فصل حكم ما لو قتل الجاني بعض الأولياء بغير إذن الباقين
فصل : فإن قتله بعض الأولياء بغير إذن الباقين لم يجب عليه قصاص وبهذا قال أبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي والقول الآخر : عليه القصاص لأنه ممنوع من قتله وبعضه غير مستحق له وقد يجب القصاص بإتلاف بعض النفس بدليل ما لو اشترك الجماعة في قتل واحد
ولنا أنه مشارك في استحقاق القتل فلم يجب عليه القصاص كما لو كان مشاركا في ملك الجارية ووطئها ولأنه محل يملك بعضه فلم تجب العقوبة المقدرة بإستيفائه كالأصل ويفارق إذا قتل الجماعة واحدا فإنا لا نوجب القصاص بقتل بعض النفس وإنما نجعل كل واحد منهم قاتلا لجميعها وإن سلمنا وجوبه عليه لقتله بعض النفس فمن شرطه المشاركة لمن فعله كفعله في العمد والعدوان ولا يتحقق ههنا
إذا ثبت هذا فإن للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فأشبه ما لو مات القاتل أو عفا بعض الأولياء وهل يجب ذلك على قاتل الجاني أو في تركة الجاني ؟ فيه وجهان ولـ لشافعي قولان : أحدهما : يرجع على قاتل الجاني لأنه أتلف محل حقه فكان الرجوع عليه بعوض نصيبه كما لو كانت له وديعة فأتلفها والثاني : يرجع في تركة الجاني كما لو أتلفه أجنبي أو عفا شريكه عن القصاص وقولنا أتلف محل حقه يبطل بما إذا أتلف مستأجره أو غريمه أو امرأته أو كان المتلف أجنبيا ويفارق الوديعة فإنها مملوكة لهما فوجب عوض ملكه أما الجاني فليس بمملوك للمجني عليه وإنما له عليه حق فأشبه ما لو قتل غريمه فعلى هذا يرجع ورثة الجاني على قاتله بدية مورثهم إلا قدر حقه منها فعلى هذا لو كان الجاني أقل دية من قاتله مثل امرأة قتلت رجلا له ابنان فقتلها أحدهما بغير إذن الآخر فللآخر نصف دية أبيه في تركة المرأة التي قتلته ويرجع ورثتها بنصف ديتها على قاتلها وهو ربع دية الرجل
وعلى الوجه الأول يرجع الابن الذي لم يقتل على أخيه بنصف دية المرأة لأنه لم يفوت على أخيه إلا نصف المرأة ولا يمكن أن يرجع على ورثة المرأة بشيء لأن أخاه الذي قتلها أتلف جيمع الحق وهذا يدل على ضعف هذا الوجه ومن فوائده أيضا صحة إبراء من حكمنا بالرجوع عليه وملك مطالبته فإن قلنا يرجع على ورثة الجاني صح إبراؤهم وملكوا الرجوع على قاتل موروثهم بقسط أخيه العافي وإن قلنا يرجع على تركة الجاني وله تركة فله الأخذ منها سواء أمكن ورثته أن يستوفوا من الشريك أو لم يمكنهم وإن قلنا يرجع على شريكه لم يكن له مطالبة ورثة الجاني سواء كان شريكه موسرا أو معسرا (9/462)
مسألة وفصل ومن عفا من ورثة المقتول
مسألة : قال : ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص لم يكن إلى القصاص سبيل وإن كان الباقي زوجا أو زوجة
أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل والأصل فيه الكتاب والسنة : أما الكتاب فقول الله تعالى في سياق قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } وقال تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ـ إلى قوله { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } قيل في تفسيره : فهو كفارة للجاني يعفو صاحب الحق عنه وقيل : فهو كفارة للعافي بصدقته وأما السنة ف [ إن أنس بن مالك قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو ] رواه أبو داود [ وفي حديثه في قصة الربيع بنت النضر حين كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقصاص فعفا القوم ]
إذا ثبت هذا فالقصاص حق لجميع الورثة من ذوي الأنساب والأسباب والرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا منهم صح عفوه وسقط القصاص ولم يبق لأحد إليه سبيل هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و النخعي و الحكم و حماد و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي وروي معنى ذلك عن عمر و طاوس و الشعبي وقال الحسن و قتادة و الزهري و ابن شبرمة و الليث و الأوزاعي : ليس للنساء عفو والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة وهو وجه لأصحاب الشافعي لأنه ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب دون الزوجين ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يقتلوا أو يأخذوا العقل ] وأهله ذوو رحمة
وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص بعفو بعض الشركاء وقيل هو رواية عن مالك لأن حق غير العافي لا يرضى بإسقاطه وقد تؤخذ النفس ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد
[ ولنا عموم قوله عليه السلام : فأهله بين خيرتين وهذا عام في جميع أهله والمرأة من أهله بدليل قول النبي صلى الله عليه و سلم : من يعذرني من رجل يبلغني أذاه في أهلي وما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي ] يريد عائشة [ وقال له أسامة : يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا ] وروى زيد بن وهب أن عمر أتى برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل قد عفوت عن حقي فقال عمر الله أكبر عتق القتيل رواه أبو داود وفي رواية عن زيد قال : دخل رجل على امرأته فوجد عندها رجلا فقتلها فاستعدى إخوتها عمر فقال بعض إخوتها : قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية
وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رحلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر لابن مسعود : ما تقول ؟ قال : إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه وقال كنيف ملىء علما والدليل على أن القصاص لجميع الورثة ما ذكرناه في مسألة القصاص بين الصغير والكبير ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبة فإذا عفا بعضهم صح عفوه كعفوه عن سائر حقوقه وزوال الزوجية لا يمنع استحقاق القصاص كما لم يمنع استحقاق الدية وسائر حقوقه الموروثة ومتى ثبت أنه حق مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط من كان من أهل الإسقاط منهم لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط سقط جميعه لأنه مما لا يتبعض كالطلاق والعتاق ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض مبناه على الدرء والإسقاط فإذا أسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق والمرأة أحد المستحقين فسقط بإسقاطها كالرجل ومتى عفا أحدهم فللباقين حقهم من الدية سواء عفا مطلقا أو إلى الدية وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا أعلم لهما مخالفا ممن قال بسقوط القصاص وذلك لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فثبت له البدل كما لو ورث القاتل بعض دمه أو مات ولما ذكرنا من خير عمر رضي الله عنه
فصل : فإن قتله الشريك الذي لم يعف عالما بعفو شريكه وسقوط القصاص به فعليه القصاص سواء حكم به الحاكم أو لم يحكم وبهذا قال أبو حنيفة و أبو ثور وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقيل له قول آخر لا يجب القصاص لأن له فيه شبهة لوقوع الخلاف
ولنا أنه قتل معصوما مكافئا له عمدا يعلم أنه لا يحق له فيه فوجب القصاص كما لو حكم بالعفو حاكم والاختلاف لا يسقط القصاص فإنه لو قتل مسلما بكافر قتلناه به مع الاختلاف في قتله وأما إن قتله قبل العلم بالعفو فلا قصاص عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي في أحد قوليه : عليه القصاص لأنه قتل عمد عدوان لمن لا حق له في قتله
ولنا أنه قتله معتقدا ثبوت حقه فيه مع أن الأصل بقاؤه فلم يلزمه قصاص كالوكيل إذا قتل بعد عفو الموكل قبل علمه بعفوه ولا فرق بين أن يكون الحاكم قد حكم بالعفو أو لم يحكم به لأن الشبهة موجودة مع انتفاء العلم معدومة عند وجوده وقال الشافعي : متى قتله بعد حكم الحاكم لزمه القصاص علم بالعفو أو لم يعلم وقد بينا الفرق بينهما ومتى حكمنا عليه بوجوب الدية إما لكونه معذورا وإما للعفو عن القصاص فإنه يسقط عنه منها ما قابل حقه على القاتل قصاصا ويجب عليه الباقي فإن كان الولي عفا إلى غير مال فالواجب لورثة القاتل ولا شيء عليهم وإن كان عفا إلى الدية فالواجب لورثة القاتل وعليهم نصيب العافي من الدية وقيل فيه : إن حق العافي من الدية على القاتل لا يصح لأن الحق لم يبق متعلقا بعينه وإنما الدية واجبة في ذمته فلم تنتقل إلى القاتل كما لو قتل غريمه
فصل : فإن كان القاتل هو العافي فعليه القصاص سواء عفا مطلقا أو إلى مال وبهذا قال عكرمة و الثوري و مالك و الشافعي و ابن المنذر وروي عن الحسن : تؤخذ منه الدية ولا يقتل وقال عمر بن عبد العزيز : الحكم فيه إلى السلطان
ولنا قوله تعالى : { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } قال ابن عباس و عطاء و الحسن و قتادة في تفسيرها أي بعد أخذه الدية وعن الحسن عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا أعفي من قتل بعد أخذه الدية ] ولأنه قتل معصوما مكافئا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكن قتل
فصل : وإذا عفا عن القاتل مطلقا صح ولم تلزمه عقوبة وبهذا قال الشافعي و إسحاق و ابن المنذر و أبو ثور وقال مالك و الليث و الأوزاعي : يضرب ويحبس سنة
ولنا أنه إنما كان عليه حق واحد وقد أسقطه مستحقه فلم يجب عليه شيء آخر كما لو اسقط الدية عن القاتل خطأ (9/464)
فصول التوكيل في استيفاء القصاص والعفو وفروع فيه
فصل : وإذا وكل من يستوفي القصاص صح توكيله نص عليه أحمد رحمه الله فإن وكله ثم غاب وعفا عن القصاص واستوفى الوكيل نظرنا فإن كان عفوه بعد القتل لم يصح لأن حقه قد استوفي وإن كان قتله وقد علم الوكيل به قد قتله ظلما فعليه القود كما لو قتله ابتداء وإن قتله قبل العلم بعفو الموكل فقال أبو بكر : لا ضمان على الوكيل لأنه لا تفريط منه فإن العفو حصل على وجه لا يمكن الوكيل استدراكه فلم يلزمه ضمان كما لو عفا بعد ما رماه وهل يلزم الموكل الضمان ؟ فيه قولان : أحدهما : لا ضمان عليه لأن عفوه غير صحيح لما ذكرنا من حصوله في حال لا يمكنه استدراك الفعل فوقع القتل مستحقا له فلم يلزمه ضمان ولأن العفو إحسان فلا يقتضي وجوب الضمان والثاني : عليه الضمان لأن قتل المعفو عنه حصل بأمره وتسليطه على وجه لا ذنب للمباشر فيه فكان الضمان على الآمر كما لو أمر عبده الأعجمي بقتل معصوم
وقال غير ابي بكر في صحة العفو وجهان بناء على الراويتين في الوكيل هل ينعزل بعزل الموكل أو لا ؟ ولـ لشافعي قولان كالوجهين فإن قلنا لا يصح العفو فلا ضمان على أحد لأنه قتل من يجب قتله بأمر يستحقه وإن قلنا يصح العفو فلا قصاص فيه لأن الوكيل قتل من يعتقد إباحة قتله بسبب هو معذور فيه فأشبه ما لو قتل في دار الحرب من يعتقده حربيا وتجب الدية على الوكيل لأنه لو علم لوجب عليه القصاص فإذا لم يعلم تعلق به الضمان كما لو قتل مرتدا قد أسلم قبل علمه بإسلامه ويرجع بها على الموكل لأنه غره بتسليطه على القتل بتفريطه في ترك إعلامه بالعفو فيرجع عليه كالغار في النكاح بحرية أمة أو تزوج معيبة ويحتمل أن لا يرجع عليه لأن العفو إحسان منه فلا يقتضي الرجوع عليه فعلى هذا تكون الدية على عاقلة الوكيل وهذا اختيار أبي الخطاب لأن هذا جرى مجرى الخطأ فأشبه ما لو قتل في دار الحرب مسلما يعتقده حربيا
وقال القاضي : هو في مال الوكيل لأنه عن عمد محض وهذا لا يصح لأنه لو كان عمدا محضا لأوجب القصاص ولأنه يشترط في العمد المحض أن يكون عالما بحال المحل وكونه معصوما ولم يوجد هذا وإن قال هو عمد الخطأ فعمد تحمله العاقلة ذكره الخرقي ودل عليه [ خبر المرأة التي قتلت جاريتها وجنينها بمسطح فقضى النبي صلى الله عليه و سلم بالدية على عاقلتها ] واختلف أصحاب الشافعي على هذين الوجهين فعلى قول القاضي إن كان الموكل عفا إلى الدية فله الدية في تركة الجاني ولورثة الجاني مطالبة الوكيل بديته وليس للموكل مطالبة الوكيل بشيء فإن قيل فقد قلتم فيما إذا كان القصاص لأخوين فقتله أحدهما فعليه نصف الدية ولأخيه مطالبته به في وجه قلنا ثم أتلف حقه فرجع ببدله عليه وههنا أتلفه بعد سقوط حق الموكل عنه فافترقا وإن قلنا إن الوكيل يرجع الموكل احتمل أن تسقط الديتان لأنه لا فائدة في ان يأخذها الورثة من الوكيل ثم يدفعوها إلى الموكل ثم يردها الموكل إلى الوكيل فيكون تكليفا لكل واحد منهم بغير فائدة ويحتمل أن يجب ذلك لأن الدية الواجبة في ذمة الوكيل لغير من للوكيل الرجوع عليه وإنما تتساقط الديتان إذا كان لكل واحد من الغريمين على صاحبه مثل ما له عليه ولأنه قد تكون الديتان مختلفتين بأن يكون أحد المقتولين رجلا والآخر امرأة فعلى هذا يأخذ ورثة الجاني ديته من الوكيل ويدفعون إلى الموكل دية وليه ثم يرد الموكل إلى الوكيل قدر ما غرمه وإن أحال ورثة الجاني الموكل على الوكيل بدية وليهم صح فإن كان الجاني أقل دية مثل أن تكون امرأة قتلت رجلا فقتلها الوكيل فلورثتها إحالة الموكل بديتها لأنه القدر الواجب لهم على الوكيل فيسقط عن الوكيل والموكل جميعا ويرجع الموكل على ورثتها بنصف دية وليه وإن كان الجاني رجلا قتل امرأة فقتله الوكيل فلورثة الجاني إحالة الموكل بدية المرأة لأن الموكل لا يستحق عليهم أكثر من ديتها ويطالبون الوكيل بنصف دية الجاني ثم يرجع به على الموكل
فصل : وإذا جني على الإنسان فيما دون النفس جناية توجب القصاص فعفا عن القصاص ثم سرت الجناية إلى نفسه فمات لم يجب القصاص وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك أن القصاص واجب لأن الجناية صارت نفسا ولم يعف عنها
ولنا أنه يتعذر اسيتفاء القصاص في النفس دون ماعفا فسقط في النفس كما لو عفا بعض الأولياء ولأن الجناية إذا لم يكن فيها قصاص مع إمكانه لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد ثم اسلم ثم مات منها نظرنا فإن كان عفا على مال فله الدية كاملة وإن عفا على غير مال وجبت الدية إلا أرش الجرح الذي عفا عنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تجب الدية كاملة لأن الجناية صارت نفسا وحقه في النفس لا فيما عفا عنه وإنما سقط القصاص للشبهة وإن قال عفوت عن الجناية لم يجب شيء لأن الجناية لا تختص بالقطع وقال القاضي فيما إذا عفا عن القطع : ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء وبه قال أبو يوسف و محمد لأنه قطع غير مضمون فكذلك سرايته
ولنا أنها سراية جناية أوجبت الضمان فكانت مضمونة كما لو لم يعف وإنما سقطت ديتها بعفوه عنها فيختص السقوط بما عفا عنه دون غيره والمعفو عنه نصف الدية لأن الجناية أوجبت نصف الدية فإذا عفا سقط وأوجب دون ما لم يجب فإذا صارت نفسا وجب بالسراية نصف الدية ولم يسقط أرش الجرح فيما إذا لم يعف وإنما تكملت الدية بالسراية
فصل : فإن كان الجرح لا قصاص فيه كالجائفة ونحوها فعفا عن القصاص فيه ثم سرى إلى النفس فلوليه القصاص لأن القصاص لم يجب في الجرح فلم يصح العفو عنه وإنما وجب القصاص بعد عفوه وله العفو عن القصاص وله كمال الدية وإن عفا عن دية الجرح صح وله بعد السراية دية النفس إلا أرش الجرح ولا يمتنع وجوب القصاص في النفس مع أنه لا يجب كمال الدية بالعفو عنه كما لو قطع يدا فاندملت واقتص منها ثم انتقضت وسرت إلى النفس فله القصاص في النفس وليس له العفو إلا على نصف الدية وإن قطع يده من نصف الساعد فعفا عن القصاص ثم سرى فعلى قول أبي بكر : لا يسقط القصاص في النفس لأن القصاص لم يجب فهو كالجائفة ومن جوز له القصاص من الكوع أسقط القصاص في النفس كما لوكان القطع من الكوع وقال المزني : لا يصح العفو عن يدة الجرح قبل اندماله فلو قطع يدا فعفا عن ديتها وقصاصها ثم اندملت لم تسقط ديتها وسقط قصاصها لأن القصاص قد وجب فيها فصح العفو عنه بخلاف الدية وليس بصحيح لأن دية الجرح إنما وجبت بالجناية إذ هي السبب ولهذا لو جنى على طرف عبد ثم باعه قبل موته كان أرش الطرف لبائعه لا لمشتريه وتأخير المطالبة به لا يلزم منه عدم الوجوب وامتناع صحة العفو كالدين المؤجل لا تملك المطالبة به ويصح العفو عنه كذا ههنا
فصل : وإن قطع يده فعفا عنه ثم عاد الجاني فقتله فلوليه القصاص وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : لا قصاص لأن العفو حصل عن بعضه فلا يقتل به كما لو سرى القطع إلى نفسه
ولنا أن القتل انفرد عن القطع فعفوه عن القطع لا يمنع ما يلزم بالقتل كما لو كان القاطع غيره وإن اختار الدية فقال القاضي : إن كان العفو عن الطرف إلى غير دية فله بالقتل نصف الدية وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال كان كالسراية ولذلك لو لم يعف لم يجب أكثر من ية والقطع يدخل في القتل في الدية دون القصاص ولذلك لو أراد القصاص كان له أن يقطع ثم يقتل ولو صار الأمر إلى الدية لم يجب إلا دية واحدة وقال أبو الخطاب : له العفو إلى دية كاملة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن القطع منفرد عن القتل فلم يدخل حكم أحدهما في الآخر كما لو اندمل ولأن القتل موجب للقتل فأوجب الدية كاملة كما لو لم يتقدمه عفو وفارق السراية فإنها لم توجب قتلا ولأن السراية عفي عن سببها والقتل لم يعف عن شيء منه ولا عن سببه سواء فيما ذكرنا كان العافي عن الجرح أخذ دية طرفه أو لم يأخذها
فصل : وإن قطع أصبعا فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت الجناية إلى الكف ثم اندمل الجرح لم يجب القصاص لما ذكرنا في النفس ولأن القصاص سقط في الأصبع بالعفو فصارت اليد ناقصة لا تؤخذ بها الكاملة ثم إن كان العفو إلى الدية وجبت الدية كلها وإن كان على غير مال خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا فيما إذا قطع يدا فعفا المجني عليه ثم سرى إلى نفسه فعلى هذا تجب ههنا دية الكف لا دية الأصبع ذكره أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أن لا يجب شيء وهو قول أبي يوسف ومحمد لأن العفو عن الجناية عفو عما يحدث منها وقد قال القاضي : إن القياس فيما إذا قطع اليد ثم سرى إلى النفس أن يجب نصف الدية فيلزمه أن يقول مثل ذلك ههنا
فصل : فإن قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح عفوه ولم يكن له في سرايتها قصاص ولا دية في ظاهر كلام أحمد وسواء عفا بلفظ العفو أو الوصية وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك و طاوس و الحسن و قتادة و الأوزاعي وقال أصحاب الشافعي : إذا قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها ففيه قولان : أحدهما : أنه وصية فيبنى على الوصية للقاتل وفيها قولان : أحدهما : لا يصح فتجب دية النفس إلا دية الجرح والثاني : يصح فإن خرجت من الثلث سقط وإلا سقط منها ما خرج من الثلث ووجب الباقي والقول الثاني : ليس بوصية لأنه إسقاط في الحياة فلا يصح وتلزمه دية النفس إلا دية الجرح
ولنا أنه اسقط حقه بعد انعقاد سببه فسقط كما لو أسقط الشفعة بعد البيع إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يخرج من الثلث أو لم يخرج لأن ما وجب العمد القود في إحدى الروايتين أو أحد شيئين في الرواية الأخرى فما تعينت الدية ولا تعينت الوصية بمال ولذلك صح العفو من المفلس إلى غير مال وأما جناية الخطأ فإذا عفا عنها وعما يحدث منها اعتبر خروجها من الثلث سواء عفا بلفظ العفو أو الوصية أو الإبراء أو غيرها فإن خرجت من الثلث صح عفوه في الجميع وإن لم تخرج من الثلث سقط عنه من ديتها ما احتمله الثلث وبهذا قال مالك و الثوري و أصحاب الرأي ونحوه قال عمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و إسحاق لأن الوصية ههنا بمال
فصل : فإن اختلف الجاني والولي أو المجني عليه فقال الجاني : عفوت مطلقا وقال المجني عليه : بل عفوت إلى مال أو قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها قال : بل عفوت عنها دون ما يحدث منها فالقول قول المجني عليه أو وليه إن كان الخلاف معه لأن الأصل عدم العفو عن الجميع وقد ثبت العفو عن البعض بإقراره فيكون القول في عدم سقوطه قوله (9/486)
مسألة وفصلان إذا اشترك جماعة في القتل
مسألة : قال : وإذا اشترك الجماعة في القتل فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم ذلك وإن أحبوا أن يقتلوا البعض ويعفوا عن البعض ويأخذون الدية من الباقين فلهم ذلك
أما قتلهم للجميع فقد ذكرناه فيما مضى وأما إن أحبوا قتل البعض فلهم ذلك لأن كل من لهم قتله فلهم العفو عنه كالمنفرد ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو البعض لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر كما لو قتل كل واحد رجلا وأما إذا اختاروا أخذ الدية من القاتل أو من بعض القتلة فإن لهم هذا من غير رضا الجاني وبهذا قال سعيد بن المسيب و ابن سيرين و الشافعي و عطاء و مجاهد و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال النخعي و مالك و ابو حنيفة : ليس للأولياء إلا القتل إلا أن يصطلحا على الدية برضا الجاني وعن مالك رواية أخرى كقولنا واحتجوا بقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص } والمكتوب لا يتخير فيه ولأنه متلف يجب به البدل فكان بدله معينا كسائر أبدال المتلفات
ولنا قول الله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } قال ابن عباس : كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدية فأنزل الله تعالى هذه الآية : { كتب عليكم القصاص في القتلى } الآية : { فمن عفي له من أخيه شيء } فالعفو أن تقبل في العمد الدية : { فاتباع بالمعروف } يتبع الطالب بالمعروف ويؤدي إليه المغلوب : { بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } مما كتب على من قبلكم رواه البخاري
وروى أبو هريرة قال : [ قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يودى وإما يقاد ] متفق عليه
وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثم أنتم يا خزاعة قد قلتم هذا القتيل وأنا والله عاقلة فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ] رواه أبو داود وغيره ولأن القتل المضمون إذا سقط فيه القصاص من غير إبراء ثبت المال كما لو عفا بعض الورثة ويخالف سائر المتلفات لأن بدلها يجب من جنسها وههنا يجب في الخطأ وعمد الخطأ من غير الجنس فإذا رضي في العمد ببدل الخطأ كان له ذلك لأنه أسقط بعض حقه ولأن القاتل أمكنه إحياء نفسه ببذل الدية فلزمه وينتقض ما ذكروه بما إذا كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص فإنهم سلموا فيهما
فصل : واختلفت الرواية في موجب العمد فروي عن أحمد رحمه الله أن موجبه القصاص عينا لقوله عليه السلام : [ من قتل عمدا فهو قود ] ولما ذكروه في دليلهم وروي أن موجبه أحد شيئين القصاص أو الدية لما ذكرناه قبل هذا ولأن الدية أحد بدلي النفس فكانت بدلا عنها لا عن بدلها كالقصاص وأما الخبر فالمراد به وجوب القود ونحن نقول به ويحالف القتل سائر المتلفات لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه والقتل بخلافه ولـ لشافعي قولان كالراويتين فإذا قلنا موجبه القصاص عينا فله العفو إلى الدية والعفو مطلقا فإذا عفا مطلقا لم يجب شيء وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشيء لأنه لو عفا عن يجب شيء وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : تجب الدية لئلا يطل الدم وليس بشيء لأنه لو عفا عن الدية بعد وجوبها صح عفوه وإن عفا عن القصاص بغير مال لم يجب شيء فأما إن عفا عن الدية لم يصح عفوه لأنها لم تجب وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه فعفا عن القصاص مطلقا أو إلى الدية وجبت الدية لأن الواجب غير معين فإذا ترك أحدهما وجب الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وإن اختار القصاص تعين وهل له بعد ذلك العفو على الدية ؟ قال القاضي : له ذلك لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى ويكون بدلا عن القصاص وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرواية الأولى أن الواجب القصاص عينا وله العفو إلى الدية ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها
فصل : وإذا جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه المجني عليه بأرش الجناية سقط القصاص لأن عدوله إلى الشراء اختيار للمال ولا يصح الشراء لأنهما إن لم يعرفا قدر الأرش فالثمن مجهول وإن عرفا عدد الإبل وأسنانها فصفتها مجهولة والجهل بالصفة كالجهل بالذات في فساد البيع ولذلك لو باعه شيئا بجمل جذع غير معروف الصفة لم يصح وإن قدر الأرش بذهب أو فضة وباعه به صح (9/474)
فصلان عفو ولي الصغير الذي وجب له القصاص وعفو المفلس والمحجور
فصل : إذا وجب القصاص لصغير لم يجز لوليه العفو إلى غير مال لأنه لا يملك إسقاط حقه وإن أحب العفو إلى مال وللصبي كفاية من غيره لم يجز لأن فيه تفويت حقه من غير حاجة فإن كان فقيرا محتاجا ففيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لحاجته إلى المال لحفظه قال القاضي : هذا أصح والثاني : لا يجوز لأنه لا يملك إسقاط قصاصه وأما حاجته فإن نفقته في بيت المال والصحيح الأول فإن وجوب النفقة في بيت المال لا يغنيه إذا لم يحصل فأما إن كان مستحق القصاص مجنونا فقيرا فلوليه العفو على المال لأنه ليست حالة معتادة ينتظر فيها رجوع عاقله
فصل : ويصح عفو المفلس والمحجور عليه لسفه عن القصاص لأنه ليس بمال وإن أراد المفلس القصاص لم يكن لغرمائه أجباره على تركه وإن أحب العفو عنه إلى مال فله ذلك لأن فيه حظا للغرماء وإن اراد العفو على مال انبنى على الروايتين إن قلنا الواجب القصاص فله ذلك لأنه لم يثبت له مال يتعلق به حق الغرماء وإن قلنا الواجب أحد شيئين لم يملك لأن المال يجب بقوله : عفوت عن القصاص فقوله على غير مال إسقاط له بعد وجوبه وتعيينه ولا يملك ذلك وهكذا الحكم في السفيه ووراث المفلس وإن عفا المريض على غير مال فذكر القاضي في موضع أنه يصح سواء خرج من الثلث أو لم يخرج وذكر أن أحمد نص على هذا وقال في موضع : يعتبر خروجه من ثلثه ولعله ينبني على الروايتين في موجب العمد على ما مضى (9/476)
فصلان إذا قتل من لا وارث له فالأمر للسلطان
فصل : وإذا قتل من لا وارث له فالأمر إلى السلطان فإن أحب القصاص فله ذلك وإن أحب العفو على مال فله ذلك وإن أحب العفو إلى غير مال لم يملكه لأن ذلك للمسلمين ولا حظ لهم في هذا وهذا قول أصحاب الرأي إلا أنهم لا يرون العفو على مال إلا برضا الجاني
فصل : وإذا اشترك الجماعة في القتل فعفي عنهم إلى الدية فعليهم دية واحدة وإن عفا عن بعضهم فعلى المعفو عنه قسطه من الدية لأن الدية بدل المحل وهو واحد فتكون ديته واحدة سواء أتلفه واحد أو جماعة وقال ابن ابي موسى فيه رواية أخرى أن على كل واحد دية كاملة لأن له قتل كل واحد منهم فكان على كل واحد منهم دية نفس كاملة كما لو قلع الأعور عين صحيح فإنه تجب عليه دية عينه وهو دية كاملة والصحيح الأول لأن الواجب بدل المتلف فلا يختلف المتلف ولذلك لو قتل عبد قيمته ألفان حرا لم يملك العفو على أكثر من الدية وأما القصاص فإنه عقوبة على الفعل فيتعدد بتعدده (9/477)
مسألة وإن قتل من للأولياء أن يقيدوا به
مسألة : قال : وإن قتل من للأولياء أن يقيدوا به فبذل القاتل أكثر من الدية على أن لا يقاد فللأولياء قبول ذلك
وجملته أن من له القصاص له أن يصالح عنه بأكثر من الدية وبقدرها وأقل منها لا أعلم فيه خلافا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قتل عمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا وإن شاؤوا أخذوا الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل ] وراه الترمذي وقال حديث حسن غريب وروينا أن هدبة بن خشرم قتل قتيلا فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله ولأنه عوض عن غير مال فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه كالصداق وعوض الخلع ولأنه صلح عما لا يجري فيه الربا فاشبه الصلح عن العروض (9/478)
سألة وإذا أمسك رجل وقتله آخر
مسألة : قال : وإذا أمسك رجلا وقتله آخر قتل القاتل وحبس الماسك حتى يموت
يقال أمسك ومسك ومسك وقد جمع الخرقي بين اللغتين فقال : إذا أمسك وحبس الماسك وهو اسم الفاعل من مسك مخففا ولا خلاف في أن القاتل يقتل لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق وأما المسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه لأنه متسبب والقاتل مباشر فيسقط حكم المتسبب به وإن أمسكه له ليقتله مثل أن ضبطه له حتى ذبحه له فاختلفت الرواية فيه عن أحمد فروي عنه أنه يحبس حتى يموت وهذا قول عطاء و ربيعة وروي ذلك عن علي وروي عن أحمد أنه يقتل أيضا وهو قول مالك قال سليمان بن أبي موسى : الإجماع فينا أن يقتل لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه وقال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : يعاقب ويأثم ولا يقتل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن أعتى الناس على الله من قتل غير قالته والممسك غير قاتل ] ولأن الإمساك سبب غير ملجىء فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كما لو لم يعلم الممسك أنه يقتله
ولنا ما روى الدار قطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك ] ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت (9/478)
فصل ولو تبع رجل رجلا ليقتله فهرب فأدركه آخر
وإن اتبع رجلا ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله ثم أدركه الثاني فقتله نظرت فإن كان قصد الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني فعليه القصاص في القطع وحكمه في القصاص في النفس حكم الممسك لأنه حبسه على القتل وإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم وفيه وجه آخر ليس عليه إلا القطع بكل حال والأول أصح لأنه الحابس له بفعله فأشبه الحابس بإمساكه فإن قيل لمن اعتبرتم قصد الإمساك ههنا وأنتم لا تعتبرون إرادة القتل في الخارج ؟ قلنا : إذا مات من الجرح فقد مات من سرايته وأثره فنعتبر قصد الجرح الذي هو السبب دون قصد الأثر وفي مسألتنا إنما كان موته بأمر غير السراية والفعل ممكن له عليه فاعتبر قصده لذلك الفعل كما لو أمسكه (9/479)
مسألة وفصل ومن أمر عبده أن يقتل رجلا أو صبيا أو مجنونا ليقتل
مسألة : قال : ومن أمر عبده أن يقتل رجلا وكان العبد أعجميا لا يعلم أن القتل محرم قتل السيد وإن كان يعلم خطر القتل قتل العبد وأدب السيد
إنما ذكر الخرقي كونه أعجميا وهو الذي لا يفصح ليتحقق منه الجهل وإنما يكون الجهل في حق من نشأ في غير بلاد الإسلام فأما من أقام في بلاد الإسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ولا يعذر في فعله ومتى كان العبد تحريم القتل فالقصاص عليه ويؤدب سيده لأمره بما أفضى الى القتل بما يراه الإمام من الحبس والتعزير وإن كان غير عامل بخطره فالقصاص على سيده ويؤدب العبد قال أحمد : يضرب ويؤدب ونقل عنه أبو طالب قال : يقتل الولي ويحبس العبد حتى يموت لأن العبد سوط المولى وسيفه كذا قال علي وابو هريرة وقال علي رضي الله عنه : يستودع السجن وممن قال بهذه الجملة الشافعي وممن قال : إن السيد يقتل علي وأبو هريرة وقال قتادة : يقتلان جميعا وقال سليمان بن موسى : لا يقتل الآمر ولكن يديه ويعاقب ويحبس لأنه لم يباشر القتل ولا ألجأ إليه فلم يجب عليه قصاص كما لو علم العبد خطر القتل
ولنا أن العبد إذا كان غير عالم بخطر القتل فهو معتقد إباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيدا فرماه فبان إنسانا ولأن حكمة القصاص الردع والزجر ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة وإذا لم يجب عليه وجب على السيد لأنه آلة له لا يمكن إيجاب القصاص عليه فوجب على المتسبب به كما لو أنهشه حية أو كلبا أو ألقاه في زبية أسد فأكله ويفارق هذا ما إذا علم خطر القتل فإن القصاص على العبد لإمكان إيجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدافع مع الحافر ويكون على السيد الأدب لتعديه بالتسبب إلى القتل
فصل : ولو أمر صبيا لا يميز أو مجنونا أو أعجميا لا يعلم خطر القتل فقتل فالحكم فيه كالحكم في العبد يقتل الآمر دون المباشر ولو أمره بزنا أو سرقة لم يجب الحد على الآمر لأن الحد لا يجب إلا على المباشر والقصاص يجب بالتسبب ولذلك وجب على المكره والشهود في القصاص (9/479)
فصل ولو أمر السلطان رجلا فقتل آخر
فصل : ولو أمر السلطان رجلا فقتل آخر فإن كان القاتل يعلم أنه لا يستحق قتله فالقصاص عليه دون الآمر لأنه غير معذور في فعله ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ] وعنه عليه السلام أنه قال : [ من أمركم من الولاة بغير طاعة الله تعالى فلا تطيعوه ] فلزمه القصاص كمالو أمره غير السلطان فإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام فيما ليس بمعصية والظاهر أنه لا يأمر إلا بالحق وإن أمره غير السلطان من الرعية بالقتل فقتل فالقود على المأمور بكل حال علم أو لم يعلم لأنه لم لا يلزمه طاعته وليس له القتل بحال بخلاف السلطان فإن إليه القتل للردة والزنا وقطع الطريق إذا قتل القاطع ويستوفي القصاص للناس وهذا ليس إليه شيء من ذلك وإن أكرهه السلطان على قتل أحد أو جلده بغير حق فمات فالقصاص عليهما وإن وجبت الدية كانت عليهما فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور كمسلم قتل ذميا أو حر قتل عبدا فقتله فقال القاضي الضمان عليه دون الإمام لأن الإمام أمره بما أدى اجتهاده إليه والمأمور لا يعتقد جوازه فلم يكن له أن يقبل أمره فإذا قتله لزمه الضمان لأنه قتل من لا يحل له قتله وينبغي أن يفرق بين العامي والمجتهد فإن كان مجتهدا فالحكم فيه على ما ذكر القاضي وإن كان مقلدا فلا ضمان عليه لأن له تقليد الإمام فيما رآه وإن كان الإمام يعتقد تحريمه والقاتل يعتقد حله فالضمان على الآمر كما لو أمر السيد الذي لا يعتقد تحريم القتل به والله أعلم (9/480)
مسألة وفصل مقدار دية الحر المسلم والأصل فيها الإبل
كتاب الديات : الأصل في وجوب الدية الكتاب والسنة والإجماع :
أما الكتاب فقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } الآية
وأما السنة ف [ روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب لعمرو بن حزم كتابا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه : وإن في النفس مائة من الإبل ] رواه النسائي في سننه و مالك في موطئه قال ابن عبد البر : وهو كتاب مشهور عند أهل السير ومعروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه في أحاديث كثيرة تأتي في مواضعها من الباب إن شاء الله وأجمع أهل العلم على وجوب الدية في الجملة
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : ودية الحر المسلم مائة من الإبل
أجمع أهل العلم على أن الإبل اصل في الدية وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل وقد دلت عليه الأحاديث الواردة منها حديث عمرو بن حزم وحديث عبد الله بن عمر في دية خطأ العمد وحديث ابن مسعود في دية الخطأ وسنذكرها إن شاء الله وظاهر كلام الخرقي أن الأصل في الدية الإبل لا غير وهذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ذكر ذلك أبو الخطاب وهو قول طاوس و الشافعي و ابن المنذر وقال القاضي : لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل والذهب والورق والبقر والغنم فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها وهذا قول عمر و عطاء و طاوس وفقهاء المدينة السبعة وبه قال الثوري و ابن أبي ليلى و أبو يوسف و محمد [ لأن عمرو بن حزم روى في كتابه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن : وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الورق ألف دينار ] رواه النسائي
[ وروى ابن عباس أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه و سلم ديته اثني عشر ألفا ] رواه أبو داود و ابن ماجة وروى الشعبي أن عمر جعل على أهل الذهب ألف دينار
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبا فقال : ألا أن الإبل قد غلت فقوم على أهل المذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاة ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة رواه أبو داود
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل ] ولأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين دية العمد والخطأ فغلظ بعضها وخفف بعضها ولا يتحقق هذا في غير الإبل ولأنه بدل متلف حقا لآدمي فكان متعينا كعوض الأموال وحديث ابن عباس يحتمل ان النبي صلى الله عليه و سلم أوجب الورق بدلا عن الإبل والخلاف في كونها أصلا وحديث عمرو بن شعيب يدل على أن الأصل الإبل فإن إيجابه لهذه المذكورات على سبيل التقويم لغلاء الإبل ولو كانت أصولا بنفسها لم يكن إيجابها تقويما للإبل ولا كان لغلاء الإبل أثر في ذلك ولا لذكره معنى
وقد روي أنه كان يقوم الإبل قبل أن تغلو بثمانية آلاف درهم ولذلك قيل إن دية الذمي أربعة آلاف درهم ويدته نصف الدية فكان ذلك أربعة آلاف حين كانت الدية ثمانية آلاف درهم
فصل : فإذا قلنا هي خمسة أصول فإن قدرها من الذهب ألف مثقال ومن الورق اثنا عشر ألف درهم ومن البقر والحلل مائتان ومن الشاة ألفان ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب ولا من سائرها إلا الورق فإن الثوري و أبا حنيفة و صاحبيه قالوا : قدرها عشرة آلاف من الورق وحكي ذلك عن ابن شبرمة لما روى الشعبي أن عمر جعل على أهل الورق عشرة آلاف ولأن الدينار معدول في الشرع بعشرة دارهم بدليل أن نصاب الذهب عشرون مثقالا ونصاب الفضة مائتان وبما ذكرناه قال الحسن و عروة و مالك و الشافعي في قول وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس لما ذكرنا من حديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر ولأن الدينار معدول باثني عشر درهما بدليل أن عمر فرص الجزية على الغني أربعة دنانير أو ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط دينارين أو أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير دينارا أو اثني عشر درهما وهذا أولى مما ذكروه في نصاب الزكاة ولأنه لا يلزم أن يكون نصاب أحدهما معدولا بنصاب الآخر كما أن السائمة من بهيمة الأنعام ليس نصاب شيء منها معدولا بنصاب غيره قال ابن عبد البر : ليس مع من جعل الدية عشرة آلاف عن النبي صلى الله عليه و سلم حديث مسند ولا مرسل وحديث الشعبي عن عمر يخالفه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عنه
فصل : وعلى هذا أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول لزم الولي أخذه ولم يكن له المطالبة بغيره سواء كان من أهل ذلك النوع أو لم يكن لأنها أصول في قضاء الواجب يجزىء واحد منها فكانت الخيرة إلى من وجبت عليه كخصال الكفارة وكشاتي الجبران في الزكاة مع الددارهم وإن قلنا الأصل الإبل خاصة فعليه تسليمها إليه سليمة من العيوب وأيهما أراد العدول عنها إلى غيرها فللآخر منعه لأن الحق متعين فيها فاستحقت كالمثل في المثليات المتلفة وأن أعوزت الإبل ولم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل فله العدول إلى ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم وهذا قول الشافعي القديم وقال في الجديد : تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت لحديث عمرو بن شعيب عن عمر في تقويم الإبل ولأن ما ضمن بنوع من المال وجبت قيمته كذوات الأمثال ولأن الإبل إذا أجزأت إذا قلت قيمتها ينبغي أن تجزىء وإن كثرت قيمتها كالدنانير إذا غلت أو رخصت وهكذا ينبغي أن نقول إذا غلت الإبل كلها فأما إن كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لم يجدها لكونها في غير بلده ونحو ذلك فإن عمر قوم الدية من الدارهم اثني عشر ألفا وألف دينار
فصل : وظاهركلام الخرقي أنه لا تعتبر قيمة الإبل بل متى وجدت على الصفة المشروطة وجب أخذها قلت قيمتها أو كثرت وهذا ظاهر مذهب الشافعي وذكر اصحابنا أن ظاهر مذهب أحمد أن تؤخذ مائة قيمة كل بعير منها مائة وعشرون درهما فإن لم يقدر على ذلك أدى اثني عشر ألف درهم أو ألف دينار لأن عمر قوم الإبل على أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل الورق اثني عشر الفا فدل على أن ذلك قيمتها ولأن هذه أبدال محل واحد فيجب أن تتساوى في القيمة كالمثل والقيمة في بدل القرض والمتلف في المثليات
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل ] وهذا مطلق فتقييده يخالف إطلاقه فلم يجز إلا بدليل ولأنها تؤخذ على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقيمتها ثمانية آلاف وقول عمر في حديثه إن الإبل قد غلت فقومها على أهل الورق اثني عشر ألفا دليل على أنها في حال رخصها أقل قيمة من ذلك وقد كانت تؤخذ في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم وابي بكر وصدر من ولاية عمر مع رخصها وقلة قيمتها ونقصها عن مائة وعشرين فإيجاب ذلك فيها خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين دية الخطأ والعمد فغلظ دية العمد وخفف دية الخطأ وأجمع عليه أهل العلم واعتبارها بقيمة واحدة تسوية بينهما وجمع بين ما فرقه الشارع وإزالة للتخفيف والتغليظ جميعأ بل هو تغليظ لدية الخطأ لأن اعتبار ابن مخاض بقيمة ثنية أو جذعة يشق جدا فيكون تغليظا للدية في الخطأ وتخفيفا لدية العمد وهذا خلاف ما قصده الشارع ورود به ولأن العادة نقص قيمة بنات المخاض عن قيمة الحقاق والجذعات فلو كانت تؤدى على عهد النبي صلى الله عليه و سلم بقيمة واحدة ويعتبر ذلك فيها لنقل ولم يجز الإخلال به لأن ما ورد به الشرع مطلقا إنما يحمل على العرف والعادة فإذا أريد به ما يخالف العادة وجب بيانه وإيضاحه لئلا يكون تلبيسا في الشريعة وإيهامهم أن حكم الله خلاف ما هو حكمه على الحقيقة والنبي صلى الله عليه و سلم بعص للبيان قال الله تعالى : { لتبين للناس ما نزل إليهم } فكيف يحمل قوله على الإلباس والإلغاز ؟ هذا مما لا يحل ثم لو حمل الأمر على ذلك لكان الأسنان عبثا غير مفيد فإن فائدة ذلك إنما هو كون اختلاف أسنانها مظنة اختلاف القيم فأقيم مقامه ولأن الإبل أصل في الدية فلا تعتبر قيمتها بغيرها كالذهب والورق ولأنها أصل في الوجوب فلا تعتبر قيمتها كالإبل في السلم وشاة الجبران وحديث عمرو بن شعيب حجة لنا فإن الإبل كانت تؤخذ قبل أن تغلو ويقومها عمر وقيمتها أقل من اثني عشر ألفا وقد قيل إن قيمتها كانت ثمانية آلاف ولذلك قال عمر دية الكتابي أربعة آلاف وقولهم إنها إبدال محل واحد فلنا أن نمنع ونقول البدل إنما هو الإبل وغيرها معتبر بها وإن سلمنا فهو منتقض بالذهب والورق فإنه لا يعتبر تساويهما وينتقض أيضا بشاة الجبران مع الدراهم وأما بدل القرض والمتلف فإنما هو المثل خاصة والقيمة بدل عنه ولذلك لا تجب إلا عند العجز عنه بخلاف مسألتنا
فإن قيل هذا حجة عليكم لقولكم إن الإبل هي الأصل وغيرها بدل عنها فيجب أن يساويها كالمثل والقيمة قلنا إذا ثبت لنا هذا ينبغي أن يقوم غيرها بها ولا تقوم هي بغيرها لأن البدل يتبع الأصل ولا يتبع الأصل البدل على أنا نقول : إنما صير إلى التقدير بهذا لأن عمر رضي الله عنه قومها في وقته بذلك فوجب المصير إليه كيلا يؤدي التنازع والاختلاف في قيمة الإبل الواجبة كما قدر لبن المصراة بصاع من التمر نفيا للتنازع في قيمته فلا يوجب هذا أن يرد الأصل إلى التقويم فيفضي إلى عكس حكمة الشرع ووقوع التنازع في قيمة الإبل مع وجوبها بعينها على أن المعتبر في بدلي القرض مساواة المحل المقرض فاعتبر مساواة كل واحد من بدليه له والدية غير معتبرة بقيمة المتلف ولهذا لا تعتبر صفاته وهكذا قول أصحابنا في تقويم البقر والشاء والحلل يجب أن يكون مبلغ الواجب من كل صنف منها اثني عشر ألفا فتكون قيمة كل بقرة أو حلة ستين درهما وقيمة كل شاة ستة دراهم لتساوي الأبدال كلها وكل حلة بردتان فيكون أربعمائة بردة (9/481)
مسائل وفصول صفة الإبل للدية والحلول والتآجيل والتقسيط في ادائها
فصل : ولا يقبل في الإبل معيب ولا أعجف ولا يعتبر فيها أن تكون من جنس إبله ولا إبل بلده وقال القاضي وأصحاب الشافعي : الواجب عليه من جنس إبله سواء كان القاتل أو العاقلة لأن وجوبها على سبيل المواساة فيجب كونها من جنس ما لهم كالزكاة فإذا كان عند بعض العاقلة عراب وعند بعضهم بخاتي أخذ من كل واحد من جنس ما عنده وإن كان عند واحد صنفان ففيه وجهان : أحدهما : يؤخذ من كل صنف بقسطه والثاني : يؤخذ من الأكثر فإن استويا دفع من أيهما شاء فإن دفع من غير إبله خيرا من إبله أو مثلها جاز كما لو أخرج في الزكاة خيرا من الواجب وإن كان أدون لم يقبل إلا أن يرضى المستحق وإن ل ميكن له إبل فمن غالب إبل البلد فإن لم يكن في البلد إبل وجب من غالب إبل أقرب البلاد إليه فإن كانت إبله عجافا أو مراضا كلف تحصيل صحاح من جنس ما عنده لأنه بدل متلف فلا تؤخذ فيه معيبة كقيمة الثوب المتلف ونحو هذا قال أصحابنا في البقر والغنم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في النفس المؤمنة مائة من الإبل ] أطلق الإبل فيمن قيدها احتاج إلى دليل ولأنها بدل المتلف فلم يختص بجنس ماله كبدل سائر المتلفات ولأنها حق ليس سببه المال فلم يعتبر كونه من جنس ماله كالمسلم فيه والقرض ولأن المقصود بالدية جبر المفوت والجبر لا يختص بجنس مال من وجب عليه وفارق الزكاة فإنها وجبت على سبيل المواساة ليشارك الفقراء الأغنياء فيما أنعم الله تعالى به عليهم فاقتضى كونه من جنس أموالهم وهذا بدل متلف فلا وجه لتخصيصه بماله وقولهم إنها مواساة غير صحيح وإنما وجبت جبرا للفائت كبدل المال المتلف وإنما العاقلة تواسي القاتل فيما وجب بجنايته ولهذا لا يجب من جنس أموالهم إذا لم يكونوا ذوي إبل والواجب بجنايته إبل مطلقة فتواسيه في تحملها ولأنها لو وجبت من جنس ما لهم لوجبت المريضة من المراض والصغيرة من الصغار كالزكاة
مسألة : قال : وإن كان القتل عمدا فهي في مال القاتل حالة أرباعا : خمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة
أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة وهذا قضية الأصل وهو أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية على الجاني قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يجني جان إلا على نفسه ] [ وقال بعض أصحابه حبن رأى معه ولده : ابنك هذا ؟ قال نعم قال : أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ] ولأن موجب الجناية جائز أثر فعل الجاني فيجب أن يختص بضررها كما يختص بنفعها فإنه لو كسب كان كسبه له دون غيره وقد ثبت حكم ذلك في سائر الجنايات والأكساب وإنما خولف هذا الأصل في قتل المعذور فيه لكثرة الواجب وعجز الجاني في الغالب عن تحمله مع وجوب الكفارة عليه وقيام عذره تخفيفا عنه ورفقا به والعامد لا عذر له فلا يستحق التخفيف ولا يوجد فيه المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ إذا ثبت هذا فإنها تجب حالة وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : تجب في ثلاث سنين لأنها دية آدمي فكانت مؤجلة كدية شبه العمد
ولنا أنه ما وجب بالعمد المحض كان حالا كالقصاص وأرش أطراف العبد ولا يشبه شبه العمد لأن القاتل معذور لكونه لم يقصد القتل وإنما أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه الخطأ ولهذا تحمله العاقلة ولأن القصد التخفيف على العاقلة الذين لم تصدر منهم جناية وحملوا أداء مال مواساة فالأرفق بحالهم التخفيف عنهم وهذا موجود في الخطأ وشبه العمد على السواء وأماالعمد فإنما يحمله الجاني في غير حال العذر فوجب أن يكون ملحقا ببدل سائر المتلفات ويتصور الخلاف معه فيما إذا قتل ابنه أو قتل أجنبيا وتعذر استيفاء القصاص لعفو بعضهم أو غير ذلك واختلفت الرواية في مقدارها فروى جماعة عن أحمد أنهاأرباع كما ذكر الخرقي وهو قول الزهري و ربيعة و مالك و سليمان بن يسار و أبي حنيفة وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وروى جماعه عن أحمد أنها ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها وبهذا قال عطاء ومحمد بن الحسن و الشافعي وروي ذلك عن عمر وزيد وابي موسى والمغيرة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم ] وذلك لتشديد القتل رواه الترمذي وقال هو حديث حسن غريب وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا أن قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ] رواه الإمام أحمد و أبو داود وغيرهم وعن عمرو بن شعيب أن رجلا يقال له قتادة حذف ابنه بالسيف فأخذ عمر منه الدية ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة رواه مالك في موطئه ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال : كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين بنت لبون وخمسا وعشرين بنت مخاض ولأنه قول ابن مسعود ولأنه حق يتعلق بجنس الحيوان فلا يعتبر فيه الحمل كالزكاة والأضحية
فصل : والخلفة الحامل و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : في بطونها أولادها ] تأكيد وقلما تحمل إلا ثنية وهي التي لها خمس سنين ودخلت في السادسة وأي ناقة حملت فهي خلفة تجزىء في الدية وقد قيل لا تجزىء الاثنية لأن في بعض ألفاظ الحديث أربعون خلفة ما بين ثنية عامها إلى بازل ولأن سائر أنواع الإبل مقدرة السن فكذلك الخلفة والذي ذكره القاضي هو الأول لأن النبي صلى الله عليه و سلم أطلق الخلفة والخلف هي الحامل فيقتضي تجزىء كل حامل ولو أحضرها فأسقطت قبل قبضها فعليه بدلها فإن أسقطت بعد قبضها أجزأت لأنه برىء منها بدفعها
فصل : فإن اختلفا في حملها رجع أهل الخبرة كما يرجع في حمل المرأة إلى القوابل وإن تسلمها الولي ثم قال : لم تكن حوامل وقد ضمرت أجوافها وقال الجاني : بل قد ولدت عندك نظرت فإن قبضها بقول أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الظاهر إصابتهم وإن قبضها بغير قولهم فالقول قول الولي لأن الأصل عدم الحمل
مسألة : قال : وإن كان القتل شبه العمد فكما وصفت في أسنانها إلا أنها على العاقلة في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها
وجملته أن القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد سواء في اختلاف الروايتين فيها واختلاف العلماء فيها وقد سبق الكلام في ذلك إلا أنها تخالف العمد في أمرين
أحدهما : أنها على العاقلة في ظاهر المذهب وبه قال الشعبي و النخعي و الحكم و الشافعي و الثوري و إسحاق وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال ابن سيرين و الزهري و الحارث العكلي و ابن شبرمة و قتادة و أبو ثور : هي على القاتل في ماله واختاره أبو بكر عبد العزيز لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض ولأنها دية مغلظة فأشبهت دية العمد وهكذا يجب أن يكون مذهب مالك لأن شبه العمد عنده من باب العمد
[ ولنا ما روى أبو هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بدية المرأة على عاقلتها ] متفق عليه ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا ديته على العاقلة كالخطأ ويخالف العمد المحض لأنه يغلظ من كل وجه لقصده الفعل وإرادته القتل وعمد الخطأ يغلظ من وجه وهو قصده الفعل ويخفف من وجه وهو كونه لم يرد القتل فاقتضى تغليظها من وجه الأسنان وتخفيفها من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها ولا أعلم في أنها تجب مؤجلة خلافا بين أهل العلم وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم وبه قال الشعبي و النخعي و قتادة و أبو هاشم وعبد الله بن عمر و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقد حكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا : الدية حالة لأنها بدل متلف ولم ينقل إلينا ذلك عمن يعد خلافه فيه خلافا وتخالف الدية سائر المتلفات لأنها تجب على غير الجاني على سبيل المواساة له فاقتضت الحكمة تخفيفها عليهم وقد روي عن عمر وعلي أنهما قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعا
فصل : ويجب في آخر كل حول ثلثها ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ابتداؤها من حين حكم الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فكان ابتداؤها من حين حكم الحاكم كمدة العنة
ولنا أنه مال مؤجل فكان ابتداء أجله من حين وجوبه كالدين المؤجل والسلم ولا نسلم الخلاف فيها فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم إذا ثبت هذا فإن كان الواجب دية نفس فابتداء حولها من حين الموت سواء كان قتلا موجبا أو عن سراية جرح وإن كان الواجب دية جرح نظرت فإن كان عن جرح اندمل من غير سراية مثل أن قطع يه فبرأت بعد مدة فابتداء المدة من حين القطع لأن تلك حالة الوجوب ولهذا لو قطع يده وهي ذمي فأسلم ثم اندملت وجب نصف دية يهودي وأما إن كان الجرح ساريا مثل أن قطع أصبعه فسرى ذلك إلى كفه ثم اندمل فابتداء المدة من حين الاندمال لأنها إذا سرت فما استقر الأرش إلا عند الاندمال هكذا ذكر القاضي وأصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب : تعتبر المدة من حين الاندمال فيهما لأن الأرش لا يستقر إلا بالاندمال فيهما
فصل : وإذا كان الواجب دية فإنها تقسم في ثلاث سنين كل سنة ثلثها سواء كانت دية النفس أو دية الطرف كدية جدع الأنف أو الأذنين أو قطع الذكر أو الاثنيين وإن كان دون الدية نظرنا فإن كان ثلث الدية كدية المأموة أو الجائفة وجب في آخر السنة الأولى ولم يجب منه شيء حالا وإن كان نصف الدية أو ثلثها كدية اليد أو دية المنخرين وجب الثلث في آخر السنة الأولى والباقي في آخر السنة الثانية وإن كان أكثر من الثلثين كدية ثمان أصابع وجب الثلثان في السنتين والباقي في آخر الثالثة وإن كان أكثر من دية مثل أن ذهب سمع إنسان ففي كل سنة ثلث لأن الواجب لو كان دون الدية لم ينقص في السنة عن الثلث فكذلك لا يزيد عليه إذا زاد على الثلث وإن كان الواجب الجناية على اثنين وجب لكل واحد ثلث في كل سنة لأن كل واحد له دية فيستحق ثلثها كما لو انفرد حقه وإن كان الواجب دون ثلث الدية كدية الأصبع لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث ويجب حالا لأنه بدل متلق لا تحمله فكان حالا كالجناية على المال
فصل : وفي الدية الناقصة كدية المرأة والكتابي وجهان : أحدهما : تقسم في ثلاث سنين لأنها بدل النفس فأشبهت الدية الكاملة والثاني : يجب منها في العام الأول قدر ثلث الدية الكاملة وباقيها في العام الثاني لأن هذه تنقص عن الدية فلم تقسم في ثلاث سنين كأرش الطرف وهذا مذهب أبي حنيفة و لـ لشافعي كالوجهين وإن كانت الدية لا تبلغ ثلث الدية الكاملة كدية المجوسي وهو ثمان مائة درهم ودية الجنين وهي خمس من الإبل لم تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث فأشبه دية السن والموضحة إلا أن يقتل الجنين مع أمه فتحمله العاقلة لأنها جناية واحدة وتكون دية الأم على الوجهين فإن قلنا هي في عامين كانت دية الجنين واجبة مع ثلث دية الأم في العام الأول لأنها دية أخرى ويحتمل أن تجب مع باقي دية الأم في العام الثاني وإن قلنا دية الأم في ثلاث سنين فهل تجب دية الجنين في ثلاثة أعوام أم لا ؟ على وجهين فإذا قلنا بوجوبها في ثلاث سنين وجبت في السنين التي وجبت فيها دية الأم لأنهما ديتان لمستحقين فيجب في كل سنة ثلث ديتها وثلث ديته ويحتمل أن تجب في ثلاث سنين أخرى لأن تلفها موجب جناية واحدة
مسألة : قال : وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل تؤخذ في ثلاث سنين أخماسا : عشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة
لا يختلف المذهب في أن دية الخطأ أخماسا كما ذكر الخرقي وهذا قول ابن مسعود و النخعي وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال عمر بن عبد العزيز و سليمان بن يسار و الزهري و الليث و ربيعة و مالك و الشافعي : هي أخماس إلا أنهم جعلوا مكان بني مخاض بني لبون وهكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي عن ابن مسعود وقال الخطابي : [ روي النبي صلى الله عليه و سلم ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض ] وروي عن علي و الحسن و الشعبي و الحارث العكلي و إسحاق أنها أرباع كدية العمد سواء وعن زيد أنها ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون بنت مخاض وقال طاوس : ثلاثون حقة وثلاثون بنت لبون وثلاثون بنت مخاض وعشرون بني لبون ذكور لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى أن من قتل خطأ فديته من الإبل ثلاثون بنت مخاض وثلاثون بنت لبون وثلاثون حقة وعشرون وعشر بني لبون ذكور ] رواه أو داود و ابن ماجة وقال أبو ثور : الديات كلها أخماس كدية الخطأ لأنها بدل متلف فلا تختلف بالعمد والخطأ كسائر المتلفات وحكي عنه أن دية العمد مغلظة ودية شبه العمد والخطأ أخماس لأن شبه العمد تحمله العاقلة فكان أخماسا كدية الخطأ
ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض ] رواه أبو داود و النسائي و ابن ماجة ولأن ابن لبون يجب على طريق البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب ولأن موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض ولأن ما قلناه الأقل فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف يجب على من ادعاه الدليل فأما دية قتيل خيبر فلا حجة لهم فيه لأنهم لم يدعوا على أهل خيبر قتله إلا عمدا فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة والخلاف في دية الخطأ وقول أبي ثور يخالف الآثار المروية التي ذكرناها فلا يعول عليه
فصل : ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم [ وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة وأجمع أهل العلم على القول به وقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم دية عمد الخطأ على العاقلة بما قد رويناه من الأحاديث ] وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ والمعنى في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفا عنه إذا كان معذور في فعله وينفرد بالكفارة
فصل : ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين فإن عمر وعليا رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا فاتبعهم على ذلك أهل العلم ولأنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالا كثيرة كالزكاة وكل دية تحملها العاقلة تجب مؤجلة لما ذكرنا وما لا تحمله العاقلة يجب حالا لأنه بدل متلف فلزم المتلف حالا كقيم المتلفات وفارق الذي تحمله العاقلة فإنه يجب مواساة فألزم التأجيل تخفيفا على متحمله وعدل به الأصل في التأجيل كما عدل به عن الأصل في إلزامه غير الجاني (9/488)
فصلان القاتل وحده يتحمل كفارة القتل ولا يلزمه شيء من الدية
فصل : ولا يلزم القاتل شيء من الدية وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : هو كواحد من العاقلة لأنها وجبت عليهم إعانة له فلا يزيدون عليه فيها
[ ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بدية المرأة على عاقلتها ] متفق عليه وهذا يقتضي أنه قضى بجميعها عليهم ولأنه قاتل لم تلزمه الدية فلم يلزمه بعضها كما لو أمره الإمام بقتل رجل فقتله يعتقد أنه بحق فبان مظلوما ولأن الكفارة تلزم القاتل في ماله وذلك يعدل قسطه من الدية وأكثر منه فلا حاجة إلى إيجاب شيء من الدية عليه
فصل : والكفارة في مال القاتل لا يدخلها تحمل وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين تكون في بيت المال لأنها تكثر فإيجابها في ماله يجحف به
ولنا أنها كفارة فلا تجب على غير من وجد منه سببها كسائر الكفارات وكما لو كانت صوما ولأن الكفارة شرعت للتكفير عن الجاني ولا يكفر عنه بفعل غيره ويفارق الدية فإنها إنما شرعت الجبر لمحل وذلك يحصل بها كيفما كان ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لما قضى بالدية على العاقلة لم يكفر عن القاتل وما ذكروه لاأصل له ولا يصح قياسه على الدية لوجوه :
أحدها : أن الدية لم تجب في بيت المال لأنها إنما وجبت على العاقلة ولا يجوز أن يثبت حكم الفرع مخالفالحكم الأصل
الثاني : أن الدية كثيرة فإيجابها على القاتل يجحف به والكفارة بخلافها
الثالث : أن الدية وجبت مواساة للقاتل وجعل حظ القاتل من الواجب الكفارة فإيجابها على غيره يقطع المواساة ويوجب على غير الجاني أكثر مما وجب عليه وهذا لا يجوز (9/498)
فصلان الأشياء التي تغلظ بها الدية
فصل : وذكر أصحابنا أن الدية تغلظ بثلاثة أشياء : إذا قيل في الحرم والشهور الحرم وإذا قتل محرما وقد نص أحمد رحمه الله على التغليظ على من قتل محرا في الحرم وفي الشهر الحرام فأما إن قتل ذا رحم محرم فقال أبو بكر : تلغظ ديته وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنها لا تغلظ وقال أصحاب الشافعي : تغلظ بالحرم والأشهر الحرم ذوي الرحم المحرم وفي التغليظ بالإحرام وجهان وممن روي عنه التغليظ عثمان وابن عباس والسعيدان و عطاء و طاوس و الشعبي و مجاهد و سليمان بن يسار و جابر بن زيد و قتادة و الأوزاعي و مالك و الشافعي و إسحاق واختلفت القائلون في صفته فقال أصحابنا : تغلظ لكل واحد من الحرمات ثلث الدية فإذا اجتمعت الحرمات الثلاث وجبت ديتان قال أحمد في رواية ابن منصور فيمن قتل محرما في الحرم وفي الشهر الحران : فعليه أربعة وعشرون ألفا وهذا قول التابعين القائلين بالتغليظ
وقال أصحاب الشافعي : صفة التغليظ إيجاب دية العمد في الخطأ لا غير ولا يتصور التغليظ في غير الخطأ ولا يجمع بين تغليظين وهذا قول مالك إلا أنه يغلظ في العمد فإذا قتل ذا رحم محرم عمدا فعليه ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وتغليظها في الذهب والورق أن ينظر قيمة أسنان الإبل غير مغلظة وقيمتها مغلظة ثم يحكم بزيادة ما بينهما كان قيمتها مخففة ستمائة وفي العمد ثمانمائة وذلك ثلث الدية المخففة وعند مالك تغلظ على الأب والأم والجد دون غيرهم واحتجا على صفة التغليظ بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه حين حذفه بالسيف ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ولم يزد عليه في العدد شيئا وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعا ولأن ما أوجب التغليظ أوجبه في الأسنان دون القدر كالضمان ولا يجمع بين تغليظين لأن ما أوجبت التغليظ بالضمان إذا اجتمع سببان تداخلا كالحرم والإحرام في قتل الصيد وعلى أنه لا يغلظ بالإحرام أن الشرع لم يرد بتغليظه واحتج أصحابنا بما روى ابن أبي نجيح أن امرأة وطئت في الطواف فقضى عثمان رضي الله عنه فيها بستة آلاف وألفين تغليظا للحرم وعن ابن عمر أنه قال من قتل في الحرم أو ذا رحم أو في الشهر الحرام فعليه دية ثلث وعن ابن عباس أن رجلا قتل رجلا في الشهر الحرام وفي البلد الحرام فقال : ديته اثنا عشر ألفا وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف وهذا مما يظهر وينتشر ولم ينكر فيثبت إجماعا وهذا فيه الجمع بين تغليظات ثلاث ولأنه قول التابعين القائلين بالتغليظ واحتجوا على التغليظ في العمد أنه إذا غلظ الخطأ مع العذر فيه ففي العمد أولى وكل من غلظ الدية أوجب التغليظ في بدل الطرف بهذه الأسباب لأن ما أوجب تغليظ دية النفس أوجب تغليظ دية الطرف كالعمد وظاهر كلام الخرقي أن الدية لا تغلظ بشيء من ذلك وهو قول الحسن و الشعبي و النخعي و أبي حنيفة و الجوزجاني و ابن المنذر وروي ذلك عن الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل لم يزد على ذلك وعلى أهل الذهب ألف مثقال وفي [ حديث أبي شريح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقلة من قتل له قتيل بعد ذلك فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبواأخذوا الدية ] وهذا قتل كان بمكة في حرم الله تعالى فلم يزد النبي صلى الله عليه و سلم على الدية ولم يفرق بين الحر وغيره وقول الله عز و جل : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } يقتضي أن الدية واحدة في كل مكان وفي كل حال ولأن عمر رضي الله عنه أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه ولم يزد على مائة وروى الجوزجاني بإسناده عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز كان يجمع الفقهاء فكان مما أحيى من تلك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة ونظرائهم أن ناسا كانوا يقولون : إن الدية تغلظ في الشهر الحرام أربعة آلاف فتكون ستة عشر ألف درهم فألغى عمر رحمه الله ذلك بقول الفقهاء وأثبتها اثني عشر ألف درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام وغيرهما قال ابن المنذر : وليس بثابت ما روي عن الصحابة في هذا ولو صح فقول عمر يخالفه وقوله أولى من قول من خالفه وهو أصح في الرواية مع موافقته الكتاب والسنة والقياس
فصل : ولا تغلظ الدية بموضع غير الحرم وقال أصحاب الشافعي : تغلظ الدية بالقتل في المدينة على قوله القديم لأنها مكان يحرم صيده فأشبهت الحرم وليس بصحيح لأنها ليست محلا للمناسك فأشبهت سائر البلدان ولا يصح قياسها على الحرم ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : أي بلد هذا ؟ أليست البلدة الحرام ؟ ـ قال ـ فإن دماءكم وأموالكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ] وهذا يدل على أعظم البلاد حرمة و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : إن أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخل الجاهلية ] وتحريم الصيد ليس هو العلة في التغليظ وإن كان من جملة المؤثر فقد خالف تحريمه تحريم الحرم فإنه لا يجب الجزاء على من قتل فيه صيدا ولا يحرم الرعي فيه ولا الاحتشاش منه ولا ما يحتاج إليه من الرحل والعارض والقائمة وشبهه (9/500)
مسائل وفصول ما تحمله العاقلة من الديات وما لا تحمله
مسألة : قال : والعاقلة لا تحمل العبد ولا العمد ولا الصلح ولا الاعتراف ولا ما دون الثلث
في هذه المسألة خمس مسائل :
المسألة الأولى : أن العاقلة لا تحمل العبد يعني إذا قتل العبد قاتل وجبت قيمته في مال القاتل ولا شيء على عاقلته خطأ كان أو عمدا وهذا قول ابن عباس و الشعبي و الثوري و مكحول و النخعي و البتي و مالك و الليث و ابن أبي ليلى و إسحاق و أبي ثور وقال عطاء و الزهري و الحكم و حماد و أبو حنيفة : تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب بقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر وعن الشافعي كالمذهبين ووافقنا أبوحنيفة في دية أطرافه
ولنا ما [ روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ] وروي عن ابن عباس موقوفا عليه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأن الواجب فيه قيمة تختلف باختلاف صفاته فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ولأنه حيوان لا تحمل العاقلة قيمة أطرافه فلم تحمل الواجب في نفسه كالفرس وبهذا فارق الحر
المسألة الثانية : أنها لا تحمل العمد سواء كان مما يجب القصاص فيه أو لا يجب ولا خلاف في أنها لا تحمل دية ما يجب فيه القصاص وأكثر أهل العلم على أنها لا تحمل العمد بكل حال وحكي عن مالك أنها تحمل الجنايات التي لا قصاص فيها كالمأمومة والجائفة وهذا قول قتادة لأنها جناية لا قصاص فيها اشبهت جناية الخطأ
ولنا حديث ابن عباس ولأنها جناية عمد فلا تحملها العاقلة كالموجب للقصاص وجناية الأب على ابنه ولأن حمل العاقلة إنما يثبت في الخطأ لكون الجاني معذورا تخفيفا عنه ومواساة له والعامد غير معذور فلا يستحق التخفيف ولا المعاونة فلم يوجد فيه المقتضي وبهذا فارق العمد الخطأ ثم يبطل ما ذكروه بقتل الأب ابنه فإنه لا قصاص فيه ولا تحمله العاقلة
فصل : وإن اقتص بحديدة مسمومة فسرى إلى النفس ففيه وجهان : أحدهما : تحمله العاقلة لأنه ليس بعمد محض أشبه عمد الخطأ والثاني : لا تحمله لأنه قتله بآلة يقتل مثلها غالبا فأشبه من لا قصاص له ولو وكل في استيفاء القصاص ثم عفا فقتله الوكيل من غير علم بعفوه فقال القاضي لا تحمله العاقلة لأنه عمد قتله وقال أبو الخطاب : تحمله العاقلة لأنه لم يقصد الجناية ومثل هذا يعد خطأ بدليل ما لو قتل في دار الحرب مسلما يظنه حربيا فإنه عمد قتله وهو أحد نوعي الخطأ وهذا أصح ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة وقال الشافعي في أحد قوليه : لا تحمله لأنه عمد يجوز تأديبهما عليه فأشبه القتل من البالغ
ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد فتحمله العاقلة كشبه العمد ولأنه قتل لا يوجب القصاص لأجل العذر فأشبه الخطأ وشبه العمد وبهذا فارق ما ذكروه ويبطل ما ذكروه بشبه العمد
المسألة الثالثة : أنها لا تحمل الصلح ومعناه أن يدعي عليه القتل فينكره ويصالح المدعي على مال فلا تحمله العاقلة لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فلم تحمله العاقلة كالذي ثبت باعترافه وقال القاضي : معناه أن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية والتفيسر الأول لأن هذا عمد فيستغنى عنه بذكر العمد وممن قال لا تحمل العاقلة الصلح ابن عباس و الزهري و الشعبي و الثوري و الليث و الشافعي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو حملته العاقلة أدى إلى أن يصالح بمال غيره ويوجب عليه حقا بقوله
المسألة الرابعة : أنها لا تحمل الاعتراف وهو أن يقر الإنسان على نفسه بقتل خطأ أو شبه عمد فتجب الدية عليه ولا تحمله العاقلة ولا نعلم فيه خلافا وبه قال ابن عباس و الشعبي و الحسن و عمر بن عبد العزيز و الزهري و سليمان بن موسى و الثوري و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أصحاب الرأي وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيه ولأنه لو وجب عليهم لوجب بإقرار غيرهم ولا يقبل إقرار شخص على غيره ولأنه يتهم في أن يواطىء من يقر له بذلك ليأخذ الدية من عاقلته فيقاسمه إياها إذا ثبت هذا فإنه يلزمه ما اعترف به وتجب الدية عليه حالة في ماله في قول أكثرهم
وقال أبو ثور وابن عبد الحكم : لا يلزمه شيء ولا يصح إقراره لأنه مقر على غيره لا على نفسه ولأنه لم يثبت موجب إقراره فكان باطلا كما لو أقر على غيره بالقتل
ولنا قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ولأنه مقر على نفسه بالجناية الموجبة للمال فصح إقراره كما لو أقر بإتلاف مال أو بما لا تحمل ديته العاقلة ولأنه محل مضمون فيضمن إذا اعترف به كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل العاقلة لها فإذا لم تحملها وجبت عليه كجناية المرتد
المسألة الخامسة : أنها لا تحمل ما دون الثلث وبهذا قال سعيد بن المسيب و عطاء و مالك و إسحاق و عبد العزيز وعمر بن أبي سلمة وبه قال الزهري وقال : لا تحمل الثلث أيضا وقال الثور و أبو حنيفة : تحمل السن والموضحة وما فوقها لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الغرة التي في الجبين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل ما دون ذلك لأنه ليس فيه أرش مقدر والصحيح عن الشافعي أنها تحمل الكثير والقليل لأن من حمل الكثير حمل القليل كالجاني في العمد
ولنا ما [ روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية أن لا تحمل منها شيء حتى تبلغ عقل المأمومة ] ولأن مقتضى الأصل وجوب الضمان على الجاني لأنه موجب جنايته وبدل متلفه فكان عليه كسائر المتلفات والجنايات وإنما خولف في الثلث فصاعدا تخفيفا عن الجاني لكونه كثيرا به [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : الثلث كثير ] ففيما دونه يبقى على قضية الأصل ومقتضى الدليل وهذا حجة على الزهري لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل الثلث كثيرا فأما دية الجنين فلا تحملها العاقلة إلا إذا مات مع أمه من الضربة لكون ديتهما جميعا موجب جناية تزيد على الثلث وأن سلمنا وجوبها على العاقلة فلأنها دية آدمي كاملة
فصل : وتحمل العاقلة دية الطرف إذا بلغ الثلث وهو قول من سمينا في المسألة التي قبل هذا وحكي عن الشافعي أنه قال في القديم : لا تحمل مادون الدية لأن ذلك يجزي محرى ضمان الأموال بدليل أنه لا تجب فيه كفارة
ولنا قول عمر رضي الله عنه ولأن الواجب دية جناية على حر تزيد على الثلث فحملتها العاقلة كدية النفس لأنه كثير يجب ضمانا الحر أشبه ما ذكرنا وما ذكره يبطل بما إذا جنى على الأطراف بما يوجب الدية أو زيادة عليها
فصل : وتحمل العاقلة دية المرأة بغير خلاف بينهم فيها وتحمل من جراحها ما بلغ أرشه ثلث دية الرجل كدية أنفها وما دون ذلك كدية يدها لا تحمله العاقلة وكذلك الحكم في دية الكتابي ولا تحمل دية المجوسي لأنها دون الثلث ولا دية الجنين إن مات منفردا أو مات قبل موت أمه نص عليه أحمد لأنه دون الثلث وإن مات مع أمه حملتها العاقلة نص عليه لأن وجوب ديتهما حصل في حال واحدة بجناية واحدة مع زيادتهما على الثلث فحملتها العاقلة كالدية الواحدة
فصل : وإن كان الجاني ذميا فعقله على عصبته من أهل دينه المعاهدين في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وفي الأخرى لا يتعاقلون لأن المعاقلة في حق المسلم عللا خلاف الأصل تخفيفا عنه ومعونة له فلا يلحق به الكافر لأن المسلم أعظم حرمة وأحق بالمواساة والمعونة من الذمي ولهذا وجبت الزكاة على المسلمين مواساة لفرائهم ولم تجب على أهل الذمة لفقرائهم فتبقى في حق الذمي على الأصل ووجه الرواية الأولى أنهم عصبة يرثونه فيعقلون عنه كعصبة المسلم من المسلمين ولا يعقل عنه عصبته المسلمون لأنهم لا يرثونه ولا الحربيون لأن المولاة والنصر منقطعة بينهم ويحتمل أن يعقلوا عنه إذا قلنا إنهم يرثونه لأنهم أهل دين واحد يرث بعضهم بعضا ولا يعقل يهودي عن نصراني ولا نصراني عن يهودي لأنهم لا موالاة بينهم وهم أهل ملتين مختلفتين ويحتمل أن يتعاقلا بناء على الروايتين في توارثهما
فصل : وإن تنصر يهودي أو تهود نصراني وقلنا أنه يقر عليه عقل عنه عصبته من أهل الدين الذي انتقل إليه وهل يعقل عنه الذين انتقل عن دينهم على وجهين وإن قلنا لا يقر لم يعقل عنه أحد لأنه كالمرتد والمرتد لا يعقل عنه أحد لأنه ليس بمسلم فيعقل عنه المسلمون ولا ذمي فيعقل عنه أهل الذمة وتكون جنايته في ماله وكذلك كل من لا تحمل عاقلته جنايته يكون موجبها في ماله كسائر الجنايات التي لا تحملها العاقلة
فصل : ولو رمى ذمي صيدا ثم أسلم ثم أصاب السهم آدميا فقتله لم يعقله المسلمون لأنه لم يكن مسلما حال رميه ولا المعاهدون لأنه قتله وهو مسلم فيكون في مال الجاني وهكذا لو رمى وهو مسلم ثم ارتد ثم قتل السهم إنسانا لم يعقله أحد ولو جرح ذمي ذميا ثم أسلم الجارح ومات المجروح وكان أرش جراحه يزيد على الثلث فعقله على عصبته من أهل الذمة وما زاد على أرش الجرح لا يحمله أحد ويكون في مال الجاني كما ذكرنا وإن لم يكن أرش الجرح مما تحمله العاقلة فجميع الدية على الجاني وكذلك الحكم إذا جرح مسلما ثم ارتد ويحتمل أن تحمل الدية كلها العاقلة في المسألتين لأن الجناية وجدت وهو ممن تحل العاقلة جنايته ولهذا وجب القصاص في المسألة الأولى إذا كان عمدا ويحتمل أن لا تحمل العاقلة شيئا لأن الأرش إنما يستقر باندمال الجرح أو سرايته (9/503)
فصل حكم جناية أحد أولاد المعتقة
فصل : إذا تزوج عبد معتقه فأولدها أولادا فولاؤهم لمولى أمهم وإن جنى أحدهم فالعقل على مولى أمه لأنه عصبته ووراثه فإن أعتق أبوه ثم سيرت الجناية أو رمى بسهم فلم يقع السهم حتى اعتق أبوه لم يحمل عقله أحد لأن موالي الأم قد زال ولاؤهم عنه قبل قتله وموالي الأب لم يكن لهم عليه ولاء حال جنايته فتكون الدية عليه في ماله إلا أن يكون أرش الجرح ما تحمله العاقلة منفردا فيخرج فيه مثل ما قلنا في المسألة التي قبلها (9/510)
فصلجناية الرجل على نفسه خطأ
فصل : وإن جنى الرجل على نفسه خطأ أو على أطرافه ففيه روايتان قال القاضي : أظهرها أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه أو أرش جرحه لنفسه إذا كان أكثر من الثلث وهذا قول الأوزاعي و إسحاق لما روي أن رجلا ساق حمارا فضربته بعصا كانت معه فطارت منها شظية ففقأت عينه فجعل عمر ديته على عاقلته وقال : هي يد ن أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد ولم نعرف له مخالفا في عصره ولأنها جناية خطأ فكان عقلها على عاقلته كما لو قتل غيره فعلى هذه الرواية إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شيء لأنه لا يجب للإنسان شيء على نفسه وإن كان بعضهم وارثا سقط عنه ما يقابل نصيبه وعليه ما زاد على نصيبه وله ما بقي إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه
والرواية الثانية : جناية هدر وهذا قول أكثر أهل العلم منهم ربيعة و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وهي أصح لأن عامر بن الأكوع بارز مرحبا يوم خيبر فرجع سيفه على نفسه فمات ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى فيه بدية ولا غيرها ولو وجبت لبينه النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه جنى على نفسه فلم يضمنه غيره كالعمد ولأن وجوب الدية على العاقلة إنما كان مواساة للجاني وتخفيفا عنه وليس على الجاني ههنا على شيء يحتاج إلى الإعانة والمواساة فيه فلا وجه لإيجابه ويفارق هذا ما إذا كانت الجناية على غيره فإنه لو لم تحمله العاقلة لأجحف به وجوب الدية لكثرتها
فأما إن كانت الحناية على نفسه شبه عمد فهل تجري مجرى الخطأ ؟ على وجهين : أحدهما : هي كالخطأ لأنها تساويه فيما إذا كانت على غيره والثاني : لا تحمله العاقلة لأنه رلا عذر له فأشبه العمد المحض (9/510)
فصل الدية في خطأ الامام والحاكم
فصل : وأما خطأ الإمام والحاكم في غير الحكم والاجتهاد فهو على عاقلته بغير خلاف إذا كان مما تحمله العاقلة وما حصل باجتهاده ففيه روايتان : إحداها : على عاقلته أيضا لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث إلى امرأة ذكرت بسوء فأجهضت جنينها فقال عمر لعلي : عزمت عليكم لا تبرح حتى تقسمها على قومك ولأنه جان فكان خطؤه على عاقلته كغيره والثانية : هو في بيت المال وهو مذهب الأوزاعي و الثوري و أبي حنيفة و إسحاق لأن الخطأ يكثر في أحكامه واجتهاده فإيجاب عقله على عاقلته يجحف بهم ولأنه نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله فكان أرش جنايته في مال الله سبحانه ولـ لشافعي قولان كالروايتين (9/511)
مسألة وفصول تعلق أرش جناية العبد برقبته وأخذ الجاني بجنايات بعضها بعد بعض
مسألة : قال : وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته
هذا في الجناية التي تودى بالمال إما لكونها لا توجب إلا المال وإما لكونها موجبة للقصاص فعفا عنها إلى المال فإن جناية العبد تتعلق برقبته إذ لا يخلو من أن تتعلق برقبته أو ذمته سيده أو لا يجب شيء ولا يمكن إلغاؤها لأنها جناية آدمي فيجب اعتبارها كجناية الحر ولأن جناية الصغير والمجنون غير ملغاة مع عذره وعدم تكليفه فجناية العبد أولى ولا يمكن تعلقها بذمته لأنه يفضي إلى إلغائها أو تأخير حق المجني عليه إلى غير غاية ولا بذمة السيد لأنه لم يجن فتعين تعلقها برقبة العبد ولأن الضمان موجب جنايته فتتعلق برقبته كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمته فما دون أو أكثر فإن كان بقدرها فما دون فالسيد مخير بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه وبهذا قال الثوري ومحمد بن الحسن و إسحاق وروي ذلك عن الشعبي و عطاء و عروة و الحسن و الزهري و حماد لأنه إن دفع أرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه وإن سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق به ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها وإن طالب المجني عليه بتسليمه إليه وأبى ذلك سيده لم يجبر عليه لما ذكرنا وإن دفع السيد عبده فأبى الجاني قبوله وقال بعه وادفع إلي ثمنه فهل يلزم السيد ذلك ؟ على روايتين وأما إن كانت الجناية أكثرمن قيمته ففيه روايتان : إحداهما : أن سيده يخير بين أن يفديه أو أرش جنايته وبين أن يسلمه لأنه إذا أدى قيمته فقد أدى قدر الواجب عليه فإن حق المجني عليه لا يزيد على العبد فلم يلزمه أكثر من ذلك كما لو كانت الجناية بقدر قيمته
والرواية الثانية : يلزمه تسليمه إلا أن يفديه بأرش جنايته بالغة ما بلغت وهذا قول مالك لأنه ربما إذا عرض للبيع رغب فيه راغب بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه ولـ لشافعي قولان كالروايتين ووجه الرواية الأولى أن الشرع قد جعل له فداءه فكان له فداؤه وكان الواجب قدر قيمته كسائر المتلفات
فصل : فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فعفا ولي الجناية على أن يملك العبد لم يملكه بذلك لأنه إذا لم يملكه بالجناية فلأن لا يملكه بالعفو أولى ولأنه أحد من عليه القصاص فلا يملكه بالعفو كالحر ولأنه إذا عفا عن القصاص انتقل حقه إلى المال فصار كالجاني جناية موجبة للمال وفيه رواية أخرى أنه يملكه لأنه مملوك استحق إتلافه فاستحق إبقاءه على ملكه كعبده الجاني عليه
فصل : قال أبو طالب : سمعت أبا عبد الله يقول : إذا أمر غلامه فجنى فعليه ما جنى وإن كان أكثر من ثمنه إن قطع يد حر فعليه دية يد الحر وإن كان ثمنه أقل وإن أمره سيده أن يخرج رجلا فما جنى فعليه قيمة جنايته وإن كانت أكثر من ثمنه لأنه بأمره وكان علي وأبو هريرة يقولان : إذا أمر عبده أن يقتل فإنما هو سوطه ويقتل المولى ويحبس العبد وقال أحمد : حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة حدثنا قتادة عن خلاس أن عليا قال : إذا أمر الرجل عبده فقتل إنما هو كسوطه أو كسيفه يقتل المولى والعبد يستودع السجن ولأنه فوت شيئا بأمره فكان على السيد ضمانه كما لو استدان بأمره
فصل : فإن جنى جنايات بعضها بعد بعض فالجاني بين أولياء الجنايات بالحصص وبهذا قال الحسن و حماد و ربيعة وأصحاب الرأي و الشافعي وروي عن شريح أنه قال : يقضى به لآخرهم وبه قال الشعبي و قتادة لأنها جناية وردت على محل مستحق فقدم صاحبها على المستحق قبله كالجناية على المملوك الذي لم يجن وقال شريح في عبد شج رجلا ثم آخر فقال شريح : يدفع إلى الأول إلا أن يفديه مولاه ثم يدفع إلى الثاني ثم يدفع إلى الثالث إلا أن يفديه الأوسط
ولنا أنهم تساووا في سبب تعلق الحق به فتساووا في الأستحقاق كما لو جنى عليهم دفعة واحدة بل لو قدم بعضهم كان الأول أولى لأن حقه أسبق ولا يصح القياس على الملك فإن حق المجني عليه أقوى بدليل أنهما لو وجدا دفعة قدم حق المجني عليه ولأن حق المجني عليه ثبت بغير رضا صاحبه عوضا وحق المالك ثبت برضاه أو بغير عوض فافترقا
فصل : إن أعتق السيد عبده الجاني عتق وضمن ما تعلق به من الأرش لأنه أتلف محل الجناية على من تعلق حقه به فلزمه غرامته كما لو قتله وينبني قدر الضمان على الروايتين فيما إذا اختار إمساكه بعد الجناية لأنه امتنع من تسليمه بإعتاقه فهو بمنزلة امتناعه من تسليمه باختيار فدائه ونقل ابن منصور عن أحمد أنه إن أعتقه عالما بجنايته فعليه الدية يعني دية المقتول وإن لم يكن عالما بجنايته فعليه قيمة العبد وذلك لأنه إذا أعتقه مع العلم كان مختارا لفدائه بخلاف ما إذا لم تعلم فإنه لم يختر الفداء لعدم علمه به فلم يلزمه أكثر من قيمة ما فوته
فصل : فإن باعه ووهبه صح بيعه لما ذكرنا في البيع ولم يزل تعلق الجناية عن رقبته فإن كان المشتري عالما بحاله فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وينتقل الخيار في فدائه وتسليمه إليه كالسيد الأول وإن لم يعلم فله الخيار بين إمساكه ورده كسائر المعيبات (9/512)
مسائل وفصول من هم العاقلة كيفية تحمل الدية للعاقلة وتحمل بيت المال لمن ليس له عاقلة
مسألة : قال : والعاقلة العمومة وأولادهم وإن سفلوا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله والرواية الأخرى الأب والابن والإخوة وكل العصبة من العاقلة
العاقلة من يحمل العقل والعقل الدية تسمى عقلا لأنها تعقل لسان ولي المقتول وقيل إنما سميت العاقلة لأنهم يمنعون عن القاتل والعقل المنع ولهذا سمي بعض العلوم عقلا لأنه يمنع من الإقدام على المضار ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة العصبات وأن غيرهم من الإخوة من الأم وسائر ذوي الأرحام والزوج وكل من عدا العصبات ليسوا هم من العاقلة واختلف في الآباء والبنين هل هم من العاقلة أو لا وعن أحمد في ذلك روايتان : إحداهما : كل العصبة من العاقلة يدخل فيه آباء القاتل وأبناؤه وإخوته وعمومته وأبناؤهم وهذا اختيار أبي بكر والشريف أبي جعفر وهو مذهب مالك و أبي حنيفة لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن عقل المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها ] رواه أبو داود ولأنهم عصبة فأشبهوا الإخوة يحققه أن العقل موضوع على التناصر وهم من أهله ولأن العصبة في تحمل العقل كهم في الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب وآباؤه وأبناؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا بتحمل عقله
والرواية الثانية : ليس آباؤه وأبناؤه من العاقلة وهو قول الشافعي لما روى أبو هريرة قال : [ اقتتلت امرأتان هذيل فرمت إحدهما الأخرى فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم ] متفق عليه [ وفي رواية ثم ماتت القاتلة فجعل النبي صلى الله عليه و سلم ميراثها لبنيها والعقل على العصبة ] رواه أبو داود و النسائي وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال : [ فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها قال : فقالت عاقلة المقتولة : ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ميراثها لزوجها وولدها ] رواه أبو داود
إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لأنه في معناه ولأن مال ولده ووالده كماله ولهذا لم تقبل شهادتهما له ولا شهادته لهما ووجب على كل واحد منهما الإنفاق على الآخر إذا كان محتاجا والآخر موسرا وعتق عليه إذا ملكه فلا تجب في ماله دية كما لم يجب في مال القاتل وظاهر كلام الخرقي أن في الإخوة روايتين كالولد والوالد وغيره من أصحابنا يجعلونهم من العاقلة بكل حال ولا أعلم فيه عن غيرهم خلافا
فصل : فإن كان الولد ابن ابن عم أو كان الوالد والد مولى أو عصبة مولى فإنه يعقل في ظاهر كلام أحمد قاله القاضي وقال أصحاب الشافعي : لا يعقل لأنه والد أو ولد فلم يعقل كما لو لم يكن كذلك
ولنا أنه ابن ابن عم أو مولى فيعقل كما لو يكن ولدا وذلك لأنه هذه القرابة أو الولاء سبب يستقل بالحكم منفردا فإذا وجد مع ما لا يثبت به الحكم أثبته كما لو وجد مع الرحم المجرد ولأنه يثبت حكمه مع القرابة الأخرى بدليل أنه يلي نكاحها مع أن الابن لا يلي النكاح عندهم
فصل : وسائر العصبات من العاقلة بعدوا أو قربوا من النسب والمولى عصبته ومولى المولى وعصبته وغيرهم وبهذا قال عمر بن عبد العزيز و النخعي و حماد و مالك و الشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنهم عصبة يرثون المال إذا لم يكن وارث أقرب منهم فيدخلون في العقل كالقريب ولا يعتبر أن يكونون وارثين في الحال بل متى كانوا يرثون لولا الحجب عقلوا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا لا يرثون منها إلا ما فضل عن ورثتها ولأن الموالي من العصبات فأشبهوا المناسبين
فصل : ولا يدخل في العقل من ليس بعصبة ولا يعقل المولى من أسفل وبه قال أبو حنيفة وأصحاب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه : يعقل لأنهما شخصان يعقل أحدهما صاحبه فيعقل الآخر عنه كالأخوين ولنا أنه ليس بعصبة له ولا وارث فلم يعقل عنه كالأجنبي وما ذكروه يبطل بالذكر مع الأنثى والكبير مع الصغير والعاقل مع المجنون
فصل : ولا يعقل مولى الموالاة وهو الذي يوالي رجلا يجعل له ولاءه ونصرته ولا الحليف وهو الرجل يحالف الآخر على أن يتناصرا على دفع الظلم ويتضافرا على من قصدهما أو قصد أحدهما ولا العديد وهو الذي لا عشيرة له ينضم إلى عشيرة فيعد نفسه معهم وبهذا قال الشافعي وقال أبوحنيفة : يعقل مولى الموالاة ويرث وقال مالك : إذا كان الرجل في غير عشيرته فعقله على القوم الذي هو معهم ولنا أنه معنى يتعلق بالعصبة فلا يستحق بذلك كولاية النكاح
فصل : ولا مدخل لأهل الديوان في المعاقلة وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يتحملون جميع الدية فإن عدموا فالأقارب حينئذ يعقلون لأن عمر رضي الله عنه جعل الدية على أهل الديوان في الأعطية في ثلاث سنين [ ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالدية على العاقلة ولأنه معنى لا يستحق به الميراث فلم يحمل العقل كالجوار ] واتفاق المذاهب وقضاء النبي صلى الله عليه و سلم أولى من قضاء عمر على أنه صح ما ذكر عنه فيحتمل أنهم كانوا عشيرة القاتل
فصل : ويشترك في العقل الحاضر والغائب وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك : يختص به الحاضر لأن التحمل بالنصرة وإنما هي بين الحاضرين ولأن في قيمته على الجميع مشقة وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا الخبر وأنهم استووا في التعصيب والإرث فاستووا في تحمل العقل كالحاضرين ولأنه معنى يتعلق بالتعصيب فاستوى فيه الحاضر والغائب كالميراث والولاية
فصل : ويبدأ في قسمته بين العاقلة بالأقرب فالأقرب يقسم على الإخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم ثم أعمام الأب ثم بنيهم ثم أعمام الجد ثم بنيهم كذلك أبدا حتى إذا انقرض المناسبون فعلى المولى المعتق ثم على عصابته ثم على مولى المولى ثم على عصباته الأقرب فالأقرب كالميراث سواء وإن قلنا للآباء والأبناء من العاقلة بدىء بهم لأنهم أقرب ومتى اتسعت أموال قوم للعقل لم يعدهم إلى من بعدهم لأنه حق يستحق بالتعصيب فيقدم الأقرب فالأقرب كالميراث وولاية النكاح وهل يقدم من يدلي بالأبوين على من يدلي بالأب ؟ على وجهين :
أحدهما : يقدم لأنه يقدم في الميراث فقدم في العقل كتقديم الأخ على ابنه والثاني : يستويان لأن ذلك يستفاد بالتعصيب ولا أثر للأم في التعصيب والأول أولى إن شاء الله تعالى لأن قرابة الأم تؤثر في الترجيح والتقديم وقوة التعصيب لاجتماع القرابتين على وجه لاتنفرد كل واحدة بحكم وذلك لأن القرابتين تنقسم إلى ما تنفرد كل واحدة منهما بحكم كابن العم إن كان أخا من أم فإنه يرث بكل واحدة من القرابتين ميراثا مفردا يرث السدس بالأخوة ويرث بالتعصيب ببنوة العم وحجب إحدى القرابتين لا يؤثر في حجب الأخرى فهذا لا يؤثر في قوة ولا ترجيح ولذلك لا يقدم ابن العم الذي هوأخ من أم على غيره وما لا ينفرد كل واحد منهما بحكم كابن العم من أبوين مع ابن عم من أب لا تنفرد إحدى القرابتين بميراث عن الأخرى فتؤثر في الترجيح وقوة التعصيب ولذلك أثرت في التقديم في الميراث فكذلك في غيره وبما ذكروه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يسوى بين القريب والبعيد ويقسم على جميعهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل دية المقتولة على عصبة القاتلة
ولنا أنه حكم تعلق بالتعصيب فوجب أن يقدم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث والخبر لا حجة فيه لأننا نقسمه على الجماعة إذا لم يف به الأقرب فنحمله على ذلك
فصل : ولا يحمل العقل إلا من يعرف نسبه من القاتل أو يعلم أنه من قوم يدخلون كلهم في العقل ومن لا يعرف ذلك منه لا يحمل وإن كان من قبيلته فلو كان القاتل قرشيا لم يلزم قريشا كلهم التحمل فإن قريشا وإن كانوا كلهم يرجعون إلى أب واحد إلا أن قبائلهم تفرقت وصار كل قوم ينتسبون إلى أب يتميزون به فيعقل عنهم من يشاركهم في نسبهم إلى الأب الأدنى ألا ترى أن الناس كلهم بنو آدم فهم أجمعون إلى أب واحد ؟ لكن إن كان من فخذ واحد يعلم أن جميعهم يتحملون وجب أن يحمل جميعهم سواء عرف أحدهم نسبه أو لم يعرف للعلم بأنه متحمل على أي وجه كان وإن لم يثبت نسب القاتل من أحد فالدية في بيت المال لأن المسلمين يرثونه إذا لم يكن له وارث بمعنى أنه يؤخذ ميراثه لبيت المال فكذلك يعقلونه على هذا الوجه وإن وجد له من يحمل بعض العقل فالباقي في بيت المال كذلك
فصل : ولا خلاف بين أهل العلم في أن العاقلة لا تكلف من المال ما يجحف بها ويشق عليها لأنه لازم لها من غير جنايتها على سبيل المواساة للقاتل والتخفيف عنه فلا يخفف عن الجاني بما يثقل على غيره ويجحف به كالزكاة ولأنه لو كان الإجحاف مشروعا كان الجاني أحق به لأنه موجب جنايته وجزاء فعله فإذا لم يشرع في حقه ففي حق غيره أولى واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم فقال أحمد : يحملون على قدر ما يطيقون فعلى هذا لا يتقدر شرعا وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذي وهذا مذهب مالك لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ولا يثبت بالرأي والتحكم ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات وعن أحمد رواية أخرى أنه يفرض على الموسر نصف مثقال لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة فكان معتبرا بها ويجب على المتوسط ربع مثقال لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لا تقطع اليد في الشيء التافه وما دون ربع دينار لا قطع فيه وهذا اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : أكثر ما يجعل على الواحد أربعة دراهم وليس لأقله حد لأن ذلك مال يجب على سبيل المواساة للقرابة فلم يتقدر أقله كالنفقة قال : ويسوى بين الغني والمتوسط لذلك والصحيح الأول لما ذكرنا من أن التقدير إنما يصار إليه بتوقيف ولا توقيف فيه إنه يختلف بالغنى والتوسط كالزكاة والنفقة ولا يختلف بالقرب والبعد كذلك واختلف القائلون بالتقدير بنصف دينار وربعه قال بعضهم : يتكرر الواجب في الأعوام الثلاثة فيكون الواجب فيها على الغني دينارا ونصفا وعلى المتوسط ثلاثة أرباع دينار لأنه حق يتعلق بالحول على سبيل المواساة فيتكرر بتكرر الحول كالزكاة وقال بعضهم : لا يتكرر لأن في إيجاب زيادة على النصف إيجابا لزيادة على أقل الزكاة فيكون مضرا ويعتبر الغنى والتوسط عند رأس الحول لأنه حال الوجوب فاعتبر الحال عنده كالزكاة وإن اجتمع من عدد العاقلة في درجة واحدة عدد كثير قسم الواجب على جميعهم فيلزم الحاكم كل إنسان على حسب ما يراه وإن قل وعلى الوجه الآخر يجعل على المتوسط نصف ما على الغني ويعم بذلك جميعهم وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : يخص الحاكم من شاء منهم فيفرض عليهم هذا القدر الواجب لئلا ينقص عن القدر الواجب ويصير إلى الشيء التافه ولأنه يشق فربما أصاب كل واحد قيراط فيشق جمعه
ولنا أنهم استووا في القرابة فكانوا سواء كما لو قلوا وكالميراث وأما التعليق بمشقة الجمع فغير صحيح لأن مشقة زيادة الواجب أعظم من مشقة الجمع ثم هذا تعلق بالحكمة من غير أصل يشهد لها فلا يترك لها الدليل ثم هي معارضة بخفة الواجب على كل واحد وسهولة الواجب عليهم ثم لا يخلو من أن يخص الحاكم بعضهم بالاجتهاد أو بغير اجتهاد فمن خصه بالاجتهاد فعليه فيه مشقة وربما لم يحصل له معرفة الأولى منهم بذلك فيتعذر الإيجاب وإن خصه بالتحكم أفضى إلى أنه يخير بين أن يوجب على إنسان شيئا بشهوته من غير دليل وبين أن لا يوجب عليه ولا نظير له وربما ارتشى من بعضهم وربما امتنع من فرض عليه شيء من أدائه لكونه يرى مثله لا يؤدي شيئا مع التساوي من كل الوجوه
فصل : ومن مات من العاقلة أو افتقر أو جن قبل الحلول لم يلزمه شيء ولا نعلم في هذا خلافا لأنه مال يجب في آخر الحول على سبيل المواساة فأشبه الزكاة وإن وجد ذلك بعد الحول لم يسقط الواجب وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يسقط بالموت لأنه خرج عن أهلية الوجوب فأشبه ما لو مات قبل الحول
ولنا أنه حق تدخله النيابة لا يملك إسقاطه في حياته فأشبه الديون وفارق ما قبل الحول لأنه لم يجب ولم يستمر الشرط إلى حين الوجوب فأما إن كان فقيرا حال القتل فاستغنى عند الحول فقال القاضي : يجب عليه لأنه وجد وقت الوجوب وهو من أهله ويخرج على هذا من كان صبيا فبلغ أو مجنونا فأفاق عند الحول وجب عليه كذلك ويحتمل أن لا يجب لأنه لم يكن من أهل الوجوب حالة السبب فلم يثبت الحكم فيه حالة الشرط كالكافر إذا ملك مالا ثم اسلم عند الحول لم تلزمه الزكاة فيه
مسألة : قال : وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة ولا صبي ولا زائل العقل حمل شيء من الدية
أكثر أهل العلم على أنه لا مدخل لأحد من هؤلاء في تحمل العقل قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان مع العاقلة وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء وهذا قول مالك و الشافعي واصحاب الرأي وحكى بعض أصجابنا عن مالك و أبي حنيفة أن للفقير مدخلا في التحمل وذكره أبو الخطاب رواية عن أحمد لأنه من أهل النصرة فكان من العاقلة كالغني والصحيح الأول لأن تحمل العقل مواساة فلا يلزم الفقير كالزكاة ولأنها وجبت على العاقلة تخفيفا عن القاتل فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه وتكليف له مالا يقدر عليه ولأننا أجمعنا على أنه لا يكلف أحد من العاقلة ما يثقل عليه ويجحف به وتحميل الفقير شيئا منها يثقل عليه ويجحف بماله وربما كان الواجب عليه جميع ماله أو أكثر منه أو لا يكون له شيء أصلا وأما الصبي والمجنون والمرأة فلا يحملون منها لأن فيها معنى التناصر وليس هم من أهل النصرة
فصل : ويعقل المريض إذا لم يبلغ حد الزمانة والشيخ إذا لم يبلغ حد الهرم لأنهما من أهل النصرة والمواساة وفي الزمن والشيخ الفاني وجهان :
أحدهما : لا يعقلان لأنهما ليسا من أهل النصرة ولهذا لا يجب عليهما الجهاد ولا يقتلان إذا كانا من أهل الحرب وكذلك يخرج في الأعمى لأنه مثلهما في هذا المعنى
والثاني : يعقلون لأنهم من أهل المواساة ولهذا تجب عليهم الزكاة وهذا ينتقض بالصبي والمجنون ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا
مسألة : قال : ومن لم يكن له عاقلة أخذ من بيت المال فإن لم يقدر على ذلك فليس على القاتل شيء والكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أن من لا عاقلة له هل يؤدي من بيت المال أو لا ؟ فيه روايتان : إحداهما : يؤدى عنه وهو مذهب الزهري و الشافعي ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر من بيت المال ] وروي أن رجلا قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله فقال علي لعمر : يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرىء مسلم فأدى ديته من بيت المال ولأن المسلمين يرثون من لا وارث له فيعقلون عنه عند عدم عالقته كعصباته ومواليه
والثانية : لا يجب ذلك لأن بيت المال فيه حق للنساء والصبيان والمجانين والفقراء ولا عقل عليهم فلا يجوز صرفه فيما لا يجب عليهم ولأن العقل على العصبات وليس بيت المال عصبة ولا هو كعصبة هذا فأما قتيل الأنصار فغير لازم لأن ذلك قتيل اليهود وبيت المال لا يعقل عن الكفار بحال وإنما النبي صلى الله عليه و سلم تفضل عليهم وقولهم إنهم يرثونه قلنا ليس صرفه إلى بيت المال ميراثا بل هو فيء ولهذا يؤخذ مال من لا وارث له من أهل الذمة إلى بيت المال ولا يرثه المسلمون ثم لا يجب العقل على الوارث إذا لم يكن عصبة ويجب على العصبة وإن لم يكن وارثا فعلى الرواية الأولى إذا لم يكن له عاقلة أديت الدية عنه كلها من بيت المال وإن كان عاقلة لا تجعل الجميع أخذ الباقي من بيت المال وهل تؤدى من بيت المال في دفعة واحدة أو في ثلاث سنين ؟ على وجهين : أحدهما : في ثلاث سنين على حسب ما يؤخذ من العاقلة والثاني : يؤدي دفعة واحدة وهذا أصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم أدى دية الأنصاري دفعة واحدة وكذلك عمر ولأن الدية بدل متلف لا تؤديه العاقلة فيجب كله في الحال كسائر بدل المتلفات وإنما أجل على العاقلة تخفيفا عنهم ولا حاجة إلى ذلك في بيت المال ولهذا يؤدى الجميع (9/515)
مسألة حكم الدية إن لم تحملها العاقلة ولم تؤد من بيت المال
الفصل الثاني : إذا لم يمكن الأخذ من بيت المال فليس على القاتل شيء وهذا أحدقولي الشافعي لأن الدية لزمت العاقلة ابتداء بدليل أنه لا يطالب بها غيرهم ولا يعتبر تحملهم ولا رضاهم بها ولا تجب على غير من وجبت عليه كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد كذا ههنا فعلى هذا إن وجد بعض العاقلة حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحد ويتخرج أن تجب الدية على القاتل إذا تعذر حملها عنه وهذا القول الثاني لـ لشافعي لعموم قوله : { ودية مسلمة إلى أهله } ولأن قضية الدليل وجوبها على الجاني جبرا للمحل الذي فوته وإنما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحل فإذا لم يؤخذ ذلك بقي واجبا عليه بمقتضى الدليل ولأن الأمر دائر بين أن يطل دم المقتول وبين إيجاب ديته على المتلف لا يجوز الأول لأن فيه مخالفة الكتاب والسنة وقياس أصول الشريعة فتعين الثاني ولأن إهدار الدم المضمون لا نظير له وإيجاب الدية على قتل الخطأ له نظائر فإن المرتد لما لم يكن له عاقلة تجب الدية في ماله والذمي الذي لا عاقلة له تلزمه الدية ومن رمى سهما ثم أسلم أو كان مسلما فارتد أو كان عليه الولاء لموالي أمه فانجر إلى موالي أبيه ثم أصاب بسهم إنسانا فقتله كانت الدية في ماله لتعذر حمل عاقلته عقله كذلك ههنا فنحرر منه قيسا فنقول : قتيل معصوم في دار الإسلام تعذر حمل عاقلته عقله فوجب على قالته كهذه الصورة وهذا أولى من إهدار دماء الأحرار في أغلب الأحوال فإنه لا يكاد يوجد عاقلة تحمل الدية كلها ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال فتضيع الدماء ويفوت حكم إيجاب الدية وقولهم إن الدية تجب على العاقلة ابتداء ممنوع وإنما تجب على القاتل ثم تحملها العاقلة عنه وإن سلمنا وجوبها عليهم ابتداء لكن مع وجودهم أما مع عدمهم فلا يمكن القول بوجوبها عليهم ثم ما ذكروه منقوص بما أبديناه من الصور فعلى هذا تجب الدية على القاتل إن تعذر حمل جميعها أو باقيها إن حملت العاقلة بعضها والله أعلم (9/526)
مسألتان وفصل دية الكتابي
مسألة : قال : ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم ونساؤهم على النصف من دياتهم
هذا ظاهر المذهب وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وعروة و مالك و عمرو بن شعيب وعن أحمد أنها ثلث دية المسلم إلا أنه رجع عنها فإن صالحا روى عنه أنه قال : كنت أقول : دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم حديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي يرويه الزهري عن سالم عن أبيه وهذا صريح في الرجوع عنه وروي عن عمر وعثمان أن ديته أربعة آلاف درهم وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و عكرمة و عمرو بن دينار و الشافعي و إسحاق و أبو ثور لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف ] وروي عن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة درهم وقال علقمة و مجاهد و الشعبي و النخعي و الثوري و أبو حنيفة : ديته كدية المسلم وروى ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود ومعاوية رضي الله عنهم وقال ابن عبد البر وهو قول سعيد بن المسيب و الزهري لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ دية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم ] ولأن الله تعالى ذكر في كتابه دية المسلم فقال : { ودية مسلمة إلى أهله } وقال في الذمي مثل ذلك ولم يفرق فدل على أن ديتهما واحدة ولأنه ذكر حر معصوم فتكمل ديته كالمسلم
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ دية المعاهد نصف دية المسلم ] وفي لفظ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى أن عقل الكتابي عقل المسلم ] رواه الإمام أحمد وفي لفظ [ دية المعاهد نصف دية الحر ] قال الخطابي : ليس في دية أهل الكتاب شيء أثبت من هذا ولا بأس بإسناده وقد قال به أحمد وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أولى ولأنه نقص مؤثر في الدية فأثر في تنصيفها كالأنوثة وأما حديث عبادة فلم يذكره أهل السنن والظاهر أنه ليس بصحيح وأما حديث عمر فإنما كان ذلك حين كانت الدية ثمانية آلاف فأوجب فيها نصفها أربعة آلاف ودليل ذلك ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ودية أهل الكتاب يومئذ النصف فهذا بيان وشرح مزيل للإشكال ففيه جمع للأحاديث فيكون دليلا لنا ولو لم يكن كذلك لكان قول النبي صلى الله عليه و سلم مقدما على قول عمر و غيره بغير إشكال فقد كان عمر إذا بلغه عن النبي صلى الله عليه و سلم سنة ترك قوله وعمل بها فكيف يسوغ لأحد أن يحتج بقوله في ترك قول رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فأما ما احتج به الآخرون فإن الصحيح من حديث عمرو بن شعيب ما رويناه أخرجه الأئمة في كتبهم دون ما رووه وأما ما رووه من أقوال الصحابة فقد روي عنهم خلافه فنحمل قولهم في إيجاب الدية كاملة على سبيل التغليظ قال أحمد : إنما غلظ عثمان الدية عليه لأنه كان عمدا فلما ترك القود غلظ عليه وكذلك حديث معاوية ومثل هذا ما روي عن عمر رضي الله عنه حين انتحر رقيق حاطب ناقة لرجل مزني فقال لحاطب إني أراك تجيعهم لأغرمنك غرما يشق عليك فأغرمه مثلي قيمتها فأما ديات نسائهم فعلى النصف من دياتهم لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ولأنه لما كان دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم كذلك نساء أهل الكتاب على النصف من دياتهم
فصل : وجراحاتهم من دياتهم كجراح المسلمين من دياتهم وتغلظ دياتهم باجتماع الحرمات عند من يرى تغليظ ديات المسلمين بها كتغليظ ديات المسلمين قال حرب : قلت لأبي عبد الله : فإن قتل ذميا في الحرم ؟ قال : يزاد أيضا على قدره كما يزاد على المسلم وقال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : جنى على مجوسي في عينه وفي يده ؟ قال : يكون بحساب ديته كما أن المسلم يؤخذ بالحساب فكذلك هذا قيل : قطع يده قال بالنصف من ديته
مسألة : قال : فإن قتلوه عمدا أضعفت الدية على قاتله المسلم لإزالة القود
هكذا حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه هذا يروى عن عثمان رواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلا قتل رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار فصار إليه أحمد اتباعا وله نظائر في مذهبه فإنه أوجب على الأعور لما قلع عين الصحيح دية كاملة حين درأ القصاص عنه وأوجب على سارق التمر مثلي قيمته حين درأ عنه القطع وهذا حكم النبي صلى الله عليه و سلم في سارق التمر فيثبت مثله ههنا ولو كان القاتل ذميا أو قتل ذمي مسلما لم تضعف الدية عليه لأن القصاص عليه أوجب في الموضعين وجمهور أهل العلم على أن دية الذمي لا تضاعف بالعمد لعموم الأثر فيها ولأنها دية واجبة فلم تضاعف كدية المسلم أو كما لو كان القاتل ذميا ولا فرق في الدية بين الذمي وبين المستأمن لأن كل واحد منهما كتابي معصوم الدم وأما المرتد والحربي فلا دية لهما لعدم العصمة فيهما (9/528)
مسألة وفصلان مقدار دية المجوسي وعبدة الأوثان ومن لم تبلغهم الدعوة
مسألة : قال : ودية المجوسي ثمانمائة درهم ونساؤهم على النصف
وهذا قول أكثر أهل العلم قال أحمد : ما أقل ما اختلف في دية المجوسي وممن قال ذلك عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم و سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار و عكرمة و الحسن و مالك و الشافعي و إسحاق وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] وقال النخعي و الشعبي وأصحاب الرأي : ديته كدية المسلم لأنه آدمي حر معصوم فأشبه المسلم
ولنا قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا وقوله : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] يعني في أخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا ولا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي لنقصان ديته وأحكامه عنهما فينبغي أن تنقص ديته كنقص المرأة عن دية الرجل وسواء كان المجوسي ذميا أو مستأمنا لأنه محقون الدم ونساؤهم على النصف من دياتهم بإجماع وجراح كل واحد معتبرة من ديته وإن قتلوا عمدا أضعفت الدية على القاتل المسلم لإزالة القود نص عليه أحمد قياسا على الكتابي
فصل : فأما عبدة الأوثان وسائر ممن لا كتاب له كالترك ومن عبد ما ما استحسن فلا دية لهم وإنما تحقن دماؤهم بالأمان فإذا قتل من له أمان منهم فديته دية مجوسي لأنها أقل الديات فلا تنقص عنها ولأنه كافر ذو عهد لا تحل مناكحته فأشبه المجوسي
فصل : ومن لم تبلغه الدعوة من الكفار إن وجد لم يجز قتله جتى يدعى فإن قتل قبل الدعوة من غير أن يعطى أمانا فلا ضمان فيه لأنه لا عهد له ولاأمان فأشبه امرأة الحربي وابنه الصغير وإنما حرم قتله ليبلغه الدعوة وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو الخطاب يضمن بما لا يضمن به أهل دينه وهو مذهب الشافعي لأنه محقون بالدم أشبه من له أمان والأول أولى فإن هذا ينتقض بصبيان أهل الحرب ومجانينهم ولأنه كافر لا عهد له فلم يضمن كالصبيان والمجانين فأما إذا كان له عهد فله دية أهل دينه فإن لم يعرف دينه ففيه دية المجوسي لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه (9/531)
مسألتان دية وجراح الحرة المسلمة
مسألة : قال : ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم
قال ابن المنذر وابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم أنهما قالا : ديتها كدية الرجل [ لقوله عليه السلام : في النفس مائة من الإبل ] وهذا قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي صلى الله عليه و سلم فإن في كتاب عمرو بن حزم دية المرأة على النصف من دية الرجل وهي أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد فيكون ما ذكرنا مفسرا لما ذكروه مخصصا له ودية نساء كل أهل دين على النصف من دية رجالهم على ما قدمنا في موضعه
مسألة : قال : وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى ثلث الدية فإن جاوز الثلث فعلى النصف
روي هذا عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب و عمرو بن دينار و عروة بن الزبير و الزهري و قتادة و الأعرج و ربيعة و مالك وقال ابن عبد البر : وهو قول فقهاء المدينة السبعة وجمهور أهل المدينة وحكي عن الشافعي في القديم وقال الحسن : يستويان إلى النصف وروي عن علي رضي الله عنه أنها على النصف فيما قل وكثر وروي ذلك عن ابن سيرين وبه قال الثوري و الليث و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و أبو حنيفة وأصحابه و أبو ثور و الشافعي في ظاهر مذهبه واختاره ابن المنذر لأنهما شخصان تختلف ديتهما فاختلف أرش أطرافهما كالمسلم والكافر ولأنها جناية لها أرش مقدر فكان من المرأة على النصف من الرجل كاليد وروي عن ابن مسعود أنه قال : تعاقل المرأة الرجل إلى نصف عشر الدية فإذا زاد على ذلك فهي على النصف لأنها تساويه في الموضحة
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها ] أخرجه النسائي وهو نص يقدم على ما سواه وقال ربيعة : قلت لـ سعيد بن المسيب : كم في اصبع المرأة ؟ قال عشر قلت ففي أصبعين ؟ قال عشرون قلت ففي ثلاث أصابع ؟ قال ثلاثون قلت ففي اربع ؟ قال عشرون قال : قلت لما عظمت مصيبتها قل عقلها ؟ قال : هكذا السنة يا ابن أخي وهذا مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه سعيد بن منصور ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم إذ لم ينقل عنهم خلاف ذلك إلا عن علي ولا نعلم ثبوت ذلك عنه ولأن مادون الثلث يستوي فيه الذكر والأنثى بدليل الجنين فإنه يستوي فيه الذكر والأنثى فأما الثلث نفسه فهل يستويان فيه ؟ على روايتين
إحداهما : يستويان فيه لأنه لم يعتبر حد القلة ولهذا صحت الوصية به وروي أنهما يختلفان فيه وه والصحيح ل [ قوله عليه السلام : حتى يبلغ الثلث ] وحتى للغاية فيجب أن تكون مخالفة لما قبلها لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } ولأن الثلث في حد الكثرة ل [ قوله عليه السلام : الثلث والثلث كثير ] (9/532)
فصل دية نساء بقية الأديان
فصل : فأما دية نساء سائر أهل الأديان فقال أصحابنا تساوي دياتهن ديات رجالهم إلى الثلث لعموم قوله عليه السلام : [ عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها ] ولأن الواجب دية امرأة فساوت دية الرجل من أهل دينها كالمسلمين ويحتمل أن تساوي المرأة الرجل إلى قدر ثلث دية الرجل المسلم لأنه القدر الكثير الذي يثبت فيه التنصيف في الأصل وهو دية المسلم (9/534)
فصل دية العبد والأمة وكونها قيمتها
مسألة : قال : ودية العبد والأمة قيمتها بالغة ما بلغ ذلك
قد تقدم شرح هذه المسألة فيما مضى ولا فرق في هذا الحكم بين القن من العبيد والمدبر والمكاتب وأم الولد قال الخطابي : أجمع عوام الفقهاء على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم في جناية والجناية عليه إلا إبراهيم النخعي فإنه قال : في المكاتب يؤدي بقدر ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي دية العبد وروي في ذلك شيء عن علي رضي الله عنه وقد روى أبو داود في سننه والإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا محمد بن عبد الله حدثنا هشام بن أبي عبد الله قال : حدثني يحيى بن ابي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في المكاتب يقتل أنه يودي ما أدى من كتابته دية الحر وما بقي دية العبد ] قال الخطابي : وإذا صح الحديث وجب لقول به إذا لم يكن منسوخا أو عارضا بما هو أولى منه (9/535)
مسألة وفصول دية الجنين
مسألة : قال : ودية الحنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه كأنه سقط حيا
يقال غرة عبد بالصفة وغرة عبد بالإضافة والصفة أحسن لأن الغرة اسم للعبد نفسه قال مهلهل :
( كل قتيل في كليب غره ... حتى ينال القتل إلى مره )
في هذه المسألة فصول خمسة :
الفصل الأول : أن في جنين الحرة المسلمة غرة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن الخطاب و عطاء و الشعبي و النخعي و الزهري و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي [ وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في املاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة شهدت النبي صلى الله عليه و سلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة قال لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة ] و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن دية جنينها عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم ] متفق عليه والغرة عبد أو أمة سميا بذلك لأنهما من أنفس الأموال والأصل في الغرة الخيار
فإن قيل فقد روي في هذا الخبر : [ أو فرس أو بغل ] قلنا : هذا لا يثبت رواه عيسى بن يونس ووهم فيه ؟ قاله أهل النقل والحديث الصحيح المتفق عليه إنما فيه عبد أو أمة
فأما قول الخرقي : من حرة مسلمة فإنما أراد أن جنين الحرة المسلمة لا يكون إلا حرا مسلما فمتى كان الجنين حرا مسلما ففيه الغرة وإن كان أمة كافرة أو أمة مثل أن يتزوج المسلم كتابية فإن جنينها منه محكوم بإسلامه وفيه الغرة ولا يرث منها شيئا لأنه مسلم وولد السيد من أمته وولد المغرور من أمة حر وكذلك لو وطئت الأمة بشبهة فولدها حر وفيه الغرة فأما إن كان الجنين محكوما برقه لم تجب فيه الغرة وسيأتي بيان حكمه وأما جنين الكتابية والمجوسية إذا كان محكوما بكفره ففيه عشر دية أمه وبهذا قال الشافعي و ابو ثور وأصحاب الرأي
قال ابن المنذر ولم أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأن جنين الحرة المسلمة مضمون بعشر دية أمه فكذلك جنين الكافرة إلا أن أصحاب الرأي يرون أن دية الكافرة كدية المسلم فلا يتحقق عندهم بينهما خلاف فإن كان أبوا الجنين كافرين مختلفا دينهما كولد الكتابي من المجوسية والمجوسي من الكتابية اعتبرناه بأكثرهما دية فوجب فيه عشر دية كتابية على كل حال لأن ولد المسلمة من الكافرة معتبر بأكثرهما دية كذا ههنا ولا فرق فيما ذكرناه بين كون الجنين ذكرا أو أنثى لأن السنة لم تفرق بينهما وبه يقول الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وعامة أهل العلم ولو ضرب بطن كتابية حاملا من كتابي فأسلم أحد أبويه ثم أسقطته ففيه الغرة في قول ابن حامد والقاضي وهو ظاهر كلام أحمد ومذهب الشافعي لأن الضمان معتبر بحال استقرار الجناية والجنين محكوم بإسلامه عند استقرارها وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب : فيه عشر دية كتابية لأن الجناية عليه في حال الغرة وإن ضرب بطن أمة فأعتقت ثم ألقت الجنين فعلى قول ابن حامد والقاضي : فيه غرة وفي قول أبي بكر وأبي الخطاب : فيه عشر قيمة أمه لأن الحناية عليه في حال كونه عبدا ويمكن منع كونه عبدا ويمكن منع كونه صار حرا لأن الظاهر تلفه بالجناية وبعد تلفه لا يمكن تحريره وعلى قول هذين يكون الواجب فيه لسيده وعلى قول ابن حامد : للسيد أقل الأمرين من الغرة أو عشر قيمة أمه لأن الغرة إن كانت أكثر لم يستحق الزيادة لأنها زادت بالحرية الحاصلة بزوال ملكه وإن كانت أقل لم يكن له أكثر منهما لأن النقص حصل بإعتاقه فلا يضمن له كما لو قطع يد عبد فأعتقه سيده ثم مات بسراية الجناية له أقل الأمرين من دية حر أو نصف قيمته وما فضل عن حق السيد لورثة الجنين فأما إن ضرب بطن الأمة فأعتق السيد جنينها وحده نظرت فإن أسقطته حيا لوقت يعيش مثله ففيه دية حر نص عليه أحمد وإن كان لوقت لا يعيش مثله ففيه غرة لأنه حر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر عليه عشر قيمة أمه وإن أسقطته ميتا ففيه عشر قيمة أمة لأننا لا نعلم كونه حيا حال اعتاقه ويحتمل أن تجب عليه الغرة لأن الأصل بقاء حياته فأشبه ما لو أعتق أمه
الفصل الثاني : إن الغرة إنما تجب إذا سقط من الضربة ويعلم ذلك بأن يسقط عقيب الضرب أو ببقائها متألمة إلى أن يسقط ولو قتل حاملا لم يسقط جنينها أو ضرب من في جوفها حركة أو انتفاخ فسكن الحركة وأذهبها لم يضمن الجنين وبهذا قال مالك و قتادة و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وحكي عن الزهري أن عليه الغرة لأن الظاهر أنه قتل الجنين فلزمته الغرة كما لو أسقطت
ولنا أنه لا يثبت حكم الولد إلا بخروجه ولذلك لا تصح له وصية ولا ميراث ولأن الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ولا يجب الضمان بالشك فأما إذا ألقته ميتا فقد تحقق والظاهر تلفه من الضربة فيجب ضمانه سواء ألقته في حياتها أو بعد موتها وبهذا قال الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : إن ألقته بعد موتها لم يضمنه لأنه يجري مجرى أعضائها وبموتها سقط حكم أعضائها
ولنا أنه جنين تلف بجنايته وعلم ذلك بخروجه فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها ولأنه لو سقط حيا ضمنه فكذلك إذا سقط ميتا كما لو أسقطته في حياتها وما ذكروه ليس بصحيح لأنه لو كان كذلك لكان إذا سقط ميتا ثم ماتت لم يضمنه كأعضائها ولأنه آدمي موروث فلا يدخل في ضمان أمخ كما لو خرج حيا فأما إن ظهر بعضه من بطن أمه ولم يخرج باقيه ففيه الغرة وبه قال الشافعي وقال مالك و ابن المنذر : لا تجب الغرة حتى تلقيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أوجب الغرة في الجنين الذي ألقته المرأة وهذه لم تلق شيئا أشبه ما لو لم يظهر منه شيء
ولنا أنه قاتل لجنينها فلزمته الغرة كما لو ظهر جميعه ويفارق ما لو لم يظهر منه شيء لأنه لم يتقين قتله ولا وجوده وكذلك إن ألقت يدا أو رجلا أو رأسا أو جزءا من أجزاء الآدمي وجبت الغرة لأنا تيقنا أنه من جنين وإن ألقت رأسين أو اربع أيد لم يجب أكثر من غرة لأن ذلك يجوز أن يكون من جنين واحد ويجوز أن يكون من جنينين فلم تجب الزيادة مع الشك لأن الأصل براءة الذمة وكذلك لم يجب ضمانه إذا لم يظهر فإن أسقطت ما ليس فيه صورة آدمي فلا شيء فيه لأنا لا نعلم أنه جنين وإن ألقت مضغة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية ففيه غرة وإن شهدت أنه مبتدأ خلق آدمي لو بقي تصور ففيه وجهان : أصحهما : لا شيء فيه لأنه لم يتصور فلم يجب فيه كالعلقة ولأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك والثاني : فيه غرة لأنه مبتدأ خلق آدمي أشبه ما لو تصور وهذا يبطل بالنطفة والعلقة
الفصل الثالث : إن الغرة عبد أو أمة وهذا قول أكثر أهل العلم وقال عروة و طاوس و مجاهد : عبد أو أمة أو فرس لأن الغرة اسم لذلك وقد جاء في حديث أبي هريرة قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في الجنين بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل ] وجعل ابن سيرين مكان الفرس مائة شاة ونحوه قال الشعبي [ لأنه روي في حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه جعل في ولدها مائة شاة ] رواه أبو داود وروي عن عبد الملك بن مروان أنه قضى في الجنين إذا أملص بعشرين دينارا فإذا كان مضغة فأربعين فإذا كان عظما فستين فإذا كان العظم قد كسي لحما فثمانين فإن تم خلقه وكسي شعره فمائة دينار قال قتادة : إذا كان علقة فثلث غرة وإذا كان مضغة فثلثا غرة
ولنا قضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في إملاص المرأة بعبد أو أمة وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قاضية على ما خالفها وذكر الفرس والبغل في الحديث وهم انفرد به عيسى بن يونس عن سائر الرواة فالظاهر أنه وهم فيه وهو متروك في البغل بغير خلاف وكذلك في الفرس وهذا الحديث الذي ذكرناه أصح ما روي فيه وهو متفق عليه وقد قال به أكثر أهل العلم فلا يلتفت إلى ما خالفه وقول عبد الملك بن مروان تحكم بتقدير لم يرد به الشرع وكذلك قتادة وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق بالاتباع من قولهما إذا ثبت هذا فإنه تلزمه الغرة فإن أراد دفع بدلها ورضي المدفوع إليه جاز لأنه حق آدمي فجاز ما تراضيا عليه وأيهما امتنع من قبول البدل فله ذلك لأن الحق فيها فلا يقبل بدلها إلا برضاهما وتجب الغرة سالمة من العيوب وإن قل العيب لأنه حيوان وجب بالشرع فلم يقبل فيه المعيب كالشاة في الزكاة لأن الغرة الخيار والمعيب ليس من الخيار ولا يقبل فيها هرمة ولا ضعيفة ولا خنثى ولا خصي وإن كثرت قيمته لأن ذلك عيب ولا يتقدر سنها في ظاهر كلام الخرقي وهو قول أبي حنيفة وقال القاضي وأبو الخطاب وأصحاب الشافعي : لا يقبل فيها من له دون سبع سنين لأنه يحتاج إلى من يكلفه له ويحضنه وليس من الخيار وذكر بعض أصحاب الشافعي لأنه لا يقبل فيها غلام بلغ خمس عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء ولا ابنة عشرين لأنها تتغير وهذا تحكم لم يرد الشرع به فيجب أن لا يقبل وما ذكروه من الحاجة إلى الكفالة باطل بمن له فوق السبع ولأن بلوغه قيمة الكبير مع صغره يدل على أنه خيار ولم يشهد لما ذكروه نص ولا له نظير يقاس عليه والشاب البالغ أكمل من الصبي عقلا وبنية وأقدر على التصرف وأنفع في الخدمة وقضاء الحاجة وكونه لا يدخل على النساء أن أريد به النساء الأجنبيات بلا حاجة إلى دخوله عليهن وإن أريد به سيدته فليس بصحيح فإن الله تعالى قال : { ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم } ـ إلى قوله { ليس عليكم ولا عليهم جناح } { طوافون عليكم بعضكم على بعض } ثم لو لم يدخل على النساء لحصل من نفعه أضعاف ما يحصل من دخوله وفوات شيء إلى ما هو أنفع منه لا يعد فواتا كمن اشترى بدرهم ما يساوي عشرة لا يعد فواتا ولا خسرانا ولا يعتبر لون الغرة وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أن الغرة لا تكون إلا بيضاء ولا يقبل عبد أسود ولا جارية سوادء
[ ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بعبد أو أمة وأطلق مع غلبة السواد على عبيدهم وإمائهم ولأنه حيوان يجب دية فلم يعتبر لونه كالإبل في الدية ]
الفصل الرابع : أن الغرة قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل روي ذلك عن عمر وزيد رضي الله عنهما وبه قال النخعي و الشعبي و ربيعة و قتادة و مالك و الشافعي و إسحاق وأصحاب الرأي ولأن ذلك أقل ما قدره الشرع في الجنايات وهو أرش الموضحة ودية السن فرددناه إليه فإن قيل فقد وجب في الأنملة أبعرة وثلث وذلك دون ما ذكرتموه قلنا : الذي نص عليه صاحب الشريعة غرة قيمتها أرش الموضحة وهو خمس من الإبل وإذا كان أبوا الجنين كتابيين ففيه غرة قيمتها نصف قيمة الغرة الواجبة في المسلم وفي جنين المجوسية غرة قيمتها أربعون درهما وإذا تعذر وجود غرة بهذه الدراهم وجبت الدراهم لأنه موضع حاجة وإذا اتفق نصف عشر الدية من الأصول كلها بأن تكون قيمتها خمسا من الإبل وخمسين دينارا أو ستمائة درهم فلا كلام وإن اختلفت قيمة الإبل فنصف عشر الدية من غيرها مثل أن كانت قمية الإبل أربعين دينارا أو أربعمائة درهم فظاهر كلام الخرقي أنها تقوم بالإبل لأنها الأصل وعلى قول غيره من أصحابنا تقوم بالذهب أو الورق فجعل قيمتها خمسين دينارا أو ستمائة درهم فإن اختلفا قومت على أهل الذهب به وعلى أهل الورق به فإن كان من أهل الذهب والورق جميعا قومها من هي عليه بما شاء منهما لأن الخيرة إلى الجاني في دفع ما شاء من الأصول ويحتمل أن تقوم بأدناهما على كل حال لذلك وإذا لم يجد الغرة انتقل إلى خمس من الإبل على قول الخرقي وعلى قول غيره ينتقل إلى خمسين دينارا أو ستمائة درهم
الفصل الخامس : أن الغرة موروثة عن الجنين كأنه سقط حيا لأنها دية له وبدل عنه فيرثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة وبهذا قال مالك و الشافعي واصحاب الرأي وقال الليث : لا تورث بل تكون بدله لأنه لأمه كعضو من أعضائها فأشبه يدها
ولنا أنها دية آدمي حر فوجب أن تكون موروثة عنه كما لو ولدته حيا ثم مات وقوله : إنه عضو من أعضائها لا يصح لأنه لو كان عضوا لدخل بدله في دية أمه كيدها ولما منع من القصاص من أمه وإقامة الحد عليها من أجله ولما وجبت الكفارة بقتله ولما صح عتقه دونها ولا عتقها دونه ولا تصور حياته بعد موتها ولأن كل نفس تضمن بالدية تورث كدية الحي فعلى هذا إذا أسقطت جنينا ميتا ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثته وإن ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث أحدهما صاحبه وإن خرج حيا ثم مات قبلها ثم ماتت فإنها ترث نصيبها من ديته ثم يرثها ورثتها وإن ماتت قبله ثم ألقته ميتا لم يرث أحدهما صاحبه وإن خرج حيا ثم ماتت قبله ثم مات أو ماتت ثم خرج حيا ثم مات ورثها ثم يرثه ورثته وإن اختلف وراثهما في أولهما موتا فحكمهما حكم الغرقى على ما ذكر في موضعه ويجيء على قول الخرقي في المسألة التي ذكرها إذا ماتت امرأة وابنها أن يحلف ورثة كل واحد منهما ويختصوا بميراثه وإن ألقت جنينا ميتا أو حيا ثم مات ثم ألقت آخر حيا ففي الميت غرة وفي الحي الأول دية كاملة إذا كان سقوطه لوقت يعيش مثله ويرثهما الآخر ثم يرثه ورثته إن مات وإن كانت الأم قد ماتت بعد الأول وقبل الثاني فإن دية الأول ترث منها الأم والجنين الثاني ثم إذا ماتت الأم ورثها الثاني ثم يصير ميراثه لورثته وإن ماتت الأم بعدهما ورثتهما جميعا
فصل : وإذا ضرب بطن امرأة فألقت أجنة ففي كل واحد غرة وبهذا قال الزهري و مالك و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر قال : ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه ضمان آدمي فتعدد بتعدده كالديات وإن ألقتهم أحياء في وقت يعيشون في مثله ثم ماتوا ففي كل واحدة دية كاملة وإن كان بعضهم حيا فمات وبعضهم ميتا ففي الحي وفي الميت غرة
فصل : وتحمل العاقلة دية الحنين إذا مات مع أمه نص عليه أحمد إذا كانت الجناية عليها خطأ أو شبه عمد لما روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة على عصبة القاتلة وإن كان قتل الأم عمدا أو مات الجنين وحده لم تحمله العاقلة وقال الشافعي : تحمله العاقلة على كل حال بناء على قوله إن العاقلة تحمل القليل والكثير والجناية على الجنين ليست بعمد لأنه لا يتحقق وجوده ليكون مقصودا بالضرب
ولنا أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث على ما ذكرناه وهذا دون الثلث وإذا مات وحده أو من جناية عمد فدية أمه على قاتلها فكذلك ديته لأن الجناية لا يحمل بعض ديتها الجاني وبعضها غيره فيكون الجميع على القاتل كما لو قطع عمدا فسرت الجناية إلى النفس (9/536)
مسألة وفصول دية الجنين إذا كان مملوكا ودية جنين المدبرة ومن وطئها بشبيهة
مسألة : قال : وإن كان الجنين مملوكا ففيه عشر قيمة أمه سواء كان الجنين ذكرا أو أنثى
وجملة ذلك أنه إذا كان جنين الأمة مملوكا فسقط من الضربة ميتا ففيه عشر قيمة أمه هذا قول الحسن و قتادة و مالك و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وبنحوه قال النخعي و الزهري وقال زيد بن أسلم : يجب فيه نصف عشر غرة وهو خمسة دنانير وقال الثوري و أبو حنيفة واصحابه : يجب فيه نصف عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان أنثى لأن الغرة واجبة في جنين الحرة نصف عشر دية الجرل وعشر دية الأنثى وهذا متلف فاعتباره بنفسه أولى من اعتبار بأمه ولأنه جنين مضمون تلف بالضربة فكان فيه نصف عشر الواجب فيه إذا كان ذكرا كبيرا وعشر الواجب إذا كان أنثى كجنين الحرة وقال محمد بن الحسن : مذهب أهل المدينة يفضي إلى أن يجب في الجنين الميت أكثر من قيمته إذا كان حيا
ولنا أنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف ضمانه بالذكورية والأنوثة كجنين الحرة ودليلهم نقلبه عليهم فنقول جنين مضمون تلف بالجناية فكان الواجب فيه عشر ما يجب في أمه كجنين الحرة وما ذكروه من مخالفة الأصل معارض بأن مذهبهم يفضي إلى تفضيل الأنثى على الذكر وهو خلاف الأصول ولأنه لو اعتبر بنفسه لوجبت قيمته كلها كسائر المضمونات بالقيمة ولأن مخالفتهم أشد من مخالفتنا لأننا اعتبرناه إذا كان ميتا بأمه وإذا كان حيا بنفسه فجاز أن تزيد قيمة الميت على الحي مع اختلاف الجهتين كما جاز أن يزيد البعض على الكل في أن من قطع أطراف إنسان الأربعة كان الواجب عليه أكثر من دية النفس كلها وهم فضلوا الأنثى على الذكر مع اتحاد الجهة وأوجبوا فيما يضمن بالقيمة عشر قيمته تارة ونصف عشرها أخرى وهذا لا نظير له إذا ثبت هذا فإن قيمة أمه معتبرة يوم الجناية عليها وهذا منصوص الشافعي وقال بعض أصحابه : تقوم حين أسقطت لأن الاعتبار في ضمان الجناية بالاستقرار ويتخرج لنا وجه كذلك
ولنا أنه لم يتخلل بين الجناية وحال الاستقرار ما يوجب تغيير بدل النفس فكان الاعتبار بحال الجناية كما لو جرح عبدا ثم نقصت السوق لكثرة الجلب ثم مات فإن الاعتبار بقيمته يوم الجناية ولأن قيمتها تتغير بالجناية وتنقص فلم تقوم في حال نقصها الحاصل بالجناية كما لو قطع يدها فماتت من سرايتها أو قطع يدها فمرضت بذلك ثم اندملت جراحتها
فصل : وولد المدبرة والمكاتبة والمعتقة بصفة وأم الولد إذا حملت من غير مولاها حكمه حكم ولد الأمة لأنه مملوك ولا تحمل العاقلة شيئا من ذلك لأن العاقلة لا تحمل عبدا بحال فأما جنين المعتق بعضها فهو كهي فيه من الحرية مثل ما فيها فإذا كان نصفها حرا فنصفه حر فيه نصف غرة لورثته وفي النصف الباقي نصف عشر قيمة أمه لسيده
فصل : وإن وطىء أمة بشبهة أو غير بأمه فتزوجها وأحبلها فضربها ضارب فألقت جنينا فهو حر وفيه غرة موروثة عنه لورثته وعلى الواطىء عشر قيمتها لسيدها لأنه لولا اعتقاد الحرية لكان هذا الجنين مملوكا لسيده على ضاربه عشر قيمة أمه فلما انعتق بسبب الوطء فقد حال بين سيدها وبين هذا القدر فألزمناه ذلك للسيد سواء كان بقدر الغرة أو أكثر منها أو أقل
فصل : إذا سقط جنين ذمية قد وطئها مسلم وذمي في طهر واحد وجب فيه اليقين وهو ما في جنين الذمي فإن ألحق بعد ذلك بالذمي فقد وفى ما عليه وإن ألحق بمسلم فعليه تمام الغرة وإن ضرب نصرانية فأسقطت وادعت أو ادعى ورثته أنه من مسلم حملت به من وطء شبهة أو زنا فاعترف الجاني فعليه غرة كاملة وإن كان مما تحمله العاقلة فاعترف أيضا فالغرة عليها وإن أنكرت حلفت وعليها ما في جنين الذميين والباقي على الجاني لأنه ثبت باعترافه والعاقلة لا تحمل اعترافا وإن اعترفت العاقلة دون الجاني فالغرة عليها مع دية أمه وإن أنكر الجاني والعاقلة فالقول قولهم مع إيمانهم أننا لا نعلم أن هذا الجنين من مسلم ولا تلزمهم اليمين على البت لأنها يمين على النفي في فعل الغير فإذا حلفوا وجبت دية ذمي لأن الأصل أن ولدها تابع لها ولأن الأصل براءة الذمة وإن كان مما لا تحمله العاقلة فالقول قول الجاني وحده مع يمينه ولو كانت النصرانية امرأة مسلم فادعى الجاني أن الجنين من ذمي بوطء شبهة أو زنا فالقول قول ورثة الجنين لأن الجنين محكوم بإسلامه فإن الولد للفراش
فصل : وإذا كانت الأمة بين شريكين فحملت بمملوك فضربها أحدهما فاسقطت فعليه كفارة لأنه أتلف آدميا ويضمن لشريكه نصف عشر قيمة أمه ويسقط ضمان نصيبه لأنه ملكه وإن أعتقها الضارب بعد ضربها وكان معسرا ثم اسقطت عتق نصيبه منها ومن ولدها وعليه لشريكه نصف عشر قيمة الأم وعليه نصف غرة من أجل النصف الذي صار حرا يورث عنه بمنزلة مال الجنين ترث أمه منه بقدر ما فيها من الحرية
والباقي لباقي ورثته هذا قول القاضي : وقياس قول أبي بكر وأبي الخطاب : لا يجب على الضارب ضمان ما أعتقه لأنه حين الجناية لم يكن مضمونا عليه والاعتبار في الضمان بحال الجناية وهي الضرب ولهذا اعتبرنا قيمة الام حال الضرب وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وهذا أصح إن شاء الله لأن إتلاف حصل بفعل غير مضمون فأشبه ما لو جرح حربيا فأسلم ثم مات بالسراية ولأن موته يحتمل أن يكون قد حصل بالضرب فلا يتجدد ضمانه بعد موته والأصل براءة ذمته وإن كان المعتق موسرا سرى العتق إليها وإلى جنينها وفي الضمان الوجهان فعلى قول القاضي في الجنين غرة موروثة عنه وعلى قياس قول أبي بكر عليه ضمان نصيب شريكه من الجنين بنصف عشر قيمة أمه ولا يضمن أمه لأنه قد ضمنها بإعتاقها فلا يضمنها بتلفها وإن كان المعتق الشريك الذي لم يضرب وكان معسرا فلا ضمان على الشريك في نصيبه لأن العتق لم يسر إليه وعليه في نصيب شريكه بنصف عشر قيمة أمه يكون لسيده إعتبارا بحال الجناية وكذلك الحكم في ضمان الأم إذا ماتت من الضربة وإن كان المعتق موسرا سرى العتق إليهما وصارا حرين وعلى المعتق ضمان نصف الأم ولا يضمن نصف الجنين لأنه يدخل في ضمان الأم كما يدخل في بيعها وعلى الضارب ضمان الجنين بغرة موروثة عنه على قول القاضي وعلى قياس قول أبي بكر يضمن نصيب الشريك بنصف عشر قيمة أمه وليس عليه نصيبه لأنه ملكه حال الجناية عليه وأما ضمان الأم ففي أحد الوجهين فيها دية حرة لسيدها منها أقل الأمرين من ديتها أو قيمتها وعلى الآخر يضمنها بقيمتها لسيدها كما تقدم من قطع يد عبد ثم أعتق ومات
فصل : ولو ضرب بطن أمته ثم أعتقها ثم أعتقها ثم أسقطت جنينا ميتا لم يضمنه في قياس قول أبي بكر لأن جنايته لم تكن مضمونة في ابتدائها فلم يضمن سرايتها كما لو جرح مرتدا فأسلم ثم مات ولأن موت الجنين يحتمل أنه حصل بالضربة في مملوكة ولم يتجدد بعد العتق ما يوجب الضمان وعلى قول ابن حامد : عليه غرة لا يرث منها شيئا لأن اعتبار الجناية بحال استقرارها ولو كانت الأمة لشريكين فضربانها ثم أعتقاها معا فوضعت جنينا ميتا فعلى قول أبي بكر على كل واحد منهما نصف عشر قيمة أمه لشريكه لأن كل واحد منهما جنى على الجنين ونصفه له فسقط عنه ضمانه ولزم ضمان نصفه الذي لشريكه بنصف عشر قيمة أمه اعتبارا بحال الجناية وعلى قول ابن حامد على كل واحد منهما نصف الغرة منها الثلث وباقيها للورثة ولا يرث القاتل منها شيئا
فصل : إذا ضرب ابن المعتقة الذي أبوه عبد بطن امرأة ثم أعتق أبوه ثم أسقطت جنينا ومات احتمل أن تكون ديتهما في مال الجاني على ما تقدم ذكره واحتل أن تكون الدية على مولى الأم وعصباته في قياس قول أبي بكر اعتبارا بحال الجناية وعلى قياس قول ابن حامد : على مولى الأب وأقاربه اعتبارا بحال الإسقاط وإن ضرب ذمي بطن امرأته الذمية ثم اسلم ثم أسقطت لم تحمله عاقلته وإن ماتت معه فكذلك لأن عاقلته المسلمين لا يعقلون عنه لأنه كان حين الجناية ذميا وأهل الذمة لا يعقلون عنه لأنه حين الإسقاط مسلم ويحتمل أن يكون عقله في قياس قول أبي بكر على عاقلته من أهل الذمة اعتبارا بحال الجناية ويكون في الجنين ما يجب في الجنين الكافر لأنه حين الجناية محكوم بكفره وعلى قياس قول ابن حامد تجب غرة كاملة ويكون عقله وعقل أمه على عاقلته المسلمين اعتبارا بحال الاستقرار (9/545)
مسألة وفصول دية الجنين إذا سقط حيا ثم مات بسبب ضرب الحامل
مسألة : قال : وإن ضرب بطنها فألقت جنينا حيا ثم مات من الضربة ففيه دية حر إن كان حرا أوقيمته إن كان مملوكا إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله وهو أن يكون لستة أشهر فصاعدا
هذا قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في الجنين يسقط حيا من الضرب دية كاملة منهم زيد بن ثابت و عروة و الزهري و الشعبي و قتادة و ابن شبرمة و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وذلك لأنه مات من جنايته بعد ولادته في وقت يعيش لمثله فأشبه قتله بعد وضعه وفي هذه المسألة ثلاثة فصول :
الفصل الأول : أنه أنما يضمن بالدية إذا وضعته حيا ومتى علمت حياته وثبت له هذا الحكم سواء ثبتت باستهلاله أو ارتضاعه أو بنفسه أو عطاسه أو غيره من الأمارات التي تعلم بها حياته هذا ظاهر قول الخرقي وهو مذهب الشافعي وروي عن أحمد أنه لا يثبت له حكم الحياة إلا بالاستهلال وهذا قول الزهري و قتادة و مالك و إسحاق وروي معنى ذلك عن عمر رضي الله عنه وابن عباس و الحسن بن علي وجابر رضي الله عنهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا استهل المولود ورث وورث ] مفهومه أنه لا يرث إذا لم يستهل والاستهلال الصياح قاله ابن عباس والقاسم و النخعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان فيستهل صارخا إلا مريم وابنها ] فلا يجوز غير ما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم والأصل في تسمية الصياح استهلالا أن من عادة الناس أنهم إذا رأوا الهلال صاحوا وأراه بعضهم بعضا فسمي صياح المولود اسهلالا لأنه في ظهوره بعد خفائه كالهلال وصياحه كصياح من يتراءاه
ولنا أنه علمت حياته فأشبه المستهل والخبر يدل بمعناه وتنبيهه على ثبوت الحكم في سار الصور لأن شربه اللبن أدل على حياته من صياحه وعطاسه صوت منه كصياحه وأما الحركة والاختلاج المنفر فلا يثبت به حكم الحياة لأنه قد يتحرك الاختلاج وسبب آخر وهو خروجه من مضيق فإن اللحم يختلج سيما إذا عصر ثم ترك فلم تثبت بذلك حياته
الفصل الثاني : إنه أنما يجب ضمانه إذا علم موته بسبب الضربة ويحصل ذلك بسقوطه في الحال وموته متألما إلى أن يموت أو بقاء أمه متألمة إلى أن تسقطه فيعلم بذلك موته بالجناية كما لو ضرب رجلا فمات عقيب ضربه أو بقي ضمنا حتى مات وإن ألقته حيا فجاء آخر فقتله وكانت فيه حياة مستقرة فعلى الثاني القصاص إذا كان عمدا أو الدية كاملة وإن لم يكن فيه حياة مستقرة بل كانت حركته كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول وعليه الدية كاملة وعلى الثاني الأدب وإن وقع الجنين حيا ثم بقي زمنا سالما لا ألم به لم يضمنه الضارب لأن الظاهر أنه لم يمت من جنايته
الفصل الثالث : أن الدية الكاملة إنما تجب فيه إذا كان سقوطه لستة أشهر فصاعدا فإن كان لدون ذلك ففيه غرة كما لو سقط متألما وبهذا قال المزني وقال الشافعي : فيه دية كالة لأننا علمنا حياته وقد تلف من جنايته
ولنا أنه لم تعلم فيه حياة يتصور بقاؤه لها فلم تجب فيه دية كما لو ألقته ميتا وكالمذبوح وقولهم إننا علمنا حياته قلنا : وإذا سقط ميتا وله ستة أشهر فقد علمنا حياته أيضا
فصل : وإذا ادعت امرأة على إنسان أنه ضربها فأسقطت جنينها فأنكر الضرب فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم الضرب وإن أقر بالضرب أو قامت به بينة وأنكر أن تكون أسقطت فالقول قوله أيضا مع يمينه لأنه لا يعلم أنها أسقطت ولا تلزمه اليمين على البت لأنها يمين على فعل الغير والأصل عدمه وإن ثبت الإسقاط والضرب ببينة أو إقرار فادعى أنها أسقطته من غير ضربه نظرنا فإن كانت أسقطت عقيب ضربه فالقول قولها لأن الظاهر منه لوجوده عقيب شيء يصلح أن يكون سببا له وإن ادعى أنها ضربت نفسها أو شربت دواء أو فعل ذلك غيرها فحصل الإسقاط به فأنكرته فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل عدم ذلك وإن أسقطت بعد الضرب بأيام نظرنا فإن كانت متألمة إلى حين الإسقاط فالقول قولها وإن لم تكن متألمة فالقول قوله مع يمينه كما لو ضرب إنسانا فلم يبق متألما ولا ضمنا ومات بعد أيام وإن اختلفا في وجود التألم فالقول قوله لأن الأصل عدمه وإن كانت متألمة في بعض المدة فادعى أنها برئت وزال ألمها وأنكرت ذلك فالقول قولها لأن الأصل بقاؤه وإن ثبت إسقاطها من الضربة فادعت سقوطه حيا وانكرها فالقول قوله مع يمينه إلا أن تقوم لها بينة باستهلاله لأن الأصل عدم ذلك وإن ثبتت حياته فادعت أنه لوقت يعيش مثله وأنكرها فالقول قولها مع يمينها لأن ذلك لا يعرف إلا من جهتها ولا يمكن إقامة البينة عليه فقبل قولها فيه كانقضاء عدتها ووجود حيضها وطهرها وإن أقامت بينة باستهلاله وأقام الجاني بينة بعدم استهلاله قدمت بينتها لأنها مثبتة فتقدم على النافية لأن المثبتة معها زيادة علم وإن ادعت أنه مات عقيب إسقاطه وادعى أنه عاش مدة فالقول قولها لأن الأصل عدم حياته وإن أقام كل واحد منهما بينة بدعواه قدمت بينة الجاني لأن معها زيادة علم وإن ثبت أنه عاش مدة فادعت أنه بقي متألما حتى مات وأنكر ذلك فالقول قوله لأن الأصل عدم التألم وإن أقاما بينتين قدمت بينتها لأن معها زيادة علم ويقبل في استهلال الجنين وسقوطه وبقائه متألما وبقاء أمه متألمة قول امرأة واحدة لأنه مما لا يطلع عليه الرجال فإن الغالب أنه لا يشهد الولادة إلا النساء والاستهلال يتصل بها وهن يشهدن حال المرأة وولادتها وحال الطفل ويعرفن عالمه وأمراضه وقوته وضعفه دون الرجال وإن اعترف الجاني باستهلاله أو ما يوجب فيه دية كاملة لم تحمله العاقلة وكانت الدية في مال الجاني لأن العاقلة لا تحمل اعترافا وإن كان مما تحمل العاقلة فيه الغرة فعلى العاقلة غرة وباقي الدية في مال القاتل
فصل : وإن انفصل منها جنينان ذكر أو أنثى فاستهل أحدهما واتفقوا على ذلك واختلفوا في المستهل فقال الجاني هو الأنثى وقال وارث الجنين هو الذكر فالقول قول الجاني مع يمينه لأن الأصل عدم الاستهلال من الذكر وبراءة ذمته من الزائد على دية الأنثى فإن كان لأحدهما بينة قدم بها وإن كان لكل واحد منهما بينة وجبت دية الذكر لأن البينة قد قدمت باستهلاله والبينة المعارضة لها نافية له والإثبات مقدم على النفي فإن قيل فينبغي أن تجب دية الذكر والأنثى قلنا : لا تجب دية الأنثى لأن المستحق لها لم يدعها وهو مكذب للبينة الشاهدة بها وإن ادعى الاستهلال منهما ثبت ذلك بالبينتين وإن لم تكن بينة فاعترف الجاني باستهلال الذكر فأنكرت العاقلة فالقول قولهم مع أيمانه فإذا حلفوا كانت عليهم دية الأنثى وغرة إن كانت تحمل الغرة وعلى الضارب تمام دية الذكر وهو نصف الدية لا تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافه وإن اتفقوا على أن أحدهما استهل ولم يعرف بعينه لزم العاقلة دية الأنثى لأنها متيقنة وتمام دية الذكر مشكوك فيه والأصل براءة الذمة منه فلم يجب بالشك ويجب الغرة في الذي لم يستهل
فصل : إذا ضربها فألقت يدا ثم ألقت يدا ثم جنينا فإن كان إلقاؤهما متقاربا أو بقيت المرأة متألمة إلى أن ألقته دخلت اليد في ضمان الجنين لأن الظاهر أن الضرب قطع يده وسرى إلى نفسه فأشبه ما لو قطع يد رجل وسرى القطع إلى نفسه ثم إن كان الجنين سقط ميتا أو حيا لا يعيش لمثله ففيه غرة وإن ألقته حيا لوقت يعيش لمثله ففيه دية كاملة وإن بقي حيا فلم يمت فعلى الضارب ضمان اليد بديتها بمنزلة من قطع يد رجل فاندملت وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي : يسأل القوابل فإن قلنا إنها يد من لم تخلق فيه الحياة ففيها نصف الغرة وإن قلن يد من خلقت فيه الحياة ففيها نصف الدية
ولنا أن الجنين إنما يتصور بقاء الحياة فيه إذا كان حيا قبل ولادته بمدة طويلة أقلها شهران على ما دل عليه حديث الصادق المصدوق في أنه تنفخ فيه الروح بعد أربعة أشهر وأقل ما يبقى بعد ذلك شهران لأنه لا يحيى إذا وضعته لأقل من ستة أشهر والكلام مفروض فيما إذا لم يتخلل بين الضربة والإسقاط مدة تزيل ظن سقوطه بها فيعلم حينئذ أنها كانت بعد وجود الحياة فيه وأما أن ألقت اليد وزال الألم ثم ألقت الجنين ضمن اليد وحدها بمنزلة من قطع يدا فاندملت ثم مات صاحبها ثم ننظر فإن القته ميتا أو لوقت لا يعيش مثله في اليد نصف غرة لأن في جميعه غرة ففي يده نصف ديته وإن ألقته لوقت يعيش لمثله ثم مات أو عاش وكان بين إلقاء اليد وبين إلقائه مدة يحتمل أن تكون الحياة لم تخلق فيها أري القوابل ههنا فإن قلن أنها يد من لم تخلق فيها الحياة وجب نصف غرة وإن قلنا إنها يد من خلقت فيه الحياة ومضى له ستة أشهر ففيه نصف الدية وإن قيل إنها يد من خلقت فيه الحياة ولم تمض له ستة أشهر وجب فيه نصف غرة لأنها يد من لا يجب فيه أكثر من غرة فأشبهت يد من لم ينفخ فيه روح وإن أشكل الأمر عليهن وجب نصف الغرة لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك (9/551)
مسألة وعلى كل من ضرب ممن ذكر عتق رقبة
مسألة : قال : وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة سواء كان الجنين حيا أو ميتا
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الحسن و عطاء و الزهري و الحكم و مالك و الشافعي و إسحاق قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم أوجب على ضارب بطن المرأة تلقي جنينا الرقبة مع الغرة وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وقال أبو حنيفة : لا تجب الكفارة ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يوجب الكفارة حين أوجب الغرة ]
ولنا قول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ـ وقال ـ { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو أحدأبويه فهو محكوم بإيمانه تبعايرثه وثرته المؤمنون ولا يرث الكافر منه شيئا وإن كان من أهل الذمة فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق ولأنه نفس مضمون بالدية فوجبت فيه الرقبة كالكبير وترك ذكر الكفارة لا يمنع وجوبها ك [ قوله عليه السلام : في النفس المؤمنة مائة من الإبل ] وذكر الدية في مواضع ولم يذكر الكفارة [ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة ولم يذكر كفارة ] وهي واجبة كذا ههنا وإنما كان كذلك لأن الآية أغنت عن ذكر الكفارة في موضع آخر فاكتفي بها وإن ألقت المضروبة أجنية ففي كل جنين كفارة كما أن في كل جنين غرة أو دية وإن اشترك جماعة في ضرب امرأة فألقت أجنة فديته أو الغرة عليهم بالحصص وعلى كل واحد منهم كفارة كما إذا قتل جماعة رجلا واحدا وإن ألقت أجنة فدياتهم عليهم بالحصص وعلى كل واحد في كل جنين كفارة فلو ضرب ثلاثة بطن امرأة فألقت ثلاثة أجنة فعليهم تسع كفارات وعلى كل واحد ثلاثة (9/557)
مسألة وإذا شربت الحامل دواء فألقت
مسألة : قال : وإذا شربت الحامل دواء فألقت به جنينا فعليها غرة لا ترث منها شيئا وتعتق رقبة
ليس في هذه الجملة اختلاف بين أهل العلم نعلمه إلا ما كان من قول من لم يوجب عتق الرقبة على ما قدمنا وذلك لأنها أسقطت الجنين بفعلها وجنايتها فلزمها ضمانه بالغرة كما لو جنى عليه غيرها ولا ترث من الغرة شيئا لأن القاتل لا يرث المقتول وتكون الغرة لسائر ورثته وعليها عتق رقبة كما قدمنا ولو كان الجاني المسقط للجنين أباه أو غيره من ورثته فعليه غرة لا يرث منها شيئا ويعتق رقبة وهذا قول الزهري و الشافعي وغيرهما (9/558)
فصل حكم الجناية على البهيمة فألقت جنينها
فصل : وإن جنى على بهيمة فألقت جنينها ففيه ما نقصها في قول عامة أهل العلم وحكي عن أبي بكر أن فيه عشر قيمة أمه لأنه جناية على حيوان يملك بيعه أسقطت جنينه أشبه جنين الأمة وهذا لا يصح لأن قيمتها كبعض أعضائها والبهيمة إنما يجب في الجناية عليها قدر نقصها فكذلك في جنينها ولأن الأمة آدمية ألحقت بالأحرار في تقدير أعضائها من ديتها والبهيمة بخلاف ذلك (9/559)
مسألتان الاشتراك في القتل بالمنجنيق ونحوه
مسألة : قال : وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فرمى الحجر فقتل رجلا فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية وعلى كل واحد منهم عتق رقبة مؤمنة في ماله
أما عتق رقبة على كل واحد منهم فلا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم لأن كل واحد منهم مشارك في إتلاف آدمي معصوم والكفارة لا تتبعض فكملت في حق كل واحد منهم ثم لا يخلو من حالين : أحدهما : أن يقتل واحدا منهم والثاني : أن يقتل واحدا من غيرهم فعلى كل واحد عتق رقبة كما ذكرنا والدية على عواقلهم أثلاثا لأن العاقلة تحمل الثلث فما زاد سواء قصدوا رمي واحد بعينه أو رمي جماعة أو لم يقصدوا ذلك إلا أنهم إن لم يقصدوا قتل آدمي معصوم فهو خطأ ديته دية الخطأ وإن قصدوا رمي جماعة أو واحد بعينه فهو شبه عمد لأن قصد الواحد بعينه بالمنجنيق لا يكاد يفضي إلى إتلافه فتكون دية مغلظة على العاقلة إلا أنها في ثلاث سنين وعلى قول أبي بكر لا تحمل العاقلة دية شبه العمد فلا تحمله ههنا والثاني : أن يصيب رجلا منهم فعلى كل واحد كفارة أيضا ولا تسقط عمن أصابه الحجر لأنه شارك في قتل نفس مؤمنة والكفارة إنما تجب لحق الله تعالى فوجبت عليه بالمشاركة في نفسه كوجوبها بالمشاركة في قتل غيره وأما الدية ففيها ثلاثة أوجه : أحدها : أن على عاقلة كل واحدمنهم ثلث ديته لورثة المقتول لأن كل واحدمنهم مشارك في قتل نفس مؤمنة خطأ فلزمته ديتها كالأجانب وهذا ينبني على إحدى الروايتين في أن جناية المرء على نفسه أو أهله خطأ يحمل عقلها عاقلته
الوجه الثاني : ما قابل فعل المقتول ساقط لا يضمنه أحد لأنه شارك في إتلاف حقه فلم يضمن ما قابل فعله كما لو شارك في قتل بهيمتة أو عبده وهذا الذي ذكره القاضي في المجرد ولم يذكر غيره وهو مذهب الشافعي
الثالث : أن يلغى فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين نصفين قال أبو الخطاب : هذا قياس المذهب بناء على مسألة المتصادمين والذي ذكره القاضي أحسن وأصح في النظر وقد روي نحوه عن علي رضي الله عنه في مسألة القارضة والقابضة والواقصة قال الشعبي : وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فارن فركبت إحداهن على عتق أخرى وقرصت الثالثة المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فوقصت عنقها فماتت فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقضى بالدية أثلاثا على عواقلهن وألغى الثلث الذي قابل فعل الواقصة لأنها أعانت على قتل نفسها وهذه شبيهة بمسألتنا ولأن المقتول مشارك في القتل فلم تكمل الدية على شريكيه كما لو قتلوا واحدا من غيرهم وإن رجع الحجر فقتل اثنين من الرماة فعلى الوجه الأول تجب ديتهما على عواقلهما أثلاثا وعلى كل واحد كفارتان وعلى الوجه الثاني تجب على عاقلة الحي منهم لكل ميت ثلث ديته وعلى عاقلة كل واحد من الميتين ثلث دية صاحبه ويلغى فعله في نفسه وعلى الوجه الثالث على عاقلة الحي لكل واحد من الميتين نصف الدية ويجب على عاقلة كل واحد من الميتين نصف الدية لصاحبه
مسألة : قال : وإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في أموالهم
هذا هو الصحيح في المذهب سواء كان المقتول منهم أو من غيرهم إلا أنه إذا كان منهم يكون فعل المقتول في نفسه هدرا لأنه لا يجب عليه لنفسه شيء ويكون باقي الدية في أموال شركائه حالا لأن التأجيل في الديات إنما يكون فيما تحمله العاقلة وهذا لا تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث والقدر اللازم لكل واحد دون الثلث وذكر أبو بكر فيها رواية أخرى أن العاقلة تحملها لأن الجناية فعل واحد أوجب دية تزيد على الثلث والصحيح هو الأول لأن كل واحد منهم يختص بموجب فعله دون فعل شركائه وحمل العاقلة إنما شرع للتخفيف عن الجاني فيما يشق ويثقل وما دون الثلث يسير على ما أسلفناه والذي يلزم كل واحد أقل من الثلث وأماقوله إنه فعل واحد قلنا با أفعال لأن فعل كل واحد غير فعل الآخر وإنما موجب الجميع واحد فأشبه ما لو جرحه كل واحد جرحا فأتت النفس بجميعها إذا ثبت هذا فالضمان يتعلق بمن مد الحبال ورمى الحجر دون من وضعه في الكفة وأمسك الخشبة اعتبارا بالمباشر كمن وضع سهما في قوس رجل ورماه صاحب القوس فالضمان على الرامي دون الواضع (9/559)
فصول من سقط على غيره أو أسقطه فمات بذلك
فصل : إذا سقط رجل في بئر فسقط عليه آخر فقتله فعليه ضمانه لأنه قتله فضمنه كما لو رمى عليه حجرا ثم ينظر فإن كان عمد رمي نفسه عليه وهو مما يقتل غالبا فعليه القصاص وإن كان مما لا يقتل غالبا فهو شبه عمد وإن وقع خطأ فالدية على عاقلته مخففة وإن مات الثاني بوقوعه على الأول فدمه هدر لأنه مات بفعله وقد روى علي بن رباح اللخمي أن رجلا كان يقود أعمى فوقع في بئر فخر البصير ووقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم :
( يا أيها الناس لقيت منكرا ) ( هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا ؟ ) ( خرا معا كلاهما تكسرا )
وهذا قول ابن الزبير و شريح و النخعي و الشافعي و إسحاق ولو قال قائل : ليس على الأعمى ضمان البصير لأنه الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سبب وقوعه عليه ولذلك لو فعله قصدا لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمان الأعمى ولو لم يكن سببا لم يلزمه ضمان بقصده لكان له وجه إلا أن يكون مجمعا عليه فلا تجوز مخالفة الإجماع ويحتمل أنه إنما لم يجب الضمان على القائد لوجهين : أحدهما : أنه مأذون فيه من جهة الأعمى فلم يضمن ما تلف به كما لو حفر له بئرا في داره بإذنه فتلف بها والثاني : أنه فعل مندوب إليه مأمور به فأشبه ما لو حفر بئرا في سابلة ينتفع بها المسلمون فإنه لا يضمن ما تلف بها
فصل : فإن سقط رجل في بئر فتعلق بآخر فوقعا معا فدم الأول هدر لأنه مات من فعله وعلى عاقلته دية الثاني إن مات لأنه قتله بجذبته فإن تعلق الثاني بثالث فماتوا جميعا فلا شيء على الثالث وعلى عاقلة الثاني ديته في أحد الوجهين لأنه جذبه وباشره بالجذب والمباشرة تقطع حكم السبب كالحافر مع الدافع والثاني : ديته على عاقلة الأول والثاني نصفين لأن الأول جذب الثاني الجاذب للثالث فصار مشاركا للثاني في إتلافه
ودية الثاني على عاقلة الأول في أحد الوجهين لأنه هلك بجذبته وإن هلك بسقوط الثالث عليه فقد هلك بجذبة الأول وجذبة نفسه للثالث فسقط فعل نفسه كالمصطدمين وتجب ديته بكمالها على الأول ذكره القاضي : والوجه الثاني : يجب على الأول نصف ديته ويهدر نصفها في مقابلة فعل نفسه وهذا مذهب الشافعي ويتخرج وجه ثالث وهو وجوب نصف ديته على عاقلته لورثته كما قلنا فيما إذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فقتل الحجر أحدهم وأما الأول إذا مات بوقوعهما عليه ففيه الأوجه الثلاثة لأنه مات من جذبته وجذبة الثاني للثالث فتجب ديته كلها على عاقلة الثاني ويلغى فعل نفسه على الوجه الأول وعلى الثاني يهدر نصف ديته المقابل لفعل نفسه ويجب نصفها على الثاني وعلى الثالث يجب نصفها على عاقلته لورثته وإن جذب الثالث رابعا فمات جميعهم بوقوع بعضهم على بعض فلا شيء على الرابع لأنه لم يفعل شيئا في نفسه ولا غيره وفي ديته وجهان : أحدهما : أنها على عاقلة الثالث المباشر لجذبه والثاني : على عاقلة الأول والثاني والثالث لأنه مات من جذب الثلاثة فكانت ديته على عواقلهم وأما الأول فقد مات بجذبته وجذبة الثاني وجذبة الثالث ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه يلغى فعل نفسه وتجب ديته على عاقلة الثاني والثالث نصفين الثاني : يجب على عاقلتهما ثلثاها ويسقط ما قابل فعل نفسه والثالث : يجب ثلثها على عاقلة لورثته وأما الجاذب الثاني فقد مات بالأفعال الثلاثة وفيه هذه الأوجه المذكورة في الأول سواء وأما الثالث ففيه مثل هذه الأوجه الثلاثة ووجهان آخران : أحدهما : أن ديته بكمالها على الثاني لأنه المباشر فسقط فعل غيره بفعله والثاني : أن على عاقلته نصفها ويسقط النصف الثاني في مقابلة فعله في نفسه
فصل : وإن وقع بعضهم على بعض فماتوا نظرت فإن كان موتهم بغير وقوع بعضهم على بعض مثل أن يكون البئر عميقا يموت الواقع فيه نفس الوقوع أو كان فيه ماء يغرق الواقع فيقتله أو أسد يأكلهم فليس على بعضهم ضمان بعض لعدم تأثير فعل بعضهم في هلاك بعض وإن شككنا في ذلك لم يضمن بعضهم بعضا لأن الأصل براءة الذمة فلا نشغلها بالشك وإن كان موتهم بوقوع بعضهم على بعض فدم الرابع هدر لأن غيره لم يفعل فيه شيئا وإنما هلك بفعله وعليه دية الثالث لأنه قتله بوقوعه عليه ودية الثاني عليه وعلى الثالث نصفين ودية الأول على الثلاثة أثلاثا
فصل : وإن هلكوا بأمر في البئر مثل أسد كان فيه وكان الأول جذب الثاني والثاني جذب الثلث والثالث جذب الرابع فقتلهم الأسد فلا شيء على الرابع وديته على عاقلة الثالث في أحد الوجهين وفي الثاني على عواقل الثلاثة أثلاثا ودم الأول هدر على عاقلته دية الثاني وأما دية الثالث فعلى الثاني في أحد الوجهين وفي الآخر على الأول والثاني نصفين وهذه المسألة تسمى مسألة الزبية [ وقد روى حنش الصنعاني أن قوما من أهل اليمن حفروا زبية للأسد فاجتمع الناس على رأسها فهوى فيها واحد فجذب ثانيا فجذب الثاني ثالثا ثم جذب الثالث رابعا فقتلهم الأسد فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه فقال : للأول ربع الدية لأنه هلك فوقه ثلاثة وللثاني ثلث الدية لأنه هلك فوقه اثنان وللثالث نصف الدية لأنه هلك فوقه واحد وللرابع كمال الدية وقال : فإني أجعل الدية على من حضر رأس البئر فوفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : هو كما قال ] رواه سعيد بن منصور قال : حدثنا أو عوانة وأبو الأحوص عن سماك بن حرب عن حنش بنحو هذا المعنى قال أبو الخطاب : فذهب أحمد إلى ذلك توقيفا على خلاف القياس والقياس ما ذكرناه (9/562)
فصول ضمان القتل بالسبب كما بالمباشرة بسبب غير مشروع حفر بئر اقامة جدار مائل وصور تفريعية
فصل : ويجب الضمان بالسبب كما يجب بالمباشرة فإذا حفر بئرا في طريق لغير مصلحة المسلمين أو في ملك غيره بغيره إذنه أو وضع في ذلك حجرا أو حديدة أو صب فيه ماء أو وضع فيه قشر بطيخ أو نحوه وهلك فيه إنسان أو دابة ضمه لأنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو جنى عليه روي عن شريح أنه ضمن رجلا حفر بئرا فوقع فيها رجل فمات وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال النخعي و الشعبي و حماد و الثوري و الشافعي و إسحاق وإن وضع رجل حجرا وحفر آخر بئرا أو نصب سكينا فعثر بالحجر فوقع في البئر أو على السكين فهلك فالضمان على واضع الحجر دون الحافر وناصب السكين لأن واضع الحجر كالدافع له وإذا اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده وبهذا قال الشافعي ولو وضع رجل حجرا ثم حفر عنده آخر بئرا أو نصب سكينا فعثر بالحجر فسقط عليهما فهلك احتمل أن يكون الحكم كذلك لما ذكرنا واحتمل أن يضمن الحافر وناصب السكين لأن فعلهما متأخر عن فعله فأشبه ما لو كان زق فيه مائع وهو واقف فحل وكاءة إنسان وأماله آخر فسال ما فيه كان الضمان على الآخر منهما وإن وضع إنسان حجرا أو حديدة في ملكه أو حفر فيه بئرا فدخل إنسان بغير إذنه فهلك به فلا ضمان على المالك لأنه لم يتعد وإنما الداخل هلك بعدوان نفسه وإن وضع حجرا في ملكه ونصب أجنبي فيه سكينا أو حفر بئرا بغير إذنه فعثر رجل بالحجر فوقع على السكين أو في البئر فالضمان على الحافر وناصب السكين لتعديهما إذا لم يتعلق الضمان بواضع الحجر لانتفاء عدوانه وإن اشترك جماعة في عدوان تلف به شيء فالضمان عليهم وإن وضع اثنان حجرا وواحد حجرا فعثر بهما إنسان فهلك فالدية على عواقلهم أثلاثا في قياس المذهب وهو قول أبي يوسف لأن السبب حصل من الثلاثة أثلاثا فوجب الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم كمال لو جرحه واحد جرحين وجرحه اثنان جرحين فمات بهما وقال زفر : على الاثنين النصف وعلى واضع الحجر وحده النصف لأن فعله مساو لفعلهما وإن حفر إنسان بئرا ونصب آخر سكينا فوقع إنسان في البئر على المسكين فمات فقال ابن حامد : الضمان على الحافر لأنه بمنزلة الدافع وهذا قياس المسائل التي قبلها ونص أحمد رحمه الله على أن الضمان عليهما قال أبو بكر : لأنهما في معنى الممسك والقاتل الحافر كالممسك وناصب السكين كالقاتل فيخرج من هذا أن يجب الضمان على جميع المتسببين في المسائل السابقة
فصل : وإن حفر بئرا في ملك نفسه أو في ملك غيره بإذنه فلا ضمان عليه لأنه متعد بحفرها وإن حفرها في موات لم يضمن لأنه غير متعد بحفرها وكذلك إن وضع حجرا أو نصب شركا أو شكبة أو منجلا ليصيد بها وإن فعل شيئا من ذلك في طريق ضيق فعليه ضمان من هلك به لأنه متعد وسواء أذن له الإمام فيه أو لم يأذن فإنه ليس للإمام الإذن فيما يضر بالمسلمين ولو فعل ذلك الإمام لضمن ما تلف به لتعديه وإن كان الطريق واسعا فحفر في مكان منها ما يضر بالمسلمين فعليه الضمان كذلك وإن حفر في موضع لا ضرر فيه نظرنا فإن حفرها لنفسه ضمن ما تلف بها سواء حفرها بإذن الإمام أو غير إذنه وقال أصحاب الشافعي : إن حفرها بإذن الإمام لم يضمن لأن للإمام أن يأذن في الانتفاع بما لا ضرر فيه بدليل أنه يجوز أن يأذن في القعود فيه ويقطعه لمن يبيع فيه
ولنا أنه تلف بحفر حفرة في حق مشترك بغير إذن أهله لغير مصلحتهم فضمن كما لو لم يأذن له الإمام ولا نسلم أن للإمام أن يأذن في هذا وإنما يأذن في القعود لأن ذلك لا يدوم وتمكن إزالته في الحال فأشبه القعود في المسجد ولأن القعود جائز من غير إذن الإمام بخلاف الحفر وإن حفر البئر لنفع المسلمين مثل أن يحفره لينزل فيه ماء المطر من الطريق أو لتشرب منه المارة ونحوها فلا ضمان عليه لأنه محسن بفعله غير متعد بحفره فأشبه باسط الحصير في المسجد وذكر بعض أصحابنا أنه لا يضمن إذا كان بإذن الإمام وإن كان بغير إذنه ففيه روايتان :
إحداهما : لا يضمن فإن أحمد قال في رواية إسحاق بن إبراهيم : إذا أحدث بئرا لماء المطر ففيه نفع للمسلمين أرجو أن لا يضمن
والثانية : يضمن أومأ إليه أحمد لأنه افتأت على الإمام ولم يذكر القاضي سوى هذه الرواية والصحيح هو الأول لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ويشق استذان الإمام فيه وتعم البلوى به ففي وجوب استئذان الإمام فيه تفويت لهذه المصلحة العامة لأنه لا يكاد يوجد من يتحمل كلفة استئذانه وكلفة الحفر معا فتضيع هذه المصلحة فوجب إسقاط استئذانه كما في سائر المصالح العامة من بسط حصير في مسجد أو تعليق قنديل فيه أو وضع سراج أو رم شعث فيه وأشباه ذلك وحكم البناء في الطريق حكم الحفر فيها على ما ذكرنا من التفصيل والخلاف وهو أنه متى بناء يضر إما لكونه في طريق ضيق أو في واسع يضر المارة أو بنى لنفسه فقد تعدى ويضمن ما تلف به وإن بنى في طريق واسع في موضع لا يضر البناء فيه لنفع المسلمين كبناء مسجد يحتاج إليه للصلاة فيه في زاوية ونحوها فلا ضمان عليه وسواء في ذلك كله إذن فيه الإمام أو لم يأذن ويحتمل أن يعتبر إذن الإمام في البناء لنفع المسلمين دون الحفر لأن الحفر تدعو الحاجة إليه لنفع الطريق وإصلاحها وإزالة الطين والماء منها بخلاف البناء فجرى حفرها مجرى تنقيتها وحفر هدفة منها وقلع حجر يضر بالمارة ووضع الحصا في حفرة منها ليملأها ويسهلها بإزالة الطين ونحوه منها وتسقيف ساقيه فيها ووضع حجر في طيه فيها ليطأ الناس عليه أو يعبروا عليه فهذا كله مباح لا يضمن ما تلف به لا أعلم فيه خلافا وكذلك ينبغي أن يكون في بناء القناطر ويحتمل أن يعتبر استئذان الإمام لأن مصلحته لا يعم وجودها بخلاف غيره وإن سقف مسجدا أو فرض بارية فيه أو نصب عليه بابا أو جعل فيه رفا لينفع أهله أو علق فيه قنديلا أو بنى فيه حائطا فتلف به شيء فلا ضمان عليه وقال اصحاب الشافعي : إن فعل شيئا من ذلك بغير إذن الإمام ضمن في أحد الوجهين : وقال أبو حنيفة : يضمن إذا لم يأذن فيه الجيران
ولنا أنه فعل أحسن به ولم يتعد فيه فلم يضمن ما تلف به كمالو أذن فيه الإمام والجيران ولأن هذا مأذون فيه من جهة العرف لأن العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان فلم يجب ضمان كالمأذون فيه نطقا
فصل : وإن حفر العبد بئرا في ملك إنسان بعير إذنه أو في طريق يضرر به ثم أعتقه سيده ثم تلف بها شيء ضمنه العبد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : الضمان على سيده لأن الجناية هي الحفر في حالة رقه وكان ضمان جنايته حينئذ على سيده فلا يزول ذلك بعتقه كما لو جرح في حال رقه ثم سرى جرحه بعد عتقه
ولنا أن التلف الموجب للضمان وجد بعد إعتاقه فكان الضمان عليه كما لو اشترى سيفا في حال رقه ثم قتل به بعد عتقه وفارق ما قاسوا عليه لأن الإتلاف الموجب للضمان وجد حال رقه وههنا حصل بعد عتقه وكذلك القول في نصب حجر أو غيره من الأسباب التي يجب بها الضمان
فصل : وإذا حفر إنسان بئرا في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذنه ضمن ما تلف به جميعه وهذا قياس مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه فلو كان له شريكان لضمن ثلثي التالف لأنه تعدى في نصيب شريكيه وقال أبو يوسف عليه نصف الضمان لأنه تلف بجهتين فكان الضمان نصفين كما لو جرحه واحد جرحا وجرحه آخر جرحين
ولنا أنه متعد بالحفر فضمن الواقع فيما كما لو كان في ملك غيره والشركة أوجبت تعديه بجميع الحفر فكان موجبا لجميع الضمان ويبطل ما ذكره أبو يوسف بما لو حفره في طريق مشترك فإن له فيها حقا ومع ذلك يضمن الجميع والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض كالحكم فيما إذا حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا التصرف حتى يأذن الجميع
فصل : وإذا حفر بئرا في ملك إنسان أو وضع فيه ما يتعلق به الضمان فأبرأه المالك من ضمان ما يتلف به ففيه وجهان : أحدهما : يبرأ لأن المالك لو أذن فيه ابتداء لم يضمن ما تلف به فإذا أبرأه من الضمان وأذن فيه زال عنه الضمان كما لو اقترن الإذن بالحفر والآخر : لا ينتفي عنه الضمان لأنه سبب موجب للضمان فلا يزول حكمه بالإبراء كسائر الأسباب ولأن حصول الضمان به لكونه تعدى بحفره والإبراء لا يزيل ذلك لأن ما مضى لا يمكن تغييره عن الصفة التي وقع عليها ولأن وجوب الضمان ليس بحق للمالك الإبراء منه كما لو أبرأه غير المالك ولأنه إبراء مما لم يجب فلم يصح كالإبراء من الشفعة قبل البيع
فصل : وإن استأجره أجيرا فحفر في ملك غيره بغير إذنه وعلم الأجير ذلك فالضمان عيه وحده لأنه متعد بالحفر وليس له فعل ذلك بأجرة ولا غيرها فتعلق الضمان به كما لو أمره غيره بالقتل فقتل وإن لم يعلم فالضمان على المستأجر لأنه غره فتعلق الضمان به كالإثم وكذلك الحكم في البناء ونحوه ولو استأجر أجيرا ليحفر له في ملكه بئرا أو ليبني له فيها بناء فتلف الأجير بذلك لم يضمنه المستأجر وبهذا قال عطاء و الزهري و قتادة و أصحاب الرأي ويشبه مذهب الشافعي ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : البئر جبار ] ولأنه لم يتلفه وإنما فعل الأجير باختيار نفسه فعلا أفضى إلى تلفه فأشبه ما لو فعله تبرعا من عبد نفسه إلا أن يكون الأجير عبدا استأجره بغير إذن سيده أو صبيا بغير إذن وليه فيضمنه لأنه متعد باستعماله متسبب إلى إتلاف حق غيره
فصل : فإن حفر إنسان بئرا في ملكه فوقع فيها إنسان أو دابة فهلك به وكان الداخل دخل بغير إذنه فلا ضمان على الحافر لأنه لا عدوان منه وإن دخل بإذنه والبئر بينة مكشوفة والداخل بصير يبصرها فلا ضمان أيضا لأن الواقع هو الذي أهلك نفسه فأشبه ما لو قدم إليه سيف فقتل به نفسه وإن كان الداخل أعمى أو كانت في ظلمة لا يبصرها الداخل أو غطى رأسها فلم يعلم الداخل بها حتى وقع فيها فعليه ضمانه وبهذا قال شريح و الشعبي و النخعي و حماد و مالك وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال في الآخر : لا يضمنه لأنه هلك نفسه
ولنا أنه تلف بسببه فضمنه كما لو قدم له طعاما مسموما فأكله وبهذا ينتقض ما ذكروه وإن اختلفا فقال صاحب الدار : ما أذنت لك في الدخول وادعى ولي الهالك أنه أذن له فالقول قول المالك لأنه منكر وإن قال : كانت مكشوفة وقال الآخر كانت مغطاة فالقول قول ولي الواقع لأن الظاهر معه فإن الظاهر أنها لو كانت مكشوفة لم يسقط فيها ويحتمل أن القول قول المالك لأن الأصل براءة ذمته فلا تشتغل بالشك ولأن الأصل عدم تغطيتها
فصل : وإذا بنى في ملكه حائطا مائلا إلى الطريق أو إلى ملك غيره فتلف به شيء وسقط على شيء فأتلفه ضمنه لأنه متعد بذلك فإنه ليس له الانتفاع بالبناء في هواء ملك غيره أو هواء مشترك ولأنه يعرضه للوقوع على غيره في غير ملكه فأشبه ما لو نصب فيه منجلا يصيد به وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وإن بناه في ملكه مستويا أو مائلا إلى ملكه فسقط من غير استهدام ولا ميل فلا ضمان على صاحبه فيما تلف به لأنه لم يتعد ببنائه ولا حصل منه تفريط بابقائه وإن مال قبل وقوعه إلى ملكه ولم يتجاوزه فلا ضمان عليه لأنه بمنزلة بنائه مائلا في ملكه وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطريق أو إلى ملك إنسان أو ملك مشترك بينه وبين غيره نظرنا فإن لم يمكنه نقضه فلا ضمان عليه لأنه لم يتعد ببنائه ولا فرط في ترط نقضه لعجزه عنه فأشبه ما لو سقط من غير ميل فإن أمكنه نقضه فلم ينقضه لم يخل من حالين : أحدهما : أن يطالب بنقضه والثاني : أن لايطالب به فإن لم يطالب به لم يضمن في المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الشافعي ونحوه قال الحسن و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي لأنه بناه في ملكه والميل حادث بغير فعله فأشبه ما لو وقع قبل ميله وذكر بعض أصحابنا فيه وجها آخر أن عليه الضمان وهو قول ابن أبي ليلى و أبي ثور و إسحاق لأنه متعد بتركه مائلا فضمن ما تلف به كما لو بناه مائلا إلى ذلك ابتداء ولأنه لو طولب بنقضه فلم يفعل ضمن ما تلف ولو لم يكن ذلك موجبا للضمان لم يضمن بالمطالبة كما لو لم يكن مائلا أو كان مائلا إلى ملكه وأما إن طولب بنقضه فلم يفعل فقد توقف أحمد عن الجواب فيها وقال أصحابنا : يضمن وقد أومأ إليه أحمد وهو مذهب مالك ونحوه قال الحسن و النخعي و الثوري وقال أبو حنيفة : الاستحسان أن يضمن لأن حق الجواز للمسلمين وميل الحائط يمنعهم ذلك فلهم المطالبة بإزالته فإذا لم يزله ضمن كما لو وضع عدلا على حائط نفسه فوقع في ملك غيره فطولب برفعه فلم يفعل حتى عثر به إنسان وفيه وجه آخر : لا ضمان عليه قال أبو حنيفة : وهو القياس لأنه بناه في ملكه ولم يسقط بفعله فأشبه ما لو لم يطالبه بنقضه أو سقط قبل ميله أو لم يمكنه نقضه ولأنه لو وجب الضمان لم تشترط المطالبة كما لو بناه مائلا إلى غير ملكه فإن قلنا عليه الضمان إذا طولب فإن المطالبة من كل مسلم أو ذمي توجب الضمان إذا كان ميله إلى الطريق لأن لكل واحد منهم حق المرور فكانت له المطالبة كمالو مال الحائط إلى ملك جماعة كان لكل واحد منهم المطالبة وإذا طالب واحد فاستأجله صاحب الحائط أو أجله له الإمام لم يسقط عنه الضمان لأن الحق لجميع المسلمين فلا يملك واحد منهم إسقاطه وإن كانت المطالبة لمتسأجر الدار أو مرتهنها أو مستعيرها ومستودعها فلا ضمان عليهم لأنهم لا يملكون النقض وليس الحائط ملكا لهم وإن طولب المالك في هذه الحال فلم يمكنه استرجاع الدار ونقض الحائط فلا ضمان عليه لعدم تفريطه وإن أمكنه استرجاعها كالمعسر والمودع والراهن إذا امكنه فكاك الرهن فلم يفعل ضمن لأنه أمكنه النقض وإن كان المالك محجورا عليه لسفه أو صغر أو جنون فطولب هو لم يلزمه الضمان لأنه ليس أهلا للمطالبة وإن طولب وليه أو وصيه فلم ينقضه فالضمان على المالك لأن سبب الضمان ماله فكان الضمان عليه دون المتصرف كالوكيل مع الموكل وإن كان الملك مشتركا بين جماعة فطولب أحدهم بنقضه احتمل وجهين : أحدهما : لا يلزمه شيء لأنه لا يمكنه نقضه بدون إذنهم فهو كالعاجز عن نقضه
والثاني : يلزمه بحصته لأنه يتمكن من النقض بمطالبة شركائه وإلزامهم النقض فصار بذلك مفرطا وأما إن كان ميل الحائط إلى ملك آدمي معين إما واحد وإما جماعة فالحكم على ما ذكرنا إلا أن المطالبة للمالك أو ساكن الملك الذي مال إليه دون غيره وإن كان لجماعة فأيهم طالب وجب النقض بمطالبته كما لو طالب واحد بنقض المائل إل الطريق إلا أنه متى طالب ثم أجله صاحب الملك أو ابرأه منه أو فعل ذلك ساكن الدار التي مال إليها جاز لأن الحق له وهو يملك إسقاطه وإن مال إلى درب غير نافذ فالحق لأهل الدرب والمطالبة لهم لأن الملك لهم ويلزم النقض بمطالبة أحدهم ولا يبرأ بإبرائه وتأجيله إلا أن يرضى بذلك جميعهم لأن الحق لجيمعهم
فصل : وإذا تقدم إلى صاحب الحائط بنقضه فباعه مائلا فلا ضمان على بائعه لأنه ليس بملك له ولا على المشتري لأنه لم يطالب بنقضه وكذلك إن وهبه وأقبضه وإن قلنا بلزوم الهبة زال الضمان عنه بمجرد العقد وإذا وجب الضمان وكان التالف به آدميا فالدية على عاقلته فإن أنكرت عاقلته كون الحائط لصاحبهم لم يلزمهم العقل إلا أن يثبت ذلك ببينة لأن الأصل عدم الوجوب عليهم فلا يجب بالشك وإن اعترف صاحب الحائط لزمه الضمان دونهم لأن العاقلة لا تحمل اعترافا وكذلك إن أنكروا مطالبته بنقضه فالحكم على ما ذكرنا وإن كان الحائط في يد صاحبهم وهو ساكن في الدار لم يثبت بذلك الوجوب عليه لأن دلالة ذلك على الملك من جهة الظاهر لا تثبت به الحقوق وإنما ترجح به الدعوى
فصل : وإن لم يمل الحائط لكن تشقق فإن لم يخش سقوطه لكون شقوقه بالطول لم يجب نقضه وكان حكمه في هذا حكم الصحيح لأنه لم يخف سقوطه فأشبه الصحيح وإن خيف وقوعه مثل ان تكون شقوقه بالعرض فحكمه حكم المائل لأنه يخاف منه التلف فأشبه المائل (9/565)
فصل حكم ما لو أخرج إلى الطرق النافذ جناحا فسقط على شيء
فصل : وإذا أخرج إلى الطريق النافذ جناحا أو ساباطا فسقط أو شيء منه على شيء فأتلفه فعلى المخرج ضمانه وقال أصحاب الشافعي : إن وقعت خشبة ليست مركبة على حائطه وجب ضمان ما أتلفت وإن كانت مركبة على حائطه وجب نصف الضمان لأنه تلف بما وضعه على ملكه وملك غيره فانقسم الضمان عليهما
ولنا أنه تلف بما أخرجه إلى حق الطريق فضمنه كما لو بنى حائطه مائلا إلى الطريق فأتلف أو أقام خشبة في ملكه مائلة إلى الطريق أو كما لو سقطت الخشبة التي ليست موضوعة على الحائط ولأنه إخراج يضمن به البعض فضمن به الكل كالذي ذكرنا ولنه تلف بعدوانه فضمنه كما لو وضع البناء على أرض الطريق والدليل على عدوانه وجوب ضمان البعض ولو كان مباحا لم يضمن به كسائر المواضع التي يجب الضمان فيها ولأننا لم نعلم موضعا يجب الضمان كله ببعض الخشبة ويجب نصف بجميعها وإن كان إخراج الجناح إلى درب غير نافذ بغير إذن أهله ضمن ما أتلفه وإن فعل ذلك بإذنهم فلا ضمان عليه لأنه مباح له غير متعد فيه (9/576)
فصل حكم ما لو أخرج ميزابا إلى الطريق فسقط على إنسان
فصل : وإن أخرج ميزابا إلى الطريق فسقط على إنسان أو شيء فأتلفه ضمنه وبهذا قال أبو حنيفة وحكي عن مالك أنه لا يضمن مما أتلفه لأنه غير متعد بإخراجه فلم يضمن ما تلف به كما لو أخرجه إلى ملكه وقال الشافعي : إن سقط كله فعليه نصف الضمان لأنه تلف بما وضعه على ملكه وملك غيره وإن انقصف الميزاب فسقط منه ما خرج عن الحائط ضن جميع ما تلف به لأنه كله في غير ملكه
ولنا ما سبق في الجناح ولا نسلم أن إخراجه مباح فإنه أخرج إلى هواء ملك غيره شيئا يضر به فأشبه ما لو أخرجه إلى ملكه آدمي معين بغير إذنه فأما إن أخرج إلى ملك آدمي معين شيئا من جناح أو ساباط أو ميزاب أو غيره فهو متعد ويضمن ما تلف به لا أعلم فيه خلافا (9/577)
فصل ضمان ما تتلفه دواب الركوب
فصل : وإذا بالت دابته في طريق فزلق به حيوان فمات فقال أصحابنا : على صاحب الدابة الضمان إذا كان راكبا لها أو قائدا أو سائقا لها لأنه تلف حصل من جهة دابته التي يده عليها فأشبه ما لو جنت بيدها أو فمها وقياس المذهب أنه لا يضمن ما تلف بذلك لأنه لا بد له على ذلك ولا يمكن التحرز منه فلم يضمن ما تلف به كما لو أتلفت برجلها وكما لو لم يكن له يد عليها ويفارق هذا ما أتلفت بيدها وفمها لأنه يمكنه حفظهما (9/577)
فصلان القتل بالتسبب المشروع
فصل : وإذا وضع جرة على سطحه أو حائطه أو حجرا فرمته الريح على إنسان فقتله أو شيء أتلفه لم يضمن لأن ذلك من غير فعله ووضعه له كان في ملكه ويحتمل أن يضمن إذا وضعها متطرفة لأنه نسب إلى إلقائها وتعدى بوضعها فأشبه من بنى حائطه مائلا
فصل : وإن سلم ولده الصغير إلى السابح ليعلمه السباحة فغرق فالضمان على عاقلة السابح لأنه سلمة إليه ليحتاط في حفظه فإذا غرق نسب إلى التفريط في حفظه وقال القاضي : قياس المذهب أن لا يضمنه لأنه فعل ماجرت العادة به لمصلحته فلم يضمن ما تلف به كما إذا ضرب المعلم الصبي ضربا معتادا فتلف به فأما الكبير إذا غرق فليس على السابح شيء إذا لم يفرط لأن الكبير في يد نفسه لا ينسب التفريط في هلاكه إلى غيره (9/578)
فصول ضمان ما ينشأ عن الترويع
فصل : وإذا طلب إنسانا بسيف مشهور فهرب منه فتلف في هربه ضمنه سواء وقع من شاهق أو انخسف به سقف أو خر في بئر أو لقيه سبع فافترسه أو غرق في ماء أو احترق بالنار وسواء كان المطلوب صبيا أو كبيرا أعمى أو بصيرا عاقلا أ ومجنونا وقال الشافعي : لا يضمن البالغ العاقل البصير إلا أن يخسف به سقف فإن فيه وفي الصغير والمجنون والأعمى قولين لأنه هلك بفعل نفسه فل يضمنه الطالب كما لو لم يطلبه
ولنا أنه هلك بسبب عدوانه فضمنه كما لو حفر له بئرا أو نصب سكينا أو سم طعامه ووضعه في منزله وما ذكره يبطل بهذه الأصول ولأنه تسبب إلى إهلاكه فأشبه كا لو انخفست من تحته سقف أو كان صغيرا أو مجنونا وإن طلبه بشيء يخفيه به كالليث ونحوه فحكمه حكم ما لو طلبه بسيف مشهور لأنه في معناه
فصل : ولو شهر سيفا في وجه إنسان أو دلاه من شاهق فمات من روعته أو ذهب عقله فعليه ديته وإن صاح بصبي أو مجنون صيحة شديدة فخر من سطح أو نحوه فمات أو ذهب عقله أو تغفل عاقلا فصاح به فأصابه ذلك فعليه ديته تحملها العاقلة فإن فعل ذلك عمدا فهو شبه عمد وإلا فهو خطأ ووافق الشافعي في الصبي وله في البالغ قولان ولنا أنه سبب إتلافه فضمنه كالصبي
فصل : وإن قدم إنسانا إلى هدف يرميه الناس فأصابه سهم من غير تعمد فضمانه على عاقلة الذي قدمه لأن الرامي كالحافر والذي قدمه كالدافع فكان الضمان على عاقلته وإن عمد الرامي رميه فالضمان عليه لأنه مباشر وذاك متسبب فأشبه الممسك والقاتل وإن لم يقدمه أحد فالضمان على الرامي وتحمله عاقلته إن كان خطأ لأنه قتله (9/578)
فصل ضمان الجناية بشهادة الزور
فصل : وإن شهد رجلان على رجل بجرح أو قتل أو سرقة قد توجب القطع أو زنا يوجب الرجم أو الجلد ونحو ذلك فاقتص منه أو قطع بالسرقة أو حد فأفضى إلى تلفه ثم رجعا عن لاشهادة لزمهما ضمان ماتلف بشهادتهما كالشريكين في الفعل ويكون الضمان في مالهما لا تحمله عاقلتهما لأنها لا تحمل اعترفا وهذا يثبت باعترافهما
وقد روي عن علي رضي الله عنه أن شاهدين شهدا عنده على رجل بالسرقة فقطعه ثم أتيا بآخر فقالا : يا أمير المؤمنين ليس ذاك السارق إنما هذا هو السارق فأغرمهما دية الأول وقال : لو علت أنكما تعمدتما لقطعتكما ولم يقبل قولهما في الثاني وإن أكره رجل رجلا على قتل إنسان فقتله فصار الأمر إلى الدية فهي عليهما لأنهما كالشريكين ولهذا وجب القصاص عليهما ولو أكره رجل امرأة فزنى بها فحملت فماتت من الولادة ضمنها لأنها ماتت بسبب فعله وتحملها العاقلة إلا أن لا يثبت ذلك إلا باعترافه فتكون الدية عليه لأن العاقلة لا تحمل اعترافا (9/579)
فصل حكم إسقاط الجنين بالفزع
فصل : إذا بعث السلطان إلى امرأة ليحضرها فاسقطت جنينا ميتا ضمنه لما روي أن عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأة مغيبة كان يدخل عليها فقالت : يا ويلها ما لها ولعمر فبينا هي في الطريق إذ فزعت فضربها الطلق فألقت ولدا فصاح الصبي صيحتين ثم مات فاستشار عمر أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فأشار بعضهم أن ليس عليك شيء إنما أنت وال ومؤدب وصمت علي فأقبل عليه عمر فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك إن ديته عليك لأنك افزعتها فألقته فقال عمر : أقسمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك ولو فزعت المرأة فماتت لوجبت ديتها أيضا ووافق الشافعي في ضمان الجنين وقال : لا تضمن المرأة لأن ذلك ليس بسبب إلى هلاكها في العادة
ولنا أنها نفس هلكت بإرساله إليها فضمنها كجنينها أو نفس بسببه فغرمها كما لو ضربها فماتت وقوله : إنه ليس بسبب عادة قلنا : ليس كذلك فإنه سبب للإسقاط والإسقاط سبب الهلاك عادة ثم لا يتعين في الضمان كونه سببا معتادا فإن الضربة والضربتين بالسوط ليست سببا للهلاك في العادة ومتى أفضت إليه وجب الضمان وإن استعدى إنسان على امرأة فألقت جنينها أو ماتت فزعا فعلى عاقلة المستعدي الضمان إن كان ظالما لها وإن كانت هي الظالمة فأحضرها عند الحاكم فينبغي أن لا يضمنها لأنها سبب إحضارها بظلمها فلا يضمنها غيرها ولأنه استوفى حقه فلم يضمن ما تلف به كالقصاص ويضمن جنينها لأنه تلف بفعله فأشبه ما لو اقتص منها (9/580)
فصل ضمان هلاك الرجل بأخذ آخر طعامه أو شرابه
فصل : ومن أخذ طعام إنسان أو شرابه في برية أو مكان لا يقدر فيه على طعام وشراب فهلك بذلك أو هلكت بهيمته فعليه ضمان ما تلف به لأنه سبب هلاكه وإن اضطر إلى طعام وشراب لغيره فطلبه منه فمنعه إياه مع غناه عنه في تلك الحال فمات بذلك ضمنه المطلوب منه لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بذلك ولأنه إذا اضطر إليه صار أحق به من هو في يده وله أخذه قهرا فإذا منعه إياه تسبب إلى هلاكه بمنعه ما يستحقه فلزمه ضمانه كما لو أخذ طعامه وشرابه فهلك بذلك وظاهر كلام أحمد أن الدية في ماله لأنه تعمد هذا الفعل الذي يقتل مثله غالبا وقال القاضي : تكون على عاقلته لأن هذا لا يوجب القصاص فيكون شبه العمد وإن لم يطلبه منه لم يضمنه لأنه لم يمنعه ولم يوجد منه فعل تسبب به إلى هلاكه وكذلك كل من رأى إنسانا في مهلكة فلم ينجه منها مع قدرته على ذلك لم يلزمه ضمانه وقد أساء وقال أبو الخطاب : قياس المسألة الأولى وجوب ضمانه لأنه لم ينجه من الهلاك مع إمكانه فيضمنه كما لو منعه الطعام والشراب
ولنا أنه لم يهلكه ولم يكن سببا في هلاكه فلم يضمنه كما لو لم يعلم بحاله وقياس هذا على هذه المسألة غير صحيح لأنه في المسألة منعه منعا كان سببا في هلاكه فضمنه بفعله الذي تعدى به وههنا لم يفعل شيئا يكون سببا (9/581)
فصل تعويض من ضرب أو أفزع
فصل : ومن ضرب إنسانا حتى أحدث فإن عثمان رضي الله عنه قضى فيه بثلث الدية وقال أحمد : لا أعرف شيئا يدفعه وبه قال إسحاق وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا شيء فيه لأن الدية إنما تجب لإتلاف منفعة أو عضو أو إزالة جمال وليس ههنا شيء من ذلك وهذا هو القياس وإنما ذهب من ذهب إلى إيجاب الثلث لقضية عثمان لأنها في مظنة الشهرة ولم ينقل خلافها فيكون إجماعا ولأن قضاء الصحابي بما يخالف القياس يدل على أنه توقيف وسواء كان الحدث ريحا أو غائطا أو بولا وكذلك الحكم فيما إذا أفزعه حتى أحدث (9/582)
فصل الاختلاف في صفة القتيل
فصل : إذا ادعى القاتل أن المقتول كان عبدا أو ضرب ملفوفا فقده أو ألقى عليه حائطا أو ادعى أنه كان ميتا وأنكر وليه ذلك فالقول قول الولي مع يمينه وهذا احد قولي الشافعي وقال في الآخر : القول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته وما ادعاه محتمل فلا يزول عن اليقين بالشك
ولنا أن الأصل حياة المجني عليه وحريته فيجب الحكم ببقائه كا لو قتل من كان مسلما وادعى أنه ارتد قبل قتله وبهذا يبطل ما ذكره وهكذا لو قتل في دار الإسلام إنسانا وادعى أنه كافرا وأنكر وليه فالقول قول الولي لأن الدار دار الإسلام ولذلك حكمنا بإسلام لقيطها وإن قطع عضوا وادعى شلله أو قلع عينا وادعى عماها وأنكر الولي فالقول قول المجني عليه لأن الأصل السلامة وكذلك لو قطع ساعدا وادعى أنه لم يكن عليه كف أو قطع ساقا وادعى أنه لم يكن لها قدم وقال القاضي : إن اتفقا على أنه كان بصيرا فالقول قول المجني عليه وإلا فالقول قول الجاني وهذا مذهب الشافعي وكذلك على قياسه إذا اختلفا في شلل العضو لأن هذا مما لا يتعذر إقامة البينة عليه فإنه لا يخفى على أهله وجيرانه ومعاملته وصفة تحمل الشهادة عليه أنه كان يتبع الشخص بصرة ويتوقى ما يتوفاه البصير ويتجنب البئر وأشباهه في طريقه ويعدل في العطفات خلف من يطلبه
ولنا أن الأصل السلامة فكان القول قول من يدعيه كما لو اختلفا في إسلام المقتول وحياته وقولهم لا تتعذر إقامة البينة عليه قلنا : كذلك لا تتعذر إقامة البينة على ما يدعيه الجاني فإيجابها عليه أولى من إيجابها على من يشهد له الأصل ثم يبطل بسائر المواضع التي سلموها فإن قالوا ههنا ما ثبت أن الأصل وجود البصر قلنا : الظاهر يقوم مقام الأصل ولهذا رجحنا قول من يدعي حريته وإسلامه (9/583)
فصل الزيادة في القصص
فصل : وإن زاد في القصاص من الجراح وقال : إنما حصلت الزيادة باضطرابه وأنكر المجني عليه ففيه وجهان : أحدهما : القول قول المقتص منه لأن الأصل عدم الاضطراب ووجوب الضمان والثاني : القول قول المتقص لأن الأصل براءة ذمته وما يدعيه محتمل والأول أصح فإن الجرح سبب وجوب الضمان وما يدعيه من الاضطراب المانع من ثبوت حكمه الأصل عدمه فالقول قول من ينفيه كما لو جرح رجلا وادعى أنه جرحه دفعا عن نفسه أو قتله وادعى أنه وجده مع أهله أو قتل بهيمة وادعى أنها صالت عليه (9/584)
باب ديات الجراح
الجراح تتنوع نوعين : أحدهما : الشجاج وهي ما كان في راس أو وجه النوع الثاني : ما كان في سائر البدن وينقسم قسمين : أحدهما : قطع عضو والثاني : قطع لحم والمضمون في الآدمي ضربان : أحدهما : ما ذكرنا والثاني : تفويت منفعة كتفويت السمع والبصر والعقل (9/585)
مسألة وفصل دية العضو الفريد والمتعدد في الجسم
مسألة : قال رحمه الله : ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية وما فيه شيئان ففي كل واحد منهما نصف الدية
وجملة ذلك أن كل عضو لم يخلق الله تعالى في الإنسان منه إلا واحدا كاللسان والأنف والذكر والصلب ففيه دية كاملة لأن إتلافه إذهاب منفعة الجنس وإذهابها كإتلاف النفس وما فيه شيئان كاليدين والرجلين والعينين والأذنين والمنخرين والشفتين والخصيتين والثديين والأليتين ففيهما الدية كاملة لأن في إتلافهما إذهاب منفعة الجنس وفي إحداها نصف لأن في إتلافه إذهاب نصف منفعة الجنس وهذه الجملة مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وقد روي عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب له في كتابه : وفي الأنف إذا أوعب جدعة الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية ] رواه النسائي وغيره ورواه ابن عبد البر وقال : كتاب عمرو بن حزم معروف عند الفقهاء وما فيه متفق عليه عند العلماء إلا قليلا
فصل : وما في الإنسان منه أربعة أشياء ففيها الدية وفي كل واحد منها ربع الدية وهو أجفان العينين وأهدابها وما فيه منه عشرة ففيها الدية وفي كل واحد منها عشرها وهي أصابع اليدين وأصابع الرجلين وما فيه منه ثلاثة أشياء ففيها الدية وفي الواحد ثلثها وهو المنخران والحاجز بينهما وعنه في المنخرين الدية وفي الحاجز حكومة لأن المنخرين شيئان من جنس فكان فيهما الدية كالشفتين وليس في البدن شيء من جنس يزيد على الدية إلا الأسنان فإن في كل سن خمسا من الإبل فتزيد على الدية وقد روي أنه ليس فيها إلا الدية قياسا على سائر ما في البدن والصحيح الأول لأن الخبر عن النبي صلى الله عليه وسل ورد بإيجاب خس في كل سن فيجب العمل به وإن خالف القياس (9/585)
مسألة وفصول دية العينين
مسألة : قال : وفي العينين الدية
أجمع أهل العلم على أن في العينين إذا أصيبتا خطأ الدية وفي العين الواحدة نصفها ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : وفي العينين الدية ] ولأنه ليس في الجسد منهما إلا شيئان ففيهما الدية وفي إحداهما نصفها كسائر الأعضاء التي كذلك وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ وفي العين الواحدة خمسون من الإبل ] رواه مالك في موطئه ولأن العينين من أعظم الجوارح نفعا وجمالا فكانت فيهما الدية وفي إحداهما نصفها كاليدين إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكونا صغيرتين أو كبيرتين أو مليحتين أو قبيحتين أو صحيحتين أو مريضتين أو حولاوين أو رمصتين فإن كان فيهما بياض لا ينقص البصر لم ينقص الدية وإن نقص البصر نقص من الدية بقدره وفي ذهاب البصر الدية لأن كل عضوين وجبت الدية بذهابهما وجبت بإذهاب نفعهما كاليدين إذا أشلهما وفي ذهاب بصر إحداهما نصف الدية كما لو أشل يدا واحدة وليس في إذهابهما بنفعها أكثر من دية اليدين
فصل : وإن جنى على رأسه جناية ذهب بها بصره فعليه ديته لأنه ذهب بسبب جنايته وإن لم يذهب بها فداواها فذهب بالمداواة فعليه ديته لأنه ذهب بسبب فعله وإن اختلفوا في ذهاب البصر رجع إلى اثنين عدلين مسلمين من أهل الخبرة لأن لهما طريقا إلى معرفة ذلك لمشاهدتهما العين التي هي محل البصر ومعرفة بحالها بخلاف السمع وإن لم يوجد أهل الخبرة أو تعذر معرفة ذلك اعتبر بأن يوقف في عين الشمس ويقرب الشيء من عينه في أوقات غفلته فإن طرف عينه وخاف من الذي يخوف به فهو كاذب وإلا حكم له وإذا علم ذهاب بصره وقال أهل الخبرة لا يرجى عوده وجبت الدية وإن قالوا يرجى عوده إلى مدة عينوها انتظر إليها ولم يعط الدية حتى تنقضي المدة فإن عاد البصر سقطت عن الجاني وإن لم يعد استقرت الدية وإن مات المجني عليه قبل العود استقرت الدية سواء مات في المدة أو بعدها فإن ادعى الجاني عود بصره قبل موته وأنكر وارثه فالقول قول الوارث لأن الأصل معه وإن جاء أجنبي فقلع عينه في المدة استقرت على الأول الدية أو القصاص لأنه أذهب البصر فلم يعد وعلى الثاني حكومة لأنه أذهب عينا لا ضوء لها يرجى عودها وإن قال الأول عاد ضوؤها وأنكر الثاني فالقول قول المنكر لأن الأصل معه فإن صدق المجني عليه الأول سقط حقه عنه ولم يقبل قوله على الثاني وإن قال أهل الخبرة : يرجى عوده لكن لا نعرف له مدة وجبت الدية أو القصاص لأن انتظار ذلك إلى غير غاية يفضي إلى إسقاط موجب الجناية والظاهر في البصر عدم العود والأصل يؤيده فإن عاد قبل استيفاء الواجب سقط وإن عاد بعد الاستيفاء وجب رد ما أخذ نه لأنا تبينا أنه لم يكن واجبا
فصل : وإن جنى عليه فنقص ضوء عينيه ففي ذلك حكومة وإن ادعى نقص ضوئهما فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يعرف ذلك إلا من جهته وإن ذكر أن إحداهما نقصت عصبت المريضة وأطلقت الصحيحة ونصب له شخص فيباعد عنه فكلما قال رأيته فوصف لونه علم صدقه حتى تنتهي فإذا انتهت علم موضعها ثم تشد الصحيحة وتطلق المريضة وينصب له شخص ثم يذهب حتى تنتهي رؤيته ثم يدار الشخص إلى جانب آخر فيصنع به مثل ذلك ثم يعلمه عند المسافتين ويذرعان ويقابل بينهما فإن كانتا سواء فقد صدق وينظر كم بين مسافة رؤية العليلة والصحيحة ويحكم له من الدية بقدر ما بينهما وإن اختلفت المسافتان فقد كذب وعلم أنه قصر مسافة رؤية المريضة ليكثر الواجب له فيردد حتى تستوي المسافة بين الجانبين والأصل في هذا ما روي عن علي رضي الله عنه قال ابن المنذر : أحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي رضي الله عنه أمر بعينه فعصبت وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى بصره ثم أمر فخط عند ذلك ثم أمر بعينه فعصبت الأخرى وفتحت الصحيحة وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو يبصر حتى انتهى بصره ثم خط عند ذلك ثم حول إلى مكان آخر ففعل مثل ذلك فوجدوه سواء فأعطاه بقدر ما نقص من بصره من مال الآخر
قال القاضي : وإذا زعم أهل الطب أن بصره يقل إذا بعدت المسافة ويكثر إذا قربت وأمكن هذا في المذارعة عمل عليه وبيانه أنهم إذا قالوا إن الرجل إذا كان يبصر إلى مائة ذراع ثم أراد أن يبصر إلى مائتي ذراع احتاج للمائة الثانية إلى ضعفي ما يحتاج إليه للمائة الأولى من البصر فعلى هذا إذا أبصر بالصحيحة إلى مائتين وأبصر بالعليلة إلى مائة علمنا أنه قد نقص ثلثا بصر عينه فيجب له ثلث ديتها وهذا لا يكاد ينضبط في الغالب وكل ما لا ينضبط فيه حكومة وإن جنى على عينيه فندرتا أو إذا حولتا أو أعمشتا ففي ذلك حكومة كما لو ضرب يده فاعوجت والجناية على الصبي والمعتوه كالجناية على البالغ والعاقل وإنما يفترقان في أن البالغ خصم لنفسه والخصم للصبي والمجنون وليهما فإذا توجهت اليمين عليهما لم يحلفا ولم يحلف الولي عنهما فإن بلغ الصبي وأفاق المجنون حلفا حينئذ ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله كمذهبنا
فصل : وفي عين الأعور دية كالة وبذلك قال الزهري و مالك و الليث و قتادة و إسحاق : وقال مسروق وعبد الله بن مغفل و النخعي و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي : فيها نصف الدية ل [ قوله عليه السلام : وفي العين خسون من الإبل ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وفي العينين الدية ] يقتضي أن لا يجب فيهما أكثر من ذلك سواء قلعهما واحد أو اثنان في وقت واحد أو في وقتين وقالع الثانية قالع عين أعور فو وجبت عليه دية لوجب فيهما دية ونصف ولأن ما ضمن نصف الدية مع بقاء نظيره ضمن به مع ذهابه كالأذن ويحتمل هذا كلام الخرقي لقوله : وفي العين الواحدة نصف الدية لم يفرق
ولنا أن عمر وعثمان وعليا وابن عمر قضوا في عين الأعور بالدية ولم نعلم لهم في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأن قلع عين الأعور تتضمن إذهاب البصر كله فوجبت الدية كما لو أذهبه من العينين ودليل ذلك أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين فإنه يرى الأشياء البعيدة ويدرك الأشياء اللطيفة ويعمل أعمال البصراء ويجوز أن يكون قاضيا وشاهدا ويجزىء في الكفارة وفي الأضحية إذا لم تكن العوراء مخسوفة فوجب في بصره دية كاملة كذا في العينين فإن قيل : فلو صح هذا لم يجب في ذهاب بصر إحدى العينين نصف الدية لأنه لم ينقص قلنا : لا يلزم من وجوب شيء من دية العينين نقص دية الثاني بدليل ما لو جنى عليهما فأحولتا أو عمشتا أو نقص ضؤوهما فإنه يجب أرش النقص ولا تنقص ديتهما بذلك ولأن النقص الحاصل لم يؤثر في تنقيص أحكامه ولا هو مضبوط في تفويت النفع فلم يؤثر في تنقيص الدية كالذي ذكرنا
فصل : وإن قلع الأعور عين صحيح نظرنا فإن قلع العين التي لا تماثل عينه الصحيحة أو قلع المماثلة للصحيحة خطأ فليس عليه نصف الدية لا أعلم فيه مخالفا لأن ذلك هو الأصل وإن قلع المماثلة لعينه الصحيحة عمدا فلا قصاص عليه وعليه دية كاملة وبهذا قال سعيد بن المسيب و عطاء و مالك في إحدى روايتيه وقال في الأخرى : عليه نصف الدية ولا قصاص وقال المخالفون في المسألة الأولى : له القصاص لقوله تعالى : { والعين بالعين } وإن اختار الدية فله نصفها للخبر ولأنه لو قلعها غيره لم يجب فيها إلا نصف الدية فلم يجب عليه إلا نصفها كالعين الأخرى
ولنا أن عمر وعثمان قضيا بمثل مذهبنا ولا نعرف لهما مخالفا في الصحابة فكان إجماعا
فصل : وإن قلع الأعور عيني صحيح العينين فليس عليه إلا دية عمدا كان أو خطأ وذكر القاضي أن قياس المذهب وجوب ديتين إحداهما : في العين التي استحق بها قلع عين الأعور والأخرى : في الأخرى لأنها عين أعور
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في العينين الدية ] ولأنه قلع عينين فلم يلزمه أكثر من الدية كما لو كان القاطع صحيحا ولأنه لم يزد على تفويت منفعة الجنس فلم يزد على الدية كما لو قطع أذنه وما ذكره القاضي لا يصح لأن وجوب الدية في إحدى عينيه لا يجعل الأخرى عين أعور على أن وجوب الدية قطع بقلع إحدى العينين قضية مخالفة للخبر والقياس صرنا إليها لإجماع الصحابة عليها ففيما عدا موضع الإجماع العمل بهما والبقاء عليهما فإن كان قلعهما عمدا فاختار القصاص فليس له إلا قلع عينه لأنه أذهب بصره كله فلم يكن له أكثر من إذهاب بصره وهذا مبني على ما تقدم من قضاء الصحابة ولأن عين الأعور تقوم مقام العينين وأكثر أهل العلم على أن له القصاص من العين ونصف الدية للعين الأخرى وهو قتضى الدليل والله أعلم (9/586)
فصل دية العضو الذي ذهب مثيله
فصل : وإن قطع يد أقطع أو رجل الرجل فله نصف الدية أو القصاص من مثلها لأنه عضو أمكن القصاص من مثله فكان الواجب فيه القصاص أو دية مثله كما لو قطع أذن من له أذن واحدة وعن أحمد رواية أخرى أن الأولى إن كانت قطعت ظلما وأخذ ديتها أو قطعت قصاصا ففيها نصف ديتها وإن قطعت في سبيل الله ففي الباقية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة فأشبه قلع عين الأعور والصحيح الأول لأن هذا أحد العضوين اللذين تحصل بهما منفعة الجنس لا يقوم مقام العضوين فلم تجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء وكما لو كانت الأولى أخذت قصاصا أو في غير سبيل الله ولا يصح القياس على عين الأعور لوجوه ثلاثة :
أحدها : أن عين الأعور حصل بها ما يحصل بالعينين ولم يختلفا في الحقيقة والأحكام إلا تفاوتا يسيرا بخلاف أقطع اليد والرجل
والثاني : أن عين الأعور لم يختلف الحكم فيها باختلاف صفة ذهاب الأولى وههنا اختلفا
الثالث : أن هذا التقدير والتعيين على هذا الوجه أمر لا يصار إليه بمجرد الرأي ولا توقيف فيه فصار إليه ولا نظير له فيقاس عليه والمصير إليه تحكيم بغير دليل فيجب اطراحه وإن قطعت أذن من قطعت أذنه أو منخر من قطع منخره لم يجب فيه أكثر من نصف الدية رواية واحدة لأن منفعة كل أذن لا تتعلق بالأخرى بخلاف العينين (9/592)
مسألة وفصل دية الأجفان
مسألة : قال : وفي الأشفار الأربعة الدية وفي كل واحد منها ربع الدية
يعني أجفان العينين وهي أربعة ففي جميعها الدية لأن فيها منفعة الجنس وفي كل واحد منها ربع الدية لأن كل ذي عدد تجب في جميعه الدية تجب في الواحد منها بحصته من الدية كاليدين والأصابع وبهذا قال الحسن و الشعبي و قتادة و أبو هاشم و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي وعن مالك في جفن العين وحجاجها الاجتهاد لأنه لم يعلم تقديره عن النبي صلى الله عليه و سلم والتقدير لا يثبت قياسا
ولنا أنها أعضاء فيها جمال ظاهر ونفع كامل فإنها تكن العين وتحفظها وتقيها الحر والبرد وتكون كالغلق عليها يطبقه إذا شاء ويفتحه إذا شاء ولولاها لقبح منظره فوجبت فيها الدية كاليدين ولا نسلم أن التقدير لا يثبت قياسا فإذا ثبت هذا فإن في أحدها ربع الدية وحكي عن الشعبي أنه يجب في الأعلى ثلثا دية العين وفي الأسفل ثلثا لأنه أكثر نفعا
ولنا أن كل ذي عدد تجب الدية في جميعه تجب بالحصة في الواحد منه كاليدين والأصابع وما ذكره يبطل باليمين مع اليسرى والأصابع وإن قلع العينين بأشفارهما وجبت ديتان لأنهما جنسان تجب الدية بكل واحد منهما منفردا فوجبت بإتلافهما جملة ديتان كاليدين والرجلين وتجب الدية في اشفار عين الأعمى لأن ذهاب بصره عيب في غير الأجفان فلم يمنع وجوب الدية فيها كذهاب الشم لا يمنع وجوب الدية في الأنف
فصل : وتبي في أهداب العينين بمفردها الدية وهو الشعر الذي على الأجفان وفي كل واحد منها ربعها وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : فيه حكومة
ولنا أن فيها جمالا ونفعا فإنها تقي العينين وترد عنهما وتحسن العين وتجملها فوجبت فيها الدية كالأجفان وإن قطع الأجفان بأهدابها لم يجب أكثر من دية لأن الشعر يزول لزوال الأجفان فلم تفرد بضمان كالأصابع إذا قطع اليد وهي عليها (9/593)
مسألتان وفصول دية الأذنين والسمع
مسألة : قال : وفي الأذنين الدية
روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال عطاء و مجاهد و الحسن و قتادة و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أصحاب الرأي و مالك في إحدى الروايتين عنه وقال في الأخرى : فيهما حكومة لأن الشرع لم يرد بتقدير ولا يثبت التقدير بالقياس
ولنا أن في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي الأذنين الدية ] ولأن عمر وعليا قضيا فيهما بالدية فإن قيل فقد روي عن ابي بكر رضي الله عنه أنه قضى في الأذن بخمسة عشر بعيرا قلنا : لم يثبت ذلك قاله ابن المنذر ولأن ما كان في البدن منه عضوان كان فيهما الدية كاليدين وفي إحداهما نصف الدية بغير خلاف بين القائلين بوجوب الدية فيهما ولأن كل عضوين وجبت الدية فيهما وجب في أحدهما نصفها كاليدين وإن قطع بعض إحداهما وجب بقدر ما قطع من ديتها ففي نصفها نصف ديتها وفي ربعها ربعها وعلى هذا الحساب سواء قطع من أعلى الأذن أو أسفلها أو اختلف في الجمال أو لم يختلف كما أن الأسنان والأصابع تختلف في الجمال والمنفعة ودياتها سواء
وقد روي عن أحمد رحه الله في شحمة الأذن ثلث والمذهب الأول وتجب الدية في أذن الأصم لأن الصمم نقص في غير الأذن فلم يؤثر في ديتها كالعمى لا يؤثر في دية الأجفان وهذا قول الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا
فصل : فإن جنى على أذنه فاستحشف واستحشافها كشلل سائر الأعضاء ففيها حكومة وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : في ذلك ديتها لأن ما وجبت ديته بقطعه وجبت بشلله كاليد والرجل
ولنا أن نفعها باق وبعد استحشافها وجمالها فإن نفعها جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام في صماخه وهذا باق بعد شللها فإن قطعها قاطع بعد استحشافها ففيها ديتها لأنه قطعه أذنا فيها جمالها ونفعها فوجبت ديتها كالصحيحة وكما لو قلع عينا عمشاء أو حولاء
مسألة : قال : وفي السمع إذا ذهب من الأذنين الدية
لا خلاف في هذا قال ابن المنذر : أجمع عوام أهل العلم أن في السمع الدية روي ذلك عن عمر وبه قال مجاهد و قتادة و الثوري و الأوزاعي و أهل الشام وأهل العراق و مالك و الشافعي و ابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافا لهم وقد روي عن معاذ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ وفي السمع الدية ] وروى أبو المهلب عن أبي قلابة أن رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه فقضى عمر بأربع ديات والرجل حي ولأنها حاسة تختص بنفع فكان فيها الدية كالبصر وإن ذهب السمع من إحدى الأذنين وجب نصف الدية كما لو ذهب البصر من إحدى العينين وإن قطع أذنه فذهب سمعه وجبت ديتان لأن السمع في غيرهما فأشبه ما لو قلع أجفان عينيه فذهب بصره بخلاف العين إذا قلعت فذهب بصره فإن البصر في العين فأشبه البطش الذاهب بقطع اليد
فصل : وإن اختلفا في ذهاب سمعه فإنه يتغفل ويصاح به وينظر اضطرابه ويتأمل عند صوت الرعد والأصوات المزعجة فإن ظهر منه إنزعاج أو التفات أو ما يدل على السمع فالقول قول الجاني مع يمينه لأن ظهور الأمارات يدل على أنه سميع فغلبت جنبة المدعي وحلف لجواز أن يكون ما ظهر منه اتفاقا وإن لم يوجد منه شيء من ذلك فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر أنه غير سميع وحلف لجواز ان يكون احترز وتصبر وإن ادعى ذلك في إحداهما سدت الأخرى وتغفل على ما ذكرنا فإن ادعى نقصان السمع فيهما فلا طريق لنا إلى معرفة ذلك إلا من جهته فيحلفه الحاكم ويوجب حكومة وإن ادعى نقصه في إحداهما سددنا العليلة وأطلقنا الصحيحة واقمنا من يحدثه وهو يتباعد إلى حيث يقول إني لا أسمع فإذا قال إني لا أسمع غير عليه الصوت والكلام فإن بان أنه يسمع وإلا فقد كذب فإن انتهى إلى آخر سماعه قدر المسافة وسد الصحيحة وأطلقت المريضة وحدثه وهويتباعد حتى يقول إني لا أسمع فإذا قال ذلك غير عليه الكلام فإن تغيرت صفته لم يقبل قوله وإن لم تتغير صفته حلف وقبل قوله ومسحت المسافتان ونظر ما نقصت العليلة فوجب بقدره فإن قال : إني أسمع العالي ولا أسمع الخفي فهذا لا يمكن تقديره فتجب فيه حكومة
فصل : فإن قال أهل الخبرة إنه يرجى عود سمعه إلى مدة انتزر إليها وإن لم يكن لذلك غاية لم ينتظر ومتى عاد السمع فإن كان قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعده ردت على ما قلنا في البصر (9/594)
مسألة وفصول دية شعر الرأس والحاجبين واللحية
مسألة : قال : وفي قرع الرأس إذا لم ينبت الشعر الدية وفي شعر اللحية الدية إذا لم ينبت وفي الحاجبين الدية إذا لم تنبت
هذه الشعور في كل واحد منها دية وذكر أصحابنا معها شعرا رابعا وهو أهداب العينين وقد ذكرناه قبل هذا ففي كل واحد منها دية وهذا قول أبي حنيفة و الثوري وممن أوجب في الحاجبين الدية سعيد بن المسيب و شريح و الحسن و قتادة وروي عن علي وزيد بن ثابت أنهما قالا في الشعر : فيه الدية وقال مالك و الشافعي : فيه حكومة واختاره ابن المنذر لإنه إتلاف جمال من غير منفعة فلم تجب فيه الدية كاليد الشلاء والعين القائمة
ولنا أنه أذهب الجمال على الكمال فوجب فيه دية كاملة كأذن الأصم وأنف الأخشم وما ذكروه ممنوع فإن الحاجب يرد العرق عن العين ويفرقه وهذب العين يرد عنها ويصونها فجرى مجرى أجفانها وينتقض ما ذكروه بالأصل الذي قسنا عليه ويفارق اليد الشلاء فإنه ليس جمالها كاملا
فصل : وفي أحد الحاجبين نصف الدية لأن كل شيئين فيهما الدية ففي أحدهما نصفها كاليدين وفي بعض ذلك أو ذهاب شيء من الشعور المذكورة من الدية بقسطه من ديته يقدر بالمساحة كالأذنين ومارن الأنف ولا فرق في هذه الشعور بين كونها كثيفة أو خفيفة أو جميلة أو قبيحة أو كونها من صغير أوكبير لأن سائر ما فيه الدية من الأعضاء لا يفترق الحال فيه بذلك وإن أبقى من لحيته ما لا جمال فيه أو من غيرها من الشعر ففيه وجهان
أحدهما : يؤخذ بالسقط لأنه محل يجب في بعضه بحصته فأشبه الأذن ومارن الأنف
والثاني : تجب الدية كاملة لأنه أذهب المقصود كله فأشبه ما لو أذهب ضوء العينين ولأن جنايته ربما أحوجت إلى إذهاب الباقي لزيادته في القبح على ذهاب الكل فتكون جنايته سببا لذهاب الكل فأوجبت ديته كما لو ذهب بسراية الفعل أو كما لو احتاج في دواء شجة الرأس إلى ما ذهب بضوء عينه
فصل : ولا تجب الدية في شيء من هذه الشعور إلا بذهابه على وجه لا يرجى عوده مثل أن يقلب على رأسه ماء حارا فتلف منبت الشعر فينقلع بالكلية بحيث لا يعود وإن رجب عوده إلى مدة انتظر إليها وإن عاد الشعر قبل أخذ الدية لم تجب فإن عاد بعد أخذها ردها والحكم فيه كالحكم في ذهاب السمع والبصر فيما يرجى عوده وفيما لا يرجى
فصل : ولا قصاص في شيء من هذه الشعور لأن إتلافها إنما يكون بالجناية على محلها وهو غير معلوم المقدار فلا تمكن المساواة فيه فلا يجب القصاص فيه (9/598)
مسألة وفصول دية الأنف وحاسة الشم
مسألة : قال : وفي المشام الدية
يعني الشم في إتلافه الدية لأنه حاسة تختص بمنفعة فكان فيها الدية كسائر الحواس ولا نعلم في هذا خلافا قال القاضي في كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ وفي المشام الدية ] فإن ادعى ذهاب شمه اغتفلناه بالروائح الطيبة والمنتنة فإن هش للطيب وتنكر للمتن فالقول قول الجاني مع يمينه وإن لم يبن منه ذلك فالقول قول المجني عليه كقولهم في اختلافهم في السمع وإن ادعى المجني عليه نقص شمه فالقول قوله مع يمينه لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهته فقبل قوله فيه كما يقبل قول المرأة في انقضاء عدتها بالأقراء ويجب له من الدية ما تخرجه الحكومة وإن ذهب شمه ثم عاد قبل أخذ الدية سقطت وإن كان بعد أخذها ردها لأنا تبينا أنه لم يكن ذهب وإن رجى عود شمه إلى مدة انتظر إليها وإن ذهب شمه من أحد منخريه ففيه نصف الدية كما لو ذهب بصره من إحدى عينيه
فصل : وفي الأنف الدية إذا كان قطع مارنه بغير خلاف بينهم حكاه ابن عبد البر و ابن المنذر عمن يحفظ عنه من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية ] وفي رواية مالك في الموطأ : [ إذا ادعى جدعا ] يعني إذا استوعب واستؤصل ولأنه عضو فيه جمال ومنفعة ليس في البدن منه إلا شيء واحد فكانت فيه الدية كاللسان وإنما الدية في مارنه وهو ما لان منه هكذا قال الخليل وغيره لأنه يروى عن طاوس أنه قال : كان في كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ في الأنف إذا أوعب مارنه جدعا الدية ] ولأن الذي يقطع فيه ذلك فانصرف الخبر إليه فإن قطع بعضه ففيه بقدره من الدية يمسح ويعرف قدر ذلك منه كما قلنا في الأذنين وقد روي هذا عن عمر بن عبد العزيز و الشعبي و الشافعي وإن قطع أحد المنخرين ففيه ثلث الدية وفي المنخرين ثلثاها وفي الحاجز الثلث قال أحمد : في الوترة الثلث وفي الحرمة في كل واحد منهما الثلث وبهذا قال إسحاق وهو أحد وجهين لأصحاب الشافعي لأن المارن يشتمل على ثلاثة أشياء من جنس فتوزعت الدية على عددها كسائر ما فيه عدد من جنس من اليدين والأصابع والأجفان الأربعة وحكى أبو الخطاب وجها آخر أن في المنخرين الدية وفي الحاجز بينهمت حكومة لقول أحمد : في كل زوجين من الإنسان الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأن المنخرين ليس في البدن لهما ثالث فأشبها اليدين ولأنه بقطع المنخرين أذهب الجمال كله ولا منفعة فأشبه قطع اليدين فعلى هذا الوجه في قطع أحد المنخرين نصف الدية وإن قطع معه الحاجز ففيه حكومة وإن قطع نصف الحاجز أو أقل أو أكثر لم يزد على حكومة وعلى الأول في قطع أحد المنخرين ونصف الحاجز نصف الدية وفي قطع جميعه مع المنخر ثلثا الدية وفي قطع جزء من الحاجز أو أحد المنخرين بقدره من ثلث الدية يقدر بالمساحة فإن شق الحاجز بين المنخرين ففيه حكومة فإن بقي منفرجا فالحكومة فيه أكثر
فصل : وإن قطع المارن مع القصبة ففيه الدية في قياس المذهب وهذا مذهب مالك ويحتمل أن تجب الدية في المارن وحكومة في القصبة وهذا مذهب الشافعي لأن المارن وحده موجب للدية فوجبت الحكومة في الزائد كما لو قطع القصبة وحدها مع قطع لسانه
ولنا قوله عليه السلام : [ في الأنف إذا أوعب جدعا الدية ] ولأنه عصو واحد فلم يجب به أكثر من دية كالذكر إذا قطع من أصله وما ذكروه يبطل بهذا ويفارق إذا قطع لسانه وقصبته لأنهما عضوان فلا تدخل دية أحدهما في الآخر وأما العضو الواحد فلا يبعد أن يجب في جميعه ما يجب في بعضه كالذكر تجب في حشفته الدية التي تجب في جميعه وأصابع اليد يجب فيها ما يجب في اليد من الكوع وكذلك أصابع الرجل وفي الثدي كله ما في حلمته فأا إن قطع الأنف وما تحته من اللحم ففي اللحم حكومة لأنه ليس من الأنف فأشبه ما لو قطع الذكر واللحم الذي تحته
فصل : فإن ضرب أنفه فأشله ففيه حكومة وإن قطعه قاطع بعد ذلك ففيه ديته كما قلنا في الأذن وقول الشافعي ههنا كقوله في الأذن على ما مضى شرحه وتبيانه وإن ضربه فعوجه أو غير لونه ففيه حكومة في قولهم جيمعا وفي قطعه بعد ذلك دية كاملة وإن قطعه إلا جلدة بقي معلقا بها فلم يلتحم واحتيج إلى قطعه ففيه دية لأنه قطع جميعه بعضه بالمباشرة وباقيه بالتسبب فأشبه ما لو سرى قطع بعضه إلى قطع جميعه وإن رده فالتحم ففيه حكومة لأنه لم يبن وإن أبانه فرده فالتحم فقال أبو بكر : ليس فيه إلا حكومة كالتي قبلها وقال القاضي : فيه دية وهذا مذهب الشافعي لأنه أبان أنفه فلزمته ديته كما لو لم يلتحم ولأن ما أبين قد نجس فلزمه أن يبينه بعد التحامه ومن قال بقول أبي بكر منع نجاسته ووجوب إبانته لأن أجزاء الآدمي كجملته بدليل سائر الحيوانات وجملته طاهرة وكذلك أجزاؤه
فصل : وإن قطع أنفه فذهب شمه فعليه ديتان لأن الشم في غير الأنف فلا تدخل دية أحدهما في الآخر كالسمع مع الأذن والبصر مع أجفان العينين والنطق مع الشفتين وإن قطع أنف الأخشم وجبت ديته لأن ذلك عيب في غير الأنف فأشبه ما ذكرنا (9/600)
مسألة وفصلان دية الشفتين
مسألة : قال : وفي الشفتين الدية
لا خلاف بين أهل العلم أن في الشفتين الدية وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ وفي الشفتين الدية ] ولأنهما عضوان ليس في البدن مثلهما فيهما جمال ظاهر ومنفعة كاملة فإنهما طبق على الفم تقيانه ما يؤذيه وتستران الأسنان وتردان الريق وينفخ بهما ويتم بهما الكلام فإن فيهما بعض مخارج الحروف فتجب فيها الدية كاليدين والرجلين وظاهر المذهب أن في كل واحدة منهما نصف الدية وروي هذا عن ابي بكر وعلي رضي الله عنهما وإليه ذهب أكثر الفقهاء وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن في العليا ثلث الدية وفي السفلى الثلثين لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب و الزهري ولأن المنفعة بهما أعظم لأنها التي تدور وتتحرك وتحفظ الريق والطعام والعليا ساكنة لا حركة فيها
ولنا قول ابي بكر وعلي رضي الله عنهما ولأن كل شيئين وجبت فيهما الدية وجب في أحدهما نصفها كسائر الأعضاء ولأن كل ذي عدد وجبت فيه الدية سوي بين جميعه فيها كالأصابع والأسنان ولا اعتبار بزيادة النفع بدليل ما ذكرنا من الأصل
فصل : فإن ضربهما فأشلهما وجبت ديتهما لأنه أتلف منفعتهما فوجبت ديتهما كما لو أشل يديه وإن تقلستا فلم تنطبقا على الأسنان أو استرختا فصارتا لا تنفصلان عن الأسنان ففيهما الدية لأنه عطل منفعتهما وجمالها وإن تقلستا بعض التقليص وبجت الحكومة لأن منافعهما لم تبطل بالكلية
فصل : حد الشفة السفلى من أسفل ما تجافى عن الأسنان واللثة مما ارتفع عن جلدة الذقن وحد العليا من فوق ما تجافى عن الأسنان واللثة إلى اتصاله بالمنخرين والحاجز وحدهما طولا طول الفم إلى حاشية الشدقين وليست حاشية الشدقين منهما (9/603)
مسألة وفصول دية اللسان المتكلم به
مسألة : قال : وفي اللسان المتكلم به الدية
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في لسان الناطق وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الرأي وأصحاب الحديث وغيرهم وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي اللسان الدية ] ولأن فيه جمالا ومنفعة فأشبه الأنف [ فأما الجمال فقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن الجمال فقال : وفي اللسان ] ويقال : جمال الرجل في لسانه والمرء بأصغريه قلبه ولسانه ويقال : ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة ممثلة أو بهيمة مهملة وأما النفع فإن به تبلغ الأغراض وتستخلص الحقوق وتدفع الآفات وتقضى به الحاجات وتتم العبادات في القراءة والذكر والشكر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعليم والدلالة على الحق المبين والصراط المستقيم وبه يذوق الطعام ويستعين في مضغه وتقليبه وتنقية الفم وتنظيفه فهو أعظم الأعضاء نفعا وأتمها جمالا فإيجاب الدية في غيره تنبيه على إيجابها فيه وإنما تجب الدية في لسان الناطق فإن كان أخرس لم تجب فيه دية كاملة بغير خلاف لذهاب نفعه المقصود منه كاليد الشلاء والعين القائمة
فصل : وفي الكلام الدية فإذا جنى عليه فخرس وجبت ديته لأن كل ما تعلقت الدية بإتلافه تعلقت بإتلاف منفعته كاليد فأما إن جنى عليه فأذهب ذوقه فقال أبو الخطاب : فيه الدية لأن الذوق حاسة فأشبه الشم وقياس المذهب أنه لا دية فيه فإنه لا يختلف في أن لسان الأخرس لا تجب فيه الدية وقد نص أحمد رحمه الله على أن فيه ثلث الدية ولو وجب في الذوق لوجبت في ذهابه مع ذهاب اللسان بطريق الأولى واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال : قد نص الشافعي على وجوب الدية فيه ومنهم من قال : لا نص له فيه ومنهم من قال : قد نص على أن في لسان الأخرس حكومة وإن ذهب الذوق بذهابه والصحيح إن شاء الله أنه لا دية فيه لأن في إجماعهم على أن لسان الأخرس لا تكمل الدية فيه إجماعا على أنها لا تكمل في ذهاب الذوق بمفرده لأن كل عضو لا تكمل الدية فيه بمنفعته لا تكمل بمنعته دونه كسائر الأعضاء ولا تفريع على هذا القول فأما على الأول فإذا ذهب ذوقه كله ففيه دية كاملة وإن نقص نقصا غير مقدر بأن يحس المذاق كله إلا أنه لا يدركه على الكمال ففيه حكومة كما لو نقص بصره نفصا لا يتقدر وإن كان نقصا يتقدر بأن لا يدرك بأحد المذاق الخمس وهي الحلاة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة ويدرك بالباقي ففيه خمس الدية وفي اثنتين خمساها وفي ثلاث ثلاثة أخماسها وإن لم يدرك بواحدة ونقص الباقي فعليه خمس الدية وحكومة لنقص الباقي وإن قطع لسان أخرس فذهب ذوقه ففيه الدية لإتلافه الذوق وإن جنى على لسان ناطق فأذهب كلامه وذوقه ففيه ديتان وإن قطعه فذهبا معا ففيه دية واحدة لأنهما يذهبان تبعا لذهابه فوجبت ديته دون ديتهما كما لو قتل إنسانا لم تجب إلا دية واحدة ولو ذهبت منافعه مع بقائه ففي كل منفعة دية
فصل : وإن ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدر ما ذهب يعتبر ذلك بحروف العجم وهي ثمانية وعشرون حرفا سوى لا فإن مخرجها اللام والألف فهما نقص من الحروف وجب من الدية بقدره لأن الكلام يتم بجميعها فالذاهب يجب أن يكون عوضه من الدية كقدره من الكلام ففي الحرف الواحد ربع سبع الدية وفي الحرفين نصف سبعها وفي الأربعة سبعها ولا فرق بين ما خف من الحروف على اللسان وما ثقل لأن كل ما وجب فيه المقدر لم يختلف لاختلاف قدره كالأصابع ويحتمل أن تقسم الدية على الحروف التي للسان فيها عمل دون الشفة وهي أربعة الباء والميم والفاء والواو دون حروف الحلق الستة الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين فهذه عشرة بقي ثمانية عشر حرفا للسان تنقسم ديته عليها لأن الدية تجب بقطع اللسان وذهاب هذه الحروف وحدها مع بقائه فإذا وجبت الدية فيها بمفردها وجب في بعضها بقسطه منها ففي الواحد نصف تسع الدية وفي الاثنين تسعها وفي الثلاثة سدسها وهذا قول بعص أصحاب الشافعي وإن جنى على شفته فذهب بعض الحروف وجب فيه بقدره وكذلك إن ذهب بعض حروف الحلق بجنايته وينبغي أن تجب بقدره من الثمانية والعشرين وجها واحدا وإن ذهب حرف فعجز عن كلمة لم يجب غير أرش الحرف لأن الضمان إنما يجب لما تلف وإن ذهب حرف فأبدل مكانه حرفا آخر كأنه يقول درهم فصار يقول دلهم أو دعهم أو ديهم فعليه ضمان الحرف الذاهب لأن ما تبدل لا يقوم مقام الذاهب في القراءة ولا غيرها فإن جنى عليه فذهب البدل وجبت ديته أيضا لأنه أصل وإن لم يذهب شيء من الكلام لكن حصلت فيه عجلة أو تمتمة أو فأفأة فعليه حكومة لما حصل من النقص والشين ولم تجب الدية لأن المنفعة باقية وإن جنى عليه جان آخر فاذهب كلامه ففيه الدية كاملة كما لو جنى على عينه جان فعمشت ثم جنى عليها آخر فذهب ببصرها وإن أذهب الأول بعض الحروف وأذهب الثاني بقية الكلام فعلى كل واحد منهما بقسطه كما لو ذهب الأول ببصر إحدى إحدى العينين وذهب الآخر ببصر الأخرى وإن كان ألثغ من غير جناية عليه فذهب إنسان بكلامه كله فإن كان مأيوسا من زوال لثغته ففيه بقسط ما ذهب من الحروف وإن كان غير مأيوس من زوالها كالصبي ففيه الدية كاملة لأن الظاهر زوالها وكذلك الكبير إذا أمكن إزالة لثغته بالتعليم
فصل : إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه فإن استويا مثل أن يقطع ربع لسانه فيذهب ربع كلامه وجب ربع الدية بقدر الذاهب منهما كما لو قلع إحدى عينيه فذهب بصرها وإن ذهب من أحدهما أكثر من الآخر كأن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه أو قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه وجب بقدر الأكثر وهو نصف الدية في الحالين لأن كل واحد من اللسان والكلام مضمون بالدية منفردا فإذا انفرد نصفه بالذهاب وجب النصف ألا ترى أنه لو ذهب نصف الكلام ولم يذهب من اللسان شيء وجب نصف الدية ولو ذهب نصف اللسان ولم يذهب من الكلام شيء وجب نصف الدية وإن قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب نصف الدية فإن قطع آخر بقية اللسان فذهبت بقية الكلام ففيه ثلاثة أوجه
أحدها : عليه نصف الدية هذا قول القاضي وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن السالم نصف اللسان وباقيه أشل بدليل ذهاب نصف الكلام والثاني : عليه نصف الدية وحكومة للربع الأشل لأنه لو كان جميعه أشل لكانت فيه جكومة أو ثلث الدية فإذا كان بعضه أشل ففي ذلك البعض حكومة أيضا الثالث : عليه ثلاثة أرباع الدية وهذا الوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه قطع ثلاثة أرباع لسانه فذهب ربع كلامه فوجبت عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو قطعه أولا ولا يصح القول بأن بعضه أشل لأن العضو متى كان فيه بعض النفع لم يكن بعضه أشل كالعين إذا كان بصرها ضعيفا واليد إذا كان بطشها ناقصا وإن قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه فعليه نصف ديته فإن قطع الآخر بقيته فعليه ثلاثة أرباع الدية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر عليه نصف الدية لأنه لم يقطع إلا نصف لسانه
ولنا أنه ذهب ثلاثة أرباع الكلام فلزمه ثلاثة أرباع ديته كما لو ذهب ثلاثة أرباع الكلام بقطع نصف اللسان الأول ولأنه لو أذهب ثلاثة أرباع الكلام مع بقاء اللسان لزمه ثلاثة أرباع الدية فلأن تجب بقطع نصف اللسان في الأول أولى ولو لم يقطع الثاني نصف اللسان لكن جنى عليه جناية أذهب بقية كلامه مع بقاء لسانه لكان عليه ثلاثة أرباع ديته لأنه ذهب بثلاثة أرباع ما فيه الدية فكان عليه ثلاثة أرباع الدية كما لو جنى على صحيح فذهب ثلاثة أرباع كلاه مع بقاء لسانه
فصل : وإذا قطع بعض لسانه عمدا فاقتص المجني عليه من مثل ما جنى عليه به فذهب من كلام الجاني مثل ما ذهب من كلام المجني عليه وأكثر فقد استوفى حقه ولا شيء في الزائد لأنه من سراية القود وسراية القود غير مضمونة وإن ذهب أقل فللمقتص دية ما بقي لأنه لم يستوف بدله
فصل : وإذا قطع لسان صغير لم يتكلم لطفوليته وجبت ديته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تجب لأنه لسان لا كلام فيه فلم تجب فيه دية كلسان الأخرس
ولنا أن ظاهره السلامة وإنما لم يتكلم لأنه لا يحسن الكلام فوجبت به الدية كالكبير ويخالف الأخرس فإنه علم أنه أشل ألا ترى أن أعضاءه لا يبطش بها وتجب فيها الدية ؟ وإن بلغ حدا يتكلم مثله فلم يتكلم فقطع لسانه لم تجب فيه الدية لأن الظاهر أنه لا يقدر على الكلام ويجب فيه ما يجب في لسان الأخرس وإن كبر فنطق ببعض الحروف وجب فيه بقدر ما ذهب من الحروف لأننا تبينا أنه كان ناطقا وإن كان قد بلغ إلى حد يتحرك بالبكاء وغيره فلم يتحرك فقطعه قاطع فلا دية فيه لأن الظاهر أنه لو كان صحيحا لتحرك وإن لم يبلغ إلى حد يتحرك ففيه الدية لأن الظاهر سلامته وإن قطع لسان كبير وادعى أنه كان أخرس ففيه مثل ما ذكرنا فيما إذا اختلفا في شلل العضو المقطوع على ما ذكرناه فيما مضى
فصل : وإن جنى عليه فذهب كلامه أو ذوقه ثم عاد لم تجب الدية لأننا تبينا أنه لم يذهب ولو ذهب لم يعد وإن كان قد أخذ الدية ردها وإن قطع لسانه فعاد لم تجب الدية أيضا وإن كان قد أخذها ردها قاله أبو بكر وظاهر مذهب الشافعي أنه لا يرد الدية لأن العادة لم تجر بعوده واختصاص هذا بعوده يدل على أنه هبة مجددة
ولنا أنه عاد ما وجبت فيه الدية فوجب رد الدية كالأسنان وسائر ما يعود وإن قطع إنسان نصف لسانه فذهب كلامه كله ثم قطع آخر بقيته فعاد كلامه لم يجب رد الدية لأن الكلام الذي كان باللسان قد ذهب ولم يعد إلى اللسان وإنما عاد في محل آخر بخلاف التي قبلها وإن قطع لسانه فذهب كلامه ثم عاد اللسان دون الكلام لم يرد الدية لأنه قد ذهب ما تجب الدية فيه بانفراده وإن عاد كلامه دون لسانه لم يردها أيضا لذلك
فصل : وإذا كان للسانه طرفان فقطع أحدهما فذهب كلامه ففيه الدية لأن ذهاب الكلام بمفرده يوجب الدية وإن ذهب بعض الكلام نظرت فإن كان الطرفان متساويين وكان ما قطعه بقدر ما ذهب من الكلام وجب وإن كان أحدهما أكبر وجب الأكثر على ما مضى وإن لم يذهب من الكلام شيء وجب بقدر ما ذهب من اللسان من الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان فهو خلقة زائدة وفيه حكومة وإن قطع جميع اللسان وجبت الدية من غير زيادة سواء كان الطرفان متساويين أو مختلفين وقال القاضي : إن كانا متساويين ففيهما الدية وإن كان أحدهما منحرفا عن سمت اللسان وجبت الدية وحكومة في الخلقة الزائدة
ولنا أن هذه الزيادة عيب ونقص يرد بها المبيع وينقص من ثمنه فلم يجب فيها شيء كالسلعة في اليد وربما عاد القولان إلى شيء واحد لأن الحكومة لا يخرج بها شيء إذا كانت الزيادة عيبا (9/605)
مسألة وفصول جناية الأسنان والأضراس وفروع الدية فيها وفي اللحيين
مسألة : قال : وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد أثغر والأضراس والأنياب كالأسنان
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الأسنان خمس خمس في كل سن وقد روي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس ومعاوية و سعيد بن المسيب و عروة و عطاء و طاوس و الزهري و قتادة و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبي حنيفة و محمد بن الحسن وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ في السن خمس من الإبل ] رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ في الإسنان خمس خمس ] رواه أبو داود فأما الأضراس والأنياب فأكثر أهل العلم على أنها مثل الأسنان ومنهم عروة و طاوس و قتادة و الزهري و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وروي ذلك عن ابن عباس ومعاوية وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الأضراس ببعير بعير وعن سعيد بن المسيب أنه قال : لو كنت أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين فتلك الدية سواء وروى ذلك مالك في موطئه وعن عطاء نحوه وحكي عن أحمد رواية في جميع الأسنان والأضراس الدية فيتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد للإجماع على أن في كل سن خمسا من الإبل وورد الحديث به فيكون في الأسنان ستون بعيرا لأن فيه اثني عشر سنا أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربعة أنياب فيها خمس خمس وفيه عشرون ضرسا في كل جانب عشرة خمسة من فوق وخمسة من أسفل فيكون فيها أربعون بعيرا في كل ضرس بعيران فتكمل الدية وحجة من قال هذا أنه ذو عدد يجب فيه الدية فلم تزد ديته على دية الإنسان كالأصابع والأجفان وسائر ما في البدن ولأنها تشتمل على منفعة جنس فلم تزد ديتها على الدية كسائر منافع الجنس ولأن الأضراس تختص بالمنفعة دون الجمال والأسنان فيها منفعة وجمال فاختلفا في الأرش
ولنا ما روى أبو داود بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء ] وهذا نص وقوله في الأحاديث المتقدمة : [ في الأسنان خمس خمس ] ولم يفصل يدخل في عمومها الأضراس لأنها أسنان ولأن كل دية وجبت في جملة كانت مقسومة على العدد دون المنافع كالأصابع والأجفان والشفتين وقد أومأ ابن عباس إلى هذا فقال : لا اعتبرها بالأصابع فأما ما ذكروه من المعنى فلا بد من مخالفة القياس فيه فمن ذهب إلى قولنا خالف المعنى الذي ذكروه ومن ذهب إلى قولهم خالف التسوية الثابتة بقياس سائر الأعضاء من جنس واحد فكان ما ذكرناه مع موافقة الأخبار وقول أكثر أهل العلم أولى وأما على قول عمر إن في كل ضرس بعيرا فيخالف القياسين جميعا والأخبار فإنه لا يوجب الدية الكاملة وإنما يوجب ثمانين بعيرا ويخالف بين الأعضاء المتجانسة وإنما يجب هذا الضمان في سن من قد ثغر وهو الذي أبدل أسنانه وبلغ حدا إذا قلعت سنة لم يعد بدلها يقال ثغر وأثغر إذا كان كذلك فأما سن الصبي الذي لم يثغر فلا يجب بقلعها في الحال شيء وهذا قول مالك و الشافعي واصحاب الرأي ولا أعلم فيه خلافا وذلك لأن العادة عود سنة فلم يجب فيها في الحال شيء كنتف شعره لكن ينتظر عودها فإن مضت مدة ييأس من عودها وجبت ديتها قال أحمد : يتوقف سنة لأنه الغالب في نباتها
وقال القاضي : إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية وإن نبت مكانها أخرى لم تجب ديتها كما لو نتف شعره فعاد مثله لكن إن عادت قصيرة أو مشوهة ففيها حكومة لأن الظاهر أن ذلك سبب الجناية عليها فإن أمكن تقدير نقصها عن نظيرتها ففيها من ديتها بقدر ما نقص وكذلك إن كانت فيها ثلمة أمكن تقديرها ففيها بقدر ما ذهب منها كما لو كسر من سنه ذلك القدر وإن نبتت أكبر من أخواتها ففيها حكومة لأن ذلك عيب وقيل فيها وجه آخر : لا شيء فيها لأن هذا زيادة والصحيح الأول لأن ذلك شين حصل بسبب الجناية فأشبه نقصها وإن نبتت مائلة عن صف الأسنان بحيث لا ينتفع بها ففيها ديتها لأن ذلك كذهابها وإن كانت ينتفع بها ففيها حكومة للشين الحاصل بها ونقص نفعها وإن نبتت صفراء أو حمراء أو متغيرة ففيها حكومة لنقص جمالها وإن نبتت سوادء أو خضراء ففيها روايتان حكاهما القاضي
إحداهما : فيها ديتها والثانية : فيها حكومة كما لو سودها من غير قلعها وإن مات الصبي قبل اليأس من عود سنة ففيه وجهان
أحدهما : لا شيء له لأن الظاهر أنه لو عاش لعادت فلم يجب فيها شيء كما لو نتف شعره
والثاني : فيها الدية لأنه قلع سنا وأيس من عودها فوجبت ديتها كما لو مضى زمن تعود في مثله فلم تعد وإن قلع سن من قد ثغر وجبت ديتها في الحال لأن الظاهر أنها لا تعود فإن عادت لم تجب الدية وإن كان قد أخذها ردها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك : لا يرد شيئا لأن العادة أنها لا تعود فمتى عادت كانت هبة من الله تعالى مجددة فلا يسقط بذلك ما وجب له بلقع سنه وعن الشافعي كالمذهبين
ولنا أنه عاد له في مكانها مثل التي قلعت فلم يجب له شيء كالذي لم يثغر وإن عادت ناقصة أو مشبوهة فحكمها حكم سن الصغير إذا عادت على ما ذكرنا ولو قلع سن من لم يثغر فمضت مدة ييأس من عودها وحكم بوجوب الدية فعادت بعد ذلك سقطت الدية وردت إن كانت أخذت كسن الكبير إذا عادت
فصل : وتجب دية السن فيما ظهر منها من اللثة لأن ذلك هو المسمى سنا وما في اللثة يسمى سنخا فإذا كسر السن ثم جاء آخر فقلع السنخ ففي السن ديتها وفي السنخ حكومة كما لو قطع إنسان أصابع رجل ثم قطع آخر كفه وإن قلعها الآخر بسنخها لم يجب فيها أكثر من ديتها كما لو قطع اليد من كوعها وإن فعل ذلك في مرتين فكسر السن ثم عاد فقطع السنخ فعليه ديتها وحكومة لأن ديتها وجبت بالأول ثم وجبت بالأول ثم وجب عليه بالثاني حكومة كما لو فعله غيره وكذلك لو قطع الأصابع ثم قطع الكف وإن كسر بعض الظاهر ففيه من دية السن بقدره وإن كان ذهب النصف وجب نصف الأرش وإن كان الذاهب الثلث وجب الثلث وإن جاء آخر فكسر بقيتها فعليه بقية الأرش فإن قلع الثاني بقيتها بسنخها نظرنا فإن كان الأول كسرها عرضا فليس على الثاني للسنخ شيء لأنه تابع لما قلعه من ظاهر السن فصار كما لو قطع الأول من كل أصبع من أصابعه أنملة ثم قطع الثاني يده من الكوع وإن كان الأول كسر نصف السن طولا دون سنخه فجاء الثاني فقطع الباقي بالسنخ كله فعليه دية النصف الباقي وحكومة لنصف السنخ الذي بقي لما كسره الأول كما لو قطع الأول أصبعين من يد ثم جاء الثاني فقطع الكف كله فإن اختلف الثاني والمجني عليه فيما قلعه الأول فالقول قول المجني عليه لأن الأصل سلامة السن وإن انكشفت اللثة عن بعض السن فالدية في قدر الظاهر عادة من دون ما انكشف على خلاف العادة وإن اختلفا في قدر الظاهر اعتبر ذلك بأخواتها فإن لم يكن لها شيء يعتبر به ولم يمكن أن يعرف ذلك أهل الخبرة فالقول قول الجاني لأن الأصل براءة ذمته
فصل : وإن قلع سنا مضطربة لكبر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ وضغط الطعام والريق وجبت ديتها وكذلك إن ذهب بعض منافعها وبقي بعضها لأن جمالها وبعض منافعها باق فكمل ديتها كاليد المريضة ويد الكبير وإن ذهبت منافعها كلها فهي كاليد الشلاء على ما سنذكره إن شاء الله تعالى وإن قلع سنا فيها داء أو آكلة فإن لم يذهب شيء من أجزائها وجب فيها دية السن الصحيحة لأنها كاليد المريضة وإن سقط من أجزائها شيء سقط من ديتها بقدر الذاهب منها ووجب الباقي وإن كان إحدى ثنيتيه قصيرة نقص من ديتها بقدر نقصها كما لو نقصت بكسرها
فصل : فإن جنى على سنه جان فاضطربت وطالت على الأسنان وقيل إنها تعود إلى مدة ما كانت عليه انتظرت إليها فإن كان فإن ذهبت وسقطت وجبت ديتها وإن عادت كما كانت فلا شيء فيها كما لو جنى على يده فمرضت ثم برأت وإن بقي فيها اضطراب ففيها حكومة وإن قلعها قالع فعليه ديتها كاملة كما ذكرنا في الفصل الذي قبله وعلى الأول حكومة لجنايته وإن مضت المدة ولم تعد إلى ما كانت عليه ففيها حكومة وإن قلعها قالع فعليه ديتها كما ذكرنا وإن قالوا : يرجى عودها من غير تقدير مدة وجبت الحكومة فيها لئلا يفضي إلى إهدار الجناية فإن عادت سقطت الحكومة لما ذكرنا في غيرها
فصل : فإن قلع قالع سنه فردها صاحبها فنبتت في موضعها لم تجب ديتها نص عليه أحمد في رواية جعفر بن محمد وهذا قول أبي بكر وعلى قول القاضي تجب ديتها وهو مذهب الشافعي وقد ذكرنا توجيههما فيما إذا قطع أنفه فرده فالتحم فعلى قول أبي بكر يجب فيها حكومة لنقصها إن نقصت أو ضعفها إن ضعفت وإن قلعها قالع بعد ذلك وجبت ديتها لأنها سن ذات جمال ومنفعة فوجبت ديتها كما لو لم تنقطع وعلى قول القاضي ينبني حكمها على وجوب قلعها فإن قلنا يجب قلعها فلا شيء على قالعها لأنه قد أحسن بقلعه ما يجب قلعه وإن قلنا لا يجب قلعها احتمل أن يؤخذ بديتها لما ذكرنا واحتمل أن لا يؤخذ بديتها لأنه قد وجبت له ديتها مرة فلا تجب ثانية ولكن فيها حكومة فأما إن جعل مكانها سنا أخرى أو سن حيوان أو عظما فنبتت وجب ديتها وجها واحدا لأن سنه ذهبت بالكلية فوجبت ديتها كما لو لم يجعل مكانها شيئا وإن قلعت هذه الثانية لم تجب ديتها لأنها ليست سنا له ولا هي من بدنه ولكن يجب فيها حكومة لأنها جناية أزالت جماله ومنفعته فأشبه ما لو خاط جرحه بخيط فالتحم فقلع أسنان الخيط فانفتح الجرح وزال التحامه ويحتمل أن لا يجب شيء لأنه أزال ما ليس من بدنه أشبه ما لو قلع الأنف الذهب الذي جعله المجدوع مكان أنفه
فصل : وإن جنى على سنه فسودها فحكي عن أحمد رحمه الله في ذلك روايتان : إحداهما : تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي ويروى هذا عن زيد بن ثابت وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن و ابن سيرين و شريح و الزهري وعبد الملك بن مروان و النخعي و مالك و الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة و الثوري وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي
والرواية الثانية : عن أحمد أنه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة وهذا قول القاضي والقول الثاني لـ لشافعي وهو المختار عند أصحابه لأنه لم يذهب بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرت
ولنا أنه قول زيد بن ثابت ولم يعرف له مخالف في الصحابة فكان إجماعا ولأنه أذهب الجمال على الكمال فكملت ديتها كما لو قطع أذن الأصم وأنف الأخشم فأما إن اصفرت أو احمرت لم تكمل ديتها لأنه لم يذهب الجمال على الكمال وفيها حكومة وإن اخضرت احتمل أن يكون كتسويدها لأنه يذهب بجمالها واحتمل أن لا يجب فيها إلا حكومة وإن اخضرت احتمل أن يكون كتسويدها لأنه يذهب بجمالها واحتمل أن لا يجب فيها إلا حكومة لأن ذهاب جمالها بتسويدها أكثر فلم يلحق به غيره كما لو حمرها فعلى قول من أوجب ديتها متى قلعت بعد تسويدها ففيها ثلث ديتها أو حكومة على ما سنذكره فيما بعد وعلى قول من لم يوجب فيها إلا حكومة يجب في قلعها ديتها كما لو صفرها
فصل : وإن جنى على سنه فذهبت حدتها وكلت في ذلك حكومة وعلى قالعها بعد ذلك دية كاملة لأنها سن صحيحة كاملة فكملت ديتها كالمضطربة وإن ذهب منها جزء ففي الذاهب بقدره وإن قلعها قالع نقص من ديتها بقدر ما ذهب كما لو كسر منها جزء
فصل : وفي اللحيين الدية وهما العظمان اللذن فيهما الأسنان السفلى لأن فيها نفعا أو جمالا وليس في البدن مثلهما فكانت فيهما الدية كسائر ما منه شيئان وفي أحدهما نصفها كالواحد مما في البدن منه شيئان وإن قلعهما بما عليهما من الأسنان وجبت عليه ديتهما ودية الأسنان ولم تدخل دية الأسنان في ديتهما كما تدخل دية الأصابع في دية الوجه لوجوه ثلاثة :
أحدها : أن الأسنان مغروزة في اللحيين غير متصلة بهما بخلاف الأصابع والثاني : أن كل واحد من اللحيين والأسنان ينفرد باسمه ولا يدخل أحدهما في اسم الآخر بخلاف الأصابع والكف فإن اسم اليد يشملهما والثالث : أن اللحيين توجدان قبل وجود الأسنان في الخلقة وتبقيان بعد ذهابها في حق الكبير ومن تقلعت أسنانه عادة بخلاف الأصابع والكف (9/612)
مسألة وفصلين اليدان والدية فيهما
مسألة : قال : وفي اليدين الدية
أجمع أهل العلم على وجوب الدية في اليدين ووجوب نصفها في إحداهما وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ وفي اليدين الدية وفي الرجلين الدية ] وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي اليد خمسون من الإبل ] ولأن فيها جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة وليس في البدن من جنسهما غيرهما فكان فيهما الدية كالعينين واليد التي تجب فيها الدية من الكوع لأن اسم اليد عند الإطلاق ينصرف إليها بدليل أن الله تعالى لما قال : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } كان الواجب قطعهما من الكوع وكذلك التيمم يجب فيه مسح اليدين إلى الكوعين فإن قطع يده من فوق الكوع مثل أن يقطعها من المرفق أو نصف الساعد فليس عليه إلا دية اليدين إلى الكوعين فإن قطع يده من فوق الكوع مثل أن يقطعها من المرفق أو نصف الساعد فليس عليه إلا دية اليد نص عليه أحمد في رواية أبي طالب وهذا قول عطاء و قتادة و النخعي و ابن أبي ليلى و مالك وهو قول بعض أصحاب الشافعي وظاهر مذهبه عند أصحابه أنه يجب مع دية اليد حكومة لما زاد لأن اسم اليد لها إلى الكوع ولأن المنفعة المقصودة في اليد من البطش والأخذ والدفع بالكف وما زاد تابع للكف والدية تجب في قطعها من الكوع بغير خلاف فتجب في الزائد حكومة كمالو قطعه بعد قطع الكف قال أبو الخطاب : وهذا قول القاضي
ولنا أن اليد اسم للجميع إلى المنكب بدليل قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق } ولما نزلت آية التيمم مسحت الصحابة إلى المناكب وقال ثعلب : اليد إلى المنكب وفي عرف الناس أن جميع ذلك يسمى يدا فإذا قطعها من فوق الكوع فما قطع إلا يدا فلا يلزمه أكثر من ديتها فأما قطعها في السرقة فلأن المقصود يحصل به قطع بعض الشيء يسمى قطعا له كما يقال قطع ثوبه إذا قطع جانبا منه وقولهم أن الدية تجب في قطعها من الكوع قلنا : وكذلك تجب بقطع الأصابع منفردة ولا يجب بقطعها من الكوع أكثر مما يجب في قطع الأصابع والذكر يجب في قطعه من أصله مثل ما يجب بقطع حشفته فأما إذا قطع اليد من الكوع ثم قطعها من المرفق وجب في المقطوع ثانيا حكومة لأنه وجبت عليه دية اليد بالقطع الأول فوجبت بالثاني حكومة كما لو قطع الأصابع ثم قطع الكف أو قطع حشفة الذكر ثم قطع بقيته أو كما لو فعل ذلك اثنان
فصل : فإن جنى عليها فأشلها وجبت عليها ديتها لأنه فوت منفعتها ديتها كمالو أعمى عينه مع بقائها أو أخرس لسانه وإن جنى على يده فعوجها أو نقص قوتها أو شانها فعليه حكومة لنقصها وإن كسرها ثم انجبرت مستقيمة وجبت حكومة لشينها إن شانها ذلك وإن عادت معوجة فالحكومة أكثر لأن شينها أكثر وإن قال الجاني : أنا أكسرها ثم أجبرها مستقيمة لم يمكن من ذلك لأنها جناية ثانية فإن كسرها تعديا ثم جبرها فاستقامت لم يسقط ما وجب من الحكومة في اعوجاجها لأن ذلك استقر حين انجبرت عوجاء وهذه جناية ثانية والجبر الثاني لها دون الأولى ولا يشبه هذا ما إذا ذهب ضوء عينه ثم عاد لأننا تبينا أن الضوء لم يذهب وإنما حال دونه حائل وههنا بخلافه وتجب الحكومة في الكسر الثاني لأنها جناية ثانية ويحتمل أن لا تجب لأنه أزال ضرر العوج منها فكان نفعا فأشبه ما لو جنى عيه بقطع سلعة أزالها عنه
فصل : فإن كان له كفان في ذراع أو يدان على عضد وإحداهما باطشة دون الأخرى أو إحداهما أكثر بطشا أو في سمت الذارع والأخرى منحرفة عنه أو إحداهما تامة والأخرى ناقصة فالأولى هي الأصلية والأخرى زائدة ففي الأصلية ديتها والقصاص بقطعها عمدا والأخرى زائدة فيها حكومة سواء قطعها مفردة أو قطعها مع الأصلية وعلى قول ابن حامد : لا شيء فيها لأنها عيب فهي كالسلعة في اليد وإن استويا فيهما فهما كاليد الشلاء وإن كانتا باطشتين ففيهما جميعا دية اليد وهل تجب حكومة مع ذلك ؟ على وجهين بناء على الزائدة هل فيها حكومة أم لا ؟ وإن قطع إحداهما فلا قود لاحتمال أن تكون هي الزائدة فلا تقطع الأصلية بها وفيها نصف ما فيهما إذا قطعتا لتساويهما وإن قطع أصبعا من إحداهما وجب أرش نصف أصبع وفي الحكومة وجهان وإن قطع ذو اليد التي لها طرفان يدا مفردة وجب القصاص فيهما عى قول ابن حامد لأن هذا نقص لا يمنع القصاص كالسلعة في اليد وعلى قول غيره : لا يجب لئلا يأخذ يدين بيد واحدة ولا تقطع إحداهما لأنا لا نعرف الأصلية فنأخذها ولا نأخذ زائدة باصلية فأما إن كان له قدمان في رجل واحد فالحكم على ما ذكرناه في اليدين فإن كانت إحدى القدمين أطول من الأخرى وكان الطويل مساويا للرجل الأخرى فهو الأصلي وإن كان زائدا عنها والآخر مساو للرجل الأخر فهو الأصلي وإن كان له في كل رجل قدمان يمكنه المشي على الطويلتين مشيا مستقيما فهما الأصليان وإن لم يمكنه فقطعا وأمكنه المشي على القصيرين فهما الأصليان والآخران زائدان وإن أشل الطويلتين ففيهما الدية لأن الظاهر أنهما الأصليان فإن قطعهما قاطع فأمكنه المشي على القصيرين تبين أنهما الأصليان وإن لم يمكنه فالطويلان هما الأصليان (9/621)
مسألة وفصل الدية في الثديين من رجل كانا أو امرأة
مسألة : قال : وفي الثديين الدية سواء كان من رجل أو امرأة
أما ثديا المرأة ففيهما ديتهما لا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وفي الواحد منهما نصف الدية قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في ثدي المرأة نصف الدية وفي الثديين الدية وممن حفظنا ذلك عنه الحسن و الشعبي و الزهري و مكحول و قتادة و الثوري و الشافعي واصحاب الرأي ولأن فيهما جمالا ومنفعة فأشبها اليدين والرجلين وفي أحدهما نصف الدية لأن كل عضوين وجبت الدية فيهما وجب في أحدهما نصفها كاليدين وفي قطع حلمتي الثديين ديتهما نص عليه أحمد رحمه الله وروى نحو هذا الشعبي و النخعي و الشافعي وقال مالك و الثوري إن ذهب اللبن وجبت ديتهما وإلا وجبت حكومة بقدر شينه ونحوه قال قتادة : إذا ذهب الرضاع بقطعهما ففيهما الدية
ولنا أنه ذهب منهما ما تذهب المنفعة بذهابه فوجبت ديتهما كالأصابع مع الكف وحشفة الذكر وبيان ذهاب المنفعة أن بهما يشرب الصبي ويرتضع فهما كالأصابع في الكف وإن قطع الثديين كليهما فليس فيهما إلا دية كما لو قطع الذكر كله وإن حصل مع قطعهما جائفة وجب فيهما ثلث الدية مع ديتهما وإن حصل جائفتان وجبت دية وثلثان وإن ضربهما فأشلهما ففيهما الدية كما لو أشل يديه وإن جنى عليهما فأذهب لبنهما من غير أن يشلهما فقال أصحابنا : فيهما حكومة وهذا قول أصحاب الشافعي ويحتمل أن تجب ديتهما لأنه ذهب بنفعهما فأشبه ما لو أشلهما وهذا ظاهر قول مالك و الثوري و قتادة وإن جنى عليهما من صغيرة ثم ولدت فلم ينزل لها لبن سئل أهل الخبرة فإن قالوا إن الجناية سبب قطع اللبن فعليه ما على من ذهب باللبن بعد وجوده وإن قالوا ينقطع بغير الجناية لم يجب عليه أرشه لأن الأصل براءة ذمته فلا يجب فيها شيء بالشك وإن جنى عليهما فنقص لبنهما أو جنى على ثديين ناهدين فكسرهما أو صار بهما مرض ففيه حكومة لنقصه الذي نقصهما
فصل : فأما ثديا الرجل وهما التندوتان ففيهما الدية وبهذا قال إسحاق وحكي ذلك قولا لـ لشافعي وقال النخعي و مالك وأصحاب الرأي و ابن المنذر : فيهما حكومة وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه ذهب بالجمال من غير منفعة فلم تجب الدية كما لو أتلف العين القائمة واليد الشلاء وقال الزهري : في حلمة الرجل خمس من الإبل وعن زيد بن ثابت : فيه ثمن الدية
ولنا أن ما وجب فيه الدية من المرأة وجب فيه من الرجل كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما عضوان في البدن يحصل بهما الجمال ليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كاليدين ولأنه أذهب الجمال فوجبت الدية كالشعور الأربعة عند أبي حنيفة وكأذني الأصم وأنف الأخشم عند الجميع ويفارق العين القائمة لأنه ليس فيها جمال كامل ولأنها عضو قد ذهب منه ما تجب فيه الدية فلم تكمل ديته كاليدين إذا شلتا بخلاف مسألتنا (9/624)
مسألة وفصل وفي الإليتين الدية وفي الصلب إذا كسر
مسألة : قال : وفي الأليتين الدية
قال ابن المنذر : كل من نحفظ من أهل العل يقولون في الأليتين الدية وفي كل واحدة منهما نصفها منهم عمرو بن شعيب و النخعي و الشافعي واصحاب الرأي ولأنهما عضوان من جنس فيهما جمال ظاهر ومنفعة كاملة فإنه يجلس عليهما كالوسادتين فوجب فيهما الدية وفي إحداهما نصفها كاليدين والأليتان هما ما علا وأشرف من الظهر عن استواء الفخذين وفيهما الدية إذا أخذتا إلى العظم الذي تحتهما وفي ذهاب بعضهما بقدره لأن ما وجبت الدية فيه وجب في بعضه بقدره فإن جهل المقدار وجبت جكومة لأنه نقص لم يعرف قدره
فصل : وفي الصلب الدية إذا كسر فلم ينجبر لما [ روي في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : وفي الصلب الدية ] وعن سعيد بن المسيب أنه قال : مضت السنة أن في الصلب الدية وهذا ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه و سلم وممن قال بذلك زيد بن ثابت و عطاء و الحسن و الزهري و مالك وقال القاضي وأصحاب الشافعي : ليس في كسر الصلب دية إلا أن يذهب مشيه أو جماعة فتجب الدية لتلك المنفعة لأنه عضو ولم تذهب منفعته فلم تجب فيه دية كاملة كسائر الأعضاء
ولنا الخبر ولأنه عضو ليس في البدن مثله فيه جمال ومنفعة فوجبت الدية فيه بمفرده كالأنف وإن ذهب مشيه بكسر صلبه ففيه الدية في قول الجميع ولا يجب أكثر من دية لأنها منفعة تلزم كسر الصلب غالبا فأشبه ما لو قطع رجليه وإن لم يذهب مشيه لكن ذهب جماعة ففيه الدية أيضا روي ذلك عن علي رضي الله عنه لأنه نفع مقصود فأشبه ذهاب مشيه وإن ذهب جماعة ومشيه وجبت ديتان في ظاهر كلام أحمد رحمه الله في رواية ابنه عبد الله لأنهما منفعتان تجب الدية بذهاب كل واحدة منهما منفردة فإذا اجتمعتا وجبت ديتان كالسمع والبصر وعن أحمد فيهما دية واحدة لأنهما نفع عضو واحد فلم يجب فيها أكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب كلامه وذوقه وإن جبر صلبه فعادت إحدى المنفعتين دون الأخرى لم يجب إلا دية إلا أن تنقص الأخرى فتجب حكومة لنقصها أو تنقص من جهة أخرى فيكون فيه حكومة لذلك وإن ادعى ذهاب جماعه وقال رجلان من أهل الخبرة : إن مثل هذه الجناية يذهب بالجماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهته وإن كسر صلبه فشل ذكره اقتضى كلام أحمد وجوب ديتين لكسر الصلب واحدة وللذكر أخرى وفي قول القاضي ومذهب الشافعي يجب في الذكر دية وحكومة لكسر الصلب وإن أشل رجليه ففيهما دية أيضا وإن أذهب ماءه دون جماعة احتمل وجوب الدية وهذا يروى عن مجاهد قال بعض أصحاب الشافعي : هو الذي يقتضيه مذهب الشافعي لأنه ذهب بمنفعة مقصوده فوجبت الدية كما لو ذهب بجماعة أو كما لو قطع أنثييه أو رضهما ويحتمل أن لا تجب الدية كاملة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها (9/626)
مسألة وفي الذكر الدية
مسألة : قال : وفي الذكر الدية
أجمع أهل العلم على أن في الذكر الدية وفي [ كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : وفي الذكر الدية ] ولأنه عضو واحد فيه الجمال والمنفعة فكملت فيه الدية كالأنف واللسان وفي شلله ديته لأنه ذهب بنفعه أشبه ما لو أشل لسانه وتجب الدية في ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب سواء قدر على الجماع أو لم يقدر فأما ذكر العنين فأكثر أهل العلم على وجوب الدية لعموم الحديث ولأنه غير مأيوس من جماعة وهو عضو سليم في نفسه فكملت ديته كذكر الشيخ وذكر القاضي فيه عن أحمد روايتين :
إحداهما : تجب فيه الدية لذلك والثانية : لا تكمل ديته وهو مذهب قتادة لأن منفعته الإنزال والإحبال والجماع وقد عدم ذلك منه في حال الكمال فلم تكمل ديته كالأشل وبهذا فارق ذكر الصبي والشيخ واختلفت الرواية في ذكر الخصي فعنه فيه دية كاملة وهو قول سعيد بن عبد العزيز ة الشافعي و ابن المنذر للخبر ولأن منفعة الذكر الجماع وهو باق فيه والثانية : لا تجب فيه وهو قول مالك و الثوري واصحاب الرأي و قتادة و إسحاق لما ذكرنا في ذكر العنين ولأن المقصود منه تحصيل النسل ولا يوجد ذلك منه فلم يكمل ديته كالأشل والجماع يذهب في الغالب بدليل أن البهائم يذهب جماعها بخصائها والفرق بين ذكر العنين وذكر الخصي أن الجماع في ذكر العنين أبعد منه في ذكر الخصي واليأس من الإنزال متحقق في ذكر الخصي دون ذكر العنين فعلى قولنا : لا تكمل الدية في ذكر الخصي إن قطع الذكر والأنثيين دفعة واحدة أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين لزمته ديتان فإن قطع الأنثيين ثم قطع الذكر لم يلزمه إلا دية واحدة في الأنثيين وفي الذكر حكومة لأنه ذكر خصي قال القاضي : ونص أحمد على هذا وإن قطع نصف الذكر بالطول ففيه نصف الدية ذكره أصحابنا والأولى أن تجب الدية كاملة لأنه ذهب بمنفعة الجماع به فكلمت ديته كما لو أشله أو كسر صلبه فذهب جماعه وإن قطع قطعة منه دون الحشفة وكان البول يخرج على ما كان عليه وجب بقدر القطعة من جميع الذكر من الدية وإن خرج البول من موضع القطع وجب الأكثر من حصة القطعة من الدية أو الحكومة وإن ثقب ذكره فيما دون الحشفة فصار البول يخرج من الثقب ففيه حكومة لذلك (9/628)
مسألة وفي الأنثيين الدية
مسألة : قال : وفي الأنثيين الدية
لا نعلم في هذا خلافا وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي البيضتين الدية ] ولأن فيهما الجمال والمنفعة فإن النسل يكون بهما فكانت فيهما الدية كاليدين وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال : مضت السنة أن في الصلب الدية وفي الأنثيين الدية وفي إحداهما نصف الدية في قول أكثر أهل العلم وحكي عن سعيد بن المسيب أن في اليسرى ثلثي وفي اليمنى ثلثها لأن نفع اليسرى أكثر لأن النسل يكون بها
ولنا أن ما وجبت الدية في شيئين منه وجب في أحدهما نصفها كاليدين وسائر الأعضاء ولأنهما ذو عدد تجب فيه الدية فاستوت ديتهما كالأصابع وما ذكروه ينتقض بالأصابع والأجفان تستوي دياتها مع اختلاف نفعها ثم يحتاج إلى إثبات ذلك الذي ذكره وإن رض أنثييه أو أشلهما كما ديتهما كما لو أشل يديه أو ذكره فإن قطع أنثييه فذهب نسله لم يجب أكثر من دية لأن ذلك نفعهما فلم تزدد الدية بذهابه معهما كالبصر مع ذهاب العينين والبطش مع ذهاب الرجلين وإن قطع إحداهما فذهب النسل لم يجب أكثر من نصف الدية لأن ذهابه غير متحقق (9/630)
مسألة وفصل الدية في الرجلين
مسألة : قال : وفي الرجلين الدية
أجمع أهل العلم على أن في الرجلين الدية وفي إحداهما نصفها روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال قتادة و مالك وأهل المدينة و الثوري و أهل العراق و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقد ذكرنا الحديث والمعنى فيما تقدم وفي تفصيلها مثل ما ذكرنا من التفصيل في اليدين سواء ومفصل الكعبين ههنا مثل مفصل الكوعين في اليدين
فصل : وفي قدم الأعرج ويد الأعسم الدية لأن العرج لمعنى في غير القدم والعسم الإعوجاج في الرسغ وليس ذلك عيبا في قدم ولا كف فلم يمنع ذلك كال الدية فيهما وذكر أبو بكر أن في كل واحدة منهما ثلث الدية كاليد الشلاء ولا يصح لأن هذين لم تبطل منفعتهما فلم تنقص ديتهما بخلاف اليد الشلاء (9/631)
مسألة وفصل اصبع اليدين والرجلين والأصبع الزائدة
مسألة : قال : وفي كل أصبع من اليدين والرجلين عشر من الإبل وفي كل أنملة منها ثلث عقلها إلا الإبهام فإنها مفصلان ففي كل مفصل منها خمس من الإبل
هذا قول عامة أهل العلم منهم عمر وعلي وابن عباس وبه قال مسروق و عروة و مكحول و الشعبي وعبد الله ابن معقل و الثوري و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أبوثور وأصحاب الرأي وأصحاب الحديث ولا نعلم فيه مخالفا إلا رواية عن عمر أنه قضى في الإبهام بثلث غرة وفي التي تليها باثنتي عشرة وفي الوسطى بعشر وفي التي تليها بتسع وفي الخنصر بست وروي عنه أنه لما أخبر بكتاب كتبه النبي صلى الله عليه و سلم لآل حزم وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل أخذ به وترك قوله الأول وعن مجاهد في الإبهام خمس عشرة وفي التي تليها ثلاث عشرة وفي التي تليها عشر وفي التي تليها ثمان وفي التي تليها سبع
ولنا ما روى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل أصبع ] أخرجه الترمذي وقال : حديث صحيح رواه أبو داود عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذه وهذه سواء ] يعني الإبهام والخنصر أخرجه البخاري و أبو داود وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل ] ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فكان سواء في الدية كالأسنان والأجفان وسائر الأعضاء ودية كل أصبع مقسومة على أناملها وفي كل أصبع ثلاث أنامل إلا الإبهام فإنها أنملتان ففي كل أنملة من غير الإبهام ثلث عقل الإبهام ثلاثة أبعرة وثلث وفي كل أنملة من الإبهام خمس من الإبل نصف ديتها وحكي عن مالك أنه قال : الإبهام أيضا ثلاث أنامل إحداها باطنة وليس هذا بصحيح فإن الاعتبار بالظاهر فإن قوله عليه السلام : [ في كل أصبع عشر من الإبل ] يقتضي وجوب العشر في الظاهر لأنها هي الأصبع التي يقع عليها الإسم دون ما بطن منها كما أن السن التي يتعلق بها وجوب ديتها هي الظاهرة من لحم اللثة دون سنخها والحكم في أصابع اليدين والرجلين سواء لعموم الخبر فيهما وحصول الإتفاق عليهما
فصل : وفي الأصبع الزائدة حكومة وبذلك قال الثوري و الشافعي واصحاب الرأي وعن زيد بن ثابت أن فيها ثلث دية الأصبع وذكر القاضي أنه قياس المذهب على رواية إيجاب الثلث في اليد الشلاء والأول أصح لأن التقدير لا يصار إليه إلا بالتوقيف أو بمماثلته لما فيه توقيف وليس ذلك ههنا لأن اليد الشلاء يحصل بها الجمال والأصبع الزائدة لا جمال فيها في الغالب ولأن جمال اليد الشلاء لا يكاد يختلف والأصبع الزائدة تختلف باختلاف محالها وصفتها وحسنها وقبحها فكيف يصح قياسها على اليد ؟ (9/632)
مسألتان وفصلان وفي البطن الدية وفي ذهاب العقل
مسألة : قال : وفي البطن إذا ضرب فلم يستمسك الغائط الدية وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية
وبهذا قال ابن جريج و أبو ثور و أبو حنيفة ولم أعلم فيه مخالفا إلا أن ابن أبي موسى ذكر في المثانة رواية أخرى فيها ثلث الدية والصحيح الأول لأن كل واحد من هذين المحلين عضو فيه منفعة كبيرة ليس في البدن مثله فوجب في تفويت منفعته دية كاملة كسائر الأعضاء المذكورة فإن نفع المثانة حبس البول وحبس البطن الغائط منفعة مثلها والنفع بهما كثير والضرر بفواتهما عظيم فكان في كل واحدة منهما الدية كالسمع والبصر وإن فاتت المنفعتان بجناية واحدة وجب على الجاني ديتان كما لو ذهب سمعه وبصره بجناية واحدة
مسألة : قال : وفي ذهاب العقل الدية
لا نعلم في هذا خلافا وقد روي عن عمر وزيد رضي الله عنهما وإليه ذهب من بلغنا قوله من الفقهاء وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي العقل الدية ] ولأنه أكبر المعاني قدرا وأعظم الحواس نفعا فإن به يتميز من البهيمة ويعرف به حقائق المعلومات ويهتدي إلى مصالحه ويتقي ما يضره ويدخل به في التكليف وهو شرط في ثبوت الولايات وصحة التصرفات وأداء العبادات فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس فإن نقص عقله نقصا معلوما مثل أن صار يجن يوما ويفيق يوما فعليه من الدية بقدر ذلك لأن ما وجب فيه الدية وجب بعضها في بعضه بقدره كالأصابع وإن لم يعلم مثل أن صار مدهوشا أو يفزع مما لا يفزع منه ويستوحش إذا خلا فهذا لا يمكن تقديره فتجب فيه حكومة
فصل : فإن أذهب عقله بجناية لا توجب أرشا كاللطمة والتخويف ونحو ذلك ففيه الدية لا غير وإن اذهبه بجناية توجب أرشا كالجراح أو قطع عضو وجبت الدية وأرش الجرح وبهذا قال مالك و الشافعي في الجديد وقال أبو حنيفة و الشافعي في القديم : يدخل الأقل منهما في الأكثر فإن كانت الدية أكثر من أرش الجرح وجبت وحدها وإن كان أرش الجرح أكثر كأن قطع يديه ورجليه فذهب عقله وجبت دية الجرح ودخلت دية العقل فيه لأن ذهاب العقل تختل معه منافع الأعضاء فدخل أرشها فيه كالموت
ولنا أن هذه جناية أذهبت منفعة من غير محلها مع بقاء النفس فلم يتداخل الأرشان كما لو اوضحه فذهب بصره أو سعه ولأنه لو جنى على أذنه أو أنفه فذهب سمعه أو شمه لم يدخل أرشهما في دية الأنف والأذن مع قربهما منهما فههنا أولى وما ذكروه لا يصح لأنه لو دخل أرش الجرح في دية العقل لم يجب ارشه إذا زاد على دية العقل كما أن دية الأعضاء كلها مع القتل لا يجب بها أكثر من دية النفس ولا يصح قولهم إن منافع الأعضاء تبطل بذهاب العقل فإن المجنون تضمن منافعه وأعضاؤه بعد ذهاب عقله بما تضمن به منافع الصحيح وأعضاؤه ولو ذهبت منافعه وأعضاؤه لم تضمن كما لا تضمن منافع الميت وأعضاؤه وإذا جاز أن تضمن بالجناية عليها بعد الجناية عليه جاز ضمانها مع الجناية عليه كما لو جنى عليه فأذهب سمعه وبصره بجراحة في غير محلها
فصل : فإن جنى عليه فأذهب عقله وسمعه وبصره وكلامه وجب أربع ديات مع أرش الجرح قال أبو قلابة : رمى رجل رجلا بحجر فذهب عقله وبصره وسمعه ولسانه فقضى فيه عمر بأربع ديات وهو حي ولأنه أذهب منافع في كل واحدة منها دية فوجب عليه دياتها كما لو أذهبها بجنايات فإن مات من الجناية لم يجب إلا دية واحدة لأن ديات المنافع كلها تدخل في دية النفس كديات الأعضاء (9/634)
مسألة وفصل وفي الصعر الدية
مسألة : قال : وفي الصعر الدية والصعر أن يضربه فيصير وجهه في جانب
أصل الصعر داء يأخذ البعير في عتقه فيلتوي عنقه وقول الله تعالى : { ولا تصعر خدك للناس } أي لا تعرض عنه بوجهك تكبرا كإمالة وجه البعير الذي به الصعر فن جنى على إنسان جناية فعوج عنقه حتى صار وجهه في جانب فعليه دية كاملة روي ذلك عن زيد بن ثابت وقال الشافعي : ليس فيه إلا حكومة لأنه إذهاب جمال من غير منفعة
ولنا ما روى مكحول عن زيد بن ثابت أنه قال : وفي الصعر الدية ولم يعرف له في الصحابة مخالف فكان إجماعا ولأنه أذهب الجمال والمنفعة فوجبت فيه دية كاملة كسائر المنافع وقولهم : لم يذهب يمنفعته غير صحيح فإنه لا يقدر على النظر أامه واتقاء ما يحذره إذا مشى وإذا نابه أمر أو دهمه عدو لم يمكنه به ولا اتقاؤه ولا يمكنه لي عنقه ليعرف ما يريده نظره ويتعرف ما ينفعه ويضره
فصل : فإن جنى عليه فصار الالتفات عليه شاقا أو ابتلاع الماء أو غيره ففيه حكومة لأنه لم يذهب بالمنفعة كلها ولا يمكن تقديرها وإن صار بحيث لا يمكنه ازدراد ريقه فهذا لا يكاد يبقى فإن بقي مع ذلك ففيه الدية لأنه تفويت منفعة ليس لها مثل في البدن (9/636)
مسالة وفصلدية اليد الشلاء والعين القائمة والسن السوداء
مسألة : قال : وفي اليد الشلاء ثلث ديتها وكذلك العين القائمة والسن السوداء
اليد الشلاء التي ذهب منها منفعة البطش والعين القائمة التي ذهب بصرها وصورتها باقية كصورة الصحيحة واختلفت الرواية عن أحمد فيهما وفي السن السوداء فعنه : في كل واحدة ثلث ديتها وروي هذا عن أبي الخطاب و مجاهد وبه قال إسحاق وعن زيد بن ثابت : في العين القائمة مائة دينار والرواية الثالثة عن أحمد في كل واحدة حكومة وهذا قول مسروق و الزهري و مالك و الشافعي و أبي ثور و النعمان و ابن المنذر لأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة لكونها قد ذهبت منفعتها ولا مقدر فيها فتجب الحكومة فيها كاليد الزائدة
ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : [ قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث ديتها وفي السن السوداء إذا قلعت ثلث ديتها ] رواه النسائي وأخرجه أبو داود في العين وحدها مختصرا وقول عمر رضي الله عنه رواه قتادة عن خلاس عن عبدالله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قضي في العين القائمة إذا خسفت واليد الشلاء إذا قطعت والسن السوداء إذا كسرت ثلث دية كل واحدة منهن ولأنها كاملة الصورة فكانت فيها مقدر كالصحيحة وقولهم : لا يمكن إيجاب مقدر ممنوع فإنا قد ذكرنا التقدير وبيناه
فصل : قال القاضي : قول احمد رحمه الله في السن السوداء ثلث ديتها محمول على سن ذهبت منفعتها بحيث لا يمكنه أن يعض بها الأشياء أو كانت تفتت فأما إن كانت منفعتها باقية ولم يذهب منها إلا لونها ففيها كمال ديتها سواء قلت منفعتها بأن عجز عن عض الأشياء الصلبة بها أو لم يعجز لأنها باقية المنفعة فكملت ديتها كسائر الأعضاء وليس على من سوادها إلا حكومة وهذا مذهب الشافعي والصحيح من مذهب أحمد ما يوافق ظاهر كلامه لظاهر الأخبار وقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقول أكثر أهل العلم ولأنه ذهب جمالها بتسويدها فكملت ديتها على من سودها كما لو سود وجهه ولم يجب على متلفها أكثر من ثلث ديتها كاليد الشلاء وكالسن إذا كانا بيضاء فانقلعت ونبت مكانها لمرض فيها فإن القاضي وأصحاب الشافعي سلموا أنها لا تكمل ديتها (9/637)
مسألة وفصول في الأسنان واللسان والأيدي وذكر واسكتي المرأة وركبها
فصل : فإن نبتت أسنان صبي سوداء ثم ثغر ثم عادت سوداء فديتها تامة لأن هذا جنس خلق على هذه الصورة فأشبه من خلق أسود الجسم والوجه جميعا وإن نبتت أولا بيضاء ثم ثغر عادت سوداء سئل أهل الخبرة فإن قالوا : ليس السوداء لعلة ولا مرض ففيها أيضا كمال ديتها وإن قالوا ذلك لمرض فعلى قالعها ثلث ديتها أو حكومة وقد سلم القاضي وأصحاب الشافعي الحكم في هذه الصورة وهو حجة عليهم فيما خالفوا فيه ويحتمل أن يكون الحكم فيما كانت سوداء من ابتداء الخلقة هكذا لأن المرض قد يكون في فيه من ابتداء خلقته فيثبت حكمه في بعض ديتها كما لو كان طارئا
فصل : وفي لسان الأخرس روايتان أيضا كالروايتين في اليد الشلاء وكذلك كل عضو ذهبت منفعته وبقيت صورته كالرجل الشلاء والأصبع والذكر إذا كان أشل وذكر الخصي والعنين إذا قلنا : لا تكمل ديتهما واشباه هذا فكله يخرج على الروايتين إحداهما : في ثلث ديته والأخرى حكومة
فصل : فأما اليد أو الرجل أو الأصبع أو السن الزوائد ونحو ذلك فليس فيه إلا حكومة وقال القاضي : هذا في معنى اليد الشلاء فتكون على قياسها يخرج على الروايتين والذي ذكرناه أصح لأنه لا تقدير في هذا ولا هو في معنى القدر ولا يصح قياس هذا على ذهبت منفعته وبقي جماله لأن هذه الزوائد لا جمال فيها إنما هي شين في الخلقة وعيب يرد به المبيع وتنقص به القيمة فكف يصح قياسه على ما يحصل به الجمال ؟ ثم لو حصل به جمال ما لكنه يخالف جمال العضو الذي يحصل به تمام الخلقة ويختلف في نفسه اختلافا كثيرا فوجبت فيه الحكومة ويحتمل أن لا يجب فيه شيء لما ذكرنا
فصل : واختلفت الرواية في قطع الذكر بعد حشفته وقطع الكف بعد أصابعه فروى أبو طالب عن أحمد : فيه ثلث ديته وكذلك شحمة الأذن وعن أحمد في ذلك كله حكومة والصحيح في هذا أن فيه حكومة لعدم التقدير فيه وامتناع قياسه على ما فيه تقدير لأن الأشل بقيت صورته وهذا لم تبق صورته إنما بقي بعض ما فيه الدية أو أصل ما فيه الدية فأما قطع الذراع بعد قطع الكف والساق بعد قطع القدم فينبغي أن تجب الحكومة فيه وجها واحدا لأن إيجاب ثلث دية اليد فيه يفضي إلى أن يكون الواجب فيه مع بقاء الكف والقدم وذهابهما واحدا مع تفاوتهما وعدم النص فيهما والله أعلم
مسألة : قال : وفي إسكتي المرأة الدية
الإسكتان هما اللحم المحيط بالفرج من جانبيه إحاطة الشفتين بالفم وأهل اللغة يقولون : الشفران حاشيتا الإسكتين كما أن أشفار العين أهدابها وفيهما دية المرأة إذا قطعا وبهذا قال الشافعي وقاله الثوري إذا لم يقدر على جماعها وقضى به محمد بن سفيان إذا بلغ العظم لأن فيهما جمالا ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فوجبت فيهما الدية كسائر ما فيه منه شيئان وفي إحداهما نصف الدية كما ذكرنا في غيرهما وإن جنى عليهما فأشلهما وجبت ديتهما كما لو جنى على شفتيه فأشلهما ولا فرق بين كونهما غليظتين أو دقيقتين قصيرتين أو طويلتين من بكر أو ثيب أو صغيرة أو كبيرة مخفوضة أو غير مخفوضة لأنهما عضوان فيهما الدية فاستوى فيهما جميع ما ذكرنا كسائر أعضائها ولا فرق بين الرتقاء وغيرها لأن الرتق عيب في غيرهما فلم ينقص ديتهما كما أن الصمم لم ينقص دية الأذنين والخفض هو الختان في حق المرأة
فصل : وفي ركب المرأة حكومة وهو عانة المرأة وكذلك في عانة الرجل لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لما قدر فيه فإن أخذ منه شيء مع فرج المرأة أو ذكر الرجل ففيه الحكومة مع الدية كما لو أخذ مع الأنف والشفتين شيء من اللحم الذي حولهما (9/639)
مسائل وفصول أحكام الموضحة وما يجب في الهاشمة وفي المنقلة
مسألة : قال وفي موضحة الحر خمس من الإبل سواء كان من رجل أو امرأة والموضحة في الرأس والوجه سواء وهي التي تبرز العظم
هذه من شجاج الرأس أو الوجه وليس في الشجاج ما فيه قصاص سواها ولا يجب المقدر في أقل منها وهي التي تصل إلى العظم سميت موضحة لأنها أبدت وضح العظم وهو بياضه وأجمع أهل العلم أن أرشها مقدر قال ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي الموضحة خمس من الإبل ] رواه أبو داود و النسائي و الترمذي وقال حديث حسن وقول الخرقي في موضحة الحر يحترز به من موضحة العبد وقوله : سواء كان من رجل أو امرأة يعني أنهما لا يختلفان في أرش الموضحة لأنها دون ثلث الدية وهما يستويان فيما دون الثلث ويختلفان فيما زاد وعند الشافعي أن موضحة المرأة على النصف من موضحة الرجل بناء على أن جراح المرأة على النصف من جراح الرجل في الكثير والقليل وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وعموم الحديث الذي رويناه ههنا حجة عليه وفيه كفاية وأكثر أهل العلم على أن الموضحة في الرأس والوجه سواء روي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبه قال شريح و مكحول و الشعبي و النخعي و الزهري و ربيعة و عبيد الله بن الحسن و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال : تضعف الوجه على موضحة الرأس فيجب في موضحة الوجه عشر من الإبل لأن شينها أكثر وذكره القاضي رواية عن أحمد ووضحة الرأس يسترها الشعر والعمامة وقال مالك : إذا كانت في الأنف أو في اللحي الأسفل ففيها حكومة لأنها تبعد عن الدماغ فأشبهت موضحة سائر البدن
ولنا عموم الأحاديث وقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الموضحة في الرأس والوجه سواء ولأنها موضحة فكان أرشها خمسا من الإبل كغيرها ما سلموه ولا عبرة بكثرة الشين بدليل التسوية بين الصغيرة والكبيرة وما ذكروه لـ مالك لا يصح فإن الموضحة في الصدر أكثر ضررا وأقرب إلى القلب ولا مقدر فيها وقد روي عن أحمد رحمه الله أنه قال : موضحة الوجه أحرى أن يزاد في ديتها وليس معنى هذا أنه يجب فيها أكثر والله أعلم إنما معناه أنها أولى بإيجاب الدية فإنه إذا وجب في موضحة الرأس مع قلة شينها واستتارها بالشعر وغطاء الرأس خمس من الإبل فلأن يجب ذلك في الوجه الظاهر الذي هو مجمع المحاسن وعنوان الجمال أولى وحمل كلام أحمد على هذا أولى من حمله على ما يخالف الخبر والأثر وقول أكثر أهل العلم ومصيره إلى التقدير بغير توقيف ولا قياس صحيح
فصل : ويجب أرش الموضحة في الصغيرة والكبيرة والبارزة والمستورة بالشعر لأن اسم الموضحة يشمل الجميع وحد الموضحة ما أفضى إلى العظم ولو بقدر إبرة ذكره ابن القاسم والقاضي فإن شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة لأنه لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحه قلأن لا يلزمه في الإيضاح في البعض أكثر من ذلك أولى وهكذا لو شجه شجة بعضها هاشمة وباقيها دونها لم يلزمه أكثر من أرش هاشمة وإن كانت منقلة وما دونها أو مأمومة وما دونها فعليه أرش منقلة أو مأمومة لما ذكرنا
فصل : وليس في موضحة غير الرأس والوجه مقدر في قول اكثر أهل العلم منهم إمامنا و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال ابن عبد البر : ولا يكون في البدن موضحة يعني ليس فيها مقدر قال على ذلك جماعة العلماء إلا الليث بن سعد قال : الموضحة تكون في الجسد أيضا وقال الأوزاعي : في جراحة الجسد على النصف من جراحة الرأس وحكي نحو ذلك عن عطاء الخراساني قال : في الموضحة في سائر الجسد خمسة وعشرون دينارا
ولنا أن اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس وقول الخليفتين الراشدين : الموضحة في الوجه والرأس سواء يدل على أن باقي الجسد بخلافه ولأن الشين فيما في الرأس والوجه أكثر وأخطر مما في سائر البدن فلا يلحق به ثم إيجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن يجب في موضحة العضو أكثر من ديته مثل أن يوضح أنملة ديتها ثلاثة ودية الموضحة خمس وأما قول الأوزاعي و عطاء الخراساني فتحكم لا نص فيه ولا قياس يقتضيه اطراحه
فصل : وإن أوضحه في رأسه وجر السكين إلى قفاه فعليه أرش موضحة وحكومة لجرح القفا لأن القفا ليس بموقع للموضحة وإن أوضحه في رأسه ومدها إلى وجهه فعلى وجهين :
أحدهما : أنها موضحة واحدة لأن الوجه والرأس سواء في الموضحة فصار كالعضو الواحد
والثاني : هما موضحتان لأنه أوضحه في عضوين فكان لكل واحد منهما حكم نفسه كما لو أوضحه في رأسه ونزل إلى القفا
فصل : وإن أوضحه في رأسه موضحتين بينهما حاجز فعليه أرش موضحتين لأنهما موضحتان فإن أزال الحاجز الذي بينهما وجب أرش موضحة واحدة لأنه صار الجميع بفعله موضحة فصار كما لو أوضح الكل من غير حاجز يبقى بينهما وإن اندملتا ثم أزال الحاجز بينهما فعليه أرش ثلاث مواضح لأنه استقر عليه أرش الأوليين بالاندمال ثم لزمته دية الثالثة وإن تأكل ما بينهما قبل اندمالها فزال لم يلزمه أكثر من أرش واحدة لأن سراية فعله كفعله وإن اندملت إحداهما وزال الحاجز بفعله أو سراية الأخرى فعليه أرش موضحتين وإن أزال الجاز أجنبي فعلى الأول أرش موضحتين وعلى الثاني أرش موضحة لأن فعل أحدهما لا ينبني على فعل الآخر فانفرد كل واحد منهما بحكم جنايته وإن أزاله المجني عليه وجب على الأول أرش موضحتين لأن ما وجب بجنايته لا يسقط بفعل غيره فإن اختلفا فقال الجاني : أنا شققت ما بينهما وقال المجني عليه : بل أنا أو أزالها آخر سواك فالقول قول المجني عليه لأن سبب أرش موضحتين قد وجد والجاني يدعي زواله والمجني عليه ينكره والقول قول المنكر والأصل معه وإن أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذي بينهما في الباطن وترك الجلد الذي فوقهما ففيها وجهان :
أحدهما : يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر والثاني : أرش موضحة لاتصالهما في الباطن وإن جرحه جراحا واحدة وأوضحه في طرفيها وباقيها دون الموضحة ففيه أرش موضحتين لأن ما بينهما ليس بموضحة
مسألة : قال : وفي الهاشمة عشر من الإبل وهي التي توضح العظم وتهشمه
الهاشمة هي التي تتجاوز الموضحة فتهشم العظمم سميت هاشمة لهشمها العظم ولم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه و سلم فيها تقدير وأكثر من بلغنا من أهل العلم على أن أرشها مقدر بعشر من الإبل روى ذلك قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت وبه قال قتادة و الشافعي و العنبري ونحوه قال الثوري وأصحاب الرأي إلا أنهم قدروها بعشر الدية من الدراهم وذلك على قولهم ألف درهم وكان الحسن لا يوقت فيها شيئا وحكي عن مالك أنه قال : لا أعرف الهاشمة لكن في الإيضاح خمس وفي الهشم حكومة قال ابن المنذر : النظر يدل على قول الحسن إذ لا سنة فيها ولا إجماع ولأنه لم ينقل فيها عن النبي صلى الله عليه و سلم تقدير فوجبت فيها الحكومة كما دون الموضحة
ولنا قول زيد ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف ولأنه لم نعرف له مخالفا في عصره فكان إجماعا ولأنها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر كالمأمومة
فصل : والهاشمة في الرأس والوجه خاصة على ما ذكرنا في الموضحة وإن هشمه هاشمتين بينهما حاجز ففيهما عشرون من الإبل على ما ذكرنا في الموضحة من التفصيل وتستوي الهاشمة الصغيرة والكبيرة وإن شجه شجة بعضها موضحة وبعضها هاشمة وبعضها سمحاق وبعضها متلاحمة وجب أرش الهاشمة لأنه لو كان جميعها هاشمة أجزأ أرشها ولو انفرد القدر المهشوم وجب أرشها فلا ينقص ذلك بما إذا زاد من الأرش في غيرها وإن ضرب رأسه فهشم العظم ولم يوضحه لم تجب دية الهاشمة بغير خلاف لأن الأرش المقدر وجب في هاشمة يكون معها موضحة وفي الواجب فيها وجهان :
أحدهما : فيها خمس من الإبل لأنه لو أوضح وكسر لوجبت عشر : خمس في الإيضاح وخمس في الكسر فإذا وجد الكسر دون الإيضاح وجب خمس والثاني : تجب حكومة لأنه كسر عظم لا جرح معه فأشبه كسر قصبة الأنف
فصل : فإن أوضحه موضحتين هشم العظم في كل واحدة منهما واتصل الهشم في الباطن فهما هاشمتان لأن الهشم إنما يكون تبعا للإيضاح فإذا كانتا موضحتين كان الهشم هاشمتين بخلاف الموضحة فإنها ليست تبعا لغيرها فافترقا
مسألة : قال : وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وهي التي توضح وتهشم وتسطو حتى تنقل عظامها
المنقلة زائدة على الهاشمة وهي التي تكسر العظام وتزيلها عن واضعها فيحتاج إلى نقل العظ ليلتئم وفيها خمس عشرة من الإبل بإجماع من أهل العلم حكاه ابن المنذر وفي كتاب النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم : [ وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل ] وفي تفصيلها ما في تفصيل الموضحة الهاشمة على ما مضى (9/641)
سائل وفصول دية المأمومة والجائفة وفرج البكر والزوجة الصغيرة
مسألة : قال : وفي المأمومة ثلث الدية وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وفي الآمة مثل ما في المأمومة
المأمومة والآمة شيء واحد قال ابن عبد البر : أهل العراق يقولون لها الآمة وأهل الحجاز المأمومة وهي الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ سميت لأنها تحوطه وتجمعه فإذا وصلت الجراحة إليها سميت آمة ومأمومة يقال أم الرجل آمة ومأمومة وأرشها ثلث الدية في قول عامة أهل العلم إلا مكحولا فإنه قال : إن كانت عمدا ففيها ثلثا الدية وإن كانت خطأ ففيها ثلثها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب عمرو بن حزم : [ وفي المأمومة ثلث الدية ] وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك وروي نحوه عن علي ولأنها شجة فلم يختلف أرشها بالعمد والخطأ في المقدار كسائر الشجاج
فصل : وإن خرق جلدة الدماغ فهي الدامغة وفيها ما في المأمومة قال القاضي : لم يذكر أصحابنا الدامغة لمساواتها المأمومة في أرشها وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق جلدة الدماغ ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب
فصل : فإن أوضحه رجل ثم هشه الثاني ثم جعلها الثالث منقلة ثم جعلها الرابع مأمومة فعلى الأول أرش موضحته وعلى الثاني خمس تمام أرش الهاشمة وعلى الثالث خمس تمام أرش المنقلة وعلى الرابع ثمانية عشر وثلث تمام أرش المأمومة
مسألة : قال : وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى الجوف
وفي قول عامة أهل العلم منهم أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الراي إلا مكحولا قال فيها : في العمد ثلثا الدية
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في كتاب عمرو بن حزم : [ وفي الجائفة ثلث الدية ] وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم مثل ذلك ولأنها جراحة فيها مقدر يختلف قدر أرشها بالعمد والخطأ كالموضحة ولا نعلم في جراح البدن الخالية عن قطع الأعضاء وكسر العظام مقدرا غير الجائفة والجائفة ما وصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو ثغرة نحر أو ورك أو غيره
وذكر ابن عبد البر أن مالكا و أبا حنيفة و الشافعي و البتي وأصحابهم اتفقوا على أن الجائفة لا تكون إلا في الجوف قال ابن القاسم : الجائفة ما أفضى إلى الجوف ولو بمغرز إبرة فأما إن خرف شدقه فوصل إلى باطن الفم فليس بجائفة لأن داخل الفم حكمه حكم الظاهر لا حكم الباطن وإن طعنه في وجنته فكسر العظم ووصل إلى فيه فليس بجائفة لما ذكرنا
وقال الشافعي في أحد قوليه : هو جائفة لأنه قد وصل إلى جوف وهذا ينتقض بما إذا خرق شدقه فعلى هذا يكون عليه دية هاشمة لكسر العظم وفيما زاد حكومة وإن جرحه في أنفه فأنفذه فهو كما لو جرحه في وجنته فأنفذه إلى فيه في الحكم والخلاف وإن جرحه في ذكره فوصل إلى مجرى البول من الذكر فليس بجائفة لأنه ليس بجوف يخاف التلف من الوصول إليه بخلاف غيره
فصل : وإن أجافه جائفتين بينهما حاجز فعليه ثلثا الدية وإن خرق الجاني ما بينهما أو ذهب بالسراية صارا جائفة واحدة فيها ثلث الدية لا غير وإن خرق ما بينهما أجنبي أو المجني عليه فعلى الأول ثلثا الدية وعلى الأجنبي الثاني ثلثها ويسقط ما قابل فعلى المجني عليه وإن احتاج إلى خرق ما بينهما للمداواة فخرقها المجني عليه أو غيره بأمره أو خرقها ولي الجني عليه لذلك أو الطبيب بأمره فلا شيء في خرق الحاجز وعلى الأول ثلثا الدية وإن أجافه رجل فوسعها آخر فعلى كل واحد منهما أرش جائفة لأن فعل كل واحد منهما لو انفرد كان جائفة فلا يسقط حكمه بانضمامه إلى فعل غيره لأن فعل الإنسان لا ينبني على فعل غيره وإن وسعها الطبيب بإذنه أو إذن وليه لمصلحته فلا شيء عليه وإن وسعها جان آخر في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر فعليه حكومة لأن جنايته لم تبلغ الجائفة وإن أدخل السكين في الجائفة ثم أخرجها عزر ولا أرش عليه وإن كان قد خاطها فجاء آخر فقطع الخيوط وأدخل السكين فيها قبل أن تلتحم عزر أشد من التعزير الأول الذي قبله وغرمه ثمن الخيوط وأجرة الخيوط ولم يلزمه أرش جائفة لأنه لم يجفه وإن فعل ذلك بعد التحامها فعليه أرش الجائفة وثمن الخيوط لأنه بالالتحام عاد إلى الصحة فصار كالذي لم يجرح وإن التحم بعضها دون بعض ففتق ما التحم فعليه أرش جائفة لما ذكرنا وإن فتق غير ما التحم عليه فليس عليه أرش الجائفة وحكمه حكم من فعل مثل فعله قبل أن يلتحم منها شيء وإن فتق بعض ما التحم في الظاهر دون الباطن أو الباطن دون الظاهر فعليه حكومة كما لو وسع جرحه كذلك
فصل : وإن جرح فخذه ود السكين حتى بلغ الورك فأجاف فيه أو جرح الكتف وجر السكين حتى بلغ الصدر فأجافه فيه فعليه أرش الجائفة وحكومة في الجراح لأن الجراح في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما لو أوضحه في رأسه وجر السكين حتى بلغ القفا فإنه يلزمه أرش موضحة وحكومة لجرح القفا
فصل : فإن أدخل حديدة أو خشبة أو يده في دبر إنسان فخرق حاجزا في الباطن فعليه حكومة ولا يلزمه أرش جائفة لأن الجائفة ما خرقت من الظاهر إلى الجوف وهذه بخلافه وكذلك لو أدخل السكين في جائفة إنسان فخرق شيئا في الباطن فليس ذلك بجائفة لما ذكرنا
مسألة : قال : فإن جرحه في جوفه فخرج من الجانب الآخر فهما جائفتان
هذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و مجاهد و قتادة و مالك و الشافعي واصحاب الرأي قال ابن عبد البر : لا أعلمهم يختلفون في ذلك وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه قال هي جائفة واحدة وحكي أيضا عن أبي حنيفة لأن الجائفة هي التي تنفذ من ظاهر البدن إلى الجوف وهذه الثانية إنما نفذت من الباطن إلى الظاهر
ولنا ما روى سعيد بن المسيب أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه فقضى أبو بكر رضي الله عنه بثلثي الدية ولا مخالف له فيكون إجماعا أخرجه سعيد بن منصور في سننه وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قضى في الجائفة إذا نفذت الجوف بارش جائفتين لأنه أنفذه من موضعين فكان جائفتين كما لو أنفذه بضربتين وما ذكروه غير صحيح فإن الاعتبار موصول الجرح إلى الجوف لا بكيفية إيصاله إذ لا أثر لصورة الفعل مع التساوي في المعنى ولأن ما ذكروه من الكيفية ليس بمذكور في خبر وإنما العادة والغالب وقوع الجائفة هكذا فلا يعتبر كما أن العادة والغالب حصولها بالحديد ولو حصلت بغيره لكانت جائفة ثم ينتقض ما ذكروه بما لو أدخل يده في جائفة إنسان فخرق بطنه في موضع آخر فإنه يلزمه أرش جائفة بغير خلاف نعلمه وكذلك يخرج فيمن اوضح إنسانا في رأسه ثم أخرج رأس السكين في موضع آخر فهي موضحتان فإن هشمه هاشمة لها مخرجان فهي هشمتان وكذلك ما أشبهه
فصل : فإن أدخل أصبعه في فرج بكر فأذهب بكارتها فليس بجائفة لأن ذلك ليس بجوف
مسألة : قال : ومن وطىء زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية
معنى الفتق خرق ما بين مسلك البول والمني وقيل : بل معناه خرق ما بين القبل والدبر إلا أن هذا بعيد لأنه يبعد أن يذهب بالوطء ما بينهما من الحاجز فإنه حاجز غليظ قوي والكلام في هذه المسألة في فصلين
الفصل الأول : في أصل وجوب الضمان والثاني : في قدره أما الأول فإن الضمان إنما يجب بوطء الصغيرة أو النحيفة التي لا تحمل الوطء دون الكبيرة المحتملة له وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : يجب الضمان في الجميع لأنه جناية فيجب الضمان به كما لو كان في أجنبية
ولنا أنه وطء مستحق فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة ولأنه فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما يفضي إلى ذلك وكقطع السارق أو استيفاء القصاص وعكسه الصغيرة والمكرهة على الزنا إذا ثبت هذا فإنه يلزمه المهر المسمى في النكاح مع أرش الجناية ويكون أرش الجناية في ماله إن كان عمدا محضا وهو أن يعل مأنها لا تطيقه وأن وطأه يفضيها فأما إن لم يعلم ذلك وكان مما يحتمل أن لا يفضي إليه فهو عمد الخطأ فيكون على عاقلته إلا على قول من قال : إن العاقلة لا تحمل عمد الخطأ فإنه يكون في ماله
الفصل الثاني : في قدر الواجب وهو ثلث الدية وبهذا قال قتادة و ابو حنيفة وقال الشافعي : تجب الدية كاملة وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز لأنه أتلف منفعة الوطء فلزمته الدية كما لو قطع اسكتيها
ولنا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في الإفضاء بثلث الدية ولم نعرف له في الصحابة مخالفا ولأن هذه جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة ولا نسلم أنها تمنع الوطء وأما قطع الإسكتين فإنما أوجب الدية لأنه قطع عضوين فيهما نفع وجمال فأشبه قطع الشفتين
فصل : وإن استطلق بولها مع ذلك لزمته دية من غير زيادة وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : تجب دية وحكومة لأنه فوت منفعتين فلزمه أرشهما كما لو فوت كلامه وذوقه
ولنا أنه أتلف عضوا واحدا لم يفت غير منافعه فلم يضمنه بأكثر من دية واحدة كما لو قطع لسانه فذهب ذوقه وكلامه وما قاله لا يصح لأنه لو أوجب دية المنفعتين لأوجب ديتين لأن استطلاق البول موجب الدية والإفضاء عنده وجب الدية منفردا ولم يقل به وإنما أوجب الحكومة ولم يوجد مقتضيها فإننا لا نعلم أحدا أوجب في الإفضاء حكومة
فصل : وإن اندمل الحاجز وانسد وزال الإفضاء لم يجب ثلث الدية ووجبت حكومة لجبر ما حصل من النقص (9/647)
فصول دية افضاء المكرهة والموطءة بشبهة واستطلاق بول المكرهة
فصل : وإن أكره امرأة على الزنا فأفضاها لزمع ثلث ديتها ومهر مثلها لأنه حصل بوطء غير مستحق ولا مأذون فيه فلزمه ضمان ما أتلف به كسائر الجنايات وهل يلزمه أرش البكارة مع ذلك ؟ فيه روايتان : إحداهما : لا يلزمه لأن ارش البكارة داخل في مهر المثل فإن مهر البكر أكثر من مهر الثيب فالتفاوت بينهما هو عوض أرش البكارة فلم يضمنه مرتين كما في حق الزوجية والثاني : يضمنه لأنه محل أتلفه بعدوانه فلزمه ارشه كما لو أتلفه بأصبعه فأما المطاوعة على الزنا إذا كانت كبيرة ففتقها فلا ضمان عليه في فتقها وقال الشافعي : يضمن لأن المأذون فيه الوطء دون الفتق فأشبه لو قطع يدها
ولنا أنه ضرر حصل من فعل ماذون فيه فلم يضمنه كأرش بكارتها ومهر مثلها وكما لو أذنت في قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها وفارق ما إذا أذنت في وطئها فقطع يدها لأن ذلك ليس من المأذون فيه ولا من ضرورته
فصل : وإن وطىء امرأة بشبهة فأفضاها فعليه أرش إفضائها مع مهر مثلها لأن الفعل إنما أذن فيه اعتقادا أن المستوفي له هو المستحق فإاذ كان غيره ثبت في حقه وجوب الضمان لما أتلف كما لو أذن في أخذ الدين لمن يعتقد لأنه مستحقه فبان أنه غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يجب لما أكثر الأمرين من مهر مثلها أو أرش إفضائها لأن الأرش لإتلاف العضو فلا يجمع بين ضمانه وضمان منفعته كما لو قلع عينا
ولنا أن هذه جناية عن الوطء فلم يدخل بدله فيها كما لو كسر صدرها وما ذكروه غير صحيح فإن المهر يجب لاستيفاء منفعة البضع والأرش يجب لإتلاف الحاجز فلا تدخل المنفعة فيه
فصل : وإن استطلق بول المكرهة على الزنا والموطوءة بشبهة مع إفضائهما فعليه ديتهما والمهر وقال أبو حنيفة في الموطوءة بشبهة : لا يجمع بينها ويجب أكثرهما وقد سبق الكلام معه في ذلك (9/654)
مسألتان وفصل دية الضلع والترقوة والعظام الباطنة
مسألة : قال : وفي الضلع بعير وفي الترقوة بعيران
ظاهر هذا أن في كل ترقوة بعيرين فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة وهذا قول زيد بن ثابت والترقوة العظم المستدبر حول العتق من النحر إلى الكتف ولكل واحد ترقوتان ففيهما أربعة أبعرة في ظاهر قول الخرقي وقال القاضي : المراد بقول الخرقي الترقوتان معا وإنما اكتفي بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام المقتضية للإستغراق فيكون في كل ترقوة بعير وهذا قول عمر بن الخطاب وبه قال سعيد بن المسيب و مجاهد و عبد الملك ابن مروان وسعيد بن جبير و قتادة و إسحاق وهو قول لـ لشافعي والمشهور من قوليه عند أصحابه أن في كل واحد مما ذكرنا حكومة وهو قول مسروق و أبي حنيفة و مالك و ابن المنذر لأنه عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعة فلم يجب فيه أرش مقدر كسائر أعضاء اليدن ولأن التقدير إنما يكون بتوقيف أو قياس صحيح وليس في هذا توقيف ولا قياس وروي عن الشعبي أن في الترقوة أربعين دينارا وقال عمرو بن شعيب : في الترقوتين الدية وفي إحداهما نصفها لأنهما عضوان فيهما جمال ومنفعة وليس في البدن غيرهما من جنسهما فكملت فيهما الدية كاليدين
ولنا قول عمر رضي الله عنه وزيد بن ثابت وما ذكروه ينتقض بالهاشمية فإنها كسر عظام باطنة وفيها مقدر ولا يصح قولهم إنها لا تختص بجمال ومنفعة فإن جمال هذه العظام ونفعها لا يوجد في غيرها ولا مشارك لها فيه وأما قول عمرو بن شعيب فنخالف للإجماع فإننا لا نعلم أحدا قبله ولا بعده وافقة فيه
مسألة : قال : وفي الزند أربعة أبعرة لأنه عظمان
قال القاضي : يعني به الزندين فيهما أربعة أبعرة لأن فيهما أربعة عظام ففي كل عظم بعير وهذا يروى عن عمر بن الخطاب وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : فيه حكومة لما تقدم
ولنا ما روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا يحيى بن سعيد بن عمرو بن شعيب أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر فكتب إليه عمر : إن فيه بعيرين وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من الإبل ورواه ايضا من طريق آخر مثل ذلك وهذا لم يظهر له مخالف في الصحابة فكان إجماعا
فصل : ولا مقدر في غير هذه العظام في ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر أهل العلم وقال القاضي : في عظم الساق بعيران وفي الساقين أربعة وفي عظم الفخذ بعيران وفي الفخذين أربعة فهذه تسعة عظام فيها مقدر الضلع والترقوتان والزنديان والساقان والفخذان وما عداها لا مقدر فيه وقال ابن عقيل وأبو الخطاب وجماعة من اصحاب القاضي : في كل واحد من الذارع والعضد بعيران وزاد أبو الخطاب عظم القدم لما روى سليمان بن يسار أن عمر قضى في الذراع والعضد والفخذ والساق والزند إذا كسر واحد منها فجبر ولم يكن به دحور يعني عوجا بعير وإن كان فيها دحور فبحساب ذلك وهذا الخبر إن صح فهو مخالف لما ذهبوا إليه فلا يصلح دليلا عليه والصحيح إن شاء الله أنه لا تقدير في غير الخمسة الضلع والترقوتين والزندين لأن التقدير إنما يثبت بالتوقيف ومقتضى الدليل وجوب الحكومة في هذه العظام الباطنة كلها وإنما خالفناه في هذه العظام لقضاء عمر رضي الله عنه ففيما عداها يبقى على مقتضى الدليل وما عدا هذه العظام كعظم الظهر وغيره ففيه الحكومة ولا نعلم فيه مخالفا وإن خالف فيها مخالف فهو قول شاذ لا يستند إلى دليل يعتمد عليه ولا يصار إليه (9/655)
مسألة أنواع الشجاج التي لا توقيت فيها ولا تقدير
مسألة : قال : والشجاج التي لا توقيت فيها أولها الحارصة وهي التي تحرص الجلد
يعني تشقه قليلا وقال بعضهم : هي الحارصة ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم البازلة وهي التي يسيل منها الدم ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم ثم السمحاق وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة ثم الموضحة هكذا وقع في النسخ التي وصلت إلينا : الحراصة ثم الباضعة ثم البازلة ولعله من غلط الكاتب والصواب الحارصة ثم البازلة ثم الباضعة هكذا رتبها سائر من علمنا قوله من أهل العلم ولأن الباضعة التي تشق اللحم بعد الجلد فلا يمكن وجودها قبل البازلة التي يسيل منها الدم وتسمى الدامعة لقلة سيلان دمها تشبيها له بخروج الدع من العين والتي تشق اللحم بعد الجلد يسيل منها دم كثير في الغالب فكيف يصح جعلها سابقة على لا يسيل منها إلا دم يسير كدمع العين ؟ ويدل على صحة ما ذكرناه أن زيد بن ثابت جعل في البازلة بعيرا وفي الباضعة بعيرين وقول الخرقي : والشجاج يعني جراح الرأس والوجه فإنه يسمى شجاجا خاصة دون جراح سائر البدن والشجاج المسماة عشر خمس منها أرشها مقدر وقد ذكرناها وخمس لا توقيت فيها قال الأصمعي أولها الحارصة وهي التي تشق الجلد قليلا يعني تقشر شيئا يسيرا من الجلد لا يظهر منه دم ومنه حرص القصار الثوب إذا شقه قليلا ثم البازلة وهي التي يبزل منها الدم أي يسيل وتسمى الدامية ايضا والدامعة ثم الباضعة وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم يعني دخلت فيه دخولا كثيرا يزيد على الباضعة ولم تبلغ السمحاق ثم السحاق وهي التي تصل إلى قشرة رقيقة فوق العظم تسمى تلك القشرة سمحاقا وسميت الجراح الواصلة إليها بها ويسميها أهل المدينة الملطا والملطاة وهي تأخذ اللحم كله حتى تخلص منه ثم الموضحة وهي التي تقشر تلك الجلدة وتبدي وضح العظم أي بياضه وهي أول الشجاج الموقتة وما قبلها من الشجاج الخمس فلا توقيت فيها في الصحيح من مذهب أحمد وهو قول أكثر الفقهاء يروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز و مالك و الأوزاعي و الشافعي واصحاب الراي وروي عن أحمد رواية أخرى أن في الدامية بعيرا وفي الباضعة بعيرين وفي المتلاحمة ثلاثة وفي السمحاق أربعة أبعرة لأن هذا يروى عن زيد بن ثابت وروي عن علي في السمحاق مثل ذلك رواه سعيد عنهما وعن عمر وعثمان فيها نصف أرش الموضحة والصحيح الأول لأنها جراحات لم يرد فيها توقيت في الشرع فكان الواجب فيها حكومة كجراحات البدن وروي عن مكحول قال : [ قضى النبي صلى الله عليه و سلم في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيما دونها ] ولأنه لم يثبت فيها مقدر بتوقيف ولا له قياس يصح فوجب الرجوع إلى الحكومة كالحارصة وذكر القاضي أنه متى أمكن اعتبار هذه الجراحات من الموضحة مثل أن يكون في رأس المجني عليه موضحا إلى جانبها قدرت هذه الجراحة منها فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة إن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش وعلى هذا إلا أن تزيد الحكومة على قدر ذلك فتوجب ما تخرجه الحكومة فإذا كانت الجراحة قدر نصف الموضحة وشينها ينقص قدر ثلثيها أوجبنا ثلثي أرش الموضحة وإن نقصت الحكومة أقل من النصف أوجبنا النصف فنوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة لأنه اجتمع سببان موجبان الشين وقدرها من الموضحة فوجب بها أكثرهما لوجود سببه والدليل على إيجاب المقدار أن هذا اللحم فيه مقدر فكان في بعضه بمقدار من ديته كالمارن والحشفة والشفة والجفن وهذا مذهب الشافعي وهذا لا نعلمه مذهبا لـ أحمد ولا يقتضيه مذهبه ولا يصح لأن هذه جراحة تجب فيها الحكومة يجب فيها مقدر كجراحات البدن لا يصح قياس هذا على ما ذكروه فإنه لا تجب فيه الحكومة ولا نعلم لما ذكروه نظيرا (9/658)
مسألة الشحاج التي تجب فيها الحكومة وضابطها
مسألة : قال : وما لم يكن فيه من الجراح توقيت ولم يكن نظيرا لما وقتت ديته ففيه حكومة
أما الذي فيه توقيت فهو الذي [ نص النبي صلى الله عليه و سلم على أرشه وبين قدر ديته كقوله : في الأنف الدية وفي اللسان الدية ] وقد ذكرناه وأما نظيره فهو ما كان في معناه ومقيسا عليه كالأليتين والثديين والحاجبين وقد ذكرنا ذلك أيضا فما لم يكن من الموقت ولا مما لا يمكن قياسه عليه كالشجاج التي دون الموضحة وجراح البدن سوى الجائفة وقطع الأعضاء وكسر العظام المذكورة فليس فيه إلا الحكومة (9/660)
مسألتان وفصلان كيفية الحكومة في ديات الجراح
مسألة : قال : والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقصته الجناية فله مثله من الدية كأن قيمته وهو عبد صحيح عشرة وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة فيكون فيه عشر ديته
هذا الذي ذكره الخرقي رحمه الله في تفسير الحكومة قول أهل العلم كلهم لا نعلم بينهم فيه خلافا وبه قال الشافعي و العنبري و أصحاب الرأي وغيرهم قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم حكومة أن يقال : إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا الجروح لو كان عبدا لم يجرح هذا الجرح فإذا قيل مائة دينار قيل : وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه ؟ قيل خمسة وتسعون فالذي يجب على الجاني نصف عشر الدية وإن قالوا تسعون فعشر الدية وإن زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة منها كما أن المبيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان أرش عيبه مقدرا من الثمن فيقال كم قيمته لا عيب فيه فقالوا عشرة فيقال : كم قيمته وفيه العيب فإذا قيل تسعة عل أنه نقص عشر قيمته فيجب أن ترد من الثمن عشرة أي قدر كان ونقدره عبدا ليمكن تقويمه ونجعل العبد أصلا للحر فيما لا موقت فيه والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت
مسألة : قال : وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه فيكون أسهل مما وقت فيه فلا يجاوز به أرش الموقت
يعني لو نقصته الجناية أكثر من عشر قيمته لوجب أكثر من عشر ديته ولو نقصته أقل من العشر مثل أن نقصته نصف عشر قيمته لوجب نصف عشر ديته إلا إذا شجه دون الموضحة فبلغ أرش الجراح بالحكومة أكثر من أرش الموضحة لم يجب الزائد فلو جرحه في وجهه سمحاقا فنقصته عشر قيمته فمقتضى الحكومة وجوب عشر من الإبل ودية الموضحة خمس فههنا يعلم غلط المقوم لأن الجراحة لو كانت موضحة لم تزد على خمس مع أنها سمحاق وزيادة عليها فلأن لا يجب في بعضها زيادة على خمس أولى وهذا قول أكثر أهل العلم وبه يقول الشافعي و أصحاب الرأي وحكي عن مالك أنه يجب ما تخرجه الحكومة كائنا ما كان لأنها جراحة لا مقدر فيها فوجب فيها ما نقص كما لو كانت في سائر البدن
ولنا أنها بعض الموضحة لأنه لو أوضحه لقطع ما قطعته هذه الجراحة ولا يجوز أن يجب في بعض الشيء أكثر مما يجب فيه ولأن الضرر في الموضحة أكثر والشين أعظم والمحل واحد فإذا لم يزد أرش الموضحة على خمس كان ذلك تنبيها على أن لا يزيد ما دونها عليها وأما سائر البدن فما كان فيه موقت كالأعضاء والعظام المعلومة والجائفة فلا يزاد جرح عظم على ديته مثاله جرح أنملة فبلغ أرشها بالحكومة خمسا من الإبل فإنه يرد إلى دية الأنملة وإن جنى عليه في جوفه دون الجائفة لم يزد على أرش الجائفة وما لم يكن كذلك وجب ما أخرجته الحكومة لأن المحل مختلف فإن قيل : فقد وجب في بعض البدن أكثر مما وجب في جميعه ووجب في منافع اللسان أكثر من الواجب فيه قلنا : إنا وجبت دية النفس عوضا عن الروح وليست الأطراف بعضها بخلاف مسألتنا هذا ذكره القاضي ويحتمل كلام الخرقي أن يختص امتناع الزيادة بالرأس والوجه لقوله إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه فلا يجاوز به أرش الموقت
فصل : وإذا أخرجت الحكومة في شجاج الرأس التي دون الموضحة قدر أرش الموضحة أو زيادة عليه فظاهر كلام الخرقي أنه يجب أرش الموضحة وقال القاضي : يجب أن تنقص عنها شيئا على حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد وهذا مذهب الشافعي لئلا يجب في بعضها ما يجب في جميعها ووجه قول الخرقي أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة وإنما سقط الزائد على أرش الموضحة لمخالفته النص أو تنبيه النص ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل ولأن ما ثبت بالتنبيه يجوز أن يساوي المنصوص عليه في الحكم ولا يلزم أن يزيد عليه كما أنه نص على وجوب فدية الأذى في حق المعذور ولم تلزم زيادتها في حق من لا عذر له ولا يمتنع أن يجب في البعض ما يجب في الكل بدليل وجوب دية الأصابع مثل دية اليد كلها وفي حشفة الذكر مثل ما في جميعه فإن هذا وجب بالتقدير الشرعي لا بالتقويم قلنا : إذا ثبت الحكم بنص الشارع لم يمتنع ثبوت مثله بالقياس عليه والاجتهاد المؤدي إليه وفي الجملة فالحكومة دليل ترك العمل بها في الزائد لمعنى مفقود في المساوي فيجب العمل فيه بها لعدم المعارض ثم وإن صح ما ذكروه فينبغي أن ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحذورة ويجب الباقي عملا بالدليل الموجب له والله أعلم
فصل : ولا يكون التقويم إلا بعد برء الجرح لأن أرش الجرح المقدر إنما يستقر بعد برئه فإن لم تنقصه الجناية شيئا بعد البرء مثل أن قطع أصبعا أو يدا زائدة أو قلع لحية امرأة فلم ينقصه ذلك بل زاده حسنا فلا شيء على الجاني لأن الحكومة لأجل جبر النقص ولا نقص ههنا فأشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر وإن زادته الجناية حسنا فالجاني محسن بجنايته فلم يضمن كا لو قطع سلعة أو ثؤلولا وبط خراجا ويحتمل أن يضمن قال القاضي : نص أحمد على هذا لأن هذا جزء مضمون فلم يعر عن ضمان كما لو أتلف قدر الأرش فازداد به جمالا أو لم ينقصه شيئا فعلى هذا يقوم في هذا أقرب الأحوال إلى البرء لأنه لما سقط اعتبار قيمته بعد برئه قوم في أقرب الأحوال إليه كولد المغرور لما تعذر تقويمه في البطن قوم عند الوضع لأنه أقرب الأحوال التي أمكن تقويمه إلى كونه في البطن وإن لم ينقص في تلك الحال قوم والدم جار لأنه لا بد من نقص للخوف عليه ذكره القاضي ولأصحاب الشافعي وجهان كما ذكرنا : وتقوم لحية المرأة كأنها الحية رجل في حال ينقصه ذهاب لحيته وإن أتلف سنا زائدة قوم وليس له سن ولا خلفها أصلي ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة فإن كانت المرأة إذا قدرناه ابن عشرين نقصها ذهاب لحيتها يسيرا وإن قدرناها ابن أربعين نقصها كثيرا قدرناها ابن عشرين لأنه أقرب الأحوال إلى حال المجني عليه فأشبه تقويم الجرح الذي لا ينقص بعد الاندمال فإنا نقومه في أقرب أحوال النقص إلى حال الاندمال والأول أصح إن شاء الله فإن هذا لا مقدر فيه ولا ينقص شيئا فأشبه الضرب وتضمين النقص الحاصل حال جريان الدم إنما هو تضمين الخوف عليه وقد زال فأشبه ما لو لطمه فاصفر لونه حال اللطمة أو احمر ثم زال ذلك وتقدير المرأة رجلا لا يصح لأن اللحية زين للرجل وعيب فيها وتقدير ما يعيب بما يزين لا يصح وكذلك تقدير السن في حالة يراد زوالها بحالة تكره لا يجوز فإن الشيء يقدر بنظيره ويقاس على مثله لا على ضده ومن قال بهذا الوجه فإنما يوجب أدنى ما يمكن إيجابه وهو أقل نقص يمكن تقديره (9/661)
فصل دية الوجه إذا لطمه فغير لونه
فصل : وإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه فلا ضمان عليه لأنه لم ينقص به جمال ولا منفعة ولم يكن له حال ينقص فيها فلم يضمنه كما لو شتمه وإن سود وجهه أو خضره ضمنه بديته لأنه فوت الجمال على الكمال فضمنه بديته كما لو قطع أذني الأصم وأنف الأخشم وقال الشافعي : ليس فيه إلا حكومة لأنه لا مقدر فيه ولا هو نظير لمقدر وقد ذكرنا أنه نظير لقطع الأذنين في ذهاب الجمال بل هو أعظم في ذلك فيكون يإيجاب الدية أولى وإن زال السواد يرد ما أخذه لزوال سبب الضمان وإن زال بعضه وجبت فيه حكومة ورد الباقي وإن صفر وجهه أو حمره ففيه حكومة لأن الجمال لم يذهب على الكمال وهذا يشبه ما لو سود سنة أو غير لونها على ما ذكرنا من التفصيل فيها (9/666)
مسألة وفصل دية جراح الرقيق واطرافه
مسألة : قال : وإن كانت الجناية على العبد مما ليس فيه شيء موقت في الحر ففيه ما نقصه بعد التئام الجرح وإن كان فيما جنى عليه شيء موقت في الحر فهو موقت في العبد ففي يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر وهكذا الأمة
وجملته أن الجناية على العبد يجب ضمانها بما نقص من قيمته لأن الواجب إنا وجب جبرا لما فات بالجناية ولا ينجبر إلا بإيجاب ما نقص من القيمة فيجب ذلك كما لو كانت الجناية على غيره من الحيوانات وسائر المال ولا يجب زيادة على ذلك لأن حق المجني عليه قد انجبر فلا يجب له زيادة على ما فوته الجاني عليه هذا هو الأصل ولا نعلم فيه خلافا فيما ليس فيه مقدر شرعي فإن كان الفائت بالجناية موقتا في الحر كيده وموضحته ففيه عن أحمد روايتان : إحداهما : أن فيه أيضا ما نقصه بالغا ما بلغ وذكر أبو الخطاب أن هذا اختيار الخلال وروى الميموني عن أحمد أنه قال : إنما يأخذ قيمة ما نقص منه على قول ابن عباس وروي هذا عن مالك فيا عدا موضحته ومنقلته وهاشمته وجائفته لأن ضمانه ضمان الأموال فيجب فيه ما نقص كالبهائم ولأن ما ضمن بالقيمة بالغا ما بلغ ضمن بعضه بما نقص كسائر الأموال ولأن مقتضى الدليل ضمان الفائت بما نقص خالفناه فيما وقت في الحر كما خالفناه في ضمان بقيته بالدية الموقتة ففي العبد يبقى فيهما على مقتضى الدليل وظاهر المذهب أن ما كان موقتا في الحر فهو مقوت في العبد ففي يده أو عينه أو أذنه أو شفته نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وما أوجب الدية في الحر كالأنف واللسان واليدين والرجلين والعينين والأذنين أوجب قيمة العبد مع بقاء ملك السيد عليه روي هذا عن علي رضي الله عنه وروي نحوه عن سعيد بن المسيب وبه قال ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز و الشافعي و الثوري وبه قال أبو حنيفة قال أحمد : هذا قول سعيد بن المسيب وقال آخرون : ما أصيب به العبد فهو على ما نقص من قيمته والظاهر أن هذا لو كان قول علي ما احتج أحمد فيه إلا به غيره إلا أن أبا حنيفة و الثوري قالا : ما أوجب الدية من الحر يتخير سيد العبد بين أن يغرمه قيمته ويصير ملكا للجاني وبين أن لا يضمنه شيئا لئلا يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل لرجل واحد وروي عن إياس بن معاوية فيمن قطع يد عبد عمدا أو فقأ عينه هو له وعليه ثمنه
ووجه هذه الرواية قول علي رضي الله عنه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا ولأنه آدمي يضمن بالقصاص والكفارة فكان في أطرافه مقدر كالحر ولأن أطرافه فيها مقدر من الحر فكان فيها مقدر من العبد كالشجاج الأربع عند مالك وما يوجب في شجاجه مقدر وجب في أطرافه مقدر كالحر وعلى أبي حنيفة قول علي ولأن هذه الأعضاء فيها مقدر فوجبت ذلك فيها مع بقاء ملك السيد في العبد كاليد الواحدة وسائر الأعضاء ولأن من ضمنت يده بمقدر ضمنت يداه بمثليه من غير أن يملكه كالحر وقولهم أنه اجتمع البدل والمبدل لواحد ليس بصحيح لأن القيمة ههنا بدل العضو وحده ولو كان بدلا عن الجملة لكان بدل اليد الواحدة بدلا عن نصفه وبدل تسع أصابع بدلا عن تسعة أعشاره والأمر بخلافه والأمة مثل العبد في ذلك إلا أنها تشبه بالحرة وإذا بلغت ثلث قيمتها احتمل أن جنايتها ترد إلى النصف فيكون في ثلاث أصابع ثلاثة اعشار قيمتها وفي أربعة أصابع خمسها كما أن المرأة تساوي الرجل في الجراح إلى ثلث ديتها فإذا بلغت الثلث ردت إلى النصف والأمة امرأة فيكون أرشها من قيمتها كأرش الحرة ويحتمل أن لا يرد إلى النصف لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل لكون الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية وإن كلما زاد نقصها وضررها زاد في ضمانها فإذا خولف هذا في الحرة بقينا في الأمة على وفق الأصل
فصل : وإذا جنى على العبد في رأس أو وجه دون الموضحة فنقصته أكثر من أرشها وجب ما نقصته ويحتمل أن يرد إلى نصف عشر قيمته كالحر إذ زاد أرش شجته التي دون الموضحة على نصف عشر ديته والأول أولى لأن هذه جراحة لا موقت فيها فكان الواجب فيها ما نقص كما لو كانت في غير راسه ولأن الأصل وجوب ما نقص خولف في المقدر ففي هذا يبقى على الأصل (9/666)
مسألة وفصل دية قتل الخنثى المشكل وجراحه
مسألة : قال : وإن كان المقتول خنثى مشكلا فيه نصف دية ذكر ونصف دية أنثى
وهذا قول أصحاب الراي وقال الشافعي : الواجب دية أنثى لأنها اليقين فلا يجب الزائد بالشك ولنا أنه يحتمل الذكورية والأنوثية احتمالا واحدا وقد يئسنا من انكشاف حاله فيجب التوسط بينهما والعمل بكلا الاحتمالين
فصل : فأما جراحه فما لم يبلغ ثلث الدية ففيه دية جرح الذكر لاستواء الذكر والأنثى في ذلك وإن زاد على الثلث مثل أن قطع يده ففيه ثلاثة أرباع دية الذكر سبعة وثلاثون بعيرا ونصف ويقاد به الذكر والأنثى لأنهما لا يختلفان في القود ويقاد هو بكل واحد منهما (9/670)
مسألة دية المبعض
مسألة : قال : وإن كان المجني عليه نصفه حر ونصفه عبد فلا قود وعلى الجاني إن كان عمدا نصف دية حر ونصف قيمته وهكذا في جراحه وإن كان خطأ فعليه نصف قيمته وعلى عاقلته نصف الدية
يعني لا قود على قاتله إذا كان نصفه حرا لأنه ناقص بالرق فلم يقتل به الحر كما لو كان كله رقيقا وإن كان قاتله عبدا قتل به لأنه أكمل من الجاني وإن كان نصف القاتل حرا وجب القود لتساويهما وإن كانت الحرية في القاتل أكثر لم يجب القود لعدم المساواة بينهما وفي ذلك كله إذا لم يكن القاتل عبدا فعليه نصف دية حر ونصف قيمته إذا كان عمدا لأن العاقلة لا تحمل العمد وإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته لأن العاقلة لا تحمل العبد وعلى عاقلته نصف الدية لأنها دية حر في الخطأ والعاقلة تحمل ذلك وهكذا الحكم في جراحه إذا كان قدر الدية من أرشها يبلغ ثلث الدية مثل أن يقطع أنفه أو يديه وإن قطع إحدى يديه فعقل جميعها على الجاني في ماله لأن عليه نصف دية اليد وهو ربع ديته لأجل حرية نصفه وذلك دون ثلث الدية وعليه ربع قيمته (9/671)
فصل دية الأعضاء كدية النفس
فصل : ودية الأعضاء كدية النفس فإن كان الواجب من الذهب او الورق لم يختلف بعمد ولا خطأ وإن كان من الإبل وجب في العمد أرباعا على إحدى الروايتين وفي الأخرى يجب خمس وعشر منها حقاق وخمس وعشر جذاع وخمساها خلفات وفي الخطأ يجب أخماسا فإن لم يمكن مثل أن يوضحه عمدا فإنه يجب أربعة أرباعا والخامس من أحد الأجناس الأربعة قيمته ربع قيمة الأربع وإن قلنا بالرواية الأخرى وجب خلفتان وحقه وجذعة وبعير قيمته نصف قيمة حقة ونصف جذعة وإن كان خطأ وجب الخمس من الأحناس الخمسة من كل جنس بعير وإن كان الواجب دية أنملة وقلنا يجب من ثلاثة أجناس وجب بعير وثلث من الخلفات وحقة وجذعة وإن قلنا أرباعا وجب ثلاثة وثلث قيمتها نصف قيمة الأربعة وثلثها وإن كان خطأ فقيمتها ثلثا قيمة الخمس وعند أصحابنا قيمة كل بعير مائة وعشرون درهما أو عشرة دنانير ولا فائدة في تعيين أسنانها فإن اختلفت قيمة الدنانير والدراهم مثل أن كانت العشرة دنانير تساوي مائة درهم فقياس قولهم أنه إذا جاء بما قيمته عشرة دنانير لزم المجني عليه قبوله لأنه لو جاءه بالدنانير لزمه قبولها فيلزمه قبول ما يساويها والله أعلم (9/672)
باب القسامة
القسامة مصدر أقسم قسما وقسامة ومعناه حلف حلفا والمراد بالقسامة ههنا الأيمان المكررة في دعوى القتل قال القاضي : هي الأيمان إذا كثرت على وجه المبالغة قال : وأهل اللغة يذهبون إلى أنها القوم الذين يحلفون سموا باسم المصدر كما يقال رجل زور وعدل ورضا وأي الأمرين كان فهو من القسم الذي هو الحلف والأصل في القسامة ما روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار و سهل بن أبي حثمة و رافع بن خديج [ أن محيصة بن مسعود و عبد الله بن سهل انطلقا الى خيبر فتفرقا في النخيل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة ومحيصة الى النبي صلى الله عليه و سلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم فقال النبي صى الله عليه وسلم : كبر كبر - أو قال : ليبدأ الأكبر فتكلما في أمر صاحبهما فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع اليكم برمته فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم قالوا : يا رسول الله قوم كفار ضلال قال : فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من قبله قال سهل : فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الابل ] متفق عليه (10/3)
مسألة وفصول : إذا وجد قتيل فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولم يكن لهم بينة
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : اذا وجد فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولم يكن لهم بينة لم يحكم لهم بيمين ولا غيرها
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : في أنه إذا وجد قتيل في موضع فادعى أولياؤه قتله على رجل أو جماعة ولم تكن بينهم عداوة ولا لوث فهي كسائر الدعاوى إن كانت لهم بينة حكم لهم بها وإلا فالقول قول المنكر وبهذا قال مالك و الشافعي و ابن المنذر وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا ادعى أولياؤه قتله على أهل المحلة أو على معين فللولي أن يختار من الموضع خمسين رجلا يحلفون خمسين يمينا : والله ما قتلناه ولا علمنا قاتله فان نقصوا عن الخمسين كررت الأيمان عليهم حتى تتم فإذا حلفوا وجبت الدية على باقي الخطة فإن لم يكن وجبت على سكان الموضع فان لم يحلفوا حبسوا حتى يحلفوا أو يقروا لما روي أن رجلا وجد قتيلا بين حيين فحلفهم عمر رضي الله عنه خمسين يمينا وقضى بالدية على أقربهما يعني أقرب الحيين فقالوا : والله ما وقت أيماننا أموالنا ولا أموالنا أيماننا فقال عمر : حقنتم بأموالكم دماءكم
ولنا حديث عبد الله بن سهل وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البينة على المدعي واليمين على من أنكر ] ولأن الأصل في المدعى عليه براءة ذمته ولم يظهر كذبه فكان القول قوله كسائر الدعاوى ولأنه مدعى عليه فلم تلزمه اليمين والغرم كسائر الدعاوى وقول النبي صلى الله عليه و سلم اولى من قول عمر وأحق بالاتباع ثم قصة عمر يحتمل أنهم اعترفوا بالقتل خطأ وأنكروا العمد فأحلفوا على العمد ثم أنهم لا يعملون بخبر النبي صلى الله عليه و سلم المخالف للاصول وقد صاروا ههنا الى ظاهر قول عمر المخالف للاصول وهو ايجاب الأيمان على غير المدعى عليه وإلزامهم الغرم مع عدم الدعوى عليهم والجمع بين تحليفهم وتغريمهم وحبسهم على الأيمان قال ابن المنذر : [ سن النبي صلى الله عليه و سلم البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] وسن القسامة في القتيل الذي وجد بخيبر وقول أصحاب الرأي خارج عن هذه السنن
فصل : ولا تسمع الدعوى على غير معين فلو كانت الدعوى على أهل مدينة أو محلة أو واحد غير معين أو جماعة منهم بغير أعيانهم لم تسمع الدعوى وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : تسمع ويستحلف خمسون منهم لأن الأنصار ادعوا القتل على يهود خيبر ولم يعينوا القاتل فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم دعواهم
ولنا أنها دعوى في حق فلم تسمع على غير معين كسائر الدعاوى فأما الخبر فإن دعوى الأنصار التي سمعها رسول الله صلى الله عليه و سلم لم تكن الدعوى التي بين الخصمين المختلف فيها فان تلك من شرطها حضور المدعى عليه عندهم أو تعذر حضوره عندنا وقد بين النبي صلى الله عليه و سلم أن الدعوى لا تصح على واحد بقوله : [ تقسمون على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] وفي هذا بيان أن الدعوى لا تصح على غير معين
فصل : فأما إن ادعى القتل من غير وجود قتل ولا عداوة فحكمها حكم سائر الدعاوى في اشتراط تعيين المدعى عليه وان القول قوله لا نعلم فيه خلاف
الفصل الثاني : فأنه اذا ادعى القتل ولم تكن عداوة ولا لوث ففيه عن أحمد روايتان :
إ حداهما : لا يحلف المدعى عليه ولا يحكم عليه بشيء ويخلى سبيله هذا الذي ذكره الخرقي ههنا وسواء كانت الدعوى خطأ أو عمدا لأنها دعوى فيما لا يجوز بذله فلم يستحلف فيها كالحدود ولأنه لا يقضى في هذه الدعوى بالنكول فلم يستحلف فيها كالحدود
والثانية : يستحلف وهو الصحيح وهو قول الشافعي لعموم قوله عليه السلام : [ اليمين على المدعى عليه ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ] ظاهر في ايجاب اليمين ههنا لوجهين أحدهما عموم اللفظ فيه والثاني أن النبي صلى الله عليه و سلم ذكره في صدر الخبر بقوله : [ لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ] ثم عقبه بقوله [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] فيعود إلى المدعى عليه المذكور في الحديث ولا يجوز إخراجه منه إلا بدليل أقوى منه ولأنها دعوى في حق آدمي فيستحلف فيها كدعوى المال ولأنها دعوى لو أقر بها لم يقبل رجوعه عنها فتجب اليمين فيها كالأصل المذكور إذا ثبت هذا فالمشروع يمين واحدة وعن أحمد أنه يشرع خمسون يمينا لأنها دعوى في القتل فكان المشروع فيها خمسون يمينا كما لو كان بينهم لوث و للشافعي قولان في هذا كالروايتين
ولنا أن قوله عليه السلام : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ظاهر في أنها يمين واحدة من وجهين أحدهما أنه وحد اليمين فينصرف الى واحدة والثاني أنه لم يفرق في اليمين المشروعة فيدل على التسوية بين المشروعة في الدم والمال ولأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل فلم تغلظ كسائر الايمان ولأنها يمين مشروعة في جنبة المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالتكرير كسائر الايمان وبهذا فارق ما ذكروه فإن نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب القصاص بغير خلاف في المذهب وقال أصحاب الشافعي إن نكل المدعى عليه ردت اليمين على المدعي فحلف خمسين يمينا واستحق القصاص ان كانت الدعوى عمدا والدية إن كانت موجبة للقتل لأن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كالبينة أو الاقرار والقصاص يجب بكل واحد منهما
ولنا أن القتل لم يثبت ببينة ولا إقرار ولم يعضده لوث فلم يجب القصاص كما لو لم ينكل ولا يصح إلحاق الايمان مع النكول ببينة ولا إقرار لأنها أضعف منها بدليل أنه لا يشرع عند عدمهما فيكون بدلا عنهما والبدل أضعف من المبدل ولا يلزم من ثبوت الحكم بالأقوى ثبوته بالأضعف ولا يلزم من وجوب الدية وجوب القصاص لأنه لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولا بالشاهد واليمين ويحتاط له ويدرأ بالشبهات والدية بخلافه فأما الدية فتثبت بالنكول عند من يثبت المال به أو ترد اليمين على المدعي فيحلف يمينا واحدة ويستحقها كما لو كانت الدعوى في مال والله أعلم (10/4)
مسألة وفصول : إذا كان بينهم عداوة ولوث فادعى أولياؤه على واحد وبيان اللوث المشترط في القسامة وتقسيم الأيمان وحكم الإقرار بالقتل
مسألة : قال : فان كان بينهم عداوة ولوث فادعى أولياؤه على واحد حلف الأولياء على قاتله خمسين يمينا واستحقوا دمه إذا كانت الدعوى عمدا
الكلام في هذه المسألة في فصول أربعة :
الفصل الأول : في اللوث المشترط في القسامة واختلفت الرواية عن أحمد فيه فروي عنه أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه كنحو ما بين الأنصار ويهود خيبر وما بين القبائل والأحياء واهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب وما بين أهل العدل وما بين الشرطة واللصوص وكل من بينه وبين المقتول ضغن يغلب على الظن أنه قتله نقل مهنا عن أحمد فيمن وجد قتيلا في المسجد الحرام ينظر من بينه وبينه في حياته شئ يعني ضغنا يؤحذون به ولم يذكر القاضي في اللوث غير العداوة إلا أنه قال في الفريقين يقتتلان فينكشفون عن قتيل فاللوث على الطائفة واللوث على طائفة القتيل إذا ثبت هذا فإنه لا يشترط مع العداوة أن لا يكون في الموضع الذي به القتيل غير العدو نص عليه أحمد في رواية مهنا التي ذكرناها وكلام الخرقي يدل عليه أيضا واشترط القاضي أن لا يوجد القتيل في موضع عدو لا يختلط بهم غيرهم وهذا مذهب الشافعي لأن الأنصاري قتل في خيبر ولم يكن فيها إلا اليهود وجميعهم أعداء ولأنه متى اختلط بهم غيرهم احتمل ان يكون القاتل ذلك الغير ثم ناقض القاضي قوله فقال في قوم ازدحموا في مضيق فافترقوا عن قتيل : إن كان في القوم من بينه وبينهم عداوة وأمكن أن يكون هو قتله لكونه بقربه فهو لوث فجعل العداوة لوثا مع وجود غير العدو
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل الأنصار هل كان بخيبر غير اليهود أم لا مع أن الظاهر وجود غيرهم فيها لأنها كانت أملاكا للمسلمين يقصدونها لأخذ غلات أملاكهم منها وعمارتها والاطلاع عليها والامتيار منها ويبعد أن تكون مدينة على جادة تخلو من غير أهلها وقول الأنصار : ليس لنا بخيبر عدو إلا يهود يدل على أنه قد كان بها غيرهم ممن ليس بعدو ولأن اشتراكهم في العداوة لا يمنع من وجود اللوث في حق واحد وتخصيصه بالدعوى مع مشاركة غيره في احتمال قتله فلأن يمنع ذلك وجود من يبعد منه القتل أولى وما ذكروه من الاحتمال لا ينفي اللوث فإن اللوث لا يشترط فيه يقين القتل من المدعى عليه ولا ينافيه الاحتمال ولو تيقن القتل من المدعى عليه لما احتيج إلى الأيمان ولو اشترط نفي الاحتمال لما صحت الدعوى على واحد من جماعة لأنه يحتمل أن القاتل غيره ولا على الجماعة كلهم لأنه يحتمل أن لا يشترط الجميع في قتله والرواية الثانية عن أحمد أن اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي وذلك من وجوه أحدها العداوة المذكورة والثاني أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم فان ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأن الأصل عدم ذلك إلا أن يثبت ببينة الثالث أن يزدحم الناس في مضيق فيوجد فيهم قتيل فظاهر كلام أحمد أن هذا ليس بلوث فانه قال فيمن مات بالزحام يوم الجمعة فديته في بيت المال وهذا قول إسحاق وروي ذلك عن عمر وعلي فإن سعيدا روى في سننه عن ابراهيم قال : قتل رجل في زحام الناس بعرفة فجاء أهله إلى عمر فقال : بينتكم على من قتله فقال علي : يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرىء مسلم إن علمت قاتله وإلا فأعطه ديته من بيت المال قال أحمد فيمن وجد مقتولا في المسجد الحرام : ينظر من كان بينه وبينه شيء في حياته يعني عداوة يؤخذون فلم يجعل الحضور لوثا وإنما جعل اللوث العداوة وقال الحسن و الزهري فيمن مات في الزحام : ديته على من حضر لأن قتله حصل منهم وقال مالك : دمه هدر لأنه لا يعلم له قاتل ولا وجد لوث فيحكم بالقسامة
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز انه كتب اليه في رجل وجد قتيلا لم يعرف قاتله فكتب اليهم ان من القضايا قضايا لا يحكم فيها إلا في الدار الآخرة وهذا منها
الرابع : أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم ولا يوجد غيره ممن يغلب على الظن أنه قتله مثل أن يرى رجلا هاربا يحتمل أنه القاتل أو سبعا يحتمل ذلك فيه
الخامس : أن يقتتل فئتان فيفترقون عن قتيل من إحداهما فاللوث على الأخرى ذكره القاضي فان كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا فاللوث على طائفة القتيل هذا قول الشافعي
وروي عن أحمد أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما اذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه وهذا قول مالك وقال ابن أبي ليلى على الفريقين جميعا لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه وعن أحمد في قوم اقتتلوا فقتل بعضهم وجرح بعضهم فدية المقتولين على المجروحين تسقط منها دية الجراح وإن كان فيهم من لا جرح فيه فهل عليه من الديات شيء ؟ على وجهين ذكرهما ابن حامد
السادس : أن يشهد بالقتل عبيد ونساء فهذا فيه عن أحمد روايتان : احداهما : أنه لوث لأنه يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه فأشبه العداوة
والثانية : ليس بلوث لأنها شهادة مردودة فلم تكن لوثا كما لو شهد به كفار وإن شهد به فساق أو صبيان فهل يكون لوثا ؟ على وجهين :
احدهما : ليس بلوث لأنه لا يتعلق بشهادتهم حكم فلا يثبت اللوث بها كشهادة الاطفال والمجانين والثاني يثبت بها اللوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي فأشبه شهادة النساء والعبيد وقول الصبيان معتبر في الاذن في دخول الدار وقبول الهدية ونحوها وهذا مذهب الشافعي ويعتبر أن يجيء الصبيان متفرقين لئلا يتطرق اليهم التواطؤ على الكذب فهذه الوجوه قد ذكر عن أحمد أنها لوث لأنها يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت العداوة وروي أن هذا ليس بلوث وهو ظاهر كلامه في الذي قتل في الزحام لأن اللوث إنما يثبت بالعداوة بقضية الأنصاري القتيل بخيبر ولا يجوز القياس لأن الحكم ثبت بالمظنة ولا يجوز القياس في المظان لأن الحكم إنما يتعدى بتعدي سببه والقياس في المظان جمع بمجرد الحكمة وغلبة الظنون والحكم والظنون تختلف ولا تأتلف وتنخبط ولا تنضبط وتختلف باختلاف القرائن والأحوال والأشخاص فلا يمكن ربط الحكم بها ولا تعديته بتعديها ولأنه يعتبر في التعدية والقياس التساوي بين الأصل والفرع في المقتضي ولا سبيل الى يقين التساوي بين الظنين مع كثرة الاحتمالات وترددها فعلى هذه الرواية حكم هذه الصور حكم غيرها مما لا لوث فيه
فصل : وإن شهد رجلان على رجل أنه قتل أحد هذين القتيلين لم تثبت هذه الشهادة ولم يكن لوثا عند أحد علمائنا قوله وإن شهدا أن هذا القتيل قتله أحد هذين الرجلين أو شهد أحدهما أن هذا قتله وشهد الآخر أنه أقر بقتله أو شهد أحدهما أن هذا قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لم تثبت الشهادة ولم يكن لوثا هذا قول القاضي واختياره والمنصوص عن أحمد فيما إذا شهد أحدهما بقتله والآخر بالاقرار بقتله أنه يثبت القتل واختار أبو بكر ثبوت القتل ههنا وفيما إذا شهد أحدهما أنه قتله بسيف وشهد الآخر أنه قتله بسكين لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته وقال الشافعي : هو لوث في هذه الصورة في أحد القولين وفي الصورتين اللتين قبلها هو لوث لأنها شهادة يغلب على الظن صدق المدعي أشبهت شهادة النساء والعبيد ولنا أنها شهادة مردودة للاختلاف فيها فلم يكن لوثا كالصورة الاولى
فصل : وليس من شرط اللوث أن يكون بالقتيل أثر وبهذا قال مالك و الشافعي وعن أحمد أنه شرط وهذا قول حماد و أبي حنيفة و الثوري لأنه اذا لم يكن به أثر احتمل أنه مات حتف أنفه
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسأل الأنصار هل كان بقتيلهم أثر أو لا ؟ ولأن القتل يحصل بما لا أثر له كغم الوجه والخنق وعصر الخصيتين وضربة الفؤاد فأشبه من به أثر ومن به أثر قد يموت حتف أنفه لسقطته أو صرعته أو يقتل نفسه فعلى قول من اعتبر الأثر ان خرج الدم من أذنه فهو لوث لأنه لا يكون الا بالخنق له او أمر أصيب به وان خرح من أنفه فهل يكون لوثا ؟ على وجهين
الفصل الثاني : أن القسامة لاتثبت ما لم يتفق الأولياء على الدعوى فان كذب بعضهم بعضا فقال أحدهم قتله هذا وقال الآخر لم يقتله هذا أو قال بل قتله هذا الآخر لم تثبت القسامة نص عليه أحمد وسواء كان المكذب عدلا أو فاسقا وذكر عن الشافعي أن القسامة لا تبطل بتكذيب الفاسق لأن قوله غير مقبول
ولنا أنه مقر على نفسه بتبرئة من ادعى عليه أخوه فقبل كما لو ادعى دينا لهما وإنما لا يقبل قوله على غيره فأما على نفسه فهو كالعدل لأنه لا يتهم في حقها فأما إن لم يكذبه ولم يوافقه في الدعوى مثل أن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر لا نعلم قاتله فظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تثبت لاشتراطه ادعاء الأولياء على واحد وهذا قول مالك وكذلك إن كان أحد الوليين غائبا فادعى الحاضر دون الغائب أو ادعيا جميعا على واحد ونكل أحدهما عن الايمان لم يثبت القتل في قياس قول الخرقي ومقتضى قول أبي بكر و القاضي ثبوت القسامة وكذلك مذهب الشافعي لأن أحدهما لم يكذب الآخر فلم تبطل القسامة كما لو كان أحد الوارثين امرأة أو صغيرا فعلى قولهم يحلف المدعي خمسين يمينا ويستحق نصف الدية لأن الأيمان ههنا بمنزلة البينة ولا يثبت شيء من الحق الا بعد كمال البينة فأشبه ما لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما فانه لا يستحق نصيبه من الدين إلا أن يقيم بينة كاملة وذكر أبو الخطاب فيما إذا كان أحدهما غائبا أن الاول فيه وجهان :
أحدهما : أنه يحلف خمسا وعشرين يمينا وهذا قول ابن حامد لأن الايمان مقسومة عليه وعلى أخيه بدليل ما لو كانا حاضرين متفقين في الدعوى ولا يحلف الانسان عن غيره فلا يلزمه أكثر من حصته فاذا حضر الغائب أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا لأنه يبني على أيمان أخيه وذكر أبو بكر و القاضي في نظير هذه المسألة أن الأول يحلف خمسين يمينا وهل يحلف الثاني خمسين أو خمسا وعشرين ؟ على وجهين :
أحدهما : يقول : يحلف خمسين لأن أخاه لم يستحق إلا بخمسين فكذلك هو
ولنا أنهما لم يتفقا في الدعوى فلم تثبت القسامة كما لو كذبه ولأن الحق في محل الوفاق إنما يثبت بأيمانهما التي أقيمت مقام البينة ولا يجوز أن يقوم أحدهما مقام الآخر في الأيمان كما في سائر الدعاوى فعلى هذا إن قدم الغائب فوافق أخاه أو عاد من لم يعلم فقال : قد عرفته هو الذي عينه أخي أقسما حينئذ وإن قال أحدهما قتله هذا وقال الآخر قتله هذا وفلان فعلى قول الخرقي لا تثبت القسامة لأنها لا تكون إلا على واحد وعلى قول غيره يحلفان على من اتفقا عليه ويستحقان نصف الدية ولا يجب القود لأنه انما يجب في الدعوى على واحد ويحلفان جميعا على هذا الذي اتفقا عليه على حسب دعواهما ويستحقان نصف الدية ولا يجب أكثر من نصف الدية لأن أحدهما يكذب الآخر في النصف الآخر فبقي اللوث في حقه في نصف الدم الذي اتفقا عليه ولم يثبت في النصف الذي كذبه أخوه فيه ولا يحلف الآخر على الآخر لأن أخاه كذبه في دعواه عليه وان قال أحدهما قتل أبي زيد وآخر لا أعرفه وقال الآخر قتله عمرو وآخر لا أعرفه لم تثبت القسامة في ظاهر قول الخرقي لأنها لا تكون إلا على واحد ولأنهما ما اتفقا في الدعوى على واحد ولا يمكن أن يحلفا على من لم يتفقا في الدعوى عليه والحق إنما ثبت في محل الوفاق بأيمان الجميع فكيف يثبت في الفرع بأيمان البعض ؟ وقال أبو بكر و القاضي : تثبت القسامة وهذا مذهب الشافعي لأنه ليس ههنا تكذيب فانه يجوز أن يكون الذي جهله كل واحد منهما هو الذي عرفه أخوه فيحلف كل واحد منهما على الذي عينه خمسين يمينا ويستحق ربع الدية فان عاد كل واحد منهما فقال : قد عرفت الذي جهله وهو الذي عينه أخي حلف أيضا على الذي حلف عليه أخوه وأخذ منه ربع الدية ويحلف خمسا وعشرين يمينا لأنه يبني على أيمان أخيه فلم يلزمه أكثر من خمس وعشرين كما لو عرفه ابتداء وفيه وجه آخر أنه يحلف خمسين يمينا لأن أخاه حلف خمسين يمينا و للشافعي في هذا قولان كالوجهين ويجيء في المسألة وجه آخر وهو أن الاول لا يحلف أكثر من خمسة وعشرين يمينا لأنه إنما يحلف على ما يستحقه والذي يستحقه النصف فيكون عليه نصف الأيمان كما لو حلف أخوه معه وإن قال كل واحد منهما الذي كنت جهلته غير الذي عينه أخي بطلت القسامة التي أقسماها لأن التكذيب يقدح في اللوث فيرد كل واحد منهما ما أخذ من الدية وإن كذب أحدهما اخاه ولم يكذبه الآخر بطلت قسامة المكذب دون الذي لم يكذب
فصل : وإن قال الولي بعد القسامة : غلطت ما هذا الذي قتله أو ظلمته بدعواي القتل عليه أو قال : كان هذا المدعى عليه في بلد آخر يوم قتل وليي وكان بينهما بعد لا يمكن أن يقتله إذا كان فيه بطلت القسامة ولزمه رد ما أخذه لأنه مقر على نفسه فقبل إقراره وإن قال ما أخذته حرام سئل عن ذلك فإن قال أردت أنني كذبت في دعواي عليه بطلت قسامته أيضا وإن قال أردت أن الأيمان تكون في جنبة المدعى عليه كمذهب أبي حنيفة لم تبطل القسامة لأنها ثبتت باجتهاد الحاكم فيقدم على اعتقاده وان قال هذا مغصوب وأقر بمن غصب منه لزمه رده عليه ولا يقبل قوله على من أخذه منه لأن الانسان لا يقبل اقراره على غيره وإن لم يقر به لأحد لم ترفع يده عنه لأنه لم يتعين مستحقه وإن اختلفا في مراده بقوله فالقول قوله لأنه أعرف بقصده
فصل : وإن أقام المدعي عليه بينة أنه كان يوم القتل في بلد بعيد من بلد المقتول لا يمكن مجيئه منه اليه في يوم واحد بطلت الدعوى وان قالت البينة نشهد أن فلانا لم يقتله لم تسمع هذه الشهادة لأنه نفي مجرد فان قالا ما قتله فلان بل قتله فلان سمعت لأنها شهدت باثبات تضمن النفي فسمعت كما لو قالت ما قتله فلان لأنه كان يوم القتل في بلد بعيد
فصل : فان جاء رجل فقال ما قتله هذا المدعى عليه بل أنا قتلته فكذبه الولي لم تبطل دعواه وله القسامة ولا يلزمه رد الدية إن كان أخذها لأنه قول واحد ولا يلزم المقر شيء لأنه أقر لمن يكذبه وإن صدقه الولي أو طالبه بموجب القتل لزمه رد ما أخذه وبطلت دعواه على الأول لأن ذلك جرى مجرى الاقرار ببطلان الدعوى وهل له مطالبة المقر ؟ فيه وجهان :
أحدهما : له مطالبته لأنه أقر له بحق فملك مطالبته به كسائر الحقوق والثاني ليس له مطالبته لأن دعواه على الأول انفراده بالقتل إبراء لغيره فلا يملك مطالبة من أبرأه والمنصوص عن أحمد رحمه الله أنه يسقط القود عنهما وله مطالبة الثاني بالدية فانه قال في رجل شهد عليه شاهدان بالقتل فأخذ ليقتاد منه فجاء رجل فقال ما قتله هذا أنا قتلته : فالقود يسقط عنهما والدية على الثاني ووجه ذلك ما روي أن رجلا ذبح رجلا في خربة وتركه وهرب وكان قصاب قد ذبح شاة وأراد ذبح أخرى فهربت منه الى الخربة فتبعها حتى وقف على القتيل والسكين بيده ملطخة بالدم فأخذ على تلك الحال وجيء به إلى عمر رضي الله عنه فأمر بقتله فقال القاتل في نفسه : يا ويله قتلت نفسا ويقتل بسببي آخر فقام فقال : أنا قتلته ولم يقتله هذا فقال عمر : إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا ودرأ عنه القصاص ولأن الدعوى على الأول شبهة في درء القصاص عن الثاني وتجب الدية عليه لإقراره بالقتل الموجب لها وهذا القول أصح وأعدل مع شهادة الأثر بصحته
الفصل الثالث : أن الأولياء اذا ادعوا القتل على من بينه وبين القتيل لوث شرعت اليمين في حق المدعين أولا فيحلفون خمسين يمينا على المدعى عليه ان قتله وثبت حقهم قبله فان لم يحلفوا استحلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء وبهذا قال يحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد و مالك و الشافعي وقال الحسن : يستحلف المدعى عليهم أولا خمسين يمينا ويبرؤون وإن أبوا أن يحلفوا استحلف خمسون من المدعين أن حقنا قبلكم ثم يعطون الدية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] رواه مسلم وفي لفظ [ البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ] رواه الشافعي في مسنده وروى أبو داود باسناده [ عن سليمان بن يسار عن رجال من الانصار أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لليهود وبدأ بهم : يحلف منكم خمسون رجلا فأبوا فقال للأنصار : استحقوا قالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه و سلم على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم ] ولأنها يمين في دعوى فوجبت في جانب المدعى عليه ابتداء كسائر الدعاوى
وقال الشعبي و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي : يستحلف خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد فيها القتيل بالله ما قتلناه ولا علمنا قاتلا ويغرمون الدية لقضاء عمر بذلك ولم نعرف له في الصحابة مخالفا فكان إجماعا وتكلموا في حديث سهل بما روى أبو داود عن محمد بن ابراهيم بن الحارث التيمي عن عبد الرحمن ونجيد ابن قبطي أحد بني حارثة [ قال محمد بن ابراهيم : وايم الله ما كان سهل بأعلم منه ولكنه كان أسن منه قال : والله ما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم احلفوا على ما لا علم لكم به ولكنه كتب إلى يهود حين كلمته الأنصار : إنه وجد بين أبياتكم قتيل فدوه فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلا فوداه رسول الله صلى الله عليه و سلم من عنده ]
ولنا حديث سهل وهو صحيح متفق عليه ورواه مالك في موطئه وعمل به وما عارضه من الحديث لا يصح لوجوه أحدها : أنه نفي فلا يرد به قول المثبت والثاني : أن سهلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم شاهد القصة وعرفها حتى أنه قال : ركضتني ناقة من تلك الإبل والآخر يقول برأيه وظنه من غير أن يرويه عن أحد ولا حضر القصة والثالث : أن حديثنا مخرج في الصحيحين متفق عليه وحديثهم بخلافه
والرابع : أنهم لا يعملون بحديثهم ولا حديثنا فكيف يحتجون بما هو حجة عليهم فيما خالفوه فيه ؟ وحديث سليمان بن يسار عن رجال من الأنصار ولم يذكر لهم صحبة فهو أدنى لهم من حديث محمد بن ابراهيم وقد خالف الحديثين جميعا فكيف يجوز أن يعتمد عليه ؟ وحديث [ اليمين على المدعى عليه ] لم ترد به هذه القصة لأنه يدل على أن الناس لا يعطون بدعواهم وهنا قد أعطوا بدعواهم على أن حديثنا أخص منه فيجب تقديمه ثم هو حجة عليهم لكون المدعين أعطوا بمجرد دعواهم من غير بينة ولا يمين منهم وقد رواه ابن عبد البر باسناده عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة ] وهذه الزيادة يتعين العمل بها لأن الزيادة من الثقة مقبولة ولأنها أيمان مكررة فيبدأ فيها بأيمان المدعين كاللعان إذا ثبت هذا فإن أيمان القسامة خمسون مرددة على ما جاءت به الأحاديث الصحيحة وأجمع عليه أهل العلم لا نعلم أحدا خالف فيه
الفصل الرابع : أن الأولياء اذا حلفوا استحقوا القود اذا كانت الدعوى عمدا إلا أن يمنع منه مانع روي ذلك عن ابن الزبير وعن عمر بن عبد العزيز وبه قال مالك و أبو ثور و ابن المنذر وعن معاوية و ابن عباس و الحسن و اسحاق لا تجب بها الدية لقول النبي صلى الله عليه و سلم لليهود : [ إما أن تدوا صاحبكم وإما أن تؤذنوا بحرب من الله ] ولأن أيمان المدعين إنما هي بغلبة الظن وحكم الظاهر فلا يجوز إشاطة الدم بها لقيام الشبهة المتمكنة منها ولأنها حجة لا يثبت بها النكاح ولا يجب بها
القصاص كالشاهد واليمين و للشافعي قولان كالمذهبين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع إليكم برمته ] وفي رواية مسلم [ فيسلم اليكم ] وفي لفظ [ وتستحقون دم صاحبكم ] فأراد دم القاتل لأن دم القتيل ثابت لهم قبل اليمين والرمة الحبل الذي يربط به من عليه القود ولأنها حجة يثبت بها العمد فيجب بها القود كالبينة وقد روى الأثرم باسناده عن عامر الاحول أن النبي صلى الله عليه و سلم أقاد بالقسامة الطائفة وهذا نص ولأن الشارع جعل القول قول المدعي مع يمينه احتياطا للدم فان لم يجب القود سقط هذا المعنى (10/7)
مسألة : ان لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء
مسألة : قال : فان لم يحلف المدعون حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرىء
هذا ظاهر المذهب وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري و ربيعة و أبو الزناد و مالك و الليث و الشافعي و أبو الثور وحكى أبو الخطاب رواية أخرى عن أحمد أنهم يحلفون ويغرمون الدية لقضية عمر وخبر سليمان بن يسار وهو قول أصحاب الرأي
ولنا قول النبي صلى اله عليه وسلم : [ فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ] أي يتبرؤون منكم وفي لفظ قال : [ فيحلفون خمسين يمينا ويبرؤون من دمه ] وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يغرم اليهود وانه أداها من عنده ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ بها كسائر الأيمان ولأن ذلك اعطاء بمجرد الدعوى فلم يجز للخبر ومخالفة مقتضى الدليل فإن قول الانسان لا يقبل على غيره بمجرده كدعوى المال وسائر الحقوق ولأن في ذلك جمعا بين اليمين والغرم فلم يشرع كسائر الحقوق (10/20)
مسألة : إن لم يحلف المدعون لم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال
مسألة : قال : فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الامام من بيت المال
يعني أدى ديته لقضية عبد الله بن سهل حين قتل بخيبر فأبى الأنصار أن يحلفوا وقالوا كيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ فوداه النبي صلى الله عليه و سلم من عنده كراهية أن يطل دمه فإن تعذر فداؤه من بيت المال لم يجب على المدعى عليهم شيء لأن الذي يوجبه عليهم اليمين وقد امتنع مستحقوها من استيفائها فلم يجب لهم غيرها كدعوى المال (10/21)
فصل : إذا امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا
فصل : وإن امتنع المدعى عليهم من اليمين لم يحبسوا حتى يحلفوا وعن أحمد رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا وهو قول أبي حنيفة
ولنا أنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان إذا ثبت هذا فإنه لا يجب القصاص بالنكول لأنه حجة ضعيفة فلا يشاط بها الدم كالشاهد واليمين قال القاضي : ويديه الامام من بيت المال نص عليه أحمد وروى عنه حرب بن اسماعيل ان الدية تجب عليهم وهذا هو الصحيح وهو اختيار أبي بكر لأنه حكم ثبت بالنكول فيثبت في حقهم ههنا كسائر الدعاوى ولأن وجوبها في بيت المال يفضي الى اهدار الدم وإسقاط حق المدعين مع إمكان جبره فلم يجز كسائر الدعاوى ولأنها يمين توجهت في دعوى أمكن ايجاب المال بها فلم تخل من وجوب شيء على المدعى عليه كما في سائر الدعاوى وههنا لو لم يجب على المدعى عليه مال بنكوله ولم يجبر على اليمين لخلا من وجوب شيء عليه بالكلية وقال أصحاب الشافعي : إذا نكل المدعى عليهم ردت الايمان على المدعين إن قلنا موجبها المال فإن حلفوا استحقوا وإن نكلوا فلا شيء لهم وإن قلنا موجبها القصاص فهل ترد على المدعين ؟ فيه قولان وهذا القول لا يصلح لأن اليمين إنما شرعت في حق المدعى عليه إذا نكل عنها المدعي فلا ترد عليه كما لا ترد على المدعى عليه إذا نكل المدعي عنها بعد ردها عليه في سائر الدعاوى ولأنها يمين مردودة على أحد المتداعيين فلا ترد على من ردها كدعوى المال (10/22)
مسألة : حكم ما لو شهدت البينة أن المجروح قال : دمي عند فلان
مسألة : قال : وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال : دمي عند فلان فليس ذلك بموجب للقسامة ما لم يكن لوث
هذا قول أكثر أهل العلم منهم الثوري و الأوزاعي وأصحاب الرأي وقال مالك و الليث : هو لوث لأن قتيل بني اسرائيل قال قتلني فلان فكان حجة وروي هذا القول عن عبد الملك بن مروان
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ] ولأنه يدعي حقا لنفسه فلم يقبل قوله كما لو لم يمت ولأنه خصم فلم تكن دعواه لوثا كالولي فأما قتيل بني إسرائيل فلا حجة فيه فإنه لا قسامة فيه ولأن ذلك كان من آيات الله ومعجزات نبيه موسى عليه السلام حيث أحياه الله تعالى بعد موته وأنطقه بقدرته بما اختلفوا فيه ولم يكن الله لينطقه بالكذب بخلاف الحي ولا سبيل الى مثل هذا اليوم ثم ذاك في تنزيه المتهمين فلا يجوز تعديتها الى تهمة البريئين (10/23)
مسألة : النساء والصبيان لا يقسمون في القسامة
مسألة : قال : والنساء والصبيان لا يقسمون
يعني إذا كان المستحق نساء وصبيانا لم يقسموا : أما الصبيان فلا خلاف بين أهل العلم أنهم لا يقسمون سواء كانوا من الأولياء أو مدعى عليهم لأن الايمان حجة للحالف والصبي لا يثبت بقوله حجة ولو أقر على نفسه لم يقبل فلأن لا يقبل قوله في حق غيره أولى وأما النساء فإذا كن من أهل القتيل لم يستحلفن وبهذا قال ربيعة و الثوري والليث والأوزاعي وقال مالك : لهن مدخل في قسامة الخطأ دون العمد قال ابن القاسم : ولا يقسم في العمد الا اثنان فصاعدا كما أنه لا يقتل إلا بشاهدين وقال الشافعي : يقسم كل وارث بالغ لأنها يمين في دعوى فتشرع في حق النساء كسائر الأيمان
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ يقسم خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم ] ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فلا تسمع من النساء كالشهادة ولأن الجناية المدعاة التي تجب القسامة عليها هي القتل ولا مدخل للنساء في إثباته وإنما يثبت المال ضمنا فجرى ذلك مجرى رجل ادعى زوجية امرأة بعد موتها ليرثها فإن ذلك لا يثبت بشاهد ويمين ولا بشهادة رجل وامرأتين وإن كان مقصودها المال فأما ان كانت المرأة مدعى عليها القتل فان قلنا إنه يقسم من العصبة رجال لم تقسم المرأة أيضا لأن ذلك مختص بالرجال وإن قلنا يقسم المدعى عليه فينبغي أن تستحلف لأنها لا تثبت بقولها حقا ولا قتلا وإنما هي لتبرئتها منه فتشرع في حقها اليمين كما لو لم يكن لوث فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء ورجال أقسم الرجال وسقط حكم النساء وإن كان فيهم صبيان ورجال بالغون أو كان فيهم حاضرون وغائبون فقد ذكرنا من قبل أن القسامة لا تثبت حتى يحضر الغائب فهكذا لا تثبت حتى يبلغ الصبي لأن الحق لا يثبت إلا ببينته الكاملة والبينة أيمان الأولياء كلهم والأيمان لا تدخلها النيابة ولأن الحق إن كان قصاصا فلا يمكن تبعيضه فلا فائدة في قسامة الحاضر البالغ وإن كان غيره فلا تثبت إلا بواسطة ثبوت القتل وهو لا يتبعض أيضا وقال القاضي : إن كان القتل عمدا لم يقسم الكبير حتى يبلغ الصغير ولا الحاضر حتى يقدم الغائب لأن حلف الكبير الحاضر لا يفيد شيئا في الحال وإن كان موجبا للمال كالخطأ وعمد الخطأ فللحاضر المكلف أن يحلف ويستحق قسطه من الدية وهذا قول أبي بكر و ابن حامد ومذهب الشافعي واختلفوا في كم يقسم الحاضر ؟ فقال ابن حامد : يقسم يقسطه من الأيمان فان كان الأولياء اثنين أقسم الحاضر خمسا وعشرين يمينا وإن كانوا ثلاثة أقسم سبع عشرة يمينا وإن كانوا أربعة أقسم ثلاث عشرة يمينا وكلما قدم غائب أقسم بقدر ما عليه واستوفى حقه لأنه لو كان الجميع حاضرين لم يلزمه أكثر من قسطه وكذلك إذا غاب بعضهم كما في سائر الحقوق ولأنه لا يستحق أكثر من قسطه من الدية فلا يلزمه أكثر من قسطه من الأيمان وقال أبو بكر : يحلف الأول خمسين يمينا وهذا قول الشافعي ولأن الحكم لا يثبت إلا بالبينة الكاملة والبينة هي الأيمان كلها ولذلك لو ادعى أحدهما دينا لأبيهما لم يستحق نضيبه منه الا بالبينة المثبتة لجميعه ولأن الخمسين في القسامة كاليمين الواحدة في سائر الحقوق ولو ادعى مالا له فيه شركة له به شاهد لحلف يمينا كاملة كذلك هذا فإذا قدم الثاني أقسم خمسا وعشرين يمينا وجها واحدا عند أبي بكر لأنه يبني على أيمان اخيه المتقدمة وقال الشافعي فيه قول آخر : إنه يقسم خمسين يمينا أيضا لأن أخاه إنما استحق بخمسين فكذلك هو فإذا قدم ثالث وبلغ فعلى قول أبي بكر يقسم سبع عشرة يمينا لأنه يبني على أيمان أخويه وعلى قول الشافعي فيه قولان : أحدهما أنه يقسم سبع عشرة يمينا والثاني خمسين يمينا وان قدم رابع كان على هذا المثال والله أعلم (10/23)
فصل : حكم الخنثى المشكل في القسامة
فصل والخنثى المشكل يحتمل أن يقسم لأن سبب القسامة وجد في حقه وهو كونه مستحقا للدم ولم يتحقق المانع من يمينه ويحتمل أن لا قسامة عليه لأنه لا يعقل من العقل ولا يثبت القتل بشهادته أشبه المرأة (10/25)
مسألة : إذا خلف المقتول ثلاثة بنين حلف كل واحد سبع عشرة يمينا
مسألة : قال : وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا
اختلفت الرواية عن أحمد فيمن تجب عليه أيمان القسامة فروي أنه يحلف من العصبة الوارث منهم وغير الوارث خمسون رجلا كل واحد منهم يمينا واحدة وهذا قول لمالك فعلى هذا يحلف الوراث منهم الذين يستحقون دمه فان لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبة يؤخذ الاقرب منهم فالاقرب من قبيلته التي ينتسب اليها ويعرف كيفية نسبه من المقتول فاما من عرف أنه من القبيلة ولم يعرف وجه النسب لم يقسم مثل أن يكون الرجل قرشيا والمقتول قرشي ولا يعرف كيفية نسبه منه فلا يقسم لأننا نعلم أن الناس كلهم من آدم ونوح وكلهم يرجعون الى أب واحد ولو قتل من لا يعرف نسبه لم يقسم عنه سائر الناس فان لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم وقسمت بينهم فان انكسرت عليهم جبر كسرها عليهم حتى تبلغ خمسين لقول النبي صلى الله عليه و سلم للأنصار : [ يحلف خمسون رجلا منكم وتستحقون دم صاحبكم ] وقد علم النبي صلى الله عليه و سلم انه لم يكن لعبد الله بن سهل خمسون رجلا وارثا فإنه لا يرثه إلا أخوه أو من هو في درجته أو أقرب منه نسبا ولأنه خاطب بهذا بني عمه وهم غير وارثين والرواية الثانية : لا يقسم إلا الوارث وتعرض الأيمان على ورثة المقتول دون غيرهم على حسب مواريثهم هذا ظاهر قول الخرقي واختيار ابن حامد وقول الشافعي لأنها يمين في دعوى حق فلا تشرع في حق غير المتداعيين كسائر الأيمان فعلى هذه الرواية تقسم بين الورثة من الرجال من ذوي الفروض والعصبات على قدر إرثهم فان انقسمت من غير كسر مثل أن يخلف المقتول اثنين أو أخا وزوجا حلف كل واحد منهم خمسا وعشرين يمينا وإن كانوا ثلاثة بنين وجدا أو أخوين جبر الكسر عليهم فحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا لأن تكميل الخمسين واجب ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم لها عن بعض فوجب تكميل اليمين المنكسرة في حق كل واحد منهم وإن خلف أخا من أب وأخا من أم فعلى الأخ من الأم سدس الأيمان ثم يجبر الكسر فيكون عليه تسع ايمان وعلى الأخ من الأب اثنتان وأربعون وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا سواء تساووا في الميراث واختلفوا فيه لأن ما حلفه الواحد إذا انفرد حلفه كل واحد من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى وعن مالك أنه قال : ينظر إلى من عليه أكثر اليمين فيجبر عليه ويسقط عن الآخر
ولنا على أن الخمسين تقسم بينهم قول النبي صلى الله عليه و سلم للأنصار : [ تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم ] وأكثر ما روي عنه في الأيمان خمسون ولو حلف كل واحد خمسين لكانت مائة ومائتين وهذا خلاف النص ولأنها حجة للمدعين فلم تزد على ما يشرع في حق الواحد كالبينة ويفارق اليمين على المدعى عليه فانها ليست حجة للمدعي ولأنها لم يمكن قسمتها فكملت في حق واحد كاليمين المنكسرة في القسامة فانها تجبر وتكمل في حق كل واحد لكونها لا تتبعض وما لا يتبعض يكمل كالطلاق والعتاق وما ذكره مالك لا يصح لأنه إسقاط لليمين عمن عليه بعضها فلم يجز كما لو تساوى الكسران بأن يكون على كل واحد من الاثنين نصفها أو على كل واحد من الثلاثة ثلثها وبالقياس على من عليه أكثرها ولأن اليمين في سائر الدعاوى تكمل في حق كل واحد ويستوي من له في المدعى كثير وقليل كذا ههنا ولأنه يفضي الى أن يتحمل اليمين غير من وجبت عليه عمن وجبت عليه فلم يجز ذلك كاليمين الكاملة وكالجزء الأكبر (10/26)
فصل : حكم ما لوكان فيهم من لا قسامة عليه
فصل : فان كان فيهم من لا قسامة عليه بحال وهو النساء سقط حكمه فاذا كان ابن وبنت حلف الابن الخمسين كلها وان كان أخ وأخت لأم وأخ وأخت لأب قسمت الايمان بين الخوين على أحد عشر على الأخ من الأم ثلاثة وعلى الآخر ثمانية ثم يجبر الكسر عليهما فيحلف الأخ من الأب سبعا وثلاثين يمينا والأخ من الأم أربع عشرة يمينا (10/28)
فصل : إن مات المستحق انتقل إلى وارثه ما عليه من الأيمان
فصل : فان مات المستحق انتقل الى وارثه ما عليه من الأيمان وكانت الأيمان بينهم على حسب مواريثهم ويجبر الكسر فيها عليهم كما ينجبر في حق ورثة القتيل وإن مات بعضهم قسم نصيبه من الأيمان بين ورثته فلو كان للقتيل ثلاثة بنين كان على كل واحد سبع عشرة يمينا فان مات بعضهم قبل أن يقسم وخلف ثلاثة بنين قسمت أيمانه بينهم فكان على كل واحد منهم ستة ايمان وان خلف ابنين حلف كل واحد تسعة أيمان وانما قلنا هذا لأن الوارث يقوم مقام الموروث في إثبات حججه كما يقوم مقامه في استحقاق ماله وهذا من حججه ولذلك يملك إقامة البينة والحلف في الإنكار ومع الشاهد الواحد في دعوى المال وان كان موته بعد شروعه في الأيمان فحلف بعضها فان ورثته يستأنفون الأيمان ولا يبنون على أيمانه لأن الخمسين جرت مجرى اليمين الواحدة ولأنه لا يجوز أن يستحق أحد بيمين غيره ولا يبطل هذا بما إذا حلف جميع الأيمان ثم مات لأنه يستحق المال إرثا عنه لا بيمينه ولأنه إذا حلف الوارثان كل واحد خمسا وعشرين يمينا فان الدية تستحق بيمينهما لأنهما يشتركان في الأيمان ويستحق كل واحد بقدر إيمانه ولا يستحق بيمين غيره وإن كان اجتماع العدد شرطا في استحقاقها (10/28)
فصل : حكم ما لو حلف بعض الأيمان ثم جن ثم أفاق
فصل : ولو حلف بعض الأيمان ثم جن ثم أفاق فانه يتمم ولا يلزمه الاستئناف لأن أيمانه وقعت موقعها ويفارق الموت لأن الموت يتعذر معه اتمام الأيمان منه وغيره لا يبني على يمينه وههنا يمكنه أن بتمها اذا أفاق ولا تبطل بالتفريق بدليل أن الحاكم إذا حلفه بعض الأيمان ثم تشاغل عنه لم تبطل ويتمها وما لا يبطله التفريق لا يبطله تخلل الجنون له كالسعي بين الصفا والمروة وإن حلف بعض الأيمان ثم عزل الحاكم وولي غيره أتمها عند الثاني ولم يلزمه استئنافها لأن الأيمان وقعت موقعها وكذلك لو حلف بعضها ثم سأل الحاكم إنظاره فأنظره بنى على ما مضى ولم يلزمه
الاستئناف لما ذكرنا (10/28)
فصل : حكم ما لو ردت الأيمان على المدعى عليهم وكان عمدا
فصل : إذا ردت الأيمان على المدعى عليهم وكان عمدا لم تجز على أكثر من واحد فيحلف خمسين يمينا وإن كانت عن غير عمد كالخطأ وشبه العمد فظاهر كلام الخرقي أنه لا قسامة في هذا لأن القسامة من شرطها اللوث والعداوة إنما أثرها في تعمد القتل لا في خطئه فان احتمال الخطأ في العمد وغيره سواء وقال غيره من أصحابنا : فيه قسامة وهو قول الشافعي لأن اللوث لا يختص العداوة عندهم فعلى هذا تجوز الدعوى على جماعة فاذا ادعى على جماعة لزم كل واحد منهم خمسون يمينا
وقال بعض أصحابنا : تقسم الأيمان بينهم بالحصص كقسمها بين المدعين إلا أنها ههنا تقسم بالسوية لأن المدعى عليهم متساوون فيها فهم كبني الميت و للشافعي قولان كالوجهين والحجة لهذا القول قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ تبرئكم يهود بخمسين يمينا ] وفي لفظ قال : [ فيحلفون لكم خمسين يمينا ويبرأون من دمه ] ولأنهم أحد المتداعيين في القسامة فتقسط الأيمان على عددهم كالمدعين وقال مالك : يحلف من المدعى عليهم خمسون رجلا خمسين يمينا فان لم يبلغوا خمسين رجلا رددت على من حلف منهم حتى تكمل خمسين يمينا فان لم يوجد أحد يحلف إلا الذي ادعي عليه حلف وحده خمسين يمينا لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فتبرئكم يهود بخمسين يمينا ] ولنا ان هذه ايمان يبرأ بها كل واحد نفسه من القتل فكان على كل واحد خمسون كما لو أدعي على كل واحد وحده قتيل ولأنه لا يبرأ المدعى عليه حال الاشتراك إلا ما يبرئه حال الانفراد ولأن كل واحد منهم يحلف على غير ما حلف عليه صاحبه بخلاف المدعين فان أيمانهم على شيء واحد فلا يلزم من تلفيقها تلفيق ما يختلف مدلوله أو مقصوده (10/29)
مسألة : وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا حرا أو عبدا إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل لأن القسامة توجب القود
مسألة : قال : وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا حرا أو عبدا اذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه اذا ثبت عليه القتل لأن القسامة توجب القود إلا ان يحب الأولياء أخذ الدية
أما إذا كان المقتول مسلما حرا فليس فيه اختلاف سواء كان المدعى عليه مسلما أو كافرا فان الأصل في القسامة قصة عبدالله بن سهل حين قتل بخيبر فاتهم اليهود بقتله فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقسامة وأما إن كان المقتول كافرا أو عبدا وكان قاتله ممن يجب عليه القصاص بقتله وهو المماثل له في حاله ففيه القسامة وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري و الثوري و مالك و الأوزاعي : لا قسامة في العبد فانه مال فلم تجب القسامة فيه كقتل البهيمة
ولنا انه قتل موجب للقصاص فأوجب القسامة كقتل الحر وفارق البهيمة فانها لا قصاص فيها ويقسم على العبد سيده لأنه المستحق لدمه وأم الولد والمدبر والمكاتب والمعلق عتقه بصفة كالقن لأن الرق ثابت فيهم وإن كان القاتل ممن لا قصاص عليه كالمسلم يقتل كافرا والحر يقتل عبدا فلا قسامة فيه في ظاهر قول الخرقي وهو قول مالك لأن القسامة إنما تكون فيما يوجب القود وقال القاضي فيهما القسامة وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي لأنه قتل آدمي يوجب الكفارة فشرعت القسامة فيه كقتل الحر المسلم ولأن ما كان حجة في قتل الحر المسلم كان حجة في قتل العبد الكافر كالبينة
ولنا أنه قتل لا - يوجب القصاص فأشبه قتل البهيمة ولا يلزم من شرعها فيما يوجب القصاص شرعها مع عدمه بدليل أن العبد إذا اتهم بقتل سيده شرعت القسامة إذا كان القتل موجبا للقصاص ذكره القاضي لأنه لا يجوز قتله قبل ذلك ولو لم يكن موجبا للقصاص لم تشرع القسامة (10/29)
فصل : إذا قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني
فصل : وإن قتل عبد المكاتب فللمكاتب أن يقسم على الجاني لأنه مالك للعبد يملك التصرف فيه وفي بدله وليس لسيده انتزاعه منه وله شراؤه منه ولو اشترى المأذون له في التجارة عبدا فقتل فالقسامة لسيده دونه لأن ما يبتاعه المأذون يملكه سيده دونه ولهذا يملك انتزاعه منه وإن عجز المكاتب قبل أن يقسم فلسيده أن يقسم لأنه صار المستحق لبدل المقتول بمنزلة ورثة الحر إذا مات قبل أن يقسم ولو ملك السيد عبده أو أم ولده عبدا فقتل فالقسامة للسيد سواء قلنا يملك العبد بالتمليك أو لا يملك لأنه إن لم يملك فالملك لسيده وإن ملك فهو ملك غير ثابت ولهذا يملك سيده انتزاعه منه ولا يجوز له التصرف بغير إذن سيده بخلاف المكاتب وإن أوصى لأم ولده ببدل العبد صحت الوصية وإن كان لم يجب بعد كما تصح الوصية بثمرة لم تخلق والقسامة للورثة لأنهم القائمون مقام الموصي في إثبات حقوقه فاذا حلفوا ثبت لها البدل بالوصية وإن لم يحلفوا لم يكن لها أن تحلف كما اذا امتنع الورثة من اليمين مع الشاهد لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه (10/30)
فصل : حكم المحجور عليه لسفه أو فلس في القسامة
فصل : والمحجور عليه لسفه أو فلس كغير المحجور عليه في دعوى القتل والدعوى عليه إلا أنه اذا أقر بمال أو لزمته الدية بالنكول عن اليمين لم يلزمه في حال حجره لأن اقراره بالمال في الحال غير مقبول بالنسبة الى أخذ شيء من ماله في الحال على ما عرف في موضعه (10/31)
فصل : لو جرح مسلم فارتد ومات على الردة فلا قسامة فيه
فصل : ولو جرح مسلم فارتد ومات على الردة فلا قسامة فيه لأن نفسه غير مضمونة وإنما يضمن الجرح ولا قسامة فيما دون النفس ولأن ماله يصير فيئا والفيء ليس له مستحق معين فثبت القسامة له وإن مات مسلما فارتد وارثه قبل القسامة فقال أبو بكر : ليس له أن يقسم وإن أقسم لم يصح لأن ملكه يزول عن ماله وحقوقه فلا يبقى مستحقا للقسامة وهذا قول المزني ولأن المرتد قد أقدم على الشرك الذي لا ذنب أعظم منه فلا يستحق بيمينه دم مسلم ولا يثبت بها قتل وقال القاضي : الاولى أن تعرض عليه القسامة فان أقسم وجبت الدية وهذا قول الشافعي لأن استحقاق المال بالقسامة حق عليه فلا يقتل بردته كاكتساب المال بوجوه الاكتساب وكفره لا يمنع يمينه فان الكافر تصح يمينه وتعرض عليه في الدعاوى فان حلف ثبت القصاص أو الدية فإن عاد الى الإسلام كان له وإن مات كان فيئا والصحيح إن شاء الله ماقال أبو بكر لأن مال المرتد اما أن يكون ملكه قد زال عنه وإما موقوف وحقوق المال حكمها حكمه فإن قلنا بزوال ملكه فلا حق له وإن قلنا هو موقوف فهو قبل انكشاف حاله مشكوك فيه فلا يثبت الحكم بشيء مشكوك فيه فكيف وقتل المسلم أمر كبير لا يثبت مع الشبهات ولا يستوفى مع الشك ؟ وأما إن ارتد قبل موت موروثه لم يكن وارثا ولا حق له وتكون القسامة لغيره من الوراث وإن لم يكن للميت وارث سواه فلا قسامة فيه لما ذكرنا وإن عاد إلى الإسلام قبل قسامة غيره فقياس المذهب أنه يدخل في القسامة لأنه متى رجع قبل قسم الميراث قسم له وقال القاضي : لا تعود القسامة اليه لأنها استحقت على غيره وإن ارتد رجل فقتل عبده او قتل ثم ارتد فهل له أن يقسم ؟ على وجهين بناء على الاختلاف المتقدم فان عاد الى الاسلام عادت القسامة لأنه يستحق بدل العبد (10/31)
فصل : لا قسامة فيما دون النفس من الأطراف والجوارح
فصل : ولا قسامة فيما دون النفس من الاطراف والجوارح ولا أعلم بين أهل العلم في هذا خلافا وممن قال لا قسامة في ذلك مالك و أبو حنيفة و الشافعي وذلك لأن القسامة تثبت في النفس لحرمتها فاختصت بها دون الأطراف كالكفارة ولأنها تثبت حيث المجني عليه لا يمكنه التعبير عن نفسه وتعيين قاتله ومن قطع طرفه يمكنه ذلك وحكم الدعوى فيه حكم الدعوى في سائر الحقوق والبينة على المدعي واليمين على من أنكر يمينا واحدة ولأنها دعوى لا قسامة فيها فلا تغلظ بالعدد كالدعوى في المال (10/31)
مسألة : ليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد
مسألة : قال : وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد
لا يختلف المذهب أنه لا يستحق بالقسامة أكثر من قتل واحد وبهذا قال الزهري و مالك وبعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : يستحق بها قتل الجماعة لأنها بينة موجبة للقود فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة وهذا نحو قول أبي ثور
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع اليكم برمته ] فخص بها الواحد ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه ويبقى على الأصل فيما عداه وبيان مخالفة الأصل بها أنها تثبت باللوث واللوث شبهة مغلبة على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات فكيف يثبت بها ؟ ولأن الأيمان في سائر الدعاوى تثبت ابتداء في جانب المدعى عليه وهذا بخلافه وبيان ضعفها أنها تثبت بقول المدعي ويمينه مع التهمة في حقه والشك في صدقه وقيام العداوة المانعة من صحة الشهادة عليه في اثبات حق لغيره فلأن يمنع من قبول قوله وحده في إثبا ت حقه لنفسه أولى وأحرى وفارق البينة فإنها قويت بالعدد وعدالة الشهود وانتفاء التهمة في حقهم من الجهتين في كونهم لا يثبتون لأنفسهم حقا ولا نفعا ولا يدفعون عنها ضرا ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه ولهذا يثبت بها سائر الحقوق والحدود التي تنتفي بالشبهات
اذا ثبت هذا فلا قسامة فيما لا قود فيه في قول الخرقي فيطرد قوله في أن القسامة لا تشرع إلا في حق واحد وعند غيره ان القسامة تجري فيما لا قود فيه فيجوز ان يقسموا في هذا على جماعة وهذا قول مالك و الشافعي فعلى هذا إن ادعى على اثنين على أحدهما لوث حلف على من عليه اللوث خمسين يمينا واستحق نصف الدية عليه وحلف وحلف الآخر يمينا واحدة وبرىء وإن نكل عن اليمين فعليه نصف الدية وإن ادعى على ثلاثة عليهم لوث ولم يحضر إلا واحد منهم حلف على الحاضر منهم خمسين يمينا واستحق ثلث الدية فاذا حضر الثاني ففيه وجهان :
أحدهما : يحلف عليه خمسين يمينا أيضا ويستحق ثلث الدية لان الحق لا يثبت على أحد الرجلين إلا بما يثبت على الآخر كالبينة فانه يحتاج إلى إقامة البينة الكاملة على الثاني كاقامتها على الأول
والثاني : يحلف عليه خمسا وعشرين يمينا لأنهما لو حضرا معا لحلفا عليه خمسين يمينا حصة هذا منها خمس وعشرون وهذا الوجه ضعيف فان اليمين لا تقسم عليهم إذا حضروا ولو حلف كل واحد منفردا حصته من الأيمان لم يصح ولم يثبت له حق وإنما الأيمان عليهم جميعا وتتناولهم تناولا واحدا ولأنها لو قسمت عليهم بالحصص لوجب أن لا يقسم على الأول أكثر من سبع عشرة يمينا وكذلك على الثاني لان هذا القدر هو حصة من الأيمان فعلى كلا التقديرين لا وجه لحلفه خمسا وعشرين يمينا وإن قيل إنما حلف بقدر حصته وحصة الثالث فينبغي أن يحلف أربعا وثلاثين وإذا قدم الثالث ففيه الوجهان :
أصحهما : يحلف عليه خمسين يمينا ويستحق ثلث الدية والآخر يحلف سبع عشرة يمينا وإن حضروا جميعا حلف عليهم خمسين يمينا واستحق الدية عليهم أثلاثا وهذا التفريع يدل على اشتراط حضور المدعى عليه وقت الأيمان وذلك لأنها أقيمت مقام البينة فاشترط حضور من أقيمت عليه كالبينة وكذلك إن ردت الأيمان على المدعى عليهم اشترط حضور المدعين وقت حلف المدعى عليهم لأن الأيمان له عليهم فيعتبر رضاه بها وحضوره إلا أن يوكل وكيلا فيقوم مقام موكله (10/32)
فصل : حكم ما لو قال المدعي : قتله هذا ورجل آخر
فصل : وإن قال المدعي قتله هذا ورجل آخر لا أعرفه وكان على المعين لوث أقسم عليه خمسين يمينا واستحق نصف الدية فان تعين له الآخر حلف عليه واستحق نصف الدية وإن قال قتله هذا ونفر لا أعلم عددهم لم تجب القسامة لأنه لا يعلم كم حصته من الدية (10/33)
فصل : لا تسمع دعوى القسامة إلا محررة
فصل : ولا تسمع الدعوى إلا محررة بأن يقول : أدعي أن هذا قتل وليي فلان بن فلان عمدا أو خطأ أو شبه العمد ويصف القتل فان كان عمدا قال قصد اليه بسيف أو بما يقتل مثله غالبا فان كانت الدعوى على واحد فأقر ثبت القتل وإن أنكر وثم بينة حكم بها وإلا صار الأمر الى الأيمان وإن كانت الدعوى على أكثر من واحد لم يخل من أربعة احوال : أحدها أن يقول قتله هذا وهذا تعمد قتله ويصف العمد بصفته فيقال له : عين واحدا فان القسامة الموجبة للقود لا تكون على أكثر من واحد الحال الثاني أن يقول تعمد هذا وهذا كان خاطئا فهو يدعي قتلا غير موجب للقود فيقسم عليهما ويأخذ نصف الدية من مال العامد ونصفها من عاقلة المخطىء الحال الثالث : أن يقول عمد هذا ولا أدري أكان قتل الثاني عمدا أو خطأ ؟ فقيل : لا تسوغ القسامة ههنا لأنه يحتمل أن يكون الآخر مخطئا فيكون موجبها الدية عليهما ويحتمل أن يكون عامدا فلا تسوغ القسامة عليهما ويجب تعيين واحد والقسامة عليه فيكون موجبها القود فلم تجز القسامة مع هذا فان عاد فقال علمت ان الآخر كان عامدا فله ان يعين واحدا ويقسم عليه وإن قال كان مخطئا ثبتت القسامة حينئذ ويسأل فان أنكر ثبتت القسامة وإن أقر ثبت عليه القتل ويكون عليه نصف الدية في ماله لأنه ثبت باقراره لا بالقسامة وقال القاضي : يكون على عاقلته والأول أصج لأن العاقلة لا تحمل اعترافا الحال الرابع أن يقول : قتلاه خطأ أو شبه عمد أو أحدهما خاطىء والآخر شبه العمد فله أن يقسم عليهما فان ادعى أنه قتل وليه عمدا فسئل عن تفسير العمد ففسره بعمد الخطأ قبل تفسيره وأقسم على ما فسره به لأنه اخطأ في وصف القتل بالعمدية ونقل المزني عن الشافعي لا يحلف عليه لأنه بدعوى العمد برأ العاقلة فلا تسمع دعواه بعد ذلك ما يوجب عليهم المال
ولنا دعواه قد تحررت وإنما غلط في تسمية شبه العمد عمدا وهذا مما يشتبه فلا يؤاخذ به ولو أحلفه الحاكم قبل تحرير الدعوى وتبين نوع القتل لم يعتد باليمين لأن الدعوى لا تسمع غير محررة فكأنه حلفه قبل الدعوى ولأنه إنما يحلفه ليوجب له ما يستحقه فإذا لم يعلم ما يستحقه بدعواه لم يحصل المقصود باليمين فلم يصح (10/34)
فصل : قال القاضي : يجوز للاولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله
فصل : قال القاضي يجوز للاولياء أن يقسموا على القاتل اذا غلب على ظنهم أنه قتله وإن كانوا غائبين عن مكان القتل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال للانصار : [ تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ] وكانوا بالمدينة والقتل بخيبر ولأن الانسان يحلف على غالب ظنه كما أن من اشترى من إنسان شيئا فجاء آخر يدعيه جاز أن يحلف أنه لا يستحقه لأن الظاهر انه ملك الذي باعه وكذلك اذا وجد شيئا بخطه أو خط أبيه ودفتره جاز له أن يحلف وكذلك إذا باع شيئا لم يعلم فيه عيبا فادعى عليه المشتري أنه معيب وأراد رده كان له ان يحلف انه باعه بريئا من العيب ولا ينبغي أن يحلف المدعي إلا بعد الاستثبات وغلبة ظن يقارب اليقين وينبغي للحاكم ان يقول لهم : اتقوا الله واستثبتوا ويعظهم ويحذرهم ويقرأ عليهم { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } ويعرفهم ما في اليمين الكاذبة وظلم البريء وقتل النفس بغير الحق ويعرفهم أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وهذا كله مذهب الشافعي (10/34)
فصل : يستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيدا
فصل : ويستحب أن يستظهر في ألفاظ اليمين في القسامة تأكيدا فيقول : والله الذي لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فان اقتصر على لفظه والله كفى ويقول والله أوبالله أو تالله بالجر كما تقتضيه العربية فان قاله مضموما أو منصوبا فقد لحن قال القاضي : ويجزئه تعمده أو لم يتعمده لانه لحن لا يحيل المعنى وهو قول الشافعي وما زاد على هذا تأكيد ويقول لقد قتل فلان بن فلان الفلاني - ويشير اليه - فلانا ابني او اخي منفردا بقتله ما شركه غيره وان كانا اثنين قال منفردين ما شركهما غيرهما ثم يقول عمدا أو خطأ وبأي اسم من أسماء الله أو صفة من صفات ذاته حلف أجزأ إذا كان إطلاقه ينصرف الى الله تعالى ويقل المدعى عليه في اليمين : والله ما قتلته ولا شاركت في قتله ولا أحدثت شيئا مات منه ولا كان سببا في موته ولا معينا على موته (10/35)
مسألة وفصول : الكفارة الواجبة في القتل وأحكامها
مسألة : قال : ومن قتل نفسا محرمة أو شارك فيها أو ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا وكان الفعل خطأ فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة فان لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أن على قاتل العمد تحرير رقبة مؤمنة
الأصل في كفارة القتل قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } الآية وأجمع أهل العلم على أن القاتل خطأ كفارة سواء كان المقتول ذكرا أو انثى وتجب في قتل الصغير والكبير سواء باشره بالقتل أو تسبب إلى قتله بسبب يضمن به النفس كحفر البئر ونصب السكين وشهادة الزور وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة لا تجب بالتسبب لانه ليس بقتل ولانه ضمن بدله بغير مباشرة للقتل فلم تلزمه الكفارة كالعاقلة
ولنا انه كالمباشرة في الضمان فكان كالمباشرة في الكفارة ولأنه سبب لاتلاف الآدمي يتعلق به ضمانه فتعلقت به الكفارة كما لو كان راكبا فأوطأ دابته انسانا وقياسهم ينتقض بالاب إذا أكره انسانا على قتل ابنه فان الكفارة تجب غير مباشرة وفارق العاقلة فإنها تتحمل عن غيرها ولم يصدر منها قتل ولا تسبب اليه وقولهم ليس بقتل ممنوع قال القاضي : ويلزم الشهود الكفارة سواء قالوا أخطأنا أو تعمدنا وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد لانه إن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ في أنه لا يجب به القصاص
فصل : وتجب الكفارة بقتل العبد وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : لا تجب به لانه مضمون بالقيمة أشبه البهيمة ولنا عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } لأنه يجب القصاص بقتله فتجب الكفارة به كالحر ولأنه مؤمن فاشبه الحر ويفارق البهلئم بذلك
فصل : وتجب بقتل الكافر المضمون سواء كان ذميا أو مستأمنا وبهذا قال أكثر أهل العلم وقال الحسن و مالك : لا كفارة فيه لقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } فمفهومه ان لا كفارة في غير المؤمن ولنا قوله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } والذمي له ميثاق وهذا منطوق يقدم على دليل الخطاب ولانه آدمي مقتول ظلما فوجبت الكفارة بقتله كالمسلم
فصل : وإذا قتل الصبي والمجنون ووجبت الكفارة في أموالهما وكذلك الكافر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا كفارة على واحد منهم لانها عبادة محضة تجب بالشرع فلا تجب على الصبي والمجنون الكافر كالصلاة والصيام
ولنا حق مالي يتعلق بالقتل فتعلقت بهم كالدية وتفارق الصوم والصلاة لانهما عبادتان بدنيتان وهذه مالية أشبهت نفقات الاقارب وأما كفارة اليمين فلا تجب على الصبي والمجنون لانها تتعلق بالقول ولا قول لهما وهذه تتعلق بالقعل وفعلهما متحقق قد أوجب الضمان عليهما ويتعلق بالقعل ما لا يتعلق بالقول بدليل أن العتق يتعلق بإحبالهما دون اعتاقهما بقولهما وأما الكافر فتجب عليه وتكون عقوبة عليه كالحدود
فصل : ومن قتل في دار الحرب مسلما يعتقده كافرا أو رمى الى صف الكفار فأصاب فيهم مسلما فقتله فعليه كفارة لقوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة }
فصل : ومفهوم كلام الخرقي ان كل قتل مباح لا كفارة فيه كقتل الحربي والباغي والزاني المحصن والقتل قصاصا أو حدا لانه قتل مأمور به والكفارة لا تجب لمحو المأمور به وأما الخطأ فلا يوصف بتحريم ولا إباحة لانه كفعل المجنون والبهيمة لكن النفس الذاهبة به معصومة محرمة محترمة فلذلك وجبت الكفارة فيها وقال قوم : الخطأ محرم ولا إثم فيه وقيل : ليس بمحرم لان المحرم ما اثم فاعله وهذا لا إثم فيه وقوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } هذا استثناء منقطع وإلا في موضع لكن : التقدير لكن قد يقتله خطأ وقيل إلا بمعنى ولا أي ولا خطأ وهذا يبعد لأن الخطأ لا يتوجه اليه النهي لعدم إمكان التحريم منه وكونه لا يدخل تحت الوسع ولأنها لو كانت بمعنى ولا كانت عاطفة للخطأ على ما قبله وليس قبله ما يصلح عطفه عليه
وأما قتل نساء اهل الحرب وصبيانهم فلا كفارة فيه لأنه ليس لهم ايمان ولا أمان وانما منع من قتلهم لانتفاع المسلمين بهم لكونهم يصيرون بالسبي رقيقا ينتفع بهم وكذلك قتل من لم تبلغه الدعوة لا كفارة فيه لذلك ولذلك لم يضمنوا بشيء فاشبهوا من قتله مباح
فصل : ومن قتل نفسه خطأ وجبت الكفارة في ماله وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تجب لان ضمان نفسه لا يجب فلم تجب الكفارة كقتل نساء اهل الحرب وصبيانهم
ولنا عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ولانه آدمي مؤمن مقتول خطأ فوجبت الكفارة على قاتله كما لو قتله غيره والأول أقرب الى الصواب ان شاء الله فان عامر بن الاكوع قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي صلى الله عليه و سلم فيه بكفارة وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ } انما اريد بها اذا قتل غيره بدليل قوله : { ودية مسلمة إلى أهله } وقاتل نفسه لا تجب فيه دية بدليل قتل عامر بن الأكوع
فصل : ومن شارك في قتل يوجب الكفارة لزمته كفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة وهذا قول اكثر أهل العلم منهم الحسن و عكرمة و النخعي و الحارث العكلي و الثوري و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية اخرى ان على الجميع كفارة واحدة وهو قول أبي ثور وحكي عن الاوزاعي وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي وانكره سائر اصحابه واحتج لمن اوجب كفارة واحدة بقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ومن يتناول الواحد والجماعة ولم يوجب الا كفارة واحدة ودية والدية لا تتعدد فكذلك الكفارة ولانها كفارة قتل فلم تتعدد بتعدد القاتلين مع اتحاد المقتول ككفارة الصيد الحرمي
ولنا انها لا تتبعض وهي من موجب قتل الآدمي فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص وتخالف كفارة الصيد فانها تجب بدلا ولهذا تجب في أبعاضه وكذلك الدية
فصل : اذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا فعليه الكفارة وبه قال الحسن و عطاء و الزهري و النخعي و الحكم و حماد و مالك و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة : لا تجب وقد مضت هذه المسألة في دية الجنين
فصل : والمشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وبه قال الثوري و مالك و أبو الثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي وعن أحمد رواية أخرى تجب فيه الكفارة وحكي ذلك عن الزهري وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن الاسقع قال : [ أتينا النبي صلى الله عليه و سلم بصاحب لنا قد اوجب بالقتل فقال : اعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار ] ولانها إذا وجبت في قتل الخطأ ففي العمد أولى لانه أعظم إثما وأكبر جرما وحاجته الى تكفير ذنبه أعظم
ولنا مفهوم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ثم ذكر قتل العمد ولم يوجب فيه كفارة وجعل جزاءه جهنم فمفهومه أنه لا كفارة فيه و [ روي أن سويد بن الصامت قتل رجلا فأوجب النبي صلى الله عليه و سلم عليه القود ولم يوجب كفارة ] و [ عمرو بن امية الضمري قتل رجلين في عهد النبي صلى الله عليه و سلم فوداهما النبي صلى الله عليه و سلم ولم يوجب كفارة ] ولانه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كزنا المحصن وحديث واثلة يحتمل أنه كان خطأ وسماه موجبا أي فوت النفس بالقتل ويحتمل أنه كان شبه عمد ويحتمل أنه أمرهم بالعتاق تبرعا ولذلك أمر غير القاتل بالاعتاق وما ذكروه من المعنى لا يصح لأنها وجبت في الخطأ فتمحو إثمه لكونه لا يخلو من تفريط فلا يلزم من ذلك إيجابها في موضع عظم الاثم فيه بحيث لا يرتفع بها إذا ثبت هذا فلا فرق بين العمد الموجب للقصاص وما لا قصاص فيه كقتل الوالد ولده والسيد عبده والحر العبد والمسلم الكافر لان هذا من أنواع العمد
فصل : وتجب الكفارة في شبه العمد ولم أعلم لاصحابنا فيه قولا لكن مقتضى الدليل ما ذكرناه ولأنه أجرى مجرى الخطأ في نفي القصاص وحمل العاقلة ديته وتأجيلها في ثلاث سنين فجرى مجراه في وجوب الكفارة ولأن القاتل انما لم يحمل شيئا من الدية لتحمله الكفارة فلو لم تجب عليه الكفارة تحمل من الدية لئلا يخلو القاتل عن وجوب شيء أصلا ولم يرد الشرع بهذا
فصل : وكفارة القتل عتق رقبة مؤمنة بنص الكتاب سواء كان القاتل أو المقتول مسلما أو كافرا فان لم يجدها في ملكه فاضلة عن حاجته أو يجد ثمنها فاضلا عن كفايته فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وهذا ثابت بالنص أيضا فان لم يستطع ففيه روايتان :
إحداهما : يثبت الصيام في ذمته ولا يجب شيء آخر لأن الله تعالى لم يذكره ولو وجب لذكره والثاني يجب اطعام ستين مسكينا لانها كفارة فيها عتق وصيام شهرين متتابعين فكان فيها إطعام ستين مسكينا عند عدمها ككفارة الظهار والفطر في رمضان وان لم يكن مذكورا في نص القرآن فقد ذكر ذلك في نظيره فيقاس عليه فعلى هذه الرواية إن عجز عن الاطعام ثبت في ذمته حتى يقدر عليه و للشافعي قولان في هذا كالروايتين والله أعلم (10/35)
مسألة : ما أوجب القصاص لا يقبل فيه إلا عدلان
مسألة : قال : وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه إلا عدلان
وجملته أن ما أوجب القصاص في نفس كالقتل العمد العدوان من المكافىء او في طرف كقطعه من مفصل عمدا ممن يكافئه فلا يقبل فيه الا شهادة رجلين عدلين ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ولا شاهد ويمين الطالب لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا وذلك لان القصاص إراقة دم عقوبة على جناية فيحتاط له باشتراط الشاهدين العدلين كالحدود وسواء كان القصاص يجب على مسلم أو كافر أو حر أو عبد لأن العقوبة يحتاط لدرئها وقد روي عن ابي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه لا يقبل في الشهادة على القتل الا شهادة أربعة وهذا مذهب الحسن لانها شهادة يثبت بها القتل فلم يقبل أقل من أربعة كالشهادة على الزنا من المحصن
ولنا انه أحد نوعي القصاص فيقبل فيه اثنان كقطع الطرف وفارق الزنا فانه مختص بهذا وليست العلة كونه قتلا بدليل وجوب الاربعة في زنا البكر ولا قتل فيه ولانه انفرد بوجوب الحد على الرامي به والشهود إذا لم تكمل شهادتهم فلم يجز أن يلحق به ما ليس مثله (10/39)
مسألة : ما أوجب المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان أو رجل عدل مع يمين الطالب
مسألة : قال : وما أوجب من الجنايات المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان او رجل عدل مع يمين الطالب
وجملته أن ما كان موجبه المال كقتل الخطأ وشبه العمد والعمد في حق من لا يكافئه والجائفة والمأمومة وما دون الموضحة وشريك الخاطىء وأشباه هذا فانه يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وشهادة عدل ويمين الطالب وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر : لا يثبت أيضا الا بشهادة عدلين ولا تسمع فيه شهادة النساء ولا شاهد ويمين لانها شهادة على قتل او جناية على آدمي فلم تسمع من النساء كالقسم الأول يبين صحة هذا أنه لما لم يكن للنساء مدخل في القسامة في العمد ولم يكن لهن مدخل في القسامة على الخطأ وشبه العمد الموجب للمال فيدل هذا على أنهن لا مدخل لهن في الشهادة على دم بحال
ولنا انها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص فوجب أن تقبل كالشهادة على البيع والاجارة وفارق قتل العمد فانه موجب للعقوبة التي يحتاط باسقاطها فاحتيط في الشهادة على أسبابها وفي مسألتنا المقصود تقبل شهادتهن فيه فقبلت شهادتهن على سببه (10/40)
فصل : لو ادعى جناية عمد وقال عفوت عن القصاص لم يقبل فيه شاهد وامرأتان
فصل : ولو ادعى جناية عمد وقال عفوت عن القصاص فيها لم يقبل فيه شاهد وامرأتان لانه انما يعفو عن شيء ثبت له ولا يثبت ذلك القتل بتلك الشهادة وإن ثبت القتل إما بشاهدين او باقرار المدعى عليه صح العفو لان الحق ثبت له بوجود القتل وانما خفي ثبوته عمن لم يعلم ذلك فاذا علم ذلك علم أنه كان ثابتا من حين وجد القتل فيكون العفو مصادفا لحقه الثابت فينفذ كما لو أعتق عبدا ينازعه فيه منازع ثم ثبت انه كان ملكه حين العتق (10/40)
فصل : لا يثبت القتل بالشهادة إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهدين
فصل : ولا يثبت القتل بالشهادة إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشاهدين نحو ان يقولا نشهد أنه ضربه فقتله او فمات منه فان قالا ضربه بالسيف فمات او فوجدناه ميتا او فمات عقيبه او قالا ضربه بالسيف فأسال دمه او فأنهمر دمه فمات مكانه لم يثبت القتل لجواز أن يكون مات عقيب الضرب بسبب آخر وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل بالقتل فقال : اشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات فقال له شريح : فمات منه ؟ فأعاد الرجل قوله الاول فقال له شريح : قم فلا شهادة لك وإن كانت الشهادة بالجرح فقالا ضربه فأوضحه او فاتضح منه او فوجدناه موضحا من الضربة قبلت شهادتهما وإن قالا ضربه فاتضح رأسه أو وجدناه موضحا او فأسال دمه ووجدنا في رأسه موضحة لمن يثبت الايضاح لجواز أن يتضح عقيب ضربه بسبب آخر ولا بد من تعيين الموضحة في إيجاب القصاص لأنه ان كان في رأسه موضحتان فيحتاجان الى بيان ما شهدا به منهما وإن كانت واحدة فيحتمل أن يكون قد أوسعها غير المشهود عليه فيجب أن يعينها الشاهدان فيقولان هذه وان قالا اوضحه في موضع كذا من رأسه موضحة قدر مساحتها كذا وكذا قبلت شهادتهما وإن قالا لا نعلم قدرها او موضعها لم يحكم بالقصاص لانه يتعذر مع الجهالة وتجب الدية لأنها لا تختلف باختلافها وإن قالا ضرب رأسه فأسال دمه كانت بازلة وان قالا فسال دمه لم يثبت شيء لجواز ان يسيل دمه بسبب آخر وإن قالا نشهد أنه ضربه فقطع يده ولم يكن أقطع اليدين قبلت شهادتهما وثبت القصاص لعدم الاشتباه وإن كان أقطع اليدين ولم يعينا المقطوعة لم يثبت القصاص لأنهما لم يعينا اليد التي يجب القصاص منها وتجب دية اليدين لانها لا تختلف باختلاف اليدين (10/41)
فصول : فروع في الشهادة على القتل
فصل : إذا شهد أحدهما أنه أقر بقتله عمدا وشهد الآخر أنه أقر بقتله ولم يقل عمدا ولا خطأ ثبت القتل لان البينة قد تمت عليه ولم تثبت صفته لعدم تمامها عليه ويسأل المشهود عليه عن صفته فان أنكر أصل القتل لم يقبل إنكاره لقيام البينة به وإن أقر بقتل العمد ثبت باقراره وإن اقر بقتل الخطأ وأنكر الولي فالقول قول القاتل وهل يستحلف على ذلك ؟ يخرج فيه وجهان وان صدقه الولي على الخطأ ثبت عليه وإن أقر بقتل العمد وكذبه الولي وقال بل كان خطأ لم يجب القود لأن الولي لا يدعيه وتجب دية الخطأ ولا تحمل العاقلة شيئا من ديته في هذه المواضع كلها وتكون في ماله لأنها لم تثبت ببينة وفي بعضها القاتل مقر بأنها في ماله دون مال عاقلته وإن قال أحد الشاهدين أشهد أنه اقر بقتله عمدا وقال الآخر أشهد أنه أقر بقتله خطأ ثبت القتل أيضا لانه لا تنافي بين شهادتيهما لانه يجوز أن يقر عند أحدهما بقتل العمد ويقر عند الآخر بقتل الخطأ فثبت إقراره بالقتل دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا في التي قبلها وإن شهد احدهما انه قتله عمدا وشهد الآخر انه قتله خطأ ثبت القتل أيضا دون صفته ويطالب ببيان صفته على ما ذكرنا لان الفعل قد يعتقده أحدهما خطأ والآخر عمدا ويكون الحكم كما لو شهد على إقراره بذلك وإن شهد أحدهما انه قتله غدوة وقال الآخر عشية وقال أحدهما قتله بسيف وقال الآخر بعصا لم تتم الشهادة ذكره القاضي لان كل واحد منهما يخالف صاحبه ويكذبه وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر : يثبت القتل بذلك لأنهما اتفقا على القتل واختلفا في صفته فاشبه التي قبلها والأول أصح لأن كل واحد من الشاهدين يكذب صاحبه فان القتل غدوة غير القتل عشية ولا يتصور أن يقتل غدوة ثم يقتل عشية ولا أن يقتل بسيف ثم يقتل بعصا بخلاف العمد والخطأ لان الفعل واحد والخلاف في نيته وقصده وقد يخفى ذلك على أحدهما دون الآخر وإن شهد أحدهما أنه قتله وشهد الآخر انه اقر بقتله ثبت القتل نص عليه أحمد واختاره ابو بكر واختار القاضي انه لا يثبت وهو مذهب الشافعي لان احدهما شهد بغير ما شهد به الآخر فلم تتفق شهادتهما على فعل واحد
ولنا ان الذي أقر به هو القتل الذي شهد به الشاهد فلا تنافي بينهما فيثبت بشهادتهما كما لو شهد احدهما بالقتل عمدا والآخر بالقتل خطأ أو كما لو شهد احدهما ان له عليه الفا وشهد الآخر انه اقر بالف له
فصل : إذا قتل رجل عمدا قتلا يوجب القصاص سواء كان الشاهد عدلا او فاسقا لان شهادته تضمنت سقوط حقه من القصاص وقوله مقبول في ذلك فان احد الوليين إذا عفا عن حقه سقط القصاص كله ويشبه هذا ما لو كان عبد بين شريكين فشهد أحدهما ان شريكه اعتق نصيبه وهو موسر عتق نصيبه وان انكره الآخر فان كان الشاهد بالعفو شهد بالعفو عن القصاص والمال لم يسقط المال لأن الشاهد اعترف ان نصيبه سقط بغير اختياره فأما نصيب المشهود عليه فان كان الشاهد ممن لا تقبل شهادته فالقول قول المشهود عليه مع يمينه فاذا حلف ثبتت حصته من الدية وان كان الشاهد مقبول القول حلف الجاني معه وسقط عنه الحق المشهود عليه ويحلف الجاني انه عفا عن الدية ولا يحتاج الى ذكر العفو عن القصاص لأنه قد اسقط بشهادة الشاهد فلا يحتاج الى ذكره في اليمين ولأنه إنما يحلف على ما يدعى عليه ولا يدعى عليه غير الدية
فصل : واذا جرح رجل فشهد له رجلان من ورثته غير الوالدين والمولودين نظرت فان كانت لجراح مندملة فشهادتهما مقبولة لأنهما لا يجران إلى انفسهما نفعا وإن كانت غير مندملة لم يحكم بشهادتهما لجواز ان تصير نفسا فتجب الدية لهما بشهادتهما فان شهدا في تلك الحال وردت شهادتهما ثم اندملت فأعادا شهادتهما فهل تقبل ؟ على وجهين : أحدهما : لا تقبل لأن الشهادة ردت للتهمة فلا تقبل وان زالت التهمة كالفاسق إذا أعاد شهادته المردودة بعد عدالته والثاني تقبل لان سبب التهمة قد تحقق زواله و للشافعي وجهان كهذين وان شهد وارثا المريض بمال ففي قبول شهادتهما له وجهان :
أحدهما : تقبل لانهما يثبتان المال للمريض وان مات انتقل اليهما عنه فاشبهت الشهادة للصحيح بخلاف الجناية فانها اذا صارت نفسا وجبت الدية لهما بها والوجه الثاني لا تقبل لانه متى ثبت المال للمريض تعلق حق ورثته به ولهذا لا ينفذ تبرعه فيه فيما زاد على الثلث وان شهد للمجروح بالجرح من لا يرثه لكونه محجوبا كالأخوين يشهدان لأخيهما وله ابن سمعت شهادتهما فان مات ابنه نظرت فان كان الحاكم حكم بشهادتهما لم ينقض حكمه لأن ما يطرأ بعد الحكم بالشهادة لا يؤثر فيها كالفسق وان كان ذلك قبل الحكم بالشهادة لم يحكم بها لأنهما صارا مستحقين فلا يحكم بشهادتهما كما لو فسق الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما وان شهد على رجل بالجراح الموجبة للدية على العاقلة فشهد بعض عاقلة فشهد بعض عاقلة المشهود عليه بجرح المشهود لم تقبل شهادته وان كان فقيرا لأنه قد يكون ذا مال وقت العقل فيكون دافعا عن نفسه وان كان الجرح مما لا تحمله العاقلة كجراحة العمد أو العبد سمعت شهادة العاقلة بجرح الشهود لأنهما لا يدفعان عن انفسهما ضررا فان موجب هذه الجراحة القصاص او المال في ذمة الجاني وكذلك ان كان الشاهدان يشهدان على إقراره بالجرح لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وان كانت شهادتهما بجراح عقله دون ثلث الدية خطأ نظرنا فان كانت شهادة العاقلة بجرح الشهود قبل الاندمال لم تقبل لأنها ربما صارت نفسا فتحملها العاقلة وان كانت بعده قبلت لأنها لا تحمل ما دون الثلث وان كان الشاهدان بالجرح ليسا من العاقلة في الحال وإنما يصيران من العاقلة التي تتحمل ان لو مات من هو أقرب منهما قبلت شهادتهما ذكره القاضي لانهما ليسا من العاقلة وإنما يصيران منها بموت القريب والظاهر حياته وفارق الفقير اذا شهد لأن الغني ليست عليه أمارة فان المال غاد ورائح ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على نحو ما ذكرنا ويحتمل أن يسوى بين المسلمين لأن كل واحد منهما ليسا من العاقلة في الحال وانما يصير منها بحدوث امر لم يتفق الآن سببه فهما سواء واحتمال غنى الفقير كاحتمال موت الحي بل الموت أقرب فانه لا بد منه وكل حي ميت وكل نفس ذائقة الموت وليس كل فقير يستغني فما ثبت في إحدى الصورتين يثبت في الاخرى فيثبت فيهما جميعا وجهان بأن ينقل حكم كل واحدة من الصوربين إلى الاخرى
فصل : اذا شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا رجلا ثم شهد المشهود عليهما على الأولين أنهما اللذان قتلاه فصدق الولي الأولين وكذب الآخرين وجب القتل عليهما لأن الولي يكذبهما وهما يدفعان بشهادتهما عن انفسهما ضررا وإن صدق الاخرين وحدهما بطلت شهادة الجميع لأن الأولين بطلت شهادنهما لتكذيبه لهما ورجوعه عما شهدا له به والآخران لا تقبل شهادتهما لأنهما عدوان للأولين ولأنهما يدفعان عن أنفسهما ضررا وإن صدق الجميع بطلت شهادتهم أيضا لأنه بتصديق الاولين مكذب للآخرين وتصديقه للآخرين تكذيب للأولين وهما متهمان لما ذكرناه فان قيل كيف تتصور هذه المسألة والشهادة انما تكون بعد الدعوى ؟ فكيف يتصور فرض تصديقهم وتكذيبهم ؟ قلنا قد يتصور أن يشهدوا قبل الدعوى إذا لم يعلم الولي عن قتله ؟ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ] وهذا معنى ذلك (10/41)
كتاب قتال أهل البغي : وفيه خمس فوائد
والأصل في هذا الباب قول الله سبحانه : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } إلى قوله { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ففيها خمس فوائد :
أحدها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان فانه سماهم مؤمنين الثانية أنه أوجب قتالهم الثالثة أنه أسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله الرابعة أنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم الخامسة أن الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقا عليه وروى عبد الله بن عمرو وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من أعطى إماما صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فان جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ] رواه مسلم وروى عرفجة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ستكون هنات وهنات - ورفع صوته ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ] فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وروى عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية ] رواه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال البغاة فان أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وعلي رضي الله عنه قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان
والخارجون عن قبضة الامام أصناف أربعة : احدها قوم امتنعوا من طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الارض بالفساد ياتي حكمهم في باب مفرد
الثاني : قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم فهؤلاء قطاع طريق في قول أكثر أصحابنا وهو مذهب الشافعي لان ابن ملجم لما جرح عليا قال للحسن ان برئت رأيت رأيي وان مت فلا تمثلوا به فلم يثبت بفعله حكم البغاة ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير حكم البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه أفضى إلى إتلاف أموال الناس وقال أبو بكر : لا فرق بين الكثير والقليل وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن حكم الامام
الثالث : الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحا والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة حكمهم حكمهم وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث و مالك يرى استتابتهم فان تابوا وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم فان تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار وان كانوا في قبضة الامام استتابهم كاستتابة المرتدين فان تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئا لا يرثهم ورثتهم المسلمون لما روى أبو سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ينظر في النصل فلا يرى شيئا وينظر في القدح فلا يرى شيئا وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق ] رواه مالك في موطئه و البخاري في صحيحه وهو حديث صحيح ثابت الإسناد وفي لفظ قال : [ يخرج في قوم آخر الزمان أحداث الاسنان سفهاء الاحلام يقولون من خير قول البرية يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم فان قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة ] رواه البخاري وروى معناه من وجوه يقول فكما خرج هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث لم يتعلق منها بشيء كذلك خروج هؤلاء من الدين يعني الخوارج وعن أبي أمامة أنه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال : كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } الى آخر الآية فقيل له انت سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه قال الترمذي : هذا حديث حسن ورواه ابن ماجة عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب انه سمع أبا امامة يقول : شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء وخير قتلى من قتلوا كلاب أهل النار كلاب أهل النار كلاب أهل النار قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا قلت : يا أبا أمامة هذا شيء تقوله ؟ قال : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم
وعن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } قال : هم أهل النهروان وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ هم شر الخلق والخليقة لإن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] وقال : [ لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ] وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين وقال ابن عبد البر في الحديث الذي رويناه قوله : [ يتمارى في الفوق ] يدل على انه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الاسلام بشيء بحيث يشك في خروجهم منه وروي عن علي أنه لما قاتل أهل النهر قال لاصحابه : لا تبدأوهم في القتال وبعث اليهم أقيدونا بعبد الله بن خباب قالوا : كلنا قتله فحينئذ استحل قتالهم لاقرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم وذكر ابن عبد البر عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن أهل النهر : أكفار هم ؟ قال : من الكفر فروا قيل : فمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكون الله إلا قليلا قيل : فما هم ؟ قال : هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم ولما جرحه ابن ملجم قال للحسن : أحسنوا إساره فان عشت فأنا ولي دمي وإن مت فضربة كضربتي وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء والصحيح إن شاء الله ان الخوارج يجوز قتلهم ابتداء والاجهاز على جريحهم لأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتلهم ووعده بالثواب من قتله فان عليا رضي الله عنه قال : لولا أن ينظروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه و سلم ولان بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم بدليل ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من عظم ذنبهم وأنهم شر الخلق والخليقة وأنهم يمرقون من الدين وأنهم كلاب النار وحثه على قتلهم واخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد فلا يجوز الحاقهم بمن أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالكف عنهم وتورع كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن قتالهم ولا بدعة فيهم
الصنف الرابع : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الامام ويرومون خلعه لتأويل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش فهؤلاء البغاة الذين نذكر في هذا الباب حكمهم وواجب على الناس معونة إمامهم في قتال البغاة لما ذكرنا في أول الباب ولأنهم لو تركوا معونته لقهره أهل البغي وظهر الفساد في الأرض (10/46)
مسألة : إذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا ودفعوا بأسهل
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : واذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا ودفعوا بأسهل ما يندفعون به
وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته لما ذكرنا من الحديث والاجماع وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي صلى الله عليه و سلم او بعهد إمام قبله اليه فان أبا بكر ثبتت امامته باجماع الصحابة على بيعته وعمر ثبتت امامته بعهد ابي بكر اليه وأجمع الصحابة على قبوله ولو خرج رجل على الامام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له واذعنوا بطاعته وتابعوه صار إماما يحرم قتاله والخروج عليه فان عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها فصار إماما يحرم الخروج عليه وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين واراقة دمائهم وذهاب اموالهم ويدخل الخارج عليه في عموم قوله عليه السلام : [ من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان ] فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه باغيا وجب قتاله ولا يجوز قتالهم حتى يبعث اليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب إلا أن يخاف كلبهم فلا يمكن ذلك في حقهم فاما إن أمكن تعريفهم عرفهم ذلك وأزال ما يذكرونه من المظالم وأزال حججهم فان لجوا قاتلهم حينئذ لان الله تعالى بدأ بالامر بالاصلاح قبل القتال فقال سبحانه : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وروي أن عليا رضي الله عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل ثم أمر أصحابه أن لا يبدأوهم بالقتال ثم قال : إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم سمعهم يقولون الله اكبر يا ثارات عثمان فقال : اللهم أكب قتلة عثمان لوجوههم وروى عبد الله بن شداد بن الهادي ان عليا لما اعتزلته الحرورية بعث اليهم عبد الله بن عباس فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف فان أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال وإنما كان كذلك لان المقصود كفهم ودفع شرهم لا قتلهم فاذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين فان سألوا الانظار نظر في حالهم وبحث عن أمرهم فان بان له أن قصدهم الرجوع إلى الطاعة ومعرفة الحق أمهلهم قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم فان كان قصدهم الاجتماع على قتاله وانتظار مدد يقوون به او خديعة الامام او ليأخذوه على غرة ويفترق عسكره لم ينظرهم وعاجلهم لانه لا يأمن من أن يصير هذا طريقا إلى قهر أهل العدل ولا يجوز هذا وان اعطوه عليه مالا لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على إقرارهم على ما لا يجوز اقرارهم عليه وان بذل له رهائن على انظارهم لم يجز أخذها لذلك ولأن الرهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم فلا يفيد شيئا وان كان في ايديهم أسرى من أهل العدل واعطوا بدلك رهائن منهم قبلهم الامام واستظهر للمسلمين فان أطلقوا أسرى المسلمين الذين عندهم أطلقت رهائنهم وإن قتلوا من عندهم لم يجز قتل رهائنهم لانهم لا يقتلون بقتل غيرهم فاذا انقضت الحرب خلي الرهائن كما تخلى الأسارى منهم وان خاف الامام على الفئة العادلة الضعف عنهم أخر قتالهم الى أن تمكنه القوة عليهم لأنه لا يأمن الاصطلام والاستئصال فيؤخرهم حتى تقوى شوكة أهل العدل ثم يقاتلهم وان سألوه أن ينظرهم أبدا ويدعهم وما هم عليه ويكفوا عن المسلمين نظرت فان لم يعلم قوته عليهم وخاف قهرهم له إن قاتلهم تركهم وان قوي عليهم لم يجز إقرارهم على ذلك لأنه لا يجوز ان يترك بعض المسلمين طاعة الامام ولا تؤمن قوة شوكتهم بحيث يفضي إلى قهر الامام العادل ومن معه ثم ان امكن دفعهم بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم لأهلهم ولأن المقصود إذا حصل بدون القتل لم يجز القتل من غير حاجة وإن حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله وقال أصحاب الشافعي فيه وجه آخر يجوز لان عليا رضي الله عنه نهى أصحابه عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال : إياكم وصاحب البرنس فقتله رجل وانشأ يقول :
( وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم )
( هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعا لليدين وللفم )
( على غير شيء غير أن ليس تابعا ... عليا ومن لم يتبع الحق يظلم )
( يناشدني حم والرمح شاجر ... فهلا تلا حم قبل التقدم )
وكان السجاد حامل راية أبيه ولم يكن يقاتل فلم ينكر علي قتله ولأنه صار ردءا لهم
ولنا قول الله تعالى : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } و الأخبار الواردة في قتل المسلم والاجماع على تحريمه وإنما خص من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصائل ففيما عداه يبقى على العموم والاجماع فيه ولهذا حرم قتل مدبرهم وأسيرهم والاجهاز على جريحهم مع أنهم إنما تركوا القتال عجزا عنه ومتى ما قدروا عليه عادوا اليه فمن لا يقاتل تورعا عنه مع قدرته عليه ولا يخاف منه القتال بعد ذلك أولى ولأنه مسلم لم يحتج إلى دفعه ولا صدر منه أحد الثلاثة فلم يحل دمه لقوله عليه السلام : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث ] فأما حديث علي في نهيه عن قتل السجاد فهو حجة عليه فان نهي علي أولى من فعل من خالفه ولا يمتثل قول الله تعالى ولا قول رسوله ولا قول إمامة وقولهم لم ينكر قتله قلنا : لم ينقل الينا أن عليا علم حقيقة الحال في قتله ولا حضر قتله فينكره وقد جاء أن عليا رضي الله عنه حين طاف في القتلى رآه فقال : السجاد ورب الكعبة هذا الذي قتله بره بأبيه وهذا يدل على أنه لم يشعر بقتله ورأى كعب بن سور فقال : يزعمون إنما خرج إلينا الرعاع وهذا الحبر بين أظهرهم ويجوز أن يكون تركه الانكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدم ولأن القصد من قتالهم كفهم وهذا كاف لنفسه فلم يجز قتله كالمنهزم (10/49)
فصل : حكم قتال الصبيان والنساء من أهل البغي
فصل : وإذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان فهم كالرجل البالغ الحر يقاتلون مقبلين ويتركون مدبرين لأن قتالهم للدفع ولو أراد أحد هؤلاء قتل انسان جاز دفعه وقتاله وان أتى على نفسه ولذلك قلنا في أهل الحرب إذا كان معهم النساء والصبيان يقاتلون قوتلوا وقتلوا (10/53)
فصل : لا يقاتل أهل البغي بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق وغيرهما
فصل : ولا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه كالنار والمنجنيق والتغريق من غير ضرورة لأنه لا يجوز قتل من لا يقاتل وما يعم إتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل فان دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم اتلافه جاز ذلك وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة اذا تحصن الخوارج : فاحتاج الامام الى رميهم بالمنجنيق فعل ذلك بهم ما كان لهم عسكر وما لم ينهزموا وان رماهم البغاة بالمنجنيق والنار جاز رميهم بمثله (10/53)
فصل : موقف الإمام من طائفتين من أهل البغي اقتتلوا
فصل : قال أبو بكر : وإذا اقتتلت طائفتان من اهل البغي فقدر الامام على قهرهما لم يعن واحدة منهما لانهما جميعا على الخطأ وان عجز عن ذلك وخاف اجتماعهما على حربه ضم إليه أقربهما الى الحق فان استويا اجتهد برأيه في ضم إحداهما ولا يقصد بذلك معونة إحداهما بل الإستعانة على الأخرى فإذا هزمها لم يقاتل من معه حتى يدعوهم الى الطاعة لأنهم قد حصلوا في أمانه وهذا مذهب الشافعي ولا يستعين على قتالهم بالكفار بحال ولا بمن يرى قتلهم مدبرين وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : لا بأس أن يستعين عليهم باهل الذمة والمستأمنين وصنف آخر منهم إذا كان أهل العدل هم الظاهرين على من يستعينون به
ولنا ان القصد كفهم وردهم الى الطاعة دون قتلهم وإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فان كان يقدر على كفهم استعان بهم وإن لم يقدر لم يجز (10/54)
فصل : حكم ما لو أظهر قوم رأي الخوارج
فصل : وإذا أظهر قوم رأي الخوارج مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام فحكى القاضي عن أبي بكر انه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وجمهور أهل الفقه وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز فعلى هذا حكمهم في ضمان النفس والمال حكم المسلمين وان سبوا الامام أو غيره من أهل العدل عزروا لأنهم ارتكبوا محرما لا حد فيه وان عرضوا بالسب فهل يعزرون ؟ على وجهين وقال مالك في الاباضية وسائر أهل البدع يستتابون فان تابوا والا ضربت أعناقهم قال اسماعيل بن اسحاق : رأى مالك قتل الخوارج واهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع الطريق فان تابوا وإلا قتلوا على افسادهم لا على كفرهم وأما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله انهم يستتابون فان تابوا والا قتلوا لكفرهم كما يقتل المرتد وحجتهم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ] وقوله عليه السلام : [ لئن ادركتهم لأقتلنهم قتل عاد ] وقوله صلى الله عليه و سلم في الذي أنكر عليه وقال انها لقسمة ما أريد بها وجه الله لابي بكر : [ اذهب فاقتله ] ثم قال لعمر مثل ذلك فأمر بقتله قبل قتاله وهو الذي يخرج من ضئضىء هذا قوم يعني الخوارج وقول عمر لصبيغ لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف يعني لقتلتك وإنما يقتله لكونه من الخوارج فان النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سيماهم التسبيد ] يعني حلق رؤوسهم واحتج الأولون بفعل علي رضي الله عنه فانه روي عنه أنه كان يخطب يوما فقال رجل بباب المسجد لا حكم الا لله فقال علي : كلمة حق أريد بها باطل ثم قال لكم علينا ثلاث : لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله تعالى ولا نمنعكم الفيء ما دامت ايديكم معنا ولا نبدأكم بقتال وروى أبو يحيى قال : صلى علي رضي الله عنه صلاة فناداه رجل من الخوارج : { لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } فأجابه علي رضي الله عنه : { فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } وكتب عدي بن أرطاة الى عمر بن عبد العزيز ان الخوارج يسبونك فكتب اليه سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم وان شهروا السلاح فاشهرو عليهم وان ضربوا فاضربوا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة فلأن لا يتعرض لغيرهم أولى وقد روي [ في خبر الخارجي الذي انكر عليه ان خالدا قال : يا رسول الله الا أضرب عنقه ؟ قال : لعله يصلي ؟ قال : رب مصل لا خير فيه قال : إني لم اومر أن انقب عن قلوب الناس ] (10/55)
مسألة : إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم جاز ذلك
مسألة : قال : فان آل ما دفعوا به الى نفوسهم فلا شيء على الدافع وان قتل الدافع فهو شهيد
وجملته أنه إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم جاز قتلهم ولا شيء على من قتلهم من إثم ولا ضمان ولا كفارة لأنه فعل ما أمر به وقتل من أحل الله قتله وأمر بمقاتلته وكذلك ما أتلفه اهل العدل على أهل البغي حال الحرب من المال لا ضمان فيه لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالاموال أولى فان قتل العادل كان شهيدا لانه قتل في قتال أمر الله تعالى به بقوله : { فقاتلوا التي تبغي } وهل يغسل ويصلي عليه ؟ فيه روايتان إحداهما لا يغسل ولا يصلى عليه لانه شهيد معركة امر بالقتال فيها فأشبه شهيد معركة الكفار والثانية يغسل وسصلى عليه وهو قول الاوزاعي و ابن المنذر ولان النبي صلى الله عليه و سلم امر بالصلاة على من قال لا إله إلا الله واستثنى قتيل الكفار في المعركة ففي ما عداه يبقى على الاصل ولان شهيد معركة الكفار أجره أعظم وفضله اكثر وقد جاء أنه يشفع في سبعين من أهل بيته وهذا لا يلحق به في فضله فلا يثبت فيه مثل حكمه فان الشيء انما يقاس على مثله (10/57)
فصل : حكم ما أتلفه أهل البغي قبل الحرب وبعده
فصل : وليس على أهل البغي أيضا ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يضمنون ذلك لقول أبي بكر لاهل الردة : تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح فوجب ضمانه كالذي تلفت في غير حال الحرب
ولنا ما روى الزهري انه قال : كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون فأجمعوا على أن لا يقام حد على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب بتأويل سائغ فلم تضمن ما أتلفت على الاخرى كأهل العدل ولان تضمينهم يفضي الى تنفيرهم عن الرجوع الى الطاعة فلا يشرع كتضمين أهل الحرب فاما قول أبي بكر رضي الله عنه فقد رجع عنه ولم يمضه فان عمر قال له أما أن يدوا قتلانا فلا فان قتلانا قتلوا في سبيل الله تعالى على ما أمر الله فوافقه أبو بكر ورجع الى قوله فصار أيضا إجماعا حجة لنا ولم ينقل أنه غرم أحدا شيئا من ذلك وقد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ثم أسلم فلم يغرم شيئا ثم لو وجب التغريم في حق المرتدين لم يلزم مثله ههنا فان أولئك كفار لا تأويل لهم وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل سائغ فكيف يصح الحاقهم بهم ؟ فأما ما أتلفه بعضهم على بعض في غير حال الحرب قبله أو بعده فعلى متلفه ضمانه وبهذا قال الشافعي ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خباب أرسل اليهم علي أقيدونا من عبد الله بن خباب ولما قتل ابن ملجم عليا في غير المعركة أقيد به وهل يتحتم قتل الباغي إذا قتل أحدا من اهل العدل في غير المعركة ؟ فيه وجهان :
احدهما يتحتم لانه قتل باشهار السلاح والسعي في الارض بالفساد فيحتم قتله كقاطع الطريق والثاني لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي رضي الله عنه : ان شئت ان أعفو وان شئت استقدت فاما الخوارج فالصحيح على ما ذكرنا إباحة قتلهم فلا قصاص على قاتل أحد منهم ولا ضمان عليه في ماله (10/58)
مسألة : إذا دفع أهل البغي لم يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل لهم أسير
مسألة : قال : وإذا دفعوا لم يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريحهم ولم يقتل لهم أسير ولم يغنم لهم مال ولم تسب له ذرية
وجملته أن أهل البغي إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة وإما بإلقاء السلاح وإما بالهزيمة الى فئة او الى غير فئة واما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فانه يحرم قتلهم واتباع مدبرهم وبهذا قال الشافعي وقال ابو حنيفة : إذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا وإن كانت لهم فئة يلجؤون اليها جاز قتل مدبرهم واسيرهم والاجازة على جريحهم وان لم يكن لهم فئة لم يقتلوا لكن يضربون ضربا وجيعا ويحبسون حتى يقلعوا عما هم عليه ويحدثوا توبة ذكروا هذا في الخوارج ويروى عن ابن عباس نحو هذا واختاره بعض اصحاب الشافعي لانه متى لم يقتلهم اجتمعوا ثم عادوا الى المحاربة ولنا ما وري عن علي رضي الله عنه انه قال يوم الجمل : لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر ولا يفتح باب ومن أغلق بابا أو بابه فهو آمن ولا يتبع مدبر وقد روي نحو ذلك عن عمار وعن علي رضي الله عنه انه ودى قوما من بيت مال المسلمين قتلوا مدبرين وعن أبي امامة أنه قال : شهدت صفين وكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وقد ذكر القاضي في شرحه [ عن عبد الله بن مسعود ان النبي صلى الله عليه و سلم قال : يا ابن ام عبد ما حكم من بغى على أمتي ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم فقال : لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم ] ولأن المقصود دفعهم وكفهم وقد حصل فلم يجز قتلهم كالصائل ولا يقتلون لما يخاف في الثاني كما لو لم تكن لهم فئة إذا ثبت هذا فان قتل انسان من منع من قتله ضمنه لأنه قتل معصوما لم يؤمر بقتله وفي القصاص وجهان :
أحدهما : يجب لأنه مكافىء معصوم والثاني لا يجب لأن في قتلهم اختلافا بين الأئمة فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص لأنه مما يندرىء بالشبهات وأما أسيرهم فان دخل في الطاعة خلي سبيله وان أبى ذلك وكان رجلا جلدا من أهل القتال حبس ما دامت الحرب قائمة فاذا انقضت الحرب خلي سبيله وشرط عليه أن لا يعود إلى القتال وإن لم يكن الأسير من أهل القتال كالنساء والصبيان والشيوخ الفانين خلي سبيلهم ولم يحبسوا في أحد الوجهين وفي الآخر يحبسون لان فيه كسرا لقلوب البغاة وان أسر كل واحد من الفريقين أسارى من الفريق الآخر جاز فداء أسارى أهل العدل باسارى اهل البغي وإن قتل اهل البغي أسارى اهل العدل لم يجز لاهل العدل قتل أساراهم لأنهم لا يقتلون بجناية غيرهم ولا يزرون وزر غيرهم وان أبى البغاة مفاداة الاسرى الذين معهم وحبسوهم احتمل أن يجوز لاهل العدل حبس من معهم ليتوصلوا إلى تخليص أساراهم بحبس من معهم ويحتمل أن لا يجوز حبسهم ويطلقون لان الذنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم (10/60)
فصل : حكم غنيمة أموال أهل البغي وسبي ذريتهم
فصل : فأما غنيمة أموالهم وسبي ذريتهم فلا نعلم في تحريمه بين اهل العلم خلافا وقد ذكرنا حديث أبي أمامة و ابن مسعود ولأنهم معصومون وإنما أبيح من دمائهم واموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم وما عداه يبقى على أصل التحريم وقد روي أن عليا رضي الله عنه يوم الجمل قال : من عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه وكان بعض أصحاب علي قد أخذ قدرا وهو يطبخ فيها فجاء صاحبها ليأخذها فسأله الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج الطبيخ فأبى وكبه وأخذها وهذا من جملة ما نقم الخوارج من علي فانهم قالوا انه قاتل ولم يسب ولم يغنم فان حلت له دماؤهم فقد حلت له أموالهم وإن حرمت عليه أموالهم فقد حرمت عليه دماؤهم فقال لهم ابن عباس : أفتسبون أمكم ؟ يعني عائشة ام تستحلون منها ما تستحلون من غيرها ؟ فان قلتم ليست أمكم فقد كفرتم وإن قلتم إنها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم يعني بقوله انكم إن جحدتم انها أمكم فقد قال الله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم } فإن لم تكن أما لهم لم يكونوا من المؤمنين ولأن قتال البغاة إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم فلا يستباح منهم الا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل وقاطع الطريق وبقي حكم المال والذرية على أصل العصمة وما أخذ من كراعهم وسلحهم لم يرد اليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به وذكر القاضي أن أحمد أومأ إلى جواز الانتفاع به حال التحام الحرب ولا يجوز في غير قتالهم هذا قول أبي حنيفة لأن هذه الحال يجوز فيها إتلاف نفوسهم وحبس سلاحهم وكراعهم فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب وقال الشافعي : لا يجوز ذلك إلا من ضرورة إليه لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع به بغير إذنه كغيره من أموالهم
وقال أبو الخطاب : في هذه المسألة وجهان كالمذهبين ومتى انقضت الحرب وجب رده اليهم كما ترد اليهم سائر أموالهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفس منه ] وروى أبو قيس أن عليا رضي الله عنه نادى من وجد ماله فليأخذه (10/62)
مسألة وفصل : من قتل من البغاة غسل وكفن وصلي عليه ولا فرض في ذلك بين الخوارج وغيرهم
مسألة : قال : ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه
يعني من أهل البغي وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أصحاب الرأي : إن لم يكن لهم فئة صلي عليهم وان كانت لهم فئة لم يصل عليهم لانه يجوز قتلهم في هذه الحال فلم يصل عليهم كالكفار ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلوا على من قال لا إله إلا الله ] رواه الخلال في جامعه ولانهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشهادة فيغسلون ويصلى عليهم كما لو لم يكن لهم فئة وما ذكروه ينتقض بالزاني المحصن والمقتص منه والقاتل في المحاربة
فصل : لم يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم في هذا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي وظاهر كلام أحمد رحمه الله انه لا يصلى على الخوارج فإنه قال : أهل البدع ان مرضوا فلا تعودوهم وان ماتوا فلا تصلوا عليهم وقال أحمد : الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم قد ترك النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة بأقل من هذا وذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن تقاتل خيبر من ناحية من نواحيها فقاتل رجل من تلك الناحية فقتل فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه و سلم فقيل انه كان في قرية أهلها نصارى ليس فيها من يصلي عليه قال : [ أنا لا أشهده يشهده من شاء ]
وقال مالك : لا يصلى على الأباضية ولا القدرية وسائر أصحاب الأهواء ولا تتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم والاباضية صنف من الخوارج نسبوا إلى عبد الله بن اباض صاحب مقالتهم والازارقة أصحاب نافع بن الأزرق والنجدات أصحاب نجدة الحروري والبيهسية اصحاب بيهس والصفرية قيل انهم نسبوا إلى صفرة ألوانهم وأصنافهم كثيرة والحرورية نسبوا إلى أرض يقال لها حروراء خرجوا بها وقال أبو بكر بن عياش : لا أصلي على الرافضي لانه زعم أن عمر كافر ولا على الحروري لانه يزعم أن عليا كافر وقال الفريابي : من شتم أبا بكر فهو كافر لا يصلى عليه
ووجه ترك الصلاة عليهم انهم يكفرون اهل الاسلام ولا يرون الصلاة عليهم فلا يصلى عليهم كالكفار من أهل الذمة وغيرهم ولانهم مرقوا من الدين فأشبهوا المرتدين (10/64)
فصل : البغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع فليسوا بفاسقين
فصل : والبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين وانما هم يخطئون في تأويلهم والامام وأهل العدل مصيبون في قتالهم فهم جميعا كالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام من شهد منهم قبلت شهادته إذا كان عدلا وهذا قول الشافعي ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافا فأما الخوارج وأهل البدع إذا خرجوا على الامام فلا تقبل شهادتهم لانهم فساق وقال ابو حنيفة : يفسقون بالبغي وخروجهم على الإمام ولكن تقبل شهادتهم لان فسقهم من جهة الدين فلا ترد به الشهادة وقد قبل شهادة الكفار بعضهم على بعض ويذكر في كتاب الشهادة إن شاء الله تعالى (10/65)
فصل : قال القاضي : لا يكره للعادل قتل ذي رحمة الباغي
فصل : ذكر القاضي انه لا يكره للعادل قتل ذي رحمه الباغي لانه قتل بحق فأشبه إقامة الحد عليه وكرهت طائفة من أهل العلم القصد إلى ذلك وهو أصح إن شاء الله لقول الله تعالى : { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما و صاحبهما في الدنيا معروفا } وقال الشافعي [ كف النبي صلى الله عليه و سلم أبا حذيفة وعتبة عن قتل أبيه ] وقال بعضهم : لا يحل ذلك لأن الله تعالى أمر بمصاحبته بالمعروف وليس هذا من المعروف فان قتله فهل يرثه ؟ على روايتين :
إحداهما : يرثه هذا قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لانه قتل بحق فلم يمنع الميراث كالقصاص والقتل في الحج : والثانية : لا يرثه وهو قول ابن حامد ومذهب الشافعي لعموم قوله عليه السلام : [ ليس لقاتل شيء ] وأما الباغي إذا قتل العادل فلا يرثه وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : يرثه لأنه قتله بتأويل أشبه قتل العادل الباغي
ولنا انه قتله بغير حق فلم يرثه كالقاتل خطأ وفارق ما إذا قتله العادل لانه قتله بحق وقال قوم : إذا تعمد العادل قتل قريبه فقتله ابتداء لم يرثه وان قصد ضربه ليصير غير ممتنع فجرحه ومات من هذا الضرب ورثه لانه قتله بحق وهذا قول ابن المنذر وقال هو أقرب الاقاويل (10/66)
مسألة : ما أخذه البغاة في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم
مسألة : قال : وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم
وجملته أن أهل البغي إذا غلبوا على بلد فجبوا الخراج و الزكاة والجزية وأقاموا الحدود وقع ذلك موقعه فاذا ظهر أهل العدل بعد على البلد وظفروا بأهل البغي لم يطالبوا بشيء مما جبوه ولم يرجع به على من أخذ منه روي نحو هذا عن ابن عمر وسلمة بن الاكوع وهو قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي وسواء كان من الخوارج أو من غيرهم وقال أبو عبيد : على من أخذوا منه الزكاة الاعادة لانه اخذها ممن لا ولاية له صحيحة فأشبه ما لو أخذها آحاد الرعية
ولنا ان عليا لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه وكان ابن عمر إذا أتاه ساعي نجده الحروري دفع اليه زكاته وكذلك سلمة بن الاكوع ولان في ترك الاحتساب بها ضررا عظيما ومشقة كثيرة فانهم قد يغلبون على البلاد السنين الكثيرة فلو لم يحتسب بما أخذوه أدى إلى ثنا الصدقات في تلك المدة كلها
فاذا ثبت هذا فاذا ذكر أرباب الصدقات انهم قد أخذوا صدقاتهم قبل قولهم بغير يمين قال احمد : لا يستحلف الناس على صدقاتهم وان ادعى اهل الذمة دفع جزيتهم لم تقبل بغير بينة لأنهم غير مأمونين ولان ما يجب عليهم عوض وليس بمواساة فلم يقبل قولهم كأجرة الدار ويحتمل أن يقبل قولهم إذا مضى الحول لان الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم فكان القول قولهم لان الظاهر معهم ولانه إذا مضى لذلك سنون كثيرة شق عليهم إقامة البينة على كل عام فيؤدي ذلك إلى تغريمهم الجزية مرتين وان ادعى من عليه الخراج دفعه اليهم ففيه وجهان : أحدهما يقبل لانه حق على مسلم فقبل قوله فيه كالزكاة والثاني لا يقبل لانه عوض فأشبه الجزية وان كان من عليه الخراج ذميا فهو كالجزية لأنه عوض على غير مسلم فهو كالجزية ولأنه احد الخراجين فأشبه الجزية (10/66)
مسألة : لا ينقض من حكم حاكم أهل البغي إلا ما ينقض من حكم غيره
مسألة : قال : ولا ينقض من حكم حاكمهم الا ما ينقض من حكم غيره
يعني إذا نصب أهل البغي قاضيا يصلح للقضاء فحكمه حكم أهل العدل ينفذ من أحكامه ما ينفذ من احكام اهل العدل ويرد منه ما يرد فان كان ممن يستحل دماء اهل العدل واموالهم لم يجز قضاؤه لانه ليس بعدل وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجوز قضاؤه بحال لان أهل البغي يفسقون ببغيهم والفسق ينافي القضاء
ولنا انه اختلاف في الفروع بتأويل سائغ فلم يمنع صحة القضاء ولم يفسق كاختلاف الفقهاء فاذا ثبت هذا فانه إذا حكم بما لا يخالف اجماعا نفذ حكمه وإن خالف ذلك نقض حكمه فقاضي أهل البغي أولى وان حكم فسقوط الضمان عن اهل البغي فيما أتلفوه حال الحرب جاز حكمه لانه موضع اجتهاد وإن كان حكمه فيما أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ لانه مخالف للاجماع وإن حكم على اهل العدل بوجوب الضمان فيما أتلفوه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للاجماع وان حكم بوجوب ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب نفذ حكمه وإن كتب قاضيهم الى قاضي اهل العدل جاز قبول كتابه لانه قاض ثابت القضايا نافذ الأحكام والاولى أن لا يقبله كسرا لقلوبهم وقال أصحاب الرأي : لا يقبله لأن قضاءه لا يجوز وقد سبق الكلام في هذا فأما الخوارج إذا ولوا قاضيا لم يجز قضاؤه لأن أقل أحوالهم الفسق والفسق ينافي القضاء ويحتمل ان يصح قضاؤه وتنفذ أحكامه لأن هذا مما يتطاول وفي القضاء بفساد قضاياه وعقوده الانكحة وغيرها ضرر كثير فجاز دفعا للضرر كما لو أقام الحدود وأخذ الجزية والخراج والزكاة (10/68)
فصل : حكم ما لو ارتكب أهل البغي ما يوجب الحد ثم قدر عليهم
فصل : وإن ارتكب أهل البغي في حال امتناعهم ما يوجب الحد ثم قدر عليهم أقيمت فيهم حدود الله تعالى ولا تسقط باختلاف الدار وبهذا قال مالك و الشافعي و ابن منذر وقال أبو حنيفة : إذا امتنعوا بدار لم يجب الحد على أحد منهم ولا على من عندهم من تاجر أو أسير لأنهم خارجون عن دار الإمام فأشبهوا من في دار الحرب
ولنا عموم الآيات والأخبار ولأن كل موضع تجب فيه العبادات في أوقاتها تجب الحدود فيه عند وجود أسبابها كدار أهل العدل ولانه زان او سارق لا شبهة في زناه وسرقته فوجب عليه الحد كالذي في دار العدل وهكذا نقول فيمن أتى حدا في دار الحرب فانه يجب عليه لكن لا يقام إلا في دار الاسلام على ما ذكرناه في موضعه (10/69)
فصل : حكم استعانة أهل البغي بالكفار
فصل : وإذا استعان اهل البغي بالكفار فلا يخلو من ثلاثة أصناف : أحدهم أهل الحرب فاذا استعانوا بهم أو آمنوهم أو عقدوا لهم ذمة لم يصح واحد منها لأن الامان من شرط صحته إلزام كفهم عن المسلمين وهؤلاء يشترطون عليهم قتال المسلمين فلا يصح ولأهل العدل قتالهم كمن لم يؤمنوه سواء وحكم أسيرهم حكم أسير سائر اهل الحرب قبل الاستعانة بهم فأما اهل البغي فلا يجوز لهم قتلهم لانهم آمنوهم فلا يجوز لهم الغدر بهم
الصنف الثاني : المستأمنون فمتى استعانوا بهم فأعانوهم نقضوا عهدهم وصاروا كأهل الحرب لأنهم تركوا الشرط وهو كفهم عن المسلمين فان فعلوا ذلك مكرهين لم ينتفض عهدهم لأن لهم عذرا وإن ادعوا الاكراه لم يقبل قولهم إلا ببينة لأن الاصل عدمه
الصنف الثالث : أهل الذمة فاذا أعانوهم وقاتلوا معهم ففيهم وجهان ذكرهما أبو بكر : أحدهما ينتقض عهدهم لانهم قاتلوا اهل الحق فينتقض عهدهم كما لو انفردوا بقتالهم والثاني لا ينتقض لأن أهل الذمة لا يعرفون المحق من المبطل فيكون ذلك شبهة لهم و للشافعي قولان كالوجهين فان قلنا ينتقض عهدهم صاروا كأهل الحرب فيما ذكرنا وان قلنا لا ينتقض عهدهم فحكمهم حكم أهل البغي في قتل مقبلهم والكف عن أسيرهم ومدبرهم وجريحهم إلا أنهم يضمنون ما أتلفوا على أهل العدل حال القتال وغيره بخلاف أهل البغي فانهم لا يضمنون ما أتلفوا حال الحرب لانهم أتلفوه بتأويل سائغ وهؤلاء لا تأويل لهم ولأنه سقط الضمان عن المسلمين كيلا يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة وأهل الذمة لا حاجة بنا إلى ذلك فيهم وان أكرهم البغاة على معونتهم لم ينتقض عهدهم وان ادعوا ذلك قبل قولهم لأنهم تحت أيديهم وقدرتهم وإن قالوا ظننا أن من استعان بنا من المسلمين لزمتنا معونته لم ينتقض عهدهم وإن فعل ذلك المستأمنون انتقض عهدهم والفرق بينهما أن أهل الذمة أقوى حكما لأن عهدهم مؤبد ولا يجوز نقضه لخوف الخيانة منهم ويلزم الامام الدفع عنهمم والمستأمنون بخلاف ذلك (10/69)
فصل : حكم ما لو أتلف المرتدون مالا للمسلمين
فصل : وإذا ارتد قوم فأتلفوا مالا للمسلمين لزمهم ضمان ما أتلفوه سواء تحيزوا أو صاروا في منعة أو لم يصيروا ذكره أبو بكر قال القاضي وهو ظاهر كلام احمد وقال الشافعي : حكمهم حكم أهل البغي فيما أتلفوه من الأنفس والاموال لأن تضمينهم يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع الى الاسلام فأشبهوا أهل البغي ولنا ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لاهل الردة حين رجعوا تردون علينا ما أخذتم منا ولا نرد عليكم ما أخذنا منكم وان تدوا قتلانا ولا ندي قتلاكم قالوا نعم يا خليفة رسول الله فقال عمر : كل ما قلت كما قلت الا أن يدوا ما قتل منا فلا لأنهم قوم قتلوا في سبيل الله واستشهدوا ولأنهم أتلفوه بغير تأويل فاشبهوا أهل الذمة فأما القتلى فحكمهم فيهم حكم أهل البغي لما ذكرنا من خبر أبي بكر وعمر ولان طليحة الأسدي قتل عكاشة بن محصن الأسدي وثابت بن أثرم فلم يغرمهما وبنو حنيفة قتلوا من قتلوا من المسلمين يوم اليمامة فلم يغرموا شيئا ويحتمل ان يحمل قول أحمد وكلامه في المال على وجوب رد ما في ايديهم دون ما أتلفوه وعلى من أتلف من غير أن يكون له منعة أو أتلف في غير الحرب وما أتلفوه حال الحرب فلا ضمان عليهم فيه لأنه إذا سقط ذلك عن أهل البغي كيلا يؤدي إلى تنفيرهم عن الرجوع الى الطاعة فلأن يسقط ذلك كيلا يؤدي الى التنفير عن الاسلام أولى ولأنهم إذا امتنعوا صاروا كفارا ممتنعين بدارهم فاشبهوا أهل الحرب ويحمل قول أبي بكر على ما بقي في ايديهم من المال فيكون مذهب أحمد ومذهب الشافعي في هذا سواء وهذا اعدل وأصح ان شاء الله تعالى فأما من لا منعة له فيضمن ما أتلف من نفس ومال كالواحد من المسلمين أوأهل الذمة لانه لا منعة له ولا يكثر ذلك منه فبقي المال والنفس بالنسبة إليه على عصمته ووجوب ضمانه والله اعلم (10/70)
كتاب المرتد
المرتد هو الراجع عن دين الاسلام إلى الكفر قال الله تعالى : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] وأجمع أهل العلم على وجوب قتل المرتد وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وأبي موسى وابن عباس وخالد وغيرهم ولم ينكر ذلك فكان إجماعا (10/72)
مسألة وفصول : حكم ما لو ارتد عن الإسلام من الرجال أو النساء وكان بالغا عاقلا وحكم استتابته وقتله إن لم يتب وحكم الزنديق ومن تكررت ردته وأن قتل المرتد إلى الإمام حرا كان أو عبدا
مسألة : قال : ومن ارتد عن الاسلام من الرجال و النساء وكان بالغا عاقلا دعي إليه ثلاثة أيام وضيق عليه فان رجع وإلا قتل
الفصل الأول أنه لا فرق بين الرجال والنساء في وجوب القتل روي ذلك عن أبي بكر وعلي بن رضي الله عنهما وبه قال الحسن و الزهري و النخعي و مكحول و حماد و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق
وروي عن علي و الحسن و قتادة أنها تسترق لا تقتل ولأن أبابكر استرق نساء بني حنيفة وذراريهم وأعطى عليا منهم امرأة فولدت له محمد بن الحنفية وكان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا وقال أبوحنيفة : تجبر على الإسلام بالحبس والضرب ولا تقتل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تقتلوا امرأة ] ولأنها لا تقتل بالكفر الأصلي فلا تقتل بالطارىء كالصبي
ولنا قوله عليه السلام : [ من بدل دينه فاقتلوه ] رواه البخاري و أبو داود وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ] متفق عليه وروى الدارقطني [ ان امرأة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت ] ولأنها شخص مكلف بدل دين الحق بالباطل فيقتل كالرجل وأما نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل المرأة فالمراد به الأصلية فانه قال ذلك حين رأى امرأة مقتولة وكانت كافرة أصلية ولذلك نهى الذين بعثهم الى ابن أبي حقيق عن قتل النساء ولم يكن فيهم مرتد ويخالف الكفر الأصلي الطارىء بدليل ان الرجل يقر عليه ولا يقتل أهل الصوامع والشيوخ والمكافيف ولا تجبر المرأة على تركه بضرب ولا حبس والكفر الطارىء بخلافه والصبي غير مكلف بخلاف المرأة وأما بنو حنيفة فلم يثبت أن من استرق منهم تقدم له إسلام ولم يكن بنو حنيفة أسلموا كلهم وانما أسلم بعضهم والظاهران أن الذين أسلموا كانوا رجالا فمنهم من ثبت على إسلامه منهم ثمامة بن أثال ومنهم من ارتد منهم الدجال الحنفي
الفصل الثاني : ان الردة لا تصح إلا من عاقل فاما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون ومن زال عقله باغماء او نوم أو مرض أو شرب دواء يباح شربه فلا تصح ردته ولا حكم لكلامه بغير خلاف قال ابن المنذر : اجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المجنون اذا ارتد في حال جنونه أنه مسلم على ما كان عليه قبل ذلك ولو قتله قاتل عمدا كان عليه القود إذا طلب أولياؤه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاث : عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ] أخرجه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن ولأنه غير مكلف فلم يؤاخذ بكلامه كما لو لم يؤاخذ به في اقراره ولا طلاقه ولا اعتاقه وأما السكران والصبي العاقل فنذكر حكمهما فيما بعد ان شاء الله
الفصل الثالث : أنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا هذا قول أكثر أهل العلم منهم عمر وعلي وعطاء و النخعي و مالك و الثوري و الاوزاعي و اسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وروي عن أحمد رواية اخرى أنه لا تجب استتابته لكن تستحب وهذا القول الثاني للشافعي وهو قول عبيد بن عمير وطاوس ويروى ذلك عن الحسن لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] ولم يذكر استتابته
وروي أن معاذا قدم على ابي موسى فوجد عنده رجلا موثقا فقال ما هذا ؟ قال : رجل كان يهوديا فأسلم ثم راجع دينه دين السوء فتهود قال : لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله قال : اجلس قال : لا اجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله ثلاث مرات فأمر به فقتل متفق عليه ولم يذكر استتابته ولانه يقتل لكفره فلم تجب استتابته كالأصلي ولانه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمن ولو حرم قتله قبله ضمن وقال عطاء : إن كان مسلما أصليا لم يستتب وإن كان أسلم ثم ارتد استتيب
ولنا حديث ام مروان أن النبي صلى الله عليه و سلم امر ان يستتاب وروى مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد القارىء عن أبيه انه قدم على عمر رجل من قبل أبي موسى فقال له عمر : هل كان من معربة خبر ؟ قال : نعم رجل كفر بعد اسلامه فقال : ما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه فقال عمر : فهلا حبستموه ثلاثا فاطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب أو يراجع أمر الله ؟ اللهم إني لم أحضر ولم آمر ولم ارض إذا بلغني ولو لم تجب استتابته لما برىء من فعلهم ولانه أمكن استصلاحه فلم يجز اتلافه قبل استصلاحه كالثوب النجس واما الامر بقتله فالمراد به بعد الاستتابة بدليل ما ذكرناه وأما حديث معاذ فانه قد جاء فيه وكان قد استتيب
ويروى أن أبا موسى استتابه شهرين قبل قدوم معاذ عليه وفي رواية فدعاه عشرين ليلة أو قريبا من ذلك فجاء معاذ فدعاه وأبى فضرب عنقه رواهن أبوداود ولا يلزم من تحريم القتل وجوب الضمان بدليل نساء أهل الحرب وصبيانهم وشيوخهم إذا ثبت وجوب الاستتابة فمدتها ثلاثة أيام روي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال مالك و اسحاق وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر ان تاب في الحال وإلا قتل مكانه وهذا أصح قوليه وهو قول ابن المنذر لحديث أم مروان ومعاذ ولأنه مصر على كفره أشبه بعد الثلاث وقال الزهري : يدعى ثلث مرات فان أبى ضربت عنقه وهذا يشبه قول الشافعي وقال النخعي : يستتاب أبدا وهذا يفضي إلى أن لا يقتل أبدا وهو مخالف للسنة والاجماع وعن علي أنه استتاب رجلا شهرا
ولنا حديث عمر ولأن الردة انما تكون لشبهة ولا تزول في الحال فوجب أن ينتظر مدة يرتئي فيها وأولى ذلك ثلاثة أيام للأثر فيها وانها مدة قريبة وينبغي أن يضيق عليه في مدة الاستتابة ويحبس لقول عمر : هلا حسبتموه وأطعمتموه كل يوم رغيفا ؟ ويكرر دعايته لعله يتعطف قلبه فيراجع دينه
الفصل الرابع : أنه إن لم يتب قتل لما قدمناه ذكره وهو قول عامة الفقهاء ويقتل بالسيف لأنه آلة القتل ولا يحرق بالنار وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق المرتدين وفعل ذلك بهم خالد والأول أولى لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوا بعذاب الله ] يعني النار أخرجه البخاري و ابو داود وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ان الله كتب الاحسان على كل شيء فاذا قتلتم فأحسنوا القتلة ]
الفصل الخامس : ان مفهوم كلام الخرقي أنه إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل أي كفر كامل وسواء كان زنديقا يستسر بالكفر أو لم يكن وهذا مذهب الشافعي و العنبري ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال وقال انه أولى على مذهب عبد الله
والرواية الاخرى : لا تقبل توبة الزنديق ومن تكررت ردته وهو قول مالك و الليث و اسحاق وعن أبي حنيفة روايتبن كهاتين واخبار أبي بكر أنه لا تقبل توبة الزنديق لقول الله تعالى : { إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا } والزنديق لا تظهر منه علامة تبين رجوعه وتوبته لأنه كان مظهرا للاسلام مسرا للكفر فاذا وقف على ذلك فاظهر التوبة لم يزد على ما كان منه قبلها وهو إظهار الاسلام وأما من تكررت ردته فقد قال الله تعالى : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا } وروى الأثرم باسناده عن ظبيان بن عمارة أن رجلا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة فاذا هم يقرأون برجز مسيلمة فرجع الى ابن مسعود فذكر ذلك له فبعث اليهم فأتي بهم فاستتابهم فتابوا فخلى سبيلهم إلا رجل منهم يقال له ابن النواحة قال : قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت وأراك قد عدت فقتله ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف }
وروي [ أن رجلا سار رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ساره به حتى جهر رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذا هو يستأذنه في قتل رجل من المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أليس يشهد أن إله إلا الله ؟ قال : بلى ولا شهادة له قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى ولا صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم وقد قال الله تعالى { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا } ]
وروي أن محش بن حمير كان في النفر الذين أنزل الله فيهم { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } فأتى النبي صلى الله عليه و سلم وتاب إلى الله تعالى فقبل الله توبته وهو الطائفة التي عنى الله تعالى بقوله : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } فهو الذي عفا الله عنه وسأل الله تعالى أن يقتل في سبيله ولا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ولم يعلم موضعه ولأن النبي صلى الله عليه و سلم كف عن المنافقين بما أظهروا من الشهادة مع إخبار الله تعالى له بباطنهم بقوله تعالى : { ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } وغيرها من الآيات وحديث ابن مسعود حجة في قبول توبتهم مع استسرارهم بكفرهم وأما قتله ابن النواحة فيحتمل أنه قتله لظهور كذبه في توبته لأنه أظهرها وتبين أنه ما زال عما كان عليه من كفره ويحتمل أنه قتله لقول النبي صلى الله عليه و سلم له حين جاء رسولا لمسيلمة : [ لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك ] فقتله تحقيقا لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد روي أنه قتله لذلك
وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه لمن تابت واقلع ظاهرا أم باطيا فلا خلاف فيه فان الله تعالى قال في المنافقين : { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما }
فصل : وقتل المرتد إلى الامام حرا كان أو عبدا وهذا قول عامة أهل العلم إلا الشافعي في أحد الوجهين في العبد فان لسيده قتله لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] ولأن حفصة قتلت جارية سحرتها ولأنه حق الله تعالى فملك السيد اقامته على عبده كجلد الزاني ولنا انه قتل لحق الله تعالى فكان الى الامام كرجم الزاني وكقتل الحر وأما قوله [ وأقيموا الحدود ] فلا يتناول القتل للردة فانه قتل لكفره لاحدا في حقه وأما خبر حفصة فان عثمان تغيظ عليها وشق ذلك عليه وأما الجلد في الزنا فانه تأديب وللسيد تأديب عبده بخلاف القتل فإن قتله غير الامام أساء ولا ضمان عليه لأنه محل غير معصوم وسواء قتله قبل الاستتابة أو بعدها لذلك وعلى من فعل ذلك التعزيز لإساءته وافتياته (10/72)
مسألة : حكم مال المرتد إذا قتل أو مات على ردته
مسألة : قال : وكان ماله فيئا بعد قضاء دينه
وجملته ان المرتد إذا قتل أو مات على ردته فانه يبدأ بقضاء دينه وارش جنايته ونفقة زوجته وقريبه لأن هذه الحقوق لا يجوز تعطيلها وأولى ما يوجد من ماله وما بقي من ماله فهو فيء يجعل في بيت المال وعن أحمد رواية أخرى تدل على أنه لورثته من المسلمين وعنه أنه لقرابته من أهل الدين الذي انتقل اليه وقد مضت هذه المسألة مستوفاة في الفرائض بما أغنى عن ذكرها ههنا (10/79)
فصل : لا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته في قول أكثر أهل العلم
فصل : ولا يحكم بزوال ملك المرتد بمجرد ردته في قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم فعلى هذا ان قتل أو مات زال ملكه بموته وإن راجع الإسلام فملكه باق له وقال أبو بكر : يزول ملكه بردته وان راجع الاسلام عاد إليه تمليكا مستأنفا لأن عصمة نفسه وماله إنما تثبت لاسلامه فزوال إسلامه يزيل عصمتهما كما لو لحق بدار الحرب ولأن المسلمين ملكوا إراقة دمه بردته فوجب أن يملكوا ماله بها وقال أصحاب أبي حنيفة : ماله موقوف إن أسلم تبينا بقاء ملكه وإن مات أو قتل على ردته تبينا زواله من حين ردته قال الشريف أبو جعفر : هذا ظاهر كلام أحمد وعن الشافعي ثلاثة أقوال كهذه الثلاثة
ولنا أنه سبب يبيح دمه فلم يزل ملكه كزنا المحصن والقتل لمن يكافئه عمدا وزوال العصمة لا يلزم منه زوال الملك بدليل الزاني المحصن والقاتل في المحاربة وأهل الحرب فان ملكهم ثابت مع عصمتهم ولو لحق المرتد بدار الحرب لم يزل ملكه لكن يباح قتله لكل أحد من غير استتابة وأخذ ماله لمن قدر عليه لأنه صار حربيا حكمه حكم أهل الحرب وكذلك لو ارتد جماعة وامتنعوا في دارهم عن طاعة إمام المسلمين زالت عصمتهمم في أنفسهم وأموالهم لأن الكفار الاصليين لا عصمة لهم في دارهم فالمرتد أولى (10/79)
فصل : يؤخذ مال المرتد فيجعل عند ثقة من المسلمين
فصل : ويؤخذ مال المرتد فيجعل عند ثقة من المسلمين وإن كان له اماء جعلن عند امرأة ثقة لأنهن محرمات عليه فلا يمكن منهن وذكر القاضي انه يؤجر عقاره وعبيده واماؤه والاولى ان لا يفعل لأن مدة انتظاره قريبة ليس في انتظاره فيها ضرر فلا يفوت عليه منافع ملكه فيما لا يرضاه من أجلها فانه ربما راجع الاسلام فيمتنع عليه التصرف في ماله باجارة الحاكم له وإن لحق بدار الحرب او تعذر قتله مدة طويلة فعل الحاكم ما يرى الحظ فيه من بيع الحيوان الذي يحتاج الى النفقة وغيره واجارة ما يرى ابقاءه والمكاتب يؤدي الى الحاكم فاذا أدى عتق لأنه نائب عنه (10/80)
فصل : تصرفات المرتد في ردته بالبيع والهبة والعتق وغيرها موقوف
فصل : وتصرفات المرتد في ردته بالبيع والهبة والعتق والتدبير والوصية ونحو ذلك موقوف إن أسلم تبينا أن تصرفه كان صحيحا وإن قتل أو مات على ردته كان باطلا وهذا قول أبي حنيفة وعلى قول أبي بكر تصرفه باطل لأن ملكه قد زال بردته وهذا أحد أقوال الشافعي وقال في ( الآخر : إن تصرف قبل الحجر عليه انبنى على الأقوال الثلاثة وإن تصرف بعد الحجر عليه لم يصح تصرفه كالسفيه
ولنا ان ملكه تعلق به حق غيره مع بقاء ملكه فيه فكان تصرفه موقوفا كتبرع المريض (10/80)
فصل : إذا تزوج المرتد لم يصح تزوجه
فصل : وان تزوج لم يصح تزوجه لانه لا يقلا على النكاح وما منع الاقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة وان زوج لم يصح تزويجه لأن ولايته على موليته قد زالت بردته وان زوج أمته لم يصح لأن النكاح لا يكون موقوفا ولأن النكاح ولو كان في الأمة فلا بد من عقده من ولاية صحيحة بدليل ان المرأة لا يجوز ان تزوج أمتها وكذلك الفاسق والمرتد لا ولاية له فانه أدنى حالا من الفاسق الكافر (10/81)
فصل : إذا وجد من المرتد سبب يقتضي الملك ثبت الملك له
فصل : وإن وجد من المرتد سبب يقتضي الملك كالصيد والاحتشاش والاتهاب والشراء وإيجار نفسه إجارة خاصة أو مشتركة ثبت الملك له لأنه أهل للملك وكذلك تثبت أملاكه ومن قال أن ملكه يزول لم يثبت له ملكا لأنه ليس بأهل للملك ولهذا زالت أملاكه الثابتة له فان راجع الاسلام احتمل أن لا يثبت له شيء أيضا لأن السبب لم يثبت حكمه واحتمل أن يثبت الملك له حينئذ لأن السبب موجود وإنما امتنع ثبوت حكمه لعدم أهليته فإذا وجدت تحقق الشرط فيثبت الملك حينئذ كما تعود اليه أملاكه التي زالت عنه عند عدم أهليته فعلى هذا إن مات أو قتل ثبت الملك لمن ينتقل اليه ملكه لأن هذا في معناه (10/81)
فصل : إذا لحق المرتد بدار الحرب فحكمه كما لو بقي في دار الإسلام إلا أن ماله يصبح مباحا
فصل : وإن لحق المرتد بدار الحرب فالحكم فيه كالحكم فيمن هو في دار الاسلام إلا أن ما كان معه من ماله يصير مباحا لمن قدر عليه كما أبيح دمه وأما أملاكه وماله الذي في دار الاسلام فملكه ثابت فيه ويتصرف فيه الحاكم بما يرى المصلحة فيه وقال أبو حنيفة : يورث ماله كما لو مات لأنه قد صار في حكم الموتى بدليل حل دمه وماله الذي معه لكل من قدر عليه
ولنا أنه حي فلم يورث كالحربي الاصلي وحل دمه لا يوجب توريث ماله بدليل الحربي الأصلي وإنما حل ماله الذي معه لأنه زال العاصم له فاشبه مال الحربي الذي في دار الحرب وأما الذي في دار الاسلام فهو باق على العصمة كمال الحربي الذي مع مضاربه في دار الاسلام أو عند مودعه (10/82)
مسألة : أحكام تارك الصلاة وكفر من تركها جاحدا
مسألة : قال : ومن ترك الصلاة دعي اليها ثلاثة ايام فان صلى وإلا قتل جاحدا تركها أو غير جاحد
قد سبق شرح هذه المسألة في باب مفرد لها ولا خلاف بين أهل العلم في كفر من تركها جاحدا لوجوبها إذا كان ممن لا يجهل مثله ذلك فان كان ممن لا يعرف الوجوب كحديث الاسلام والناشىء بغير دار الاسلام أو بادية بعيدة عن الامصار وأهل العلم لم يحكم بكفره وعرف ذلك وتثبت له أدلة وجوبها فان جحدها بعد ذلك كفر وأما إذا كان الجاحد لها ناشئا في الامصار بين أهل العلم فانه يكفر بمجرد جحدها وكذلك الحكم في مباني الاسلام كلها وهي الزكاة والصيام والحج لأنه مباني الاسلام وأدلة وجوبها لا تكاد تخفى إذ كان الكتاب والسنة مشحونين بأدلتهاوالاجماع منعقد عليها فلا يجحدها إلا معاند للاسلام يمتنع من التزام الأحكام غير قابل لكتاب الله تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع أمته (10/82)
فصل : حكم من اعتقد حل شيء مجمع على تحريمه
فصل : ومن اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه وظهر حكمه بين المسلمين وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر لما ذكرنا في تارك الصلاة وإن استحل قتل المعصومين وأخذ أموالهم بغير شبهة ولا تأويل فكذلك وإن كان بتأويل كالخوارج فقد ذكرنا أن أكثر الفقهاء لم يحكموا بكفرهم مع استحلالهم دماء المسلمين وأموالهم وفعلهم لذلك متقربين به إلى الله تعالى
وكذلك لم يحكم بكفر ابن ملجم مع قتله أفضل الخلق في زمنه متقربا بذلك ولا يكفر المادح له على هذا المتمني مثل فعله فان عمران بن حطان قال فيه يمدحه لقتل علي :
( يا ضربة من تقي ما أراد بها ... الا ليبلغ عند الله رضوانا )
( إني لاذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا )
وقد عرف من مذهب الخوارج كثير من الصحابة ومن بعدهم واستحلال دمائهم وأموالهم واعتقادهم التقرب بقتلهم إلى ربهم ومع هذا لم يحكم الفقهاء بكفرهم لتأويلهم وكذلك يخرج في كل محرم استحل بتأويل مثل هذا وقد روي أن قدامة بن مظعون شرب الخمر مستحلا لها فأقام عليه الحد ولم يكفره وكذلك ابو جندل بن سهيل وجماعة معه شربوا الخمر بالشام مستحلين لها مستدلين بقول اللله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية فلم يكفروا وعرفوا تحريمها فتابوا وأقيم عليهم الحد فيخرج فيمن كان مثلهم مثل حكمهم وكذلك كل جاهل بشيء يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يعرف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك
وقد قال أحمد : من قال الخمر حلال فهو كافر يستتاب فان تاب والا ضربت عنقه وهذا محمول على من لا يخفى على مثله تحريمه لما ذكرنا فأما إن أكل لحم خنزير أو ميتة أو شرب خمرا لم يحكم بردته بمجرد ذلك سواء فعله في دار الحرب أو دار الاسلام لأنه يجوز أن يكون فعله معتقدا تحريمه كما يفعل غير ذلك من المحرمات (10/83)
مسألة : ذبيحة المرتد حرام وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب
مسألة : قال : وذبيحة المرتد حرام وان كانت ردته الى دين أهل الكتاب
هذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال إسحاق : ان تدين بدين اهل الكتاب حلت ذبيحته ويحكى ذلك عن الاوزاعي لأن عليا رضي الله عنه قال : من تولى قوما فهو منهم
ولنا أنه كافر لا يقر على دينه فلم تحل ذبيحته كالوثني ولأنه لا تثبت له أحكام أهل الكتاب إذا تدين بدينهم فانه لا يقر بالجزية ولا يسترق ولا يحل نكاح المرتدة وأما قول علي : فهو منهم فلم يرد به أنه منهم في جميع الاحكام بدليل ما ذكرنا ولأنه لم يكن يرى حل ذبائح نصارى بني تغلب ولا نكاح نسائهم مع توليتهم للنصارى ودخولهم في دينهم ومع إقرارهم بما صولحوا عليه فلأن لا يعتقد ذلك في المرتدين أولى إذا ثبت هذا فانه إذا ذبح حيوانا لغيره بغير اذنه ضمنه بقيمته حيا لأنه اتلفه عليه وحرمه وان ذبحه باذنه لم يضمنه لأنه أذن في إتلافه (10/84)
مسألة : صحة إسلام الصبي إذا كان له عشر سنين
مسألة : قال : والصبي إذا كان له عشر سنين وعقل الاسلام فأسلم فهو مسلم
وجملته أن الصبي يصح إسلامه في الجملة وبهذا قال أبو حنيفة وصاحباه و إسحاق وابن أبي شيبة وأبو أيوب وقال الشافعي و زفر : لا يصح اسلامه حتى يبلغ لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ ] حديث حسن ولأنه قول تثبت به الأحكام فلم يصح من الصبي كالهبة ولأنه أحد من رفع القلم عنه فلم يصح اسلامه كالمجنون والنائم ولأنه ليس بمكلف أشبه الطفل
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ] وقوله : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم الا بحقها وحسابهم على الله ] وقال عليه السلام : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا ] وهذه الأخبار يدخل في عمومها الصبي ولأن الاسلام عبادة محضة فصحت من الصبي العاقل كالصلاة والحج ولأن الله تعالى دعا عباده الى دار السلام وجعل طريقها الاسلام وجعل من لم يجب دعوته في الجحيم والعذاب الاليم فلا يجوز منع الصبي من إجابة دعوة الله مع إجابته اليها وسلوكه طريقها ولا إلزامه بعذاب الله والحكم عليه بالنار وسد طريق النجاة عليه مع هربه منها ولأن ما ذكرناه اجماع فإن عليا رضي الله عنه أسلم صبيا وقال :
( سبقتكم إلى الاسلام طرأ ... صبيا ما بلغت أوان حلم )
ولهذا قيل أول من أسلم من الرجال أبو بكر ومن الصبيان علي ومن النساء خديجة ومن العبيد بلال وقال عروة : أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين وبايع النبي صلى االله عليه وسلم ابن الزبير لسبع أو ثمان سنين ولم يرد النبي صلى الله عليه و سلم على أحد اسلامه من صغير ولا كبير فأما قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاث ] فلا حجة لهم فيه فإن هذا يقتضي أن لا يكتب عليه ذلك والإسلام يكتب له لا عليه ويسعد به في الدنيا والآخرة فهو كالصلاة تصح منه وتكتب له وان لم تجب عليه وكذلك غيرها من العبادات المحضة فإن قيل فإن الاسلام يوجب الزكاة عليه في ماله ونفقة قريبه المسلم ويحرمه ميراث قريبه الكافر ويفسخ نكاحه قلنا أما الزكاة فإنها نفع لأنها سبب الزيادة والنماء وتحصين المال والثواب وأما الميراث والنفقة فأمر متوهم وهو مجبور بميراثه من أقاربه المسلمين وسقوط نفقة أقاربه الكفار ثم ان هذا الضرر مغمور في جنب ما يحصل له من سعادة الدنيا والآخرة وخلاصه من شقاء الدارين والخلود في الجحيم فينزل منزلة الضرر في أكل القوت المتضمن فوت ما يأكله وكلفة تحريك فيه لما كان بقاؤه به لم يعد ضررا والضرر في مسألتنا في جنب ما يحصل من النفع أدنى من ذلك بكثير
إذا ثبت هذا فان الخرقي اشترط لصحة إسلامه شرطين : أحدهما أن يكون له عشر سنين لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بضربه على الصلاة لعشر
والثاني : أن يعقل الاسلام ومعناه أن يعلم أن الله تعالى ربه لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وهذا لا خلاف في اشتراطه فان الطفل الذي لا يعقل لا يتحقق منه اعتقاد الاسلام وانما كلامه لقلقة بلسانه لا يدل على شيء وأما اشتراط العشر فان أكثر المصححين لإسلامه لم يشترطوا ذلك ولم يحدوا له حدا من السنين وحكاه ابن المنذر عن أحمد لأن المقصود متى ما حصل لا حاجة الى زيادة عليه وروي عن أحمد إذا كان ابن سبع سبين فإسلامه إسلام لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ مروهم بالصلاة لسبع ] فدل على أن ذلك حد لأمرهم وصحة عباداتهم فيكون حدا لصحة اسلامهم
وقال ابن أبي شبيبة : إذا أسلم وهو ابن خمس سنين جعل إسلامه إسلاما ولعله يقول أن عليا عليه السلام أسلم وهو ابن خمس سنين لأنه قد قيل أنه مات وهو ابن ثمان وخمسين فعلى هذا يكون إسلامه وهو ابن خمس لأن مدة النبي صلى اله عليه وسلم منذ بعث الى أن مات ثلاث وعشرون سنة وعاش علي بعد ذلك ثلاثين سنة فذلك ثلاث وخمسون فاذا ضممت اليها خمسا كانت ثمانيا وخمسين
وقال أبو أيوب : أجيز إسلام ابن ثلاث سنين من أصاب الحق من صغير أو كبير أجزناه وهذا لا يكاد يعقل الاسلام ولا يدري ما يقول ؟ ولا يثبت لقوله حكم فان وجد ذلك منه ودلت أحواله وأقواله على معرفة الاسلام وعقله إياه صح منه كغيره والله أعلم (10/85)
مسألة : إن رجع الصبي وقال : لم أدر ماقلت لم يلتفت إلى قوله وأجبر على الإسلام
مسألة : قال : فان رجع وقال لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى قوله وأجبر على الاسلام
وجملته ان الصبي إذا أسلم وحكمنا بصحة إسلامه لمعرفتنا بعقله بأدلته فرجع وقال لم أدر ما قلت لم يقبل قوله ولم يبطل إسلامه الأول وروي عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الإسلام قال أبو بكر : هذا قول محتمل لأن الصبي في مظنة النقص فيجوز أن يكون صادقا قال : والعمل على الأول لأنه قد ثبت عقله للإسلام ومعرفته به بأفعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه بكلامهم وهذا يحصل به معرفة عقله ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بأفعاله أفعال العقلاء وتصرفاته تصرفاتهم وتكلمه بكلامهم وهذا يحصل به معرفة عقله ولهذا اعتبرنا رشده بعد بلوغه بأفعاله وتصرفاته وعرفنا جنون المجنون وعقل العاقل بما يصدر عنه من أفعاله وأقواله وأحواله فلا يزول ما عرفناه بمجرد دعواه وهكذا كل من تلفظ بالاسلام أو أخبر عن نفسه به ثم انكر معرفته بما قال لم يقبل إنكاره وكان مرتدا نص عليه أحمد في مواضع إذا ثبت هذا فانه إذا ارتد صحت ردته وبهذا قال أبو حنيفة وهو الظاهر من مذهب مالك وعند الشافعي لا يصح إسلامه ولا ردته وقد روي عن أحمد أنه يصح إسلامه ولا تصح ردته لقوله عليه السلام : [ رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ ] وهذا يقتضي أن لا يكتب عليه ذنب ولا شيء ولو صحت ردته لكتبت عليه
وأما الاسلام فلا يكتب عليه إنما يكتب له ولأن الردة أمر يوجب القتل فلم يثبت حكمه في حق الصبي كالزنا ولأن الاسلام إنما صح منه لأنه تمحض مصلحة فأشبه الوصية والتدبير والردة تمحضت مضرة ومفسدة فلم تلزم صحتها منه فعلى هذا حكمه حكم من لم يرتد فاذا بلغ فان أصر على الكفر كان مرتدا حينئذ (10/88)
مسألة : لا يقتل الصبي حتى يبلغ فإن ثبت على كفره قتل
مسألة : قال : ولا يقتل حتى يبلغ ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام فان ثبت على كفره قتل
وجملته أن الصبي لا يقتل سواء قلنا بصحة ردته أو لم نقل لأن الغلام لا يجب عليه عقوبة بدليل أنه لا يتعلق به حكم الزنا والسرقة في سائر الحدود ولا يقتل قصاصا فإذا بلغ فثبت على ردته ثبت حكم الردة حينئذ فيستتاب ثلاثا فان تاب وإلا قتل سواء قلنا إنه كان مرتدا قبل بلوغه أو لم نقل وسواء كان مسلما أصليا فارتد أو كان كافرا فأسلم صبيا ثم إرتد (10/62)
مسألة : إذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب لم يجر عليهما ولا على أولادهما من كانوا قبل الردة رق
مسألة : قال : وإذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب لم يجر عليهما ولا على أحد من أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق
وجملته أن الرق لا يجري على المرتد سواء كان رجلا أو امرأة وسواء لحق بدار الحرب أو أقام بدار الاسلام وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا لحقت المرتدة بدار الحرب جاز استرقاقها لأن أبا بكر سبى بني حنيفة واسترق نساءهم وأم محمد بن الحنفية من سبيهم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] ولأنه لا يجوز إقراره على كفره فلم يجز استرقاقه كالرجل ولم يثبت أن الذين سباهم أبو بكر كانوا أسلموا ولا ثبت لهم حكم الردة فان قيل فقد روي عن علي أن المرتدة تسبى قلنا هذا الحديث ضعيف ضعفه أحمد فأما أولاد المرتدين فان كانوا ولدوا قبل الردة فانهم محكوم باسلامهم تبعا لآبائهم ولا يتبعونهم في الردة لأن الاسلام يعلو وقد تبعوهم فيه فلا يتبعونهم في الكفر فلا يجوز إسترقاقهم صغارا لأنهم مسلمون ولا كبارا لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم بعد كفرهم فهم مسلمون وإن كفروا فهم مرتدون حكمهم حكم آبائهم في الاستتابة وتحريم الاسترقاق وأما من حدث بعد الردة فهو محكوم بكفره لأنه ولد بين أبوين كافرين ويجوز استرقاقه لأنه ليس بمرتد نص عليه أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وأبي بكر ويحتمل أن لا يجوز استرقاقهم لأن آباءهم لا يجوز استرقاقهم ولأنهم لا يقرون بالجزية فلا يقرون بالاسترقاق وهذا مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : إن ولدوا في دار الاسلام لم يجز استرقاقهم وإن ولدوا في دار الحرب جاز استرقاقهم
ولنا أنهم لم يثبت لهم حكم الاسلام فجاز استرقاقهم كولد الحربيين بخلاف آبائهم فعلى هذا إذا وقع في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب وإن كان في دار الاسلام لم يقر بالجزية وكذلك لو بذل الجزية بعد لحوقه بدار الحرب لم يقر بها لأنه انتقل إلى الكفر بعد نزول القرآن فاما من كان حملا حين ردته فظاهر كلام الخرقي أنه كالحادث بعد كفره وعند الشافعي هو كالمولود لأنه موجود ولهذا يرث
ولنا أن أكثر الأحكام إنما تتعلق به بعد الوضع فكذلك هذا الحكم (10/89)
مسألة : إذا امتنع المرتدان أو أولادهما من الإسلام يجوز قتلهم بعد استتابتهم ثلاثة أيام
مسألة : قال : ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت من الاسلام بعد البلوغ استتيب ثلاثا فان لم يتب قتل
قوله : الذين وصفت يعني الذين ولدوا قبل الردة فانهم محكوم باسلامهم فلا يسترقون ومتى قدر على الزوجين أو على أولادهما استتيب منهم من كان بالغا عاقلا فإن لم يتب قتل ومن كان غير بالغ انتظرنا بلوغه ثم استتبناه فان لم يتب قتل وينبغي أن يحبس حتى لا يهرب (10/90)
فصل : متى ارتد أهل بلد صاروا دار حرب
فصل : ومتى ارتد أهل بلد وجرت فيه أحكامهم صاروا دار حرب في اغتنام أموالهم وسبي ذراريهم الحادثين بعد الردة وعلى الامام قتالهم فإن أبابكر الصديق رضي الله عنه قاتل أهل الردة بجماعة الصحابة ولأن الله تعالى قد أمر بقتال الكفار في مواضع من كتابه وهؤلاء أحقهم بالقتال لأن تركهم ربما أغرى أمثالهم بالتشبه بهم والارتداد معهم فيكثر الضرر بهم وإذا قاتلهم قتل من قدر عليه ويتبع مدبرهم ويجاز على جريحهم وتغنم أموالهم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تصير دار حرب حتى تجمع فيها ثلاثة أشياء : أن تكون متاخمة لدار الحرب لا شيء بينهما من دار الاسلام الثاني أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمن الثالث أن تجري فيها أحكامهم
ولنا أنها دار كفار فيها أحكامهم فكانت دار حرب كما لو اجتمع فيها هذه الخصال أو دار الكفرة الاصليين (10/90)
فصل : إن قتل المرتد من يكافئه عمدا فعليه القصاص
فصل : وان قتل المرتد من يكافئه عمدا فعليه القصاص نص عليه أحمد والولي مخير بين قتله والعفو عنه فان اختار القصاص قدم على قتل الردة سواء تقدمت الردة أو تأخرت لأنه حق آدمي وإن عفا على مال وجبت الدية في ماله وإن كان القتل خطأ وجبت الدية في ماله لأنه لا عاقلة له قال القاضي : وتؤخذ منه الدية في ثلاث سنين لأنها دية الخطأ فان قتل أو مات أخذت من ماله في الحال لأن الدين المؤجل يحل بالموت في حق من لا وارث له ويحتمل أن تجب الدية عليه حالة لأنها إنما أجلت في حق العاقلة تخفيفا عليهم لأنهم يحملون عن غيرهم على سبيل المواساة فأما الجاني فتجب عليه حالة لأنها بدل عن متلف فكانت حالة كسائر أبدال المتلفات (10/91)
مسألة : من أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له
مسألة : قال : ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له
وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : إذا أسلم أبواه أو أحدهما وأدرك فأبى الإسلام أجبر عليه ولم يقتل وقال مالك : إن أسلم الأب تبعه أولاده وإن أسلمت الأم لم يتبعوها لأن ولد الحربيين يتبع أباه دون أمه بدليل الموليين إذا كان لهما ولد كان ولاؤه لمولى أبيه دون مولى أمه ولو كان الأب عبدا او الأم مولاة فاعتق العبد لجر ولاء ولده الى مواليه ولأن الولد يشرف بشرف أبيه وينتسب إلى قبيلته دون قبيلة أمه فوجب أن يتبع أباه في دينه أي دين كان وقال الثوري : إذا بلغ خير بين دين أبيه ودين أمه فأيهما اختاره كان على دينه ولعله يحتج بحديث الغلام الذي أسلم أبوه وأبت أمه أن تسلم فخيره النبي صلى الله عليه و سلم بين أبيه وأمه
ولنا أن الولد يتبع أبويه في الدين فان اختلفا وجب أن يتبع المسلم منهما كولد المسلم من الكتابية ولأن الاسلام يعلو ولا يعلى ويترجح الاسلام بأشياء منها أنه دين الله الذي رضيه لعباده وبعث به رسله دعاة لخلقه إليه ومنها أنه تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة ويتخلص به في الدنيا من القتل والاسترقاق وأداء الجزية وفي الآخرة من سخط الله وعذابه ومنها أن الدار دار الاسلام يحكم باسلام لقيطها ومن لا يعرف حاله فيها وإذا كان محكوما باسلامه أجبر عليه إذا امتنع منه بالقتل كولد المسلمين ولأنه مسلم فاذا رجع عن اسلامه وجب قتله لقوله عليه السلام : [ من بدل دينه فاقتلوه ] وبالقياس على غيره
ولنا على مالك أن الأم أحد الأبوين فيتبعها ولدها في الاسلام كالأب بل الأم أولى به لأنها أخص به لأنه مخلوق منها حقيقة وتختص بحمله ورضاعه ويتبعها في الرق والحرية والتدبير والكتابة ولأن سائر الحيوانات يتبع الولد أمه دون أبيه وهذا يعارض ما ذكره وأما تخيير الغلام فهو في الحضانة لا في الدين (10/91)
مسألة : موت أحد الأبوين الكافرين والحكم بإسلام ولدهما
مسألة : قال : وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له الميراث وكان مسلما بموت من مات منهما
يعني إذا مات أحد أبوي الولد الكافرين صار الولد مسلما بموته وقسم له الميراث وأكثر الفقهاء على انه لا يحكم باسلامه بموتهما ولا موت أحدهما لأنه يثبت كفره تبعا ولم يوجد منه اسلام ولا ممن هو تابع له فوجب إبقاؤه على ما كان عليه ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر أحدا من أهل الذمة على الاسلام بموت أبيه مع انه لم يخل زمنهم عن موت بعض أهل الذمة عن يتيم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ] متفق عليه فجعل كفره بفعل أبويه فاذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب ابقاؤه على الفطرة التي ولد عليها ولأن المسألة مفروضة فيمن مات أبوه في دار الاسلام وقضية الدار الحكم باسلام أهلها ولذلك حكمنا باسلام لقيطها وانما ثبت الكفر للطفل الذي له ابوان فاذا عدما أو أحدهما وجب ابقاؤه على حكم الدار لانقطاع تبعيته لمن يكفر بها وانما قسم له الميراث لأن اسلامه انما ثبت بموت أبيه الذي استحق به الميراث فهو سبب لهما فلم يتقدم الاسلام المانع من الميراث على استحقاقه ولأن الحرية المعلقة بالموت لا توجب الميراث فيما اذا قال سيد العبد له إذا مات أبوك فأنت حر فمات أبوه فإنه يعتق ولا يرث فيجب أن يكون الاسلام المعلق بالموت لا يمنع الميراث وهذا فيما اذا كان في دار الاسلام لأنه متى انقطعت تبعيته لأبويه أو أحدهما ثبت له حكم الدار فأما دار الحرب فلا نحكم باسلام ولد الكافرين فيها بموتهما ولا موت أحدهما لأن الدار لا يحكم باسلام أهلها وكذلك لم نحكم باسلام لقيطها (10/92)
مسألة وفصول : الشهادة على رجل بالردة وإنكاره وحكم إقراره بالشهادتين
مسألة : قال : ومن شهد عليه بالردة فقال ما كفرت فان شهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أنه إذا شهد عليه بالردة من تثبت الردة بشهادته فانكر لم يقبل انكاره واستتيب فان تاب والا قتل وحكي عن بعض أصحاب أبي حنيفة أن إنكاره يكفي في الرجوع الى الاسلام ولا يلزمه النطق بالشهادة لأنه لو أقر بالكفر ثم أنكره قبل منه ولم يكلف الشهادتين كذا ههنا
ولنا ما روى الأثرم باسناده عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل عربي قد تنصر فاستتابه فابى أن يتوب فقتله وأتي برهط يصلون وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول فجحدوا وقالوا ليس لنا دين إلا الاسلام فقتلهم ولم يستتبهم ثم قال : أتدرون لم استتببت النصراني ؟ استتبته لأنه أظهر دينه فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة فانما قتلتهم لأنهم جحدوا وقد قامت عليهم البينة ولأنه قد ثبت كفره فلم يحكم باسلامه بدون الشهادتين كالكفر الأصلي ولأن انكاره تكذيب للبينة فلم تسمع كسائر الدعاوى فأما إذا أقر بالكفر ثم أنكر فيحتمل أن نقول فيه كمسألتنا وإن سلمنا فالفرق بينهما أن الحد وجب بقوله فضل رجوعه عنه وما ثبت بالبينة لم يثبت بقوله فلا يقبل رجوعه عنه كالزنا لو ثبت بقوله فرجع كف عنه وان ثبت ببينة لم يقبل رجوعه
فصل : وتقبل الشهادة على الردة من عدلين في قول أكثر أهل العلم وبه يقول مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : ولا نعلم أحدا خالفهم إلا الحسن قال : لا يقبل في القتل الا أربعة لأنها شهادة بما يوجب القتل فلم يقبل فيها الا أربعة قياسا على الزنا
ولنا أنها شهادة في غير الزنا فقبلت من عدلين كالشهادة على السرقة ولا يصح قياسه على الزنا فانه لم يعتبر فيه الأربعة لعلة القتل بدليل اعتبار ذلك في زنا البكر ولا قتل فيه وإنما العلة كونه زنا ولم يوجد ذلك في الردة ثم الفرق بينهما أن القذف بالزنا يوجب ثمانين جلدة بخلاف القذف بالردة
الفصل الثاني : انه إذا ثبتت ردته بالبينة أو غيرها فشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن صحة ما شهد عليه به وخلي سبيله ولا يكلف الاقرار بما نسب اليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ امرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز و جل ] متفق عليه ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي فكذلك إسلام المرتد ولا حاجة مع ثبوت اسلامه الى الكشف عن صحة ردته وكلام الخرقي محمول على من كفر بجحد الوحدانية أو جحد رسالة محمد صلى الله عليه و سلم أو جحدهما معا فأما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالاقرار بما جحده ومن أقر برسالة محمد صلى الله عليه و سلم وانكر كونه مبعوثا إلى العالمين لا يثبت إسلامه حتى يشهد أن محمدا رسول الله الى الخلق أجمعين أو يتبرأ مع الشهادتين من كل دين يخالف الاسلام وان زعم ان محمدا رسول مبعوث بعد غير هذا لزمه الاقرار بأن هذا المبعوث هو رسول الله لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أنه أراد ما اعتقده وان ارتد بجحود فرض لم يسلم حتى يقر بما جحده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله ورسوله بما اعتقده وكذلك ان جحد نبيا أو آية من كتاب اله تعالى أو كتابا من كتبه أو ملكا من ملائكته الذين ثبت انهم ملائكة الله أو استباح محرما فلا بد في إسلامه من الاقرار بما جحده وأما الكافر بجحد الدين من أصله إذا شهد أن محمدا رسول الله واقتصر على ذلك ففيه روايتان :
إحداهما : يحكم باسلامه لأنه [ روي أن يهوديا قال : أشهد ان محمدا رسول الله ثم مات فقال النبي صلى الله عليه و سلم : صلوا على صاحبكم ] ولأنه لا يقر برسالة محمد صلى الله عليه و سلم الا هو مقر بمن ارسله وبتوحيده لأنه صدق النبي صلى الله عليه و سلم فيما جاء به وقد جاء بتوحيده
الثانية : أنه إن كان مقرا بالتوحيد كاليهود حكم باسلامه لأن توحيد الله ثابت في حقه وقد ضم اليه الاقرار برسالة محمد صلى الله عليه و سلم فكمل إسلامه وإن كان غير موحد كالنصارى والمجوس والوثنيين لم يحكم باسلامه حتى يشهد أن لا إله إلا الله وبهذا جاءت أكثر الأخبار وهو الصحيح لأن من جحد شيئين لا يزول جحدهما إلا بإقراره بهما جميعا إن قال أشهد أن النبي رسول الله لم نحكم باسلامه لأنه يحتمل أن يريد غير نبينا وإن قال أنا مؤمن أو أنا مسلم فقال القاضي : يحكم باسلامه بهذا وإن لم يلفظ بالشهادتين لأنهما اسمان لشيء معلوم معروف وهو الشهادتان فاذا أخبر عن نفسه بما تضمن الشهادتين كان مخبرا بهما [ وروى المقداد أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال : لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها ] وعن [ عمران بن حصين قال : أصاب المسلمون رجلا من بني عقيل فأتوا به النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا محمد اني مسلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو كنت قلت وانت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ] رواهما مسلم ويحتمل أن هذا في الكافر الأصلي أو من جحد الوحدانية أما من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلما بذلك لأنه ربما اعتقد إن الاسلام ما هو عليه فان أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر
فصل : واذا أتى الكافر بالشهادتين ثم قال لم أرد الاسلام فقد صار مرتدا ويجبر على الإسلام نص عليه أحمد في رواية جماعة ونقل عن أحمد أنه يقبل منه ولا يجبر على الإسلام لأنه يحتمل الصدق فلا يراق دمه بالشبهة والأولى أولى لأنه قد حكم باسلامه فيقتل اذا رجع كما لو طالت مدته
فصل : واذا صلى الكافر حكم بإسلامه سواء كان في دار الحرب أو دار الاسلام أو صلى جماعة أو فرادى وقال الشافعي : إن صلى في دار الحرب حكم باسلامه وإن صلى في دار الاسلام لم يحكم باسلامه لأنه يحتمل أنه صلى رياء وتقية
ولنا أن ما كان إسلاما في دار الحرب كان إسلاما في دار الاسلام كالشهادتين
ولأن الصلاة ركن يختص به الاسلام فحكم باسلامه به كالشهادتين واحتمال التقية والرياء يبطل بالشهادتين وسواء كان أصليا أو مرتدا وأما سائلا الاركان من الزكاة والصيام والحج فلا يحكم باسلامه به فان المشركين كانوا يحجون في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى منعهم النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ لا يحج بعد العام مشرك ] والزكاة صدقة وهم يتصدقون وقد فرض على نصارى بني تغلب من الزكاة مثلي ما يؤخذ من المسلمين ولم يصيروا بذلك مسلمين وأما الصيام فلكل أهل دين صيام ولأن الصيام ليس بفعل إنما هو امساك عن أفعال مخصوصة في وقت مخصوص وقد يتفق هذا من الكافر كاتفاقه من المسلم ولا عبرة بنية الصيام لأنها أمر باطن لا علم لنا به بخلاف الصلاة فانها أفعال تتميز عن أفعال الكفار ويختص بها أهل الاسلام ولا يثبت الاسلام حتى يأتي بصلاة يتميز بها عن صلاة الكفار من استقبال قبلتنا والركوع والسجود ولا يحصل بمجرد القيام لأنهم يقومون في صلاتهم ولا فرق بين الأصلي والمرتد في هذا لأن ما حصل به الاسلام في الأصلي حصل به في حق المرتد كالشهادتين فعلى هذا لو مات المرتد فأقام ورثته بينة أنه صلى بعد ردته حكم لهم بالميراث إلا أن يثبت أنه ارتد بعد صلاته أو تكون ردته بجحد فريضة أو كتاب أو نبي أو ملك أو نحو ذلك من البدع التي ينتسب أهلها إلى الاسلام فانه لا يحكم باسلامه بصللاته لأنه يعتقد وجوب الصلاة ويفعلها مع كفرة فأشبه فعله غيرها والله أعلم (10/93)
فصل : حكم ما إذا أكره الذمي أو المستأمن على الإسلام
فصل : واذا أكره على الإسلام من لا يجوز إكراهه كالذمي والمستأمن فأسلم لم يثبت له حكم الاسلام حتى يوجد منه ما يدل على إسلامه طوعا مثل أن يثبت على الإسلام بعد زوال الاكراه عنه فان مات قبل ذلك فحكمه حكم الكفار وإن رجع الى دين الكفر لم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال محمد بن الحسن : يصير مسلما في الظاهر وإن رجع عنه قتل إذا امتنع عن الاسلام لعموم قوله عليه السلام : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] ولأنه أتى بقول الحق فلزمه حكمه كالحربي إذا أكره عليه
ولنا أنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه كالمسلم إذا أكره على الكفر والدليل على تحريم الإكراه قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } وأجمع أهل العلم على أن الذمي إذا أقام على ما عوهد عليه والمستأمن لا يجوز نقض عهده ولا إكراهه على ما لم يلتزمه ولأنه أكره على ما لا يجوز إكراهه عليه فلم يثبت حكمه في حقه والعتق وفارق الحربي والمرتد فانه يجوز قتلهما وإكراههما على الاسلام بأن يقول إن اسلمت وإلا قتلناك فمتى أسلم حكم باسلامه ظاهرا وإن مات قبل زوال الإكراه عنه فحكمه حكم المسلمين لأنه أكره بحق فحكم بصحة ما يأتي به كما لو أكره المسلم على الصلاة فصلى وأما في الباطن فيما بينهم وبين ربهم فان من اعتقد الاسلام بقلبه وأسلم فيما بينه وبين الله تعالى فهو مسلم عند الله موعود بما وعد به من أسلم طائعا ومن لم يعتقد الاسلام بقلبه فهو باق على كفره لا حظ له في الاسلام سواء في هذا من يجوز إكراهه ومن لا يجوز إكراهه فان الاسلام لا يحصل بدون اعتقاده من العاقل بدليل أن المنافقين كانوا يظهرون الاسلام ويقومون بفرائضه ولم يكونوا مسلمين (10/96)
فصل : من أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا
فصل : ومن أكره على الكفر فأتى بكلمة الكفر لم يصر كافرا وبهذا قال مالك و أبو حنيفة و الشافعي وقال محمد بن الحسن : هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته ولا يرثه المسلمون إن مات ولا يغسل ولا يصلى عليه وهو مسلم فيما بينه وبين الله لأنه نطق بكلمة الكفر فأشبه المختار
ولنا قول الله تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله } و [ روي أن عمارا أخذه المشركون فضربوه حتى تكلم بما طلبوا منه ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم وهو يبكي فأخبره فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إن عادوا فعد ] وروي أن الكفار كانوا يعذبون المستضعفين من المؤمنين فما منهم أحد ألا أجابهم إلا بلال فانه كان يقول أحد أحد وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوه عليه ] ولأنه قول أكره عليه بغيرحق فلم يثبت حكمه كما لو أكره على الاقرار وفارق على ما إذا أكره بحق فانه خير بين أمرين يلزمه أحدهما فأيهما اختاره ثبت حكمه في حقه فاذا ثبت أنه لم يكفر فمتى زال عنه الاكراه أمر باظهار إسلامه فان أظهره فهو باق على إسلامه وإن أظهر الكفر حكم أنه كفر من حين نطق به لأننا تبينا بذلك أنه كان منشرح الصدر بالكفر من حين نطق به مختارا له وإن قامت عليه بينة أنه نطق بكلمة الكفر وكان محبوسا عند الكفار و مقيدا عندهم في حالة خوف لم يحكم بردته لأن ذلك ظاهر في الاكراه وان شهدت أنه كان آمنا حال نطقه به حكم بردته فان ادعى ورثته رجوعه إلى الاسلام لم يقبل إلا ببينة لأن الاصل بقاؤه على ما هو عليه وإن شهدت البينة عليه بأكل لحم الخنزير لم يحكم بردته لأنه قد يأكله معتقدا تحريمه كما يشرب الخمر من يعتقد تحريمها وإن قال بعض ورثته أكله مستحلا له أو أقر بردته حرم ميراثه لأنه مقر بأنه لا يستحقه ويدفع الى مدعي إسلامه قدر ميراثه لأنه لا يدعي أكثر منه
ويدفع الباقي الى بيت المال لعدم من يستحقه فإن كان في الورثة صغير أو مجنون دفع إليه نصيبه ونصيب المقر بردة الموروث لأنه لم تثبت ردته بالنسبة إليه (10/97)
فصل : والأفضل لمن أكره على كلمة الكفر أن يصبر ولا يقولها
فصل : ومن أكره على كلمة الكفر فالافضل له أن يصبر ولا يقولها وإن أتى ذلك على نفسه لما روى خباب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن كان الرجل ممن قبلكم ليحفر له في الارض فيجعل فيها فيجاء بمنشار فيوضع على شق رأسه ويشق باثنين ما يمنعه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم ما يصرفه ذلك عن دينه ] وجاء في تفسير قوله تعالى : { قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود } أن بعض ملوك الكفار أخذ قوما من المؤمنين فخد لهم أخدودا في الأرض وأوقد فيه نارا ثم قال : من لم يرجع عن دينه فالقوه في النار فجعلوا يلقونهم فيها حتى جاءت امرأة على كتفها صبي لها فتقاعست من أجل الصبي : يا أمه اصبري فانك على الحق فذكرهم الله تعالى في كتابه وروى الأثرم عن أبي عبد الله أنه سئل عن الرجل يؤسر فيعرض على الكفر ويكره عليه اله أن يرتد ؟ فكرهه كراهة شديدة وقال : ما يشبه هذا عندي الذين انزلت فيهم الآية من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أولئك كانوا يرادون على الكلمة ثم يتركون يعملون ما شاءوا وهؤلاء يريدونهم على الاقامة على الكفر وترك دينهم وذلك لأن الذي يكره على كلمة يقولها ثم يخلى لا ضرر فيها وهذا المقيم بينهم يلتزم باجابتهم الى الكفر المقام عليه واستحلال المحرمات وترك الفرائض والواجبات وفعل المحظورات والمنكرات وإن كان امرأة تزوجوها واستولدوها أولادا كفارا وكذلك الرجل وظاهر حالهم المصير الى الكفر الحقيقي والانسلاخ من الدين الحنيف (10/98)
مسألة : حكم من ارتد وهو سكران
مسألة : قال : ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يفيق ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته فان مات في سكره مات كافرا
اختلفت الرواية عن أحمد في ردة السكران فروي عنه أنها تصح قال أبو الخطاب : وهو أظهر الروايتين عنه وهو مذهب الشافعي وعنه لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأن ذلك يتعلق بالاعتقاد والقصد والسكران لا يصح عقده ولا قصده فأشبه المعتوه ولأنه زائل العقل فلم تصح ردته كالنائم ولأنه غير مكلف فلم تصح ردته كالمجنون والدليل على أنه غير مكلف أن العقل شرط في التكليف وهو معدوم في حقه ولهذا لم تصح استتابته
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا في السكران : إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدود حد المفتري فأوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره وأقاموا مظنتها مقامها ولأنه يصح طلاقه فصحت ردته كالصاحي وقولهم ليس بمكلف ممنوع فان الصلاة واجبة عليه وكذلك سائر أركان الإسلام ويأثم بفعل المحرمات وهذا معنى التكليف ولأن السكران لا يزول عقله بالكلية ولهذا يتقي المحذورات ويفرح بما يسره ويساء بما يضره ويزول سكره عن قرب من الزمان فأشبه الناعس بخلاف النائم والمجنون وأما استتابته فتؤخر إلى حين صحوه ليكمل عقله ويفهم ما يقال له وتزال شبهته إن كان قد قال الكفر معتقدا له كما تؤخر استتابته إلى حين زوال شدة عطشه وجوعه ويؤخر الصبي الى حين بلوغه وكمال عقله ولأن القتل جعل للزجر ولا يحصل الزجر في حال سكره وإن قتله قاتل في حال سكره لم يضمنه لأن عصمته زالت بردته وإن مات أو قتل لم يرثه ورثته ولا يقتله حتى يتم له ثلاثة أيام ابتداؤها من حين ارتد فان استمر سكره أكثر من ثلاث لم يقبل حتى يصحوا ثم يستتاب عقيب صحوه فان تاب وإلا قتل في الحال وإن أسلم في سكره صح إسلامه ثم يسأل بعد صحوه فإن ثبت على إسلامه فهو مسلم من حين أسلم لأن إسلامه صحيح وإن كفر فهو كافر من الآن لأن إسلامه صح وإنما يسأل استظهارا وإن مات بعد إسلامه في سكره مات مسلما (10/99)
فصل : يصح إسلام السكران في سكره
فصل : ويصح إسلام السكران في سكره سواء كان كافرا أصليا أو مرتدا لأنه إذا صحت ردته مع أنها محض مضرة وقول باطل فلأن يصح اسلامه الذي هو قول حق ومحض مصلحة أولى فإن رجع عن إسلامه وقال لم أدر ما قلت لم يلتفت إلى مقالته وأجبر على الإسلام فإن أسلم وإلا قتل ويتخرج أن لا يصح إسلامه بناء على القول بان ردته لا تصح فان من لا تصح ردته لا يصح إسلامه كالطفل والمعتوه (10/100)
فصل : لا تصح ردة المجنون ولا إسلامه
فصل : ولا تصح ردة المجنون ولا إسلامه لأنه لا قول له وإن ارتد في صحته ثم جن لم يقتل في حال جنونه لأنه يقتل بالاصرار على الردة والمجنون لا يوصف بالاصرار ولا يمكن استتابته ولو وجب عليه القصاص فجن قتل لأن القصاص لا يسقط عنه بسبب من جهته وههنا يسقط برجوعه ولأن القصاص إنما يسقط بسبب من جهة المستحق له فنظير مسألتنا أن يجن المستحق للقصاص فانه لا يستوفي حال جنونه (10/100)
فصل : حكم من أصاب حدا ثم ارتد ثم أسلم
فصل : ومن أصاب حدا ثم ارتد ثم أسلم أقيم عليه حده وبهذا قال الشافعي سواء لحق بدار الحرب في ردته أو لم يلحق بها وقال قتادة في مسلم أحدث حدثا ثم لحق بالروم ثم قدر عليه إن كان ارتد درىء عنه الحد وإن لم يكن ارتد أقيم عليه ونحو هذا قال أبو حنيفة و الثوري إلا حقوق الناس لأن ردته أحبطت عمله فأسقطت ما عليه من حقوق الله تعالى كمن فعل ذلك في حال شركه ولأن الاسلام يجب ما قبله
ولنا أنه حق عليه فلم يسقط بردته كحقوق الآدميين وفارق ما فعله في شركه فإنه لم يثبت حكمه في حقه وأما قوله الاسلام : [ يجب ما قبله ] فالمراد به ما فعله في كفره لأنه لو أراد ما قبل ردته أفضى إلى كون الردة التي هي أعظم الذنوب مكفرة للذنوب وإن من كثرت ذنوبه ولزمته حدود يكفر ثم يسلم فتكفر ذنوبه وتسقط حدوده (10/101)
فصل : حكم ما فعله المرتد في ردته
فصل : فأما ما فعله في ردته فقد نقل مهنا عن أحمد قال : سألته عن رجل ارتد عن الاسلام فقطع الطريق وقتل النفس ثم لحق بدار الحرب فأخذه المسلمون فقال : تقام فيه الحدود ويقتص منه وسألته عن رجل ارتد فلحق بدار الحرب فقتل بها مسلما ثم رجع تائبا وقد أسلم فأخذه وليه يكون عليه القصاص ؟ فقال : قد زال عنه الحكم لأنه إنما قتل وهو مشرك وكذلك إن سرق وهو مشرك ثم توقف بعد ذلك وقال : لا أقول في هذا شيئا
وقال القاضي : ما أصاب في ردته من نفس أو مال أو جرح فعليه ضمانه سواء كان في منعة وجماعة أو لم يكن لأنه التزم حكم الإسلام باقراره فلم يسقط بجحده كما لا يسقط ما التزمه عند الحاكم بجحده والصحيح ان ما أصابه المرتد بعد لحوقه بدار الحرب أو كونه في جماعة ممتنعة لا يضمنه لما ذكرناه في آخر الباب الذي قبل هذا وما فعله قبل هذا أخذ به إذا ما كان مما يتعلق به حق آدمي كالجناية على نفس أو مال لأنه في دار الاسلام فلزمه حكم جنايته كالذمي والمستأمن وأما ان ارتكب حدا خالصا لله تعالى كالزنا وشرب الخمر والسرقة فانه ان قتل بالردة سقط ما سوى القتل من الحدود لأنه متى اجتمع مع القتل حد اكتفي بالقتل وإن رجع إلى الإسلام أخذ بحد الزنا والسرقة لأنه من أهل دار الاسلام فأخذ بهما كالذمي والمستأمن وأما حد الخمر فيحتمل ان لا يجب عليه لأنه كافر فلا يقام عليه حد الخمر كسائر الكفار ويحتمل أن يجب لأنه أقر بحكم الاسلام قبل ردته وهذا من أحكامه فلم يسقط بجحده بعده والله أعلم (10/101)
فصل : حكم من ادعى النبوة أو صدق مدعيها
فصل : ومن ادعى النبوة أو صدق من ادعاها فقد ارتد لأن مسيلمة لما ادعى النبوة فصدقه قومه صاروا بذلك مرتدين وكذلك طليحة الأسدي ومصدقوه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابون كلهم يزعم انه رسول الله ] (10/103)
فصل : حكم من سب الله تعالى
فصل : ومن سب الله تعالى كفر سواء كان مازحا أو جادا وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه قال الله تعالى { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } وينبغي أن لا يكتفي من الهازىء بذلك لمجرد الإسلام حتى يؤدب أدبا يزجره عن ذلك فإنه إذا لم يكتفي ممن سب رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتوبة فممن سب الله تعالى أولى (10/103)
فصل في السحر
وهو عقد ورقي وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له وله حقيقة فمنه ما يقتل وما يمرض وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يفرق بين المرء وزوجه وما يبغض احدهما الى الآخر أو يحبب بين اثنين وهذا قول الشافعي وذهب بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له إنما هو تخييل لان الله تعالى قال : { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } وقال اصحاب أبي حنيفة : إن كان شيئا يصل الى بدن المسحور كدخان ونحوه جاز ان يحصل منه ذلك فأما أن يحصل المرض والموت من غير أن يصل الى بدنه شيء فلا يجوز ذلك لأنه لو جاز لبطلت معجزات الانبياء عليهم السلام لأن ذلك يخرق العادات فاذا جاز من غير الانبياء بطلت معجزاتهم وأدلتهم
ولنا قول الله تعالى : { قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفاثات في العقد } يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن عليه ولولا أن السحر له حقيقة لما أمر الله تعالى بالاستعاذة منه وقال الله تعالى : { يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت } إلى قوله { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } و [ روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم سحر حتى أنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله وأنه قال لها ذات يوم : اشعرت أن الله تعالى أفتاني فيما استفتيته ؟ أنه أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال : ما وجع الرجل ؟ قال مطبوب قال : من طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي اروان ] ذكره البخاري وغيره جف الطلعة وعاؤها والمشاطة الشعر الذي يخرج من شعر الرأس او غيره إذا مشط فقد أثبت لهم سحرا
وقد اشتهر بين الناس وجود عقد الرجل عن امرأته حين يتزوجها فلا يقدر على إتيانها وحل عقده فيقدر عليها بعد عجزه عنها حتى صار متوترا لا يمكن جحده وروي من أخبار السحرة ما لا يكاد يمكن التواطؤ على الكذب فيه وأما إبطال المعجزات فلا يلزم من هذا لأنه لا يبلغ ما يأتي به الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم أن ينتهي الى أن تسعى العصي والحبال
إذا ثبت هذا فان تعلم السحر وتعليمه حرام لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم قال أصحابنا : ويكفر الساحر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو اباحته وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فان حنبلا روى عنه قال : قال عمي في العراف والكاهن والساحر : أرى ان يستتاب من هذه الافاعيل كلها فإنه عندي في معنى المرتد فإن تاب و راجع يعني يخلى سبيله قلت له يقتل ؟ قال : لا يحبس لعله يرجع قلت له : لم لا تقتله ؟ قال : إذا كان يصلي لعله يتوب ويرجع وهذا يدل على أنه لم يكفره لأنه لو كفره لقتله وقوله في معنى المرتد يعني في الاستتابة
وقال اصحاب أبي حنيفة : إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء كفر وإن اعتقد أنه تخييل لم يكفر و قال الشافعي : إن اعتقد ما يوجب الكفر مثل التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس أو اعتقد حل السحر كفر لأن القرآن نطق بتحريمه وثبت بالنقل المتواتر والاجماع عليه وإلا فسق ولم يكفر لأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة ولو كفرت لصارت مرتدة يجب قتلها ولم يجز استرقاقها ولأنه شيء يضر بالناس فلم يكفر بمجرده كأذاهم
ولنا قول الله تعالى : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا } إلى قوله { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } أي وما كفر سليمان أي وما كان ساحرا كفر بسحره وقولهما إنما نحن فتنة فلا تكفر أي لا تتعلمه فتكفر بذلك وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائسة أن امرأة جاءتها فجعلت تبكي بكاء شديدا وقالت : يا أم المؤمنين ان عجوزا ذهبت بي إلى هاروت وماروت فقلت : علماني السحر فقالا : اتقي الله ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فقلت : علماني السحر فقالا : اذهبي الى ذلك التنور فبولي فيه ففعلت فرأيت كأن فارسا مقنعا في الحديد خرج مني حتى طار فغاب في السماء فرجعت إليهما فأخبرتهما فقالا : ذلك إيمانك فذكرت باقي القصة - إلى أن قالت - والله يا أم المؤمنين ما صنعت شيئا غير هذا ولا أصنعه ابدا فهل لي من توبة قالت عائشة : ورأيتها تبكي بكاء شديدا فطافت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم متوافرون تسألهم هل لها من توبة ؟ فما أفتاها أحد إلا أن ابن عباس قال لها : إن كان أحد من أبويك حيا فبريه وأكثري من عمل البر ما استطعت وقول عائشة قد خالفها فيه كثير من الصحابة وقال علي رضي الله عنه : الساحر كافر ويحتمل أن المدبرة تابت فسقط عنها القتل والكفر بتوبتها ويحتمل أنها سحرتها بمعنى أنها ذههبت الى ساحر سحر لها (10/104)
فصل : بيان حد الساحر ومن قال بقتله
فصل : وحد الساحر القتل روي ذلك عن عمر وعثمان بن عفان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز وهو قول أبي حنيفة و مالك ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابي المنذر ورواية عن أحمد قد ذكرناها فيما تقدم ووجه ذلك أن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة ساحرتها ولو وجب قتلها لما حل بيعها ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق ] ولم يصدر منه أحد الثلاثة فوجب أن لا يحل دمه
ولنا ماروى جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ حد الساحر ضربه بالسيف ] قال ابن المنذر رواه اسماعيل بن مسلم وهو ضعيف وروى سعيد و ابوداود في كتابيهما عن بجالة قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الاحنف بن قيس إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة : اقتلوا كل ساحر فقتلنا ثلاث سواحر في يوم وهذا اشتهر فلم ينكر فكان اجماعا وقتلت حفصة جارية لها سحرتها وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد ابن عقبة ولأنه كافر فيقتل للخبر الذي رووه (10/111)
فصل : هل يستتاب الساحر ؟
فصل : وهل يستتاب الساحر فيه روايتان : احداهما لا يستتاب وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة فانه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحرا وفي الحديث الذي رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الساحرة سألت أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وهم متوافرون هل لها من توبة فما أفتاها أحد ولأن السحر معنى في قلبه لا يزول بالتوبة فيشبه من لم يتب والرواية الثانية يستتاب فان تاب قبلت توبته لأنه ليس بأعظم من الشرك والمشرك يستتاب ومعرفته السحر لا تمنع قبول توبته فإن الله تعالى قبل توبة سحرة فرعون وجعلهم من أوليائه في ساعة ولأن الساحر لو كان كافرا فأسلم صح إسلامه وتوبته فاذا صحت التوبة منهما صحت من أحدهما كالكفر ولأن الكفر والقتل إنما هو بعمله بالسحر لا بعلمه بدليل الساحر إذا أسلم والعمل به يمكن التوبة منه وكذلك اعتقاد ما يكفر باعتقاده يمكن التوبة منه كالشرك وهاتان الروايتان في ثبوت حكم التوبة في الدنيا من سقوط القتل ونحوه فاما فيما بينه وبين الله تعالى وسقوط عقوبة الدار الآخرة عنه فيصح فإن الله تعالى لم يسد باب التوبة عن أحد من خلقه ومن تاب الى الله قبل توبته لا نعلم في هذا خلافا (10/113)
فصل : السحر الذي ذكر هو السحر الذي يعد في العرف سحرا
فصل : والسحر الذي ذكرنا حكمه هو الذي يعد في العرف سحرا مثل فعل لبيد بن الأعصم حين سحر النبي صلى الله عليه و سلم في مشط ومشاطة وروينا في مغازي الأموي أن النجاشي دعا السواحر فنفخن في احليل عمارة بن الوليد فهام مع الوحش فلم يزل معها إلى امارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمسكه انسان فقال : خلني وإلا مت فلم يخله فمات من ساعته وبلغنا أن بعض الامراء أخذ ساحرة فجاء زوجها كأنه محترق فقال : قولوا لها تحل عني فقالت : ائتوني بخيوط وباب فجلست على الباب حين أتوها به وجعلت تعقد وطار بها الباب فلم يقدروا عليها فهذا وأمثاله مثل أن يعقد الرجل المتزوج فلا يطيق وطء زوجته هو السحر المختلف في حكم صاحبه فأما الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن ويأمرها فتطيعه فهذا لا يدخل في هذا الحكم ظاهرا وذكره القاضي وابو الخطاب في جملة السحرة وأما من يحل السحر فإن كان بشيء من القرآن أو شيء من الذكر والأقسام والكلام الذي لا بأس به فلا بأس به وإن كان بشيء من السحر فقد توقف أحمد عنه قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله سئل عن رجل يزعم أنه يحل السحر فقال : قد رخص فيه بعض الناس قيل لابي عبد الله : انه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه ويعمل كذا فنفض يده كالمنكر وقال : ما أدري ما هذا قيل له : فترى أن يؤتى مثل هذا يحل السحر فقال : ما أدري ما هذا
وروي عن محمد بن سيرين أنه سئل عن امرأة يعذبها السحرة فقال : رجل أخط خطا عليها واغرز السكين عند مجمع الخط واقرأ القرآن فقال محمد : ما أعلم بقراءة القرآن بأسا على حال ولا أدري ما الخط والسكين وروي عن سعيد بن المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه فقال : إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع وقال أيضا : إن استطعت أن تنفع أخاك فافعل فهذا من قولهم يدل على أن المعزم ونحوه لم يدخلوا في حكم السحرة ولانهم لا يسمون به وهو ما ينفع ولا يضر (10/113)
فصل : حكم الكاهن الذي له رئي من الجن تأتيه بالأخبار
فصل : فأما الكاهن الذي له رئي من الجن تأتيه بالاخبار والعراف الذي يحدس ويتخرص فقد قال أحمد في رواية حنبل في العراف والساحر والكاهن : ارى ان يستتاب من هذه الافاعيل قيل له : يقتل ؟ قال : يحبس لعله يرجع قال : والعرافة طرف من السحر والساحر أخبث لأن السحر شعبة من الكفر وقال : الساحر والكاهن حكمهما القتل أو الحبس حتى يتوبا لأنهما يلبسان أمرهما وحديث عمر اقتلوا كل ساحر وكاهن وليس هو من أمر الاسلام وهذا يدل على ان كل واحد منهما فيه روايتان إحداهما أنه يقتل اذا لم يتب والثانية لا يقتل لأن حكمه أخف من حكم الساحر وقد اختلف فيه فهذا بدرء القتل عنه أولى (10/114)
فصل : ساحر أهل الكتاب لا يقتل بسبب سحره
فصل : فأما ساحر أهل الكتاب فلا يقتل لسحره إلا ان يقتل به وهو مما يقتل به غالبا فيقتل قصاصا وقال أبو حنيفة : يقتل لعموم ما تقدم من الاخبار ولأنه جناية أوجبت قتل المسلم فأوجبت قتل الذمي كالقتل
ولنا أن لبيد بن الاعصم سحر النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقتله ولأن الشرك أعظم من سحره ولا يقتل به والأخبار وردت في ساحر المسلمين لأنه يكفر بسحره وهذا كافر أصلي وقياسهم ينتقض باعتقاد الكفر والمتكلم به وينتقض بالزنا من المحصن فإنه لا يقتل به الذمي عندهم ويقتل به المسلم والله أعلم (10/115)
كتاب الحدود
الزنا حرام وهو من الكبائر العظام بدليل قول الله تعالى : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } وقال تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا }
وروى عبد الله بن مسعود قال : [ سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أي الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك - قال : قلت ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك - قال : قلت ثم أي ؟ قال : أن تزني بحليلة جارك ] أخرجه البخاري و مسلم وكان حد الزاني في صدر الاسلام الحبس للثيب والاذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر لقوله سبحانه : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما }
قال بعض أصحاب أهل العلم المراد بقوله : { من نسائكم } الثيب لأن قوله من نسائكم إضافة زوجية كقوله : { للذين يؤلون من نسائهم } ولا فائدة في إضافته ههنا نعلمها إلا اعتبار الثيوبة ولأنه قد ذكر عقوبتين احداهما أغلظ من الأخرى فكانت الأغلظ للثيب والاخرى للأبكار كالرجم والجلد ثم نسخ هذا بما روى عبادة ابن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] رواه مسلم و أبو داود فان قيل : فكيف ينسخ القرآن بالسنة ؟ قلنا : قد ذهب بعض أصحابنا الى جوازه لأن الكل من عند الله وإن اختلفت طرقه ومن منع ذلك قال : ليس هذا نسخا إنما هو تفسير للقرآن وتبيين له لأن النسخ رفع حكم ظاهره الاطلاق فأما ما كان مشروطا بشرط وزال الشرط لا يكون نسخا وههنا شرط الله تعالى حبسهن الى أن يجعل لهن سبيلا فبينت السنة السبيل فكان بيانا لا نسخا ويمكن أن يقال ان نسخه حصل بالقرآن فان الجلد في كتاب الله والرجم كان فيه فنسخ رسمه وبقي حكمه (10/116)
مسألة وفصول : وجوب الرجم على الزاني المحصن وثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وشروط الاحصان
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : واذا زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة جلدا ورجما حتى يموتا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى يرجمان ولا يجلدان
الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة :
الفصل الأول : في وجوب الرجم على الزاني المحصن رجلا كان أو امرأة وهذا قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفا الا الخوارج فانهم قالوا : الجلد للبكر والثيب لقول الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وقالوا لا يجوز ترك كتاب الله الثابت بطريق القطع واليقين لاخبار آحاد يجوز الكذب فيها ولأن هذا يفضي الى نسخ الكتاب بالسنة وهو غير جائز
ولنا أنه ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله وفعله في أخبار تشبه المتواتر وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على ما سنذكره في أثناء الباب في مواضعه إن شاء الله تعالى وقد أنزله الله تعالى في كتابه وإنما نسخ رسمه دون حكمه فروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأتها وعقلتها ووعيتها ورجم رسول الله صلى الله عليه و سلم ورجمنا بعده فاخشى إن طال بالناس زمان ان يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى اذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف وقد قرأ بها : [ الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ] متفق عليه أما آية الجلد فنقول بها فان الزاني يجب جلده فان كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض لنفيه وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حين جلد شراحة ثم رجمها وقال : جلدتها بكتاب الله تعالى ثم رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم لو قلنا إن الثيب لا يجلد لكان هذا تخصيصا للآية العامة وهذا سائغ بغير خلاف فان عمومات القرآن في الاثبات كلها مخصصة وقولهم إن هذا نسخ ليس بصحيح وإنما هو تخصيص ثم لو كان نسخا لكان نسخا بالآية التي ذكرها عمر رضي الله عنه وقد روينا أن رسل الخوارج جاءوا عمر عبد العزيز رحمه الله فكان من جملة ما عابوا عليه الرجم وقالوا : ليس في كتاب الله إلا الجلد وقالوا الحائض أوجبتم عليها قضاء الصوم دون تالصلاة والصلاة أوكد فقال لهم عمر : وأنتم لا تأخذون إلا بما في كتاب الله ؟ قالوا : نعم قال : فأخبروني عن عدد الصلوات المفروضات وعدد أركانها وركعاتها ومواقيتها أين تجدونه في كتاب الله تعالى ؟ وأخبروني عما تجب الزكاة فيه ومقاديرها ونصبها ؟ فقالوا : انظرنا فرجعوا يومهم ذلك فلم يجدوا شيئا مما سألهم عنه في القرآن فقالوا لم نجده في القرآن قال : فكيف ذهبتم إليه ؟ قالوا : لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله وفعله المسلمون بعده فقال لهم : فكذلك الرجم وقضاء الصوم فان النبي صلى الله عليه و سلم رجم ورجم خلفاؤه بعده والمسلمون وأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقضاء الصوم دون الصلاة وفعل ذلك نساؤه ونساء أصحابه إذا ثبت هذا فمعنى الرجم أن يرمى بالحجارة وغيرها حتى يقتل بذلك قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت ولأن إطلاق الرجم يقتضي القتل به كقوله تعالى : { لتكونن من المرجومين } وقد رجم رسول الله صلى الله عليه و سلم اليهوديين اللذين زنيا وماعزا والغامدية حتى ماتوا
فصل : وإذا كان الزاني رجلا أقيم قائما ولم يوثق بشيء ولم يحفر له سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يحفر لماعز قال أبو سعيد : [ لما أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم برجم ماعز خرجنا به الى البقيع فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ولكنه قام لنا ] رواه أبو داود ولأن الحفر له ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه فوجب أن لا تثبت وإن كان امرأة فظاهر كلام احمد أنها لا يحفر لها أيضا وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف وذكر في المجرد أنه إن ثبت الحد بالاقرار لم يحفر لها وإن ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر قال ابو الخطاب : وهذا أصح عندي وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكر وبريدة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم رجم امرأة فحفر لها الى التندوة ] رواه أبو داود ولأنه استر لها ولا حاجة الى تمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالاقرار فإنها تترك على حال لو أرادت الهرب تمكنت منه لأن رجوعها عن اقرارها مقبول
ولنا أن أكثر الاحاديث على ترك الحفر فان النبي صلى الله عليه و سلم لم يحفر للجهنية ولا لماعز ولا لليهوديين والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ولا يقولون به فان التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها باقرارها ولا خلاف بيننا فيها فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فان ثياب المرأة تشد عليها كيلا تنكشف وقد روى أبو داود باسناده عن عمران بن حصين قال : فامر بها النبي صلى الله عليه و سلم فشدت عليها ثيايها ولأن ذلك استر لها
فصل : والسنة أن يدور الناس حول المرجوم فإن كان الزنا ثبت ببينة فالسنة ان يبدأ الشهود بالرجم وإن كان ثبت باقرار بدأ به الإمام أو الحاكم إن كان ثبت عنده ثم يرجم الناس بعده وروى سعيد باسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال : الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه فان هرب منهم وكان الحد ثبت ببينة اتبعوه حتى يقتلوه وإن كان ثبت بإقرار تركوه لما [ روي أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوظيف بعير فرماه به فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال : هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ؟ ] رواه أبو داود ولأنه يحتمل الرجوع فيسقط عنه الحد فان قتله قاتل في هربه فلا شيء عليه لحديث ابن أنيس حين قتل ماعزا ولأنه قد ثبت زناه باقراره فلا يزول ذلك باحتمال الرجوع وان لم يقتل واتي به الامام فكان مقيما على اعترافه رجمه وإن رجع عنه تركه
الفصل الثاني : أنه يجلد ثم يرجم في إحدى الروايتين فعل ذلك علي رضي الله عنه وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب و أبو ذر ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره وبه قال الحسن و اسحاق و داود و ابن المنذر والرواية الثانية يرجم ولا يجلد روي عن عمر وعثمان أنهما رجما ولم يجلدا وروي عن ابن مسعود أنه قال : إذا اجتمع حدان لله تعالى فيهما القتل أحاط القتل بذلك وبهذا قال النخعي و الزهري و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي واختار هذا ابو اسحاق الجوزجاني و أبو بكر الأثرم ونصراه في سننهما [ لأن جابرا روى أن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا ولم يجلده ورجم الغامدية ولم يجلدها ] و [ قال : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] متفق عليه ولم يأمره بجلدها وكان هذا آخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجب تقديمه قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول : في حديث عبادة أنه اول حد نزل وان حديث ماعز بعده رجمه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم يجلده وعمر رجم ولم يجلد ونقل عنه اسماعيل بن سعيد نحو هذا ولأنه حد فيه قتل فلم يجتمع معه جلد كالردة ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه فالحد أولى
ووجه الرواية قوله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا عام ثم جاءت السنة بالرجم في حق الثيب والتغريب في حق البكر فوجب الجمع بينهما وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه بقوله : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد صرح النبي صلى الله عليه و سلم بقوله في حديث عبادة : [ والثيب بالثيب الجلد والرجم ] وهذا الصريح الثابت بيقين لا يترك إلا بمثله والأحاديث الباقية ليست صريحة فانه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح بدليل أن التغريب يجب بذكره في هذا الحديث وليس بمذكور في الآية ولأنه زان فيجلد كالبكر ولأنه قد شرع في حق البكر عقوبتان الجلد والتغريب فيشرع في حق المحصن أيضا عقوبتان الجلد والرجم فيكون الرجم مكان التغريب فعلى هذه الرواية يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم فان والى بينهما جاز لأن إتلافه مقصود فلا تضر الموالاة بينهما وإن جلده يوما ورجمه في آخر جاز فان عليا رضي الله عنه جلد شراحة يوم الخميس ثم رجمها يوم الجمعة ثم قال : جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
الفصل الثالث : ان الرجم لا يجب إلا على المحصن باجماع أهل العلم وفي حديث عمر : إن الرجم حق على من زنى وقد أحصن وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث ] ذكر منها [ أو زنى بعد إحصان ] وللاحصان شروط سبعة : أحدها : الوطء في القبل ولا خلاف في اشتراطه لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الثيب بالثيب الجلد والرجم ] والثيابة تحصل بالوطء في القبل فوجب اعتباره ولا خلاف في أن عقد النكاح الخالي عن الوطء به إحصان سواء حصلت فيه خلوة أو وطء دون الفرج أو في الدبر أو لم يحصل شيء من ذلك لأن هذا لا تصير به المرأة ثيبا ولا تخرج به عن حد الأبكار الذين حدهم جلد مائة وتغريب عام بمقتضى الخبر ولا بد ان يكون وطأ حصل به تغييب الحشفة في الفرج لأن ذلك حد الوطء الذي يتعلق به أحكام الوطء
الثاني : أن يكون في نكاح لأن النكاح يسمى إحصانا بدليل قول الله تعالى : { المحصنات من النساء } يعني المتزوجات ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنا ووطء الشبهة لا يصير به الواطىء محصنا ولا نعلم خلافا في أن التسري لا يحصل به الاحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا يثبت فيه أحكامه
الثالث : أن لا يكون النكاح صحيحا وهذا قول أكثر أهل العلم منهم عطاء و قتادة و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور يحصل الاحصان بالوطء في نكاح فاسد وحكي ذلك عن الليث و الاوزاعي لأن الصحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر والعدة وتحريم الربيبة وأم المرأة ولحاق الولد فكذلك في الاحصان
ولنا أنه وطء في غير ملك فلم يحصل به الإحصان كوطء الشبهة ولا نسلم ثبوت ما ذكروه من الأحكام وإنما ثبتت بالوطء فيه وهذه ثبتت في كل وطء وليست مختصة بالنكاح إلا أن النكاح ههنا صار شبهة فصار الوطء فيه كوطء الشبهة سواء الرابع الحرية وهي شرط في قول أهل العلم كلهم إلا أبا ثور قال : العبد والامة هما محصنان يرجمان إذا زنيا إلا أن يكون إجماع يخالف ذلك وحكي عن الأوزاعي في العبد تحته حرة هو محصن يرجم إذا زنا وان كان تحته أمة لم يرجم وهذه أقوال تخالف النص والاجماع فان الله تعالى قال { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } والرجم لا ينتصف وإيجابه كله يخالف النص مع مخالفة الاجماع المنعقد قبله إلا أن يكون إذا عتقا بعد الاصابة فهذا فيه اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى وقد وافق الأوزاعي على أن العبد إذا وطىء الأمة ثم عتقا لم يصيرا محصنين وهو قول الجمهور وزاد فقال في المملوكين اذا أعتقا وهما متزوجان ثم وطئها الزوج : لا يصيران محصنين بذلك الوطء وهو أيضا قول شاذ خالف أهل العلم به فان الوطء وجد منهما حال كمالهما فحصنهما كالصبيين إذا بلغا الشرط الخامس والسادس البلوغ والعقل فلو وطىء وهو صبي أو مجنون ثم بلغ أو عقل لم يكن محصنا هذا قول أكثر أهل العلم ومذهب الشافعي ومن أصحابه من قال يصير محصنا وكذلك العبد إذا وطىء في رقه ثم عتق يصير محصنا لأن هذا وطء يحصل به الاحلال للمطلق ثلاثا فحصل به الاحصان كالموجود حال الكمال
ولنا قوله عليه السلام : [ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ] فاعتبر الثيوبة خاصة ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يجب عليه الرجم قبل بلوغه وعقله وهو خلاف الاجماع ويفارق الإحصان الإحلال لأن اعتبار الوطء في حق المطلق يحتمل أن يكون عقوبة له بتحريمها عليه حتى يطأها غيره ولأن هذا مما تأباه الطباع ويشق على النفوس فاعتبره الشارع زجرا على الطلاق ثلاثا وهذا يستوي فيه العاقل والمجنون بخلاف الإحصان فإنه اعتبر لكمال النعمة في حقه فإن من كملت النعمة في حقه كانت جنايته أفحش وأحق بزيادة العقوبة والنعمة في العاقل البالغ أكمل والله أعلم
الشرط السابع : أن يوجد الكمال فيهما جميعا حال الوطء فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه ونحوه قول عطاء و الحسن و ابن سيرين و النخعي و قتادة و الثوري و اسحاق قالوه في الرقيق وقال مالك : إذا كان أحدهما كاملا صار محصنا إلا الصبي إذا وطىء الكبيرة لم يحصنها ونحوه عن الأوزاعي واختلف عن الشافعي فقيل له قولان : أحدهما كقولنا والثاني أن الكامل يصير محصنا وهذا قول ابن المنذر لأنه حر بالغ عاقل وطىء في نكاح صحيح فصار محصنا كما لو كان الآخر مثله وقال بعضهم : إنما القولان في الصبي دون العبد فانه يصير محصنا قولا واحدا إذا كان كاملا
ولنا أنه وطء لم يحصن به أحد المتواطئين فلم يحصن الآخر كالتسري ولأنه متى كان أحدهما ناقصا لم يكمل الوطء فلا يحصل به الاحصان كما لو كانا غير كاملين وبهذا فارق ما قاسوا عليه (10/117)
فصل : لا يشترط الإسلام في الإحصان
فصل : ولا يشترط الإسلام في الإحصان وبهذا قال الزهري و الشافعي فعلى هذا يكون الذميان محصنين فإن تزوج المسلم ذمية فوطئها صارا محصنين وعن أحمد رواية أخرى أن الذمية لا تحصن المسلم وقال عطاء و النخعي و الشعبي و مجاهد و الثوري : هو شرط في الاحصان فلا يكون الكافر محصنا ولاتحصن الذمية مسلما لأن ابن عمر روى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من أشرك بالله فليس بمحصن ] ولأنه إحصان من شرطه الحرية فكان الإسلام شرطا فيه كإحصان القذف وقال مالك كقولهم : الا أن الذمية تحصن المسلم بناء على أصله في أنه لا يعتبر الكمال في الزوجين وينبغي أن يكون ذلك قولا للشافعي ولنا ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال : [ جاء اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكروا له ان رجلا منهم وامرأة زنيا وذكر الحديث فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما ] متفق عليه ولأن الجناية بالزنا استوت من المسلم والذمي فيجب أن يستويا في الحد وحديثهم لم يصح ولا نعرفه في مسند وقيل هو موقوف على ابن عمر ثم يتعين حمله على إحصان القذف جمعا بين الحديثين فإن راويهما واحد وحديثنا صريح في الرجم فيتعين حمل خبرهم على الإحصان الآخر
فان قالوا : إنما رجم النبي صلى الله عليه و سلم اليهوديين بحكم التوراة بدليل أنه راجعها فلما تبين له أن ذلك حكم الله عليهم أقامه فيهم وفيها أنزل الله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } قلنا إنما حكم عليهم بما أنزل الله اليه بدليل قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } ولأنه لا يسوغ للنبي صلى الله عليه و سلم الحكم بغير شريعته ولو ساغ ذلك لساغ لغيره وإنما راجع التوراة لتعريفهم أن حكم التوراة موافق لما يحكم به عليهم وأنهم تاركون لشريعتهم مخالفون لحكمهم ثم هذا حجة لنا فان حكم الله في وجوب الرجم إن كان ثابتا في حقهم يجب أن يحكم به عليهم فقد ثبت وجود الإحصان فيهم فإنه لا معنى له سوى وجوب الرجم على من زنى منهم بعد وجود شروط الإحصان منه وان منعوا ثبوت الحكم في حقهم فلم حكم به النبي صلى الله عليه و سلم ؟ ولا يصح القياس على إحصان القذف لأن من شرطه العفة وليست شرطا ههنا (10/125)
فصل : ارتداد المحصن لا يبطل إحصانه
فصل : ولو ارتد المحصن لم يبطل إحصانه فلو أسلم بعد ذلك كان محصنا وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يبطل لأن الاسلام عنده شرط في الإحصان وقد بينا أنه ليس بشرط ثم هذا داخل في عموم قوله عليه السلام : [ أو زنى بعد إحصان ] ولأنه زنى بعد الإحصان فكان حده الرجم كالذي لم يرتد فأما ان نقض الذمي العهد ولحق بدار الحرب بعد احصانه فسبي واسترق ثم أعتق احتمل أن لا يبطل إحصانه لأنه زنى بعد أحصانه فأشبه من ارتد واحتمل أن يبطل لأنه بطل بكونه رقيقا فلا يعود إلا بسبب جديد بخلاف من ارتد (10/127)
فصل : حكم ما لو زنى وله زوجة له منها ولد فقال : ما وطئتها
فصل : وإذا زنى وله زوجة له منها ولد فقال : ما وطئتها لم يرجم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يرجم لأن الولد لا يكون إلا من وطء فقد حكم بالوطء ضرورة الحكم بالولد
ولنا أن الولد يلحق بامكان الوطء واحتماله والإحصان لا يثبت إلا بحقيقة الوطء فلا يلزم من ثبوت ما يكتفى فيه بالامكان وجود ما تعتبر فيه الحقيقة وهو أحق الناس بهذا فانه قال : لو تزوج امرأة في مجلس الحاكم ثم طلقها فيه فأتت بولد لحقه مع العلم بأنه لم يطأها في الزوجية فكيف يحكم بحقيقة الوطء مع تحقق انتفائه وهكذا لو كان لامرأة ولدمن زوج فأنكرت أن يكون وطئها لم يثبت إحصانها لذلك (10/128)
فصل : حكم ما لو شهدت بينة الإحصان أنه دخل بزوجته
فصل : ولو شهدت بينة الإحصان أنه دخل بزوجته فقال أصحابنا : يثبت الإحصان به لأن المفهوم من لفظ الدخول كالمفهوم من لفظ المجامعة وقال محمد بن الحسن : لا يكتفى به حتى تقول جامعها أو باضعها أو نحوه لأن الدخول يطلق على الخلوة بها ولهذا تثبت بها أحكامه وهذا أصح القولين إن شاء الله تعالى فأما اذا قالت جامعها أو باضعها فلا نعلم خلافا في ثبوت الإحصان وهكذا ينبغي إذا قالت وطئها فان قالت باشرها أو مسها أو أصابها أو أتاها فينبغي أن لا يثبت به الإحصان لأن هذا يستعمل فيما دون الجماع في الفرج كثيرا فلا يثبت به الإحصان الذي يندرىء بالاحتمال (10/128)
فصل : إذا جلد الزاني على أنه بكر ثم بان محصنا رجم
فصل : وإذا جلد الزاني على أنه بكر ثم بان محصنا رجم لما روى جابر : أن رجلا زنى بامرأة فأمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلد الحد ثم أخبر أنه محصن فرجم رواه أبو داود ولأنه إن وجب الجمع بينهما فقد أتى ببعض الواجب فيجب إتمامه وإن لم يجب الجمع بينهما تبين أنه لم يأت بالحد الواجب فيجب أن يأتي به (10/128)
مسألة : لا خلاف في تغسيل الزانيين ودفنهما
مسألة : قال : ويغسلان ويكفنان ويصلى عليهما ويدفنان
لا خلاف في تغسيلهما ودفنهما وأكثر أهل العلم يرون الصلاة عليهما قال الإمام أحمد : [ سئل علي رضي الله عنه عن شراحة وكان رجمها فقال : اصنعوا بها كما تصنعون بموتاكم وصلى علي على شراحة ] وقال مالك : من قتله الامام في حد لا يصلى عليه [ لأن جابرا قال في حديث ماعز : فرجم حتى مات فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : خيرا ولم يصل عليه ] متفق عليه
ولنا ما روى أبو داود بإسناده [ عن عمران بن حصين في حديث الجهنية فأمر بها النبي صلى الله عليه و سلم فرجمت ثم أمرهم فصلوا عليها فقال عمر : يا رسول الله أتصلي عليها وقد زنت ؟ فقال : والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها ؟ ] ورواه الترمذي وفيه : [ فرجمت وصلى عليها ] وقال : حديث حسن صحيح وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ صلوا على من قال لا إله إلا الله ] ولأنه مسلم لو مات قبل الحد صلي عليه فيصلى عليه بعده كالسارق وأما خبر ماعز فيحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يحضره او اشتغل عنه بأمر أو غير ذلك فلا يعرض ما رويناه (10/129)
مسألة : إذا زنى الحر البكر جلد مائة وغرب عاما
مسألة : قال : وإذا زنى الحر البكر جلد مائة وغرب عاما
يعني لم يحصن وإن كان ثيبا وقد ذكرنا الإحصان وشروطه ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني إذا لم يكن محصنا وقد جاء بيان ذلك في كتاب الله تعالى بقوله سبحانه : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم موافقة لما جاء به الكتاب ويجب مع الجلد تغريبه عاما في قول جمهور العلماء روي ذلك عن الخلفاء الراشدين وبه قال أبي وأبو داود وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم وإليه ذهب عطاء و طاوس و الثوري و ابن أبي ليلى و الشافعي و أسحاق و ابو ثور وقال مالك و الأوزاعي : يغرب الرجل دون المرأة لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة ولأنها لا تخلو من التغريب بمحرم أو بغير محرم : لا يجوز التغريب بغير محرم لقول النبي خلى الله عليه وسلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة الا مع ذي محرم ] ولأن تغريبها بغير محرم إغراء لها بالفجور وتضييع لها وإن غربت بمحرم أفضى الى تغريب من ليس بزان ونفي من لا ذنب له وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به كما لو زاد ذلك على الرجل والخبر الخاص في التغريب إنما هو في حق الرجل وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم والعام يجوز تخصيصه لأنه يلزم من العمل بعمومه مخالفة مفهومه فإنه دل بمفهومه على أنه ليس على الزاني أكثر من العقوبة المذكورة فيه وإيجاب التغريب على المرأة يلزم منه الزيادة على ذلك وفوات حكمته لأن الحد وجب زجرا عن الزنا وفي تغريبها إغراء به وتمكين منه مع أنه قد يخصص في حق الثيب باسقاط الجلد في قول الأكثرين فتخصيصه ههنا أولى وقال أبو حنيفة : و محمد بن الحسن : لا يجب التغريب لأن عليا رضي اله عنه قال : حسبهما من الفتنة أن ينفيا وعن ابن المسيب أن عمر غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر : لا أغرب مسلما بعد هذا أبدا ولأن الله تعالى أمر بالجلد دون التغريب فايجاب التغريب زيادة على النص
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ] و [ روى أبو هريرة وزيد بن خالد أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أحدهما : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإنني افتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت رجالا من أهل العلم فقالوا : إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام والرجم على امرأة هذا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله عز و جل على ابنك جلد مائة وتغريب عام وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي إمرأة الآخر فان اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها ] متفق عليه وفي الحديث أنه قال : سألت رجالا من أهل العلم فقالوا إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام وهذا يدل على أن هذا كان مشهورا عندهم من حكم الله تعالى وقضاء رسوله صلى الله عليه و سلم وقد قيل أن الذي قال له هذا هو أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ولأن التغريب فعله الخلفاء الراشدون ولا نعرف لهم في الصحابة مخالفا فكان إجماعا ولأن الخبر يدل على عقوبتين في حق الثيب وكذلك في حق البكر وما رووه عن علي لا يثبت لضعف رواته وإرساله وقول عمر لا أغرب بعده مسلما فيحتمل أنه أراد تغريبه في الخمر الذي أصابت الفتنة ربيعة فيه وقول مالك يخالف عموم الخبر والقياس لأن ما كان حدا في الرجل يكون حدا في المرأة كسائر الحدود وقول مالك فيما يقع لي أصح الأقوال وأعدلها وعموم الخبر مخصوص بخبر النهي عن سفر المرأة بغير محرم والقياس على سائر الحدود لا يصح لأنه يستوي الرجل والمرأة في الضرر الحاصل بها بخلاف هذا الحد ويمكن قلب هذا القياس بأنه حد فلا تزاد فيها المرأة على ما على الرجل كسائر الحدود (10/129)
ثلاثة فصول : حكم التغريب وكيفيته للرجل وللمرأة
فصل : ويغرب البكر الزاني حولا كاملا فإن عاد قبل مضي الحول أعيد تغريبه حتى يكمل الحول مسافرا ويبني على ما مضى ويغرب الرجل إلى مسافة القصر لأن ما دونها في حكم الحضر بدليل أنه لا يثبت في حقه أحكام المسافرين ولا يستبيح شيئا من رخصهم فأما المرأة فان خرج معها محرمها نفيت الى مسافة القصر وإن لم يخرج معها محرمها فقد نقل عن أحمد أنها تغرب الى مسافة القصر كالرجل وهذا مذهب الشافعي
وروي عن أحمد أنها تغرب إلى دون مسافة القصر لتقرب من أهلها فيحفظونها ويحتمل كلام أحمد أن لا يشترط في التغريب مسافة القصر فانه قال في رواية الأثرم ينفى من عمله الى عمل غيره وقال أبو ثور و ابن المنذر : لو نفي الى قرية أخرى بينهما ميل أو أقل جاز وقال إسحاق : ويجوز أن ينفى من مصر الى مصر ونحوه قال ابن أبي ليلى لأن النفي ورد مطلقا غير مقيد فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم والقصر يسمى سفرا ويجوز فيه التيمم والنافلة على الراحلة ولا يحبس في البلد الذي نفي اليه وبهذا قال الشافعي وقال مالك : يحبس
ولنا أنه زيادة لم يرد بها الشرع فلا تشرع كالزيادة على العام
فصل : وإذا زنى الغريب غرب إلى بلد غير وطنه وإن زنى في البلد الذي غرب إليه غرب منه إلى غير البلد الذي غرب منه لأن الأمر بالتغريب يتناوله حيث كان ولأنه قد أنس بالبلد الذي سكنه فيبعد عنه
فصل : ويخرج مع المرأة محرمها حتى يسكنها في موضع ثم إن شاء رجع إذا أمن عليها وإن شاء أقام معها حتى يكمل حولها وإن أبى الخروج معها بذلت له الأجرة قال أصحابنا : وتبذل من مالها لأن هذا من مؤنة سفرها ويحتمل أن لا يجب ذلك عليها لأن الواجب عليها التغرب بنفسها فلم يلزمها زيادة عليه كالرجل ولان هذا من مؤنة إقامة الحد فلم يلزمها كأجرة الجلاد فعلى هذا تبذل الأجرة من بيت المال وعلى قول أصحابنا : إن لم يكن لها مال بذلت من بيت المال فإن أبى محرمها الخروج معها لم يجبر وإن لم يكن لها محرم غربت مع نساء ثقات والقول في أجرة من يسافر معها منهن كالقول في أجرة المحرم فان أعوز فقد قال أحمد : تبقى بغير محرم وهو قول الشافعي لأنه لا سبيل إلى تأخيره فأشبه سفر الهجرة والحج إذا مات محرمها في الطريق ويحتمل أن يسقط النفي إذا لم يجد محرما كما يسقط سفر الحج إذا لم يكن لها محرم فإن تغريبها إغراء لها بالفجور وتعريض لها للفتنة وعموم الحديث مخصوص بعموم النهي عن سفرها بغير محرم (10/132)
فصل : يجب أن يحضر الحد طائفة من المؤمنين
فصل : ويجب أن يحضر الحد طائفة من المؤمنين لقول الله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } قال أصحابنا : والطائفة واحد فما فوقه وهذا قول ابن عباس ومجاهد والظاهر أنهم أرادوا واحدا مع الذي يقيم الحد لأن الذي يقيم الحد حاصل ضرورة فيتعين صرف الأمر إلى غيره وقال عطاء و اسحاق : اثنان فان أراد به واحدا مع الذي يقيم الحد فهو مثل القول الأول وإن أرادا اثنين غيره فوجهه أن الطائفة اسم لما زاد على الواحد وأقله اثنان وقال الزهري : ثلاثة لأن الطائفة جماعة وأقل الجمع ثلاثة وقال مالك : أربعة لأنه العدد الذي يثبت به الزنا و للشافعي قولان كقول الزهري و مالك وقال ربيعة : خمسة وقال الحسن : عشرة وقال قتادة : نفر وإحتج أصحابنا بقول ابن عباس ولأن اسم الطائفة يقع على الواحد بدليل قول الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ثم قال : { فأصلحوا بين أخويكم } وقيل في قوله تعالى : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } أنه محسن بن حمير وحده ولا يجب أن يحضر الامام ولا الشهود وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر وقال أبو حنيفة : إن ثبت ببينة فعليها الحضور والبداءة بالرجم وإن ثبت باعتراف وجب على الإمام الحضور والبداءة بالرجم لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : الرجم رجمان فما كان منه باقرار فأول من يرجم الامام ثم الناس وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الناس رواه سعيد باسناده ولأنه إذا لم تحضر البينة ولا الامام كان ذلك شبهة والحد يسقط بالشبهات
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضرهما والحد ثبت باعترافهما وقال : [ يا أنيس اذهب الى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] ولم يحضرها ولأنه حد فلم يلزم أن يحضره الامام ولا البينة كسائر الحدود ولا نسلم أن تخلفهم عن الحضور ولا امتناعهم من البداءة بالرجم شبهة وأما قول علي رضي الله عنه فهو على سبيل الاستحباب والفضيلة قال أحمد : سنة الاعتراف أن يرجم الامام ثم الناس ولا نعلم خلافا في استحباب ذلك والأصل فيه قول علي رضي الله عنه [ وقد روي في حديث رواه أبو بكر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه رجم امرأة فحفر لها إلى التندوة ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ثم قال : ارموا واتقوا الوجه ] أخرجه أبو داود (10/133)
فصل : لا يقام الحد على حامل حتى تضع
فصل : ولا يقام الحد على حامل حتى تضع سواء كان الحمل من زنا أو غيره لا نعلم في هذا خلافا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحامل لا ترجم حتى تضع وقد [ روى بريدة أن امرأة من بني غامد قالت يا رسول الله طهرني قال : وما ذاك ؟ قالت : انها حبلى من زنا قال : أنت ؟ قالت : نعم فقال لها : ارجعي حتى تضعي ما في بطنك قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت قال : فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : قد وضعت الغامدية فقال : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من ترضعه فقام رجل من الأنصار فقال : إلي إرضاعه يا نبي الله قال : فرجمها ] رواه مسلم و أبو داود وروي أن امرأة زنت في أيام عمر رضي الله عنه فهم عمر برجمها وهي حامل فقال له معاذ : إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على حملها فقال : عجز النساء ان يلدن مثلك ولم يرجمها وعن علي مثله ولأن في إقامة الحد عليها في حال حملها إتلافا لمعصوم ولا سبيل إليه وسواء كان الحد رجما أو غيره لأنه لا يؤمن تلف الولد من سراية الضرب والقطع وربما سرى إلى نفس المضروب والمقطوع فيفوت الولد بفواته فاذا وضعت الولد فان كان الحد رجما لم ترجم حتى تسقيه اللبأ لأن الولد لا يعيش إلا به ثم إن كان له من يرضعه أو تكفل أحد برضاعه رجمت وإلا تركت حتى تفطمه لما ذكرنا من حديث الغامدية ولما روى أبو داود بإسناده عن بريدة أن [ امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : إني فجرت فوالله إني لحبلى فقال لها : ارجعي حتى تلدي فرجعت فلما ولدت أتته بالصبي فقال : ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين فأمر بها فحفر لها وأمر بها فرجمت وأمر بها فصلي عليها ودفنت وإن لم يظهر حملها لم تؤخر لاحتمال أن تكون حملت من الزنا لأن النبي صلى الله عليه و سلم رجم اليهودية والجهنية ولم يسأل عن استبرائهما وقال لأنيس : اذهب إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ولم يأمره بسؤالها عن استبرائها ] ورجم علي شراحة ولم يستبرئها وإن ادعت الحمل قبل قولها كما قبل النبي صلى الله عليه و سلم قول الغامدية وإن كان الحد جلدا فاذا وضعت الولد وانقطع النفاس وكانت قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحد وإن كانت في نفاسها أو ضعيفة يخاف تلفها لم يقم عليها الحد حتى تطهر وتقوى وهذا قول الشافعي و أبي حنيفة وذكر القاضي أنه ظاهر كلام الخرقي وقال أبو بكر : يقام عليها الحد في الحال بسوط يؤمن معه التلف فان خيف عليها من السوط أقيم بالعثكول يعني شمراخ النخل وأطراف الثياب لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بضرب المريض الذي زنا فقال : [ خذوا له مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة ]
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : [ إن أمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم زنت فأمرني أن أجلدها فاذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أحسنت ؟ ] رواه مسلم و النسائي و أبو داود ولفظه [ قال فأتيته فقال : يا علي أفرغت ؟ فقلت أتيتها ودمها يسيل فقال : دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد ] وفي حديث أبي بكرة أن [ المرأة انطلقت فولدت غلاما فجاءت به النبي صلى الله عليه و سلم فقال لها : انطلقي فتطهري من الدم ] رواه أبو داود ولأنه لو توالى عليه حدان فاستوفى أحدهما لم يستوف الثاني حتى يبرأ من الاول ولأن في تأخيره إقامة الحد على الكمال من غير إتلاف فكان أولى (10/134)
فصل : حكم إقامة الحد على المريض
فصل : والمريض على ضربين : أحدهما يرجى برؤه فقال أصحابنا : يقام عليه الحد ولا يؤخر كما قال أبو بكر في النفساء وهذا قول اسحاق و أبي ثور لأن عمر رضي الله عنه أقام الحد على قدامة بن مظعون في مرضه ولم يؤخره وانتشر ذلك في الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعا ولأن الحد واجب فلا يؤخر ما أوجبه الله بغير حجة قال القاضي وظاهر قول الخرقي تأخيره لقوله فيمن يجب عليه الحد : وهو صحيح عاقل وهذا قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لحديث علي رضي الله عنه في التي هي حديثة عهد بنفاس وما ذكرناه من المعنى وأما حديث عمر في جلد قدامة فإنه يحتمل أنه كان مرضا خفيفا لا يمنع من إقامة الحد على الكمال ولهذا لم ينقل عنه أنه خفف عنه في السوط وإنما اختار له سوطا وسطا كالذي يضرب به الصحيح ثم إن فعل النبي صلى الله عليه و سلم يقدم على فعل عمر مع أنه اختيار علي وفعله وكذلك الحكم في تأخيره لأجل الحر والبرد المفرط
الضرب الثاني : المريض الذي لا يرجى برؤه فهذا لا يقام عليه في الحال ولا يؤخر بسوط يؤمن معه التلف كالقضيب الصغير وشمراخ النخل فان خيف عليه من ذلك جمع ضغث فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة وبهذا قال الشافعي وأنكر مالك هذا وقال قد قال الله تعالى : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا جلدة واحدة
ولنا ما روى أبو امامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم أن [ رجلا منهم اشتكى حتى ضني فدخلت عليه امرأة فهش لها فوقع بها فسأل له رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه ضربة واحدة ] رواه أبو داود و النسائي وقال ابن المنذر في إسناده مقال ولأنه لا يخلو من أن يقام الحد على ما ذكرنا أو لا يقام أصلا أو يضرب ضربا كاملا لا يجوز تركه بالكلية لأنه يخالف الكتاب والسنة ولا يجوز جلده جلدا تاما لأنه يفضي إلى إتلافه فتعين ما ذكرناه وقولهم : هذا جلدة واحدة قلنا : يجوز أن يقام ذلك في حال العذر مقام مائة كما قال الله تعالى في حق أيوب : { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } وهذا أولى من ترك حده بالكلية أو قتله بما لا يوجب القتل (10/137)
مسألة : حد العبد والأمة إذا زنيا
مسألة : قال : وإذا زنا العبد والأمة جلد كل واحد منهما خمسين جلدة ولم يغربا
وجملته أن حد العبد والأمة خمسون جلدة بكرين كانا أو ثيبين في قول أكثر الفقهاء منهم عمر وعلي و ابن مسعود و الحسن و النخعي و مالك و الأوزاعي و أبو حنيفة و الشافعي و البتي و العنبري وقال ابن عباس و طاوس و أبو عبيد : إن كانا مزوجين فعليهما نصف الحد ولا حد على غيرهما لقول الله تعالى : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فدليل خطابه أنه لا حد على غير المحصنات وقال داود : على الأمة نصف الحد إذا زنت بعدما زوجت وعلى العبد جلد مائة بكل حال وفي الأمة إذا لم تزوج روايتان :
إحداهما : لا حد عليها والأخرى تجلد مائة لأن قول الله تعالى : { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ثم خرجت منه الأمة المحصنة بقوله : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } فيبقى العبد والأمة التي لم تحصن على مقتضى العموم ويحتمل دليل الخطاب في الأمة أن لا حد عليها لقول ابن عباس وقال أبو ثور : اذا لم يحصنا بالتزويج فعليهما نصف الحد وإن أحصنا فعليهما الرجم لعموم الاخبار فيه ولأنه حد لا يتبعض فوجب تكميله كالقطع في السرقة
أقسام : أحدها أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان : أحدها أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن ويشرب ويقتل في المحاربة فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا قول ابن مسعود و عطاء و الشعبي و النخعي و الأوزاعي و مالك و حماد و أبي حنيفة وقال الشافعي : تستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا
ولنا قول ابن مسعود قال سعيد حدثنا حسان بن منصور حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن عبد الله قال : إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك وقال ابراهيم : يكفيه القتل وحدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن ابراهيم و الشعبي و عطاء أنهم قالوا مثل ذلك وهذه أقوال انتشرت في عهد الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف فكان إجماعا ولأنها حدود لله فيها قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال فإنه يكتفى بقتله ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر ومع القتل لا حاجة الى زجره لأنه لا فائدة فلا يشرع فيه ويفارق القصاص فان فيه غرض التشفي والانتقام ولا يقصد فيه مجرد الزجر إذا ثبت هذا فانه اذا وجب ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص وإنما أثرت المحاربة تحتمه وحق الآدمي يجب تقديمه
ولنا ما روى ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد وسئل قالوا [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال : إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير ] متفق عليه قال ابن شهاب : وهذا نص في جلد الأمة إذا لم تحصن وهو حجة على ابن عباس وموافقيه و داود وجعل داود عليها مائة إذا لم تحصن وخمسين إذا كانت محصنة خلاف ما شرع الله تعالى فان الله تعالى ضاعف عقوبة المحصنة على غيرها فجعل الرجم على المحصنة والجلد على البكر و داود ضاعف عقوبة البكر على المحصنة واتباع شرع الله أولى وأما دليل الخطاب فقد روي عن ابن مسعود رحمه الله أنه قال : إحصانها إسلامها و أقراؤها بفتح الألف ثم دليل الخطاب إنما يكون دليلا إذا لم يكن للتخصيص بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم ومتى كانت له فائدة أخرى لم يكن دليلا مثل أن يخرج مخرج الغالب أو للتنبيه أو لمعنى من المعاني وقد قال الله تعالى : { وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم } ولم يختص التحريم باللاتي في حجوركم وقال : { وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } وحرم حلائل الأبناء من الرضاع وأبناء الأبناء وقال : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وأبيح القصر بدون الخوف وأما العبد فلا فرق بينه وبين الأمة فالتنصيص على أحدهما يثبت حكمه في حق الآخر كما أن قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من اعتق شركا له في عبد ] ثبت حكمه في حق الأمة ثم إن المنطوق أولى منه على كل حال وأما أبو ثور فخالف نص قوله تعالى : { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وعمل به فيما لم يتناوله النص وخرق الاجماع في إيجاب الرجم على المحصنات كما خرق داود الاجماع في تكميل الجلد على العبيد وتضعيف حد الابكار على المحصنات (10/138)
فصل : لا تغريب على عبد ولا أمة
فصل : ولا تغريب على عبد ولا أمة وبهذا قال الحسن و حماد و مالك و اسحاق وقال الثوري و أبو ثور : يغرب نصف عام لقوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } وحد ابن عمر مملوكة له ونفاها الى فدك وعن الشافعي قولان كالمذهبين واحتج من أوجبه بعموم قوله عليه السلام : [ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ]
ولنا الحديث المذكور في حجتنا ولم يذكر فيه تغريبا ولو كان واجبا لذكره لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقته [ وحديث علي رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس أقيموا على ارقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : زنت فامرني أن اجلدها ] وذكر الحديث رواه أبو داود ولم يذكر أنه غربها وأما الآية فإنها حجة لنا لأن العذاب المذكور في القرآن مائة جلدة لا غير فينصرف التصنيف إليه دون غيره بدليل أنه لم ينصرف إلى تصنيف الرجم ولأن التغريب في حق العبد عقوبة لسيده دونه فلم يجب في الزنا كالتغريم بيان ذلك أن العبد لا ضرر عليه في تغريبه لأنه غريب في موضعه ويترفه بتغريبه من الخدمة ويتضرر سيده بتفويت خدمته والخطر بخروجه من تحت يده والكلفة في حفظه والإنفاق عليه مع بعده عنه فيصير الحد مشروعا في حق غير الزاني والضرر على غير الجاني وما فعل ابن عمر ففي حق نفسه وإسقاط حقه وله فعل ذلك من غير زنا ولا جناية فلا يكون حجة في حق غيره (10/140)
فصل : حد العبد إذا زنى ثم عتق
فصل : وإذا زنى العبد ثم عتق حد حد الرقيق لأنه إنما يقام عليه الحد الذي وجب عليه ولو زنى حر ذمي ثم لحق بدار الحرب ثم سبي واسترق حد حد الاحرار لانه وجب عليه وهو حر ولو كان أحد الزانيين رقيقا والآخر حرا فعلى كل واحد منهما حده ولو زنى بكر بثيب حد كل واحد منهما حده لأن كل واحد منهما إنما تلزمه عقوبة جنايته ولو زنى بعد العتق وقبل العلم به فعليه حد الاحرار لأنه زنى وهو حر وإن أقيم عليه حد الرقيق قبل العلم بحريته ثم علمت بعد تمم عليه حد الاحرار وإن عفا السيد عن عبده لم يسقط عنه الحد في قول عامة أهل العلم إلا الحسن قال : يصح عفوه وليس بصحيح لأنه حق لله تعالى فلا يسقط باسقاط سيده كالعبادات وكالحر إذا عفا عنه الامام (10/142)
فصل : للسيد إقامة الحد على عبده القن بالجلد وشروط ذلك
فصل : وللسيد إقامة الحد بالجلد على رقيقة القن في قول أكثر العلماء روي نحو ذلك عن علي و ابن مسعود و ابن عمر و أبي حميد و أبي أسيد الساعديين وفاطمة ابنة النبي صلى الله عليه و سلم وعلقمة والأسود و الزهري وهبيرة بن مريم وأبي ميسرة و مالك و الثوري و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر
وقال ابن أبي ليلى : أدركت بقايا الانصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم الحدود إذا زنوا وعن الحسن بن محمد أن فاطمة حدت جارية لها زنت وعن ابراهيم أن علقمة والأسود كانا يقيمان الحدود على من زنى من خدم عشائرهم روى ذلك سعيد في سننه
وقال أصحاب الرأي : ليس له ذلك لأن الحدود الى السلطان ولأن من لا يملك إقامة الحد على الحر لا يملكه على العبد كالصبي ولأن الحد لا يجب إلا ببينة أو إقرار ويعتبر لذلك شروط من عدالة الشهود ومجيئهم مجتمعين أو في مجلس واحد وذكر حقيقة الزنا وغير ذلك من الشروط التي تحتاج الى فقيه يعرفها ويعرف الخلاف فيها والصواب منها وكذلك الاقرار فينبغي أن يفوض ذلك الى الامام أو نائبه كحد الأحرار ولأنه حد هو حق لله تعالى فيفوض الى الإمام كالقتل والقطع
ولنا ما روى سعيد حدثنا سفيان عن أيوب بن أبي موسى عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا زنت أمة أحدكم فتيقن زناها فليجلدها ولا يثرب بها فان عادت فليجلدها ولا يثرب بها فإن عادت فليجلدها ولا يثرب بها فان عادت الرابعة فليجلدها وليبعها ولو بضفير ] وقال : حدثنا أبو الأحوص حدثنا عبد الأعلى عن أبي جميلة عن علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أقيموا الحدود على من ملكت أيمانكم ] رواه الدارقطني ولأن السيد يملك تأديب أمته وتزويجها فملك إقامة الحد عليها كالسلطان وفارق الصبي
إذا ثبت هذا فانما يملك إقامة الحد بشروط أربعة أحدها أن يكون جلدا كحد الزنا والشرب وحد القذف فأما القتل في الردة والقطع في السرقة فلا يملكها إلا الامام وهذا قول أكثر أهل العلم وفيهما وجه آخر أن السيد يملكها وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] وروي أن ابن عمر قطع عبدا سرق وكذلك عائشة وعن حفصة أنها قتلت أمة لها سحرتها ولأن ذلك حد أشبه الجلد وقال القاضي : كلام أحمد يقتضي أن في قطع السارق روايتين
ولنا أن الأصل تفويض الحد الى الامام لأنه حق لله تعالى فيفوض الى نائبه كما في حق الاحرار ولما ذكره أصحاب أبي حنيفة وإنما فوض الى السيد الجلد خاصة لأنه تأديب والسيد يملك تأديب عبده وضربه على الذنب وهذا من جنسه وإنما افترقا في أن هذا مقدر والتأديب غير مقدر وهذا لا أثر له في منع السيد منه بخلاف القطع والقتل فانهما اتلاف لجملته أو بعضه الصحيح ولا يملك السيد هذا من عبده ولا شيئا من جنسه والخبر الوارد في حد السيد عبده إنما جاء في الزنا خاصة وإنما قسنا عليه ما يشبهه من الجلد وقوله : [ أقيموا الحدود على ما ملكت ايمانكم ] إنما جاء في سياق الجلد في الزنا فان أول الحديث عن علي قال : [ أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأمة لهم فجرت فأرسلني إليها فقال : اجلدها الحد قال : فانطلقت فانطلقت فوجدتها لم تجف من دمها فرجعت اليه فقال : أفرغت ؟ فقلت : وجدتها لم تجف من دمها قال : إذا جفت من دمها فاجلدها الحد وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] فالظاهر أنه إنما أراد ذلك الحد وشبهه واما فعل حفصة فقد أنكره عثمان عليها وشق عليه وقوله أولى من قولها وما روي عن ابن عمر فلا نعلم ثبوته عنه الشرط الثاني أن يختص السيد بالمملوك فان كان مشتركا بين اثنين أو كانت الأمة مزوجة وكان المملوك مكاتبا أو بعضه حرا لم يملك السيد اقامة الحد عليه وقال مالك و الشافعي : يملك السيد إقامة الحد على الأمة المزوجة لعموم الخبر ولأنه مختص بملكها وإنما يملك الزوج بعض نفعها فأشبهت المستأجرة
ولنا ما روي عن ابن عمر أنه قال : إذا كانت الأمة ذات زوج رفعت الى السلطان وإن لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن ولم نعرف له مخالفا في عصره فكان إجماعا ولأأن نفعها مملوك لغيره مطلقا أشبهت المشتركة ولأن المشترك إنما منع من إقامة الحد عليه لأنه يقيمه في غير ملكه فان الجزء الحر أو المملوك لغيره ليس بمملوك له وهو يقيم الحد عليه وهذا يشبهه لأن محل الحد هو محل استمتاع الزوج وهو بدنها فلا يملكه والخبر مخصوص بالمشترك فنقيس عليه والمستأجرة إجارتها مؤقتة تنقضي ويحتمل أن نقول لا يملك إقامته عليها في حال إجارتها لأنه ربما أفضى الى تفويض حق المستأجر وكذلك الأمة المرهونة يخرج فيها وجهان
الشرط الثالث : أن يثبت الحد ببينة أو اعتراف فان ثبت باعتراف فللسيد إقامته إذا كان يعرف الاعتراف الذي يثبت به الحد وشروطه وان ثبت ببينة اعتبر أن يثبت عند الحاكم لأن البينة تحتاج الى البحث عن العدالة ومعرفة شروط سماعها ولفظها ولا يقوم بذلك إلا الحاكم وقال القاضي يعقوب : إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد بها كما يقيمه بالاقرار وهذا ظاهر نص الشافعي لأنها أحد ما يثبت به الحد فأشبهت الاقرار ولا يقيم السيد الحد بعلمه وهذا قول مالك لأنه لا يقيمه الامام بعلمه فالسيد أولى فان ولاية الامام للحد أقوى من ولاية السيد لكونها متفقا عليها وثابتة بالاجماع فاذا لم يثبت الحد في حقه بالعلم فههنا أولى وعن أحمد رواية أخرى أنه يقيمه بعلمه لأنه قد ثبت عنده فملك إقامته كما لو أقر به ويفارق الحاكم لأن الحاكم متهم ولا يملك إقامته وهذا بخلافه
الشرط الرابع : أن يكون السيد بالغا عاقلا عالما بالحدود وكيفية إقامتها لأن الصبي والمجنون ليسا من أهل الولايات والجاهل بالحد لا يمكنه إقامته على الوجه الشرعي فلا يفوض إليه وفي الفاسق وجهان أحدهما لا يملكه لأن هذه ولاية فنافاها الفسق كولاية التزويج والثاني يملكه لأن هذه ولاية استفادها بالملك فلم ينافها الفسق كبيع العبد وإن كان مكاتبا ففيه احتمالان أحدهما : لا يملكه لأنه ليس من أهل الولاية والثاني يملكه لأنه يستفاد بالملك فأشبه سائر تصرفاته وفي المرأة أيضا احتمالان : أحدهما لايملكه لأنها ليست من أهل الولايات والثاني تملكه لأن فاطمة جلدت أمة لها وعائشة قطعت أمة لها سرقت وحفصة قتلت أمة لها سحرتها ولأنها مالكة تامة الملك من أهل التصرفات أشبهت الرجل وفيه وجه ثالث أن الحد يفوض إلى وليها لأنه يزوج أمتها ومولاتها فملك إقامة الحد على مملوكتها (10/142)
فصل : إذا فجر العبد بأمة ثم قتلها وجب عليه الحد
فصل : وان فجر بأمة ثم قتلها فعليه الحد وقيمتها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وقال أبو يوسف : إذا وجبت عليه قيمتها أسقطت الحد عنه لأنه يملكها بغرامته لها فيكون ذلك شبهة في سقوط الحد
ولنا أن الحد وجب عليه فلم يسقط بقتل المزني بها كما لو كانت حرة فغرم ديتها وقولهم انه يملكها غير صحيح لأنه إنما غرمها بعد قتلها ولم يبق محلا للملك ثم لو ثبت أنه ملكها فإنما ملكها بعد وجوب الحد فلم يسقط عنه الحد كما لو اشتراها ولو زنى بأمة ثم اشتراها لم يسقط عنه الحد مع ثبوت حقيقة الملك له فههنا أولى ولو زنى بأمة ثم غصبها فأبقت من يده ثم غرمها لم يسقط عنه الحد لأنه إذا لم يسقط بالملك المتفق عليه فبالمختلف فيه أولى (10/146)
فصل : إذا زنى من نصفه حر ونصفه رقيق فلا رجم عليه
فصل : واذا زنى من نصفه حر ونصفه رقيق فلا رجم عليه لأنه لم تكمل الحرية فيه وعليه نصف حد الحر خمسون جلدة ونصف حد العبد خمس وعشرون فيكون عليه خمس وسبعون جلدة ويغرب نصف عام نص عليه أحمد ويحتمل أن لا يغرب لأن حق السيد في جميع الزمان ونصيبه من العبد لا تغريب عليه فلا يلزمه ترك حقه في بعض الزمان بما لا يلزمه ولا تأخير حقه بالمهايأة من غير رضاه وإن قلنا بوجوب تغريبه فينبغي أن يكون زمن التغريب محسوبا على العبد من نصيبه الحر وللسيد نصف عام بدلا عنه وما زاد من الحرية أو نقص منها فبحساب ذلك فان كان فيها كسر مثل أن يكون ثلثه حرا فمقتضى ما ذكرناه أن يلزمه ثلثا جلد الحر وهو ست وستون جلدة وثلثان فينبغي أن يسقط الكسر لأن الحد متى دار بين الوجوب والإسقاط سقط والمدبر والمكاتب وأم الولد بمنزلة القن في الحد لأنه رقيق كله وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] (10/147)
مسألة : الزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر
مسألة : قال : والزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر
لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطىء امرأة من قبلها حراما ولا شبهة له في وطئها أنه زان يجب عليه حد الزنا إذا كملت شروطه والوطء في الدبر مثله في كونه زنا لأنه وطء في فرج امرأة لا ملك له فيها ولا شبهة ملك فكان الزنا كالوطء في القبل ولأن الله تعالى قال : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } الآية ثم بين النبي صلى الله عليه و سلم أنه قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والوطء في الدبر فاحشة بقوله تعالى في قوم لوط : { أتأتون الفاحشة ؟ } يعني الوطء في أدبار الرجال ويقال أول ما بدأ قوم لوط بوطء النساء في أدبارهن ثم صاروا إلى ذلك في الرجال (10/147)
فصل : حكم من وطىء ميتة
فصل : وان وطىء ميتة ففيه وجهان : أحدهما عليه الحد وهو قول الأوزاعي لأنه وطء في فرج آدمية فأشبه وطء الحية ولأنه أعظم ذنبا وأكثر إثما لأنه انضم الى فاحشة هتك حرمة الميتة والثاني لا حد عليه وهو قول الحسن قال أبو بكر : وبهذا أقول لأن الوطء في الميتة كلا وطء لأنه عضو مستهلك ولأنها لا يشتهى مثلها وتعافها النفس فلا حاجة الى شرع الزجر عنها والحد إنما وجب زجرا وأما الصغيرة فان كانت ممن يمكن وطؤها فوطؤها زنا يوجب الحد لأنها كالكبيرة في ذلك وإن كانت ممن لا يصلح للوطء ففيها وجهان كالميتة قال القاضي : لا حد على من وطىء صغيرة لم تبلغ تسعا لأنها لا يشتهى مثلها فأشبه ما لو أدخل أصبعه في فرجها وكذلك لو استدخلت امرأة ذكر صبي لم يبلغ عشرا لا حد عليها والصحيح أنه متى أمكن وطؤها وامكنت المرأة من أمكنه الوطؤ فوطئها أن الحد يجب على المكلف منهما فلا يجوز تحديد ذلك بتسع ولا عشر لأن التحديد إنما بكون بالتوقيف ولا توقيف في هذا وكون التسع وقتا لإمكان لاستمتاع غالبا لا يمنع وجوده قبله كما أن البلوغ يوجد في خمسة عشرة عاما غالبا ولم يمنع من وجوده قبله (10/148)
فصل : حكم ما لو تزوج ذات محرمه
فصل : وان تزوج ذات محرمه فالنكاح باطل بالاجماع فان وطئها فعليه الحد في قول أكثر أهل العلم منهم الحسن و جابر بن زيد و مالك و الشافعي و أبو سيف و محمد و إسحاق و أبو أيوب و ابن أبي خيثمة وقال أبو حنيفة و الثوري : لا حد عليه لأنه وطء تمكنت الشبهة منه فلم يوجب الحد كما لو اشترى اخته من الرضاع ثم وطئها وبيان الشبهة أنه قد وجدت صورة المبيح وهو عقد النكاح الذي هو سبب للاباحة فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد الذي يندرىء بالشبهات
ولنا أنه وطء في فرج امرأة مجمع على تحريمه من غير ملك ولا شبهة ملك والواطىء من أهل الحد عالم بالتحريم فيلزمه الحد كما لو لم يوجد العقد وصورة المبيح إنما تكون شبهة إذا كانت صحيحة والعقد ههنا باطل محرم وفعله جناية تقتضي العقوبة انضمت الى الزنا فلم تكن شبهة كما لو أكرهها وعاقبها ثم زنى بها ثم يبطل بالاستيلاء عليها فان الاستيلاء سبب للملك في المباحات وليس بشبهة وأما إذا اشترى اخته من الرضاع فلنا فيه منع وإن سلمنا فان الملك المقتضي للاباحة صحيح ثابت وإنما تخلفت الاباحة لمعارض بخلاف مسألتنا فان المبيح غير موجود لأن عقد النكاح باطل والملك به غير ثابت فالمقتضي معدوم فافترقا فأشبه ما لو اشترى خمرا فشربه أو غلاما فوطئه إذا ثبت هذا فاختلف في الحد فروي عن أحمد أنه يقبل على كل حال وبهذا قال جابر بن زيد و اسحاق و أبو أيوب و ابن خيثمة وروى إسماعيل بن سعيد عن أحمد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم فقال : يقتل ويؤخذ ماله الى بيت المال
والرواية الثانية : حده حد الزاني وبه قال الحسن و مالك و الشافعي لعموم الآية والخبر ووجه الأولى ما [ روى البراء قال : لقيت عمي ومعه الراية فقلت : إلى أين تريد ؟ فقال : بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى رجل نكح امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه وآخذ ماله ] رواه أبو داود و الجوزجاني و ابن ماجة و الترمذي وقال : حديث حسن وسمى الجوزجاني عمه الحارث بن عمرو
وروى الجوزجاني و ابن ماجة باسنادهما عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من وقع على ذات محرم فاقتلوه ] ورفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها فقال : احبسوه وسلوا من ههنا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فسألوا عبد الله بن أبي مطرف فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من تخطى المؤمنين فخطوا وسطه بالسيف ] وهذه الأحاديث أخص مما ورد في الزنا فتقدم والقول فيمن زنى بذات محرمه من غير عقد كالقول فيمن وطئها بعد العقد (10/148)
فصل : كل نكاح أجمع على بطلانه فهو زنا
فصل : وكل نكاح أجمع على بطلانه كنكاح خامسة أو متزوجة أو معتدة أو نكاح المطلقة ثلاثا إذا وطىء فيه عالما بالتحريم فهو زنا موجب للحد المشروع فيه قبل العقد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا حد فيه لما ذكروه في الفصل الذي قبل هذا وقال النخعي : يجلد مائة ولا ينفى
ولنا ماذكرناه فيما مضى وروى أبو نصر المروذي باسناده عن عبيد بن نضيلة قال : رفع إلى عمر بن الخطاب إمرأة تزوجت في عدتها فقال : هل علمتما ؟ فقالا : لا قال : لو علمتما لرجمتكما فجلده أسواطا ثم فرق بينهما وروى أبو بكر باسناده عن خلاس قال : رفع إلى علي عليه السلام امرأة تزوجت ولها زوج كتمته فرجمها وجلد زوجها الآخر مائة جلدة فإن لم يعلم تحريم ذلك فلا حد عليه لعذر الجهل ولذلك درأ عمر عنهما الحد لجهلهما (10/150)
فصل : لا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه
فصل : ولا يجب الحد بالوطء في نكاح مختلف فيه كنكاح المتعة والشغار والتحليل والنكاح بلا ولي ولا شهود ونكاح الأخت في عدة اختها البائن ونكاح الخامسة في عدة الرابعة البائن ونكاح المجوسية وهذا قول أكثر أهل العلم لأن الاختلاف في إباحة الوطء فيه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرأ بالشبه (10/151)
فصل : لا يجب الحد بوطء جارية مشتركة بينه وبين غيره
فصل : ولا يجب الحد بوطء جارية مشتركة بينه وبين غيره وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور : يجب ولنا أنه فرج له ملك فلا يحد بوطئه كالمكاتبة والمرهونة (10/151)
فصل : حكم ما لو اشترى أمه أو أخته من الرضاعة ونحوهما ووطئهما
فصل : وان اشترى أمه أو أخته من الرضاعة ونحوهما ووطئهما فذكر القاضي عن أصحابنا ان عليه الحد لأنه فرج لا يستباح بحال فوجب الحد بالوطء كفرج الغلام وقال بعض أصحابنا : لا حد فيه وهو قول أصحاب الرأي و الشافعي لأنه وطء في فرج مملوك له يملك المعاوضة عنه وأخذ صداقه فلم يجب به الحد كوطء الجارية المشتركة فأما إن اشترى ذات محرمه من النسب ممن يعتق عليه ووطئها فعليه الحد لا نعلم فيه خلافا لأن الملك لا يثبت فيها فلم توجد الشبهة (10/151)
فصل : حكم ما إذا زفت إليه غير زوجته
فصل : فان زفت اليه غير زوجته وقيل هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه لا نعلم فيه خلافا وان لم يقل له هذه زوجتك أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته أو جاريته فوطئها أو دعا زوجته أو جاريته فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها أو اشتبه عليه ذلك لعماه فلا حد عليه وبه قال الشافعي وحكي عن أبي حنيفة أن عليه الحد لأنه وطىء في محل لا ملك له فيه
ولنا أنه وطء اعتقد إباحته بما يعذر مثله فيه فأشبه ما لو قيل له هذه زوجتك ولأن الحدود تدرأ بالشبهات وهذه من أعظمها فأما إن دعا محرمة عليه فأجابه غيرها فوظئها يظنها المدعوة فعليه الحد سواء كانت المدعوة ممن له فيها شبهة كالجارية المشتركة أو لم يكن لأنه لا يعذر بهذا فأشبه ما ولو قتل رجلا يظنه ابنه أو عبده فبان أجنبيا (10/151)
فصل : لا حد على من لم يعلم تحريم الزنا
فصل : ولا حد على من لم يعلم تحريم الزنا قال عمر وعثمان وعلي : لا حد إلا على من علمه وبهذا قال عامة أهل العلم فان ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث العهد بالاسلام والناشىء ببادية قبل منه لأنه يجوز أن يكون صادقا وإن كان ممن لا يخفى عليه ذلك كالمسلم الناشىء بين المسلمين وأهل العلم لم يقبل لأن تحريم الزنا لا يخفى على من هو كذلك فقد علم كذبه وإن ادعى الجهل بفساد نكاح باطل قبل قوله ولأن عمر قبل قول المدعي الجهل بتحريم النكاح في العدة ولأن مثل هذا يجهل كثيرا ويخفى على غير أهل العلم (10/152)
فصل : حكم من وطىء جارية غيره
فان وطىء جارية غيره فهو زان سواء كان ياذنه أو غير إذنه لأن هذا مما لا يستباح بالبذل والإباحة وعليه الحد إلا في موضعين : أحدهما الأب إذا وطىء جارية ولده فانه لا حد عليه في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأهل المدينة و الأوزاعي و الشافعي و أصحاب الرأي وقال أبو ثور و ابن المنذر : عليه الحد إلا أن يمنع منه إجماع لأنه وطء في غير ملك أشبه وطء جارية أبيه
ولنا أنه وطء تمكنت الشبهة منه فلا يجب به الحد كوطء الجارية المشتركة والدليل على تمكن الشبهة قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت ومالك لأبيك ] فأضاف مال ولده اليه وجعله له فاذا لم تثبت حقيقة الملك فلا أقل من جعله شبهة دارئة للحد الذي يندرىء بالشبهات ولأن القائلين بانتفاء الحد في عصر مالك و الأوزاعي ومن وافقهما قد اشتهر قولهم ولم يعرف لهم مخالف فكان ذلك إجماعا ولا حد على الجارية لأن الحد انتفى عن الواطىء لشبهة الملك فينتفي عن الموطوءة كوطء الجارية المشتركة ولان الملك من قبيل المتضايقات إذا ثبت في أحد المتضايفين ثبت في الآخر فكذلك شبهته ولا يصح القياس على وطء جارية الاب لأنه لا ملك للولد فيها ولا شبهة ملك بخلاف مسألتنا وذكر ابن أبي موسى قولا في وطء جارية الأب والأم أنه لا يحد لأنه لا يقطع بسرقة ماله أشبه الاب والأول أصح وعليه عامة أهل العلم فيما علمناه
الموضع الثاني : إذا وطىء جارية امرأته بإذنها فانه يجلد مائة ولا يرجم ان كان ثيبا ولا يغرب ان كان بكرا وإن لم تكن أحلتها له فهو زان حكمه حكم الزاني بجارية الاجنبي وحكي عن النخعي أنه يعزز ولا حد عليه لأنه يملك امرأته فكانت له شبهة في مملوكتها وعن عمر وعلي و عطاء و قتادة و الشافعي و مالك أنه كوطء الاجنبية سواء أحلتها له أو لم تحلها لأنه لا شبهة له فيها فأشبه وطء جارية أخته ولأنه إباحة لوطء محرمة عليه فلم يكن شبهة كاباحة سائر الملاك
وعن ابن مسعود و الحسن إن كان استكرهها فعليه غرم مثلها وتعتق فان كانت طاوعته فعليه غرم مثلها ويملكها لأن هذا يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم وقد رواه ابن عبد البر وقال : هذا حديث صحيح
ولنا ما روى أبو داود باسناده [ عن حبيب بن سالم أن رجلا يقال له عبد الرحمن بن حنين وقع على جارية امرأته فرفع إلى النعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال : لأقضين فيك بقضية رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كانت أحلتها لك جلدناك مائة وإن لم تكن أحلتها لك رجمناك بالحجارة فوجدوها أحلتها له فجلده مائة ] وإن علقت من هذا الوطء فهل يلحقه النسب ؟ على روايتين :
إحداهما : يلحق به لانه وطء لا يجب به الحد فلحق به النسب كوطء الجارية المشتركة والأخرى لا يلحق به لأنه وطء في غير ملك ولا شبهة ملك أشبه الزنا المحض (10/152)
فصل : لا حد على مكرهة في قول أهل العلم
فصل : ولا حد على مكرهة في قول عامة اهل العلم روي ذلك عن عمر و الزهري و قتادة و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه أن امرأة استكرهت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فدرأ عنها الحد رواه الأثرم قال : وأتي عمر باماء من اماء الامارة استكرهن غلمان من غلمان الامارة فضرب الغلمان ولم يضرب الاماء
وروى سعيد باسناده عن طارق بن شهاب قال : أتي عمر بامرأة قد زنت فقالت : إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل قد جثم علي فخلى سبيلها ولم يضربها ولأن هذا شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولا فرق بين الاكراه بالإلجاء وهو أن يغلبها على نفسها وبين الإكراه بالتهديد بالقتل ونحوه نص عليه أحمد في راع جاءته امرأة قد عطشت فسألته أن يسقيها فقال لها أمكنيني من نفسك قال : هذه مضطرة وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة استسقت راعيا فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من نفسها ففعلت فرفع ذلك إلى عمر فقال لعلي ما ترى فيها ؟ قال : انها مضطرة فأعطاها عمر شيئا وتركها (10/154)
فصل : حكم ما لو أكره الرجل فزنى
فصل : وإن أكره الرجل فزنى فقال أصحابنا : عليه الحد وبه قال محمد بن الحسن و أبو ثور لأن الوطء لا يكون الا بالانتشار والاكراه ينافيه فإذا وجد الانتشار انتفى الاكراه فيلزمه الحد كما لو أكره على غير الزنا فزنى وقال أبو حنيفة : إن أكرهه السلطان فلا حد عليه وإن أكرهه غيره حد إستحسانا وقال الشافعي و ابن المنذر : لا حد عليه لعموم الخبر ولأن الحدود تدرأ بالشبهات والاكراه شبهة فيمنع الحد كما لو كانت امرأة يحققه ان الإكراه إذا كان بالتخويف أو يمنع ما تفوت حياته بمنعه كان الرجل فيه كالمرأة فاذا لم يجب عليها الحد لم يجب عليه وقولهم إن التخويف ينافي الانتشار لا يصح لأن التخويف بترك الفعل والفعل لا يخاف منه فلا يمنع ذلك وهذا أصح الأقوال إن شاء الله تعالى (10/155)
مسألة : حكم من قام باللواط
مسألة : قال : ومن تلوط قتل بكرا كان أو ثيبا في إحدى الروايتين و الأخرى حكمه حكم الزاني
أجمع أهل العلم على تحريم اللواط وقد ذمه الله تعالى في كتابه وعاب من فعله وذمه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال الله تعالى : { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط لعن الله من عمل عمل قوم لوط ] واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في حده فروي عنه أن حده الرجم بكرا كان او ثيبا وهذا قول علي وابن عباس وجابر بن زيد وعبد الله بن معمر والزهري وابي حبيب وربيعة و مالك و اسحاق وأحد قولي الشافعي و قتادة و الاوزاعي و أبو يوسف و محمد بن الحسن و أبو ثور وهو المشهور من قولي الشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا اتى الرجل الرجل فهما زانيان ] ولانه إيلاج فرج آدمي في فرج آدمي لا ملك له فيه ولا شبهة ملك فكان زنا كالايلاج في فرج المرأة إذا ثبت كونه زنا دخل في عموم الآية والاخبار فيه ولأنه فاحشة فكان زنا كالفاحشة بين الرجل والمرأة وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أمر بتحريق اللوطي وهو قول ابن الزبير لما روى صفوان بن سليم عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلا ينكح كما تنكح المرأة فكتب الى أبي بكر فاستشار أبو بكر رضي الله عنه الصحابة فيه فكان علي أشدهم قولا فيه فقال : ما فعل هذا إلا أمة من الأمم واحدة وقد علمتم ما فعل الله بها أرى أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فحرقه وقال الحكم و أبو حنيفة : لا حد عليه لأنه ليس بمحل الوطء أشبه غير الفرج
ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] رواه أبو داود وفي لفظ [ فاجموا الأعلى والاسفل ] ولأنه إجماع لاصحابة رضي الله عنهم فانهم أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في صفته واحتج أحمد رأي الله عنه يقول على عليه السلام وأنه كان يرى رجمه ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب من فعل فعلهم بمثل عقوبتهم وقول من اسقط الحد عنه يخالف النص والاجماع وقياس الفرج على غيره لا يصح لما بينهما من الفرق إذا ثبت هذا فلا فرق بين أن يكون في مملوك له أو أجنبي ولا حد فيه لأن الذكر ليس بمحل لوطء الذكر فلا يؤثر ملكه له ولو وطىء زوجته أو مملوكته في دبرها كان محرما ولا حد فيه لان المرأة محل للوطء في الجملة وقد ذهب بعض العلماء الى حله فكان ذلك شبهة مانعة من الحد بخلاف التلوط (10/155)
فصل : حكم المساحقة
فصل : وان تدالكت امرأتان فهما زانيتان ملعونتان لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان ] ولا حد عليهما لانه لا يتضمن إيلاجا فأشبه المباشرة دون الفرج وعليهما التعزير لأنه زنا لا حد فيه فأشبه مباشرة الرجل المرأة من غير جماع ولو باشر الرجل المرأة فاستمتع بها فيما دون الفرج فلا حد عليه لما [ روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله اني لقيت امرأة فأصبت منها كل شيء إلا الجماع فانزل الله تعالى : { أقم الصلاة } الآية فقال الرجل : ألي هذه الآية ؟ فقال : لمن عمل بها من امتي ] رواه النسائي ولو وجد رجل مع امرأة يقبل كل واحد منهما صاحبه ولم يعلم هل وطئها أو لا فلا حد عليهما فان قالا نحن زوجان واتفقا على ذلك فالقول قولهما وبه قال الحكم و حماد و الشافعي وأصحاب الرأي وان شهد عليهما بالزنا فقالا نحن زوجان فعليهما الحد إن لم تكن بينة بالنكاح وبه قال أبو ثور و ابن المنذر لأن الشهادة بالزنا تنفي كونهما زوجين فلا تبطل بمجرد قولهما ويحتمل أن يسقط الحد إذا لم نعلم كونها أجنبية منه لأن ما ادعياه محتمل فيكون ذلك شبهة كما لو شهد عليه بالسرقة فادعى أن المسروق ملكه (10/157)
مسألة : إتيان البهائم وحكمه والحد فيه
مسألة : قال : ومن أتى بهيمة أدب وأحسن أدبه وقتلت البهيمة
اختلفت الرواية عن أحمد في الذي يأتي البهيمة فروي عنه أنه يعزر ولا حد عليه روي ذلك عن ابن عباس و عطاء و الشعبي و النخعي و الحكم و مالك و الثوري وأصحاب الرأي و اسحاق وهو قول للشافعي والرواية الثانية حكمه حكم اللائط سواء وقال الحسن : حده حد الزاني وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن يقتل هو والبهيمة لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه ] رواه أبو داود ووجه الرواية الأولى أنه لم يصح فيه نص ولا يمكن قياسه على الوطء في فرج الآدمي لأنه لا حرمة لها وليس بمقصود يحتاج في الزجر عنه الى الحد فان النفوس تعافه وعامتها تنفر منه فبقي على الأصل في انتفاء الحد والحديث يرويه عمرو بن أبي عمرو ولم يثبته أحمد وقال الطحاوي : هو ضعيف ومذهب ابن عباس خلافه وهو الذي روي عنه قال أبو داود هذا يضعف الحديث عنه قال اسماعيل بن سعيد : سألت احمد عن الرجل يأتي البهيمة فوقف عندها ولم يثبت حديث عمرو بن أبي عمرو في ذلك ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجوز أن يثبت بحديث فيه هذه الشبهة والضعف وقول الخرقي أدب وأحسن أدبه يعني يعزر ويبالغ في تعزيره لأنه وطء في فرج محرم لا شبهة له فيه لم يوجب الحد فأوجب التعزير كوطء الميتة (10/158)
فصل : يجب قتل البهيمة المأتية
فصل : ويجب قتل البهيمة وهذا قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وأحد قولي الشافعي وسواء كانت مملوكة له أو لغيره مأكولة أو غير مأكولة قال أبو بكر : الاختيار قتلها وإن تركت فلا بأس وقال الطحاوي : إن كانت مأكولة ذبحت وإلا لم تقتل وهذا قول ثان للشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ] ولم يفرق بين كونها مأكولة أو غير مأكولة ولا بين ملكه وملك غيره فان قيل الحديث ضعيف ولم يعملوا به في قتل الفاعل الجاني ففي حق حيوان لا جناية منه أولى قلنا إنما يعمل به في قتل الفاعل على إحدى الروايتين لوجهين : أحدهما أنه حد والحدود تدرأ بالشبهات وهذا اتلاف مال فلا تؤثر الشبهة فيه والثاني أنه اتلاف آدمي وهو أعظم المخلوقات حرمة فلم يجز التهجم على إتلافه إلا بدليل في غاية القوة ولا يلزم مثل هذا في إتلاف مال ولا حيوان سواه إذا ثبت هذا فان الحيوان إن كان للفاعل ذهب هدرا وإن كان لغيره فعلى الفاعل غرامته لأن سبب إتلافه فيضمنه كما لو نصب له شبكة فتلف بها ثم إن كانت مأكولة فهل يباح أكلها على وجهين و للشافعي أيضا في ذلك وجهان :
أحدهما : يحل أكلها لقول الله تعالى : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ولأنه حيوان من جنس يجوزأكله ذبحه من هو من اهل الذكاة فحل أكله كما لو لم يفعل به هذا الفعل ولكن يكره اكله لشبهة التحريم
والوجه الثاني : لا يحل أكلها لما روي عن ابن عباس أنه قيل له : ما شأن البهيمة ؟ قال : ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أكلها وقد فعل بها ذلك الفعل ولأنه حيوان يجب قتله لحق الله تعالى فلم يجز أكله كسائر المقتولات واختلف في علة قتلها فقيل إنما قتلت لئلا يعير فاعلها ويذكر برؤيتها
وقد روى ابن بطة باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة قالوا يا رسول الله ما بال البهيمة ؟ قال : لا يقال هذه وهذه ] قيل : لئلا تلد خلقا مشوها وقيل : لئلا تؤكل وإليه أشار ابن عباس في تعليله ولا يجب قتلها حتى يثبت هذا العمل بها ببينة فأما إن أقر الفاعل فان كانت البهيمة له ثبت باقراره وإن كانت لغيره لم يجز قتلها بقوله لأنه إقرار على ملك غيره فلم يقبل كما لو أقر بها لغير مالكها وهل يثبت هذا بشاهدين عدلين واقرار مرتين او يعتبر فيه ما يعتبر في الزنا ؟ على وجهين نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى (10/159)
مسألة وفصول : يجب الحد على الزاني إذا أقر به أربع مرات في مجلس واحد أو جلسات وما يعتبر في صحة الإقرار
مسألة : قال : والذي يجب عليه الحد ممن ذكرت من أقر بالزنا أربع مرات
وجملته أن الحد لا يجب إلا باحد شيئين إقرار أو بينة فان ثبت باقرار اعتبر إقرار أربع مرات وبهذا قال الحكم و ابن أبي ليلى وأصحاب الرأي وقال الحسن و حماد و مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : يحد باقرار مرة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] واعتراف مرة اعتراف وقد أوجب عليها الرجم به ورجم الجهنية وإنما اعترفت مرة وقال عمر : إن الرجم حق واجب على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأأنه حق فيثبت باعتراف مرة كسائر الحقوق
ولنا ما روى أبو هريرة قال : [ أتى رجل من الأسلميين رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو في المسجد فقال : يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فتنحى تلقاء وجهه فقال : يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أبك جنون ؟ قال : لا قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ارجموه ] متفق عليه ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله تعالى وروى نعيم بن هزال حديثه وفيه : [ حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنك قد قلتها أربع مرات فبمن ؟ قال : بفلانة ] رواه أبو داود وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة
وروى أبو برزة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي صلى الله عليه و سلم : إن أقررت اربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه و سلم : وهذا يدل من وجهين : أحدهما أن النبي صلى الله عليه و سلم أقره على هذا ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لأنه لا يقر على الخطأ
الثاني : أنه قد علم هذا من حكم النبي صلى الله عليه و سلم لولا ذلك ما تجاسر على قوله بين يديه فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي يثبت به كان أربعا
فصل : وسواء كان في مجلس واحد أو مجالس متفرقة قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الزاني يردد أربع مرات ؟ قال : نعم على حديث ماعز هو أحوط قلت له : في مجلس واحد في مجالس شتى ؟ قال : اما الاحاديث فليست تدل إلا على مجلس واحد إلا ذاك الشيخ بشير بن مهاجر عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وذاك عندي منكر الحديث وقال أبو حنيفة : لا يثبت إلا بأربع إقرارات في أربعة مجالس لأن ماعزا أقر في أربعة مجالس
ولنا أن الحديث الصحيح إنما يدل على أنه أقر اربعا في مجلس واحد وقد ذكرنا الحديث ولانه إحدى حجتي الزنا فاكتفي به في مجلس واحد كالبينة
فصل : يعتبر في صحة الإقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة لأن الزنا يعبر عما ليس بموجب للحد وقد روى ابن عباس [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لماعز : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال : لا قال : أفنكتها لا يكني ؟ قال : نعم قال : فعند ذلك أمر برجمه ] رواه بخاري وفي رواية عن أبي هريرة قال : [ أفنكتها ؟ - قال : نعم قال - حتى غاب ذاك منك في ذاك منها ؟ قال : نعم قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال : نعم قال : فهل تدري ما الزنا ؟ قال : نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا ] وذكر الحديث رواه أبو داود (10/160)
فصل : إذا أقر أنه زنى بامرأة فكذبته فعليه الحد دونها
فصل : فإن أقر أنه زنى بامرأة فكذبته فعليه الحد دونها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة و أبو يوسف : لا حد عليه لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوما بكذبه
ولنا ما روى أبو داود باسناده [ عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه و سلم أن رجلا أتاه فأقر عنده أنه زنى بامرأة فسماها له فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المرأة فسألها عن ذلك فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها ] ولأن انتفاء ثبوته في حقها لا يبطل إقراره كما لو سكتت أو كما لو لم يسأل ولأن عموم الخبر يقتضي وجوب الحد عليه باعترافه وهو قول عمر إذا كان الحبل أو الاعتراف وقولهم اننا صدقناها في انكارها لا يصح فاننا لم نحكم بصدقها وانتفاءه الحد إنما كان لعدم المقتضى وهو الإقرار أو البينة لا لوجود التصديق بدليل ما لو سكتت أو لم تكمل البينة إذا ثبت هذا فإن الحر والعبد والبكر والثيب في الإقرار سواء لأنه أحد حجتي الزنا فاستوى فيه الكل كالبينة (10/162)
مسألة من شروط وجوب الحد : الصحة والبلوغ والعقل
مسألة : قال : وهو بالغ صحيح عاقل
أما البلوغ والعقل فلا خلاف في اعتبارهما في وجوب الحد وصحة الاقرار لأن الصبي والمجنون قد رفع القلم عنهما ولا حكم لكلامهما وقد روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن وفي حديث ابن عباس في قصة ماعز [ أن النبي صلى الله عليه و سلم سأل قومه : أمجنون هو ؟ قالوا : ليس به بأس ] وروي أن [ النبي صلى الله عليه و سلم قال له حين أقر عنده : أبك جنون ] وقد روى أبو داود باسناده قال : أتي عمر بمجنونة قد زنت فاستشار فيها أناسا فأمر بها عمر أن ترجم فمر بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : ما شأن هذه ؟ قالوا : مجنونة آل فلان زنت فأمر بها عمر أن ترجم فقال : ارجعوا بها ثم أتاه فقال : يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم قد رفع عن ثلاثة ؟ عن المجنون حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يعقل قال : بلى ! قال : فما بال هذه ؟ قال : لا شيء قال : فأرسلها فأرسلها قال : فجعل عمر يكبر (10/163)
فصل : حكم المجنون إذا زنى
فصل : فان كان يجن مرة ويفيق أخرى فأقر في إفاقته أنه زنى وهو مفيق أو قامت عليه بينة أنه زنى في إفاقته فعليه الحد لا نعلم في هذا خلافا وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأن الزنا الموجب للحد وجد منه في حال تكليفه والقلم غير مرفوع عنه وإقراره وجد في حال اعتبار كلامه فان أقر في إفاقته ولم يضفه إلى حال أو شهدت عليه البينة بالزنا ولم تضفه إلى حال إفاقته لم يجب الحد لأنه يحتمل أنه وجد في حال جنونه فلم يجب الحد مع الاحتمال وقد روى أبو داود في حديث المجنونة التي اتى بها عمر أن عليا قال : إن هذه معتوهة بني فلان لعل الذي أتاها أتاها في بلائها فقال عمر : لا أدري فقال علي : وأنا لا أدري (10/164)
فصل : النائم مرفوع عنه القلم
فصل : والنائم مرفوع عنه القلم فلو زنى بنائمة أو استدخلت امرأة ذكر نائم أو وجد منه الزنا حال نومه فلا حد عليه لأن القلم مرفوع عنه ولو أقر في حال نومه لم يلتفت إلى اقراره لأن كلامه ليس بمعتبر ولا يدل على صحة مدلوله فاما السكران ونحوه فعليه حد الزنا والسرقة والشرب والقذف إن فعل ذلك في سكره لأن الصحابة رضي الله عنهم أوجبوا عليه حد الفرية كون السكر مظنة لها ولأنه تسبب الى هذه المحرمات بسبب لا يعذر فيه فأشبه من لا عذر له ويحتمل أن لا يجب الحد لأنه غير عاقل فيكون ذلك شبهة في درء ما يندرىء بالشبهات ولأن طلاقه لا يقع في رواية فأشبه النائم والأول اولى لأن إسقاط الحد عنه يفضي الى ان من أراد فعل هذه المحرمات شرب الخمر وفعل ما أحب فلا يلزمه شيء ولأن السكر مظنة لفعل المحارم وسبب إليه فقد تسبب إلى فعلها حال صحوه فأما ان أقر بالزنا وهو سكران لم يعتبر اقراره لأنه لا يدري ما يقول ؟ ولا يدل قوله على صحة خبره فأشبه قول النائم والمجنون وقد روى بريدة أن [ النبي صلى الله عليه و سلم استنكه ماعزا ] رواه ابو داود وانما فعل ذلك ليعلم هل هو سكران او لا ؟ ولو كان السكران مقبول الاقرار لما احتيج الى تعرف براءته منه (10/164)
فصل : حكم المريض الزاني هل يحد ؟
فصل : فأما قوله وهو صحيح ففسره القاضي بالصحيح من المرض يعني أن الحد لا يجب عليه في مرضه وإن وجب فإنه إنما يقام عليه الحد بما يؤمن به تلفه فإن خيف ضرر عليه ضرب ضربة واحدة بضغث فيه مائة شمراخ أو عود صغير ويحتمل أنه أراد الصحيح الذي يتصور منه الوطء فلو أقر بالزنا من لا يتصور منه كالمجنون فلا حد عليه لأننا نتيقن أنه لا يتصور منه الزنا الموجب للحد ولو قامت به بينة فهي كاذبة وعليها الحد نص عليه أحمد وإن أقر الخصي أو العنين فعليه الحد وبهذا قال الشافعي و أبو ثور واصحاب الرأي لأنه يتصور منه ذلك فقبل اقراره به كالشيخ الكبير (10/165)
فصل : حكم إقرار الأخرس
فصل : و أما الأخرس فان لم تفهم إشارته فلا يتصور منه إقرار وإن فهمت إشارته فقال القاضي : عليه الحد وهو قول الشافعي و ابن القاسم صاحب مالك و أبي ثور و ابن المنذر لان من صح اقراره بغير الزنا صح إقراره به كالناطق وقال أصحاب ابي حنيفة : لا يحد باقرار ولا بينة لأن الاشارة تحتمل ما فهم منها وغيره فيكون ذلك شبهة في درء الحد لكونه مما يندرئ بالشبهات ولا يجب بالبينة لاحتمال أن يكون له شبهة لا يمكنه التعبير عنها ولا يعرف كونها شبهة ويحتمل كلام الخرقي أن لا يجب الحد باقراره لانه غير صحيح ولأن الحد لا يجب مع الشبهة والاشارة لا تنتفي معها الشبهات فأما البينة فيجب عليه بها الحد لأن قوله معها غير معتبر (10/165)
فصل : ولا يصح إقراره المكره
فصل : ولا يصح الاقرار من المكره فلو ضرب الرجل ليقر بالزنا لم يجب عليه الحد ولم يثبت عليه الزنا ولا نعلم من أهل العلم خلافا في أن إقرار المكره لا يجب به حد وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ليس الرجل بأمين على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو أوثقته رواه سعيد وقال ابن شهاب في رجل اعترف بعد جلده ليس عليه حد ولأن الاقرار إنما ثبت به المقر به لوجود الداعي الى الصدق وانتفاء التهمة عنه فان العاقل لا يتهم بقصد الاضرار بنفسه ومع الإكراه يغلب على الظن أنه قصد باقراره دفع ضرر الإكراه فانتفى ظن الصدق عنه فلم يقبل (10/166)
فصل : حكم ما لو أقر بأنه وطىء امرأة وادعى أنها امرأته
فصل : فان أقر أنه وطىء امرأة وادعى أنها امرأته وأنكرت المرأة أن يكون زوجها نظرنا فان لم تقر المرأة بوطئه إياها فلا حد عليه لأنه لم يقر بالزنا ولا مهر لها لأنها لا تدعيه وإن اعترفت بوطئه إياها وأقرت بأنه زنى بها مطاوعة فلا مهر عليه أيضا ولا حد على واحد منهما إلا أن يقر أربع مرات لأن الحد لا يجب بدون أربع مرات وإن ادعت أنه أكرهها عليه أو اشتبه عليها فعليه المهر لأنه أقر بسببه فقد روى مهنا عن أحمد أنه سأله عن رجل وطىء امرأة وزعم أنها زوجته وأنكرت هي أن يكون زوجها واقرت بالوطء قال : فهذه قد أقرت على نفسها بالزنا ولكن يدرأ عنه الحد بقوله إنها امرأته ولا مهر عليه ويدرأ عنها الحد حتى تعترف مرارا قال أحمد : وأهل المدينة يرون عليها الحد يذهبون لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فان اعترفت فارجمها ] وقد تقدم الجواب عن قولهم (10/166)
مسألة : من شرط إقامة الحد بالإقرار البقاء البقاء عليه حتى يتم الحد
مسألة : قال : ولا ينزع عن اقراره حتى يتم عليه الحد
وجملته ان من شرط إقامة الحد بالأقرار البقاء عليه إلى تمام الحد فإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه وبهذا قال عطاء و يحيى بن يعمر و الزهري و حماد و مالك و الثوري و الشافعي و اسحاق و ابو حنيفة و أبو يوسف وقال الحسن و سعيد بن جبير و ابن أبي ليلى : يقام عليه الحد ولا يترك لأن ماعزا هرب فقتلوه ولم يتركوه وروي أنه قال : ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فان قومي هم غروني من نفسي واخبروني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير قاتلي : فلم ينزعوا عنه حتى قتلوه أخرجه أبو داود ولو قبل رجوعه للزمتهم ديته ولأنه حق وجب باقراره فلم يقبل رجوعه كسائر الحقوق وحكي عن الأوزاعي أنه إن رجع حد للفرية على نفسه وإن رجع عن السرقة والشرب ضرب دون الحد
ولنا ان ماعزا هرب فذكر النبي صلى الله عليه و سلم فقال : [ هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ] قال ابن عبد البر : ثبت من حديث أبي هريرة و جابر و نعيم بن هزال و نصر بن داهر وغيرهم أن ماعزا لما هرب فقال لهم : ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ] ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل رجوعه وعن بريدة قال : [ كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال : لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما وإنما رجمهما عند الرابعة ] رواه أبو داود ولأن رجوعه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات ولأن الاقرار إحدى بينتي الحد فيسقط بالرجوع عنه كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد وفارق سائر الحقوق فانها لا تدرأ بالشبهات وإنما لم يجب ضمان ماعز على الذين قتلوه بعد هربه لأنه ليس بصريح في الرجوع إذا ثبت هذا فانه إذا هرب لم يتبع لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ هلا تركتموه ؟ ] وإن لم يترك وقتل لم يضمن لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يضمن ماعزا من قتله ولأن هربه ليس بصريح في رجوعه وإن قال : ردوني إلى الحاكم وجب رده ولم يجز إتمام الحد فإن أتم فلا ضمان على من أتمه لما ذكرنا في هربه وإن رجع عن إقراره وقال : كذبت في إقراري أو رجعت عنه أو لم أفعل ما أقررت به وجب تركه فإن قتله قاتل بعد ذلك وجب ضمانه لأنه قد زال إقراره بالرجوع عنه فصار كمن لم يقر ولا قصاص على قاتله لأن أهل العلم اختلفوا في صحة رجوعه فكان اختلافهم شبهة دارئة للقصاص ولأن صحة الإقرار مما يخفى فيكون ذلك عذرا مانعا من وجوب القصاص (10/167)
مسألة : شروط شهود الزنا
مسألة : قال : أو يشهد عليه أربعة رجال من المسلمين أحرار عدول يصفون الزنا
ذكر الخرقي في شروط الزنا سبعة شروط :
أحدها أن يكونوا أربعة وهذا إجماع لا خلاف فيه بين أهل العلم لقول الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وقال تعالى : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } [ وقال سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه و سلم : أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي باربعة شهداء ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : نعم ] رواه مالك في الموطأ و أبو داود في سننه
الشرط الثاني : أن يكونوا رجالا كلهم ولا تقبل فيه شهادة النساء بحال ولا نعلم فيه خلافا إلا شيئا يروى عن عطاء و حماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان وهو شذوذ لا يعول عليه لأن لفظ الاربعة اسم لعدد المذكورين ويقتضي أن يكتفي فيه بأربعة ولا خلاف في أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم وإن أقل ما يجزىء خمسة وهذا خلاف النص ولأن في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال إليهن قال الله تعالى : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } والحدود تدرأ بالشبهات
الشرط الثالث : الحرية فلا تقبل فيه شهادة العبيد ولا نعلم في هذا خلافا إلا رواية حكيت عن أحمد أن شهادتهم تقبل وهو قول أبي ثور لعموم النصوص فيه ولأنه عدل ذكر مسلم فتقبل شهادته كالحر
ولنا أنه مختلف في شهادته في سائر الحقوق فيكون ذلك شبهة تمنع من قبول شهادته في الحد لأنه يندرىء بالشبهات
الشرط الرابع : العدالة ولا خلاف في اشتراطها فان العدالة تشترط في سائر الشهادات فههنا مع مزيد الاحتياط أولى فلا تقبل شهادة الفاسق ولا مستور الحال الذي لا تعلم عدالته لجواز أن يكون فاسقا
الخامس : أن يكونوا مسلمين فلا تقبل شهادة أهل الذمة فيه سواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي لأن أهل الذمة كفار لا تتحقق العدالة فيهم ولا تقبل روايتهم ولا أخبارهم الدينية فلا تقبل شهادتهم كعبدة الأوثان
الشرط السادس : أن يصفوا الزنا فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشاد في البئر وهذا قول معاوية بن أبي سفيان و الزهري و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي [ لما روي في قصة ماعز أنه لما أقر عند النبي صلى الله عليه و سلم بالزنا فقال : أنكتها ؟ فقال : نعم فقال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشاد في البئر ؟ قال نعم ] وإذا اعتبر التصريح في الإقرار كان اعتباره في الشهادة أولى
وروى أبو داود باسناده عن جابر قال : [ جاءت اليهود برجل منهم وامرأة زنيا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ائتوني بأعلم رجلين منكم فأتوه بابني صوريا فنشدهما : كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما قال : فما يمنعكم أن ترجموهما ؟ قالا : ذهب سلطاننا وكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشهود فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فأمر النبي صلى الله عليه و سلم برجمهما ] ولأنهم إذا لم يصفوا الزنا احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه قال بعض أهل العلم : يجوز للشهود ان ينظروا الى ذلك منهما لاقامة الشهادة عليهما ليحصل الردع بالحد فان شهدوا أنهم رأوا ذكره قد غيبه في فرجها كفى والتشبيه تأكيد وأما تعيينهم المزني بها أو الزاني إن كانت الشهادة على امرأة ومكان الزنا فذكر القاضي أنه يشترط لئلا تكون المرأة ممن اختلف في إباحتها ويعتبر ذكر المكان لئلا تكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر ولهذا [ سأل النبي صلى الله عليه و سلم ماعزا فقال : إنك أقررت أربعا فبمن ؟ ] وقال ابن حامد : لا يحتاج إلى ذكر هذين لأنه لا يعتبر ذكرهما في الاقرار ولم يأت ذكرهما في الحديث الصحيح وليس في حديث الشهادة في رجم اليهوديين ذكر المكان ولأن ما لا يشترط فيه ذكر الزمان لا يشترط فيه ذكر المكان كالنكاح ويبطل ما ذكره بالزمان الشرط السابع : مجيء الشهود كلهم في مجلس واحد ذكره الخرقي فقال : وإن جاء أربعة متفرقين والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد وبهذا قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي و البتي و ابن المنذر : لا يشترط ذلك لقول الله تعالى : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء } ولم يذكر المجلس وقال تعالى : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت } ولأن كل شهادة مقبولة إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات
ولنا أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا عند عمر على المغيرة بن شعبة بالزنا ولم يشهد زياد فحد الثلاثة ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم وبهذا فارق سائر الشهادات
وأما الآية فانها لم تتعرض للشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنا ولأن قوله : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } لا يخلو من أن يكون مطلقا في الزمان كله أو مقيدا لا يجوز أن يكون مطلقا لأنه يمنع من جواز جلدهم لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء أو بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به فيكون تناقضا وإذا ثبت أنه مقيد فأولى ما قيد بالمجلس لأن المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة ولهذا ثبت فيه خيار المجلس واكتفي فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا فانه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحدا بعد واحد في مجلس واحد قبل شهادتهم وقال مالك و أبو حنيفة : إن جاءوا متفرقين فهم قذفة لأنهم لم يجتمعوا في مجيئهم فلم تقبل شهادتهم كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد
ولنا قصة المغيرة فان الشهود جاءوا واحدا بعد واحد وسمعت شهادتهم وإنما حدوا لعدم كمالها وفي حديثه أن أبا بكرة قال : أرأيت إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه ؟ قال عمر : أي والذي نفسي بيده ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءوا مجتمعين ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرناه وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد لأن من شهد بالزنا ولم يكمل الشهادة يلزمه الحد لقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } (10/169)
فصل : إذا لم تكمل شهود الزنا فعليهم الحدود
فصل : وإذا لم تكمل شهود الزنا فعليهم الحد في قول أكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وذكر أبو الخطاب فيهم روايتين وحكي عن الشافعي فيهم قولان : أحدهما لا حد عليهم لأنهم شهود فلم يجب عليهم الحد كما لو كانوا أربعة أحدهم فاسق
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وهذا يوجب الجلد على كل رام لم يشهد بما قال أربعة ولأنه إجماع الصحابة فان عمر جلد أبا بكرة وأصحابه حين لم يكمل الرابع شهادته بمحضر من الصحابة فلم ينكره أحد
وروى صالح في مسائله باسناده عن أبي عثمان النهدي قال : جاء رجل إلى عمر فشهد على المغيرة بن شعبة فتغير لون عمر ثم جاء آخر فشهد فتغير لون عمر ثم جاؤ آخر فشهد فاستكبر ذلك عمر ثم جاء شاب يخطر بيديه فقال عمر : ما عندك يا سلح العقاب ؟ وصاح به عمر صيحة فقال أبو عثمان : والله لقد كدت يغشى علي فقال : يا أمير المؤمنين رأيت أمرا قبيحا فقال : الحمد لله الذي لم يشمت الشيطان بأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم قال : فأمر بأولئك النفر فجلدوا
وفي رواية ان عمر لما شهد عنده على المغيرة شهد ثلاثة وبقي زياد فقال عمر : أرى شابا حسنا وأرجو أن لا يفضح الله على لسانه رجلا من أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا أمير رأيت أستا تنبو ونفسا يعلو ورأيت رجليها فوق عنقه كأنهما أذنا حمار ولا أدري ما وراء ذلك ؟ فقال عمر : الله أكبر وأمر بالثلاثة فضربوا وقول عمر يا سلح العقاب معناه أنه يشبه سلح العقاب الذي يحرق كل شيء أصابه كذلك هذا توقع العقوبة بأحد الفريقين لا محالة إن كملت شهادته حد المشهود عليه وإن لم تكمل حد أصحابه فان قيل : فقد خالفهم أبو بكرة وأصحابه الذين شهدوا قلنا لم يخالفوا في وجوب الحد عليهم إنما خالفوهم في صحة ما شهدوا به ولأنه رام بالزنا لم يأت بأربعة شهداء فيجب عليه الحد كما لو لم يأت بأحد (10/175)
فصل : حكم ما إذا كمل شهود الزنا غير مرضيين
فصل : وإن كملوا أربعة غير مرضيين أو واحد منهم كالعبيد والفساق والعميان ففيهم ثلاث روايات : إحداهن عليهم الحد وهو قول مالك قال القاضي : هذا الصحيح لأنها شهادة لم تكمل فوجب الحد على الشهود كما لو كانوا ثلاثة والثانية : لا حد عليهم وهو قول الحسن و الشعبي و أبي حنيفة و محمد لأن هؤلاء قد جازوا بأربعة شهداء فدخلوا في عموم الآية لأن عددهم قد كمل ورد الشهادة لمعنى غير تفريطهم فأشبه ما لو شهد أربعة مستورون ولم تثبت عدالتهم ولا فسقهم
الثالثة : إن كانوا عميانا أو بعضهم جلدوا وإن كانوا عبيدا أو فساقا فلا حد عليهم وهو قول الثوري و إسحاق لأن العميان معلوم كذبهم لأنهم شهدوا بما لم يروه يقينا والآخرون يجوز صدقهم وقد كمل عددهم فأشبهوا مستوري الحال وقال أصحاب الشافعي : إن كان رد الشهادة لمعنى ظاهر كالعمى والرق والفسق الظاهر ففيهم قولان وإن كان لمعنى خفي فلا حد عليهم لأن ما يخفى يخفى على الشهود فلا يكون ذلك تفريطا منهم بخلاف ما يظهر وإن شهد ثلاثة رجال وامرأتان حد الجميع لأن شهادة النساء في هذا الباب كعدمها وبهذا قال الثوري وأصحاب الرأي وهذا يقوي رواية إيجاب الحد على الأولين وينبه على إيجاب الحد فيما إذا كانوا عميانا أو أحدهم لأن المرأتين يحتمل صدقهما وهما من أهل الشهادة في الجملة والأعمى كاذب يقينا وليس من أهل الشهادة على الأفعال فوجوب الحد عليهم وعلى من معهم أولى (10/176)
فصل : حكم ما لو رجع شهزودالزنا عن الشهادة أو بعضهم
فصل : وان رجعوا عن الشهادة أو واحد منهم فعلى جميعهم الحد في أصح الروايتين وهو قول أبي حنيفة والثانية يحد الثلاثة دون الراجع وهذا اختيار أبي بكر و ابن حامد لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله فيسقط عنه الحد ولأن في درأ الحد عنه تمكينا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة الشهود عليه وفي ايجاب الحد عليه زجر له عن الرجوع خوفا من الحد فتفوت تلك المصلحة وتتحقق المفسدة فناسب ذلك نفي الحد عنه وقال الشافعي : يحد الراجع دون الثلاثة لأنه مقر على نفسه بالكذب في قذفه وأما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الراجع ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم يحد كما لو لم يرجع
ولنا أنه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة وقولهم وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم وبالراجع وحده فان الحد وجب ثم سقط ووجب الحد عليهم بسقوطه ولأن الحد إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه وإسقاط الحد عن المشهود عليه بعد وجوبه وإحيائه المشهود عليه بعد إشرافه على التلف فعلى غيره أولى (10/177)
فصول : أحكام مختلفة في الشهادة في الزنا وفي الشهود
فصل : وإذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت واثنان أنه زنى بها في بيت آخر أو شهد كل اثنين عليه بالزنا في بلد غير البلد الذي شهد به صاحباهما أو اختلفوا في اليوم فالجميع قذفه وعليهم الحد وبهذا قال مالك و الشافعي واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم وبه قال النخعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأنهم كملوا أربعة
ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنا واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما فأما المشهود عليه فلا حد عليه في قولهم جميعا وقال أبو بكر : عليه الحد وحكى قولا لأحمد وهذا بعيد فإنه لم يثبت زنا واحد بشهادة أربعة فلم يجب الحد ولأن جميع ما يعتبر له البينة يعتبر كمالها في حق واحد فالموجب للحد أولى لأنه مما يحتاط له ويندرىء بالشبهات وقد قال أبو بكر : انه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء وشهد اثنان انه زنى بسوداء فهم قذقة ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله
فصل : وان شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى وكانت الزاويتين متباعدتين فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحد المشهود عليه وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا حد عليه لأن شهادتهم لم تكمل ولأنهم اختلفوا في المكان فأشبه ما لو اختلفوا في البيتين وعلى قول أبي حنيفة تكمل الشهادة سواء تقاربت الزاويتان أو تباعدتا
ولنا أنهما إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين فانه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا فإن قيل : فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين فلم أوجدتم الحد مع الاحتمال والحد يدرأ بالشبهات ؟ قلنا : ليس هذا بشبهة بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد فان هذا يحتمل فيه والحد واجب والقول في الزمان كالقول في هذا وإنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ومتى تقاربا كملت شهادتهم والله أعلم
فصل : وإن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز كملت شهادتهم وقال الشافعي : لا تكمل لتنافي الشهادتين
ولنا أنه لا تنافي بينهما فانه يمكن أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين واحدا وتركا ذكر الآخر ويمكن أن يكون عليه قميص أبيض وعليها قميص أحمر وإذا أمكن التصديق لم يجز التكذيب
فصل : وإن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة فلا حد عليها إجماعا فان الشهادة لم تكمل على فعل موجب للحد وفي الرجل وجهان :
أحدهما : لا حد عليه وهو قول أبي بكر و القاضي وأكثر الاصحاب وقول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن البينة لم تكمل على فعل واحد فان فعل المطاوعة غير فعل المكرهة ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين وذلك يمنع قبول الشهادة أو بكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر الا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما مكرهة في الآخر وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها ولم تكمل البينة عليها فلا تقبل شهادتهما على غيرها
والوجه الثاني : يجب الحد عليه اختاره أبو الخطاب وهو قول أبو يوسف ومحمد ووجه ثان للشافعي لأن الشهادة كملت على وجود الزنا منه واختلافهما إنما هو فعلها لا فعله فلا يمنع كمال الشهادة عليه وفي الشهود ثلاثة أوجه : أحدها لا حد عليهم وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم والثاني عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنا ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد كما لو لم يكمل عددهم والثالث يجب الحد على شاهدي المطاعة لأنهما قذفا المرأة بالزنا ولم تكمل شهادتهم عليها ولا يجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة وقد كملت شهادتهم على الرجل وإنما انتفى عنه الحد للشبهة
فصل : وإذا تمت الشهادة بالزنا فصدقهم المشهود عليه بالزنا لم يسقط الحد وقال أبو حنيفة : يسقط لأن شرط صحة البينة الإنكار وما كمل الاقرار
ولنا قول الله تعالى : { فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا } وبين النبي صلى الله عليه و سلم السبيل بالحد فتجب إقامته ولأن البينة تمت عليه فوجب الحد كما لو لم يعترف ولأن البينة إحدى حجتي الزنا فلم يبطل بوجود الحجة الأخرى أو بعضها كالاقرار يحققه أن وجود الإقرار يؤكد البينة ويوافقها ولا ينافيها فلا يقدح فيها كتزكية الشهود والثناء عليهم ولا نسلم اشتراط الإنكار وإنما يكتفي بالإقرار في غير الحد إذا وجد بكماله وههنا لم يكمل فلم يجز الاكتفاء به ووجب سماع البينة والعمل بها وعلى هذا لو أقر مرة أو دون الأربع لم يمنع ذلك سماع البينة عليه ولو تمت البينة عليه وأقر على نفسه إقرارا تاما ثم رجع عن إقراره لم يسقط عنه الحد برجوعه وقوله يقتضي خلاف ذلك
فصل : وإن شهد شاهدان واعترف هو مرتين لم تكمل البينة ولم يجب الحد لا نعلم في هذا خلافا بين من اعتبر إقرار أربع مرات وهو قول أصحاب الرأي لأن إحدى الحجتين لم تكمل ولا تلفق إحداهما بالاخرى كاقرار بعض مرة
فصل : وإن كملت البينة ثم مات الشهود أو غابوا جاز الحكم بها وإقامة الحد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجوز الحكم لجواز أن يكونوا رجعوا وهذه شبهة تدرأ الحد
ولنا أن كل شهادة جاز الحكم بها مع حضور الشهود جاز مع غيبتهم كسائر الشهادات واحتمال رجوعهم ليس بشبهة كما لو حكم بشهادتهم
فصل : وإن شهدوا بزنا قديم أو أقر به وجب الحد وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الثوري و إسحاق و أبو ثور وقال أبو حنيفة : لا أقبل بينة على زنا قديم وأحده بالاقرار به وهذا قول ابن حامد وذكره ابن أبي موسى مذهبا لأحمد لما روي عن عمر أنه قال : أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فإنما هم شهود ضغن ولأن تأخيره للشهادة إلى هذا الوقت يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد
ولنا عموم الآية وأنه حق يثبت على الفور فيثبت بالبينة بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق ولاحديث رواه الحسن مرسلا ومراسيل الحسن ليست بالقوية والتأخير يجوز أن يكون لعذر أو غيبة والحد لا يسقط بمطلق الاحتمال فإنه لو سقط بكل احتمال لم يجب حد أصلا
فصل : وتجوز الشهادة بالحد من غير مدع لا نعلم فيه اختلافا ونص عليه أحمد واحتد بقضية أبي بكرة حين شهد هو وأصحابة على المغيرة من غير تقدم دعوى وشهد الجارود وصاحبه على قدامة بن مظعون بشرب الخمر ولم يتقدمه دعوى ولأن الحد حق لله تعالى فلم تفتقر الشهادة به إلى تقدم دعوى كالعبادات يبينه أن الدعوى في سائر الحقوق إنما تكون من المستحق وهذا لا حق فيه لأحد من الآدميين فيدعيه فلو وقعت الشهادة على الدعوى لامتنعت اقامتها اذا ثبت هذا فان من عنده شهادة على حد فالمستحب أن لا يقيمها لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من ستر عورة مسلم في الدنيا ستره الله في الدنيا والآخرة ] وتجوز إقامتها لقول اله تعالى : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ولأن الذين شهدوا بالحد في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه لم تنكر عليهم شهادتهم به ويستحب للإمام وغيره التعريض بالوقوف عن الشهادة بدليل قول عمر لزياد : إني لأرى رجلا أرجو أن لا يفضح الله على يديه رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولان تركها أفضل فلم يكن بأس بدلالته على الفضل وقد روي أن رجلا سأل عقبة بن عامر إن لي جيرانا يشربون الخمر أفأرفعهم إلى السلطان ؟ فقال عقبة بن عامر : إني سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول : [ من ستر عورة مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة ]
فصل : وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا فشهد ثقات من النساء أنها عذراء فلا حد عليها ولا على الشهود وبهذا قال الشعبي و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال مالك : عليها الحد لأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود فلا تسقط بشهادتهن
ولنا ان البكارة تثبت بشهادة النساء ووجودها يمنع من الزنا ظاهرا لأن الزنا لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها واذا انتفى الزنا لم يجب الحد كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه بالزنا مجبوب وإنما لم يجب الحد على الشهود لكمال عدتهم مع احتمال صدقهم فانه يحتمل أن يكون وطئها ثم عادت عذرتها فيكون ذلك شبهة في درأ الحد عنهم غير موجب له عليها فان الحد لا يجب بالشبهات ويجب أن يكتفي بشهادة امرأة واحدة لأن شهادتها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال فأما إن شهدت بأنها رتقاء أو ثبت ان الرجل المشهود عليه مجبوب فينبغي أن يجب الحد على الشهود لأنه يتيقن كذبهم في شهادتهم بأمر لا يعلمه كثير من الناس فوجب عليهم الحد
فصل : إذا شهد أربعة على رجل أنه زنى بامرأة وشهد أربعة آخرون على الشهود أنهم هم الزناة بها لم يجب الحد على أحد منهم وهذا قول أبي حنيفة لأن الأولين قد جرحهم الآخرون بشهادتهم عليهم والآخرون تتطرق إليهم التهمة واختار أبو الخطاب وجوب الحد على الشهود الاولين لأن شهادة الآخرين صحيحة فيجب الحكم بها وهذا قول أبي يوسف وذكر أبو الخطاب في صدر المسألة كلاما معناه لا يحد أحد منهم حد الزنا وهل يحد الاولون حد القذف ؟ على وجهين بناء على القاذف إذا جاء مجيء الشاهد هل يحد ؟ على روايتين
فصل : وكل زنا أوجب الحد لا يقبل فيه إلا أربعة شهود باتفاق العلماء لتناول النص له بقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ويدخل فيه اللواط ووطء المرأة في دبرها لأنه زنا وعند أبي حنيفة يثبت شاهدين بشاهدين بناء على أصله في أنه لا يوجب حدا وقد بينا وجوب الحد به ويخص هذا بأن الوطء في الدبر فاحشة بدليل قوله تعالى : { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } وقال الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } فاذا وطئت في الدبر دخلت في عموم الآية ووطء البهيمة إن قلنا بوجوب الحد به لم يثبت إلا بشهود أربعة وإن قلنا لا يوجب إلا التعزير ففيه وجهان :
أحدهما : يثبت بشاهدين لأنه لا يوجب الحد فيثبت بشاهدين كسائر الحقوق
والثاني : لا يثبت إلا بأربعة وهو قول القاضي لأنه فاحشة ولأنه إيلاج في فرج فأشبه الزنا وعلى قياس هذا كل وطء لا يوجب الحد ويوجب التعزير كوطء الأمة المشتركة وأمته المزوجة فان لم يكن وطأ كالمباشرة دون الفرج ونحوها ثبت بشاهدين وجها واحدا لأنه ليس بوطء فأشبه سائر الحقوق (10/178)
فصل : لا يقيم الإمام الحد بعلمه
فصل : ولا يقيم الإمام الحد بعلمه روي ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبه قال مالك وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي وقال في الآخر له إقامته بعلمه وهو قول أبي ثور لأنه إذا جازت له إقامته بالبينة والاعتراف الذي لا يفيد إلا الظن فبما يفيد العلم أولى
ولنا قول الله تعالى : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقال تعالى : { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } وقال عمر : أوكان الحبل او الاعتراف ولأنه لا يجوز له أن يتكلم به ولو رماه بما علمه منه لكان قاذفا يلزمه حد القذف فلم تجز إقامة الحد به كقول غيره ولأنه إذا حرم النطق به فالعمل به أولى فأما السيد إذا علم من عبده أو جاريته ما يوجب الحد عليه فهل له إقامته عليه ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يملك إقامته عليه لما ذكرنا في الامام ولأن الامام إذا لم يملك إقامته بعلمه مع قوة ولايته والاتفاق على تفويض الحد إليه فغيره أولى
الثاني : يملك ذلك لأن السيد يملك تأديب عبده بعلمه وهذا يجري مجرى التأديب ولأن السيد أخص بعبده وأتم ولاية عليه وأشفق من الإمام على سائر الناس (10/186)
فصل : إذا أحبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد لها لم يلزمها الحد بذلك
فصل : وإذا أحبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم يلزمها الحد بذلك وتسأل فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة أو لم تعترف بالزنا لم تحد وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي وقال مالك : عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة إلا أن تظهر أمارات الاكراه بأن تأتي مستغيثة أو صارخة لقول عمر رضي الله عنه : والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف
وروي أن عثمان أتي بامرأة ولدت لستة أشهر فامر بها عثمان أن ترجم فقال علي : ليس لك عليها سبيل قال الله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وهذا يدل على انه كان يرجمها بحملها وعن عمر نحو من هذا
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يا أيها الناس : إن الزنا زناءان : زنا سر وزنا علانية ؟ فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمي وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف فيكون الامام أول من يرمي وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر لهم في عصرهم مخالف فيكون إجماعا
ولنا أنه يحتمل أنه من وطء أكراه أو شبهة والحد يسقط بالشبهات وقد قيل ان المرأة تحمل من غير وطء بان يدخل ماء الرجل في فرجها إما بفعلها أو بفعل غيرها ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك وأما قول الصحابة فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد حدثنا خلف بن خليفة حدثنا هاشم أن امراة رفعت إلى عمر بن الخطاب ليس لها زوج وقد حملت فسألها عمر فقالت : إني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرا عنها الحد
وروى البراء بن صبرة عن عمر أنه أتي بامرأة حامل فادعت أنها أكرهت فقال : خل سبيلها وكتب إلى أمراء الاجناد ان لا يقتل أحد إلا بإذنه وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا : إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل
وروى الدار قطني باسناده عن عبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وعقبة بن عامر أنهم قالوا : إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت ولا خلاف في أن الحد يدرأ بالشبهات وهي متحققة ههنا (10/186)
فصل : حكم الزنا بالمرأة المستأجرة
فصل : واذا استأجر امراة لعمل شىء فزنى بها أو استأجرها ليزني بها وفعل ذلك أو زنى بامرأة ثم تزوجها أو اشتراها فعليهما الحد وبه قال أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة : لا حد عليهما في هذه المواضع لأن ملكه لمنفعتها شبهة دارئة للحد ولا يحد بوطء امرأة هو مالك لها
ولنا عموم الآية والاخبار ووجود المعنى المقتضي لوجوب الحد وقولهم ان ملكه منفعتها شبهة ليس بصحيح فإنه إذالم يسقط عنه الحد ببذلها نفسها له ومطاوعتها إياه فلأن لا يسقط بملكه نفع محل آخر أولى وما وجب الحد عليه بوطء مملوكته وإنما وجب بوطء أجنبية فتغير حالها لا يسقطه كما لو ماتت (10/187)
فصل : إذا وطىء امرأة له عليها القصاص وجب عليه الحد
فصل : وإذا وطىء امرأة له عليها القصاص وجب عليه الحد لأنه حق له عليها فلا يسقط الحد عنه كالدين (10/188)
مسألة : حكم رجوع المقر بالزنا عن إقراره
مسألة : قال : ولو رجم باقرار فرجع قبل أن يقتل كف عنه وكذلك إن رجع بعد أن جلد وقبل كمال الحد خلي
قد تقدم شرح هذه المسألة وذكرنا أن المقر بالحد متى رجع عن إقراره ترك وكذلك ان أتى بما يدل على الرجوع مثل الهرب لم يطلب لأن ماعزا لما هرب قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ هلا تركتموه ؟ ] ولأن من قبل رجوعه قبل الشروع في الحد قبل بعد الشروع فيه كالبينة (10/188)
فصل : يستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالاقرار التعريض له بالرجوع
فصل : ويستحب للامام أو الحاكم الذي يثبت عنده الحد بالإقرار التعريض له بالرجوع إذا تم والوقوف عن إتمامه إذا لم يتم كما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أعرض عن ماعز حين أقر عنده ثم جاءه من الناحية الأخرى فاعرض عنه حتى تمم إقراره أربعا ثم قال : [ لعلك قبلت لعلك لمست ] وروي أنه قال للذي أقر بالسرقة : [ ما إخالك فعلت ] رواه سعيد عن سفيان عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال : حدثنا هشيم عن الحكم بن عتيبة عن يزيد بن أبي كبشة عن أبي الدرداء أنه أتي بجارية سوداء سرقت فقال لها : أسرقت ؟ قولي : لا فقالت : لا فخلى سبيلها ولا بأس أن يعرض بعض الحاضرين له بالرجوع او بأن لا يقر
وروينا عن الأحنف أنه كان جالسا عند معاوية فأتي بسارق فقال له معاوية : أسرقت ؟ فقال له بعض الشرطة : اصدق الامير فقال الاحنف : الصدق في كل المواطن معجزة فعرض له بترك الاقرار وروي عن بعض السلف أنه قال : لا يقطع ظريف يعني به أنه إذا قامت عليه بينة ادعى شبهة تدفع عنه القطع فلا يقطع ويكره لمن علم حاله ان يحثه على الاقرار لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لهزال وقد كان قال لماعز : بادر الى رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل فيك قرآن : [ ألا سترته بثوبك كان خيرا لك ؟ ] رواه سعيد وروى باسناده أيضا عن سعيد ابن المسيب قال : جاء ماعز بن مالك إلى عمر بن الخطاب فقال له أنه أصاب فاحشة فقال له : أخبرت بهذا احدا قبلي قال : لا قال : فاستتر بستر الله وتب إلى الله فان الناس يعيرون ولا يغيرون والله يغير ولا يعير فتب إلى الله ولا تخبر به احدا فانطلق إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال عمر فلم تقره نفسه حتى اتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر له ذلك (10/188)
مسألة : من زنى مرارا ولم يحد فحد واحد
مسألة : قال : ومن زنى مرارا ولم يحد فحد واحد
وجملته أن ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف وشرب الخمر إذا تكرر قبل إقامة الحد أجزأ حد واحد بغير خلاف علمناه قال ابن المنذر : أجمع على كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم عطاء و الزهري و مالك و أبو حنيفة و أحمد و اسحاق و أبو ثور و أبو يوسف وهو مذهب ة الشافعي وإن أقيم عليه الحد ثم حدثت منه جناية أخرى ففيها حدها لا نعلم فيه خلافا وحكاه ابن المنذر عمن يحفظ عنه وقد سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الأمة تزني قبل أن تحصن قال : [ إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ] ولأن تداخل الحدود إنما يكون مع اجتماعها وهذا الحد الثاني وجب بعد سقوط الأول باستيفائه وإن كانت الحدود من أجناس مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر أقيمت كلها إلا أن يكون فيها قتل فإن كان فيها قتل اكتفي به لأنه لا حاجة معه الى الزجر بغيره وقد قال ابن مسعود : ما كانت حدود فيها قتل إلا أحاط القتل بذلك كله وإن لم يكن فيها قتل استوفيت كلها وبدئ بالأخف فالأخف فيبدأ بالجلد ثم بالقطع ويقدم الأخف في الجلد على الأثقل فيبدأ في الجلد بحد الشرب ثم بحد القذف إن قلنا انه حق لله تعالى ثم بحد الزنا وإن قلنا ان حد القذف حق لآدمي قدمناه ثم بحد الشرب ثم بحد الزنا (10/190)
مسألة : إذا تحاكم إلينا أهل الذمة حكمنا عليهم بحكم الله تعالى علينا
مسألة : قال : وإذا تحاكم الينا أهل الذمة حكمنا عليهم بحكم الله تعالى علينا
وجملة ذلك أنه إذا تحاكم إلينا أهل الذمة أو استعدى بعضهم على بعض فالحاكم مخير بين إحضارهم والحكم بينهم وبين تركهم سواء كانوا من أهل دين واحد أو من أهل أديان هذا المنصوص عن أحمد وهو قول النخعي وأحد قولي الشافعي وحكى أبو خطاب عن أحمد رواية أخرى أنه يجب الحكم بينهم وهذا القول الثاني للشافعي واختيار المزني لقول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولأنه يلزمه دفع من قصد واحدا منهما بغير حق فلزمه الحكم بينهما كالمسلمين
ولنا قول الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } فخيره بين الأمرين ولا خلاف في أن هذه الآية نزلت فيمن وادعه رسول الله صلى الله عليه و سلم من يهود المدينة ولأنهما كافران فلا يجب الحكم بينهما كالمعاهدين والآية التي احتجوا بها محمولة على من اختار الحكم بينهم لقوله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } جمعا بين الآيتين فانه لا يصار الى النسخ مع امكان الجمع فإذا ثبت هذا فإنه إذا حكم بينهم لم يجز له الحكم إلا بحكم الاسلام للآيتين ولأنه لا يجوز له الحكم إلا بالقسط كما في حق المسلمين ومتى حكم بينهما ألزمهما حكمه ومن امتنع منهما أجبره على قبول حكمه وأخذه به لأنه إنما دخل في العهد بشرط التزام أحكام الإسلام قال أحمد : لا يبحث عن أمرهم ولا يسأل عن أمرهم إلا أن يأتوا هم فان ارتفعوا الينا أقمنا عليهم الحد على ما فعل النبي صلى الله عليه و سلم وقال أيضا : حكمنا يلزمهم وحكمنا جائز على جميع الملل ولا يدعوهما الحاكم فان جاءوا حكمنا بحكمنا إذا ثبت هذا فانه إذا رفع إلى الحاكم من أهل الذمة من فعل محرما يوجب عقوبة مما هو محرم عليهم في دينهم كالزنا والسرقة والقذف والقتل فعليه إقامة حده عليه فإن كان زنا جلد إن كان بكرا وغرب عاما وإن كان محصنا رجم لما روى ابن عمر أن [ النبي صلى الله عليه و سلم أتى بيهوديين فجرا بعد إحصانهما فأمر بهما فرجما ] وعن ابن عمر [ أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفع يده فاذا فيها آية رجم فقالوا : صدق يا محمد فيها آية رجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فرجما ] متفق عليه وروى أنس أن [ يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين حجرين ] متفق عليه وان كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم يحد لأنه لا يعتقد تحريمه فلم يلزمه عقوبته كالكفر وإن تظاهر به عزر لأنه أظهر منكرا في دار الاسلام فعزر عليه كالمسلم (10/190)
فصل : حكم ما لو تحاكم مسلم وذمي
فصل : وإن تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهما بغير خلاف لأنه يجب دفع ظلم كل واحد منهما عن صاحبه (10/191)
مسألة : إذا قذف بالغ حرا مسلما أو حرة مسلمة جلد الحد ثمانين
مسألة : قال : وإذا قذف بالغ حرا مسلما أو حرة مسلمة جلد الحد ثمانين
القذف هو الرمي بالزنا وهو محرم باجماع الأمة والاصل في تحريمه الكتاب والسنة أما الكتاب فقول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } وقال سبحانه : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اجتنبوا السبع الموبقات قالوا : وما هن يا رسول الله قال : الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ] متفق عليه والمحصنات ههنا العفائف والمحصنات في القرآن جاءت بأربعة معان : أحدها هذا والثاني بمعنى المزوجات كقوله تعالى : { والمحصنات من المؤمنات } وقوله تعالى : { محصنات غير مسافحات } والثالث بمعنى الحرائر كقوله تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات } وقوله سبحانه : { والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } وقوله : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } والرابع بمعنى الاسلام كقوله { فإذا أحصن } قال ابن مسعود احصانها اسلامها وأجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف المحصن اذا كان مكلفا وشرائط الإحصان الذي يجب الحد بقذف صاحبه خمسة : العقل والحرية والاسلام والعفة عن الزنا وأن يكون كبيرا يجامع مثله وبه يقول جماعة العلماء قديما وحديثا سوى ما روي عن داود أنه أوجب الحد على قاذف العبد وعن ابن المسيب وابن أبي ليلى قالوا : اذا قذف ذمية ولها ولد مسلم يحد والأول أولى لأن من لا يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد وله ولد كالمجنونة واختلفت الرواية عن أحمد في اشتراط البلوغ فروي عنه أنه شرط وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل ولأن زنا الصبي لا يوجد حدا فلا يجب الحد بالقذف به كزنا المجنون
والثانية : لا يشترط لأنه حر عاقل عفيف يتعير بهذا القول الممكن صدقه فأشبه الكبير وهذا قول مالك و اسحاق فعلى هذه الرواية لا بد أن يكون كبيرا يجامع مثله وأدناه أن يكون للغلام عشر وللجارية تسع (10/192)
فصل : يجب الحد على قاذف الخصي والمجبوب الخ
فصل : ويجب الحد على قاذف الخصي والمجبوب والمريض المدنف والرتقاء والقرناء وقال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي : لا حد على قاذف مجبوب قال ابن المنذر : وكذلك الرتقاء وقال الحسن : لا حد على قاذف الخصي لأن العار منتف عن المقذوف بدون الحد للعلم بكذب القاذف والحد إنما يجب لنفي العار
ولنا عموم قوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } والرتقاء داخلة في عموم هذا ولأنه قاذف لمحصن فيلزمه الحد كقاذف القادر على الوطء ولأن امكان الوطء أمر خفي لا يعلمه كثير من الناس فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحد فيجب كقذف المريض (10/194)
فصل : يجب الحد على القاذف في غير دار الإسلام
فصل : ويجب الحد على القاذف في غير دار الإسلام وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : لا حد عليه لأنه في دار لا حد على أهلها
ولنا عموم قوله تعالى : { والذين يرمون } الآية ولأنه مسلم مكلف قذف محصنا فأشبه من في دار الاسلام (10/195)
فصل : حد القذف ثمانون جلدة إذا كان القاذف حرا
فصل : وقدر الحد ثمانون إذا كان القاذف حرا للآية والاجماع رجلا كان أو امرأة ويشترط أن يكون بالغا عاقلا غير مكره لأن هذه مشترطة لكل حد (10/195)
مسألة : إذا طالب المقذوف ولم يكن للقاذف بينة وشروط إقامة الحد على القاذف
مسألة : قال : إذا طالب المقذوف ولم يكن للقاذف بينة
وجملته أن يعتبر لإقامة الحد بعد تمام القذف بشروطه شرطان :
أحدهما : مطالبة المقذوف لأنه حق له فلا يستوفى قبل طلبه كسائر حقوقه الثاني أن يأتي ببينة لقول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } فيشترط في جلدهم عدم البينة وكذلك يشترط عدم الإقرار من المقذوف لأنه في معنى البينة فان كان القاذف زوجا اعتبر شرط ثالث وهو امتناعه من اللعان ولا نعلم خلافا في هذا كله وتعتبر استدامة الطلب إلى اقامة الحد فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال الحسن واصحاب الرأي : لا يسقط بعفوه لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود
ولنا أنه حق لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص وفارق سائر الحدود فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها وحد السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا باستيفاء الحد ولأنهم قالوا : تصح دعواه ويستحلف فيه ويحكم الحاكم فيه بعلمه ولا يقبل رجوعه عنه بعد الاعتراف فدل على أنه حق لآدمي (10/195)
فصل : إذا قذف من لم يبلغ لم يقم عليه الحد حتى يبلغ المقذوف
فصل : وإذا قلنا بوجوب الحد بقذف من لم يبلغ لم تجز إقامته حتى يبلغ ويطالب به بعد بلوغه لأن مطالبته قبل البلوغ لا توجب الحد لعدم اعتبار كلامه وليس لوليه المطالبة عنه لأنه حق شرع للتشفي فلم يقم غيره مقامه في استيفائه كالقصاص فإذا بلغ وطالب أقيم عليه حينئذ ولو قذف غائبا لم يقم عليه الحد حتى يقدم ويطالب إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته ويحتمل أن لا تجوز إقامته في غيبته بحال لأنه يحتمل أن يعفو بعد المطالبة فيكون ذلك شبهة في درأ الحد لكونه يندرىء بالشبهات ولو قذف عاقلا فجن بعد قذفه وقبل طلبه لم تجز إقامته حتى يفيق ويطلب وكذلك إن أغمي عليه فان كان قد طالب به قبل جنونه وإغمائه جازت اقامته كما لو وكل في استيفاء القصاص ثم جن أو أغمي عليه قبل استيفائه (10/197)
مسألة : حد العبد والأمة في القذف
مسألة : قال : وإن كان القاذف عبدا أو أمة جلد أربعين بأدون من السوط الذي يجلد به الحر
أجمع أهل العلم على وجوب الحد على العبد إذا قذف الحر المحصن لأنه داخل في عموم الآية وحده اربعون في قول أكثر أهل العلم روي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنه قال : أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف إلا أربعين وروى خلاس أن عليا قال في عبد قذف حرا : نصف الجلد وجلد أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عبدا قذف حرا ثمانين وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز ولعلهم ذهبوا الى عموم الآية والصحيح الأول للاجماع المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كحد الزنا وهو يخص عموم الآية وقد عيب على أبي بكر بن عمرو بن حزم جلده العبد ثمانين وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : ما رأينا أحدا قبله جلد العبد ثمانين وقال سعيد : حدثنا ابن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال : حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبدا في فرية ثمانين فأنكر ذلك من حضره من الناس وغيرهم من الفقهاء فقال لي عبد الله بن عامر بن ربيعة : إني رأيت والله عمر بن الخطاب ما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية فوق أربعين إذا ثبت أنه أربعون فانه يكون بأدون من السوط الذي يجلد به الحر لأنه لما خفف في قدره خفف في سوطه كما أن الحدود في أنفسها كما قل منها كان سوطه أخف فالجلد في الشرب أخف منه في القذف وفي القذف أخف منه في الزنا ويحتمل أن يساوي العبد الحر في السوط لأنه على النصف ولا يتحقق التنصيف إلا مع المساواة في السوط (10/198)
فصل : إذا قذف ولده وإن نزل لم يجب عليه الحد
فصل : وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه سواء كان القاذف رجلا أو امرأة وبهذا قال عطاء و الحسن و الشافعي و اسحاق وأصحاب الرأي وقال عمر بن عبد العزيز و مالك و أبو ثور و ابن المنذر : عليه الحد لعموم الآية ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنا
ولنا أنه عقوبة تجب حقا لآدمي فلا يجب للولد على الوالد كالقصاص أو نقول أنه حق لا يستوفى إلا بالمطالبة باستيفائه فأشبه القصاص ولأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يجب للابن على أبيه كالقصاص ولأن الابوة معنى يسقط القصاص فمنعت الحد كالرق والكفر وهذا يخص عموم الآية وما ذكروه ينتقض بالسرقة فان الأب لا يقطع بسرقة مال ابنه والفرق بين القذف والزنا أن حد الزنا خالص لحق الله تعالى لا حق للآدمي فيه وحد القذف حق لآدمي فلا يثبت للابن على أبيه كالقصاص وعلى أنه زنا بجارية ابنه لم يجب عليه حد إذا ثبت هذا فإنه لو قذف أم ابنه وهي أجنبية منه فماتت قبل استيفائه لم يكن لابنه المطالبة بالحد لأن ما منع ثبوته ابتداء أسقطه طارئا كالقصاص وإن كان لها ابن آخر من غيره كان له استيفاؤه إذا ماتت بعد المطالبة به لأن الحد يملك بعض الورثة استيفاءه كله بخلاف القصاص وأما قذف سائر الأقارب فيوجب الحد على القاذف في قولهم جميعا (10/199)
مسألة وفصول : حكم القذف بعمل قوم لوط
مسألة : قال : واذا قال له : يا لوطي سئل عما اراد فان قال : أردت انك من قوم لوط فلا شيء عليه وإن قال : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط فهو كمن قذف بالزنا
في هذه المسألة فصلان :
الفصل الأول : أن من قذف رجلا بعمل قوم لوط إما فاعلا وإما مفعولا فعليه حد القذف وبه قال الحسن و النخعي و الزهري و مالك و أبو يوسف و محمد بن الحسن و أبو ثور وقال عطاء و قتادة و أبو حنيفة : لا حد عليه لأنه قذف بما لا يوجب الحد عنده وعندنا هو موجب للحد وقد بيناه فيما مضى وكذلك لو قذف امرأة أنها وطئت في دبرها أو قذف رجلا بوطء امرأة في دبرها فعليه الحد عندنا وعند أبي حنيفة لا حد عليه ومبنى الخلاف ههنا على الخلاف في وجوب حد الزنا على فاعل ذلك وقد تقدم الكلام فيه فأما إن قذفه بإتيان بهيمة انبنى ذلك على وجوب الحد على فاعله فمن أوجب الحد على فاعله أوجب حد القذف على القاذف به ومن لا فلا وكل ما لا يجب الحد بفعله لا يجب الحد على القاذف به كما لو قذف إنسانا بالمباشرة دون الفرج أو بالوطء بالشبهة أو قذف امرأة بالمساحقة أو بالوطء مستكرهة لم يجب الحد على القاذف ولأنه رماه بما لا يوجب الحد فأشبه ما لو قذفه باللمس والنظر وكذلك لو قال : يا كافر يا فاسق يا سارق يا منافق يا فاجر يا خبيث يا أعور يا أقطع يا أعمى ابن الزمن الاعمى الأعرج فلا حد في ذلك كله لأنه قذف بما لا يوجب الحد فلم يوجب الحد كما لو قال : يا كاذب يا نمام ولا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم ولكنه يعزر لسب الناس واذاهم فأشبه ما لو قذف من لا يوجب قذفه الحد
الفصل الثاني : أنه إذا قال : أردت أنك من قوم لوط فاختلفت الرواية عن أحمد فروى عنه جماعة أنه يجب عليه الحد بقوله : يا لوطي ولا يسمع تفسيره بما يحيل القذف وهذا اختيار أبي بكر ونحوه قال الزهري و مالك والرواية الثانية أنه لا حد عليه نقلها المروذي ونحو هذا قال الحسن و النخعي قال الحسن : إذا قال نويت أن دينه دين لوط فلا حد عليه وإن قال : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط فعليه الحد ووجه ذلك أنه فسر كلامه بما لا يوجب الحد فلم يجب عليه حد كما لو فسره به متصلا بكلامه وروي عن أحمد رواية ثالثة أنه إذا كان في غضب قال : إنه لأهل أن يقام عليها لحد لأن قرينة الغضب تدل على إرادة القذف بخلاف حال الرضا والصحيح في المذهب الرواية الأولى لأن هذه الكلمة لا يفهم منها إلا القذف بعمل قوم لوط فكانت صريحة فيه كقوله : يا زاني ولأن قوم لوط لم يبق منهم أحد فلا يحتمل أن ينسب إليهم
فصل : وإن قال : أردت أنك على دين لوط أو أنك تحب الصبيان أو تقبلهم أو تنظر إليهم أو أنك تتخلق بأخلاق قوم لوط في أنديتهم غير إتيان الفاحشة أو أنك تنهى عن الفاحشة كنهي لوط عنها أو نحو ذلك خرج في هذا كله وجهان بناء على الروايتين المنصوصتين في المسألة لأن هذا في معناه (10/200)
مسألة : حكم ما لو قال : يا معفوج
مسألة : قال : وكذلك من قال يا معفوج
المنصوص عن أحمد فيمن قال : يا معفوج أن عليه الحد وكلام الخرقي يقتضي أنه يرجع إلى تفسيره فإن فسره بغير الفاحشة مثل أن قال : أردت يا مفلوج أو يا مصابا دون الفرج ونحو هذا فلا حد عليه لأنه فسره بما لا حد فيه وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد كما لو صرح به ووجه القولين ما تقدم في التي قبلها (10/201)
فصل : إنما يجب الحد على القاذف بلفظ صريح
فصل : وكلام الخرقي يقتضي أن لا يجب الحد على القاذف إلا بلفظ صريح لا يحتمل غير القذف وهو أن يقول : يا زاني أو ينطق باللفظ الحقيقي في الجماع فأما ما عداه من الالفاظ فيرجع فيه إلى تفسيره لما ذكرنا في هاتين المسألتين فلو قال لرجل : يا مخنث أو لامرأة : يا قحبة وفسره بما ليس بقذف مثل أن يريد بالمخنث أن فيه طباع التأنيث والتشبه بالنساء وبالقحبة أنها تستعد لذلك فلا حد عليه وكذلك إذا قال : يا فاجرة يا خبيثة
وحكى أبو الخطاب في هذا رواية أخرى أنه قذف صريح ويجب به الحد والصحيح الأول قال أحمد في رواية حنبل : لا أرى الحد إلا على من صرح بالقذف والشتيمة قال ابن المنذر : الحد على من نصب الحد نصبا ولأنه قول غير الزنا فلم يكن صريحا في القذف كقوله : يا فاسق وإن فسر شيئا من ذلك بالزنا فلا شك في كونه قذفا (10/202)
فصل : أحكام التعريض بالقذف
فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في التعريض بالقذف مثل أن يقول لمن يخاصمه : ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنا يا حلال ابن الحلال أو يقول : ما أنا بزان ولا أمي بزانية فروى عنه حنبل لا حد عليه وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار أبي بكر وبه قال عطاء وعمرو بن دينار و قتادة و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر لما روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و سلم : إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفيه فلم يلزمه بذلك حد ولا غيره وقد فرق الله تعالى بين التعريض بالخطبة والتصريح بها فأباح التعريض في العدة وحرم التصريح فكذلك في القذف ولأن كل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفا كقوله : يا فاسق
وروى الأثرم وغيره عن أحمد أن عليه الحد وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه وبه قال إسحاق لأن عمر حين شاورهم في الذي قال لصاحبه : ما أنا بزان ولا أمي بزانية فقالوا : قد مدح اباه وأمه فقال عمر : قد عرض بصاحبه فجلده الحد وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض
وروى الأثرم أن عثمان جلد رجلا قال لآخر : يا ابن شامة الوذر يعرض له بزنا أمه والوذر قدر اللحم يعرض له بكمر الرجال ولأن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف فلا شك أنه لا يجوز قذفا
وذكر أبو الخطاب من صور التعريض أن يقول لزوجة آخر : قد فضحته وغطيت رأسه وجعلت له قرونا وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه ونكست رأسه وذكر في جميع ذلك روايتين وذكر أبو بكر عبد العزيز أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض (10/204)
فصل : السباب والشتم الذي يوجب التعزير
فصل : وإن قال لرجل : يا ديوث يا كشحان فقال أحمد يعزر قال ابراهيم الحربي : الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته وقال ثعلب القرطبان : الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته وقال : القرنان والكشحان لم أرهما في كلام العرب ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث أو قريبا منه فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث لأنه بما لا حد فيه
وقال خالد بن يزيد عن أبيه في الرجل يقول للرجل : يا قرنان إذا كان له أخوات أو بنات في الاسلام ضرب الحد يعني أنه قاذف لهن
وقال خالد عن أبيه : القرنان عند العامة من له بنات والكشحان من له أخوات يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن الوقواد عند العامة السمسار في الزنا والقذف بذلك كله يوجب التعزير لأنه قذف بما لا يوجب الحد (10/206)
فصل : إذا نفى رجلا عن أبيه فعليه الحد
فصل : وإذا نفى رجلا عن أبيه فعليه الحد نص عليه أحمد وكذلك إذا نفاه عن قبيلته وبهذا قال ابراهيم النخعي و اسحاق وبه قال أبو حنيفة و الثوري و حماد : إذا نفاه عن أبيه وكانت أمة مسلمة وإن كانت ذمية أو رقيقة فلا حد عليه لأن القذف لها ووجه الأول ما روى الاشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول : [ لا أوتى برجل يقول ان كنانة ليست من قريش إلا جلدته ] وعن ابن مسعود أنه قال : لا جلد إلا في اثنين : رجل قذف محصنة أو نفى رجلا عن أبيه وهذا لا يقوله إلا توقيفا فأما إن نفاه عن أمه فلا حد عليه لأنه لم يقذف أحدا بالزنا وكذلك إن قال : إن لم تفعل كذا فلست بابن فلان فلا حد فيه لأن القذف لا يتعلق بالشرط والقياس يقتضي أن لا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا فأشبه ما لو قال للأعجمي : إنك عربي ولو قال للعربي : أنت نبطي أو فارسي فلا حد فيه وعليه التعزير نص عليه لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه والأول أصح وبه قال مالك و الشافعي : لأنه يحتمل غير القذف احتمالا كثيرا فلا يتعين صرفه اليه ومتى فسر شيئا من ذلك بالقذف فهو قاذف (10/207)
فصل : حكم ما إذا قذف رجل رجلا فقال آخر : صدقت
فصل : وإذا قذف رجل رجلا فقال آخر : صدقت فالمصدق قاذف أيضا في أحد الوجهين لأن تصديقه ينصرف الى ما قاله بدليل ما لو قال : لي عليك ألف فقال : صدقت كان اقرارا بها ولو قال : أعطني ثوبي هذا فقال : صدقت كان إقرارا وفيه وجه آخر لا يكون قاذفا وهو قول زفر لأنه يحتمل أن يريد بتصديقه في غير القذف ولو قال : أخبرني فلان أنك زنيت لم يكن قاذفا سواء كذبه المخبر عنه أو صدقه وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أنه يكون قاذفا إذا كذبه الآخر وبه قال عطاء و مالك ونحوه عن الزهري لأنه أخبر بزناه
ولنا أنه إنما أخبر أنه قد قذف فلم يكن قذفا كما لو شهد على رجل أنه قد قذف رجلا (10/209)
فصل : القذف بصيغة أفعل التفضيل
فصل : وإن قال : أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس فهو قاذف له وهل يكون قاذفا للثاني ؟ فيه وجهان : أحدهما يكون قاذفا له اختاره القاضي لأنه أضاف الزنا إليهما وجعل أحدهما فيه أبلغ من الآخر فإن لفظة أفعل للتفضيل فيقتضي اشتراك المذكورين في أصل الفعل وتفضيل أحدهما على الآخر فيه كقوله أجود من حاتم والثاني يكون قاذفا للمخاطب خاصة لأن لفظة افعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل كقول الله تعالى : { أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى } وقال تعالى : { فأي الفريقين أحق بالأمن } وقال للوط : { بناتي هن أطهر لكم } أي من أدبار الرجال ولا طهارة فيهم وقال الشافعي وأصحاب الرأي : ليس بقذف للأول ولا للثاني الا أن يريد به القذف
ولنا أن موضوع اللفظ يقتضي ما ذكرناه فحمل عليه كما لو قال : انت زان (10/210)
فصل : حكم من قال : زنأت مهموزا
فصل : وإن قال : زنأت مهموزا فقال أبو بكر وأبو الخطاب : هو قذف لأن عامة الناس لا يفهمون من ذلك إلا القذف فكان قذفا كما لو قال : زنيت وقال ابن حامد : إن كان عاميا فهو قذف لأنه لا يريد به إلا القذف وإن كان من أهل العربية لم يكن قذفا لأن معناه في العربية طلعت فالظاهر أنه يريد موضوعه ولأصحاب الشافعي في كونه قذفا وجهان وإن قال : زنأت في الجبل فالحكم فيه كما لو قال : زنأت ولم يقل في الجبل وقال الشافعي ومحمد بن الحسن : ليس بقذف قال الشافعي : ويستحلف على ذلك
ولنا أنه إذا كان عاميا لا يعرف موضوعه في اللغة تعين مراده في القذف ولم يفهم منه سواه فوجب أن يكون قذفا كما لو فسره بالقذف أو لحن لحنا غير هذا (10/211)
فصل : حكم من قال لرجل : يا زانية أو لامرأة : يا زاني
فصل : فإن قال لرجل : يا زانية أو لامرأة يا زاني فهو صريح في قذفهما اختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره به وهو قول أبي حنيفة لأنه يحتمل أن يريد بقوله : يا زانية أي يا علامة في الزنا كما يقال للعالم : علامة ولكثير الرواية راوية ولكثير الحفظ حفظة
ولنا أن ما كان قذفا لاحد الجنسين كان قذفا للآخر كقوله : زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعا ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة اليهما بلفظ الزنا وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها وكذلك لو قال للمرأة يا شخصا زانيا أو للرجل يا نسمة زانية كان قاذفا وقولهم : إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فان ما كان اسما للفعل اذا دخلته الهاء كانت للمبالغة كقولهم : حفظة للمبالغة في الحفظ وراوية للمبالغة في الرواية وكذلك همزة ولمزة وصرعة ولأن كثيرا من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادا بما يراد باللفظ الصحيح (10/212)
فصل : حكم من قال لرجل : زنيت بفلانة
فصل : وإذا قال لرجل : زنيت بفلانة كان قاذفا لها وقد نقل عن أبي عبد الله أنه سئل عن رجل قال لرجل يا ناكح أمه ما عليه ؟ قال إن كانت أمه حية فعليه الحد للرجل ولامه حد وقال مهنا : سألت أبا عبد الله إذا قال الرجل لرجل : يا زاني ابن الزاني قال : عليه حدان قلت : أبلغك في هذا شئ قال : مكحول قال فيه حدان وإن أقر إنسان أنه زنى بامرأة فهو قاذف لها سواء ألزمه حد الزنا باقراره أو لم يلزمه وبهذا قال ابن المنذر و أبو ثور ويشبه مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يلزمه حد القذف لأنه يتصور منه الزنا بها من غير زناها لاحتمال أن تكون مكرهة أو موطوءة بشبهة
ولنا ما روى ابن عباس أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه و سلم فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات فجلده مائة وكان بكرا ثم سأله البينة على المرأة : فقالت : كذب والله يا رسول الله فجلده حد الفرية ثمانين والاحتمال الذي ذكره لا ينفي الحد بدليل ما لو قال : يا نائك أمه فإنه يلزمه الحد مع احتمال أن يكون فعل ذلك بشبهة وقد روي عن أبي هريرة أنه جلد رجل قال لرجل ذلك ويتخرج لنا مثل قول أبي حنبيفة بناء على ما إذا قال لامرأته : يا زانية فقالت : بك زنيت فان أصحابنا قالوا : لا حد عليها في قولها : بك زنيت لاحتمال وجود الزنا به مع كونه واطئا بشبهة ولا يجب الحد عليه لتصديقها إياه وقال الشافعي : عليه الحد دونها وليس هذا باقرار صحيح
ولنا أنها صدقته فلم يلزمه حد كما لو قالت : صدقت ولو قال : يا زانية قالت : أنت أزنى مني فقال أبو بكر : هي كالتي قبلها في
سقوط الحد عنه ويلزمها لها ههنا حد القذف بخلاف التي قبلها لأنها أضافت إليه الزنا وفي التي قبلها اضافته الى نفسها (10/213)
مسالة : من قذف رجلا فلم يقم الحد حتى زنى المقذوف لم يزل الحد عن القاذف
مسألة : قال : ومن قذف رجلا فلم يقم الحد حتى زنى المقذوف لم يزل الحد عن القاذف
وبهذا قال الثوري و أبو ثور و المزني و داود وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا حد عليه لأن الشروط تعتبر استدامتها إلى حالة إقامة الحد بدليل أنه لو ارتد أو جن لم يقم الحد ولأن وجود الزنا منه يقوي قول القاذف ويدل على تقدم هذا الفعل منه فأشبه الشهادة إذا طرأ الفسق بعد أدائها قبل الحكم بها
ولنا أن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب كما لو زنى بأمة ثم اشتراها أو سرق عينا فنقصت قيمتها أو ملكها وكما لو جن المقذوف بعد المطالبة وقولهم : إن الشروط تعتبر استدامتها لا يصح فان الشروط للوحوب فيعتبر وجودها إلى حين الوجوب وقد وجب الحد بدليل أنه ملك المطالبة ويبطل بالأصول التي قسنا عليها وأما إذا جن من وجب له الحد فلا يسقط الحد وإنما يتأخر استيفاؤه لتعذر المطالبة به فأشبه ما لو غاب من له الحد وان ارتد من له الحد لم يملك المطالبة لأن حقوقه وأملاكه تزول أو تكون موقوفة وفارق الشهادة فان العدالة شرط للحكم بها فيعتبر وجودها إلى حين الحكم بها بخلاف مسألتنا فإن العفة شرط للوجوب فلا تعتبر إلا الى حين الوجوب (10/214)
فصل : حكم ما إذا وجب الحد على ذمي أو مرتد فالتحق بدار الحرب ثم عاد
فصل : ولو وجب الحد على ذمي أو مرتد فلحق بدار الحرب ثم عاد لم يسقط عنه وقال أبو حنيفة : يسقط ولنا أنه حد وجب فلم يسقط بدخول دار الحرب كما لو كان مسلما دخل بأمان (10/216)
مسألة : حكم من قذف عبدا أو مشركا أو مسلما له دون عشر سنين
مسألة : قال : ومن قذف مشركا أو عبدا أو مسلما له دون العشر سنين أو مسلمة لها دون التسع سنين أدب ولم يحد
قد ذكرنا أن الاسلام والحرية وادراك سن يجامع مثله في مثله شروط لوجوب الحد على قاذفه فإذا انتفى أحدها لم يجب الحد على قاذفه ولكن يجب تأديبه ردعا له عن أعراض المعصومين وكفا له عن أذاهم وحد الصبي الذي لم يجب الحد بقذفه أن يبلغ الغلام عشرا والجارية تسعا في إحدى الروايتين وقد سبق ذكر ذلك (10/216)
فصل : حكم ما إذا اختلف القاذف والمقذوف فقال القاذف : كنت صغيرا حين قذفتك وقال المقذوف : كنت كبيرا
فصل : فان اختلف القاذف والمقذوف فقال القاذف : كنت صغيرا حين قذفتك وقال المقذوف : كنت كبيرا فذكر القاضي أن القول قول القاذف لأن الأصل الصغر وبراءة الذمة من الحد فإن أقام القاذف بينة أنه قذفه صغيرا وأقام المقذوف بينة أنه قذفه كبيرا وكانتا مطلقتين أو مؤرختين تاريخين مختلفين فهما قذفان موجب أحدهما التعزير والثاني الحد وإن بينتا تاريخا واحدا وقالت احداهما : وهو صغير وقالت الأخرى وهو كبير تعارضتا وسقطتا وكذلك لو كان تاريخ بينة المقذوف قبل تاريخ بينة القاذف (10/217)
فصل : حكم من قذف من كان مشركا
مسألة : قال : ومن قذف من كان مشركا وقال : أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله وحد القاذف اذا طالب المقذوف وكذلك من كان عبدا
إنما كان كذلك لأنه قذفه في حال كونه مسلما محصنا وذلك بمقتضى وجوب لاحد عليه لعموم الآية ووجود المعنى فاذا ادعى ما يسقط الحد عنه لم يقبل منه كما لو قذف كبيرا ثم قال : أردت أنه زنى وهو صغير فأما إن قال له : زنيت في شركك فلا حد عليه وبه قال الزهري و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى وعن مالك أنه يحد وبه قال الثوري لأن القذف وجد في حال كونه محصنا
ولنا أنه أضاف القذف الى حال ناقصة أشبه ما لو قذفه في حال الشرك ولأنه قذفه بما لا يوجب الحد على المقذوف فأشبه ما لو قذفه بالوطء دون الفرج وهكذا الحكم لو قذف من كان رقيقا فقال : زنيت فيء حال رقك أو قال : زنيت وأنت طفل وإن قال : زنيت وأنت صبي أو صغير وسئل عن الصغر فان فسره بصغر لا يجامع في مثله فهي كالتي قبلها وإن فسره بصغر يجامع في مثله فعليه الحد في إحدى الروايتين وان قال : زنيت إذ كنت مشركا أو إذ كنت رقيقا فقال المقذوف : ما كنت مشركا ولا رقيقا نظرنا فإن ثبت أنه كان مشركا أو رقيقا فهي كالتي قبلها وإن ثبت أنه لم يكن رقيقا كذلك وجب الحد على القاذف وإن لم يثبت واحد منهما ففيه روايتان :
إحداهما : يجب الحد لأن الأصل عدم الشرك والرق ولأن الأصل الحرية واسلام أهل دار الاسلام والثانية القول قول القاذف لأن الأصل براءة ذمة القاذف وإن قال : زنيت وأنت مشرك فقال المقذوف : أردت قذفي بالزنا والشرك معا وقال القاذف : بل أردت قذفك بالزنا إذ كنت مشركا فالقول قول القاذف اختاره أبو الخطاب وهو قول بعض الشافعية لأن الخلاف في بينته وهو أعلم بها وقوله : وأنت مشرك مبتدا وخبر وهو حال لقوله : زنيت كقول الله تعالى : { إلا استمعوه وهم يلعبون } وقال القاضي : يجب الحد وهو قول بعض الشافعية لأن قوله : زنيت خطاب في الحال فالظاهر أنه أراد زناه في الحال وهكذا إن قال : زنيت وأنت عبد وإن قذف مجهولا وادعى أنه رقيق أو مشرك فقال المقذوف : بل أنا حر مسلم فالقول قوله وقال أبو بكر : القول قول القاذف في الرق لأن الأصل براءة ذمته من الحد وهو يدرأ بالشبهات وما ادعاه محتمل فيكون شبهة وعن الشافعي كالوجهين
ولنا ان الأصل الحرية وهو الظاهر فلم يلتفت الى ما خالفه كما لو فسر صريح القذف بما يحيله وكما لو ادعى أنه مشرك فان قيل الإسلام يثبت بقوله : أنا مسلم : بخلاف الحرية قلنا : إنما يثبت الاسلام بقوله في المستقبل وأما الماضي فلا يثبت بما جاء بعده فلا يثبت كونه مسلما حال القذف بقوله في حال النزاع فاستويا (10/217)
مسألة : يحد من قذف الملاعنة
مسألة : قال : ويحد من قذف الملاعنة
نص أحمد على هذا وهو قول ابن عمر وابن عباس و الحسن و الشعبي و طاوس و مجاهد و مالك و الشافعي وجمهور الفقهاء ولا نعلم فيه خلافا وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى في الملاعنة أن لا ترمى ولا يرمى ولدها فعليه الحد رواه أبو داود ولأن حصانتها لم تسقط باللعان ولا يبت الزنا به ولذلك لم يلزمها به حد ومن قذف ابن الملاعنة فقال : هو ولد زنا فعليه الحد للخبر والمعنى وكذلك إن قال : هو من الذي رميت به فأما إن قال : ليس هو ابن فلان يعني الملاعن واراد أنه منفي عنه شرعا فلا حد عليه لأنه صادق (10/219)
فصل : إن ثبت زناه فلا حد على قاذفه لأنه صادق
فصل : فأما إن ثبت زناه ببينة أو إقرار أو حد بالزنا فلا حد على قاذفه لأنه صادق ولأن احصان المقذوف قد زال بالزنا ولو قال لمن زنى في شركه أو لمن كان مجوسيا تزوج بذات محرمه بعد أن أسلم : يا زاني فلا حد عليه إذا فسره بذلك وقال مالك : عليه الحد لأنه قذف مسلما لم يثبت زناه في اسلامه
ولنا أنه قذف من ثبت زناه أشبه ما لو ثبت زناه في الاسلام ولأنه صادق والذي يقتضيه كلام الخرقي وجوب الحد عليه لقوله ومن قذف من كان مشركا وقال أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت الى قوله وحد (10/220)
مسألة : إذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الأمة حية
مسألة : قال : وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إذا كانت الأم في الحياة
وإن قذفت أمة وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة حد القاذف إذا طالب الابن وكان حرا مسلما أما اذا قذفت وهي في الحياة فليس لولدها المطالبة لأن الحق لها فلا يطالب به غيرها ولا يقوم غيرها مقامها سواء كانت محجورا عليها أو غير محجور عليها لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص وتعتبر حصانتها لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد وأما إن قذفت وهي ميتة فان لولدها المطالبة لأنه قدح في نسبه ولأنه بقذف امه ينسبه الى أنه من زنا ولا يستحق ذلك بطريق الارث ولذلك تعتبر الحصانة فيه ولا تعتبر الحصانة في أمه لأن القذف له وقال أبو بكر : لا يجب الحد بقذف ميتة بحال وهو قول أصحاب الرأي لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة فأشبه قذف المجنون وقال الشافعي : إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة وينقسم بانقسام الميراث وإن لم يكن محصنا فلا حد على قاذفه لأنه ليس بمحصن فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيا وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف محصنا حيا ولا ميتا لأنه إذا لم يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيا فلأن لا يحد بقذفه بعد موته أولى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم في الملاعنة : [ ومن رمى ولدها فعليه الحد ] يعني من رماه بأنه ولد زنا وإذا وجب بقذف ابن الملاعنة بذلك فبقذف غيره أولى ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين أو كانا ميتين والحد إنما وجب للولد لأن الحد لا يورث عندهم فأما ان قذفت أمه بعد موتها وهو مشرك أو عبد فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرقي سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا قال لكافر أو عبد : لست لأبيك وأبواه حران مسلمان فعليه الحد وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد لست لأبيك فعليه الحد وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور وقال أصحاب الرأي : يصح أن يحد المولى لعبده واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر احصانها دون احصانه لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة ولأن معنى هذا أن أمك زنت فاتت بك من الزنا فإذا كان من الزنا منسوبا اليها كانت هي المقذوفة دون ولدها
ولنا ما ذكرناه ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد لأن الكافر لا يرث المسلم والعبد لا يرث المسلم والعبد لا يرث الحر ولأنهم لا يوجبون الحد بقذف ميتة بحال فيثبت أن القذف له فيعتبر احصانه دون احصانها والله أعلم (10/220)
فصل : حكم المطالبة بحد قذف الجدة
فصل : وإن قذفت جدته فقياس قول الخرقي أنه كقذف أمه إن كانت حية فالحق لها ويعتبر احصانها وليس لغيرها المطالبة عنها وإن كانت ميتة فله المطالبة إذا كان محصنا لأن ذلك قدح في نسبه فأما إن قذف أباه أو جده أو أحدا من أقاربه غير أمهاته بعد موته لم يجب الحد بقذفه في ظاهر كلام الخرقي لأنه إنما أوجب بقذف أمه حقا له لنفي نسبه لاحقا للميت ولهذا لم يعتبر إحصان المقذوفة واعتبر إحصان الولد ومتى كان المقذوف من غير أمهاته لم يتضمن نفي نسبه فلم يجب الحد وهذا قول أبي بكر وأصحاب الرأي وقال الشافعي : إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة به وينقسم انقسام الميراث لأنه قذف محصنا فيجب الحد على قاذفه كالحي
ولنا أنه قذف من لا يتصور منه المطالبة فلم يجب الحد بقذفه كالمجنون او نقول قذف من لا يجب الحد له فلم يجب كقذف غير المحصن وفارق قذف الحي فان الحد يجب له (10/222)
مسألة : من قذف أم النبي قتل مسلما كان أو كافرا
مسألة : قال : ومن قذف أم النبي صلى الله عليه و سلم قتل مسلما كان أو كافرا
يعني أن حده القتل ولا تقبل توبته نص عليه أحمد وحكى أبو الخطاب رواية أخرى أن توبته تقبل وبه قال أبو حنيفة و الشافعي مسلما كان أو كافرا لأن هذا منه ردة والمرتد يستتاب وتصح توبته ولنا أن هذا حد قذف فلا يسقط بالتوبة كقذف غير أم النبي صلى الله عليه و سلم ولأأنه لو قبلت توبته وسقط حده لكان أخف حكما من قذف آحاد الناس لأن قذف غيره لا يسقط بالتوبة ولا بد من إقامته واختلفت الرواية عن أحمد فيما إذا كان القاذف كافرا فأسلم فروي أنه لا يسقط باسلامه لأنه حد قذف فلم يسقط بالاسلام كقذف غيره وروي أنه يسقط لأنه لو سب الله تعالى في كفره ثم أسلم سقط عنه القتل فسب نبيه أولى ولأن الاسلام يجب ما قبله والخلاف في سقوط القتل عنه فأما توبته فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة فإن الله تعالى يقبل التوبة من الذنوب كلها والحكم في قذف النبي صلى الله عليه و سلم كالحكم في قذف أمه لأن قذف أمه إنما أوجب القتل لكونه قذفا للنبي صلى الله عليه و سلم وقدحا في نسبه (10/223)
فصل : قذف النبي وقذف أمه ردة عن الإسلام
فصل : وقذف النبي صلى الله عليه و سلم وقذف أمه ردة عن الاسلام وخروج عن الملة وكذلك سبه بغير القذف إلا ان سبه بغير القذف يسقط بالاسلام لأن سب الله تعالى يسقط بالاسلام فسب النبي صلى الله عليه و سلم أولى وقد جاء في الأثر : [ إن الله تعالى يقول : شتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني أما شتمه إياي فقوله : إني اتخذت ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ] لا خلاف في أن إسلام النصراني القائل لهذا القول يمحو ذنبه (10/224)
مسألة : قذف الجماعة بكلمة واحدة فيه حد واحد
مسألة : قال : وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد اذا طالبوا أو واحد منهم
وبهذا قال طاوس و الشعبي و الزهري و النخعي و قتادة و حماد و مالك و الثوري و أبو حنيفة وصاحباه و ابن أبي ليلى و اسحاق وقال الحسن و و أبو ثور و ابن المنذر لكل واحد حد كامل وعن أحمد مثل ذلك و للشافعي قولان كالروايتين ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم فلزمه له حد كامل كما لو قذفهم بكلمات
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة فلم يحدهم عمر إلا حدا واحدا ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا ولأن الحد إنما وجب بادخال المعرة على المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف وتزول المعرة فوجب أن يكتفى به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا مفردا فان كذبه في قذف لا يلزم منه كذبه في آخر ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر فإذا ثبت هذا فانهم ان طلبوه جملة حد لهم وإن طلبه واحد أقيم الحد لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل فأيهم طالب به استوفى وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها تزويجها إذا قام به واحد سقط عن الباقين وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه لأن المعرة عنه لم تزل بعفو صاحبه وليس للعافي الطلب به لأنه قد أسقط حقه منه
وروي عن أحمد رحمه الله رواية أخرى : أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحد واحد وكذلك إن طلبوه واحدا بعدواحد إلا أنه إن لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد وإن طلبه واحد فأقيم له ثم طلبه آخر أقيم له وكذلك جميعهم وهذا قول عروة لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع استيفاؤه بجميعهم وإذا طلبه واحد منفردا كان استيفاؤه له وحده فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ولا إسقاطهم (10/224)
فصل : حكم من قذف الجماعة بكلمات
فصل : وان قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد وبهذا قال عطاء و الشعبي و قتادة و ابن أبي ليلى و أبو حنيفة و الشافعي وقال حماد و مالك : لا يجب إلا حد واحد لأنها جناية توجب حدا فاذا تكررت كفى حد واحد كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء أو شرب أنواعا من المسكر
ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص وفارق ما قاسوا عليه فانه حق لله تعالى (10/226)
فصل : حكم من قال لرجل : يا ابن الزانيين
فصل : وإذا قال لرجل : يا ابن الزانيين فهو قاذف لهما بكلمة واحدة فإن كانا ميتين ثبت الحق لولدهما ولم يجب إلا حد واحد وجها واحدا وإن قال : يا زاني ابن الزاني فهو قذف لهما بكلمتين فإن كان أبوه حيا فلكل واحد منهما حد وان كان ميتا فالظاهر في المذهب أنه لا يجب الحد بقذفه وإن قال : يا زاني ابن الزانية وكانت أمه في الحياة فلكل واحد حد وان كانت ميتة فالقذفان جميعا له وإن قال : زنيت بفلانة فهو قذف لهما بكلمة واحدة وكذلك إذا قال : يا ناكح أمه ويخرج فيه الروايات الثلاث والله أعلم (10/226)
فصل : حكم ما لو قذف رجلا مرات
فصل : وان قذف رجلا مرات فلم يحد فحد واحد رواية واحدة سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت فان قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه في قول عامة أهل العلم وحكي عن ابن القاسم أنه أوجب حدا ثانيا وهذا يخالف اجماع الصحابة فان أبا بكر لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا حدا ثانيا فروى الأثرم عن ظبيان بن عمارة قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان فبلغ ذلك عمر فكبر عليه وقال : شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة وجاء زياد فقال : ما عندك ؟ فلم يثبت فأمر بهم فجلدوا وقال : شهود زور فقال أبو بكرة : أليس ترضى أن أتاك رجل عدل يشهد برجمه ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده فقال أبو بكرة : وأنا أشهد أنه زان فأراد أن يعيد عليه الجلد فقال علي : يا أمير المؤمنين إنك إن أعدت عليه الجلد أوجبت عليه الرجم وفي حديث آخر فلا يعاد في فرية جلد مرتين
قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله قول علي : إن جلدته فاجم صاحبك قال : كأنه جعل شهادته شهادة رجلين قال أبو عبد الله : وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في الحديث فأعجبني ثم قال : يقول اذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر فأما إن حد له ثم قذفه بزنا ثان نظرت فإن قذفه بعد طول الفصل فحد ثان لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة الى القاذف أبدا بحيث يمكن من قذفه بكل حال وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان :
إحداهما : يحد أيضا لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل ولأن سائر أشباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للاول ثبت للثاني حكمه كالزنا والسرقة وايرهما من الاسباب والثانية لا يحد لأنه قد حد له مرة فلم يحد له بالقذف عقبه كما لو قذفها بالزنا الأول (10/227)
فصل : من قال : من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل
فصل : وإذا قال : من رماني فهو ابن زانية فرماه رجل فلا حد عليه في قول أحد من أهل العلم وكذلك إن اختلف رجلان في شيء فقال احدهما : الكاذب هو ابن الزانية فلا حد عليه نص عليه أحمد لأنه لم يعين أحدا بالقذف وكذلك ما أشبه هذا ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في قذفهم مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنا كلهم لم يكن عليه حد لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه (10/229)
فصل : حكم من ادعى على رجل أنه قذفه فأنكر
فصل : وان ادعى على رجل أنه قذفه فأنكر لم يستحلف وبه قال الشعبي و حماد و الثوري وأصحاب الرأي وعن أحمد رحمه الله أنه يستحلف حكاها ابن المنذر وهو قول الزهري و مالك ؟ و الشافعي و اسحاق و أبي ثور و ابن المنذر لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق لآدمي فيستحلف فيه كالدين ووجه الأولى أنه حد فلا يستحلف فيه كالزنا والسرقة فان نكل عن اليمين لم يقم عليه الحد لأن الحد يدرأ بالشبهات فلا يقضى فيه بالنكول كسائر الحدود (10/229)
مسألة : حكم من أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم
مسألة : قال : ومن قتل أو أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ الى الحرم لم يبايع ولم يشار حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد
وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم ثم لجأ اليه لم يستوف منه فيه وهذا قول ابن عباس و عطاء وعبيد بن عمير و الزهري و مجاهد و اسحاق و الشعبي و أبي حنيفة وأصحابه وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس فعن أحمد فيه روايتان : إحداهما لا يستوفى من الملتجىء الى الحرم فيه والثانية يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة لأن المروي عن النبي صلى الله عليه و سلم النهي عن القتل بقوله عليه السلام : [ فلا يسفك فيها دم ] وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب فلم يمنع منه كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي وهي ظاهر المذهب قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته حتى يخرج منه وإن هتك حرمة الحرم بالجناية فيه هتكت حرمته بإقامة الحد عليه فيه وقال مالك و الشافعي و ابن المنذر : يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني وقطع السارق واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بجزية ولا دم ] وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل ابن حنظل وهو متعلق باستار الكعبة حديث حسن صحيح ولأنه حيوان أبيح دمه لعصيانه فأشبه الكلب العقور
ولنا قول الله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } يعني الحرم بدليل قوله : { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } والخبر أريد به الأمر لأنه لو أريد به الخبر لأفضى الى وقوع الخبر خلاف المخبر وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس فلا يحل لإمرىء مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد بها شجرة فان احد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ ان الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت الى حرمتها فلا يسفك فيها دم ] متفق عليهما فالحجة فيه من وجهين : أحدهما أنه حرم سفك الدم بها على الاطلاق وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم يختص به مكة فلا يكون التخصيص مفيدا والثاني قوله : [ إنما حلت لي ساعةمن نهار ثم عادت حرمتها ] ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير دم الحرم فحرمها الحرم ثم أحلت له ساعة ثم عادت الحرمة ثم أكد هذا بمنعه قياس غيره عليه والاقتداء به فيه بقوله : [ فان احد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ] وهذا يدفع ما احتجوا به من قتل بن حنظل فانه من رخصة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي منع الناس أن يقتدوا به فيها وبين أنها له على الخصوص وما رووه من الحديث فهو من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يرد به قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حين روى له أبو شريح هذا الحديث وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم أحق أن يتبع وأما جلد الزاني وقطع السارق والأمر بالقصاص فانما هو مطلق في الأمكنة والأزمنة فانه يتناول مكانا غير معين ضرورة أنه لا بد من مكان فيمكن إقامته في مكان غير الحرم ثم لو كان عموما فإن ما رويناه خاص يخص به مع أنه قد خص مما ذكروه الحامل والمريض المرجو برؤه فتأخر الحد عنه وتأخر قتل الحامل فجاز أن يخص أيضا بما ذكرناه والقياس على الكلب العقور غير صحيح فإن ذلك طبعه الأذى فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله فأما الأذى فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة وإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات فان الحرم يعصمها إذا ثبت هذا فإنه لا يبايع ولا يشارى ولا يطعم ولا يؤوى ويقال له : اتق الله واخرج إلى الحل ليستوفى منك الحق الذي قبلك فإذا خرج استوفي حق الله منه وهو قول جميع من ذكرناه وإنما كان كذلك لأنه لو أطعم وأوي لتمكن من الإقامة دائما فيضيع الحق الذي عليه وإذا منع من ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله تعالى وليس علينا إطعامه كما أن الصيد لا يصاد في الحرم وليس علينا القيام به قال ابن عباس رحمه الله : من أصاب حدا ثم لجأ إلى الحرم فأنه لا يجالس ولا يبايع ولا يؤوى ويأتيه من يطلبه فيقول : أي فلان اتق الله فإذا خرج من الحرم أقيم عليه الحد رواه الأثرم فإن قتل من له عليه القصاص في الحرم وأقام حدا بجلد أو قتل أو قطع طرف أساء ولا شيء عليه لأنه استوفى حقه في حال لم يكن له استيفاؤه فيه فأشبه ما لو اقتص في شدة الحر أو برد مفرط (10/230)
مسألة : حكم من قتل في الحرم أو أتى فيه حدا
مسألة : قال : ومن قتل أو أتى حدا في الحرم أقيم عليه في الحرم
وجملته ان من انتهك حرمة الحرم بجناية فيه توجب حدا أو قصاصا فإنه يقام عليه حدها لا نعلم فيه خلافا وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عباس أنه قال : من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء وقد أمر الله تعالى بقتال من قاتل في الحرم فقال تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } فأباح قتلهم عند فتالهم في الحرم ولأن أهل الحرم يحتاجون الى الزجر عن ارتكاب المعاصي كغيرهم حفظا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الحد في الحرم لتعطلت حدود الله تعالى في حقهم وفاتت هذه المصالح التي لا بد منها ولا يجوز الإخلال بها ولأن الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا ينتهض الحرم لتحريم ذمته وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجىء إليها بجناية صدرت منه في غيرها (10/233)
فصل : حكم حرم المدينة
فصل : فأما حرم مدينة النبي صلى الله عليه و سلم فلا يمنع إقامة حد ولا قصاص لأن النص إنما ورد في حرم الله تعالى وحرم المدينة دونه في الحرمة فلا يصح قياسه عليه وكذلك سائر البقاع لا تمنع من استيفاء حق ولا إقامة حد لأن أمر الله تعالى باستيفاء الحقوق وإقامة الحد مطلق في الأمكنة والأزمنة خرج منها الحرم لمعنى لا يكفي في غيره لأنه محل الإنساك وقبلة المسلمين وفيه بيت الله المحجوج وأول بيت وضع للناس ومقام ابراهيم وآيات بينات فلا يلتحق به سواه ولا يقاس عليه ما ليس في معناه والله أعلم (10/234)
باب القطع في السرقة
والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وأما السنة فروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ] وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما هلك من كان قبلكم بأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه ] متفق عليهما في اخبار سوى هذين نذكرها إن شاء الله تعالى في مواضعها وأجمع المسلمون على وجوب قطع السارق في الجملة (10/235)
مسألة : إذا سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو قيمة ثلاثة دراهم وأخرجه من الحرز قطع وشروط القطع السبعة
مسألة : قال : أبو القاسم رحمه الله : وإذا سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو قيمة ثلاثة دراهم طعاما كان أو غيره وأخرجه من الحرز قطع
وجملته أن القطع لا يجب إلا بشروط سبعة :
أحدها : السرقة ومعنى السرقة أخذ المال على وجه الخفية والاستتار ومنه استراق السمع ومسارقة النظر إذا كان يستخفي بذلك فان اختطف أو اختلس لم يكن سارقا ولا قطع عليه عند أحد علمناه غير إياس بن معاوية قال : أقطع المختلس لأنه يستخفي بأخذه فيكون سارقا وأهل الفقه والفتوى من علماء الامصار على خلافه وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس على الخائن ولا المختلس قطع ] وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس على المنتهب قطع ] رواهما أبو داود وقال : لم يسمعهما ابن جريح من أبي الزبير ولأن الواجب قطع السارق وهذا غير سارق ولأن الاختلاس نوع من الخطف والنهب وإنما يستخفي في ابتداء اختلاسه بخلاف السارق
واختلفت الرواية عن أحمد في جاحد العارية فعنه عليه القطع وهو قول إسحاق لما [ روي عن عائشة أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلموه فكلم النبي صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : الا أراك تكلمني في حد من حدود الله تعالى ؟ ثم قام النبي صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و سلم لقطعت يدها قالت : فقطع يدها ] قال أحمد لا أعرف شيئا يدفعه متفق عليه وعنه لا قطع عليه وهو قول الخرقي و أبي اسحاق بن شاقلا و أبي الخطاب وسائر الفقهاء وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا قطع على الخائن ] ولأن الواجب قطع السارق والجاحد غير سارق وإنما هو خائن فأشبه جاحد الوديعة والمرأة التي كانت تستعير المتاع إنما قطعت لسرقتها لا بجحدها ألا ترى قوله : [ إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه - وقوله - والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ] وفي بعض ألفاظ رواية هذه القصة عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت وذكرت القصة رواه البخاري وفي حديث أنها سرقت قطيفة فروى الأثرم باسناده عن مسعود بن الاسود قال : [ لما سرقت المرأة تلك القطيفة من بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم أعظمنا ذلك وكانت امرأة من قريش فجئنا الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلنا : نحن نفديها باربعين اوقية قال : تطهر خير لها فلما سمعنا لين قول رسول الله صلى الله عليه و سلم أتينا أسامة فقلنا : كلم لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر الحديث ] نحو سياق عائشة وهذ ظاهر في أن القصة واحدة وأنها سرقت فقطعت بسرقتها وإنما عرفتها عائشة بجحدها للعارية لكونها مشهورة بذلك ولا يلزم أن يكون ذلك سببا كما لو عرفتها بصفة من صفاتها فيما ذكرنا جمع بين الأحاديث وموافقة لظاهر الأحاديث والقياس وفقهاء الأمصار فيكون أولى فأما جاحد الوديعة وغيرها من الأمانات فلا نعلم أحدا يقول بوجوب القطع عليه
الشرط الثاني : أن يكون المسروق نصابا ولا قطع في القليل في قول الفقهاء كلهم إلا الحسن و داود و ابن بنت الشافعي والخوارج قالوا : يقطع في القليل والكثير لعموم الآية ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده ] متفق عليه ولأنه سارق من حرز فتقطع يده كسارق الكثير
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ] متفق عليه وإجماع الصحابة على ما سنذكره وهذا يخص عموم الآية والحبل يحتمل أن يساوي ذلك وكذلك البيضة يحتمل أن يراد بها بيضة السلاح وهي تساوي ذلك
واختلفت الرواية عن أحمد في قدر النصاب الذي يجب القطع بسرقته فروى عنه أبو اسحاق الجوزجاني أنه ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما قيمته ثلاثة دراهم من غيرهما وهذا قول مالك و إسحاق
وروى عنه الأثرم أنه إن سرق من غير الذهب والفضة ما قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع فعلى هذا يقوم غير الأثمان بأدنى الأمرين من ربع دينار أو ثلاثة دراهم وعنه أن الأصل الورق ويقوم الذهب به فان نقص ربع دينار عن ثلاثة دراهم لم يقطع سارقه وهذا يحكىة عن الليث و أبي ثور وقالت عائشة : لا قطع الا في ربع دينار فصاعدا وروي هذا عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز و الأوزاعي و الشافعي و ابن المنذر لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ] وقال عثمان البتي : تقطع اليد في درهم فما فوقه وعن أبي هريرة و أبي سعيد أن اليد تقطع في أربعة دراهم فصاعدا وعن عمر أن الخمس لا تقطع إلا في الخمس وبه قال سليمان بن يسار و ابن أبي ليلى وابن شبرمة وروي ذلك عن الحسن وقال أنس : قطع أبو بكر في مجن قيمته خمسة دراهم رواه الجوزجاني باسناده وقال عطاء و أبو حنيفة وأصحابه لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم لما روى الحجاج بن أرطأة عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قطع إلا في عشرة دراهم ] وروى ابن عباس قال : [ قطع رسول الله صلى الله عليه و سلم يد رجل في مجن قيمته دينار أو عشرة دراهم ] وعن النخعي : لا تقطع اليد إلا في أربعين درهما
ولنا ما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ] متفق عليه قال ابن عبد البر : هذا أصح حديث يروى في هذا الباب لا يحتلف أهل العلم في ذلك وحديث أبي حنيفة الأول يرويه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف والذي يرويه عن الحجاج ضعيف أيضا والحديث الثاني لا دلالة فيه على أنه لا يقطع بما دونه فان من أوجب القطع بثلاثة دراهم أوجبه بعشرة ويدل هذا الحديث على أن العرض يقوم بالدراهم لأن المجن قوم بها ولأن ما كان الذهب فيه أصلا كان الورق فيه أصلا كنصب الزكاة والديات وقيم المتلفات وقد روى أنس أن سارقا سرق مجنا ما يسرني أنه لي بثلاثة دراهم أو ما يساوي ثلاثة دراهم فقطعه أبو بكر وأتي عثمان برجل قد سرق أترجة فأمر بها عثمان فاقيمت فبلغت قيمتها ربع دينار فأمر به عثمان فقطع (10/235)
فصل : حكم ما إذا سرق ربع دينار من المضروب الخالص
فصل : وإذا سرق ربع دينار من المضروب الخالص ففيه القطع وإن كان فيه غش أو تبر يحتاج إلى تصفية لم يجب القطع حتى يبلغ ما فيه من الذهب ربع دينار لأن السبك ينقصه وإن سرق ربع دينار قراضة أو تبرا خالصا أو حليا ففيه القطع نص عليه أحمد في رواية الجوزجاني قال : قلت له : كيف يسرق ربع دينار ؟ فقال : قطعة ذهب أو خاتما أو حليا وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي وذكر القاضي في وجوب القطع احتمالين : أحدهما لا قطع عليه وهو قول بعض أصحال الشافعي لأن الدينار اسم للمضروب
ولنا أ ذلك ربع دينار لأنه يقال دينار قراضة ومكسر أو دينار خالص ولأنه لا يمكنه سرقة ربع دينار مفرد في الغالب إلا مكسورا وقد أوجب عليه القطع بذلك ولأنه حق لله تعالى تعلق بالمضروب فتعلق بما ليس بمضروب كالزكاة والخلاف فيما اذا سرق من المكسور والتبر ما لا يساوي ربع دينار صحيح فإن بلغ ذلك ففيه القطع والدينار هو المثقال من مثاقيل الناس اليوم وهو الذي كل سبعة منها عشرة دراهم وهو الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقبله ولم يتغير وإنما كانت الدراهم مختلفة فجمعت وجعلت كل عشرة منها سبعة مثاقيل فهي التي يتعلق القطع بثلاثة منها إذا كانت خالصة مضروبة كانت أو غير مضروبة على ما ذكرناه في الذهب وعند أبي حنيفة أن النصاب إنما يتعلق بالمضروب منها وقد ذكر ما دل عليه ويحتمل ما قاله في الدراهم لأن إطلاقها يتناول الصحاح المضروبة بخلاف ربع الدينار على أننا قد ذكرنا فيها احتمالا متقدما فههنا أولى وما قوم من غيرهما بهما فلا قطع فيه حتى يبلغ ثلاثة دراهم صحاحا لأن اطلاقها ينصرف الى المضروب دون المكسر
الشرط الثالث : أن يكون المسروق مالا فان سرق ما ليس بمال كالحر فلا قطع فيه صغيرا كان أو كبيرا وبهذا قال الشافعي و الثوري و أبو ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال الحسن و الشعبي و مالك و اسحاق : يقطع بسرقة الحر الصغير لأنه غير مميز أشبه العبد وذكره أبو الخطاب رواية عن أحمد
ولنا أنه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم إذا ثبت هذا فانه إن كان عليه حلي أو ثياب تبلغ نصابا لم يقطع وبه قال أبو حنيفة وأكثر أصحاب الشافعي وذكر أبو الخطاب وجها آخر أنه يقطع وبه قال أبو يوسف و ابن المنذر لظاهر الكتاب ولأنه سرق نصابا من الحلي فوجب فيه القطع كما لو سرقه منفردا
ولنا أنه تابع لما لا قطع في سرقته أشبه ثياب الكبير ولأن يد الصبي على ما عليه بدليل أن ما يوجد مع اللقيط يكون له وهكذا لو كان الكبير نائما على متاع فسرقه ومتاعه لم يقطع لأن يده عليه (10/239)
فصل : حكم ما لو سرق عبدا صغيرا
فصل : وإن سرق عبدا صغيرا فعليه القطع في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم منهم الحسن و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أبو حنيفة و محمد والصغير الذي يقطع بسرقته هو الذي لا يميز فإن كان كبيرا لم يقطع سارقه إلا أن يكون نائما أو مجنونا أو أعجميا لا يميز بين سيده وبين غيره في الطاعة فيقطع سارقه وقال أبو يوسف : لا يقطع سارق العبد وإن كان صغيرا لأن من لا يقطع بسرقته كبيرا لا يقطع بسرقته صغيرا كالحر
ولنا أنه سرق مالا مملوكا فيمته نصابا فوجب القطع عليه كسائر الحيوانات وفارق الحر فإنه ليس بمال ولا مملوك وفارق الكبير لأن الكبير لا يسرق وإنما يخدع بشيء إلا أن يكون في حال زوال عقله بنوم أو جنون فتصح سرقته ويقطع سارقه فإن كان المسروق في حال نومه أو جنونه أم ولد ففي قطع سارقها وجهان :
أحدهما : لا يقطع لأنها لا يحل بيعها ولا نقل الملك فيها فأشبهت الحرة
والثاني : يقطع لأنها مملوكة ن تضمن بالقيمة فأشبهت القن وحكم المدبر حكم القن لأنه يجوز بيعه ويضمن بقيمته فأما المكاتب فلا يقطع سارقه لأن ملك سيده ليس بتام عليه لكونه لا يملك منافعه ولا استخدامه ولا أخذ ارش الجناية عليه ولو جنى السيد عليه لزمه له الارش ولو استوفى منافعه كرها لزمه عوضها ولو حبسه لزمه أجرة مثله مدة حبسه أو إنظاره مقدار مدة حبسه ولا يجب القطع لأجل ملك المكاتب في نفسه لأن الإنسان لا يملك نفسه فأشبه الحر وإن سرق من مال المكاتب شيئا فعليه القظع لأن ملك المكاتب ثابت في مال نفسه إلا أن يكون السارق سيده فلا قطع عليه لأن له في ماله حقا وشبهة تدرأ الحد ولذلك لو وطئ جاريته لم يحد (10/241)
فصل : حكم ما لو سرق ماء أو كلأ أو ملحا
فصل : وإن سرق ماء فلا قطع فيه قاله أبو بكر و لأبو اسحاق بن شاقلا لأنه مما لا يتمول عادة ولا أعلم في هذا خلافا وإن سرق كلأ او ملحا فقال أبو بكر : لا قطع فيه لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه فأشبه الماء
وقال أبو اسحاق بن شاقلا : فيه القطع لأنه يتمول عادة فأشبه التبن والشعير وأما الثلج فقال القاضي : هو كالماء لأنه ماء جامد فأشبه الجليد والأشبه أنه كالملح لانه يتمول عادة فهو كالملح المنعقد من الماء وأما التراب فان كان مما تقل الرغبات فيه كالذي يعد للتطيين والبناء فلا تقطع فيه لانه لا يتمول وإن كان مما له قيمة كثيرة كالطين الأرمني الذي يعد للدواء أو المعد للغسل به أو الصبغ كالمغرة احتمل وجهين :
احدهما : لا قطع فيه لأنه من جنس لا يتمول أشبه الماء
والثاني : فيه القطع لأنه يتمول عادة ويحمل الى البلدان للتجارة فيه فأشبه العود الهندي ولا يقطع بسرقة السرجين لأنه إن كان نجسا فلا قيمة له وإن كان طاهرا فلا يتمول عادة ولا تكثر الرغبات فيه فاشبه التراب الذي للبناء وما عمل من التراب كاللبن والفخار ففيه القطع لانه يتمول عادة (10/242)
فصل : حكم ما لا سرق أموالا غير الواردة في المسلألة والفصول السابقة
فصل : وما عدا هذا من الأموال ففيه القطع سواء كان طعاما أو ثيابا أو حيوانا أو أحجارا أو قصبا أو صيدا أو نورة أو جصا أو زرنيخا أو توابل أو فخارا أو زجاجا أو غيره وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة : لا قطع على سارقالطعام الرطب الذي يتسارع اليه الفساد كالفواكه والطبائخ لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا قطع في ثمر ولا كثر ] رواه أبو داود ولأن هذا معرض للهلاك أشبه ما لم يحرز ولا قطع فيما كان أصله مباحا في دار الإسلام كالصيود والخشب إلا في الساج والابنوس والصندل والقنا والمعمول من الخشب فانه يقطع به وما عدا هذا لا يقطع به لأنه يوجد كثيرا مباحا في دار اللاسلام فأشبه التراب ولا قطع في القرون ولإن كانت معمولة لأن الصنعة لا تكون غالبة عليها بل القيمة لها بخلاف معمول الخشب ولا قطع عنده في التوابل والنورة والجص والزرنيخ والملح والحجارة واللبن والفخار والزجاج وقال الثوري : ما يفسد في يومه كالثريد واللحم لا قطع فيه
ولنا عموم قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سئل عن الثمر المعلق فذكر الحديث ثم قال : ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع ] رواه أبو داود وغيره وروي أن عثمان رضي الله عنه أتي برجل قد سرق أترجة فأمر بها عثمان فأقيمت فبلغت قيمتها ربع دينار فأمر به عثمان فقطع رواه سعيد ولأن هذا مال يتمول في العادة ويرغب فيه فيقطع سارقه إذا اجتمعت الشروط كالمجفف ولأن ما وجب القطع في معموله وجب فيه قبل العمل كالذهب والفضة وحديثهم أراد به الثمر المعلق بدليل حديثنا فانه مفسر له وتشبيهه بغير المحرز لا يصح لأن غير المحرز مضيع وهذا محفوظ ولهذا افترق سائر الأموال بالحرز وعدمه وقولهم : يوجد مباحا في دار الاسلام ينتقض بالذهب والفضة والحديد والنحاس وسائر المعادن والتراب قد سبق القول فيه (10/243)
فصل : حكم ما لو سرق مصحفا أو كتابا فيه علم
فصل : فان سرق مصحفا فقال أبو بكر و القاضي : لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله وهو مما لا يجوز أخذ العوض عنه واختار أبو الخطاب وجوب قطعه وقال : هو ظاهر كلام أحمد فإنه سئل عمن سرق كتابا فيه علم لينظر فيه فقال : كل ما بلغت قيمته ثلاثة دراهم فيه القطع وهذا قول مالك و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر لعموم الآية في كل سارق ولأنه متقوم تبلغ قيمته نصابا فوجب القطع بسرقته ككتب الفقه ولا خلاف بين أصحابنا في وجوب القطع بسرقة كتب الفقه والحديث وسائر العلوم الشرعية فإن كان المصحف محلى بحلية تبلغ نصابا خرج فيه وجهان عند من لم ير القطع بسرقة المصحف : أحدهما لا يقطع وهذا قياس قول أبي إسحاق بن شاقلا ومذهب أبي حنيفة لأن الحلى تابعة لما لا يقطع بسرقته أشبهت ثياب الحر والثاني يقطع وهو قول القاضي لأنه سرق نصابا من الحلي فوجب قطعه كما لو سرقه منفردا وأصل هذين الوجهين من سرق صبيا عليه حلي (10/245)
فصل : حكم ما لو سرق عينا موقوفة
فصل : وإن سرق عينا موقوفة وجب القطع عليه لأنها مملوكة للموقوف عليه ويحتمل أن لا يقطع بناء على الوجه الذي يقول : إن الموقوف لا يملكه الموقوف عليه
الشرط الرابع : أن يسرق من حرز ويخرجه منه وهذا قول أكثر أهل العلم وهذا مذهب عطاء و الشعبي و أبي الاسود الدؤلي وعمر بن عبد العزيز و الزهري وعمرو بن دينار و الثوري و مالك و الشافعي و أصحاب الرأي ولا نعلم عن أحد من أهل العلم خلافهم إلا قولا حكي عن عائشة و الحسن و النخعي فيمن جمع المتاع ولم يخرج من الحرز عليه القطع وعن الحسن مثل قول الجماعة وحكي عن داود انه لا يعتبر الحرز لأن الآية لا تفصيل فيها وهذه أقوال شاذة غير ثابتة عمن نقلت عنه
قال ابن المنذر : وليس فيه خبر ثابت ولا مقال لأهل العلم إلا ما ذكرناه فهو كالاجماع والاجماع حجة على من خالفه وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الثمار فقال : ما أخذ في غير اكمامه فاحتمل ففيه قيمته ومثله معه وما كان في الخزائن ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن ] رواه أبو داود و ابن ماجة وغيرهما وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب إذا ثبت اعتبار الحرز والحرز ما عد حرزا في العرف فانه لم ثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنه رد ذلك إلى أهل العرف لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته فيرجع إليه كما رجعنا اليه في معرفة القبض والفرقة في البيع وأشباه ذلك
إذا ثبت هذا فان من حرز الذهب والفضة والجواهر الصناديق تحت الاغلاق والاقفال الوثيقة في العمران وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران أو يكون فيها حافظ فيكون حرزا وإن كانت نفتوحة وان لم تكن مغلقة ولا فيها حافظ فليست بحرز وإن كانت فيها خزائن مغلقة فالخزائن حرز لما فيها وما خرج عنها فليس بمحرز وقد روي عن أحمد في البيت الذي ليس عليه غلق يسرق منه أراه : سارقا وهذا محمول على أن أهله فيه فأما البيوت التي في البساتين أو الطرق أو الصحراء فان لم يكن فيها أحد فليست حرزا سواء كانت مغلقة أو مفتوحة لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران وانصرف عنه لا يعد حافظا له وإن أغلق عليه وان كان فيها أهلها أو حافظ فهي حرز سواء كانت مغلقة أو مفتوحة وإذا كان لابسا للثوب أو متوسدا له نائما أو مستيقظا أو مفترشا له أو متكئا عليه في أي موضع كان من البلد أو برية فهو محرز بدليل أن رداء صفوان سرق وهو متوسد له فقطع النبي صلى الله عليه و سلم سارقه وإن تدحرج عن الثوب زال الحرز إن كان نائما وإن كان الثوب بين يديه أو غيره من المتاع كبز البزازين وقماش الباعة وخبز الخبازين بحيث يشاهده وينظر اليه فهو محرز وإن نام أو كان غائبا عن موضع مشاهدته فليس بمحرز وان جعل المتاع في الغرائر وعلم عليها ومعها حافظ يشاهدها فهي محرزة وإلا فلا (10/246)
فصول : في سرقات مختلفة وأحكامها
فصل : والخيمة والخركاه إن نصبت وكان فيها أحد نائما أو منتبها فهي محرزة وما فيها لأنها هكذا تحرز في العادة وان لم يكن فيها أحد ولا عندها حافظ فلا قطع على سارقها وممن أوجب القطع في السرقة من الفسطاط الثوري و الشافعي و اسحاق وأصحاب الرأي إلا أن أصحاب الرأي قالوا : يقطع السارق من الفسطاط دون سارق الفسطاط ولنا أنه محرز بما جرت به العادة أشبه ما فيه
فصل : وحرز البقل وقدور الباقلاء ونحوها بالشرائح من القصب أو الخشب إذا كان في السوق حارس وحرز الخشب والحطب والقصب في الحظائر وتعبئة بعضه على بعض وتقليده بقيد بحيث يعسر أخذ شيء منه على ما جرت به العادة إلا أن يكون في فندق مغلق عليه فيكون محرزا وإن لم يقيد
فصل : والإبل على ثلاثة أضرب : باركة وراعية وسائرة فأما الباركة فإن كان معها حافظ لها وهي معقولة فهي محرزة وإن لم تكن معقولة وكان الحافظ ناظرا إليها أو مستيقظا بحيث يراها فهي محرزة وإن كان نائما أو مشغولا عنها فليست محرزة لأن العادة أن الرعاة إذا أرادوا النوم عقلوا إبلهم ولأن حل المعقولة ينبه النائم والمشتغل وإن كان لم يكن معها أحد فهي غير محرزة سواء كانت معقولة أو لم تكن وأما الراعية فحرزها بنظر الراعي إليها فما غاب عن نظره أو نام عنه فليس بمحرز لأن الراعية إنما تحرز بالراعي ونظره وأما السائرة فان كان معها من يسوقها فحرزها نظره إليها سواء كانت مقطرة أو غير مقطرة وما كان منها بحيث لا يراه فليس بمحرز وإن كان معها قائد فحرزها ان يكثر الالتفات اليها والمراعاة لها ويكون بحيث يراها إذا التفت وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يحرز القائد إلا التي زمامها بيده لأنه يوليها ظهره ولا يراها إلا نادرا فيمكن أخذها من حيث لا يشعر
ولنا أن العادة في حفظ الابل المقطرة بمراعاتها بالالتفات وامساك زمام الاول فكان ذلك حرزا لها كالتي زمامها في يده فان سرق من احمال الجمال السائرة المحرزة متاعا قيمته نصاب قطع وكذلك إن سرق الجمل وإن سرق الجمل بما عليه وصاحبه نائم عليه لم يقطع لأنه في يد صاحبه وان لم يكن صاحبه نائما عليه قطع وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه لأن ما في الجمل محرز به فاذا أخذ جميعه لم يهتك حرز المتاع فصار كما لو سرق أجزاء الحرز
ولنا ان الجمل محرز بصاحبه ولهذا لو لم يكن محرزا فقد سرقه من حرز مثله فاشبه ما لو سرق المتاع ولا نسلم أن سرقة الحرز من حرزه لا توجب القطع فانه لو سرق الصندوق بما فيه من بيت هو محرز فيه وجب قطعه وهذا التفصيل في الابل التي في الصحراء فأما التي في البيوت والمكان المحصن على الوجه الذي ذكرناه في الثياب فهي محرزة والحكم في سائر المواشي كالحكم في الابل على ما ذكرناه من التفصيل فيها
فصل : وإذا سرق من الحمام ولا حافظ فيه فلا قطع عليه في قول عامتهم وإن كان ثم حافظ فقال أحمد : ليس على سارق الحمام قطع وقال في رواية ابن منصور : لا يقطع سارق الحمام إلا أن يكون على المتاع قاعد مثل ما صنع بصفوان وهذا قول أبي حنيفة لأنه مأذون للناس في دخوله فجرى مجرى سرقة الضيف من البيت المأذون له في دخوله ولأن دخول الناس إليه يكثر فلا يتمكن الحافظ من حفظ ما فيه قال القاضي : وفيه رواية أخرى أنه يجب القطع إذا كان فيه حافظ وهو قول مالك و الشافعي و اسحاق و أبي ثور و ابن المنذر لأنه متاع له حافظ فيجب قطع سارقه كما لو كان في بيت والاول أصح وهذا يفارق ما في البيت من الوجهين الذين ذكرناهما فاما ان كان صاحب الثياب قاعدا عليها أو متوسدا لها أو جالسا وهي بين يديه يحفظها قطع سارقها بكل حال كما قطع سارق رداء صفوان من المسجد وهو متوسد له وكذلك إن كان نائب صاحب الثياب إما الحمامي وإما غيره حافظا لها على هذا الوجه قطع سارقها لانها محرزة وإن لم تكن كذلك فقال القاضي : إن نزع الداخل ثيابه على ما جرت به العادة ولم يستحفظها لأحد فلا قطع على سارقها ولا غرم على الحمامي لانه غير مودع فيضمن ولا هي محرزة فيقطع سارقها وإن استحفظها الحمامي فهو مودع يلزمه مراعاتها بالنظر والحفظ فان تشاغل عنها أو ترك النظر اليها فسرقت فعليه الغرم لتفريطه ولا قطع على السارق لأنه لم يسرق من حرز وان تعاهدها الحمامي بالحفظ والنظر فسرقت فلا غرم عليه لعدم تفريطه وعلى السارق القطع لانها محرزة وهذا مذهب الشافعي وظاهر مذهب احمد انه لا قطع عليه في هذه الصورة لما تقدم قال ابن المنذر : قال أحمد : أرجو أن لا قطع عليه لأنه مأذون للناس في دخوله ولو استحفظ رجل آخر متاعه في المسجد فسرق فان كان قد فرط في مراعاته ونظره اليه فعليه الغرم إذا كان التزم حفظه واجابه الى ما سأله وإن لم يجبه لكن سكت لم يلزمه غرم لانه ما قبل الاستيداع ولا قبض المتاع ولا قطع على السارق في الموضعين لأنه غير محرز وان حفظ المتاع بنظره اليه وقربه منه فسرق فلا ظلم عليه وعلى السارق القطع لانه سرق من حرز ويفارق المتاع في الحمام فان الحفظ فيه غير ممكن لأن الناس يضع بعضهم ثيابه عند ثياب بعض ويشتبه على الحمامي صاحب الثياب فلا يمكنه منع أخذها لعدم علمه بمالكها
فصل : وحرز حائط الدار كونه مبنيا فيها اذا كانت في العمران أو كانت في الصحراء وفيها حافظ فان أخذ من أجزاء الحائط أو خشبه نصابا في هذه الحال وجب قطعه لأن الحائط حرز لغيره فيكون حرزا لنفسه وان هدم الحائط ولم يأخذه فلا قطع عليه فيه كما لو أتلف المتاع في الحرز ولم يسرقه فإن كانت الدار بحيث لا تكون حرزا لما فيها كدار في الصحراء لا حافظ فيها فلا قطع على من أخذ من حائطها شيئا لأنها إذا لم تكن حرزا لما فيها فلنفسها أولى وأما باب الدار فان كان منصوبا في مكانه فهو محرز سواء كان مغلقا أو مفتوحا لأنه هكذا يحفظ وعلى سارقه القطع إذا كانت الدار محرزة بما ذكرناه وأما أبواب الخزائن في الدار فان كان باب الدار مغلقا فهي محرزة سواء كانت مفتوحة أو مغلقة وإن كان مفتوحا لم تكن محرزا إلا أن تكون مغلقة أو يكون في الدار حافظ والفرق بين باب الدار وباب الخزانة أن أبواب الخزائن تحرز بباب الدار وباب الدار لا يحرز إلا بنصبه ولا يحرز بغيره وأما حلقة الباب فان كانت مسمورة فهي محرزة وإلا فلا لأنها تحرز بتسميرها
فصل : وان سرق باب مسجد منصوبا أو باب الكعبة المنصوب أو سرق من سقفه شيئا أو تأزيره ففيه وجهان :
أحدهما : عليه القطع وهو مذهب الشافعي وأبو القاسم صاحب مالك و أبي ثور و ابن المنذر لأنه سرق نصابا محرزا بحرز مثله لا شبهة له فيه فلزمه القطع كباب بيت الآدمي
والثاني : لا قطع عليه وهو قول أصحاب الرأي لانه لا مالك له من المخلوقين فلا يقطع فيه كحصر المسجد وقناديله فانه لا يقطع بسرقة ذلك وجها واحدا لكونه مما ينتفع به فيكون له فيه شبهة فلم يقطع به كالسرقة من بيت المال وقال أحمد : لا يقطع بسرقة ستارة الكعبة الخارجة منها وقال القاصي : هذا محمول على ما ليست بمخيطة لأنها إنما تحرز بخياطتها وقال أبو حنيفة : لا قطع فيها بحال لما ذكرنا في الباب
فصل : واذا أجر داره ثم سرق منها مال المستأجر فعليه القطع وبهذا قال الشافعي و أبو حنيفة وقال صاحباه : لا قطع عليه لأن المنفعة بحدث في ملك الآجر ثم تنتقل إلى المستأجر
ولنا أنه هتك حرزا وسرق منه نصابا لا شبهة له فوجب القطع كما لو سرق من ملك المستأجر وما قالاه لا نسلمه ولو استعار دارا فنقبها المعير وسرق مال المستعير منها قطع أيضا وبهذا قال الشافعي في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه لأن المنفعة ملك له فما هتك حرز غيره ولأن له الرجوع متى شاء وهذا يكون رجوعا
ولنا ما تقدم في التي قبلها ولا يصح ما ذكره لأن هذا قد صار حرزا لمال غيره لا يجوز له الدخول اليه وإنما يجوز له الرجوع في العارية والمطالبة برده اليه
فصل : وان غصب بيتا فأحرزه فيه ماله فسرقه منه أجنبي أو المغصوب منه فلا قطع عليه لأنه لا حكم بحرزه إذا كان متعديا به ظالما فيه
فصل : واذا سرق الضيف من مال مضيفه شيئا نظرت فان سرقه من الموضع الذي انزله فيه أو موضعه لم يحرزه عنه لم يقطع لأنه لم يسرق من حرزه وإن سرق من موضع محرز دونه نظرت فان كان منعه قراه فسرق بقدره فلا قطع عليه أيضا وإن لم يمنعه قراه فعليه القطع وقد روي عن أحمد أنه لا قطع على الضيف وهو محمول على احدى الحالتين الاوليين وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه بحال لأن المضيف بسطه في بيته وماله فأشبه ابنه
ولنا أنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه فلزمه القطع كالاجنبي وقوله انه بسطه فيه لا يصح فانه احرز عنه هذا المال ولم يبسطه فيه وتبسطه في غيره لا يوجب تبسطه فيه كما لو تصدق على مسكين بصدقة أو أهدى الى صديقه هدية فانه لا يسقط عنه القطع بالسرقة من غير ما تصدق به عليه أو أهدى اليه
فصل : وإذا أحرز المضارب مال المضاربة أو الوديعة أو العارية أو المال الذي وكل فيه فسرقه أجنبي فعليه القطع لا نعلم فيه مخالفا لأنه ينوب مناب المالك في حفظ المال وإحرازه ويده كيده وان غصب عينا وأحرزها أو سرقها وأحرزها فسرقها سارق فلا قطع عليه وقال مالك : عليه القطع لأنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه و للشافعي قولان كالمذهبين وقال أبو حنيفة كقولنا في السارق وكقولهم في الغاصب
ولنا أنه لم يسرق المال من مالكه ولا ممن يقوم مقامه فأشبه ما لو وجده ضائعا فأخذه وفارق السارق من المالك أو نائبه فانه أزال يده وسرق من من حرزه
فصل : وان سرق نصابا أو غصبه فأحرزه فجاء المالك فهتك الحرز وأخذ ماله فلا قطع عليه عند أحد سواء أخذه سرقة أو غيرها لأنه أخذ ماله ففيه وجهان :
أحدهما : لا قطع فيه لأن له شبهة في هتك الحرز وأخذ ماله فصار كالسارق من غير حرز ولأن له شبهة في أخذ قدر ماله لذهاب بعض العلماء إلى جواز أخذ الانسان قدر دينه من مال من هو عليه
والثاني : عليه القطع لأنه سرق نصابا من حرزه لا شبهة له فيه وإنما يجوز له أخذ قدر ماله إذا عجز عن أخذ ماله وهذا أمكنه أخذ ماله فلم يجز له أخذ غيره وكذلك الحكم إذا أخذ ماله وأخذ من غيره نصابا متميزا عن ماله فان كان مختلطا بماله غير متميز منه فلا قطع عليه لأنه أخذ ماله الذي له أخذه وحصل غيره مأخوذا ضرورة أخذه فيجب أن لا يقطع فيه ولأن له في أخذه شبهة والحد يدرأ بالشبهات فأما إن سرق منه مالا آخر من غير الحرز الذي فيه ماله أو كان له دين على إنسان فسرق من ماله قدر دينه من حرزه نظرت فإن كان الغاصب أو الغريم باذلا لما عليه غير ممتنع من أدائه أو قدر المالك على أخذ ماله فتركه وسرق مال الغاصب أو الغريم فعليه القطع لأنه لا شبهة له فيه وإن عجز عن استيفاء دينه أو أرش جنايته فسرق قدر دينه أو حقه فلا قطع عليه وقال القاضي : عليه القطع بناء على أصلنا في أنه ليس له أخذ قدر دينه
ولنا أن هذا مختلف في حله فلم يجب الحد به كما لو وطىء في نكاح مختلف في صحته وتحريم الأخذ لا يمنع الشبهة الناشئة عن الاختلاف والحدود تدرأ بالشبهات فان سرق أكثر من دينه فهو كالمغصوب منه إذا سرق أكثر من ماله على ما مضى
فصل : ولا بد من إخراج المتاع من الحرز لما قدمنا من الإجماع على اشتراطه فمتى أخرجه من الحرز وجب عليه القطع سواء حمله إلى منزله أو تركه خارجا من الحرز وسواء أخرجه لأن حمله أو رمى به إلى خارج الحرز أو شد فيه حبلا ثم خرج فمده به أو شده على بهيمة ثم ساقها به حتى أخرجها أو تركه في نهر جار فخرج به ففي هذا كله يجب القطع لأنه هو المخرج له إما بنفسه وإما بآلته فوجب عليه القطع كما لو حمله فأخرجه وسواء دخل الحرز فأخرجه أو نقبه ثم أدخل اليه يده أو عصا لها شجنة فاجتذبه بها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه إلا أن يكون البيت صغيرا لا يمكنه دخوله لأنه لم يهتك الحرز بما أمكنه فأشبه المختلس
ولنا أنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه وهو من أهل القطع فوجب عليه كما لو كان البيت ضيقا ويخالف المختلس فإنه لم يهتك الحرز وان رمى المتاع فأطارته الريح فأخرجته فعليه القطع لأنه متى كان ابتداء الفعل منه لم يؤثر فعل الريح كما لو رمى صيدا فأعانت الريح السهم حتى قتل الصيد حل ولو رمى الجمار فأعانتها الريح حتى وقعت في المرمى احتسب به وصار هذا كما لو ترك المتاع في الماء فجرى به فأخرجه ولو أمر صبيا لا يميز فأخرج المتاع وجب عليه القطع لأنه آلة له فأما إن ترك المتاع على دابة فخرجت بنفسها من غير سوقها أو ترك المتاع في ماء راكد فانفتح فخرج المتاع أو على حائط في الدار فأطارته الريح ففي ذلك وجهان :
أحدهما : عليه القطع لأن فعله سبب خروجه فأشبه ما لو ساق البهيمة أو فتح الماء وحلق الثوب في الهواء والثاني لا قطع عليه لأن الماء لم يكن آلة للاخراج وإنما خرج المتاع بسبب حادث من غير فعله والبهيمة لها اختيار لنفسها
فصل : وإذا أخرج المتاع من بيت في الدار أو الخان إلى الصحن فان كان باب البيت مغلقا ففتحه أو نقبه فقد أخرج المتاع من الحرز وإن لم يكن مغلقا فما أخرجه من الحرز وقد قال أحمد : إذا أخرج المتاع من البيت إلى الدار يقطع وهو محمول على الصورة الأولى
فصل : قال أحمد : الطرار سرا يقطع وإن اختلس لم يقطع ومعنى الطرار الذي يسرق من جيب الرجل أو كمه أو صفنه وسواء بط ما أخذ منه المسروق أو قطع الصفن فأخذه أو أدخل يده في الجيب فأخذ ما فيه فان عليه القطع وروي عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل وكمه لا قطع عليه فيكون في ذلك روايتان
فصل : وإذا دخل السارق حرزا فاحتلب لبنا من ماشية وأخرجه فعليه القطع وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه لأنه من الاشياء الرطبة وقد مضى الكلام معه في هذا وان شربه في الحرز أو شرب منه ما ينقص النصاب فلا قطع عليه لأنه لم يخرج من الحرز نصابا وإن ذبح الشاة في الحرز أو شق الثوب ثم أخرجهما وقيمتهما بعد الشق والذبح نصاب فعليه القطع وبه قال الشافعي و قال أبو حنيفة : لا قطع عليه في الشاة لأن اللحم لا يقطع عنده بسرقته والثوب إن شق أكثره فلا قطع فيه لأن صاحبه مخير بين أن يضمنه قيمة جميعه فيكون قد أخرجه وهو ملك له وقد تقدم الكلام معه في هذه الأصول وإن دخل الحرز فابتلع جوهرة وخرج فلم تخرج فلا قطع عليه لأنه اتلفها في الحرز وان خرجت ففيه وجهان :
أحدهما : يجب لأنه اخرجها في وعائها فأشبه إخراجها في كمه والثاني لا يجب لأنه ضمنها بالبلع فكان إتلافا لها ولأنه ملجأ الى إخراجها لأنه لا يمكنه الخروج بدونها وإن تطيب في الحرز بطيب وخرج ولم يبقى عليه من الطيب ما إذا جمع كان نصابا فلا قطع عليه لأن ما لا يجتمع قد أتلفه باستعماله فأشبه ما لو أكل الطعام وان كان يبلغ نصابا فعليه القطع لأنه أخرج نصابا وذكر فيه وجه آخر فيما إذا كان ما تطيب به يبلغ نصابا فعليه القطع وان نقص ما يجتمع عن النصاب لأنه أخرج نصابا والأول أولى وإن جر خشبة فألقاها بعد أن أخرج بعضها من الحرز فلا قطع عليه سواء خرج منها ما يساوي نصابا أو لم يكن لأن بعضها لا ينفرد عن بعض وكذلك لو أمسك الغاصب طرف عمامته والطرف الآخر في يد مالكها لم يضمنها وكذلك إذا سرق ثوبا أو عمامة فأخرج بعضهما
فصل : وإذا نقب الحرز ثم دخل فأخرج ما دون النصاب ثم دخل فأخرج ما يتم به النصاب نظرت فان كان في وقتين متباعدين أو ليلتين لم يجب القطع لأن كل واحدة منهما سرقة مفردة لا تبلغ نصابا وكذلك إن كانا في ليلة واحدة وبينهما مدة طويلة وإن تقاربا وجب قطعه لأنها سرقة واحدة وإذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه فبناء فعل الواحد بعضه على بعض أولى
الشرط الخامس والسادس والسابع : كون السارق مكلفا وثبتت السرقة ويطالب بها المالك بالمعروف وتنتفي الشبهات ويذكر ذلك في مواضعه (10/248)
مسألة : حكم ما لو كان المسروق ثمرا أو كثرا
مسألة : قال : إلا أن يكون المسروق ثمرا أو كثرا فلا قطع فيه
يعني به الثمر في البستان قبل ادخاله الحرز فهذا لا قطع في عند أكثر الفقهاء كذلك الكثر المأخوذ من النخل وهو جمار النخل روي هذا القول عن ابن عمر وبه قال عطاء و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور : إن كان من ثمر أو بستان محرز ففيه القطع وبه قال ابن المنذر : إن لم يصح خبر رافع قال : ولا أحسبه ثابتا واحتجا بظاهر الآية وبقياسه على سائر المحرزات
ولنا ما روى رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قطع في ثمر أو كثر ] أخرجه أبو داود و ابن ماجة وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : [ من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ] وهذا يخص عموم الآية ولأن البستان ليس بحرز لغير الثمر فلا يكون حرزا له كما لو لم يكن محوطا فأما إن كانت نخلة أو شجرة في دار محرزة فسرق منه ا نصابا ففيه القطع لأنه سرق من حرز والله أعلم (10/259)
فصل : حكم السرقة من الثمر المعلق
فصل : وإن سرق من الثمر المعلق فعليه غرامة مثليه وبه قال اسحاق للخبر المذكور وقال أحمد : لا أعلم سببا يدفعه وقال أكثر الفقهاء : لا يجب فيه أكثر من مثله قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليه واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذا الخبر بأنه كان حين كانت العقوبة في الأموال ثم نسخ ذلك
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم وهو حجة لا تجوز مخالفته إلا بمعارضة مثله أو أقوى منه وهذا الذي اعتذر به هذا القائل دعوى للفسخ بالاحتمال من غير دليل عليه وهو فاسد بالاجماع ثم هو فاسد من وجه آخر لقوله : ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع فقد بين وجوب القطع مع ايجاب غرامة مثليه وهذا يبطل ما قاله وقد احتج أحمد بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بلتعة حين انتحر غلمانه ناقة رجل من مزينة مثلي قيمتها وروى الأثرم الحديثين في سننه قال أصحابنا : وفي الماشية تسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة مثلا قيمتها للحديث وهو ما جاء في حديث عمرو بن شعيب [ أن السائل قال : الشاة الحريسة منهن يا نبي الله ؟ قال : ثمنها ومثله معه والفكاك وما كان في المراح ففيه القطع إذا كان ما يأخذ من ذلك ثمن المجن ] وهذا لفط رواية ابن ماجة وما عدا هذين لا يغرم بأكثر من قيمته أو مثله إن كان مثليا هذا قول أصحابنا وغيرهم إلا أبا بكر فإنه ذهب إلى إيجاب غرامة المسروق من غير حرز بمثليه قياسا على الثمر المعلق و حريسة الحبل واستدلا بحديث حاطب
ولنا أن الأصل وجوب غرامة المثلي بمثله والمتقوم بقيمته بدليل المتلف والمغصوب والمنتهب والمختلس وسائر ما تجب غرامته خولف في هذين الموضعين للأثر ففيما عداه يبقى على الأصل (10/260)
مسألة في ابتداء قطع السارق
مسألة : قال : وابتداء قطع السارق أن تقطع يده اليمنى من مفصل الكف ويحسم فان عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت
لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع وفي قراءة بن مسعود : ( فاقطعوا أيمانهما ) وهذا إن كان قراءة وإلا فهو تفسير وقد روي عن أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا : إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع ولا مخالف لهما في الصحابة ولأن البطش بها أقوى فكانت البداية بها أردع ولأنها آلة السرقة فناسب عقوبته باعدام آلتها وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى وبذلك قال الجماعة إلا عطاء حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى لقوله سبحانه : { فاقطعوا أيديهما } ولأنها آلة السرقة والبطش فكانت العقوبة بقطعها أولى وروي ذلك عن ربيعة و داود وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الامصار من أهل الفقه والأثر من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في السارق : [ إذا سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] ولأنه في المحاربة الموجبة قطع عضوين إنما تقطع يده ورجله ولا تقطع يداه فنقول : جناية أوجبت قطع عضوين فكانا رجلا ويدا كالمحاربة ولأن قطع يديه يفوت منفعة الجنس فلا تبقى له يد يأكل بها ولا يتوضأ ولا يستطيب ولا يدفع عن نفسه فيصير كالهالك فكان قطع الرجل الذي لا يشتمل على هذه المفسدة أولى وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما بدليل أنه لا تقطع اليدان في المرة الأولى وفي قراءة عبد الله ( فاقطعوا أيمانهما ) وإنما ذكر بلفظ الجمع لأن المثنى إذا أضيف الى المثنى ذكر بلفظ الجمع كقوله تعالى : { فقد صغت قلوبكما } وإذا ثبت هذا فانه تقطع رجله اليسرى لقول الله تعالى : { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ولأن قطع اليسرى أرفق به لأنه يمكنه المشي على خشبة ولو قطعت رجله اليمنى لم يمكنه المشي بحال وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم وفعل ذلك عمر رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه يقطع من نصف القدم من معقد الشراك ويدع له عقبا يمشي عليها وهو قول أبي ثور
ولنا أنه أحد العضوين المقطوعين في السرقة فيقطع من المفصل كاليد وإذا قطع حسم وهو أن يغلى الزيت فاذا قطع غمس عضوه في الزيت لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم فيموت وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بسارق سرق شمله فقال : [ اقطعوه واحسموه ] وهو حديث فيه مقال قاله ابن المنذر وممن استحب ذلك الشافعي و أبو ثور وغيرهما من أهل العلم ويكون الزيت من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر به القاطع وذلك يقتضي أن يكون من بيت المال فإن لم يحسم فذكر القاضي أنه لا شيء عليه لأن عليه القطع لا مداواة المحدود ويستحب للمقطوع حسم نفسه فان لم يفعل لم يأثم لأنه ترك التداوي في المرض وهذا مذهب الشافعي (10/261)
فصل : يقطع السارق بأسهل ما يمكن
فصل : ويقطع السارق بأسهل ما يمكن فيجلس ويضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه وتشد يده بحبل وتجر حتى يبين مفصل الكف من مفصل الذراع ثم يوضع بينهما سكين حاد ويدق فوقهما بقوة ليقطع في مرة واحدة أو توضع السكين على المفصل وتمدى مدة واحدة وان علم قطع أوحى من هذا قطع به (10/263)
فصل : يسن تعليق اليد في عنقه
فصل : ويسن تعليق اليد في عنقه لما روى فضالة بن عبيد [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بسارق فقطعت يده ثم أمر بها فعلقت في عنقه ] رواه أبو داود و ابن ماجة : وفعل ذلك علي رضي الله عنه ولأن فيه ردعا وزجرا (10/263)
فصل : لا يقطع في شدة حر أو برد
فصل : ولا تقطع في شدة حر أو برد لأن الزمان ربما أعان على قتله والغرض الزجر دون القتل ولا تقطع حامل حال حملها ولا بعد وضعها حتى ينقضي نفاسها لئلا يفضي إلى تلفها وتلف ولده ولا يقطع مريض في مرضه لئلا يأتي على نفسه ولو سرق فقطعت يده ثم سرق قبل اندمال يده لم يقطع ثانيا حتى يندمل القطع الأول وكذلك لو قطعت رجله قصاصا لم تقطع اليد في السرقة حتى تبرأ الرجل فإن قيل : أليس لو وجب عليه قصاص في اليد الأخرى لقطعت قبل الاندمال والمحارب بقطع يده ورجله دفعة واحدة وقد قلتم في المريض الذي وجب عليه الحد لا ينتظر برؤه فلم خالفتم ذلك ههنا ؟ قلنا : القصاص حق آدمي يخاف فوته وهو مبني على الضيق لحاجته اليه ولأن القصاص قد يجب في يد ويجب في يدين وأكثر في حالة واحدة فلهذا جاز أن نوالي بين قصاصين ونخالف لأن كل معصية لها حد مقدر لا تجوز الزيادة عليه فإذا والى بين حدين صار كالزيادة على الحد فلم يجز وأما قطاع الطريق فان قطع اليد والرجل حد واحد بخلاف ما نحن فيه وأما تأخير الحد للمريض ففيه منع وإن سلمنا فان الجلد يمكن تخفيفه فيأتي به في المرض على وجه يؤمن معه التلف والقطع لا يمكن تخفيفه (10/264)
فصل : إذا سرق مرات قبل القطع أجزأ قطع واحد عن جميعها
فصل : وإذا سرق مرات قبل القطع أجزأ قطع واحد عن جميعها وتداخلت حدودها لأنه حد من حدود الله تعالى فإذا اجتمعت أسبابه تداخل كحد الزنا وذكر القاضي فيما اذا سرق من جماعة وجاءوا متفرقين رواية أخرى أنها لا تتداخل ولعله يقيس ذلك على حد القذف والصحيح أنها تتداخل لأن القطع خالص حق الله تعالى فتتداخل كحد الزنا والشرب وفارق حد القذف فإنه حق لآدمي ولهذا يتوقف على المطالبة باستيفائه ويسقط بالعفو عنه فأما إن سرق فقطع ثم سرق ثانيا قطع ثانيا سواء سرق من الذي سرق منه أولا أو من غيره وسواء سرق تلك العين التي قطع بها أو غيرها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا قطع بسرقة عين مرة لم يقطع بسرقتها مرة ثانية إلا أن يكون قد قطع بسرقة غزل ثم سرقه منسوجا أو قطع بسرقة رطب ثم سرقه تمرا واحتج بأن هذا يتعلق استيفاؤه بمطالبة آدمي فإذا تكرر سببه في العين الواحدة لم يتكرر كحد القذف
ولنا أنه حد يجب بفعل في عين فتكرره في عين واحدة كتكرره في الأعيان كالزنا وما ذكره يبطل بالغزل إذا نسج والرطب اذا أتمر ولا نسلم حد القذف فانه متى قذفه بغير ذلك الزنا حد وإن قذفه بذلك الزنا عقيب حده لم يحد لأن الغرض إظهار كذبه وقد ظهر وههنا الغرض ردعه عن السرقة ولم يرتدع بالاول فيردع بالثاني كالمودع إذا سرق عينا أخرى (10/264)
فصل : حكم من سرق ولا يمنى له
فصل : ومن سرق ولا يمنى له قطعت رجله اليسرى كما يقطع في السرقة الثانية وإن كانت يمناه شلاء ففيها روايتان :
إحداهما : تقطع رجله اليسرى لأن الشلاء لا نفع فيها ولا جمال فأشبهت كفا لا أصابع عليه قال إبراهيم الحربي عن أحمد فيمن سرق ويمناه جافة : تقطع رجله
والرواية الثانية : أنه يسأل أهل الخبرة فإن قالوا : إنها إذا قطعت رقأ دمها وانحسمت عروقها قطعت لأنه أمكن قطع يمينه فوجب كما لو كانت صحيحة وإن قالوا : لا يرقأ دمها لم تقطع لأنه يخاف تلفه وقطعت رجله وهذا مذهب الشافعي وإن كانت أصابع اليمنى كلها ذاهبة ففيها وجهان :
أحدهما : لا تقطع وتقطع الرجل لأن الكف لا تجب فيه دية اليد فأشبه الذراع
والثاني : تقطع لأن الراحة بعض ما يقطع في السرقة فاذا كان موجودا قطع كما لو ذهب الخنصر أو البنصر وإن ذهب بعض الأصابع نظرنا فإن ذهب الخنصر والبنصر أو ذهبت واحدة سواهما قطعت لأن معظم نفعها باق وإن لم يبق إلا واحدة فهي كالتي ذهب جميع أصابعها وإن بقي اثنتان فهل تلحق بالصحيحة أو بما قطع جميع أصابعها ؟ على وجهين والأولى قطعها لأن نفعها لم يذهب بالكلية (10/265)
فصل : حكم من سرق وله يمنى فقطعت في قصاص الخ
فصل : ومن سرق وله يمنى فقطعت في قصاص أو ذهبت بأكلة أو تعدى عليه متعد فقطعها سقط القطع ولا شيء على العادي إلا الأدب وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال قتادة : يقتص من القاطع وتقطع رجل السارق وهذا غير صحيح فان يد السارق ذهبت والقاطع قطع عضوا غير معصوم وإن قطعها قاطع بعد السرقة وقبل ثبوت السرقة والحكم بالقطع ثم ثبت ذلك فكذلك ولو شهد بالسرقة فحبسه الحاكم ليعدل الشهود فقطعه قاطع ثم عدلوا فكذلك وإن لم يعدلوا وجب القصاص على القاطع وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : لا قصاص عليه لأن صدقهم محتمل فيكون ذلك شبهة
ولنا أنه قطع طرفا ممن يكافئه عمدا بغير حق فلزمه القطع كما لو قطعه قبل إقامة البينة (10/265)
فصل : من سرق فقطع الجذاذ يساره بدلا من يمينه أجزأت
فصل : وإن سرق فقطع الجذاذ يساره بدلا عن يمينه أجزأت ولا شيء على القاطع إلا الأدب وبهذا قال قتادة و الشعبي وأصحاب الرأي وذلك لأن قطع يمنى السارق يفضي الى تفويت منفعة الجنس وقطع يديه بسرقة واحدة فلا يشرع وإذا انتفى قطع يمينه حصل قطع يساره مجزئا عن القطع الواجب فلا يجب على فاعله قصاص وقال أصحابنا : في وجوب قطع يمين السارق وجهان و للشافعي فيما إذا لم يعلم القاطع كونها يسارا أو ظن أن قطعها يجزىء قولان :
أحدهما : لا تقطع يمين السارق كيلا تقطع يداه بسرقة واحدة
والثاني : تقطع كما لو قطعت يسراه قصاصا فأما القاطع فاتفق أصحابنا و الشافعي على أنه إن قطعها عن غير اختيار من السارق أو كان السارق أخرجها دهشة أو ظنا منه أنها تجزىء وقطعها القاطع عالما بأنها يسراه وأنها لا تجزىء فعليه القصاص وإن لم يعلم أنها يسراه أو ظن أنها مجزئة فعليه ديتها وإن كان السارق أخرجها مختارا عالما بالأمرين فلا شيء على القاطع لأنه أذن في قطعها فأشبه غير السارق والمختار عندنا ما ذكرناه والله أعلم (10/266)
مسألة : لا يقطع غير يد ورجل وإن عاد يحبس
مسألة : قال : فان عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل
يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله لم يقطع منه شيء آخر وحبس وبهذا قال علي رضي الله عنه و الحسن و الشعبي و النخعي و الزهري و حماد و الثوري وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة رجله اليمنى وفي الخامسة يعزر ويحبس
وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل وهذا قول قتادة و مالك و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة ويقتل في الخامسة لأن جابرا قال : [ جيء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بسارق فقال : اقتلوه فقالوا : يا رسول الله إنما سرق فقال : اقطعوه قال : فقطع ثم جيء به الثانية فقال : اقتلوه قالوا : يا رسول الله إنما سرق فقال : اقطعوه فقطع ثم جيء به الثالثة فقال : اقتلوه فقالوا : يا رسول الله إنما سرق قال : اقطعوه قال : ثم أتي به الرابعة فقال : اقتلوه قالوا : يا رسول الله أنما سرق قال : اقطعوه ثم أتي به الخامسة قال : اقتلوه قال : فانطلقنا به فقتلناه ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ] رواه أبو داود
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في السارق : [ وإن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] ولأن اليسار تقطع قودا فجاز قطعها في السرقة كاليمنى ولأنه فعل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ]
ولنا ما روى سعيد حدثنا أبو معشر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه قال : حضرت علي بن أبي طالب رضي الله عنه أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق فقال لأصحابه : ما ترون في هذا ؟ قالوا : اقطعه يا أمير المؤمنين قال : قتلته إذا وما عليه القتل بأي شيء يأكل الطعام ؟ بأي شيء يتوضأ للصلاة ؟ بأي شيء يغتسل من جنابته ؟ بأي شيء يقوم على حاجته ؟ فرده إلى السجن أياما ثم أخرجه فاستشار أصحابه فقالوا مثل قولهم الأول وقال لهم مثل ما قال أول مرة فجلده جلدا شديدا ثم أرسله
وروي عنه أنه قال : إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ولا رجلا يمشي عليها ولأن في قطع اليدين تفويت منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل ولأنه لو جاز قطع اليدين لقطعت اليسرى في المرة الثانية لأنها آلة البطش كاليمنى وإنما لم تقطع للمفسدة في قطعها لأن ذلك بمنزلة الإهلاك فإنه لا يمكنه أن يتوضأ ولا يغتسل ولا يستنجي ولا يحترز من نجاسة ولا يزيلها عنه ولا يدفع عن نفسه ولا يأكل ولا يبطش وهذه المفسدة حاصلة بقطعها في المرة الثالثة فوجب أن يمنع قطعها كما منعه في المرة الثانية وأما حديث جابر ففي حق شخص استحق القتل بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر به في أول مرة وفي كل مرة وفعل ذلك في الخامسة ورواه النسائي وقال : حديث منكر
وأما الحديث الآخر وفعل أبي بكر وعمر فقد عارضه قول علي وقد روي عن عمر أنه رجع إلى قول علي فروى سعيد : حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عابد قال : أتي عمر برجل أقطع اليد والرجل قد سرق فأمر أن تقطع رجله فقال علي : إنما قال الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } الآية وقد قطعت يد هذا ورجله فلا ينبغي أن تقطع رجله فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها إما أن تعزره وإما أن تستودعه السجن فاستودعه السجن (10/267)
فصل : حكم ما لو سرق من يده اليسرى مقطوعة
فصل : وان سرق من يده اليسرى مقطوعة أو شلاء أو مقطوعة الأصابع أو كانت يداه صحيحتين فقطعت اليسرى أو شلت قبل قطع يمناه لم تقطع يمناه على الرواية الأولى وتقطع على الثانية وإن قطع يسراه قاطع متعمدا فعليه القصاص لأنه قطع طرفا معصوما وان قطعه غير متعمد فعليه ديته ولا تقطع يمين السارق وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي وفي قطع رجل السارق وجهان أصحهما لا يجب لأنه لم يجب بالسرقة وسقوط القطع عن يمينه لا يقتضي قطع رجله كما لو كان المقطوع يمينه
والثاني : تقطع رجله لأنه تعذر قطع يمينه فتقطع رجله كما لو كانت اليسرى مقطوعة حال السرقة وإن كانت يمناه صحيحة ويسراه ناقصة نقصا يذهب بمعظم نفعها مثل أن يذهب منها الابهام أو الوسطى أو السبابة احتمل أن يكون كقطعها وينتقل الى رجله وهذا قول أصحاب الرأي واحتمل أن تقطع يمناه لأن له يدا ينتفع بها أشبه ما لو قطعت خنصرها وإن كانت يداه صحيحتين و رجله اليمنى شلاء أو مقطوعة فلا أعلم فيها قولا لأصحابنا ويحتمل وجهين : أحدهما تقطع يمينه وهو مذهب الشافعي لأنه سارق له يمنى فقطعت عملا بالكتاب والسنة ولأنه سارق له يدان فتقطع يمناه كما لو كانت المقطوعة رجله اليسرى
والثاني : لا يقطع منه شيء وهو قول أصحاب الرأي لأن قطع يمناه يذهب بمنفعة المشي من الرجلين فأما إن كانت رجله اليسرى شلاء ويداه صحيحتان قطعت يده اليمنى لأنه لا يخشى تعدي ضرر القطع إلى غير المقطوع وعلى قياس هذه المسألة لو سرق ويده اليسرى مقطوعة أو شلاء لم يقطع منه شيء لذلك وأنكر هذا ابن المنذر وقال : أصحاب الرأي بقولهم هذا خالفوا كتاب الله بغير حجة (10/269)
مسألة : الحر والحرة والعبد والعبدة سواء في حد السرقة
مسألة : قال : والحر والحرة والعبد والأمة في ذلك سواء
أما الحر والحرة فلا خلاف فيهما وقد نص الله تعالى على الذكر والأنثى بقوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ولأنهما استويا في سائر الحدود فكذلك في هذا وقد قطع النبي صلى الله عليه و سلم سارق رداء صفوان وقطع المخزومية التي سرقت القطيفة
فأما العبد والأمة فإن جمهور الفقهاء وأهل الفتوى على أنهما يجب قطعهما بالسرقة إلا ما حكي عن ابن عباس أنه قال : لا قطع عليهما لأنه حد لا يمكن تنصيفه فلم يجب في حقهما كالرجم ولأنه حد فلا يساوي العبد فيه الحر كسائر الحدود
ولنا عموم الآية وروى الأثرم أن رقيقا لحاطب بن أبي بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها فأمر كثير ابن الصلت أن تقطع أيديهم ثم قال عمر : والله اني لأراك تجيعهم ولكن لأغرمنك غرما يشق عليك ثم قال للمزني : كم ثمن ناقتك ؟ قال : أربعمائة درهم قال عمر : اعطه ثمانمائة درهم
وروى القاسم بن محمد عن أبيه أن عبدا أقر بالسرقة عند علي فقطعه وفي رواية قال : كان عبدا يعني الذي قطعه علي رواه الامام أحمد بإسناده وهذه قصص تنتشر ولم تنكر فتكون إجماعا وقولهم لا يمكن تنصيفه قلنا : ولا يمكن تعطيله فيجب تكميله وقياسهم نقلبه عليهم فنقول : حد فلا يتعطل في حق العبد والأمة كسائر الحدود وفارق الرجم فإن حد الزاني لا يتعطل بتعطيله بخلاف القطع فان حد السرقة يتعطل بتعطيله (10/270)
فصل : يقطع الآبق بسرقته وغيره
فصل : ويقطع الآبق بسرقته وغيره روي ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز وبه قال مالك و الشافعي وقال مروان وسعيد بن العاصي و أبو حنيفة : لا يقطع لأن قطعه قضاء على سيده ولا يقضى على الغائب
ولنا عموم الكتاب والسنة وأنه مكلف سرق نصابا من حرز مثله فيقطع كغير الآبق وقولهم إنه قضاء على سيده لا يسلم فإنه لا يعتبر فيه إقرار السيد ولا يضر إنكاره وإنما يعتبر ذلك من العبد ثم القضاء على الغائب بالبينة جائز على ما عرف في موضعه (10/271)
فصل : حكم ما لو أقر العبد بسرقة مال يده فأنكر ذلك سيده
فصل : وإن أقر العبد بسرقة مال في يده فأنكر ذلك سيده وقال : هذا مال فالمال لسيده ويقطع العبد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قطع عليه لأنه لم تثبت سرقته للمال فلم يجب قطعه كما لو أنكره المسروق منه ولأنه إذا لم يقبل إقراره في المال ففي الحد الذي يندرئ بالشبهات أولى ولنا أنه أقر بالسرقة وصدقه المسروق منه فقطع كالحر ويحتمل أن لا يجب القطع لأن الحد يدرأ بالشبهات وكون المال محكوما به لسيده شبهة (10/271)
فصل : يقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي ويقطع الذمي بسرقة مالهما
فصل : ويقطع المسلم بسرقة مال المسلم والذمي ويقطع الذمي بسرقة مالهما وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا فأما الحربي إذا دخل الينا مستأمنا فسرق فإنه يقطع أيضا وقال ابن حامد : لا يقطع وهو قول أبي حنيفة و محمد لأنه حد لله تعالى فلا يقام عليه كحد الزنا وقد نص أحمد على أنه لا يقام عليه حد الزنا و للشافعي قولان كالمذهبين
ولنا أنه حد يطالب به فوجب عليه كحد القذف يحققه أن القطع يجب صيانة للاموال وحد القذف يجب صيانة للاعراض فإذا وجب في حقه أحدهما وجب الآخر فأما حد الزنا فلم يجب لأنه يجب به قتله لنقضه العهد ولا يجب مع القتل حد سواه
إذا ثبت هذا فإن المسلم يقطع بسرقة ماله وعند أبي حنيفة لا يجب ولنا أنه سرق مالا معصوما من حرز مثله فوجب قطعه كسارق مال الذمي ويقطع المرتد إذا سرق لأن أحكام الاسلام جارية عليه (10/272)
مسألة : يقطع السارق وإن وهبت له السرقة بعد إخراجها
مسألة : قال : ويقطع السارق وان وهبت له السرقة بعد إخراجها
وجملته أن السارق إذا ملك العين المسروقة بهبة أو بيع أو غيرهما من أسباب الملك لم يخل من أن يملكها قبل رفعه إلى الحاكم والمطالبة بها عنده أو بعد ذلك فان ملكها قبله لم يجب القطع لأن من شرطه المطالبة بالمسروق وبعد ملكه له لا تصح المطالبة وإن ملكها بعده لم يسقط القطع وبهذا قال مالك و الشافعي و إسحاق وقال أصحاب الرأي : يسقط لأنها صارت ملكه فلا يقطع في عين هي ملكه كما لو مكلها قبل المطالبة بها ولأن المطالبة شرط والشروط يعتبر دوامها ولم يبق لهذه العين مطالب
ولنا ما روى الزهري عن ابن صفوان عن أبيه [ أنه نام في المسجد وتوسد رداءه فأخذ من تحت رأسه فجاء بسارقه الى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر به النبي صلى الله عليه و سلم أن يقطع فقال صفوان : يا رسول الله لم أرد هذا ردائي عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : فهلا قبل أن تأتيني به ؟ ] رواه ابن ماجة و الجوزجاني وفي لفظ [ قال : فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهما ؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها قال فهلا كان قبل أن تأتيني به ؟ ] رواه الأثرم و أبو داود فهذا يدل على أنه لو وجد قبل رفعه اليه لدرأ القطع وبعده لا يسقطه وقولهم أن المطالبة شرط قلنا : هي شرط الحكم لا شرط القطع بدليل أنه لو استرد العين لم يسقط القطع وقد زالت المطالبة (10/272)
فصل : حكم ما لو أقر المسروق أن المسروق كان للسارق ملكا
فصل : وإن أقر المسروق منه أن المسروق كان ملكا للسارق أو قامت به بينة أو أن له فيه شبهة أو أن المالك أذن له في أخذها أو أنه سبلها لم يقطع
لأننا تبينا أنه لم يجب بخلاف ما لو وهبه إياها فإن ذلك لا يمنع كون الحد واجبا وإن أقر له بالعين سقط القطع أيضا لأن إقراره يدل على تقدم ملكه لها فيحتمل أن تكون له حال أخذها والمنصوص عن أحمد أن القطع لا يسقط لأنه ملك تجدد سببه بعد وجوب القطع أشبه الهبة ولأن ذلك حيلة على إسقاط القطع بعد وجوبه فلم يسقط بها كالهبة (10/273)
مسألة : حكم ما لو أخرج السرقة وقيمتها ثلاثة دراهم فنقصت قبل القطع
مسألة : قال : ولو أخرجها وقيمتها ثلاثة دراهم فلم يقطع حتى نقصت قيمتها قطع
وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : يسقط القطع لأن النصاب شرط فتعتبر استدامته
ولنا قول الله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ولأنه نقص حدث في العين فلم يمنع القطع كما لو حدث باستعماله والنصاب شرط لوجوب القطع فلا تعتبر استدامته كالحرز وما ذكره يبطل بالحرز فانه لو زال الحرز أو ملكه لم يسقط عنه القطع وسواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ فأما إن نقص النصاب قبل الإخراج لم يجب القطع لعدم الشرط قبل تمام السبب وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله وإن وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت ناقصة حين السرقة أو حدث النقص بعدها ؟ لم يجب القطع لأن الوجوب لا يثبت مع الشك في شرطه ولأن الأصل عدمه (10/273)
مسألة : إذا كانت السرقة باقية ردت لصاحبها وإلا فله قيمتها
مسألة : قال : وإذا قطع فان كانت السرقة باقية ردت إلى مالكها وإن كانت تالفة فعليه قيمتها سواء كان موسرا أو معسرا
لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة على مالكها إذا كانت باقية فأما إن كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قطع أو لم يقطع موسرا كان أو معسرا وهذا قول الحسن و النخعي و حماد و البتي و الليث و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وقال الثوري و أبو حنيفة : لا يجتمع الغرم والقطع إن غرمها قبل القطع سقط القطع وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم
وقال عطاء و ابن سيرين و الشعبي و مكحول : لا غرم على السارق إذا قطع ووافقهم مالك في المعسر ووافقنا في الموسر قال أبو حنيفة في رجل سرق مرات ثم قطع : يغرم الكل إلا الأخيرة وقال أبو يوسف : لا يغرم شيئا لأنه قطع بالكل فلا يغرم شيئا منه كالسرقة الأخيرة واحتج بما روي عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه ] ولأن التضمين يقتضي التمليك والملك يمنع القطع فلا يجمع بينهما
ولنا أنها عين يجب ضمانها بالرد لو كانت باقية فيجب ضمانها إذا كانت تالفة كما لو لم يقطع ولأن القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك وحديثهم يرويه سعد ابن ابراهيم عن منصور وسعد بن ابراهيم مجهول قاله ابن المنذر وقال ابن عبد البر : الحديث ليس بالقوي ويحتمل أنه أراد ليس عليه أجرة القاطع وما ذكروه فهو بناء على أصولهم ولا نسلمها لهم (10/274)
فصل : حكم ما إذا فعل بالعين فعلا نقصها به
فصل : واذا فعل في العين فعلا نقصها به كقطع الثوب ونحوه وجب رده ورد نقصه ووجب القطع وقال أبو حنيفة : إن كان نقصا لا يقطع حق المغصوب منه إذا فعله الغاصب رد العين ولا ضمان عليه وإن كان يقطع حق الملك كقطع الثوب وخياطته فلا ضمان عليه ويسقط حق المسروق منه من العين وإن كان زيادة في العين كصبغة أحمر أو أصفر فلا ترد العين ولا يحل له التصرف فيها وقال أبو يوسف و محمد : ترد العين وبنى هذا على أصله في أن الغرم يسقط عنه القطع وأما إذا صبغه فقال : لا يرده لأنه لو رده لكان شريكا فيه بصبغة ولا يجوز أن يقطع فيما هو شريك فيه وهذا ليس بصحيح لأن صبغه كان قبل القطع فلو كان شريكا بالصبغ لسقط القطع وإن كان يصير شريكا بالرد فالشركة الطارئة بعد القطع لا تؤثر كما لو اشترى نصفه من مالكه بعد القطع وقد سلم أبو حنيفة أنه لو سرق فضة فضربها دراهم قطع ولزمه ردها وقال صاحباه : لا يقطع ويسقط حق صاحبها منها بضربها وهذا شيء بيناه على أصولهما في أن تغيير اسمها يزيل ملك صاحبها وأن ملك السارق لها يسقط القطع عنه وهو غير مسلم لهما (10/275)
مسألة : حكم ما لو أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم
مسألة : قال : وإذا أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع
روي عن ابن الزبير أنه قطع نباشا وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز و قتادة و الشعبي و النخعي و حماد و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة و الثوري : لا قطع عليه لأن القبر ليس بحرز لأن الحرز ما يوضع فيه المتاع للحفظ والكفن لا يوضع في القبر لذلك ولأنه ليس بحرز لغيره فلا يكون حرزا له ولأن الكفن لا مالك له لأنه لا يخلو إما أن يكون ملكا للميت أو لوارثه وليس ملكا لواحد منهما لأن الميت لا يملك شيئا ولم يبق أهلا للملك والوارث إنما ملك ما فضل عن حاجة الميت ولأنه لا يجب القطع إلا بمطالبة المالك أو نائبه ولم يوجد ذلك
ولنا قول الله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } وهذا سارق فإن عائشة رضي الله عنها قالت : سارق أمواتنا كسارق أحيائنا وما ذكروه لا يصح فإن الكفن يحتاج إلى تركه في القبر دون غيره ويكتفى به في حرزه ألا ترى أنه لا يترك الميت في غير القبر من غير أن يحفظ كفنه ويترك في القبر وينصرف عنه وقولهم انه لا مالك له ممنوع بل هو مملوك للميت لأنه كان مالكا له في حياته ولا يزول ملكه إلا عما لا حاجة به إليه ووليه يقوم مقامه في المطالبة كقيام ولي الصبي في الطلب بماله إذا ثبت هذا فلا بد من إخراج الكفن من القبر لأنه الحرز فإن أخرجه من اللحد ووضعه في القبر فلا قطع فيه لأنه لم يخرجه من الحرز فأشبه ما لو نقل المتاع في البيت من جانب إلى جانب فإن النبي صلى الله عليه و سلم سمى القبر بيتا (10/276)
فصل : الكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا
فصل : والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا فان كفن الرجل في أكثر من ثلاث لفائف أو المرأة في أكثر من خمس فسرق الزائد عن ذلك أو تركه في تابوت فسرق التابوت او ترك معه طيبا مجموعا أو ذهبا أو فضة أو جواهر لم يقطع بأخذ شيء من ذلك لأنه ليس بكفن مشروع فتركه فيه سفه وتضييع فلا يكون محرزا ولا يقطع سارقه (10/277)
فصل : هل يفتقر في قطع النباش إلى المطالبة ؟
فصل : وهل يفتقر في قطع النباش إلى المطالبة ؟ يحتمل وجهين : أحدهما يفتقر إلى المطالبة كسائر المسروقات فعلى هذا المطالب الورثة لأنهم يقومون مقام الميت في حقوقه وهذا من حقوقه
والثاني : لا يفتقر إلى طلب لأن الطلب في السرقة من الاحياء شرع لئلا يكون المسروق مملوكا للسارق وقد يئس من ذلك ههنا (10/277)
مسألة : لا يقطع في محرم ولا آلة لهو
مسألة : قال : ولا يقطع في محرم ولا آلة لهو
يعني لا يقطع في سرقة محرم كالخمر والخنزير والميتة ونحوها سواء سرقه من مسلم أو ذمي وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن عطاء أن سارق خمر الذمي يقطع وإن كان مسلما لأنه مال لهم أشبه ما لو سرق دراهمهم
ولنا أنها عين محرمة فلا يقطع بسرقتها كالخنزير ولأن ما لا يقطع بسرقته من مال مسلم لا يقطع بسرقته من الذمي كالميتة والدم وما ذكروه ينتقض بالخنزير ولا اعتبار به قان الاعتبار بحكم الإسلام وهو يجري عليهم دون أحكامهم وهكذا الخلاف معه في الصليب إذا بلغت قيمته مع تأليفه نصابا وأما آلة اللهو كالطنبور والمزمار والشبابة فلا قطع فيه وإن بلغت قيمته مفصلا نصابا وبهذا قال أبو حنيفة وقال أصحاب الشافعي : إن كانت قيمته بعد زوال تأليفه نصابا ففيه القطع وإلا فلا لأنه سرق ما قيمته نصاب لا شبهة له فيه من حرز مثله وهو من أهل القطع فوجب قطعه كما لو كان ذهبا مكسورا
ولنا أنه آلة للمعصية بالاجماع فلم يقطع بسرقته كالخمر ولأن له حقا في أخذها لكسرها فكان ذلك شبهة مانعة من القطع كاستحقاقه مال ولده فإن كانت عليه حلية تبلغ نصابا فلا قطع فيه أيضا في قياس قول أبي بكر لأنه متصل بما لا قطع فيه فأشبه الخشب والاوتار وقال القاضي : فيه القطع وهو مذهب الشافعي لأنه سرق نصابا من حرزه فأشبه المنفرد (10/278)
فصل : حكم ما لو سرق صليبا من ذهب أو فضة
فصل : وإن سرق صليبا من ذهب أو فضة يبلغ نصابا متصلا فقال القاضي : لا قطع فيه وهو قول أبي حنيفة وقال أبو الخطاب : يقطع سارقه وهو مذهب الشافعي ووجه المذهبين ما تقدم والفرق بين هذه المسألة وبين التي قبلها أن التي قبلها له كسره بحيث لا تبقى له قيمة تبلغ نصابا وههنا لو كسر الذهب والفضة كل وجه لم تنقص قيمته عن النصاب ولأن الذهب والفضة جوهرهما غالب على الصنعة المحرمة فكانت الصناعة فيها مغمورة بالنسبة إلى قيمة جوهرهما وغيرهما بخلافهما فتكون الصناعة غالبة عليه فيكون بائعا للصناعة المحرمة فأشبه الإناء ولو سرق إناء من ذهب أو فضة قيمته نصاب إذا كان متكسرا فعليه القطع لأنه غير مجمع على تحريمه وقيمته بدون الصناعة المختلف فيها نصاب وإن سرق إناء معدا لحمل الخمر ووضعه فيه ففيه القطع لأن الإناء لا تحريم فيه وإنما يحرم عليه بنيته وقصده فأشبه ما لو سرق سكينا معدة لذبح خنازير أو سيفا يعده لقطع الطريق وإن سرق إناء فيه خمر يبلغ نصابا فقال أبو الخطاب : يقطع وهو مذهب الشافعي لأنه سرق نصابا من حرز مثله لا شبهة له فيه وقال غيره من أصحابنا : لا يقطع لأنه تبع لما لا قطع فيه فأشبه ما لو سرق مشتركا بينه وبين غيره قال أبو إسحاق بن شاقلا : ولو سرق إداوة أو إناء فيه ماء فلا قطع فيه كذلك ولو سرق منديلا في طرفه دينار مشدود فعلم به فعليه القطع وإن لم يعلم به فلا قطع فيه فإنه لم يقصد سرقته فأشبه ما لو تعلق بثوبه وقال الشافعي : يقطع لأنه سرق نصابا فأشبه ما لو سرق ما لم يعلم أن قيمته نصاب والفرق بينهما أنه علم بالمسروق ههنا وقصد سرقته بخلاف الدينار فإنه لم يرده ولم يقصد أخذه فلا يؤاخذ به بإيجاب الحد عليه (10/279)
مسألة : لا يقطع الوالد فيما أخذ من مال ولده
مسألة : قال : ولا يقطع الوالد فيما أخذ من مال ولده لأنه أخذ ما له أخذه ولا الوالدة فيما أخذت من مال ولدها ولا العبد فيما سرق من مال سيده
وجملته أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم والابن والبنت والجد والجدة من قبل الأب والام وهذا قول عامة أهل العلم منهم مالك و الثوري و الشافعي و أصحاب الرأي وقال أبو ثور و ابن المنذر : القطع على كل سارق بظاهر الكتاب إلا أن يجمعوا على شيء فيستثنى
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت ومالك لأبيك ] وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ] وفي لفظ : [ فكلوا من كسب أولادكم ] ولا يجوز قطع الانسان بأخذ ما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بأخذه ولا أخذ ما جعله النبي صلى الله عليه و سلم مالا له مضافا إليه ولأن الحدود تدرأ بالشبهات وأعظم الشبهات أخذ الرجل من مال جعله الشرع له وأمره بأخذه وأكله وأما العبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا ووافقهم أبو ثور فيه وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية
ولنا ما روى السائب بن يزيد قال : شهدت عمر بن الخطاب وقد جاءه عبد الله بن عمرو بن الحضرمي بغلام له فقال : إن غلامي هذا سرق فاقطع يده فقال عمر : ما سرق ؟ قال : سرق مرآة امرأتي ثمنها ستون درهما فقال : ارسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم ولكنه لو سرق من غيره قطع وفي لفظ قال : مالكم سرق بعضه بعضا لا قطع عليه رواه سعيد وعن ابن مسعود أن رجلا جاءه فقال : عبد لي سرق قباء لعبد لي آخر فقال : لا قطع مالك سرق مالك وهذه قضايا تشتهر ولم يخالفها أحد فتكون إجماعا وهذا يخص عموم الآية ولأن هذا إجماع من أهل العلم لأنه قول من سمينا من الأئمة ولم يخالفهم في عصرهم أحد فلا يجوز خلافه بقول من بعدهم كما لا يجوز ترك إجماع الصحابة بقول واحد من التابعين (10/280)
فصول : متفرقات في القطع
فصل : والمدبر وأم الولد والمكاتب كالقن في هذا وبه قال الثوري و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا يقطع سيد المكاتب بسرقة ماله لأنه عبد ما بقي عليه درهم وكل ما لم يقطع الإنسان بسرقة ماله لا يقطع عبده بسرقة ماله كآبائه وأولاده وغيرهم كل على أصله وقال أبو ثور : يقطع بسرقة مال من عدا سيده ونحوه قول مالك و ابن المنذر
ولنا حديث عمر رضي الله عنه ولأن مالهم ينزل منزلة ماله في قطعه فكذلك في قطع عبده
فصل : ولا يقطع الابن وإن سفل بسرقة مال والده وإن علا وبه قال الحسن و الشافعي و إسحاق و الثوري و أصحاب الرأي وظاهر قول الخرقي أنه يقطع لأنه لم يذكره في من لا قطع عليه وهو قول مالك و أبي ثور و ابن المنذر لظاهر الكتاب ولأنه يحد بالزنا بجاريته ويقاد بقتله فيقطع بسرقة ماله كالاجنبي ووجه الاول : أن بينهما قرابة تمنع قبول شهادة أحدهما لصاحبه فلم يقطع بسرقة ماله كالأب ولأن النفقة تجب في مال الأب لابنه حفظا له فلا يجوز إتلافه حفظا للمال وأما الزنا بجاريته فيجب به الحد لأنه لا شبهة له فيها بخلاف المال
فصل : فأما سائر الأقارب كالأخوة والأخوات ومن عداهم فيقطع بسرقة مالهم ويقطعون بسرقة ماله وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يقطع بالسرقة من ذي رحم لأنها قرابة تمنع النكاح وتبيح النظر وتوجب النفقة أشبه قرابة الولادة
ولنا أنها قرابة لا تمنع الشهادة فلا تمنع القطع كقرابة غيره وفارق قرابة الولادة بهذا
فصل : وان سرق أحد الزوجين من مال الآخر فإن كان مما ليس محرزا عنه فلا قطع فيه وإن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان :
إحداهما : لا قطع عليه وهي اختيار أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لقول عمر رضي الله عنه لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي حين قال له : إن غلامي سرق مرآة امرأتي أرسله لا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم وإذا لم يقطع عبده بسرقة مالها فهو أولى ولأن كل واحد منهما يرث صاحبه بغير حجب ولا تقبل شهادته له ويتبسط في مال الآخر عادة فأشبه الوالد والولد
والثانية : يقطع وهو مذهب مالك و أبي ثور و ابن المنذر وهو ظاهر كلام الخرقي لعموم الآية ولأنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه أشبه الأجنبي و للشافعي كالروايتين وقول ثالث ان الزوج يقطع بسرقة مال الزوجة لأنه لا حق له فيه ولا تقطع بسرقة ماله لأن لها النفقة فيه
فصل : ولا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلما ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وله قال الشعبي و النخعي و الحكم و الشافعي وأصحاب الرأي وقال حماد و مالك و ابن المنذر : يقطع لاهر الكتاب
ولنا ما روى ابن ماجة باسناده عن ابن عباس أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس فدفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فلم يقطعه وقال : مال الله سرق بعضه بعضا ويروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وسأل ابن مسعود عمر عمن سرق من بيت المال فقال : أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق وقال سعيد : حدثنا هشيم : أخبرنا مغيرة عن الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول : ليس على من سرق من بيت المال قطع ولأن له في المال حقا فيكون شبهة تمنع وجوب القطع كما لو سرق من مال له فيه شركة ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده أو لمن لا يقطع بسرقة ماله لم يقطع لذلك وإن لم يكن من الغانمين ولا أحدا من هؤلاء الذين ذكرنا فسرق منها قبل إخراج الخمس لم يقطع لأن له في الخمس حقا وإن أخرج الخمس فسرق من الأربة الأخماس قطع وإن سرق من الخمس لم يقطع وان قسم الخمس خمسة أقسام فسرق من خمس الله تعالى ورسوله لم يقطع وإن سرق من غيره قطع إلا أن يكون من أهل ذلك الخمس
فصل : وإن سرق من الوقف او من غلته أو من الموقوف عليهم مثل أن يكون مسكينا سرق من وقف المساكين أو من قوم معينين عليهم وقف فلا قطع عليه لأنه شريك وإن كان من غيرهم قطع لأنه لا حق له فيه فإن قيل : فقد قلتم : لا يقطع بالسرقة من بيت المال من غير تفريق بين غني وفقير فلم فرقتم ههنا ؟ قلنا : لأن للغني في بيت المال حقا ولهذا قال عمر رضي الله عنه : ما من أحد إلا وله في هذا المال حق بخلاف وقف المساكين فإنه لا حق للغني فيه
فصل : قال أحمد : لا قطع في المجاعة يعني أن المحتاج إذا سرق ما يأكله فلا قطع عليه لأنه كالمضطر وروى الجوزجاني عن عمر أنه قال : لا قطع في عام سنة وقال : سألت أحمد عنه فقلت : تقول به ؟ قال : أي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة والناس في شدة ومجاعة وعن الأوزاعي مثل ذلك وهذا محمول على من لا يجد ما يشتريه أو لا يجد ما يشتري به فإن له شبهة في أخذ ما يأكله أو ما يشتري به ما يأكله وقد روي عن عمر رضي الله عنه أن غلمان حاطب بن أبي بلتعة انتحروا ناقة للمزني فأمر عمر بقطعهم ثم قال لحاطب : إني أراك تجيعهم فدرأ عنهم القطع لما ظنه يجيعهم فأما الواجد لما يأكله أو الواجد لما يشتري به وما يشتريه فعليه القطع وإن كان بالثمن الغالي ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي ولا قطع على المرأة إذا منعها الزوج قدر كفايتها أو كفاية ولدها فأخذت من ماله سواء أخذت قدر ذلك أو أكثر منه لأنها تستحق قدر ذلك فالزائد يكون مشتركا بما يستحق أخذه ولا على الضيف إذا منع قراه فأخذ أيضا من مال المضيف لذلك (10/281)
مسألة : لا يقطع إلا بشهادة عدلين أو اعتراف مرتين
مسألة : قال : ولا يقطع إلا بشهادة عدلين أو اعتراف مرتين
وجملة ذلك أن القطع إنما يجب بأحد أمرين : بينة أو إقرار لا غير فأما البينة فيشترط فيها أن يكونا رجلين مسلمين حرين عدلين سواء كان السارق مسلما أو ذميا وقد ذكرنا ذلك في الشهادة في الزنا بما أغنى عن إعادته ههنا ويشترط أن يصفا السرقة والحرز وجنس النصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه فيقولان : نشهد أن هذا سرق كذا قيمته كذا من حرز ويصفا الحرز وإن كان المسروق منه غائبا فحضر وكيله وطالب بالسرقة احتاج الشاهدان أن يرفعا في نسبه فيقولان : من حرز فلان بن فلان بن فلان بحيث يتميز من غيره فإذا اجتمعت هذه الشروط وجب القطع في قول عامتهم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع السارق يجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان ووصفا ما يوجب القطع وإذا وجب القطع بشهادتهما لم يسقط بغيبتهما ولا موتهما على ما مضى في الشهادة بالزنا وإذا شهدا بسرقة ما لغائب فإن كان له وكيل حاضر فطالب به قطع السارق وإلا فلا (10/285)
فصل : حكم ما لو اختلف الشاهدان
فصل : وإذا اختلف الشاهدان في الوقت أوالمكان أو المسروق فشهد أحدهما أنه سرق يوم الخميس والآخر أنه سرق يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه سرق من هذا البيت وشهد الآخر أنه سرق من هذا البيت أو قال أحدهما : سرق ثورا وقال الآخر : سرق بقرة أو قال : سرق ثورا وقال الآخر : سرق حمارا لم يقطع في قولهم جميعا وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وإن قال أحدهما : سرق ثوبا أبيض وقال الآخر : أسود أو قال أحدهما : سرق هرويا فقال الآخر : مرويا لم يقطع أيضا وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر لأنهما لم يتفقا على الشهادة بشيء واحد فأشبه ما لو اختلفا في الذكورية والأنوثية وقال أبو الخطاب : يقطع وهو قول أبي حنيفة وأصحاب الرأي لأن الاختلاف لم يرجع الى نفس الشهادة ويحتمل أن أحدهما غلب على ظنه أنه هروي والآخر أنه مروي أو كان الثوب فيه سواد وبياض قال ابن المنذر : اللون أقرب الى الظهور من الذكورية والأنوثية فاذا كان اختلافهما فيما يخفى يبطل شهادتهما ففيما يظهر أولى ويحتمل أن أحدهما ظن المسروق ذكرا وظنه الآخر أنثى فقد أوجب هذا رد شهادتهما فكذلك ههنا الثاني الاعتراف فيشترط فيه أن يعترف مرتين روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى و أبو يوسف وزفر وابن شبرمة وقال عطاء و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و محمد بن الحسن : يقطع باعتراف مرة لأنه حق يثبت بالاقرار فلم يعتبر فيه التكرار كحق الآدمي
ولنا ما روى أبو داود باسناده عن أبي أمية المخزومي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بلص قد اعترف فقال له : وما أخالك سرقت قال : بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع ] ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره وروى سعيد عن هشيم وسفيان وأبي الأحوص وأبي معاوية عن الأعمش عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه قال : شهدت عليا وأتاه رجل فأقر بالسرقة فرده وفي لفظ فانتهره وفي لفظ فسكت عنه وقال غير هؤلاء : فطرده ثم عاد بعد ذلك فأقر فقال له علي : شهدت على نفسك مرتين فأمر به فقطع وفي لفظ : قد أقررت على نفسك مرتين ومثل هذا يشتهر فلم ينكر ولأنه يتضمن إتلافا في حد فكان من شرطه التكرار كحد الزنا ولأنه أحد حجتي القطع فيعتبر فيه التكرار كالشهادة وقياسهم ينتقض بحد الزنا عند من اعتبر التكرار ويفارق حد الآدمي لأن حقه مبني على الشح والتضييق ولا يقبل رجوعه عنه بخلاف مسألتنا (10/286)
فصل : يعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة
فصل : ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة من النصاب والحرز واخراجه منه (10/287)
فصل : والحر والعبد في هذا سواء
فصل : والحر والعبد في هذا سواء نص عليه أحمد وذلك لعموم النص فيهما ولما روى الأعمش عن القاسم عن أبيه أن عليا قطع عبدا أقر عنده بالسرقة وفي رواية قال : كان عبدا يعني الذي قطعه علي ويعتبر أن يقر مرتين وروى مهنا عن أحمد : إذا أقر العبد أربع مرات انه سرق قطع وظاهر هذا أنه اعتبر إقراره أربع مرات ليكون على النصف من الحر والأول أصح لخبر علي ولأنه إقرار بحد فاستوى في عدده والحر والعبد كسائر الحدود (10/287)
مسألة : لا ينزع عن إقراره حتى يقطع
مسألة : قال : ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع
هذا قول أكثر الفقهاء وقال ابن أبي ليلى و داود : لا يقبل رجوعه لأنه لو أقر لآدمي بقصاص أو حق لم يقبل رجوعه عنه
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم للسارق : [ ما أخالك سرقت ] عرض له ليرجع ولأنه حد لله تعالى ثبت بالاعتراف فقبل رجوعه عنه كحد الزنا ولأن الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعه عنه شبهة لاحتمال أن يكون كذب على نفسه في اعترافه ولأنه أحد حجتي القطع فيبطل بالرجوع عنه كالشهادة ولأن حجة القطع زالت قبل استيفائه فسقط كما لو رجع الشهود وفارق حق الآدمي فانه مبني على الشح والضيق ولو رجع الشهود عن الشهادة بعد الحكم لم يبطل برجوعهم ولم يمنع استيفاءها
إذا ثبت هذا فإنه إذا رجع قبل القطع سقط القطع ولم يسقط غرم المسروق لأنه حق آدمي ولو أقر مرة واحدة لزمه غرامة المسروق دون القطع وإن كان رجوعه وقد قطع بعض المفصل لم يتممه إن كان يرجى برؤه لكونه قطع قليلا وإن قطع الأكثر فالمقطوع بالخيار إن شاء تركه وان شاء قطعه ليستريح من تعليق كفه ولا يلزم القاطع قطعه لأن قطعه تداو وليس بحد (10/287)
فصل : قال أحمد : لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره
فصل : قال أحمد : لا بأس بتلقين السارق ليرجع عن إقراره وهذا قول عامة الفقهاء روي عن عمر أنه أتي برجل فسأله : أسرقت ؟ قل : لا فقال : لا فتركه وروي معنى ذلك عن أبي بكر الصديق وأبي هريرة وابن مسعود وأبي الدرداء وبه قال إسحاق و أبو ثور وقد روينا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للسارق : [ ما إخالك سرقت ] وقال لماعز : [ لعلك قبلت أو لمست ] وعن علي رضي الله عنه أن رجلا أقر عنده بالسرقة فانتهره وروي أنه طرده وروي أنه رده ولا بأس بالشفاعة في السارق ما لم يبلغ الامام فإنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد وجب ]
وقال الزبير بن العوام في الشفاعة في الحد : يفعل ذلك دون السلطان فإذا بلغ الامام فلا أعفاه الله إن أعفاه وممن رأى ذلك الزبير وعمار و ابن عباس و سعيد بن جبير و الزهري و الأوزاعي وقال مالك : إن لم يعرف بشر فلا بأس أن يشفع له ما لم يبلغ الامام وأما من عرف بشر وفساد فلا أحب أن يشفع له أحد ولكن يترك حتى يقام الحد عليه واجمعوا على أنه إذا بلغ الامام لم تجز الشفاعة فيه لأن ذلك إسقاط حق وجب لله تعالى وقد غضب النبي صلى الله عليه و سلم حين شفع أسامة في المخزومية التي سرقت وقال : [ أتشفع في حد من حدود الله ؟ ] وقال ابن عمر : من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في حكمه (10/288)
مسألة : حكم ما لو اشترك جماعة بسرقة قيمتها ثلاثة دراهم
مسألة : قال : وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا
وبهذا قال مالك و أبو ثور وقال الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق : لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا لأن كل واحد لم يسرق نصابا فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد بدون النصاب وهذا القول أحب إلي لأن القطع ههنا لا نص فيه ولا هو في معنى المنصوص والمجمع عليه فلا يجب والاحتياط باسقاطه أولى من الاحتياط بايجابه لأنه مما يدرأ بالشبهات
واحتج أصحابنا بأن النصاب أحد شرطي القطع فإذا اشترك الجماعة فيه كانوا كالواحد قياسا على هتك الحرز ولأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص ولم يفرق أصحابنا بين كون المسروق ثقيلا يشترك الجماعة في حمله وبين أن يخرج كل واحد منه جزءا ونص أحمد على هذا وقال مالك : إن انفرد كل واحد بجزء منه لم يقطع واحد منهم كما لو انفرد كل واحد من قاطعي اليد بقطع جزء منها لم يجب القصاص
ولنا أنهم اشتركوا في هتك الحرز و إخراج النصاب فلزمهم القطع كما لو كان ثقيلا فحملوه وفارق القصاص فإنه تعتمد المماثلة ولا توجد المماثلة إلا أن توجد أفعالهم في جميع أجزاء اليد وفي مسألتنا القصد الزجر من غير اعتبار مماثلة والحاجة إلى الزجر عن إخراج المال وسواء دخلا الحرز معا أو دخل أحدهما فأخرج بعض النصاب ثم دخل الآخر فأخرج باقيه لأنهما اشتركا في عتك الحرز وإخراج النصاب فلزمهما القطع كما لو حملاه معا (10/289)
فصل : حكم ما لو كان أحد الشريكين لا قطع عليه
فصل : فان كان احد الشريكين ممن لا قطع عليه كأبي المسروق منه قطع شريكه في أحد الوجهين كما لو شاركه في قطع يد ابنه والثاني لا يقطع وهو أصح لأن سرقتهما جميعا صارت علة لقطعهما وسرقة الأب لا تصلح موجبة للقطع لأنه أخذ ما له أخذه بخلاف قطع يد ابنه فإن الفعل تمحض عدوانا وإنما سقط القصاص لفضيلة الأب لا لمعنى في فعله وههنا فعله قد تمكنت الشبهة منه فوجب أن لا يجب القطع به كاشتراك العامد والخاطىء وإن أخرج كل واحد منهما نصابا وجب القطع على شريك الأب لأنه انفرد بما يوجب القطع وإن أخرج الأب نصابا وشريكه دون النصاب ففيه الوجهان وإن اعترف اثنان بسرقة نصاب ثم رجع احدهما فالقطع على الآخر لأنه اختص بالاسقاط فيختص بالسقوط ويحتمل أن يسقط عن شريكهـ لأن السبب السرقة منهما وقد اختل أحد جزءأيها وكذلك لو أقر بمشاركة آخر في سرقة نصاب ولم يقر الآخر ففي القطع وجهان (10/290)
فصل : حكم ما لو دخل اثنان دارا أحدهما في سفلها الخ
فصل : قال أحمد في رجلين دخلا دارا أحدهما في سفلها جمع المتاع وشده بحبل والآخر في علوها مد الحبل فرمى به وراء الدار : فالقطع عليهما لأنهما اشتركا في إخراجه وإن دخلا جميعا فأخرج أحدهما المتاع وحده فقال أصحابنا : القطع عليهما وبه قال أبو حنيفة وصاحباه إذا أخرج نصابين وقال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : القطع على المخرج وحده لأنه هو السارق وإن أخرج أحدهما دون النصاب والآخر أكثر من نصاب فتما نصابين فعند أصحابنا و أبي حنيفة وصاحبيه يجب القطع عليهما وعند الشافعي وموافقيه لا قطع على من لم يخرج نصابا فإن أخرج أحدهما نصابا والآخر دون النصاب فعند أصحابنا عليهم القطع وعند الشافعي القطع على مخرج النصاب وحده وعند أبي حنيفة لا قطع على واحد منهما لأن المخرج لم يبلغ نصبا بعدد السارقين وقد ذكرنا وجه ما قلنا فيما تقدم وإن نقبا حرزا ودخل أحدهما فقرب المتاع من النقب وأدخل الخارج يده فأخرجه فقال أصحابنا : قياس قول أحمد أن القطع عليهما وقال الشافعي : القطع على الخارج لأنه مخرج المتاع وقال أبو حنيفة : لا قطع على واحد منهما
ولنا أنهما اشتركان في هتك الحرز وإخراج المتاع فلزمهما القطع كما لو حملاه معا فأخرجاه وإن وضعه في النقب فمد الآخر يده فأخذه فالقطع عليهما ونقل عن الشافعي في هذه المسألة قولان كالمذهبين في الصورة التي قبلها (10/291)
فصل : حكم ما لو نقب أحدهما وأخرج الآخر المتاع
فصل : وإن نقب أحدهما وحده ودخل الآخر وحده فأخرج المتاع فلا قطع على واحد منهما لأن الأول لم يسرق والثاني لم يهتك الحرز وإنما سرق من حرز هتكه غيره فأشبه ما لو نقب رجل وانصرف وجاء آخر فصادف الحرز مهتوكا فسرق منه وإن نقب رجل وأمر غيره فأخرج المتاع فلا قطع أيضا على واحد منهما وإن كان المأمور صبيا مميزا لأن المميز له اختيار فلا يكون آلة للآمر كما لو أمره بقتل إنسان فقتله وإن كان غير مميز وجب القطع على الآمر لأنه آلته وإن اشترك رجلان في النقب ودخل أحدهما فأخرج المتاع وحده أو أخذه وناوله للآخر خارجا من الحرز أو رمى به إلى خارج الحرز فأخذه الآخر فالقطع على الداخل وحده لأنه مخرج المتاع وحده مع المشاركة في النقب وبهذا قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو حنيفة لا قطع عليهما لأن الداخل لم ينفصل عن الحرز ويده على السرقة فلم يلزمه القطع كما لو أتلفه داخل الحرز
ولنا أن المسروق خرج من الحرز ويده عليه فوجب عليه القطع كما لو خرج به ويخالف إذا أتلفه فإنه لم يخرجه من الحرز (10/293)
مسألة : لا يقطع السارق حتى يأتي مالك المسروق يدعيه
مسألة : قال : ولا يقطع وإن اعترف أو قامت بينة حتى يأتي مالك المسروق يدعيه
وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال أبو بكر : يقطع ولا يفتقر الى دعوى ولا مطالبة وهذا قول مالك و أبي ثور و ابن المنذر لعموم الآية لأن موجب القطع ثبت فوجب من غير مطالبة كحد الزنا
ولنا أن المال يباح بالبذل والاباحة فيحتمل أن مالكه أباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على طائفة السارق منهم أو أذن له في دخول حرزه فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة وعلى هذا يخرج الزنا فانه لا يباح بالإباحة ولأن القطع أوسع في الإسقاط ألا ترى أنه إذا سرق مال ابنه لم يقطع ؟ ولو زنى بجاريته حد ولأن القطع شرع لصيانة مال ادمي فله به تعلق فلم يستوف من غير حضور مطالب به والزنا حق لله تعالى محض فلم يفتقر إلى طلب به إذا ثبت هذا فان وكيل المالك يقوم مقامه في الطلب وقال القاضي : إذا أقر بسرقة مال غائب حبس حتى يحضر الغائب لأنه يحتمل أن يكون قد أباحه ولو أقر بحق مطلق لغائب لم يحبس لأنه لا حق عليه لغير الغائب ولم يأمر بحبسه فلم يحبس وفي مسألتنا تعلق به حق الله تعالى وحق الآدمي فحبس لما عليه من حق الله تعالى فإن كانت العين في يده أخذها الحاكم وحفظها للغائب وإن لم يكن في يده شيء فإذا جاء الغائب كان الخصم فيها (10/294)
فصل : حكم ما لو أقر السارق فقال المالك : لم تسرق مني ولكن غصبتني
فصل : ولو أقر بسرقة من رجل فقال المالك : لم تسرق مني ولكن غصبتني أو كان لي قبلك وديعة فجحدتني لم يقطع لأن إقراره لم يوافق دعوى المدعي وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي وإن أقر أنه سرق نصابا من رجلين فصدقه أحدهما دون الآخر أو قال الآخر : بل غصبتنيه أو جحدتنيه لم يقطع وبه قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور : إذا قال الآخر : غصبتنيه أو جحدتنيه قطع
ولنا أنه لم يوافق على سرقة نصاب فلم يقطع كالتي قبلها وإن وافقاه جميعا قطع وإن حضر أحدهما فطالب ولم يحضر الآخر لم يقطع لأن ما حصلت المطالبة به لا يوجب القطع بمفرده وإن أقر أنه سرق من رجل شيئا فقال الرجل : قد فقدته من مالي فينبغي أن يقطع لما روي عن عبد الرحمن بن ثعلبة الانصاري عن أبيه [ أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني فأرسل النبي صلى الله عليه و سلم إليهم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا فأمر به النبي صلى الله عليه وسل فقطعت يده قال ثعلبة : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك أردت أن تدخلي جسدي النار ] أخرجه ابن ماجة (10/294)
فصل : حكم ما لو ثبتت سرقته ببينة عادلة فأنكر
فصل : ومن ثبتت سرقته ببينة عادلة فأنكر لم يلتفت إلى إنكاره وإن قال : أحلفوه لي أني سرقت منه لم يحلف لأن السرقة قد ثبتت بالبينة وفي إحلافه عليها قدح في الشهادة وإن قال : الذي أخذته ملك لي كان لي عنده وديعة أو رهنا أو ابتعته منه أو وهبه لي أو أذن لي في أخذه أو غصبه مني أو من أبي أو بعضه لي فالقول قول المسروق منه مع يمينه لأن اليد ثبتت له فان حلف سقطت دعوى السارق ولا قطع عليه لأنه يحتمل ما قال ولهذا أحلفنا المسروق منه وإن نكل قضينا عليه بنكوله وهذه إحدى الروايتين وهو منصوص الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه يقطع لأن سقوط القطع بدعواه يؤدي الى أن لا يجب قطع سارق فتفوت مصلحة الزجر وعنه رواية ثالثة أنه إن كان معروفا بالسرقة قطع لأنه يعلم كذبه وإلا سقط عنه القطع والأول أولى لأن الحدود تدرأ بالشبهات وإفضاؤه إلى سقوط القطع لا يمتنع اعتباره كما أن الشرع اعتبر في شهادة الزنا شروطا لا يقع معها إقامة حد ببينة أبدا على أنه لا يفضي اليه لازما فإن الغالب من السراق أنهم لا يعلمون هذا ولا يهتدون إليه وإنما يختص بعلم هذا الفقهاء الذين لا يسرقون غالبا وإن لم يحلف المسروق منه قضي عليه وسقط الحد وجها واحدا (10/295)
باب قطاع الطرق
الأصل في حكمهم قول الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } وهذه الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين وبه يقول مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن ابن عمر أنه قال : نزلت هذه الآية في المرتدين وحكي ذلك عن الحسن و عطاء و عبد الكريم لأن سبب نزولها قصة العرنيين وكانوا ارتدوا عن الاسلام وقتلوا الرعاة فاستاقوا ابل الصدقة فبعث النبي صلى الله عليه و سلم من جاء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الحرة حتى ماتوا قال أنس : فأنزل الله تعالى في ذلك : { إنما جزاء الذين يحاربون الله } الآية أخرجه أبو داود و النسائي ولأن محاربة الله ورسوله إنما تكون من الكفار لا من المسلمين
ولنا قول الله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها ويسقط عنهم القتل والقطع في كل حال والمحاربة قد تكون من المسلمين بدليل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } (10/297)
مسألة : المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة
مسألة : قال : المحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغصبونهم المال مجاهرة
وجملته أن المحاربين الذي تثبت لهم أحكام المحاربة التي نذكرها بعد تعتبر لهم شروط ثلاثة :
أحدها : أن يكون ذلك في الصحراء فإن كان ذلك منهم في القرى والامصار فقد توقف أحمد رحمه الله فيهم وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال ابو حنيفة و الثوري و إسحاق لأن الواجب يسمى حد قطاع الطريق وقطع الطريق إنما هو في الصحراء ولأن من في المصر يلحق به الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين ويكونون مختلسين والمختلس ليس بقاطع ولا حد عليه وقال كثير من أصحابنا : هو قاطع حيث كان وبه قال الأوزاعي و الليث و الشافعي و أبو يوسف و أبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب ولأن ذلك إذا وجد في المصر كان أعظم خوفا وأكثر ضررا فكان بذلك أولى
وذكر القاضي أن هذا إن كان في المصر مثل أن كبسوا دارا فكان أهل الدار بحيث لو صاحوا أدركهم الغوث فليس هؤلاء بقطاع طريق لانهم في موضع يلحقهم الغوث عادة وإن حصروا قرية أو بلدا ففتحوه وغلبوا على أهله أو محلة منفردة بحيث لا يدركهم الغوث عادة فهم محاربون لأنهم لا يلحقهم الغوث فأشبه قطاع الطريق في الصحراء
الشرط الثاني : أن يكون معهم سلاح فإن لم يكن معهم سلاح فهم غير محاربين لانهم لا يمنعون من يقصدهم ولا نعلم في هذا خلافا فان عرضوا بالعصي والحجارة فهم محاربون وبه قال الشافعي و أبو ثور وقال ابو حنيفة : ليسوا محاربين لأنه لا سلاح معهم
ولنا أن ذلك من جملة السلاح الذي يأتي على النفس والطرف فأشبه الحديد
الشرط الثالث : أن يأتوا مجاهرة ويأخذوا المال قهرا فأما إن أخذوه مختفين فهم سراق وان اختطفوه وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم وكذلك ان خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة فاستلبوا منها شيئا فليسوا بمحاربين لأنهم لا يرجعون إلى منعة وقوة وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم قطاع طريق (10/298)
مسألة : حكم من قتل من المحاربين
مسألة : قال : فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وان عفا صاحب المال وصلب حتى يشتهر ودفع الى أهله ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد ثم حسمتا وخلي
روينا نحو هذا عن ابن عباس وبه قال قتادة و مجلز و حماد و الليث و الشافعي و إسحاق وعن أحمد أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع لأن كل واحد من الجنايتين توجب حدا منفردا فاذا اجتمعا وجب حدهما معا كما لو زنى وسرق وذهبت طائفة إلى أن الامام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي لأن أو تقتضي التخيير كقوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة } وهذا قول سعيد بن المسيب و عطاء و مجاهد و الحسن و الضحاك و النخعي و ابي الزناد و أبي ثور و داود وروي عن ابن عباس ما كان في القرآن ( أو ) فصاحبه بالخيار وقال اصحاب الرأي : إن قتل قتل وإن أخذ المال قطع وان قتل وأخذ المال فالامام مخير بين قتله وصلبه وبين قتله وقطعه وبين أن يجمع له ذلك كله لأنه قد وجد منه ما يوجب القتل والقطع فكان للامام فعلهما كما لو قتل وقطع في غير قطع طريق وقال مالك : إذا قطع الطريق فرآه الامام جلدا ذا رأي قتله وان كان جلدا لا رأي له قطعه ولم يعتبر فعله ولنا على أنه لا يقتل إذا لم يقتل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم إلا باحدى ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق ] فأما ( أو ) فقد قال ابن عباس مثل قولنا فأما أن يكون توقيفا أو لغة وأيهما كان فهو حجة يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ وعرف القرآن فيما أريد به التخيير البداءة بالأخف ككفارة اليمين وما أريد به الترتيب بدىء فيه بالأغلظ فالأغلظ ككفارة الظهار والقتل ويدل عليه أيضا أن العقوبات تختلف باختلاف الاجرام ولذلك اختلف حكم الزاني والقاذف والسارق وقد سووا بينهم مع اختلاف جناياتهم وهذا يرد على مالك فانه إنما اعتبر الجلد والرأي دون الجنايات وهو مخالف للأصول التي ذكرناها
وأما قول أبي حنيفة فلا يصح لأن القتل لو وجب لحق الله تعالى لن يخير الامام فيه كقطع السارق وكما لو انفرد بأخذ المال ولأن الحدود لله تعالى إذا كان فيها قتل سقط ما دونه كما لو سرق وزنى وهو محصن
وقد روي عن ابن عباس قال : [ وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بردة الاسلمي فجاء ناس يريدون الاسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من قتل وأخذ المال قتل وصلب ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ] وقيل أنه رواه أبو داود وهذا كالمسند وهو نص فإذا ثبت هذا فان قاطع الطريق لا يخلو من أحوال خمس :
الاولى : إذا قتل وأخذ المال فانه يقتل ويصلب في ظاهر المذهب وقتله متحتم لا يدخله عفو أجمع على هذا كل أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم روي عن عمر وبه قال سليمان ابن موسى و الزهري و مالك و الشافعي و أصحاب الرأي ولأنه حد من حدود الله تعالى فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود وهل يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول ؟ فيه روايتان : إحداهما : لا يعتبر بل يؤخذ الحر بالعبد والمسلم بالذمي والأب بالابن لأن هذا القتل حد لله تعالى فلا تعتبر فيه المكافأة كالزنا والسرقة
والثانية : تعتبر المكافأة لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقتل مسلم بكافر ] والحد فيه انحتامه بدليل أنه لو تاب قبل القدرة عليه سقط الانحتام ولم يسقط القصاص فعلى هذه الرواية إذا قتل مسلم ذميا أو الحر عبدا أو أخذ ماله قطعت يده ورجله من خلاف لأخذه المال وغرم دية الذمي وقيمة العبد وإن قتله ولم يأخذ مالا غرم ديته ونفي وذكر القاضي أنه إنما يتحتم قتله إذا قتله ليأخذ المال وإن قتله لغير ذلك مثل أن يقصد قتله لعداوة بينهما فالواجب قصاص غير متحتم وإذا قتل صلب لقول الله تعالى : { أو يصلبوا } والكلام فيه في ثلاثة أمور :
أحدها : في وقته ووقته بعد القتل وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي و مالك و الليث و أبو حنيفة و أبو يوسف : يصلب حيا ثم يقتل مصلوبا يطعن بالحربة لأن الصلب عقوبة وإنما يعاقب الحي لا الميت ولأنه جزاء على المحاربة فيشرع في الحياة كسائر الأجزية ولأن الصلب بعد قتله يمنع تكفينه ودفنه فلا يجوز
ولنا أن الله تعالى قدم القتل على الصلب لفظا والترتيب بينهما ثابت بغير خلاف فيجب تقديم الأول في اللفظ كقوله تعالى : { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ولأن القتل إذا أطلق في لسان الشرع كان قتلا بالسيف ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله كتب الاحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتل ] وأحسن القتل هو القتل بالسيف وفي صلبه حيا تعذيب له وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تعذيب الحيوان وقولهم انه جزاء على المحاربة قلنا : لو شرع لردعه لسقط بقتله كما يسقط سائر الحدود مع القتل وإنما شرع الصلب ردعا لغيره ليشتهر أمره وهذا يحصل بصلبه بعد قتله وقولهم : يمنع تكفينه ودفنه قلنا : هذا لا زم لهم لأنهم يتركونه بعد قتله مصلوبا
الثاني : في قدره ولا توقيت فيه إلا قدر ما يشتهر أمره قال أبو بكر : لم يوقت أحمد في الصلب فأقول : يصلب قدر ما يقع عليه الاسم والصحيح توقيته بما ذكر الخرقي من الشهرة لأن المقصود يحصل به وقال الشافعي : يصلب ثلاثا وهو مذهب أبي حنيفة وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز مع أنه في الظاهر يفضي إلى تغيره ونتنه وأذى المسلمين برائحته ونظره ويمنع تغسيله وتكفينه ودفنه فلا يجوز بغير دليل
الثالث : في وجوبه وهذا واجب حتم في حق من قتل وأخذ المال لا يسقط بعفو ولا غيره وقال أصحاب الرأي : إن شاء الامام صلب وإن شاء لم يصلب
ولنا حديث ابن عباس أن جبريل نزل بأن من قتل وأخذ المال صلب ولأنه شرع حدا فلم يتخير بين فعله وتركه كالقتل وسائر الحدود إذا ثبت هذا فانه اشتهر أنزل ودفع إلى أهله فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن (10/299)
فصل : إن مات قبل قتله لم يصلب
فصل : وإن مات قبل قتله لم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد فات الحد بموته فيسقط ما هو من تتمته وإن قتل في المحاربة بمثقل قتل كما لو قتل بمحدد لأنهما سواء في وجوب القصاص بهما وان قتل بآلة لا يجب القصاص بالقتل بها كالسوط والعصا والحجر الصغير فظاهر كلام الخرقي أنهم يقتلون أيضا لأنهم دخلوا في العموم
الحال الثاني : قتلوا ولم يأخذوا المال فانهم يقتلون ولا يصلبون وعن أحمد رواية أخرى أنهم يصلبون لأنهم محاربون يجب قتلهم فيصلبون كالذين أخذوا المال والأولى أصح لأن الخبر المروي فيهم قال فيه : [ ومن قتل ولم يأخذ المال قتل ] ولم يذكر صلبا ولأن جنايتهم بأخذ المال مع القتل تزيد على الجناية بالقتل وحده فيجب أن تكون عقوبتهم أغلظ ولو شرع الصلب ههنا لاستويا والحكم في تحتم القتل وكونه حدا ههنا كالحكم فيه إذا قتل وأخذ المال (10/304)
فصل : حكم ما لو جرح المحارب جرحا في مثله قصاص
فصل : وإذا جرح المحارب جرحا في مثله قصاص فهل يتحتم فيه القصاص ؟ على روايتين :
إحداهما : لا يتحتم لأن الشرع لم يرد بشرع الحد في حقه بالجراح فان الله تعالى ذكر في حدود المحاربين القتل والصلب والقطع والنفي فلم يتعلق بالمحاربة غيرها فلا يتحتم بخلاف القتل فانه حد فتحتم كسائر الحدود فحينئذ لا يجب فيه أكثر من القصاص
والثانية : يتحتم لأن الجراح تابعة للقتل فيثبت فيها مثل حكمه ولأنه نوع قود أشبه القود في النفس والأولى أولى وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كالجائفة فليس فيه إلا الدية وإن جرح إنسانا وقتل آخر اقتص منه للجراح وقتل للمحاربة وقال أبو حنيفة : تسقط الجراح لأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سوى القتل
ولنا أنها جناية يجب بها القصاص في غير المحاربة فيجب بها في المحاربة كالقتل ولا نسلم أن القصاص في الجراح حد وإنما هو قصاص متمحض فأشبه ما لو كان الجرح في غير المحاربة وإن سلمنا أنه حد فإنه مشروع مع القتل فلم يسقط به كالصلب وكقطع اليد والرجل
الحال الثالث : أخذ المال ولم يقتل فإنه تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى وهذا معنى قوله سبحانه : { من خلاف } وإنما قطعنا يده اليمنى للمعنى الذي قطعنا به يمنى السارق ثم قطعنا رجله اليسرى لتتحقق المخالفة وليكون أرفق به في إمكان مشيه ولا ينتظر اندمال اليد في قطع الرجل بل يقطعان معا يبدأ بيمينه فتقطع وتحسم ثم برجله لأن الله تعالى بدأ بذكر الأيدي ولا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقطع منه غير يد ورجل إذا كانت يداه ورجلاه صحيحتين فأما إن كان معدوم اليد والرجل إما لكونه قد قطع في قطع طريق أو سرقه أو قصاص أو لمرض فمقتضى كلام الخرقي سقوط القطع عنه سواء كانت اليد اليمنى والرجل اليسرى أو بالعكس لأن قطع زيادة على ذلك يذهب بمنفعة الجنس إما منفعة البطش أو المشي أو كليهما وهذا مذهب أبي حنيفة وعلى الرواية التي تستوفي أعضاء السارق الأربعة يقطع ما بقي من أعضائه فإن كانت يده اليمنى مقطوعة قطعت رجله اليسرى وحدها ولو كانت يداه صحيحتين ورجله اليسرى مقطوعة قطعت يمنى يديه ولم يقطع غير ذلك وجها واحدا وهو مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأنه وجد في محل الحد ما يستوفى فاكتفي باستيفائه كما لو كانت اليد ناقصة بخلاف التي قبلها وإن كان ما وجب قطعه أشل فذكر أهل الطب أن قطعه يفضي إلى تلفه لم يقطع وكان حكمه حكم المعدوم وإن قالوا : لا يفضي إلى تلفه ففي قطعه روايتان ذكرناهما في قطع السارق
الحال الرابع : إذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا
الحال الخامس : إذا تابوا قبل القدرة عليهم ويأتي ذكر حكمهما إن شاء الله تعالى (10/305)
مسألة : لا يقطع من المحاربين إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله
مسألة : ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله
وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال مالك و أبو ثور : للامام أن يحكم عليه حكم المحارب لأنه محارب لله ولرسوله ساع في الارض بالفساد فيدخل في عموم الآية ولأنه لا يعتبر الحرز فكذلك النصاب
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا قطع إلا في ربع دينار ] ولم يفصل ولأن هذه جناية تعلقت بها عقوبة في حق غير المحارب فلا تتغلظ في المحارب بأكثر من وجه واحد كالقتل يغلظ بالانحتام كذلك ههنا تتغلظ بقطع الرجل معها ولا تتغلظ بما دون النصاب وأما الحرز فهو معتبر فانهم لو أخذوا مالا مضيعا لا حافظ له لم يجب القطع وان أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا على قياس قولنا في السرقة وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا ويشترط أيضا أن لا تكون لهم شبهة فيما يأخذونه من المال على ما ذكرنا في المسروق (10/306)
مسألة : نفي المحاربين تشريدهم وعدم تركهم يأوون في بلد
مسألة : قال : ونفيهم أن يشردوا فلا يتركوا يأوون في بلد
وجملته أن المحاربين اذا أخافوا السبيل ولم يقتلوا ولم يأخذوا مالا فإنهم ينفون من الأرض لقول الله تعالى : { أو ينفوا من الأرض } ويروى عن ابن عباس ان النفي يكون في هذه الحالة وهو قول النخعي و قتادة و عطاء الخراساني والنفي هو تشريدهم عن الامصار والبلدان فلا يتركون يأوون بلدا ويروى نحو هذا عن الحسن و الزهري وعن ابن عباس أنه ينفى من بلده الى بلد غيره كنفي الزاني وبه قال طائفة من أهل العلم قال أبو الزناد : كان منفى الناس الى باضع من أرض الحبشة وذلك أقصى تهامة اليمن وقال مالك : يحبس في البلد الذي ينفى إليه كقوله في الزاني وقال أبو حنيفة : نفيه حبسه حتى يحدث توبة ونحو هذا قال الشافعي فإنه قال : في هذه الحال يعزرهم الامام وأن رأى أن يحبسهم حبسهم وقيل عنه : النفي طلب الامام لهم ليقيم فيهم حدود الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس وقال ابن شريح : يحبسهم في غير بلدهم وهذا مثل قول مالك وهذا أولى لأن تشريدهم إخراج لهم إلى مكان يقطعون فيه الطريق ويؤذون به الناس فكان حبسهم أولى وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى معناها أن نفيهم طلب الامام لهم فاذا ظفر بهم عزرهم بما يردعهم
ولنا ظاهر الآية فان النفي الطرد والابعاد والحبس امساك وهما يتنافيان فأما نفيهم إلى غير مكان معين فلقوله سبحانه : { أو ينفوا من الأرض } وهذا يتناول نفيه من جميعها وما ذكروه يبطل بنفي الزاني فإنه ينفى الى مكان يحتمل أن يوجد منه الزنا فيه ولم يذكر أصحابنا قدر مدة نفيهم فيحتمل أن تتقدر مدته بما تظهر فيه توبتهم وتحسن سيرتهم ويحتمل أن ينفوا عاما كنفي الزاني (10/307)
مسألة : حكم ما أن تابوا قبل أن يقدر عليهم
مسألة : قال : فان تابوا من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال إلا أن يعفى لهم عنها
لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم وبه قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي و أبو ثور والاصل في هذا قول الله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه فأما إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ من الحدود لقول الله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } فأوجب عليهم الحد ثم استثنى التائبين قبل القدرة فمن عداهم يبقى على قضية العموم ولأنه إذا تاب قبل القدرة فالظاهر أنها توبة إخلاص وبعدها الظاهر أنها تقية من إقامة الحد عليه ولأن في قبول توبته وإسقاط الحد عنه قبل القدرة ترغيبا في توبته والرجوع عن محاربته وإفساده فناسب ذلك الإسقاط عنه وأما بعدها فلا حاجة إلى ترغيبه لأنه قد عجز عن الفساد والمحاربة (10/308)
فصل : حكم ما لو فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص بالمحاربة
فصل : وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة كالزنا والقذف وشرب الخمر والسرقة فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة لأنها حدود الله تعالى فتسقط بالتوبة كحد المحاربة الا حد القذف فإنه لا يسقط لأنه حق آدمي ولأن في إسقاطها ترغيبا في التوبة ويحتمل أن لا تسقط لأنها لا تختص المحاربة فكانت في حقه كهي في حق غيره وإن أتى حدا قبل المحاربة ثم حارب وتاب قبل القدرة عليه لم يسقط الحد الأول لأن التوبة إنما يسقط بها الذنب الذي تاب منه دون غيره (10/310)
فصل : حكم من تاب من عليه حد من غير المحاربين
فصل : وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح ففيه روايتان :
إحداهما : يسقط عنه لقول الله تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } وذكر حد السارق ثم قال : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ] ومن لا ذنب له لا حد عليه وقال في ماعز لما أخبر بهربه : [ هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه ] ولأنه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب
والرواية الثانية : لا يسقط وهو قول مالك و أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقول الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا عام في التائبين وغيرهم وقال تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ولأن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير باقامة الحد وقدسمى رسول الله صلى الله عليه و سلم فعلهم توبة فقال في حق المرأة : [ لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ] وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني وقد أقام رسول الله صلى الله عليه سلم الحد عليهم ولأن الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل ولأنه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لأنها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه
والثاني : يعتبر اصلاح العمل لقول الله تعالى : { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } وقال : { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه } فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته وليست مقدرة بمدة معلومة وقال بعض أصحاب الشافعي : مدة ذلك سنة وهذا توقيت بغير توقيف فلا يجوز (10/311)
فصل : حكم الردء من القطاع حكم المباشر
فصل : وحكم الردء من القطاع حكم المباشر وبهذا قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي : ليس على الردء إلا التعزير لأن الحد يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلق بالمعين كسائر الحدود
ولنا أنه حكم يتعلق بالمحاربة فاستوى فيه الردء والمباشر كاستحقاق الغنيمة وذلك لأن المحاربة مبنية على حصول المنعة والمعاضدة والمناصرة فلا يتمكن المباشر من فعله إلا بقوة الردء بخلاف سائر الحدود فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حق جميعهم فيجب قتل جميعهم وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الأمرين كل واحد منهم (10/313)
فصل : حكم ما إذا وجد فيهم صبي أو مجنون الخ
فصل : وإن كان فيهم صبي أو مجنون أو ذو رحم من المقطوع عليه لم يسقط الحد عن غيره في قول أكثر أهل العلم وقال أبو حنيفة : يسقط الحد عن جميعهم ويصير القتل للاولياء إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا لأن حكم الجميع واحد فالشبهة في فعل واحد شبهة في حق الجميع
ولنا أنها شبهة اختص بها واحد فلم يسقط الحد عن الباقين كما لو اشتركوا في وطء امرأة وما ذكروه لا أصل له فعلى هذا لا حد على الصبي والمجنون وان باشرا القتل وأخذا المال لأنهما ليسا من أهل الحدود وعليهما ضمان ما أخذا من المال في أموالهما ودية قتيلهما على عاقلتهما ولا شيء على الردء لهما لأنه إذا لم يثبت ذلك للمباشر لم يثبت لمن هو تبع له بطريق الأولى وإن كان المباشر غيرهما لم يلزمهما شيء لأنهما لم يثبت في حقهما حكم المحاربة وثبوت الحكم في حق الردء ثبت بالمحاربة (10/314)
فصل : حكم وجود المرأة في المحاربين
فصل : وإن كان فيهم امرأة ثبت في حقها حكم المحاربة فمتى قتلت وأخذت المال فحدها حد قطاع الطريق وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجب عليها الحد ولا على من معها لأنها ليست من أهل المحاربة كالرجل فأشبهت الصبي والمجنون ولنا أنها تحد في السرقة فيلزمها حكم المحاربة كالرجل وتخالف الصبي والمجنون ولأنها مكلفة يلزمها القصاص وسائر الحدود فلزمها هذا الحد كالرجل إذا ثبت هذا فإنها ان باشرت القتل أو أخذ المال ثبت حكم المحاربة في حق من معها لأنهم ردء لها وان فعل ذلك غيرها ثبت حكمه في حقها لأنها ردء له كالرجل سواء وإن قطع أهل الذمة الطريق أو كان مع المحاربين المسلمين ذمي فهل ينتقض عهدهم بذلك ؟ فيه روايتان فان قلنا ينتقض عهدهم حلت دماؤهم وأموالهم بكل حال وإن قلنا لا ينتقض عهدهم حكمنا عليهم بما نحكم على المسلمين (10/315)
فصل : حكم ما لو أخذ المحاربون المال
فصل : وإذا أخذ المحاربون المال وأقيمت فيهم حدود الله تعالى فإن كانت الأموال موجودة ردت الى مالكها وإن كانت تالفة أو معدومة وجب ضمانها على آخذها وهذا مذهب الشافعي ومقتضى قول أصحاب الرأي : انها ان كانت تالفة لم يلزمها غرامتها كقولهم في المسروق إذا قطع السارق ووجه المذهبين ما تقدم في السرقة ويجب الضمان على الآخذ دون الردء لأن وجود الضمان ليس بحد فلا يتعلق بغير المباشر له كالغصب والنهب ولو تاب المحاربون قبل القدرة عليهم وتعلقت بهم حقوق الآدميين من القصاص والضمان لاختص بذلك بالمباشر دون الردء لذلك ولو وجب الضمان في السرقة لتعلق بالمباشر دون الردء لما ذكرنا والله أعلم (10/315)
فصل : حكم ما إذا اجتمعت الحدود
فصل : إذا اجتمعت الحدود لم تخل من ثلاثة أقسام : اقسام الأول : أن تكون خالصة لله تعالى فهي نوعان :
أحدهما : أن يكون فيها قتل مثل أن يسرق ويزني وهو محصن ويشرب الخمر ويقتل في المحاربة فهذا يقتل ويسقط سائرها وهذا قول ابن مسعود و عطاء و الشعبي و النخعي و الأوزاعي و حماد و مالك و أبي حنيفة وقال الشافعي : يستوفى جميعها لأن ما وجب مع غير القتل وجب مع القتل كقطع اليد قصاصا
ولنا قول ابن مسعود قال سعيد : حدثنا حسان بن علي حدثنا مجالد عن عامر عن مسروق عن عبد الله قال : إذا اجتمع حدان أحدهما القتل أحاط القتل بذلك وقال ابراهيم : يكفيه القتل
وقال : حدثنا هشيم أخبرنا حجاج عن ابراهيم و الشعبي و عطاء أنهم قالوا مثل ذلك وهذه أقوال انتشرت في عصر الصحابة والتابعين ولم يظهر لها مخالف فكانت إجماعا ولأنها حدود لله تعالى فيها قتل فسقط ما دونه كالمحارب إذا قتل وأخذ المال فانه يكتفى بقتله ولا يقطع ولأن هذه الحدود تراد لمجرد الزجر ومع القتل لا حاجة إلى زجره ولا فائدة فيه فلا يشرع ويفارق القصاص فان فيه غرض التشفي والانتقام ولا يقصد منه مجرد الزجر إذا ثبت هذا فإنه إذا وجد ما يوجب الرجم والقتل للمحاربة أو القتل للردة أو لترك الصلاة فينبغي أن يقتل للمحاربة ويسقط الرجم لأن في القتل للمحاربة حق آدمي في القصاص وإنما أثرت المحاربة في تحريمه وحق الآدمي يجب تقديمه
النوع الثاني : أن لا يكون فيها قتل فإن جميعها يستوفى من غير خلاف نعلمه ويبدأ بالأخف فالأخف فإذا شرب وزنى وسرق حد للشرب أولا ثم حد للزنا ثم قطع للسرقة وإن أخذ المال في المحاربة قطع لذلك ويدخل في القطع للسرقة ولأن محل القطعين واحد فتداخلا كالقتلين وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يتخير بين البداءة بحد الزنا وقطع السرقة لأن كل واحد منهما ثبت بنص القرآن ثم يحد للشرب
ولنا أن حد الشرب أخف فيقدم كحد القذف ولا نسلم أن حد الشرب غير منصوص عليه في السنة ومجمع على وجوبه وهذا التقديم على سبيل الاستحباب ولو بدأ بغيره جاز ووقع الموقع ولا يوالى بين هذه الحدود لأنه ربما أفضى إلى تلفه بل متى برأ من حد أقيم الذي يليه
القسم الثاني : الحدود الخالصة للآدمي وهو القصاص وحد القذف فهذه تستوفى كلها ويبدأ بأخفها فيحد للقذف ثم يقطع ثم يقتل لأنها حقوق للآدميين أمكن استيفاؤها فوجب كسائر حقوقهم وهذا قول الأوزاعي و الشافعي وقال أبو حنيفة : يدخل ما دون القتل فيه احتجاجا بقول ابن مسعود وقياسا على الحدود الخالصة لله تعالى
ولنا أن ما دون القتل حق لآدمي فلم يسقط به كذنوبهم وفارق حق الله تعالى فانه مبني على المسامحة
القسم الثالث : أن تجتمع حدود الله وحدود الآدميين وهذه ثلاثة أنواع : أحدهما : أن لا يكون فيها قتل فهذه تستوفى كلها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وعن مالك أن حدي الشرب والقذف يتداخلان لاستوائهما فهما كالقتلين والقطعين
ولنا أنهما حدان من جنسين لا يفوت بهما المحل فلم يتداخلا كحد الزنا والشرب ولا نسلم استواءهما فان حد الشرب أربعون وحد القذف ثمانون وإن سلم استواؤهما لم يلزم تداخلهما لأن ذلك لو اقتضى تداخلهما لوجب دخولهما في حد الزنا لأن الأقل مما يتداخل يدخل في الاكثر وفارق القتلين والقطعين لأن المحل يفوت بالأول فيتعذر استيفاء الثاني وهذا بخلافه فعلى هذا يبدأ بحد القذف لأنه اجتمع فيه معنيان : خفته وكونه حقا لآدمي شحيح إلا إذا قلنا حد الشرب أربعون فإنه يبدأ به لخفته ثم بحد القذف وأيهما قدم فالآخر يليه ثم بحد الزنا فإنه لا اتلاف فيه ثم بالقطع هكذا ذكره القاضي وقال أبو الخطاب : يبدأ بالقطع قصاصا لأنه حق آدمي متمحض فإذا برأ حد للقذف إذا قلنا هو حق آدمي ثم بحد الشرب فإذا برأ حد للزنا لأن حق الآدمي يجب تقديمه لتأكده
النوع الثاني : أن تجتمع حدود لله تعالى وحدود لآدمي وفيها قتل فان حدود الله تعالى تدخل في القتل سواء كان من حدود الله تعالى كالرجم في الزنا والقتل للمحاربة أو الردة أو لحق آدمي كالقصاص لما قدمناه وأما حقوق الآدمي فتستوفى كلها ثم إن كان القتل حقا لله تعالى استوفيت الحقوق كلها متوالية لأنه لا بد من فوات نفسه فلا فائدة في التأخير وإن كان القتل حقا لآدمي انتظر باستيفائه الثاني برأه من الاول لوجهين : أحدهما أن الموالاة بينهما يحتمل أن تفوت نفسه قبل القصاص فيفوت حق الآدمي والثاني أن العفو جائز فتأخيره يحتمل أن يعفو الولي فيحيا بخلاف القتل حقا لله سبحانه
النوع الثالث : أن يتفق الحقان في محل واحد ويكون تفويتا كالقتل والقطع قصاصا وحدا فان كان فيه ما هو خالص لحق الله تعالى كالرجم في الزنا وما هو حق لآدمي كالقصاص قدم القصاص لتأكد حق الآدمي وإن اجتمع القتل للقتل في المحاربة والقصاص بدىء بأسبقهما لأن القتل في المحاربة فيه حق لآدمي أيضا فيقدم أسبقهما فإن سبق القتل في المحاربة استوفي ووجب لولي المقتول الآخر ديته في مال الجاني وإن سبق القصاص قتل قصاصا ولم يصلب لأن الصلب من تمام الحد وقد سقط الحد بالقصاص فسقط الصلب كما لو مات ويجب لولي المقتول في المحاربة ديته لأن القتل تعذر استيفاؤه وهو قصاص فصار الوجوب الى الدية وهكذا لو مات القاتل في المحاربة وجبت الدية في تركته لتعذر استيفاء القتل من القاتل ولو كان القصاص سابقا فعفى ولي المقتول استوفي للمحاربة سواء عفا مطلقا أو إلى الدية وهذا مذهب الشافعي وأما القطع فاذا اجتمع وجوب القطع في يد أو رجل قصاصا وحدا قدم القصاص على الحد المتمحض لله تعالى لما ذكرناه سواء تقدم سببه أو تأخر وإن عفا ولي الجناية استوفي الحد فاذا قطع يدا وأخذ المال في المحاربة قطعت يده قصاصا وينتظر برؤه فإذا برأ قطعت رجله للمحاربة لأنهما حدان وإنما قدم القصاص في القطع دون القتل لأن القطع في المحاربة حد محض وليس بقصاص والقتل فيها يتضمن القصاص ولهذا لو فات القتل في المحاربة وجبت الدية ولو فات القطع لم يجب له بدل إوإذا ثبت أنه يقدم القصاص على القطع في المحاربة فقطع يده قصاصا فإن رجله تقطع وهل تقطع يده الأخرى ؟ نظرنا فان كان المقطوع بالقصاص قد كان يستحق القطع بالمحاربة قبل الجناية الموجبة للقصاص فيه لم يقطع أكثر من العضو الباقي من العضوين اللذين استحق قطعهما لأن محل القطع ذهب بعارض حادث فلم يجب قطع بدله كما لو ذهبت بعدوان أو بمرض وعلى هذا لو ذهب العضوان جميعا سقط القطع عنه بالكلية وإن كان سبب القطع قصاصا سابقا على محاربته أو كان المقطوع غير العضو الذي وجب قطعه في المحاربة مثل أن وجب عليه القصاص في يساره بعد وجوب قطع يمناه في المحاربة فهل تقطع اليد الأخرى للمحاربة ؟ على وجهين بناء على الروايتين في قطع يسرى السارق بعد قطع يمينه إن قلنا تقطع ثم قطعت ههنا وإلا فلا وإن سرق وأخذ المال في المحاربة قطعت يده اليمنى لأسبقهما فإن كانت المحاربة سابقة قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد وحسمتا وهل تقطع يسرى يديه للسرقة ؟ على الروايتين فإن قلنا تقطع انتظر برؤه من القطع للمحاربة لأنهما حدان وإن كانت السرقة سابقة قطعت يمناه للسرقة ولا تقطع رجله للمحاربة حتى تبرأ يده وهل تقطع يسرى يديه للمحاربة ؟ على وجهين (10/315)
فصل : حكم ما لو سرق وقتل في المحاربة
فصل : وإن سرق وقتل في المحاربة ولم يأخذ المال قتل حيثما ولم يصلب ولم تقطع يده لأنهما حدان فيهما قتل فدخل ما دون القتل فيه ولم يصلب لان الصلب من تمام حد قاطع الطريق إذا أخذ المال مع القتل ولم يوجد وهذان حدان كل واحد منهما منفصل عن صاحبه فاذا اجتمعا تداخلا وإن قتل في المحاربة جماعة قتل بالاول حتما وللباقين ديات أوليائهم لأن قتله استحق قتل الاول وتحتم بحيث لا يسقط فتعينت حقوق الباقين في الدية كما لو مات (10/319)
فصل : حكم ما لو شهد رجلان أن فلانا قطع عليهما الطريق وعلى فلان
فصل : إذا شهد عدلان على رجل أنه قطع عليهما الطريق وعلى فلان وأخذ متاعهم لم تقبل شهادتهما لأنهما صارا خصمين له بقطعه عليهما وإن قالا : نشهد ان هذا قطع الطريق على فلان وأخذ متاعه قبلت شهادتهما ولم يسألهما الحاكم : هل قطع عليكما معه أم لا ؟ لأنه لا يسألهما ما لم يدع عليهما وإن عاد المشهود له فشهد عليه أنه قطع عليهما الطريق وأخذ متاعهما لم تقبل شهادته لانه صار عدوا له بقطعه الطريق عليه وإن شهد شاهدان أن هؤلاء عرضوا لنا في الطريق وقطعوها على فلان قبلت شهادتهما لأنه لم يثبت كونهما خصمين بما ذكراه (10/319)
كتاب الأشربة
الخمر محرم بالكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مسكر خمر وكل خمر حرام ] رواه أبو داود والامام أحمد وروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه ] رواه أبو داود وثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم تحريم الخمر باخبار تبلغ بمجموعها رتبة التواتر وأجمعت الأمة على تحريمه وإنما حكي عن قدامة بن مظعون وعمرو بن معد يكرب وأبي جندل بن سهيل أنهم قالوا : هي حلال لقول الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية فبين لهم علماء الصحابة معنى هذه الآية وتحريم الخمر وأقاموا عليهم الحد لشربهم إياها فرجعوا الى ذلك فانعقد الاجماع فمن استحلها الآن فقد كذب النبي صلى الله عليه و سلم لأنه قد علم ضرورة من جهة النقل تحريمه فيكفر بذلك ويستتاب فإن تاب وإلا قتل
وروى الجوزجاني باسناده عن ابن عباس : أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر : ما حملك على ذلك ؟ فقال : ان الله عز و جل يقول : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } وإني من المهاجرين الاولين من أهل بدر وأحد فقال عمر للقوم : أجيبوا الرجل فسكتوا عنه فقال لابن عباس : أجبه فقال : إنما أنزلها الله تعالى عذرا للماضين لمن شربها قبل أن تحرم وأنزل : { إنما الخمر والميسر و الأنصاب } حجة على الناس ثم سأل عمر عن الحد فيها فقال علي بن أبي طالب : إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلدوه ثمانين فجلده عمر ثمانين جلدة
وروى الواقدي أن عمر قال له : اخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله عليك وروى الخلال باسناده عن محارب بن دثار أن أناسا شربوا بالشام الخمر فقال لهم يزيد بن أبي سفيان : شربتم الخمر ؟ قالوا : نعم بقول الله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية فكتب فيهم إلى عمر بن الخطاب فكتب اليه : إن أتاك كتابي هذا نهارا فلا تنتظر بهم إلى الليل وإن إتاك ليلا فلا تنظر بهم نهارا حتى تبعث بهم إلي لئلا يقتنوا عباد الله فبعث بهم إلى عمر فشاور فيهم الناس فقال لعلي : ما ترى ؟ فقال : أرى أنهم قد شرعوا في دين الله ما لم يأذن الله فيه فان زعموا أنها حلال فاقتلهم فقد أحلوا ما حرم الله وان زعموا أنها حرام فاجلدوهم ثمانين ثمانين فقد افتروا على الله وقد أخبرنا الله عز و جل بحد ما يفتري بعضنا على بعض فحدهم عمر ثمانين ثمانين إذا ثبت هذا فالمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وما عداه من الأشربة المسكرة فهو محرم وفيه اختلاف نذكره إن شاء الله تعالى (10/321)
مسألة وفصول : من شرب مسكرا جلد ثمانين وأحكام ذلك
مسألة : قال : ومن شرب مسكرا قل أو كثر جلد ثمانين جلدة إذا شربها وهو مختار لشربها وهو يعلم أن كثيرها يسكر
الكلام في هذه المسألة في فصول :
الفصل الأول : أن كل مسكر حرام قليله وكثيره وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه وروي تحريم ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأنس وعائشة رضي الله عنهم وبه قال عطاء و طاوس و مجاهد و القاسم و قتادة وعمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و أبو ثور و أبو عبيد و إسحاق وقال أبو حنيفة في عصير العنب : إذا طبخ فذهب ثلثاه ونقيع التمر والزبيب إذا طبخ وإن لم يذهب ثلثاه ونبيذ الحنطة والذرة والشعير ونحو ذلك نقيعا كان أو مطبوخا كل ذلك حلال إلا ما بلغ السكر فأما عصير العنب إذا اشتد وقذف زبده وطبخ فذهب أقل من ثلثيه ونقيع التمر والزبيب إذا اشتد بغير طبخ فهذا محرم قليله وكثيره لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ حرمت الخمرة لعينها والمسكر من كل شراب ]
ولنا ما روى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ كل مسكر خمر وكل خمر حرام ] وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ما أسكر كثيره وقليله حرام ] رواهما أبو داود و الأثرم وغيرهما وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ كل مسكر حرام - قال - وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام ] رواه أبو داود وغيره وقال عمر رضي الله عنه : نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه ولأنه مسكر أشبه عصير العنب فأما حديثهم فقال أحمد : ليس في الرخصة في المسكر حديث صحيح وحديث ابن عباس رواه سعيد بن مسعر عن أبي عون عن ابن شداد عن ابن عباس قال : والمسكر من كل شراب وقال ابن المنذر : جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها وذكر الأثرم أحاديثهم التي يحتجون بها عن النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة فضعفها كلها ولين عللها وقد قيل إن خبر ابن عباس موقوف عليه مع انه يحتمل أنه أراد بالسكر المسكر من كل شراب فإنه يروي هو وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل مسكر حرام ]
الفصل الثاني : أنه يجب الحد على من شرب قليلا من المسكر أو كثيرا ولا نعلم بينهم خلافا في ذلك في عصير العنب غير المطبوخ في سائرها فذهب إمامنا إلى التسوية بين عصير العنب وكل مسكر وهو قول الحسن وعمر بن عبد العزيز و قتادة و الأوزاعي و مالك و الشافعي وقالت طائفة : لا يحد إلا أن يسكر منهم أبو وائل و النخعي وكثير من أهل الكوفة وأصحاب الرأي وقال أبو ثور : من شربه معتقدا تحريمه حد ومن شربه متأولا فلا حد عليه لأنه مختلف فيه فأشبه النكاح بلا ولي
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من شرب الخمر فاجلدوه ] رواه أبو داود وغيره وقد ثبت أن كل مسكر خمر فيتناول الحديث قليله وكثيره ولأنه شراب فيه شدة مطربة فوجب الحد بقليله كالخمر والاختلاف فيه لا يمنع وجوب الحد فيها بدليل ما لو اعتقد تحريمها وبهذا فارق النكاح بلا ولي ونحوه من المختلف فيه وقد حد عمر قدامة بن مظعون وأصحابه مع اعتقادهم حل ما شربوه والفرق بين هذا وبين سائر المختلف فيه من وجهين :
أحدهما : أن فعل المختلف فيه ههنا داعية إلى فعل ما أجمع على تحريمه وفعل سائر المختلف فيه يصرف عن جنسه من المجمع على تحريمه الثاني أن السنة عن النبي صلى الله عليه و سلم قد استفاضت بتحريم هذا المختلف فيه فلم يبق فيه لأحد عذر في اعتقاد إباحته بخلاف غيره من المجتهدات قال أحمد بن القاسم : سمعت أبا عبد الله يقول في تحريم المسكر عشرون وجها عن النبي صلى الله عليه و سلم في بعضها : [ كل مسكر خمر ] وبعضها : [ كل مسكر حرام ]
فصل : وان ثرد بالخمر أو اصطبغ به أو طبخ به لحما فأكل من مرقته فعليه الحد لأن عين الخمر موجودة وكذلك إن لت به سويقا فأكله وإن عجن به دقيقا ثم خبزه فأكله لم يحد لأن النار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلا أثره وإن احتقن بالخمر لم يحد لأنه ليس بشرب ولا أكل ولأنه لم يصل إلى حلقه فأشبه ما لو داوى به جرحه وإن استعط به فعليه الحد لأنه أوصله الى باطنه من حلقه ولذلك نشر الحرمة في الرضاع دون الحقنة وحكي عن أحمد أن على من احتقن به لأنه أوصله إلى جوفه والأول أولى لما ذكرناه والله أعلم
الفصل الثالث : في قدر الحد وفيه روايتان : إحداهما أنه ثمانون وبهذا قال مالك و الثوري و أبو حنيفة ومن تبعهم لاجماع الصحابة فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف : اجعله كأخف الحدود ثمانين فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام وروي أن عليا قال في المشورة : إنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري روى ذلك الجوزجاني و الدارقطني وغيرهما
والرواية الثانية : أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي لأن عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين ثم قال : جلد النبي صلى الله عليه و سلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي رواه مسلم وعن أنس قال : [ أتي رسول الله صلى الله عليه و سلم برجل قد شرب الخمر فضربه بالنعال نحوا من أربعين ثم أتي به أبو بكر فصنع مثل ذلك ثم أتي به عمر فاستسار الناس في الحدود فقال ابن عوف : أقل الحدود ثمانون فضربه عمر ] متفق عليه وفعل النبي صلى الله عليه و سلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي وأبي بكر وعلي رضي الله عنهما فتحمل الزيادة عن عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذ رآه الإمام
الفصل الرابع : ان الحد إنما يلزم من شربها مختارا لشربها فإن شربها مكرها فلا حد عليه لا اثم سواء أكره بالوعيد والضرب أو الجىء إلى شربها بأن يفتح فوه وتصب فيه فان النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وكذلك المضطر اليها لدفع غصة بها إذا لم يجد مائعا سواها فان الله تعالى قال في آية التحريم : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وإن شربها لعطش نظرنا فإن كانت ممزوجة بما يروي من العطش أبيحت لدفعه عند الضرورة كما تباح الميتة عند المخمصة وكاباحتها لدفع الغصة وقد روينا في حديث عبد الله بن حذافة انه أسره الروم فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر ولحم خنزير مشوي ليأكله ويشرب الخمر وتركه ثلاثة أيام فلم يفعل ثم أخرجوه حين خشوا موته فقال : والله لقد كان الله أحله لي فاني مضطر ولكن لم أكن لأشمتكم بدين الاسلام وإن شربها صرفا أو ممزوجة بشيء يسير لا يروي من العطش أو شربها للتداوي لم يبح له ذلك وعليه الحد وقال أبو حنيفة : يباح شربها لهما و للشافعية وجهان كالمذهبين ووجه ثالث يباح شربها للتداوي دون العطش لأنها حال ضرورة فأبيحت فيها لدفع الغصة وسائر ما يضطر إليه
ولنا ما روى الامام أحمد باسناده [ عن طارق بن سويد أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إنما أصنعها للدواء فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء ] وباسناده عن مخارق أن [ النبي صلى الله عليه و سلم دخل على أم سلمة وقد نبذت نبيذا في جرة فخرج والنبيذ يهدر فقال : ما هذا ؟ فقالت : فلانة اشتكت بطنها فنقعت لها فدفعه برجله فكسره وقال : إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء ] ولأنه محرم لعينه فلم يبح للتداوي كلحم الخنزير ولأن الضرورة لا تندفع به فلم يبح كالتداوي بها فيما لا تصلح له
الفصل الخامس : أن الحد إنما يلزم من شربها عالما أن كثيره يسكر فأما غيره فلا حد عليه لأنه غير عالم بتحريمها ولا قاصد إلى ارتكاب المعصية بها فأشبه من زفت إليه غير زوجته وهذا قول عامة أهل العلم فأما من شربها غير عالم بتحريمها فلا حد عليه أيضا لأن عمر وعثمان قالا : لا حد إلا على من علمه ولأنه غير عالم بالتحريم أشبه من لم يعلم أنها خمر وإذا ادعى الجهل بتحريمها نظرنا فإن كان ناشئا ببلد الاسلام بين المسلمين لم تقبل دعواه لأن هذا لا يكاد يخفى على مثله فلا تقبل دعواه فيه وإن كان حديث عهد باسلام أو ناشئا ببادية بعيدة عن البلدان قبل منه لأنه يحتمل ما قاله
فصل : ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين : الإقرار أو البينة ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم لأنه حد لا يتضمن إتلافا فأشبه حد القذف واذا رجع عن إقراره قبل رجوعه لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الإقرار وجود رائحة
وحكي عن أبي حنيفة : لا حد عليه إلا أن توجد رائحة ولا يصح لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه ولأنه إقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود
فصل : ولا يجب الحد بوجود رائحة من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري و أبو حنيفة و الشافعي وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك وهو قول مالك لأن ابن مسعود جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر
وروي عن عمر أنه قال : إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا فقال عمر : إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار والأول أولى لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها أو حسبها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر أو كان مكرها أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فانه يكون منه كرائحة الخمر وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد لاذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فانه لم يحده بوجود الرائحة ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر والله أعلم
فصل : وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد : لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها او لم يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد ههنا بطريق الأولى لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قامت البينة عليه بشربها
وقد روى سعيد : حدثنا هشيم حدثنا المغيرة عن الشعبي قال : لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال : أشهد أني رأيته يتقيؤها فقال عمر : من قاءها فقد شربها فضربه الحد
وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال : شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر فشهد أحدهما أنه رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها فقال عثمان : انه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي : أقم عليه الحد فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه راواه مسلم وفي رواية له فقال عثمان : لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعا ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أو يسكر منها حتى يشربها
فصل : وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا يحتاجان إلى بيان نوعه لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه بخلاف الزنا فانه يطلق على الصريح وعلى دواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ] فلهذا احتاج الشاهدان الى تفسيره وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا ذكر علمه أنه مسكر لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد فلم يحتج الى بيانه ولذلك لم يعتبر ذلك في شيء من الشهادات ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة ولا اعتبره عمر في الشهادةعلى قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ههنا (10/323)
مسألة : إذا مات في جلده فليس على أحد ضمانه
مسألة : قال : فان مات في جلده فالحق قتله يعني ليس على أحد ضمانه
وهذا قول مالك وأصحاب الرأي وبه قال الشافعي : إن لم يزد على الأربعين وإن زاد على الأربعين فمات فعليه الضمان لأن ذلك تعزير إنما يفعله الإمام برأيه وفي قدر الضمان قولان : أحدهما نصف الدية لأنه تلف من فعلين : مضمون وغير مضمون فكان عليه نصف الضمان والثاني تقسط الدية على عدد الضربات كلها فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر ولو مات وديته لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسنه لنا
ولنا أنه حد وجب لله فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود وما زاد على الأربعين قد ذكرنا أنه من الحد وإن كان تعزيرا فالتعزير يجب فهو بمنزلة الحد وأما حديث علي فقد صح عنه أنه قال : جلد رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعين وأبو بكر أربعين وثبت الحد بالإجماع فلم تبق فيه شبهة (10/329)
فصل : فروع في ضمان ما حصل بزيادة الحد
فصل : ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في سائر الحدود أنه إذا أتي بها على الوجه المشروع من غير زيادة أنه لا يضمن من تلف بها وذلك لأنه فعلها بأمر الله وأمر رسوله فلا يؤاخذ به ولأنه نائب عن الله تعالى فكان التلف منسوبا إلى الله تعالى وإن زاد على الحد فتلف وجب الضمان بغير خلاف نعلمه لأنه تلف بعدوانه فأشبه ما لو ضربه في غير الحد قال أبو بكر : وفي قدر الضمان قولان : أحدهما كمال الدية لأنه قتل حصل من جهة الله وعدوان الضارب فكان الضمان على العادي كما لو ضرب مريضا سوطا فمات به ولأنه تلف بعدوان وغيره فأشبه ما لو ألقى على سفينة موقرة حجرا فغرقها والثاني عليه نصف الضمان لأنه تلف بفعلين مضمون وغير مضمون فكان الواجب نصف الدية كما لو جرح نفسه أو جرحه غيره فمات وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر : يجب من الدية بقسط ما تعدى به تقسط الدية على الأسواط كلها وسواء زاد خطأ أو عمدا لأن الضمان يجب في الخطأ والعمد ثم ينظر فإن كان الجلاد زاده من عند نفسه بغير أمر فالضمان على عاقلته لأن العدوان منه وكذلك إن قال الامام له : اضرب ماشئت فالضمان على عاقلته وإن كان له من يعد عليه فزاد في العدد ولم يخبره فالضمان على من يعد سواء تعمد ذلك أو أخطأ في العدد لأن الخطأ منه وإن أمره الإمام بالزيادة على الحد فزاد فقال القاضي : الضمان على االامام وقياس المذهب أنه إن اعتقد وجوب طاعة الامام وجهل تحريم الزيادة فالضمان على الامام وان كان عالما بذلك فالضمان عليه كما لو أمره الامام بقتل رجل ظلما فقتله وكل موضع قلنا يضمن الامام فهل يلزم عاقلته أو بيت المال ؟ فيه روايتان :
إحداهما : هو في بيت المال لأن خطأه يكثر فلو وجب ضمانه على عاقلته أجحف بهم قال القاضي : هذا أصح والثانية هو على عاقلته لأنها وجبت بخطئه فكانت على عاقلته كما لو رمى صيدا فقتل آدميا ويحتمل أن تكون الروايتان إنما هما فيما إذا وقعت الزيادة منه خطأ أما إذا تعمدها فهذا ظلم قصده فلا وجه لتعلق ضمانه ببيت المال بحال كما لو تعمد جلد من لا حد عليه وأما الكفارة التي تلزم الإمام فلا يحملها عنه غيره لأنها عبادة فلا تتعلق بغير من وجد منه سببها ولأنها كفارة لفعله فلا تحصل إلا بتحمله إياها ولهذا لا يدخلها التحمل بحال (10/330)
فصل : لا يقام الحد على السكران حتى يصحو
فصل : ولا يقام الحد على السكران حتى يصحو روي هذا عن عمر بن عبد العزيز و الشعبي وبه قال الثوري و أبو حنيفة و الشافعي لأن المقصود الزجر والتنكيل وحصوله باقامة الحد عليه في صحوه أتم فينبغي أن يؤخر اليه (10/331)
فصل : حد السكر الذي يحصل به فسق شارب النبيذ
فصل : وحد السكر الذي يحصل به فسق شارب النبيذ ويختلف معه في وقوع طلاقه ويمنع صحة الصلاة منه هو الذي يجعله يخلط في كلامه ما لم يكن قبل الشرب ويغيره عن حال صحوه ويغلب على عقله ولا يميز بين ثوبه وثوب غيره عند اختلاطهما ولا بين نعله ونعل غيره ونحو هذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد و أبو ثور وزعم أبو حنيفة أن السكران هو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الرجل من المرأة
ولنا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حين قدموا رجلا منهم في الصلاة فصلى بهم وترك في قراءته ما غير المعنى وقد كانوا قاموا إلى الصلاة عالمين بها وعرفوا امامهم وقدموه ليؤمهم وقصد إمامتهم والقراءة لهم وقصدوا الائتمام به وعرفوا أركان الصلاة فأتوا بها ودلت الآية على أنه ما لم يعلم ما يقول فهو سكران وروي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أتي بسكران فقال : ما شربت ؟ فقال : ما شربت إلا الخليطين ] وأتي بآخر سكران فقال : ألا أبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أني ما سرقت ولا زنيت فهؤلاء قد عرفوا رسول الله صلى الله عليه و سلم واعتذروا اليه وهم سكارى و [ في حديث حمزة عم النبي صلى الله عليه و سلم حين غنته قينة وهو سكران
( ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء )
وكان علي أناخ شارفين له بفناء البيت الذي فيه حمزة فقام اليها فبقر بطونها واجتث أسنمتها فذهب علي فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا حمزة محمرة عيناه فلامه النبي صلى الله عليه و سلم فنظر إليه وإلى زيد بن حارثة فقال : وهل أنتما الا عبيد لأبي ؟ ] فانصرف عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقد فهم ما قالت القينة في غنائها وعرف الشارفين وهو في غاية سكره ولأن المجنون الذاهب العقل بالكلية يعرف السماء من الأرض والرجل من المرأة مع ذهاب عقله ورفع القلم عنه (10/331)
مسائل : بيان الضرب في سلئر الحدود
مسألة قال : ويضرب الرجل في سائر الحدود قائما بسوط لا خلق ولا جديد ولا يمد ولا يربط ويتقى وجهه
وقوله في سائر الحدود يعني جميع الحدود التي فيها الضرب وفي هذه المسألة ثلاث مسائل :
المسألة الأولى أن الرجل يضرب قائما وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يضرب جالسا رواه حنبل عن أحمد لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام ولأنه مجلود في حد فأشبه المرأة
ولنا قول علي رضي الله عنه : لكل موضع في الجسد حظ يعني في الحد الا الوجه والفرج وقال للجلاد : اضرب واوجع واتق الرأس والوجه ولأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب وقوله : ان الله لم يأمر بالقيام قلنا : ولم يأمر بالجلوس ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر ولا يصح قياس الرجل على المرأة في هذا لأن المرأة يقصد سترها ويخشى هتكها إذا ثبت هذا فان الضرب يفرق على جميع جسده ليأخذ كل عضو منه حصته ويكثر منه في مواضع اللحم كالأليتين والفخذين ويتقي المقاتل وهي الرأس والوجه والفرج من الرجل والمرأة جميعا وقال مالك : يضرب الظهر وما يقاربه وقال أبو يوسف : يضرب الرأس أيضا لأن عليا لم يستثنه
ولنا على مالك قول علي ولأن ما عدا الأعضاء الثلاثة ليس بمقتل فأشبهت الظهر وعلى أبي يوسف أن الرأس مقتل فأشبه الوجه ولأنه ربما ضربه في رأسه فذهب بسمعه وبصره وعقله أو قتله والمقصود أدبه لا قتله وقولهم : لم يستثنه علي ممنوع فقد ذكرنا عنه أنه قال : اتق الرأس والوجه ولو لم يذكره صريحا فقد ذكره دلالة لأنه في معنى ما استثناه فيقاس عليه
المسألة الثانية : أنه لا يمد ولا يربط ولا نعلم عنهم في هذا خلافا قال ابن مسعود : ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم ينقل عن أحد منهم مد ولا قيد ولا تجريد ولا تنزع عنه ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت عنه لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب قال أحمد : لو تركت عليه ثياب الشتاء ما بالى بالضرب وقال مالك : يجرد لأن الأمر بجلده يقتضي مباشرة جسمه
ولنا قول ابن مسعود : ولم يعلم عن أحد من الصحابة خلافه والله تعالى لم يأمر بتجريده انما أمر بجلده ومن جلد فوق الثوب فقد جلد
المسألة الثالثة : ان الضرب بالسوط ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا في غير حد الخمر فأما حد الخمر فقال بعضهم : يقام بالايدي والنعال وأطراف الثياب وذكر بعض أصحابنا أن للامام فعل ذلك إذا رآه لما [ روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أتي برجل قد شرب فقال : اضربوه قال : فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه ] رواه أبو داود
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إذا شرب الخمر فاجلدوه ] والجلد إنما يفهم من إطلاقه الضرب بالسوط ولأنه أمر بجلده كما أمر الله تعالى بجلد الزاني فكان بالسوط مثله والخلفاء الراشدون ضربوا بالسياط وكذلك غيرهم فكان إجماعا فأما حديث أبي هريرة فكان في بدء الأمر ثم جلد النبي صلى الله عليه و سلم واستقرت الأمور فقد صح أن النبي صلى الله عليه و سلم جلد أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وجلد على الوليد بن عقبة أربعين وفي حديث جلد قدامة حين شرب أن عمر قال : ائتوني بسوط فجاءه أسلم مولاه بسوط دقيق صغير فأخذه عمر فمسحه بيده ثم قال لأسلم : أنا احدثك إنك ذكرت قرابته لأهلك ائتي بسوط غير هذا فأتاه به تاما فأمر عمر بقدامة فجلد إذا ثبت هذا فان السوط يكون وسطا لا جديدا فيجرح ولا خلقا فيقل ألمه لما [ روي أن رجلا اعترف عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بالزنا فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوط فاتي بسوط مكسور فقال : فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته فقال بين هذين ] رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا وروي عن أبي هريرة مسندا وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ضرب من ضربين وسوط من سوطين وهكذا الضرب يكون وسطا لا شديد فيقتل ولا ضعيف فلا يردع ولا يرفع باعه كل الرفع ولا يحطه فلا يؤلم قال أحمد : لا يبدي أبطه في شيء من الحدود يعني لا يبالغ في رفع يده فان المقصود أدبه لا قتله (10/332)
مسألتان وفصل : بيان حد المرأة والعبد
مسألة : قال : وتضرب المرأة جالسة وتمسك يداها لئلا تنكشف
وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و مالك وقال ابن أبي ليلى و أبو يوسف : تحد قائمة كما تلاعن
ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : تضرب المرأة جالسة والرجل قائما ولأن المرأة عورة وجلوسها أستر لها ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي الى كشف العورة وتشد عليها ثيابها لئلا ينكشف شيء من عورتها عند الضرب
فصل : أشد الضرب في الحد ضرب الزاني ثم حد القذف ثم حد الشرب ثم التعزير وقال مالك : كلها واحد لأن الله أمر بجلد الزاني والقاذف أمرا واحدا ومقصود جميعها واحد وهو الزجر فيجب تساويها في الصفة وعن أبي حنيفة التعزير أشدها ثم حد الزاني ثم حد الشرب ثم حد القذف
ولنا أن الله تعالى خص الزاني بمزيد تأكيد بقوله سبحانه : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } فاقتضى ذلك مزيد تأكيد فيه ولا يمكن ذلك في العدد فتعين جعله في الصفة ولأن ما دونه أخف منه عددا فلا يجوز أن يزيد عليه في إيلامه ووجعه لأنه يفضي إلى التسوية بينهما أو زيادة القليل على ألم الكثير
مسألة : قال : ويجلد العبد والأمة أربعين بدون سوط الحر هذا على الرواية التي تقول : إن حد الحر في الشرب ثمانون فحد العبد والأمة نصفها أربعون وعلى الرواية الأخرى حدهما عشرون نصف حد الحر بدون سوط الحر لأنه لما خفف عنه في عدده خفف عنه في صفته كالتعزير مع الحد ويحتمل أن يكون سوطه كسوط الحر لأنه إنما يتحقق التنصيف إذا كان السوط مثل السوط أما إذا كانا في نصفا في عدده وأخف منه في سوطه كان أقل من النصف والله تعالى قد أوجب النصف بقوله تعالى : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } (10/334)
فصل : لا تقام الحدود في المساجد
فصل : ولا تقام الحدود في المساجد وبهذا قال عكرمة و الشعبي و أبو حنيفة و مالك و الشافعي و إسحاق وكان ابن أبي ليلى يرى إقامته في المسجد
ولنا ما روى حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يستقاد في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار وأن تقام فيه الحدود وروي عن عمر أنه أتي برجل فقال : اخرجاه من المسجد فاضرباه وعن علي أنه أتي بسارق فقال : يا قنبر أخرجه من المسجد فاقطع يده ولأن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت للصلاة وقراءة القرآن وذكر الله تعالى ولا نأمن أن يحدث من المحدود حدث فينجسه ويؤذيه وقد أمر الله تعالى بتطهيره فقال : { وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود } (10/335)
مسألتان وفصول : العصير إذا أتت عليه ثلاثة ايام فقد حرم وكذلك النبيذ ويجوز الانتباذ في الأوعية كلها ويكره الخليطان
مسألة : قال : والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلى قبل ذلك فيحرم
أما إذا غلي كغليان القدر وقذف بزبده فلا خلاف في تحريمه وان أتت عليه ثلاثة أيام ولم يغل فقال أصحابنا : هو حرام وقال أحمد : اشربه ثلاثا ما لم يغل فاذا أتى عليه أكثر من ثلاثة أيام فلا تشربه وأكثر أهل العلم يقولون : هو مباح ما لم يغل ويسكر لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا ] رواه أبو داود ولأن علة تحريمه الشدة المطربة وإنما ذلك في المسكر خاصة
ولنا ما روى أبو داود باسناده [ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد الى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخدم أو يهراق ] وروى الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل ] وقال ابن عمر : اشربه ما لم يأخذه شيطانه قيل : وفي كم يأخذه شيطانه ؟ قال : في ثلاث ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالبا وهي خفية تحتاج الى ضابط فجاء جعل الثلاث ضابطا لها ويحتمل أن يكون شربه فيما زاد على الثلاثة إذا لم يغل مكروها غير محرم فان أحمد لم يصرح بتحريمه وقال في موضع : اكرهه وذلك لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يشربه بعد ثلاث وقال أبو خطاب : عندي كلام أحمد في ذلك محمول على عصير الغالب أنه يتخمر في ثلاثة أيام
مسألة : قال : وكذلك النبيذ
يعني أن النبيذ مباح ما لم يغل أو تأت عليه ثلاثة أيام والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء وتذهب ملوحته فلا بأس به ما لم يغل أو تأتي عليه ثلاثة ايام لما روينا عن ابن عباس و [ قال أبو هريرة : علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش فقال : اضرب بهذا الحائط فان هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ] رواه أبو داود ولأنه إذا بلغ ذلك صار مسكرا وكل مسكر حرام
فصل : والخمر نجسة في قول عامة أهل العلم لأن الله تعالى حرمها لعينها فكانت نجسة كالخنزير وكل مسكر فهو حرام نجس لما ذكرنا
فصل : وما طبخ من العصير والنبيذ قبل غليانه حتى صار غير مسكر كالدبس ورب الخرنوب وغيرهما من المربيات والسكر فهو مباح لأن التحريم إنما ثبت في المسكر ففيما عداه يبقى على أصل الإباحة وما أسكر كثيره فقليله حرام سواء ذهب منه الثلثان أو أقل أو أكثر قال أبو داود : سألت أحمد عن شرب الطلا إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه قال : لا بأس به قيل لأحمد : انهم يقولون انه يسكر قال : لا يسكر ولو كان يسكر ما أحله عمر
فصل : ولا بأس بالفقاع وبه قال اسحاق و ابن المنذر ولا أعلم فيه خلافا لأنه لا يسكر وإذا ترك يفسد بخلاف الخمر والاشياء على الاباحة ما لم يرد بتحريمها حجة
فصل : ويجوز الانتباذ في الاوعية كلها وعن أحمد أنه كره الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الانتباذ فيها والدباء هو اليقطين والحنتم الجرار والنقير الخشب والمزفت الذي يطلى بالزفت والصحيح الأول لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ نهيتكم عن ثلاث وأنا آمركم بهن نهيتكم عن الأشربة أن لا تشربوا إلا في ظروف الادم فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا ] رواه مسلم وهذا دليل نسخ النهي ولا حكم للمنسوخ
فصل : ويكره الخليطان وهو أن ينبذ في الماء شيئان لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الخليطين وقال أحمد : الخليطان حرام وقال في الرجل ينقع الزبيب والتمر الهندي والعناب ونحوه ينقعه غدوة ويشربه عشية للدواء : أكرهه لأنه نبيذ ولكن يطبخه ويشربه على المكان وقد روى أبو داود باسناده عن رسول الله عليه وسلم أنه نهى أن ينبذ البسر والرطب جميعا ونهى أن ينبذ الزبيب والتمر جميعا وفي رواية : [ وانتبذ كل واحد على حدة ] وعن أبي قتادة قال : نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يجمع بين التمر والزهو والتمر والزبيب ولينبذ كل واحد منهما على حدة متفق عليه قال القاضي : يعني أحمد بقوله : هو حرام إذا اشتد وأسكر وإذا لم يسكر لم يحرم وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعال وإنما نهى النبي صلى الله عليه و سلم لعلة اسراعه الى السكر المحرم فإذا لم يوجد لم يثبت التحريم كما أنه عليه السلام نهى عن الانتباذ في الاوعية المذكورة لهذه العلة ثم أمرهم بالشرب فيها ما لم توجد حقيقة الاسكار فقد دل على صحة هذا ما [ روي عن عائشة قالت : كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحها فيه ثم نصب عليها الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية وننبذه عشية فيشربه غدوة ] رواه ابن ماجة و أبو داود فلما كانت مدة الانتباذ قريبة وهي يوم وليلة لا يتوهم الاسكار فيها لم يكره فلو كان مكروها لما فعل هذا في بيت النبي صلى الله عليه و سلم له فعلى هذا لا يكره ما كان في المدة اليسيرة ويكره ما كان في مدة يحتمل إفضاؤه إلى الإسكار ولا يثبت التحريم ما لم يغل أو تمضي عليه ثلاثة أيام (10/336)
مسألة : حكم الخمرة إذا صارت خلا
مسألة : قال : والخمرة اذا أفسدت فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها وان قلب الله عينها فصارت خلا فهي حلال
روي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الزهري ونحوه قول مالك وقال الشافعي : إن ألقي فيها شيء يفسدها كالملح فهي على تحريمها وإن نقلت من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت ففي إباحتها قولان وقال أبو حنيفة : تطهر في الحالين لأن علة تحريمها زالت بتخليلها فطهرت كما لو تخللت بنفسها يحققه أن التطهير لا فرق فيه بين ما حصل بفعل الله تعالى وفعل الآدمي كتطهير الثوب والبدن والأرض ونحو هذا قول عطاء وعمرو بن دينار والحارث العكلي وذكره أبو خطاب وجها في مذهبنا فقال : وان خللت لم تطهر وقيل تطهر
ولنا ما روى أبو سعيد قال : [ كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : يا رسول الله انه ليتيم قال : أهريقوه ] رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أنس قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنتخذ الخمر خلا ؟ قال : لا ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح رواه مسلم
[ وعن أبي طلحة انه سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال : أهرقها قال : أفلا أخللها ؟ قال : لا ] رواه ابو داود وهذا نهي يقتضي التحريم ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز إراقتها بل أرشدهم اليه سيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم ولأنه إجماع في الصحابة فروي أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال : لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله هو تولى افسادها ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يتعمد لافسادها فعند ذلك يقع النهي رواه أبو عبيد في الأموال بنحو من هذا المعنى وهذا قول يشتهر لأنه خطب به الناس على المنبر فلم ينكر فأما إذا انقلبت بنفسها فانها تطهر وتحل في قول جميعهم فقد روي عن جماعة من الأوائل أنهم اصطبغوا بخل خمر منهم علي و أبو الدرداء وابن عمر وعائشة ورخص فيه الحسن وسعيد بن جبير وليس في شيء من أخبارهم انهم اتخذوه خلا ولا أنه انقلب بنفسه لكن قد بينه عمر بقوله : لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله يتولى افسادها ولأنها إذا انقلبت بنفسها فقد زالت علة تحريمها من غير علة خلفتها فطهرت كالماء إذا زال تغيره بمكثه وإذا ألقي فيها شيء تنجس بها ثم إذا انقلبت بقي ما ألقي فيها نجسا فنجسها وحرمها فأما إن نقلها من موضع الى آخر فتخللت من غير أن يلقي فيها شيئا فان لم يكن قصد تخليلها حلت بذلك لأنها تخللت بفعل الله تعالى فيها وإن قصد بذلك تخليلها احتمل أن تطهر لأنه لا فرق بينهما إلا القصد فلا يقتضي تحريمها ويحتمل أن لا تطهر لأنها خللت فلم تطهر كما لو ألقي فيها شيء (10/338)
مسألة : حكم الشرب في آنية الذهب والفضة
مسألة : قال : والشرب في آنية الذهب والفضة حرام
هذا قول أكثر أهل العلم وحكي عن معاوية بن قرة أنه قال : لا بأس بالشرب من قدح فضة وحكي عن الشافعي قول انه مكروه غير محرم لأن النهي لما فيه من التشبه بالأعاجم فلا يقتضي التحريم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ] وقال : [ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فانها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ] أخرجهما البخاري ومقتضى نهيه التحريم وقد توعد عليه بنار جهنم فان معنى قوله : [ تجرجر في بطنه نار جهنم ] أي هذا سبب لنار جهنم لقول الله تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا } فلم يبق في تحريمه إشكال
وقد روي ان حذيفة استسقى فأتاه دهقان بإناء من فضة فرماه به فلو أصابه لكسر منه شيئا ثم قال : إنما رميته به لأنني نهيته عنه وذكر هذا الخبر وهذا يدل على أنه فهم التحريم من نهي رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى استحل عقوبته لمخالفته اياه (10/339)
فصل : يحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة
فصل : ويحرم اتخاذ الآنية من الذهب والفضة واستصناعها لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه على هيئة الاستعمال كالطنبور والمزمار ويستوي في ذلك الرجال والنساء لعموم الحديث ولأن علة تحريمها السرف والخيلاء وكسر قلوب الفقراء وهذا معنى يشمل الفريقين وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى التزين للازواج فتختص الإباحة به دون غيره ؟ فان قيل : لو كانت العلة ما ذكرتم لحرمت آنية الياقوت ونحوه مما هو أرفع من الأثمان قلنا : تلك لا يعرفها الفقراء فلا تنكسر قلوبهم باتخاذ الاغنياء لها لعدم معرفتهم بها ولأن قلتها في نفسها تمنع اتخاذها فيستغني بذلك عن تحريمها بخلاف الأثمان (10/340)
حكم الفضة والذهب على القدح والسيف
مسألة : قال : إن كان قدح عليه ضبة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس
وجملة ذلك أن الضبة من الفضة تباح بثلاثة شروط : أحدها أن تكون يسيرة الثاني أن تكون من الفضة فأما الذهب فلا يباح وقليله وكثيره حرام وروي عن أبي بكر أنه رخص في يسير الذهب
الثالث : أن يكون للحاجة أعني أنه جعلها لمصلحة وانتفاع مثل أن تجعل على شق أو صدع وإن قام غيرها مقامها وقال القاضي : ليس هذا بشرط ويجوز اليسير من غير حاجة إذا لم يباشر بالاستعمال وانما كره أحمد الحلقة ونحوها لأنها تباشر بالاستعمال وممن رخص في ضبة الفضة سعيد بن جبير وميسرة وزاذان و طاوس و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وأصحاب الرأي و إسحاق وقال : قد وضع عمر بن عبد العزيز فاه بين ضبتين وكان ابن عمر لا يشرب من قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة منها وكره الشرب في الإناء المفضض علي بن الحسين و عطاء وسالم والمطلب بن عبد الله بن حنطب ونهت عائشة أن يضبب الآنية أو يحلقها بالفضة ونحو ذلك قول الحسن و ابن سيرين ولعل هؤلاء كرهوا ما قصد به الزينة أو كان كثيرا أو يستعمل فيكون قولهم وقول الأولين واحدا ولا يكون في المسألة خلاف فأما اليسير كتشعيب القدح ونحوه فلا بأس [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان له قدح فيه سلسلة من فضة شعب بها ] رواه البخاري بمعناه ولأن ذلك يسير من الفضة فأشبه الخاتم وكره أحمد أن يباشر موضع الضبة بالاستعمال فلا يشرب من موضع الضبة لأنه يصير كالشارب من إناء فضة وكره الحلقة من فضة لأن القدح يرفع بها فيباشرها بالاستعمال وكذلك ما أشبهه
فصل : ولا بأس بقبيعة السيف من فضة لما [ روى أنس قال : كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم فضة ] رواه الأثرم و أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن وقال هشام بن عروة : وكان سيف الزبير محلى بالفضة أنا رأيته ولا بأس من الخاتم من الفضة لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان له خاتم من فضة ثم لبسه أبو بكر ثم عمر ثم عثمان حتى سقط منه في بئر أريس وصح ذلك عنهم وقال سعيد : البس الخاتم وأخبر أني أفتيتك بذلك فقد روى أبو ريحانة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كره عشر خلال وفيها الخاتم إلا لذي سلطان قال أحمد : إنما هذا يرويه أهل الشام وحدث أحمد بحديث أبي ريحانة فلما بلغ الخاتم تبسم المتعجب ثم قال أهل الشام وإنما قال أحمد ذلك لأن الأحاديث قد صحت عن النبي صلى الله عليه و سلم واستفاضت بإباحته وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن بعدهم من العلماء فإذا جاء حديث شاذ يخالف ذلك لم يعرج عليه وإن صح ذلك حمل على التنزيه
فصل : : قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله الحلية لحمائل السيف ؟ فسهل فيها وقال : قد روي سيف محلى ولأنه من حلية السيف فأشبه القبيعة ولذلك يخرج في حلية الدرع والمغفر والخوذة والخف والران ولأنه في معناه وقيل لأبي عبد الله : حلقة المرآة فضة ورأس المكحلة فضة وما أشبه هذا قال : كل شيء يستعمل مثل حلقة المرآة فأنا أكرهه لأنه يستعمله فإن المرآة ترفع بحلقتها ثم قال : إنما هذا تأويل تأولته أنا
فصل : ولا يباح شيء من ذلك إذا كان ذهبا إلا أنه قد روي أنه تباح قبيعة السيف قال أحمد : قد روي أنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب وروى الترمذي باسناده عن مزيدة العصري قال : [ دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة ] وقال : هذا حديث غريب ولا يباح الذهب في غير هذا إلا لضرورة كأنف الذهب وما ربط به أسنانه إذا تحركت وقال أبو بكر : يباح يسير الذهب قياسا له على الفضة لكونه أحد الثمنين فأشبه الآخر وقد ذكرنا هذا في غير هذا الموضع (10/340)
مسألة وفصول : لا يبلغ بالتعزير الحد وأنواع التعزير وفصول في التعزير وفصول فيما لا يضمن
مسألة : قال : ولا يبلغ بالتعزير الحد
التعزير هو العقوبة المشروعة على جناية لا حد فيها كوطء الشريك الجارية المشتركة أو امته المزوجة أو جارية ابنه أو وطء امرأته في دبرها أو حيضها أو وطء أجنبية دون الفرج أو سرقة ما دون النصاب أو من غير حرز أو النهب أو الغصب أو الاختلاس أو الجناية على انسان بما لا يوجب حدا ولا قصاصا ولا دية أو شتمه بما ليس بقذف ونحو ذلك يسمى تعزيرا لأنه منع من الجناية والأصل في التعزير المنع ومنه التعزير بمعنى النصرة لأنه منع لعدوه من أذاه واختلف عن أحمد في قدره فروي عنه أنه لا يزاد على عشر جلدات نص احمد على هذا في مواضع وبه قال إسحاق لما روى أبو بردة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط الا في حد من حدود الله تعالى ] متفق عليه
والرواية الثانية : لا يبلغ به الحد وهو الذي ذكره الخرقي فيحتمل أنه أراد لا يبلغ به أدنى حد مشروع وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي فعلى هذا لا يبلغ به أربعين سوطا لأنها حد العبد في الخمر والقذف وهذا قول أبي حنيفة وان قلنا : ان حد الخمر أربعون لم يبلغ به عشرين سوطا في حق العبد وأربعين في حد الحر وهذا مذهب الشافعي فلا يزاد العبد على تسعة عشر سوطا ولا الحر على تسعة وثلاثين سوطا وقال ابن أبي ليلى و أبو يوسف : أدنى الحدود ثمانون فلا يزاد في التعزير على تسعة وسبعين ويحتمل كلام أحمد و الخرقي أنه لا يبلغ بكل جناية حدا مشروعا في جنسها ويجوز أن يزيد على حد غير جنسها وروي عن أحمد ما يدل على هذا فعلى هذا ما كان سببه الوطء جاز أن يجلد مائة إلا سوطا لينقص عن حد الزنا وما كان سببه غير الوطء لم يبلغ به أدنى الحدود لما روي عن النعمان بن بشير في الذي وطىء جارية امرأته باذنها يجلد مائة وهذا تعزير لأنه في حق المحصن وحده انما هو الرجم وعن سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد الا سوطا واحدا رواه الأثرم واحتج به أحمد قال القاضي : هذا عندي من نص أحمد لا يقتضي اختلافا في التعزير بل المذهب أنه لا يزاد على عشر جلدات اتباعا للاثر إلا في وطء جارية امرأته لحديث النعمان وفي الجارية المشتركة لحديث عمر وما عداهما يبقى على العموم لحديث ابي بردة وهذا قول حسن واذا ثبت تقدير أكثره فليس أقله مقدرا لأنه لو تقدر لكان حدا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قدر أكثره ولم يقدر أقله فيرجع فيه الى اجتهاد الامام فيما يراه وما يقتضيه حال الشخص وقال مالك : يجوز أن يزاد التعزير على الحد اذا رأى الامام لما روي أن معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به صاحب بيت المال فأخذ منه مالا فبلغ عمر رضي الله عنه فضربه مائة وحبسه فكلم فيه فضربه مائة أخرى فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه وروى احمد باسناده أن عليا أتي بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان فجلده ثمانين الحد وعشرين سوطا لفطره في رمضان وروي أن أبا الأسود استخلفه ابن عباس على قضاء البصرة فأتي بسارق قد كان جمع المتاع في البيت ولم يخرجه فقال ابو الاسود : أعجلتموه المسكين فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى سبيله
ولنا حديث أبي بردة وروى الشالنجي باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ] ولأن العقوبة على قدر الاجرام والمعصية والمعاصي المنصوص على حدودها أعظم من غيرها فلا يجوز أن يبلغ في أهون الأمرين عقوبة أعظمها وما قالوه يؤدي إلى أن من قبل امرأة حراما يضرب أكثر من حد الزنا وهذا غير جائز لأن الزنا مع عظمه وفحشه لا يجوز أن يزاد على حده فما دونه أولى فأما حديث معن فيحتمل أنه كانت له ذنوب كثيرة فأدب على جميعها أو تكرر منه الأخذ أو كان ذنبه مشتملا على جنايات أحدها تزويره والثاني أخذه لمال بيت المال بغير حقه والثالث فتحه باب هذه الحيلة لغيره وغير هذا وأما حديث النجاشي فإن عليا ضربه الحد لشربه ثم عزره عشرين لفطره فلم يبلغ بتعزيره حدا وقد ذهب أحمد إلى هذا وروي أن من شرب الخمر في رمضان يحد ثم يعزر لجنايته من وجهين والذي يدل على صحة ما ذكرناه ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى أن لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا
فصل : والتعزير يكون بالضرب والحبس والتوبيخ ؟ ولا يجوز قطع شيء منه ولا جرحه ولا أخذ ماله لأن الشرع لم يرد بشيء من ذلك عن أحد يقتدى به ولأن الواجب أدب والتأديب لا يكون بالاتلاف
فصل : والتعزير فيما شرع به التعزير واجب إذا رآه الامام وبه قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي : ليس بواجب [ لأن رجلا جاء الى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إني لقيت امرأة فأصبت منها ما دون أن أطأها فقال : أصليت معنا ؟ قال : نعم فتلا عليه : { إن الحسنات يذهبن السيئات } ] [ وقال في الأنصار : اقبلوا من محسنكم وتجاوزوا عن مسيئكم ] [ وقال رجل للنبي صلى الله عليه و سلم في حكم حكم به للزبير : أن كان ابن عمتك فغضب النبي صلى الله عليه و سلم ولم يعزره على مقالته وقال له الرجل : ان هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله فلم يعزره ] ولنا ان ما كان من التعزير منصوصا عليه كوطء جارية امرأته أو جارية امرأته أو جارية مشتركة فيجب امتثال الأمر فيه وما لم يكن منصوصا عليه اذا رأى الامام المصلحة فيه أو علم أنه لا ينزجر إلا به وجب للأنه زجر مشروع لحق الله تعالى فوجب كالحد
فصل : واذا مات من التعزير لم يجب ضمانه وبهذا قال مالك و أبو حنيفة وقال الشافعي : يضمنه لقول علي : ليس أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي شيئا ان الحق قتله إلا حد الخمر فان رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يسنه لنا واشار على عمر بضمان التي اجهضت جنينها حين ارسل اليها
ولنا أنها عقوبة مشروعة للردع والزجر فلم يضمن من تلف بها كالحد وأما قول علي في دية من قتله حد الخمر فقد خالفه غيره من الصحابة فلم يوجبوا شيئا به ولم يعمل به الشافعي ولا غيره من الفقهاء فكيف يحتد به مع ترك الجميع له ؟ وأما قوله في الجنين فلا حجة لهم فيه فان الجنين الذي تلف لا جناية منه ولا تعزير عليه فكيف يسقط ضمانه ؟ ولو أن الامام حد حاملا فأتلف جنينها ضمنه مع أن الحد متفق عليه بيننا على انه لا يجب ضمان المحدود اذا تلف به
فصل : وليس على الزوج ضمان الزوجة اذا تلفت من التأديب المشروع في النشوز ولا على المعلم اذا أدب صبيه الأدب المشروع وبه قال مالك وقال الشافعي و أبو حنيفة : يضمن ووجه المذهبين ما تقدم في التي قبلها قال الخلال : اذا ضرب المعلم ثلاثا كما قال التابعون وفقهاء الأمصار وكان ذلك ثلاثا فليس بضامن وإن ضربه ضربا شديدا مثله لا يكون أدبا للصبي ضمن لأنه قد تعدى في الضرب قال القاضي : وكذلك يجيء على قياس قول أصحابنا اذا ضرب الأب أو الجد الصبي تأديبا فهلك أو الحاكم أو أمينه أو الوصي عليه تأديبا فلا ضمان عليهم كالمعلم
فصل : وإن قطع طرفا من انسان فيه أكلة أو سلعة باذنه وهو كبير عاقل فلا ضمان عليه وإن قطعه مكرها فالقطع وسرايته مضمون بالقصاص سواء كان القاطع اماما أو غيره لأن هذه الجراحة تؤدي إلى التلف والأكلة إن كان بقاؤها مخوفا فقطعها مخوف وإن كان من قطعت منه صبيا أو مجنونا وقطعها أجنبي فعليه القصاص لأنه لا ولاية له عليه وإن قطعها وليه وهو الأب أو وصيه أو الحاكم أو أمينه المتولي عليه فلا ضمان عليه لأنه قصد مصلحته وله النظر في مصالحه فكان فعليه مأمورا به فلم يضمن ما تلف به كما لو ختنه فمات والسلعة غدة بين اللحم والجلد تظهر في البدن كالجوزة وتكون في الرأس والبدن وهي بكسر السين والسلعة بفتح السين الشجة
فصل : واذا ختن الولي الصبي في وقت معتدل في الحر والبرد لم يلزمه ضمان إن تلف به لأنه فعل مأمور به في الشرع فلم يضمن ما تلف به كالقطع في السرقة وإن كان رجلا أو امرأة لم يختتنا فأمر السلطان بهما فختنا فان كان مما زعم الاطباء انه يتلف بالختان أو الغالب تلفه به فعليه الضمان لانه ليس له ذلك فيهما وإن كان الأغلب السلامة فلا ضمان عليه اذا كان في زمن معتدل ليس بمفرط الحر والبرد وبهذا قال الشافعي وزعم أبو حنيفة و مالك أنه ليس بواجب لأنه روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الختان سنة في الرجال ومكرمة في النساء ]
ولنا أنه قطع عضو صحيح من البدن يتألم بقطعه فلم يقطع الا واجبا كاليد والرجل ولأنه يجوز كشف العورة من أجله ولو لم يكن واجبا ما جاز ارتكاب المحرم من أجله فأما الخبر فقد قيل هو ضعيف وعلى ان الواجب يسمى سنة فان السنة ما رسم ليحتذى ولا يجب إلا بعد البلوغ فان لم يفعله وإلا أجبره الحاكم عليه
فصل : اذا أمر السلطان انسانا بالصعود في سور أو نزول في بئر أو نحوه فعطب به فقال القاضي وأصحاب الشافعي : على السلطان ضمانه لأن عليه طاعة إمامه فإذا أفضت طاعته الى الهلاك فكأنه ألجأه اليه ولو كان الآمر غير الامام لم يضمن لأن طاعته غير لازمة فلم يلجئه اليه وإن امره السلطان بالمضي في حاجة فعثر فهلك لم يضمنه لأن المشي ليس بسبب للهلاك في الأعم الأغلب بخلاف ما ذكرناه أولا فعلى هذا إن كان أمره الموجب للضمان لمصلحة المسلمين فالضمان في بيت المال وإن كان لمصلحة نفسه فالضمان عليه أو على عاقلته إن كان مما تحمله عاقلته وإن أقام الامام الحد في شدة حر أو برد أو ألزم انسانا الختان في ذلك فهل يضمن ما تلف يحتمل وجهين (10/324)
مسألة : إذا حمل عليه جمل صائل فضربه فقتله فيس عليه ضمان
مسألة : قال : واذا حمل عليه جمل صائل فلم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه فضربه فقتله فلا ضمان عليه
وجملته أن الإنسان إذا صالت عليه بهيمة فلم يمكنه دفعها إلا بقتلها جاز له قتلها إجماعا وليس عليه ضمانها إذا كانت لغيره وبهذا قال مالك و الشافعي و إسحاق وقال أبو حنيفة وأصحابه : عليه ضمانها لأنه أتلف مال غيره لإحياء نفسه فكان عليه ضمانه كالمضطر إلى طعام غيره إذا أكله وكذلك قالوا في غير المكلف من الآدميين كالصبي والمجنون يجوز قتله ويضمنه لأنه يملك لاإباحة نفسه ولذلك لو ارتد لم يقتل
ولنا أنه قتله بالدفع الجائز فلم يضمنه كالعبد ولأنه حيوان جاز اتلافه فلم يضمنه كالآدمي المكلف ولأنه قتله لدفع شره فأشبه العبد وذلك لأنه إذا قتله لدفع شره كان الصائل هو القاتل لنفسه فأشبه ما لو نصب حربة في طريقه فقذف نفسه عليها فمات بها وفارق المضطر فان الطعام لم يلجئه الى اتلافه ولم يصدر منه ما يزيل عصمته ولهذا لو قتل المحرم صيدا لصياله لم يضمنه ولو قتله لاضطراره اليه ضمنه ولو قتل المكلف لصياله لم يضمنه ولو قتله ليأكله في المخمصة وجب القصاص وغير المكلف كالمكلف في هذا وقولهم : لا يملك اباحة نفسه قلنا : والمكلف لا يملك اباحة دمه ولو قال : أبحت دمي لم يبح على أنه إذا صال فقد ابيح دمه بفعله فيجب ان يسقط ضمانه كالمكلف (10/345)
مسألة : حكم ما لو دخل منزله بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فضربه
مسألة : قال : واذا دخل منزله بالسلاح فأمره بالخروج فلم يفعل فله أن يضربه بأسهل ما يخرجه به فان علم يخرج بضرب عصا لم يجز أن يضربه بحديدة فان آل الضرب إلى نفسه فلا شيء عليه وان قتل صاحب الدار كان شهيدا
وجملته أن الرجل إذا دخل منزل غيره بغير اذنه فلصاحب الدار أمره بالخروج من منزله سواء كان معه سلاح أو لم يكن لأنه متعد بدخول ملك غيره فكان بصاحب الدار مطالبته بترك التعدي كما لو غصب منه شيئا فان خرج بالامر لم يكن له ضربه لأن المقصود اخراجه وقد روي عن ابن عمر أنه رأى لصا فأصلت عليه السيف قال : فلو تركناه لقتله وجاء رجل الى الحسن فقال : لص دخل بيتي ومعه حديدة أقتله ؟ قال : نعم بأي قتلة بدرت أن تقتله
ولنا أنه أمكن ازالة العدوان بغير القتل فلم يجز القتل كما لو غصب منه شيئا فأمكن أخذه بغير القتل وفعل ابن عمر يحمل على قصد الترهيب لا على قصد ايقاع الفعل فان لم يخرج بالأمر فله ضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به لأن المقصود دفعه فاذا اندفع بقليل فلا حاجة الى أكثر منه فان علم أنه يخرج بالعصا لم يكن له ضربه بالحديد لأن الحديد آلة للقتل بخلاف العصا وإن ذهب موليا لم يكن له قتله ولا اتباعه كأهل البغي وإن ضربه ضربة عطلته لم يكن له أن يثني عليه لأنه كفي شره وإن ضربه فقطع يمينه فولى مدبرا فضربه فقطع رجله فقطع الرجل مضمون عليه بالقصاص أو الدية لأنه في حال لا يجوز له ضربه وقطع اليد غير مضمون فان مات من سراية القطع فعليه نصف الدية كما لو مات من جراحة اثنين وإن عاد اليه بعد قطع رجله فقطع يده الأخرى فاليدان غير مضمونتين وإن مات فعليه ثلث الدية كما لو مات من جراحة ثلاثة أنفس فقياس المذهب أن يضمن نصف الدية لأن الجرحين قطع رجل واحد فكان حكمهما واحدا كما لو جرح رجل رجلا مائة جرح وجرحه آخر جرحا واحدا ومات كانت ديته بينهما نصفين ولا تقسم الدية على عدد الجراحات كذا ههنا فأما إن لم يمكنه دفعه إلا بالقتل أو خاف أن يبدره بالقتل إن لم يقتله فله ضربه بما يقتله أو يقطع طرفه وما أتلف منه فهو هدر لأنه تلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي ولأنه اضطر صاحب الدار إلى قتله فصار كالقاتل لنفسه وإن قتل صاحب الدار فهو شهيد لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد ] رواه الخلال بإسناده ولأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل إذا قتله الباغي (10/346)
فصل : حكم من عرض لإنسان يريد ماله أو نفسه
فصل : وكل من عرض لإنسان يريد ماله أو نفسه فحكمه ما ذكرنا فيمن دخل منزله في دفعهم بأسهل ما يمكن دفعهم به فإن كان بينه وبينهم نهر كبير أو خندق أو حصن لا يقدرون على اقتحامه فليس له رميهم وإن لم يمكن إلا بقتالهم فله قتالهم وقتلهم قال أحمد في اللصوص يريدون نفسك ومالك : قاتلهم تمنع نفسك ومالك وقال عطاء في المحرم يلقى اللصوص قال : يقاتلهم أشد القتال وقال ابن سيرين : ما أعلم احدا ترك قتال الحرورية واللصوص تأثما إلا أن يجبن وقال الصلت بن طريف : قلت للحسن : اني احرج في هذه الوجوه أخوف شيء عندي : يلقاني اللصوص يعرضون لي في مالي فان كففت يدي ذهبوا بمالي وان قاتلت اللص ففيه ما قد علمت ؟ قال : أي بني من عرض لك في مالك فان قتلته فالى النار وان قتلك فشهيد ونحو ذلك عن أنس و الشعبي و النخعي وقال أحمد في امرأة أرادها رجل على نفسها فقتلته لتحصن نفسها فقال : إذا علمت أنه لا يريد إلا نفسها فقتلته لتدفع عن نفسها فلا شيء عليها وذكر حديثا يرويه الزهري عن القاسم بن محمد عن عبيد بن عمير أن رجلا أضاف ناسا من هذيل فأراد امرأة على نفسها فرمته بحجر فقتلته فقال عمر : والله لا يودى أبدا ولأنه إذا جاز الدفع عن ماله الذي يجوز بذله واباحته فدفع المرأة عن نفسها وصيانتها عن الفاحشة التي لا تباح بحال أولى : إذا ثبت هذا فانه يجب عليها أن تدفع عن نفسها إن أمكنها ذلك لأن التمكين منها محرم وفي ترك الدفع نوع تمكين فأما من اريدت نفسه أو ماله فلا يجب عليه الدفع لقول النبي صلى الله عليه و سلم في الفتنة : [ اجلس في بيتك فان خفت أن يبهرك شعاع السيف فغط وجهك ] وفي لفظ : [ فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ] ولأن عثمان ترك القتال مع إمكانه مع إرادتهم نفسه فان قيل : فقد قلتم في المضطر إذا وجد ما يدفع به الضرورة لزمه الأكل منه في أحد الوجهين فلم لم تقولوا ذلك ههنا ؟ قلنا : لأن الأكل يحيي به نفسه من غير تفويت نفس غيره وههنا في إحياء نفسه فوات نفس غيره فلم يجب عليه فأما ان أمكنه الهرب فهل يلزمه ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يلزمه لأنه أمكنه الدفع عن نفسه من غير ضرر يلحق غيره فلزمه كالأكل في المخمصة
والثاني : لا يلزمه لأنه دفع عن نفسه فلم يلزمه كالدفع بالقتال (10/347)
فصل : إذا صال على إنسان صائل يريد ماله أو نفسه ظلما
فصل : وإذا صال على إنسان صائل يريد ماله أو نفسه ظلما أو يريد امرأة ليزني بها فلغير المصول عليه معونته في الدفع ولو عرض اللصوص لقافلة جاز لغير أهل القافلة الدفع عنهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ انصر أخاك ظالما أو مظلوما ] وفي حديث : [ إن المؤمنين يتعاونون على الفتان ] ولأنه لولا التعاون لذهبت أموال الناس وأنفسهم لأن قطاع الطريق إذا انفردوا بأخذ مال إنسان لم يعنه غيره فانهم يأخذون أموال الكل واحدا واحدا وكذلك غيرهم (10/348)
فصل : كم وجد رجلا يزني بامرأته فقتله فلا قصاص عليه
فصل : وإذا وجد رجلا يزني بامرأته فقتله فلا قصاص عليه ولا دية لما روي أن عمر رضي عنه بينما هو يتغذى يوما إذا أقبل رجل يعدو ومعه سيف مجرد ملطخ بالدم فجاء حتى قعد مع عمر فجعل يأكل وأقبل جماعة من الناس فقالوا : يا أمير المومنين إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته فقال عمر : ما يقول هؤلاء ؟ قال : ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف فان كان بينهما أحد فقد قتله فقال لهم عمر : ما يقول ؟ قالوا : ضرب بسيفه فقطع فخذي امرأته فأصاب وسط الرجل فقطعه باثنين فقال عمر : إن عادوا فعد رواه هشيم عن مغيرة عن ابراهيم أخرجه سعيد وإذا كانت المرأة مطاوعة فلا ضمان عليه فيها وان كانت مكرهة فعليه القصاص وإذا قتل رجلا وادعى أنه وجده مع امرأته فانكر وليه فالقول قول الولي لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن رجل دخل بيته فاذا مع امرأته رجل فقتلها وقتله قال علي : ان جاء بأربعة شهداء وإلا فليعط برمته ولأن الأصل عدم ما يدعيه فلا يسقط حكم القتل بمجرد الدعوى واختلفت الرواية في البينة فروي أنها أربعة شهداء لخبر علي ولما روى أبو هريرة [ أن سعدا قال : يا رسول الله أرأيت ان وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي باربعة شهداء ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : نعم ] وروي أنه يكفي شاهدان لأن البينة تشهد على وجوده على المرأة وهذا يثبت بشاهدين وإنما الذي يحتاج إلى الأربعة الزنا وهذا لا يحتاج إلى إثبات الزنا فان قيل : فحديث عمر في الذي وجد مع امرأته رجلا ليس فيه بينة وكذلك روي أن رجلا من المسلمين خرج غازيا وأوصى بأهله رجلا فبلغ الرجل أن يهوديا يختلف الى امرأته فكمن له حتى جاء فجعل ينشد :
( وأشعث غره الاسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام )
( أبيت على ترائبها ويضحى ... على جرداء لاحقة الحزام )
( كأن مواضع الرتلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام )
فقام اليه فقتله فرفع ذلك الى عمر فأهدر دمه ولم يطالب فالجواب ان ذلك ثبت عنده باقرار الولي وإن لم تكن بينة فادعى علم الولي بذلك فالقول قول الولي مع يمينه (10/348)
فصل : حكم ما لو قتل رجل رجلا وادعى أنه هجم على منزله
فصل : ولو قتل رجل رجلا وادعى انه قد هجم منزلي فلم يمكنني دفعه الا بالقتل لم يقبل قوله الا ببينة وعليه القود سواء كان المقتول يعرف بسرقة أو عيارة أو لا يعرف بذلك فان شهدت البينة أنهم رأوا هذا مقبلا الى هذا بالسلاح المشهور فضربه هذا فقد هدر دمه وإن شهدا أنهم رأوه داخلا داره ولم يذكروا سلاحا أو ذكروا سلاحا غير مشهور لم يسقط القود بذلك لأنه قد يدخل لحاجة ومجرد الدخول المشهود به لا يوجب إهدار دمه وإن تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما اني جرحته دفعا عن نفسي حلف كل واحد منهما على ابطال دعوى صاحبه وعليه ضمان ما جرحه لأن كل واحد منهما مدع على الآخر ما ينكره والأصل عدمه (10/349)
فصل : حكم ما لو عض رجل يد رجل آخر
فصل : ولو عض رجل يدآخر فله جذبها من فيه فان جذبها فوقعت ثنايا العاض فلا ضمان فيها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وروى سعيد عن هشيم عن محمد بن عبد الله أن رجلا عض رجلا فانتزع يده من فيه فسقط بعض أسنان العاض فاختصما الى شريح فقال شريح : انزع يدك من في السبع وأبطل أسنانه وحكي عن مالك و ابن أبي ليلى : عليه الضمان لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ في السن خمس من الابل ]
ولنا ما روى يعلى بن أمية قال : [ كان لي أجير فقاتل انسانا فعض أحدهما يد الآخر قال : فانتزع المعضوض يده من في العاض فانتزع احدى ثنيتيه فأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأهدر ثنيته فحسبت أنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم أفيدع يده في فيك تقضمها قضم الفحل ؟ ] متفق عليه ولأنه عضو تلف ضرورة دفع شر صاحبه فلم يضمن كما لو صال عليه فلم يمكنه دفعه إلا بقطع عضوه وحديثهم يدل على دية السن إذا قلعت ظلما وهذه لم تقلع ظلما وسواء كان المعضوض ظالما أو مظلوما لأن العض محرم إلا أن يكون العض مباحا مثل أن يمسكه في موضع يتضرر بامساكه أو يعض يده ونحو ذلك مما لا يقدر على التخلص من ضرره إلا بعضه فيعضه فما سقط من أسنانه ضمنه لأنه عاد والعض مباح ولذلك لو عض أحدهما يد الآخر ولم يمكن المعضوض تخليص يده إلا بعضه فله عضه ويضمن الظالم منها ما تلف من المظلوم وما تلف من الظالم هدر وكذلك الحكم فيما إذا عضه في غير يده أو عمل به عملا غير العض أفضى الى تلف شيء من الفاعل لم يضمنه وقد روى محمد بن عبد الله أن غلاما أخذ قمعا من أقماع الزياتين فأدخله بين فخذي رجل ونفخ فيه فذعر الرجل من ذلك وخبط برجله فوقع على الغلام فكسر بعض أسنانه فاختصموا إلى شريح فقال شريح : لا أعقل الكلب الهرار قال القاضي : يخلص المعضوض يده بأسهل ما يمكن فان أمكنه فك لحييه بيده الأخرى فعل وإن لم يمكنه لكمه في فكه فان لم يمكنه جذب يده من فيه فان لم يخلص فله أن يعصر خصيتيه فان لم يمكنه فله أن يبعج بطنه وان أتى على نفسه والصحيح أن هذا الترتيب عير معتمد وله أن يجذب يده من فيه أولا لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يستفصل ولأنه لا يلزم ترك يده في فم العاض حتى يتحيل بهذه الأشياء المذكورة ولأن جذب يده مجرد تخليص ليده وما حصل من سقوط الأسنان حصل ضرورة التخليص الجائز ولكم فكه جناية غير التخليص وربما تضمنت التخليص وربما أتلفت الأسنان التي لم يحصل العض بها وكانت البداءة بجذب يده أولى وينبغي أنه متى أمكنه جذب يده فعدل الى لكم فكه فأتلف سنا ضمنه لإمكان التخلص بما هو أولى منه (10/349)
فصول : حكم من اطلع في بيت إنسان فرماه بحصاة
فصل : ومن اطلع في بيت إنسان من ثقب أو شق باب أو نحوه فرماه صاحب البيت بحصاة أو طعنه بعود فقلع عينه لم يضمنها وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يضمنها لأنه لو دخل منزله ونظر فيه أو نال من امرأته ما دون الفرج لم يجز قلع عينه فمجرد النظر أولى
ولنا ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح ] و [ عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في حجر من باب النبي صلى الله عليه و سلم ورسول الله صلى الله عليه و سلم يحك رأسه بمدرى في يده فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لو علمت أنك تنظرني لطمت أو لطعنت بها في عينك ] متفق عليهما ويفارق ما قاسوا عليه لأن من دخل المنزل يعلم به فيستتر منه بخلاف الناظر من ثقب فانه يرى من غير علم به ثم الخبر أولى من القياس وظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر في هذا أنه لا يمكنه دفعه إلا بذلك لظاهر الخبر وقال ابن حامد : يدفعه بأسهل ما يمكنه دفعه به فيقول له أولا : انصرف فان لم يفعل أشار اليه يوهمه أنه يحذفه فان لم ينصرف فله حذفه حينئذ واتباع السنة أولى
فصل : فأما ان ترك الاطلاع ومضى لم يجز رميه لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يطعن الذي اطلع ثم انصرف ولأنه ترك الجناية فأشبه من عض ثم ترك العض لم يجز قلع أسنانه وسواء كان المطلع منه صغيرا كثقب أو شق أو واسعا كثقب كبير وذكر بعض اصحابنا أن الباب المفتوح كذلك والأولى أنه لا يجوز حذف من نظر من باب مفتوح لأن التفريط من تارك الباب مفتوحا والظاهر أن من ترك بابه مفتوحا أنه يستتر لعلمه أن الناس ينظرون منه ويعلم بالناظر فيه والواقف عليه فلم يجز رميه كداخل الدار وان اطلع فرماه صاحب الدار فقال المطلع : ما تعمدت الاطلاع لم يضمنه على ظاهر كلام أحمد لأن الاطلاع قد وجد والرامي لا يعلم ما في قلبه وعلى قول ابن حامد يضمنه لأنه لم يدفعه بما هو أسهل وكذلك لو قال : لم أر شيئا حين اطلعت وان كان المطلع أعمى لم يجز رميه لأنه لا يرى شيئا ولو كان إنسان عريانا في طريق لم يكن له رمي من نظر إليه لأنه المفرط وإن كان المطلع في الدار من محارم النساء اللائي فيها فقال بعض أصحابنا : ليس لصاحب الدار رميه إلا أن يكن متجردات فيصرن كالأجانب وظاهر الخبر أن لصاحب الدار رميه سواء كان فيها نساء أو لم يكن لأنه لم يذكر أنه كان في الدار التي اطلع فيها على النبي صلى الله عليه و سلم نساء وقوله : [ لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته ] عام في الدار التي فيها نساء و غيرها
فصل : وليس لصاحب الدار رمي الناظر بما يقتله ابتداء فإن رماه بحجر يقتله أو حديدة ثقيلة ضمنه بالقصاص لأنه إنما له ما يقلع به العين المبصرة التي حصل الأذى منها دون ما يتعدى إلى غيرها فإن لم يندفع المطلع برميه بالشيء اليسير جاز رميه بأكثر منه حتى يأتي ذلك على نفسه وسواء كان الناظر في الطريق أو ملك نفسه أو غير ذلك (10/350)
مسألة : وفصل : ما أفسدت البهائم في الليل فهو مضمون على أهلها
مسألة : قال : وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها وما أفسدت من ذلك نهارا لم يضمنوه
يعني إذا لم تكن يد أحد عليها فان كان صاحبها معها أو غيره فعلى من يده عليها ضمان ما أتلفته من نفس أو مال ونذكر ذلك في المسألة التي تلي هذه وإن لم تكن يد أحد عليها فعلى مالكها ضمان ما أفسدته من الزرع ليلا دون النهار وهذا قول مالك و الشافعي وأكثر فقهاء الحجاز فقال الليث : يضمن مالكها ما أفسدته ليلا ونهارا بأقل الأمرين من قيمتها أو قدر ما أتلفته كالعبد إذا جنى وقال أبو حنيفة : لا ضمان عليه بحال لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العجماء جرحها جبار ] يعني هدرا ولأنها أفسدت وليست يده عليها فلم يلزمه الضمان كما لو كان نهارا أو كما لو أتلفت غير الزرع
ولنا ما روى مالك عن الزهري [ عن حزام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم : أن على أهل الاموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم ] قال ابن عبد البر : ان كان هذا مرسلا فهو مشهور حدث به الأئمة الثقات وتلقاه فقهاء الحجاء بالقبول ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها في النهار للرعي وحفظها ليلا وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا دون الليل فاذا ذهبت ليلا كان التفريط من أهلها لتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ وان أتلفت نهارا كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم وقد فرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى على كل انسان بالحفظ في وقت عادته وأما غير الزرع فلا يضمن لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة فلا يحتاج إلى حفظها بخلاف الزرع
فصل : قال بعض أصحابنا : إنما يضمن مالكها ما أتلفته ليلا إذا كان التفريط منه بارسالها ليلا أو ارسلها نهارا ولم يضمنها ليلا أو ضمنها بحيث يمكنها الخروج أما إذا ضمنها فأخرجها غيره بغير إذنه أو فتح عليها بابها فالضمان على مخرجها أو فاتح بابها لأنه متلف قال القاضي : هذه المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعي أما القرى العامرة التي لا مرعى فيها إلا بين قراحين كساقية وطريق وطرف زرع فليس لصاحبها ارسالها بغير حافظ عن الزرع فان فعله فعليه الضمان لتفريطه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي (10/351)
فصل : حكم ما لو أتلفت البهيمة غير الزرع
فصل : وإن أتلفت البهيمة غير الزرع لم يضمن مالكها ما أتلفته ليلا كان أو نهارا ما لم تكن يده عليها وحكي عن شريح أنه قضى في شاة وقعت في غزل حائك ليلا بالضمان على صاحبها وقرأ شريح : { إذ نفشت فيه غنم القوم } قال : والنفش لا يكون إلا بالليل وعن الثوري يضمن وإن كان نهارا لأنه مفرط بارسالها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العجماء جرحها جبار ] متفق عليه أي هدر وأما الآية فان النفش هو الرعي بالليل فكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم طبعا بالرعي وتدعوها نفسها الى أكله بخلاف غيره فلا يصح قياس غيره عليه (10/352)
فصل : حكم من اقتنى كلبا عقورا فأطلقهة فعقر إنسانا أو دابة
فصل : ومن اقتنى كلبا عقورا فأطلقه فعقر انسانا أو دابة ليلا أو نهارا أو خرق ثوب انسان فعلى صاحبه ضمان ما أتلفه لأنه مفرط باقتنائه إلا أن يدخل إنسان داره بغير إذنه فلا ضمان فيه لأنه معتد بالدخول متسبب بعدوانه الى عقر الكلب له وان دخل باذن المالك فعليه ضمانه لأنه تسبب الى إتلافه وإن أتلف الكلب بغير العقر مثل ان ولغ في اناء انسان أو بال لم يضمنه مقتنيه لأن هذا لا يختص به الكلب العقور قال القاضي : وان اقتنى سنورا يأكل أفراخ الناس ضمن ما أتلفه كما يضمن ما أتلفه الكلب العقور ولا فرق بين الليل والنهار وان لم يكن له عادة بذلك لم يضمن صاحبه جنايته كالكلب إذا لم يكن عقورا ولو ان الكلب العقور أو السنور حصل عند انسان من غير اقتنائه ولا اختياره فافسد لم يضمنه لأنه لم يحصل الاتلاف بسببه (10/352)
فصل : خكممن اقتنى حماما وغيره من الطير فألقه نهارا فلقط حبا
فصل : وان اقتنى حماما أو غيره من الطير فأرسله نهارا فلقط حبا لم يضمنه لأنه كالبهيمة والعادة إرساله (10/352)
فصول ومسائل : في جناية الدواب
مسألة : قال : وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال وكذلك إن قادها أو ساقها
وهذا قول شريح و أبي حنيفة و الشافعي وقال مالك : لا ضمان عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ العجماء جرحها جبار ] ولأنه جناية بهيمة فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرجل جبار ] رواه سعيد باسناده عن هزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه و سلم وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم وتخصيص الرجل بكونه جبارا دليل على وجوب الضمان في جناية غيرها ولأنه يمكنه حفظها عن الجناية إذا كان راكبها أو يده عليها بخلاف من لا يد له عليها وحديثه محمول على من لا يد له عليها
مسألة : قال : وما جنت برجلها فلا ضمان عليه
وبهذا قال ابو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أنه يضمنها وهو قول شريح و الشافعي لأنه من جناية بهيمة يده عليها فيضمنها كجناية يده
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرجل جبار ] ولأنه لا يمكنه حفظ رجلها عن الجناية فلم يضمنها كما لو لم تكن يده عليها فأما إن كانت جنايتها بفعله مثل أن كبحها بلجامها أو ضربها في وجهها ونحو ذلك ضمن جناية رجلها لأنه السبب في جنايتها فكان ضمانها عليه ولو كان السبب في جنايتها غيره مثل أن نخسها أو نفرها فالضمان على من فعل ذلك دون راكبها أو سائقها أو قائدها لأن ذلك هو السبب في جنايتها
فصل : فان كان على الدابة راكبان فالضمان على الأول منهما لأنه المتصرف فيها القادر على كفها إلا أن يكون الأول منهما صغيرا أو مريضا أو نحوهما ويكون الثاني المتولي لتدبيرها فيكون الضمان عليه وإن كان مع الدابة قائد ووسائق فالضمان عليهما لأن كل واحد لو انفرد ضمن فاذا اجتمعا ضمنا وان كان معهما أو مع أحدهما راكب ففيه وجهان : أحدهما الضمان عليهم جميعا لذلك والثاني على الراكب لأنه أقوى يدا وتصرفا ويحتمل أن يكون على القائد لأنه لا حكم للراكب مع القائد
فصل : والجمل المقطور على الجمل الذي عليه راكب يضمن جنايته لأنه في حكم القائد فأما الجمل المقطور على الجمل الثاني فينبغي أن لا تضمن جنايته إلا أن يكون له سائق لان الراكب الأول لا يمكنه حفظه عن الجناية ولو كان مع الدابة ولدها لم تضمن جنايته لأنه لا يمكنه حفظه
فصل وان وقفت الدابة في طريق ضيق ضمن ما جنت بيد أو رجل أو فم لانه متعد بوقفها فيه وان كان الطريق واسعا ففيه روايتان :
إحداهما : يضمن وهو مذهب الشافعي لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة وكذلك لو ترك في الطريق طينا فزلق به إنسان ضمنه
والثانية : لا يضمن لأنه متعد بوقفها في الطريق الواسع فلم يضمن كما لو وقفها في موات وفارق الطين لأنه متعد بتركه في الطريق
مسألة : قال : واذا اصطدم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر
وجملته أن على كل واحد من المصطدمين ضمان ماتلف من الآخر من نفس أو دابة أو مال سواء كانت الدابتان فرسين أو بغلين أو حمارين أو جملين أو كان أحدهما فرسا والآخر غيره سواء كانا مقبلين أو مدبرين ويهذا قال أبو حنيفة وصاحباه و اسحاق وقال مالك و الشافعي : على كل واحد منهما نصف قيمة ما تلف من الآخر لأن التلف حصل بفعلهما فكان الضمان منقسما عليهما كما لو جرح إنسان حقه وجرحه غيره فمات منهما
ولنا أن كل واحد منهما مات من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة إذا ثبت هذا فإن قيمة الدابتين إن تساوتا تقاصا وسقطتا وان كانت إحداهما أكثر من الاخرى فلصاحبها الزيادة وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها وان نقصت فعليه نقصها
فصل : فان كان أحدهما يسير بين يدي الآخر فأدركه الثاني فصدمه فماتت الدابتان أو إحداهما فالضمان على اللاحق لأنه الصادم والآخر مصدوم فهو بمنزلة الواقف
مسألة : قال : وان كان أحدهما يسير والآخر واقفا فعلى السائر قيمة دابة الواقف
نص أحمد على هذا لأن السائر هو الصادم المتلف فكان الضمان عليه وان مات هو أو دابته فهو هدر لأنه أتلف نفسه ودابته وان انحرف الواقف فصادفت الصدمة انحرافه فهما كالسائرين لأن التلف حصل من فعلهما وان كان الواقف متعديا بوقوفه مثل أن يقف في طريق ضيق فالضمان عليه دون السائر لان التلف حصل بتعديه فكان الضمان عليه كما لو وضع حجرا في الطريق أو جلس في طريق ضيق فعثر به انسان
مسألة : قال : وان تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر
روي هذا عن علي رضي الله عنه والخلاف ههنا في الضمان كالخلاف فيما إذا اصطدم الفارسان إلا أنه لا تقاص ههنا في الضمان لأنه على غير من له الحق لكون الضمان على عاقلة كل واحد منهما وان اتفق أن يكون الضمان على من له الحق مثل أن تكون العاقلة هي الوارثة أو يكون الضمان على المتصا دمين تقاصا ولا يجب القصاص سواء كان اصطدامهما عمدا أو خطأ لأن الصدمة لا تقتل غالبا فالقتل الحاصل بها مع العمد عمد الخطأ ولا فرق بين البصيرين والاعميين والبصير والاعمى فان كانتا امرأتين حاملتين فهما كالرجلين فان أسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها لأنهما اشتركتا في قتله وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب واحدة لقتل صاحبتها واثنتان لمشاركتها في الجنين وإن أسقطت إحداهما دون الأخرى اشتركتا في ضمانه وعلى كل واحدة عتق رقبتين وإن أسقطتا معا ولم تمت المرأتان ففي مال كل واحدة ضمان نصف الجنينين بغرة إذا سقطا ميتين وعتق رقبتين وان اصطدم راكب وماش فهو كما لو كانا ماشيين وإن اصطدم راكبان فماتا فهو كما لو كانا ماشيين
فصل : وإن اصطدم عبدان فماتا هدرت قيمتهما لأن قيمة كل واحد منهما تعلقت برقبة الآخر فسقطت بتلفه وإن مات أحدهما تعلقت قيمته برقبة الحي فان هلك قبل استيفاء القيمة سقطت لفوات محلها وإن تصادم حر وعبد فماتا تعلقت دية الحر برقبة العبد ثم انتقلت إلى قيمة العبد ووجبت قيمة العبد في تركة الحر فيتقاصان فإن كانت دية الحر أكثر من قيمة العبد سقطت الزيادة لأنها لا متعلق لها وإن كانت قيمة العبد أكثر أخذ الفضل من تركة الجاني وفي مال الحر عتق رقبة ولا شيء على العبد لأن تكفيره بالصوم فيفوت بفواته وإن مات العبد وحده فقيمته في ذمة الحر لأن العاقلة لا تحمل العبد وإن مات الحر وحده تعلقت ديته برقبة العبد وعليه صيام شهرين متتابعين وإن مات العبد قبل استيفاء الدية سقطت وإن قتله أجنبي فعليه قيمته ويتحول ما كان متعلقا برقبته الى قيمته لأنها بدله وقائمة مقامه وتستوفى ممن وجبت عليه (10/353)
مسألة وفصول : في جنايات السفن
مسألة : قال : وإذا وقعت السفينة المنحدرة على المصاعدة فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة المصاعدة أو ارش ما نقصت إن أخرجت إلا أن يكون قيم المنحدرة غلبته الريح فلم يقدر على ضبطها
وجملته أن السفينتين إذا اصطدمتا لم تخلوا من حالين : أحدهما أن تكونا متساويتين كاللتين في بحر أو ماء واقف أو كانت إحداهما منحدرة والاخرى مصاعدة فنبدأ بما اذا كانت احداهما منحدرة والاخرى مصاعدة لانها مسألة الكتاب ولا يخلو من حالين :
أحدهما : أن يكون القيم بها مفرطا بأن يكون قادرا على ضبطها أو ردها عن الأخرى فلم يفعل أو أمكنه أن يعدلها الى ناحية أخرى فلم يفعل أو لم يكمل آلتها من الحبال والرجال وغيرهما فعلى المنحدر ضمان المصاعدة لأنها تنحط عليها من علو فيكون ذلك سببا لغرقها فتنزل المنحدرة بمنزلة السائر والمصاعدة بمنزلة الواقف وإن غرقتا جميعا فلا شيء على المصعد وعلى المنحدر قيمة المصعد أو أرش ما نقصت إن لم تتلف كلها إلا أن يكون التفريط من المصعد بأن يمكنه العدول بسفينته والمنحدر غير قادر ولا مفرط فيكون الضمان على المصعد لأنه المفرط وإن لم يكن من واحد منهما تفريط لكن هاجت ريح أو كان الماء شديد الجرية فلم يمكنه ضبطها فلا ضمان عليه لأنه لا يدخل في وسعه ضبطها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها
الحال الثاني : أن يكونا متساويتين فان كان القيمان مفرطين ضمن كل واحد منهما سفينة الآخر بما فيها من نفس ومال كما قلنا في الفارسين يصطدمان وإن لم يكونا مفرطين فلا ضمان عليهما و للشافعي في حال عدم التفريط قولان : أحدهما عليهما الضمان لأنهما في أيديهما فلزمهما الضمان كما لو اصطدم الفارسان لغلبة الفرسين لهما
ولنا أن الملاحين لا يسيران السفينتين بفعلهما ولا يمكنهما ضبطهما في الغالب ولا الاحتزاز من ذلك فأشبه ما لو نزلت صاعقة أحرقت السفينة ويخالف الفرسين فانه ممكن ضبطهما والاحتزاز من طردهما وإن كان أحدهما مفرطا وحده فعليه الضمان وحده فإن اختلفا في تفريط القيم فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم التفريط وهو أمين فهو كالمودع وعند الشافعي أنهما إذا كان مفرطين فعلى كل واحد من القيمين ضمان نصف سفينته ونصف سفينة صاحبه كقوله الفارسين على ما مضى
فصل : فان كان القيمان مالكين للسفينتين بما فيهما تقاصا وأخذ ذو الفضل فضله وإن كانا أجيرين ضمنا ولا تقاص ههنا لان من يجب له غير من يجب عليه وإن كان في السفينتين أحرار فهلكوا وكانا قد تعمدا المصادمة وذلك مما يقتل غالبا فعليهما القصاص وإن كانوا عبيدا فلا ضمان على القيمين إذا كان حرين وإن لم يتعمدا المصادمة أو كان ذلك مما لا يقتل غالبا وجبت دية الأحرار على عاقلة القيمين وقيمة العبيد في أموالهما وإن كان القيمان عبدين تعلق الضمان برقبتهما فإن تلفا جيعا سقط الضمان وأما مع عدم التفريط فلا ضمان على أحد وإن كان في السفينتين ودائع ومضاربات لم تضمن لأن الأمين لا يضمن ما لم يوجد منه تفريط أو عدوان وإن كانت السفينتان بأجرة فهما أمانة أيضا لا ضمان فيهما وإن كان فيهما مال يحملانه بأجرة إلى بلد أخر فلا ضمان لأن الهلاك بأمر غير مستطاع
فصل : وان كانت احدى السفينتين قائمة والاخرى سائرة فلا ضمان على الواقفة وعلى السائرة ضمان الواقفة ان كان مفرطا ولا ضمان عليه ان لم يفرط على ما قدمنا
فصل : وان خيف على السفينة الغرق فألقى بعض الركبان متاعه لتخف وتسلم من الغرق لم يضمنه أحد لأنه أتلف متاع نفسه باختياره لصلاحه وصلاح غيره وإن ألقى متاع غيره بغير أمره ضمنه وحده وإن قال لغيره : ألق متاعك فقبل منه لم يضمنه له لأنه لم يلتزم ضمانه وإن قال : ألقه وأنا ضامن له أو وعلي قيمته لزمه ضمانه له لأنه أتلف ماله بعوض لمصلحة فوجب له العوض على من التزمه كما لو قال : أعتق عبدك وعلي ثمنه وإن قال : ألقه وعلي وعلي ركبان السفينة ضمانه فألقاه : ففيه وجهان :
أحدهما : يلزمه ضمان نفسه وهذا نص الشافعي وهو الذي ذكره أبو بكر لأنه التزم ضمانه جميعه فلزمه ما التزمه وقال القاضي : ان كان ضمان اشتراك مثل أن يقول : نحن نضمن لك أو قال : على كل واحد منا ضمان قسطه أو ربع متاعك لم يلزمه إلا ما يخصه من الضمان وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنه لم يضمن إلا حصته وانما اخبر عن الباقين بالضمان فسكتوا وسكوتهم ليس بضمان وإن التزم ضمان الجميع وأخبر عن كل واحد منهم بمثل ذلك لزمه ضمان الكل وإن قال : ألقه على أن اضمنه لك أنا وركبان السفينة فقد أذنوا لي في ذلك فألقاه ثم أنكروا الإذن فهو ضامن لجميعه وإن قال : ألقي متاعي وتضمنه لي ؟ فقال : نعم فألقاه ضمنه له وإن قال : ألق متاعك وعلي ضمان نصفه وعلى أخي ضمان ما بقي فألقاه فعليه ضمان النصف وحده ولا شيء على الآخر لأنه لم يضمن
فصل : وإذا خرق سفينة فغرقت بما فيها وكان عمدا وهو مما يغرقها غالبا ويهلك من فيها لكونهم في اللجة أو لعدم معرفتهم بالسباحة فعليه القصاص ان قتل من يجب القصاص بقتله وعليه ضمان السفينة بما فيها من مال ونفس وإن كان خطأ فعليه ضمان العبيد ودية الاحرار على عاقلته وإن كان عمد خطأ مثل أن يأخذ السفينة ليصلح موضعا فقلع لوحا أو يصلح مسمارا فنقب موضعا فهذا عمد الخطأ وذكره القاضي وهو مذهب الشافعي والصحيح أن هذا خطأ محض لأنه قصد فعلا مباحا فأفضى الى التلف لما لم يرده فأشبه ما لو رمى صيدا فأصاب آدميا ولكن إن قصد قلع اللوح في موضع الغالب أنه لا يتلفها فأتلفها فهو عمد الخطأ وفيه ما فيه والله أعلم (10/355)
كتاب الجهاد
روى أبو هريرة رضي الله عليه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسولي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة ] متفق عليه ولمسلم : [ مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم ] وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ] رواه البخاري (10/359)
مسألة : الجهاد فرض على الكفاية
مسألة : قال : والجهاد فرض على الكفاية اذا قام به قوم سقط عن الباقين
معنى فرض الكفاية الذي إن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم وإن قام به من يكفي سقط عن سائر الناس فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الاعيان ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له وفرض الاعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره والجهاد من فروض الاعيان لقول الله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } ثم قال : { إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما } وقوله سبحانه : { كتب عليكم القتال } وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ]
ولنا قول الله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى } وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم وقال الله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا } ولأن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يبعث السرايا ويقيم وهو وسائر أصحابه فأما الآية التي احتجوا بها فقد قال ابن عباس : نسخها قوله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } رواه الأثرم و أبو داود ويحتمل أن أراد حين استنفرهم النبي صلى الله عليه و سلم إلى غزوة تبوك وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم ولذلك هجر النبي صلى الله عليه و سلم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم بعد ذلك وكذلك يجب على من استنفره الإمام لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ وإذا استنفرتم فانفروا ] متفق عليه ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم (10/359)
فصل : يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع
فصل : ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع :
احدها : إذا التقا الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا } وقوله : { واصبروا إن الله مع الصابرين } وقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله }
الثاني : إذا نزل الكفر ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم
الثالث : إذا استنفر الامام قوما لزمهم النفي معه لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } الآية والتي بعدها وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا استنفرتم فانفروا ] (10/361)
فصل : يشترط لوجود الجهاد سبعة شروط
فصل : ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط : الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة فأما الاسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع ولأن الكافر غير مأمون في الجهاد والمجنون لا يؤتى منه الجهاد والصبي ضعيف البنية [ وقد روى ابن عمر قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة ] متفق عليه وأما الحرية فتشترط لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد ولأن الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج وأما الذكورية فتشترط [ لما روت عائشة قالت : قلت : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ فقال : جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ] ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها ولذلك لا يسهم لها ولا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه ذكرا فلا يجب مع الشك في شرطه وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض وهو شرط لقول الله تعالى : { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } ولأن هذه الأعذار تمنعه من الجهاد فأما العمى فمعروف وأما العرج فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب كالزمانة ونحوها وأما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي وإنما يتعذر عليه شدة العدو فلا يمنع وجوب الجهاد لأنه ممكن منه فشابه الأعور وكذلك المرض المانع هو الشديد فأما اليسير منه الذي لا يمنع إمكان الجهاد كوجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب لأنه لا يتعذر معه الجهاد فهو كالعور وأما وجود النفقة فيشترط لقول الله تعالى : { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } ولأن الجهاد لا يمكن الا بآله فيعتبر القدرة عليها فإن كان الجهاد على مسافة لا تقصر فيها الصلاة اشترط أن يكون واجدا للزاد ونفقة عائلته في مدة غيبته وسلاح يقاتل به ولا تعتبر الراحلة لأنه سفر قريب وإن كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك الراحلة لقول الله تعالى : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون } (10/361)
فصل : وأقل ما يفعل مرة في كل عام
فصل : وأقل ما يفعل مرة في كل عام لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام وهي بدل عن النصرة فكذلك مبدلها وهو الجهاد فيجب في كل عام مرة إلا من عذر مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدة أو يكون ينتظر المدد يستعين به أو يكون الطريق إليهم فيها مانع أو ليس فيها علف أو ماء أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الاسلام فيطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال فيجوز تركه بهدنة فان النبي صلى الله عليه و سلم قد صالح قريشا عشر سنين وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده وأخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة وإن دعت الحاجة الى القتال في عام اكثر من مرة وجب ذلك لأنه فرض كفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه (10/362)
مسألة : لا شيء بعد الفرائض أفضل من الجهاد
مسألة : قال : قال أبو عبد الله : لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد
روى هذه المسألة عن أحمد جماعة من أصحابه قال الأثرم : قال أحمد : لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل وقال الفضل بن زياد : سمعت أبا عبد الله وذكر له أمر العدو فجعل يبكي ويقول : ما من أعمال البر أفضل منه وقال عنه غيره : ليس يعدل لقاء العدو شيء ومباشرة القتال بنفسه أفضل الأعمال والذين يقاتلون العدو هم الذين يدفعون عن الإسلام وعن حريمهم فأي عمل أفضل منه ؟ الناس آمنون وهم خائفون قد بذلوا مهج أنفسهم وقد [ روى ابن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الصلاة لمواقيتها قلت : ثم أي ؟ قال : ثم بر الوالدين قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : [ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي الأعمال أفضل ؟ أو أي الأعمال خير ؟ قال : ايمان بالله ورسوله قيل : ثم أي شيء ؟ قال : الجهاد سنام العمل قيل : ثم أي ؟ قال : حج مبرور ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وروى أبو سعيد الخدري قال : [ قيل : يا رسول الله أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ] متفق عليه وعن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ألا أخبركم بخير الناس ؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ] قال الترمذي : هذا حديث حسن وروى الخلال باسناه عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده ما بين السماء والارض من عمل افضل من جهاد في سبيل الله أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال ] ولأن الجهاد بذل المهجة والمال ونفعه يعم المسلمين كلهم صغيرهم وكبيرهم قويهم وضعيفهم ذكرهم وأنثاهم وغيره لا يساويه في نفعه وخطره فلا يساويه في فضله وأجره (10/362)
مسألة : غزو البحر أفضل من غزو البر
مسألة : قال : وغزو البحر أفضل من غزو البر
وجملته أن الغزو في البحر مشروع وفضله كثير [ قال أنس بن مالك : نام رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم استيقظ وهو يضحك قالت أم حرام : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الاسرة - او - مثل الملوك على الاسرة ] متفق عليه قال ابن عبد البر : أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم خالة رسول الله صلى الله عليه و سلم من الرضاعة أرضعته أخت لهما ثالثة ولم نر هذا عن أحد سواه وأظنه إنما قال هذا لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينام في بيتها وينظر الى شعرها ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب وروى أبو داود باسناده [ عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر شهيدين ] وروى ابن ماجة قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وان الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهيد البحر فانه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين ] ولأن البحر أعظم خطرا ومشقة فإنه بين العدو وخطر الغرق ولا يتمكن من الفرار إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره (10/364)
فصل : قتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم
فصل : وقتال أهل الكتاب أفضل من قتال غيرهم وكان ابن مبارك يأتي من مرو لغزو الروم فقيل له في ذلك فقال : إن هؤلاء يقاتلون على دين [ وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لأم خلاد : ان ابنك له أجر شهيدين قالت : ولم ذاك يا رسول الله ؟ قال : لأنه قتله أهل الكتاب ] رواه أبو داود (10/365)
مسألة : يغزى مع كل بر وفاجر
مسألة : قال : ويغزى مع كل بر وفاجر
يعني مع كل إمام قال ابو عبد الله وسئل عن الرجل يقول : انا لا أغزو ويأخذه ولد العباس إنما يوفر الفيء عليهم فقال : سبحان الله هؤلاء قوم سوء هؤلاء القعدة مثبون جهال فيقال : أرأيتم لو أن الناس كلهم قعدوا كما قعدتم من كان يغزو ؟ أليس كان قد ذهب الاسلام ؟ ما كانت تصنع الروم وقد روى أبو داود باسناده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الجهاد واجب عليكم مع كل امير برا كان او فاجرا ] وباسناده عن انس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ثلاث من أصل الإيمان : الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الاسلام بعمل والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال والإيمان بالأقدار ] ولأن ترك الجهاد مع الفاجر يفضي إلى قطع الجهاد وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وظهور كلمة الكفر وفيه فساد عظيم قال الله تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } (10/365)
فصل : ويغزى مع من له شفقة وحيطة على المسلمين
فصل : قال أحمد : لا يعجبني أن يخرج مع الامام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين وإنما يغزو مع من له شفقة وحيطة على المسلمين فان كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه إنما ذلك في نفسه ويروى عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ] (10/366)
فصل : لا يستصحب الأمير معه مخذلا
فصل : ولا يستصحب الامير معه مخذلا وهو الذي يثبط الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج اليه والقتال والجهاد مثل أن يقول : الحر أو البرد شديد والمشقة شديدة ولا تؤمن هزيمة هذا الجيش وأشباه هذا ولا مرجفا وهو الذي يقول : قد هلكت سرية المسلمين ومالهم مدد ولا طاقة لهم بالكفار والكفار لهم قوة ومدد و صبر ولا يثبت لهم أحد ونحو هذا ولا من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار واطلاعهم على عورات المسلمين ومكاتبتهم بأخبارهم ودلالتهم على عوراتهم أو إيواء جواسيسهم ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بالفساد لقول الله تعالى : { ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } ولأن هؤلاء مضرة على المسلمين فيلزمه منعهم وإن خرج معه أحد هؤلاء لم يسهم له ولم يرضخ وإن أظهر عون المسلمين لأنه يحتمل ان يكون أظهره نفاقا وقد ظهر دليله فيكون مجرد ضرر فلا يستحق مما غنموا شيئا وإن كان الأمير أحد هؤلاء لم يستحب الخروج معه لأنه إذا منع خروجه تبعا فمتبوعا أولى ولأنه لا تؤمن المضرة على من صحبه (10/366)
مسألة : يقاتل كل قوم من يليهم من العدو
مسألة : قال : ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو
الأصل في هذا قول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } ولأن الأقرب أكثر ضررا وفي قتاله دفع ضرره عن المقابل له وعمن وراءه والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه قيل لأحمد : يحكون عن ابن المبارك أنه قيل له : تركت قتال العدو عندك وجئت الى ههنا ؟ قال : هؤلاء أهل الكتاب فقال أبو عبد الله : ما أدري ما هذا القول ؟ يترك العدو عنده ويجيء إلى ههنا أفيكون هذا ؟ أو يستقيم هذا ؟ وقد قال الله تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } لو أن أهل خراسان كلهم عملوا على هذا لم يجاهد الترك أحد وهذا والله أعلم إنما فعله ابن المبارك لكونه متبرعا بالجهاد والكفاية حاصلة بغيره من أهل الديوان وأجناد المسلمين والمتبرع له ترك الجهاد بالكلية فكان له أن يجاهد حيث شاء ومع من شاء
إذا ثبت هذا فان كان له عذر في البداية بالأبعد لكونه أخوف أو لمصلحة في البداية به لقربه وامكان الفرصة منه أو لكون الأقرب مهادنا أو يمنع من قتاله مانع فلا بأس بالبداية بالأبعد لكونه موضع حاجة (10/368)
فصل : أمر الجهاد موكول إلى الإمام واجتهاده
فصل : وأمر الجهاد موكول إلى الامام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك وينبغي أن يبتدىء بترتيب قوم في أطراف البلاد يكفون من بازائهم من المشركين ويأمر بعمل حصونهم وحفر خنادقهم وجميع مصالحهم ويؤمر في كل ناحية أميرا يقلده أمر الحروب وتدبير الجهاد ويكون ممن له رأي وعقل ونجدة وبصر بالحرب ومكايدة العدو ويكون فيه أمانة ورفق ونصح للمسلمين وانما يبدأ بذلك لأنه لا يأمن عليها من المشركين ويغزو كل قوم من يليهم إلا أن يكون في بعض الجهات من لا يفي به من يليه فينقل إليه قوما من آخرين ويتقدم إلى من يؤمره أن لا يحمل المسلمين على مهلكة ولا يأمرهم بدخول مطمورة يخاف أن يقتلوا تحتها فإن فعل ذلك فقد أساء ويستغفر الله تعالى وليس عليه عقل ولا كفارة إذا أصيب واحد منهم بطاعته لأنه فعل ذلك باختياره ومعرفته فان عدم الامام لم يؤخر الجهاد لأن مصلحته تفوت بتأخيره وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب الشرع قال القاضي : ويؤخر قسمة الاماء حتى يظهر إمام احتياطا للفروج فان بعث الامام جيشا وأمر عليهم أميرا فقتل أو مات فللجيش أن يؤمروا أحدهم كما فعل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في جيش مؤتة لما قتل امراؤهم الذين أمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أمروا عليهم خالد بن الوليد فبلغ النبي صلى الله عليه و سلم فرضي أمرهم وصوب رأيهم وسمى خالدا يومئذ ( سيف الله ) (10/368)
فصل : قال عمر : وفروا الأظفار في أرض العدو فإنه سلاح
فصل : قال أحمد : قال عمر : وفروا الظفار في أرض العدو فانه سلاح قال أحمد : يحتاج إليها في أرض العدو ألا ترى أنه إذا أراد أن يحل الحبل أو الشيء فاذا لم يكن له أظفار لم يستطع وقال عن الحكم بن عمرو : أمرنا رسول الله صلى الله عليه سلم أن لا نحفي الأظفار في الجهاد فان القوة الاظفار (10/369)
فصل : يشيع الرجل إذا خرج ولا يتلقونه
فصل : قال أحمد : يشيع الرجل اذا خرج ولا يتلقونه شيع علي رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك ولم يتلقه
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه شيع يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام ويزيد راكب وأبو بكر رضي الله عنه يمشي فقال له يزيد : يا خليفة رسول الله إما أن تركب وإما أن انزل أنا فأمشي معك قال : لا أركب ولا تنزل انني احتسب خطاي هذه في سبيل الله وشيع أبو عبد الله ابا الحارث الصائغ ونعلاه في يديه وذهب الى فعل أبي بكر : أراد ان تغبر قدماه في سبيل الله وقال عن عوف بن مالك الخثعمي عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ] قال أحمد : ليس للخثعمي صحبة وهو قديم (10/369)
مسألة : تمام الرباط أربعون يوما
مسألة : قال : وتمام الرباط أربعون يوما
معنى الرباط الإقامة بالثغر مقويا للمسلمين على الكفار والثغر كل مكان يخيف أهله العدو ويخيفهم وأصل الرباط من رباط الخيل لأن هؤلاء يربطون خيولهم وهؤلاء يربطون خيولهم كل يعد لصاحبه فسمي المقام بالثغر رباطا وإن لم يكن فيه خيل وفضله عظيم وأجره كبير قال أحمد ليس يعدل الجهاد عندي والرباط شيء والرباط دفع عن المسلمين وعن حريمهم وقوة لأهل الثغر ولأهل الغزو فالرباط أصل الجهاد وفرعه والجهاد أفضل منه للعناء والتعب والمشقة
وقد روي في فضل الرباط أخبار منها ما روى سلمان قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ رباط ليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه فان مات جرى عليه عمله الذي يعمل واجري عليه رزقه وأمن الفتان ] رواه مسلم
وعن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله فانه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتان القبر ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال على المنبر : إني كنت كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن احدثكموه ليختار امرؤ منكم لنفسه سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ رباط يوم في سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل ] رواه أبو داود و الأثرم وغيرهما إذا ثبت هذا فان الرباط يقل ويكثر فكل مدة أقامها بنية الرباط فهو رباط قل أو كثر ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رباط يوم - ورباط ليلة ] قال أحمد : يوم رباط وليلة رباط وساعة رباط وقال عن أبي هريرة : ومن رابط يوما في سبيل الله كتب به أجر الصائم القائم ومن زاد زاده الله وروى سعيد بن منصور باسناده عن عطاء الخراساني عن أبي هريرة : رباط يوم في سبيل الله أحب إلي من أن أوافق ليلة القدر في أحد المسجدين : مسجد الحرام أو مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن رابط اربعين يوما فقد استكمل الرباط وتمام الرباط اربعون يوما روي ذلك عن أبي هريرة وابن عمر وقد ذكرنا خبر أبي هريرة وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب باسناده عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تمام الرباط اربعون يوما ] وروي عن نافع عن ابن عمر أنه قدم على عمر بن أبي الخطاب من الرباط فقال له : كم رابطت ؟ قال ثلاثين يوما قال : عزمت عليك الا رجعت حتى تتمها أربعين يوما وان رابط أكثر فله أجره كما قال أبو هريرة ومن زاد زاده الله (10/370)
فصل : أفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا
فصل : وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا لأنهم احوج ومقامه به أنفع قال أحمد : أفضل الرباط أشدهم كلبا وقيل لأبي عبد الله : فأين أحب إليك أن ينزل الرجل بأهله ؟ قال : كل مدينة معقل للمسلمين مثل دمشق وقال : أرض الشام أرض المحشر ودمشق موضع يجتمع إليه الناس إذا غلبت الروم قيل لأبي عبد الله : فهذه الأحاديث التي جاءت : [ ان لم تكفل لي بالشام ] ونحو هذا قال : ما أكثر ما جاء فيه وقيل له : إن هذا في الثغور فأنكره وقال : أرض القدس أين هي : ولا يزال أهل اغرب ظاهرين هم أهل الشام ففسر أحمد الغرب في هذا الحديث بالشام وهو حديث صحيح رواه مسلم وإنما فسره بذلك لأن الشام يسمى مغربا لأنه مغرب للعراق كما يسمى العراق مشرقا ولهذا قيل : ولأهل المشرق ذات عرق وقد جاء في حديث مصرحا به : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم بالشام ]
وفي الحديث عن مالك بن مخامر عن معاذ بن جبل قال : وهم بالشام رواه البخاري في صحيحه وفي خبر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تزال طائفة بدمشق ظاهرين ] أخرجه البخاري في التاريخ وقد رويت في الشام أخبار كثيرة منها [ حديث عبد الله بن حوالة الازدي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ستجندون أجنادا جندا بالشام وجندا بالعراق وجندا باليمن فقلت : خر لي يا رسول الله قال : عليك بالشام فانها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده فمن أبى فليلحق باليمن ويشق من غدره فان الله تكفل لي بالشام وأهله ] رواه أبو داود بمعناه وكان أبو إدريس إذا روى هذا الخبر قال : ومن تكفل الله به فلا ضيعة عليه
وروي عن الأوزاعي قال : أتيت بالمدينة فسألت من بها من العلماء ؟ فقيل : محمد بن المنكدر ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت : والله لأبدأن بهذا قبلهم فدخلت إليه فأخذ بيدي وقال : من أي اخواننا أنت ؟ قلت : من أهل الشام قال : من أيهم ؟ قلت : من أهل دمشق قال : حدثني أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ يكون للمسلمين ثلاث معاقل : فمعقلهم في الملحمة الكبرى التي تكون بعمق أنطاكية دمشق ومعقلهم من الدجال بيت المقدس ومعقلهم من يأجوج و مأجوج طور سيناء ] رواه أبو نعيم في الحلية وفي خبر آخر عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ان فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام ] أخرجه أبو داود وروى سعيد بن منصور في سننه باسناده عن أبي النضر [ أن عوف بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أوصني قال : عليك بجبل الخمر قال : وما جبل الخمر ؟ قال : ارض المحشر ] وباسناده [ عن عطاء الخراساني بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : رحم الله أهل المقبرة ثلاث مرات فسئل عن ذلك فقال : تلك مقبرة تكون بعسقلان فكان عطاء يرابط بها كل عام أربعين يوما حتى مات ] وروى الدار قطني في كتابه المخرج على الصحيحين باسناده عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله عليه و سلم صلى على مقبرة فقيل له : يا رسول الله أي مقبرة هي ؟ قال : مقبرة بأرض العدو ويقال لها عسقلان يفتتحها ناس من أمتي يبعث الله منها سبعين الف شهيد فيشفع الرجل في مثل ربيعة ومضر ولكل عروس وعروس الجنة عسقلان ] وباسناده عن ابن عباس رضي الله عنه [ أن رجلا اتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : اني أريد أن أغزو ؟ فقال : عليك بالشام وأهله ثم الزم من الشام عسقلان فانها إذا دارت الرحى في أمتي كان أهلها في راحة وعافية ] (10/371)
فصل : يكره نقل النساء والذرية إلى الثغور المخوفة
فصل : ومذهب أبي عبد الله كراهة نقل النساء والذرية الى الثغور المخوفة وهو قول الحسن و الأوزاعي لما روى يزيد بن عبد الله قال : قال عمر : لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر رواه الأثرم باسناده ولأن الثغور المخوفة لا يؤمن ظفر العدو بها وبمن فيها واستيلاؤهم على الذرية والنساء قيل لأبي عبد الله : فتخاف على المنتقل بعياله إلى الثغر الاثم ؟ قال : كيف لا أخاف الاثم وهو يعرض ذريته للمشركين ؟ وقال : كنت آمر بالتحول بالأهل والعيال الى الشام قبل اليوم فأنا أنهى عنه الآن لأن الأمر قد اقترب وقال : لا بد لهؤلاء القوم من يوم قيل : فذلك في آخر الزمان قال : فهذا في آخر الزمان قيل : [ فالنبي صلى الله عليه و سلم كان يقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها قال : هذا للواحدة ليس الذرية ] وهذا من كلام أحمد محمول على أن غير أهل الثغر لا يستحب لهم الانتقال بأهلهم إلى ثغر مخوف فأما أهل الثغر فلا بد لهم من السكنى بأهلهم لولا ذلك لخربت الثغور وتعطلت وخص الثغور المخوفة بدليل أنه اختار سكنى دمشق ونحوها مع كونها ثغرا لأن الغالب سلامتها وسلامة أهلها (10/374)
فصل : يستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم كلها
فصل : يستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم كلها ليكون أجمع لهم واذا حضر النفير صادفهم مجتمعين فيبلغ الخبر جميعهم وان جاء خبر يحتاجون الى سماعه أو أمر يراد إعلامهم به يعلمونه ويراهم عين الكفار فيعلم كثرتهم فيخوف بهم قال أحمد : إن كانوا متفرقين يرى الجاسوس قلتهم قال : وبلغني عن الأوزاعي أنه قال في المساجد التي بالثغر : لو أن لي عليها ولاية لسمرت أبوابها ولم يقل لخربتها حتى تكون صلاتهم في موضع واحد حتى إذا جاء النفير وهم متفرقون لم يكونوا مثلهم إذا كانوا في موضع واحد (10/374)
فصل : في الحرس في سبيل الله فضل كبير
فصل : وفي الحرس في سبيل الله فضل كبير قال ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رحم الله حارس الحرس ] و [ عن سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فاطنبوا السير حتى كان عشية قال : من يحرسنا الليلة ؟ قال أنس بن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله قال : فاركب فركب فرسا له وجاء الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له : استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة فلما أصبحنا جاء رسول الله صلى الله عليه و سلم الى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : هل أحسستم فارسلكم الليلة ؟ قالوا : لا فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاته وسلم قال : أبشروا قد جاءكم فارسكم فاذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل نزلت الليلة ؟ قال : لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها ] رواه أبو داود وعن عثمان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف قيام ليلها وصيام نهارها ] رواه ابن سنجر (10/375)
مسألة : إذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما
مسألة : قال : وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا باذنهما
روي نحو هذا عن عمر وعثمان وبه قال مالك و الأوزاعي و الثوري و الشافعي وسائر أهل العلم وقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : [ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله أجاهد ؟ فقال : ألك أبوان ؟ قال : نعم قال : ففيهما فجاهد ] وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح [ وفي رواية فقال : جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان قال : ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما ] وعن أبي سعيد [ أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : هل لك باليمن أحد ؟ قال : نعم أبواي قال : أذنا لك ؟ قال : لا قال : فارجع فاستأذنهما فان أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ] رواهن أبو داود ولأن بر الوالدين فرض عين والجهاد فرض كفاية وفرض العين يقدم فأما إن كان أبواه غير مسلمين فلا اذن لهما وبذلك قال الشافعي وقال الثوري : لا يغزو إلا باذنهما لعموم الأخبار
ولنا أن أصحاب رسول الله صى الله عليه وسلم كانوا يجاهدون وفيهم من له أبوان كافران من غير استئذانهما منهم أبو بكر الصديق وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم بدر وأبوه رئيس المشركين يومئذ قتل ببدر وأبو عبيدة قتل أباه في الجهاد فأنزل الله تعالى : { لا تجد قوما } الآية وعموم الأخبار مخصص بما رويناه فأما إن كان أبواه رقيقين فعموم كلام الخرقي يقتضي وجوب استئذانهما لعموم الأخبار ولأنهما أبوان مسلمان فأشبها الحرين ويحتمل أن لا يعتبر اذنهما لأنه لا ولاية لهما وإن كانا مجنونين فلا إذن لهما لأنه لا يمكن استئذانهما (10/375)
مسألة : وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما
مسألة : قال : وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها
يعني إذا وجب عليه الجهاد لم يعتبر إذن والديه لأنه صار فرض عين وتركه معصية ولا طاعة لأحد في معصية الله وكذلك كل ما وجب مثل الحج والصلاة في الجماعة والجمع والسفر للعلم الواجب قال الأوزاعي : لا طاعة للوالدين في ترك الفرائض والجمع والحج والقتال لأنها عبادة تعينت عليه فلم يعتبر إذن الأبوين فيها كالصلاة ولأن الله تعالى قال : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ولم يشترط إذن الوالدين (10/377)
فصل : إذا خرج للجهاد تطوعا بإذنهما فمعناه منه بعد سيره فعليه الرجوع
فصل : وإن خرج في جهاد تطوع بإذنهما فمعناه منه بعد سيره وقبل وجوبه فعليه الرجوع لأنه معنى لو وجد بالابتداء منع فاذا وجد في أثنائه منع كسائر الموانع إلا أن يخاف على نفسه في الرجوع أو يحدث له عذر من مرض أو ذهاب نفقة أو نحوه فان أمكنه الاقامة في الطريق وإلا مضى مع الجيش فاذا حضر الصف تعين عليه بحضوره ولم يبق لهما إذن وإن كان رجوعهما عن الإذن بعد تعين الجهاد عليه لم يؤثر رجوعهما شيئا وإن كانا كافرين فأسلما ومنعاه كان ذلك كمنعهما بعد اذنهما سواء وحكم الغريم يأذن في الجهاد ثم يمنع منه حكم الوالد على ما فصلناه فأما إن حدث للانسان في نفسه عذر من مرض أو عمى أو عرج فله الانصراف سواء التقى الزحفان أو لم يلتقيا لأنه لا يمكنه القتال ولا فائدة في مقامه (10/377)
فصل : إذا أذن له والداه بالغزو وشرطا عليه ألا يقاتل فحضر القتال تعين عليه وسقط شرطهما
فصل : وإن أذن له والداه في الغزو وشرطا عليه أن لا يقاتل فحضر القتال تعين عليه وسقط شرطهما كذلك قال الأوزاعي و ابن المنذر لأنه صار واجبا عليه فلم يبق لهما في تركه طاعة ولو خرج بغير إذنهما فحضر القتال ثم بدا له الرجوع لم يجز له ذلك (10/378)
فصل : من عليه دين لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا بإذن غريمه
فصل : ومن عليه دين حال أو مؤجل لم يجز له الخروج إلى الغزو إلا باذن غريمه إلا أن يترك وفاء أو يقيم به كفيلا أو يوثقه برهن وبهذا قال الشافعي ورخص مالك في الغزو لمن لا يقدر على قضاء دينه لأنه لا تتوجه المطالبة به ولا حبسه من أجله فلم يمنع من الغزو كما لو لم يكن عليه دين
ولنا أن الجهاد تقصد منه الشهادة التي تفوت بها النفس فيفوت الحق بفواتها وقد جاء أن [ رجلا جاء الى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ان قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا تكفر عن خطاياي ؟ قال : نعم إلا الدين فان جبريل قال لي ذلك ] رواه مسلم وأما إذا تعين عليه الجهاد فلا إذن لغريمه لأنه تعلق بعينه فكان مقدما على ما في ذمته كسائر فروض الأعيان ولكن يستحب له أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغزيرا بتفويت الحق وإن ترك وفاء أو أقام كفيلا فله الغزو بغير إذن نص عليه أحمد فيمن ترك وفاء لأن [ عبد الله بن حرام أبا جابر بن عبد الله خرج إلى أحد وعليه دين كثير فاستشهد وقضاه عنه ابنه بعلم النبي ولم يذمه النبي صلى الله عليه ويلم على ذلك ولم ينكر فعله بل مدحه قال : ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه وقال لابنه جابر : أشعرت أن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا ] (10/378)
مسألة : يقاتل أهل الكتاب والمجوس ولا يدعون
مسألة : قال : ويقاتل أهل الكتاب والمجوس ولا يدعون لأن الدعوة قد بلغتهم ويدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا
أما قوله في أهل الكتاب والمجوس : لا يدعون قبل القتال فهو على عمومه لأن الدعوة قد انتشرت وعمت فلم يبق منهم من لم تبلغه الدعوة إلا نادر بعيد وأما قوله : يدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا فليس بعام فان من بلغته الدعوة منهم لا يدعون وإن وجد منهم من لم تبلغه الدعوة دعي قبل القتال وكذلك إن وجد من أهل الكتاب من لم تبلغه الدعوة دعوا قبل القتال
قال أحمد : إن الدعوة قد بلغت وانتشرت ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة لم يجز قتالهم قبل الدعوة وذلك لما روى بريدة قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته وبمن معه من المسلمين وقال : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن أجابوك اليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الاسلام فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان هم ابوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان ابوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم ] رواه أبو داود و مسلم وهذا يحتمل أنه كان في بدء الأمر قبل انتشار الدعوة وظهور الاسلام فأما اليوم فقد انتشرت الدعوة فاستغني بذلك عن الدعاء عند القتال قال أحمد : كان النبي صلى الله عليه و سلم يدعو الى الاسلام قبل أن يحارب حتى أظهر الله الدين وعلا الاسلام ولا أعرف اليوم أحدا يدعى قد بلغت الدعوة كل أحد فالروم قد بلغتهم الدعوة وعلموا ما يراد منهم وإنما كانت الدعوة في أول الاسلام وإن دعا فلا بأس وقد روى ابن عمر رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون وإبلهم تسقى على الماء فقتل المقاتلة وسبى الذرية ] متفق عليه وعن الصعب بن جثامة قال : [ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عن الديار من ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال : هم منهم ] متفق عليه [ وقال سلمة بن الأكوع : أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر فغزونا من المشركين فبيتناهم ] رواه أبو داود ويحتمل أن يحمل الأمر بالدعوة في حديث بريدة على الاستحباب فانها مستحبة في كل حال وقد روي [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر عليا حين اعطاه الراية يوم خيبر وبعثه إلى قتالهم أن يدعوهم وهم ممن بلغتهم الدعوة ] رواه البخاري ودعا خالد بن الوليد طليحة الاسدي حين تنبأ فلم يرجع فأظهره الله عليه ودعا سلمان أهل فارس فإذا ثبت هذا فان كان المدعو من أهل الكتاب أومجوسا دعاهم الى الاسلام فان أبوا دعاهم إلى اعطاء الجزية فان أبوا قاتلهم وإن كانوا من غيرهم دعاهم إلى الاسلام فان أبوا قاتلهم ومن قتل قبل الدعاء لم يضمن لأنه لا إيمان له ولا أمان فلم يضمن كنساء من بلغته الدعوة وصبيانهم (10/379)
مسألة : يقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية
مسألة : قال : ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا
وجملته أن الكفار ثلاثة أقسام : قسم أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن اتخذ التوراة والانجيل كتابا كالسامرة والفرنج ونحوهم فهؤلاء تقبل منهم الجزية ويقرون على دينهم إذا بذلوها لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقسم لهم شبهة كتاب وهم المجوس فحكمهم حكم أهل الكتاب في قبول الجزية منهم واقرارهم بها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذين القسمين وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب وهم من عدا هذين القسمين من عبدة الأوثان ومن عبد ما استحسن وسائر الكفار فلا تقبل منهم الجزية ولا يقبل منهم سوى الاسلام هذا ظاهر 9المذهب وهو مذهب الشافعي وروي عن أحمد أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب وهو مذهب أبي حنيفة لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق فيقرون ببذل الجزية كالمجوس وحكي عن مالك أنها تقبل من جميع الكفار إلا كفار قريش لحديث بريدة في المسألة قبل هذه وهو عام ولأنهم كفار فأشبهوا المجوس
ولنا عموم قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ] خص منهما أهل الكتاب بقوله تعالى : { من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } والمجوس بقوله : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] فمن عداها يبقى على مقتضى العموم ولأن الصحابة رضي الله عنهم توقفوا في أخذ الجزية من المجوس ولم يأخذ عمر منهم الجزية حتى روى له عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] وثبت عندهم أن النبي صلى الله عليه و سلم أخذ الجزية من مجوس هجر وهذا يدل على أنهم لم يقبلوا الجزية ممن سواهم فانهم إذا توقفوا فيمن له شبهة كتاب ففيمن لا شبهة له أولى ثم أخذ الجزية منهم للخبر المختص بهم فيدل على أنهم لم يأخذوها من غيرهم ولأن قول ي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] يدل على اختصاص أهل الكتاب ببذل الجزية إذ لو كان عاما في جميع الكفار لم يختص أهل الكتاب بإضافتها إليهم ولأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بالله وجميع كتبه ورسله ولم تكن لهم شبهة فلم يقروا ببذل الجزية كقريش وعبدة الأوثان من العرب ولأن تغليظ الكفر له أثر في تحتم القتل وكونه لا يقر بالجزية بدليل المرتد وأما المجوس فإن لهم شبهة كتاب والشبهة تقوم مقام الحقيقة فيما يبنى على الاحتياط فحرمت دماؤهم ولم يثبت حل نسائهم وذبائحهم لأن الحل لا يثبت بالشبهة ولأن الشبهة لما اقتضت تحريم دمائهم اقتضت تحريم ذبائحهم ونسائهم ليثبت التحريم في المواضع كلها تغليبا له على الإباحة ولا نسلم أنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق (10/381)
مسألة : إذا جاء العدو وجب على الناس أن ينفروا المقل والمكثر
مسألة : قال : وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا المقل منهم والمكثر ولا يخرجوا إلى العدو إلا باذن الأمير إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه فلا يمكنهم أن يستأذنوه
قولهم المقل منهم والمكثر يعني به والله أعلم الغني والفقير أي مقل من المال ومكثر منه ومعناه أن النفير يعم جميع الناس ممن كان من أهل القتال حين الحاجة إلى نفيرهم لمجيء العدو اليهم ولا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ومن يمنعه الأمير من الخروج أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال وذلك لقول الله تعالى : { انفروا خفافا وثقالا } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا استنفرتم فانفروا ] وقد ذم الله تعالى الذين أرادوا الرجوع إلى منازلهم يوم الاحزاب فقال تعالى : { ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا } ولأنهم إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين فوجب على الجميع فلم يجز لاحد التخلف عنه فاذا ثبت هذا فانهم لا يخرجون إلا بإذن الأمير لأن أمر الحرب موكول اليه وهو أعلم بكثرة العدو وقلتهم ومكامن العدو وكيدهم فينبغي أن يرجع الى رأيه لأنه أحوط للمسلمين إلا أن يتعذر استئذانه لمفاجأة عدوهم لهم فلا يجب استئذانه لأن المصلحة تتعين في قتالهم والخروج اليهم لتعين الفساد في تركهم لذلك [ لما أغار الكفار على لقاح النبي صلى الله عليه و سلم فصادفهم سلمة بن الاكوع خارجا من المدينة تبعهم فقاتلهم من غير إذن فمدحه النبي صلى الله عليه و سلم وقال : خير رجالتنا سلمة بن الاكوع وأعطاه سهم فارس وراجل ] (10/383)
فصل : حكم ما لو غضب على رجل فقال له : أحرد عليك أن تصحبني فنادى بالنفير
فصل : وسئل أحمد عن الامام إذا غضب على الرجل فقال : احرج عليك أن لا تصحبني فنادى بالنفير يكون إذنا له ؟ قال : لا إنما قصد له وحده فلا يصحبه حتى يأذن له قال : وإذا نودي بالصلاة والنفير فان كان العدو بالبعد إنما جاءهم طليعة للعدو صلوا ونفروا اليهم واذا استغاثوا بهم وقد ورد العدو أغاثوا ونصروا وصلوا على ظهور دوابهم ويؤمون والغياث عندي أفضل من صلاة الجماعة والطالب والمطلوب في هذا الموضع يصلي على ظهر دابته وهو يسير أفضل إن شاء الله تعالى وإذا سمع النفير وقد أقيمت الصلاة يصلي ويخفف ويتم الركوع والسجود ويقرأ بسور قصار وقد نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جنب يعني غسيل الملائكة حنظلة بن الراهب قال : ولا يقطع الصلاة إذا كان فيها وإذا جاء النفير والامام يخطب يوم الجمعة لا ترى أن ينفروا ؟ قال : ولا تنفروا الخيل إلا على حقيقة ولا تنفر على الغلام إذا أبق إذا أنفروهم فلا يكون هلاك الناس بسبب غلام وإذا نادى الامام : الصلاة جامعة لأمر يحدث فيشاور فيه لم يتخلف عنه أحد إلا من عذر (10/384)
مسألة : لا يدخل مع المسلمين إلى أرض العدو من النساء إلا الطاعنة في السن
مسألة : قال : ولا يدخل مع المسلمين من النساء الى ارض العدو إلا الطاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم
وجملته انه يكره دخول النساء الشواب أرض العدو لأنهن لسن من أهل القتال وقلما ينتفع بهن فيه لاستيلاء الخور والجبن عليهن ولا يؤمن ظفر العدو بهن فيستحلون ما حرم الله منهن وقد [ روى حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة خيبر سادسة ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا منه الغضب فقال : مع من خرجتن ؟ فقلنا : يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين به في سبيل الله ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق فقال : قمن حتى إذا فتح الله خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال فقلت لها : يا جدة ما كان ذلك ؟ قالت : تمرا ] قيل للأوزاعي : هل كانوا يغزون معهم بالنساء في الصوائف ؟ قال : لا إلا بالجواري فأما المرأة الطاعنة في السن وهي الكبيرة إذا كان فيها نفع مثل سقي الماء ومعالجة الجرحى فلا بأس به لما روينا من الخبر وكانت أم سليم ونسيبة بنت كعب تغزوان مع النبي صلى الله عليه و سلم فأما نسيبة فكانت تقاتل وقطعت يدها يوم اليمامة وقالت الربيع : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه و سلم لسقي الماء ومعالجة الجرحى
وقال أنس : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح فان قيل : فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم يخرج معه من تقع عليها القرعة من نسائه وخرج بعائشة مرات قيل : تلك امرأة واحدة يأخذها لحاجته إليها ويجوز مثل ذلك للأمير عند حاجته ولا يرخص لسائر الرعية لئلا يفضي إلى ما ذكرنا (10/384)
فصل : ينبغي للأمير الرفق بجيشه
فصل : ينبغي للأمير أن يرفق بجيشه ويسير بهم سير أضعفهم لئلا يشق عليهم وإن دعت الحاجة إلى الجد في السير جاز له فان النبي صلى الله عليه و سلم جد في السير جدا شديدا حين بلغه قول عبد الله بن أبي : ليخرجن الأعز منها الأذل ليشتغل الناس عن الخوض فيه وإن عمر جد في السير حين استصرخ على صفية امرأته ولا يميل الأمير مع موافقيه في المذهب والنسب على مخالفيه فيهما لئلا يكسر قلوبهم فيخذلونه عند حاجته إليهم ويكثر المشاورة لذوي الرأي من أصحابه فإن الله تعالى قال : { وشاورهم في الأمر } ويتخير المنازل لأصحابه وإذا وجد رجل رجلا قد أصيبت فرسه ومع الآخر فضل استحب له حمله ولم يجب نص عليه أحمد فإن خاف تلفه فقال القاضي : يجب بذل فضل مركوبه ليحيى به صاحبه كما يلزمه بذل فضل طعامه للمضطر إليه وتخليصه من عدوه (10/385)
فصل : حكم الرجلين يشتريان فرسا يغزوان عليه
فصل : وسئل أحمد عن الرجلين : يشتريان الفرس بينهما يغزوان عليه يركب هذا عقبة وهذا عقبة ما سمعت فيه بشيء وأرجو أن لا يكون به بأس قيل له : أيما أحب اليك ؟ يعتزل الرجل في الطعام أو يرافق ؟ قال : يرافق هذا أرفق يتعاونون وإذا كنت وحدك لم يمكنك الطبخ ولا غيره فلا بأس بالنهد قد تناهد الصالحون كان الحسن إذا سافر ألقى معهم ويزيد أيظا بعدما يلقي ومعنى النهد أن يخرج كل واحد من الرفقة شيئا من النفقة يدفعونه إلى رجل ينفق عليهم منه ويأكلون جميعا وكان الحسن البصري يدفع إلى وكيلهم مثل واحد منهم ثم يعود فيأتي سرا بمثل ذلك يدفعه اليه
وقال أحمد : ما أرى أن يغزو ومعه مصحف يعني لا يدخل به أرض العدو لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو ] رواه أبو داود و الأثرم (10/386)
مسألة : إذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب ولا يبارز علجا
مسألة : قال : وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب ولا يبارز علجا ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا إلا باذنه
يعني لا يخرج من العسكر لتعلف وهو تحصيل العلف للدواب ولا لاحتطاب ولا غيره إلا بإذن الأمير لقول الله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ولأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم ومواضعهم وقربهم وبعدهم فاذا خرج خارج بغير اذنه لم يأمن أن يصادف كمينا للعدو فيأخذوه أو طليعة لهم أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك وإذا كان بإذن الأمير لم يأذن لهم إلا إلى مكان آمن وربما يبعث معهم من الجيش من يحرسهم ويطلع لهم وأما المبارزة فيجوز بإذن الامير في قول عامة أهل العلم إلا الحسن فانه لم يعرفها وكرهها
ولنا أن حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث بارزوا يوم بدر باذن النبي صلى الله عليه و سلم وبارز علي عمرو بن عبد ود في غزوة الخندق فقتله وبارز مرحبا يوم حنين وقيل بارزه محمد بن مسلمة وبارزه قبل ذلك عامر بن الأكوع فاستشهد وبارز البراء بن مالك مرزبان الذارة فقتله وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا وروي عنه أنه قال : قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة سوى من شاركت فيه وبارز شبر بن علقمة اسوارا فقتله فبلغ سلبه اثني عشر ألفا فنفله إياه سعد ولم يزل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يبارزون في عصر النبي صلى الله عليه و سلم وبعده ولم ينكره منكر فكان ذلك إجماعا وكان ابو ذر يقسم أن قوله تعالى : { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة بارزوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وقال أبو قتادة : بارزت رجلا يوم حنين فقتلته إذا ثبت هذا فانه ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن وبه قال الثوري و إسحاق ورخص فيها مالك و الشافعي و ابن المنذر لخبر أبي قتادة فانه لم يعلم أنه استأذن النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك اكثر من حكينا عنهم المبارزة لم يعلم منهم استئذان
ولنا أن الإمام أعلم بفرسانه وفرسان العدو ومتى برز الانسان إلى من لا يطيقه كان معرضا نفسه للهلاك فيكسر قلوب المسلمين فينبغي أن يفوض ذلك الى الامام ليختار للمبارزة من يرضاه لها فيكون أقرب إلى الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب المشركين فان قيل : فقد انحتم له أن ينغمس في الكفار وهو سبب لقتله قلنا : إذا كان مبارزا تعلقت قلوب الجيش به وارتقبوا ظفره فان ظفر جبر قلوبهم وسرهم وكسر قلوب الكفار وإن قتل كان بالعكس والمنغمس يطلب الشهادة لا يترقب منه ظفر ولا مقاومة فافترقا وأما مبارزة أبي قتادة فغير لازمة فانها كانت بعد التحام الحرب رأى رجلا يريد أن يقتل مسلما فضربه أبو قتادة فالتفت إلى إبي قتادة فضمه ضمة كاد يقتله وليس هذا هو المبارزة المختلف فيها بل المختلف فيها أن يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب يدعو الى المبارزة فهذا هو الذي يعتبر به إذن الامام لأن عين الطائفتين تمتد إليهما وقلوب الفريقين تتعلق بهما وأيهما غلب سر اصحابه وكسر قلوب اعداائه بخلاف غيره إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم ثلاثة أقسام : مستحبة ومباحة ومكروهة اما المستحبة فاذا خرج علج يطلب البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الامير لأن فيه ردا عن المسلمين وإظهارا لقوتهم والمباح أن يبتدىء الرجل الشجاع بطلبها فيباح ولا يستحب لانه لا حاجة إليها ولا يأمن أن يغلب فيكسر قلوب المسلمين إلا أنه لما كان شجاعا واثقا من نفسه أبيح له لأنه بحكم الظاهر غالب والمكروه أن يبرز الضعيف المنة الذي لا يثق من نفسه فتكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا (10/386)
فصل : إذا خرج كافر يطلب البراز جاز رميه وقتله
فصل : وإذا خرج كافر يطلب البراز جاز رميه وقتله لأنه مشرك لا عهد له ولا أمان له فابيح قتله كغيره إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج يطلب المبارزة لا يعرض له فيجري ذلك مجرى الشرط وإذا خرج إليه أحد يبارزه بشرط أن لا يعينه عليه سواه وجب الوفاء بشرطه لأن المؤمنين عند شروطهم فان انهزم المسلم تاركا للقتال أو مثخنا بجراحته جاز لكل أحد قتاله لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله وإن كان المسلم شرط عليه أن لا يقاتل حتى يرجع إلى صفه وفى له بالشرط إلا أن يترك قتاله أو أثخنه بالجراح فيتبعه ليقتله أو يجيز عليه فيجوز أن يحولوا بينه وبينه فان قاتلهم قاتلوه لأنه إذا منعهم إنقاذه فقد نقض أمانه وإن أعان الكفار صاحبهم فعلى المسلمين أن يعينوا صاحبهم أيضا ويقاتلون من أعان عليه ولا يقاتلونه لأنه ليس بصنع من جهته فان كان قد استنجدهم أو علم منه الرضا بفعلهم صار ناقضا لأمانه وجاز لهم قتله وذكر الأوزاعي أنه ليس للمسلمين معاونة صاحبهم وإن أثخن بالجراح قيل له : فخاف المسلمون على صاحبهم ؟ قال : وإن لأن المبارزة إنما تكون هكذا ولكن لو حجزوا بينهما وخلوا سبيل العلج قال : فان أعان العدو صاحبهم فلا بأس أن يعين المسلمون صاحبهم
ولنا أن حمزة وعليا أعانا عبيدة بن الحارث على قتل شبيبة بن ربيعة حين اثخن عبيدة (10/389)
فصل : تجوز الخدعة في الحرب
فصل : وتجوز الخدعة في الحرب للمبارزة وغيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ الحرب خدعة ] وهو حديث حسن صحيح
وروي أن عمرو بن عبد ود بارز عليا كرم الله وجهه فلما أقبل عليه قال علي : ما برزت لأقاتل اثنين فالتفت عمرو فوثب عليه فضربه فقال عمرو : خدعتني فقال علي : الحرب خدعة (10/389)
فصل : إذا غزوا في البحر فأراد رجل الإقامة بالساحل استأذن الوالي
فصل : قال أحمد : إذا غزوا في البحر فأراد رجل أن يقيم بالساحل يستأذن الوالي الذي هو على جميع المراكب ولا يجزئه أن يستأذن الوالي الذي في مركبه (10/390)
مسألة : من أعطي شيئا يستعين به في غزاته فيما فضل فهو له
مسألة : قال : ومن أعطي شيئا يستعين به في غزاته فما فضل فهو له فان لم يعط لغزاة بعينها رد ما فضل في الغزو
وجملته أن من أعطي شيئا من المال يستعين به في الغزو لم يخل اما أن يعطى لغزوة بعينها أو في الغزو مطلقا فإن أعطي لغزوة بعينها فما فضل بعد الغزو فهو له هذا قول عطاء و مجاهد وسعيد بن المسيب وكان ابن عمر إذا أعطى شيئا في الغزو يقول لصاحبه : إذا بلغت وادي القرى فشأنك به ولأنه أعطاه على سبيل المعاونة والنفقة لا على سبيل الاجازة فكان الفاضل له كما لو وصى أن يحج عنه فلان حجة بألف وإن أعطاه شيئا لينفقه في سبيل الله أو في الغزو مطلقا ففضل منه فضل أنفقه في غزاة اخرى لأنه أعطاه الجميع لينفقه في جهة قربة فلزمه انفاق الجميع فيها كما لو وصى أن يحج عنه بألف (10/390)
فصل : من أعطي شيئا ليستعين به لا يترك لأهله منه شيئا لأنه ليس ملكه
فصل : ومن أعطي شيئا ليستعين به في الغزو فقال أحمد : لا يترك لأهله منه شيئا لأنه ليس يملكه إلا أن يصير إلى رأس مغزاة فيكون كهيئة ماله فيبعث إلى عياله منه ولا يتصرف فيه قبل الخروج لئلا يتخلف عن الغزو فلا يكون مستحقا لما أنفقه إلا أن يشتري منه سرحا أو آلة الغزو فان قصد إعطاءه لمن يغزو به فقال أحمد : لا يتخذ منه سفرة فيها طعام فيطعم منها أحدا لأنه إنما أعطيها لينفقها في جهة مخصوصة وهي الجهاد (10/391)
مسألة : إذا حمل الرجل على دابة فهي له حين الرجوع من الغزو
مسألة : قال : وإذا حمل الرجل على دابة فاذا رجع من الغزو فهي له إلا أن يقول هي حبيس فلا يجوز أن تباع إلا أن تصير في حال لا تصلح فيه للغزو فتباع وتجعل في حبيس آخر وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله إذ كان في مكان لا ينتفع به جاز أن يباع ويجعل في مكان ينتفع به وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها
قوله حمل الرجل على دابة يعني أعطيها ليغزو عليها فإذا غزى عليها ملكها كما يملك النفقة المدفوعة اليه إلا أن تكون عارية فتكون لصاحبها أو حبيسا فتكون حبيسا بحاله قال عمر رضي الله عنه : [ حملت على فرس عتيق في سبيل الله فأضاعه صاحبه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه وظننته بائعه برخص فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم فان العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه ] متفق عليه وهذا يدل على أنه ملكه لولا ذلك ما باعه ويدل على أنه ملكه بعد الغزو لأنه أقامه للبيع بالمدينة ولم يكن ليأخذه من عمر ثم يقيمه للبيع في الحال فدل على أنه أقامه للبيع بعد غزوه عليه وذكر أحمد نحوا من هذا الكلام وسئل : متى يطيب له الفرس ؟ قال : إذا غزا عليه قيل له : فان العدو جاءنا فخرج على هذا الفرس في الطلب الى خمس فراسخ ثم رجع ؟ قال : لا حتى يكون غزا قيل له : فحديث ابن عمر إذا بلغت وادي القرى فشأنك به قال ابن عمر : كان يصنع ذلك في ماله ورأى أنه يستحقه إذا غزا عليه وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب والقاسم ويحيى الأنصاري و مالك و الليث و الثوري ونحوه عن الأوزاعي قال ابن المنذر : ولا أعلم أحدا يقول أن يبيعه في مكانه وكان مالك لا يرى أن ينتفع بثمنه في غير سبيل الله إلا أن يقول له : شأنك به ما أردت
ولنا حديث عمر ليس فيه ما اشترط مالك فأما إذا قال : هي حبيس فلا يجوز بيعها وقد سبق شرح هذه المسألة في باب الوقف ويأتي شرح حكم الأضحية في بابها إن شاء الله (10/391)
فصل : لا تركب دواب السبيل في حاجة غير الغزو
فصل : قال أحمد : لا يركب دواب السبيل في حاجة ويركبها ويستعملها في سبيل الله ولا يركب في الأمصار والقرى ولا بأس أن يركبها ويعلفها وأكره سباق الرمك على الفرس الحبيس وسهم الفرس الحبيس لمن غزا عليه ولا يباع الفرس الحبيس إلا من علة إذا عطب يصير للطحن ويصير ثمنه في مثله أو ينفق ثمنه على الدواب الحبيس وإذا أراد أن يشتري فرسا ليحمل عليه فقال أحمد : يستحب شراؤها من غير الثغر ليكون توسعة على أهل الثغر في الجلب (10/392)
مسألة : من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب
مسألة : قال : وإذا سبى الامام فهو مخير إن رأى قتلهم وإن رأى من عليهم وأطلقهم بلا عوض وان رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم وإن رأى فادى بهم وان رأى استرقهم أي ذلك رأى فيه نكاية للعدو وحظا للمسلمين فعل
وجملته أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب : أحدها النساء والصبيان فلا يجوز قتلهم ويصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النساء والولدان ] متفق عليه وكان عليه السلام يسترقهم إذا سباهم
الثاني : الرجال من أهل الكتاب والمجوس الذين يقرون بالجزية فيخير الامام فيهم بين أربعة أشياء : القتل والمن بغير عوض والمفاداة بهم واسترقاقهم
الثالث : الرجال من عبدة الأوثان وغيرهم ممن لا يقر بالجزية فيتخير الامام فيهم بين ثلاثة أشياء : القتل أو المن و المفاداة ولا يجوز استرقاقهم وعن أحمد جواز استرقاقهم وهو مذهب الشافعي وبما ذكرنا في أهل الكتاب قال الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور : وعن مالك كمذهبنا وعنه : لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه وإنما يجوز للامام فعل ما فيه المصلحة وحكي عن الحسن و عطاء وسعيد بن جبير كراهة قتل الأسرى وقالوا : لو من عليه أو فاداه كما صنع بأسارى بدر ولأن الله تعالى قال : { فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء } فخير بين هذين بعد الأسر لا غير وقال أصحاب الرأي : إن ساء ضرب أعناقهم وإن شاء استرقهم لا غير ولا يجوز من ولا فداء لأن الله تعالى قال : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } بعد قوله : { فإما منا بعد وإما فداء } وكان عمر بن عبد العزيز وعياض بن عقبة يقتلان الأسارى
ولنا على جواز المن والفداء قول الله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } [ وأن النبي صلى الله عليه و سلم من على ثمامة بن أثال وأبي عزة الشاعر وأبي العاص بن الربيع وقال في أسارى بدر : لو كان مطعم بن عدي حياثم سألني في هؤلاء النتنى لأطللقتهم له ] وفادى أسارى بدر وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا كل رجل منهم باربعمائة وفادى يوم بدر رجلا برجلين وصاحب العضباء برجلين وأما قتل فلأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل رجال بني قريظة وهم بين الستمائة والسبعمائة وقتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرا وقتل أبا عزة يوم أحد وهذه قصص عمت واشتهرت وفعلها النبي صلى الله عليه و سلم مرات وهو دليل على جوازها ولأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى فان منهم من له قوة ونكاية في المسلمين وبقاؤه ضرر عليهم فقتله أصلح ومنهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى إسلامه بالمن عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم والدفع عنهم فالمن عليه أصلح ومنهم من ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء والصبيان والإمام أعلم بالمصلحة فينبغي أن يفوض ذلك إليه وقوله تعالى : { اقتلوا المشركين } عام لا ينسخ به الخاص بل ينزل على ما عدا المخصوص ولهذا لم يحرموا استرقاقه فأما عبدة الأوثان ففي استرقاقهم روايتان : إحداهما لا يجوز وهو مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : يجوز في العجم دون العرب بناء على قوله في أخذ الجزية
ولنا أنه كافر لا يقر بالجزية فلم يقر بالاسترقاق كالمرتد وقد ذكرنا الدليل عليه إذا ثبت هذا فإن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعينت عليه ولم يجز العدول عنها ومتى تردد فيها فالقتل أولى قال مجاهد في أميرين : أحدهما يقتل الأسرى وهو أفضل وكذلك قال مالك : وقال إسحاق : الاثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفا يطمع به في الكثير (10/393)
فصول : في الأسرى وحكمهم
فصل : وان أسلم الاسير صار رقيقا في الحال وزال التخيير وصار حكمه حكم النساء وبه قال الشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يسقط القتل ويتخير بين الخصال الثلاث لما روي [ أن أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم أسروا رجلا من بني عقيل فمر به النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا محمد علام أخذت وأخذت سابقة الحاج فقال : أخذت بجريرة حلفائك من ثقيف فقد أسرت رجلين من أصحابي فمضى النبي صلى الله عليه و سلم فناداه : يا محمد يا محمد فقال له : ما شأنك فقال : إني مسلم فقال : لوقلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح وفادى به النبي صلى الله عليه و سلم الرجلين ] رواه مسلم ولأنه سقط القتل بإسلامه فبقي باقي الخصال على ما كانت عليه
ولنا أنه أسير يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة والحديث لا ينافي رقه فقد يفادى بالمرأة وهي رقيق كما [ روى سلمة بن الاكوع أنه غزا مع ابي بكر فنفله امرأة فوهبها للنبي صلى الله عليه و سلم فبعث بها إلى أهل مكة وفي ايديهم أسارى ففداهم بتلك المرأة ] إلا أنه لا يفادى به ولا يمن عليه إلا باذن الغانمين لأنه صار مالا لهم ويحتمل أن يجوز المن عليه لأنه كان يجوز المن عليه مع كفره فمع إسلامه أولى لكون الاسلام حسنة يقتضي إكرامه والانعام عليه لا منع ذلك في حقه ولا يجوز رده إلى الكفار إلا أن يكون له ما يمنعه من المشركين من عشيرة أو نحوها وإنما جاز فداؤه لأنه يتخلص به من الرق فأما إن أسلم قبل أسره حرم قتله واسترقاقه والمفاداة به سواء أسلم وهو في حصن أو جوف أو مضيق أو غير ذلك لانه لم يحصل في أيدي الغانمين بعد
فصل : فإن سأل الأسارى من أهل الكتاب تخليتهم على إعطاء الجزية لم يجز ذلك في نسائهم وذراريهم لأنهم صاروا غنيمة بالسبي وأما الرجال فيجوز ذلك فيهم ولا يزول التخيير الثابت فيهم وقال أصحاب الشافعي : يحرم قتلهم كما لو أسلموا
ولنا أنه بدل لا تلزم الإجابة إليه فلم يحرم قتلهم كبدل عبدة الأوثان
فصل : وإذا أسر العبد صار رقيقا للمسلمين لأنه مال لهم استولي عليه فكان للغانمين كالبهيمة وان رأى الامام قتله لضرر في بقائه جاز قتله لأن مثل هذا لا قيمة له فهو كالمرتد وأما من يحرم قتلهم غير النساء والصبيان كالشيخ والزمن والاعمى والراهب فلا يحل سبيهم لأن قتلهم حرام ولا نفع في اقتنائهم
فصل : ذكر أبو بكر أن الكافر إذا كان مولى مسلم لم يجز استرقاقه لأن في استرقاقه تفويت ولاء المسلم المعصوم وعلى قوله لا يسترق ولده أيضا إذا كان عليه ولاء لذلك وإن كان معتقه ذميا جاز استرقاقه لأن سيده يجوز استرقاقه فاسترقاق مولاه أولى وهذا مذهب الشافعي وظاهر كلام الخرقي جواز استرقاقه لأنه يجوز قتله وهو من اهل الكتاب فجاز استرقاقه كغيره ولأن سبب جواز الاسترقاق قد تحقق فيه وهو الاستيلاء عليه مع كون مصلحة المسلمين في استرقاقه ولأنه إن كان المسبي امرأة أو صبيا لم يجز فيه سوى الاسترقاق فيتعين ذلك فيه وما ذكره يبطل بالقتل فانه يفوت الولاء وهو جائز فيه وكذلك من عليه ولاء لذمي يجوز استرقاقه وقولهم ان سيده يجوز استرقاقه غير صحيح فان الذمي لا يجوز استرقاقه ولا تفويت حقوقه وقد قال علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا (10/396)
مسألة : سبيل من استرق منهم وما أخذ منهم سبيل الغنيمة
مسألة : قال : وسبيل من استرق منهم وما أخذ منهم على إطلاقهم سبيل تلك الغنيمة
يعني من صار منهم رقيقا بضرب الرق عليه أو فودي بمال فهو كسائر الغنيمة يخمس ثم يقسم أربعة أخماسه بين الغانمين لا نعلم في هذا خلافا فان النبي صلى الله عليه و سلم قسم فداء أسارى بدر بين الغانمين ولأن مال غنمه المسلمون فأشبه الخيل والسلاح فان قيل : فالأسر لم يكن للغانمين فيه حق فكيف تعلق حقهم ببدله ؟ قلنا : إنما يفعل الإمام في الاسترقاق ما يرى فيه المصلحة لأنه لم يصر مالا فاذا صار مالا تعلق حق الغانمين به لأنهم أسروه وقهروه وهذا لا يمنع ألا ترى أن من عليه الدين إذا قتل قتلا يوجب القصاص كان لورثته الخيار فإذا اختاروا الدية تعلق حق الغرماء بها (10/397)
مسألة : حكم الأسرى من أهل الكتاب والمجوس وحكم غيرهم
مسألة : قال : وإنما يكون له استرقاقهم إذا كانوا من أهل الكتاب أو مجوسا فأما ما سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من بالغي رجالهم إلا الاسلام أو السيف أو الفداء
قد ذكرنا فيما تقدم أن غير أهل الكتاب لا يجوز استرقاق رجالهم في إحدى الروايتين (10/398)
فصل : النساء والصبيان يصيرون رقيقا بالسبي
فصل : فأما النساء والصبيان فيصيرون رقيقا بالسبي ومنع أحمد من فداء النساء بالمال لأن في بقائهن تعريضا لهن للاسلام لبقائهن عند المسلمين وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين لأن النبي صلى الله عليه و سلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع ولأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق سلامه فاحتمل تفويت غرضية الاسلام من أجله ولا يلزم من ذلك احتمال فواتها لتحصيل المال فأما الصبيان فقال أحمد : لا يفادى بهم وذلك لأن الصبي يصير مسلما باسلام سابيه فلا يجوز رده إلى المشركين وكذلك المرأة إذا أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار بفداء ولا غيره لقول الله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ولأن في ردها إليهم تعريضا لها للرجوع عن الاسلام واستحلال ما لا يحل منها وان كان الصبي غير محكوم باسلامه كالذي سبي مع أبويه لم يجز فداؤه بمال وهل يجوز فداؤه بمسلم ؟ يحتمل وجهين (10/398)
فصل : لا يجوز بيع شيئ من رقيق المسلمين لكافر
فصل : ولم يجوز أحمد بيع شيء من رقيق المسلمين لكافر سواء كان الرقيق مسلما أو كافرا وهذا قول الحسن قال أحمد : ليس لأهل الذمة أن يشتروا مما سبى المسلمون شيئا قال : وكتب عمر بن الخطاب ينهى عن أمراء الأمصار هكذا حكى أهل الشام وليس له إسناد وجوز أبو حنيفة و الشافعي ذلك لأنه لا يمنع من إثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه كالمسلم
ولنا قول عمر ولم ينكر فيكون إجماعا ولأن فيه تفويتا للاسلام الذي يظهر وجوده فانه إذا بقي رقيقا للمسلمين الظاهر اسلامه فيفوت ذلك ببيعه لكافر بخلاف ما إذا كان رقيقا لكافر في ابتدائه فانه لم يثبت له هذه الغرضية والدوام يخالف الابتداء لقوته (10/399)
فصل : من أسر أسيرا لم يكن له قتله حتى يأتي به الإمام
فصل : ومن أسر أسيرا لم يكن له قتله حتى يأتي به الأمام فيرى فيه رأيه لأنه إذا صار أسيرا فالخيرة فيه إلى الإمام وقد روي عن أحمد كلام يدل على إباحة قتله فانه قال : لا يقتل أسير إلا أن يشاء الوالي فمفهومه أن له قتل أسيره بغير إذن الوالي لأن له أن يقتله ابتداء فكان له قتله دواما كما لو هرب منه أو قاتله فان امتنع الأسير أن ينقاد معه فله إكراهه بالضرب وغيره فان لم يمكنه إكراهه فله قتله وان خافه أو خاف هربه فله قتله أيضا وان امتنع من الانقياد معه لجرح أو مرض فله قتله أيضا وتوقف أحمد عن قتله والصحيح أنه يقتله كما يذفف على جريحهم ولأن تركه حيا ضرر على المسلمين وتقوية للكفار فتعين القتل كحالة الابتداء إذا أمكنه قتله وكجريحهم إذا لم يأسره فأما أسير غيره فلا يجوز له قتله إلا أن يصير إلى حال يجوز قتله لمن أسره وقد روى يحيى بن أبي كثير أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يتعاطين أحدكم اسير صاحبه إذا أخذه فيقتله ] رواه سعيد فان قتل أسيره أو أسير غيره قبل ذلك أساء ولم يلزمه ضمانه وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي : إن قتله قبل أن يأتي به الامام لم يضمنه وإن قتله بعد ذلك غرم ثمنه لأنه أتلف من الغنيمة ما له قيمة فضمنه كما لو قتل امرأة
ولنا أن عبد الرحمن بن عوف أسر أمية بن خلف وابنه عليا يوم بدر فرآهما بلال فاستصرخ الأنصار عليهما حتى قتلوهما ولم يغرموا شيئا ولأنه أتلف ما ليس بمال فلم يغرمه كما لو أتلفه قبل أن يأتي به الامام ولأنه أتلف ما لا قيمة له قبل أن يأتي به الامام فلم يغرمه كما لو أتلف كلبا فأما إن قتل امرأة أو صبيا غرمه لأنه صار رقيقا بنفس السبي (10/399)
فصل : من أسر فادعى أنه كان مسلما لم يقبل قوله إلا ببينة
فصل : ومن أسر فادعى أنه كان مسلما لم يقبل قوله إلا ببينة لأنه يدعي امرا الظاهر خلافه يتعلق به اسقاط حق يتعلق برقبته فان شهد له واحد حلف معه وخلي سبيله وقال الشافعي : لا تقبل إلا شهادة عدلين لأنه ليس بمال ولا يقصد منه المال
ولنا [ ما روى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم بدر : لا يبقى منهم أحد إلا أن يفدى أو يضرب عنقه فقال عبد الله بن مسعود : إلا سهيل بن بيضاء فاني سمعته يذكر الاسلام فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إلا سهيل بن بيضاء فقبل شهادة عبد الله وحده ] (10/400)
مسألة : ينفل الإمام ومن استخلفه الإمام كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم
مسألة : قال : وينفل الامام ومن استخلفه الامام كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم في بدأته الربع بعد الخمس وفي رجعته الثلث بعد الخمس
النفل زيادة تزاد على سهم الغازي ومنه نفل الصلاة وهو ما زيد على الفرض وقول الله تعالى : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } كأنه سأل الله ولدا فأعطاه ما سأل وزاده ولدا لولد والمراد بالبداية ههنا ابتداء دخول الحرب والرجعة رجوعه عنها و النفل في الغزو ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : هذا الذي ذكره الخرقي وهو أن الامام أو نائبه إذا دخل دار الحرب غازيا بعث بين يديه سرية تغير على العدو ويجعل لهم الربع بعد الخمس فما قدمت به السرية من شيء أخرج خمسه ثم أعطى السرية ما جعل لهم وهو ربع الباقي وذلك خمس آخر ثم قسم ما بقي في الجيش والسرية معه فاذا قفل بعث سرية تغير وجعل لهم ثلث بعد الخمس فما قدمت به السرية أخرج خمسه ثم اعطى السرية ثلث ما بقي ثم قسم سائره في الجيش والسرية معه وبهذا قال حبيب بن مسلمة و الحسن و الأوزاعي وجماعة ويروى عن عمرو بن شعيب أنه قال : لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولعله يحتج بقوله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } فخصه بها وكان سعيد بن المسيب و مالك يقولان : لا نفل إلا من الخمس وقال الشافعي : يخرج من خمس الخمس لما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث سرية فيها عبد الله بن عمر فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا ] متفق عليه ولو أعطاهم من أربعة الاخماس التي هي لهم لم يكن نفلا وكان من سهامهم
ولنا ما [ روى حبيب بن مسلمة الفهري قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم نفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة ] وفي لفظ [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس إذا قفل ] رواهما أبو داود وعن عبادة ابن الصامت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينفل في البداءة الربع وفي القفول الثلث ] رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب وفي لفظ قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينفلهم إذا خرجوا بادين الربع وينفلهم إذا قفلوا الثلت ] رواه الخلال بإسناده وروى الأثرم بإسناده عن جرير بن عبد الله البجلي أنه لما قدم على عمر في قومه قال له عمر : هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء ؟ وذكره ابن المنذر أيضا عن عمر وقال ابراهيم النخعي : ينفل السرية الثلث والربع يضريهم بذلك فأما قول عمرو بن شعيب فإن مكحولا قال له حين قال : لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكر له حديث حبيب بن مسلمة : شغلك أكل الزبيب بالطائف وما ثبت للنبي صلى الله عليه و سلم ثبت للأئمة بعده ما لم يقم على تخصيصه به دليل فأما حديث ابن عمر فهو حجة عليهم فان بعيرا على اثني عشر يكون جزءا من ثلاثة عشر وخمس الخمس جزء من خمسة وعشرين وجزء من ثلاثة عشر أكثر فلا يتصور أخذ الشيء من أقل منه يحققه أن الاثني عشر إذا كانت أربعة أخماس والبعير منها ثلث الخمس فكيف يتصور أخذ ثلث الخمس من خمس الخمس ؟ فهذا محال فتعين أن يكون ذلك من غيره أو أن النفل كان للسرية دون سائر الجيش على أن ما رويناه صريح في الحكم فلا يعارض بشيء مستنبط يحتمل غير ما حمله عليه من استنبطه إذا ثبت هذا فظاهر كلام أحمد أنهم إنما يستحقون هذا النفل بالشرط السابق فان لم يكن شرطه لهم فلا فانه قيل له : أليس قد نفل رسول الله صلى الله عليه و سلم في البداءة الربع وفي الرجوع الثلث ؟ قال : نعم ذاك إذا نفل وتقدم القول فيه فعلى هذا إن رأى الامام أن ينفلهم شيئا فله ذلك وإن رأى أن ينفلهم دون الثلث والربع فله ذلك لأنه إذا جاز أن لا يجعل لهم شيئا جاز أن يجعل لهم يسيرا ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث نص عليه أحمد وهو قول مكحول و الأوزاعي والجمهور من العلماء وقال الشافعي : لا حد للنفل بل هو موكول إلى اجتهاد الامام لأن النبي صلى الله عليه و سلم نفل مرة الثلث وأخرى الربع وفي حديث ابن عمر نفل نصف السدس فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يتجاوزه الامام فينبغي أن يكون موكولا إلى اجتهاده
ولنا أن نفل النبي صلى الله عليه و سلم انتهى إلى الثلث فينبغي أن لا يتجاوزه وما ذكره الشافعي يدل على أنه ليس لاقل النفل حد وأنه يجوز أن ينفل أقل من الثلث والربع ونحن نقول به على أن هذا القول مع قوله ان النفل من خمس الخمس تناقض فان شرط لهم الامام زيادة على الثلث ردوا اليه وقال الأوزاعي : لا ينبغي أن يشرط النصف فان زادهم على ذلك فليف لهم به ويجعل ذلك من الخمس وإنما زيد في الرجعة على البداءة في النفل لمشقتها فان الجيش في البداءة ردء للسرية تابع لها والعدو خائف وربما كان غارا وفي الرجعة لا ردء للسرية لأن الجيش منصرف عنهم والعدو مستيقظ كلب قال أحمد : في البداءة إذا كان ذاهبا الربع وفي القفلة إذا كان في الرجوع الثلث لأنهم يشتاقون إلى أهليهم فهذا أكبر
القسم الثاني : أن ينفل الامام بعض الجيش لعنائه وبأسه وبلائه أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش قال أحمد في الرجل يأمره الامير يكون طليعة أو عنده يدفع اليه رأسا من السبي أودابة قال : إذا كان رجل له عناء ويقاتل في سبيل الله فلا بأس بذلك ذلك أنفع لهم يحرض هو وغيره يقاتلون ويغنمون وقال : إذا نفذ الامام صبيحة المغار الخيل فيصيب بعضهم وبعضهم لا يأتي بشيء فللوالي أن يخص بعض هؤلاء الذين جاءوا بشيء دون هؤلاء وظاهر هذا أن له إعطاء من هذه حاله من غير شرط وحجة هذا حديث سلمة بن الاكوع أنه قال : [ أغار عبد الرحمن بن عيينة على ابل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاتبعتهم فذكر الحديث فأعطاني رسول الله صلى الله عليه و سلم سهم الفارس والراجل ] رواه مسلم و أبو داود وعنه أن [ النبي أمر أبا بكر قال : فبيتنا عدونا فقتلت ليلتئذ تسعة أهل أبيات وأخذت منهم امرأة فنفلنيها أبو بكر فلما قدمت المدينة استوهبها مني رسول الله صلى الله عليه و سلم فوهبتها له ] رواه مسلم بمعناه
القسم الثالث : أن يقول الامير : من طلع هذا الحصن أو هدم هذا السور أو نقب هذا النقب أو فعل كذا فله كذا أو من جاء بأسير فله كذا فهذا جائز في قول أكثر اهل العلم منهم الثوري قال أحمد : إذا قال من جاء بعشر دواب أو بقر أو غنم فله واحد فمن جاء بخمسة أعطاه نصف ما قال لهم ومن جاء بشيء أعطاه بقدره قيل له : إذا قال من جاء بعلج فله كذا وكذا فجاء بعلج يطيب له ما يعطى ؟ قال : نعم وكره مالك هذا القسم ولم يره وقال : قتالهم على هذا الوجه انما هو للدنيا وقال هو وأصحابه : لا نفل إلا بعد احراز الغنيمة قال مالك : ولم يقل رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] إلا بعد أن برد القتال
ولنا ما تقدم من حديث حبيب وعبادة وما شرطه عمر لجويبر بن عبد الله وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] ولأن فيه مصلحة وتحريضا على القتال فجاز كاستحقاق الغنيمة وزيادة السهم للفارس واستحقاق السلب وما ذكروه يبطل بهذه المسائل وقاله أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل السلب للقاتل بعد أن برد القتال قلنا : قوله ذلك ثابت الحكم فيما يأتي من الغزوات بعد قوله فهو بالنسبة اليها كالمشروط في أول الغزاة قال القاضي : ولا يجوز هذا إلا إذا كان فيه مصلحة المسلمين وإن لم يكن فيه فائدة لم يجز لأنه إنما يخرج على وجه المصلحة فاعتبرت الحاجة فيه كأجرة الحمال والحافظ إذا ثبت هذا فان النفل لا يختص بنوع من المال وذكر الخلال أنه نفل في الدراهم والدنانير وهو قول الأوزاعي لأن القاتل لا يستحق شيئا منها فكذلك غيره
ولنا حديث حبيب بن مسلمة وعبادة وجرير فان النبي صلى الله عليه و سلم جعل لهم الثلث والربع وهو عام في كل ما غنموه ولأنه نوع مال فجاز النفل فيه كسائر الأموال وأما القاتل فإنما نفل السلب وليست الدراهم والدنانير من السلب فلم يستحق غير ما جعل له (10/401)
فصل : لا يختص النفل بنوع من المال
فصل : نقل ابو داود عن أحمد أنه قال له : من رجع الى الساقة فله دينار والرجل يعمل في سياقة الغنم قال : لم يزل اهل الشام يفعلون هذا وقد يكون في رجوعهم إلى الساقة وسياقة الغنم منفعة قيل له : فان أغار على قرية فنزل فيها والسبي والدواب والخرثي معهم في القرية ويمنع الناس من جمعه الكسل لا يخافون عليه العدو فيقول الامام : من جاء بعشرة أثواب فله ثوب ولم جاء بعشرة رؤوس رأس ؟ قال : أرجو أن لايكون به بأس فان قال : من جاء بعدل من دقيق الروم فله دينار يريده لطعام السبي ما ترى في أخذ الدينار ؟ فلم ير به بأسا قيل : فالامام يخرج السرية وقد نفلهم جميعا فلما كان يوم المغار نادى من جاء بعشرة رؤوس فله رأس ومن جاء بكذا فله كذا فيذهب الناس فيطلبون فما ترى في هذا النفل ؟ قال : نعم ما لم يستغرق الثلث غير مرة سمعته يقول ذلك (10/406)
فصل : يجوز للإمام أو نائبه بذل جعل لمن يدل على مصلحة للمسلمين
فصل : ويجوز للامام ونائبه أن يبذلا جعلا لمن يدله على ما فيه مصلحة للمسلمين مثل طريق سهل أو ماء في مفازة أو قلعة يفتحها أو مال يأخذه أو عدو يغير عليه أو ثغرة يدخل منها لا نعلم في هذا خلافا لأنه جعل في مصلحة فجاز كأجرة الدليل وقد استأجر النبي صلى الله عليه و سلم وأبو بكر في الهجرة من دلهم على الطريق ويستحق الجعل بفعل ما جعل له الجعل فيه سواء كان مسلما أو كافرا من الجيش أو من غيره فإن جعل له الجعل مما في يده وجب أن يكون معلوما لأنها جعالة بعوض من مال معلوم فوجب أن يكون معلوما كالجعالة في رد الآبق وإن كان الجعل من مال الكفار جاز أن يكون مجهولا جهالة لم تمنع التسليم ولا تفضي إلى التنازع لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل للسرية الثلث والربع مما غنموه وهو مجهول لأن الغنيمة كلها مجهولة ولأنه مما تدعو الحاجة إليه والجعالة إنما تجوز بحسب الحاجة فإن جعل له جارية معينة إن دله على قلعة يفتحها مثل أن جعل له بنت رجل عينه من أهل القلعة لم يستحق شيئا حتى يفتح القلعة لأن جعالة شئ منه اقتضت اشتراط فتحها فإذا فتحت القلعة عنوة سلمت إليه إلا أن تكون قد أسلمت قبل الفتح فإنها عصمت نفسها بإسلامها فتعذر دفعها إليه فتدفع إليه قيمتها فإن النبي صلى الله عليه و سلم لما صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاءه مسلما رده إليهم فجاء نساء مسلمات منعه الله من ردهن ولو كان الجعل رجلا من أهل القلعة فأسلم قبل الفتح عصم أيضا نفسه ولم يجز دفعه وكان لصاحب الجعل قيمته وإن كان إسلام الجارية أو الرجل بعد أسرهم سلما إليه إن كان مسلما وإن كان كافرا فله قيمتها لأن الكافر لا يبتدئ الملك على مسلم وإن ماتا قبل الفتح أو بعده فلا شئ له لأنه علق حقه بشئ معين وقد تلف بغير تفريط فسقط حقه كالوديعة وفارق ما إذا أسلما فإن تسليمهما ممكن لكن منع الشرع منه وإن كان الفتح صلحا فاستثنى الإمام الجارية والرجل وسلمهما صح وإن وقع الصلح مطلقا طلب الجعل من صاحب القلعة وبذلت له قيمتها فإن سلما إلى الإمام سلمهما إلى صاحبهما وإن أبى عرض على مشترطهما قيمتها فإن أخذها أعطيها وتم الصلح وإن أبى فقال القاضي : يفسح الصلح لأنه حق قد تعذر إمضاء الصلح لأن صاحب الجعل سابق ولا يمكن الجمع بينه وبين الصلح ونحو هذا مذهب الشافعي ولصاحب القلعة أن يحصنها مثلما كانت من غير زيادة ويحتمل أن يمضي الصلح وتدفع إلى صاحب الجعل قيمته لأنه تعذر دفعه إليه مع بقائه فدفعت إليه قيمته كما لو أسلم الجعل قبل الفتح أو أسلم بعده وصاحب الجعل كافر وقولهم : إن حق صاحب الجعل سابق قلنا : إلا أن المفسدة في فسخ الظلم أعظم لأن ضرره يعود على الجيش كله وربما عاد على غيره من المسلمين في كون هذه القلعة يتعذر فتحها بعد ذلك ويبقى ضررها على المسلمين ولا يجوز تحمل هذه المضرة لدفع ضرر يسير عن واحد فإن ضرر صاحب الجعل إنما هو في فوات عين الجعل وتفاوت ما بين عين الشئ وقيمته يسير سيما وهو في حق شخص واحد ومراعاة حق المسلمين أجمعين بدفع الضرر الكثير عنهم أولى من دفع الضرر اليسير عن واحد منهم أو من غيرهم ولهذا قلنا فيمن وجد ماله قبل قسمه فهو أحق به فإن وجده بعد قسمته لم يأخذه إلا بثمنه لئلا يؤدي إلى الضرر بنقص القيمة أو حرمان من وقع ذلك في سهمه (10/407)
فصل : النفل من أربعة أخماس الغنيمة
فصل : قال أحمد : والنفل من أربعة أخماس الغنيمة هذا قول أنس بن مالك وفقهاء الشام منهم رجاء بن حيوة و عبادة بن نسي و عدي بن عدي و مكحول و القاسم بن عبد الرحمن و يزيد بن أبي مالك و يحيى بن جابر و الأوزاعي وبه قال إسحاق و أبو عبيد وقال أبو عبيد : والناس اليوم على هذا قال أحمد : وكان سعيد بن المسيب و مالك بن أنس يقولان : لا نفل إلا من الخمس فكيف خفي عليهما هذا مع علمهما ؟
وقال النخعي وطائفة : إن شاء الامام نفلهم قبل الخمس وإن شاء بعده وقال أبو ثور : وإنما النفل قبل الخمس واحتج من ذهب إلى هذا بحديث ابن عمر الذي أوردناه
ولنا ما روى معن بن يزيد السلمي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نفل إلا بعد الخمس ] رواه أبو داود و ابن عبد البر وهذا صريح وحديث حبيب بن مسلمة [ أن النبي صلى الله عليه و سلم كان ينفل الربع بعد الخمس والثلث بعد الخمس ] وحديث جرير حين قال له عمر : ولك الثلث بعد الخمس ولان النبي صلى الله عليه و سلم نفل الثلث ولا يتصور اخراجه من الخمس ولان الله تعالى قال : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } يقتضي أن يكون الخمس خارجا من الغنيمة كلها وأما حديث ابن عمر فقد رواه شعيب عن نافع [ عن ابن عمر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في جيش قبل نجد وابتعث سرية من الجيش فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا ونفل أهل السرية بعيرا بعيرا فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا ] فهذا يمكن أن يكون نفلهم من أربعة أخماس الغنيمة دون بقية الجيش كما ينفل السرايا ويتعين حمل الخبر على هذا لأنه لو أعطى جميع الجيش لم يكن ذلك نفلا وكان قد قسم لهم أكثر من أربعة الاخماس وهو خلاف الآية والأخبار (10/408)
فصل : كلام أحمد في أن النفل من أربعة أخماس عام لعموم الخبر فيه
فصل : وكلام احمد في أن النفل من أربعة الاخماس عام لعموم الخبر فيه ويحتمل أن يحمل على القسمين الأولين من النفل فأما القسم الثالث وهو أن يقول من جاء بشيء فله كذا أو من جاء بعشرة رؤؤس فله رأس منها فيحتمل أن يستحق ذلك من الغنيمة كلها لأنه ينزل بمنزلة الجعل فأشبه السلب فانه غير مخموس ويحتمل في القسم الثاني وهو زيادة بعض الغانمين على سهمه لغنائه أن يكون من خمس الخمس المعد للمصالح لأن عطية هذا من المصالح والمذهب المنصوص عليه الأول لأن عطية سلمة بن الاكوع سهم الفارس زيادة على سهمه إنما كانت من أربعة الاخماس والله أعلم (10/410)
مسألة : يرد من نفل على من معه في السرية
مسألة : قال : ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه
هذا في الصورة التي ذكرها الخرقي وهي القسم الاول من أقسام النفل وهو إذا بعث سرية ونفلها الثلث أو الربع فدفع النفل الى بعضهم وخصه به أو جاء بعضهم بشيء فنفله ولم يأت بعضهم بشيء فلم ينفله شارك من نفل من لم ينفل نص عليه أحمد لأن هؤلاء إنما أخذوا بقوة هؤلاء ولأنهم استحقوا النفل على وجه الاشاعة بينهم بالشرط السابق فلم يختص به واحد منهم كالغنيمة فأما في القسمين الآخرين اللذين لم يذكرهما الخرقي مثل أن يخص بعض الجيش بنفل لغنائه أو يجعله له كقوله : من جاء بعشرة رؤوس فله رأس فجاء واحد بعشرة دون الجيش فإن من نفل يختص بنفله دون غيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما خص من قتل بسلب قتيله اختص به ولما خص سلمة بن الأكوع بسهم الفارس والراجل اختص به وكذلك اختص بالمرأة التي نفلها إياه أبو بكر دون الناس ولأن هذا جعل تحريضا على القتال وحثا على فعل ما يحتاج المسلمون إليه ليحمل فاعله كلفة فعله رغبة فيما جعل له فلو لم يختص به فاعله ما خاطر أحد بنفسه في فعله ولا حصلت مصلحة النفل فوجب أن يختص الفاعل لذلك بنفله كثواب الآخرة (10/410)
مسألتان وفصول : حكم ما إذا قتل واحد منا واحدا منهم مقبلا على القتال وحكم سلب القتلى
مسألة : قال : ومن قتل منا أحدا منهم مقبلا على القتال فله سلبه غير مخموس قال ذلك الإمام أو لم يقل
في هذه المسألة فصول ستة :
الفصل الأول : أن القاتل يمتحق السلب في الجملة ولا نعلم فيه خلافا والأصل فيه قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل كافرا فله سلبه ] رواه الجماعة عن النبي صلى الله عليه و سلم منهم انس وسمرة بن جندب وغيرهما روى [ أبو قتادة قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم عام خيبر فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته بالسيف على حبل عاتقه ضربة فأدركه الموت ثم إن الناس رجعوا وقال رسول الله عليه وسلم : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه قال : فقمت فقلت : من يشهد لي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما لك يا أبا قتادة ؟ فاقتصصت عليه القصة فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فارضة منه فقال أبو بكر الصديق : لاها الله إذا تعمد إلى اسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صدق فأسلمه اليه قال : فأعطانيه ] متفق عليه و [ عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين : من قتل قتيلا فله سلبه فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا فأخذ اسلابهم ] رواه أبو داود
الفصل الثاني : أن السلب لكل قاتل يستحق السهم أو الرضخ كالعبد والمرأة والصبي والمشرك وروي عن ابن عمر أن العبد إذا بارز باذن مولاه فقتل لم يستحق السلب ويرضخ له منه و للشافعي فيمن لا سهم له قولان : أحدهما لا يستحق السلب لأن السهم آكد منه للاجماع عليه فاذا لم يستحقه فالسلب أولى
ولنا عموم الخبر وأنه قاتل من أهل الغنيمة فاستحق السلب كذا السهم ولأن الأمير لو جعل جعلا لمن صنع شيئا فيه نفع للمسلمين لاستحقه فاعله من هؤلاء فالذي جعله النبي صلى الله عليه و سلم أولى وفارق السهم لأنه علق على المظنة ولهذا يستحق بالحضور ويستوي فيه الفاعل وغيره والسلب مستحق بحقيقة الفعل وقد وجد منه ذلك فاستحقه كالمجعول له جعلا على فعل إذا فعله فان كان القاتل ممن لا يستحق سهما ولا رضخا كالمرجف والمخذل والمعين على المسلمين لم يستحق السلب وان قتل وهذا مذهب الشافعي لأنه ليس من أهل الجهاد وان بارز العبد بغير إذن مولاه لم يستحق السلب لأنه عاص وكذلك كل عاص مثل من دخل بغير إذن الأمير
وعن أحمد فيمن دخل بغير إذن أنه يؤخذ منه الخمس وباقيه له جعله كالغنيمة ويخرج في العبد المبارز بغير إذن سيده مثله ويحتمل أن يكون سلب قتيل العبد له على كل حال لأن ما كان له فهو لسيده ففي حرمانه السلب حرمان سيده ولا معصية منه
الفصل الثالث : أن السلب للقاتل في كل حال إلا أن ينهزم العدو وبه قال الشافعي و ابو ثور و داود و ابن المنذر وقال مسروق : إذا التقى الزحفان فلا سلب له إنما النفل قبل وبعد ونحوه قول نافع كذلك قال الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز وأبو بكر بن أبي مريم : السلب للقاتل ما لم تمتد الصفوف بعضها إلى بعض فاذا كان كذلك فلا سلب لأحد
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] ولأن أبا قتادة إنما قتل الذي أخذ سلبه في حال التقاء الزحفين ألا تراه يقول : فلما التقينا رأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين وكذلك قول أنس : فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ اسلابهم وكان ذلك بعد التقاء الزحفين لأن هوازن لقوا المسلمين فجأة فألحموا الحرب قبل أن تتقدمها مبارزة
وروى سعيد : حدثنا اسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه [ عن عوف بن مالك قال : غزونا إلى طرف الشام فأمر علينا خالد بن الوليد فانضم إلينا رجل من امداد حمير فقضي لنا أنا لقينا عدونا فقاتلونا قتالا شديدا وفي القوم رجل من الروم على فرس له أشقر وسرج مذهب ومنطقة ملطخة وسيف مثل ذلك فجعل يحمل على القوم ويغري بهم فلم يزل المددي يحتل لذلك الرومي حتى مر به فاستقفاه فضرب عرقوب فرسه بالسيف ثم وقع فاتبعه ضربا بالسيف حتى قتله فلما فتح الله الفتح أقبل بسلب القتيل وقد شهد له الناس أنه قاتله فأعطاه خالد بعض سلبه وأمسك سائره فلما قدم المدينة استعدى رسول الله صلى الله عليه و سلم فدعا خالدا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما منعك يا خالد أن تدفع إلى هذا سلب قتيله ؟ قال : استكثرته له قال : فادفعه اليه ] وذكر الحديث ورواه أبو داود
الفصل الرابع : أنه انما يستحق السلب بشروط أربعة :
أحدها : أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم فأما إن قتل امرأة أو صبيا أو شيخا فانيا او ضعيفا مهينا ونحوهم ممن لا يقاتل لم يستحق سلبه لا نعلم فيه خلافا وإن كان أحد هؤلاء يقاتل استحق قاتله سلبه لأنه يجوز قتله ومن قتل أسيرا له أو لغيره لم يستحق سلبه لذلك
الثاني : ان يكون المقتول فيه منفعة غير مثخن بالجراح فان كان مثخنا بالجراح فليس لقاتله شيء من سلبه وبهذا قال مكحول و جرير بن عثمان و الشافعي لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل وذفف عليه ابن مسعود فقضى النبي صلى الله عليه و سلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ولم يعط ابن مسعود شيئا وإن قطع يدي رجل ورجليه وقتله آخر فالسلب للقاطع دون القاتل لأن القاطع هو الذي كفى المسلمين شره وان قطع يديه أو رجليه وقتله الآخر فالسلب للقاطع في أحد الوجهين لأنه عطله فأشبه الذي قتله والثاني سلبه في الغنيمة لأنه إن كانت رجلاه سالمتين فانه يعدو ويكثر وان كانت يداه سالمتين فانه يقاتل بهما فلم يكف القاطع شره كله ولا يستحق القاتل سلبه لأنه مثخن بالجراح وان قطع يده ورجله من خلاف فكذلك وان قطع احدى يديه واحدى رجليه ثم قتله آخر فسلبه غنيمة ويحتمل أنه للقاتل لأنه قاتل لمن لم يكف المسلمين شره وإن عانق رجل رجلا فقتله آخر فالسلب للقاتل وبهذا قال الشافعي وقال الأوزاعي : هو للمعانق
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] ولأنه كفى المسلمين شره فأشبه ما لو لم يعانقه الآخر وكذلك لو كان الكافر مقبلا على رجل يقاتله فجاء آخر من ورائه فضربه فقتله فسلبه لقاتله بدليل قصة قتيل أبي قتادة
الثالث : أن يقتله أو يثخنه بجراح تجعله في حكم المقتول قال أحمد : لا يكون السلب إلا للقاتل وان أسر رجلا لم يستحق سلبه سواء قتله الامام أو لم يقتله وقال مكحول : لا يكون السلب إلا لمن أسر علجا أو قتله قال القاضي : إذا أسر رجلا فقتله الامام صبرا فسلبه لمن أسره لأن الأسر أصعب من القتل فاذا استحق سلبه بالقتل كان تنبيها على استحقاقه بالاسر قال : وان استبقاه الامام كان له فداؤه أو رقبته وسلبه لأنه كفى المسلمين شره
ولنا أن المسلمين أسروا اسرى يوم بدر فقتل النبي صلى الله عليه و سلم عقبة والنضر بن الحارث واستبقى سائرهم فلم يعط من أسرهم أسلابهم ولا فداءهم وكان فداؤهم غنيمة ولأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما جعل السلب للقاتل وليس الآسر بقاتل ولأن الامام مخير في الأسرى ولو كان لمن أسره كان أمره اليه دون الامام
الرابع : أن يغرر بنفسه في قتله فأما إن رماه بسهم من صف المسلمين فقتله فلا سلب له قال أحمد : السلب للقاتل إنما هو في المبارزة لا يكون في الهزيمة وإن حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه فالسلب في الغنيمة لأنهم لم يغرروا بأنفسهم في قتله وإن اشترك في قتله اثنان فظاهر كلام أحمد أن سلبه غنيمة فإنه قال في رواية حرب : له السلب إذا انفرد بقتله
وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنهما يشتركان في سلبه لقوله : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] وهذا يتناول الواحد والجماعة ولأنهما اشتركا في السبب فاشتركا في السلب
ولنا أن السلب إنما يستحق بالتغرير في قتله ولا يحصل ذلك بقتل الاثنين فلم يستحق به السلب كما لو قتله جماعة ولم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه و سلم شرك بين اثنين في سلب فان اشترك اثنان في ضربه وكان أحدهما أبلغ في قتله من الآخر فالسلب له [ لأن أبا جهل ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء وأتيا النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال : كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ] وإن انهزم الكفار كلهم فأدرك انسان منهزما منهم فقتله فلا سلب له لأنه لم يغرر في قتله وإن كانت الحرب قائمة فانهزم أحدهم فقتله انسان فسلبه لقاتله لأن الحرب فر وكر [ وقد قتل سلمة بن الاكوع طليعة للكفار وهو منهزم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : من قتله ؟ قالوا : سلمة ابن الاكوع قال : له سلبه أجمع ] وبهذا قال الشافعي وقال أبو ثور و أبو داود و ابن المنذر : السلب لكل قاتل لعموم الخبر واحتجاجا بحديث سلمة هذا
ولنا أن ابن مسعود ذفف على أبي جهل فلم يعطه النبي صلى الله عليه و سلم سلبه وأمر بقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث صبرا ولم يعط سلبهما من قتلهما وقتل بني قريظة صبرا فلم يعط من قتلهم اسلابهم وانما أعطى السلب من قتل مبارزا أو كفى المسلمين شره وغرر في قتله والمنهزم بعد انقضاء الحرب قد كفى المسلمين شر نفسه ولم يغرر قاله بنفسه في قتله فلن يستحق سلبه كالاسير وأما الذي قتله سلمة فكان متحيزا إلى فئة وكذلك من قتل حال قيام الحرب فإنه كان منهزما فهو متحيء إلى فئة وراجع إلى القتال فأشبه الكار فان القتال فر وكر إذا ثبت هذا فانه لا يشترط في استحقاق السلب أن تكون المبارزة باذن الامير لأن كل من قضي له بالسلب في عصر النبي صلى الله عليه و سلم ليس فيهم من نقل إلينا أنه أذن له في المبارزة مع أن عموم الخبر يقتضي استحقاق السلب لكل قاتل إلا من خصه الدليل
الفصل الخامس : ان السلب لا يخمس روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وبه قال الشافعي و ابن المنذر و ابن جرير وقال ابن عباس : يخمس وبه قال الأوزاعي و مكحول لعموم قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه }
وقال إسحاق : إن استكثر الامام السلب خمسه وذلك اليه لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزارة بالبحرين فطعنه فدق صلبه وأخذ سواريه وسلبه فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره فقال : إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا وأنا خامسه فكان أول سلب خمس في الاسلام سلب البراء رواه سعيد في السنن وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا
ولنا ما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل ولم يخمس السلب ] رواه أبو داود وعموم الأخبار التي ذكرناها وخبر عمر حجة لنا فانه قال : إنا لا نخمس السلب وقول الراوي : كان أول سلب خمس في الاسلام يعني أن النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا واتباع ذلك أولى قال الجوزجاني لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه و سلم شيء إلا اتباعه ولا حجة في قول أحد مع قول رسول الله صلى الله عليه و سلم وما ذكرناه يصلح أن يخصص به عموم الآية وإذا ثبت هذا فإن السلب من أصل الغنيمة وقال مالك : يحتسب من خمس الخمس
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل مطلقا ولم ينقل عنه أنه احتسب به من خمس الخمس ولأنه لو احتسب به من خمس الخمس احتيج إلى معرفة قيمته وقدره ولم ينقل ذلك ولأن سببه لا يفتقر إلأى اجتهاد الامام فلم يكن من خمس الخمس كسهم الفارس والراجل
الفصل السادس : أن القاتل يستحق السلب قال ذلك الامام أو لم يقل وبه قال الأوزاعي و الليث و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وقال أبو حنيفة و الثوري : لا يستحقه إلا أن يشرطه الامام له وقال مالك : لا يستحقه إلا أن يقول الامام ذلك ولم ير أن يقول الامام ذلك إلا بعد انقضاء الحرب على ما تقدم من مذهبه في النفل وجعلوا السلب ههنا من جملة الأنفال
وقد روي عن أحمد مثل قولهم وهو اختيار أبي بكر واحتجوا بما [ روى عوف بن مالك أن مدديا اتبعهم فقتل علجا فأخذ خالد بعض سلبه وأعطاه بعضه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا تعطه يا خالد ] رواه سعيد و أبو داود وأنا اختصرته ورويا باسنادهما عن شبر بن علقمة قال : بارزت رجلا يوم القادسية فقتلته وأخذت سلبه فأتيت به سعدا فخطب سعد أصحابه وقال : إن هذا سلب شبر خير من اثني عشر ألفا وإنا قد نفلناه إياه ولو كان حقا له لم يحتج إلى نفله ولأن عمر أخذ الخمس من سلب البراء ولو كان حقا له لم يجز أن يأخذ منه شيئا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم دفع سلب أبي قتادة إليه من غير بينة ولا يمين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] وهذا من قضايا رسول الله صلى الله عليه و سلم المشهورة التي عمل بها الخلفاء بعده وأخبارهم التي احتجوا بها تدل على ذلك فان عوف بن مالك احتج على خالد حين أخذ سلب المددي فقال له عوف : أما تعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى وقول عمر : إنا كنا لا نخمس السلب يدل على أن هذه قضية عامة في كل غزوة وحكم مستمر لكل قاتل وإنما أمر النبي صلى الله عليه و سلم خالدا أن لا يرد على المددي عقوبة حين أغضبه عوف بتقريعه خالدا بين يديه وقوله : قد أنجزت لك ما ذكرت لك من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما خبر شبر فانما انفذ له سعد ما قضى له به رسول الله صلى الله عليه و سلم وسماه نفلا لأنه في الحقيقة نفل لأنه زيادة على سهمه
وأما قتادة فان خصمه اعترف له به وصدقه فجرى مجرى البينة ولأن السلب مأخوذ من الغنيمة بغير تقدير الامام واجتهاده فلم يفتقر إلى شرطه كالسهم إذا ثبت هذا فان أحمد قال : لا يعجبني أن يأخذ السلب الا باذن الامام وهو قول الأوزاعي وقال ابن المنذر و الشافعي : له أخذه بغير اذن لأنه استحقه بجعل النبي صلى الله عليه و سلم له ذلك ولا يأمن إن أظهره عليه أن لا يعطاه ووجه قول أحمد أنه فعل مجتهد فيه فلم ينفذ أمره فيه إلا باذن الامام كأخذ سهمه ويحتمل أن يكون هذا من أحمد على سبيل الاستحباب ليخرج من الخلاف لا على سبيل الايجاب فعلى هذا إن أخذه بغير اذن ترك الفضيلة وله ما أخذه (10/411)
مسألة : الدابة وما عليها من آلتها من السلب
مسألة : قال : والدابة وما عليها من آلتها من السلب إذا قتل وهو عليها وكذلك ما عليه من السلاح والثياب وإن كثر فان كان معه مال لم يكن من السلب وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى : أن الدابة ليست من السلب
وجملته أن السلب ما كان القتيل لابسا له من ثياب وعمامة وقلنسوة ومنطقة ودرع ومغفر وبيضة وتاج وأسورة وران وخف بما في ذلك من حلية ونحو ذلك لأن المفهوم من السلب اللباس وكذلك السلاح من السيف والرمح والسكين واللت ونحوه لأنه يستعين به في قتاله فهو أولى مفي الأخذ من اللباس وكذلك الدابة لأنه يستعين بها فهي كالسلاح وأبلغ منه ولذلك استحق بها زيادة السهمان بخلاف السلاح فأما المال الذي معه في كمرانه وخريطته فليس بسلب لأنه ليس من الملبوس ولا مما يستعين به في الحرب وكذلك رحله وأثاثه وما ليست يده عليه من ماله ليس من سلبه وبهذا قال الأوزاعي و مكحول و الشافعي إلا أن الشافعي قال : ما لا يحتاج اليه في الحرب كالتاج والسوار والطوق والهميان الذي للنفقة ليس من السلب في أحد القولين لأنه مما لا يستعان به في الحرب فأشبه المال الذي في خريطته
ولنا أن في حديث البراء أنه بارز مرزبان الزارة فقتله فبلغ سواراه ومنطقته ثلاثين الفا فخمسه عمر ودفعه اليه
وفي حديث عمرو بن معد يكرب أنه حمل على اسوار فطعنه فدق صلبه وصرعه فنزل إليه فقطع يده وأخذ سوارين كانتا عليه ويلمقا من ديباج وسيفا ومنطقة فسلم ذلك له ولأنه ملبوس له فأشبه ثيابه ولأنه داخل في اسم السلب فأشبه الثياب والمنطقة ويدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فله سلبه ] واختلفت الرواية عن أحمد في الدابة فنقل عنه أنها ليست من السلب وهو اختيار أبي بكر لأن السلب ما كان على يديه والدابة ليست كذلك فلا يدخل في الخبر قال : وذكر عبد الله حديث عمرو بن معدي يكرب فأخذ سواريه ومنطقته ولم يذكر فرسه
ولنا ما روى عوف بن مالك قال : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فجعل يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله للمسلمين بعث اليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب قال عوف : فأتيته : فقلت له : يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى رواه الأثرم
وفي حديث شبر بن علقمة أنه أخذ فرسه كذلك قال أحمد : هو فيه ولأن الفرس يستعان بها في الحرب فأشبهت السلاح وما ذكروه يبطل بالرمح والقوس واللت فانها من السلب وليست ملبوسة إذا ثبت هذا فإن الدابة وما عليها من سرجها ولجامها وتجفيفها وحلية إن كانت عليها وجميع آلتها من السلب لأنه تابع لها ويستعان به في الحرب وإنما يكون من السلب إذا كان راكبا عليها وإن كانت في منزلة أو مع غيره أو منفلتة لم تكن من السلب كالسلاح الذي ليس معه وإن كان راكبا عليها فصرعه عنها أو أشعره عليها ثم قتله بعد نزوله عنها فهي من السلب وهكذا قول الأوزاعي وإن كان ممسكا بعنانها غير راكب عليها فعن أحمد فيها روايتان :
إحداهما : من السلب وهو قول الشافعي لأنه متمكن من القتال عليها فأشبهت سيفه أو رمحه في يده
والثانية : ليست من السلب وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار الخلال لأنه ليس براكب عليها فأشبه ما لو كانت مع غلامه وإن كان على فرس وفي يده جنيبة لم تكن الجنيبة من السلب لأنه لا يمكنه ركوبهما معا (10/421)
فصل : لا تقبل دعوى القتل إلا ببينة
فصل : ولا تقبل دعوى القتل إلا ببينة وقال الأوزاعي : يعطى السلب إذا قال : أنا قتلته ولا يسأل بينة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل قول أبي قتادة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ] متفق عليه وأما أبو قتادة فان خصمه أقر له فاكتفي باقراره قال أحمد : ولا يقبل إلا شاهدان وقالت طائفة من أهل الحديث : يقبل شاهد ويمين لأنها دعوى في المال ويحتمل أن يقبل شاهد بغير يمين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل قول الذي شهد لأبي قتادة من غير يمين ووجه الأول أن النبي صلى الله عليه و سلم اعتبر البينة واطلاقها ينصرف إلى شاهدين ولأنها دعوى للقتل فاعتبر شاهدان كقتل العمد (10/423)
فصل : يجوز سلب القتلى وتركهم عراة
فصل : ويجوز سلب القتلى وتركهم عراة وهذا قول الأوزاعي وكرهه الثوري و ابن المنذر لما فيه من كشف عوراتهم
ولنا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في قتيل سلمة بن الأكوع : له سلبه أجمع ] وقال : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] وهذا يتناول جميعه (10/424)
مسألة : من أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه
مسألة : قال : ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه
وجملته أن الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم ويصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار ذكرا كان أو أنثى حرا كان أو عبدا وبهذا قال الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و ابن القاسم وأكثر أهل العلم وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال أبو حنيفة و أبو يوسف : لا يصح أمان العبد إلا أن يكون مأذونا له في القتال لأنه لا يجب عليه الجهاد فلا يصح أمانه كالصبي ولأنه مجلوب من دار الكفر فلا يؤمن أن ينظر لهم في تقديم مصلحتهم
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ] رواه البخاري وروى فضيل بن يزيد الرقاشي قال : جهز عمر بن الخطاب جيشا فكنت فيه فحصرنا موضعا فرأينا انا سنفتحها اليوم وجعلنا نقبل ونروح فبقي عبد منا فراطنهم وراطنوه فكتب لهم الأمان في صحيفة وشدها على سهم ورمى بها إليهم فأخذوها وخرجوا فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب فقال : العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم رواه سعيد ولأنه مسلم مكلف فصح أمانه كالحر وما ذكروه من التهمة يبطل بما إذا اذن له في القتال فانه يصح أمانه وبالمرأة فان أمانها يصح في قولهم جميعا قالت عائشة : إن كانت المرأة لتجير على المسلمين فيجوز [ وعن أم هانىء أنها قالت : يا رسول الله إني أجرت أحمائي وأغلقت عليهم وان ابن أمي أراد قتلهم فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء إنما يجير على المسلمين أدناهم ] رواهما سعيد وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا العاص بن الربيع فأمضاه رسول الله صلى الله عليه و سلم (10/424)
فصل : يصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره
فصل : ويصح أمان الأسير إذا عقده غير مكره لدخوله في عموم الخبر ولأنه مسلم مكلف مختار فأشبه غير الأسير وكذلك أمان الأجير والتاجر في دار الحرب وبهذا قال الشافعي وقال الثوري : لا يصح امان أحد منهم
ولنا عموم الحديث والقياس على غيرهم فأما الصبي المميز فقال ابن حامد : فيه روايتان :
إحداهما : لا يصح أمانه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنه غير مكلف ولا يلزمه بقوله حكم فلا يلزم غيره كالمجنون
والرواية الثانية : يصح أمانه وهو قول مالك وقال أبو بكر : يصح أمانه رواية واحدة وحمل رواية المنع على غير المميز واحتج بعموم الحديث ولأنه مسلم مميز فصح أمانه كالبالغ وفارق المجنون فانه لا قول له أصلا (10/425)
فصلان : لا يصح أمان كافر وإن كان ذميا ويصح للإمام أمان الكفار والأسرى
فصل : ولا يصح أمان كافر وان كان ذميا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ] فجعل الذمة للمسلمين فلا تحصل لغيرهم ولأنه متهم على الاسلام وأهله فأشبه الحربي ولا يصح أمان مجنون ولا طفل لأن كلامه غير معتبر ولا يثبت به حكم ولا يصح أمان زائل العقل بنوم أو سكر أو اغماء لذلك ولأنه لا يعرف المصلحة من غيرها فأشبه المجنون ولا يصح من مكره لأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالاقرار
فصل : ويصح أمان الإمام لجميع الكفار وآحادهم لأن ولايته عامة على المسلمين ويصح أمان الأمير لمن أقيم بازائه من المشركين فأما في حق غيرهم فهو كآحاد المسلمين لأن ولايته على قتال أولئك دون غيرهم ويصح أمان آحاد المسلمين للواحد والعشرة والقافلة الصغيرة والحصن الصغير لأن عمر رضي الله عنه أجاز أمان العبد لأهل الحصن الذي ذكرنا حديثه ولا يصح أمانه لأهل بلدة ورستاق وجمع كثير لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتيات على الإمام
فصل : ويصح أمان الامام للاسير بعد الاستيلاء عليه لأن عمر رضي الله عنه لما قدم عليه بالهرمزان أسيرا قال : لا بأس عليك ثم أراد قتله فقال له أنس : قد أمنته فلا سبيل لك عليه وشهد الزبير بذلك فعدوه أمانا رواه سعيد ولأن للامام المن عليه والأمان دون ذلك فأما آحاد الرعية فليس له ذلك وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب أن يصح أمانه لأن زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره فأجاز النبي صلى الله عليه و سلم أمانها وحكي هذا عن الأوزاعي
ولنا أن أمر الأسير مفوض إلى الإمام فلم يجز الافتيات عليه فيما يمنعه ذلك كقتله وحديث زينب في أمانها إنما صح بإجازة النبي صلى الله عليه و سلم (10/426)
فصل : إذا شهد للأسير اثنان أو أكثر أنهم أمنوه قبل
فصل : واذا شهد للأسير اثنان أو أكثر من المسلمين أنهم أمنوه قبل إذا كانوا بصفة الشهود وقال الشافعي : لا تقبل شهادتهم لأنهم يشهدون على فعل أنفسهم
ولنا أنهم عدول من المسلمين غير متهمين شهدوا بأمانه فوجب أن يقبل كما لو شهدوا على غيرهم أنه أمنه وما ذكروه لا يصح فان النبي صلى الله عليه و سلم قبل شهادة المرضعة على فعلها في حديث عقبة بن الحارث وإن شهد واحد : إني أمنته فقال القاضي : قياس قول أحمد أنه يقبل كما لو قال الحاكم بعد عزله كنت حكمت لفلان على فلان بحق قبل قوله وعلى قول أبي خطاب : يصح أمانه فقبل خبره به كالحاكم في حال ولايته وهذا قول الأوزاعي ويحتمل أن لا يقبل لأنه ليس له أن يؤمنه في الحال فلم يقبل إقراره به كما لو أقر بحق على غيره وهذا قول الشافعي و أبي عبيدة (10/427)
فصل : حكم ما لو جاء المسلم بمشرك ادعى أنه أسره الخ
فصل : إذا جاء المسلم بمشرك ادعى أنه أسره وادعى الكافر أنه أمنه ففيها ثلاث روايات :
إحداهن : القول قول المسلم لأن الأصل معه فان الأصل اباحة دم الحربي وعدم الأمان
والثانية : القول قول الأسير لأنه يحتمل صدقه وحقن دمه فيكون هذا شبهة تمنع من قتله وهذا اختيار أبي بكر والثالثة يرجع إلى قول من ظاهر الحال يدل على صدقه فان كان الكافر ذا قوة معه سلاحه فالظاهر صدقه وإن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه فالظاهر كذبه فلا يلتفت إلى قوله وقال أصحاب الشافعي : لا يقبل قوله وإن صدقه المسلم لأنه لا يقدر على أمانه فلا يقبل إقراره به
ولنا أنه كافر لم يثبت أسره ولا نازعه فيه منازع فقبل قوله في الأمان كالرسول (10/427)
فصل : حكم من طلب الأمان ليسمع كلام الله ويعرف شعائر الإسلام
فصل : ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله ويعرف شرائع الإسلام وجب أن يعطاه ثم يرد إلى مأمنه لا نعلم في هذا خلافا وبه قال قتادة و مكحول و الأوزاعي و الشافعي وكتب عمر بن عبد العزيز بذلك إلى الناس وذلك لقول الله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } قال الأوزاعي : هي إلى يوم القيامة ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن [ لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه رسولا مسيلمة قال : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما ] ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك فاننا لو قتلنا رسلهم لقتلوا رسلنا فتفوت مصلحة المراسلة ويجوز عقد الأمان لكل واحد منهما مطلقا ومقيدا بمدة سواء كانت طويلة أو قصيرة بخلاف الهدنة فانها لا تجوز إلا مقيدة لأن في جوازها مطلقا تركا للجهاد وهذا بخلافه قال القاضي : ويجوز أن يقيموا مدة الهدنة بغير جزية قال أبو بكر : وهذا ظاهر كلام أحمد لأنه قيل له : قال الأوزاعي : لا يترك المشرك في دار الاسلام إلا أن يسلم أو يؤدي فقال أحمد : إذا أمنته فهو على ما أمنته وظاهر هذا أنه خالف قول الأوزاعي
وقال أبو الخطاب : عندي أنه لا يجوز أن يقيم سنة بغير جزية وهذا قول الأوزاعي و الشافعي لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ووجه الأول أن هذا كافر أبيح له الإقامة في دار الاسلام من غير التزام جزية فلم تلزمه جزية كالنساء والصبيان ولأن الرسول لو كان ممن لا يجوز أخذ الجزية منه يستوي في حقه السنة فما دونها في أن الجزية لا تؤخذ منه في المدتين فاذا جازت له الإقامة في أحدهما جازت في الأخرى قياسا لها عليها وقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } أي يلتزمونها ولم يرد حقيقة الإعطاء وهذا مخصوص منها بالاتفاق فانه يجوز له الاقامة من غير التزام لها ولأن الآية تخصصت بما دون الحول فتقيس على المحل المخصوص (10/428)
فصل : حكم ما لو دخل حربي دار الإسلام بأمان
فصل : وإذا دخل حربي دار الاسلام بأمان فأودع ماله مسلما أو ذميا أو أقرضهما إياه ثم عاد إلى دار الحرب نظرنا فان دخل تاجرا أو رسولا أو متنزها أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الاسلام فهو على أمانة في نفسه وماله لأنه لم يخرج بذلك عن نية الاقامة بدار الاسلام فأشبه الذمي إذا دخل لذلك وان دخل مستوطنا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله لأنه بدخوله دار الاسلام بأمان ثبت الأمان لماله الذي معه فاذا بطل في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله لاختصاص المبطل بنفسه فيخص البطلان به فان قتل فانما يثبت الأمان لماله تبعا فاذا بطل في المتبوع بطل في التبع قلنا : بل يثبت له الأمان لمعنى وجد فيه وهو ادخاله معه وهذا يقتضي ثبوت الأمان له وان لم يثبت في نفسه بدليل ما لو بعثه مع مضارب له أو وكيل فانه يثبت الأمان ولم يثبت الأمان في نفسه ولم يوجد فيه ههنا ما يقتضي الأمان فيه فبقي على ما كان عليه ولو أخذه معه الى دار الحرب لنقد الأمان فيه كما ينتقد في نفسه لوجود المبطل منهما فاذا ثبت هذا فان صاحبه ان طلبه بعث إليه وإن تصرف فيه ببيع أو هبة أو غيرهما صح تصرفه وإن مات في دار الحرب انتقل الى وارثه ولم يبطل الأمان فيه وقال أبو حنيفة : يبطل فيه وهو قول الشافعي لأنه قد صار لوارثه ولم يعقد فيه أمانا فوجب أن يبطل فيه كسائر أمواله
ولنا أن الأمان حق له لازم متعلق بالمال فاذا انتقل إلى الوارث انتقل لحقه كسائر الحقوق من الرهن والضمين والشفعة وهذا اختيار المزني ولأنه مال له أمان فينتقل إلى وارثه مع بقاء الأمان فيه كالمال الذي مع مضاربه وإن لم يكن له وارث صار فيئا لبيت المال فان كان له وارث في دار الاسلام فقال القاضي : لا يرثه لاختلاف الدارين والأولى أن يرثه لأن ملتهما واحدة فيرثه كالمسلمين وإن مات المستأمن في دار الاسلام فهو كما لو مات في دار الحرب سواء لأن المستأمن حربي تجري عليه أحكامهم وان رجع إلى دار الحرب فسبي واسترق فقال القاضي : يكون ماله موقوفا حتى يعلم آخر أمره بموت أو غيره فان مات كان فيئا لأن الرقيق لا يورث وان عتق كان له وان لم يسترق ولكن من عليه الامام أو فاداه فما له له وان قتله فما له لورثته وان لم يسب ولكن دخل دار الاسلام بغير أمان ليأخذ ماله جاز قتله وسبيه لأن ثبوت الأمان لماله لا يثبت الأمان له كما لو كان ماله وديعة بدار الاسلام وهو مقيم بدار الحرب (10/429)
فصل : حكم ما إذا سرق المستأمن في دار الإسلام أو قتل أو غصب
فصل : واذا سرق المستأمن في دار الاسلام أو قتل أو غصب ثم عاد الى وطنه في دار الحرب ثم خرج مستأمنا مرة ثانية استوفي منه ما لزمه في أمانه الأول وان اشترى عبدا مسلما فخرج به الى دار الحرب ثم قدر عليه لم يغنم لأنه لم يثبت ملكه عليه لكون الشراء باطلا ويرد بائعه الثمن الى الحربي لأنه حصل في أمان فان كان العبد تالفا فعلى الحربي قيمته ويترادان الفضل (10/431)
فصل : حكم ما لو دخلت الحربية إلينا بأمان فتزوجت ذميا
فصل : واذا دخلت الحربية إلينا بأمان فتزوجت ذميا في دارنا ثم أرادت الرجوع لم تمنع إذا رضي زوجها أو فارقها وقال أبو حنيفة : تمنع
ولنا أنه عقد لا يلزم الرجل المقام به فلا يلزم المرأة كعقد الإجارة (10/431)
مسألة : حكم من طلب الأمان ليفتح الحصن
مسألة : قال : ومن طلب الأمان ليفتح الحصن فقبل فقال كل واحد منهم : أنا المعطى لم يقتل واحد منهم
وجملته أن المسلمين إذا حصروا حصنا فناداهم رجل : آمنوني أفتح لكم الحصن جاز أن يعطوه أمانا فإن زياد بن لبيد لما حصر النجير قال الأشعث بن قيس : أعطوني الأمان لعشرة أفتح لكم الحصن ففعلوا : فان أشكل الذي أعطي الأمان وادعاه كل واحد من أهل الحصن فان عرف صاحب الأمان عمل على ذلك وإن لم يعرف لم يجز قتل واحد منهم لأن كل واحد منهم يحتمل صدقه وقد اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه فحرم الكل كما لو اشتبهت ميتة بمذكاة أو أخته بأجنبيات أو اشتبه زان محصن برجال معصومين وبهذا قال الشافعي ولا أعلم فيه خلافا وفي استرقاقهم وجهان :
أحدهما : يحرم وذكر القاضي أن أحمد نص عليه وهو مذهب الشافعي لما ذكرنا في القتل فان استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم
والثاني : يقرع بينهم فيخرج صاحب الأمان بالقرعة ويسترق الباقون قاله أبو بكر لأن الحق لواحد منهم غير معلوم فيقرع بينهم كما لو اعتق عبدا من عبيده وأشكل ويخالف القتل فانه اراقة دم تندرىء بالشبهات بخلاف الرق ولهذا يمنع القتل في النساء والصبيان دون الاسترقاق وقال الأوزاعي إذا أسلم واحد من أهل الحصن قبل فتحه أشرف علينا ثم أشكل فادعى كل واحد منهم أنه الذي أسلم : يسعى كل واحد منهم في قيمة نفسه ويترك له عشر قيمته وقياس مذهبنا أن فيها وجهين كالتي قبلها (10/431)
فصل : حكم ما إذا قال الرجل : كف عني حتى أدلك على كذا
فصل : قال أحمد : إذا قال الرجل : كف عني حتى أدلك على كذا فبعث معه قوم ليدلهم فامتنع من الدلالة فلهم ضرب عنقه لأن أمانه بشرط ولم يوجد وقال أحمد إذا لقي علجا فطلب منه الأمان فلا يؤمنه لأنه يخاف شره وان كانوا سرية فلهم أمانه يعني أن السرية لا يخافون من غدر العلج قتلهم بخلاف الواحد وإن لقيت السرية أعلاجا فادعوا أنهم جاءوا مستأمنين فان كان معهم سلاح لم يقبل قولهم لأن حملهم السلاح يدل على محاربتهم وان لم يكن معهم سلاح قبل قولهم لأنه يدل على صدقهم (10/433)
فصل : حكم ما إذا دخل حربي دار الإسلام بغير أمان
فصل : إذا دخل حربي دار الاسلام بغير أمان نظرت فان كان معه متاع يبيعه في دار الاسلام وقد جرت العادة بدخولهم إلينا تجارا بغير أمان لم يعرض لهم وقال أحمد : إذا ركب القوم في البحر فاستقبلهم فيه تجار مشركون من أرض العدو يريدون بلاد الاسلام لم يعرضوا لهم ولم يقاتلوهم وكل من دخل بلاد المسلمين من أهل الحرب بتجارة بويع ولم يسأل عن شيء وان لم تكن معه تجارة فقال : جئت مستأمنا لم يقبل منه وكان الامام مخيرا فيه ونحو هذا قال الأوزاعي و الشافعي وإن كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح في المركب إلينا فهو لمن أخذه في احدى الروايتين والأخرى يكون فيئا (10/433)
مسألة : حكم من دخل أرضهم من الغزاة فارسا فنفق فرسه
مسألة : قال : ومن دخل إلى أرضهم من الغزاة فارسا فنفق فرسه قبل إحراز الغنيمة فله سهم راجل ومن دخل راجلا فأحرزت الغنيمة وهو فارس فله سهم الفارس
وجملة ذلك أن الاعتبار في استحقاق السهم بحالة الإحراز فان أحرزت الغنيمة وهو راجل فله سهم راجل وان أحرزت وهو فارس فله سهم الفارس سواء دخل فارسا أو راجلا قال أحمد : أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى إن كان فارسا ففارس وإن كان راجلا فراجل لأن عمر قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة وبهذا قال الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو ثور ونحوه قال ابن عمر وقال أبو حنيفة : الاعتبار بدخول دار الحرب فان دخل فارسا فله سهم فارس وان نفق فرسه قبل القتال وان دخل راجلا فله سهم الراجل وان استفاد فرسا فقاتل عليه
وعنه رواية أخرى كقولنا قال أحمد : كان سليمان بن موسى يعرضهم إذا أدربوا الفارس فارس والراجل راجل لأنه دخل في الحرب بنية القتال فلا يتغير سهمه بذهاب دابته أو حصول دابة له كما لو كان بعد القتال
ولنا أن الفرس حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حال القتال فيسهم له مع الوجود فيه ولا يسهم له مع العدم كالآدمي والأصل في هذا أن حالة استحقاق السهم حالة تقتضي الحرب بدليل قول عمر : الغنيمة لمن شهد الوقعة ولأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك بخلاف ما قبل ذلك فان الأموال في أيدي أصحابها ولا ندري هل يظفر بهم أولا ؟ ولأنه لو مات بعض المسلمين قبل الاستيلاء لم يستحق شيئا ولو وجد مدد في تلك الحال أو انفلت أسير فلحق بالمسلمين أو أسلم كافر فقاتلوا استحفوا السهم فدل على أن الاعتبار بحالة الإحراز فوجب اعتباره دون غيره (10/433)
مسألة : الغنيمة تقسم للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه
مسألة : قال : ويعطى ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه
أكثر أهل العلم على أن الغنيمة تقسم للفارس منها ثلاثة أسهم : سهم له وسهمان لفرسه وللراجل سهم قال ابن المنذر : هذا مذهب عمر بن عبد العزيز و الحسن و ابن سيرين و حسين بن ثابت وعوام علماء الاسلام في القديم والحديث منهم مالك ومن تبعه من أهل المدينة و الثوري ومن وافقه من أهل العراق والليث بن سعد ومن تبعه من أهل مصر و الشافعي و أحمد و إسحاق و أبو ثور و أبو يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : للفرس سهم واحد لما روى مجمع بن حارثة [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قسم خيبر على أهل الحديبية فأعطى الفارس سهمين واعطى الراجل سهما ] رواه أبو داود ولأنه حيوان ذو سهم فلم يزد على سهم كالآدمي
ولنا ما روى ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أقسام : سهمان لفرسه وسهم له ] متفق عليه وعن أبي رهم وأخيه أنهما كانا فارسين يوم خيبر فأعطيا ستة أسهم : أربعة أسهم لفرسيهما وسهمين لهما رواه سعيد ين منصور وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعطى الفارس ثلاثة أسهم وأعطى الراجل سهما ]
وقال خالد : الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أسهم هكذا للفرس سهمين ولصاحبه سهما وللراجل سهما وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن : [ أما بعد فان سهمان الخيل مما فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم : سهمين للفرس وسهما للراجل ولعمري لقد كان حديثا ما أشعر أن أحدا من المسلمين هم بانتقاض ذلك فمن هم بانتقاض ذلك فعاقبه والسلام عليك ] رواهما سعيد و الأثرم وهذا يدل على ثبوت سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا وأنه أجمع عليه فلا يعول على ما خالفه فأما حديث مجمع فيحتمل أنه أراد : أعطى الفارس سهمين لفرسه وأعطى الراجل سهما يعني صاحبه فيكون ثلاثة أسهم على أن حديث ابن عمر أصح منه وقد وافقه حديث أبي رهم وأخيه و ابن عباس وهؤلاء أحفظ وأعلم وابن عمر وأبو رهم وأخوه ممن شهدوا وأخذوا السهمان وأخبروا عن أنفسهم أنهم أعطوا ذلك فلا يعارض ذلك بخبر شاذ تعين غلطه أو حمله على ما يخالف ظاهره وقياس الفرس على الآدمي غير صحيح لأن أثرها في الحرب أكثر وكلفتها أعظم فينبغي أن يكون سهمها أكثر (10/434)
مسألة : إذا كان فرس الفارس هجينا أعطي سهم له وسهم لفرسه
مسألة : قال : الا أن يكون فرسه هجينا فيعطى سهما له وسهما لفرسه
الهجين الذي أبوه عربي وأمه برذونة والمقرف الذي أبوه برذون وأمه عربية
قالت هند بنت النعمان بن بشير :
( وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تحللها بغل )
( فان ولدت مهرا كريما فبالحري ... وان يك أقراف فما أنجب الفحل )
وأراد الخرقي بالهجين ههنا ما عدا العربي والله أعلم وقد حكي عن أحمد أنه قال : الهجين البرذون واختلفت الرواية عنه في سهمانها فقال الخلال : تواترت الروايات عن أبي عبد الله في سهام البرذون أنه سهم واحد واختاره أبو بكر و الخرقي وهو قول الحسن قال الخلال : وروى عنه ثلاثة منقطعون أنه يسهم للبرذون مثل سهم العربي واختاره الخلال وبه قال عمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و الثوري لأن الله تعالى قال : { والخيل والبغال } وهذه من الخيل ولأن الرواة رووا أن النبي صلى الله عليه و سلم أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وهذا عام في كل فرس ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي
وحكى أبو بكر عن أحمد رحمه الله رواية ثالثة أن البراذين إن أدركت إدراك العراب أسهم لها مثل الفرس العربي وإلا فلا وهذا قول ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وأبي أيوب و الجوزجاني لأنها من الخيل وقد عملت عمل العراب فأعطيت بهما كالعربي
وحكى القاضي رواية رابعة أنه لا يسهم لها وهو مالك بن عبد الله الخثعمي لأنه حيوان لا يعمل عمل الخيل العراب فأشبه البغال ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق منها لما روى الجوزجاني باسناده عن أبي موسى أنهى كتب إلى عمر بن الخطاب : إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكنا فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها ؟ فكتب إليه : تلك البراذين فما قارب العتاق منها فاجعل له سهما واحدا وألغ ما سوى ذلك
ولنا ما روى سعيد عن أبي الأقمر قال : أغارت الخيل على الشام فأدركت العراب من يومها وأدركت الكوادن ضحى الغد وعلى الخيل رجل من همذان يقال له المنذر بن أبي حميضة فقال : لا أجعل الذي أدرك من يومه مثل الذي لم يدرك ففضل الخيل فقال عمر : هبلت الوادعي أمه أمضوها على ما قال ولم يعرف عن الصحابة خلاف هذا القول
وروى مكحول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى الهجين سهما ] رواه سعيد أيضا ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أفضل فيكون سهمه أرجح كتفاصيل من يرضخ له وأما قولهم : انه من الخيل قلنا : والخيل في نفسها تتفاضل سهمانها وأما قولهم ان النبي صلى الله عليه و سلم قسم للفرس سهمين من غير تفريق قلنا : هذه قضية في عين لا عموم لها فيحتمل أنه لم يكن فيها برذون وهو الظاهر فانها من خيل العرب ولا براذين فيها ودل على صحة هذا أنهم لما وجدوا البراذين بالعراق أشكل عليهم أمرها وان عمر فرض لها سهما واحدا وأمضى ما قال المنذر بن أبي حميضة في تفضيل العراب عليها ولو كان النبي صلى الله عليه و سلم سوى بينهما لم يخف ذلك على عمر ولا خالفه ولو خالفه لم يسكت الصحابة عن انكاره عليه سيما وابنه هو راوي الخبر فكيف يخفى ذلك عليه ؟ ويحتمل أنه فضل العراب أيضا فلم يذكره الراوي لغلبة العراب وقلة البراذين ويدل على صحة هذا التأويل خبر مكحول الذي رويناه وقياسها على الآدمي لا يصح لأن العربي منهم لا أثر له في الحرب زيادة على غيره بخلاف العربي من الخيل على غيره والله أعلم (10/436)
مسألة : لا يسهم لأكثر من فرسين
مسألة : قال : ولا يسهم لأكثر من فرسين
يعني إذا كان مع الرجل خيل أسهم لفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهم ولم يزد على ذلك وقال أبو حنيفة و مالك و الشافعي : لا يسهم لأكثر من فرس واحد لأنه لا يمكن أن يقاتل على أكثر منها فلم يسهم لما زاد عليها كالزائد عن الفرسين
ولنا ما روى الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس وعن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبهما سهم فذلك خمسة أسهم وما كان فوق الفرسين فهي جنائب رواهما سعيد في سننه ولأن به إلى الثاني حاجة فان إدامة ركوب واحد تضعفه وتمنع القتال عليه فيسهم له كالأول بخلاف الثالث فانه مستغنى عنه (10/438)
مسألة : من غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان
مسألة : قال : ومن غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان
نص أحمد على هذا وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع امكان الغزو على فرس وعن أحمد أنه يسهم للبعير سهم ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره وحكي نحو هذا عن الحسن لأن الله تعالى قال : { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ولأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس يحققه أن تجويز المسابقة بعوض إنما ابيحت في ثلاثة أشياء دون غيرها لأنها آلات الجهاد فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها تحريضا على رياضتها وتعلم الاتقان فيها ولا يزاد على سهم البرذون لأنه دونه
ولا يسهم له إلا أن يشهد الوقعة عليه ويكون مما يمكن القتال عليه فأما هذه الابل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا يستحق راكبها شيئا لأنها لا تكر ولا تفر فراكبها أدنى حال من الراجل واختار أبو الخطاب أنه لا يسهم له بحال وهو قول أكثر الفقهاء قال ابن المنذر : أجمع كل من احفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل كذلك قال الحسن و مكحول و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيرا ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل بل هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها ولو أسهم لها لنقل وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه و سلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير ولو أسهم لبعير لم يخف ذلك ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر فلم يسهم كالبغل والحمار (10/438)
فصل : ما عدا الخيل والإبل لا يسهم له
فصل : وما عدا الخيل والابل من البغال والحمير والفيلة وغيرها لا يسهم لها بغير خلاف وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يسهم لها ولا أحد من خلفائه ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر (10/440)
فصل : ينبغي للإمام أن يتعاهد الخيل عند دخول الحرب
فصل : وينبغي للامام أن يتعاهد الخيل عند دخول الحرب فلا يدخل إلا شديدا ولا يدخلها حطما ولا ضعيفا ولا ضرعا ولا أعجف زارحا فان شهد أحد الوقعة على واحد من هذه لم يسهم له وبه قال مالك وقال الشافعي : يسهم له كما يسهم للمريض
ولنا أنه لا ينتفع به فلم يسهم له كالرجل المخذل والمرجف ولأنه حيوان يتعين منع دخوله فلم يسهم له كالمرجف وأما المريض الذي لا يتمكن من القتال فان خرج بمرضه عن كونه من أهل الجهاد كالزمن والأشل والمفلوج فلا سهم له لأنه لم يبق من أهل الجهاد وإن لم يخرج بمرضه عن ذلك كالمحموم ومن به الصداع فانه يسهم له لأنه من أهل الجهاد ويعين برأيه وتكثيره ودعائه (10/440)
مسألة : من مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه
مسألة : قال : ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه
وجملته أن الغازي إذا مات أو قتل نظرت فان كان قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها وسواء مات حال القتال أو قبله وإن مات بعد ذلك فسهمه لورثته وقال أبو حنيفة : إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الاسلام أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له لأن ملك المسلمين لا يتم عليها إلا بذلك وقال الأوزاعي : إن مات بعد ما يدرب قاصدا في سبيل الله قبل أو بعد أسهم له وقال الشافعي و أبو ثور : إن حضر القتال أسهم له سواء مات قبل حيازة الغنيمة أو بعدها وإن لم يحضر فلا سهم له ونحوه قال مالك و الليث
ولنا أنه إذا مات قبل حيازتها فقد مات قبل ملكها وثبوت اليد عليها فلم يستحق شيئا وان مات بعدها فقد مات بعد الاستيلاء عليها في حال لو قسمت صحت قسمتها وكان له سهمه منها فيجب أن يستحق سهمه فيها كما لو مات بعد إحرازها في دار الاسلام وإذا ثبت أنه يستحقه فيكون لورثته كسائر أملاكه وحقوقه (10/440)
مسألة : يعطى الراجل سهما
مسألة : قال : ويعطى الراجل سهما
لا خلاف في أن للراجل سهما وقد جاء عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه أعطى الراجل سهما فيما تقدم من الأخبار ولأن الراجل يحتاج إلى أقل مما يحتاج إليه الفارس وغناؤه دون غنائه اقتضى ذلك أن يكون سهمه دون سهمه (10/441)
فصل : كل ذلك سواء كانت الغنيمة من فتح حصن أو مدينة أو من جيش
فصل : وسواء كانت الغنيمة من فتح حصن أو من مدينة أو من جيش وبهذا قال الشافعي وقال الوليد بن مسلم : سألت الأوزاعي عن اسهام الخيل من غنائم الحصون فقال : كانت الولاة من قبل عمر بن عبد العزيز : الوليد وسليمان لا يسهمون الخيل من الحصون ويجعلون الناس كلهم رجالة حتى ولي عمر بن عبد العزيز فأنكر ذلك وأمر باسهامها من فتح الحصون والمدائن ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم غنائم خيبر : للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم وهو حصون ولأن الخيل ربما احتيج اليها بأن ينزل أهل الحصن فيقاتلوا خارجا منه ويلزم صاحبه مؤنة له فيقسم له كما لو كان في غير حصن (10/441)
مسألة : يرضخ للمرأة والعبد
مسألة : قال : ويرضخ للمرأة والعبد
معناه أنهم يعطون شيئا من الغنيمة دون السهم ولا يسهم لهم سهم كامل ولا تقدير لما يعطونه بل ذلك إلى اجتهاد الامام فان رأى التسوية بينهم سوى بينهم وإن رأى التفضيل فضل
وهذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب و مالك و الثوري و الليث و الشافعي و إسحاق وروي ذلك عن ابن عباس وقال أبو ثور : يسهم للعبد وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز و الحسن و النخعي لما روي عن الأسود بن يزيد أنه شهد فتح القادسية عبيد فضرب لهم سهامهم ولأن حرمة العبيد في الدين كحرمة الحر وفيه من الغناء مثل مل فيه فوجب أن يسهم له كالحر وحكي عن الأوزاعي : ليس للعبد سهم ولا رضخ إلا أن يجيئوا بغنيمة أو يكون لهم غناء فيرضخ لهم قال : ويسهم للمرأة لما روى جرير بن زياد عن جدته أنها حضرت فتح خيبر قالت : فأسهم لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم كما أسهم للرجال وأسهم أبو موسى في غزوة تستر لنسوة معه وقال أبو بكر بن أبي مريم : أسهمن النساء يوم اليرموك وروى سعيد بإ سناده عن ابن شبل أن النبي صلى الله عليه و سلم ضرب لسهلة بنت عاصم يوم حنين بسهم فقال رجل من القوم : أعطيت سهلة مثل سهمي
ولنا ما روي عن ابن عباس أنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما سهم فلم يضرب لهن رواه مسلم وروى سعيد بن يزيد بن هارون أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن المرأة والمملوك يحضران الفتح ألهما من المغنم شئ ؟ قال : يجذيان وليس لهما شئ وفي رواية قال : ليس لهما سهم وقد يرضخ لهما وعن عمير مولى أبي اللحم قال : شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبر بأني مملوك فأمر لي بشيء من خرثي المتاع رواه أبوداود واحتج به أحمد ولأنهما ليسا من أهل القتال فلم يسهم لهما كالصبي [ قالت عائشة : يا رسول الله هل على النساء جهاد ؟ قال : نعم جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة ]
وقال عمر بن أبي ربيعة :
( كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول )
ولان المرأة ضعيفة يستولي عليها الخور فلا تصلح للقتال ولهذا لم تقتل إذا كانت حربية فأما ما روي في إسهام النساء فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما بدليل أن في حديث حشرج أنه جعل لهن نصيبا تمرا ولو كان سهما ما اختص التمر ولأن خيبر قسمت على أهل الحديبية نفر معدودين في غير حديثها ولم يذكرن منهم ويحتمل أنه أسهم لهن مثل سهام الرجال من التمر خاصة أو من المتاع دون الأرض وأما حديث سهلة فان في الحديث أنها ولدت فأعطاها النبي صلى الله عليه و سلم لها ولولدها فبلغ رضخهما سهم رجل ولذلك عجب الرجل الذي قال : أعطيت سهلة مثل سهمي ولو كان هذا مشهورا من فعل النبي صلى الله عليه و سلم ما عجب منه (10/442)
فصل : المدبر والمكاتب كالقن لأنهم عبيد
فصل : والمدبر والمكاتب كالقن لأنهم عبيد فان عتق منهم قبل انقضاء الحرب أسهم لهم وكذلك إن قتل سيد المدبر قبل تقضي الحرب وهو يخرج من الثلث عتق وأسهم له وأما من بعضه حر فقال أبو بكر : يرضخ له بقدر ما فيه من الرق ويسهم له بقدر ما فيه من الحرية فاذا كان نصفه حرا أعطي نصف سهم ورضخ له نصف الرضخ لأن هذا مما يمكن تبعيضه يقسم على قدر ما فيه من الحرية والرق والميراث وظاهر كلام أحمد أنه يرضخ له لأنه ليس من أهل وجوب القتال فأشبه الرقيق (10/444)
فصل : الخنثى المشكل يرضخ له
فصل : والخنثى المشكل يرضخ له لأنه لم يثبت أنه رجل يقسم له ولأنه ليس من أهل وجوب الجهاد فأشبه المرأة ويحتمل أن يقسم له نصف سهم ونصف الرضخ كالميراث فان انكشف حاله فتبين أنه رجل أتم له سهم رجل سواء انكشف قبل تقضي الحرب أو بعده أو قبل القسمة أو بعدها لأننا تبينا أنه كان مستحقا للسهم وانه أعطي دون حقه فأشبه ما لو أعطي بعض الرجال دون حقه غلطا (10/444)
فصل : الصبي يرضخ له ولا يسهم له
فصل : والصبي يرضخ ولا يسهم له وبه قال الثوري و الليث و أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وعن القاسم وسالم في الصبي : يغزو به ليس له شيء وقال مالك : يسهم له إذا قاتل وأطاق ذلك ومثله قد بلغ القتال لأنه حر ذكر مقاتل فيسهم له كالرجل وقال الأوزاعي : يسهم له وقال : أسهم رسول الله صلى الله عليه و سلم للصبيان بخيبر وأسهم أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض الحرب
وروى الجوزجاني باسناده عن الوضين بن عطاء قال : حدثتني جدتي قالت : كنت مع حبيب بن مسلمة وكان يسهم لأمهات الاولاد لما في بطونهن
ولنا ما روي عن سعيد بن المسيب قال : كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة
وروى الجوزجاني باسناده أن تميم بن قرع المهدي كان في الجيش الذين فتحوا الاسكندرية في المرة الآخرة قال : فلم يقسم لي عمرو من الفيء شيئا وقال : غلام لم يحتلم حتى كاد يكون بين قومي وبين أناس من قريش من ذلك ثائرة فقال بعض القوم : فيكم أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فاسألوهم فسألوا أبا نضرة الغفاري وعقبة بن عامر فقالا : انظروا فان كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إلي بعض القوم فاذا أنا قد أنبتت فقسم لي قال الجوزجاني : هذا من مشاهير حديث مصر وجيده ولأنه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالعبد ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قسم لصبي بل كان لا يجيزهم في القتال فان ابن عمر قال : عرضت على النبي صلى الله عليه و سلم وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وانا ابن خمس عشرة فأجازني وما ذكروه يحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما بدليل ما ذكرناه (10/444)
فصل : حكم ما اذا انفرد بالغنيمة من لا يسهم له
فصل : فان انفرد بالغنيمة من لا يسهم له مثل عبيد دخلوا دار الحرب فغنموا أو صبيان أو عبيد وصبيان أخذ خمسه وما بقي لهم ويحتمل أن يقسم بينهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم لأنهم تساووا فأشبهوا الرجال الأحرار ويحتمل أن يقسم بينهم على ما يراه الامام من المفاضلة لأنهم لا تجب التسوية بينهم مع غيرهم فلا تجب مع الانفراد قياسا لاحدى الحالتين على الأخرى وإن كان فيهم رجل حر أعطي سهما وفضل عليهم بقدر ما يفضل الاحرار على العبيد والصبيان في غير هذا الموضع ويقسم الباقي بين من بقي على ما يراه الامام من التفضيل لأن فيهم من له سهم بخلاف التي قبلها (10/446)
مسألأة : يسهم للكافر إذا غزا معنا
مسألة : قال : ويسهم للكافر إذا غزا معنا
اختلفت الرواية في الكافر يغزو مع الامام باذنه فروي عن أحمد أنه يسهم له كالمسلم وبهذا قال الأوزاعي و الزهري و الثوري و إسحاق قال الجوزجاني : هذا مذهب أهل الثغور وأهل العلم بالصوائف والبعوث وعن أحمد لايسهم له وهو مذهب مالك و الشافعي و أبي حنيفة لأنه من غير أهل الجهاد فلم يسهم له كالعبد ولكن يرضخ له كالعبد
ولنا ما روى الزهري [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم استعان بناس من اليهود في حربه فأسهم لهم ] رواه سعيد في سننه وروي أن صفوان بن أمية خرج مع النبي صلى الله عليه و سلم يوم خيبر وهو على شركه فأسهم له وأعطاه من سهم المؤلفة ولأن الكفر نقص في الدين فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق وبهذا فارق العبد فان نقصه في دنياه وأحكامه وإن غزا بغير اذن الامام فلا سهم له لأنه غير مأمون على الدين فهو كالمرجف وشر منه وإن غزا جماعة من الكفار وحدهم فغنموا فيحتمل أن تكون غنيمتهم لهم لا خمس فيها لأن هذا اكتساب مباح لم يؤخذ على وجه الجهاد فكان لهم لا خمس فيه كالاحتشاش والاحتطاب ويحتمل أن يؤخذ خمسه والباقي لهم لأنه غنيمة قوم من أهل دار الاسلام فأشبه غنيمة المسلمين (10/446)
فصل : حكم الاستعانة بمشرك
فصل : ولا يستعان بمشرك وبهذا قال ابن المنذر و الجوزجاني وجماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة وهو مذهب الشافعي لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين فان كان غير مأمون عليهم لم تجزئه الاستعانة به لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى
ووجه الأول ما روت عائشة قالت : [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبر أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جراءة ونجدة فسر المسلمون به فقال : يا رسول الله جئت لأتبعك وأصيب معك فقال له رسول الله عليه وسلم : أتؤمن بالله ورسوله قال : لا قال : فارجع فلن أستعين بمشرك قالت ثم مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم : أتؤمن بالله ورسوله قال : نعم قال : فانطلق ] متفق عليه ورواه الجوزجاني وروى الامام أحمد باسناده [ عن عبد الرحمن بن حبيب قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا : إنا لنستحيي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم قال : فأسلمتما ؟ قلنا : لا قال : فانا لا نستعين بالمشركين على المشركين قال : فأسلمنا وشهدنا معه ] ولأنه غير مأمون على المسلمين فأشبه المخذل والمرجف قال ابن المنذر : والذي ذكر أنه استعان بهم غير ثابت (10/447)
فصلان : تفصيل في الرضخ
فصل : ولا يبلغ بالرضخ للفارس سهم فارس ولا للراجل سهم راجل كما لا يبلغ بالتعزير الحد ويفعل الإمام بين أهل الرضخ ما يرى فيفضل العبد المقاتل وذا البأس على من ليس مثله ويفضل المرأة المقاتلة والتي تسقي الماء وتداوي الجرحى وتنفع على غيرها فان قيل : هلا سويتم بينهم كما سويتم بين أهل السهمان ؟ قلنا : السهم منصوص عليه غير موكول إلى اجتهاد الإمام فلم يختلف كالحد ودية الحر والرضخ غير مقدر بل هو مجتهد فيه مردود إلى اجتهاد الإمام فاختلف كالتعزير وقيمة العبد
فصل : وفي الرضخ وجهان : أحدهما من أصل الغنيمة لأنه استحق بالمعاونة في تحصيل الغنيمة فأشبه أجرة النقالين والحافظين لها والثاني هو من أربعة الأخماس لأنه استحق بحضور الوقعة فأشبه سهام الغانمين و للشافعي قولان كهذين (10/448)
فصل : أول ما يبدأ في قسمة الغنائم بالأسلوب
فصل : أول ما يبدأ في قسمة الغنائم بالاسلاب فيدفعها الى أهلها لأن صاحبها معين ثم بمؤنة الغنيمة من أجرة النقال والحمال والحافظ والمخزن ثم بالرضخ على أحد الوجهين وفي الآخر بالخمس ثم بالأنفال من أربعة الأخماس ثم يقسم بقية أربعة الأخماس بين الغانمين وإنما قدمنا قسمة أربعة الأخماس على قسمة الخمس لستة معان : أحدها أن أهلها حاضرون وأهل الخمس غائبون الثاني أن رجوع الغانمين الى أوطانهم يقف على قسمة الغنيمة وأهل الخمس في أوطانهم فكان الاشتغال بقسم نصيبهم ليعودوا إلى أوطانهم أولى الثالث أن الغنيمة حصلت بتحصيل الغانمين وتبعهم فصاروا بمنزلة من استحقها بعوض وأهل الخمس بخلافه فكان أهل الغنيمة أولى الرابع أنه إذا قسم الغنيمة بين الغانمين أخذ كل انسان نصيبه فحمله واهتم به وكفى الامام مؤنته والخمس إذا قسم ليس له من يكفي الامام مؤنته فلا تحصل الفائدة بقسمته بل كان يحمله مجتمعا فصار يحمله متفرقا فكان تأخير قسمته أولى الخامس أن الخمس لا يمكن قسمه بين أهله كلهم لأنه يحتاج الى معرفتهم وعددهم ولا يمكن ذلك مع غيبتهم السادس أن الغانمين ينتفعون بسهامهم ويتمكنون من التصرف فيها لحضورهم بخلاف أهل الخمس (10/449)
مسألأة : حكم ما اذا غزا العبد على فرس لسيده
مسألة : قال : وإذا غزا العبد على فرس لسيده قسم للفرس فكان لسيده ويرضخ للعبد
أما الرضخ للعبد فكما تقدم وأما الفرس التي تحته فيستحق مالكها سهمها فان كان معه فرسان أو أكثر أسهم لفرسين ويرضخ للعبد نص على هذا أحمد وقال أبو حنيفة و الشافعي : لا يسهم للفرس لأنه تحت من لا يسهم له فلم يسهم له كما لو كان تحت مخذل
ولنا أنه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فاستحق السهم كما لو كان السيد راكبه إذا ثبت هذا فان سهم الفرس ورضخ العبد لسيده لأنه مالكه ومالك فرسه وسواء حضر السيد القتال أو غاب عنه وفارق فرس المخذل لأن الفرس له فاذا لم يستحق بحضوره فلأن لا يستحق بحضور فرسه أولى (10/451)
فصل : حكم ما إذا غزا الصبي على فرس أو المرأة أو الكافر
فصل : وان غزا الصبي على فرس أو المرأة أو الكافر إذا قلنا : لا يستحق إلا الرضخ لم يسهم للفرس في ظاهر قول أصحابنا لأنهم قالوا : لا يبلغ بالرضخ للفارس سهم فارس وظاهر هذا أنه يرضخ له ولفرسه ما لا يبلغ سهم الفارس ولأن سهم الفرس له فاذا لم يستحق السهم بحضوره فبفرسه أولى بخلاف العبد فان الفرس لغيره (10/452)
فصل : حكم ما إذا غزا المخذل على فرس
فصل : وإذا غزا المرجف أو المخذل على فرس فلا شيء له ولا للفرس لما ذكرنا وان غزا العبد بغير اذن سيده لم يرضخ له لأنه عاص بغزوه فهو كالمخذل أو المرجف وان غزا الرجل بغير إذن والديه أو بغير اذن غريمه استحق السهم لأن الجهاد يتعين عليه بحضور الصف فلا يبقى عاصيا فيه بخلاف العبد (10/452)
فصل : حكم من استعار فرسا ليغزو عليه
فصل : ومن استعار فرسا ليغزو عليه ففعل فسهم الفرس للمستعير وبهذا قال الشافعي لأنه يتمكن من الغزو عليه باذن صحيح شرعي فأشبه ما لو استأجره وعن أحمد رواية أخرى أن سهم الفرس لمالكه لأنه من نمائه فأشبه ولده وبهذا قال بعض الحنفية وقال بعضهم : لا سهم للفرس لأن مالكه لم يستحق سهما فلم يستحق للفرس شيئا كالمخذل والمرجف والأول أصح لأنه فرس قاتل عليه من يستحق سهما وهو مالك لنفعه فاستحق سهم الفرس كالمستأجر ولأن سهم الفرس مستحق بمنفعته وهي للمستعير باذن المالك فيها وفارق النماء والولد فانه غير مأذون له فيه فأما ان استعاره لغير الغزو ثم غزا عليه فهو كالفرس المغصوب على ما سنذكره (10/452)
فصل : حكم من غصب فرسا ليغزو عليه
فصل : فان غصب فرسا فقاتل عليه فسهم الفارس لمالكه نص عليه أحمد وقال بعض الحنفية : لا يسهم للفرس وهو وجه لأصحاب الشافعي وقال بعضهم : سهم الفرس للغاصب وعليه اجرته لمالكه لأنه آلة فكان الحاصل بها لمستعملها كله كما لو غصب منجلا فاحتش بها أو سيفا فقاتل به
ولنا أنه فرس قاتل عليه من يستحق السهم فاستحق السهم كما لو كان مع صاحبه وإذا ثبت أن له سهما كان لمالكه لأن النبي صلى الله عليه و سلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما وما كان للفرس كان لمالكه وفارق ما يحتش به فانه لا شيء له ولأن السهم مستحق بنفع الفرس ونفعه لمالكه فوجب أن يكون ما يستحق به له والحمد لله (10/453)
فصلان : حكم من استأجر فرسا ليغزو عليه وتفصيل ذلك
فصل : ومن استأجر فرسا ليغزو عليه فغزا عليه فسهم الفرس له لا نعلم فيه خلافا لأنه مستحق لنفعه استحقاقا لازما فكان سهمه له كمالكه
فصل : فان كان المستأجر والمستعير ممن لا سهم له اما لكونه لا شيء كالمرجف والمخذل أو ممن يرضخ له كالصبي فحكمه حكم فرسه على ما ذكرنا وان غصب فرسا فقاتل عليه احتمل أن يكون حكمه حكم فرسه لأن الفرس يتبع الفارس في حكمه فيتبعه إذا كان مغصوبا قياسا على فرسه واحتمل أن يكون سهم الفرس لمالكه لأن الجناية من راكبه والنقص فيه فيختص المنع به وبما هو تابع له وفرسه تابعة له لأن ما كان لها فهو له والفرس ههنا لغيره وسهمها لماكها فلا ينقص سهمها بنقص سهمه كما لو قاتل العبد على فرس لسيده ولو قاتل العبد بغير إذن سيده على فرس لسيده خرج فيه الوجهان اللذان ذكرناهما فيما إذا غصب فرسا فقاتل عليه لأنه ههنا بمنزلة المغصوب (10/453)
فصل : لا يجوز تفضيل بعض الغانمين على بعض في القسم
فصل : ولا يجوز تفضيل بعض الغانمين على بعض في القسم إلا أن ينفل بعضهم من الغنيمة نفلا على ما ذكرنا في الأنفال فأما غير ذلك فلا لأن النبي صلى الله عليه و سلم قسم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما وسوى بينهم ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فتجب التسوية كسائر الشركاء (10/454)
فصل : إذا قال الإمام : من أخذ شيئا فهو له جاز
فصل : وان قال الامام : من أخذ شيئا فهو له جاز في إحدى الروايتين وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي قال أحمد في السرية تخرج فيقول الوالي : من جاء بشيء فهو له ومن لم يجىء بشيء فلا شيء له : الأنفال إلى الامام ما فعل من شيء جاز لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال في بدر : [ من أخذ شيئا فهو له ] ولأن على هذا غزوا ورضوا به
والرواية الثانية : لا يجوز وهو القول الثاني للشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقسم الغنائم والخلفاء بعده ولأن ذلك يفضي الى اشتغالهم بالنهب عن القتال وظفر العدو بهم فلا يجوز ولأن الاغتنام سبب لاستحقاقهم لها على سبيل التساوي فلا يزول ذلك بقول الامام كسائر الاكتساب وأما قضية بدر فانها منسوخة فانهم اختلفوا فيها فانزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } (10/454)
مسألة وفصلان : الغنيمة لمن حضر الواقعة وحكم الأسير والمدد في ذلك
مسألة : قال : وإذا أحرزت الغنيمة لم يكن فيها لمن جاءهم مددا أو هرب من أسر حظ
وجملة ذلك أن الغنيمة لمن حضر الموقعة فمن تجدد بعد ذلك من مدد يلحق بالمسلمين أو أسير ينفلت من الكفار فيلحق بجيش المسلمين أو كافر يسلم فلا حق لهم فيها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة في المدد : إن لحقهم قبل القسمة أو احرازها بدار الاسلام شاركهم لأن تمام ملكها بتمام الاستيلاء وهو الاحراز الى دار الاسلام أو قسمتها فمن جاء قبل ذلك فقد أدركها قبل ملكها فاستحل منها كما لو جاء في أثناء الحرب وان مات أحد من العسكر قبل ذلك فلا شيء له لما ذكرنا وقد روى الشعبي ان عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد : أسهم لمن أتاك قبل أن تتفقأ قتلى فارس
ولنا ما روى أبو هريرة [ أبان بن سعيد بن العاص وأصحابه قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بخيبر بعد أن فتحها فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله فقال رسول الله : اجلس يا ابان ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه و سلم ] رواه أبو داود عن طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة فكتب في ذلك إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر : ان الغنيمة لمن شهد الوقعة رواه سعيد في سننه وروي نحوه عن عثمان في غزوة أرمينية ولأنه مدد لحق بعد تقضي الحرب أشبه ما لو جاء بعد القسمة أو بعد إحرازها إلى دار الاسلام ولأن سبب ملكها الاستيلاء عليها وقد حصل قبل مجيء المدد وقولهم ان ملكها باحرازها إلى دار الاسلام ممنوع بل هو بالاستيلاء وقد استولى عليها الجيش قبل المدد وحديث الشعبي مرسل يرويه المجالد وقد تكلم فيه ثم هم لا يعلمون به ولا نحن فقد حصل الاجماع منا على خلافه فكيف يحتج به ؟
فصل : وحكم الأسير يهرب إلى المسلمين حكم المدد سواء قاتل أو لم يقاتل وقال أبو حنيفة : لا يسهم له إلا أن يقاتل لأنه لم يأت للقتال بخلاف المدد
ولنا أن من استحق إذا قاتل استحق وإن لم يقاتل كالمدد وسائر من حضر الوقعة
فصل : وإن لحقهم المدد بعد تقضي الحرب وقبل حيازة الغنيمة أو جاءهم أسير فظاهر كلام الخرقي أنه يشاركهم لأنه جاء قبل إحرازها قال القاضي : تملك الغنيمة بانقضاء الحرب قبل حيازتها فعلى هذا لا يسهم لهم وإن حازوا الغنيمة ثم جاءهم قوم من الكفار يقاتلونهم فادركهم المدد فقاتلوا معهم فقد نص أحمد على أنه لا شيء للمدد فانه قال : اذا غنم المسلمون غنيمة فلحقهم العدو وجاء المسلمين مدد فقاتلوا العدو معهم حتى سلموا الغنيمة فلا شيء لهم في الغنيمة لأنهم إنما قاتلوا عن أصحابهم ولم يقاتلوا عن الغنيمة لأن الغنيمة قد صارت في أيديهم وحووها قيل له : فان أهل المصيصة غنموا ثم استنقذ منهم العدو فجاء أهل طرسوس فقاتلوا معهم حتى استنقذوه فقال : أحب إلي أن يصطلحوا أما في الصورة الأولى فإن الأولين قد احرزوا الغنيمة وملكوها بحيازتهم فكانت لهم دون من قاتل معهم وأما في الصورة الثانية فانما حصلت الغنيمة بقتال الذين استنقذوها في المرة الثانية فينبغي أن يشتركوا فيها لأن الاحراز الأول قد زال بأخذ الكفار لها ويحتمل أن الأولين قد ملكوها بالحيازة الأولى ولم يزل ملكهم بأخذ الكفار لها منهم فلهذا أحب أن يصطلحوا عليها (10/455)
مسألة : حكم من بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الغنيمة
مسألة : قال : ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الغنيمة أسهم له
هذا مثل الرسول والدليل والطليعة والجاسوس وأشباههم يبعثون لمصلحة الجيش فانهم يشاركون الجيش وبهذا قال أبو بكر بن أبي مريم وراشد بن سعد وعطية بن قيس قالوا : [ وقد تخلف عثمان يوم بدر فأجرى له رسول الله صلى الله عليه و سلم سهما من الغنيمة ] ويروى عن ابن عمر [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قام يعني يوم بدر فقال : إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وإني أبايع له فضرب له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسهمه ولم يضرب لأحد غاب غيره ] رواه أبو داود وعن ابن عمر قال : [ إنما تغيب عثمان عن بدر لأنه كانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه ] رواه البخاري ولأنه في مصلحتهم فاستحق سهما من غنيمتهم كالسرية مع الجيش والجيش مع السرية (10/457)
فصل : حكم القوم خلفهم الأمير في بلاد العدو
فصل : وسئل أحمد عن قوم خلفهم الأمير في بلاد العدو وغزا وغنم ولم يمر بهم فرجعوا هل يسهم لهم ؟ قال : نعم يسهم لهم لأن الأمير خلفهم قيل له : فان نادى الأمير : من كان ضعيفا فليتخلف فتخلف قوم فصاروا إلى لؤلؤة وفيها المسلمون فأقاموا حتى فصلوا فقال : إذا كانوا قد التجؤوا إلى مأمن لهم لم يسهم لهم ولو تخلفوا وأقاموا في موضع خرف أسهم لهم وقال في قوم خلفهم الأمير وأغار في جلد الخيل فقال : إن أقاموا في بلد العدو حتى رجع أسهم لهم وان رجعوا حتى صاروا إلى مأمنهم فلا شيء لهم قيل له : فان اعتل رجل أو اعتلت دابته وقد أدرب فقال له الأمير : أقم أسهم لك أو انصرف إلى أهلك أسهم لك فكرهه وقال : هذا ينصرف إلى أهله فكيف يسهم له ؟ (10/457)
فصل : يجوز قسم الغنائم في دار الحرب
فصل : يجوز قسم الغنائم في دار الحرب وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الشافعي و ابن المنذر و أبوثور وقال أصحاب الرأي : لا تنقسم إلا في دار الاسلام لأن الملك لا يتم عليها إلا بالاستيلاء التام ولا يحصل إلا باحرازها في دار الاسلام وان قسمت أساء قاسمها وجازت قسمته لأنها مسألة مجتهد فيها فاذا حكم الامام فيها بما يوافق قول بعض المجتهدين نفذ حكمه
ولنا ما روى أبو إسحاق الفزاري قال : قلت للأوزاعي : هل قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا من الغنائم بالمدينة ؟ قال : لا أعلمه إنما كان الناس يتبعون غنائمهم ويقسمونها في أرض عدوهم ولم يعقل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن غزاة قط أصاب فيها غنيمة إلا خمسه وقسمه من قبل أن يقفل من ذلك غزوة بني المصطلق وهوازن وخيبر ولأن كل دار صحت القسمة فيها جازت كدار الاسلام ولأن الملك ثبت فيها بالقهر والاستيلاء فصحت قسمتها كما لو أحرزت بدار الاسلام والدليل على ثبوت الملك فيها أمور ثلاثة :
أحدها : ان سبب الملك الاستيلاء التام وقد وجد فاننا أثبتنا أيدينا عليها حقيقة وقهرناهم ونفيناهم عنها والاستيلاء يدل على حاجة المستولي فيثبت الملك كما في المباحات
الثاني : ان ملك الكفار قد زال عنها بدليل أنه لا ينفذ عتقهم في العبيد الذين حصلوا في الغنيمة ولا يصح تصرفهم فيها ولم يزل ملكهم إلى غير مالك إذ ليست في هذه الحال مباحة علم أن ملكهم زال إلى الغانمين
الثالث : أنه لو أسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرا وهذا يدل على زوال ملك الكافر وثبوت الملك لمن قهره وبهذا يحصل الجواب عما ذكروه (10/458)
مسألة : لا يفرق بين الوالد وولده ولا بين الوالدة وولدها في من سبي
مسألة : قال : وإذا سبوا لم يفرق بين الوالد وولده ولا بين الوالدة وولدها
أجمع أهل العلم على أن التفريق بين الأم وولدها الطفل غير جائز هذا قول مالك في أهل المدينة و الأوزاعي في أهل الشام و الليث في أهل مصر و الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي فيه والأصل فيه ما روى أبو أيوب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا توله والدة عن ولدها ] قال أحمد : لا يفرق بين الأم وولدها وان رضيت وذلك والله أعلم لما فيه من الاضرار بالولد ولأن المرأة قد ترضى بما فيه ضررها ثم يتغير قلبها بعد ذلك فتندم لا يجوز التفريق بين الأب وولده وهذا قول أصحاب الرأي ومذهب الشافعي وقال بعض أصحابه : يجوز وهو قول مالك و الليث لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه ولأنه نص فيه ولا هو في معنى المنصوص عليه لأن الأم أشفق منه
ولنا أنه أحد الأبوين فأشبه الأم ولا نسلم أنه ليس من أهل الحضانة وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين كون الولد كبيرا بالغا أو طفلا وهذا إحدى الروايتين عن أحمد لعموم الخبر ولأن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها الكبير ولهذا حرم عليه الجهاد بدون إذنهما
والرواية الثانية : يختص تحريم التفريق بالصغير وهو قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن عبد العزيز و مالك و الأوزاعي و الليث و أبو ثور وهو قول الشافعي لأن سلمة بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النبي صلى الله عليه و سلم فوهبها له ولم ينكر التفريق بينهما ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أهديت اليه مارية واختها سيرين فأمسك مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت ولأن الأحرار يتفرقون بعد الكبر فان المرأة تزوج ابنتها فالعبيد أولى وبما ذكرناه يتخصص عموم حديث النهي واختلفوا في حد الكبر الذي يجوز معه التفريق فروي عن أحمد : يجوز التفريق بينهما إذا بلغ الولد وهو قول سعيد بن عبد العزيز وأصحاب الرأي وقول الشافعي وقال مالك : إذا أثغر وقال الأوزاعي و الليث : إذا استغنى عن أمه ونفع نفسه وقال الشافعي في أحد قوليه : إذا صار ابن سبع سنين أو ثمان سنين وقال أبو ثور : إذا كان يلبس وحده ويتوضأ وحده لأنه إذا كان كذلك يستغني عن أمه وكذلك خير الغلام بين أمه وأبيه إذا صار كذلك ولأنه جاز التفريق بينهما بتخييره فجاز ببيعه وقسمته
ولنا ما روي عن عبادة بن الصامت [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يفرق بين الوالدة وولدها فقيل : إلى متى ؟ قال : حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية ] ولأن ما دون البلوغ مولى عليه فأشبه الطفل (10/459)
فصل : وإذا فرق بينهما فالبيع فاسد
فصل : وان فرق بينهما بالبيع فالبيع فاسد وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يصح البيع لأن النهي لمعنى في غير المعقود عليه فأشبه البيع في وقت النداء
ولنا ما روى أبو داود في سننه باسناده عن علي رضي الله عنه أنه فرق بين الأم وولدها فنههاه رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك ورد البيع والأصل ممنوع ولا يصح ما ذكروه فانه نهى عنه لما يلحق المبيع من الضرر فهو لمعنى فيه (10/461)
مسألة : والجد في ذلك كالأب والجدة فيه كالأم
مسألة : قال : والجد في ذلك كالأب والجدة فيه كالأم
وجملة ذلك أن الجد والجدة في تحريم التفريق بينهما وبين ولد ولدهما كالأبوين لأن الجد أب والجدة أم ولذلك يقومان مقام الأبوين في استحقاق الحضانة والميراث والنفقة فقاما مقامهما في تحريم التفريق ويستوي في ذلك الجد والجدة من قبل الأب والأم لأن للجميع ولادة ومحرمية فاستووا في ذلك كاستوائهم في منع شهادة بعضهم لبعض (10/461)
مسألة : ولا يفرق بين أخوين ولا أختين
مسألة : قال : ولا يفرق بين أخوين ولا أختين
وجملته أنه يحرم التفريق بين الاخوة في القسمة والبيع وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك و الليث و الشافعي و ابن المنذر : يجوز لأنها قرابة لا تمنع قبول الشهادة فلم يحرم التفريق كقرابة ابن العم
ولنا ما [ روي عن علي رضي الله عنه قال : وهب لي رسول الله صلى الله عيه وسلم غلامين أخوين فبعت أحدهما فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما فعل غلامك ؟ فأخبرته فقال : رده رده ] رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن غريب وروى عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تفرقوا بين الأخوين ولا بين الأم وولدها في البيع لأنه ذو رحم محرم فلم يجز التفريق بينهما كالولد والوالد (10/461)
فصل : ويجوز التفريق بين سائر الأقارب
فصل : ويجوز التفريق بين سائر الأقارب في ظاهر كلام الخرقي وقال غيره من أصحابنا : لا يجوز التفريق بين ذوي رحم محرم كالعمة مع ابن أخيها والخالة مع ابن اختها لما ذكرنا من القياس
ولنا أن الأصل حل البيع والتفريق ولا يصح القياس على الإخوة لأنهم أقرب ولذلك يحجبون غيرهم عن الميراث فيبقى فيمن عداهم على مقتضى الأصل فأما من ليس بينهما رحم محرم فلا يمنع من التفريق بينهم عند أحد علمناه لعدم النص فيهم وامتناع القياس على المنصوص وكذلك يجوز التفريق بين الأم من الرضاع وولدها والأخت وأختها لذلك ولأن قرابة الرضاع لا توجب عتق أحدهما على صاحبه ولا نفقة ولا ميراثا فلم تمنع التفريق كالصدقة (10/462)
فصل : حكم ما إذا كان في المغنم من لا يجوز التفريق بينهم
فصل : وإذا كان في المغنم من لا يجوز التفريق بينهم وكان قدرهم حصة واحد من الغانمين دفعوا الى واحد وإن كان فيهم فضل فرضي برد قيمة الفضل جاز وإن لم يكن ذلك بيعوا جملة وقسم ثمنهم أو يجعلوا في الخمس ويجوز التفريق بينهم في العتق والفداء لأن العتق لا تفرقة فيه في المكان والفداء تخليص فهو كالعتق (10/462)
مسألة : حكم من اشترى منهم وهم مجتمعون فتبين أن لا نسب بينهم
مسألة : قال : ومن اشترى منهم وهم مجتمعون فتبين أن لا نسب بينهم رد إلى المقسم الفضل الذي فيه التفريق
وجملته أن من اشترى من المغنم اثنين أو أكثر وحسبوا عليه بنصيبه بناء على أنهم أقارب يحرم التفريق بينهم فبان أنه لا نسب بينهم وجب عليه رد الفضل الذي فيهم على المغنم لأن قيمتهم تزيد بذلك فان اشترى اثنين بناء على أن إحداهما أم الأخرى لا يحل له الجمع بينهما في الوطء ولا بيع إحداهما دون الأخرى فكانت قيمتهما قليلة لذلك فإن بان أن إحداهما أجنبية من الأخرى أبيح له وطؤهما وبيع احداهما فتكثر قيمتهما فيجب رد الفضل كما لو اشتراهما فوجد معهما حليا أو ذهبا فتكثر قيمتهما وكما لو أخذ دراهم فبانت أكثر مما حسب عليه (10/462)
مسألة : حكم من سبي من الأطفال
مسألة : قال : ومن سبي من أطفالهم منفردا أو مع أحد أبويه فهو مسلم ومن سبي مع أبويه فهو على دينهما
وجملته أنه أذا سبي من لم يبلغ من أولاد الكفار صار رقيقا ولا يخلو من ثلاثة أحوال : أحدها أن يسبى منفردا عن أبويه فهذا يصير مسلما إجماعا لأن الدين إنما يثبت له تبعا وقد انقطعت تبعيته لأبويه لانقطاعه عنهما واخراجه عن دارهما ومصيره الى دار الاسلام تبعا لسابيه المسلم فكان تابعا له في دينه
الثاني : أن يسبى مع أحد أبويه فانه يحكم باسلامه أيضا وبهذا قال الأوزاعي و قال أبو حنيفة و الشافعي : يكون تابعا لأبيه في الكفر لأنه لم ينفرد عن أحد أبويه فلم يحكم باسلامه كما لو سبي معهما وقال مالك : إن سبي مع أبيه يتبعه لأن الولد يتبع أباه في الدين كما يتبعه في النسب وإن سبي مع أمه فهو مسلم لأنه لا يتبعها في النسب فكذلك في الدين
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ] فمفهومه أنه لا يتبع أحدهما لأن الحكم متى علق بشيئين لا يثبت باحدهما ولأنه يتبع سابيه منفردا فيتبعه مع أحد أبويه قياسا على ما لو اسلم أحد الأبوين يحققه أن كل شخص غلب حكم اسلامه منفردا غلب مع أحد الأبوين كالمسلم من الأبوين
الثالث : أن يسبى مع أبويه فانه يكون على دينهما وبهذا قال أبو حنيفة و مالك و الشافعي وقال الأوزاعي : يكون مسلما لان السابي أحق به لكونه ملكه بالسبي وزالت ولاية أبويه عنه وانقطع ميراثهما منه وميراثه منهما فكان أولى به منهما
ولنا قوله عليه السلام : [ فأبواه يهودانه أو ينصرانه او يمجسانه ] وهما معه وملك السابي له لا يمنع اتباعه لأبويه بدليل ما لو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين (10/463)
فصل : حكم سبي المتزوج من الكفار
فصل : وإذا سبي المتزوج من الكفار لم يخل من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يسبى الزوجان معا فلا يفسخ نكاحهما لقوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } والمحصنات المزوجات : { إلا ما ملكت أيمانكم } بالسبي قال أبو سعيد الخدري : نزلت هذه الآية في سبي أوطاس وقال ابن عباس : إلا ذوات الأزواج من المسبيات ولأنه استولى على محل حق الكافر فزال ملكه كما لو سباها وحدها
ولنا أن الرق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلا يقطع استدامته كالعتق والآية نزلت في سبايا أوطاس وكانوا اخذوا النساء دون ازواجهن وعموم الآية مخصوص بالمملوكة المزوجة في دار الاسلام فيخص منه محل النزاع بالقياس عليه
الحال الثاني : أن تسبى المراة وحدها فينفسخ النكاح بلا خلاف علمناه والآية دالة عليه وقد روى أبو سعيد الخدري قال : اصبنا سبايا يوم اوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } رواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن إلا أن أبا خنيفة قال : إذا سبيت المرأة وحدها ثم سبي زوجها بعدها بيوم لم ينفسخ النكاح
ولنا أن السبب المقتضي للفسخ وجد فانفسح النكاح كما لو سبي بعد شهر
الحال الثالث : سبي الرجل وحده فلا ينفسخ النكاح لانه لا نص فيه ولا القياس يقتضيه وقد سبى النبي صلى الله عليه و سلم سبعين من الكفار يوم بدر فمن على بعضهم وفادى بعضا فلم يحكم عليهم بفسخ أنكحتهم ولأننا إذا لم نحكم بفسخ النكاح فيما اذا سبيا معا مع الاستيلاء على محل حقه فلأن لا ينفسخ نكاحه مع عدم الاستيلاء اولى
وقال أبو الخطاب : إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح ولم يفرق وبه قال أبو حنيفة ولأن الزوجين افترقت بهما الدار وطرأ الملك على احدهما فانفسخ النكاح كما لو سبيت المرأة وحدها وقال الشافعي : إن سبي واسترق انفسخ نكاحه وإن من عليه أو فودي ينفسخ
ولنا ما ذكرناه وان السبي لم يزل ملكه عن ماله في دار الحرب فلم يزله عن زوجته كما لم يزله عن أمته (10/465)
فصل : لم يفرق في سبي الزوجين بين أن يسبيهما رجل واحد أو رجلان
فصل : ولم يفرق أصحابنا في سبي الزوجين بين أن يسبيهما رجل واحد أو رجلان وينبغي أن يفرق بينهما فانهما إذا كانا مع رجلين كان مالك المرأة منفردا بها ولا زوج معه لها فتحل له لقوله تعالى : { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } وذكر الأوزاعي أن الزوجين إذا سبيا فهما على النكاح في المقاسم فان اشتراهما رجل فله ان يفرق بينهما إن شاء أو يقرهما على النكاح
ولنا أن تجدد الملك في الزوجين لرجل لا يقتضي جواز الفسخ كما لو اشترى زوجين مسلمين اذا ثبت هذا فانه لا يحرم التفريق بين الزوجين في القسمة والبيع لأن الشرع لم يرد بذلك (10/467)
فصل : حكم ما لو أسلم الحربي في دار الحرب
فصل : اذا أسلم الحربي في دار الحرب حقن ماله ودمه واولاده الصغار من السبي وان دخل دار الاسلام فأسلم وله أولاد صغار في دار الحرب صاروا مسلمين ولم يجز سبيهم وبه قال مالك و الشافعي و الأوزاعي وقال أبو حنيفة : ما كان في يديه من ماله ورقيقه ومتاعه وولده الصغار ترك له وما كان من أمواله بدار الحرب جاز سبيهم لأنه لم يثبت إسلامهم باسلامه لاختلاف الدارين بينهم ولهذا اذا سبي الطفل وأبواه في دار الكفر لم يتبعهما ويتبع سابيه في الاسلام وما كان من أرض أو دار فهو فيء وكذلك زوجته اذا كانت كافرة وما في بطنها فيء
ولنا أن أولاده أولاد مسلم فوجب أن يتبعوه في دار الاسلام كما لو كانوا معه في الدار ولأن ماله مال مسلم فلا يجوز اغتنامه كما لو كان في دار الإسلام وبذلك يفارق مال الحربي وأولاده وما ذكره أبو حنيفة لا يلزم فإننا نجعله تبعا للسابي لأننا لا نعلم بقاء أبويه فأما أولاده الكبار فلا يعصمهم لأنهم لا يتبعونه ولا يعصم زوجته لذلك فإن سبيت صارت رقيقا ولم يفسخ نكاحه برقها ولكن يكون حكمها في النكاح وفسخه حكم ما لو لم تسب على ما مر في نكاح أهل الشرك فإن كانت حاملا من زوجها لم يجز استرقاق الحمل وكان حرا مسلما وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يحكم برقه مع أمه لأن ما سرى إليه العتق سرى إليه الرق كسائر أعضائها
ولنا أنه محكوم بحريته وإسلامه فلم يجز استرقاقه كالمنفصل ويخالف الاعضاء لأنها لا تنفرد بحكم عن الأصل (10/468)
فصل : حكم ما إذا أسلم الحربي في دار الحرب وله مال وعقار
فصل : وإذا أسلم الحربي في دار الحرب وله مال وعقار أو دخل مسلم فابتاع عقارا أو مالا فظهر المسلمون على ماله وعقاره لم يملكوه وكان له وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : يغنم العقار وأما غيره فما كان في يده أو يد مسلم لم يغنم واحتج بأنها بقعة من دار الحرب فجاز اغتنامها كما لو كانت لحربي ولنا أنه مال مسلم فأشبه ما لو كاتب في دار الاسلام (10/469)
فصل : حكم ما إذا استأجر المسلم أرضا من حربي ثم استولى عليها المسلمون
فصل : إذا استأجر المسلم أرضا من حربي ثم استولى عليها المسلمون فهي غنيمة ومنافعها للمستأجر لأن المنافع ملك المسلم فان قيل : فلم أجزتم استرقاق الكافرة الحربية إذا كان زوجها قد أسلم وفي استرقاقها ابطال حق زوجها ؟ قلنا : يجوز استرقاقها لأنها كافرة ولا أمان لها فجاز استرقاقها كما لو لم تكن زوجة مسلم فلا يبطل نكاحه بل هو باق ولأن منفعة النكاح لا تجري مجرى الأموال بدليل أنها لا تضمن باليد ولا يجوز أخذ العوض عنها بخلاف حق الاجارة (10/469)
فصل : حكم ما لو أسلم عبد الحربي أو أمته وخرج إلينا
فصل : اذا أسلم عبد الحربي أو أمته وخرج الينا فهو حر وان أسر سيده وأولاده وأخذ ماله وخرج الينا فهو حر والمال له والسبي رقيقه وان أسلم وأقام بدار الحرب فهو على رقه وان أسلمت أم ولد الحربي وخرجت الينا عتقت واستبرأت نفسها وهذا قول أكثر أهل العلم قال ابن المنذر : وقال به كل من نحفظ عنه من أهل العلم إلا أن أبا حنيفة قال في أم الولد : تزوج إن شاءت من غير استبراء وأهل العلم على خلافه لأنها أم ولد عتقت فلم يجز أن تتزوج بغير استبراء كما لو كانت لذمي
وروى سعيد بن منصور : حدثنا يزيد بن هارون عن الحجاج عن الحكم عن ابن عباس قال : [ كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتق العبيد إذا جاءوا قبل مواليهم ] وعن أبي سعيد الأعسم قال : [ قضى رسول صلى الله عليه و سلم في العبد وسيده قضيتين قضى أن العبد إذا خرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فان خرج سيده بعد لم يرد عليه وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رده على سيده ] رواه سعيد ايضا وعن الشعبي [ عن رجل من ثقيف قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يرد علينا أبا بكرة وكان عبدا لنا اتى رسول الله وهو محاصر ثقيفا فأسلم فأبى أن يرده علينا وقال : هو طليق الله ثم طليق رسوله فلم يرده علينا ] (10/470)
مسألة : حكم ما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين فأدركه صاحبه قبل قسمه
مسألة : قال : وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم فأدركه صاحبه قبل قسمه فهو أحق به
فان أدركه مقسوما فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم في إحدى الروايتين والرواية الأخرى إذا قسم فلا حق له فيه بحال يعني إذا أخذ الكفار أموال المسلمين ثم قهرهم المسلمون فاخذوها منهم فإن علم صاحبها قبل قسمتها ردت إليه بغير شيء في قوله عامة أهل العلم منهم عمر رضي الله عنه و عطاء و النخعي و سلمان بن ربيعة و الليث و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري ك لا يرد إليه وهو للجيش ونحوه عن عمرو بن دينار لأن الكفار ملكوه باستيلائهم فصار غنيمة كسائر أموالهم
ولنا ما روى ابن عمر ان غلاما له أبق الى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم الى ابن عمر ولم يقسم وعنه قال ذهب فرس له فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي الله صلى الله عليه و سلم رواهما ابو داود وعن جابر بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب فيما أحرز المشركون من المسلمين ثم ظهر المسلمون عليهم بعد قال : من وجد ماله بعينه فهو أحق به مالم يقسم رواه سعيد و الأثرم فأما ما أدركه بعد أن قسم ففيه روايتان :
إحداهما : أن صاحبه أحق به بالثمن الذي حسب به على من أخذه وكذلك إن بيع ثم قسم ثمنه فهو أحق به بالثمن وهذا قول أبي حنيفة و الثوري و الأوزاعي و مالك لما روى ابن عباس رضي الله عنه [ أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون أصابوه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : إن أصبته قبل أن نقسمه فهو لك وان أصبته بعدما قسم أخذته بالقيمة ] ولأنه إنما أخذه له بغير شيء كيلا يفضي الى حرمان آخذه من الغنيمة أو يضيع الثمن على المشتري وحقهما ينجبر بالثمن فيرجع صاحب المال في عين ماله بمنزلة مشتري الشقص المشفوع إلا أن المحكي عن مالك و أبي حنيفة أنه يأخذه بالقيمة ويروى عن مجاهد مثله
والرواية الثانية عن أحمد أنه قسم فلا حق له فيه بحال نص عليه في رواية أبي داود وغيره وهو قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة و عطاء و النخعي و الليث قال أحمد : أما قول من قال : هو أحق بالقيمة فهو قول ضعيف عن مجاهد وقال الشافعي يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها ويعطي مشتريه ثمنه من خمس المصالح لأنه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب أن يستحق أخذه بغير شيء كما قبل القسمة ويعطي من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان آخذه حقه من الغنيمة وجعل من سهم المصالح لأن هذا منها وهذا قول ابن المنذر
ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى السائب : أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل له إليه وقال سلمان بن ربيعة : إذا قسم فلا حق له فيه رواهما سعيد في سننه ولأنه اجماع قال أحمد : إنما قال الناس فيها قولين : إذا قسم فلا شيء له وقال قوم : إذا قسم فهو له بالثمن فأما أن يكون له بعد القسمة بغير ذلك فلم يقله أحد ومتى ما انقسم أهل العصر على قولين في حكم لم يجز احداث قول ثالث لأنه يخالف الاجماع فلم يجز المصير إليه وقد روى أصحابنا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من أدرك ماله قبل أن يقسم فهو له وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شيء ] والمعمول على ما ذكرنا من الاجماع وقولهم : لم يزل ملك صاحبه عنه غير مسلم (10/470)
فصل : حكم ما لو أخذ مال المسلم أحد الرعية بهبة أو سرقة فعرفه
فصل : وإن أخذه أحد الرعية بهبة أو سرقة أو بغير شيء فصاحبه أحق به بغير شيء وقال أبو حنيفة : لا يأخذه إلا بالقيمة لأنه صار ملكا لواحد بعينه فأشبه ما لو قسم
ولنا ما [ روي أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه و سلم فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياما ثم خرجت في بعض الليل قالت : فما وضعت يدي على ناقة إلا رغت حتى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجهت إلى المدينة ونذرت ان نجاني الله عليها أن أنحرها فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة فاذا هي ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذها فقلت : يا رسول الله اني نذرت أن أنحرها فقال : بئس ما جازيتها لا نذر في معصية وفي رواية : لا نذر فيما لا يملك ابن آدم ] رواه أحمد و مسلم ولأنه لم يحصل في يده بعوض فكان صاحبه أحق به كما لو أدركه في الغنيمة قبل قسمه فأما إن اشتراه رجل من العدو فليس لصاحبه أخذه إلا بثمنه لما روى سعيد : حدثنا عثمان بن مطر الشيباني : حدثنا أبو حريز عن الشعبي قال : أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب ورقيقا ومتاعا ثم ان السائب بن الأقرع عامل عمر غزاهم ففتح ماه فكتب إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب اليه عمر : ان المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يخذله فأيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فانه يرد عليهم رؤوس أموالهم فان الحر لا يباع ولا يشترى وقال القاضي : ما حصل في يده بهبة أو سرقة أو شراء فهو كما لو وجده صاحبه بعد القسمة هل يكون صاحبه أحق به بالقيمة ؟ على روايتين والأولى ما ذكرناه وان علم الامام بمال المسلم قبل قسمه فقسمه وجب رده وكان صاحبه أحق به بغير شيء لأن قسمته كانت باطلة من أصلها (10/473)
فصل : حكم ما لو غنم المسلمون من المشركين شيئا عليه علامة المسلمين
فصل : وان غنم المسلمون من المشركين شيئا عليه علامة المسلمين فلم يعلم صاحبه فهو غنيمة قال أحمد في مراكب تجيء من مصر يقطع عليها الروم فيأخذونها ثم يأخذها المسلمون منهم : إن عرف صاحبها فلا يؤكل منها وهذا يدل على أنه إذا لم يعرف صاحبها جاز الأكل منها ونحو هذا قول الثوري و الأوزاعي قالا في المصحف يحصل في الغنائم : يباع وقال الشافعي : يوقف حتى يجيء صاحبه وان وجد شيء موسوم عليه حبس في سبيل الله رد كما كان نص عليه أحمد وبه قال الأوزاعي و الشافعي وقال الثوري : يقسم ما لم يأت صاحبه
ولنا أن هذا قد عرف مصرفه وهو الحبس فهو بمنزلة ما لو عرف صاحبه قيل لأحمد : فالجواميس تدرك وقد ساقها العدو للمسلمين وقد ردت يؤكل منها ؟ قال : إذا عرف لمن هي فلا يؤكل منها قيل لأحمد : فما حاز العدو للمسلمين فأصابه المسلمون أعليهم أن يقفوه حتى يتبين صاحبه ؟ قال : إذا عرف فقيل هو لفلان وكان صاحبه بالقرب قيل له : أصيب غلام في بلاد الروم قال : أنا لفلان رجل قال : إذا عرف الرجل لم يقسم ماله ورد على صاحبه قيل له : أصبنا مركبا في بلاد الروم فيها النواتية قالوا : هذا لفلان وهذا لفلان ؟ قال : هذا قد عرف صاحبه لا يقسم (10/474)
فصل : يملك الكفار أموال المسلمين بالقهر
فصل : قال القاضي : يملك الكفار أموال المسلمين بالقهر وهو قول مالك و أبي حنيفة وقال أبو الخطاب : لا يملكونها وهو قول الشافعي قال : وهو ظاهر كلام أحمد حيث قال : إن أدركه صاحبه قبل القسمة فهو أحق به وإنما منعه أخذه بعد قسمه لأن قسمة الامام له تجري مجرى الحكم ومتى صادف الحكم امرا مجتهدا فيه نفذ حكمه
وحكي عن أحمد في ذلك روايتان : واحتج من قال : لا يملكونها بحديث ناقة النبي صلى الله عليه و سلم ولأنه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب ولأن من لا يملك رقبة غيره بالقهر لم يملك ماله به كالمسلم مع المسلم ووجه الأول : أن القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر فملك به الكافر مال المسلم كالبيع فأما الناقة فإنما أخذها النبي صلى الله عليه و سلم لأنه أدركها غير مقسومة ولا مشتراة على هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دار الكفر وهو قول مالك وذكر القاضي أنهم إنما يملكونها بالحيازة إلى دارهم وهو قول أبي حنيفة وحكي في ذلك عن أحمد روايتان ووجه الأول أن الاستيلاء سبب للملك فيثبت قبل الحيازة إلى الدار كاستيلاء المسلمين على مال الكفار ولأن ما كان سببا للملك أثبته حيث وجد كالهبة والبيع وفائدة الخلاف في ثبوت الملك وعدمه أن من أثبت الملك للكفار في أموال المسلمين أباح للمسلمين إذا ظهروا عليها قسمتها والتصرف فيها ما لم يعلموا صاحبها وأن الكافر إذا أسلم وهي في يده فهو أحق بها ومن لم يثبت الملك اقتضى مذهبه عكس ذلك والله أعلم (10/475)
فصل : حكم ما إذا أسلم الكافر الحربي ودخل إلينا بأمان
فصل : ولا أعلم خلافا في أن الكافر الحربي إذا أسلم أو دخل الينا بأمان بعد أن استولى على مال مسلم فأتلفه إنه لا يلزمه ضمانه وإن أسلم وهو في يده فهو له بغير خلاف في المذهب لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أسلم على شيء فهو له ] وإن كان أخذه من المستولى عليه بهبة أو سرقة أو شراء فكذلك لأنه استولى عليه في حال كفره فأشبه ما استولى عليه بقهره للمسلم وعن أحمد أن صاحبه يكون أحق به بالقيمة وإن استولى على جارية مسلم فاستولدها ثم أسلم فهي له وهي أم ولد له نص عليه أحمد لأنها مال فأشبهت سائر الأموال وإن غنمها المسلمون وأولادها قبل إسلام سابيها فعلم صاحبها ردت إليه وكان أولادها غنيمة لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها (10/476)
فصل : إذا استولوا على حر لم يملكوه سواء كان مسلما أو ذميا
فصل : وان استولوا على حر لم يملكوه سواء كان مسلما أو ذميا
لا أعلم في هذا خلافا لأنه لا يضمن بالقيمة ولا تثبت عليه يد بحال وكل ما يضمن بالقيمة يملكونه بالقهر كالعروض والعبد القن والمدبر والمكاتب وأم الولد وقال أبوحنيفة : لا يملكون المكاتب وأم الولد لأنهما لا يجوز نقل الملك فيهما فهما كالحر
ولنا أنهما يضمنان بالقيمة فيملكونهما كالعبد القن ويحتمل أن يملكوا المكاتب دون أم الولد لأن أم الولد لا يجوز نقل الملك فيها ولا يثبت فيها لغير سيدها وفائدة الخلاف أن من قال بثبوت الملك فيهما قال : متى قسما أو اشتراهما انسان لم يكن لسيدهما أخذهما إلا بالثمن قال الزهري في أم الولد : يأخذها سيدها بقيمة عدل وقال مالك : يفديها الامام فان لم يفعل يأخذها سيدها بقيمة عدل ولا يدعها يستحل فرجها من لا تحل له ومن قال : لا يثبت الملك فيهما ردا إلى ما كانا عليه على كل حال كالحر وان اشتراهما انسان فالحكم فيهما كالحكم في الحر إذا اشتراه (10/476)
فصل : حكم ما إذا أبق عبد المسلم إلى دار الحرب الخ
فصل : إذا ابق عبد المسلم الى دار الحرب فأخذوه ملكوه كالمال وهذا قول مالك و أبي يوسف و محمد وقال أبو حنيفة : لا يملكونه وعن أحمد مثل ذلك لأنه إذا صار في دار الحرب زالت يد مولاه عنه وصار في يد نفسه فلم يملك كالحر
ولنا أنه مال لو أخذوه من دار الاسلام ملكوه فاذا أخذوه من دار الحرب ملكوه كالبهيمة (10/477)
مسألأة : حكم ما إذا أخذ شيئا من دار الحرب له قيمة
مسألة : قال : ومن قطع من مواتهم حجرا أو عودا أو صار حوتا أو ظبيا رده على سائر الجيش إذا استغنى عن أكله والمنفعة به
يعني إذا أخذ شيئا له قيمة من دار الحرب فالمسلمون شركاؤه فيه وبه قال أبو حنيفة و الثوري وقال الشافعي : ينفرد آخذه بملكه لأنه لو أخذه من دار الاسلام ملكه فاذا أخذه من دار الحرب ملكه كالشيء التافه وهذا قول مكحول و الأوزاعي ونقل ذلك عن القاسم و سالم
ولنا أنه مال ذو قيمة مأخوذ من أرض الحرب بظهر المسلمين فكان غنيمة كالمطعومات وفارق ما أخذوه من دار الاسلام لأنه لا يحتاج إلى الجيش في أخذه فأما إن احتاج إلى أكله والانتفاع به فله ذلك ولا يرده لأنه لو وجد طعاما مملوكا للكفار كان له أكله إذا احتاج فما أخذ من الصيود والمباحات أولى (10/477)
فصل : حكم ما إذا أخذ من بيوتهم ما لا قيمة له في أرضهم
فصل : وإن أخذ من بيوتهم أو خارجا منها ما لا قيمة له في أرضهم كالمسن والاقلام والاحجار والأدوية فله أخذه وهو أحق به وان صارت له قيمة بنقله أو معالحته نص أحمد على نحو هذا وبه قال مكحول و الأوزاعي و الشافعي وقال الثوري : إذا جاء به إلى دار الاسلام دفعه في المقسم وان عالجه فصار له ثمن أعطي بقدر عمله فيه وبقيته في المقسم
ولنا أن القيمة إنما صارت له بعمله أو بنقله فلم تكن غنيمة كما لو لم تصر له قيمة (10/478)
فصل : حكم ما إذا ترك صاحب المقسم شيئا من الغنيمة وقال : من أخذ شيئا فهو له
فصل : وان ترك صاحب المقسم شيئا من الغنيمة عجزا عن حمله فقال : من أخذ شيئا فهو له فمن حمل شيئا فهو له نص عليه أحمد وسئل عن قوم غنموا غنائم كثيرة فيبقى خرثي المتاع مما لا يباع ولا يشترى فيدعه الوالي بمنزلة العقار والفخار وما أشبه ذلك أيأخذه الانسان لنفسه ؟ قال : نعم إذا ترك ولم يشتر ونحو هذا قول مالك ونقل عنه أبو طالب في المتاع لا يقدرون على حمله إذا حمله رجل : يقسم وهذا قول ابراهيم قال الخلال : روى أبو طالب هذه في ثلاثة مواضع في موضع منها وافق أصحابه وفي موضع خالفهم قال : ولا شك أن أبا عبد الله قال هذا أولا ثم تبين له بعد ذلك أن للامام أن يبيحه وأن يحرمه وأن لهم أن يأخذوه إذا تركه الامام إذا لم يجد من يحمله لأنه إذا لم يجد من يحمله ولم يقدر على حمله بمنزلة ما لا قيمة له فصار كالذي ذكرناه في الفصل قبل هذا (10/478)
فصل : حكم ما لو وجد في دار الحرب ركازا
فصل : وإن وجد في أرضهم ركازا فان كان في موضع يقدر عليه بنفسه فهو كما لو وجده في دار الاسلام : فيه الخمس وباقيه له وإن قدر عليه بجماعة المسلمين فهو غنيمة ونحو هذا قول مالك و الأوزاعي و الليث وقال الشافعي : إن وجده في مواتهم فهو كما لو وجده في دار الاسلام
ولنا ما روى عاصم بن كليب عن أبي الجويرية الحرمي قال : أصبت بأرض الروم جرة حمراء فيها دنانير في امراة معاوية وعلينا معن بن يزيد السلمي فأتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني مثل ماأعطى رجلا منهم ثم قال : لولا اني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نفل إلا بعد خمس ] لأعطيتك ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت أخرجه أبو داود ولأنه مال مشرك ظهر عليه بقوة جيش المسلمين فكان غنيمة كأموالهم الظاهرة (10/479)
فصل : حكم الدابة تخرج من بلاد الروم
فصل : سئل أحمد عن الدابة تخرج من بلد الروم أو تنفلت فتدخل القرية وعن القوم يضلون عن الطريق فيدخلون القرية من قرى المسلمين فيأخذونهم فقال : يكونون لأهل القرية كلهم يتقاسمونهم وسئل عن قوم يكونون في حصن أو رباط فيخرج منهم قوم إلى قتالهم فيصيبون دوابا أو سلاحا فقال أبو عبد الله تكون بين أهل الرباط وأهل الحضرة من القرية وسئل عن مركب بعث به ملك الروم فيه رجاله فطرحته الريح إلى طرطوس فخرج إليه أهل طرطوس فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال فقال : هذا فيء المسلمين مما افاه الله عليهم وقال الزهري هو لمن غنمه وفيه الخمس فقال أبو الخطاب : من ضل الطريق منهم أو حملته الريح إلينا فهو لمن أخذه في إحدى الروايتين لأنه متاع أخذه أحد المسلمين بغير قوة مسلم فكان له كالحطب والرواية الثانية يكون فيئا (10/479)
فصل : حكم من وجد في دارهم لقطة
فصل : ومن وجد في دارهم لقطة فان كانت من متاع المسلمين فهي لقطة يعرفها سنة ثم يملكها وإن كانت من متاع المشركين فهي غنيمة وان احتمل الأمرين عرفها حولا ثم جعلها في الغنيمة نص عليه أحمد ويعرفها في بلد المسلمين لأنها تحتمل الأمرين فغلب فيها حكم مال المسلمين في التعريف وحكم مال أهل الحرب في كونها غنيمة احتياطا (10/480)
مسألة : حكم من تعلف فوق ما يحتاج إليه
مسألة قال : ومن تعلف فضلا عما يحتاج إليه رده على المسلمين فان باعه رد ثمنه في المقسم
أجمع أهل العلم إلا من شذ منهم على أن للغزاة إذا دخلوا أرض الحرب أن يأكلوا مما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم من أعلافهم منهم سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و الشعبي و القاسم و سالم و الثوري و الأوزاعي و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري : لا يؤخذ إلا بإذن الامام وقال سليمان بن موسى : لا يترك إلا أن ينهى عنه الامام فيتقي نهيه
ولنا ما روى عبد الله بن أبي أوفى قال : أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف رواه سعيد و أبو داود [ وروي أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر : إنا أصبنا أرضا كثيرة الطعام والعلف وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك فكتب إليه : دع الناس يعلفون ويأكلون فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين ] رواه سعيد [ وقد روى عبد الله بن مغفل قال : دلي جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت : والله لا أعطي أحدا منه شيئا فالتفت فاذا رسول الله صلى الله عليه و سلم يضحك فاستحييت منه ] متفق عليه ولأن الحاجة تدعو إلى هذا وفي المنع منه مضرة بالجيش وبدوابهم فانه يعسر عليهم نقل الطعام والعلف من دار الاسلام ولا يجدون بدار الحرب ما يشترونه ولو وجدوه لم يجدوا ثمنه ولا يمكن قسمة ما يأخذه الواحد منهم ولو قسم لم يحصل للواحد منهم شيء ينتفع به ولا يدفع به حاجته فأباح الله تعالى لهم ذلك فمن أخذ من الطعام شيئا مما يقتات أو يصلح به القوت من الأدم وغيره أو العلف لدابته فهو أحق به سواء كان له ما يستغني به عنه أو لم يكن له ويكون أحق بما يأخذه من غيره فان فضل منه ما لا حاجة به إليه رده على المسلمين لأنه إنما أبيح له ما يحتاج إليه وإن أعطاه أحد من أهل الجيش اليه جاز له أخذه وصار أحق به من غيره وان باع شيئا من الطعام أو العلف رد ثمنه في الغنيمة لما ذكرنا من حديث عمر وروي مثله عن فضالة بن عبيد وبه قال سليمان بن موسى و الثوري و الشافعي وكره القاسم و سالم و مالك بيعه قال القاضي : لا يخلو إما أن يبيعه من غاز أو غيره فان باعه لغيره فالبيع باطل لأنه بيع مال الغنيمة بغير ولاية ولا نيابة فيجب رد المبيع ونقض البيع فان تعذر رده رد قيمته أو ثمنه إن كان أكثر من قيمته إلى المغنم
وعلى هذا الوجه كلام الخرقي وإن باعه لغاز لم يحل إلا أن يبدله بطعام أو علف مما له الانتفاع به أو بغيره فان باعه بمثله فليس هذا بيعا في الحقيقة إنما سلم إليه مباحا وأخذ مثله مباحا ولكل واحد منهما الانتفاع بما أخذه وصار أحق به لثبوت يده عليه فعلى هذا لو باع صاعا بصاعين وافترقا قبل القبض جاز لأنه ليس ببيع وإن باعه به نسيئة أو أقرضه إياه فأخذه فهو أحق به ولا يلزمه إيفاؤه فإن وفاه أو رده إليه عادت اليد إليه وان باعه بغير الطعام والعلف فالبيع أيضا غير صحيح ويصير المشتري أحق به لثبوت يده عليه ولا ثمن عليه وإن أخذ منه وجب رده إليه (10/480)
فصل : حكم ما لو وجد دهنا في أرض العدو
فصل : وإن وجد دهنا فهو كسائر الطعام لما ذكرنا من حديث ابن مغفل ولأنه طعام فأشبه البر والشعير وإن كان غير مأكول فاحتاج أن يدهن به أو يدهن دابته فظاهر كلام أحمد جوازه إذا كان من حاجة
قال أحمد في زيت الروم : إذا كان من ضرورة أو صداع فلا بأس فأما التزين فلا يعجبني وقال الشافعي : ليس له دهن دابته من جرب ولا يوقحها إلا بالقيمة لأن ذلك لا تعم الحاجة إليه ويحتمل كلام أحمد مثل هذا لأن هذا ليس بطعام ولا علف
ووجه الأول أن هذا مما لا يحتاج إليه لاصلاح نفسه ودابته أشبه الطعام والعلف وله أكل ما يتداوى به وشرب الشراب من الجلاب والسكنجبين وغيرهما عند الحاجة إليه لأنه من الطعام وقال أصحاب الشافعي : ليس له تناوله لأنه ليس من القوت ولا يصلح به القوت ولأنه لا يباح مع عدم الحاجة إليه فلا يباح مع وجودها كغير الطعام
ولنا أنه طعام احتيج إليه أشبه الفواكه وما ذكروه يبطل بالفاكهة وإنما اعتبرنا الحاجة ههنا لأن هذا لا يتناول في العادة إلا عند الحاجة إليه (10/482)
فصل : قال أحمد لا يجوز للغازي المسلم أن يغسل ثوبه بالصابون قبل القسم
فصل : قال أحمد : ولا يغسل ثوبه بالصابون لأن ذلك ليس بطعام ولا علف ويراد للتحسين والزينة فلا يكون في معناهما ولو كان مع الغازي فهد أو كلب الصيد لم يكن له إطعامه من الغنيمة فان أطعمها غرم قيمة ما أطعمها لأن هذا يراد للتفرج والزينة وليس مما يحتاج إليه في الغزو بخلاف الدواب (10/483)
فصل : لا يجوز لبس الثياب ولا ركوب دابة من المغنم
فصل : ولا يجوز لبس الثياب ولا ركوب دابة من المغنم لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ] رواه سعيد (10/483)
فصول : حكم ما لو أخذوا من الكفار جوارح أو جلودا أو علفا
فصل : ولا يجوز الانتفاع بجلودهم واتخاذ النعل والجرب منها ولا الخيوط والحبال وبهذا قال ابن محيريز ويحيى بن أبي كثير واسماعيل بن عياش و الشافعي ورخص في اتخاذ الجرب من جلود الغنم سليمان بن موسى ورخص مالك في الابرة والحبل يتخذ من الشعر والنعل والخف يتخذ من جلود البقر
ولنا ما روى قيس بن أبي حازم [ أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بكنة من شعر من المغنم فقال يا رسول الله إنا لنعمل الشعر فهبها لي ؟ قال : نصيبي منها لك ] رواه سعيد
وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أدوا الخيط والمخيط فان الغلول نار وشنار يوم القيامة ] ولأن ذلك من الغنيمة لا تدعو الى أخذه حاجة عامة فلم يجز أخذه كالثياب
فصل : فأما كتبهم فان كانت مما ينتفع به ككتب الطب واللغة والشعر فهي غنيمة وإن كانت مما لا ينتفع به ككتاب التوراة والانجيل فأمكن الانتفاع بجلودها أو ورقها بعد غسله غسل وهو غنيمة وإلا فلا ولا يجوز بيعها
فصل : وإن أخذوا من الكفار جوارح للصيد كالفهود والبزاة فهي غنيمة تقسم وإن كانت كلابا لم يجز بيعها وإن لم يردها أحد من الغانمين جاز إرسالها أو إعطاؤها غير الغانمين وإن رغب فيها بعض الغانمين دون بعض دفعت إليه ولم تحسب عليه لأنها لا قيمة لها وإن رغب فيها الجميع أو جماعة كثيرة فأمكن قسمها يكون عددا من غير تقويم وإن تعذر ذلك أو تنازعوا في الجيد منها فطلبه كل واحد منهم أقرع بينهم فيها وإن وجدوا خنازير قتلوها لأنها مؤذية ولا نفع فيها وأن وجدوا خمرا أراقوه وإن كان في ظروفه نفع للمسلمين أخذوها وإن لم يكن فيها نفع كسروها لئلا يعودوا الى استعمالها
فصل : وللغازي أن يعلف دوابه ويطعم رقيقه مما يجوز له الأكل منه سواء كانوا للقنية أو للتجارة قال أبو داود : قلت لأبي عبد الله : يشتري الرجل السبي في بلاد الروم يطعمهم من طعام الروم ؟ قال : نعم يطعمهم
وروى عنه ابنه عبد الله قال : سألت أبي عن الرجل يدخل بلاد الروم ومعه الجارية والدابة للتجارة إن أطعمهما يعني الجارية وعلف الدابة ؟ قال : لا يعجبني ذلك فان لم تكن للتجارة فلم ير به بأسا فظاهر هذا أنه لا يجوز إطعام ما كان للتجارة لأنه ليس مما يستعين به على الغزو وقال الخلال : رجع أحمد عن هذه الرواية وروى عنه جماعة بعد هذا أنه لا بأس به وذلك لأن الحاجة داعية إليه فأشبه ما لا يراد به التجارة (10/484)
مسألة : يشارك الجيش سرايا فيما غنمت وتشاركه فيما غنم
مسألة : قال : ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم
وجملته أن الجيش إذا فصل غازيا فخرجت منه سرية أو أكثر فأيهما غنم شاركه الآخر في قول عامة أهل العلم منهم مالك و الثوري و الأوزاعي و الليث و حماد و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال النخعي : إن شاء الامام خمس ما تأتي به السرية وأن شاء نفلهم إياه كلهم
وقد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت السرية فاشرك بينها وبين الجيش قال ابن المنذر : وروينا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ويرد سراياهم على قعدهم ] وفي تنفيل النبي صلى الله عليه و سلم في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث دليل على اشتراكهم فيما سوى ذلك لأنهم لو اختصوا بما غنموه لما كان ثلثه نفلا ولأنهم جيش واحد وكل واحد منهم ردء لصاحبه فيشتركون كما لو غنم أحد جانبي الجيش وان أقام الأمير ببلد الاسلام وبعث سرية أو جيشا فما غنمت السرية فهو له وحدها لأنه إنما يشترك المجاهدون والمقيم في بلد الاسلام ليس بمجاهد وان نفذ من بلد الاسلام جيشين أو سريتين فكل واحدة تنفرد بما غنمته لأن كل واحدة منهما انفردت بالغزو فانفردت بالغنيمة بخلاف ما إذا فصل الجيش فدخل بجملته بلاد الكفار فان جميعهم اشتركوا في الجهاد فاشتركوا في الغنيمة (10/485)
مسألة : حكم ما يفضل من الطعام معهم حين يدخلون البلد
مسألة : قال : ومن فضل معه من الطعام فأدخله البلد طرحه في مقسم تلك الغزاة في احدى الروايتين
والأخرى يباح له أكله إذا كان يسيرا أما الكثير فيجب رده بغير خلاف نعلمه لأن ما كان مباحا له في دار الحرب فإذا أخذه على وجه يفضل منه كثير إلى دار الإسلام فقد أخذ ما لا يحتاج إليه فيلزمه رده لأن الأصل تحريمه لكونه مشتركا بين الغانمين كسائر المال وإنما أبيح منه ما دعت الحاجة إليه فما زاد على أصل التحريم ولهذا لم يبح له بيعه وأما اليسير ففيه روايتان :
إحداهما : يجب رده أيضا وهو اختيار أبي بكر وقول أبي حنيفة و ابن المنذر وأحد قولي الشافعي و أبي ثور لما ذكرنا في الكثير ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أدوا الخيط والمخيط ] ولأنه من الغنيمة ولم يقسم فلم يبح في دار الاسلام كالكثير أو كما لو أخذه في دار الاسلام
والثانية : يباح وهو قول مكحول وخالد بم معدان و عطاء الخراساني و مالك و الأوزاعي قال أحمد : أهل الشام يتساهلون في هذا وقد [ روى القاسم بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم قال : كنا نأكل الجزور في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملأة ] رواه سعيد و أبو داود وعن عبد الله بن يسار السلمي قال : دخلت على رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فقدم إلي تميرا من تمير الروم فقلت : لقد سبقت الناس بهذا قال : ليس هذا من العام هذا من العام الأول رواه الأثرم في سننه وقال الأوزاعي : أدركت الناس يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم الى بعض لا ينكره امام ولا عامل ولا جماعة وهذا نفل للاجماع ولأنه أبيح إمساكه عن القسمة فأبيح في دار الاسلام كمباحات دار الحرب التي لا قيمة لها فيها ويفارق الكثير فانه لا يجوز امساكه عن القسمة ولأن اليسير تجري المسامحة فيه ونفعه قليل بخلاف الكثير (10/486)
مسألة وفصل : حكم ما إذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو
مسألة : قال : وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو لزم الأسير أن يؤدي الى المشتري ما اشتراه
لا يخلو هذا من حالين : أحدهما أن يشتريه بإذنه فهذا يلزمه أن يؤدي إلى المشتري ما أداه فيه بغير خلاف نعلمه إذا وزن باذنه لأنه إذا أذن فيه كان نائبه في شراء نفسه فكان الثمن على الآمر كالوكيل
والثاني : أن يشتريه بغير اذنه فيلزم الأسير الثمن أيضا عند أحمد وبه قال الحسن و النخعي و الزهري و مالك و الأوزاعي وقال الثوري و الشافعي و ابن المنذر : لا يلزمه لأنه تبرع بما لا يلزمه ولم يأذن له فأشبه ما لو عمر داره وقال الليث : إن كان الأسير موسرا كقولنا وإن كان معسرا أدى ذلك من بيت المال
ولنا ما روى سعيد حدثنا عثمان بن مطر حدثنا أبو حريز عن الشعبي قال : أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب فأصابوا سبايا من سبايا العرب فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم قد اشتراه التجار من أهل ماه فكتب عمر : أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره وإن أصابه في أيدي التجار بعدما اقتسم فلا سبيل إليه وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم فإن الحر لا يباع ولا يشترى فحكم للتجار برؤوس أموالهم ولأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ليتلخص من حكم الكفار ويخرج من تحت أيديهم فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه كما لو قضى الحاكم عنه حقا امتنع من أدائه
فصل : فان اختلفا في قدر ما اشتراه به فالقول قول الأسير وهو قول الشافعي إذا أذن له وقال الأوزاعي : القول قول المشتري لأنهما اختلفا في فعله وهو أعلم بفعله
ولنا أن الأسير منكر للزيادة والقول قول المنكر ولأن الأصل براءة ذمته من هذه الزيادة فيترجح قوله بالأصل (10/487)
مسألة : حكم ما لو سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية
مسألة : قال : وإذا سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية ثم قدر عليهم ردوا الى ما كانوا عليه ولم يسترقوا وما أخذه العدو منهم من مال أو رقيق رد اليهم إذا علم به قبل أن يقسم ويفادى بهم بعد أن يفادى بالمسلمين
وجملة ذلك أن أهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا فسبوهم وأخذوا أموالهم ثم قدر عليهم وجب ردهم إلى ذمتهم ولم يجز استرقاقهم في قول عامة أهل العلم منهم : الشعبي و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق ولا نعلم لهم مخالفا وذلك لأن ذمتهم باقية ولم يوجد منهم ما يوجب نقضها وحكم أموالهم حكم أموال المسلمين في حرمتها قال علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا فمتى علم صاحبها قبل قسمها وجب ردها إليه وإن علم بعد القسمة فعلى روايتين : إحداهما لا حق له فيه والثانية هو له بثمنه لأن أموالهم معصومة كأموال المسلمين وأما فداؤهم فظاهر كلام الخرقي أنه يجب فداؤهم سواء كانوا في معونتنا أو لم يكونوا وهذا قول عمر بن عبد العزيز و الليث لأننا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم وأخذ جزيتهم فلزمنا القتال من ورائهم والقيام دونهم فاذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم لزمنا ذلك كمن يحرم عليه اتلاف شيء فاذا أتلفه غرمه وقال القاضي : 'نما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الامام في قتاله فسبوا وجب عليه فداؤهم لأن أسرهم كان لمعنى من جهته وهو المنصوص عن أحمد ومتى وجب فداؤهم فانه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم لأن حرمة المسلم أعظم والخوف عليه أشد وهو معرض لفتنته عن دين الحق بخلاف أهل الذمة (10/488)
فصل : يجب فداء الأسرى المسلمين إذا أمكن
فصل : ويجب فداء أسرى المسلمين إذا أمكن وبهذا قال عمر بن عبد العزيز و مالك و إسحاق ويروى عن ابن الزبير أنه سأل الحسن بن علي : على من فكاك الأسير ؟ قال : على الأرض التي يقاتل عليها وثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني ] وروى سعيد باسناده عن حبان بن حبلة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ان على المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم ويؤدوا عن غارمهم ] وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم وأن يفكوا عانيهم بالمعروف وفادى النبي صلى الله عليه و سلم رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل وفادى بالمرأة التي استوهبها من سلمة بن الأكوع رجلين (10/490)
مسألة : إذا جاز الأمير المغانم ووكل من يحفظها لم يجز أن يؤكل منها
مسألة : قال : واذا حاز الأمير المغانم ووكل من يحفظها لم يجز أن يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون
وجملة ذلك أن المغانم إذا جمعت وفيها طعام أو علف لم يجز لأحد أخذه إلا لضرورة لأننا إنما أبحنا أخذه قبل جمعه لأنه لم يثبت فيه ملك المسلمين بعد فأشبه المباحات من الحطب والحشيش فاذا حيزت المغانم ثبت ملك المسلمين فيها فخرجت عن حيز المباحات وصارت كسائر أملاكهم فلم يجز الأكل منها إلا لضرورة وهو أن لا يجدوا ما يأكلونه فحينئذ يجوز لأن حفظ نفوسهم ودوابهم أهم وسواء حيزت في دار الحرب أو في دار الاسلام وقال القاضي : ما كانت دار الحرب جاز الأكل منها وان حيزت لأن دار الحرب مظنة الحاجة لعسر نقل الميرة إليها بخلاف دار الاسلام وكلام الخرقي عام في الموضعين والمعنى يقتضيه فان ما ثبتت عليه أيدي المسلمين وتحقق ملكهم له لا ينبغي أن يؤخذ إلا برضاهم كسائر أملاكهم ولأن حيازته في دار الحرب تثبت الملك فيه بدليل جواز قسمته وثبوت أحكام الملك فيه بخلاف ما قبل الحيازة فان الملك لم يثبت فيه بعد (10/491)
مسألة : حكم ما بيع من المغنم من بلاد الروم فغلب عليه العدو
مسألة : قال : ومن اشترى من المغنم في بلاد الروم فغلب عليه العدو ولم يكن عليه شيء من الثمن وان كان قد أخذ منه الثمن رد إليه
وجملته أن الأمير إذا باع من المغنم شيئا قبل قسمه لمصلحة صح بيعه فان عاد الكفار فغلبوا على المبيع فأخذوه من المشتري في دار الحرب نظرنا فان كان لتفريط من المشتري مثل ان خرج به من المعسكر ونحو ذلك فضمانه عليه لأن ذهابه حصل بتفريطه فكان من ضمانه كما لو أتلفه وان حصل بغير تفريط ففيه روايتان :
إحداهما : ينفسخ البيع ويكون من ضمان أهل الغنيمة فان كان الثمن لم يؤخذ من المشتري سقط عنه وان كان أخذ منه رد إليه لأن القبض لم يكمل لكون المال في دار الحرب غير محرز وكونه على خطر من العدو فأشبه التمر المبيع على رؤوس الشجر إذا تلف قبل الجذاذ
والثانية : هو من ضمان المشتري وعليه ثمنه وهذا أكثر الروايات عن أحمد واختاره الخلال وأبو بكر صاحبه وهو مذهب الشافعي لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه فكان ضمانه عليه كما لو أحرز إلى دار الاسلام ولأن أخذ العدو له تلف فلم يضمنه البائع كسائر أنواع التلف ولأن نماءه للمشتري فكان ضمانه عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الخراج بالضمان ] (10/491)
فصل : إذا قسمت الغنائم في دار الحرب جاز لمن أخذ سهمه التصرف فيه
فصل : وإذا قسمت الغنائم في دار الحرب جاز لمن أخذ سهمه التصرف فيه بالبيع وغيره فان باع بعضهم بعضا شيئا منها فغلب عليه العدو ففي ضمان البائع له وجهان بناء على الروايتين في التي قبلها وإن اشتراه مشتر من المشتري فكذلك فاذا قلنا هو من ضمان البائع رجع الثاني على البائع الأول بما رجع به عليه (10/492)
فصل : حكم شراء الجارية من المغنم ومعها الحلي
فصل : قال أحمد في الرجل يشتري الجارية من المغنم معها الحلي في عنقها والثياب : يرد ذلك في المغنم إلا شيئا تلبسه من قميص ومقنعة وإزار وهذا قول حكيم بن حزام و مكحول ويزيد بن أبي مالك والمتوكل و إسحاق و ابن المنذر ويشبه قول الشافعي واحتج إسحاق بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ من باع عبدا وله مال فماله للبائع ] وقال الشعبي : يجعليه في بيت المال وكان مالك يرخص في اليسير كالقرطين وأشباههما ولا يرى ذلك في الكثير ويمكن أن يفصل القول في هذا فيقال : ما كان عليها ظاهرا مرئيا يشاهده البائع والمشتري كالقرط والخاتم والقلادة فهو للمشتري لأن الظاهر أن البائع إنما باعها بما عليها والمشتري اشتراها بذلك فيدخل في البيع كثياب البذلة وحلية السيف وما خفي فلم يعلم به البائع رده لأن البيع وقع عليها بدونه فلم يدخل في البيع كجارية أخرى (10/492)
فصل : لا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا
فصل : قال أحمد : لا يجوز لأمير الجيش أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا لأنه يحابي ولأن عمر رد ما اشتراه ابنه في غزوة جلولاء وقال انه يحابي احتج به أحمد ولأنه هو البائع أو وكيله فكأنه يشتري من نفسه أو وكيل نفسه قال أبو داود : قيل لأبي عبد الله : إذا قوم أصحاب المغانم شيئا معروفا فقالوا في جلود الماعز بكذا والخرفان بكذا يحتاج إليه يأخذه بتلك القيمة ولا يأتي المغانم فرخص فيه وذلك لأنه يشق الاستئذان فيه فسومح فيه كما سومح في دخول الحمام وركوب سفينة الملاح من غير تقدير أجر (10/493)
مسألة : إذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار
مسألة : قال : وإذ حورب العدو لم يحرقوا بالنار
أما العدو إذا قدر عليه فلا يجوز تحريقه بالنار بغير خلاف نعلمه وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يأمر بتحريق أهل الردة بالنار وفعل ذلك خالد بن الوليد بأمره فأما اليوم فلا أعلم فيه بين الناس خلافا وقد [ روى حمزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره على سرية فقال : خرجت فيها فقال : إن أخذتم فلانا فاحرقوه بالنار فوليت فناداني فرجعت فقال : إن أخذتم فلانا فاقتلوه ولا تحرقوه فانه لا يعذب بالنار إلا رب النار ] رواه أبو داود و سعيد وروى أحاديث سواه في هذا المعنى
وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم نحو حديث حمزة فأما رميهم قبل أخذهم بالنار فان أمكن أخذهم بدونها لم يجز رميهم بها لأنهم في معنى المقدور عليه وأما عند العجز عنهم بغيرها فجائز في قول أكثر أهل العلم وبه قال الثوري و الأوزاعي و الشافعي
وروى سعيد باسناده عن صفوان بن عمرو وجرير بن عثمان أن جنادة بن أمية الأزدي وعبد الله بن قيس الفزاري وغيرهما من ولاة البحرين ومن بعدهم كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار يحرقونهم هؤلاء لهؤلاء وهؤلاء لهؤلاء قال عبد الله بن قيس : لم يزل أمر المسلمين على ذلك (10/493)
فصل : حكم فتح البثوق على العدو لإغراقهم
فصل : وكذلك الحكم في فتح البثوق عليهم ليغرقهم ان قدر عليهم بغيره لم يجز
إذا تضمن ذلك إتلاف النساء والذرية الذين يحرم اتلافهم قصدا وإن لم يقدر عليهم إلا به جاز كما يجوز البيات المتضمن لذلك ويجوز نصب المنجنيق عليهم وظاهر كلام أحمد جوازه مع الحاجة وعدمها لأن النبي صلى الله عليه و سلم نصب المنجنيق على أهل الطائف وممن رأى ذلك الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نصب المنجنيق على أهل الطائف وعن عمرو بن العاص أنه نصب المنجنيق على أهل الاسكندرية ولأن القتال به معتاد فأشبه الرمي بالسهام (10/494)
فصل : يجوز تبييت الكفار
فصل : ويجوز تبييت الكفار وهو كسبهم ليلا وقتلهم وهم غارون قال أحمد : لا بأس بالبيات وهل غزو الروم إلا البيات ؟ قال : ولا نعلم أحدا كره بيات العدو وقرأ عليه سفيان عن الزهري عن عبد الله عن ابن عباس [ عن الصعب بن جثامة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يسأل عن الديار من المشركين نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريرهم فقال : هم منهم ] فقال : اسناد جيد فان قيل : فقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء والذرية قلنا : هذا محمول على التعمد لقتلهم قال أحمد أما أن يتعمد قتلهم فلا قال : وحديث الصعب بعد نهيه عن قتل النساء لأن نهيه عن قتل النساء حين بعث الى ابن أبي الحقيق وعلى أن الجمع بينهما ممكن يحمل النهي على التعمد والاباحة على ما عداه (10/495)
فصول : متفرقات في كيفية محاربة العدو
فصل : قال الأوزاعي : إذا كان في المطمورة العدو فعلمت انك تقدر عليهم بغير النار فأحب إلي أن يكف عن النار وإن لم يمكن ذلك وأبوا أن يخرجوا فلا أرى بأسا وان كان معهم ذرية قد كان المسلمون يقاتلون بها ونحو ذلك قال سفيان وهشام ويدخن عليهم قال أحمد أهل الشام أعلم بهذا
فصل : وإن تترسوا في الحرب بنسائهم وصبيانهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة لأن النبي صلى الله عليه و سلم رماهم بالمنجنيق ومعهم النساء والصبيان ولأن كف المسلمين عنهم يفضي إلى تعطيل الجهاد لأنهم متى علموا ذلك تترسوا بهم عند خوفهم فينقطع الجهاد وسواء كانت الحرب ملتحمة أو غير ملتحمة لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن يتحين بالرمي حال التحام الحرب
فصل : ولو وقفت امرأة في صف الكفار أو على حصنهم فشتمت المسلمين أو تكشفت لهم جاز رميها قصدا لما روى سعيد : حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال : [ لما حاصر رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الطائف أشرفت امرأة فكشفت عن قبلها فقال : ها دونكم فارموها فرماها رجل من المسلمين فما أخطأ ذلك منها ] ويجوز النظر إلى فرجها للحاجة إلى رميها لأن ذلك من ضرورة رميها وكذلك يجوز رميها إذا كانت تلتقط لهم السهام أو تسقيهم أو تحرضهم على القتال لأنها في حكم المقاتل وهكذا الحكم في الصبي والشيخ وسائر من منع من قتله منهم
فصل : وإن تترسوا بمسلم ولم تدع حاجة إلى رميهم لكون الحرب غير قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو للأمن من شرهم لم يجز رميهم فان رماهم فأصاب مسلما فعليه ضمانه وان دعت الحاجة إلى رميهم للخوف على المسلمين جاز رميهم لأنها حال ضرورة ويقصد الكفار وإن لم يخف على المسلمين لكن لم يقدر عليهم إلا بالرمي فقال الأوزاعي و الليث : لا يجوز رميهم لقول الله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون } الآية قال الليث : ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق وقال الأوزاعي : كيف يرمون من لا يرونه ؟ إنما يرمون أطفال المسلمين وقال القاضي و الشافعي : يجوز رميهم إذا كانت الحرب قائمة لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا إن قتل مسلما فعليه الكفارة وفي الدية على عاقلته روايتان :
إحداهما : يجب لأنه قتل مؤمنا خطأ فيدخل في عموم قوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله }
والثانية : لا دية له لأنه قتل في دار الحرب برمي مباح فيدخل في عموم قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ولم يذكر دية وقال أبو حنيفة : لا دية له ولا كفارة فيه لأنه رمي أبيح مع العلم بحقيقة الحال فلم يوجب شيئا كرمي من أبيح دمه
ولنا الآية المذكورة وأنه قتل معصوما بالإيمان والقاتل من أهل الضمان فأشبه ما لو لم يتترس به (10/495)
مسألة : لا يجوز تغريق النحل وتحريقه
مسألة : قال : ولا يغرقوا النحل
وجملته أن تغريق النحل وتحريقه لا يجوز في قول عامة أهل العلم منهم الأوزاعي و الليث و الشافعي وقيل لمالك : أتحرق بيوت نحلهم ؟ قال : أما النحل فلا أدري ما هو ؟ ومقتضى مذهب أبي حنيفة إباحته لأن فيه غيظا لهم وإضعافا فأشبه قتل بهائمهم حال قتالهم
ولنا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال ليزيد بن أبي سفيان وهو يوصيه حين بعثه أميرا على القتال بالشام : ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه وروي عن ابن مسعود أنه قدم عليه ابن أخيه من غزاة غزاها فقال : لعلك حرقت حرثا ؟ قال : نعم قال : لعلك غرقت نحلا ؟ قال : نعم قال : لعلك قتلت صبيا ؟ قال : نعم قال : ليكن غزوك كفافا أخرجهما سعيد ونحو ذلك عن ثوبان وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النحلة ونهى أن يقتل شيء من الدواب صبرا ولأنه إفساد فيدخل في عموم قوله تعالى : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد } ولأنه حيوان ذو روح فلم يجز قتله لغيظ المشركين كنسائهم وصبيانهم وأما أخذ العسل وأكله فمباح لأنه من الطعام المباح (10/497)
مسألة : لا يجوز عقر شاة ولا دابة إلا للأكل
مسألة : قال : ولا يعقر شاة ولا دابة إلا لأكل لا بد لهم منه
أما عقر دوابهم في غير حال الحرب لمغايظتهم والافساد عليهم فلا يجوز سواء خفنا أخذهم لها أو لم نخف وبهذا قال الأوزاعي و الليث و الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة و مالك : يجوز لأن فيه غيظا لهم واضعافا لقوتهم فأشبه قتلها حال قتالهم
ولنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في وصيته ليزيد حين بعثه أميرا : يا يزيد لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما ولا تخربن عامرا ولا تعقرن شجرا مثمرا ولا دابة عجماء ولا شاة إلا لمأكلة ولا تحرقن نحلا ولا تغرقنه ولا تغلل ولا تجبن ولأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل شيء من الدواب صبرا ولأنه حيوان ذو حرمة فأشبه النساء والصبيان وأما حال الحرب فيجوز فيها قتل المشركين كيف أمكن بخلاف حالهم إذا قدر عليهم ولهذا جاز قتل النساء والصبيان في البيات وفي المطمورة إذا لم يتعمد قتلهم منفردين بخلاف حالة القدرة عليهم وقتل بهائمهم يتوصل به الى قتلهم وهزيمتهم وقد ذكرنا حديث المددي الذي عقر بالرومي فرسه وروي ان حنظلة بن الراهب عقر فرس أبي سفيان به يوم أحد فرمت به فخلصه ابن شعوب وليس في هذا خلاف (10/498)
فصلان : ما يجوز ذبحه للأكل في الحرب وما لا يجوز
فصل : فأما عقرها للأكل فان كانت الحاجة داعية إليه ولا بد منه فمباح بغير خلاف لأن الحاجة تبيح مال المعصوم فمال الكافر أولى وإن لم تكن الحاجة داعية إليه نظرنا فان كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام وسائر الطير والصيد فحكمه حكم الطعام في قول الجميع لأنه لا يراد لغير الأكل وتقل قيمته فأشبه الطعام وإن كان مما يحتاج اليه في القتال كالخيل لم يبح ذبحه للأكل في قولهم جميعا وإن كان غير ذلك كالغنم والبقر لم يبح في قول الخرقي وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد إباحته لأن هذا الحيوان مثل الطعام في باب الأكل ولاقوت فكان مثله في إباحته
وإذا ذبح الحيوان أكل لحمه وليس له الانتفاع بجلده لأنه إنما أبيح له ما يأكله دون غيره قال عبد الرحمن بن معاذ بن جبل : كلوا لحم الشاة وردو إهابها الى المغنم ولأن هذا حيوان مأكول فابيح أكله كالطير
ووجه قول الخرقي ما روى سعيد : حدثنا أبو الأحوص [ عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال : أصبنا غنما للعدو فانتهبنا فنصبنا قدورنا فمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقدور وهي تغلي فأمر بها فأكفئت ثم قال لهم : ان النهبة لا تحل ] ولأن الحيوانات تكثر قيمتها وتشح أنفس الغانمين بها ويمكن حملها إلى دار الاسلام بخلاف الطير والطعام لكن إن أذن الامير فيها جاز لما روى عطية بن قيس قال : كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنما نادى منادي الامام : ألا من أراد أن يتناول شيئا من هذه الغنم فليتناول إنا لا نستطيع سياقنها رواه سعيد وكذلك إن قسمها لما [ لما روى معاذ قال : غزونا مع النبي صلى الله عليه و سلم خيبر فأصبنا غنما فقسم بيننا النبي صلى الله عليه و سلم وجعل بقيتها في المغنم ] رواه أبو داود
وقال سعيد : حدثنا اسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عبيد أن رجلا نحر جزورا بأرض الروم فلما بردت قال : يا أيها الناس خذوا من لحم هذه الجزور فقد أذنا لكم فقال مكحول : يا غساني ألا تأتينا من لحم هذه الجزور ؟ فقال الغساني : يا أبا عبد الله أما ترى عليها من النهي ؟ قال مكحول : لا نهي في المأذون فيه
فصل : ولم يفرق أصحابنا بين جميع البهائم في هذه المسألة ويقوى عندي أن ما عجز المسلمون عن سياقته وأخذه إن كان مما يستعين به الكفار في القتال كالخيل جاز عقره واتلافه لأنه مما يحرم إيصاله إلى الكفار بالبيع فتركه لهم بغير عوض أولى بالتحريم وإن كان مما يصلح للأكل فللمسلمين ذبحه والأكل منه مع الحاجة وعدمها وما عدا هذين القسمين لا يجوز إتلافه لأنه مجرد إفساد وإتلاف وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن ذبح الحيوان لغير مأكلة (10/499)
مسألة : الحكم في قطع شجر الأعداء وتحريق زروعهم
مسألة : قال : ولا يقطع شجرهم ولا يحرق زرعهم إلا أن يكونوا يفعلون ذلك في بلادنا فيفعل ذلك بهم لينتهوا
وجملته أن الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام :
أحدها : ما تدعو الحاجة إلى إتلافه كالذي يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم أو يسترون به من المسلمين أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق أو تمكن من قتال أو سد بثق أو إصلاح طريق أو ستارة منجنيق أو غيره أو يكونون يفعلون ذلك بنا فيفعل بهم ذلك لينتهوا فهذا يجوز بغير خلاف نعلمه
الثاني : ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونهم ينتفعون ببقائه لعلوفتهم أو يستظلون به أو يأكلون من ثمره أو تكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا فاذا فعلناه بهم فعلوه بنا فهذا يحرم لما فيه من الاضرار بالمسلمين
الثالث : ما عدا هذين القسمين مما لا ضرر فيه بالمسلمين ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم ففيه روايتان :
إحداهما : لا يجوز لحديث أبي بكر ووصيته وقد روي نحو ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم ولأن فيه اتلافا محضا فلم يجز كعقر الحيوان وبهذا قال الأوزاعي و الليث و أبو ثور
والرواية الثانية : يجوز وبهذا قال مالك و الشافعي و اسحاق و ابن المنذر قال اسحاق : التحريق سنة إذا كان انكى في العدو لقول الله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين }
و [ روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرق نخل بني النضير وقطع ] وهو البويرة فانزل الله تعالى : { ما قطعتم من لينة } ولها يقول حسان :
( وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير )
متفق عليه وعن الزهري قال : [ فحدثني أسامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عهد اليه فقال : أغر علي أبناء صباحا وحرق ] رواه أبو داود قيل لأبي سهر : أنبا قال : نحن أعلم هي ببنا فلسطين والصحيح أنها أبناء كما جاءت الرواية وهي قرية من أرض الكرك في أطراف الشام في الناحية التي قتل فيها أبوه فأما ببنا فهي من أرض فلسطين ولم يكن أسامة ليصل إليها ولا يأمره النبي صلى الله عليه و سلم بالاغارة عليها لبعدها والخطر بالمصير اليها لتوسطها في البلاد وبعدها من طرف الشام فما كان النبي صلى الله عليه و سلم ليأمره بالتغرير بالمسلمين فكيف يحمل الخبر عليها مع مخالفة لفظ الرواية وفساد المعنى ؟ (10/501)
مسألة : لا يجوز التزوج في أرض العدو إلا أن تغلب الشهوة
مسألة : قال : ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة فيتزوج مسلمة ويعزل عنها ولا يتزوج منهم ومن اشترى منهم جارية فلم يطأها في الفرج وهو في أرضهم
يعني والله أعلم من دخل أرض العدو بأمان فأما إن كان في جيش المسلمين فمباح له أن يتزوج وقد روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم زوج أبا بكر أسماء ابنة عميس وهم تحت الرايات ] أخرجه سعيد ولأن الكفار لا يد لهم عليه فأشبه في دار الاسلام
وأما الأسير فظاهر كلام أحمد أنه لا يحل له التزوج ما دام أسيرا لأنه منعه من وطء امرأته إذا أسرت معه مع صحة نكاحهما وهذا قول الزهري فانه قال : لا يحل للأسير أن يتزوج ما كان في أيدي العدو وكره الحسن أن يتزوج ما دام في أرض المشركين لأن الأسير إذا ولد له ولد كان رقيقا لهم ولا يأمن أن يطأ امرأته غيره منهم وسئل أحمد عن أسير اشتريت معه امرأته أيطؤها ؟ فقال : كيف يطؤها فلعل غيره منهم يطؤها قال الأثرم : وقلت له : ولعلها تعلق بولد فيكون معهم قال : وهذا ايضا وأما الذي يدخل إليهم بأمان كالتاجر ونحوه فهو الذي أراد الخرقي إن شاء الله تعالى فلا ينبغي له التزوج لأنه لا يأمن أن تأتي امرأته بولد فيستولي عليه الكفار وربما نشأ بينهم فيصير على دينهم فان غلبت عليه الشهوة ابيح له نكاح مسلمة لأنها حال ضرورة ويعزل عنها كيلا تأتي بولد ولا يتزوج منهم لأن امرأته إذا كانت منهم غلبته على ولدها فيتبعها على دينها وقال القاضي في قول الخرقي : هذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأن الله تعالى قال : { وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم } ولأن الأصل الحل فلا يحرم بالشك والتوهم وانما كرهنا له التزوج منهم مخافة أن يغلبوا على ولده فيسترقوه ويعلموه الكفر ففي تزويجه تعريض لهذا الفساد العظيم وازدادت الكراهة إذا تزوج منهم لأن الظاهر أن امرأته تغلبه على ولدها فتكفره كما أن حكم الاسلام تغليب الاسلام فيما إذا اسلم أحد الأبوين أو تزوج المسلم ذمية وإذا اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج في أرضهم مخافة ان يغلبوه على ولدها فيسترقوه ويكفروه (10/503)
فصل في الهجرة
( فصل في الهجرة ) (10/505)
فصل : تعريف الهجرة
وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الاسلام قال الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } الآيات وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ أنا بريء من مسلم بين مشركين لا تراءا ناراهما ] رواه أبو داود ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره اذا أوقدت في آي واخبار سوى هذين كثيرة وحكم الهجرة باق لا ينقطع إلى يوم القيامة في قول عامة أهل العلم وقال قوم : قد انقطعت الهجرة لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا هجرة بعد الفتح ] وقال : [ قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية ]
[ وروي أن صفوان بن أمية لما أسلم قيل له : لا دين لمن لم يهاجر فأتى المدينة فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ما جاء بك أبا وهب ؟ قال : قيل : إنه لا دين لمن لم يهاجر قال : ارجع أبا وهب الى أباطح مكة أقروا على مساكنكم فقد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية ] روى ذلك كله سعيد
ولنا ما روى معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ] رواه أبو داود وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد ] رواه سعيد وغيره مع اطلاق الآيات والاخبار الدالة عليها وتحقق المعنى المقتضي لها في كل زمان وأما الاحاديث الأول فأراد بها : لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح وقوله لصفوان : إن الهجرة قد انقطعت يعني من مكة لأن الهجرة : الخروج من بلد الكفار فاذا فتح لم يبق بلد الكفار فلا تبقى منه هجرة وهكذا كل بلد فتح لا يبقى منه هجرة وإنما الهجرة إليه إذا ثبت هذا فالناس في الهجرة على ثلاثة اضرب :
أحدها : من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه اظهار دينه ولا تمكنه اقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا } وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب به فهو واجب
الثاني : من لا هجرة عليه وهو من يعجز عنها إما لمرض أو اكراه على الاقامة أو ضعف من النساء والولدان وشبههم فهذا لا هجرة عليه لقول الله تعالى : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا } ولا توصف باستحباب لأنها غير مقدور عليها
الثالث : من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من اظهار دينه واقامته في دار الكفر فتستحب له ليتمكن من جهادهم وتكثير المسلمين ومعونتهم فيتخلص من تكثير الكفار ومخالطتهم ورؤية المنكر بينهم ولا تجب عليه لإمكان إقامة واجب دينه بدون الهجرة وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه و سلم مقيما مع إسلامه و [ روينا أن نعيم النحام حين أراد أن يهاجر جاءه قومه بنو عدي فقالوا له : أقم عندنا وأنت على دينك ونحن نمنعك ممن يريد أذاك واكفنا ما كنت تكفينا وكان يقوم بيتامى بني عدي وأراملهم فتخلف عن الهجرة مدة ثم هاجر بعد فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : قومك كانوا خيرا لك من قومي لي قومي أخرجوني وأرادوا قتلي وقومك حفظوك ومنعوك فقال : يا رسول الله بل قومك أخرجوك إلى طاعة الله وجهاد عدوه وقومي ثبطوني عن الهجرة وطاعة الله ] أو نحو هذا القول (10/505)
مسألة : حكم من دخل إلى أرض العدو بأمان
مسألة : قال : من دخل إلى ارض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم ولم يعاملهم بالربا
أما تحريم الربا في دار الحرب فقد ذكرناه في الربا مع إن قول الله تعالى : { وحرم الربا } وسائر الآيات والاخبار الدالة على تحريم الربا عامة تتناول الربا في كل مكان وزمان وأما خيانتهم فمحرمة لانهم إنما اعطوه الامان مشروطا بتركه خيانتهم وامنه إياهم من نفسه وان لم يكن ذلك مذكورافي اللفظ فهو معلوم في المعنى ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضا لعهده فإذا ثبت هذا لم تحل له خيانتهم لأنه غدر ولا يصلح في ديننا الغدر وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون عند شروطهم ] فان خانهم أو سرق منهم أو اقترض شيئا وجب عليه رد ما أخذ الى اربابه فان جاء أربابه إلى دار الاسلام بأمان أو ايمان رده عليهم وإلا بعث به إليهم لأنه أخذه على وجه حرم عليه أخذه ولزمه رد ما أخذ كما لو أخذه من مال مسلم (10/507)
مسألة : حكم ما لو كان لأهل الذمة عهد مع المسلمين فنقضوه
مسألة : قال : ومن كان له مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا وقتل رجالهم ولم تسب ذراريهم ولم يسترقوا إلا من ولد بعد نقضه
وجملة ذلك أن أهل الذمة إذا نقضوا العهد أو أخذ رجل الامان لنفسه وذريته ثم نقض العهد فانه يقتل رجالهم ولا تسبى ذراريهم الموجودون قبل النقض لأن العهد شملهم جميعا ودخلت فيهم الذرية والنقض إنما وجد من رجالهم فتختص إباحة الدماء بهم ومن الممكن أن ينفرد الرجل بالعهد والامان دون ذريته وذريته دونه فجاز أن ينتقض العهد فيه دونهم والنقض إنما وجد من الرجال البالغين دون الذرية فيجب ان يختص حكمه بهم قال احمد : قالت امرأة علقمة لما ارتد : إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد وقال الحسن فيمن نقض العهد : ليس على الذرية شئ فأما من ولد فيهم بعد نقض العهد جاز استرقاقه لأنه لم يثبت له أمان بحال وسواء فيما ذكرنا لحقوا بدار الحرب أو أقاموا بدار الاسلام فأما نساؤهم فمن لحقت منهن بدار الحرب طائعة أو وافقت زوجها في نقض العهد جاز سبيها لانها بالغة عاقلة نقضت العهد فأشبهت الرجل ومن لم تنقض العهد لم ينتقض عهدها بنقض زوجها (10/508)
فصول : في الهدنة ومعناها وأحكامها وشروطها
فصل : فأما أهل الهدنة إذا نقضوا العهد حلت دماؤهم وأموالهم وسبي ذراريهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل رجال بني قريظة وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم حين نقضوا عهده ولما هادن قريشا فنقضت عهده حل له منهم ما كان حرم عليه منهم ولأن الهدنة عهد مؤقت ينتهي بانقضاء مدته فيزول بنقضه وفسخه كعهد الاجارة بخلاف عقد الذمة
فصل : ومعنى الهدنة أن يعقد لأهل الحرب عقدا على ترك القتال مدة بعوض وبغير عوض وتسمى مهادنة وموادعة معاهدة وذلك جائز بدليل قول الله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين } وقال سبحانه : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }
وروى مروان ومسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه و سلم صالح سهيل بن عمرو بالحديبية على وضع القتال عشر سنين ولأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقوى المسلمون ولا يجوز ذلك إلا للنظر للمسلمين إما أن يكون بهم ضعف عن قتالهم وإما ان يطمع في إسلامهم بهدنتهم أو في أدائهم الجزية والتزامهم أحكام الملة أو غير ذلك من المصالح إذا ثبت هذا فانه لا تجوز المهادنة مطلقا من غير تقدير مدة لأنه يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية ولا يجوز أن يشترط نقضها لمن شاء منهما لأنه يفضي إلى ضد المقصود منها وإن شرط الامام لنفسه ذلك دونهم لم يجز أيضا ذكره أبو بكر لأنه ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط ذلك في البيع والنكاح
وقال القاضي و الشافعي : يصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم صالح أهل خيبر على أن يقره ما أقرهم الله تعالى ولا يصح هذا فانه عقد لازم فلا يجوز اشتراط نقضه كسائر العقود اللازمة ولم يكن بين النبي صلى الله عليه و سلم وبين أهل خيبر هدنة فانه فتحها عنوة وانما ساقاهم وقال لهم ذلك وهذا يدل على جواز المساقاة وليس هذا بهدنة اتفاقا وقد وافقوا الجماعة في أنه لو شرط في عقد الهدنة : اني أقركم ما أقركم الله لم يصح فكيف يصح منهم الاحتجاج به مع إجماعهم مع غيرهم على أنه لا يجوز اشتراطه
فصل : ولا يجوز عقد الهدنة إلا على مدة مقدرة معلومة لما ذكرنا وقال القاضي : وظاهر كلام أحمد أنها لا تجوز أكثر من عشر سنين وهو اختيار ابي بكر ومذهب الشافعي لأن قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } عام خص منه مدة العشر لمصالحة النبي صلى الله عليه و سلم قريشا يوم الحديبية عشرا ففي ما زاد يبقى على مقتضى العموم فعلى هذا إن زاد المدة على عشر بطل في الزيادة وهل تبطل في العشر ؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة
وقال أبو الخطاب : ظاهر كلام أحمد أنه يجوز على أكثر من عشر على ما يراه الامام من المصلحة وبهذا قال أبو حنيفة لأنه عقد يجوز في العشر فجازت الزيادة عليها كعقد الاجارة والعام مخصوص في العشر لمعنى موجود فيما زاد عليها وهو أن المصلحة قد تكون في الصلح أكثر منها في الحرب
فصل : وتجوز مهادنتهم على غير مال لأن النبي صلى الله عليه و سلم هادنهم يوم الحديبية على غير مال ويجوز ذلك على مال يأخذه منهم فانها إذا جازت على غير مال فعلى مال أولى وأما إن صالحهم على مال نبذله لهم فقد أطلق احمد القول بالمنع منه وهو مذهب الشافعي لأن فيه صغارا للمسلمين وهذا محمول على غير حال الضرورة فأما إن دعت اليه ضرورة وهو أن يخاف على المسلمين الهلاك أو الاسر فيجوز لأنه يجوز للأسير فداء نفسه بالمال فكذا ههنا ولأن بذله المال إن كان فيه صغار فانه يجوز تحمله لدفع صغار أعظم منه وهو القتل والأسر وسبي الذرية الذين يفضي سبيهم الى كفرهم
وقد روى عبد الرزاق في المغازي عن معمر عن الزهري قال : [ أرسل النبي صلى الله عليه و سلم الى عيينة بن حصن وهو مع أبي سفيان يعني يوم الأحزاب : أرأيت إن جعلت لك ثلث تمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب فأرسل إليه عيينة : إن جعلت لي الشطر فعلت ]
قال معمر : فحدثني ابن أبي نجيح [ أن سعد بن معاذ وسعد بن عبادة قالا : يا رسول الله والله لقد كان يجر سرمه في الجاهلية في عام السنة حول المدينة ما يطيق أن يدخلها فالآن حين جاء الله بالاسلام نعطيهم ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : فنعم اذا ] ولولا أن ذلك جائز لما بذله النبي صلى الله عليه و سلم
[ وروي أن الحارث بن عمرو الغطفاني بعث الى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : إن جعلت لي شطر ثمار المدينة والا ملأتها عليك خيلا ورجلا فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : حتى أشاور السعود يعني سعد بن عبادة وسعد بن معاذ وسعد بن زرارة فشاورهم النبي صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله إن كان هذا أمرا من السماء فتسليم لأمر الله تعالى وإن كان برأيك وهواك اتبعنا رأيك وهواك وإن لم يكن أمرا من السماء ولا برأيك وهواك فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية بسرة ولا تمرة إلا شراء أو قرى فكيف وقد أعزنا الله بالاسلام ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم لرسوله : أتسمع ] ؟ فعرضه النبي صلى الله عليه و سلم ليعلم ضعفهم من قوتهم فلولا جوازه عند الضعف لما عرضه عليهم
فصل : ولا يجوز عقد الهدنة ولا الذمة إلا من الامام أو نائبه لأنه عقد مع جملة الكفار وليس ذلك لغيره ولأنه يتعلق بنظر الامام وما يراه من المصلحة على ما قدمناه ولأن تجويزه من غير الامام يتضمن تعطيل الجهاد بالكلية أو إلى تلك الناحية وفيه افتيات على الامام فان هادنهم غير الامام أو نائبه لم يصح وإن دخل بعضهم دار الاسلام بهذا الصلح كان آمنا لأنه دخل معتقدا للأمان ويرد إلى دار الحرب ولا يقر في دار الاسلام لأن الأمان لم يصح وإن عقد الامام الهدنة ثم مات أو عزل لم ينتقض عهده وعلى من بعده الوفاء به لأن الامام عقده باجتهاده فلم يجز نقضه باجتهاد غيره كما لم يجز للحاكم نقض احكام من قبله باجتهاده واذا عقد الهدنة لزمه الوفاء بها لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } وقال تعالى : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } ولأنه لو لم يف بها لم يسكن إلى عقده وقد يحتاج إلى عقدها فان نقضوا العهد جاز قتالهم لقول الله تعالى : { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } وقال تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم } ولما نقضت قريش عهد النبي صلى الله عليه و سلم خرج اليهم فقاتلهم وفتح مكة وإن نقض بعضهم دون بعض فسكت باقيهم عن الناقض ولم يوجد منهم انكار ولا مراسلة الامام ولا تبرؤ فالكل ناقضون لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما هادن قريشا دخلت خزاعة مع النبي صلى الله عليه و سلم وبنو بكر مع قريش فعدت بنو بكر على خزاعة وأعانهم بعض قريش وسكت الباقون فكان ذلك نقض عهدهم وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقاتلهم ولأن سكوتهم يدل على رضاهم كما ان عقد الهدنة مع بعضهم يدخل فيه جميعهم لدلالة سكوتهم على رضاهم كذلك في النقض وان أنكر من لم ينقض على الناقض بقول أو فعل ظاهر أو اعتزال أو راسل الامام بأني منكر لما فعله الناقض مقيم على العهد لم ينتقض في حقه ويأمره الامام بالتميز ليأخذ الناقض وحده فان امتنع من التميز أو اسلام الناقض صار ناقضا لأنه منع من اخذ الناقض فصار بمنزلته وان لم يمكنه التميز لم ينتقض عهده لأنه كالأسير فان أسر الامام منهم قوما فادعى الأسير أنه لم ينقض وأشكل ذلك عليه قبل قول الأسير لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا من قبله
فصل : وان خاف نقض العهد منهم جاز أن ينبذ اليهم عهدهم لقول الله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } يعني أعلمهم بنقض عهدهم حتى تصير أنت وهم سواء في العلم ولا يكفي وقوع ذلك في قبوله حتى يكون عن أمارة تدل على ما خافه ولا يجوز أن يبدأهم بقتال ولا غارة قبل اعلامهم بنقض العهد للآية ولأنهم آمنون منه بحكم العهد فلا يجوز قتلهم ولا أخذ مالهم فان قيل : فقد قلتم : إن الذمي إذا خيف منه الخيانة لم ينتقض عهده قلنا : عقد الذمة آكد لأنه يجب على الامام إجابتهم اليه وهو نوع معاوضة وعقد مؤبد بخلاف الهدنة والأمان ولهذا لو نقض بعض أهل الذمة لم ينتقض عهد الباقين بخلاف الهدنة ولأن أهل الذمة في قبضة الامام وتجب ولايته فلا يخشى الضرر كثيرا من نقضهم بخلاف أهل الهدنة فانه يخاف منهم الغارة على المسلمين والضرر الكثير بأخذهم للمسلمين
فصل : وإذا عقد الهدنة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة لأنه آمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده كما أمن من في قبضته منهم ومن أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئا فعليه ضمانه ولا تلزمه حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم من بعض لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط فان اغار عليهم قوم آخرون فسبوهم لم يلزمه استنقاذهم وليس للمسلمين شراؤهم لأنهم في عهدهم فلا يجوز لهم أذاهم ولا استرقاقهم وذكر الشافعي ما يدل على هذا
ويحتمل جواز ذلك وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجب أن يدفع عنهم فلا يحرم استرقاقهم بخلاف أهل الذمة فعلى هذا إن استولى المسلمون على الذين أسروهم وأخذوا أموالهم فاستنقذوا ذلك منهم لم يلزم رده اليهم على هذا القول ومقتضى القول الأول : وجوب رده كما ترد أموال أهل الذمة إليهم
فصل : وإذا عقد الهدنة مطلقا فجاءنا منهم انسان مسلما أو بأمان لم يجب رده إليهم ولم يجز ذلك سواء كان حرا أو عبدا أو رجلا أو امرأة ولا يجب رد مهر المرأة وقال أصحاب الشافعي : إن خرج العبد إلينا قبل إسلامه ثم أسلم لم يرد اليهم فان اسلم قبل خروجه ثم خرج الينا لم يصر حرا لأنهم في أمان منا والهدنة تمنع من جواز القهر وقال الشافعي في قول له : إذا جاءت امرأة له مسلمة وجب رد مهرها لقول الله تعالى : { وآتوهم ما أنفقوا } يعني رد مهرها الى زوجها إذا جاء يطلبها وان جاء غيره لم يرد إليه شيء
ولنا أنه من غير أهل دار الاسلام خرج إلينا فلم يجب رده ولا رد شئ بدلا عنه كالحر من الرجال وكالعبد إذا خرج ثم أسلم قولهم انه في أمان منا قلنا : إنما أمناهم ممن هو في دار الاسلام الذين هم في قبضة الامام فأما من هو في دارهم ومن ليس في قبضته فلا يمنع منه بدليل ما لو خرج العبد قبل اسلامه ولهذا لما قتل أبو بصير الرجل الذي جاء لرده لم ينكره النبي صلى الله عليه و سلم ولم يضمنه ولما انفرد هو وأبو جندل وأصحابهما عن النبي صلى الله عليه و سلم في صلح الحديبية فقطعوا الطريق عليهم وقتلوا من قتلوا منهم وأخذوا المال لم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه و سلم ولم يأمرهم برد ما أخذوه ولا غرامة ما أتلفوه وهذا الذي أسلم كان في دارهم وقبضتهم وقهره على نفسه فصار حرا كما لو أسلم بعد خروجه وأما المراة فلا يجب رد مهرها لانها لم تأخذ منه شيئا ولو أخذته كانت قد قهرتهم عليه في دار القهر ولو وجب عليها عوضه لوجب مهر المثل دون المسمى والآية قال قتادة تبيح رد المهر وقال عطاء و الزهري و الثوري : لا يعمل بها اليوم وعلى ان الآية إنما نزلت في قضية الحديبية حين كان النبي صلى الله عليه و سلم شرط لهم رد من جاءه مسلما فلما منع الله رد النساء أمر برد مهورهن وكلامنا فيما إذا وقع الصلح مطلقا فليس هو في معنى ما تناوله الأمر إن وقع الكلام فيما إذا شرط رد النساء لم يصح أيضا لأن الشرط الذي كان النبي صلى الله عليه و سلم شرطه كان صحيحا وقد نسخ فاذا شرط الآن كان باطلا فلا يجوز قياسه على الصحيح ولا الحاقة به
فصل : والشروط في عقد الهدنة تنقسم قسمين :
الأول : شرط صحيح مثل ان يشترط عليهم مالا أو معونة المسلمين عند حاجتهم إليهم أو يشترط لهم أن يرد من جاءه من الرجال مسلما أو بأمان فهذا يصح وقال اصحاب الشافعي : لا يصح شرط رد المسلم إلا أن يكون له عشيرة تحميه وتمنعه
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم شرط ذلك في صلح الحديبية ووفى لهم به فرد أبا جندل وأبا بصير ولم يخص بالشرط ذا العشيرة ولأن ذا العشيرة إذا كانت عشيرته هي التي تفتنه وتؤذيه فهو كمن لا عشيرة له لكن لا يجوز هذا الشرط إلا عند شدة الحاجة إليه وتعين المصلحة فيه ومتى شرط لهم ذلك لزم الوفاء به بمعنى أنهم إذا جاءوا في طلبه لم يمنعهم أخذه ولا يجبره الامام على المضي معهم وله أن يأمره سرا بالهرب منهم ومقاتلتهم [ فان أبا بصير لما جاء النبي صلى الله عليه و سلم وجاء الكفار في طلبه قال له النبي : انا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا فلما رجع مع الرجلين قتل أحدهما في طريقه ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله قد أوفى الله ذمتك قد رددتني اليهم فأنجاني الله منهم فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه و سلم ولم يلمه بل قال : ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال فلما سمع ذلك أبو بصير لحق بساحل البحر وانحاز إليه أبو جندل بن سهيل ومن معه من المستضعفين بمكة فجعلوا لا تمر عليهم عير لقريش إلا عرضوا لها فأخذوها وقتلوا من معها فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم تناشده الله والرحم أن يضمهم إليه ولا يرد اليهم أحدا جاءه ففعل ] فيجوز حينئذ لمن أسلم من الكفار أن يتحيزوا ناحية ويقتلون من قدروا عليه من الكفار ويأخذون أموالهم ولا يدخلون في الصلح وإن ضمهم الامام إليه باذن الكفار دخلوا في الصلح وحرم عليهم قتل الكفار وأموالهم
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما جاء أبو جندل إلى النبي صلى الله عليه و سلم هاربأ من الكفار يرسف في قيوده قام إليه أبوه فلطمه وجعل يرده قال عمر : فقمت الى جانب أبي جندل فقلت : انهم الكفار وإنما دم أحدهم دم كلب وجعلت أدني منه قائم السيف لعله أن يأخذه فيضرب به أباه قال : فضن الرجل بأبيه
الثاني : شرط فاسد مثل أن يشترط رد النساء أو مهورهن أو رد سلاحهم أو إعطاءهم شيئا من سلاحنا من آلات الحرب أو يشترط لهم مالا في موضع لا يجوز بذله أو يشترط نقضها متى شاءوا أو أن لكل طائفة منهم نقضها أو يشترط رد الصبيان أو رد الرجال مع عدم الحاجة اليه فهذه كلها شروط فاسدة لا يجوز الوفاء بها وهل يفسد العقد بها ؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع إلا في ما إذا شرط أن لكل واحد منهم نقضها متى شاء فينبغي أن لا تصح وجها واحدا لأن طائفة الكفار يبنون على هذا الشرط فلا يحصل الأمن منهم ولا أمنهم منا فيفوت معنى الهدنة وإنما لم يصح شرط رد النساء لقول الله تعالى : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } إلى قوله { فلا ترجعوهن إلى الكفار } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إن الله منع الصلح في النساء ] وتفارق المرأة الرجل من ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها لا تأمن من أن تزوج كافرا يستحلها أو يكرهها من ينالها واليه أشار الله تعالى : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن }
الثاني : أنها ربما فتنت عن دينها لأنها أضعف قلبأ وأقل معرفة من الرجل
الثالث : أن المرأة لا يمكنها في العادة الهرب والتخلص بخلاف الرجل ولا يجوز رد الصبيان العقلاء إذا جاءوا مسلمين لأنهم بمنزلة المرأة في الضعف في العقل والمعرفة والعجز عن التخلص والهرب فأما الطفل الذي لا يصح إسلامه فيجوز رده لأنه ليس بمسلم
فصل : واذا طلبت امرأة أو صبية مسلمة الخروج من عند الكفار جاز لكل مسلم إخراجها لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما خرج من مكة وقفت ابنة حمزة على الطريق فلما مر بها علي قالت : يا بن عم إلى من تدعني ؟ فتناولها فدفعها إلى فاطمة حتى قدم بها المدينة (10/509)
مسألة وفصلان : حكم ما لو استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين وحكم الأجير للخدمة في الغزو وحكم التاجر والصانع
مسألة : قال : وإذا استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم وأعطوا ما استؤجروا به
نص أحمد على هذا في رواية جماعة فقال في رواية عبد الله وحنبل في الامام يستأجر قوما يدخل بهم بلاد العدو : لا يسهم لهم ويوفى لهم بما استؤجروا عليه وقال القاضي : هذا محمول على استئجار من لا يجب عليه الجهاد كالعبيد والكفار أما الرجال المسلمون الأحرار فلا يصح استئجارهم على الجهاد لأن الغزو يتعين بحضوره على من كان من أهله فاذا تعين عليه الفرض لم يجز أن يفعله عن غيره كمن عليه حجة الاسلام لا يجوز أن يحج عن غيره وهذا مذهب الشافعي ويحتمل أن يحمل كلام أحمد و الخرقي على ظاهره في صحة الاستئجار على الغزو لمن لم يتعين عليه لما روى أبو داود باسناده عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ للغازي أجره وللجاعل أجره ] وروى سعيد بن منصور عن جبير بن نفير قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها ] ولأنه أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد أو لم يتعين عليه الجهاد فصح أن يؤجر نفسه عليه كالعبد ويفارق الحج حيث أنه ليس بفرض عين وان الحاجة داعية اليه وفي المنع من أخذ الجعل عليه تعطيل له ومنع له مما فيه للمسلمين نفع وبهم اليه حاجة فينبغي أن يجوز بخلاف الحج اذا ثبت هذا فان قلنا بالأول فالإجارة فاسدة وعليه الأجرة بردها وله سهمه لأن غزوه بغير أجرة وإن قلنا بصحته فظاهر كلام أحمد و الخرقي رحمهما الله أنه لا سهم له لأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلا يستحق شيئا
وقد روى أبو داود باسناده [ عن يعلى بن منبه قال : أذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالغزو وانا شيخ كبير ليس لي خادم فالتمست أجيرا يكفيني وأجري له سهمه فوجدت رجلا فلما دنا الرحيل قال : ما أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي ؟ فسم لي شيئا كان السهم أو لم يكن فسميت له ثلاثة دنانير فلما حضرت غنيمة أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت الى النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت له أمره فقال : ما أجد في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى ] ويحتمل أن يسهم له وهو اختيار الخلال قال : روى جماعة عن أحمد أن للأجير السهم إذا قاتل وروى عنه جماعة أن كل من شهد القتال فله السهم قال : وهذا الذي اعتمد عليه من قول أبي عبد الله ووجه ذلك ما تقدم من حديث عبد الله بن عمر وحديث جبير بن نفير وقول عمر : الغنيمة لم شهد الوقعة ولأنه حاضر للوقعة من أهل القتال فيسهم له كغير الأجير فأما الذين يعطون من حقهم من الفيء فلهم سهامهم لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا لا أنه عوض عن جهاده بل نفع جهاده له لا لغيره وكذلك من يعطون من الصدقات وهم الذين إذا نشطوا للغزو وأعطوا فانهم يعطون معونة لا عوضا ولذلك إذا دفع إلى الغزاة ما يتقوون به ويستعينون به كان له فيه الثواب ولم يكن عوضا قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من جهز غازيا كان له مثل أجره ]
فصل : فأما الأجير للخدمة في الغزو أو الذي يكري دابة له ويخرج معها ويشهد الوقعة فعن أحمد فيه روايتان : إحداهما لا سهم له وهو قول الأوزاعي و إسحاق قالا : المستأجر على خدمة القوم لا سهم له ووجهه حديث يعلى بن منبه
والثانية : يسهم لهما إذا شهدا القتال مع الناس وهو قول مالك و ابن المنذر وبه قال الليث إذا قاتل وإن اشتغل بالخدمة فلا سهم له واحتج ابن المنذر بحديث سلمة بن الاكوع أنه كان أجيرا لطلحة حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة حين أغار على سرح رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعطاه النبي صلى الله عليه و سلم سهم الفارس والراجل وقال القاضي : يسهم له اذا كان مع المجاهدين وقصده الجهاد فأما لغير ذلك فلا وقال الثوري : يسهم له إذا قاتل ويرفع عمن استأجره نفقة ما اشتغل عنه
فصل : فأما التاجر والصانع كالخياط والخباز والبيطار والحداد والإسكاف فقال أحمد : يسهم لهم إذا حضروا قال أصحابنا : قاتلوا أو لم يقاتلوا وبه قال في التاجر الحسن و ابن سيرين و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا وعن الشافعي كقولنا وعنه لا يسهم له بحال
وقال القاضي في التاجر والأجير إذا كانا مع المجاهدين وقصدهما الجهاد وإنما معه المتاع إن طلب منه باعه والأجير قصده الجهاد أيضا : فهذان يسهم لهما لأنهما غازيان والصناع بمنزلة التجار متى كانوا مستعدين للقتال ومعهم السلاح فمتى عرض اشتغلوا به أسهم لهم لأنهم في الجهاد بمنزلة غيرهم وإنما يشتغلون بغيره عند فراغهم منه (10/519)
فصل : حكم ما لو دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب فغنموا
فصل : إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الامام فغنموا فعن أحمد فيه ثلاث روايات :
إحداهن : أن غنيمتهم كغنيمة غيرهم يخمسه الامام ويقسم باقيه بينهم وهذا قول أكثر أهل العلم منهم الشافعي لعموم قوله سبحانه : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } الآية والقياس على ما إذا دخلوا باذن الامام
والثانية : هو لهم من غير أن يخمس وهو قول أبي حنيفة لأنه اكتساب مباح من غير جهاد فكان لهم أشبه الاحتطاب فان الجهاد إنما يكون بإذن الامام أو من طائفة لهم منعة وقوة فأما هذا فتلصص وسرقة ومجرد اكتساب
والثالثة : أنه لا حق لهم فيه قال أحمد في عبد أبق الى الروم ثم رجع ومعه متاع : فالعبد لمولاه وما معه من المتاع والمال فهو للمسلمين لأنهم عصاة بفعلهم فلم يكن لهم فيه حق والأولى أولى قال الأوزاعي : لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذي كان مع مسلمة كسر مركب بعضهم فأخذ المشركون ناسا من القبط فكانوا خدما لهم فخرجوا يوما إلى عيد لهم وخلفوا القبط في مركبهم وشرب الآخرون ورفع القبط القلع وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر : نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به إلا الخمس رواه سعيد و الأثرم وإن كانت الطائفة ذات منعة غزوا بغير إذن الإمام ففيه روايتان : إحداهما : لا شيء لهم وهو فيء للمسلمين والثانية : يخمس والباقي لهم وهذا أصح ووجه الروايتين ما تقدم ويخرج فيه وجه كالرواية الثالثة وهو أن الجميع لهم من غير خمس لكونه اكتساب مباح من غير جهاد (10/522)
مسألة وفصول : أحكام في الغلول
مسألة : قال : ومن غل من الغنيمة حرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح
الغال هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة فلا يطلع الامام عليه ولا يضعه مع الغنيمة فحكمه أن يحرق رحله كله وبهذا قال الحسن وفقهاء الشام منهم مكحول و الأوزاعي والوليد بن هشام ويزيد بن يزيد بن جابر وأتي سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه وقال يزيد بن يزيد بن جابر : السنة في الذي يغل أن يحرق رحله رواهما سعيد في سننه وقال مالك و الليث و الشافعي و أصحاب الرأي : لا يحرق لأن النبي صلى الله عليه و سلم لم يحرق فان عبد الله بن عمر روى [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة فقال : سمعت بلالا نادى ثلاثا قال : نعم قال : فما منعك أن تجيء به فاعتذر فقال : كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك ] أخرجه أبو داود لأن احراق المتاع إضاعة له وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن إضاعة المال
ولنا ما [ روى صالح بن محمد بن زرارة قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه قال : فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه فقال : بعه وتصدق بثمنه ] أخرجه سعيد و أبو داود و الأثرم
وروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال فأما حديثهم فلا حجة لهم فيه فان الرجل لم يعترف أنه أخذ ما أخذه على سبيل الغلول ولا أخذه لنفسه وإنما توانى في المجيء به وليس الخلاف فيه ولأن الرجل جاء به من عند نفسه تائبا معتذرا والتوبة تجب ما قبلها وتمحو الحوبة
وأما النهي عن إضاعة المال فانما نهي عنه إذا لم تكن فيه مصلحة فأما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس به ولا يعد تضييعا كإلقاء المتاع في البحر إذا خيف الغرق وقطع يد العبد السارق مع أن المال لا تكاد المصلحة تحصل به إلا بذهابه فأكله إتلافه وإيقافه إذهابه ولا يعد شيء من ذلك تضييعا ولا إفسادا ولا ينهى عنه
وأما المصحف فلا يحرق لحرمته ولما تقدم من قول سالم فيه والحيوان لا يحرق لنهي النبي صلى الله عليه و سلم أن يعذب بالنار إلا ربها ولحرمة الحيوان في نفسه ولأنه لا يدخل في اسم المتاع المأمور باحراقه وهذا لا خلاف فيه ولا تحرق آلة الدابة أيضا نص عليه أحمد لأنه يحتاج اليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما لا يحرق فأشبه جلد المصحف وكيسه وقال الأوزاعي : يحرق سرجه واكافه
ولنا أنه ملبوس حيوان فلا يحرق كثياب الغال ولا تحرق ثياب الغال التي عليه لأنه لا يجوز تركه عريانا ولا ماغل لأنه من غنيمة المسلمين قيل لأحمد : فالذي أصاب في الغلول أي شيء يصنع به ؟ قال : يرفع إلى المغنم كذلك قال الأوزاعي ولا سلاحه لأنه يحتاج إليه للقتال ولا نفقته لأن ذلك مما لا يحرق عادة وجميع ذلك أو ما أبقت النار من حديد أو غيره فهو لصاحبه لأن ملكه كان ثابتا عليه ولم يوجد ما يزيله وإنما عوقب بإحراق متاعه فما لم يحترق يبقى على ما كان ويحتمل أن يباع المصحف ويتصدق به لقول سالم فيه وإن كان معه شيء من كتب الحديث أو العلم فينبغي أن لا تحرق أيضا لأن نفع ذلك يعود إلى الدين وليس المقصود الإضرار به في دينه وإنما القصد الإضرار به في شيء من دنياه
فصل : وان لم يحرق رحله حتى استحدث متاعا آخر أو رجع إلى بلده أحرق ما كان معه حال الغلول نص عليه أحمد في الذي يرجع إلى بلده قال : ينبغي أن يحرق ما كان معه في أرض العدو وإن مات قبل إحراق رحله لم يحرق نص عليه أحمد لأنها عقوبة فسقط بالموت كالحدود لأنه بالموت انتقل إلى ورثته فاحراقه عقوبة لغير الجاني وإن باع متاعه أو وهبه احتمل أن لا يحرق لأنه صار لغيره أشبه ما لو انتقل عنه بالموت واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق لأنه تعلق به حق سابق على البيع والهبة فوجب تقديمه كالقصاص في حق الجاني
فصل : وإن كان الغال صبيا لم يحرق متاعه وبه قال الأوزاعي لأن الاحراق عقوبة وليس هو من أهلها فأشبه الحد وإن كان عبدا لم يحرق متاعه لأنه لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده وإن استهلك ما غله فهو في رقبته لأنه من جنايته وإن غلت امرأة أو ذمي احرق متاعهما لأنهما من أهل العقوبة ولذلك يقطعان في السرقة ويحدان في الزنا وغيره وإن أنكر الغلول وذكر أنه ابتاع ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو إقرار لأنه عقوبة به فلا يجب قبل ثبوته بذلك كالحد ولا يقبل في بينته إلا عدلان لذلك
فصل : ولا يحرم الغال سهمه وقال أبو بكر في ذلك روايتان : إحداهما : يحرم سهمه لأنه قد جاء في الحديث يحرم سهمه فان صح فالحكم له وقال الأوزاعي في الصبي يغل : يحرم سهمه ولا يحرق متاعه
ولنا أن سبب الاستحقاق موجود فيستحق كما لو لم يعلم ولم يثبت حرمان سهمه في خبر ولا قياس فيبقى بحاله ولا يحرق سهمه لأنه ليس من رحله
فصل : إذا تاب الغال قبل القسمة رد ما أخذه في المقسم بغير خلاف لأنه حق تعين رده إلى أهله فان تاب بعد القسمة فمقتضى المذهب أن يؤدي خمسه إلى الامام ويتصدق بالباقي وهذا قول الحسن و الزهري و مالك و الأوزاعي و الثوري و الليث
وروى سعيد بن منصور عن عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن حوشب بن سيف قال : غزا الناس الروم وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فغل رجل مائة دينار فلما قسمت الغنيمة وتفرق الناس ندم فأتى عبد الرحمن فقال : قد غللت مائة دينار فاقبضها قال : قد تفرق الناس فلن أقبضها منك حتى توافي الله بها يوم القيامة فأتى معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك فخرج يبكي فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال : ما يبكيك ؟ فأخبره فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون أمطيعي أنت يا عبد الله ؟ قال : نعم قال : فانطلق إلى معاوية فقل له : خذ مني خمسك فاعطه عشرين دينارا وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش فان الله تعالى يعلم أسماءهم ومكانهم وإن الله يقبل التوبة عن عباده فقال معاوية : أحسن والله لأن أكون أنا أفتيته بهذا أحب إلي من أن يكون لي مثل كل شيء امتلكت وعن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه وقال الشافعي : لا أعرف للصدقة وجها وقد جاء في حديث الغال أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا أقبله منك حتى تجيء به يوم القيامة ]
ولنا قول من ذكرنا من الصحابة ومن بعدهم ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا ولأن تركه تضييع له وتعطيل لمنفعته التي التي خلق لها ولا يتخفف به شيء من اثم الغال وفي الصدقة نفع لم يصل إليه من المساكين وما يحصل من أجر الصدقة يصل إلى صاحبه فيذهب به الاثم عن الغال فيكون أولى (10/524)
مسألة وفصل : لا يقام الحد على مسلم في أرض العدو وتقام الحدود في الثغور
مسألة : قال : ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو
وجملته أن من أتى حدا من الغزاة أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب لم يقم عليه حتى يقفل فيقام عليه حده وبهذا قال الأوزاعي و إسحاق وقال مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : يقام الحد في كل موضع لأن أمر الله تعالى بإقامته مطلق في كل مكان وزمان إلا أن الشافعي قال : إذا لم يكن أمير الجيش الامام أو أمير أقليم فليس له إقامة الحد ويؤخر حتى يأتي الإمام لأن إقامة الحدود اليه وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة الى المحدود أو قوى به أو شغل عنه أخر وقال أبو حنيفة : لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع
ولنا على وجوب الحد أمر الله تعالى ورسوله به وعلى تأخيره ما روى بشر بن أبي أرطاة أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تقطع الأيدي في الغزاة ] لقطعتك أخرجه أبو داود وغيره ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم
وروى سعيد في سننه باسناده عن الأحوص بن حكيم عن أبيه أن عمر كتب الى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار وعن أبي الدرداء مثل ذلك وعن علقمة قال : كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نحده فقال حذيفة : أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم وأتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به الى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن :
( كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا علي وثاقيا )
وقال لابنة حصفة امرأة سعد : اطلقيني ولك الله علي وإن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد فإن قتلت استرحتم مني قال : فحلته حين التقى الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ الى الناس قال : وصعدوا به فوق العذيب ينظر الى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ رمحا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم وجعل الناس يقولون : هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول : الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد فأخبرت ابنة حصفة سعدا بما كان من أمره فقال سعد : لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى الله المسلمين به ما أبلاهم فخلى سبيله فقال أبو محجن : قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها فأما إذا بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا وهذا اتفاق لم يظهر خلافه فأما إذا رجع فإنه يقام الحد لعموم الآيات والأخبار وإنما أخر لعارض كما يؤخر لمرض أو شغل فإذا زال العارض أقيم الحد لوجود مقتضيه وانتفاء معارضه ولهذا قال عمر : حتى يقطع الدرب قافلا
فصل : وتقام الحدود في الثغور بغير خلاف نعلمه لأنها من بلاد الاسلام والحاجة داعية الى زجر أهلها كالحاجة الى زجر غيرهم وقد كتب عمر الى أبي عبيدة أن يجلد من شرب الخمر ثمانين وهو بالشام وهو من الثغور (10/528)
مسألة وفصول : إذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم ولا يقتل شيخ ولا امرأة ولا أعمى ولا راهب ولا عبد إلا إذا قاتلوا
مسألة : قال : وإذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم أو ينبت أو يبلغ خمس عشرة سنة
وجملة ذلك أن الامام إذا ظفر بالكفار لم يجز أن يقتل صبيا لم يبلغ بغير خلاف وقد روى ابن عمر رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النساء والصبيان ] متفق عليه ولأن الصبي يصير رقيقا بنفس السبي ففي قتله إتلاف المال وإذا سبي منفردا صار مسلما فإتلافه إتلاف من يمكن جعله مسلما والبلوغ يحصل بأحد أسباب ثلاثة :
أحدها : الاحتلام وهو خروج المني من ذكر الرجل أو قبل الأنثى في يقظة أو في منام وهذا لا خلاف فيه وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم } ثلاث مرات ثم قال : { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يتم بعد احتلام ] وقال لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] رواهما أبو داود
الثاني : إنبات الشعر الخشن حول القبل وهو علامة على البلوغ بدليل ما روى عطية القرظي قال : كنت من سبي قريظة فكانوا ينظرون فمن أنبت الشعر قتل ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت أخرجه الأثرم و الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح وعن كثير بن السائب قال : حدثني أبناء قريظة أنهم عرضوا على النبي صلى الله عليه و سلم فمن كان منهم محتلما أو نبتت عانته قتل ومن لا ترك أخرجه الأثرم وعن أسلم مولى عمر أن عمر كان يكتب الى امراء الاجناد أن لا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي ولا يأخذوا الجزية إلا ممن جرت عليه المواسي وحكي عن الشافعي أن هذا بلوغ في حق الكفار لأنه لا يمكن الرجوع إلى قولهم في الاحتلام وعدد السنين وليس بعلامة عليه في حق المسلمين لامكان ذلك فيهم
ولنا قول أبي نضرة وعقبة بن عامر حين اختلف في بلوغ تميم بن قرع المهري : انظروا فان كان قد أشعر فاقسموا له فنظر إليه بعض القوم فاذا هو قد أنبت فقسموا له ولم يظهر خلاف هذا فكان إجماعا ولأنه علم على البلوغ في حق الكافر فكان علما عليه في حق المسلم كالعلمين الآخرين ولأنه أمر يلازم البلوغ غالبا فكان علما عليه كالاحتلام وقولهم : انه يتعذر في حق الكافر معرفة الاحتلام والسن قلنا : لا تتعذر معرفة السن في الذمي الناشىء بين المسلمين ثم تعذر المعرفة لا يوجب جعل ما ليس بعلامة كغير الإنبات
الثالث : بلوغ خمس عشرة سنة لما روى ابن عمر قال : عرضت على النبي صلى الله عليه و سلم وأنا أربع عشرة سنة فلم يجزني في القتال وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني في المقاتلة قال نافع : فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال : هذا فصل ما بين الرجال وبين الغلمان متفق عليه وهذه العلامات الثلاث في حق الذكر والأنثى وتزيد الأنثى بعلامتين الحيض والحمل فمن لم يوجد علامة منهن فهو صبي يحرم قتله
فصل : ولا تقتل امرأة ولا شيخ فان وبذلك قال مالك وأصحاب الرأي وروي ذلك عن أبي بكر الصديق و مجاهد وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : { ولا تعتدوا } يقول : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير
وقال الشافعي في أحد قوليه و ابن المنذر : يجوز قتل الشيوخ لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم ] رواه أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح ولأن الله تعالى قال : { فاقتلوا المشركين } وهذا عام يتناول بعمومه الشيوخ وقال ابن المنذر : لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ يستثنى بها من عموم قوله : { فاقتلوا المشركين } ولأنه كافر لا نفع في حياته فيقتل كالشاب
ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا امرأة ] رواه أبو داود في سننه
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه وصى يزيد حين وجهه إلى الشام فقال : لا تقتل صبيا ولا امرأة ولا هرما وعن عمر أنه وصى سلمة بن قيس فقال : لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا هرما رواهما سعيد ولأنه ليس من أهل القتال فلا يقتل كالمرأة وقد أومأ النبي صلى الله عليه و سلم إلى هذه العلة في المرأة فقال : [ ما بال هذه قتلت وهي لا تقاتل ] والآية مخصوصة بما روينا ولأنه قد خرج من عمومها المرأة والشيخ الهرم في معناها فنقيسه عليها وأما حديثهم فأراد به الشيوخ الذين فيهم قوة على القتال أو معونة عليه برأي أو تدبير جمعا بين الأحاديث ولأن أحاديثنا خاصة في الهرم وحديثهم عام في الشيوخ كلهم والخاص يقدم على العام وقياسهم ينتقض بالعجوز التي لا نفع فيها
فصل : ولا يقتل زمن ولا أعمى ولا راهب والخلاف فيهم هو كالخلاف في الشيخ وحجتهم ههنا حجتهم فيه
ولنا في الزمن والأعمى أنهما ليسا من أهل القتال فأشبها المرأة وفي الراهب ما روي في حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : وستمرون على أقوام في الصوامع قد حبسوا أنفسهم فيها فدعوهم حتى يميتهم الله على ضلالهم ولأنهم لا يقاتلون تدينا فأشبهوا من لا يقدر على القتال
فصل : ولا يقتل العبيد وبه قال الشافعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أدركوا خالدا فمروه أن لا يقتل ذرية ولا عسيفا ] وهم العبيد لأنهم يصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي فأشبهوا النساء والصبيان
فصل : ومن قاتل ممن ذكرنا جميعهم جاز قتله لأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة ومن كان من هؤلاء الرجال المذكورين ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال فيه وكانوا خرجوا به معهم يتيمنون به ويستعينون برأيه فلم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم قتله ولأن الرأي من أعظم المعونة في الحرب وقد جاء عن معاوية أنه قال لمروان والأسود : أمددتما عليا بقيس بن سعد وبرأيه ومكايدته فوالله لو أنكما أمددتماه بثمانية آلاف مقاتل ما كان بأغيظ لي من ذلك (10/530)
مسألة : من قاتل من هؤلاء قتل
مسألة : قال : ومن قاتل من هؤلاء النساء المشايخ والرهبان في المعركة قتل
لا نعلم فيه خلافا وبهذا قال الأوزاعي و الثوري و الليث و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقد جاز عن ابن عباس قال : [ مر النبي صلى الله عليه و سلم بامرأة مقتولة يوم الخندق فقال : من قتل هذه قال رجل : أنا يا رسول الله قال : ولم قال : نازعتني قائم سيفي قال : فسكت ] ولأن النبي صلى الله عليه و سلم وقف على امرأة مقتولة فقال : [ ما بالها قتلت وهي لا تقاتل ] وهذا يدل على أنه إنما نهى عن قتل المرأة إذا لم تقاتل ولأن هؤلاء إنما لم يقتلوا لأنهم في العادة لا يقاتلون (10/534)
فصلان : حكم المريض والفلاح إذا كانا لا يقاتلان
فصل : فأما المريض فيقتل إذا كان ممن لو كان صحيحا قاتل لأنه بمنزلة الاجهاز على الجريح إلا أن يكون ميئوسا من برئه فيكون بمنزلة الزمن لا يقتل لأنه لا يخاف منه أن يصير إلى حال يقاتل فيها
فصل : فأما الفلاح الذي لا يقاتل فينبغي أن لا يقتل لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب وقال الأوزاعي : لا يقتل الحراث إذا علم أنه ليس من المقاتلة وقال الشافعي : يقتل إلا أن يؤدي الجزية لدخوله في عموم المشركين
ولنا قول عمر وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ولأنهم لا يقاتلون فأشبهوا الشيوخ والرهبان (10/535)
فصل : حكم ما إذا حاصر الإمام حصنا وصفات الحاكم
فصل : إذا حاصر الامام حصنا لزمته مصابرته ولا ينصرف عنه إلا بخصلة من خصال خمس :
إحداها : أن يسلموا فيحرزوا بالاسلام دماءهم وأموالهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] وإن أسلموا بعد الفتح عصموا دماءهم دون أموالهم ويرقون
الثانية : أن يبذلوا مالا على الموادعة فيجوز قبوله منهم سواء أعطوه جملة أو جعلوه خراجا مستمرا يؤخذ منهم كل عام فإن كانوا ممن تقبل منهم الجزية فبذلوها لزمه قبولها منهم وحرم قتالهم لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وإن بذلوا مالا على غير وجه الجزية فرأى المصلحة في قبوله قبله ولا يلزمه قبوله إذا لم ير المصلحة فيه
الثالثة : أن يفتحه
الرابعة : أن يرى المصلحة في الانصراف عنه إما لضرر في الإقامة وإما لليأس منه وإما لمصلحة ينتهزها تفوت باقامته فينصرف عنه لما [ روي أن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال : إنا قافلون إن شاء الله تعالى غدا فقال المسلمون : أنرجع عنه ولم نفتحه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اغدوا على القتال فغدوا عليه فأصابهم الجراح فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنا قافلون غدا فأعجبهم فقفل رسول الله صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه
الخامسة : أن ينزلوا على حكم حاكم فيجوز لما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم لما حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك والكلام فيه في فصلين : أحدهما صفة الحاكم والثاني صفة الحكم فيعتبر فيه سبعة شروط : أن يكون الحاكم حرا مسلما عاقلا بالغا ؟ ذكرا عدلا فقيها كما يشترط في حاكم المسلمين ويجوز أن يكون أعمى لأن عدم البصر لا يضر في مسألتنا لأن المقصود رأيه ومعرفة المصلحة في أحد أقسام الحكم ولا يضر عدم البصر فيه بخلاف القضاء فانه لا يستغني عن البصر ليعرف المدعي من المدعى عليه والشاهد من المشهود له و المشهود عليه والمقر له من المقر ويعتبر من الفقه ههنا ما يتعلق بهذا الحكم مما يجوز فيه ويعتبر له ونحو ذلك ولا يعتبر فقهه في جميع الأحكام التي لا تعلق له بهذا ولهذا حكم سعد بن معاذ ولم يثبت أنه كان عالما بجميع الأحكام إذا حكموا رجلين جاز ويكون الحكم ما اتفقا عليه وإن جعلوا الحكم إلى رجل يعينه الإمام جاز لأنه لا يختار إلا من يصلح وإن نزلوا على حكم رجل منهم أو جعلوا التعيين إليهم لم يجز لأنهم ربما اختاروا من لا يصلح وإن عينوا رجلا يصلح فرضيه الامام جاز لأن بني قريظة رضوا بحكم سعد بن معاذ وعينوه فرضيه النبي صلى الله عليه و سلم وأجاز حكمه وقال : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله ] وإن مات من اتفقوا عليه فاتفقوا على غيره ممن يصلح قام مقامه وإن لم يتفقوا على من يقوم مقامه أو طلبوا حكما لا يصلح ردوا إلى مأمنهم وكانوا على الحصار حتى يتفقوا وكذلك إن رضوا باثنين فمات أحدهما فاتفقوا على من يقوم مقامه جاز وإلا ردوا إلى مأمنهم وكذلك إن رضوا بتحكيم من لم تجتمع الشرائط فيه ووافقهم الإمام عليه ثم بان أنه لا يصلح لم يحكم ويردون إلى مأمنهم كما كانوا
وأما صفة الحكم : فإن حكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم نفذ حكمه لأن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة بذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة ] وإن حكم بالمن على المقاتلة وسبي الذرية فقال القاضي : يلزم حكمه وهو مذهب الشافعي لأن الحكم إليه فيما يرى المصلحة فيه فكان له المن كالامام في الأسير
واختار أبو الخطاب أن حكمه لا يلزم لأن عليه أن يحكم بما فيه الحظ ولا حظ للمسلمين في المن وإن حكم بالمن على الذرية فينبغي أن لا يجوز لأن الامام لا يملك المن على الذرية إذا سبوا فكذلك الحاكم ويحتمل الجواز لأن هؤلاء لم يتعين السبي فيهم بخلاف من سبي فإنه يصير رقيقا بنفس السبي وإن حكم عليهم بالفداء جاز لأن الامام مخير في الأسرى بين القتل والفداء والاسترقاق والمن فكذلك الحاكم وإن حكم عليهم باعطاء الجزية لم يلزم حكمه لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بالتراضي ولذلك لا يملك الامام إجبار الأسير على اعطاء الجزية وإن حكم بالقتل والسبي جاز للامام المن على بعضهم لأن ثابت بن قيس سأل في الزبير بن باطا من قريظة وماله رسول الله صلى الله عليه و سلم فأجابه ويخالف مال الغنيمة إذا حازه المسلمون لأن ملكهم استقر عليه وإن أسلموا قبل الحكم عليهم عصموا دماءهم وأموالهم لأنهم أسلموا وهم أحرار وأموالهم لهم فلم يجز استرقاقهم بخلاف الأسير فان الأسير قد ثبتت اليد عليه كما تثبت على الذرية ولذلك جاز استرقاقه وإن أسلموا بعد الحكم عليهم نظرت فان كان قد حكم عليهم بالقتل سقط لأن من أسلم فقد عصم دمه ولم يجز استرقاقهم لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم قال أبو الخطاب : ويحتمل جواز استرقاقهم كما لو أسلموا بعد الأسر ويكون المال على ما حكم فيه وإن حكم بأن المال للمسلمين كان غنيمة لأنهم أخذوه بالقهر والحصر (10/536)
مسألة : حكم ما لو خلي الأسير منا وحلف أن يبعث إليهم بشيء
مسألة : قال : وإذا خلي الأسير منا وحلف أن يبعث اليهم بشئ يعينه أو يعود إليهم فلم يقدر عليه لم يرجع إليهم
وجملته ان الأسير إذا خلاه الكفار واستحلفوه على أن يبعث اليهم بفدائه أو يعود اليهمن نظرت فان أكرهوه بالعذاب لم يلزمه الوفاء لهم برجوع ولا فداء لأنه مكره فلم يلزمه ما أكره عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وإن لم يكره عليه وقدر على الفداء الذي التزمه لزمه اداؤه وبهذا قال عطاء و الحسن و الزهري و النخعي و الثوري و الأوزاعي وقال الشافعي أيضا : لا يلزمه لانه حر لا يستحقون بدله
ولنا قول الله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } ولما صالح النبي صلى الله عليه و سلم أهل الحديبية على رد من جاءه مسلما وفى لهم بذلك وقال : [ إنا لا يصلح في ديننا الغدر ] ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى وفي الغدر مفسدة في حقهم لأنهم لا يأمنون بعده والحاجة داعية إليه فلزمه الوفاء به كما يلزمه الوفاء بعقد الهدنة ولأنه عاهدهم على اداء مال فلزمه الوفاء به كثمن المبيع والمشروط في عقد الهدنة في موضع يجوز شرطه وما ذكروه باطل بما إذا شرط رد من جاءه مسلما أو شرط لهم مالا في عقد الهدنة فأما إن عجز عن الفداء نظرنا فان كان المفادى امرأة لم ترجع إليهم ولم يحل لها ذلك لقول الله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } ولأن في رجوعها تسليطا لهم على وطئها حراما وقد منع الله تعالى رسوله رد النساء إلى الكفار بعد صلحه على ردهن في قصة الحديبية وفيها : فجاء نسوة مؤمناتن فنهاهم الله أن يردوهن رواه أبو داود وغيره وإن كان رجلا ففيه روايتان :
إحداهما : لا يرجع أيضا وهو قول الحسن و النخعي و الثوري و الشافعي لأن الرجوع اليهم معصية فلم يلزم بالشرط كما لو كان امراة وكما لو شرط قتل مسلم او شرب الخمر
والثانية : يلزمه وهو قول عثمان و الزهري و الأوزاعي و محمد بن سوقة لما ذكرنا في بعث الفداء ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قد عاهد قريشا على رد من جاءه مسلما ورد أبا بصير وقال : [ إنا لا يصلح في ديننا الغدر ] وفارق رد المرأة فان الله تعالى فرق بينهما في هذا الحكم حين صالح النبي صلى الله عليه و سلم قريشا على رد من جاءه منهم مسلما فأمضى الله ذلك في الرجال ونسخه في النساء وقد ذكرنا الفرق بينهما من ثلاثة أوجه تقدمت (10/539)
فصلان : حكم ما لو أطلق الأسير وأمنوه وحكم ما لو اشترى الأسير شيئا أو اقترض
فصل : فإن أطلقوه وآمنوه صاروا في أمان منه لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه فان أمكنه المضي إلى دار الاسلام لزمه وإن تعذر عليه أقام وكان حكمه حكم من أسلم في دار الحرب فان أخذ في الخروج فأدركوه وتبعوه قاتلهم وبطل الأمان لأنهم طلبوا منه المقام وهو معصية فأما إن أطلقوه ولم يؤمنوه فله أن يأخذ منهم ما قدر عليه ويسرق ويهرب لأنه لم يؤمنهم ولم يؤمنوه وإن أطلقوه وشرطوا عليه المقام عندهم لزمه ما شرطوا عليه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤمنون عند شروطهم ] وقال أصحاب الشافعي : لا يلزمه فأما إن أطلقوه على أنه رقيق لهم فقال أبو الخطاب : له أن يسرق ويهرب ويقتل لأن كونه رقيقا حكم شرعي لا يثبت عليه بقوله ولو ثبت لم يقتض أمانا له منهم ولا لهم منه وهذا مذهب الشافعي وإن أحلفوه على هذا فإن كان مكرها على اليمين لم تنعقد يمينه وإن كان مختارا فحنث كفر يمينه ويحتمل أن تلزمه الاقامة على الرواية التي تلزمه الرجوع إليهم في المسألة الأولى وهو قول الليث
فصل : وإن اشترى الأسير شيئا مختارا أو اقترضه فالعقد صحيح ويلزمه الوفاء لهم لأنه عقد معاوضة فأشبه ما لو فعله غير الأسير وإن كان مكرها لم يصح فان أكرهوه على قبضه لم يضمنه ولكن عليه رده اليهم إن كان باقيا لأنهم دفعوه اليه بحكم العقد وإن قبضه باختياره ضمنه لأنه قبضه عن عقد فاسد وان باعه والعين قائمة لزمه ردها لأن العقد باطل وإن عدمت العين رد قيمتها (10/541)
مسألة : لا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ويباح له الهرب من ثلاثة
مسألة : قال : ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ومباح له أن يهرب من ثلاثة فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل
وجملته أنه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار بدليل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار } الآية وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون } وذكر النبي صلى الله عليه و سلم الفرار يوم الزحف فعده من الكبائر
وحكي عن الحسن و الضحاك أن هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها والأمر مطلق وحبر النبي صلى الله عليه و سلم عام فلا يجوز التقييد والتخصيص إلا بدليل وإنما يجب النبات بشرطين :
أحدهما : أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين فان زادوا عليه جاز الفرار لقول الله تعالى : { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر فهو أمر بدليل قوله : { الآن خفف الله عنكم } ولو كان خبرا على حقيقته لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة الى غلبة الاثنين تخفيفا ولأن خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون فعلم أنه أمر وفرض ولم يأت شيء ينسخ هذه الآية لا في كتاب ولا سنة فوجب الحكم بها قال ابن عباس : نزلت { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة ثم جاء تخفيف فقال : { الآن خفف الله عنكم } - إلى قوله - { يغلبوا مائتين } فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ماخفف من العدد رواه أبو داود وقال ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر
الثاني : أن لا يقصد بفراره التحيز الى فئة ولا التحرف لقتال فان قصد أحد هذين فهو مباح له لأن الله تعالى قال : { إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } ومعنى التحرف للقتال : أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح الى استدبارهما أو من نزلة إلى علو أو من معطشة الى موضع ماء أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم أو تنفرد خيلهم من رجالتهم أو ليجد فيهم فرصة أو ليستند الى جبل ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوما في خطبته إذ قال : يا سارية بن زنيم الجبل ظلم الذئب من استرعاه الغنم فانكرها الناس فقال علي رضي الله عنه : دعوه فلما نزل سألوه عما قال فلم يعترف به وكان قد بعث سارية الى ناحية العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم فسمعوا صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل فنجوا من عدوهم فانتصروا عليهم وأما التحيز الى فئة فهو أن يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على عدوهم وسواء بعدت المسافة أو قربت قال القاضي : لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التحيز اليها ونحوه ذكر الشافعي لأن ابن عمر روى أن النبي صلى اله عليه وسلم قال : [ إني فئة لكم ] وكانوا بمكان بعيد منه وقال عمر : انا فئة كل مسلم وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان رواهما سعيد وقال عمر : رحم الله أبا عبيد لو كان تحيز الي لكنت له فئة وإذا خشي الأسر فالأولى له أن يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للأسر لأنه يفوز بثواب الدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة وان استأسر جاز لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم بعث عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفرت اليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا الى فدد فقالو لهم : انزلوا فأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة معه ونزل اليهم ثلاثة على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها متفق عليه فعاصم أخذ بالعزيمة وخبيب وزيد أخذا بالرخصة وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم (10/541)
فصل : حكم ما إذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين
فصل : وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الظفر فالأولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة وإن انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب والحكم علق على مظنته وهو كونهم أقل من نصف عددهم ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وان غلب على ظنهم الهلاك فيه ويحتمل أن يلزمهم الثبات إن غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف فالأولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولين ولأنه يجوز أن يغلبوا أيضا فان الله تعالى يقول : { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ولذلك صبر عاصم وأصحابه فقاتلوا حتى أكرمهم الله بالشهادة (10/544)
فصل : إذا جاء العدو بلدا فلأهله التحصن
فان جاء العدو بلدا فلأهله التحصن منهم وان كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد أو قوة ولا يكون ذلك توليا ولا فرارا إنما التولي بعد لقاء العدو وإن لقوهم خارج الحصن فلهم التحيز الى الحصن لأنه بمنزلة التحرف للقتال أو التحيز الى فئة وان غزوا فذهبت دوابهم فليس ذلك عذرا في الفرار لأن القتال ممكن للرجالة وإن تحيزوا الى جبل ليقاتلوا فيه رجالة فلا بأس لأنه تحرف للقتال وان ذهب سلاحهم فتحيزوا إلى مكان يمكنهم القتال فيه بالحجارة والتستر بالشجر ونحوه أو لهم في التحيز إليه فائدة جاز (10/545)
فصل : إذا فر قوم قبل إحراز الغنيمة فلا شيء لهم
فصل : فان ولى قوم قبل احراز الغنيمة وأحرزها الباقون فلا شيء للفارين لأن إحرازها حصل بغيرهم فكان ملكها لمن أحرزها وان ذكروا أنهم فروا متحيزين إلى فئة أو متحرفين للقتال فلا شيء لهم أيضا لذلك وان فروا بعد إحراز الغنيمة لم يسقط حقهم منها لأنهم ملكوا الغنيمة بحيازتها فلم يزل ملكهم عنها بفرارهم (10/545)
فصل : حكم ما إذا ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون
فصل : وإذا ألقى الكفار نارا في سفينة فيها مسلمون فاشتعلت فيها فما غلب على ظنهم السلامة فيه من بقائهم في مركبهم أو إلقاء نفوسهم في الماء فالأولى لهم فعله وان استوى عندهم الأمران فقال أحمد : كيف شاء يصنع قال الأوزاعي : هما موتتان فاختر أيسرهما وقال أبو الخطاب فيه رواية أخرى أنهم يلزمهم المقام لأنهم إذا رموا نفوسهم في الماء كان موتهم بفعلهم وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم (10/545)
مسألة : حكم من أجر نفسه - بعد أن غنموا - على حفظ الغنيمة
مسألة : قال : ومن أجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة فمباح له ما أخذ إن كان راجلا أو على دابة يملكها
وجملته أن الغنيمة إذا احتاجت الى من يحفظها أو سوق الدواب التي هي منها أو يرعاها أو يحملها فان للامام أن يستأجر من يفعل ذلك ويؤدي أجرتها منها لأن ذلك من مؤنتها فهو كعلف الدواب وطعام السبي ومن أجر نفسه على فعل شيء من ذلك فله أجرته مباحة لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة فحلت له أجرته كما لو أجر نفسه على الدلالة إلى الطريق فأما قوله : إن كان راجلا أو على دابة يملكها فإنه يعني به : لا يركب من دواب المغنم ولا فرسا حبيسا
قال أحمد : لا بأس أن يؤجر الرجل نفسه على دابته وكره أن يستأجر القوم على سباق الرمك على فرس حبيس لأنه يستعمل الفرس الموقوفة للجهاد فيما يختص منفعة نفسه فان أجر نفسه فركب الدابة الحبيس أو دابة من المغنم لم تطب له أجرة لأن المعين له على العمل يختص منفعة نفسه فلا يجوز أن يستعمل فيه دواب المغنم ولا دواب الحبيس وينبغي أن يلزمه بقدر أجر الدابة يرد في الغنيمة إن كانت من الغنيمة أو يصرف في نفقة دواب الحبيس إن كان الفرس حبيسا (10/545)
فصلان : لا يجوز ركوب دابة من الغنيمة ولا الانتفاع من الغنيمة
فصل : فإن شرط في الإجابة ركوب دابة من الغنيمة فينبغي أن يجوز لأن ذلك بمنزلة أجرة تدفع إليه من المغنم ولو أجر نفسه بدابة من المغنم معينة صح فإذا جعل أجره ركوبها كان أولى إلا أن يكون العمل مجهولا فلا يجوز لأن من شرط صحة إجارتها كون عوضها معلوما وإن شرط في الإجارة ركوب دابة من الحبيس لم يجز لأنها إنما حبست على الجهاد وليس هذا بجهاد إنما هو نفع لأهل الغنيمة
فصل : ولا يجوز الانتفاع من الغنيمة بركوب دابة منها ولا لبس ثوب من ثيابها لما روى رويفع ابن ثابت قال : لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم خيبر : [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ] رواه أبو داود و الأثرم [ وعن رجل من بلقين قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو بوادي القرى فقلت : ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش فقلت : فما أحد أولى به من أحد ؟ قال : لا ولا السهم تستخرجه من جنبك أنت أحق به من أخيك المسلم ] رواه الأثرم و لأن الغنيمة مشتركة بين الغانمين وأهل الخمس فلم يجز لواحد الاختصاص بمنفعته كغيره من الأموال المشتركة فإن دعت الحاجة إلى القتال بسلاحهم فلا بأس قال أحمد : إذا كان أنكى فيهم أو خاف على نفسه فنعم
وذكر حديث سيف أبي جهل وهو ما روى عبد الله بن مسعود قال : انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله فقلت : الحمد لله الذي أخزاك يا أبا جهل فاضربه بسيف معي غير طائل فوقع سيفه من يده فأخذت سيفه فضربته به حتى برد رواه الأثرم وفي ركوب الفرس للجهاد روايتان :
إحداهما : يجوز كما يجوز في السلاح والثانية لا يجوز لأنها تتعرض للعطب غالبا وقيمتها كثيرة بخلاف السلاح (10/547)
مسألة وفصل : في صفة الأمان
مسألة : قال : ومن لقي علجا فقال له : قف أو ألق سلاحك فقد أمنه
قد تقدم الكلام فيمن يصح أمانه ونذكر ههنا صفة الأمان فالذي ورد به الشرع لفظتان : أجرتك وأمنتك لقول الله تعالى : { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت ] وقال : [ من دخل دار ابي سفيان فهو آمن ومن أغلق بابه فهو آمن ] وفي معنى ذلك إذا قال : لا تخف لا تذهل لا تخش لا خوف عليك لا بأس عليك
وقد روي عن عمر انه قال : إذا قلتم : لا بأس او لا تذهل أو مترس فقد أمنتموهم فإن الله تعالى يعلم الألسنة وفي رواية أخرى إذا قال الرجل للرجل : لا تخف فقد أمنه فإذا قال : لا تذهل فقد أمنه فإن الله يعلم الألسنة
وروي ان عمر قال للهرمزان : تكلم ولا بأس عليك فلما تكلم أمر عمر بقتله فقال أنس بن مالك : ليس لك إلى ذلك سبيل فقد أمنته فقال عمر : كلا فقال الزبير : قد قلت له : تكلم ولا بأس عليك فدرأ عنه عمر القتل رواه سعيد وغيره وهذا كله لا نعلم فيه خلافا فأما إن قال له : قم أو قف أو الق سلاحك فقال أصحابنا : هو أمان أيضا لأن الكافر يعتقد هذا أمانا فأشبه قول : أمنتك
وقال الأوزاعي : إن ادعى الكافر أنه أمن أو قال : إنما وقفت لندائك فهو آمن فإن لم يدع ذلك فلا يقبل ويحتمل أن هذا ليس بأمان لأن لفظه لا يشعر به وهو يستعمل للإرهاب والتخويف فلم يكن أمانا لقوله : لأقتلنك لكن يرجع إلى القائل فإن قال : نويت به الأمان فهو أمان وإن قال : لم أرد أمانه نظرنا في الكافر فإن قال : اعتقدته أمانا رد إلى مأمنه ولم يجز قتله وإن لم يعتقده امانا فليس بأمان كما لو أشار إليهم بما اعتقدوه امانا
فصل : فإن أشار المسلم إليهم بما يرونه امانا وقال : أردت به الأمان فهو أمان وإن قال : لم أرد به الامان فالقول قوله لأنه أعلم بنيته فإن خرج الكفار من حصنهم بناء على هذه الإشارة لم يجز قتلهم ولكن يردون إلى مأمنهم
وقال عمر رضي الله عنه : والله لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل بأمانه فقتله لقتله به رواه سعيد وإن مات المسلم أو غاب فإنهم يردون إلى مأمنهم وبهذا قال مالك و الشافعي و ابن المنذر فإن قيل : وكيف صححتم الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق والعتق ؟ قلنا : تغليبا لحقن الدم كما حقن دم من له شبهة كتاب تغليبا لحقن دمه ولأن الكفار في الغالب لا يفهمون كلام المسلمين والمسلمون لا يفهمون كلامهم فدعت الحاجة إلى التكليم بالإشارة بخلاف غيره (10/548)
فصل : حكم ما لو سبيت كافرة فجاز ابنها يطلبها وقال : عندي أسير مسلم
فصل : إذا سبيت كافرة فجاء ابنها يطلبها وقال : إن عندي أسيرا مسلما فأطلقوها حتى أحضره فقال الإمام : أحضره فأحضره لزم اطلاقها لأن المفهوم من هذا إجابته إلى ما سأل وإن قال الإمام : لم أرد إجابته لم يجبر على ترك أسيره ورد إلى مأمنه وقال أصحاب الشافعي : يطلق الأسير ولا تطلق المشركة لأن المسلم حر لا يجوز أن يكون ثمنا لمملوكة ويقال له : إن اخترت شراءها فائت بثمنها
ولنا أن هذا يفهم منه الشرط فيجب الوفاء به كما لو صرح به ولأن الكافر فهم منه ذلك وبنى عليه فأشبه ما لو فهم الأمان من الإشارة وقولهم : إن الحر لا يكون ثمن مملوكة قلنا : لكن يصح أن يفادى بها فقد [ فادى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالأسيرة التي أخذها من سلمة بن الأكوع برجلين من المسلمين وفادى برجلين من المسلمين بأسير من الكفار ووفى لهم برد من جاءه مسلما وقال : إنه لا يصلح في ديننا الغدر ] وإن كان رد المسلم إليهم ليس بحق لهم ولأنه التزم إطلاقها فلزمه ذلك لقوله عليه السلام : [ المسلمون على شروطهم ] وقوله : [ إنه لا يصلح في ديننا الغدر ] (10/550)
مسألة وفصل : حكم السرقة من الغنيمة
مسألة : قال : ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع
يعني إذا كان السارق بعض الغانمين أو أباه أو سيده فلا قطع عليه لأن له شبهة وهو حقه المتعلق بها فيكون ذلك مانعا من قطعه لأن الحدود تدرأ بالشبهات فأشبه ما لو سرق من مال مشترك بينه وبين غيره وهكذا ان كان لابنه وان علا وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وزاد أبو حنيفة : إذا كان لذي رحم محرم منه فيها حق لم يقطع مبني على أنه لا يقطع بسرقة مالهم وقد سبق الكلام في هذا ولو كان لأحد الزوجين فيها حق فسرق منها الآخر لم يقطع عند من لا يرى أن أحدهما يقطع بسرقة مال الآخر وقد سبق ذكر هذا
فصل : والسارق من الغنيمة غير الغال فلا يجري مجراه في إحراق رحله ولا يجري الغال مجرى السارق في قطع يده وذكر بعض أصحابنا أن السارق يحرق رحله لأنه في معنى الغال ولأنه لما درىء عند الحد وجب أن يشرع في حقه عقوبة أخرى كسارق الثمر يغرم مثلي ما سرق
ولنا أن هذا لا يقع عليه اسم الغال حقيقة ولا هو في معناه لأن الغلول يكثر لكونه أخذ مال لا حافظ له ولا يطلع عليه غالبا فيحتاج إلى زاجر عنه وليس كذلك السرقة فإنها أخذ مال محفوظ فالحاجة إلى الزجر عنه أقل (10/551)
مسألة : حكم من وطىء جارية قبل قسم المغنم
مسألة : قال : وإن وطىء جارية قبل أن يقسم أدب ولم يبلغ به حد الزاني وأخذ منه مهر مثلها فطرح في المقسم إلا أن تلد منه فتكون عليه قيمتها
يعني إذا كان الواطىء من الغانمين أو ممن لولده فيها حق فلا حد عليه لأن الملك يثبت للغانمين في الغنيمة فيكون للواطىء حق في هذه الجارية وإن كان قليلا فيدرأ عنه الحد للشبهة وبهذا قال أبة حنيفة و الشافعي وقال مالك و أبو ثور : عليه الحد لقول الله تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } وهذا زان ولأنه وطىء في غير ملك عامدا عالما بالتحريم فلزمه الحد كما لو وطىء جارية غيره وقال الأوزاعي : كل من سلف من علمائنا يقول : عليه أدنى الحدين مائة جلدة ومنع بعض الفقهاء ثبوت الملك في الغنيمة وقال : إنما يثبت بالاخبار بدليل أن أحدهم لو قال : أسقطت حقي سقط ولو ثبت ملكه لم يزل لذلك كالوارث
ولنا أن له فيها شبهة الملك فلم يجب عليه الحد كوطء الجارية المشتركة والآية مخصوصة بوطء الجارية المشتركة وجارية ابنه فنقيس عليه هذا ومنع الملك لا يصح لأن ملك الكفار قد زال ولا يزول إلا إلى مالك ولأنه تصح قسمته ويملك الغانمون طلب قسمتها فأشبهت مال الوارث إنما كثر الغانمون فقل نصيب الواطىء ولم يستقر في شيء بعينه وكان للإمام تعيين نصيب كل واحد بغير اختياره فلذلك جاز أن يسقط بالإسقاط بخلاف الميراث وضعف الملك لا يخرجه عن كونه شبهة في الحد الذي يدرأ بالشبهات ولهذا يسقط الحد بأدنى شيء وإن لم يكن حقيقة الملك فهو شبهة إذا ثبت هذا فإنه يعزر ولا يبلغ بالتعزير الحد على ما أسلفناه ويؤخذ منه مهر مثلها فيطرح في المقسم وبهذا قال الشافعي
وقال القاضي : إنه يسقط عنه من المهر حصته منها ويجب عليه بقيته كما لو وطىء جارية مشتركة بينه وبين غيره وليس بصحيح لأننا إذا أسقطنا عنه حصته وأخذنا الباقي فطرحناه في المغنم ثم قسمناه على الجميع وهو فيهم عاد إليه سهم من حصة غيره ولأن قدر حصته قد لا تمكن معرفته لقلة المهر وكثرة الغانمين ثم إذا أخذناه فإن قسمناه مفردا على من سواه لم يمكن وإن خلطناه ببقية الغنيمة ثم قسمناه على الجميع أخذ سهما مما ليس له فيه حق إذا ثبت هذا فإن ولدت منه فالولد حر يلحقه نسبه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هو رقيق لا يلحقه نسبه لأن الغانمين إنما يملكون بالقسمة وقد صادف وطؤه غير ملكه
ولنا أنه وطء سقط فيه الحد بشبهة الملك فيلحق فيه النسب كوطء جارية ابنه وما ذكروه غير مسلم ثم يبطل بوطء جارية ابنه ويفارق الزنا فإنه يوجب الحد وإذا ثبت هذا فإن الأمة تصير أم ولد له في الحال وقال الشافعي : لا تصير أم ولد في الحال لأنها ليست ملكا له فإذا ملكها بعد ذلك فهل تصير أم ولد ؟ فيها قولان
ولنا أنه وطء يلحق به النسب لشبهة الملك فتصير به أم ولد كوطء جارية ابنه ويبطل ما ذكروه بجارية الابن ولا نسلم ما ذكروه فإنا قد بينا أن الملك يثبت في الغنيمة بمجرد الاغتنام وعليه قيمتها تطرح في المغنم لأنه فوتها عليهم وأخرجها من الغنيمة بفعله فلزمته قيمتها كما لو قتلها فإن كان معسرا كان في ذمته قيمتها وقال القاضي : إذا كان معسرا حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد وباقيها رقيق الغانمين لأن كونها أم ولد إنما يثبت بالسراية في ملك غيره فلم يسر في حق المعسر كالاعتاق
ولنا أنه استيلاد جعل بعضها أم ولد فيجعل جميعها أم ولد كاستيلاد جارية الابن وفارق العتق لأن الاستيلاد أقوى لكونه فعلا وينفذ من المجنون فأما قيمة الولد فقال أبو بكر : فيها روايتان :
إحداهما : تلزمه قيمته حين وضعه تطرح في المغنم لأنه فوت رقه فأشبه ولد المغرور
والثانية : لا تلزمه لأنه ملكها حين علقت ولم يثبت ملك الغانمين في الولد بحال فأشبه ولد الأب من جارية ابنه إذا وطئها ولأنه يعتق حين علوقه ولا قيمة له حينئذ وقال القاضي : إذا صار نصفها أم ولد يكون الولد كله حرا وعليه قيمة نصفه (10/551)
فصل : حكم ما لو كان في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين
فصل : إذا كان في الغنيمة من يعتق على بعض الغانمين نظرت فإن كان رجلا لم يعتق لأن العباس عم النبي صلى الله عليه و سلم وعم علي وعقيلا أخا علي كانا في أسرى بدر فلم يعتقا عليهما ولأن الرجل لا يصير رقيقا بنفس السبي وإن استرق أو كان الأسير امرأة أو صبيا عتق عليه قدر نصيبه وسرى إلى باقيه إ ن كان موسرا وإن كان معسرا لم يعتق عليه إلا ملكه منه
وقال الشافعي : لا يعتق منه شيء وهذا مقتضى قول أبي حنيفة لأنه لا يملك بمجرد الاغتنام ولو ملك لم يتعين ملكه فيه وإن قسمه وجعله في نصيبه واختار تملكه عتق عليه وإلا فلا وإن جعل له بعضه فاختار تملكه عتق عليه وقوم عليه الباقي
ولنا ما بيناه من أن الملك يثبت للغانمين لكون الاستيلاء التام وجد منهم وهو سبب للملك ولأن ملك الكفار قد زال ولا يزول إلا إلى المسلمين (10/555)
فصل : حكم ما لو أعتق بعض الغانمين عبدا من الغنيمة
فصل : وإن أعتق بعض الغانمين عبدا من الغنيمة قبل القسمة فإن كان ممن لم يثبت فيه الرق كالرجل قبل استرقاقه لم يعتق لما ذكرناه قبل وإن كان رقيقا كالمرأة والصبي عتق عليه قدر حصته وسرى إلى باقيه إن كان موسرا وعليه قيمة باقيه تطرح في المقسم وإن كان معسرا عتق عليه قدر ملكه من الغنيمة لأنه موسر بقدر حصته من الغنيمة فإن كان بقدر حقه من الغنيمة عتق ولم يأخذ شيئا وإن كان دون حقه أخذ باقي حقه وإن كان أكثر من حقه لم يعتق إلا قدر حقه فإن أعتق عبدا ثانيا وفضل من حقه عن الأول شيء عتق بقدره من الثاني وإن لم يفضل شيء لم يعتق من الثاني شيء (10/555)
فصل : يكره نقل رؤوس الأعداء من بلد إلى بلد
فصل : ويكره نقل رؤوس المشركين من بلد إلى بلد والمثلة بقتلاهم وتعذيبهم لما روى سمرة ابن جندب قال : [ كان النبي صلى الله عليه و سلم يحثنا على الصدقة وينهانا عن المثلة ] وعن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان ] رواهما أبو داود
وعن شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ] رواه النسائي وعن عبد الله بن عامر أنه قدم على أبي بكر الصديق برأس البطريق فأنكر ذلك فقال : يا خليفة رسول الله فإنهم يفعلون ذلك بنا قال : فاستنان بفارس والروم ؟ لا يحمل إلي رأس فإنما يكفي الكتاب والخبر
وقال الزهري : لم يحمل إلى النبي صلى الله عليه و سلم رأس قط وحمل إلى أبي بكر رأس فأنكره وأول من حملت إليه الرؤوس عبد الله لن الزبير ويكره رميها في المنجنيق نص عليه أحمد وإن فعلوا ذلك لمصلحة جاز لما روينا أن عمرو بن العاص حين حاصر الإسكندرية ظفر أهلها برجل من المسلمين فأخذوا رأسه فجاء قومه عمرا مغضبين فقال لهم عمرو : خذوا رجلا منهم فاقطعوا رأسه فارموا به إليهم في المنجنيق ففعلوا ذلك فرمى أهل الإسكندرية رأس المسلم إلى قومه (10/555)
فصل : جواز قبول هدية الكفار من أهل الحرب
فصل : يجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل هدية صاحب مصر فإن كان ذلك في حال الغزو فقال أبو الخطاب : ما أهداه المشركون لأمير الجيش أو لبعض قواده فهو غنيمة لأنه لا يفعل ذلك إلا لخوفه من المسلمين فظاهر هذا أن ما أهدي لآحاد الرعية فهو له وقال القاضي : هو غنيمة أيضا وإن كان من دار الحرب إلى دار الإسلام فهو لمن أهدي له سواء كان الإمام أو غيره لأن النبي صلى الله عليه و سلم قبل الهدية فكانت له دون غيره وهذا قول الشافعي و محمد وقال أبو حنيفة : هو للمهدي له بكل حال لأنه خص بها أشبه إذا كان في دار الإسلام وحكي ذلك رواية عن أحمد
ولنا أنه أخذ ذلك بظهر الجيش أشبه ما لو أخذه قهرا ولأنه إذا أهدى للإمام أو الأمير فالظاهر أنه يداري عن نفسه به فأشبه ما أخذ منه قهرا وأما إن أهدى لآحاد المسلمين فلم يقصد به ذلك في الظاهر لعدم الخوف منه فيكون له كما لو أهدى إليه في دار الإسلام ويحتمل أن ينظر فإن كان بينهما مهاداة قبل ذلك فله ما أهدى إليه وإن تجدد ذلك بالدخول إلى دارهم فهو للمسلمين كقولنا في الهدية إلى القاضي (10/556)
كتاب الجزية
وهي الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى قال الله تعالى : { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا } تقول العرب : جزيت ديني إذا قضيته والأصل فيها الكتاب والسنة و الإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }
وأما السنة فما [ روى المغيرة بن شعبة أنه قال لجند كسرى يوم نهاوند : أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ] أخرجه البخاري وعن [ بريدة أنه قال : كان رسول الله إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرا وقال له : إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث : ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل وكف عنهم فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ] في أخبار كثيرة وأجمع المسلمون على جواز أخذ الجزية في الجملة (10/557)
مسألة : فيمن تقبل منهم الجزية
مسألة : قال : ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني أو مجوسي إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه
وجملته أن الذين تقبل منهم الجزية صنفان : أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب فأهل الكتاب اليهود والنصارى ومن دان بدينهم كالسامرة يدينون بالتوراة ويعملون بشريعة موسى عليه السلام وإنما خالفوهم في فروع دينهم وفرق النصارى من اليعقوبية والنسطورية والملكية والفرنجة والروم والأرمن وغيرهم ممن دان بالإنجيل وانتسب إلى عيسى عليه السلام والعمل بشريعته فكلهم من أهل الإنجيل ومن عدا هؤلاء من الكفار فليس من أهل الكتاب بدليل قول الله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } واختلف أهل العلم في الصابئين فروي عن أحمد أنهم جنس من النصارى وقال في موضع آخر : بلغني أنهم يسبتون فهؤلاء إذا أسبتوا فهم من اليهود
وروي عن عمر أنه قال : هم يسبتون وقال مجاهد : هم بين اليهود والنصارى وقال السدي والربيع : هم من أهل الكتاب وتوقف الشافعي في أمرهم والصحيح أنه ينظر فيهم فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين في نبيهم وكتابهم فهم منهم وإن خالفوهم في ذلك فليس هم من أهل الكتاب
ويروى عنهم أنهم يقولون ان الفلك حي ناطق وأن الكواكب السبعة آلهة فإن كانوا كذلك فهم كعبدة الأوثان وأما أهل صحف ابراهيم وشيث وزبور داود فلا تقبل منهم الجزية لأنهم من غير الطائفتين ولأن هذه الصحف لم تكن فيها شرائع إنما هي مواعظ وأمثال كذلك وصف النبي صلى الله عليه و سلم صحف ابراهيم وزبور داود في حديث أبي ذر
وأما الذين لهم شبهة كتاب فهم المجوس فإنه يروى أنه كان لهم كتاب فرفع فصار لهم بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم وأخذ الجزية منهم ولم ينتهض في إباحة نكاح نسائهم ولا ذبائحهم دليل هذا قول أكثر أهل العلم ونقل عن أبي ثور أنهم من أهل الكتاب وتحل نساؤهم وذبائحهم لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أنا أعلم الناس بالمجوس كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه وان ملكهم سكر فوقع على بنته وأخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم ودعا أهل مملكته وقال : أتعلمون دينا خيرا من دين آدم وقد أنكح بنيه بناته فأنا على دين آدم قال : فتابعه قوم وقاتلوا الذين يخالفونهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ورفع العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبو بكر - وأراه قال وعمر - منهم الجزية رواه الشافعي و سعيد وغيرهما ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ]
ولنا قول الله تعالى : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } والمجوس من غير الطائفتين وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] يدل على أنهم غيرهم وروى البخاري بإسناده عن بجالة أنه قال : ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى حدثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذها من مجوس هجر ولو كانوا أهل كتاب لما وقف عمر في أخذ الجزية منهم مع أمر الله تعالى بأخذ الجزية من أهل الكتاب وما ذكروه هو الذي صار لهم به شبهة الكتاب وقد قال أبو عبيد : لا أحسب ما رووه عن علي في هذا محفوظا ولو كان له أصل لما حرم النبي صلى الله عليه و سلم نساءهم وهو كان أولى بعلم ذلك ويجوز أن يصح هذا مع تحريم نسائهم وذبائحهم لأن الكتاب المبيح لذلك هو الكتاب المنزل على إحدى الطائفتين وليس هؤلاء منهم ولأن كتابهم رفع فلم ينتهض للإباحة ويثبت به حقن دمائهم
فأما قول أبي ثور في حل ذبائحهم ونسائهم فيخالف الإجماع فلا يلتفت إليه وقوله عليه السلام : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] في أخذ الجزية منهم إذا ثبت هذا فإن أخذ الجزية من أهل الكتاب والمجوس ثابت بالإجماع لا نعلم في هذا خلافا فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على ذلك وعمل به الخلفاء الراشدون ومن بعدهم إلى زمننا هذا من غير نكير ولا مخالف وبه يقول أهل العلم من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر وغيرهم مع دلالة الكتاب على أخذ الجزية من أهل الكتاب ودلالة السنة على أخذ الجزية من المجوس بما [ روينا من قول المغيرة لأهل فارس : أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ] وحديث بريدة وعبد الرحمن بن عوف وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] ولا فرق بين كونهم عجما أو عربا وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو يوسف : لا تؤخذ الجزية من العرب لأنهم شرفوا بكونهم من رهط النبي صلى الله عليه و سلم
ولنا عموم الآية وأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فأخذ أكيدر دومة فصالحه على الجزية وهو من العرب رواه أبو داود وأخذ الجزية من نصارى نجران وهم عرب [ وبعث معاذا إلى اليمن فقال : إنك تأتي قوما أهل كتاب ] متفق عليه وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وكانوا عربا قال ابن المنذر : ولم يبلغنا أن قوما من العجم كانوا سكانا باليمن حيث وجه معاذا ولو كان لكان في أمره أن يأخذ من جميعهم من كل حالم دينارا دليل على أن العرب تؤخذ منهم الجزية وحديث بريدة فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأمر من بعثه على سرية أن يدعو عدوه إلى أداء الجزية ولم يخص بها عجميا دون غيره وأكثر ما كان النبي صى الله عليه وسلم يغزو العرب ولأن ذلك إجماع فإن عمر رضي الله عنه أراد الجزية من نصارى بني تغلب فأبوا ذلك وسألوه أن يأخذ منهم مثلما يأخذ من المسلمين فأبى ذلك عليهم حتى لحقوا بالروم ثم صالحهم على ما يأخذه منهم عوضا عن الجزية فالمأخوذ منهم جزية غير أنه على غير صفة جزية غيرهم وما أنكر أخذ الجزية منهم أحد فكان ذلك اجماعا وقد ثبت بالقطع واليقين أن كثيرا من نصارى العرب ويهودهم كانوا في عصر الصحابة في بلاد الإسلام ولا يجوز إقرارهم فيها بغير جزية فثبت يقينا أنهم أخذوا الجزية منهم وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من دخل في دينهم قبل تبديل كتابهم أو بعده ولا بين أن يكون ابن كتابين أو ابن وثنيين أو ابن كتابي ووثني
وقال أبو الخطاب : من دخل في دينهم بعد تبديل كتابهم لو تقبل منه الجزية ومن ولد بين أبوين أحدهما تقبل منه الجزية ولاآخر لا تقبل منه فهل تقبل منه ؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي
ولنا عموم النص فيهم ولأنهم من أهل دين تقبل من أهله الجزية فيقرون بها كغيرهم وإنما تقبل منهم الجزية إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه من بذل الجزية والتزام أحكام الملة لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية أي يلتزموا أداءها فما لم يوجد ذلك يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم (10/558)
فصل : لا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين
فصل : ولا يجوز عقد الذمة المؤبدة إلا بشرطين :
أحدهما : أن يلتزموا إعطاء الجزية في كل حول
والثاني : التزام أحكام الاسلام وهو قبول ما يحكم به عليهم من أداء حق أو ترك محرم لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث بريدة : [ فادعهم إلى أداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ] ولا تعتبر حقيقة الإعطاء ولا جريان الاحكام لأن إعطاء الجزية إنما يكون في آخر الحول والكف عنهم في ابتدائه عند البذل والمراد بقوله : { حتى يعطوا } أي يلتزموا الإعطاء ويجيبوا الى بذله كقول الله تعالى : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } والمراد به التزام ذلك دون حقيقته فإن الزكاة إنما يجب أداؤها عند الحول لقوله عليه السلام : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] (10/563)
مسألة وفصل : حكم غير أهل الكتاب والمجوس
مسألة : قال : ومن سواهم فالاسلام أو القتل
يعني من سوى اليهود والنصارى والمجوس لا تقبل منهم الجزية ولا يقرون بها ولا يقبل منهم إلا الاسلام فان لم يسلموا قتلوا هذا ظاهر مذهب أحمد وروى عنه الحسن بو ثواب أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب لأن حديث بريدة يدل بعمومه على قبول الجزية من كل كافر إلا أنه خرج منه عبدة الأوثان من العرب لتغلظ كفرهم من وجهين : أحدهما دينهم والثاني كونهم من رهط النبي صلى الله عليه و سلم
وقال الشافعي : لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس لكن في أهل الكتب غير اليهود والنصارى مثل أهل صحف ابراهيم وشيث وزبور داود ومن تمسك بدين آدم وادريس وجهان :
أحدهما : يقرون بالجزية لأنهم من أهل الكتاب فأشبهوا اليهود والنصارى وقال أبو حنيفة : تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلى الله عليه و سلم فلا يقرون على غير دينه وغيرهم يقر بالجزية لأنه يقر بالاسترقاق فأقروا بالجزية كالمجوس وعن مالك أنها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش لأنهم ارتدوا وعن الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز انها تقبل من جميعهم وهو قول عبد الرحمن بن يزيد بن جابر لحديث بريدة ولأنه كافر فيقر بالجزية كأهل الكتاب
ولنا قول الله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فاذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] وهذا عام خص منه أهل الكتاب بالآية والمجوس بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] فمن عداهم من الكفار يبقى على قضية العموم وقد بينا أن أهل الصحف من غير أهل الكتاب المراد بالآية فيما تقدم
فصل : وإذا عقد الذمة لكفار زعموا أنهم من أهل الكتاب ثم تبين أنهم عبدة الأوثان فالعقد باطل من أصله وإن شككنا فيهم لم ينتقض عهدهم بالشك لأن الأصل صحته فان أقر بعضهم بذلك دون بعض قبل من المقر في نفسه فانتقض عهده وبقي في حق من لم يقر بحاله (10/563)
مسألة وفصول : في الجزية والهدنة وشروطهما والضيافة
مسألة : قال : والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر درهما ومن أوسطهم أربعة وعشرون درهما ومن أيسرهم ثمانية وأربعون درهما
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول في تقدير الجزية والثاني في كمية مقدارها فأما الأول ففيه ثلاث روايات :
إحداها : أنها مقدرة بمقدر لا يزاد عليه ولا ينقص منه وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرضها مقدرة بقوله لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر ] وفرضها عمر مقدرة بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا
والثانية : أنها غير مقدرة بل يرجع فيها الى اجتهاد الامام في الزيادة والنقصان قال الأثرم : قيل لابي عبد الله : فيزداد اليوم فيه وينقص ؟ يعني الجزية قال : نعم يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم على قدر ما يرى الامام وذكر أنه زيد عليهم فيما مضى درهمان فجعله خمسين قال الخلال : العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه الجماعة بأنه لا بأس للامام أن يزيد في ذلك وينقص على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع فاستقر قوله على ذلك
وهذا قول الثوري و أبي عبيد لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر معاذا أن يأخذ من كل حالم دينارا وصالح أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والنصف في رجب رواهما أبو داود وعمر جعل الجزية على ثلاث طبقات : على الغني ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما وعلى الفقير اثني عشر درهما وصالح بني تغلب على مثلي ما على المسلمين من الزكاة وهذا يدل على أنها إلى رأي الامام لولا ذلك لكانت على قدر واحد في جميع هذه المواضع ولم يجز أن تختلف قال البخاري : قال ابن عيينة عن أبي نجيح : قلت لمجاهد : ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال : جعل ذلك من أجل اليسار ولأنها عوض فلم تقدر كالأجرة
والرواية الثالثة : أن أقلها مقدر بدينار وأكثرها غير مقدر وهو اختيار أبي بكر فتجوز الزيادة ولا يجوز النقصان لأن عمر زاد على ما فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم ولم ينقص منه وروي أنه زاد على ثمانية وأربعين فجعلها خمسين
الفصل الثاني : أننا اذا قلنا بالرواية الأولى وانها مقدرة فقدرها في حق الموسر ثمانية وأربعون درهما وفي حق المتوسط أربعة وعشرون وفي حق الفقير اثنا عشر وهذا قول أبي حنيفة وقال مالك : هي في حق الغني أربعون درهما أو أربعة دنانير وفي حق الفقير عشرة دراهم أو دينار وروي ذلك عن عمر وقال الشافعي : الواجب دينار في حق كل واحد لحديث معاد أن النبي صلى الله عليبه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا : رواه أبو داود وغيره الا أن المستحب جعلها على ثلاث طبقات كما ذكرناه لنخرج من الخلاف قالوا : وقضاء النبي صلى الله عليه و سلم أولى بالاتباع من غيره
ولنا حديث عمر رضي الله عنه وهو حديث لا شك في صحته وشهرته بين الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم ولم ينكره منكر ولا خلاف فيه وعمل به من بعده من الخلفاء رضي الله عنهم فصار إجماعا لا يجوز الخطأ عليه وقد وافق الشافعي على استحباب العمل به وأما حديث معاذ فلا يخلو من وجهين :
أحدهما : أنه فعل ذلك لغلبة الفقر عليهم بدليل قول مجاهد لأن ذلك من أجل اليسار
والوجه الثاني : أن يكون التقدير غير واجب بل هو موكول إلى اجتهاد الامام ولأن الجزية وجبت صغارا أو عقوبة فتختلف باختلاف أحوالهم كالعقوبة في البدن منهم من يقتل ومنهم من يسترق ولا يصح كونها عوضا عن سكنى الدار لأنها لو كانت كذلك لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والمكافيف
فصل : وحد اليسار في حقهم ما عده الناس غنى في العادة وليس بمقدر لأن التقديرات بابها التوقيف ولا توقيف في هذا فيرجع فيه إلى العادة والعرف
فصل : إذا بذلوا الجزية لزم قبولها وحرم قتالهم لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } إلى قوله { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } فجعل اعطاء الجزية غاية لقتالهم فمتى بذلوها لم يجز قتالهم وقول النبي صلى اله عليه وسلم : [ فادعهم إلى أداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ] وإن قلنا ان الجزية غير مقدرة الأكثر لم يحرم قتالهم حتى يجيبوا إلى بذل ما لا يجوز طلب أكثر منه مما يحتمله حالهم
فصل : وتجب الجزية في آخر كل حول وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تجب بأوله ويطالب بها عقيب العقد وتجب الثانية في أول الحول الثاني لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية }
ولنا أنه مال يتكرر بتكرر الحول أو يؤخذ في آخر كل حول فلم يجب بأوله كالزكاة والدية وأما الآية فالمراد بها التزام إعطائها دون نفس الاعطاء ولهذا يحرم قتالهم بمجرد بذلها قبل أخذها
فصل : وتؤخذ الجزية مما يسر من أموالهم ولا يتعين أخذها من ذهب ولا فضة نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وأبي عبيد وغيرهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله مغافر وكان النبي صلى الله عليه و سلم يأخذ من نصارى نجران ألفي حلة وكان عمر يؤتى ينعم كثيرة يأخذها من الجزية
وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يأخذ الجزية من كل صنعة من متاعه من صاحب الإبر إبرا ومن صاحب المسال مسالا ومن صاحب الحبال حبالا ثم يدعو الناس فيعطيهم الذهب والفضة فيقتسمونه ثم يقول : خذوا فاقتسموا فيقولون : لا حاجة لنا فيه فيقول : أخذتم خياره وتركتم شراره لتحملنه وإذا ثبت هذا فانه يؤخذ بالقيمة لقوله عليه السلام : [ أو عدله مغافر ]
فصل : ولا يصح عقد الذمة والهدنة إلا من الامام أو نائبه وبهذا قال الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن ذلك يتعلق بنظر الإمام وما يراه من المصلحة ولأن عقد الذمة عقد مؤبد فلم يجز أن يفتات به على الإمام فإن فعله غير الإمام أو نائبه لم يصح لكن إن عقده على ما لا يجوز أن يطلب منهم أكثر منه لزم الإمام إجابتهم إليه وعقدها عليه
فصل : ويجوز أن يشرط عليهم في عقد الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين لما روى الامام أحمد باسناده عن الأحنف بن قيس أن عمر شرط عليهم ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته قال ابن المنذر : وروي عن عمر أنه قضى على أهل الذمة ضيافة من يمر بهم من المسلمين ثلاثة أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم
وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم ضرب على نصارى أيلة ثلثمائة دينار وكانوا ثلثمائة نفس في كل سنة وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام ولأن في هذا ضربا من المصلحة لأنهم ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين إضرارا بهم فاذا شرطت عليهم الضيافة أمن ذلك وإن لم تشرط الضيافة عليهم لم تجب ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي ومن أصحابنا من قال : تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين والأول أصح لأنه أداء مال فلم يجب بغير رضاهم كالجزية فان شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة وقال الشافعي : لا يجوز قتالهم عليها
ولنا أنه شرط سائغ امتنعوا من قبوله فقوتلوا عليه كالجزية
فصل : ذكر القاضي أنه شرط الضيافة فانه يبين أيام الضيافة وعدد من يضاف من الرجالة والفرسان فيقول : تضيفون في كل سنة مائة يوم عشرة من المسلمين من خبز كذا وأدم كذا وللفرس من التبن كذا ومن الشعير كذا فان شرط الضيافة مطلقا صح في الظاهر لأن عمر رضي الله عنه شرط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين من غير عدد ولا تقدير قال أبو بكر : إذا أطلق مدة الضيافة فالواجب يوم وليلة لأن ذلك الواجب على المسلمين ولا يكلفونهم الذبيحة ولا ضيافتهم بأرفع من طعامهم لأنه يروى عن عمر أنه شكا اليه أهل الذمة أن المسلمين يكلفونهم الذبيحة فقال : أطعموهم مما تأكلون وقال الأوزاعي : ولا يكلفون الذبيحة ولا الشعير
وقال القاضي : إذا وقع الشرط مطلقا لم يلزمهم الشعير ويحتمل أن يلزمهم ذلك للخيل لأن العادة جارية به فهو كالخبز للرجل وللمسلمين النزول في الكنائس والبيع فان عمر رضي الله عنه صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب بيعهم وكنائسهم لمن يجتاز بهم من المسلمين ليدخلوها ركبانا فان لم يجدوا مكانا فلهم النزول في الأفنية وفضول المنازل وليس لهم تحويل صاحب المنزل منه والسابق إلى منزل أحق له ممن يأتي بعده فان امتنع بعضهم من القيام بما شرط عليه أجبر عليه فان امتنع الجميع أجبروا فان لم يمكن إلا بالمقاتلة قوتلوا فان قاتلوا فقد نقضوا العهد
فصل : وتقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فان جعل الضيافة مكان الجزية جاز لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب لراهب من أهل الشام : إنني إن وليت هذه الأرض أسقطت عنك خراجك فلما قدم الجابية وهو أمير المؤمنين جاءه بكتابه فعرفه وقال : إنني جعلت لك ما ليس لي ولكن اختر إن شئت أداء الخراج وان شئت أن تضيف المسلمين فاختار الضيافة ويشترط عليه ضيافة يبلغ قدرها أقل الجزية إذا قلنا الجزية مقدرة الاقل لئلا ينقص خراجه عن أقل الجزية وذكر أن من الشروط الفاسدة اشتراط الاكتفاء بضيافتهم عن جزيتهم لأن الله تعالى أمر بقتالهم ممدودا الى إعطاء الجزية فان لم يعطها كان قتالهم مباحا ووجه الأول أن هذا اشتراط مال يبلغ قدر الجزية فجار كما لو شرط عليهم عدل الجزية مغافر
فصل : وإذا شرط في عقد الذمة شرطا فاسدا مثل أن يشترط أن لا جزية عليهم أو إظهار المنكر أو إسكانهم الحجاز أو إدخالهم الحرم ونحو هذا فقال القاضي : يفسد العقد به لأنه شرط فعل محرم فأفسد العقد كما لو شرط قتال المسلمين ويحتمل أن يفسد الشرط وحده ويصح العقد بناء على الشروط الفاسدة في البيع والمضاربة (10/566)
مسألة : لا جزية على صبي ولا زائل العقل ولا امرأة
مسألة : قال : ولا جزية على صبي ولا زائل عقل ولا امرأة
لانعلم بين أهل العلم خلافا في هذا وبه قال مالك و أبو حنيفة وأصحابه و الشافعي و أبو ثور وقال ابن المنذر : ولا أعلم عن غيرهم خلافهم وقد دل على صحة هذا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي رواه سعيد و أبو عبيد و الأثرم وقول النبي صلى الله عليه و سلم لمعاذ : [ خذ من كل حالم دينارا ] دليل على أنها لا تجب على غير بالغ ولأن الدية تؤخذ لحقن الدم وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها (10/572)
فصل : حكم ما لو بذلت المرأة الجزية
فصل : وإن بذلت المرأة الجزية أخبرت أنها لا جزية عليها فان قالت : فأنا أتبرع بها أو أنا أؤديها قبلت منها ولم تكن جزية بل هبة تلزم بالقبض فان شرطته على نفسها ثم رجعت كان لها ذلك وان بذلت الجزية لتصير إلى دار الاسلام مكنت من ذلك بغير شيء ولكن يشترط عليها التزام أحكام الاسلام وتعقد لها الذمة ولا يؤخد منها شيء الا أن تتبرع به بعد معرفتها أنه لا شيء عليها وان أخذ منها شيء على غير ذلك رد اليها لأنها بذلته معتقدة أنه عليها وأن دمها لا يحقن الا به فأشبه من أدى مالا الى من يعتقد أنه له فتبين أنه ليس له ولو حاصر المسلمون حصنا ليس فيه الا نساء فبذلن الجزية لتعقد لهن الذمة عقدت لهن بغير شيء وحرم استرقاقهن كالتي قبلها سواء فان كان في الحصن معهن رجال فسألوا الصلح لتكون الجزية على النساء والصبيان دون الرجال لم تصح لأنهم جعلوها على غير من هي عليه وبرؤا من تجب عليه وإن بذلوا جزية عن الرجال ويؤدوا عن النساء والصبيان من أموالهم جاز وكان ذلك زيادة في جزيتهم وإن كان من أموال النساء والصبيان لم يجز لأنهم يجعلون الجزية على من لا تلزمه فان كان القدر الذي بذلوه من أموالهم مما يجزىء في الجزية أخذ منهم وسقط الباقي (10/573)
فصل : أحوال من بلغ من أولاد أهل الذمة
فصل : ومن بلغ من أولاد أهل الذمة أو أفاق من مجانينهم فهو من أهلها بالعقد الأول لا يحتاج إلى استئناف عقد له وقال القاضي في موضع : هو مخير بين التزام العقد وبين أن يرد إلى مأمنه فان اختار الذمة عقدت له وإلا ألحق بمأمنه وهو قول الشافعي
ولنا أنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من خلفائه تجديد العقد لهؤلاء ولأن العقد يكون مع سادتهم فيدخل فيه سائرهم ولأنه عقد عهد مع الكفار فلم يحتج إلى استئنافه لذلك كالهدنة ولأن الصغار والمجانين دخلوا في العقد فلم يحتج الى تجديده لهم عند تغير أحوالهم كغيرهم ولأنه عقد دخلوا فيه فيلزمهم بعد البلوغ والإفاقة كالاسلام إذا ثبت هذا فان كان البلوغ والإفاقة في أول حول قومه أخذ منه في آخره معهم وإن كان في أثناء الحول أخذ منه عند تمام الحول بقسطه ولم يترك حتى يتم حوله لئلا يحتاج إلى أفراده بحول وضبط حول كل انسان منهم وربما أفضى الى أن يصير كل واحد حول منفردا (10/574)
فصل : أحوال من يجن ويفيق وأحكامها
فصل : ومن كان يجن ويفيق فله ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يكون جنونه غير مضبوط مثل من يفيق ساعة من يوم أو أيام أو يصرع ساعة من يوم أو أيام فهذا يعتبر حاله بالأغلب لأن مدة الافاقة غير ممكن مراعاتها لتعذر ضبطها
الثاني : أن يكون مضبوطا مثل من يجن يوما يوفيق يومين أو أقل من ذلك أو أكثر إلا أنه مضبوط ففيه وجهان :
أحدهما : يعتبر الأغلب من حاله وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لأنه يجن ويفيق فيعتبر الأغلب من حاله كالأول والثاني تلفق أيام إفاقته لأنه لو كان مفيقا في الكل وجبت الجزية فاذا وجدت الإفاقة في بعض الحول وجب فيما يجب به لو انفرد فعلى هذا الوجه في أخذ الجزية وجهان :
أحدهما أن أيامه تلفق فاذا كملت حولا أخذت منه لأن أخذها قبل ذلك أخذ لجزيته قبل كمال الحول فلم يجز كالصحيح
والثاني : يؤخد منه في آخر كل حول بقدر ما أفاق منه كما لو أفاق في بعض الحول إفاقة مستمرة وإن كان يجن ثلث الحول ويفيق ثلثيه أو بالعكس ففيه الوجهان كما ذكرنا فإن استوت إفاقته وجنونه مثل من يجن يوما ويفيق يوما أو يجن نصف الحول ويفيق نصفه عادة لفقت إفاقته لأنه تعذر اعتبار الأغلب لعدمه فتعين الاحتمال الآخر
الحال الثالث : أن يجن نصف حول ثم يفيق إفاقة مستمرة أو يفيق نصفه ثم يجن جنونا مستمرا فلا جزية عليه في الثاني وعليه في الأول من الجزية بقدر ما أفاق من الحول على ما تقدم شرحه والله أعلم (10/575)
مسائل وفصول : من لا تجب عليهم الجزية
مسألة : قال : ولا على فقير
يعني الفقير العاجز عن أدائها وهذا أحد أقوال الشافعي وقال في الآخر : يجب عليه لقوله عليه السلام : [ خذ من كل حالم دينارا ] ولأن دمه غير محقون فلا تسقط عنه الجزية كالقادر عليه
ولنا أن عمر رضي الله عنه جعل الجزية على ثلاث طبقات جعل أدناها على الفقيرالمعتمل فيدل على أن غير المعتمل لا شيء عليه ولأن الله تعالى قال : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ولأن هذا مال يجب بحلول الحول فلا يلزم الفقير العاجز كالزكاة والنقل ولأن الخراج ينقسم الى خراج أرض وخراج رؤوس ثم ثبت أن خراج الأرض على قدر طاقتها وما لا طاقة له لا شيء عليه كذلك خراج الرؤوس وأما الحديث فيتناول الأخذ ممن يمكن الأخذ منه ومن لا يمكن الأخذ منه فالأخذ منه مستحيل فكيف يؤمر به ؟
مسألة : قال : ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى
هؤلاء الثلاثة ومن في معناهم ممن به داء لا يستطيع معه القتال ولا يرجى برؤه لا جزية عليهم وهو قول أصحاب الرأي وقال الشافعي في أحد قوليه : عليهم الجزية بناء على قتلهم وقد سبق قولنا في أنهم لا يقتلون فلا تجب عليهم الجزية كالنساء والصبيان
مسألة : قال : ولا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما
لا خلاف في هذا نعلمه لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا جزية على العبد ] وعن ابن عمر مثله ولأن ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إيجابه على عبد المسلم إلى إيجاب الجزية على مسلم فأما إن كان العبد لكافر فالمنصوص عن أحمد أنه لا جزية عليه أيضا وهو قول عامة أهل العلم
قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد وذلك لما ذكر من الحديث ولأنه محقون الدم فأشبه النساء والصبيان أو لا مال له فأشبه الفقير العاجز ويحتمل كلام الخرقي إيجاب الجزية عليه يؤديها سيده وروي ذلك عن أحمد وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا مما في أيديهم لأنهم أهل خراج يبيع بعضهم بعضا ولا يقرن أحدكم بالصغار بعد إذ أنقذه الله منه
قال أحمد : أراد أن يوفر الجزية لأن المسلم إذا اشتراه سقط عنه أداء ما يؤخذ منه والذمي يؤدي عنه وعن مملوكه خراج جماجمهم وروي عن علي مثل حديث عمر ولأنه ذكر مكلف قوي مكتسب فوجبت عليه الجزية كالحر والأول أولى
فصل : ومن بعضه حر فقياس المذهب أن عليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية لأنه حكم يتجزأ يختلف بالرق والحرية فيقسم على قدر ما فيه كالإرث
فصل : ولا جزية على أهل الصوامع من الرهبان ويحتمل وجوبها عليهم وهذا أحد قولي الشافعي وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب دينارين ووجه ذلك عموم النصوص ولأنه كافر صحيح قادر على أداء الجزية فأشبه الشماس ووجه الأول أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب عليهم كالنساء وقد ذكرنا أنه يحرم قتلهم والنصوص مخصوصة بالنساء وهؤلاء في معناهن ولأنه لا كسب له فأشبه الفقير غير المعتمل (10/576)
مسألة : حكم ما لو أسلم من وجبت عليه الجزية قبل أن تؤخذ منه
مسألة : قال : ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن تؤخذ منه سقطت عنه الجزية
وجملته أن الذمي إذا أسلم في أثناء الحول لم تجب عليه الجزية وإن أسلم بعد الحول سقطت عنه وهذا قول مالك و الثوري و أبي عبيد وأصحاب الرأي وقال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر : إن أسلم بعد الحول لم تسقط لأنها دين يستحقه صاحبه واستحق المطالبة به في حال الكفر فلم يسقط بالاسلام كالخراج وسائر الديون و للشافعي فيما إذا أسلم في أثناء الحول قولان أحدهما عليه من الجزية بالقسط كما لو أفاق بعد الحول
ولنا قول الله تعالى : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ليس على المسلم جزية ] رواه الخلال وذكر أن أحمد سئل عنه فقال : ليس يرويه غير جرير قال أحمد : وقد روي عن عمر أنه قال : إن أخذها في كفه ثم أسلم ردها عليه وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا ينبغي للمسلم أن يؤدي الخراج ] يعني الجزية وروي أن ذميا أسلم فطولب بالجزية وقيل : إنما أسلمت تعوذا قال : ان في الاسلام معاذا فرفع إلى عمر فقال عمر : إن في الاسلام معاذا وكتب ألا تؤخذ منه الجزية رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ولأن الجزية صغار فلا تؤخذ منه كما لو أسلم قبل الحول ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر فيسقطها الاسلام كالقتل وبهذا فارق سائر الديون (10/578)
فصل : إذا مات الذمي بعد الحول لم تسقط الجزية
فصل : وإن مات الذمي بعد الحول لم تسقط الجزية عنه في ظاهر كلام أحمد ذكره أحمد وهو مذهب الشافعي وحكى ابو الخطاب عن القاضي أنها تسقط بالموت وهو قول أبي حنيفة ورواه أبو عبيد عن عمر ابن عبد العزيز لأنها عقوبة فتسقط بالموت كالحدود ولأنها تسقط في الاسلام فتسقط بالموت كما قبل الحول
ولنا أنه دين وجب عليه في حياته فلم يسقط بموته كديون الآدميين والحد يسقط بفوات محله وتعذر استيفائه بخلاف الجزية وفارق الاسلام فانه الأصل والجزية بدل عنه فاذا أتى بالأصل استغنى عن البدل كمن وجد الماء لا يحتاج معه الى التيمم بخلاف الموت ولأن الاسلام قربة وطاعة يصلح أن يكون معاذا من الجزية كما ذكر عمر رضي الله عنه والموت بخلافه (10/580)
فصل : لا تتداخل الجزية
فصل : ولا تتداخل الجزية بل إذا اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت منه كلها وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : تتداخل لأنها عقوبة فتتداخل كالحدود ولنا أنها حق مال يجب في آخر كل حول فلم تتداخل كالدية (10/580)
مسألة : إذا أعتق العبد لزمته الجزية
مسألة : قال : واذا أعتق لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان المعتق له مسلما أو كافرا
هذا الصحيح عن أحمد رواه عنه جماعة وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وبه قال سفيان و الليث و ابن لهيعة و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد يقر بغير جزية وروي نحو هذا عن الشعبي لأن الولاء شعبة من الرق وهو ثابت عليه ووهن الخلال هذه الرواية وقال : هذا قول قديم رجع عنه أحمد والعمل على ما رواه الجماعة وعن مالك كقول الجماعة وعنه إن كان المعتق له مسلما فلا جزية عليه لأن عليه الولاء لمسلم فأشبه ما لو كان عليه الرق
ولنا أنه حر مكلف موسر من أهل القتل فلم يقر في دارنا بغير جزية كالحر الأصلي فاذا ثبت هذا فان حكمه فيما يستقبل من جزيته حكم من بلغ من صبيانهم أو افاق من مجانينهم على ما مضى (10/580)
مسألة وفصلان : لا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الصدقة
مسألة : قال : ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب وتؤخذ الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين
بنو تغلب بن وائل منالعرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وأنفقوا وقالوا : نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر : لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين ان القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم وضعف عليهم من الابل من كل خمس شاتين ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين ومن كل عشرين دينارا دينارا ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم وفيما سقت السماء الخمس وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر فاستقر ذلك من قول عمر ولم يخالفه أحد من الصحابة فصار اجماعا وقال به الفقهاء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي ويروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى على نصارى بني تغلب إلا الجزية وقال : لا والله الا الجزية والا فقد آذنتكم بالحرب والحجة لهذا عموم الآية فيهم
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي لأقتلن مقاتلتهم ولأسبين ذراريهم فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم وذلك أن عمر رضي الله عنه صالحهم على أن لا ينصروا اولادهم والعمل على الأول لما ذكرنا من الاجماع وأما الآية فان هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة فان الجزية يجوز أخذها من العروض
فصل : قال أصحابنا : تؤخذ الصدقة مضاعفة من مال من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما وهذا قول أبي حنيفة و أبي عبيد وذكر أنه قول أهل الحجاز فعلى هذا تؤخذ من مال نسائهم وصبيانهم ومجانينهم وزمناهم ومكافيفهم وشيوخهم إلا أن أبا حنيفة لا يوجب الزكاة في مال صبي ولا مجنون وكذا الواجب على بني تغلب لا يجب في مال صبي ولا مجنون إلا في الأرض خاصة وذهب الشافعي إلى أن هذا جزية تؤخذ باسم الصدقة فلا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالنساء والصبيان والمجانين قال : وقد روي عن عمر أنه قال : هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى وأبوا الاسم
وقال النعمان بن زرعة : خذ منهم الجزية باسم الصدقة ولأنهم أهل ذمة فكان الواجب عليهم جزية لا صدقة كغيرهم من أهل الذمة ولأنه مال يؤخذ من أهل الكتاب لحقن دمائهم ومساكنهم فكان جزية كما لو أخذ باسم الجزية : يحققه أن الزكاة طهرة وهؤلاء لا طهرة لهم فعلى هذا يكون مصرف المأخوذ منهم : مصرف الفيء لا مصرف الصدقات وهذا أقيس واحتج أصحابنا بأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض فأجابهم عمر اليه بعد الامتناع منه والذي يأخذه بعضنا من بعض هو الزكاة من كل مال زكوي لأي مسلم كان من صغير وكبير وصحيح ومريض كذلك المأخوذ من بني تغلب ولأن نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال والعقلاء وعلى هذا من كان منهم فقيرا أو له مال غير زكوي كالدور وثياب البذلة وعبيد الخدمة لا شيء عليه كما لا يجب على أهل الزكاة من المسلمين ولا تؤخذ مما لم يبلغ نصابا فأما مصرف المأخوذ منهم فاخنار القاضي أن مصرفه مصرف الفيء لأنه مأخوذ من مشرك ولأنه جزية مسماة بالصدقة
وقال أبو الخطاب : مصرفه إلى أهل الصدقات لأنه مسمى باسم الصدقة مسلوك به - فيمن يؤخذ منه - مسلك الصدقة فيكون مصرفه مصرفها والأول أقيس وأصح لأن معنى الشيء أخص به من اسمه ولهذا لو سمي رجل أسدا أو نمرا أو أسود أو أحمر لم يصر له حكم المسمى بذلك ولأن هذا لو كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ]
فصل : فان بذل التغلبي أداء الجزية وتحط عنه الصدقة لم يقبل منه لأن الصلح وقع على هذا فلا يغير ويحتمل أن يقبل منه لقول الله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد } وهذا قد أعطى الجزية وإن كان باذل الجزية منهم حربيا قبلت منه للآية وخبر بريدة : [ ادعهم إلى أداء الجزية فان أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ] ولأنه لم يدخل في صلح الأولين فلم يلزمه حكمه وهو كتابي باذل للجزية فيحقن بها دمه وان أراد إمام نقض صلحهم وتجديد الجزية عليهم كفعل عمر بن عبد العزيز لم يكن له ذلك لأن عقد الذمة على التأبيد وقد عقده معهم عمر بن الخطاب فلم يكن لغيره نقضه ما داموا على العهد (10/581)
فصل : وسائر أهل الكتاب تقبل منهم الجزية
فصل : فأما سائر أهل الكتاب من النصارى واليهود العرب وغيرهم فالجزية منهم مقبولة ولا يؤخذون بما يؤخذ به نصارى بني تغلب نص أحمد على هذا ورواه عن الزهري قال : ونذهب إلى أن يأخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة ويضعف عليهم كما فعل عمر رضي الله عنه وذكر القاضي و أبو الخطاب أن حكم من تنصر من تنوخ وبهرا أو تهود من كنانة وحمير وتمجس من تميم حكم بني تغلب سواء وذكر ذلك عن الشافعي نص عليه في تنوخ وبهرا لأنهم من العرب فأشبهوا بني تغلب
ولنا عموم قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وأن النبي صلى الله عليه و سلم بعث معاذا إلى اليمن فقال : [ خذ من كل حالم دينارا ] وهم عرب وقبل الجزية من أهل نجران وهم من بني الحارث بن كعب - قال الزهري : أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى - وأخذ الجزية من أكيدر دومة وهو عربي وحكم الجزية ثابت بالكتاب والسنة في كل كتابي عربيا كان أو غير عربي الا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر اياهم ففي ما عداهم يبقى الحكم على عموم الكتاب وشواهد السنة ولم يكن بين غير بني تغلب وبين أحد من الأئمة صلح كصلح بني تغلب فيما بلغنا ولا يصح قياس غير بني تغلب عليهم لوجوه :
أحدها : أن قياس سائر العرب عليهم يخالف النصوص التي ذكرناها ولا يصح قياس المنصوص عليه على ما تلزم منه مخالفة النص
والثاني : ان العلة في بني تغلب الصلح ولم يوجد الصلح مع غيرهم ولا يصح القياس مع تخلف العلة
الثالث : أن بني تغلب كانوا ذوي قوة وشوكة لحقوا بالروم وخيف منهم الضرر إن لم يصالحوا ولم يوجد هذا في غيرهم فان وجد هذا في غيرهم فامتنعوا من أداء الجزية وخيف الضرر بترك مصالحتهم فرأى الامام مصالحتهم على أداء الجزية باسم الصدقة جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو زيادة قال علي بن سعيد : سمعت أحمد يقول : أهل الكتاب ليس عليهم في مواشيهم صدقة ولا في أموالهم إنما تؤخذ منهم الجزية إلا أن يكونوا صولحوا على أن تؤخذ منهم كما صنع عمر في نصارى بني تغلب حين أضعف عليهم الصدقة في صلحه إياهم وذكر هذا أبو أسحاق صاحب المهذب في كتابه والحجة في هذا قصة بني تغلب وقياسهم عليهم إذا كانوا في معناهم أما قياس من لم يصالح عليهم في جعل جزيتهم صدقة فلا يصح والله أعلم (10/584)
فصل : حكم ما إذا مر العاشر بتاجر تغلبي نصراني
فصل : واذا اتجر نصراني تغلبي فمر بالعاشر فقال أحمد : يؤخذ منه العشر ضعف ما يؤخذ من أهل الذمة وروى باسناده عن زياد بن جدير أن عمر بعثه مصدقا فأمر أن يأخذ من نصراى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر ورواه أبو عبيد
وقال حديث داود بن كردوس والنعمان بن زرعة : هو الذي عليه العمل أن يكون عليهم الضعف مما على المسلمين ألا تسمعه يقول : من كل عشرين درهما درهما ؟ وانما يؤخذ من المسلمين إذا مروا بأموالهم ربع لعشر من كل أربعين درهما درهم فذاك ضعف هذا وهذا ظاهر كلام الخرقي لقوله : مثلا ما يؤخذ من المسلمين وهو أقيس فان الواجب في سائر أموالهم ضعف ما على المسلمين لا ضعف ما على أهل الذمة (10/586)
مسألة : لا تؤكل ذبائح بني تغلب ولا تنكح نساؤهم
مسألة : قال : ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم
اختلفت الرواية عن أبي عبد الله في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم فعنه لا يحل ذلك وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومذهب الشافعي ولم يبح الشافعي ذبائح العرب من أهل الكتاب كلهم وكره ذبائح بني تغلب عطاء و سعيد بن جبير و محمد بن علي و النخعي وقال علي رضي الله عنه : انهم لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر ولأنه يحتمل أنهم دخلوا في دين الكفر بعد التبديل فلم يحل ذلك منهم
والرواية الثانية : تحل ذبائحهم ونساؤهم وهذا الصحيح عن أحمد رواه عنه الجماعة وكان آخر الروايتين عنه قال ابراهيم بن الحارث : فكان آخر قوله على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا وهذا قول ابن عباس وروي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال الحسن و النخعي و الشعبي و الزهري و عطاء الخراساني و الحكم و حماد و إسحاق وأصحاب الرأي قال الأثرم : وما علمت أحدا كرهه من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إلا عليا وذلك لدخولهم في عموم قوله تعالى : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ولأنهم أهل كتاب يقرون على دينهم ببذل المال فتحل ذبائحهم ونساؤهم لبني اسرائيل (10/587)
مسألة : حكم من جاء من أهل الذمة إلى غير بلده
مسألة : قال : ومن يجز من أهل الذمة الى غير بلده أخذ منه نصف العشر في السنة
اشتهر هذا عن عمر رضي الله عنه وصحت الرواية عنه به وقال الشافعي : ليس عليه إلا الجزية إلا أن يدخل ارض الحجاز فينظر في حاله فان كان لرسالة أو نقل ميرة اذن له بغير شيء وان كان لتجارة لا حاجة بأهل الحجاز اليها لم يأذن له إلا أن يشترط عليه عوضا بحسب ما يراه والأولى أن يشترط نصف العشر لأن عمر شرط نصف العشر على من دخل الحجاز من أهل الذمة
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى ] رواه أبو داود وروى الامام أحمد عن سفيان عن هشام عن أنس بن سيرين قال : بعثني أنس بن مالك إلى العشور فقلت : تبعثني إلى العشور من بين عمالك ؟ قال : أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر وهذا كان بالعراق
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال باسناده عن لاحق بن حميد أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما وقد ذكرنا حديث زياد بن حدير أن عمر أمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر وهذا كان بالعراق واشتهرت هذه القصص ولم تنكر فكانت اجماعا وعمل به الخلفاء بعده ولم يأت تخصيص الحجاز بنصف العشر في شيء من الأحاديث علمناه لا عن عمر ولا عن غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بل ظاهر أحاديثهم أن ذلك في غير الحجاز وما وجب من المال في الحجاز وجب في غيره كالديون والصدقات (10/588)
فصلان : لا يؤخذ العشر إلا مرة في السنة ولا يؤخذ من غير مال التجارة
فصل : ولا تؤخذ منهم في السنة إلا مرة نص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه وقال : كذا روي عن ابراهيم النخعي عن عمر حين كتب ألا يأخذ في السنة إلا مرة : أن يأخذ من الذمي نصف العشر وهذا قول الشافعي في الداخلين أرض الحجاز
وروى الامام أحمد باسناده قال : جاء رجل نصراني إلى عمر فقال : ان عاملك عشرني في السنة مرتين قال : ومن أنت ؟ قال : أنا الشيخ النصراني قال عمر : وأنا الشيخ الحنيف ثم كتب الى عامله أن لا تعشروا في السنة إلا مرة ولأن الجزية والزكاة إنما تؤخذ في السنة مرة واحدة فكذلك هذا إذا ثبت هذا فإنه متى أخذ منهم ذلك مرة كتب لهم حجة بأدائهم لتكون وثيقة لهم وحجة على من يمرون عليه فلا يعشرهم ثانية فإن مر ثانية بأكثر من المال الذي أخذ منه أخذ من الزيادة لأنها لم تعشر
فصل : ولا يؤخذ منهم من غير مال التجارة فلو مر بالعاشر منهم منتقل ومعه أمواله أو سائمة لم يؤخذ منه شيء نص عليه أحمد وإن كانت ماشيته للتجارة أخذ منه نصف عشرها واختلفت الرواية في القدر الذي يؤخذ منه نصف العشر فروى عنه صالح من كل عشرين دينارا دينار يعني فإذا نقصت من العشرين فليس عليه شيء لأن ما دون النصاب لا تجب فيه زكاة على مسلم ولا على تغلبي فلا يجب فيه على ذمي شيء كالذي دون العشرة
وروى صالح أيضا أنه قال : إذا مروا بالعاشر فان كانوا أهل الحرب أخذ منهم العشر من العشرة واحدا وإن كانوا من أهل الذمة أخذ منهم نصف العشر من كل عشرين دينارا دينارا فاذا نقصت فليس عليه شيء وإن نقص مال الحربي عن عشرة دنانير لم يؤخذ منه شيء ولا يؤخذ منهم إلا مرة واحدة المسلم والذمي في ذلك سواء
وروي عن أحمد أن في العشرة نصف مثقال وليس فيما دون العشرة شيء نص على هذا في رواية أبي الحارث قلت : اذا كان مع الذمي عشرة دنانير ؟ قال : تأخذ منه نصف دينار قلت : فان كان معه أقل من عشرة دنانير ؟ قال : إذا نقصت لم يؤخذ منه شيء وذلك لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم أو نقول : مال معشور فوجب في العشرة منه كمال الحربي
وقال ابن حامد : يؤخذ عشر الحربي ونصف عشر الذمي مما قل أو كثر لأن عمر قال : خذ من كل عشرين درهما درهما ولأنه حق عليه فوجب في قليله وكثيره كنصيب المالك في أرضه التي عامله عليها
ولنا أنه عشر أو نصف عشر وجب بالشرع فاعتبر له نصاب كزكاة الزرع والثمر ولأنه حق يتقدر بالحول فاعتبر له النصاب كالزكاة وأما قول عمر فالمراد به والله أعلم بيان قدر المأخوذ وانه نصف العشر ومعناه إذا كان معه عشرة دنانير فخذ من كل عشرين درهما درهما لأن في صدر الحديث أن عمر بعث مصدقا وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا وانما يؤخذ ذلك من المسلم إذا كان معه نصاب فكذلك من غيره (10/589)
فصل : حكم ما لو مر الذمي على العاشر بخمر أو خنزير
فصل : واختلفت الرواية عن أحمد في العاشر يمر عليه الذمي بخمر أو خنزير فقال في موضع : قال عمر : ولوهم بيعها لا يكون إلا على الآخذ منها
وروى باسناده عن سويد بن غفلة في قول عمر : ولهم بيع الخمر والخنزير بعشرها قال أحمد : اسناد جيد وممن رأى ذلك مسروق و النخعي و أبو حنيفة ووافقهم محمد بن الحسن في الخمر خاصة وذكر القاضي أن أحمد نص على أنه لا يؤخذ منهم شيء وبه قال عمر بن عبد العزيز و أبو عبيد و أبو ثور قال عمر بن عبد العزيز : الخمر لا يعشرها مسلم
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن عتبة بن فرقد بعث إليه بأربعين الف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر : بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين فأخبر بذلك الناس وقال : والله لا استعملتك على شيء بعدها قال : فنزعه قال أبو عبيد : ولوهم بيعها وخذوا انتم من الثمن أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزيتهم وخراج أرضهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فأنكره عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولين بيعها وروي باسناده عن سويد بن غفلة أن بلالا قال لعمر : ان عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال : لا تأخذوها منهم ولكن ولوهم بيعها وخذوا أنتم من الثمن (10/590)
فصل : ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم
فصل : فصل : ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم على جزية رؤوسهم وخراج أرضهم احتجاجا بقول عمر هذا ولأنها من أموالهم التي نقرهم على اقتنائها والتصرف فيها فجاز أخذ أثمانها منهم كثيابهم (10/592)