه أن يعتقه كله إن كان له مال وإلا استسعى العبد غير مشقوق عليه ] متفق عليه ورواه أبو داود وقال ابن ليلى و ابن شبرمة : فإذا استسعى في نصف قيمته ثم أيسر معتقه رجع عليه بنصف القيمة لأنه هو ألجأه إلى هذا وكلفه إياه وعن أبي يوسف و محمد أنهما قالا : يعتق جميعه وتكون قيمة نصيب الشريك في ذمته لأن العتق لا يتبعض فإذا وجد في البعض سرى إلى جميعه كالطلاق ويلزم المعتق القيمة لأنه المتلف لنصيب صاحبه بإعتاقه فوجبت قيمته في ذمته كما لو أتلفه بقتله وقال أبو حنيفة : لا يسري العتق وإنما يستحق به إعتاق النصيب الباقي فيتخير شريكه بين إعتاق نصيبه ويكون الولاء بينهما وبين أن يستسعى العبد في قيمة نصيبه فإذا أداه إليه عتق والولاء بينهما
ولنا حديث ابن عمرو وهو حديث صحيح ثابت عند جميع العلماء بالحديث ولأن الاستسعاء إعتاق بعوض فلم يجبر عليه كالكتابة ولأن في الاستسعاء إضرار بالشريك والعبد أما الشريك فأنا نحيله على سعاية لعله لا يحصل منها شيء أصلا وإن حصل فربما يكون يسيرا متفرقا ويفوت عليه ملكه وأما العبد فأنا نجبره على سعاية لم يردها وكسب لم يتخيره وهذا ضرر في حقهما وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لا ضرر ولا ضرار ] قال سليمان بن حرب : أليس إنما ألزم المعتق ثمن ما بقي من العبد لئلا يدخل على شريكه ضرر ؟ فإذا أمره بالسعي وإعطائه كل شهر درهمين ولم يقدر على تملكه فأي ضرر أعظم من هذا فأما حديث الاستسعاء فقال الأثرم : ذكره سلمان بن حرب فطعن فيه وضعفه وقال أبو عبد الله ليس في الاستعساء ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروة وأما شعبة وهشام الدستوائي فلم يذكراه وحدث به معمر ولم يذكر في السعاية : قال أبو داود : و همام أيضا لا يقوله قال المروذي : وضعف أبو عبد الله حديث سعيد وقال ابن المنذر : لا يصح حديث الاستسعاء وذكر همام أن ذكر الاستسعاء من فتيا قتادة وفرق بين الكلام الذي هو من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وقول قتاده وقال بعد ذلك : فكان قتادة يقول إن لم يكن له مال استسعى قال ابن عبد البر : حديث أبي هريرة يدور على قتادة وقد اتفق شعبة و هشام و همام على ترك ذكره وهم الحجة في قتادة فالقول قولهم فيه عند جميع أهل العلم بالحديث إذا خالفهم غيرهم فأما قول أبي حنيفة وقول صاحبيه فلا شيء معهم يحتجون به من حديث قوي ولا ضعيف بل هو مجرد رأي وتحكم يخالف الحديثين جميعا قال ابن عبد البر : لم يقل أبو حنيفة و زفر بحديث ابن عمر ولا حديث أبي هريرة على وجهه وكل قول يخالف السنة فمردود على قائله والله المستعان
فصل : إذا قلنا بالسعاية احتمل إلا يعتق كله وتكون القيمة في ذمة العبد دينا يستسعى في أدائها ونكون أحكامه أحكام الأحرار فإن مات وفي يده مال كان لسيده بقية السعاية وباقي ماله موروث ولا يرجع العبد على أحد وهذا قول أبي يوسف و محمد ويحتمل أن لا يعتق حتى يؤدي السعاية فيكون حكمه قبل أداها حكم من بعضه رقيق إذا مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل ما يكون له على قول من لم يقل بالسعاية لأنه إعتاق بأداء مال فلم يعتق قبل أدائه كالمكاتب وقال ابن أبي ليلى و ابن شبرمة يرجع العبد على المعتق إذا أيسر لأنه كلفه السعاية بإعتاقه
ولنا أنه حق لزم العبد في مقابلة حريته فلم يرجع به أحد كمال الكتابة ولأنه لو رجع به على لسيد لكان هو الساعي في العوض كسائر الحقوق الواجبة عليه
مسألة : قال : و لو كان المعتق الثاني معسرا عتق نصيبه منه وكان ثلثه رقيقا لمن لم يعتق فإن مات وفي يده مال كان ثلثه لمن لم يعتق وثلثاه للمعتق الأول والمعتق الثاني بالولاء إذا لم يكن له وارث أحق منهما
إنما كان كذلك لأن المعسر لا يعتق إلا نصيبه والأول والثاني معسران فلم يعتق على كل واحد إلا نصيبه ونصيبا الثلثان وبقي ثلثه رقيقا للثالث فإذا خلف العبد مالا فثلثه للذي لم يعتق لأنه مالك لثلثه وثلثاه ميراث لأنه ملكهما بجزئه الحر فإن كان له وارث نسيب يرث ماله كله أخذه لأنه أحق من المعتق وإن لم يكن له وارث ونسيب فهو للمعتقين بالولاء وإن كان له ذو فرض يرث البعض أخذ فرضه منه وباقيه للمعتقين وهذا القول فيما إذا لم يكن مالك ثلثه قاسم العبد في حياته كسبه ولم يهايئه فإما إن قاسمه أو هيأه فلا حق له في تركته لأنها حصلت بالجزء الحر فتكون جميعها ميراثا لورثته دون مالك ثلثه إذ لا حق له في الجزء الحر فلا يكون له حق فيما كسبه به ولا فيما ملكه به
فصل : ومن قال بالسعاية فإنه يستسعى حين أعتقه الأول فإذا أعتق الثاني نصيبه انبنى ذلك على القول في حريته هل حصلت بإعتاق الأول أولا ؟ فمن جعله حرا لم يصحح عتق الثاني لأنه عتق بإعتاق الأول ومن لم يجعله حرا صحح عتق الثاني لأنه أعتق جزءا مملوكا له من عبد وإذا مات قبل أداء سعايته فقد مات وثلثه رقيق فيكون حكمه في الميراث حكم ما ذكرنا في القول الآخر
فصل : إذا حكمنا بعتق بعضه ورق باقيه فإن نفقته في حياته وفطرته وإكسابه بينه وبين سيده على قدر ما فيه من الحرية والرق وإن تراضينا على المهايأة بينهما كانت نفقة العبد وكسبه في أيامه له وعليه وفي أيام سيده يكون كسبه لسيده ونفقته عليه فأما الأكساب النادرة كاللقطة والهبة والوصية فذكر القاضي أنه تدخل في المهايأة لأنها من أكسابه فأشبهت المعتادة وذكر غيره من أصحابنا وجها آخر أنه لا تدخل في المهايأة وتكون بينهما على كل حال لأن المهايأة معاوضة فكأنه تعاوض عن نصيبه من كسبه في يوم سيده بنصيب سيده في يومه فلا تتناول المعاوضة المجهول وما لا يغلب على الظن وجوده فأما الميراث فلا يدخل في المهايأة ولا يستحق سيده منه شيئا لأنه إنما يرث بجزئه الحر ويملك هذا العبد بجزئه الحر جميع أنواع الملك ويرث ويورث بقدر ما فيه من الحرية وقد مضى ذكر ذلك
فصل : ومن أعتق عبده وهو صحيح جائز التصرف صح عتقه بإجماع أهل العلم وإن اعتق بعضه عتق كله في قول جمهور العلماء وروي ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما وبه قال الحسن و الحكم و الأوزاعي و الثوري و الشافعي قال ابن عبد البر : عامة العلماء بالحجاز والعراق قالوا يعتق كله إذا أعتق نصفه وقال طاوس : يعتق في عتقه ويرق في رقه وقال حماد و أبو حنيفة : يعتق منه ما أعتق ويسعى في باقيه وخالف أبا حنيفة أصحابه فلم يروا عليه سعايه وروي عن مالك في رجل أعتق نصف عبد ثم غفل عنه حتى مات فقال : أرى نصفه حرا ونصفه رقيقا لأنه تصرف في بعضه فلم يسر إلى باقيه كالبيع
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شركا له في عبد فكان معه ما يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة العدل وعتق عليه جميع العبد ] وإذا أعتق عليه نصيب شريكه كان بينهما على عتق جميعه إذا كان كله ملكا له وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ من أعتق شقصا له في مملوك فهو حر من ماله ] ولأنه إزالة ملك لبعض مملوكه الآدمي فزال عن جمعية عن جميعه كالطلاق ويفارق البيع فإنه لا يحتاج إلى سعاية ولا ينبني على التغليب والسراية إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يعتق جزءا كبيرا كنصفه وثلثه أو صغيرا كعشره وعشر عشره ولا نعلم في هذا خلافا بين القائلين بسراية العتق إذا كان مشاعا وإن أعتق جزءا معينا كرأسه أو يده أو إصبعه عتق كله أيضا وبهذا قال قتادة و الشافعي و إسحاق وقال أصحب الرأي : إن اعتق رأسه أو ظهره أو بطنه أو جسده أو نفسه أو فرجه عتق كله لأن حياته لا تبقى بدون ذلك وإن أعتق يده أو عضوا تبقى حياته بدونه لم يعتق لأنه يمكن إزالة ذلك مع بقائه فلم يعتق بإعتاقه كشعره أو سنه
ولنا أنه أعتق عضو من أعضائه فيعتق جميعه كرأسه فأما إذا أعتق شعره أو سنه أو ظفره لم يعتق وقال قتادة و الليث في الرجل يعتق ظفر عبده يعتق كله لأنه جزء من أجزائه أشبه أصبعه
ولنا أن هذه الأشياء تزول ويخرج غيرها فأشبهت الشعر والريق وقد ذكر ذلك في الطلاق وما ذكر في الطلاق فالعتاق مثله والله أعلم
مسألة : قال : وإذا كان العبد بين شريكين فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه فإن كانا معسرين لم يقبل قول كل واحد منهما على شريكه فإن كانا عدلين كان للعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا
أما إذا كان الشريكان معسرين فليس في دعوى أحدهما على صاحبه إعتاق نصيبه اعترف بحريه ولا ادعاء لاستحقاق قيمته على المعتق لكون عتق المعسر يقف على نصيبه ولا يسري إلى غيره فلم يكن في دعواه أكثر من أنه شاهد على صاحبه بإعتاق نصيبه فإذا لم يكونا عدلين فلا أثر لكلامهما في الحال ولا عبرة بقولهما ن لأن غير العدل لا تقبل شهادته وإن كانا عدلين فشهادتهما مقبولة لأن كل واحد منهما لا يجز إلى نفسه بشهادته نفعا ولا يدفع بها ضررا وقد حصل للعبد بحرية كل نصف منه شاهد عدل فإن حلف معهما عتق كله وإن حلف مع أحدهما صار نصفه حرا على الرواية التي تقول إن يعتق شاهد ويمين وإن لم يحلف مع أحد منهما لو يعتق منه شيء لأن العتق لا يحصل بشاهد من غير يمينه بلا خلاف نعمله وإن كان أحدهما عدلا دون الآخر فله أن يحلف مع شهادة العدل ويصير نصفه حرا ويبقى نصفه الآخر رقيقا
فصل : ومن قال بالاستسعاء فقد اعترف بأن نصيبه قد خرج عن يده فيخرج العبد كله ويستسعى في قيمته لاعتراف كل واحد منهما بذلك في نصيبه
فصل : وإن اشترى أحدهما نصيب صاحبه عتق عليه ولم يسر إلى النصف الذي كان له لأن عتقه حصل باعترافه بحربته بإعتاق شريكه ولا يثبت له عليه ولاء لأنه لا يدعي إعتاقه بل يعترف بأن المعتق غيره وإنما هو مخلص له ممن يسترقه ظلما فهو كمخلص الأسير من أيدي الكفار
وقال أبو الخطاب يسري لأنه شراء حصل به الأعتاق فأشبه شراء بعض ولده وإن أكذب نفسه في شهادته على شريكه ليسترق ما اشتراه لم يقبل منه لأنه رجوع عن الإقرار بالحرية فلم يقبل كما لو أقر بحرية عبده ثم أكذب نفسه وهل يثبت له الولاء عليه إن أعتقه ؟ يحتمل أن لا يثبت لما ذكرنا ويحتمل أن يثبت لأننا نعلم أن على العبد ولاء ولا يدعيه أحد سواه ولا ينازعه فيه فوجب أن يقبل قوله فيه وإن اشترى كل واحد منهما نصيب صاحبه صار العبد كله حرا لا ولاء عليه لواحد منهما فإن اعتق كل واحد منهما ما اشتراه ثم أكذب نفسه في شهادته فهل يثبت له الولاء على من أعتقه ؟ على وجهين وإن اقر كل واحد منهما بأنه كان أعتق نصيبه وصدق الآخر في شهادته بطل البيعان ويثبت لكل واحد منهما الولاء على نصفه لأن أحدا لا ينازعه فيه وكل واحد منهما يصدق الآخر في استحقاق الولاء ويحتمل أن يثبت الولاء لهما وإن لم يكذب واحد منهما نفسه لأننا نعلم أن الولاء عليه ثابت لهما ولا يخرج عنهما وأنه بينهما إما بالعتق الأول لهما وأمما بالثاني لأنهما إن كانا صادقين في شهادتهما فقد ثبت الولاء لكل واحد منهما على النصف الذي أعتقه أولا وإن كانا كاذبين فقد أعتق كل واحد نهما نصفه بعد أن اشتراه وإن كان أحدهما صادقا والآخر كاذبا فلا ولاء للصادق منهما لأنه لم يعتق النصف الذي كان له أولا ولا صح عتقه في الذي اشتراه لأنه كان حرا قبل شرائه والولاء كله للكاذب لأنه أعتق النصف الذي كان له ثم اشترى النصف الذي كان له ثم اشترى النصف الذي لشريكه فأعتقه وكل واحد منهما يساوي صاحبه في الاحتمال فيقسم بينهما
فصل : وكل من شهد على سيد عبد بعتق عبده ثم اشتراه عتق عليه وإن شهد اثنان عليه بذلك فترد شهادتهما ثم اشترياه أو أحدهما عتق وبهذا قال الشافعي والأوزعي و مالك و ابن منذر وهو قياس قول أبي حنيفة ولا يثبت للمشتري ولاء على العبد لأنه لا يدعيه ولا للبائع لأنه ينكر عتقه ولو كان العبد بين شريكين فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا موسرين فعتق عليهما أو كانا معسرين عدلين فحلف العبد مع كل واحد عتق أو شهد مع كل واحد منهما عدل آخر وعتق العبد أو ادعى عبد أن سيده أعتقه فأنكر وقامت البينة بعتقه عتق ولا ولاء على العبد في هذه المواضع كلها لأن أحدا لا يدعيه ولا يثبت لأحد حق ينكره فإن عاد من ثبت إعتاقه فاعترف به ثبت له الولاء لأنه لا مستحق له سواء وإنما لم يثبت له لإنكاره له فإذا اعترف زال الإنكار وثبت له وأما الموسران إذا اعتق عليهما فإن صدق أحدهما صاحبه في أنه أعتق نصيبه وحده أو أنه سبق بالعتق فالولاء له وعليه غرامة نصيب الآخر فإن اتفقا على أن كل واحد منهما أعتق نصيبه دفعة واحدة فالولاء بينهما وأن ادعى كل واحد منهما أنه المعتق وحده أو أنه السابق بالعتق تحالفا وكان الولاء بينهما نصفين
مسألة : قال : وإن كان الشريكان موسرين فقد صار العبد حرا باعتراف كل واحد منهما بحريته وصار مدعيا على شريكه نصف قيمته فإن لم تكن بينه فيمين كل واحد منهما لشريكه
وجملة ذلك أن الشريكين الموسرين إذا ادعى كان واحد منهما أن شريكه أعتق نصيبه فكل واحد منهما معترف بحرية نصيبه شاهد على شريكه بحرية نصفه الآخر لأنه يقول لشريكه : أعتقت نصيبك فسرى العتق إلى نصيبي فعتق كله عليك ولزمك لي قيمة نصيبي فصار العبد حرا لاعترافهما بحريته وبقي كل واحد منهما يدعي قيمة حصته على شريكه فإن كان لأحدهما بينة حكم له بها وإن لم تكن بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه وبرئا فإن نكل أحدهما قضي عليه وإن نكلا جميعا تساقط حقاهما لتماثلهما ولا فرق في هذه الحال بين العدلين والفاسقين والمسلمين والكافرين لتساوي العدل والفاسق والمسلم والكافر في الاعتراف والدعوى بخلاف التي قبلها
فصل : وإن كان أحد الشريكين موسرا والآخر معسرا عتق نصيب المعسر وحده لاعترافه بأن نصيبه قد صار حرا بإعتاق شريكه الموسر الذي يسري عتقه ولم يعتق نصيب الموسر لأنه يدعي أن المعسر الذي لا يسري عتقه أعتق نصيبه خاصة فعتق وحده ولا تقبل المعسر عليه لأنه يجر بشهادته إلى نفسه نفعا لكونه يوجب عليه بشهادته نصف قيمتة فعلى هذا إن لم تكن للعبد بينة سواه حلف الموسر وبرئ من القيمة العتق جميعا ولا ولاء للمعسر في نصيبه لأنه لا يدعيه ولا للموسر لذلك أيضا وإن عاد المعسر فأعتقه وادعاه ثبت له وإن أقر الموسر باعتاق نصيبه وصدق المعسر عتق نصيبه أيضا وعليه غرامة نصيب المعسر وثبت له الولاء وإن كان للعبد بينة أجنبية تشهد باعتاق الموسر وكانت عدلين ثبت العتق ووجبت القيمة للمعسر عليه وإن كانت رجلا واحدا حلف العبد معه ويثبت العتق في إحدى الروايتين والأخرى لا يثبت العتق وللمعسر أن يحلف معه ويستحق قيمة نصيبه سواء حلف العبد أو لم يحلف لأن الذي يدعيه مال يقبل فيه شاهد ويمين
فصل : وإن ادعى أحد الشريكين أن شريكه أعتق نصيبه وأنكر الآخر وكان المدعى عليه موسرا عتق نصيب المدعي وحده لاعترافه بحريته بسرايه عتق شريكه وصار مدعيا نصف القيمة على شريكه ولا يسري لأنه لا يعترف أنه المعتق له وإنما أعتق باعترافه بحريته لا بإعتاقه له ولا ولاء له عليه لإنكاره له قال : القاضي : وولاؤه موقوف وإن كان المدعي عدلا لم تقبل شهادته لأنه يدعي نصف قيمته على شريكه فيجر بشهادته نفعا ومن شهد بشهادة يجر إليه بها نفعا بطلت شهادته كلها وأما إن كان المدعى عليه معسرا فالقول قوله مع يمينه ولا يعتق منه شيء وإن كان المدعي عدلا حلف العبد مع شهادته وصار نصفه حرا وقال حماد : إن كان المشهود عليه موسرا سعى له وإن كان معسرا سعى لهما وقال أبوحنيفة إن كان معسرا سعىالعبد وولاؤه بينهما وإن كان موسرا فولاء نصفه موقوف فإن اعترف أنه أعتق استحق الولاء وإلا كان الولاء لبيت المال
فصل : إذا قال أحد الشريكين : إن كان هذا الطائر غرابا فنصيبي حر وقال الآخر : إن لم يكن غرابا فنصيبي حرا وطار ولم يعلما حاله فأن كانا موسرين عتق العبد كله وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا عتق نصيب المعسر وحده لما ذكرنا وإن كانا معسرين لم يعتق نصيب واحد منهما لأنه لم يتعين الحنث فيه فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر عتق نصفه لأننا علمنا حرية نصفه ولم يسر إلى النصف الآخر وإن اشترى العبد أجنبي عتق نصفه لأن نصفه حر يقينا فلم يملك جميعه (12/240)
حكم ما لو مات رجل وخلف ابنين وعبدين وأحوال العتق في المرض
مسألة : قال : وإذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين لا يملك غيرهما وهما متساويان في القيمة فقال أحد الابنين : أبي أعتق هذا وقال الآخر : أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما أقرع بينهما فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عتق ثلثاه إن لم يجز الابنان عتقه كاملا وكان الآخر عبدا وإن وقعت القرعة على الآخر عتق منه ثلثه وكان لمن قرعنا بقوله فيه سدسه ونصف العبد الآخر ولأخيه نصفه وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه فصار ثلث كل واحد من العبدين حرا
هذه المسألة محمولة على أن العتق كان في مرض الموت أو بالوصية لأنه لو أعتقه في صحته لعتق كله ولم يقف على إجازة الورثة فإما إذا اعترفا أنه أعتق أحدهما في مرضه فلا يخلو من أربعة أحوال إما أن يعينا العتق في أحدهما فيعتق منه ثلثاه لأن ذلك ثلث جميع ماله إلا أن يجيزا عتق جميعه فيعتق والثاني : أن يعين كل واحد منهما العتق في واحد غير الذي عينه أخوه فيعتق من كل واحد منهما ثلثه لأن كل واحد منهما حقه نصف العبدين فيقبل قوله في عتق حقه من الذي عينه وهو ثلثا النصف الذي له وذلك هو الثلث ولأنه يعترف بحرية ثلثيه فيقبل قوله في حقه منهما وهو الثلث ويبقى الرق في ثلثه فله نصفه وهو السدس ونصف العبد الذي ينكر عتقه
والحال الثالث : أن يقول أحدهما : أبي أعتق هذا ويقول الآخر : أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما ـ وهي مسألة الكتاب ـ فتقوم القرعة مقام تعيين الذي لم يعين فإن وقعت على الذي عينه أخوه عتق منه ثلثاه كما عيناه بقولهما وإن وقعت على الآخر كان كما لو عين كل واحد منهما عبدا يكون لكل واحد منهما سدس العبد الذي عينه ونصف العبد الذي ينكر عتقه فيصير ثلث كل واحد من العبدين حرا
والحال الرابع : أن يقولا أعتق أحدهما ولا ندري من منهما فإنه يقرع بين العبدين فمن وقعت عليه القرعة عتق منه ثلثاه إن لم يجيزا عتق جميعه وكان الآخر رقيقا
فصل : فإن رجع الابن الذي جهل عين المعتق فقال : قد عرفته قبل القرعة فهو كما لو عينه ابتداء من غير جهل وإن كان بعد القرعة فوافقها تعيينه لم يتغير الحكم وإن خالفها عتق من الذي عينه ثلثه بتعيينه فإن عين الذي عينه أخوه عتق ثلثاه وإن عين الآخر عتق منه ثلثه وهل يبطل العتق في الذي عتق بالقرعة ؟ على وجهين (12/261)
حكم ما لو كان لرجل نصف عبد ولآخر ثلثه ولآخر سدسه
مسألة : قال : وإذا كان لرجل ونصف عبد ولآخر ثلثه ولآخر سدسه فأعتق صاحب النصف وصاحب السدس معا وهما موسران عتق عليهما وضمنا حق شريكهما فيه نصفين وكان ولاؤه بينما أثلاثا لصاحب النصف ثلثاه ولصاحب السدس ثلثه
وجملته أن العبد إذا كان مشتركا بين جماعة فأعتق اثنان منهم أو أكثر وهم موسرون سرى عتقهم إلى باقي العبد ويكون الضمان بينهم على عدد رؤوسهم يتساوون في ضمانه وولائه وبهذا قال الشافعي ويحتمل أن يقسم بينهما على قدر أملاكهم وهو قول مالك في إحدى الروايتين عنه لأن السراية حصلت بإعتاق ملكيهما وما وجب بسبب الملك كان على قدره كالنفقة واستحقاق الشفعة
ولنا أن عتق النصيب إتلاف لرق الباقي وقد اشتركا فيه فيتساويان في الضمان كما لو جرح أحدهما جرحا والآخر جرحين فمات منهما أو ألقى أحدهما جزءا من النجاسة في مانع وألقى الآخر جزأين وبفارق الشفعة فإنها تثبت لإزالة الضرر عن نصيب الذي لم يبع فكان استحقاقه على القدر نصيبه ولأن الضمان ههنا لدفع الضرر منهما وفي الشفعة لدفع الضرر عنهما والضرر منهما يستويان في إدخاله على الشريك وفي الشفعة ضرر صاحب النصف أعظم من ضرر صاحب السدس فاختلفا
وإذا ثبت هذا كان ولاؤه بينهما أثلاثا لأننا إذا حكمنا بأن الثلث معتق عليهما نصفين فنصف الثلث سدس إذا ضممناه إلى النصف الذي لأحدهما صار ثلثين وإذا ضممنا السدس الآخر إلى السدس المعتق صار ثلثا وعلى الوجه الآخر يصير الولاء بينهما أرباعا : لصاحب النصف ثلاثة أرباعه ولصاحب السدس ربعه والضمان بينهما كذلك
فأما قوله فأعتقاه معا فلأنه شرط في الحكم الذي ذكرناه اجتماعهما في العتق بحيث لا يسبق أحدهما الآخر بأن يتلفظا به معا أو يوكل أحدهما صاحبه فيعتقهما معا أو يوكل وكيلا فيعتقهما أو يعلقا عتقه على شرط فيوجد فإن سبق أحدهما صاحبه عتق عليه نصيب شريكيه جميعا وكان الضمان عليه والولاء له كله وقوله : وهما موسران شرط آخر فإنه سراية العتق يشترط لها اليسار فإن كان أحدهما موسرا وحده قوم عليه جميع نصيب من لم يعتق لأن المعسر لا يسرى عتقه فيكون الضمان على الموسر خاصة فإن كان أحدهما يجد بعض ما يخصه قوم عليه ذلك القدر وباقيه على الآخر مثل أن يجد صاحب السدس قيمة نصف السدس فيقوم عليه ويقوم الربع على صاحب النصف ويصير ولاؤه بينهم أرباعا لصاحب السدس ربعه وباقيه لمعتق النصف لأنه كان لأحدهما معسرا قوم الجميع على الآخر فإذا كان موسرا ببعضه قوم الباقي على صاحب النصف لأنه موسر (12/263)
حكم ما لو كانت الأمة بين شريكين فأصابها أحدهما
مسألة : قال : وإذا كانت الأمة بين شريكين فأصابها أحدهما وأحبلها أدب ولم يبلغ بح الحد وضمن نصف قيمتها لشريكه وصارت أم ولد له وولده حر وإن كان معسرا كان في ذمته نصف مهر مثلها وإن لم تحبل فعليه نصف مهر مثلها وهي على ملكيهما
لا نعلم خلافا بين أهل العلم في تحريم وطء الجارية المشتركة لأن الوطء يصادف ملك غيره من غير نكاح ولم يحله الله في غير ملك ولا نكاح بدليل قوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } وأكثر أهل العلم لا يوجبون فيه الحد لأن له فيه ملكا فكان ذلك شبهة درائة للحد وأوجبه أبو ثور لأنه وطء محرم لأجل كونه في ملك غيره فأشبه ما لو لم يكن فيها ملك
ولنا أنه وطء صادف ملكه فلم يوجب به حد كوطء زوجته الحائض ويفارق ما لا ملك له فيها فإنه لا شبهة له فيها ولهذا لو سرق عينا له نصفها لم يقطع ولو لم يكن له فيها ملك قطع ولا خلاف في أنه يعزر لما ذكرنا في حجة أبي ثور ثم لا يخلو من حالين إما أن لا تحمل منه فهي باقية على ملكهما وعليه نصف مهر مثلها لأنه وطء سقط فيه الحد للشبهة فأوجب مهر مثل كما لو وطئها يظنها امرأته وسواء كانت مطاوعة أو مكرهة لما ذكرنا ولأن وطء جارية غيره يوجب المهر وإن طاوعت لأن المهر لسيدها فلا يسقط بمطاوعتها كما لو أدبت في قطع عضو من أعضائها ويكون الواجب نصف المهر بقدر ملك الشريك فيها الحال الثاني : أن يحبلها وتضع ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان فإنها تصير بذلك أم ولد للواطئ كما لو كانت خالصة له وتخرج بذلك من ملك الشريك كما تخرج بالإعتاق وسواء كان الواطئ موسرا أو معسرا لأن الإيلاد أقوى من الإعتاق ولزومه نصف قيمتها لأنه أخرج نصفها من ملك الشريك فلزمته قيمته كما لو أخرجه بالإعتاق أو الإتلاف فإن كان موسرا أداه وإن كان معسرا فهو في ذمته كما لو أتلفها والولد حر يلحق نسبه بوالده لأنه من وطء في محل له فيه ملك فأشبه ما لو وطئ زوجته وقال القاضي : الصحيح عندي أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه إذا كان معسرا بل يصير نصفها أم ولد ونصفها قنا باقيا في ملك الشريك لأن الإحبال كالعتق ويجري مجراه في التقويم والسراية فاعتبر سرايته اليسار كالعتق وهذا قول أبي الخطاب أيضا ومذهب الشافعي فعلى هذا إذا ولدت احتمل أن يكون الولد كله حرا لاستحالة انعقاد الولد من حر وعبد واحتمل أن يكون نصفه حرا ونصفه رقيقا لأن نصف أمه أم ولد ونصفها قن لغير الواطئ فكان نصف الولد حرا وكان نصفه رقيقا كولد المعتق بعضها وبهذا يتبين أنه لم يستحيل انعقاد الولد من حر وقن
ووجه قول الخرقي أن بعضها أم ولد كما لو كان الواطئ موسرا ويفارق الإعتاق فإن الاستيلاد أقوى ولهذا ينفذ من جميع المال من المريض ومن الصبي والمجنون والإعتاق بخلافه
فصل : قال أبو الخطاب : وهل نلزمه قيمة الولد ومهر الأمة ؟ على وجهين : أحدهما : لا يلزمه وهو ظاهر قول الخرقي لأنه لم يذكرهما لأن الأمة صارت مملوكة له فلم يلزمه مهر مملوكته ولا قيمة ولدها لأن الولد خلق حرا فلم يقوم عليه ولده الحر والوجه الثاني : يلزمه لشريكه نصف مهر مثلها ونصف قيمة ولدها لأن الوطء صادف ملك غيره وإنما انتقلت بالوطء الموجب للمهر فيكون الوطء سبب الملك ولا يثبت الحكم إلا بعد تمام سببه فليزم حينئذ تقدم الوطء على ملكه فيكون في ملك غيره فوجب مهر المثل وفعله ذلك منع انخلاق الولد على ملك الشريك فيجب عليه نصف قيمته كوالد المغرور وقال القاضي : إن وضعت الولد بعد التقويم فلا شيء على الواطئ لأنها وضعته في ملكه وقت الوجوب حالة الوضع ولا حق للشريك فيها ولا في ولدها وإن وضعته قبل التقويم فهل تلزمه قيمة نصفه ؟ على الروايتين ذكرهما أبو بكر واختار أنه تلزمه قيمته
فصل : ولا فرق بين أن يكون له في الأمة ملك كثير أو يسير وقد ذكر الخرقي فيما إذا وطئ جارية من المغنم أنها تصير أو ولد إذا أحبلها وإن كان إنما له فيها سهم يسير من أكثر من ألف سهم (12/265)
حكم لو ملك سهما ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر
مسألة : قال : وإن ملك سهما ممن يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله وكان لشريكه عليه قيمة منه وإن كان معسرا لم يعتق عليه إلا بمقدار ما ملك وإن ملك بعضه بالميراث لم يعتق منه إلا مقدار ما ملك موسرا أو معسرا
قد ذكرنا فيما تقدم أن من ملك ذا رحم فهو حر لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ من ملك ذا رحم فهو محرم فهو حر ] رواه أبو داود و ابن ماجة و الترمذي وروى ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم [ من ملك ذا رحم محرم فهو حر ]
وسئل أحمد عن ضمرة فقال : ثقة إلا أنه روى حديثين ليس لهما أصل : أحدهما : هذا الحديث وروى عن إبراهيم عن الأسود عن عمر أنه قال [ من ملك ذا رحم محرم فهو حر ] وقد ذكرنا هذا وما فيه من الخلاف فيما تقدم فأما إن ملك سهما ممن يعتق عليه مثل أن يملك سهما من ولده فإنه يعتق عليه ما ملك منه سواء ملكه بعوض أو بغير عوض كالهبة والاغتنام والوصية وسواء ملكه باختياره كالذي ذكرناه أو بغير اختياره كالميراث لأن كل ما يعتق به الكل البعض كالإعتاق بالقول ثم ينظر فإن معسرا لم يسر العتق واستقر في ذلك الجزء ورق الجزء الباقي لأنه لو لم يسر إعتاقه مع تصريحه بالعتق وقصده إياه فهاهنا أولى وإن كان موسرا وكان الملك باختياره كالملك بغير الميراث سرى إلى باقيه فعتق جميع العبد ولزمه لشريكه قيمة باقيه لأنه فوته عليه وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف وقال قوم : لا يعتق عليه إلا ما ملك سواء ملكه بشراء أو غيره لأن هذا لم يعتقه وإنما عتق عليه بحكم الشرع عن غير اختيار منه فلم يسر كما لو ملكه بالميراث وفارق ما أعتقه لأنه باختياره قاصدا إليه
ولنا أنه فعل سبب العتق اختيارا منه وقصدا إليه فسرى ولزمه الضمان كما لو وكل من أعتق نصيبه وفارق الميراث فإنه حصل من غير قصده ولا فعله ولأن من باشر سبب السراية اختيارا لزمه ضمانها كمن جرح إنسانا فسرى جرحه ولأن مباشرته لما تسببه إليه في لزم حكم السراية واحد بدليل استواء الحافز والدافع في ضمان الواقع فأما إن ملكه بالميراث لم يسر العتق فيه واستقر في ما ملكه ورق الباقي سواء كان موسرا أو معسرا لأنه لن يتسبب إلى إعتاقة وإنما حصل بغير اختياره وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف وعن أحمد ما يدل على يسري إلى نصيب شريكه إذا كان موسرا لأنه عتق عليه بعضه وهو موسر فسرى إلى باقيه كما لو وصى له به فقبله والمذهب الأول لأنه لم يعتقه ولا تسبب إليه فلم يضمن ولم يسر كالأجنبي وفارق ما تسبب إليه (12/286)
حكم لو ورث الصبي والمجنون جزءا ممن يعتق عليهما
فصل : وإن ورث الصبي والمجنون جزءا ممن يعتق عليهما عتق ولم يسر إلى باقيه لأنه إذا لم يسر في حق المكلف ففي حقهما أولى وإن وهب لهما أو وصي لهما به وهما معسران فعلى وليهما قبوله لأنه نفع لهما بإعتاق من غير ضرورة يلحق بهما وإن كانا موسرين ففيه وجهان مبينان على أنه هل يقوم عليهما باقية إذا ملكا بعضه ؟ ففيه وجهان :
أحدهما : لا يقوم ولا يسري العتق إليه لأنه يدخل في ملكه بغير اختياره فأشبه ما لو ورثه
والثاني : يقوم عليه لأن قبول وليه يقوم مقام قبوله فأشبه الوكيل فعلى هذا الوجه ليس لوليه قبوله لما فيه من الضرر وعلى الأول يلزمه قبوله لأنه يقع بغير ضرر إذا كان ممن لا تلزمه نفقته وإذا قلنا ليس له أن يقبله فقبله احتمل أن لا يصح القبول لأنه فعل ما لم يأذن الشرع فيه فأشبه ما لو باع ماله بغبن واحتمل أن يصح وتكون الغرامة عليه لأنه ألزمه هذه الغرامة فكانت عليه كنفقة الحج إذا حجه (12/269)
إذا باع عبدا لذي رحمه وأجنبي في صفقة واحدة
فصل : وإذا باع عبدا لذي رحمه وأجنبي صفقة واحدة عتق كله إذا كان ذو الرحم معسرا وضمن لشريكه قيمة حقه منه وقال القاضي : لا يضمن لشريكه شيئا لأن ملكه لم يتم إلا بقبول شريكه فصار كأنه أذن له في إعتاق نصيبه
ولنا أنه عتق عليه نصيبه بملكه لاختياره فوجب أن يقوم عليه باقيه مع يساره كما لو انفرد بشرائه ولا نسلم أنه لا يصح قبوله إلا بقبول شريكه (12/270)