فصل : الطلاق البدعي
فصل : فإن طلق للبدععة وهو أن يطلقها حائضا أو في طهر أصابها فيه أثم ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر و ابن عبد البر : لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال وحكاه أبو نصر عن ابن علية و هشام بن الحكم و
الشيعة قالوا لا يقع طلاقه لأن الله تعالى أمر به في قبل العدة فإذا طلق في غيره لم يقع كالوكيل إذا أوقعه في زمن أمره موكله بإيقاعه في غيره
ولنا حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فأمره النبي صلى الله عليه و سلم أن يراجعها وفي رواية الدارقطني قال : [ فقال يا رسول الله أفرأيت لو أني طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها ؟ قال : لا كانت تبين منك وتكون معصية ] وقال نافع : وكان عبد الله طلقها تطليقة فحسبت من طلاقه وراجعها كما أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن رواية يونس بن جبير عن ابن عمر قال قلت لابن عمر أفتعتد عليه أو تحتسب عليه ؟ قال : نعم أرأيت ان عجز واستحق ؟ وكلها أحاديث صحاح ولأنه طلاق من مكلف في محل الطلاق فوقع كطلاق الحامل ولأنه ليس يقر به فيعتبر لوقوعه موافقة السنة بل هو إزالة عصمة وقطع ملك فإيقاعه في زمن البدعة أولى تغليظا عليه وعقوبة له أما غير الزوج فلا يملك الطلاق و الزوج يملكه بملكه محله (8/238)
فصلان : استحباب المراجعة
فصل : ويستحب أن يراجعها لأمر النبي صلى الله عليه و سلم بمراجعتها وأقل أحوال الأمر الاستحبات ولأنه بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم الطلاق ولا يجب ذلك في ظاهر المذهب وهو قول الثوري و الأوزاعي و الشافعي و ابن أبي ليلى وأصحاب الرأي وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أن الرجعة تجب واختارها وهو قول مالك و داود لظاهر الأمر في الوجوب ولأن الرجعة تجري مجرى استبقاء النكاح واستبقاؤه ههنا واجب بدليل تحريم الطلاق ولأن الرجعة إمساك للزوجة بدليل قوله تعالى : { فأمسكوهن بمعروف } فوجب ذلك كإمساكها قبل الطلاق وقال مالك و داود : يجبر على رجعتها قال أصحاب مالك : يجبر على رجعتها ما دامت في العدة إلا أشهب قال شك ما لم تطهر ثم تحيض ثم تطهر لأنه لا يجب عليه إمساكها في تلك الحال فلا يجب عليه رجعتها فيه
ولنا أنه طلاق لا يرتفع بالرجعة فلم تجب عليه الرجعة فيه كاطلاق في طهر مسها فيه فإنهم أجمعوا على أن الرجعة لا تجب حكاه ابن عبد الب ر عن جميع العلماء وما ذكروه من المعنى ينتقض بهذه الصورة وأما الأمر بالرجعة فمخمول على الاستحباب لما ذكرنا
فصل : فإن رجعها وجب إمساكها حتى تطهر واستحب إمساكها حتى تحيض حيضة أأخرى ثم تطهر على ما أمر به النبي صلى الله عليه و سلم في حديث عمر الذي رويناه قال ابن عبد البر : ذلك من وجوه عند أهل العلم منها أان لارجعة لا تكاد تعلم صحتها إلابالوطء لأنه االمبغي من لانكاح ولا يحصل الوطء إلا في الطهر فإذا وطئها حرم طلاقها فيه حتى تحيض ثم تطهر واعترنا مظنه الوطء ومحله لا حقيقه ومنها أن الطلاق كره في الحيض لتطويل العدة فلو طلقها عقيب الرجعةمن غير وطء كانت في معنى المطلقة قبل الدخول وكانت نتبني على عدتها فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع حكم الطلاق بالوطء واعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء فإذا وطىء حرم طلاقها حتى تحيض ثم تططهر أخرى فإن شاء أمسكها رواه ابن عبد البر أنه عوقب على إقاعه في الوقت المحرم بمنعه منه في الوقت الذي يباح له ن وذكر غير هذا فإن طلقها في الطهر الذي يلي الحيضة قبل أن يمسها فهو طلاق سنة وقال أصحاب مالك : لا يطلقها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر على ما جاء في الحديث ولنا قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } وهذا مطلق للعدة فيدخل في الأمر وقد روى يونس بن جبير وسعيد بن جبر وابن سرين وزيد بن أسلم وأبو الزبير عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم أن شاء طلق وإن شاء أمسك ولم يذكروا تلك الزيادة وهو حديث صحيح متفق عليه ولأنه طهر لم يمسها فيه فأشبه الثاني وحديثهم محمول على الاستحباب (8/239)
مسائل وفصول : في الطلاق السني والبدعي
مسألة : قال : ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يصبها فيه كان أيضا للسنة وكان تاركا للاختيار
اختلفت الرواية عن أحمد في جميع الثلاث فروي عنه انه غير محرم اختاره الخرقي وهو مذهب الشافعي و أبي ثور و داود وروي ذلك عن الحسن بن علي و عبد الرحمن بن عوف و الشعبي لأن عويمرالعجلاني لما لاعن امرأتة قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم متفق عليه ولم ينقل إنكار النبي صلى الله عليه و سلم [ وعن عائشة ان امرأة رفاعة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله : إن رفاعة طلقني فبت طلاقي ] متفق عليه وفي حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات ولأنه طلاق جاز تفريقه فجاز جمعه كطلاق النساء والرواية الثانية أن جمع الثلاث طلاق محرم اختارها أبو بكر وأبو حفص روي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وهو قول مالك و أبي حنيفة قال علي رضي الله عنه : لا يطلق أحد للسنة فينعدم وفي رواية قال : يطلقها واحدة ثم يدعها ما بينما وبين أن تحيض ثلاث حيض فمتى شاء رجعيا وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أتي برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا وعن مالك بن الحارث قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال : إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان فلم يجعل الله له مخرجا ووجه ذلك قول الله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } - إلى قوله - { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ثم قال بعد ذلك { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } ومن جمع الثلاث لم يبق له أمر يحدث ولا يجعل الله له مخرجا ولا من أمره يسرا
وروى النسائي بإسناده عن محمود بن لبيد قال : [ اخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فغضب ثم قال : أيلعب بكتاب الله عز و جل وأنا بين أظهركم ؟ حتى قام رجل فقال يا رسول الله : ألا أقتله ] و [ في حديث ابن عمر قال : قلت يا رسول الله أرأيت لو طلقها ثلاثا ؟ قال : إذن عصيت ربك وبانت منك امرأتك ] وروى الدارقطني بإسناده [ عن علي قال : سمع النبي صلى الله عليه و سلم رجلا طلق البتة فغضب وقال : تتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا أو لعبا ؟ من طلق البتة الزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ] ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة فحرم كالظهار بل هذا أولى لأن الظهار يرتفع تحريمه بالتكفير وهذا لاسبيل للزوج إلى رفعه بحال ولأنه ضرر بنفسه وبامرأته من غير حاجة فيدخل في عموم النهي وربما كان وسيلة إلى عوده إليها حراما أو بحيلة لاتزيل التحريم ووقوع الندم وخسارة الدنيا والآخرة فكان أولى بالتحريم من الطلاق في الحيض الذي ضرره بقاؤها في العدة أياما يسيرة أوالطلاق في طهر مسها فيه الذي ضرره احتمال الندم بظهور الحمل فإن الحمل فأن ضرر جميع الثلاث يتضاعف على ذلك أضعافا كثيرة فالتحريم ثم تنبيه على التحريم ههنا ولأنه قول من سميا من الصحابة رواه الأثرم وغيره ولم يصح عندنا في عصرهم خلاف قولهم فيكون ذلك إجماعا
وأما حديث المتلاعنين فغير لازم لأن الفرقة لم تقع بالطلاق فإنها وقعت بمجرد لعانهما وعند الشافعي بمجرد لعان الزوج فلا حجة فيه ثم إن اللعان يوجب تحريما مؤبدا فالطلاق بعده كالطلاق بعد انفساخ النكاح بالرضاع أو غيره ولأن جمع الثلاث إنما حرم لما يعقبه من لاندم ويحصل به من الضرر ويفوت عليه من حل نكاحها ولا يحصل ذلك بالطلاق بعد اللعان وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي النبي صلى الله عليه و سلم فيكون مقرا عليه ولا حضر المطلق عند النبي صلى الله عليه و سلم حين أخبر بذلك ليننكر عليه على أن حديث فاطمة قد جاء فيه أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات متفق عليه فلم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث ولا خلاف بين الجميع في أن الاختيار والأولى أن يطلق واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها إلا ما حكينا من قول السلف وأمنا من الندم فإنه متى ندم راجعها فإن فاته ذلك بانقضا عدتها فله نكاحها قال محمد بن سرين ان عليا كرم الله وجهه قال : لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا فمتى شاء راجعها رواه النجاد بإسناده وعن عبد الله قال من أراد أن يطلق الطلاق الذي هو الطلاق فليهمل حتى إذا حاضت ثم طهرت طلقها تطليقة في غير جماع ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ولا يطلقها ثلاثا وهي حامل فيجمع اله عليه بفقتها وأجر رضاعها ويندمه الله فلا يستطيع إليها سبيلا
فصل : وإن طلق ثلاثا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره ولا فرق بين قبل الدخول وبعده روي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن مسعود وانس وهو قول أكثر أهل العلم من التابعين والأئمة بعدهم وكان عطاء و طاوس و سعيد بن جبير و أبو الشعثاء و عمرو بن دينار يقولون من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة وروى طاوس عن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة رواه أبو داود وروى سعيد بن جبير وعمرو بن دينار ومجاهد ومالك بن الحارث عن ابن عباس خلاف رواية طاوس أخرجه أيضا أبو داود وافتى ابن عباس بخلاف ما رواه عنه طاوس وقد ذكرنا حديث ابن عنر أرأيت لو طلقتها ثلاثا وروى الدارقطني بإسناده عن عبادة بن الصامت قال : [ طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا يا رسول الله إن أبانا طلق أمنا ألفا فهل له مخرج ؟ فقال : ان أباكم لم يتق الله فيجعل له من أمره مخرجا بانت منه بثلاث على غير السنه و تسعمائة وسبعة وتسعون اثم في عنقه ] ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا فصح مجتمعا كسائر الأملاك فأما حديث ابن عباس فقد صحت الرواية عنه بخلاف وأفتى أيضا بخلاف قال الأثرم سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس بأي شيء تدفعه فقال : أدفعه بروايه الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه ثم ذكر عن عدة عن لبن عباس من وجوه انها ثلاث وقيل معنى حديث ابن عباس أن الناس كانوا يطلقون واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر وإلا فلا يجوز أن يخالف عمر ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأبي بكر ولا يسوغ لابن عباس أن يروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ويفتي بخلافه
فصل : وإن طلق اثنتين في طهر ثم تركها حتى انقضت عدتها فهو للسنة لأنه لم يحرمها على نفسه ولم يسد على نفسه المخرج من الندم ولكنه ترك الاختيار لأنه فوت نفسه طلقة جعلها الله من غير فائدة تحصيل بها فكان مكروها كتضييع المال
مسألة : قال : وإذا قال لها أنت طالق للسنة وكانت حاملا أو طاهرا لم يجامعها فيه فقد وقع الطلاق وإن كانت حائضا لزمها الطلاق إذا طهرت وإن كانت طاهرة مجامعة فيه فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة لزمها الطلاق
وجملة ذلك أنه إذا قال لامرأته : أنت طالق للسنة فمعناه في وقت السنة فإن كانت طاهرا غير مجامعة فيه فهو وقت السنة على ما أسلفناه وكذلك إن كانت حاملا قال ابن عبد البر : لا خلاف بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة وقال أحمد : اذهب إلى حديث سالم عن أبيه ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا وأخرجه مسلم وغيره فأمره بالطلاق في الطهر أو في الحمل فطلاق السنة ما وافق الأمر ولأن مطلق الحامل التي إستبان حملها قد دخل على بصيرة فلا يخاف ظهور أمر يتجدد به الندم وليست مرتابة لعدم اشتباه الأمر عليها فإذا قال لها : أنت طالق للسنة في هاتين الحالتين طلقت لأنه وصف الطلقة بصفتها فوقعت في الحال وإن قال ذلك لحائض لم تقع في الحال لأن طلاقها طلاق بدعة لكن إذا طهرت طلقت لأن الصفة وجدت حينئذ فصار كأنه قال : أنت طالق في النهار فإن كانت في النهار طلقت وإن كانت في الليل طلقت إذا جاء النهار وإن كانت في طهر جامعها فيه لم يقع حتى تحيض ثم تطهر لأن الطهر الذي جامعها فيه والحيض بعده زمان بدعة فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة طلقت حينئذ لأن الصفة وجدت وهذا كله مذهب الشافعي و أبي حنيفة ولا أعلم فيه مخالفا فإن أولج في آخر الحيض واتصل بأول الطهر أو أولج مع أول الطهر لم يقع الطلاق في ذلك الطهر لكن متى جاء طهر لم يجامعها فيه طلقت في أوله وهذا كله مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا
فصل : إذا انقطع الدم من الحيض فقد دخل زمان السنة ويقع عليها السنة وإن لم تغتسل كذلك قال أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي وبه وقال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن طهرت لأكثر الحيض مثل ذلك وإن انقطع الدم لدون أكثره لم يقع حتى تغتسل أوتتيمم عند عدم الماء وتصلي أو يخرج عنها وقت صلاة لأنه متى لم يوجد فما حكمنا بانقطاع حيضها ولنا أنها طاههر فوقع بها طلاق السنة كالتي طهرت لأكثر الحيض والدليل على أنها طاهر أنها تؤيمر بالغسل ويلزمها ذلك ويصح منها وتؤمر بالصلاة وتصح صلاتها ولأن في حديث ابن عمر فإذا طهرت طلقها إن شاء وما قاله غير صحيح فإننا لو لم نحكم بالطهر لما أمرناها بالغسل ولا صح منها
مسألة : قال : ولو قال لها أنت طالق للبدعة وهي في طهر لم يصبها فيه لم تطلق حتى يصيبها أتحيض
هذه المسألة عكس تلك فإنه وصف الطلقة بأها للبدعة فإن قال ذلك لحائض أو طاهر مجامعة فيه وقع الطلاق في الحال لأنه وصف الطلقة بصفتها وإن كانت في طهر لم يصبها فيه فإذا حاضت طلقت بأول جزء من الحيض وإن أصابها طلقت بالتقاء الختانين فإن نزع من غير توقف فلا شيء عليها إن شاء الله تعالى فيما بعد
فصل : فإن قال لطاهر : أنت طالق للبدعة في الحال فقد قيل إن الصفة تلغو ويقع الطلاق لأنه وصفها بما تتصف به فلغت الصفة دون الطلاق ويحتمل أن تطلق في الحال ثلاثا لأن ذلك طلاق بدعة فانصرف الوصف بالبدعة إليه لتعذر صفة البدعة من الجة الأخرى وإن قال لحائض : أنت طالق للسنة في الحلا لغت الصفة و وقع الطلاق لأنه وصف الطلقة بما لاتتصف به وإن قال : أنت طالق ثلاثا للسنة وثلاثا للبدعة طلقت ثلاثا في الحال بناء على ما سنذكره
فصل : وإن قال : أنت طالق ثلاثا للسنة فالمنصوص عن أحمد أنها تطلق ثلاثا إن كانت طاهرا غير مجامعة فيه وإن كانت حائضا طلقت ثلاثا إذا طهرت وهذا مذهب الشافعي قال القاضي وأبو الخطاب هذا على الرواية التي قا لفيها : إن جمع الثلاث يكون سنة فأما على الرواية الأخرى فإذا طهرت طلقت واحدة وتطلق الثانية والثالثة في نكاحين آخرين أو بعد رجعتين وقد أنكر أحمد هذا ففال في رواية مهنا إذا قال لامراته : أنت طالق ثلاثا للسنة قد اختلفوا فيه فمنهم من يقول يقع عليها الساعة واحدة فلو راجعها تقع عليها تطليقة أخرة وتكون عنده على أخرى وما يعجبني قولهم هذا فيحتمل أن أحمد أوقع الثلاث لأن ذلك عنده سنة ويحتمل أنه أوقعها لوصفه الثلاث بما لا تتصف به فألغى الصفة وأوقع الطلاق كما لو قال لحائض : أنت طالق في الحال للسنة وقد قال في رواية أبي الحارث ما يدل على هذا قال : يقع عليها الثلاث ولا معنى لقوله للسنة وقال أبو حنيفة : يقع في كل قرء طلقة وإن كانت من ذوات الأشهر وقع في كل شهر وبناه على أصله في أن السنة تفريق الثلاث على الاطهار وقد بينا أن ذلك في حكم جمع الثلاث فإن قال : أردت بقولي للسنة إيقاع واحدة في الحال واثنين في نكاحين آخرين قبل منه وإن قال : أردت أن يقع في كل قرء طلقة قبل أيضا لأنه مذهب طائفة من أهل العلم وقد ورد به الأثر فلا يبعد أن يريده وقال أصحابنا : يدين وهل يقبل في الحكم ؟ على وجهين أحدهما : يقبل لما قدمنا فإن كانت في زمن البدعة فقال : سبف لساني إلى قول السنة ولم أرده وإنما أردت الإيقاع في الحال وقع في الحال لأنه مالك لإيقاعها فإذا اعترف بما يوقعها قبل منه
فصل : إذا قال : أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة طلقت في الحال طلقتين وتأخرت الثالثة إلى الأخرى لأنه سوى بين الحالين فاقتضى الظاهر أن يكونا سواء فيقع في الحال طلقة ونصف ثم يكمل النصف لكون الطلاق لا يتبعض فيقع طلقتان ويحتمل أن تقع طلقة وتتأخر اثنتان إلى الحال اأ لأخرى لأن البعض يقع على ما دون الكل ويتناول القليل من ذلك والكثير فيقع أقل ما يقع عليه الاسم لأنه اليقين وما زاد لا يقع بالشك فيتأخر إلى الحال الأخرى فإن قيل فلم لايقع من كل طلقة بعضها ثم تكمل فيقع الثلاث ؟ قلنا متى أمكنت القسمة من غير تكسير وجب القسمة على الصحة وإن قال : نصفهن للسنة ونصفهن للبدعة وقع في الحال طلقتان وتأخرت الثالثة وإن قال : طلقتان للسنة وواحدة للبدعة أو طلقتان للبدعة وواحدة للسنة فهو على ما قال وإن أطلق ثم قال : نويت ذلك فإن فسر نيته بما يوقع في الحال طلقتين قبل لأنه مقتضى الإطلاق ولأنه غير ماهم فيه وإن فسرها بما يوقع طلقة واحدة ويؤخر اثنتين دين فيما بينه وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم ؟ فيه وجهان أظهرهما : أنه يقلبل لأن البعض حقيقة في القليل والكثير فما فسر كلامه به لا يخالف الحقيقة فيجب أن يقبل والثاني : لايقبللأنه فسر كلامه بأخف مما يلزمه حالة الإطلاق ومذهب الشافعي على نحو هذا فإن قال : أنت طالق ثلاثا بعضها للسنة ولم يذكر شيئا آخر احتمل أن تكون كالتي قيلها لأنه يلزم من ذلك أن يكون بعضها للبدعة فأشبه ما لو صرح به ويحتمل أنه لا يقع في الحال إلا واحدة لأنه لم يسوبين الحالين والبعض لا يقتضي النصف فتقع الواحدة لأنها اليقين والزائد بالشك وكذلك لو قال : بعضها للسنة وباقيها للبدعة أو سائرها للبدعة
فصل : إذا قال : أنت طالق إذا قدم زيد فقدم وهي حائض طلقت للبدعة ولم يأثم لأنه لم يقصده وإن قال : أنت طالق إذا قدم زيد للسنة فقدم في زمان البدعة لم يقع حتى إذا صارت إلى زمان السنة وقع ويصير كأنه قال : حين قدم زيد أنت طالق للسنة لأنه أوقع الطلاق بقدوم زيد على صفة فلا يقع إلا عليها وإن قال لها : أنت طالق للسنة إذا قدم زيد قبل أن يدخل بها طلقت عند قدومه حائضا كانت أو طاهرا لأنها لا سنة لطلاقها ولا بدعة وإن قدم بعد دخوله بها وهي في طهر لم يصبها فيه طلقت وإن قدم في زمن البدعة لم تطلق حتى يجيء زمن السنة لأنها صارت ممن لطلاقها سنة وبدعة وإن قال لامرأته : أنت طالق إذا جاء رأس الشهر للسنة فكان رأس الشهر في زمان السنة وقع وإلا وقع إذا جاء زمان السنة (8/241)
مسألة وفصول : ولو قال لها وهي حائض ولم يدخل بها أنت طالق للسنة وفروع
مسألة : قال : ولو قال لها وهي حائض ولم يدخل بها أنت طالق للسنة طلقت من وقتها لأنه لا سنة فيه ولا بدعة
قال ابن عبد البر أجمع العلماء أن طلاق السنة إنما هو للمدخول بها أما غير المدخول بها فلس لطلاقها سنة ولا بدعة إلا في عدد الطلاق على اختلاف بينهم فيه وذلك لأن الطلاق في حق المدخول بها إذا كانت من ذوات الإقراء إنما كان له سنة وبدعة لأن العدة تطول عليها بالطلاق في الحيض وترتاب بالطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وينتفي عنها الأمران بالطلاق في الطهر الذي لم يجعلها فيه أما غير المدخول بها فلا عدة عليها ينفي تطويلها أو الارتياب فيها وكذلك ذوات الأشهر كالصغير التي لم تحض الآيات من الحيض لا سنة لطلاقهن ولا بدعة لأن العدة لا تطول بطلاقها في الحال ولا تحمل فترتاب وكذلك الحامل التي استبان حملها فهؤلاء كلهن ليس لطلاقهن سنة ولا بدعة من جهة الوقت في قول أصحابنا وهو مذهب الشافعي وكثير من أهل العلم فإذا قال لإحدى هؤلاء أنت طالق للسنة أو للبدعة وقعت الطلقة في الحال ولغت الصفة لأن طلاقها لا يتصف بذلك فصار كأنه قال أنت طالق ولم يزد وكذلك إن قال أنت طالق للسنة والبدعة أو قال أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة طلقت في الحال لأنه وصف الطلقة بصفتها ويحتمل كلام الخرقي أن يكون للحامل طلاق سنة لأنه طلاق أمر به بقوله عليه السلام [ ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا ] وهو أيضا كلام أحمد فإنه قال أذهب إلى حديث سالم عن أبيه يعني هذا الحديث ولأنها في حال انتقلت إليها بعد زمن البدعة ويمكن أن تنتقل عنها إلى زمان البدعة فكان طلاقها طلاق سنة كالطاهر من الحيض من غير مجامعة ويتفرع من هذاغ أنه لو قال لها أنت طالق للبدعة لم بطلق في الحال فإذا وضعت الحمل طلقت لأن النفاس زمان بدعة كالحيض
فصل : وإن قال الصغير أو غير مدخول بها أنت طالق للبدعة ثم قال أردت إذا حاضت الصغيرة أو أصيبت غير المدخول بها أو قال لهما أنتما طالقتان للسنة وقال أردت طلاقهما في زمن يصير طلاقهما فيه للسنة دين فيما بينه وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم ؟ فيه وجهان ذكرهما القاضي أحدهما : لا يقبل وهو مذهب الشافعي لأنه خلاف الظاهر فأشبه ما لو قال أنت طالق ثم أردت إذا دخلت الدار والثاني : يقبل وهو الأشبه بمذهب أحمد لأنه فسر كلامه بما يحتمله فقبل كما لو قال : أنت طالق أنت طالق وقال : أردت بالثانية إفهامها
فصل : وإذا قال لها في طهر جامعها فيه أنت طالق للسنة فيئست من الحيض لم تطلق لأنه وصف طلاقها بأنه للسنة في زمن يصلح له فإذا صارت آيسة فليس لطلاقها سنة فلم توجد الصفة فلا يقع وكذلك إن استبان حملها لم يقع أيضا إلا على قول من جعل طلاق الحامل سنة فإنه ينبغي أن يقع لوجود الصفة كما لو حاضت ثم طهرت
فصل : إذا قال : أنت طالق في كل قرء طلقة وهي من ذوات القرء وقع في كل قرء طلقة فإن كانت في القرء وقعت بها واحدة في الحال و وقع بها طلقتان في قرأين آخرين في أولهما سواء قلنا القرء الحيض أوالإطهار وسواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها تبين بالطلقة الأولى فإن تزوجها وقع بها في القرء الثاني طلقة أخرى وكذلك الحكم في الثالثة وإن كانت صغيرة وقلنا القرء الحيض لم بطلق حتى تحيض فتطلق في كل حيضة طلقة وإن قلنا القرء الإطهار احتمل ان تطلق في الحال واحدة ثم لا تطلق حتى تحيض ثم تطهر فتطلق الثانية ثم الثالثة في الطهر بين الحيضتين وكذلك لو حاضت الصغيرة لأن زمن الحمل كله قرء واحد في أحد الوجهين إذا قلنا الإقراء الإطهار والوجه الآخر ليس بقرء على كل حال وإن كانت آيسة فقال القاضي تطلق واحدة على كل حال لأنه علق طلاقها بصفة تستحيل فيها فلفت ووقع بها الطلاق كما لو قا للها أنت طالق للبدعة وإذا طلقت الحامل في حال حماها بانت بوضعه لأن عدتها تنقضي به فلم يلحقها طلاق آخر فإن استأنف نكاحها أو رجعها قبل وضع حملها ثم طهرت من النفاس طلقت أخرى ثم إذا حاضت ثم طهرت وقعت الثالثة
فصل : فإن قال : أنت طالق للسنة إن كان الطلاق يقع عليك للسنة وهي في زمن السنة طلقت بوجود الصفة وإن لم تكن في زمن السنة انحلت الصفة ولم يقع بحال لأن الشرط ما وجد وكذلك إن قال : أنت طالق للبدعة إن كان الطلاق يقع عليك للبدعة إن كانت في زمن البدعة وقع وإلا لم يقع بحال فإن كانت ممن لا سنة لطلاقها ولا بدعة فذكر القاضي فيها احتمالين
أحدهما : لا يقع في المسألتين لأن الصفة ما وجدت فأشبه ما لو قال أنت طالق إن كنت هاشمية ولم تكن هاشمية
الثاني : تطلق لأنه شرط لوقوع الطلقة شرطا مستحيلا فلغي ووقع الطلاق كما قال أنت طالق للسنة والأولى أشبه وللشافعية وجهان كهذين
فصل : فإن قال : أنت طالق أحسن الطلاق أو أجمله أو أعدله أو أكمله أو أتمه أو أفضله أو قال : طلقة حسنة أو جملة أو عدلة أو سنية كان ذلك كله عبارة عن طلاق السنة وبه قال الشافعي وقال محمد بن الحسن إذا أعدل الطلاق أو أحسنه ونحوه كقولنا وإن قال طلقة سنية أو عدلة وقع الطلاق في الحال لأن الطلاق لا يتصف بالوقت والسنة واللبدعة وقت فإذا وصفها بما لا تتصف به سقطت الصفة كما لو قال للغر المدخول بها أنت طالق طلقة رجعية أو قال لها أنت طالق للسنة أو البدعة
ولنا أن ذلك عبارة عن طلاق السنة ويصح وصف الطلاق بالسنة والحسن لكونه في ذلك الوقت موافقا للسنة مطابقا للشرع فهو كقوله أحسن الطلاق وفارق قوله طلقه رجعية لأن الرجعة لا تكون إلا في عدة ولا عدة لها فلا يحصل ذلك بقوله فإن قال نويت بقولي أعدك الطلاق وقوعه في الحيض لأنه أشبه بأخلاقها القبيحة ولم أرد الوقت وكانت في الحيض وقع الطلاق لأنه إقرار على نفسه بما فيه تغليظ وإن كانت في حال السنة دين فيما وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم ؟ على وجهين كما تقدم
فصل : فإن عكس فقال : أنت طالق أقبح الطلاق وأسمحه أو أفحشه أو أنتنه أو أرأده حمل على طلاق البدعة فإن كانت في وقت البدعة وإلا وقف على مجيء زمان البدعة وحكي عن أبي بكر أنه يقع ثلاثا إن قلنا ان جمع الثلاث بدعة وينبغي أن تقع الثلاث في وقت البدعة ليكون جامعا لبدعتي الطلاق فيكون أقبح الطلاق وإن نوى بذلك غير طلاق البدعة نحو أن يقول إنما أردت أن طلاقك أقبح الطلاق لأنك لا تستحقينه لحسن عشرتك وجميل طريقتك وقع في الحال وإن قال أنت طالق طلقة حسنة قبيحة فاحشة جميلة تامة ناقصة وقع في الحال لأنه وصفها بصفتين متضادتين فلغيا وبقي مجرد الطلاق فإن قال أردت أنها حسنة لكونها في زمان السنة وقبيحة لاضرارها بك أو قال أردت أنها حسنه لتخليصي من شرك وسوء خلقك وقبيحة لكونها في زمان البدعة وكان ذلك يؤخر وقوع الطلاق عنه وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على وجهين
فصل : فإن قال أنت طالق طلاق الحرج فقال القاضي : معناه طلاق البدعة لأن الحرج الضيق والاثم فكأنه قال طلاق الاثم وطلاق البدعة طلاق اثم وحكى ابن المنذر عن علي رضي الله عنه أنه يقع ثلاثا لأن الحرج الضيق والذي يضيق عليه ويمنعه الرجوع إليه هو الثلاث وهو مع ذلك طلاق بدعة وفية إثم فيجتمع عليه الأمران الضيق والاثم وإن قال : طلاق الحرج والسنة كان كقوله طلاق (8/250)
مسألة وفصل : طلاق الزائل العقل بلا سكر والمغمى عليه
مسألة : قال : وطلاق الزائل العقل بلا سكر لا يقع
أجمع أهل العلم على أن الزائل العقل بغير سكر أو معناه لا يقع طلاقه كذلك قال عثمان وعلي و سعيد بن المسيب والحسن و النخعي و الشعبي و أبو قلابة و قتادة و الزهري و يحيى الأنصار و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وأجمعوا على أن الرجل إذا طلق في حال نومه لا طلاه له وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق ]
[ وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله ] رواه النجاد وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث عطاء بن عجلان وهو ذاهب الحديث وروى بإسناده عن علي مثل ذلك ولأنه قول يزيل الملك فاعتبر له العقل كالبيع وسواء زال عقله لجنون أو إغماء أو شرب دواء أو إكراه على شرب الخمر أو شرب ما يزيل عقله شربه ولا يعلم أنه مزيل للعقل عالما به متلاعبا فحكمه حكم السكران في طلاقه وبهذا قال أصحاب الشافعي وقال أصحاب أبي حنيفة لا يقع طلاقه لأنه لا يلتذ بشربها ولنا أنه زال عقله بمعصية فأشبه السكران
فصل : قال أحمد في الغمى عليه إذا طلق فلما أفاق علم أنه مغمى عليه وهو ذاكر لذلك فقال إذا كان ذاكرا لذلك فليس هو مغمى عليه يجوز طلاقه وقال في رواية أبي طالب في المجنون يطلق فقيل له بعد ما أفاق انك طلقت امرأتك فقال أنا أذكر أني طلقت ولم يكن عقلي معي فقال إذا كان يذكر أنه طلق فقد طلقت فلم يجعله مجنونا إذا كان يذكر الطلاق ويعلم به وهذا والله اعلم فيمن جنونه بذهاب معرفته غير ذاهبة بالكلية فلا يضره ذكره للطلاق إن شاء الله تعالى (8/255)
مسألة وفصلان : طلاق السكران
مسألة : قال وعن أبي عبد الله رحمه الله في السكران روايات : رواية يقع الطلاق ورواية لا يقع ورواية يتوقف عن الجواب ويقول : قد اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
أما التوقف عن الجواب فليس بقول في المسألة إنما هو ترك للقول فيها وتوقف عنها لتعارض الأدلة فيها وإشكال دليلها ويبقى في المسألة روايتان
إحداهما : يقع طلاقه اختارها أبو بكر الخلال والقاضي وهو مذهب سعيد بن المسيب و عطاء و مجاهد و الحسن و ابن سيرين و الشعيبي و النخعي و ميمون بن مهران و الحكم و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي في أحد قوليه و ابن شبرمة و أبي حنيفة وصاحبيه و سليمان بن حرب لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ] ومثل هذا عن علي ومعاوية وابن عباس قال ابن عباس طلاق السكران جائز إن ركب معصية من معاصي الله نفعه ذلك ولأن الصحابة جعلوه كالصاحي في الحد بالقذف بدليل ما روى أبو وبرة الكلبي قال أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير فقلت : إن خالدا يقول ان الناس انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فقال عمر : هؤلاء عندك فسلهم فقال علي : نراه إذا سكر هذى وإذا افترى وعلى المفتري ثمانون فقال عمر : أبلغ صاحبك ما قال فجعلوه كالصاحي ولأنه ايقاع للطلاق من مكلف غير مكره صادف فوجب أن يقع كطلاق الصاحي ويدل على تكليفه أنه يقتل ويقطع بالسرقة وبهذا فارق المجنون
والرواية الثانية : لا يقع طلاقه اختارها أبو بكر عبد العزيز وهو قول عثمان رضي الله عنه ومذهب عمر ابن عبد العزيز و القاسم و طاوس و ربيعة و يحيى الأنصاري و الليث و العنبري و إسحاق و أبي ثور و المزني قال ابن المنذر : هذا ثابت عن عثمان ولا نعلم أحد من الصحابة خالفه وقال أحمد حديث عثمان أرفع شيء فيه وهو أصح يعني من حديث علي وحديث الأغعمش منصور لا يرفعه إلى علي ولأنه زائل العقل أشبه المجنون والنائم ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره ولأن العقل شرط للتكليف إذ هو عباره عن الخطاب بأمر أو أنهى ولا يتوجه ذلك إلى من لا يفهمه ولا فرق بين زوال الشرط بمعصية أو غيرها بدليل أ من كسر ساقيه جاز له أن يصلي قاعدا ولو ضربت المرأة بطنها فنسفت سقطت عنها الصلاة ولو ضرب رأسه فجن سقط التكليف وحديث أبي هريرة لا يثبت وأما قلته وسرقته فهو كمسألتنا
فصل : والحكم في عتقه ونذره وبيعه وشرائه وردته وإقراره وقتله وقذفه وسرقته كالحكم في طلاقه لأن المعنى في الجميع واحد وقد روي عن أحمد في بيعه وشرائه الروايات الثلاث وسأله ابن منصور إذا طلق السكران أو سرق أو زنى أو افترى أو باع فقال عنه لايصح من أمر السكران شيء وقال أبو عبد الله بن حامد حكم السكران حكم الصاحي فيما له عليه فأما فيما له وعليه كالبيع والنكاح والمعاوضات فهو كالمجنون لا يصح له شيء وقد أومأ إليه أحمد والأولى أن ماله أيضا لا يصح منه لأن تصحيح تصرفاته فيما عليه مؤاخذة له وليس من المؤاخذة تصحيح تصرف له
فصل : وحد السكر الذي يقع الخلاف في صاحبه هو الذي يجعله يخلط في كلانه ولا يعرف رداءه من رداء غيره ونعله من نعل غيره ونحو ذلك لأن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } فجعل علامة زوال السكر علمه ما يقول وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : استفرئوه القرآن أو ألقوا رداءه في الأردية فإن قرأ أم القرآن أو عرف رداءه وإلا فأقم عليه الحد ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من ولا الذكر من الأنثى لأن ذلك لا يخفى على المجنون فعليه أولى (8/256)
مسألة وفصول : طلاق الصبي وجواز توكيله وطلاق السفيه
مسألة : قال : وإذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه
وأما الصبي الذي لا يعقل فلا خلاف في أنه لا طلاق له وأما الذي يعقل الطلاق ويعلم أن زوجته تبين به وتحرم عليه فأكثر الروايات عن أحمد أن طلاقه يقع اختارها أبو بكر و الخرقي و ابن حامد وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و الشعبي و إسحاق وروى أبو طالب عن أحمد لا يجوز طلاقه حتى يحتلم وهو قول النخعي والزهري ومالك وحماد والثوري وأبي عبيد أنه قول أهل العراق وأهل الحجاز وروي نحو ذلك عن ابن عباس لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ] ولأنه غير مكلف فلم يقع طلاقه كالمجنون ووجه الأولى قوله عليه السلام : [ الطلاق لمن أخذ بالساق ] وقوله [ كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله ] وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : اكتموا الصبيان النكاح فيفهم منه فائدته أن لا يطلقوا ولأنه طلاق من عاقل صادف فوقع كطلاق البالغ
فصل : وأكثر الروايات عن أحمد تحديد من يقع طلاقه من الصبيان بكونه يعقل وهو اختيار القاضي وروى عن أحمد أبو الحارث إذا عقل الطلاق جاز طلاقه ما بين عشر إلى اثنتي عشرة وهذا يدل على أنه لا يقع لدون العشر وهو اختيار أبي بكر لأن العشر حد للضرب على الصلاة والصيام وصحة الوصية فكذلك هذا وعن سعيد بن المسيب إذا أحصى الصلاة وصام رمضان جاز طلاقه وقال عطاء إذا بلغ أن يصيب النساء وعن الحسن إذا عقل وحفظ الصلاة وصام رمضان وقال إسحاق إذا جاوز اثنتي عشرة
فصل : ومن أجاز طلاق الصبي اقتضى مذهبه أن يجوز توكيله فيه وتوكله لغيره وقد أومأ إليه أحمد فقال في رجل قال لصبي طلق امرأتي فقال : قد طلقتك ثلاثا لا يجوز عليها حتى يعقل الطلاق فقيل له فإن كانت له زوجة صبية فقالت صير أمري إلي فقال لها أمرك بيدك فقالت قد اخترت نفسي فقال أحمد ليس بشيء حتى يكون مثلها يعقل الطلاق وقال أبو بكر لا يصح أ يوكل حتى يبلغ وحكاه أحمد
ولنا أن من صح تصرفه في شيء مما تجوز الوكالة فيه بنفسه صح توكيله ووكالته فيه كالبالغ وما روي عن أحمد من منع ذلك فهو على الرواية التي لا تجيز طلاقه إن شاء الله تعالى
فصل : فأما السفيه فيقع طلاقه في قول أكثر أهل العلم منهم القاسم بن محمد و مالك و الشافعي و أبو حنيفة وأصحابه ومنع منه عطاء والأولى صحته لأنه مكلف مالك لمحل الطلاق فوقع طلاقه كالرشيد والحجر عليه في ماله لا يمنع تصرفه في غير ما هو محجور عليه فيه كالفلس (8/258)
مسألتان وفصول : الإكراه على الطلاق وشروطه وبيان ما يحصل به الإكراه
مسألة : قال : ومن أكره على الطلاق لم يلزمه
لا تختلف الرواية عن أحمد أن طلاق المكره لا يقع وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر بن سمرة وبه قال عبد الله بن عبيد بن عمير و عكرمة و الحسن و جابر بن زيد و شريح و عطاء و طاوس و عمر بن عبد العزيز و ابن عون و أيوب السختياني و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أبو عبيد وأجازه أبو قلابة و الشعبي و النخعي و الزهري و الثوري و أبو حنيفة وصاحباه لأنه طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] رواه ابن ماجة وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ لا طلاق في إغلاق ] رواه أبو داود و الأثرم قال أبو عبيد والقتيبي معناه في إكراه وقال أبو بكر سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا يريد الإكراه لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه ويدخل في هذا المعنى المبرسم والمجنون ولا نه قول من سمينا من الصحابة ولا مخالف لهم في عصره فيكون إجماعا ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أكره عليها
فصل : وإن كان الإكراه بحق نحو إكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص إذا لم يفيء وإكراهه الرجلين اللذين زوجهما وليان ولا يعلم السابق منهما على الطلاق وقع الطلاق لأنه قول حمل عليه بحق فصح كإسلام المرتد إذا أكره عليه ولأنه إنما جاز إكراهه على الطلاق ليقع طلاقه فلو لم يقع لم يحصل المقصود
مسألة : قال : ولا يكون مكرها حتى ينال بشيء من العذاب مثل الضرب أو الخنق أو عصر الساق وما أشبهه ولا يكون التواعد كرها
أما إذا نيل بشيء من العذاب والخنق والعصر والحبس والغط في الماء مع الوعيد فإنه يكون إكراها بلا أشكال لما [ روي أن المشركين أخذوا عمارا فأرادوه على الشرك فأعطاهم فانتهى إليه النبي صلى الله عليه و سلم وهو يبكي فجعل يمسح الدموع عن عينيه ويقول أخذك المشركون فغطوك في الماء وأمروك أن تشرك بالله ففعلت فإن أخذوك مرة أخرى فافعل ذلك بهم ] رواه أبو حفص بإسناده وقال عمر رضي الله عنه : ليس الرجل أمينا على نفسه إذا أجعته أو ضربته أو ثقته وهذا يقتضي وجود فعل يكون به إكراها فأما الوعيد بمفرده فعن أحمد فيه روايتان إحداهما : ليس بإكراه لأن الذي ورد الشرع بالرخصة معه هو ما ورد في حديث عمار وفيه [ إنهم أخذوك فغطوك في الماء ] فلا يثبت الحكم إلا فيما كان مثله
والرواية الثانية : أن الوعيد بمفرده إكراه قال في رواية ابن منصور : حد الإكراه إذا خاف القتل أو ضربا شديدا وهذا قول أكثر الفقهاء وبه يقول أبو حنيفة و الشافعي لأن الإكراه لا يكون إلا بالوعيد فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه ولا يخشى من وقوعه وإنما أبيح له فعل المكره عليه دفعا لما يتوعد به من العقوبة فيما بعد وهو في الموضعين واحد ولأنه متى بوعده بالقتل وعلم أنه يقتله فلم يبح له الفعل أفضى إلى قتله وإلقائه بيده إلى التهلكة ولا يفيد ثبوت الرخصة بالإكراه شيئا لأنه إذا طلق في هذه الحال وقع الطلاق فيصل المكره إلى مراده ويقع الضرر بالمكره وثبوت الإكراه في حق من نيل بشيء من العذاب لا ينفي ثبوته في حق غيره وقد روي عن عمر رضي الله عنه في الذي تدلى يشتار عسلا فوقفت امرأته على الحبل وقالت : طلقني ثلاثا وإلا قطعته فذكرها الله والإسلام فقالت : لتفعلن أو لأفعلن فطلقها ثلاثا فرده إليها رواه سعيد بإسناده وهذا كان وعيدا
فصل : ومن شرط الإكراه ثلاثة أمور أحدها : أن يكون من قادر بسلطان أو تغلب كاللص ونحوه وحكي عن الشعبي إن أكرهه اللص لم يقع طلاقه وإن أكرهه السلطان وقع قال ابن عيينة : لأن اللص يقتله وعموم ما ذكرناه في دليل الإكراه يتناول الجميع والذين أكرهوا عمارا لم يكونوا لصوصا وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لعمار إن عادوا فعد ] ولأنه إكراه فمنع وقوع الطلاق كإكراه اللصوص
الثاني : أن يغلب على ظنه نزول الوعيد به إن لم يجبه إلى ما طلبه
الثالث : أن يكون مما يستضر به ضررا كالقتل والضرب والشديد والقيد والحبس الطويلين فأما الشتم والسب فليس بإكراه رواية واحدة وكذلك أخذ المال اليسير فأما الضرر اليسير فإن كان في حق من لا يبالي به فليس بإكراه وإن كان من ذوي المروءات على وجه يكون إخراقا بصاحبه وغضا له وشهرة في حقه فهو كالضرب الكثير في حق غيره وإن توعد تعذيب ولده فقد قيل ليس بإكراه لأن الضرر لاحق بغيره والأولى أن يكون إكراها لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله والوعيد بذلك إكراه فكذلك هذا
فصل : وإن أكره على طلاق امرأة فطلق غيرها وقع لأنه غير مكره عليه وإن أكره على طلقة فطلق ثلاثا وقع أيضا لأنه لم يكره على الثلاث وإن طلق من أكره على طلاقها وغيرها وقع طلاق غيرها دونها وإن خلصت نيته في الطلاق دون دفع الإكراه وقع لأنه قصده واختاره ويحتمل أن لا يقع لأن اللفظ مرفوع عنه فلا يبقى إلا مجرد النية فلا يقع بها طلاق وإن طلق ونوى بقلبه غير امرأته أو تأول في يمينه فله تأويله ويقبل قوله في نيته لأن الإكراه دليل له على تأويله وإن لم يتأول وقصدها بالطلاق لم يقع لأنه معذور وذكر أصحاب الشافعي وجها أنه يقع لأنه لا مكره له على نيته
ولنا أنه مكره عليه فلم يقع ما ذكرنا من الأدلة ولأنه قد لا يحضره التأويل في تلك الحال فتفوت الرخصة (8/260)
باب تصريح الطلاق وغيره
وجملة ذلك أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ فلو بقلبه من غير لفظ لم يقع في قول عامة أهل العلم منهم عطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ويحيى بن أبي كثير والشافعي وإسحاق وروي أيضا عن القاسم و سالم و الحسن و الشعيبي وقال الزهري إذاعزم على ذلك طلقت وقال ابن سيرين فيمن طلق في نفسه أليس قد علمه الله ؟
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل ] رواه النسائي و الترمذي وقال هذا حديث صحيح ولأنه تصرف يزيل الملك فلم يحصل بالنية كالبيع والهبة وإن نواه بقلبه وأشار بأصابعه لم يقع أيضا لما ذكرناه إذا ثبت أنه يعتبر فيه اللفظ ينقسم فيه إلى صريح وكناية فالصريح يقع به الطلاق من غير نية والكناية لا يقع بها الطلاق حتى ينويه أو يأتي بما يقوم مقام نيته (8/264)
مسألة وفصول : الألفاظ الصريحة في الطلاق وحكم من سبق لسانه بالطلاق
مسألة : قال : وإذا قال قد طلقتك أو قد فارقتك أو قد سرحتك لزمها الطلاق
هذا يقتضي أن صريح الطلاق ثلاثا ألفاظ الطلاق والفراق والسراح وما تصرف منهن وهذا مذهب الشافعي وذهب أبو عبد الله بن حامد إلى أن صريح الطلاق وحده وما تصرف منه لا غير وهو مذهب أبي حنيفة ومالك إلا أن مالكا يوقع الطلاق به بغير نية لأن الكنايات الظاهرة لا تفتقر عنده إلى النية وحجة هذا القول أن لفظ الفراق والسراح يستعملان في غير الطلاق كثيرا فلم يكونا صريحين فيه كسائر كناياته ووجه الأول أن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب بمعنى الفرقة بين الزوجين فكانا صريحين فيه كلفظ الطلاق قال الله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وقال { فأمسكوهن بمعروف } وقال سبحانه : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } وقال سبحانه : { فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا } وقول ابن حامد أصح فإن الصريح في الشي ما كان نصا فيه لا يحتمل غيره إلا احتمالا بعيدا ولفظة الفراق والسراح إن وردا في القرآن بمعنى الفرقة بين الزوجين فقد وردا لغير ذلك المعنى وفي العرف كثيرا قال الله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } فلا معنى لتخصيصه بفرقة الطلاق على أن قوله { أو فارقوهن بمعروف } لم يرد به الطلاق وإنما هو ترك ارتجاعها وكذلك قوله { أو تسريح بإحسان } ولا يصح قياسه على لفظ الطلاق فإنه مختص بذلك سابق إلى الافهام من غير قرينة ولا دلالة بخلاف الفراق والسراح فعلى كلا القولين إذا قال : طلقتك أو أنت طالق أو مطلقة وقع الطلاق من غير نية وإن قال : فارقتك أو أنت مفارقة أو سرحتك أو أنت مسرحة فمن يراه صريحا أوقع به الطلاق من غير نية ومن لم يره صريحا لم يوقعه به إلا أن ينويه فإن قال : أردت بقولي فارقتك أي بجسمي أو بقلبي أو بمذهبي أوسرحتك من يدي أو شغلي أو من حبسي أو سرحت شعرك قبل قوله وإن قال أردت بقولي أنت طالق أي من وثاقي أو قال : أردت أن أقول طلبتك فسبق لساني فقلت طلقتك ونحو ذلك دين بينه وبين الله تعالى فمتى علم يقع عليه فيما بينه وبين ربه قال أبو بكر : لا خلاف عن أبي عبد الله أنه إذا أراد أن يقول لزوجته اسقيني ماء فسبق لسانه فقال أنت طالق أو أنت حرة أنه لا طلاق فيه ونقل ابن منصور عنه أنه سئل عن رجل فجرى على لسانه غير ما في قلبه فقال : أرجوك أن يكون الأمر فيه واسعا وهل تقبل دعواه في الحكم ؟ ينظر فإن كان في حال الغضب أو سؤالها الطلاق لم يقبل في الحكم لأن لفظه ظاهر في الطلاق وقرينة حاله تدل فكانت دعواه مخالفة للظاهر من وجهين فلا تقبل وإن لم تكن في الحال فظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور وأبي الحارث أنه يقبل قوله وهو قول جابر بن زيد والشعبي والحكم حكاه عنهم أبو حفص لأنه فسر كلامه بما يحتمله احتمالا غير بعيد فقبل كما لو قال أنت طالق أنت طالق وقال : أردت بالثنية إفهامها وقال القاضي : فيه روايتان هذه التي ذكرنا قال وهي ظاهر كلام أحمد
الثانية : لا يقبل وهو مذهب الشافعي لأنه خلاف ما يقتضيه الظاهر في العرف في الحكم كما لو أقر بعشرة ثم قال ظيوفا أو صغارا أو إلى شهر فأما إن صرح بذلك في اللفظ فقال طلقتك من وثاقي أو فارقتك بجسمي أو سرحتك من يدي فلا شك في أن الطلاق يقع لأن ما يتصل بالكلام يصرفه عن مقتضاه كالاستثناء والشرط وذكر أبو بكر في قوله أنت مطلقة أنه إن نوى أنها مطلقة طلاقا ماضيا أو من زوج كان قبله لم يكن عليه شيء وإن لم ينو شيئا فعلى قولين أحدهما : يقع
والثاني : لا يقع وهذا من قوله يقتضي أن تكون هذه اللفظة غير صريحة في أحد القولين قال القاضي والمنصوص عن أحمد أنه صريح وهو لأن هذه متصرفة من لفظ الطلاق فكانت صريحة فيه كقوله أنت طالق
فصل : فأما لفظة الإطلاق فليست صريحة في الطلاق لأنها لم يثبت لها عرف الشرع ولا الا ستعمال فأشبهت سائر كناياته وذكر القاضي فيها احتمالا أنها صريحة لأنه لا فرق بين فعلت وأفعلت نحو : عظمته وأعظمته وكرمته وأكرمته وليس هذا الذي ذكره بمطرد فإنهم يقولون حييته من التحية وأحييته من الحياة وأصدقت المرأة صداقا وصدقت حديثها تصديقا ويفرقون بين أقبل وقبل وأدبر ودبر وأبصر وبصر ويفرقون بين المعاني المختلفة بحركة أو حرف فيقولون : حمل لما في البطن وبالكسر لما على الظهر والوقر بالفتح الثقل في الأذن وبالكسر لثقل الحمل وههنا فرق بين حل قيد النكاح وبين غيره بالتضعيف في أحدهما والهمزة في الآخر ولو كان معنى اللفظين واحدا لقيل : طلقت الأسيرين والفرس والطائر فهو طالق وطلقت الدابة فهي طالق ومطلقة ولم يسمع هذا في كلامهم وهذا مذهب الشافعي
فصل : فإن قال : أنت الطلاق فقال القاضي : لا تختلف الرواية عن أحمد في الطلاق يقع به نواه أو لم ينوه وبهذا قال أبو حنيفة ومالك ولأصحاب الشافعي فيه وجهان : أحدهما : أنه غير صريح لأنه مصدر والأعيان لا توصف بالمصدر إلا مجازا والثاني : ان الطلاق لفظ صريح فلم يفتقر إلى نية كالمتصرف منه وهو مستعمل في عرفهم قال الشاعر
نوهت باسمي في العالمين وأفـ نيت عمري عاما فعاما
فأنت الطلاق وأنت الطلا ق وأنت الطلاق ثلاثا تماما
وقولهم انه مجاز قلنا نعم إلا أنه يتعذر حمله على الحقيقة ولا يظهر سوى هذا المحمل فتعين فيه
فصل : وصريح الطلاق بالعجمية { بهشتم } فإذا أتى بها العجمي وقع الطلاق منه بغير نية وقال النخعي و أبو حنيفة هو كناية لا يطلق به إلا بنية لأن معناه خليتك وهذه اللفظة كناية
ولنا أن هذه اللفظة بلسانهم موضوعة للطلاق يستعملونها فيه فأشبهت لفظ الطلاق بالعربية ولو لم تكن هذه صريحة لم يكن في العجمية صريح للطلاق وهذا بعيد ولا يضر كونها بمعنى فإن معنى طلقتك خليتك أيضا إلا أنهخ لما كان موضوعا له يستعمل فيه كان صريحا كذا هذه ولا خلاف في أنه إذا نوى بها الطلاق كانت طلاقا كذلك قال الشعبي و النخعي و الحسن و مالك و الثوري و أبو حنيفة و زفر و الشافعي (8/264)
مسألة وفصول : من كنايات الطلاق قول : أنت حرة والتلفظ بكنايات الطلاق
مسألة : قال : وإذا قال لها في الغضب أنت حرة أو لطمها فقال هذا طلاقك فقد وقع الطلاق
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : في أن هذا اللفظ كناية في الطلاق إذا نواه وقع ولا يقع من غير ولا دلالة حال ولا نعلم حال ولا نعلم خلافا في أنت حرة أنه كناية فأما إذا لطمها وقال : هذا طلاقك فإن كثيرا من الفقهاء قالوا : ليس هذا كناية ولا يقع به طلاق وإن نوى لأن هذا لا يؤدي معنى الطلاق ولا هو سبب له ولا حكم فلم يصح التعبير به عنه كقوله غفر الله لك وقال ابن حامد يقع به الطلاق من غير نية لأن تقديره أوقعت عليك طلاقا هذا الضرب من أجله فعلى قوله يكون هذا صريحا وقول الخرقي محتمل لهذا أيضا ويحتمل أنه إنما يوقعه إذا كان في حال الغضب فيكون الغضب قائما مقام النية كما قام مقامها في قوله أنت حرة ويحتمل أن يكون لطمه لها قرينة تقوم مقام النية لأنه يصدر عن الغضب فجرى مجراه والصحيح أنه كناية في الطلاق لأنه محتمل بالتقدير الذي ذكره ابن حامد أن يريد أنه سبب لطلاقك لكون الطلاق معلقا عليه فصح أن يعبر به عنه وليس بصريح لأنه احتاج إلى تقدير ولو كان صريحا لم يحتج ذلك ولأنه غير موضوع له ولا مستعمل فيه شرعا ولا عرفا فأشبه سائر الكنايات وعلى قياسه ما لو اطعمها أو ساقها أو كساها وقال : هذا طلاقك أو لو فعلت المرأة فعلا من قيام أو قعود أو فعل هو فعلا وقال : هذا طلاقك فهو مثل لطمها إلا في أن اللطم يدل على الغضب القائم مقام النية فيكون هو أيضا قائما مقام في وجه وما ذكرنا أيقوم مقام النية عند من اعتبرها
الفصل الثاني : أنه إذا أتى بالكناية في حال الغضب فذكر الخرقي في هذا الموضع أنه يقع الطلاق وذكر القاضي وأبو بكر وأبو الخطاب في ذلك روايتين
إحداهما : يقع الطلاق قال في رواية الميموني إذا قال لزوجته : أنت حرة لوجه الله في الرضاء في الغضب فأخشى أن يكون طلاقا
الرواية الأخرى : ليس بطلاق وهو قول أبي حنيفة و الشافعي إلا أن أبا حنيفة يقول في اعتدي واختاري وأمرك بيدك كقولنا في الوقوع واحتجا بأن هذا ليس بصريح في الطلاق ولم ينوه به فلم يقع به الطلاق كحال الرضا ولأن مقتضى اللفظ لا يتغير بالرضا والغضب ويحتمل أن ما كان من الكنايات لا يستعمل في غير الفرقة إلا نادرا نحو قوله أنت حرة لوجه الله واعتدي واستبرئي زحبلك على غاربك وأنت بائن وأشباه ذلك أنه يقع في حال الغضب وجواب سؤال الطلاق من غير نية وما كثر استعماله لغير ذلك نحو اذهبي واخرجي وروحي وتقنعي لا يقع الطلاق به إلا بنية ومذهب أبي حنيفة قريب من هذا وكلام أحمد و الخرقي في بالوقوع إنما ورد في قوله أنت حرة وهو مما لا يستعمله الإنسان في حق زوجته غالبا إلا كناية عن الطلاق ولا ييلزم من الاكتفاء بذلك بمجرد الغضب وقوع غيره من غير نية لأن ما كثر استعماله يوجد كثيرا غير مراد به الطلاق في حال فكذلك في حال الغضب إذ لا حجر عليه في استعماله والتكلم به بخلاف ما لم تجر العادة بذكره فإنه لما قل استعماله في غير الطلاق كان مجرد ذكره يظن منه إرادة الطلاق فإذا انضم إلى ذلك مجيئه عقيب سؤال الطلاق أو في حال الغضب قوي الظن فصار ظنا غالبا ووجه الرواية الأخرى أن دلاله الحال تغير حكمك الأقوال والأفعال فإن من قال لرجل ياعفيف ابن العفيف حال تعظيمه كان مدحا له وإن قال في حال شتمه وتنقصه كان قذفا وذما ولو قال : إنه لا يغدر ولا يظلم حبة خردل وما أحد أوفى ذمتة منه في حال المدح كان مدحا بليغا كما قال حسان :
فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد
ولو قاله في حال الذم كان هجاء قبيحا كقول النجاشي :
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
وقال آخر :
كأن ربي لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الناس انسانا
وهذا في هذا الموضع هجاء قبيح وذم حتى حكي عن حسان أنه قال : ما أراه إلا قد سلح عليهم ولو لا القرينة ودلالة الحال كان من أحسن المدح وأبلغه وفي الأفعال لو أن وجلا بسيف والحال يدل على المزح واللعب لم يجز قتله ولو دلت الحال على الجد دفعه بالقتل والغضب ههنا يدل على قصد الطلاق فيقوم مقامه
فصل : وإن أتى بالكناية في حال سؤال الطلاق فالحكم في ما إذا أتى بها في حال الغضب على ما فيه من الخلاف والتفصيل والوجه لذلك ما تقدم من التوجيه إلا أن المنصوص عن أحمد ههنا أنه لا يصدق في عدم النية قال في رواية أبي الحارث إذا قال : لم أنوه صدق في ذلك إذا لم تكن سألته الطلاق فإن كان بينهما غضب قبل ذلك فيفرق بين كونه جوابا للسؤال وكونه في حال الغضب وذلك لأن الجواب ينصرف إلى السؤال فلو قال : لي عندك دينا ر قال : نعم أو صدقت كان إقرار به ولم يقبل منه تفسير بغير الإقرار ولو قال زوجتك ابنتي وبعتك ثوبي هذا فقال قبلت صح وكفى ولم يحتج إلى زيادة عليه ولو أراد بالكناية حال الفضل أو سؤال الطلاق غير الطلاق لم يقع الطلاق لأنه لو أراده بالصريح لم يقع فبالكناية أولى وإذا ادعى ذلك دين وهل يقبل في الحكم ؟ فظاهر كلام حمد في رواية أبي الحارث أنه يصدق إن كان في الغضب ولا يصدق أن كان جوابا لسؤال الطلاق ونقل عنه في موضع آخر أنه إذا قال : أنت خلية أو بريئة أو بائن ولم يكن بينهما ذكر طلاق ولا غضب صدق فمفهومه أنه لا يصدق مع وجودهما وحكي هذا عن أبي حنيفة إلا في الأربعة المذكورة والصحيح أنه يصدق لما روى سعيد بإسناده أن وجلا خطب إلى قوم فقالوا : لا نزوجك حتى تطلق امرأتك فقال : قد طلقت ثلاثا فزوجوه ثم أمسك امرأته فقالوا ألم تقل انك طلقت ثلاثا ؟ قا لألم تعلموا أني تزوجت فلانه ثم طلقتها ثم تزوجت فلانه وطلقتها ثم تزوجت فلانه وطلقتها فسئل عثمان عن ذلك فقال له نيته ولأنه أمر يعتبر فيه فقبل قوله في ما يحتمله كما لو كرر لفظا وقال : أردت التوكيد (8/268)
مسألة : الألفاظ التي يقع بها الطلاق وأحكامها والبينونة الصغرىوالكبرى
مسألة : قال أبو عبد الله : وإذا قال لها أنت خلية أو أنت برية أو أنت أو حبلك على غاربك أو الحقي بأهلك فهو عندي ثلاث ولكن أكره أن أفتي به سواء دخل بها أو لم يدخل
أكثر الروايات عن أبي عبد الله كراهية الفتيا في هذه الكنايات مع ميله إلى أنها ثلاث وحكى ابن أبي موسى في الإرشاد عنه روايتين إحداهما : انها ثلاث والثانية : يرجع إلى ما نواه اختارها أبو الخطاب وهو مذهب الشافعي قال : يرجع إلى ما نوى فإن لم ينو شيئا وقعت واحدة ونحو ه قول النخعي إلا أنه قال : يقع طلقة بائنة لأن لفظه يقتضي البينونة ولا يقتضي عددا وروى حنبل عن أحمد ما يدل على هذا فإنه قال : يزيدها في مهرها إن إراد رجعتها ولو وقع ثلاثا لم يبح له رجعتها ولو لم تبن لم يحتج إلى زيادة في مهرها
واحتج الشافعي بما روى أبو داود بإسناده [ ان ر كانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بذلك وقال : والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمن عثمان ] قال علي بن محمد الطنافسي ما أشرف هذا الحديث ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لابنة الجون : [ الحقي بأهلك ] ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليطلق ثلاثا وقد نهى عن ذلك ولأن الكنايات مع النية كالصريح فلم يقع به عند الإطلاق واحدة كقوله أنت طالق
وقال الثوري وأصحاب الرأي إن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى اثنتين أو واحد وقعت واحدة ولا يقع اثنين لأن الكناية تقتضي البينونة دون العدد والبينونة بينونتان صغرى وكبرى فالصغرى بالواحدة والكبرى بالثلاث ولو أوقعنا اثنتين كان موجبه العدد وهي لا تقتضيه
قال ربيعة و مالك : يقع بها الثلاث وإن لم ينو إلا في خلع أو قبل الدخول فإنها تطلق واحدة لأنها تقتضي البينونة والبينونة تحصل في الخلع وقبل الدخول بواحدة فلم يزد عليها لأن اللفظ لا يقتضي زيادة عليها وفي غيرها يقع الثلاث ضرورة أن البينونة لا تحصل إلا بها ووجه أنها ثلاث أنه قو ل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فروي عن علي وابن عمر وزيد بن ثابت أنها ثلاث قال أحمد في الخلية والبريئة والبتة قول علي وابن عمر قول صحيح ثلاثا
وقال علي و الحسن و الزهري في البائن أنها ثلاث وروى النجاد بإسناده عن نافع أن رجلا جاء إلى عاصم وأبن الزبير فقال : إن ظئري هذا طلق امرأته البتة قبل أن يدخل بها فهل تجدان له رخصة ؟ فقالا : لا ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة فسلهم ثم ارجع الينا فاخبرنا فسألهم فقال أبو هريرة : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وقال ابن عباس هي ثلاث وذكر عن عائشة متابعتهما
وروى النجاد بإسناده أن عمر رضي الله عنه جعل البتة واحدة ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات وهذه أقوال علماء الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان ولأنه طلق امرأته بلفظ يقتضي البينونة فوجب الحكم بطلاق تحصل به البينونة كما لو طلق ثلاثا أو نوى الثلاث واقتضاؤه للبينوننة ظاهر في قوله أنت بائن وكذا في قوله البتة لأن البت القطع فكأنه قطع النكاح كله ولذلك يعبر به عن الطلاق الثلاث كما قالت امرأة رفاعة إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وبتله هو من القطع أيضا ولذلك قيل في مريم البتول لانقطاعها عن النكاح و البراءة منه وإذا كان للفظ معنى فاعتبره الشرع إنما يعتبر فيما يقتضيه ويؤدي معناه ولا سبيل إلى البينونة بدون الثلاث فوقعت ضرورة الوفاء بما يقتضيه لفظه ولا يمكن إيقاع واحدة بائن لأنه لا يقدر على لفظ أوجبت الثلاث في المدخول بها أوجبتها في غيرها كقوله أنت طالق ثلاثا
فأما حديث ركانة فإن أحمد ضعف إسناده فلذلك تركه وأما قوله عليه السلام لابنة الجون الحقي بأهلك فيدل على أن هذه اللفظة لا تقتضي الثلاث وليست من اللفظات التي قال الصحابة فيها بالثلاث ولا هي مثلها فيقتصر الحكم عليها وقولهم إ الكناية بالنية كالصريح قلنا إلا أن الصريح ينقسم إلى ثلاث تحصل بها البينونة وإلى ما دونها مما لاتحصل به البينونة فكذلك الكناية تنقسم كذلك فمنها ما يقوم مقام الصريح المحصل للبينونة وهو هذه الظاهر ومنها ما يقوم مقام الواحدة ما عداها والله أعلم (8/272)
فصول : أقسام الكناية وألفاظها وأحكامها
فصل : وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد و الخرقي أن الطلاق يقع إلا بهذه الكنايات من غير نية كقول مالك لأنه اشتهر استعمالها فيه فلم تحتج إلى نية كالصريح ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يقع إلا بنية لقوله وإذا أتى بصريح الطلاق وقع نواه أو ينوه فمفهومه إن غير الصريح لا يقع إلا بنية ولأن هذا كناية فلم يثبت حكمه بغير كسائر الكنايات
فصل : والكناية ثلاثة أقسام ظاهرة وهي ستة ألفاظ خلية وبرية وبائن وبتة وبتلة وأمرك بيدك الحكم فيها ما بيناه في هذا الفصل وإن قال : أنت طالق لا رجعة لي عليك وهي مدخول بها فهي ثلاث قال أحمد : إذا قال لامرأته أنت طالق لا رجعة لي فيها بالواو فكذلك وقال أصحاب أبي حنيفة : تكون رجعية لأنه لم يصف الطلقة بذلك وإنما عطف عليها
ولنا أن الصفة تصح مع العطف كما لو قال بعتك بعشرة وهي مغربية صح وكان صفة للثمن قال الله تعالى { إلا استمعوه وهم يلعبون } وإن قال أنت طالق واحدة بائنا أو واحد ة بتة ففيها ثلاث روايات إحداهن : أنها واحدة رجعية ويلغو ما بعدها قال أحمد : لا أعرف شيئا متقدما إن نوى واحدة تكون بائنا وهذا مذهب الشافعي لأنه وصف الطلقة بمالا تتصف به فلغت الصفة كما لو قال أنت طالق لا تقع عليك والثانية هي ثلاث قاله أبو بكر وقال : هو قول أحمد لأنه أتى بما يقتضي الثلاث فوقع ولغا قوله كما لو قال أنت طالق واحدة ثلاثا
والثالثة : رواها حنبل عن أحمد إذا طلق امرأته واحدة البتة أمرها بيدها يزيدها في مهرها إن أراد رجعتها فهذا يدل على أنه أوقع بها واحدة بائنا لأنه جعل أمرها بيدها ولو كانت رجعية لما كان أمرها بيدها ولا احتاجت إلى زيادة في مهرها ولو وقع ثلاث لما حلت له رجعتها وقال أبو الخطاب هذه الرواية تخرج في جميع الكنايات الظاهرة فيكون ذلك مثل قول ابراهيم النخعي ووجهه أنه أوقع الطلاق بصفة البينونة فوقع على ما أوقعه ولم يزد على واحدة لأن لفظه لم يقتض عددا فلم يقع أكثر من واحدة كما لو قال : أنت طالق وحمل القاضي رواية حنبل على ذلك أن ذلك بعد انقضاء العدة
القسم الثاني : مختلف فيها وهي ضربان : منصوص عليها وهي عشرة الحقي بأهلك وحبلك على غاربك ولا سبيل لي عليك علي حرج وأنت علي حرام واذهبي فتزوجي من شئت وغطي شعرك وأنت حرة وقد أعتقتك فهذه عن أحمد فيها روايتان إحداهما : أنها ثلاث والثانية : ترجع إلى ما نواه وإن لم ينو شيئا فواحدة كسائر الكنايات الضرب الثاني : مقيس على هذه وهي استبرئي رحمك وحللت للأزواج وتقنعني ولاسلطان لي عليك فهذه في معنى المنصوص عليها فيكون حكمها حكمها والصيح في قوله بأهلك أنها واحدة ولا تكون ثلاثا إلا بنية لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لابنة الجون : ( الحقي بأهلك ) متفق عليه ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليطلق ثلاثا وقد نهى أمته عن ذلك قال الاثرم : قلت لأبي عبد الله إن النبي صلى الله عليه و سلم قال لابنة الجون : [ الحقي بأهلك ] ولم يكن طلاقا غير هذا ولم يكن النبي صلى الله عليه و سلم ليطلق ليطلق ثلاثا فيكون غير طلاق السنة فقال لا أدري وكذلك قوله اعتدى واستبرئي رحمك لا يختص الثلاث فإن ذلك يكون من الواحدة كما يكون من الثلاث وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لسودة بنة زمعة اعتدي فجعلها تطليقة وروى هشم أنبأنا الأعمش عن المنهال بن عمرو أن نعيم بن دجاجة الأسدي طلق امرأته تطليقتين ثم قال : ( هي علي حرج ) وكتب في ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال : ( أما إنها ليست بأهونهن ) واما سائر اللفظات فإن قلنا هي ظاهرة فلان معناها الظاهرة فإن قوله لا سبيل عليك ولا سلطان لي عليك إنما يكون في المبتوتة أما الرجعية فله عليها سبيل وسلطان وقوله أنت حرة أو أعتقتك يقتضي ذهاب الرق عنها وخلوصها منه والرق ههنا النكاح وقوله أنت حرام يقتضي بينونتها منه لأن الرجعية غير محرمة وكذلك حللت الأزواج لأنك بنت مني وكذلك سائرها وإن قلنا هي واحدة فلأنها محتملة فإن قوله حللت للأزواج أي بعد انقضاء عدتك إذا لا يمكن حلها قبل ذلك والواحدة تحلها وكذلك انكحي من شئت وسائر الألفاظ يتحقق معناها بعد قضاء عدتها
القسم الثالث : الخفية نحو اخرجي واذهبي وذوقي وتجرعي وأنت مخلاة واختاري ووهبتك لأهلك وسائر ما يدل على الفرقة ويؤدي معنى الطلاق سوى ما تقدم ذكره فهذه ثلاث إن نوى ثلاثا واثنتان إن نواهما وواحدة إن نواها أو أطلق قال أحمد : ما ظهر من الطلاق فهو على ما ظهر وما عني به الطلاق فهو على ما عني مثل حبلك على غربك إذا نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثا فهو على ما نوى ومثل لا سبيل لي عليك وإذا نص في هاتين على أنه يرجع إلى نيته فكذلك سائر الكنايات وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يقع اثنتان وإن نواهما وقع واحدة وقد تقدم ذكر ذلك وإن قال : أنت واحدة فهي كناية خفية لكنها لا تقع بها إلا واحدة وإن نوى ثلاثا لأنها لا تحتما غير الواحدة وإن قال أغناك الله فهي كناية خفية لأنه يحتمل أغناك الله بالطلاق لقول الله تعالى { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته }
فصل : والطلاق الواقع بالكنايات رجعي ما لم يقع الثلاث في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي وقال أبو حنيفة كلها بوائن إلا اعتدى واستبرئي رحمك وأنت واحدة لأنها تقتضي البينونة فتقع البينونة كقوله أنت طالق ثلاثا
ولنا أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير ولا استيفاء عدد فوجب أن يكون رجعيا كصريح الطلاق وما سلموه من الكنايات وقولهم أنها تقتضي البينونة قلنا فينبغي أن تبين بثلاث لأن المدخول بها لا تبين إلا بثلاث أو عوض (8/275)
فصول : حكم الألفاظ التي لا تشبه الطلاق ولا تدل على الفراق
فصل : فأما ما لا يشبه الطلاق ولا يدل على الفراق كقوله اقعدي وقومي / وكلي واشربي واقربي واطعميني وبارك الله عليك وغفر الله لك وما أحسنك وأشباه ذلك فليس بكناية ولا تطلق به وإن نوى لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق فلو وقع الطلاق به لوقع بمجرد النية وقد ذكرنا أنه لا يقع بها وبهذا قال أبو حنيفة واختلف أصحاب الشافعي في قوله كلي واشربي فقال بعضهم كقولنا وقال بعضهم : هو كناية لأنه يحتمل كلي ألم الطلاق واشربي كأس الفراق به كقولنا ذوقي وتجرعي
ولنا أن هذا اللفظ لا يستعمل بمفرده إلا فيما لا ضرر فيه كنحو قوله تعالى { كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } - وقال - { فكلوه هنيئا مريئا } فلم يكن كناية كقوله اطعميني وفارق ذوقي وتجرعي فإنه يستعمل في المكاره كقول الله تعالى { ذق إنك أنت العزيز الكريم } - { وذوقوا عذاب الحريق } - { ذوقوا مس سقر } وكذلك التجرع فال الله تعالى { يتجرعه ولا يكاد يسيغه } فلم يصح أن يلحق بهما ما ليس مثلهما
فصل : فإن قال أنا منك طالق أو جعل أمر امرأته بيدها فقالت : أنت طالق لم تطلق زوجته نص عليه في رواية الاثرم وهو قول ابن عباس و الثوري و أبي عبيد وأصحاب الرأي و ابن المنذر وروي ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وقال مالك و الشافعي تطلق إذا نوى به الطلاق وروي نحو ذلك عن عمر وابن مسعود و عطاء و النخعي و القاسم و إسحاق لأن الطلاق إزالة النكاح وهو مشترك بينهما فإذا صح في أحدهما صح في الآخر ولا خلاف في أنه لا يقع به الطلاق من غير نية
ولنا أنه محل لا يقع الطلاق بإضافته إليه من غير نية فلم يقع وإن نوى كالأجنبي ولأنه لو قال : أنا طالق ولم يقل منك لم يقع ولو كان محلا للطلاق لوقع بذلك كالمرأة ولأن الرجل كالك في النكاح والمرأة مملوكة فلم يقع إزالة الملك بإضافة الإزالة إلى المالك كالعتق ويدل على هذا أن الرجل لا يوصف بأنه مطلق بخلاف المرأة وجاء رجل إلى ابن عباس فقال ملكت امرأتي أمرها فطلقتني ثلاثا فقال ابن عباس : خطا الله نواها أن الطلاق لك وليس لها عليك رواه أبو عبيد و الاثرم واحتج به أحمد
فصل : وإن قال أنا منك بائن أو بريء فقد توقف أحمد قال أبو عبد الله بن حامد يتخرج على وجهين
أحدهما : لا يقع لأن الرجل محل لا يقع الطلاق بإضافة صريحه إليه فلم يقع بإضافة كنايته إليه كالأجنبي
الثاني : يقع لأن لفض البينونة والبراءة يوصف بهما كل واحد من الزوجين يقال بان منها وبانت منه وبرىء منها وبرئت منه وكذلك لفظ الفرقة يضاف إليهما قال الله تعالى { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } وقال تعالى { يفرقون به بين المرء وزوجه } ويقال فارقته المرأة وفارقها ولا يقال طلقته ولا سرحته ولا تطلقا ولا تسرحا
وإن قال أنا بائن ولم يقل منك فذكر القاضي فيما إذا قال لها أمرك بيدك فقالت أنت بائن ولم تقل مني أنه لا يقع وجها واحدا وإن قالت أنا بائن ونوت وقع وإن قالت أنت مني بائن فعلى الوجهين ههنا مثل ذلك (8/278)
مسألة وفصول : وإذا أتى بصريح الطلاق لزمه نواه أو لم ينوه
مسألة : قال : وإذا أتى بصريح الطلاق لزمه نواه أو لم ينوه
قد ذكرنا أن صريح الطلاق لا يحتاج إلى نية بل يقع من غير قصد ولا خلاف في ذلك ولأن ما يعتبر له القول يكتفي فيه به من غير نية إذا كان صريحا فيه كالبيع وسواء قصد المزح أو الجد لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : النكاح الطلاق والرجعة ] رواه أبوداود و الترمذي وقال حديث حسن قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن جد الطلاق وهزله سواء روي هذا عن عمر بن الخطاب و ابن مسعود ونحوه عن عطاء و عبيدة وبه قال الشافعي و أبو عبيد وهو قول سفيان وأهل العراق فأما لفظ الفراق والسراح فينبني على الخلاف فيه فمن جعله صريحا أوقع به الطلاق من غير نية ومن لم يجعله صريحا لم يوقع به الطلاق حتى ينويه ويكون بمنزلة الكنايات الخفية
فصل : فإن قال الأعجمي : لامرأته أنت طالق ولا يفهم معناه لم تطلق لأنه ليس بمختار للطلاق فلم يقع طلاقه كالمكره فإن نوى موجبه عند أهل العربية لم يقع أيضا لأنه لا يصح منه اختيار ما لا يعلمه ولذلك لو نطق بكلمة الكفر من لا يعلم معناها لم يكفر ويحتمل أن تطلق إذا نوى موجبها لأنه لفظ بالطلاق ناويا موجبة فأشبه العربي وكذلك الحكم إذا قال العربي { بهشتم } بي وهو لا يعلم معناها
فصل : فإن قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق أو قال لحماته ابنتك طالق ولها بنت سوى امرأته أو كان اسم زوجته زينب فقال : زينب طالق طلقت زوجته لأنه لا يملك طلاق غيرها فإن قال أردت الأجنبية لم يصدق نص عليه أحمد في رجل تزوج امرأة قال لحماته ابنتك طالق وقال أردت ابنتك الأخرى التي ليست بزوجتي فقال يحنث ولا يقبل منه وقال في رواية أبي داود في رجل له امرأتان اسماهما فاطمة فماتت إحداهما فقال : فاطمة طالق ينوي الميتة فقال : الميتة تطلق ؟ قال أبو داود : كأنه لا يصدق في الحكم
وقال القاضي : فيما إذا نضر إلى امرأته وأجنبية فقال : إحداكما طالق وقال أردت الأجنبية فهل يقبل على روايتن وقال الشافعي يقبل ههنا ولا يقبل فيما إذا قال زينب طالق وقال : أردت أجنبية اسمها زينب لأن زينب لا يتنارل الأجنبية بصريحه بل من جهة الدليل وقد عارضه دليل أنه لا يطلق غير زوجته فصار اللفظ في زوجته أظهر فلام يقبل خلافه فإما إذا قال إحداهما فإنه يتناول الأجنبية بصريحه وقال أصحاب الرأي و أبو ثور يقبل في الجميع لأنه فسر كلامه بما يحتمله
ولنا أنه لايحتمل غير امرأته على وجه صحيح فلم يقبل تفسيره بها كما لو فسر كلامه بما لا يحتمله وكما لو قال : زينب طالق عند الشافعي وما ذكروه من الفرق لا يصح فإن احداكما ليس بصريح في واحدة منها إنما يتناول واحدة لا بعينها وزينب يتناول واحدة لا بعينها ثم تعينت الزوجة لكونها محل الطلاق وخطاب غيرها به عبث كما إذا قال : إحداكما طالق ثم لو تناولها بصريحه لكنه صرفه عنها دليل فصار ظاهرا في غيرها ولما قال النبي صلى الله عليه و سلم للمتلاعنين [ أحدكما كاذب ] لم ينصرف إلا إلى الكاذب منها وحدة ولما قال حسان يعني النبي صلى الله عليه و سلم وأبا سفيان * فشركما لخيركما الفداء * لم ينصرف شرهما إلا إلى أبي سفيان وحده وخيرهما النبي صلى الله عليه و سلم وحده وهذا في الحكم أما فيما بينه وبين الله تعالى فيدين فيه فمتى علم من نفسه أنه أراد الأجنبية لم تطلق زوجته لأن اللفظ محتمل له وإن كان غير مقيد ولو كانت ثم قرينة دالة على إرادته الأجنبية مثل أن يدفع بيمينه ظلما أو يتخلص بها من مكروه قبل قوله في الحكم لوجود الدليل الصارف إليها وإن لم ينو زوجته ولا الأجنبية طلقت زوجته لأنها محل الطلاق وللفظ يحملها ويصلح لها ولم يصرفه عنها فوقع به كما لو نواها
فصل : فإن كانت له امرأتان حفصة وعمرة فقال : ياحفصة فأجابته عمرة فقال : أنت طالق فإن لم تكن له نية أو نوى المجيبة وحدها طلقت وحدها لأنها المطلقة دون غيرهما وإن قال ما خاطبت بقولي أنت طالق إلا حفصة وكانت حاضرة طلقت وحدها وإن قال : علمت أن المجيبة عمرة فخاطبتها بالطلاق وأردت طلاق حفصة طلقتا معا في قولهم جميعا وإن قال ظننت المجيبة حفصة فطلقتها طلقت حفصة رواية واحدة وفي عمرة روايتان :
إحداهما : تطلق أيضا وهو قول النخعي و قتادة و الأوزاعي وأصحاب الرأي واختاره ابن حامد لأنه خاطبها بالطلاق وهي محل له فطلقت كما لو قصدها
والثانية : لا تطلق وهو قول الحسن و الزهري و أبي عبيد قال أحمد : في رواية مهنا في رجل له امرأتان فقال فلانة أنت طالق فالتفت فإذا هي غير التي حلف عليها قال إبراهيم : يطلقان والحسن يقول تطلق التي نوى قيل له ما تقول أنت ؟ قال : تطلق التي نوى ووجه أنه لم يقصدها بالطلاق فلم تطلق كما لو أراد أن يقول أنت طاهر فسبق لسانه فقال : أنت طالق وقال أبو بكر : لا يختلف كلام أحمد أنها لا تطلق وقال الشافعي : تطلق المجيبة وحدها لأنها مخاطبة بالطلاق فطلقت كما لو لم ينو غيرها ولا تطلق المنوية لأنه لم يخاطبها بالطلاق ولم تعترف بطلاقها وهذا يبطل بما لو علم أن المجيبة عمرة فإن المنوية تطلق أرادتها الطلاق ولولا ذلك لم تطلق بالاعتراف به لأن الاعتراف بما لا يوجب ولأن الغائبة مقصودة بلفظ الطلاق فطلقت ذ
فصل : وإن أشار إلى عمرة فقال : يا حفصة أنت طالق وأراد طلاق عمرة فسبق لسانه إلى نداء حفصة طلقت عمرة وحدها لأنه لم يرد بلفظه إلا طلاقها وإنما سبق لسانه إلى غير ما أراده فأشبه ما لو أراد أن يقول أنت طاهر فسبق لسانه إلى أنت طالق وإن أتى باللفظ مع علمه أن المشار إليها عمرة طلقتا معا عمرة بالإشارة إليها وإضافة الطلاق إليها حفصة بنيته وبلفظه بها وإن ظن أن المشار إليها حفصة طلقت حفصة وفي عمرة روايتان كالتي قبلها
فصل : وإن لقي أجنبية ظنها زوجته فقال : فلانة أنت طالق فإذا هي أجنبية طلقت زوجته نص عليه أحمد وقال الشافعي : لا تطلق لأنه خاطب بالطلاق غيرها فلم يقع كما لو علم أنها أجنبية فقال : أنت طالق
ولنا انه قصد زوجته بلفظ الطلاق فطلقت كما لو قال : علمت انها أجنبية وأردت طلاق زوجتي وإن قال لها أنت طالق ولم يذكر اسم زوجته احتمل ذلك أيضا لأنه قصد امرأته بلفظ الطلاق واحتمل أن لا تطلق لأنه لم يخاطبها بالطلاق ولا ذكر اسمها معه وإن علمها أجنبية وأراد بالطلاق زوجته طلقت وإن لم يردها بالطلاق لم تطلق
فصل : وإن لقي امرأة فظنها أجنبية فقال : أنت طالق أو تنحي يا مطلقة أو لقي أمته فظنها أجنبية فقال : أنت حرة أو تنحي يا حرة فقال أبو بكر فيمن لقي امرأته فقال : تنحي يا مطلقة أو يا حرة وهو لا يعرفها فإذا هي زوجته أو أمته لا يقع بها طلاق ولا حرية لأنه لم يرد بها ذلك فلم يقع بهما شيء كسبق اللسان إلى ما لم يرده ويحتمل أن لا يعتق الأمة لأن العادة من الناس مخاطبة من لا يعرفها بقوله يا حرة وتطلق الزوجة لعدم العادة بالمخاطبة بقوله يا مطلقة (8/280)
مسألة وفصول : حكم الطلاق غير الصريح
فصل : فأما غير الصريح فلا يقع الطلاق به إلا بنية أو دلالة حال وقال مالك الكنايات الظاهرة كقوله أنت بائن وبتة وبتلة وحرام يقع بها الطلاق من غير تية قال القاضي في الشرح وهذا ظاهر كلام أحمد و الخرقي لأنها مستعملة في الطلاق في العرف فصارت كالصريح
ولنا أن هذه كناية لم تعرف بإرادة الطلاق بها ولا اختصت به فلم يقع الطلاق بها بمجرد اللفظ كسائر الكنايات وإذا ثبت اعتبار النية فإنها تعتبر مقارنة للفظ فإن وجدت في ابتدائه وعريت عنه في سائره وقع الطلاق وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يقع فلو قال : أنت بائن ينوي الطلاق وعريت نيته حين قال أنت بائن لا يقع لأن القدر الذي صاحبته النية لا يقع به شيء
ولنا أن ما ييعتبر له النية يكتفى فيه بوجودها في أوله كالصلاة وسائر العبادات فأما ان تلفظ بالكناية غيرنا وثم نوى بها بعد ذلك لم يقع بها الطلاق وكما لو نوى الطهارة بالغسل بعد فراغه منه
مسألة : قال : ولو قيل له ألك امرأة ؟ فقال لا وأراد به الكذب لم يلزمه شيء ولو قال قد طلقتها وأراد به الكذب لزمه الطلاق
إنما لم يلزمه إذا أراد الكذب لأن قوله ما لي امرأة كناية تفتقر إلى نية الطلاق وإذا نوى الكذب فما نوى الطلاق فلم يقع وهكذا لو نوى أنه ليس لي امرأة تخدمني أو ترضيني أو أني كمن لا امرأة له أو لم ينو شيئا لم تطلق لعدم النية المشترطة في الكناية وإن أراد بهذا اللفظ طلاقها طلقت لأنها كناية صحبتها النية وبهذا قال الزهري و مالك و حماد بن أبي سليمان و أبي حنيفة و الشافعي قال أبو يوسف و محمد لا تطلق فإن هذا ليس بكناية وإنما هو خبر هو كاذب فيه وليس بإيقاع
ولنا أنه محتمل للطلاق لأنه إذا طلقها فليست له بامرأة فأشبه قوله أنت بائن وغيرها من الكنايات الظاهرة وهذا يبطل قولهم فأما إن قال لطلقتها وأراد الكذب طلقت لأن لفظ الطلاق صريح يقع به الطلاق من غير نية وإن قال لخليتها أو أبنتها افتقر إلى النية لأنه كناية لا يقع به الطلاق من غير نية
فصل : فإن قيل له : أطلقت امرأتك ؟ فقال : نعم أو قيل له : امرأتك طالق ؟ فقال : نعم طلقت امرأته وإن لم ينو وهذا الصحيح من مذهب الشافعي واختيار المزني لأن نعم صريح في الجواب والجواب الصريح للفظ الصريح صريح ألا ترى أنه لو قيل لفلان عليك ألف ؟ فقال : نعم وجب عليه وإن قيل له طلقت امرأتك ؟ فقال : قد كان بعض ذلك وقال : أردت الإيقاع وقع وإن قال أردت أني علقت طلاقها بشرط قبل لأنه محتمل لما قاله وإن قال : أردت الإخبار عن شيء ماض أو قيل له : ألك امرأة ؟ فقال : قد طلقتها ثم قال : إنما أردت أني طلقتها في نكاح آخر دين فيما بينه وبين الله تعالى فأما في الحكم فإن لم يكن ذلك وجد منه لم يقبل لأنه لا يحتمل ما قاله وإن كان وجد فعلى وجهين
فصل : فإن قال : حلفت بالطلاق أو قال : على يمين بالطلاق ولم يكن حلف لم يلزمه شيء فيما بينه وبين الله تعالى ولزمه ما أقربه في الحكم ذكره القاضي و أبو الخطاب وقال أحمد في رواية محمد بن الحكم في الرجل يقول حلفت بالطلاق ولم يكن حلف هي كذبة ليس عليه يمين وذلك لأن قوله له حلفت أليس بحلف وإنما هو خبر عن الحلف فإذا كان كاذبا فيه لم يصر حالفا كما لو قال حلفت بالله وكان كاذبا واختار أبو بكر أنه يلزمه ما أقر به وحكى في زاد المسافر عن الميموني عن أحمد أنه قال : إذا قال حلفت بالطلاق ولم يكن حلف يلزمه الطلاق ويرجع إلى نيته في الطلاق الثلاث أو الواحد وقال القاضي : معنى قول أحمد يلزمه الطلاق أي في الحكم ويحتمل أنه أراد يلزمه الطلاق إذا نوى به الطلاق فجعله كناية عنه ولذلك قال يرجع إلى نيته أما الذي قصد الكذب فلا نية له في الطلاق فلا يقع به شيء لأنه ليس بصريح الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يقع له طلاق كسائر الكنايات وذكر القاضي في كتاب الايمان فيمن قال حلفت بالطلاق ولم يكن حلف فهل يقع به الطلاق ؟ على روايتين (8/285)
مسألة وفصول : حكم من وهب زوجته لأهلها أو باعها لغيره
مسألة : قال : وإذا وهب زوجته لأهلها فإن قبلوها فواحدة يملك الرجعة إن كانت مدخولا بها وإن لم يقبلوها فلا شيء
هذا المنصوص عن أحمد في هذه المسألة وبه قال ابن مسعود و عطاء و مسروق و الزهري و مكحول و مالك و إسحاق وروي عن علي رضي الله عنه النخعي إن قبلوها فواحدة بائنة وإن لم يقبلوها فواحدة رجعية وعن زيد بن ثابت والحسن إن قبلوها فثلاث وإن لم يقبلوها فواحدة رجعية وروي عن أحمد مثل ذلك وقال ربيعة و يحيى بن سعيد و أبو الزناد و مالك هي ثلاث على كل حال قبلوها أو ردوها وقال أبو حنيفة فيها كقوله في الكناية الظاهرة قبلوها أو ردها وكذلك قال الشافعي واختلفا ههنا بناء على اختلافهما
ولنا على أنها لا تطلق إذا لم يقبلوها أنه تمليك للبضع فافتقر إلى القبول كقوله اختاري وأمرك بيدك وكالنكاح وعلى أنها لا تكون ثلاثا أنه لفظ محتمل فلا يحمل على الثلاث عند الاطلاق كقوله اختاري وعلى أنها رجعية أنها طلقة لمن عليها عدة بغير عوض قبل استفاء العدد فكانت رجعية كقوله أنت طالق وقوله إنها واحدة محمول على ما إذا أطلق النية في عددها كسائر الكنايات ولا بد من أن ينوي بذلك الطلاق أو تكون ثم دلالة حال لأنها كناية والكنايات لابد فيها من النية كذلك قال القاضي : وينبغي أن تعتبر النية من الذي يقبل أيضا كما تعتبر في اختيار الزوجة إذا قال لها اختاري أو أمرك بيدك إذا ثبت هذا فإن صيغة القبول أن يقول أهلها قبلناها نص عليه أحمد والحكم في هبتها لنفسها أو لأجنبي كالحكم في هبتها لأهلها
فصل : فإن باع امرأته لغيره لم يقع به طلاق وإن نوى وبهذا قال الثوري و إسحاق وقال مالك : تطلق واحدة وهي أملك بنفسها لأنه أتى بما يقتضي خروجها عن ملكه فأشبه ما لو وهبها
ولنا أن البيع لا يتضمن معنى الطلاق لأنه نقل ملك بعوض والطلاق مجرد اسقاط لا يقتضي العوض فلم يقع به طلاق كقوله أطعمني واسقيني (8/287)
مسألة وفصل : قال وإذا قال لها أمرك يبدك
مسألة : قال : وإذا قال لها : أمرك بيدك فهو بيدها وإن تطاول ما لم يفسخ
أو يطأها
وجملة ذلك أن الزوج مخير بين أن يطلق بنفسه وبين أن يوكل فيه وبين أن يفوضه إلى المرأة ويجعله إلى اختيارها بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم خير نساءه فاخترنه ومتى جعل أمر امرأته بيدها فهو بيدها أبدا لا يتقيد ذلك بالمجلس روي ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الحكم و أبو ثور و ابن المنذر وقال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي هو مقصور على المجلس ولا طلاق لها بعد مفارقته لأنه تخيير لها فكان مقصورا على المجلس كقوله اختاري
زلنا قول علي رضي الله عنه في رجل جعل أمر امرأته بيدها قال : هو لها حتى ولا نعرف له في الصحابة مخالفا فيكون إجماعا ولأنه نوع توكل في الطلاق فكان على التراخي كما لو جعله لأجنبي وفارق قوله اختياري فإنه يخيير فإه رجع الزوج فيما جعل إليها أو قال فسخت ما جعلت إليك بطل وبذلك قال عطاء و مجاهد و الشعبي و النخعي و الأوزاعي و إسحاق وقال الزهري والثوري ومالك وأصحاب الرأي ليس له الرجوع لأنه ملكها ذلك فلم يملك الرجوع كما لو طلقت
ولنا أنه توكيل فكان له الرجوع فيه كالتوكيل في البيع وكما خاطب بذلك أجنبيا وقولهم تمليك لا يصح فإن الطلاق لا يصح تمليكه ولا ينتقل عن الزوج وإنما ينوب فيه غيره عنه فإذا استناب غيره فيه كان توكيلا لا غير ثم وإن سلم إنه تمليك فالتمليك يصح الرجوع فيه قبل اتصال به كالبيع وإن وطئها الزوج كان رجوعا لأنه نوع توكيل والتصرف فيما وكل فيه يبطل الوكالة وإن ردت المرأة ما جعل إليها بطل كما تبطل الوكالة بفسخ الوكيل
فصل : ولا يقع الطلاق بمجرد هذا القول ما لم ينو به إيقاع طلاقها في الحال أو تطلق نفسها ومتى ردت الأمر الذي جعل إليها بطل ولم يقع شيء في قول أكثر أهل العلم منهم ابن عمر و سعيد بن المسيب و عمر بن عبد العزيز و مسروق و عطاء و مجاهد و الزهري و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وقال قتادة إن ردت فواحدة رجعية
ولنا أنه توكيل أو تمليك لم يقبله المملك فلم يقع به شيء كسائر التوكيل والتمليك فأما إن نوى بهذا تطليقها في الحال طلقت في الحال ولم يحتج إلى قبولها كما لو قال : حبلك على غاربك (8/288)
مسألة وفصلان : وقوع طلقة واحدة رجعية باختيار المرأة المخيرة نفسها
مسألة : قال : فإن قالت اخترت نفسي فواحدة تملك الرجعة
وجملة الأمر أن المملكة والمخيرة إذا قالت اخترت نفسي فهي واحدة رجعية روي ذلك عن عمر و ابن مسعود وابن عباس وبه قال عمر بن عبد العزيز و الثوري و ابن أبي ليلى و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وروي عن علي أنها واحدة وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لأن تمليكه إياها أمرها يقتضي زوال سلطانه عنها وإذا قبلت ذلك بالاختيار وجب أن يزول عنها ولا يحصل ذلك مع بقاء الرجعة وعن زيد بن ثابت أنها ثلاث وبه قال الحسن و مالك و لليث إلا أن مالكا قال إذا لم تمن مدخولا بها قبل منه إذا أراد واحدة المدخول بها يزول سلطانه عنها بواحدة فاكتفى بها
ولنا أنها لم تطلق بلفظ الثلاث ولا نوت ذلك فلم تطلق ثلاثا كما لو أتى الزوج بالكناية الخفية
فصل : وهذا إذا لم تنو أكثر من واحدة وقع ما نوت لأنها تملك الثلاث بالتصريح فتملكها بالكناية كالزوج وهكذا إن أتت بشيء من الكنايات فحكمها فيها حكم الزوج إن كانت مما يقع بها الثلاث من الزوج وقع بها الثلاث إذا أتت بها وإن كانت من الكنايات الخفية نحو قولها لا يدخل علي ونحوها وقع ما نوت
قال أحمد : إذا قال لها أمرك بيدك فقالت : لا يدخل علي إلى بإذن تنوي في ذلك إن قالت : واحدة فواحدة وإن قالت : أردت أن أغيظه قبل منها يعني لا يقع شيء وكذلك لو جعل أمرها في يد أجنبي فأتى بهذه الكنايات لا يقع شيء حتى ينوي الوكيل الطلاق ثم إن طلق بلفظ صريح أو بكناية ظاهرة طلقت ثلاثا وإن كان بكناية خفية وقع ما نواه
فصل : وقوله أمرك بيدك وقوله اختاري نفسك كناية في حق الزوج يفتقر إلى نية أو دلالة حال كما في سائر الكنايات فإن عدما لم يقع به الطلاق لأنه ليس بصريح وإنما هو كناية فيفتقر إلى ما يفتقر إليه سائر الكنايات وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك يفتقر إلى نية لأنه من الكنايات الظاهرة وقد سبق الكلام معه فيها وهو أيضا كناية في حق المرأة قبلته بلفظ الكناية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يفتقر وقوع الطلاق إلى نيتها إذا نوى الزوج لأن الزوج علق الطلاق بفعل من جهتها فلم يفتقر إلى نيتها كما لو قال : إن تكلمت فأنت طالق فتكلمت وقال لا يقع إلا واحدة بائن وإن نوت ثلاثا لأن ذلك تخيير والتخيير لا يدخله عدد كخيار المعتقة ولنا أنها موقعة للطلاق بلفظ الكناية فافتقر إلى نيتها كالزوج وعلى أنه يقع الثلاث إذا نوت أن اللفظ يحتمل الثلاث لأنها تختار نفسها بالواحدة وبالثلاث فإذا نوياه وقع كقوله أنت بائن (8/290)
مسألتان وفصلان : تطلق المخيرة نفسها ثلاثا وتعليق الاختيار
مسألة : قال : وإن طلقت نفسها ثلاثا وقال لم أجعل إليها إلا واحدة لم يلتفت إلى قوله والقضاء ما قضت
وممن قال القضاء ما قضت عثمان وابن عمر وابن عباس وروي ذلك عن علي وفضالة بن عبيد وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و الزهري وعن عمر وابن مسعود أنها تطليقة واحدة وبه قال عطاء و مجاهد و القاسم و ربيعة و الأوزاعي و الشافعي قال الشافعي إن نوى ثلاثا فلها أن تطلق ثلاثا وإن نوى غير ذلك لم تطلق ثلاثا والقول قوله في نيته
قال القاضي : ونقل عبد الله عن أحمد ما يدل على أنه إذا نوى واحدة لأنه نوع تخيير فيرجع إلى نيته فيه كقوله اختاري
ولنا أنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها لأنه اسم جنس مضاف فيتناول الطلقات الثلاث كما لو قال طلقي نفسك ما شئت ولا يقبل قوله أردت واحدة لأنه خلاف ما يقتضيه ولا يدين في هذا لأنه من الكنايات الظاهرة والكنايات الظاهرة تقتضي ثلاثا
مسألة : قال : وكذلك الحكم إذا جعله في يد غيرها
وجملة ذلك أنه إذا جعل أمر امرأته بيد غيرها صح وحكمه حكم ما لو جعله بيدها في أنه بيده في المجلس وبعده ووافق الشافعي على هذا في حق غيرها لأنه توكيل وسواء قال له : أمر امرأتي بيدك فقال جعلت لك الخيار في طلاق امرأتي أو قال : طلق امرأتي وقال أصحاب أبي حنيفة ذلك مقصور على المجلس لأنه نوع تخيير أشبه ما لو قال اختاري
ولنا أنه توكيل مطلق فكان على التراخي كالتوكيل في البيع وإذا ثبت هذا فإن له يطلقها ما لم يفسخ أو يطأها وله أن يطلق واحدة وثلاثا كالمرأة وليس له أن يجعل الأمر إلا بيد من يجوز توكيله وهو العاقل فأما الطفل والمجنون فلا يصح أن يجعل الأمر بأيديهم فإن فعل فطلق واحد منهم لم يقع طلاقه وقال أصحاب الرأي يصح
ولنا أنهما ليسا من أهل التصرف فلم يصح تصرفهم كما لو وكلهم في العتق وإن جعله في يد كافر أو عبد صح لأنه ممن يصح طلاقه لنفسه فصح توكيلها فيه وإن جعله في يد امرأة صح لأنه يصح توكيلها في العتق فصح في الطلاق كالرجل وإن جعله في يد صبي يعقل الطلاق انبنى ذلك على صحة طلاقه لزوجته وقد مضى ذلك وقد نص أحمد ههنا على اعتبار وكالته بطلاقه فقال : إذا قال الصبي : طلق امرأتي ثلاثا فطلقها ثلاثا لا يجوز عليها حتى يعقل الطلاق أرأيت لو كان لهذا الصبي امرأة فطلقها أكان يجوز طلاقة ؟ فأعتبر طلاقه بالوكالة بطلانه لنفسه وهكذا لو جعل أمر الصغير والمجنون بيدها لم تملك ذلك نص عليه أحمد في امرأة صغيرة قال لها أمرك بيدك فقالت : اخترت نفسي ليس بشيء حتى يكون مثلها يعقل وهذا لأنه تصرع بحكم التوكيل وليست من أهل التصرف وظاهر كلام أحمد أنها إذا علقت الطلاق وإن طلاقها وإن لم تبلغ كما قررناه في الصبي إذا طلق وفي الصبي رواية أخرى لا يقع طلاقه حتى يبلغ فكذلك يخرج في هذه لأنها مثله في المعنى والله أعلم
فصل : فإن جعله في يد أو وكل اثنين في طلاق زوجته صح وليس لأحدهما أن يطلق على الانفراد إلا أن يجعل إليه ذلك لأنه إنما رضي بتصرفهما جميعا وبهذا قال الحسن و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد و ابن المنذر وإن طلق أحدهما واحدة والآخر ثلاثا وقعت واحدة وبهذا قال إسحاق وقال الثوري لا يقع شيء
ولنا أنهما طلقا جميعا واحدة مأذونا فيها فصح كما لو جعل إليها واحدة
فصل : ويصح تعليق أمرك بيدك واحتاري نفسك بالشروط وكذلك إن جعل ذلك إلى أجنبي صح مطلقا ومقيدا ومعلقا نحو أن يقول اختاي نفسك وأمرك بيدك شهرا أو إذا قدم فلان فأمرك بيدك واختاري نفسك يوما أو يقول ذلك لأجنبي قال أحمد إذا قال إذا كان سنة أو أجل مسمى فأمرك بيدك فإذا دخل ذلك فأمرها بيدها وليس لها قبل ذلك أمر وقال أيضا إذا تزوج امرأة وقال لأبيها إن جاءك خبري إلى ثلاث سنين وإلا فأمر ابنتك إليك فلما مضت السنون لم يأت خبره فطلقها الأب فإن كان الزوج لم يرجع فيما جعل إلى الأب فطلاقه جائز ورجوعه أن يشهد انه قد رجع فيما جعل إليه ووجه هذا انه فوض أمر الطلاق إلى من يملكه فصح تعليقه على شرط كالتوكيل الصريح فإذا صح هذا فإن الطلاق إلى من فوض إليه على حسب ما جعله إليه في الوقت الذي عينه له لا قبله بعده وللزوج الرجوع في هذا لأنه عقد جائز قال أحمد ولا تقبل دعواه للرجوع إلا ببينة لأنه مما يمكن إقامة البينة عليه فإن طلق الوكيل والزوج غائب كره للمرأة التزوج لأنه يحتمل أن الزوج رجع في الوكالة وقد نص أحمد على منعها من التزوج لهذا العلة وحمله القاضي على الاستحباب والاحتياط فان غاب الوكيل كره للزوج الوطء مخافة أن يكون الوكيل طلق ومنع منه أحمد أيضا لهذه العلة وحمله القاضي على الإستحباب لأن الأصل بقاء النكاح فحمل الأمر فيه على اليقين وقول أحمد رجوعه أن يشهد على أنه قد رجع فيما جعل إليه معناه انه لا يقبل قوله إنه قد رجع إليه إلا ببينة ولو صدقته المرأة في أنه قد رجع قبل وإن لم تكن له بينة (8/292)
مسألة وفصلان : التخيير على الفور أو في مدة معينة
مسألة : قال : ولو خيرها فاختارت فرقته من وقتها وإلا فلا خيار لها
أكثر أهل العلم على أن التخيير على الفور إن اختارت في وقتها وإلا فلا خيار لها بعده روي ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر رضي الله عنهم وبه قال عطاء و جابر بن زيد و مجاهد و الشعبي و النخعي و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي وقال الزهري و قتادة و أبو عبيد و ابن المنذر و مالك في إحدى الروايتين هو على التراخي ولها الاختيار في المجلس وبعده ما لم يفسخ أو يطأ واحتج ابن المنذر [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لعائشة لما خيرها : أني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ] وهذا يمنع قصره على المجلس ولأنه جعل أمرها اليها فأشبه أمرك بيدك
ولنا أنه قول من سمينا من الصحابة روى النجاد بإسناده عن سعيد بن المسيب أنه قال قضى عمر وعثمان في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما لم يتفرقا وعن عبد الله بن عمر قال : ما داما في مجلسها ونحوه عن ابن مسعود وجابر ولم نعرف لهم مخالفا في الصحابة فكان إجماعا ولأنه خيار تمليك فكان على الفور كخيار القبول فأما الخبر فإن النبي صلى الله عليه و سلم جعل لها الخيار على التراخي وخلافنا في المطلق وأما أمرك بيدك فهو توكيل والتوكيل يعم الزمان ما لم يقيده بقيد بخلاف مسألتنا
فصل : وقوله في وقتها أي عقيب كلامه ما لم يخجلا من الكلام الذي كانا فيه إلى غير ذكر الطلاق فإن تفرقا عن ذلك الكلام إلى كلام غيره بطل خيارها قال أحمد : إذا قال لامرأته اختاري فلها الخيار ما داموا في ذلك الكلام فإن طال المجلس وأخذوا في الكلام غير ذلك ولم تختر فلا خيار لها وهذا مذهب أبي حنيفة ونحوه مذهب الشافعي على اختلاف عنه فقيل عنه إنه يتقيد بالمجلس وقيل هو على الفور وقال أحمد أيضا : الخيار على مخاطبة الكلام أن تجاوبه ويجاوبها إنما هو جواب كلام إن أجابته من ساعته وإلا فلا شيء ووجهه أنه تمليك مطلق تأخر قبوله عن أول حال الإمكان فلم يصح كما لو قاما من مجلسها فإن قام أحدهما عن المجلس قبل اختيارها بطل خيارها وقال أبو حنيفة : يبطل بقيامها دون قيامه بناء على أصله في أن الزوج لا يملك الرجوع وعندنا أنه يملك الرجوع فبطل بقيامه كما يبطل بقيامها وإن كان أحدهما قائما أو مشى بطل الخيار وإن قعد لم يبطل والفرق بين القيام والقعود أن القيام يبطل الفكر والارتياء في الخيار فيكون إعراضا والعقود بخلافه ولو كانت قاعدة فاتكأت أو متكئة فقعدت لم يبطل لأن ذلك لا يبطل الفكر وإن تشاغل أحدهما بالصلاة بطل الخيار وإن كانت في صلاة فأتمتها لم يبطل خيارها وإن أضافت إليها ركعتين أخريين بطل خيارها وإن أكلت شيئا يسيرا أو قالت بسم الله أو سبحت شيئا يسيرا لم يبطل لأن ذلك ليس بإعراض وإن قالت ادع لي شهودا أشهدهم على ذلك لم يبطل خيارها وإن كانت راكبة فسارت بطل خيارها وهذا كله قول أصحاب الرأي
فصل : فإن جعل لها الخيار متى شاءت أو في مدة فلها ذلك في تلك المدة وإذا قال : اختاري إذا شئت أو متى شئت فلها ذلك لأن هذه تفيد جعل الخيار لها في عموم الأوقات وإن قال : اختاري اليوم وغدا وبعد غد فلها ذلك فإن ردت الخيار في الأول بطل كله وكذلك إن قال : لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ونحوه فلها الخيار على التراخي فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال ذلك لعائشة فدل على أن خيارها لا يبطل بالتأخير وإن قال : اختاري نفسك اليوم واختاري نفسك غدا فردته في اليوم الأول لم يبطل في الثاني وقال أبو حنيفة لا يبطل في المسألة الأولى أيضا لأنهما خياران في زمنين فلم يبطل أحدهما برد الآخر قياسا على المسألة الثانية
ولنا أنه خيار واحد في مدة واحدة فإذا بطل أوله بطل ما بعده كما لو كان الخيار في يوم واحد وكخيار الشرط وخيار المعتقة ولا نسلم أنهما خياران وإنما هو خيار واحد في يومين وفارق ما إذا قال اختاري نفسك اليوم واختاري نفسك غدا فإنهما خياران لأن كل واحد ثبت بسبب مفرد ولو خبرها شهرا فاختارت نفسها ثم تزوجها لم يكن لها عليه خيار وعند أبي حنيفة لها الخيار
ولنا أنها استوفت ما جعل لها في هذا العقد فلم يكن لها في عقد ثان كما لو اشترط الخيار في سلعة مدة ثم فسخ ثم اشتراها بعقد آخر في تلك المدة ولو لم تختر نفسها أو اختارت زوجها وطلقها الزوج ثم تزوجها بطل خيارها لأن الخيار المشروط في عقد لا يثبت في عقد سواه كما في البيع والحكم في قوله أمرك بيدك في هذا كله كالحكم في التخيير لأنه نوع تخيير ولو قال لها اختاري أو أمرك بيدك اليوم وبعد الغد فردت ففي اليوم الأول لم يبطل بعد في غد لأنهما خياران ينفصل أحدهما من صاحبه فلم يبطل أحدهما ببطلان الآخر بخلاف ما إذا كان الزمان متصلا واللفظ واحد فإنه خيار واحد فبطل كله ببطلان بعضه وإن قال لك الخيار يوما أو أمرك بيدك يوما فابتداؤه من حين نطق به إلى مثله من الغد لأنه لا يمكن استكمال يوم بتمامه إلا بذلك وإن قال : شهرا فمن ساعة نطق إلى استكمال ثلاثين يوما إلى مثل تلك الساعة وإن قال : الشهر أو اليوم أو السنة فهو على ما بقي من اليوم والشهر والسنة (8/295)
مسألة وفصول : التخيير على الفور أو في مدة معينة
مسألة : قال : وليس لها أن تختار أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر
من ذلك
وجملة الأمر أن لفظة التخيير لا تقتضي بمطلقها أكثر من تطليقة وجعية قال أحمد : هذا قول ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمر وعائشة رضي الله عنهم وروي ذلك عن جابر وعبد الله بن عمرو وقال أبو حنيفة : هي واحدة بائن وهو قول ابن شبرمة لأن اختيار نفسها يقتضي زوال سلطانه عنها ولا يكون إلا بالبينونة وقال مالك هي ثلاث في المدخول بها لأن المدخول بها لا تبين بأقل من ثلاث إلا أن تكون بعوض ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن من سمينا منهم قالوا إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها رواه النجاد عنهم بأسانيده ولأن قوله اختاري تفويض مطلق فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم وذلك طلقة واحدة ولا يجوز أن تكون بائنا لأنها طلقة بغير عوض لم يكمل لها العدد بعد الدخول فأشبه ما لو طلقها واحدة ويخالف قوله أمرك بيدك فإنه للعموم فإنه اسم جنس فيتناول جميع أمرها ولكن إن جعل إليها أكثر من ذلك فلها ما جع إليها سواء جعله بلفظه مثل أن يقول اختاري ما شئت أو اختاري الطلقات الثلاث إن شئت فلها أن تختار ذلك فإن قال اختاري من الثلاث ما شئت فلها أن تختار واحدة أو اثنتين وليس لها اختيار الثلاث بكمالها لأن من للتبعيض فقد جعل لها اختيار بعض الثلاث فلا يكون لها اختيار الجميع أو جعله نيته وهو أن ينوي بقوله اختاري عددا فإنه يرجع إلى ما نواه لأن قوله اختاري كناية خفية فيرجع في قدر ما يقع بها إلى نيته كسائر الكنايات الخفية فإن نوى ثلاثا أو اثنتين أو واحدة فهو على ما نوى وإن أطلق النية فهي واحدة وإن نوى ثلاثا فطلقت أقل منها وقع ما طلقته لأنه يعتبر قولهما جميعا فيقع ما اجتمعا عليه كالوكيلين إذا طلق واحد منهما واحدة والآخر ثلاثا
فصل : وإن خيرها فاختارت زوجها أو ردت الخيار أو الأمر لم يقع شيء نص عليه أحمد في رواية الجماعة وروي ذلك عن عمر وعلي وزيد وابن مسعود وابن عباس وعمر بن عبد العزيز و ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و الشافعي و ابن المنذر وعن الحسن تكون واحدة رجعية وروي ذلك عن علي ورواه إسحاق بن منصور عن أحمد قال فإن اختارت زوجها فواحدة يملك الرجعة وإن اختارت نفسها فثلاث قال أبو بكر : انفرد بها إسحاق بن منصور والعمل على ما رواه الجماعة ووجه هذه الرواية أن التخيير كناية نوى بها الطلاق فوقع بها بمجردها كسائر كناياته وكقوله انكحي من شئت
ولنا [ قول عائشة قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان طلاقا وقالت : لما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال : إني لمخبرك خبرا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك - ثم قال - إن الله تعالى قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } - حتى بلغ - { إن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } فقالت في أي هذا استأمر أبوي ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة قالت : ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه و سلم مثل ما فعلت ] متفق عليهما ما أبالي خيرت امرأتي واحدة أو مائة أو ألفا بعد أن تختارني ولأنها مخيرة اختارت النكاح فلم يقع بها الطلاق كالمعتقة تحت عبد فأما إن قالت اخترت نفسي إلى نيتها لأنه لفظ كناية منها فإن نوى أحدهما دون الآخر لم يقع لأن الزوج إذا لم ينو فوض إليها الطلاق فلا يصح أن يوقعه وإن نوى ولم تنوهي فقد فوض إليها الطلاق فما أوقعته فلم يقع شيء كما لو وكل وكيلا في الطلاق فلم يطلق وإن نويا جميعا وقع ما نوياه من العدد اتفقا فيه وإن نوى أحدهما أقل من الآخر وقع الأقل لأن ما زاد انفرد به أحدهما فلم يقع
فصل : وإن قال أمرك بيدك أو اختاري فقالت قبلت لم يقع شيء لأن أمرك بيدك توكيل فقولها في جوابه : قبلت ينصرف إلى قبول الوكالة فلم يقع شيء كما لو قال لأجنبي أمر امرأتي بيدك فقال : قبلت وقوله اختاري في معناه وكذلك في معناه وكذلك إن قالت : أخذت أمري نص عيهما أحمد في رواية ابراهيم بن هانىء إذا قال لامرأته : أمرك بيدك فقالت : قبلت ليس بشيء حتى تبين وقال : إذا قالت : أخذت أمري ليس بشيء قال وإذا قال لامرأته اختاري فقالت قبلت نفسي أو قالت اخترت نفسي كان أبين قال القاضي : ولو قالت اخترت ولم تقل نفسي لم تطلق وإن نوت ولو قال الزوج اختاري وبم يقل نفسك ولم ينوه لم تطلق ما لم تذكر نفسها ما لم يكن في كلام الزوج أو جوابها ما يصرف الكلام إليه لأن ذلك في حكم التفسير فإذا عوى عن ذلك لم يصح وإن قالت : اخترت زوجي أو اخترت البقاء على النكاح أو رددت الخيار أو رددت عليك سفهتك بطل الخيار وإن قالت : اخترت أهلي أو أبوي وقع الطلاق لأن هذا يصلح كناية من الزوج فيما إذا قال : الحقي بأهلك فكذلك منها وإن قالت : اخترت الأزواج فكذلك لأنهم لا يحلون إلا بمفارقة هذا الزوج ولذلك كان كناية منه في قوله : انكحي من شئت
فصل : فإن كرر لفظة الخيار فقال : اختاري اختاري اختاري فقال أحمد : إن كان إنما يردد علنها ليفهمها وليس نيته ثلاثا فني واحدة وإن كان أراد بذلك ثلاثا فهي ثلاث فرد الأمر إلى نيته في ذلك وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا قبلت وقع ثلاثا لأنه كرر ما يقع به الطلاق فتكرر كما لو كرر الطلاق
ولنا أنه يحتمل التأكيد فإذا قصده قبل منه كما لو قال : أنت طالق وإن أطلق فقد روي عن أحمد ما يدل على أنها واحدة يملك الرجعة وهذا اختيار القاضي ومذهب عطاء و أبي ثور لأن تكرر لا يزيد به الخيار كشرط الخيار في البيع ئن وروي عن أحمد إذا قال لامرأته : اختاري فقالت : اخترت نفسي هي واحدة إلا أن يقول : اختاري اختاري اختاري وهذا يدل على أنها تطلق ثلاثا ونحوه قال الشعبي و النخعي وأصحاب الرأي و مالك لأن اللفظة الواحدة تقتضي طلقة فإذا تكررت اقتضت ثلاثا كلفظة الطلاق
فصل : فإن قال لزوجته : طلقي نفسك ونوى عددا فهو على ما نوى وإن أطلق من غير نية لم يملك إلا واحدة لأن الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم وكذلك الحكم لو وكل أجنبيا فقال طلق زوجتي فالحكم على ما ذكرناه قال أحمد : إذا قال لامرأته طلقي نفسك ونوى ثلاثا فطلقت نفسها ثلاثا فهي ثلاث وإن كان ونوى واحدة فهي واحدة وذلك لأن الطلاق يكون واحدة وثلاثا فأيهما نواه فقد نوى بلفظه ما احتمله وإن لم ينو تناول اليقين وهو الواحدة فإن طلقت نفسها أو طلقها الوكيل في المجلس أو بعده وقع الطلاق لأنه توكيل قال القاضي : إذا قال لها طلقي نفسك تفيد بالمجلس لأنه تفويض للطلاق إليها فتقيد بالمجلس كقوله اختاري
ولنا أنه توكيل في الطلاق فكان على التراخي كتوكيل الأجنبي وكقوله أمرك بيدك وفارق اختاري فإنه تخيير وما ذكروه ينتقض بقوله أمرك بيدك ولها أن توقع الطلاق بلفظ الصريح وبالكناية مع النية وقال بعض أصحاب الشافعي : ليس لها أن توقعه بالكناية لأنه فوضه إليها بلفظ الصريح فلا يصح أن توقع غير ما فوض إليها
ولنا أنه فوض إليها الطلاق وقد أوقعته كما لو أوقعته بلفظ الصريح وما ذكره صحيح فإن التوكيل في شيء لا يقتضي أن يكون إيقاعه بلفظ الأمر من جهته كما لو قال لوكيله بع داري جاز له بيعها بلفظ االتمليك وإن قال لها طلقي ثلاثال فطلقت واحدة وقع نص عليه وقال مالك لا يقع شيء لأنها لم تمتثل أمره
ولنا أنها ملكت إيقاع ثلاث فملكت إيقاع واحدة كالموكل ولأنه لو قال وهبتك هؤلاء العبيد الثلاثة فقال : قبلت واحدا منهم صح كذا ههنا وإن قال طلقي واحدة فطلقت ثلاثا وقعت واحدة نص عليه أيضا وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يقع شيء لأنها لم تأت بما يصلح قبولا فلم يصح كما لو قال بعتك نصف هذا العبد فقال : قبلت البيع في جميعه
ولنا أنها أوقعت طلاقا مأذونا فيه وغيره فوقع المأذون فيه دون غيره كما لو قال طلقي نفسك فطلقت نفسها وضرائرها فإن قال طلقي نفسك فقالت أنا طالق إن قدم زيد لم يصح لأن إذنه انصرف إلى المجز فلم يتناول المعلق على شرط وحكم توكيل الأجنبي في الطلاق كحكمها في ما ذكرناه كله
فصل : نقل عنه أبو الحارث إذا قال طلقي نفسك طلاق السنة قالت : قد طلقت نفسي ثلاثا هي واحدة وهو أحق برجعتها إنما كان كذلك لأن التوكيل بلفظ يتناول أقل ما يقع عليه اللفظ وهو طلقة واحدة سيما وطلاق السنة في الصحيح طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه
فصل : ويجوز أن يجعل أمر امرأته بيدها بعوض وحكمه حكم ما لا عوض له في أن له الرجوع فيما جعل لها وانه يبطل بالوطء قال أحمد إذا قالت امرأته اجعل أمري بيدي وأعطيك عبدي هذا قبض العبد وجعل أمرها بيدها فلها أن تختار ما لم يطأها أو ينقضه وذلك لأنه توكيل والتوكيل لا يلزم بدخول العوض فيه وكذلك التمليك بعوض لا يلزم ما لم يتصل به القبول كالبيع
فصل : إذا اختلفا فقال الزوج لم أنو الطلاق بلفظ الاختيار وأمرك بيدك وقالت بل نويت كان القول قوله لأنه أعلم بنيته ولا سبيل إلى معرفته إلا من جهته ما لم يكن جواب سؤال أو معها دلالة حال
وإن قال لم تنو الطلاق باختيار نفسك وقالت بل نويت فالقول قولها لما ذكرنا وإن قالت قد اخترت نفسي وأنكر وجود الاختيار منها فالقول قوله لأنه منكر له وهو مما يمكنه علمه وتمكنها إقامة البينة عليه فأشبه ما لو علق طلاقها على دخول الدار فادعته فأنكره
فصل : إذا قال لزوجته أنت علي حرام وأطلق فهو ظهار وقال الشافعي لا شيء عليه وله قول آخر عليه كفارة يمين وليس بيمين وقال أبو حنيفة : هو يمين قد روي ذلك عن أبي بكر وعنر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهم وقال سعيد : حدثنا خالد بن عبد الله عن جويبر عن الضحاك أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا في الحرام يمين وبه قال ابن عباس و سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعن أحمد ما يدل على ذلك لأن الله تعالى قال : { لم تحرم ما أحل الله لك } ثم قال : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال ابن عباس قوله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ولأنه تحريم للحلال أشبه تحريم الأمة
ولنا أنه تحريم للزوجة بغير طلاق فوجبت به كفارة الظاهر كما لو قال أنت فلي حرام كظهر أمي فأما إن نوى غير الظهار عثمان بن عفان وابن عباس وأبو قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبتي روى الأثرم تإسناده عن ابن عباس في الحرام أنه تحرير رقبة فإن لن يجد فصيام شهرين متتابعين أو اطعام ستين مسكينا ولأنه صريح في تحريمها فكان ظهارا وإن نوى غيره كقوله أنت علي كظهر أمي وعن أحمد أنه إذا نوى الطلاق كان طلاقا إذا قال : ما أحل الله علي حرام يعني به الطلاق أخاف أن يكون ثلاثا ولا أفتى به وهذا مثل قوله في الكنايات الظاهرة فكأنه من كنايات الطلاق يقع به الطلاق إذا نواه ونقل عنه البغوي في رجل قال لامرأته أمرك بيدك فقالت : أنا عليك حرام فقد حرمت عليه فجعله منها كناية في الطلاق فكذلك من الجل واختاره ابن عقيل وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي وروي ذلك عن ابن مسعود وممن وري عنه أنه طلاق ثلاث علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة و الحسن البصري و ابن أبي ليلى وهو مذهب مالك في المدخول بها لأن الطلاق نوع تحريم فصح أن يكنى به عنه كقوله أنت بائن فأما إن لم ينو الطلاق فلا يكون طلاقا بحال لأنه ليس بصريح في الطلاق فإذا لم ينو معه لم يقع به طلاق كسائر الكنايات
وإن قلنا إنه كناية في الطلاق ونوى به فحكمه حكم الكنايات الظاهرة على ما مضى من الاختلاف فيها وهو قول مالك و أبي حنيفة و الشافعي كل على أصله ويمكن حمله على الكنايات الخفية إذا قلنا إن الرجعة محرمة لأن أقل ما تحرم به الزوجة طلقة رجعية فحمل على اليقين وقد روي عن أحمد ما يدل عليه فإنه قال إذا قال أنت علي حرام أعني به طلاقا فهي واحدة وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه و الزهري وقد روي عن مسروق و أبي سلمة بن عبد الرحمن و الشعبي ليس بشيء لأنه قول هو كاذب فيه وهذا يبطل بإظهار فإنه منكر من القول وزور وقد وجبت الكفارة ولأن هذا إيقاع للطلاق فأشبه قوله أنت بائن أو أنت طالق وروي عن أحمد أنه إذا نوى اليمين كان فإنه قال في رواية مهنا إنه إذا قال أنت علي حرام ونوى يمينا ثم تركها أربعة أشهر قال هو يمين وإنما الإيلاء أن يحلف بالله أو لا يقرب امرأته فظاهر هذا أنه إذا نوى اليمين كانت يمينا وهذا مذهب ابن مسعود وقول أبي حنيفة و الشافعي وممن روي عنه : عليه كفارة يمين أبو بكر الصديق وعمر وابن عباس وعائشة و سعيد بن المسيب والحسن و عطاء و طاوس و سليمان بن يسار و قتادة و الأوزاعي وفي المتفق عليه عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها وقال : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ولأن الله تعالى قال : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فجعل الحرام يمينا ومعنى قوله نوى يمينا والله أعلم أنه نوى بقوله أنت علي حرام ترك وطئها واجتنابها وأقام ذلك مقام قوله والله لا وطئتك
فصل : وإن قال أنت علي حرام أعني به الطلاق فهو طلاق رواه الجماعة عن أحمد وروى عنه أبو عبد الله النيسابوري أنه قال إذا قال أنت علي حرام أريد به الطلاق كنت أقول إنها طالق يكفر كفارة الظهار وهذا كأنه رجوع عن قوله إنه طلاق ووجه أنه صريح في الظهار فلم يصر طلاقا بقوله أريد به الطلاق كما لو قال : أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق قال القاضي : ولكن جماعة أصحابنا عللا أنه طلاق وهي الرواية المشهورة التي رواها عنه الجماعة لأنه صرح بلفظ الطلاق فكان طلاقا كما لو ضربها وقال هذا طلاقك وليس هذا صريحا في الظهار إنما هو صريح في التخريم والتحريم يتنوع إلى تحريم بالظاهر وإلى تحريم بالطلاق فإذا بين بلفظه إرادة تحريم الطلاق وجب صرفه إليه وفارق قوله أنت علي كظهر أمي فإنه صريح في الظهار وهو تخريم لا يرتفع إلا بالكفارة فلم يمكن جعل ذلك طلاقا بخلاف مسألتنا ثم إن قال أعني به الطلاق أو نوى به ثلاثا فهي ثلاث نص عليه أحمد لأنه أتى بالألف واللام التي للا ستغراق تفسيرا للتحريم فيدخل فيه الطلاق كله
وإذا نوى الثلاث فقد نوى بلفظه ما يحتمله من الطلاق فوقع كما لو قال : أنت بائن وعنه لا يكون ثلاثا حتى ينوبها سواء كانت فيه الألف واللام أو لم تمن لأن الألف واللام تكون لغير الاستغراق في أكثر أسماء الأجناس وإن قال أعني له طلاقا فهو واحدة لأنه ذكره منكرا فيكون طلاقا واحدا نص عليه أحمد وقال في رواية حنبل : إذا قال أعني طلاقا فهي واحدة أو اثنتان إذا لم تكن فيه ألف ولام
فصل : فإن قال : أنت علي كظهر أمي ونوى به الطلاق لم يكن طلاقا لأنه صريح في الظهار فلم يصلح كناية في الطلاق كما لا يكون الطلاق كفاية في الظهار ولأن الظهار تشبيه بمن هي محرمة على التابيد والطلاق يفيد تحريما غير مؤبد فلم تصلح الكناية بأحدهما عن الآخر ولو صرح به فقال أعني به الطلاق لم يصر طلاقا لأنه لا يصلح الكناية به عنه
فصل : وإن قال : أنت : علي كالميته والدم ونوى به كان طلاقا لأنه يصلح أن يكون كناية فيه فإذا اقتربت به النية وقع به الطلاق ويقع به من عدد الطلاق مانواه فإن لم ينو شيئا وقعت واحدة لأنه من الكنايات الخفية وهذا حكمها وإن نوى به الظهار وهو أن يقصد تحريمها عليه مع ببقاء نكاحها احتمل أن يكون ظهارا كما قلنا في قوله أنت علي حرام واحتمل أن لا يكون ظهرا كما لو قال أنت علي كزهر البهيمة أو كظهر أمي وإن نوى اليمين وهو أن يريد بذلك وطئها لا تحريمها ولا طلاقها فهو يمين وإن لم ينو شيئا لم يكن طلاقا لأنه ليس بصريح في الطلاق ولا نواه به وهل يكون ظهارا أو يمينا على وجهين
أحدهما : يكون ظهارا لأن معناه أنت حرام علي كالميتة والدم فإن تشبيهها بهما يقيضي التشبيه بهما في الأمر الذي اشتهرا به وهو التحريم لقول اله تعالى فيهما : { حرمت عليكم الميتة والدم }
الثاني : يكون يمينا لأن الأصل براءة الذمة فإذا أتى بلفظ محتمل ثبت به أقل الحكمين لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه فلا نثبته بالشك ولا نزول عن الأصل إلا بيقين وعند الشافعن هو كقوله أنت علي حرام سواء (8/298)
مسألة : وإذا طلقها بلسان واستثنى شيئا بقلبه
مسألة : قال : وإذا طلقها بلسانه واستثنى شيئا بقلبه وقع الطلاق ولم ينفعه
الاستثناء
وجملة ذلك أن ما يتصل بالفظ من قرينة أو استثناء على ثلاثة أضرب :
أحدها : ما لا يصح نطقا ولا نية وذلك نوعان : أحدهما : ما يرفع حكم اللفظ كله مثل أن يقول أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا أ أ ت طالث طلقة لا تلزمك أو لا تقع عليك فهذا لا يصح بلفظ ولا بنيه لأنه يرفع حكم اللفظ كله فيصير الجميع لغوا فلا يصح هذا في اللغة بالاتفاق وإذا كان كذلك سقط الاستثناء والصفة ووقع الطلاق
الضرب الثاني : ما يقبل لفظا ولا يقبل نية لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى وهو استثناء الأقل فهذا يصح لفظا لأنه من لسان العرب ولا يصح بالنية مثل أن يقول أنت طالق ثلاثا ويستثني بقلبه إلا واحدة أو أكثر فهذا لا يصح لأن العدد نص فيما تناوله لا يحتمل غيره فلا يرتفع بالنية ما ثبت بنص اللفظ فإن اللفظ أقوى من النية ولو نوى بالثلاث اثنتين كان مستعملا للفظ في غير ما يصلح له فوقع مقتضى اللفظ ولغت نيته
وحكي عن بعض الشافعي أنه يقبل فيما بينه وبين الله تعالى كما لو قال : نسائي طوالق واستثنى بقلبه إلا فلانه والفرق بينهما أن نسائي أسم عام يجوز التعبير عن بعض ما وضع له وقد استعمل العموم بازاء الخصوص كثيرا فإذا أراد به البعض صح وقوله ثلاثا أسم عدد للثلاث لا يجوز التعبير به عن عدد غيرها ولا يحتمل سواها بوجه فإذا أراد بذلك اثنتين فقد أراد بالفظ مالا يحتمله وإنما تعمل النية في صرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته فأما ما لا يحتمل فلا فانا لو عملنا به فيما لا يحتما كان عملا بمجرد النية ومجرد النية لا تعمل عن نكاح ولا طلاق ولا بيع ولو قال نسائي الأربع طوالق أو قال لهن : أر بعتكن طوالق واستثني بعضهن بالنية لم يقبل على قياس ما ذكرناه ولا يدين فيه لأنه عني باللفظ ما لا يحمل
الضرب الثالث : ما يصح نطقا وإذا نواه دين فيما بينه وبين الله تعالى وذلك مثل تخصيص اللفظ العام أو استعمال اللفظ في مجازه مثل قوله نسائي طوالق يريد بعضهن أو ينوي بقوله طالق أي من وثاق فهذا يقبل إذا كان لفظا وجها واحدا لأنه وصل كلامه بما يبين مراده وإن كان بنيته قبل فيما بينه وبين الله تعالى لأنه أراد يخصيص اللفظ العام واستعماله في الخصوص وهذا سائغ في اللغة شائع في الكلام فلا يمنع من استعماله والتكلم به ويكون اللفظ بنيه منصرفا إلى ما أراده دون ما لم يرده وهل يقبل ذلك في الحكم ؟ يخرج على روايتين
إحداهما : يقبل لأنه فسر كلامه بما يحتمله فصح كما لو قال أنت طالق أنت طالق وأراد بالثانية إفهامها
والثانية : لا يقبل لأنه خلاف الظاهر وهو مذهب الشافعي ومن شرط هذا أن تكون النية مقارنة للفظ وهو أن يقول نسائي طوالق يقصد بهذا اللفظ بعضهن فأما إن كانت النية متأخرة عن اللفظ فقال نسائي طوالق ثم بعد فراغه نوى بقلبه بعضهن لم تنفعه النية ووقع الطلاق بجميعهن وكذلك لم طلق نساءه ونوى بعد طلاقهن أي من وثائق لزمه الطلاق لأنه مقتضى اللفظ والنية الأخير نية مجردة لا لفظ معها فلا تعمل
ومن هذا الضرب يخصيص حال دون حال مثل أن يقول أنت طالق ثم يصله بشرط أو صفة مثل قوله إن دخلت الدار أو بعد شهر أو قال : إن دخلت الدار بعد شهر فهذا يصح إذا كان نطقا بغير خلاف وإن نواه ولم يلفظ به دين وهل يقبل في الحكم ؟ على روايتين قال في رواية إسحاق بن ابراهيم فيمن حلف لا تدخل الدار وقال :
نويت شهرا يقبل منه أو قال : إذا دخلت دار فلان فأنت طالق ونوى تلك الساعة
وذلك اليوم قبلت نيته
والرواية الأخرى : لا يقبل فإنه قال لامرأته أنت طالق ونوى في نفسه إلى سنة تطلق ليس ينظر إلى نيته وقال : إذا قال أنت طالق وقال : نويت إن دخلت الدار لا يصدق ويمكن الجمع بين هاتين الروايتين بأن يخمل قوله في القبول على أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى وقوله في عدم القبول على الحكم فلا يكون بينهما اختلاف والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها أن إرادة الخاص بالعام شائع كثير وإرادة الشرط من غير ذكره غير سائغ فهو قريب من الاستثناء ويمكن أن يقال هذا كله من جملة التخصيص (8/308)
فصول : اعتبار النية في الطلاق وعدم اعتبارها
فصل : وإذا قالت له امرأة من نسائه : طلقني فقال : نسائي طوالق ولا نية له طلقن كلهن بغير خلاف لأن لفظه عام وإن قالت له : طلق نساءك فقال : نسائي طوالق فكذلك وحكي عن مالك أن السائلة لا تطلق في هذه الصورة لأن الخطاب العام يقصر على سببه الخاص وسببه سؤال طلاق من سواها
ولنا أن اللفظ عام فيها ولم يرد به غير مقتضاه فوجب العمل بعمومه كالصورة الألى والعمل بعموم اللفظ أولى من خصوص السبب لأن دليل هو اللفظ فيجب اتباعه والعمل بمقتضاه في خصوصه وعمومه ولذلك لو كان أخص من السبب لوجب قصره على خصوصه واتباع صفة اللفظ دون صفة السبب فإن أخرج السائلة بنيته دين فيما بينه وبين الله تعالى في الصورتين وقبل في الحكم في الصورة الثانية لأن خصوص السبب دليل على نيته ولم يقبل في الصورة الأولى قاله ابن حامد لأن طلاقه جواب لسؤالها الطلاق لنفسها فلا يصدق في صرفه عنها لأنه يخالف الظاهر من وجهين ولأنها سبب الطلاق وسبب الحكم لا يجوز إخراجه من العموم بالتخصيص وقال القاضي : يحتمل أن لا تطلق لأن لفظه عام والعام يحتمل التخصيص
فصل : فإن قال : أنت طالق إن دخلت الدار ثم قال : إنما أردت الطلاق في الحال لكن سبق لساني إلى الشرط طلقت في الحال لأنه أقر على نفسه بما يوجب الطلاق فلزمه كما لو قال قد طلقتها فإن قال بعد ذلك : كذبت وإنما أردت طلاقها عند الشرط دين في ذلك ولم يقبل في الحكم لأنه رجوع عما أقر به
فصل : وقول الخرقي : وستثنى شيئا بقلبه يدل بمفهومه على أنه إذا استثنى بلسانه صح ولم يقع ما استثناه وهو قول جماعة أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا واحدة انها تطلق طلقتين منهم الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن أبي بكر أن الاستثناء لا يؤثر في عدد الطلقات ويجوز في المطلقات فلو قال : أنت طلق ثلاثا إلا واحدة وقع الثلاث ولو قال نسائي طوالق إلا فلانه لم تطلق لأن الطلاق لا يمكن رفعه بعد إيقاعه والاستثناء يرفعه لو صح وما ذكره من التعليل باطل بما سلمه من الاستثناء في المطلقات وليس الاستثناء رفعا لما وقع إذ لو كان كذلك لما صح في المطلقات ولا الاعتاق ولا في الإقرار ولا الإخبار وإنما هو مبين أن المستثني غير مراد بالكلام فهو يمنع أن يدخل فيه ما لولاه الدخل فقوله تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين } عاما عبارة عن تسعمائة وخمسين وقوله تعالى : { إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني } تبرؤ من غير الله فكذلك قوله أنت طالق ثلاثا إلا واحدة عبارة عن اثنين لا غير وحرف الاستثناء المستولى عليه إلا ويشبه به أسماء وأفعال وحروف فالأسماء غير وسوى والأفعال ليس ولا يكون وعدا والحروف حاشا وخلا فأي كلمة استثني بها صح الاستثناء (8/311)
فصول : بطلان استثناء الأكثر من الأقل في الطلاق وحكم استثناء الاستثناء
ولا يصح استثناء الأكثر نص عليه أحمد فلو قال : أنت طالق ثلاثا لا اثنتين وقع ثلاث والأكثرون على أن ذلك جائز وقد ذكرناه في الإقرار وذكرنا أن أهل العربية إنما أجازوه في القليل من الكثير وحكينا ذلك عن جماعة من أئمة أهل اللغة فإذا قال : أنت طالق إلا واحدة وقع اثنتان وإن قال : الا ثنتين وقع ثلاث وإن قال : طلقتين إلا طلقة ففيه وجهان أحدهما : يقع طلقة والثاني : طلقتان بناء على استثناء النصف هل يصح أو لا ؟ على وجهين وإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا وقع ثلاث بغير خلاف لأن الاستثناء لرفع بعض المستثنى منه فلا يصح أن يرفع جميعه وإن قال : أنت طالق خمسا إلا ثلاثا وقع ثلاث لأن الاستثناء إن عاد إلى الخمس فقد استثنى الأكثر وإن عاد إلى الثلاث التي يملكها فقد رفع جميعها وكلاهما لا يصح وإن قال : خمسا ففيه وجهان أحدهما : يقع ثلاث لأن الكلام مع الاستثناء كأنه نطق بما عدا المستثني فكأنه قال : أنت طالق أربعا والثاني : يقع اثنتان ذكره القاضي لآن الاستثناء يرجع إلى ما ملكه من الطلقات وهي الثلاث وما زاد عليها يلغو وقد استثنى واحدة من الثلاث فيصح ويقع طلقتان
وإن قال أنت طالق أربعا إلا اثنين فعلى الوجه الأول يصح الاستثناء ويقع اثنتان وعلى قول القاضي ينبغي أن لا يصح الاستثناء ويقع ثلاث لأن الاستثناء يرجع إلى الثلاث فيكون استثناء الأكثر
فصل : فإن قال : أنت طالق اثنتين وواحدة إلا واحدة ففيه وجهان أحدهما : لا يصح الاستثناء لأن الاستثناء يرفع الجملة الأخيرة بكمالها من غير زيادة عليها فيصير ذكرها واستثناؤها لغوا وكل استثناء أفضى تصحيحه إلى الغاية وإلغاء المستثنى منه بطل كاستثناء الجميع ولأن إلغاءه وحده أولى من الغائه مع الغاء غيره ولأن الاستثناء ويقع طلقتان لأن العطف ولواو يجعل الجملتين كالجملة الواحدة فيصير مستثنيا لواحدة من ثلاث لذلك لو قال له : علي مائة وعشرون درهما إلا نمسين صح والأول أصح وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي
وإن قال : أنت طالق واحدة واثنتين إلا واحدة فعلى الوجه الثاني يصح الاستثناء وعلى الوجه الأول يخرج في صحته وجهان بناء على استثناء النصف وإن قال : أنت طالق وطالق إلا طلقة أو قال : طالق طلقتين ونصفا إلا طلقة فالحكم في ذلك كالحكم في المسألة الأولى سواء وإن كان العطف بغير واو كقوله أنت طالق فطالق فطالق أو طالق ثم طالق إلا طلقة لم يصح الاستثناء لأن هذه حرف يقتضي الترتيب وكون الطلقة الأخيرة مفردة عما فبلها فيعود الاستثناء إليها وحدها فلا يصح وإن قال : أنت طالق اثنتين واثنتين إلا اثنتين لم يصح الاستثناء لأنه إن عاد إلى الجملة التي تليه فهو رفع لجميعها وإن عاد إلى الثلاث التي يملكها فهو رفع لأكثرها وكلاهما لا يصح ويحتمل أن يصح بناء على أن العطف بالواو يجعل الجملتين جملة واحدة وإن استثناء النصف يصح لأنه استثنى واحدة من ثلاث واحتمل أن لا يصح لأنه إن عاد إلى الرابعة فقد بقي بعدها ثلاث وإن عاد إلى الواحدة الباقية من الاثنتين فهو استثناء الجميع فصل : وإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا طلقة وطلقة وطلقة ففيه وجهان أحدهما : يلغو الاستثناء ويقع ثلاث لأن العطف يوجب اشتراك المعطوف مع المعطوف عليه فيصير مستثنيا لثلاث من ثلاث وهذا وجه لأصحاب الشافعي وقول أبي حنيفة والثاني : يصح الاستثناء في طلقة لأن استثناء الأقل جائز وإنما لا يصح استثناء الثانية والثالثة فيلغو وحده وقال أبو يوسف و محمد : يصح استثناء اثنتين ويلغو في الثالثة بناء على أصلهم في أن استثناء الأكثر جائز وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي وإن قال : أنت طالق طلقتين إلا طلقة وطلقة ففيه الوجهان وإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا طلقة ونصف احتمل وجهين أيضا
أحدهما : يلغو الاستثناء لأن النصف يكمل فيكون مستثنيا للأكثر فيلغو
والثاني : يصح في طلقة فتقع طلقتان لما ذكرنا في التي قبلها فإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وإلا واحدة كان عاطفا على الستثناء فيصح الأول ويلغو الثاني لأننا لو صححناه لكان مستثنيا للأكثر فيقع به طلقتان ويجيء على قول من أجاز استثناء الأكثر أن يصح فيهما فتقع طلقة واحدة وإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا واحدة كان مستثنيا من الواحدة المستثناة واحدة فيحتمل أن يلغو الاستثناء القاني ويصح الأول فيقع به طلقتان ويحتمل أن يقع به الثلاث لأن الاستثناء الثاني معناه إثبات طلقة في حقها لكون الاستثناء من النفي إثلاتا فيقبل ذلك في إيقاع طلاقه وإن لم يقبل في نفيه كما لو قال : أنت طالق طلقتين ونصفا وقع به ثلاث ولو قال : أنت طالق ثلاثا إلا نصف طلقة وقع به ثلاث فكمل النصف في الإثبات ولم يكمبق في النفي
فصل : ويصح الاستثناء من الاستثناء ولا يصح منه في الطلاق إلا مسألة واحدة على اختلاف فيها وهي قوله أنت طالق ثلاثا إلا واحدة فإنه يصح إذا أجزنا استثناء النصف فيقع به طلقتان فإن قيل فكيف أجزتم استثناء الاثنين من الثلاث وهي أكثرها ؟ قلنا لأنه لم يسكت عليها بل وصلهما بأن لستثنى منها طلقة فصار عبارة عن واحدة وإن قا ل : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنين لم يصح لأن استثنيء الاثنين من الثلاث لا يصح لأنهما أكثرها واستثناء الثلاث من الثلاث لا يصح لأنها جميعها وإن قال : ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة لم يصح ووثع ثلاث لأنه إذا استثنى واحدة من ثلاث بقي اثنتان لا يصح ايتثناؤهما من الثلاث الأولى فيقع الثلاث وذكر أبو الخطاب فيها وجها آخر أنه يثح أن الاستثناء الأول يلغو كونه استثناء الجميع فيرجع قوله إلا واحدة إلى الثلاث المثبتة فيقع منها طلقتان والأول أولى لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات فإذا استثنى من الثلاث المنفية طلقة كان مثبتا لها فلا يجوزجعلها من الثلاث المثبتة لأنه يكون إثباتا من إثبات ولا يصح الا ستثناء في جميع ذلك إلا متصلا بالكلام وقد ذكر في الإقرار والله أعلم (8/313)
مسألة وفصل : متى حدد زمنا للطلاق وقع في أول جزء منه
مسألة : قال : وإذا قال لها أنت طالق في شهر كذا لم تطلق حتى تغيب شمس اليوم الذي يلي الشهر المشترط
وجملة ذلك أنه إذا قال : أنت طالق في شهر عينه كشهر رمضان وقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولى منه وذلك حين تغرب الشمس من آخر يوم من الشهر الذي قبله وهو شهر شعبان وبهذا قال أبو حنيفة وقال أبو ثور : يقع الطلاق في آ خر رمضان لأن ذلك يحتمل وقوعه في أوله وآخره فلا يقع إلا بعد زوال الاحتمال ولنا أنه جعل الشهر ظرفا للطلاق فإذا وجد ما يكون ظرفا له طلقت كما لو قال : إذا دخلت الدار فأنت طالق فإذا دخلت أول جزء منها طلقت فأما إن قال : إن لم أقضك حقك في شهر رمضان فامرأتي طالق لم تطلق حتى يخرج رمضان قبل قضائه لأنه إذا قضاه في آخر لم توجد الصفة وفي الموضعين لا يمنع من وطء زوجته قبل الحنث وقا لمالك : يمنع وكذلك كل يمين على فعل يفعله يمنع من الوطء فعله لأن الظاهر أنه على حنث لأن الحنث بترك الفعل وليس بفاعله
ولنا أن طلاقه لم يقع فلا يمنع من الوطء لأجل اليمين كما لو حلف لا فعلت كذا ولو صح ما ذكره لوجب إيقاع الطلاق
فصل : ومتى جعل زمنا ظرفا للطلاق وقع الطلاق في أول جزء منه مثل أن يقول أنت طالق اليوم أو غدا أو في سنة كذا أو شهر المحرم لما ذكرنا فإن قال : في آخره أو أوسطه أو يوم كذا منه أو في النهار دون الليل قبل منه فيما بينه وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين
وإن قال : أنت طالق في أول رمضان أو غرة رمضان أو في رأس شهر رمضان أو دخول شهر رمضان أو استقبال رمضان أو مجيء شهر رمضان طلقت بأول جزء منه ولم يقبل قوله أردت أوسطه أو آخر لا ظاهرا ولا باطنا لأنه لا يحتمله لفظه وإن قال : بانقضاء رمضان أو انسلاخه أو نفاده أو مضيه طلقت في آخر جزء منه وإن قال : أنت طالق في أول نهار شهر رمضان أو في أول يوم منه طلقت بطلوع فجر أول يوم منه لأن ذلك أول نهار واليوم وهذا لو يذر اعتكاف يوم أو صيام يوم لزمه من طلوع الفجر وإن قال : أنت طالق إذا كان رمضان أو إلى رمضان أو إلى هلال رمضان أو في هلال رمضان طلقت ساعة يستهل الا أن يكون نوى من الساعة إلى الهلال فتطلق في الحال وإن قال : أنت طالق في مجيء ثلاثة أيام طلقت في أول اليوم الثالث (8/317)
فصول : حكم تعليق الطلاق بزمن أو صفة أو شرط ونحوه
فصل : وإذا أوقع الطلاق في زمن أو علقه بصفة يعلق بها ولم يقع حتى تأتي الصفة والزمن وهذا قول ابن عباس و عطاء و جابر بن زيد و النخعي و أبي هاشم و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبي عبيد وأصحاب الرأي وقال سعيد بن المسيب و الحسن و الزهري و قتادة و يحيى الأنصاري و ربيعة و مالك : إذا علق الطلاق بصفة تأتي لا محالة كقوله أنت طالق إذا طلقت الشمس أو دخل رمضان طلقت في الحال لأن النكاح لا يكون مؤقتا بزمان ولذلك لا يجوز أن يتزوجها شهرا
ولنا أن عباس كان يقول في الرجل يقول لا مرأته أنت طالق إلى رأس السنة قال : يطأ فيما بينه وبين رأس السنة ولأنه إزالة ملك يصح تعليقه بالصفات فمتى علقه بصعة لم يقع قبلها كالعتيق فإنهم سلموه وقد احتج أحمد بقول أبي ذر إن لي إبلا يرعاها عبد لي وهو عتيق إلى الحول ولأنه تعليق للطلاق بصفة لم توجد فلم يقع كما لو قال : أنت طالق إذا قدم الحاج وليس هذا توقيتا للنكاح وإنما هو توقيت للطلاق وهذا لا يمنع كما أن النكاح لا يجوز أن يكون معلقا بشرط والطلاق يجوز فيه التعليق
فصل : ولو قال : أنت طالق إلى شهر كذا أو سنة كذا فهو كما لو قال : في شهر كذا أو سنة كذا ولا يقع الطلاق إلا في أول ذلك الوقت وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يقع في الحال لأن قوله أنت طالق إيقاع في الحال وقوله إلى شهر كذا يأقيت له وغاية وهو لا يقبل التأقيت فبطل التأقيت ووقع الطلاق
ولنا قول ابن عباس وقول أبي ذر ولأن هذا يحتمل أن يكون توقيتا لإيقاعه كقول الرجل أنا خارج إلى سنة أي بعد سنة وإذا احتمل الأمرين لم يقع الطلاق بالشك وقد يرجح ما ذكرناه من وجهين : أحدهما : أنه جعل للطلاق غاية ولا غاية لآخره وإنما الغاية لأوله
الثاني : أن ما ذكرناه عمل باليقين وما ذكروه أخذ بالشك فإن قال : أردت أنها طالق في الحال إلى سنة كذا وقع في الحال لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ ولفظه يحتمله وإن قال : أنت طالق من اليوم إلى سنة طلقت في الحال لأن من لابتداء الغاية فيقتضي أن طلاقها من اليوم فإن قال : أردت أن عقد الصفة من اليوم ووقوعه بعد سنة لم يقع إلا بعدها وإن قال أردت تكرير وقوع طلاقها من حين لفظت به إلى سنة طلقت من ساعتها ثلاثا إذا كانت مدخولا بها قال أحمد : أنت طالق من اليوم إلى سنة يريد التوكد وكثرة الطلاق فتلك طالق من ساعتها
فصل : إذا قال : أنت طالق في آخر أول الشهر طلقت في آخر أول يوم منه لأنه أوله وإن قال : في أول آخره طلقت في أول آخر يوم منه لأنه آخره وقال أبو بكر في الأولى تطلق بغروب الشمس من اليوم الخامس عشر منه وفي الثانية تطلق بدخول أول ليلة السادس عشر منه لأن الشهر نصفان أول وآخر : فآخر أوله يلي أول آخره وهذا قول أبي العباس بن شريح وقال : أكثرهم كقولنا وهو أصح فإن ما عدا اليوم الأول لا يسمى أول الشهر ويصح نفيه عنه وكذلك لا يسمى أوسط الشهر آخره ولا يفهم ذلك من إطلاق لفظه فوجب أن لا يصرف كلام الحالف إليه ولا يحمل كلامه عليه
فصل وإذا قال : إذا مضت سنة فأنت طالق أو أنت طالق إلى سنة فإن ابتداء السنة من حين حلف إلى تمام اثني عشر شهرا بالأهلة لقوله تعالى { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } فإن حلف في أو ل الشهر فإذا مضى اثنا عشر شهرا وقع طلاقه وإن حلف في اثناء شهر عدد ما بقي منه ثم حسبت بعد بالأهلة فإذا مضت أحد عشر شهرا نظرت ما بقي من الشهر الأول فكملته ثلاثين يوما لأن الشهر اسم لما بين هلالين فإن تفرق كان ثلاثين يوما وفيه وجه آخر أنه تعتبر الشهور كلها بالعدد نص عليه أحمد فيمن نذر صيام شهرين متتابعين فاعترض الأيام ؟ قال يصوم ستين يوما وإن ابتدأ من شهر فصام شه9رين فكانا ثمانية وخمسين يوما أجزأه وذلك انه لما صام نصف شهر وجب تكميله من الذي يليه فكان ابتداء الثاني من نصفه أيضا فوجب الاعتبار بها كما لو كانت يمينه في أول شهر ولا يلزم أن يتم الأول من الثاني بل يتمه من آخر الشهور وإن قال : أردت بقولي سنة إذا انسلخ ذو الحجة قبل لأنه يقر على يفسه بما هو أغلظ وإن مضت السنة فأنت طالق طلقت بانسلاخ ذي الحجة لأنه لما عرفها بلام التعريف انصرف إلى السنة المعروفة التي آخرها ذو الحجة فإن قال : أردت بالسنة اثني عشر شهرا قبل لأن السنة إسم لها حقيقة
فصل : فإن قال : أنت طالق في كل سنة طلقة فهذه صفة صحيحة لأنه يملك إيقاعه في كل سنة فإذا جعل ذلك صفة جاز ويكون ابتداء المدة عقيب يمينه لأن كل أجل ثبت بمطلق العقد ثبت عقيبه كقوله والله لا كلمتك سنة فيقع في الحال طلقة لأنه جعل السنة ظرفا للطلاق فتقع الأولى في أول جزء منها وتقع الثانية في أول الثانية والثالثة في أول الثالثة إن دخلتا عليها وهي في نكاحه لكونها لم ينقض عدتها أو ارتجعها في عدة الطلقة الأولى وعدة الثانية أو جدد نكاحها بعد أن بانت فإن انقضت عدتها فبانت منه ودخلت السنة الثانية وهي بائن لم تطلق لكونها غير زوجة فإن تزوجها في أثناءها اقتضى قول أكثر أصحابنا وقوع الطلاق عقيب تزويجه لها لأنه جزء من السنة القانية التي جعلها ظرفا للطلاق ومحلاله وكان سبيله أن تقع في أولها فمنع منه كونها غير محل الطلاق لعدم نكاحه حينئذ فإن عادت الزوجية وقع في أولها وقال القاضي : تطلق بدخوق السنة الثالثة وعلى قول التميمي ومن وافقة تنحل الصفة بوجودها في حال البينونة فلا يعود بحال وإن لم يتزوجها حتى دخلت السنة الثالثة ثم نكحها طلقت عقيب تزويجها ثم طلقت الثالثة بدخول السنة الرابعة وعلى قول القاضي لا يطلق إلا بدخول الرابعة ثم تطلق الثالثة بدخول الخامسة وعلى قول التميمي قد انحلت واختلف في مبدأ السنة الثانية فظاهر ما ذكره القاضي أن أولها بعد انقضاء اثني عشر شهرا من حين يمينه لأنه جعل ابتداء المدة حين يمينه وكذلك قال أصحاب الشافعي وقال أبو الخطاب : ابتداء السنة الثانية أول المحرم لأنها السنة المعروفة فإذا علق ما يتكرر على تكرر السنين انصرف إلى السنين المعروفة كقول الله تعالى : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام } وإن قال : أردت بالسنة اثنى عشرا قبل لأنها سنة حقيقة وإن قال : نويت أن ابتداء السنين أول السنة الجديدة من المحرم دين قال القاضي : ولا يقبل منه في الحكم لأنه خلاف الظاهر والأولى أن يخرج على روايتين لأنه محتمل مخالف للظاهر
فصل : إذا قال : أنت طالق إذا رأيت هلال رمضان طلقت برؤية الناس له في أول الشهر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تطلق إلا أن يراه لأنه علق الطلاق برؤية نفسه فأشبه ما لو علقه على رؤية زيد
ولنا أن الرؤية للهلال في عرف الشرع العلم به في أول الشهر بدليل قوله عليه السلام : [ إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا ] والمراد به رؤية البعض وحصول العلم فانصرف لفظ الحالف إلى عرف الشرع كما لو قال : إذا صليت فأنت طالق فإنه ينصرف إلى الصلاة الشرعية لا إلى الدعاء وفارق رؤية زيد فإنه لم يثبت له عرف شرعي يخالف الحقيقة وكذلك لو لم يره أحد لكن ثبت الشهر بتمام العدد طلقت لأنه قد علم طلوعه بتمام العدد وإن قال : أردت إذا رأيته بعيني قبل لأنها رؤية حقيقة وتتعلق الرؤية برؤية الهلال بعد الغروب فإن رأى قبل ذلك لك تطلق لأن هلال الشهر ما كان في أوله ولأننا جعلنا رؤية الهلال عبارة عن دخول أول الشهر ويحتمل أن تطلق برؤيته فيل الغروب لأنه يسمى رؤية والحكم متعلق به في الشرع فإن قال : أردت إذا رأيته أنا بعيني فلم يره حتى أقمر لم بطلق لأنه ليس بهلال واختلف فيما يصير به قمرا فقيل بعد ثالثة وقيل إذا استدار وقيل إذا بهر ضوؤه
فصل : قال أحمد : إذا قال لها أنت طالق ليلة القدر يعتزلها إذا دخل العشر وقبل العشر أهل المدينة يرونها في السبع عشرة إلا أن المثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم في العشر الأواخر إنما أمره باجتنابها في العشر لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالتماس ليلة القدر في العشر الأواخر فيحتمل أن تكون أول ليلة منه ويمكن أن هذا منه على سبيل الاحتياط ولا يتحقق حنثه إلى آخر ليلة من الشهر لاحتمال أن تكون هي تلك الليلة
فصل : وإذا علق طلاقها على شرط مستقبل ثم قال : عجلت لك تلك الطلقة لم تتعجل لأنها معلقة بزمن مستقبل فلم يكن له إلى تغييرها سبيل وإن أراد تعجيل طلاق سوى تلك الطلقة وقعت بها طلقة فإذا جاء الزمن الذي علق الطلاق به وهي في حباله وقع بها الطلاق المعلق
فصل : إذا قال : أنت طالق غدا إذا قدم زيد لم تطلق حتى يقدم لأن إذا اسم زمن مستقبل فمعناه أنت طالق غدا وقت قدوم زيد وإن لم يقدم زيد في غد لم تطلق وإن قدم بعده لأنه قيد طلاقها بقدوم مقيد بصفة فلا فلا يأت وهي محل للطلاق فلم تطلق كما لو ماتت قبل دخول ذلك اليوم وإن قال أنت طالق يوم يقدم زيد فقدم ليلا لم تطلق لأنه لم يوجد الشرط إلا أن يريد باليوم الوقت فتطلق وقت قدومه لأن الوقت يسمى يوما قال الله تعالى : { ومن يولهم يومئذ دبره } وإن ماتت المرأة غدوة وقدم زيد ظهرا ففيه وجهان :
أحدهما نتبين أن طلاقها وقع من أول اليوم لأنه لو قال : أنت طالق يرم الجمعة طلقت من أوله فكذا إذا قال : أنت طالق يوم يقدم زيد ينبغي أن تطلق بطلوع فجره
والثاني : لا يقع الطلاق لأن شرطه قدوم زيد ولم يوجد إلا بعد موت المرأة فلم يقع بخلاف يوم الجمعة فإن شرط الطلاق مجيء يوم الجمعة وقد وجد وههنا شرطان فلا يؤخد بأحدهما والأول أولى وليس هذا شرطا إنما هو بيان للوقت الذي يقع فيه الطلاق معرفا بفعل يقع فيه فيقع في أوله كقوله : أنت طالق اليوم الذي نصلي فيه الجمعة ولو مات الزوجان قبل قدوم زيد كان الحكم كما لو ماتت المرأة ولو قال : أنت طلق في شهر رمضان إن قدم زيد فقدم فيه خرج فيه وجهان
أحدهما : لا تطلق حتى يقدم زيد لأن قدومه شرط فلا يتقدمه المشروط بدليل ما لو قال : أنت طالق أن قدم زيد فإنها لا تطلق قبل قدومه بالاتفاق وكما لو قال : إذا قدم زيد
والثاني : أنه قدم زيد تبينا وقوع الطلاق من أول الشهر قياسا على المسألة التي قبل هذه
فصل : إذا قال : أنت طالق اليوم وطالق غدا طلقت واحدة لأن من طلقت اليوم فهي طالق غدا وإن قال أردت أن تطلق اليوم وتطلق غدا طلقت طلقتين في اليومين وإن قال : أردت أنها تطلق في أحد اليومين طلقت اليوم ولم تطلق غدا لأنه جعل الزمان كله ظرفا لوقوع الطلاق فوقع في أوله وإن قال : أردت نصف طلقة اليوم ونصف طلقة اليوم وباقيها غدا احتمل ذلك أيضا واحتمل أن لا تطلق إلا واحدة لأنه قال : نصفها كملت اليوم كلها فلم يبق لها بقية تقع غدا ولم يقع شيء غيرها لأنه ما أوقعه وذكر القاضي هذا الاحتمال أيضا في المسألة الأولى أيضا وهو مذهب الشافعي وذكر أصحابه فيها الوجهين
فصل : إذا قال : أنت طالق اليوم إذا جاء غد فاختار القاضي أن الطلاق يقع في الحال لأنه علقه بشرط محال علغا الشرط ووقع الطلاق كما لو قال لمن لا سنة لطلاقها ولا بدعة : أنت طالق غد إلا بعد فوات اليوم وذهاب محل الطلاق وهو قول أصحاب الشافعي
فصل : إذا قال : أنت طالق أمس ولا نية له فظاهر كلام أحمد أن الطلاق لا يقع فروي عنه فيمن قال لزوجته أنت طالق أمس وإنما تزوجها اليوم ليس بشيء وهذا قول أبي بكر وقال القاضي في بعض كتبه يقع الطلاق وهو مذهب الشافعي لأنه وصف الطلقة بما لا تتصف به فلغت الصفة ووقع الطلاق كما لو قال لمن لا سنة لها ولا بدعة أنت طالق للسنة أو قال أنت طالق طلقة لا تلزمك ووجه الأول أن الطلاق رفع الاستباحة ولا يمكن رفعها في الزمن الماضي فلم يقع كما لو قال أنت طالق قبل قدوم زيد بيومين فقدم اليوم فإن أصحابنا لم يختلفوا في أن الطلاق لا يقع وهو قول أكثر أصحاب الشافعي وهذا طلاق في زمن ماض ولأنه علق الطلاق بمستحيل فلغا كما لو قال أنت طالق إ قلبت الحجر ذهبا وإن قال أنت طالق قبل أن أتزوجك فالحكم فيه كما لو قال أنت طالق أمس قال القاضي : ورأيت بخظ أبي بكر في جزء مفرد أنه قال إذا أنت طالق قبل أن أتزوجك طلقت ولو قال أنت طالق أمس لم يقع لأن أمس لا يمكن ونوع الطلاق فيه وقبل تزويجها متصور الوجود فإنه يمكن أن يتزوجها ثانيا وهذا الوقت قبله فوقع في الحال كما لو قال أنت طالق قبل قدوم زيد وإن قصد بقوله أنت طالق أمس أو قبل أن أتزوجك إيقاع الطلاق في الحال مستندا إلى ذلك الزمان وقع في الحال وإن أراد الإخبار أنه كان قد طلقها هو أو زوج قبله في ذلك الزمان الذي ذكره وكان قد وجد ذلك قبل منه وإن لم يكن وجد وقع طلاقه ذكره أبو الخطاب وقال القاضي : يقبل على ظاهر كلام أحمد لأنه فسره بما يحتمله ولم يشترط الوجود وإن أراد الي كنت طلقتك أمس فكذبته لزمته الطلقة وعليها العدة من يومها لأنها اعترفت أن أمس لم يكن من عدتها وإن مات ولم يبين مراده فعلى وجهين بناء على اختلاف القولين في المطلق إن قلنا لا يقع به شيء لم يلزمه ههنا شيء وإن قلنا بوقوعه ثم وقع ههنا
فصل : وإن قال لزوجته أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر فقدم بعد شهر وجزء يقع الطلاق فيه تبينا أن طلاقه وقع قبل الشهر لأنه إيقاع للطلاق بعد عقده وبهذا قال الشافعي و زفر وقال أبو حنيفة وصاحباه : يقع الطلاق عند قدوم زيد لأنه جعل الشهر شرطا لوقوع الطلاق فلا يسبق الطلاق شرطه
ولنا أنه أوقع الطلاق في زمن على صفة فإذا حصلت الصفة وقع فيه كما لو قال أنت طالق قبل رمضان بشهر أو قبل موتك بشهر فإن أبا حنيفة خاصة يسلم ذلك ولا يسلم أنه جعل الشهر شرطا وليس فيه حرف شرط وإن قدم قبل مضي شهر لم يقع بغير اختلاف بين أصحابنا وهو قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه تعليق للطلاق على صفة كان وجودها ممكنا فوجب اعتبارها وإن قدم زيد مع مضي الشهر لم تطلق لأنه لابد من جزء يقع الطلاق فيه فإن خالعها بعد تعليق طلاقها بيوم ثم قدم زيد بعد الخلع بشهر وساعة تبينا أن الخلع وقع صحيحا ولم يقع الطلاق لأنه صادفها بائنا وإن قدم بعد عقد الصفة بشهر وساعة وقع الطلاق وبطل الخلع ولها الرجوع بالعوض إلا أن يكون الطلاق رجعيا لأن الرجعية يصح خلعها وإن كانت بحالها فمات أحدهما بعد عقد الصفة بيوم ثم قدم زيد بعد شهر وساعة من حين عقد الصفة لم يرث أحدهما الآخر لأنا تبينا أن الطلاق كان قد وقع قبل موت الميت منها فلم يرثه صاحبه إلا أن يكون الطلاق رجعيا فإنه لا يقطع التوارث ما دامت في العدة فإن قدم بعد الموت بشهر وساعة تبينا أن الفرقة وقعت بالموت ولم يقع طلاق فإن قال أنت طالق قبل موتي بشهر فمات أحدهما قبل مضي شهر لم يقع طلاق لأن الطلاق لا يقع في الماضي وإن مات بعد عقد اليمين بشهر وساعة تبينا وقوع الطلاق في تلك الساعة ولم يتوارثا إلا أن يكون الطلاق رجعيا ويموت في عدتها وإن قال أنت طالق قبل موتي ولم يزد شيئا طلقت في الحال لأن ما قبل موته من حين عقد الصفة محل للطلاق فوقع في أوله وإن قال قبل موتك أو موت زيد فكذلك وإن قال أنت طالق قبل قدوم زيد أو قبل دخولك الدار فقال القاضي : تطلق في الحال سواء قدم زيد أو لم يقدم بدليل قول الله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } ولم يوجد الطمس في المأمورين ولو قال لغلامه : اسقني قبل أن أضربك فسقاه في الحال عد ممتثلا وإ لم يضر به ولو قال أنت طالق قبيل موتي أو قبيل قدوم زيد لم يقع في الحال وإنما يقع ذلك في الجزء الذي يلي الموت لأن ذلك تصغير يقتضي الصفة بأولهما موتا لأن اعتباره بالثاني يفضي إلى وقوعه بعد موت الأول وأعتباره بالأول لا يفضي إلى ذلك فكان أولى (8/319)
مسألة وفصول : تعليق الطلاق بالطلاق وفروع في تعليق الطلاق والاختلاف فيه
مسألة : قال : وإذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق فإذا طلقها لزمه اثنتان إذا كانت مدخولا بها وإن كانت غير مدخول بها لزمته واحدة
وجملة ذلك لأنه إذا قال لمدخول بها : إذا طلقتك فأنت طالق ثم أنت طالق وقعت واحدة بالمباشرة وأخرى بالصفة لأنه جعل تطليقها شرطا لوقوع طلاقها فإذا وجد الشرط وقع الطلاق وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم تقع الثانية لأنها لا عدة عليها ولا تمكن رجعتها فلا يقع طلاقها إلا بائنا فلا يقع الطلاق ببائن
فصل : فإن قال : عنيت بقولي هذا انك تكونين طالقا بما أوقعته عليه ولم أرد إيقاع طلاق سوى ما باشرتك به دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين إحدهما : لا يقبل وهو مذهب الشافعي لأنه خلاف الظاهر إن هذا تعليق للطلاق بشرط الطلاق ولأن أخباره إياها بوقوع طلاقه بها لا فائدة فيه والوجه الثاني : يقبل قوله لأنه يحتمل ما قاله فقبل كما لو قال لها أنت طالق أنت طالق وقال : أردت بالثاني التأكيد أو إفهامها
فصل : فإن قال إذا طلقتك فأنت طالق ثم علق طلاقها بشرط مثل قوله إن خرجت فانت طالق فخرجت طلقت بخروجها ثم طلقت بالصفة أخرى لأنه قد طلقها بعد عقد الصفة ولو قال أولا إن خرجت فأنت طالق ثم قال إن طلقتك فأنت طالق فخرجت طلقت بالخروج ولم تطلق بتعليق الطلاق بطلاقها لأنه لم يطلقها بعد ذلك ولم يحدث عليها طلاقا لأن إيقاعه الطلاق بالخروج كان قبل تعليقه الطلاق بتطليقها فلم توجد الصفة فلم يقع وإن قال : إن خرجت فأنت طالق ثم قال : إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق فخرجت طلقت بالخروج ثم تطلق الثانية بوقوع الطلاق عليها إن كانت مدخولا بها
فصل : وإن قال لها : كلما طلقت فأنت طالق فهذا حرف يقتضي التكرار فإذا قال لها بعد ذلك أنت طالق وقع بها طلقتان إحداهما بالمباشرة والأخرى بالصفة ولا تقع ثالثة لأن الثانية لم تقع بإقاعه بعد عقد الصفة لأن قوله كلما طلقتك يقتضي كلما أوقعت عليك الطلاق وهذا يقتضي تجديد إيقاع طلاق بعد هذا القول وإنما وقعت الثانية بهذا القول وإن قال لها : بعد عقد الصفة إن خرجت فأنت طالق فخرجت طلقت بالخروج طلقة وبالصفة أخرى لأنه قد طلقها ولم تقع الثالثة وإن قال لها : كلما أوقعت عليك طلاقا فأنت طالق فهو بمنزلة قوله كلما طلقتك فأنت طالق وذكر القاضي في هذه أنه إذا وقع عليها طلاقه بصفة عقدها بعد قوله إذا أوقعت عليه طلاقا فأنت طالق لم تطلق لأن ذلك ليس بإيقاع منه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وفيه نظر فإنه قد أوقع الطلاق عليها بشرط فإذا وجد الشرط فهو الموقع للطلاق عليها فلا فرق بين هذا وبين قوله إذا طلقتك فأنت طالق وإن قال كلما وقع عليه طلاقي فأنت طالق ثم وقعت عليها طلقة بالمباشرة او بصفة عقدها قبل ذلك أو بعده طلقت لثلاثا فلو قال لها : إن خرجت فأنت طالق ثم قال كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم خرجت وقعت عليها طلقة بالخروج ثم وقعت الثانية بوقوع الأولى ثم وقعت الثالثة بوقوع الثانية لن كلما تقتضي التكرار وقد عقد الصفة بوقوع الطلاق فكيفما وقع يقتضي وقوع أخرى ولو قال لها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم قال أنت طالق طلقت ثلاثا واحدة بالمباشرة واثنتين بالصفتين لأن تطليقه لها يشتمل على الصفتين هو تطليق منه وهو وقوع طلاقه ولأنه إذا قال أنت طالق طلقت بالمباشرة واحدة فتطلق الثانية بكونه طلقها وذلك طلاق منه واقع عليها فتطلق به الثالثة وهذا كله في المدخول بها فأما غير المدخول بها فلا تطلق إلا واحدة في جميع هذا وهذا كله مذهب الشافعي و أصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا
فصل : فإن قال كلما طلقتك طلاقا أملك فيه رجعتك فأنت طالق ثم قال أنت طالق طلقت اثنتين إحداهما : بالمباشرة والأخرى : بالصفة إلا أن تكون الطلقة بعوض أو في غير مدخول بها فلا تقع بها ثانية لأنها تبين بالطلقة التي باشرها بها فلا يملك رجعتها فإن طلقها اثنتين طلقت الثالثة وقال أبو بكر : قيل تطلق وقيل لا تطلق واختياري أنها تطلق وقال أصحاب الشافعي لا تطلق الثالثة لأنا لو أوقعناها لم يملك الرجعة ولم يوجد شرط طلاقها فيفضي ذلك إلى الدور فبقطعه يمنع وقوعه
ولنا أنه طلاق لم يكمل به العدد بغير عوض في مدخول بها فيقع بها التي بعدها كالأولى فامتناع الرجعة ههنا لعجزه عنها لا لعدم الملك كما لو طلقها واحدة وأغمي عليه عقيبها فإن الثانية تقع وإن امتنعت الرجعة لعجزه عنها وإن كان الطلاق بعوض أو في غير مدخول بها لم يقع بها إلا الطلقة التي باشرها بها لأنه لا يملك رجعتها وإن قال : كلما وقع عليك طلاق أملك فيه رجعتك فأنت طالق ثم وقع عليها طلقة بمباشرة أو صفة طلقت ثلاثا وعندهم لا تطلق لما ذكرناه في التي قبلها ولو قال لامرأته إذا طلقتك طلاقا أملك فيه الرجعة فأنت طالق ثلاثا ثم طلقها طلقت ثلاثا وقال المزني : لا تطلق وهو قياس قول أصحاب الشافعي لما تقدم
فصل : وإن قال لزوجته إذا طلقتك أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فلا نص فيها وقال القاضي : تطلق ثلاثا واحدة بالمباشرة واثنتان من المعلق وهو قياس قول الشافعي وقول بعض أصحابه وقال ابن عقيل : تطلق واحدة بالمباشرة ويلغو المعلق لأنه طلاق في زمن ماض فلا يتصور وقوع الطلاق فيه وهو قياس نص أحمد وأبو بكر في أن الطلاق لا يقع في زمن ماض وبه قال أبو العباس ابن القاضي من أصحاب الشافعي وقال أبو العباس بن شريح وبعض الشافعية : لا تطلق أبدا لأن وقوع الواحدة يقتضي وقوع ثلاث قبلها وذلك يمنع وقوعها فاثباتها يؤدي إلى نفيها فلا تثبت ولأن إيقاعها يفضي إلى الدور لأنها إذا وقعت وقع قبلها ثلاث فيمتنع وقوعها وما أفضى إلى الدور وجب قطعه من أصله
ولنا أنه طلاق من مكلف مختار في محل لنكاح صحيح فيجب أن يقع كما لو لم يعقد هذه الصفة ولأن عمومات النصوص تقتضي عموم وقوع الطلاق مثل قوله سبحانه : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وقوله سبحانه : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وكذلك سائر النصوص ولأن الله تعالى شرع الطلاق لمصلحة تتعلق به وما ذكروه يمنعه بالكلية ويبطل شرعيته فتفود مصلحته فلا يجوز ذلك بمجرد االرأي والتحكم وما ذكروه غير مسلم فإنا إن قلنا لا يقع الطلاق المعلن فله وجه لأنه أوقعه في زمن ماض ولا يمكن وقوعه في الماضي فلم يقع كما لو قال أنت طالق طالق قبل قدوم زيد بيوم فقدم في اليوم ولأنه جعل الطلقة الواقعة شرطا لوقوع الثلاث ولا يوجد المشروط قبل شرطه فعلى هذا يمتنع وقوع الطلقة المباشرة ولا يفضي إلى دور غيره إن قلنا بوقوع الثلاث فوجهه أنه وصف الطلاق المعلق بما يستحيل وصفه به فلغت الصفة ووقع الطلاق كما لو قال أنت طالق طلقة لا تنقص عدد طلاقك أو لا تلزمك أو قال للآيسة : أنت طالق للسنة أو قال : للبدعة وبيان استحالته أن تعليقه بالشرط يقتضي وقوعه بعده لأن الشرط يتقدم مشروطه ولذلك لو أطلق لوقع بعده وتعقيبه بالفاء فؤ قوله فأنت طالق يقتضي كونه عقبيه وكون الطلاق المعلق بعده قبله محال فلا يصح الوصف به فلغت الصفة الصفة ووقع الطلاق كما لو قال إذا طلقتك فأنت طالق ثلاثا لا تلزمك ثم يبطل كا ذكروه بقوله إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا ثم وجد ما يفسخ نكاحها من رضاع أو وردة أو وطء أمها أو ابنتها بشبهة فإنه يرد عليه ما ذكروه ولا خلاف في انفساخ النكاح قال القاضي : ما ذكروه ذريعة إلى أن يقع عليها الطلاق جملة وإن قال أنت طالق ثلاثا قبيل وقوع طلاقي بك واحدة او قال أنت طالق اليوم ثلاثا إن طلقتك غدا واحدة فالكلام عليها من وجه آخر وهو وارد على المسألتين جميعا وذلك أن الطلقة الموقعة يقتضي وقوعها ما لا يتصور وقوعها معه فيجب أن يقضي بوقوع الطلقة الموقعة دون ما تعلق بها لأن ما تعلق بها تابع ولا يجوز إبطال المتبوع لامتناع حصول التبع فيبطل التابع وحده كما لو قال في مرضه إذا أعتقت سالما فغانم حر ولم يخرج من ثلثه إلا أحدهما فإن سالما يعتق وحده ولا يقرع بينهما لأن ذلك ربما أدى إلى عتق المشروط دون الشرط وذلك غي جائز ولا فرق بين أن يقول فغانم حر قبله أو معه أو بعده أو تطلق كذا ههنا
فصل : اختلف أصحابنا في الحلف بالطلاق فقال القاضي في الجامع و أبو الخطاب هو تعليقه على شرط أي شرط كان إلا قوله إذا شئت فانت طالق ونحوه فإنه تمليك وإذا حضت فأنت طالق فإنه طلاق بدعة وإذا طهرت فأنت طالق فإنه طلاق سنة وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك يسمى حلفا عرفا فيتعلق الحكم به كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ولأن في الشرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فاأشبه قوله والله وبالله وتالله وقال القاضي في المجرد هو تعليقه على شرط يقصد به الحث على الفعل أو المنع منه كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق وإن لم تدخلي فأنت طالق أو على تصديق خبره مثل قوله أنت طالق لقد قدم زيد أو لم يقدم فأما التعليق على غير ذلك كقوله أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج أو إن لم يقدم السلطان فهو شرط محض ليس يحلف لأن حقيقة الحلف القسم وإنما سمي تعليق الطلاق على شرط حلفا تجوزا لمشاركته الحلف في المعنى المشهور وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر نحو قوله والله لأفعلن او لا أفعل أو لقد فعلت أو لم أفعل وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا وهذا مذهب الشافعي فإذا قال لزوجته إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال : إذا طلعت الشمس فأنت طالق لم تطلق في الحال على القول الثاني لأنه ليس بحلف وتطلق على الأول لأنه حلف وإن قال : كلما كلمت أباك فانت طالق طلقت على القولين جميعا لأنه علق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا كما لو قال إن دخلت الدار فانت طالق وإن قال : إن حلفت بطلاقك فانت طالق وينعقد شرط طلقة أخرى وبهذا قال الشافعي و أصحاب الرأي وقال أبو ثور : ليس ذلك بحلف ولا يقع الطلاق بتكراره لأنه تكرار للكلام فيكون تأكيدا لا حلفا
ولنا أنه تعليق للطلاق على شرط يمكن فعله وتركه فكان حلفا كما لو قال : إن دخلت الدار فأنت طالق ولوه إنه تكرار للكلام حجة عليه فإن تكرار الشيء عبارة عن وجوده مرة أخرى فإذا كان في الأول حلفا فوجد مرة أخرى فقد وجد الحلف مرة أخرى وأما التأكيد فإنما يحمل عليه الكلام المكرر إذا قصده وههنا إن قصد إفهامها لم يقع بالثاني شيء كما لو قال أنت طالق يعني بالثانية إفهامها فأما إن كر ذلك لغير مدخول بها بانت بطلقة ولم يقع أكثر منها فإذا قال لها ذلك ثلاثا بانت بالمرة الثانية ولم تطلق بالثالثة فإن جدد نكاحها ثم أعاد ذلك لها أو قال لها إن تكلمت فأنت طالق أو نحو ذلك لم تطلق بذلك لأن شرط طلاقها انما كان بعد بينونتها
فصل : وإن قال لامرأتيه : كلما حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان ثم أعاد ذلك ثلاثا طلقت كل واحدة منهما ثلاثا لما ذكرنا فإن كانت إحداهما غير مدخول بها بانت بالمرة الثانية فإذا أعاده مرة ثالثة لم تطلق واحدة منهما لأن غير المدخول بها بائن فلم تكن إعادة هذا القول حلفا بطلاقها وهي غير زوجته فلم يوجد الشرط فإن شرط طلاقهما الحلف بطلاقهما جميعا فإن جدد النكاح البائن ثم قال لها : إن تكلمت فأنت طالق فقد قيل يطلقان حينئذ لأنه صار بهذا حالفا بطلاقها وقد حلف بطلاق المدخول بها بإعادة قوله في المرة الثالثة بائن فلم تنعقد الصفة بالإضافة إليها كما لو قال لأجنبية : إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم تزوجها وحلف بطلاقها ولكن تطلق المدخول بها حينئذ لأنه قد حلف بطلاقها في المرة الثالثة وحلف بطلاق هذه حينئذ فكمل شرط طلاقها فطلقت وحدها
فصل فإن كانت له امرأتان حفصة وعمرة فقال إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق ثم أعاده لم تطلق واحدة منهما لأن هذا حلف بطلاق عمرة وحدها فلم يوجد الحلف بطلاقهما وإن قال : بعد ذلك إن حلفت بطلاقكما فحفصة طالق طلقت عمرة لأنه حلف بطلاقهما بعد تعليقه طلاقها على الحلف بطلاقهما ولم تطلق حفصة لأنه ما حلف بطلاقهما بعد تعليقه طلاقها عليه فإن قال بعد هذا إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق لم تطلق واحدة منهما لأنه لم يحلف بطلاقهما إنما حلف بطلاق عمرة وحدها فإن قال بعد هذا إن حلفت بطلاقكما فحفصة طالق طلقت حفصة وعلى هذا القياس
فصل : وإن قال لاحداهما : إن حلفت بطلاقك فضرتك طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك طلقت الثانية لأن اعادته للثانية هو حلف بطلاق الأولى وذلك شرط الثانية ثم إن أعاد للأولى طلقت ثم كلما أعاده على هذا الوجه لامرأة طلقت حتى يكمل للثانية ثلاث ثم أعاده للأولى لم تطلق لأن الثانية قد بانت منه فلم يكن ذلك حلفا بطلاقها ولو قال هذا القول لامرأة ثم أعاده لها لم تطلق به واحدة منهما لأن ذلك ليس بحلف بطلاقها إنما هو حلف بطلاق ضرتها ولم يعلق على ذلك طلاقا وإن قال للأولى إن حلفت بطلاق ضرتك فانت طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك طلقت الأولى لأن قوله للثانية حلف بطلاقها وشرط لوقوع الطلاق بالأولى ثم إن أعاده للأولى طلقت الثانية ثم كلما اعاده لامرأة منهما على هذا الوجه طلقت الأخرى فغن كان إحداهما غير مدخول بها فطلقت مرة بانت ولم تطلق صاحبتها باعادة ذلك لها لأنه ليس بحلف بطلاقها لكونها بائنا فهي كسائر الأجنبيات وإن قال لإحداهما : إذا حلفت بطلاق ضرتك فهي طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك لم تطلق واحدة منهما ثم إن أعاد ذلك لاحداهما طلقت الأخرى ثم إن أعاده للأخرى طلقت صاحبتها ثم كلما أعاده لامرأة طلقت الأخرى إلا أن تكون إحداهما غير مدخول بها أو لم يبق من طلاقها إلا دون الثلاث فإنها إذا بانت صارت كالأجنبية ولو قال ذلك لامرأته ابتداء ثم أعاده لها طلقت ضرتها بكل إعادة مرة حتى تكمل الثلاث وإن قال لامرأة إذا حلفت بطلاق ضرتك فهي طالق ثم قال للأخرى إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق طلقت في الحال ثم إن قال للأولى مثل ما قال لها أو قال للثانية مثل ما قال لها طلقت الثانية وكذلك الثالثة ولا يقع بالأولى بهذا طلاق لأن الحالف في الموضعين إنما هو بطلاق الثانية
ولو قال للأولى : إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال للثانية : إن حلفت بطلاق ضرتك فهي طالق طلقت الأولى ثم متى أعاد أحد هذين الشرطين مرة أخرى طلقت الأولى مرة ثانية وكذلك الثالثة ولا يقع بالثانية بهذا طلاق ولو قال إحداهما : إذا حلفت بطلاقك فضرتك طالق ثم قل للأخرة إذا حلفت بطلاق ضرتك فأنت طالق لم تطلق واحدة منهما لأنه في الموضعين علق طلاق الثانية على الحلف بطلاق الأولى ولم يحلف بطلاقها ولو أعاد ذلك لهما لم يقع طلاق بواحدة منهما وسواء تقدم القول للثانية على القول للأولى أو تأخر عنه
فصل : وإن كان له ثلاث نسوة فقال إن حلف بطلاق زينب فعمرة طالق ثم قال إن حلفت بطلاق عمرة فحفصة طالق ثم قال إن حلفت بطلاق حفصة فزينب طالق طلقت عمرة وإن جعل مكان زينب عمرة طلقت حفصة ثم متى أعاده بعد ذلك طلقت منهن واحدة على الوجه الذي ذكرناه وإن قال إن حلفت بطلاق زينب فنسائي طوالق ثم قال إن حلفت بطلاق عمرة فنسائي طوالق ثم قال إن حلفت بطلاق حفصة فنسائي طوالق طلقت كل واحدة منهن طلقتين لأنه لما قال إن حلفت بطلاق عمرة فنسائي طوالق فقد حلف بطلاق زينب بعد تعليقه طلاق نسائه على الحلف بطلاقها فطلقت كل واحدة منهن طلقة ولما قال إن حلفت بطلاق حفصة فنسائي طوالق فقد حلف بطلاق عمرة وزينب فطلقت كل واحدة منهن طلقة بحلفه بطلاق عمرة ولم يقع بحلفه بطلاق زينب شيء لأنه قد حنث به مرة فلا يحنث ثانية ولو كان مكان قوله إن كلما طلقت كل واحدة منهن ثلاثا لأن كلما تقتضي التكرار
ولو قال كلما حلفت بطلاق واحدة منكن فأنتن طوالق ثم أعاد ذلك مرة ثانية طلقن ثلاثا ثلاثا لأنه بإعادته حالف بطلاق كل واحدة منهن وحلفه بطلاق كل واحدة شرط لطلاقهن جميعا وإن قال إن حلفت بطلاق واحدة منكن فانتن طوالق ثم اعاد ذلك كل واحدة منهن طلقة لأن إن لا تقتضي التكرار وإن قال بعد ذلك لإحداهن إن قمت فأنت طالق طلقت كل واحدة منهن طلقة أخرى ولو قال : كلما حلفت بطلاقكن فأنتن طوالق ثم أعاد ذلك طلقت كل واحدة طلقة وإن قال بعد ذلك لإحداهن إن قمت فأنت طالق لم تطلق واحدة منهن وإن قال ذلك للأثنتين الباقيتين طلق الجميع طلقة طلقة (8/329)
فصول : استعمال الطلاق والعتاق استعمال القسم
فصل : وإن قال لزوجته إن حلفت بعتق عبدي فأنت طالق ثم قال إن حلفت بطلاقك فعبدي حر طلقت ثم إن قال لعبده : إن حلفت بعتقك فامرأتي طالق عتق العبد وإن قال له : إن حلفت بطلاق امرأتي فأنت حر ثم قال لها : إن حلفت بعتق عبدي فأنت طالق عتق العبد ولو قال لعبده إن حلفت بعتقك فأنت حر ثم أعاد ذلك عتق العبد
فصل : وقد استعمل الطلاق والعتاق استعمال القسم جوابا له فإذا قال أنت طالق لأقومن وقام لم تطلق زوجته فإن لم يقم في الوقت الذي عينه حنث هذا قول أكثر أهل العلم منهم سعيد بن المسيب و الحسن و عطاء و سعيد بن جبير و الشعبي و الثوري و أصحاب الرأي وقال شريح : يقع طلاقه وإن قام لأنه طلق طلاقا غير معلق بشرط فوقع كما لو لم يقم
ولنا أنه حلف ابن عبد البر فيه فلم يحنث كما لو حلف بالله تعالى وإن قال أنت طالق إن أخاك لعاقل وكان أخوها عاقلا لم يحنث وإن لم يكن عاقلا حنث كما لو قال والله إن أخاك لعاقل وإن شك في عقله لم يقع الطلاق لأن الأصل بقاء النكاح فلا يزول بالشك وإن قال أنت طالق لا أكلت هذا الرغيف فأكله حنث وإلا فلا وإن قال أنت طالق ما أكلته وكان صادقا لم يحنث وإن كان كاذبا حنث كما لو قال والله ما اكلته وإن قال أنت طالق لولا أبوك لطلقتك وكان صادقا لم تطلق وإن كان كاذبا طلقت ولو قال : إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال أنت طالق لأكرمنك طلقت في الحال ولو قال إن حلفت بعتق عبدي فأنت طالق ثم قال عبدي حر لأقومن طلقت المرأة وإن قال إن حلفت بطلاق امرأتي فعبدي حر ثم قال أنت طالق لقد صمت أمس عتق العبد (8/339)
فصول : تعليق طلاق امرأة على طلاق اخرى وعلى صفات مجتمعات
فصل : وإن قال إن طلقت حفصة فعمرة طالق ثم قال إن طلقت عمرة فحفصة طالق ثم طلق حفصة طلقتا معا حفصة بالمباشرة وعمرة بالصفة ولم تزد كل واحدة منهما على طلقة وإن بدأ بطلاق عمرة طلقت طلقتين وطلقت حفصة طلقة واحدة لأنه إذا طلق حفصة طلقت عمرة بالصفة لكونه علق طلاقها على طلاق حفصة ولم يعد على حفصة طلاق آخر لأنه ما أحدث في عمرة طلاقا إنما طلقت بالصفة السابقة على تعليقه طلاقها وإن بدأ بطلاق عمرة طلقت حفصة لكون طلاقها معلقا على طلاق عمرة ووقوع الطلاق بها تطليق منه لها لأنه أحدث فيها طلاقا بتعلقه طلاقها على تطليق عمرة بعد قوله إن طلقت حفصة فعمرة طالق ومتى وجد التعليق والوقوع معا فهو تطليق فإن وجدا معا بعد تعليق الطلاق بطلاقها وقع الطلاق المعلق بطلاقها وطلاق عمرة ههنا معلق بطلاقها فوجب القول بوقوعه ولو قال لعمرة : كلما طلقت حفصة فأنت طالق ثم قال لحفصة : كلما طلقت عمرة فأنت طالق ثم قال لعمرة : أنت طلق طلقت طلقتين وطلقت حفصة طلقة واحدة وإن طلق حفصة ابتداء لم يقع بكل واحدة منهما إلا طلقة لأن هذه المسألة كالتي قبلها سواء فإنه بدأ بتعليق طلاق عمرة على تطليق حفصة ثم ثنى بتعليق طلاق حفصة على تطليق عمرة ولو قال لعمرة إن طلقتك فحفصة طالق ثم قال لحفصة إن طلقتك فعمرة طالق ثم طلق حفصة طلقت طلقتين وطلقت عمرة طلقة وإن طلق عمرة كل واحد منهما طلقة لأنها عكس التي قبلها ذكر هاتين المسألأتين القاضي في المجرد ولو قال لإحدى زوجتيه كلما طلقت ضرتك فأنت طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك ثم طلق الأولى طلقت طلقتين وطلقت الثانية طلقة وإن طلق الثانية طلقت طلقتين وطلقت الأولى طلقة وإن قال كلما طلقتك فضرتك طالق ثم قال للأخرى مثل ذلك ثم طلق الأولى طلقت كل واحدة منهما طلقة طلقة وإن طلق الثانية طلقت طلقتين وطلقت الأولى طلقة وتعليل ذلك على ما ذكرنا في المسألة الأولى
فصل : وإن كان له ثلاث فقال إن طلقت زينب فعمرة طالق وإن طلقت عمرة فحفصة طالق وإن طلقت حفصة فزينب طالق ثم طلق زينب طلقت عمرة ولم تطلق حفصة لأنه ما أحدث في عمرة طلاقا بعد تعليق طلاق حفصة بتطليقها وإنما طلقت بالصفة السابقة على ذلك فيكون وقوعا للطلاق وليس بتطليق وإن طلق عمرة طلقت حفصة ولم تطلق حفصة ولم تطلق زينب لذلك وإن طلق حفصة طلقت زينب ثم طلقت عمرة فيقع الطلاق بالثلاث لأنه أحدث في زيبنب طلاقا بعد تعليقه طلاق عمرة بطلاقها فإنه علق طلاقها بعد ذلك على تطليق حفصة ثم طلق حفصة والتعليق مع تحقق شرطه تطليق وقد وجد التعليق وشرطه معا بعد تعليقه طلاق عمرة بتطليقها فكان وقوع الطلاق بزينب تطليقا فطلقت به عمرة بخلاف غيرها وإن قال لزينب إن طلقت عمرة فأنت طالق ثم قال لعمرة إن طلقت حفصة فأنت طالق ثم قال لحفصة إن طلقت زينب فأنت طالق ثم طلق زينب طلقت الثلاث زينب بالمباشرة وحفصة بالصفة ووقوع الطلاق بحفصة تطليق لها وتطليقها شرط طلاق عمرة فتطلق به أيضا والدليل على أنه تطليق لحفصة أنه أحدث فيها طلاقا بتعليقه طلاقها على تطليق زينب بعد طلاق عمرة بتطليقها وتحقق شرطه والتعليق مع شرطه تطليق وقد وجدا معا بعد جعل تطليقها صفة لطلاق عمرة وإن طلق عمرة طلقت هي وزينب ولم تطلق حفصة وإن طلق حفصة طلقت هي وعمرة ولم تطلق زينب لما ذكرنا في المسألة التي قبلها وإن قال لزينب إن طلقتك فضرتاك طالقتان ثم قال لعمرة مثل ذلك ثم قال لحفصة مثل ذلك ثم طلق زينب طلقت كل واحدة منهن طلقة واحدة لأنه لم يحدث في غير زينب طلاقا إنما طلقتا بالصفة السابقة على تعليق الطلاق بتطليقهما وإن طلق عمرة طلقت زينب طلقة وطلقت عمرة وحفصة كل واحدة منهما طلقتين لأن عمرة طلقت واحدة بالمباشرة وطلقت زينب وحفصة بطلاقها واحدة واحدة وطلاق زينب تطليق لها لأنه وقع بها بصفة أحدثها بعد تعليق طلاقهما بتطليقها فعاد على عمرة وحفصة بذلك طلقتان ولم يعد على زينب بطلاقهما طلاق لما تقدم وإن طلق حفصة طلقت ثلاثا لأنها طلقت واحدة بالمباشرة فطلقت بها ضرتاها ووقوع الطلاق بكل واحدة منهما تطليق لأنه بصفة أحدثها فيهما بعد تعليق طلاقها بطلاقهما فعاد عليها من طلاق كل واحدة منهما طلقة فكمل لها ثلاث وطلقت عمرة طلقتين واحدة بتطليق حفصة وأخرى بوقوع الطلاق على زينب لأنه تطليق لزينب لما ذكرناه وطلقت زينب واحدة لأن طلاق ضرتيها بالصفة ليس بتطليق في حقها وإن قال لكل واحدة منهن كلما طلقت إحدى ضرتيك فأنت طالق ثم طلق الأولى طلقت ثلاثا وطلقت الثانية طلقتين والثالثة طلقة واحدة لأن تطليقه للأولى شرط لطلاق ضرتيها ووقوع الطلاق بهما تطليق بالنسبة إليهما لكونه واقعا بصفة أحدثها بعد تعليق طلاقها بطلاقها فعاد عليها من تطليق كل واحدة منهما طلقة فكمل لها الثلاث وعاد على الثانية من طلاق الثالثة طلقة ثانية لذلك ولم يعد على الثالثة من طلاقهما الواقع بالصفة شيء لأنه ليس بتطليق في حقها وإن طلق الثانية طلقت أيضا طلقتين وطلقت الأولى ثلاثا والثالثة طلقة وإن طلق الثالثة طلقت الأولى طلقتين وطلقت كل واحدة من الباقيتين طلقة طلقة
فصل : ولو قال لامرأته إن طلقتك فعبدي حر ثم قال لعبده إن قمت فامرأتي طالق فقام طلقت المرأة وعتق العبد ولو قال لعبده إن قمت فامرأتي طالق ثم قال لامرأته إن طلقتك فعبدي حر فقام العبد طلقت المرأة ولم يعتق العبد لأن وقوع الطلاق بالصفة إنما يكون تطليقا مع وجود الصفة ففي االصورة الأولى وجدت الصفة والوقوع بعد قوله إن طلقتك فعبدي حر وفي الصورة الأخرى لم يوجد بعد ذلك إلا الوقوع وحده فكانت الصفة سابقة فلذلك لم يعتق العبد ولو قال لعبده إن أعتقتك فامرأتي طالق ثم قال لامرأته إن حلفت بطلاقك فعبدي حر ثم قال لعبده إن لم أضربك فامرأتي طالق عتق العبد وطلقت المرأة
فصل : ومتى علق الطلاق على صفات فاجتمعن في شيء واحد وقع بكل صفة ما علق عليها كما لو وجدت مفترقة وكذلك العتاق فلو قال لامرأته إن كلمت رجلا فأنت طالق وإن كلمت طويلا فأنت طالق وإن كلمت أسود فأنت طالق فكلمت رجلا أسود طويلا طلقت ثلاثا وإن قال إن ولدت بنتا فأنت طالق وإن ولدت سوداء فأنت طالق وإن ولدت ولدا فأنت طالق فولدت بنتا سوداء طلقت ثلاثا وإن قال إن أكلت رمانة فأنت طالق وإن أكلت نصف رمانة فأنت طالق فأكلت رمانة طلقت طلقتين وإن قال كلما أكلت رمانة فأنت طالق وكلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق فأكلت رمانة طلقت ثلاثا لأن كلما تقتضي التكرار وفي الرمانة نصفان فتطلق بأكلهما طلقتين وبأكل الرمانة طلقة فإن نوى بقوله نصف رمانة نصفا مفردا عن الرمانة المشروطة أو كانت مع الكلام قرينة تقتضي ذلك لم يحنث حتى تأكل ما نوى تعليق الطلاق به لأن مبنى الايمان على النية
فصل : فإن قال إن دخل الدار رجل فعبد من عبيدي حر وإن دخلها طويل فعبدان حران وإن دخلها أسود فثلاثة أعبد أحرار وإن دخلها فقيه فأربعة أعبد أحرار فدخلها فقيه طويل أسود عتق من عبيده عشرة وإن كان له أربع نسوة فقال إن طلقت امرأة منكن فعبد من عبيدي حر وإن طلقت اثنتين فعبدان حران وإن طلقت ثلاثة فثلاثة أحرار وإن طلقت أربعا فأربعة أحرار ثم طلق طلقت اثنتين فعبدان حران وإن طلقت ثلاثة فثلاثة أحرار وإن طلقت أربعا فأربعة أحرار ثم طلق الأربع مجتمعات أو متفرقات عتق من عبيده عشرة بالواحدة واحد وبالإثنتين اثنان وبالثلاث ثلاثة وبالأربع أربعة لاجتماع هذه الصفات الأربع فيهن ولو علق دلك بلفظه كلما فقد قيل يعتق عشرة أيضا والصحيح أنه يعتق خمسة عشر عبدا لأن فيهن أربعة صفات هن أربع فيعتق أربعة وهن أربعة آحاد فيعتق بذلك أربعة وفيهن ثلاث فيعتق بهن ثلاثة وإن شئت قلت يعتق بالواحدة واحد وبالثانية ثلاثة لأن فيها صفتين هي واحدة وهي مع الأولى اثنتان ويعتق بالثالثة أربعة لأنها واحدة وهي مع الولى والثانية ثلاث ويعتق بالرابعة سبعة لأن فيها ثلاث صفات هي واحدة وهي مع الثالثة اثنتان وهي مع الثلاث التي قبلها أربع وهذا أولى من الأول لأن قائله لا يعتبر صفة طلاق الواحدة في غير الأولى ولا صفة التثنية في الثالثة والرابعة ولفظ كلما يقتضي التكرار فيجب تكرار الطلاق بتكرر الصفات وقيل يعتق سبعة عشر لأن صفة التثنية قد وجدت ثلاث مرات فإنها توجد بضم الثانية إلى الثالثة وقيل يعتق عشرون وهو قول أبي حنيفة لأن صفة الثلاث وجدت مرة ثانية بضم الثانية إلى الرابعة وكلا القولين غير سديد لأنهم عدوا الثانية مع الأولى في صفة التثنية مرة ثم عدوها مع الثالثة مرة أخرة وعدوا الثانية والثالثة في صفة التثليث مرتين مرة مع الأولى ومرة مع الرابعة وما عد في صفة مرة لا يجوز عده في تلك الصفة مرة أخرى ولذلك لو قال كلما أكلت نصف رمانة فانت طالق فأكلت رمانة لم تطلق إلا اثنتين لأن الرمانة نصفان ولا يقال إنها تطلق ثالثة بأن يضم الربع الثاني إلى الربع الثالث فيصيران نصفا ثالثا وكذلك في مسألتنا لم تضم الأولى إلى الرابعة فيصيران اثنتين وعلى سياق هذا القول ينبغي أن يعتق اثنان وثلاثون واحد بطلاق واحدة وثلاثة بطلاق الثانية وثمانية بطلاق الثالثة لأنها واحدة وهي ما قبلها ثلاثة وهي مع ضمها إلى الأولى اثنتان ومع ضمها إلى الثانية اثنتان ففيها صفة التثنية مرتان ويعتق بطلاق الرابعة عشرون لأن فيها ثماني صفات هي واحدة وهي مع ما قبلها أربع وفيها صفة التثليث ثلاث مرات هي مع الأولى والثانية ثلاث ومع الثانية والثالثة ثلاث ومع الأولى والثالثة ثلاث فيعتق بذلك تسعة وفيها صفة التثنية ثلاث مرات هي مع الأولى اثنتان وهي مع الثانية اثنتان وهي مع الثالثة اثنتان فيعتق بذلك ستة ويصير الجميع اثنتين وثلاثين وما نعلم بهذا قائلا وهذا مع الإطلاق
فأما إذا نوى بلفظه غير ما يقتضيه الإطلاق مثل أن ينوي بقوله اثنتين غير الواحدة فيمينه على ما نواه ومتى لم يعين العبيد المعتقين أخرجوا بالقرعة ولو قال كلما أعتقت عبدا من عبيدي فامرأة من نسائي طالق وكلما أعتقت اثنتين فامرأتان طالقتان ثم أعتق اثنتين طلق الأربع على القول الصحيح وعلى القول الأول يطلق ثلاث ويخرجن بالقرعة ولو قال كلما اعتقت عبدا من عبيدي فجارية من جواري حرة وكلما أعتقت اثنين فجاريتان حرتان وكلما أعتقت ثلاثة أحرار وكلما أعتقت أربعة فأربع أحرارا ثم أعتق أربعة عتق من جواريه بعدد ما طلق من النساء على ما ذكرنا وإمن أعتق خمسا فعلى القول الأول يعتق من جواريه هنا خمس عشرة وعلى القول الثاني يعتق إحدى وعشرون لأن عتق الخامس عتق به ست لكونه واحدا وهو مع ما قبله خمسة ولم يمكن عده في سائر الصفات لأن ما قبله قد عد في ذلك مرة فلا يعد ثانية (8/341)
مسألة وفصلان : حكم لو قال إن لم أطلقك فأنت طالق فلا يمنع من وطئها وإذا ماتت لم يرثها
مسألة : قال : وإذا قال إن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتا ولم يطلقها حتى مات أو ماتت وقع الطلاق بها في آخر أوقات الإمكان
وجملة ذلك أن حرف إن موضوع للشرط لا يقتضي زمنا ولا يدل عليه إلا من حيث أن الفعل المعلق به من ضرورته الزمان وما حصل ضرورة لا يتقيد بزمن معين ولا يقتضي تعجيلا فما علق عليه كان على التراخي سواء في ذلك الإثبات والنفي فعلى هذا إذا قال إن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتا ولم يطلقها كان ذلك على التراخي ولم يحنث بتأخيره لأن كل وقت يمكن أن يفعل ما حلف عليه فلم يفت الوقت فإذا مات أحدهما علمنا حنثه حينئذ لأنه لا يمكن إيقاع الطلاق بها بعد موت أحدهما فتبين أنه وقع إذ لم يبق من حياته ما يتسع لتطليقها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي : ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا ولو قال إن لم أطلق عمرة فحفصة طالق فأي الثلاثة مات أولا وقع الطلاق قبل موته لأن تطليقه لحفصة على وجه تنحل به يمينه إنما يكون في حياتهم جميعا وكذلك لو قال إن لم أعتق عبدي أو إن لم أضربه فامرأتي طالق وقع بها الطلاق في آخر جزء من حياة أولهم موتا فأما أن عين وقتا بلفظه أو بنيته تعين وتعلقت يمينه به
قال أحمد رحمه الله : إذا قال إن لم أضرب فلانا فأنت طالق ثلاثا فهو على ما أراد من ذلك وذلك لأن الزمان المحلوف على ترك الفعل فيه تعين بينته وإرادته فصار كالمصرح به في لفظه فإن مبنى الإيمان على النية لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إنما لامرئ ما نوى ]
فصل : ولا يمنع من وطء زوجته قبل فعل ما حلف عليه وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال سعيد بن المسيب و الحسن و الشعبي و يحيى الأنصاري و ربيعة و مالك و أبو عبيد : لا يطأ حتى يفعل لأن الأصل عدم الفعل ووقوع الطلاق وروى الأثرم عن أحمد مثل ذلك وقال الأنصاري و ربيعة و مالك يضرب له أجل المولي كما لو حلف أن لا يطأها
ولنا أنه نكاح صحيح لم يقع فيه طلاق ولا غيره من أسباب التحريم فحل له الوطء فيه كما لو قال إن طلقتك فأنت طالق وقولهم الأصل عدم الفعل ووقوع الطلاق قلنا هذا الأصل لم يقتض وقوع الطلاق فلم يقتض حكمه ولو وقع الطلاق بعد وطئه لم يضر كما لو طلقها ناجزا وعلى أن الطلاق ههنا إنما يقع في زمن لا يمكن الوطء بعده بخلاف قوله إن وطئتك فأنت طالق
فصل : إذا كان المعلق طلاقا بائنا فماتت لم يرثها لأن طلاقه أبانها منه فلم يرثها كما لو طلقها ناجزا عند موتها وإن مات ورثته نص عليه أحمد في رواية أبي طالب إذا قال لزوجته أنت طالق ثلاثا إن لم أتزوج عليك ومات ولم يتزوج عليها ورثته وإن ماتت لم يرثها وذلك لأنها تطلق في آخر حياته فأشبه طلاقه لها في تلك الحال ونحو هذا قال عطاء و يحيى الأنصاري ويتخرج لنا أنها لا ترثه أيضا وهذا قول سعيد بن المسيب و الحسن و الشعبي و أبي عبيد لأنه إنما طلقها في صحته وإنما تحقق شرط وقوعه في المرض فلم ترثه كما لو علقه على فعلها ففعلته في مرضه
وقال أبو حنيفة : إن حلف إن لم تأتي البصرة فأنت طالق فلم تفعل فإنهما لا يتوارثان وإن قال : إن لم آت البصرة فأنت طالق فمات ورثته وإن ماتت لم يرثها لأنه في الأولى علق الطلاق على فعلها فإذا امتنعت منه فقد حققت شرط الطلاق فلم ترثه كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها وإذا علقه فعل نفسه فامنتع كان الطلاق منه فأشبه ما لو نجزه في الحال ووجه الأول أنه طلاق في مرض موته فمنعه ميراثه ولم يمنعها كما لو طلقها ابتداء ولأن الزوج أخر الطلاق اختيارا منه حتى وقع ما علق عليه في مرضه فصار كالمباشرة له فأما ما ذكر عن أبي حنيفة فحسن إذا كان الفعل مما لا مشقة عليها فيه لأن تركها له كفعلها لما حلف عليها لتتركه وإن كان مما فيه مشقة فلا ينبغي أن يسقط ميراثها بتركه كما لو حلف عليها لترك ما لا بد لها من فعله ففعلته
فصل : إذا حلف ليفعلن شيئا ولم يعين له وقتا بلفظه ولا بنيته فهو على التراخي أيضا فإن لفظه مطلق بالنسبة إلى الزمان كله فلا يتقيد بدون تقييده ولذلك لما قال الله تعالى في الساعة : { قل بلى وربي لتأتينكم } وقال : { قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم } ولما قال : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } كان ذلك على التراخي فإن الآية أنزلت في نوبة الحديبية في سنة ست وتأخر الفتح إلى سنة ثمان
ولذلك روي [ عن عمر أنه قال : قلت للنبي صلى الله عليه و سلم أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى فأخبرتك أنك آتيه العام ؟ قلت لا قال : فإنك آتيه ومطوف به ] وهذا مما لا خلاف فيه نعلمه
فصل : إذا قال لامرأته أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم ولم يطلقها طلقت إذا بقي من اليوم ما لا يتسع لتطليقها فيه على مقتضى هذه المسألة وهذا اختيار أبي الخطاب وقول أصحاب الشافعي وحكى القاضي فيها وجهين هذا ووجها آخر أن الطلاق لا يقع وحكي ذلك عن أبي بكر وابن شريح لأن محل الطلاق اليوم ولا يوجد شرط طلاقها إلا بخروجه فلا يبقى من محل طلاقها ما يقع الطلاق فيه
ولنا أن خروج اليوم يفوت به طلاقها فوجب وقوعه قبله في آخر وقت الإمكان كموت أحدهما في اليوم وذلك لأن معنى يمينه إن فاتني طلاقك اليوم فأنت طالق فيه فإذا بقي من اليوم ما لا يتسع لتطليقها فقد فاته طلاقها فيه فوقع حينئذ كما يقع طلاقه في مسألتنا في آخر حياة أولهما موتا وما ذكروه باطل بما لو مات أحدهما في اليوم فإن محل طلاقها يفوت بموته ومع ذلك فإن الطلاق يقع قبيل موته كذا ههنا ولو قال لها أنت طالق اليوم إن لم أتزوج عليك اليوم أو إن لم أشتر لك اليوم ثوبا ففيه الوجهان : والصحيح منهما وقوع الطلاق بها إذا بقي من اليوم ما لا يتسع لفعل المحلوف عليه فيه وإن قال لها أنت طالق إن لم أطلقك اليوم طلقت بغير خلاف وفي محل وقوعه وجهان :
أحدهما : في آخر اليوم والثاني : بعد خروجه وإن قال أنت طالق اليوم إن لم أطلقك فهو كقوله أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم لأنه جعل عدم طلاقها شرطا لطلاقها اليوم والشرط يتقدم المشروط
فصل : وإن قال لعبده : إن لم أبعك اليوم فامرأتي طالق اليوم ولم يبعه حتى خرج اليوم ففيه الوجهان وإن أعتق العبد أو مات أو مات الحالف أو المرأة في اليوم طلقت زوجته حينئذ لأنه قد فات بيعه وإن دبره أو كاتبه لم تطلق امرأته لأن بيعه جائز ومن منع بيعهما قال لا يقع الطلاق بذلك كما لو مات وإن وهب العبد لإنسان لم يقع الطلاق لأنه يمكن عوده إليه فيبيعه فلم يفت بيعه ولو قال إن لم أبع عبدي فامرأتي طالق ولم يقيده باليوم فكاتب العبد لم يقع الطلاق لأنه يمكن عجزه فلم يعلم فوات البيع فإن عتق بالكناية أو غيرها وقع الطلاق حينئذ لأنه فات بيعه (8/348)
مسألة وفصلان : بيان الحروف المستعملة للشروط وتعليق الطلاق بها وأحكامها
مسألة : قال : وإن قال : كلما لم أطلقك فأنت طالق وقع بها الثلاث في الحال إذا كان مدخولا بها
إنما كان كذلك لأن كلما تقتضي التكرار قال الله تعالى : { كلما جاء أمة رسولها كذبوه } وقال : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } فيقتضي تكرار الطلاق تكرار الصفة والصفة عدم تطليقه لها فإذا مضى بعد يمينه زمن يمكن أن يطلقها فيه فلم يطلقها فقد وجدت الصفة فيقع طلقة وتتبعها الثانية والثالثة إن كانت مدخولا بها وإن لم تكن مدخولا بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأن البائن لا يلحقها طلاق فأما إذا قال : إن لم أطلقك فأنت طالق أو متى لم أطلقك أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق فإنها تطلق واحدة ولا يتكرر إلا على قول أبي بكر في متى فإنه يراها للتكرار فيتكرر الطلاق بها مثل كلما إلا أن متى وأي وقت يقتضيان الطلاق على الفور فمتى مضى زمن يمكن أن يطلقها فيه ولم يطلقها في الحال وأما إذا ففيها وجهان أحدهما : هي على الفور لأنها اسم وقت فهي كمتى والثاني : أنها على التراخي لأنها كثر استعمالها في الشرط فهي كإن فعلى هذا إذا قال : إذا لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتا لم تطلق إلا في آخر جزء من حياة أحدهما وإن قال : متى لم أحلف بطلاقك فأنت طالق أو أي وقت لم أحلف بطلاقكما فأنت طالق وكرره ثلاثا متواليات طلقت مرة واحدة لأنه لم يحنث في المرة الأولى ولا الثانية لكونه حلف عقيبهما وحنث في الثالثة وإن سكت بين كل يمينين سكوتا يمكنه الحلف فيه طلقت ثلاثا وإن قال ذلك بلفظة إذا وقلنا هي على الفور فهي كمتى وإلا فلم تطلق إلا واحدة في آخر حياة أحدهما
فصل : والحروف المستعملة للشرط وتعليق الطلاق بها سنة : إن وإذا ومتى ومن وأي وكلما فمتى علق الطلاق بإيجاد فعل بواحد منها كان على التراخي مثل قوله إن خرجت وإذا خرجت ومتى خرجت وأي حين وأي زمان وأي وقت خرجت وكلما خرجت ومن خرجت منكن وأيتكن خرجت فهي طالق فمتى وجد الخروج طلقت وإن مات أحدهما سقطت اليمين فأما إن علق الطلاق بالنفي بواحد من هذه الحروف كانت إن على التراخي ومتى وأي ومن وكلما على الفور لأن قوله متى دخلت فأنت طالق يقتضي أي زمان دخلت فأنت طالق وذلك شائع في الزمان كله فأي زمن دخلت وجدت الصفة وإذا قال متى لم تدخلي فأنت طالق فإذا مضى عقيب اليمين زمن لم يدخل فيه وجدت الصفة فإنها اسم لوقت الفعل فيقدر به ولهذا يصح السؤال به فيقال : متى دخلت أي أي وقت دخلت وأما إن فلا تقتضي وقتا فقوله إن لم تدخلي لا يقتضي وقتا إلا ضرورة أن الفعل لا يقع إلا في وقت فهي مطلقة في الزمان كله وأما إذا ففيها وجهان أحدهما : هي على التراخي وهو قول أبي حنيفة ونصره القاضي لأنها تستعمل شرطا بمعنى إن قال الشاعر :
( استغن ما أغناك ربك بالغنى ... وإذا تصبك خصاصة فتجمل )
فجزم بها ما يجزم بأن ولأنها تستعمل بمعنى متى وإذا احتملت الأمرين فاليقين بقاء النكاح فلا يزول بالإحتمال والوجه الآخر أنها على الفور وهو قول أبي يوسف و محمد وهو المنصوص عن الشافعي لأنها اسم لزمن مستقبل فتكون كمتى وأما المجازاة بها فلا تخرجها عن موضوعها فإن متى يجازى بها ألا ترى إلى قول الشاعر :
( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد )
ومن يجازى بها أيضا وكذلك أي وسائر الحروف وليس في هذه الحروف ما يقتضي التكرار إلا كلما وذكر أبو بكر في متى أنها تقتضي التكرار لأنها تستعمل للتكرار بدليل قوله :
( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد )
أي في كل وقت ولأنها تستعمل في الشرط والجزاء ومتى وجد الشرط يرتب عليه جزاؤه والصحيح أنها لا تقتضيه لأنها اسم زمن بمعنى أي وقت وبمعنى إذا فلا تقتضي ما لا يقتضيانه وكونها تستعمل للتكرار في بعض أحيانها لا يمنع استعمالها في غيره مثل إذا وأي وقت فإنهما يستعملان في الأمرين قال الله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم } { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } { وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها } وقال الشاعر :
( قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... ساروا إليه زرافات ووحدانا )
وكذلك أي وقت وأي زمان فإنهما يستعملان للتكرار وسائر الحروف يجازى بها إلا أنها لما كانت تستعمل للتكرار وغيره لا تحمل على التكرار إلا بدليل كذلك متى
فصل : وهذه الحروف إذا تقدم جزاؤها عليها لم تحتج إلى حرف في الجزاء كقوله أنت طالق إن دخلت الدار وإن تأخر جزاؤها احتاجت في الجزاء إلى حرف الفاء إذا كان جملة من مبتدأ وخبر كقوله إن دخلت النار فأنت طالق وإنما اختصت بالفاء لأنها للتعقيب فتربط بين الجزاء وشرطه وتدل على تعقيبه به فإن قال إن دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق حتى تدخل وبه قال بعض الشافعية وقال محمد بن الحسن تطلق في الحال لأنه لم يعلقه بدخول الدار لأنه إنما يتعلق بالفاء وهذه لا فاء فيها فيكون كلاما مستأنفا غير معلق بشرط فيثبت حكمه في الحال
ولنا أنه أتى بحرف الشرط فيدل ذلك على أنه أراد التعليق به وإنما حذف الفاء وهي مرادة كما يحذف المبتدأ تارة ويحذف الخبر أخرى لدلالة باقي الكلام على المحذوف ويجوز أن يكون حذف الفاء على التقديم والتأخير فكأنه أراد أنت طالق إن دخلت الدار فقدم الشرط ومراده التأخير ومهما أمكن حمل الكلام العاقل على فائدة وتصحيحه عن الفساد وجب وفيما ذكرنا تصحيحه وفيما ذكروه إلغاؤه وإن قال أردت الإيقاع في الحال وقع لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال : أنت طالق وإن دخلت الدار وقع الطلاق في الحال لأن معناه أنت طالق في كل حال ولا يمنع من ذلك دخولك الدار كقول النبي صلى الله عليه و سلم [ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق ] وقال : [ صلهم وإن قطعوك وأعطهم وإن حرموك ] وإن قال : أردت الشرط دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين فإذا قال : إن دخلت الدار فأنت طالق الأخرى فمتى دخلت الأولى طلقت سواء دخلت الأخرى أو لم تدخل ولا تطلق بدخول الأخرى
وقال ابن الصباغ : تطلق بدخول كل واحدة منهما وقد ذكرنا أن مقتضى اللغة ما قلناه وإن قال : أردت جعل الثاني شرطا لطلاقها أيضا طلقت بكل منهما لأنه يقر على نفسه بما هو أغلظ وإن قال : أردت أن دخول الثانية شرط لطلاق الثانية فهو ما أراده وإن قال : أنت طالق إن دخلت الدار وإن دخلت الأخرى طلقت بدخول إحداهما لأنه عطف شرطا على شرط فإن قال : أردت أن دخول الثانية يمنع وقوع الطلاق قبل منه لأنه محتمل وطلقت بدخول الأولى وحدها وإن قال : إن دخلت الدار هذه الأخرى فأنت طالق فقد قيل لا تطلق إلا بدخولهما لأنه جعل طلاقها جزاء لهذين الشرطين ويحتمل أن تطلق بأحدهما أيهما كان لأنه ذكر شرطين بحرفين فيقتضي كل واحد منهما جزاء فترك جزاء الأول وكان الجزاء الآخر دالا عليه كما لو قال ضربت وضربني زيد
قال الفرزدق :
( ولكن نصفا لو سببت وسبني ... بنو عبد شمس من قريش وهاشم )
والتقدير سبني هؤلاء وسببتهم وقال الله تعالى : { عن اليمين وعن الشمال قعيد } أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد وإن قال : إن دخلت الدار وأنت طالق طلقت لأن الواو ليست للجزاء وقد تكون للابتدار فإن قال : أردت بها الجزاء أو قال : أردت أن أجعل دخولها في حال كونها طالقا شرطا لشيء ثم أمسكت دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين وإن جعل لهذا جزاء فقال إن دخلت الدار وأنت طالق فعبدي حر صح ولم يعتق العبد حتى تدخل الدار وهي طالق لأن الواو ههنا للحال كقول الله تعالى : { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } - وقوله - { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } ولو قال : أنت طالق إن دخلت الدار طالقا فدخلت وهي طالق طلقت أخرى وإن دخلتها غير طالق لم تطلق لأن هذا حال فجرى مجرى قوله أنت طالق إن دخلت الدار راكبة وإن قال : أنت طالق لو قمت كان ذلك شرطا بمنزلة قوله إن قمت وهذا يحكى عن أبي يوسف ولأنها لو لم تكن للشرط كانت لغوا والأصل اعتبار كلام المكلف وقيل يقع الطلاق في الحال وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها بعد الإثبات تستعمل لغير المنع كقوله تعالى : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } { ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون } وإن قال : أردت أن أجعل لها جوابا دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين
فصل : فإن قال : إن أكلت ولبست فأنت طالق لم تطلق إلا بوجودهما جميعا سواء تقدم الأكل أو تأخر لأن الواو للعطف ولا تقتضي ترتيبا وإن قال : إن أكلت أو لبست فأنت طالق طلقت بوجود أحدهما لأن أو لأحد الشيئين وكذلك إن قال : إن أكلت أو إن لبست أو لا أكلت ولا لبست وإن قال : أنت طالق لا أكلت ولبست لم تطلق إلا بفعلهما إلا على الرواية التي تقول يحنث بفعل بعض المحلوف عليه فإنه يحنث بأحدهما ههنا وإن قال : أنت طالق إن أكلت فلبست أو إن أكلت ثم لبست لم تطلق حتى تأكل ثم تلبس لأن الفاء وثم للترتيب وإن قال : أنت طالق إن أكلت إذا لبست أو إن أكلت متى لبست أو إن أكلت إن لبست لم تطلق حتى تلبس ثم تأكل لأن اللفظ اقتضى تعليق الطلاق بالأكل بعد اللبس ويسميه النحويون اعتراض الشرط على الشرط فيقتضي تقديم المتأخر وتأخير المتقدم لأنه جعل الثاني في اللفظ شرطا للذي قبله والشرط يتقدم المشروط قال الله تعالى : { ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } فلو قال : لامرأته : إن أعطيتك وإن وعدتك إن سألتني فأنت طالق لم تطلق حتى تسأله ثم يعدها ثم يعطيها لأنه شرط في العطية الوعد وفي الوعد السؤال فكأنه قال إن سألتني فوعدتك فأعطيتك فأنت طالق وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال القاضي : إذا كان الشرط بإذا كقولنا وفيما إذا كان بإن مثل قوله إن شربت إن أكلت إنها تطلق بوجودهما كيفما وجدا لأن أهل العرف لا يعرفون ما يقوله أهل العربية في هذا فتعلقت اليمين بما يعرفه أهل العرف بخلاف ما إذا كان الشرط بإذا والصحيح الأول وليس لأهل العرف في هذا عرف فإن هذا الكلام غير متداول بينهم ولا ينطقون به إلا نادرا فيجب الرجوع فيه إلى مقتضاه عند أهل الشأن كسائر مسائل هذا الفصل (8/353)
فصلان : تعليق الطلاق بشرطين
فصل : فإن قال أنت طالق أن قمت بفتح الهمزة فقال أبو بكر تطلق في الحال لأن أن المفتوحة ليست للشرط وإنما هي للتعليل فمعناه أنت طالق لأنك قمت أو لقيامك كقول الله تعالى : { يمنون عليك أن أسلموا } { وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا } { يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم } وقال القاضي : قياس قول أحمد أنه إن كان نحويا وقع طلاقه وإن لم يكن نحويا فهي للشرط لأن العامي لا يريد بذلك إلا الشرط ولا يعرف إن مقتضاها التعليل فلا يريده فلا يثبت له حكم ما لا يعرفه ولا يريده كما لو نطق كلمة الطلاق بلسان لا يعرفه وحكي عن ابن حامد أنه قال في النحوي أيضا لا يقع طلاقه بذلك إلا أن ينوبه لأن الطلاق يحمل على العرف في حقهما جميعا
واختلف أصحاب الشافعي على ثلاثة أوجه أحدها : يقع طلاقه في الحال والثاني : يكون شرطا في حق العامي وتعليلا في حق النحوي والثالث : يقع الطلاق إلا أن لا يكون من أهل الإعراب فيقول أردت الشرط فيقبل لأنه لا يجوز صرف الكلام عما يقتضيه إلا بقصده
وإن قال أنت طالق إذا دخلت الدار طلقت في الحال لأن إذ للماضين ويحتمل أن لا يقع لأن الطلاق لا يقع في زمن ماض فأشبه قوله أنت طالق أمس
فصل : وغذا علق الطلاق بشرطين لم يقع قبل وجودهما جميعا في قول عامة أهل العلم وخرج القاضي وجها في وقوعه بوجود أحدهما بوجود أحدهما بناء على إحدى الروايتين فيمن حلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه وهذا بعيد جدا يخالف الأصول ومقتضى اللغة والعرف وعامة أهل العلم فإنه لا خلاف بينهم في المسائل التي ذكرناها في الشرطين جميعا وإذا اتفق العلماء على أنه لا يقع طلاقه لإخلاله بالترتيب في الشرطين المرتبين في مثل قوله إن أكلت ثم لبست فلإخلاله بالشرط كله أولى ثم يلزم على هذا ما لو قال إن أعيطتني درهمين فأنت طالق وإذا مضى شهران فأنت طالق فإنه لا خلاف في أنها لا تطلق قبل وجودهما جميعا وكان قوله يقتضي أن يقع الطلاق بإعطائه بعض درهم ومضي بعض يوم وأصول الشرع تشهد بأن الحكم المعلق بشرطين لا يثبت إلا بهما
وقد نص أحمد على أنه إذا قال إن حضت حيضة فأنت طالق وإذا قال إذا صمت يوما فأنت طالق أنها لا تطلق حتى تحيض حيضى كاملة وإذا غابت الشمس من اليوم الذي تصوم فيه طلقت وأما اليمين فإنه متى كان في لفظه أو نيته ما يقتضي جميع المحلوف عليه لم يحنث إلا بفعل جميعه وفي مسألتنا ما يقتضي تعليق الطلاق بالشرطين معا لتصريحه بهما وجعلهما شرطا للطلاق والحكم لا يثبت بدون شرطه على أن اليمين مقتضاها المنع مما حلف عليه فيقتضي المنع من فعل جميعه لنهي الشارع عن شيء يقتضي المنع من كل جزء منه كما يقتضي المنع من جملته وما علق على شرط جعل جزاء وحكما له والجزاء لا يوجد بدون شرطه والحكم لا يتحقق قبل تمام شرطه لغة وعرفا وشرعا (8/360)
فصول في تعليق الطلاق فصول : اختلاف الزوجين في تحقيق شرط الطلاق والمعلق على حيضها أو حيض أحداهن وتعليق الطلاق بزمن أو بصفة أو حادث
فصل : إذا قال لامرأته إن حضت فأنت طالق فقالت قد حضت فصدقها طلقت وإن كذبها ففيه روايتان :
إحداهما : يقبل قولها لأنها أمينة على نفسها وهذا قول أبو حنيفة و الشافعي وهو ظاهر المذهب لأن الله تعالى قال : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } قيل هو الحيض والحمل ولولا أن قولها فيه مقبول لما حرم عليها كتمانه وصار هذا كما قال الله تعالى : { ولا تكتموا الشهادة } لما حرم كتمانها دل على قبولها كذا ههنا ولأنه معنى فيها لا يعرف إلا من جهتها فوجب الرجوع إلى قولها فيه كقضاء عدتها
والرواية الثانية : لا يقبل قولها ويختبرها النساء بإدخال قطنة في الفرج في الزمان الذي ادعت الحيض فيه فإن ظهر الدم فهي حائض وإلا فلا قال أحمد في رواية مهنا في رجل قال لامرأته : إذا حضت فأنت طالق وعبدي حر قالت : قد حضت ينظر إليها النساء فتعطى قطنة وتخرجها فإن خرج الدم فهي حائض تطلق ويعتق العبد وقال أبو بكر : وبهذا أقول وهذا لأن الحيض يمكن التوصل إلى معرفته من غيرها فلم يقبل فيه مجرد قولها كدخول الدار والأول المذهب ولعل أحمد إنما اعتبر البينة في هذه الرواية من أجل عتق العبد فإن قولها : إنما يقبل في حق نفسها دون غيرها وهل يعتبر يمينها إذا قلنا القول قولها ؟ على وجهين بناء على ما إذا ادعت أن زوجها طلقها فأنكرها ولا يقبل قولها إلا في حق نفسها خاصة دون غيرها من طلاق أخرى أو عتق عبد نص عليه أحمد في رجل قال لامرأته : إذا حضت فأنت طالق وهذه معك لامرأته الأخرى قالت قد حضت من ساعتها أو بعد ساعة تطلق هي ولا تطلق هذه حتى تعلم لأنها مؤتمنة على نفسها ولا يجعل طلاق هذه بيدها وهذا مذهب الشافعي وغيره لأنها مؤتمنة في حق نفسها دون غيرها فصارت كالمودع يقبل قوله في الرد على المودع دون غيره ولو قال قد حضت فأنكرته طلقت بإقراره وإن قال إن حضت فأنت وضرتك طالقتان فقالت قد حضت فصدقها طلقتا بإقراره وإن كذبها طلقت وحدها وإن ادعت الضرة أنها قد حاضت لم يقبل لأن معرفتها بحيض غيرها كمعرفة الزوج به وإنما ائتمنت على نفسها في حيضها وإن قال قد حضت فأنكرت طلقتا بإقراره ولو قال لامرأتيه إن حضتما فأنتما طالقتان فقالتا قد حضنا فصدقهما طلقتا وإن كذبهما لم تطلق واحدة منهما لأن طلاق كل واحدة منهما معلق على شرطين حيضهما وحيض ضرتها ولا يقبل قول ضرتها عليها فلم يوجد الشرطان وإن صدق إحداهما وكذب الأخرى طلقت المكذبة وحدها لأن قولها مقبول في حقها وقد صدق الزوج ضرتها فوجد الشرطين في طلاقهما ولم تطلق المصدقة لأن قول ضرتها غير مقبول في حقها وما صدقها الزوج فلم يوجد شرط طلاقها
فصل : فإن قال لأربع إن حضتن فأنتن طوالق فقلن قد حضنا فصدقهن طلقن وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن لأن شرط طلاقهن حيض الأربع ولم يوجد وإن صدق واحدة أو اثنتين لم تطلق واحدة منهن لأنه لم يوجد الشرط وإن صدق ثلاثا طلقت المكذبة وحدها لأن قولها مقبول في حيضها وقد صدق الزوج صواحبها فوجد حيض الأربع في حقها فطلقت ولا يطلق المصدقات لأن قول المكذبة غير مقبول في حقهن
فصل : وإن قال لهن كلما حاضت إحداكن أو أيتكن حاضت فضراتها طوالق فقلن قد حضنا فصدقهن طلقت كل واحدة منهن ثلاثا ثلاثا وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن وإن صدق واحدة طلقت كل واحدة من ضرائرها طلقة طلقة ولم تطلق هي لأنه لم يثبت حيض ضرة لها وإن صدق اثنتين طلقت كل واحدة من المصدقتين طلقة طلقة لأن لكل واحدة منهما ضرة مصدقة وطلقت كل واحدة من المكذبتين طلقتين وإن صدق ثلاثا طلقت المكذبة ثلاثا وطلقت كل واحدة من المصدقات طلقتين طلقتين
فصل : إذا قال لطاهر إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم في وقت يمكن أن يكون حيضا حكمنا بوقوع الطلاق كما يحكم بكونه حيضا في المنع من الصلاة وغيرها مما يمنع من الحيض وإن بان أنه ليس بحيض لانقطاعه لدون أقل الحيض بان أن الطلاق لم يقع وبهذا قال الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : لا نعلم أحدا قال غير ذلك إلا مالكا فإن ابن القاسم روى عنه أنه يحنث حين تكلم به وقد سبق الكلام معه في هذا وإن قال لحائض إذا حضت فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ولم قال لطاهر إذا تطهرت فأنت طالق لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر وهذا يحى عن أبي يوسف
وقال بعض أصحاب الشافعي الذي يقتضيه مذهب الشافعي أنها تطلق بما يتجدد من حيضها وطهرها في المسألتين لأنه قد وجد منها الحيض والطهر فوقع الطلاق لوجود صفته
ولنا أن إذا اسم زمن مستقبل يقتضي فعلا مستقبلا وهذا الحيض والطهر مستدام غير متجدد ولا يفهم من إطلاق حاضت المرأة وطهرت إلا ابتداء ذلك فتعلقت الصفة به ولو قال لطاهر إذا حضت حيضة فأنت طالق لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر نص عليه أحمد لأنه لا توجد حيضة كاملة إلا بذلك ولو قال لحائض إذا طهرت فأنت طالق طلقت بأو الطهر وتطلق في الموضعين بانقطاع دم الحيض قبل الغسل نص عليه أحمد في رواية إبراهيم الحربي وذكر أبو بكر في التنبيه فيها قولا أنها لا تطلق حتى تغتسل بناء على أن العدة لا تنقضي بانقطاع الدم حتى تغتسل
ولنا أن الله تعالى قال : { ولا تقربوهن حتى يطهرن } أي ينقطع دمهن { فإذا تطهرن } أي اغتسلن ولأنه قد ثبت لها أحكام الطاهرات في وجوب الصلاة وصحة الطهارة والصيام وإنما بقي بعض الأحكام موقوفا على وجود الغسل ولأنها ليست حائضا فيلزم أن تكون طاهرا لأنهما ضدان على التعيين فيلزم من انتفاء أحدهما وجود الآخر
فصل : فإن قال لها إذا حضت حيضة فأنت طالق وإذا حضت حيضتين فأنت طالق فحاضت حيضة طلقت واحدة فإذا حاضت الثانية طلقت الثانية عند طهرها منها وإن قال إذا حضت حيضة فأنت طالق ثم إذا حضت حيضتين فأنت طالق لم تطلق الثانية حتى تطهر من الحيضة الثالثة لأن ثم للترتيب فتقتضي حيضتين بعد الطلقة الأولى لكونهما مرتبتين عليها
فصل : فإن قال إذا حضت نصف حيضة فأنت طالق طلقت إذا ذهب نصف الحيضة وينبغي أن يحكم بوقوع الطلاق إذا حاضت نصف عادتها لأن الأحكام تعلقت بالعادة فيتعلق بها وقوع الطلاق ويحتمل أنه لا يحكم بوقوع الطلاق حتى يمضي سبعة أيام ونصف لأننا لا نتيقن مضي نصف الحيضة إلا بذلك إلا أن تطهر لأقل من ذلك ومتى طهرت تبينا وقوع الطلاق في نصف الحيضة وقيل يلغو قوله نصف حيضة ويبقى طلاقها معلقا بوجود الحيض والأول أصح فإن الحيض له مدة أقلها يوم وليلة وله نصف حقيقة والجهل بقدر ذلك لا يمنع وجوده وتعلق الحكم به كالحمل
فصل : وإن قال لامرأتيه إذا حضتما حيضة واحدة فأنتما طالقتان لم تطلق واحدة منهما حتى تحيض كل واحدة منهما حيضة واحدة ويكون التقدير إن حاضت كل واحدة منكما حيضة واحدة فأنتما طالقتان كقول الله تعالى : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } أي اجلدوا كل واحد منهما ثمانين ويحتمل أن يتعلق الطلاق بحيض إحداهما حيضة لأنه لما تعذر وجود الفعل منهما وجبت إضافته إلى إحداهما كقوله تعالى : { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما يخرج من أحدهما وقال القاضي : يلغو قوله حيضة واحدة لأن حيضة واحدة من امرأتين محال فيبقى كأنه قال إن حضتما فأنتما طالقتان وهذا احد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر لا تنعقد هذه الصفة لأنها مستحيلة فتصير كتعليق الطلاق بالمستحيلات والوجه الأول أولى لأن فيه تصحيح كلام المكلف بحمله على محلم سائغ وتبعيد لوقوع الطلاق واليقين بقاء النكاح فلا يزول حتى يوجد ما يقع به الطلاق يقينا وغير هذا الوجه لا يحصل به اليقين
فإن أراد بكلامه أحد هذه الوجوه حمل عليه وإذا ادعى ذلك قبل منه وإذا أردت أن تكون الحيضة الواحدة منهما فهو تعليق الطلاق بمستحيل فيحتمل أن يلغو قوله حيضة ويحتمل لا يقع الطلاق لأن هذه الصفة لا توجد فلا يوجد ما علق عليها ويحتمل أن يقع في الحال ويلغو الشرط بناء على ما ذكرناه في تعليق الطلاق على المستحيل
فصل : وإذا كان له أربع نسوة فقال أيتكن لم أطأها فضرائرها طوالق وقيده بوقت فمضى الوقت ولم يطأهن طلقهن ثلاثا ثلاثا لأن لكل واحدة ثلاث ضرائر غير مطوءات وإن وطئ ثلاثا وترك وحدة لم تطلق المتروكة لأنها ليست لها ضرة غير موطوءة وتطلق كل واحدة من الموطوءات طلقة طلقة وإن وطئ اثنتين طلقتا طلقتين طلقتين المتروكتان طلقة طلقة وإن وطئ واحدة طلقت ثلاثا وطلقت كل واحدة من المتروكات طلقتين وإن لم يقيده بوقت كان وقت الطلاق مقيدا بعمره وعمرهن فأيتهن ماتت طلقت كل واحدة من ضرائرها طلقة طلقة وإذا ماتت أخرى فكذلك وإن مات هو طلقن كلهن في آخر جزء من حياته
فصل : فإن قال إن لم تكوني حاملا فأنت طالق ولم تكن حاملا طلقت وإن أتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين اليمين أو لأقل من أربع سنين ولم يكن بطأها لم تطلق لأنا تبينا أنها كانت حاملا بذلك الولد وإن مضت أربع سنين ولم تلد تبينا أنها طلقت حين عقد اليمين وإن كان يطؤها وأتت بولد لأكثر من ستة أشهر وأقل من أربع سنين نظرت علامات الحمل من انقطاع الحيض ونحوه قبل وطئه أو قريبا منه بحيث لا يحتمل أن يكون من الوطء الثاني لم تطلق وإن حاضت أو وجد ما يدل على براءتها من الحمل طلقت وإن لم يظهر ذلك واحتمل أن يكون من الثاني ففيه وجهان :
أحدهما : تطلق لأن الأصل عدم الحمل قبل الوطء والثاني : لا تطلق لأن اليقين بقاء النكاح فلا يزول بشك واحتمال ولا يجوز للزوج وطؤها قبل الاستبراء لأن الأصل عدم الحمل ووقوع الطلاق وإلا استبرأها ههنا بحيضة فإن وجدت الحيضة على عادتها تبينا وقوع طلاقها وإن لم تأت في عادتها كان ذلك دليلا على حملها وحل وطئها وإن قال إن كنت حاملا فأنت طالق فهي عكس المسألة التي قبلها ففي الموضع الذي يقع الطلاق ثم لا يقع ههنا وفي الموضع الذي لا يقع ثم يقع ههنا إلا أنها إذا أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين وطء الزوج بعد اليمين ولأقل من أربع سنين من حين عقد الصفة لم تطلق لأن تعين النكاح باق والظاهر حدوث الولد من الوطء لأن الأصل عدمه قبله ولا يحل له الوطء حتى يستبرئها نص عليه أحمد قال القاضي : يحرم الوطء سواء قلنا الرجعية مباحة أو محرمة لأنه يمنع المعرفة بوقوع الطلاق وعدمه وقال أبو الخطاب في رواية أخرى : لا يحرم الوطء لأن الأصل بقاء النكاح وبراءة الرحم من الحمل وإذا استبرأها حل وطؤها على الروايتين ويكون الاستبراء بحيضة
قال أحمد في رواية أبي طالب : إذا قال لامرأته متى حملت فأنت طالق لا يقربها حتى تحيض فإذا طهرت وطئها فإن تاخر حيضها أريت النساء من أهل المعرفة فإن لم يوجدن أو خفي عليهن انتظر عليها تسعة أشهر غالب مدة الحمل وذكر القاضي فيها رواية أخرى أنها تستبرأ بثلاثة أقراء ولأنه استبراء الحرة وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والصحيح ما ذكرناه لأن المقصود معرفة براءة رحمها وقد حصل بحيضة ولهذا قال عليه السلام : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ] يعني تعلم براءتها بحيضة ولأن ما يعلم به البراءة في حق الأمة والحرة واحد لأنه أمر حقيقي لا يختلف بالحرية والرق وأما العدة ففيها نوع تعبد لا يجوز أن يعرى بالقياس وهل تعتدان بالإستبراء قبل عقد اليمين أو بالحيضة التي حلف فيها ؟ على وجهين أصحهما الاعتداد به لأنه يحصل به ما يحصل بالاستبراء بعد اليمين والثاني : لا يعتد به لأن الاستبراء لا يتقدم على سببه ولأنه لا يعتد به في استبراء الأمة
قال أحمد : إذا قال لامرأته إذا حبلت فأنت طالق يطؤها في كل طهر مرة يعني إذا حاضت ثم طهرت حل وطؤها لأن الحيض علم على براءتها من الحمل ووطؤها سبب له فإذا وطئها اعتزلها لاحتمال أن تكون قد حملت من وطئه فطلقت منه
فصل : إذا قال إن كنت حاملا بغلام فأنت طالق واحدة وإن ولدت أنثى فأنت طالق اثنتين فولدت غلاما كانت حاملا به وقت اليمين تبينا أنها طلقت واحدة حين حلف وانقضت عدتها بوضعه وإن ولدت أنثى طلقت بولادتها طلقتين واعتدت بالقروء وإن ولدت غلاما وجارية وكان الغلام أولهما ولادة تبينا أنها طلقت واحدة وبانت بوضع الجارية ولم تطلق بها وإن كانت الجارية أولهما ولادة طلقت ثلاثا واحدة بحمل الغلام واثنتين بولادة الجارية وانقضت عدتها بوضع الغلام وإن قال لها إن كنت حاملا بغلام فأنت طالق واحدة وإن كنت حاملا بجارية فأنت طالق اثنتين فولدت غلاما وجارية طلقت ثلاثا
وإن قال إن كان حملك غلاما فأنت طالق واحدة وإن كان حملك جارية فأنت طالق اثنتين فولدت غلاما وجارية لم تطلق لأن حملها كله ليس بغلام ولا هو جارية ذكره القاضي في المجرد و أبو الخطاب وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال القاضي في الجامع في وقوع الطلاق وجهان بناء على الروايتين فيمن حلف لا لبست ثوبا من غزلها فلبس ثوبا فيه من غزلها
فصل : فإن قال كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ثلاثا دفعة واحدة طلقت ثلاثا لأن صفة الثلاث وجدت وهي زوجة وإن ولدتهم في دفعات من حمل واحد طلقت بالأولين وبنات بالثلاث ولم تطلق ذكره أبو بكر وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن ابن حامد أنها تطلق لأن زمان البينونة زمن الوقوع ولا تنافي بينهما
ولنا أن العدة انقضت بوضع الحمل فصادفها الطلاق بائنا فلم يقع كما لو قال إذا مت فأنت طالق وقد نص أحمد فيمن قال أنت طالق مع موتي أنها لا تطلق فهذا أولى وإن قال إن ولدت ذكرا فأنت طالق واحدة وإن ولدت أنثى فأنت طالق اثنتين فولدتهما دفعة واحدة طلقت ثلاثا وإن ولدتهما في دفعتين وقع بالأول ما علق عليه وبانت بالثاني ولم يقع به شيء إلا على قول ابن حامد فإن أشكر الأول منهما أو كيفية وضعهما طلقت واحدة بيقين ولا نلزمه الثانية والورع أن يلتزمها وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي وقال القاضي : قياس المذهب أن يقرع بينهما
وإن قال إن كان أول ما تلدين ذكر فأنت طالق واحدة وإن كان أنثى فأنت طالق اثنتين فولدتهما دفعة واحدة طلقن كلهن ثلاثا ثلاثا وإن ولدن في دفعات وقع بضرائر الأولى طلقة طلقة فإذا ولدت الثانية بانت بوضعه ولم تطلق وهل يطلق سائرهن ؟ فيه احتمالان أحدهما : لا يقع بهن طلاق لأنها لما انقدت عدتها بانت فلم يبقين ضرائرها والزوج إنما علق على ولادتها طلاق ضرائرها
والوجه الثاني : يقع بكل واحدة طلقة لأنهن ضرائرها في حال ولادتها فعلى هذا يقع بكل واحدة من اللتين لم يلدن طلقتان طلقتان وتبين هذه وتقع بالوالدة الأولى طلقة فإذا ولدت الثالثة بانت وفي وقوع الطلاق بالباقيتين وجهان فإذا قلنا يقع بهن طلقت الرابع ثلاثا والأولى طلقتين وبانت الثانية والثالثة وليس فيهن من له رجعتها إلا الأولى ما لم تنقض عدتها وإذا ولدت الرابعة لم تطلق واحدة منهن وتنقضي عدتها بذلك
وإن قال كلما ولدت واحدة منكن فسائركن طوالق أو فباقيكن طوالق فكلما ولدت واحدة وقع بباقيهن طلقة طلقة وتبين الوالدة بوضع ولدها إلا الأولى والفرق بين هذه وبين التي قبلها أن الثانية والثالثة يقع الطلاق بباقيهن وولادتهما ههنا وفي الأولى لا يقع لأنهن لم يبقين ضرائرها وههنا لم يعلقه بذلك وإن قال كلما ولدت واحدة منكن فأنت طوالق فكذلك إلا أنه يقع على الأولى طلقة بولادتها فإن كان الثانية حاملا باثنين فوضعت الأول منهما وقع بكل واحدة من ضرائرها طلقة في المسائل كلها ووقع بها طلقة في المسألة الثالثة وإذا وضعت الثالثة أو كانت حاملا باثنين فكذلك فتطلق الرابعة ثلاثا وتطلق كل واحدة من الوالدات طلقتين طلقتين في المسألتين الأوليين وثلاثا في المسألة الثالثة فكلما وضعت واحدة منهن تمام حملها انقضت به عدتها قال القاضي : إذا كانت له زوجتان فقال كلما ولدت واحدة منكما فأنتما طالقتان فولدت إحداهما يوم الخميس طلقتا جميعا ثم ولدت الثانية يوم الجمعة بانت وانقضت عدتها ولم تطلق وطلقت الأولى ثانية فإذا كانت كل واحدة منهما حاملا باثنين طلقتا بوضع الثانية طلقة طلقة أيضا ثم إذا ولدت الأولى تمام حملها انقضت عدتها به وطلقت الثانية ثلاثا فإذا ولدت الثانية تمام حملها انقضت عدتها به وطلقت الثانية ثلاثا
فصل : وإذا قال لامرأته إن كلمتك فأنت طالق ثم أعاد ذلك ثانية طلقت واحدة لأن إعادته تكليم لها وشرط لطلاقها فإن أعاده ثالثة طلقت ثانية إلا أن يكون غير مدخول بها فتبين بالأولى ولا يلحقها طلاق ثان وإن أعاده رابعة طلقت الثالثة وإن قال إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي ذلك أو فتحققي ذلك حنث لأنه كلمها بعد عقد اليمين إلا أن ينوي كلاما مبتدأ وإن زجرها فقال : تنحي أو اسكتي أو اذهبي حنث لأنه كلام وإن سمعها تذكر فقال : الكاذب عليه لعنة الله حنث نص عليه أحمد لأنه كلمها وإن كلمها وهي نائمة أو مغلوبة على عقلها بإغماء أو جنون لا تسمع أو بعيدة لا تسمع كلامه أو صماء بحيث لا تفهم كلامه ولا تسمع أو حلف لا يكلم فلانا فكلمه ميتا لم يحنث وقال أبو بكر : يحنث في جميع ذلك لقول أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟
ولنا أن التكلم فعل يتعدى إلى المتكلم وقد قيل إنه مأخوذ من الكلم وهو الجرح لأنه يؤثر فيه كتأثير الجرح ولا يكون ذلك إلا بإسماعه ف [ أما تكليم النبي صلى الله عليه و سلم الموتى فمن معجزاته فإنه قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ] ولم يثبت هذا لغيره وقول أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ حجة لنا فإنهم قالوا ذلك استبعادا أو سؤالا عما خفي عنهم سببه وحكمته حتى كشف لهم النبي صلى الله عليه و سلم حكمة ذلك بأمر مختص به فيبقى الأمر في حق من سواه على النفي وإن حلف لا كلمت فلانا فكلمته سكران حنث لأن السكران يكلم ويحنث وربما كان تكليمه في حال سكره أضر من تكليمه في صحوه وإن كلمته سكرانة حنث لأن حكمها حكم الصاحي وإن كلمته وهو صبي أو مجنون يسمع ويعلم أنه مكلم حنث وإن جنت هي ثم كلمته لم يحنث لأن القلم مرفوع عنها ولم يبق لكلامها حكم (8/362)
فصلان : تعمد الحنث باليمين
فصل : فإن حلف لا يكلم إنسانا فكلمه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث لأنه كلمه وإنما لم يسمع لغفلته أو شغل قلبه وإن كلمه ولم يعرفه فإن كانت يمينه بالطلاق حنث قال أحمد : في رجل حلف بالطلاق أن لا يكلم حماته فرآها بالليل فقال من هذا ؟ حنث قد كلمها وإن كانت يمينه بالله أو يمينا مكفرة فالصحيح أنه لا يحنث لأنه لم يقصد تكليمه فأشبه الناسي ولأنه ظن المحلوف عليه غيره فأشبه لغير اليمين وإن سلم عليه حنث لأنه كلمه بالسلام وإن سلم على جماعة هو فيهم وأراد جميعهم بالسلام حنث لأنه كلمهم كلهم وإن قصد بالسلام من عداه لم يحنث لأنه إنما كلم غيره وهو يسمع وإن لم يعلم أنه فيهم ففيه روايتان إحداهما : يحنث لأنه كلمهم جميعهم وهو فيهم والثانية : لا يحنث لأنه لم يقصده ويمكن حمل قوله في الحنث على اليمين بالطلاق والعتاق لأنه لا يعذر فيها بالنسيان والجهل في الصحيح من المذهب وعدم الحنث على اليمين المكفرة فإن كان الحالف إماما والمحلوف عليه مأموما لم يحنث بتسليم الصلاة لأنه للخروج منها إلا أن ينوي بتسليمه المأمومين فيكون حكمه حكم ما لو سلم عليهم في غير الصلاة ويحتمل أن لا يحنث بحال لأن هذا لا يعد تكليما ولا يريده الحالف وإن حلف لا يكلم فلانا فكلم إنسانا وفلانا يسمع يقصد بذلك إسماعه كما قال * إياك عني واسمعي يا جارة * حنث نص عليه أحمد قال : إذا حلف لا يكلم فلانا فكلم إنسانا وفلان يسمع يريد بكلامه إياه المحلوف عليه حنث لأنه قد أراد تكليمه
وروي عن أبي بكرة ما يدل على أنه لا يحنث فإنه كان حلف أن لا يكلم أخاه زيدا فعزم زياد على الحج فجاء أبو بكرة فدخل قصره وأخذ ابنه في حجره فقال إن أباك يريد الحج والدخول على زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا السبب وقد علم أنه غير صحيح ثم خرج ولم ير أنه كلمه والأول الصحيح لأنه أسمعه كلامه يريده به فأشبه ما لو خاطبه به ولأن به مقصود تكليمه قد حصل بإسماعه كلامه
فصل : فإن قكت إليه أو أرسل إلأيه رسولا حنث إلا أن يكون قصد أن لا يشافهه نص عليه أحمد وذكره الخرقي في موضع آخر وذلك لقول الله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا } ولأن القصد بالترك لكلامه هجرانه ولا يحصل مع مواصلته بالرسل والكتب ويحتمل أن لا يحنث إلا أن ينوي ترك ذلك لأن هذا ليس بتكليم حقيقة ولو حلف ليكلمنه لم يبر بذلك إلا أن ينويه فكذلك لا يحنث به ولو حلف لا يكلمه فأرسل إنسانا يسأل أهل العلم عن مسألة أو حديث فجاء الرسول فسأله المحلوف عليه لم يحنث بذلك وإن حلف لا يكلم إمرأته فجامعها لم يحنث إلا أن تكون نيته هجرانها قال أحمد في رجل قال لامرأته إن كلمتك خمسة أيام فأنت طالق أله أن يجامعها ولا يكلمها ؟ فقال أي شيء كان بدو هذا أيسوؤها أو يغيظها فإن لم يكن له نية فله أن يجامعها ولا يكلمها وإن حلف لا يقرأ كتاب فلان فقرأه في نفسه ولم يحرك شفتيه به حنث لأن هذا قراءة الكتب في عرف الناس فتنصرف يمينه إليه إلا أن ينوي حقيقة القراءة قال أحمد إذا حلف لا قرأت لفلان كتابا ففتحه حتى استقصى آخره إلا أنه لم يحرك شفتيه فإن أراد أن لا يعلم ما فيه فقد علم ما فيه وقرأه (8/374)
فصول : صور أخرى من تعليق الطلاق بزمن أو صفة
فصل : فإن قال لامرأته أن بدأتك بالكلام فأنت طالق إن بدأتك بالكلام فعبدي حر انحلت يمينه لأنه لما خاطبته بيمينها فاتته البداية بكلامها وبقيت يمينها معلقة فإن بدأها بكلام انحلت يمينها أيضا وإن بدأته هي عتق عبدها هكذا ذكره أصحابنا ويحتمل أنه إن بدأها بالكلام في وقت آخر حنث لأن ذلك يسمى بداية فتناولته يمينه إلا أن ينوي ترك البداية في هذا الوقت أو هذا المجلس فيتقيد به
فصل : فإن قال لامرأتيه إن كلمتما هذين الرجلين فأنتما طالقتان فكلمت كل واحدة رجلا ففيه وجهان :
أحدهما : يحنث لأن تكليمهما وجد منهما كما لو قال إن حضتما فأنتما طالقتان فحاضت كل واحدة حيضة وكذلك لو قال إن ركبتما دابتيكما فأنتما طالقتان فركبت كل واحدة دابتها
والوجه الثاني : لا يحنث حتى تكلم كل واحدة منهما الرجلين معا لأنه علق طلاقهما بكلامهما لهما فلا تطلق واحدة بكلام الأخرى وحدها وهذا أظهر الوجهين لأصحاب الشافعي وهكذا لو قال إن دخلتما هاتين الدارين فالحكم فيها كالأولى وهذا فيما لم تجر العادة بانفراد الواحد به فأما ما جرى العرف فيه بانفراد الواحد فيه بالواحد كنحو ركبا دابتيهما ولبسا ثوبيهما وتقلدا سيفيهما واعتقلا رمحيهما ودخلا بزوجيهما وأشباه هذا فإنه يحنث إذا وجد منهما منفردين وما لم تجر العادة فيه بذلك فهو على الوجهين ولو قال إن أكلتما هذين الرغيفين فأكلت كل واحدة منهما رغيفا يحنث لأنه يستحيل أن تأكل كل واحدة منهما الرغيفين بخلاف الرجلين والدارين
فصل : فإن قال أنت طالق إن كلمت زيدا ومحمد مع خالد لم تطلق حتى تكلم زيدا في حال يكون فيها محمد مع خالد وذكر القاضي انه يحنث بكلام زيد فقط لأن قوله محمد مع خالد استئناف كلام بدليل أنه مرفوع والصحيح ما قلناه لأنه متى أمكن جعل الكلام متصلا كان أولى من قطعه والرفع لا ينفي كونه حالا فإن الجملة من المبتدأ والخبر تكون حالا كقوله تعالى : { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون } وقال : { إلا استمعوه وهم يلعبون } { وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون } وهذا كثير فلا يجوز قطعه عن الكلام الذي هو في سياقه مع إمكان وصله به ولو قال إن كلمت زيدا ومحمد مع خالد فأنت طالق لم تطلق حتى تكلم زيدا في حال كون محمد مع خالد فكذلك إذا تأخر قوله محمد مع خالد ولو قال أنت طالق إن كلمت زيدا وأنا غائب لم تطلق حتى تكلمه في حال غيبته وكذلك لو قال أنت طالق إن كلمت زيدا وأنت راكبة أو هو راكب أو ومحمد راكب حتى تكلمه في تلك الحال ولو قال أنت طالق إن كلمت زيدا ومحمدا أخوه مريض لم تطلق حتى تكلمه وأخوه محمد مريض
فصل : فإن قال إن كلمتني إلى أن يقدم زيد أو حتى يقدم زيد فأنت طالق فكلمته قبل قدومه حنث لأنه مد المنع إلى غاية هي قدوم زيد فلا يحنث بعدها فإن قال أردت أن استدمت كلامي من الآن إلى أن يقدم زيد دين وهل يقبل في الحكم ؟ يحتمل وجهين (8/376)
فصول : الطلاق المعلق على مشيئة شخص أو محبته أو نحو ذلك
فصل : فإن قال : أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت أو كلما شئت أو كيف شئت أو حيث شئت أو أنى شئت لم تطلق حتى تشاء وتنطق بالمشيئة بلسانها فتقول قد شئت لأن ما في القلب لا يعلم حتى يعبر عنه اللسان فتعلق الحكم بما يتعلق به دون ما في القلب فلو شاءت بقلبها دون نطقها لم يقع طلاق ولو قالت : قد شئت بلسانها وهي كارهة لوقع الطلاق اعتبارا بالنطق وكذلك إن علق الطلاق بمشيئة غيرها ومتى وجدت المشيئة باللسان وقع الطلاق سواء كان على الفور أو التراخي نص عليه أحمد في تعليق الطلاق بمشيئة فلان وفيما إذا قال : أنت طالق حيث شئت أو أنى شئت ونحو هذا قال الزهري و قتادة وقال أبو حنيفة دون صاحبيه : إذا قال : أنت طالق كيف شئت تطلق في الحال طلقة رجعية لأن هذا ليس بشرط وإنما هو صفة للطلاق الواقع بمشيئتها
ولنا أنه أضاف الطلاق إلى مشيئتها فأشبه ما لو قال حيث شئت وقال الشافعي في جميع الحروف إن شاءت في الحال وإلا فلا تطلق لأن هذا تمليك للطلاق على الفور كقوله اختاري وقال أصحاب الرأي في أن كقوله وفي سائر الحروف كقولنا لأن هذه الحروف صريحة في التراخي فحملت على مقتضاها بخلاف أن فإنها لا تقتضي زمانا وإنما هي لمجرد الشرط فتقيد بالفور بقضية التمليك وقال الحسن و عطاء إذا قال : أنت طالق إن شئت إنما ذلك لها ما داما في مجلسهما
ولنا أنه تعليق للطلاق على شرط فكان على التراخي كسائر التعليق ولأنه إزالة ملك معلق على المشيئة فكان على التراخي كالعتق وفارق اختاري فغنه ليس بشرط إنما هو تخيير فتقيد بالمجلس كخيار المجلس وإن مات من له المشيئة أو جن لم يقع الطلاق لأن شرط الطلاق لم يوجد وحكي عن أبي بكر أنه يقع وليس بصحيح لأن الطلاق المعلق على شرط لا يقع إذا تعذر شرطه كما لو قال : أنت طالق إن دخلت الدار وإن شاء وهو مجنون لم يقع طلاقه لأنه لا حكم لكلامه وإن شاء وهو سكران فالصحيح أنه لا يقع لأنه زائل العقل فهو كالمجنون
وقال أصحابنا يخرج على الروايتين في طلاقه والفرق بينهما أن إيقاع طلاقه تغليظ عليه كيلا تكون المعصية سببا للتخفيف عنه وههنا إنما يقع الطلاق بغير فلا يصح منه في حال زوال عقله وإن شاء وهو طفل لم يقع لأنه كالمجنون وإن كان يعقل الطلاق وقع لأن له مشيئة ولذلك صح اختياره لأحد أبويه وإن كان أخرس فشاء بالإشارة وقع الطلاق لأن إشارته تقوم مقام نطق الناطق ولذلك وقع طلاقه بها وإن كان ناطقا حال التعليق فخرس ففيه وجهان
أحدهما : يقع الطلاق بها لأن طلاقه في نفسه يقع بها فكذلك طلاق من علقه بمشيئة
والثاني : لا يقع بها لأنه حال التعليق كأنه لا يقع إلا بالنطق فلم يقع بغيره كما لو قال في التعليق إن نطق فلان بمشيئته فهي طالق
فصل : فإن قيد المشيئة بوقت فقال : أنت طالق إن شئت اليوم تقيد به فإن خرج اليوم قبل مشيئتها لم تطلق وإن علقه على مشيئة اثنين لم يقع حتى توجد مشيئتهما وخرج القاضي وجها أنه يقع بمشيئة أحدهما كما يحنث بفعل بعض المحلوف عليه وقد بينا فساد هذا فإن قال : أنت طالق إن شئت وشاء أبوك فقالت قد شئت إن شاء أبي فقال أبوها قد شئت لم تطلق لأنها لم تشأ فإن المشيئة أمر خفي لا يصح تعليقها على شرط وكذلك لو قال : أنت طالق إن شئت فقالت قد شئت إن شئت فقال : قد شئت أو قالت : قد شئت إن طلعت الشمس لم يقع نص عليه أحمد على معنى هذا وهو قول سائر أهل العلم منهم الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الرجل إذا قال لزوجته : أنت طالق إن شئت فقالت : قد شئت إن شاء فلان أنها قد ردت الأمر ولا يلزمها الطلاق وإن شاء فلان وذلك لأنه لم توجد منها مشيئة وإنما وجد منها تعليق مشيئتها بشرط وليس تعليق المشيئة بشرط مشيئة وإن علق الطلاق على مشيئة اثنين فشاء أحدهما على الفور والآخر على التراخي وقع الطلاق لأن المشيئة قد وجدت منهما جميعا
فصل : فإن قال : أنت طالق إلا أن تشائي أو يشاء زيد فقالت : قد شئت لم تطلق وإن أخرا ذلك طلقت وإن جن من علق الطلاق بمشيئته طلقت في الحال لأنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بشرط لم يوجد وكذلك إن مات فإن خرس فشاء بالإشارة خرج فيه وجهان بناء على وقوع الطلاق بإشارته إذا علقه على مشيئته
فصل : فإن قال : أنت طالق واحدة إلا أن تشائي ثلاثا فلم تشأ أو شاءت أقل من ثلاث طلقت واحدة وإن قالت قد شئت ثلاثا فقال أبو بكر : تطلق ثلاثا وقال أصحاب الشافعي و أبي حنيفة : لا تطلق إذا شاءت ثلاثا لأن الاستثناء من الإثبات نفي فتقديره أنت طالق واحدة إلا أن تشائي ثلاثا فلا تطلقي ولأنه أو لم يقل ثلاثة لما طلقت بمشيئتها ثلاثا فكذلك إذا قال : ثلاثا لأنه إنما ذكر الثلاث صفة لمشيئتها الرافعة لطلاق الواحدة فيصير كما لو قال أنت طالق إلا أن تكرري بمشيئتك ثلاثا وقال القاضي : فيها وجهان :
أحدهما : لا تطلق لما ذكرنا والثاني : تطلق ثلاثا لأن السابق إلى الفهم من هذا الكلام إيقاع الثلاث إذا شاءت كما لو قال علي درهم إلا أن يقيم البينة بثالثة وخذ درهما إلا أن تريد أكثر منه ومنه قول النبي صلى الله عليه و سلم [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار ] أي إن بيع الخيار ثبت الخيار فيه بعد تفرقهما وإن قال : أنت طالق ثلاثا إلا أن تشائي واحدة فقالت : قد شئت واحدة طلقت واحدى على قول أبي بكر وعلى قولهم لا تطلق شيئا
فصل : فإن قال : أنت طالق لمشيئة فلان أو لرضاه أو له طلقت في الحال لأن معناه أنت طالق لكونه قد شاء ذلك أو رضيه أو ليرضى به كقوله هو حر لوجه الله أو لرضى الله فإن قال : أردت به الشرط دين قال القاضي : يقبل في الحكم لأنه محتمل فإن ذلك يستعمل للشرط كقوله أنت طالق للسنة وهذا أظهر الوجهين لأصحاب الشافعي
فصل : فإن قال : أنت طالق إن أحببت أو إن أردت أو إن كرهت احتمل أن يتعلق الطلاق بقولها بلسانها قد أحببت أو أردت أو كرهت لأن هذه المعاني في القلب لا يمكن الإطلاع عليها إلا من قولها فتعلق الحكم بها كالمشيئة ويحتمل أن يتعلق الحكم بما في القلب من ذلك ويكون اللسان دليلا عليه فعلى هذا لو أقر الزوج بوجوده وقع طلاقه وإن لم يتلفظ به ولو قالت : أنا أحب ذلك ثم قالت : كنت كاذبة لم تطلق وإن قال : إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار فأنت طالق فقالت : أنا أحب ذلك فقد سئل أحمد عنها فلم يجب فيها بشيء وفيها احتمالان
أحدهما : لا تطلق وهو قول أبي ثور لأن المحبة في القلب ولا توجد من أحد محبة ذلك وخبرها محبتها له كذب معلوم فلم يصلح دليلا على ما في قلبها
والاحتمال الثاني : أنها تطلق وهو قول أصحاب الرأي لأن ما في القلب لا يوقف عليه إلا من لسانها فاقتضى تعليق الحكم بلفظها به كاذبة كانت أو صادقة كالمشيئة ولا فرق بين قوله إن كنت تحبين ذلك وبين قوله إن كنت تحبينه بقلبك لأن المحبة لا تكون إلا بالقلب (8/378)
فصول : تعليق الطلاق على مشيئة الله
فصل : فإن قال أنت طالق إن شاء الله تعالى طلقت وكذلك إن قال عبدي حر إن شاء الله تعالى عتق نص عليه أحمد في رواية جماعة وقال ليس هما من الأيمان وبهذا قال سعيد بن المسيب و الحسن و مكحول و قتادة و الزهري و مالك و الليث و الأوزاعي و أبو عبيد وعن أحمد ما يدل على أن الطلاق لا يقع وكذلك العتاق وهو قول طاوس و الحكم و أبي حنيفة و الشافعي لأنه علقه على مشيئة لم يعلم وجودها فلم يقع كما لو علقه على مشيئة زيد وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث ] رواه الترمذي وقال حديث حسن
ولنا ما روى أبو جمرة قال سمعت ابن عباس يقول : إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق إن شاء الله فهي طالق وراه أبو حفص بإسناده وعن أبي بردة نحوه
وروى ابن عمر وأبو سعيد قال : كنا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم نرى الاستثناء جائزا في كل شيء إلا في العتاق والطلاق ذكر أبو الخطاب وهذا نقل للإجماع وإن قدر أنه قول بعضهم ولم يعلم له مخالف فهو إجماع ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح كقوله أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا ولأنه استثناء حكما في محل فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح ولأنه إزالة ملك فلم يصح تعليقه على مشيئة الله كما لو قال أبرأتك إن شاء الله أو تعليق على ما لا سبيل إلى عمله فأشبه تعليقه على المستحيلات والحديث لا حجة لهم فيه فإن الطلاق والعتاق إنشاء وليس بيمين حقيقة وإن سمي بذلك فمجاز لا تترك الحقيقة من أجله ثم إن الطلاق إنما سمي يمينا إذا كان معلقا على شرط يمكن تركه وفعله ومجرد قوله أنت طالق ليس بيمين حقيقة ولا مجازا فلم يمكن الاستثناء بعد يمين وقولهم علقه على مشيئة لا تعلم قلنا قد علمت مشيئة الله للطلاق بمباشرة الآدمي سببه قال قتادة : قد شاء الله حين أذن أن يطلق ولو سلمنا أنها لم تعلم لكن قد علقه على شرط يستحيل علمه كتعليقه على المستحيلات يلغو ويقع الطلاق في الحال
فصل : فإن قال أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله فعن أحمد فيه روايتان إحداهما : يقع الطلاق بدخول الدار ولا ينفعه الاستثناء لأن الطلاق والعتاق ليسا من الأيمان ولما ذكرناه في الفصل الأول
والثانية : لا تطلق وهو قول أبي عبيد لأنه إذا علق الطلاق بشرط صار يمينا وحلفا فصح الاستثناء فيه لعموم قوله عليه السلام : [ من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث ] وفارق ما إذا لم يعلقه فإنه ليس بيمين فلا يدخل في العموم
فصل : فإن قال أنت طالق إلا أن يشاء الله طلقت ووافق أصحاب الشافعي على هذا في الصحيح من المذهب لأنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة لم تعلم وإن قال أنت طالق إن لم يشأ الله أو لم يشأ الله وقع أيضا في الحال لأن وقوع طلاقها إذا لم يشأ الله محال فلغت هذه الصفة ووقع الطلاق ويحتمل أن لا يقع بناء على تعليق الطلاق على المحال مثل قوله أنت طالق إن جمعت بين الضدين أو شربت الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه وإن قال أنت طالق لتدخلن الدار إن شاء الله لم تطلق دخلت أو لم تدخل لأنها إن دخلت فقد فعلت المحلوف عليه وإن لم تدخل علمنا أن الله لم يشأه لأنه لو شاءه لوجد فإن ما شاء الله كان وكذلك إن قال أنت طالق لا تدخلي الدار إن شاء الله لما ذكرنا وإن أراد بالاستثناء والشرط رده إلى الطلاق دون الدخول خرج فيه من الخلاف ما ذكرنا في المنجز وإن لم تعلم نيته فالظاهر رجوعه إلى الدخول ويحتمل أن يرجع إلى الطلاق (8/383)
فصل : تعليق الطلاق على مستحيل
فصل : فإن علق الطلاق على مستحيل فقال أنت طالق إن قتلت الميت أو شربت الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه أو جمعت بين الضدين أو كان الواحد أكثر من اثنين أو على ما يستحيل عادة كقوله إن طرأت أو صعدت إلى السماء أو قلبت الحجر ذهبا أو شربت هذا النهر كله أو حملت الجبل أو شاء الميت ففيه وجهان :
أحدهما : يقع الطلاق في الحال لأنه أردف الطلاق بما يرفع جملته ويمنع وقوعه في الحال
وفي الثاني فلم يصح كاستثناء الكل كما لو قالت أنت طالق طلقة لا تقع عليك أو لا تنقص عدد طلاقك
والثاني : لا يقع لأنه علق الطلاق بصفة لم توجد ولأن ما يقصد تبعيده يعلق على المحال كقوله :
( إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب )
أي لا آتيهم وقيل إن علقه على ما يستحيل عقلا وقع في الحال لأنه لا وجود له فلم تعلق به الصفة وبقي مجرد الطلاق فوقع وإن علقه على مستحيل عادة كالطيران وصعود السماء لم يقع لأنه له وجود وقد وجد جنس ذلك في معجزات الأنبياء عليهم السلام وكرامات الأولياء فجاز تعليق الطلاق به ولم يقع قبل وجوده فأما إن علق طلاقها على نفي فعل المستحيل فقال أنت طالق إن لم تقتلي الميت أو تصعدي السماء طلقت في الحال لأنه علقه على عدم ذلك وعدمه معلوم في الحال
وفي الثاني فوقع الطلاق كما لو قال أنت طالق إن لم أبع عبدي فمات العبد وكذلك لو قال أنت طالق لأشربر الماء الذي في الكوز ولا ماء فيه أو لأقتلن الميت وقع الطلاق في الحال لما ذكرناه وحكى أبو الخطاب عن القاضي أنه لا يقع طلاقه كما لو حلف ليصعدن السماء أو ليطيرن فإنه لا يحنث والصحيح أنه يحنث فإن الحالف على فعل الممتنع كاذب حانث قال الله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } - إلى قوله - { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } ولو حلف على فعل متصور فصار ممتنعا حنث بذلك فلأن يحنث بكونه ممتنعا حال يمينه أولى (8/385)
فصل : وإن حلف أن لا يشرب النهر فشرب
فصل : وإذا حلف لا شربت من هذا النهر فاعترف منه وشرب حنث وإن حلف لا شربت من هذا الإناء فصب منه في إناء آخر وشرب وكان الإناء كبيرا لا يمكن الشرب به حنث أيضا وإن كان الشرب به ممكنا لم يحنث لأن الإناء الصغير آلة للشرب فتنصرف يمينه إلى الشرب به بخلاف النهر والإناء الكبير فإنه لا تنصرف يمينه إلا إلى الشرب من مائه ولو حلف لا يشرب من بردى فشرب من نهر يأخذ منه لم يحنث وإن حلف لا يشرب من ماء بردى فشرب من نهر يأخذ منه حنث ذكر نحو ذلك القاضي لأن بردى اسم لمكان خاص فإذا تجاوزه إلى مكان سواه فشرب منه فما شرب من بردى وإذا كانت يمينه على مائه فماؤه ماؤه حيث كان وأين نقل ولذلك لو حلف لا يأكل من تمر البصرة فأكله في غيرها حنث وإن اغترف من بردى ونقله إلى مكان آخر فشربه حنث في المسألتين جميعا لأن اغتراف الماء من بردى ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات لم يحنث إلا بالشرب من ماء النهر المعروف بالفرات وإن حلف لا يشرب من ماء فرات حنث بالشرب من كل ماء عذب لأنه إذا عرفه بلام التعريف انصرف إلى النهر المعروف وإذا أنكره صار للعموم فيتناول كل ما يسمى فراتا وكل عذب فرات قال الله تعالى : { وأسقيناكم ماء فراتا } وقال : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } ومتى نوى بيمينه المحتمل الآخر انصرف إليه ويقبل منه ذلك لأنه قريب لا تبعد إرادته (8/386)
فصول : حكم اليمين إذا قيدت بزمان أو مكان وفروع في تعليق الطلاق بصفة أو زمان
فصل : ولو حلف لا يشتمه ولا يكلمه في المسجد ففعل ذلك في المسجد والمحلوف عليه من غيره حنث وإن فعله في غير المسجد والمحلوف عليه في المسجد لم يحنث ولو حلف لا يضربه ولا يشجه ولا يقتله في المسجد ففعله والحالف في المسجد والمحلوف عليه في غيره لم يحنث وإن كان الحالف في غير المسجد والمحلوف عليه في المسجد حنث لأن الشتم والكلام قول يستقل به القائل فلا يعتبر فيه حضور المشتوم فيوجد من الشاتم في المسجد وإن لم يكن المشتوم فيه والكلام قول فهو كالشتم وسائر الأفعال المذكورة فعل متعد محله المضروب والمقتول والمشجوج فإذا كان محله في غير المسجد كان الفعل في غيره فيعتبر محل المفعول به ولو حلف ليقتلنه يوم الجمعة فجرحه يوم الخميس ومات يوم الجمعة فقال القاضي : لا يحنث وإن جرحه يوم الجمعة فمات يوم السبت فقال : يحنث لأنه لا يكون مقتولا حتى يموت فاعتبر يوم موته لا يوم ضربه ويتوجه أن يكون الحكم بالعكس في المسألتين فيعتبر يوم جرحه لا يوم موته لأن القتل فعل القاتل ولهذا يصح الأمر به والنهي عنه قال الله تعالى : { اقتلوا المشركين } { ولا تقتلوا أولادكم } والأمر والنهي إنما يتوجه إلى فعل ممكن فعله وتركه وذلك فعل الآدمي من الجرح ونحوه أما الزهوق ففعل الله لا يؤمر به ولا ينهى عنه ولا سبيل للآدمي إلا إلى تعاطي سببه وهو شرط في القتل فإذا وجد تبينا أن الفعل المفضي إليه كان قتلا ولذلك جاز تقديم الكفارة بعد الجرح وقبل الزهوق ولو حلف لأقتلنه فمات من جرح كان جرحه لم يبر ولو حلف لا يقتله لم يحنث بذلك أيضا ويحتمل أن لا يبر حتى يوجد السبب والزهوق معا في يوم الجمعة لأن القتل لا يتم إلا بسببه وشرطه فأما بنسبته إلى الشرط وحده دون السبب فبعيد
فصل : إذا قال من بشرتني بقدوم أخي فهي طالق فبشرته إحداهن وهي صادقة طلقت وإن كانت كاذبة لم تطلق لأن التبشير خبر صدق يحصل به ما يغير البشرة من سرور أو غم وإن أخبرته به أخرى لم تطلق لأن السرور إنما يحصل بخبرها فكان هو البشارة وإن بشره بذلك اثنتان أو ثلاث أو الأربع في دفعة واحدة طلقن كلهن لأن من تقع على الواحد فما زاد قال الله تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } وقال : { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين } ولو قال من أخبرتني بقدوم أخي فهي طالق فقال القاضي هو كالبشارة لا تطلق إلا المخبرة الأولى الصادقة دون غيرها لأن مراده خبر يحصل له به العلم بقدومه ولا يحصل ذلك بكذب ولا بغير الأول
ويحتمل أن تطلق كل مخبرة صادقة كانت أو كاذبة أولا كان أو غيره لأن الخبر يكون صادقا وكذبا وأولا ومكررا وهو اختيار أبي الخطاب والأول قول القاضي ومذهب الشافعي على نحو هذا التفصيل
فصل : وإن قال أول من تقوم منكن فهي طالق أو قال لعبيده أول من قام منكم فهو حر فقام الكل دفعة واحدة لم يقع طلاق ولا عتق لأنه لا أول فيهم وإن قال واحد أو واحدة ولم يقم بعده أحد احتمل وجهين :
أحدهما : يقع الطلاق والعتق لأن الأول ما لم يسبقه شيء وهذا كلذلك
والثاني : لا يقع طلاق ولا عتق لأن الأول ما كان بعده شيء ولم يوجد فعلى هذا لا يحكم بوقوع ذلك ولا انتفائه حتى يتبين من قيام أحد منهم بعده فتنحل يمينه وإن قال اثنان أو ثلاثة دفعة واحدة وقام بعدهم آخر ووقع الطلاق والعتق بالجماعة الذين قاموا في الأول لأن الأول يقع على الكثير والقليل قال الله تعالى : { ولا تكونوا أول كافر به }
وحكي عن القاضي فيمن قال أول من يدخل من عبيدي فهو حر فدخل اثنان دفعة واحدة ثم دخل بعدهما ثالث لم يعتق واحد منهم وهذا بعيد فإنهم قد دخل بعضهم بعد بعض ولا أول فيهم وهذا لا يستقيم إلا أن يكون قال أول من يدخل منكم وحده ولم يدخل بعد الثالث أحد فإنه لو دخل بعد الثالث أحد عتق الثالث لكونه أول من دخل وحده وإذا لم يقل وحده فإن لفظة الأول يتناول الجماعة كما ذكرنا وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أول من يدخل الجنة فقراء المهاجرين ]
ولو قال : آخر من يدخل منكن الدار فهي طالق فدخل بعضهن لم يحكم بطلاق واحدة منهن حتى يتبين من دخول غيرها بموته أو موتهن أو غير ذلك فنتبين وقوع الطلاق بآخرهن دخولا من حين دخلت وكذلك الحكم في العتق (8/387)
فصول : نية الحالف باليمين بلفظ عام وصور من تعليق الطلاق بزمن أو صفة
فصل : وإذا حلف يمينا على فعل بلفظ عام وأراد به شيئا خاصا مثل أن حلف لا يغتسل الليلة وأراد الجنابة أو لا قربت لي فراشا وأراد ترك جماعها أو قال إن تزوجت فعبدي حر وأراد امرأة معينة أو قال إن دخل إلي رجل أو قال أحد فامرأتي طالق وأراد رجلا بعينه أو حلف لا يأكل خبزا يريد خبر البر أو لا يدخل دارا يريد دار فلان أو قال إن خرجت فأنت طالق يريد الخروج إلى الحمام أو قال إن مشيت واراد استطلاق البطن فإن ذلك يسمى مشيا قال النبي صلى الله عليه و سلم لامرأة : ثم تستمشين ويقال شربت مشيا ومشوا إذا شرب دواء يمشيه فإن يمينه في ذلك على ما نواه ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين قال أحمد : في الظهار فيمن قال لامرأته إن قربت لي فراشا فأنت علي كظهر أمي فجاءت فقامت على فراشه فقال أردت الجماع لا يلزمه شيء وقال الشافعي و محمد بن الحسن : لا يقبل قوله في الحكم في هذا كله لأنه خلاف الظاهر
ولنا أنه فسر كلامه بما يحتمله فقبل كما لو قال أنت طالق وقال أردت بالثانية التوكيد
فصل : وإن حلف يمينا عامة لسبب خاص وله نية حمل عليها ويقبل قوله في الحكم لأن السبب دليل على صدقه وإن لم ينو شيئا فقد روي عن أحمد ما يدل على أن يمينه تختص بما وجد فيه السبب وذكره الخرقي فقال : فإن لم يكن له نية رجع سبب اليمين وما هيجها فظاهر هذا أن يمينه مقصورة على محل السبب وهذا قول أصحاب أبي حنيفة
وروي عن أحمد ما يدل على أن يمينه تحمل على العموم فإنه قال فيمن قال لله علي أن لا أصيد في هذا النهر لظلم رآه فتغير حاله فقال النذر يوفى به وذلك لأن اللفظ دليل الحكم فيجب الإعتبار في الخصوص والعموم كما في لفظ الشارع
ووجه الأول أن السبب الخاص يدل على قصد الخصوص ويقوم مقام النية عند عدمها لدلالته عليها فوجب أن يختص به اللفظ العام كالنية وفارق لفظ الشارع فإنه يريد بيان الأحكام فلا يختص بمحل السبب لكن الحاجة داعية إلى معرفة الحكم في غير محل السبب فعلى هذا لو قامت امرأته لتخرج فقال إن خرجت فأنت طالق فرجعت ثم خرجت بعد ذلك أو دعاه إنسان إلى غدائه فقال امرأتي طالق إن تغديت ثم رجع فتغدى في منزله لم يحنث على الأول ويحنث على الثاني وإن حلف لعامل أن يخرج إلا بإذنه أو حلف بذلك على امرأته أو مملوكه فعزل العامل وطلق المرأة وباع المملوك أو حلف على وكيل فعزله خرج في ذلك كله وجهان
فصل : وإن قال إن دخل داري أحد فامرأتي طالق فدخلها هو أو قال لإنسان إن دخل دارك أحد فعبدي حر فدخلها صاحبها فقال القاضي : لا يحنث لأن قرينة حال المتكلم تدل على أنه إنما يحلف على غيره ويمنع من سواه فيخرج هو من العموم بالقرينة ويخرج المخاطب من اليمين بها أيضا ويحتمل أن يحنث أخذا بعموم اللفظ وإعراضا عن السبب كما في التي قبلها
فصل : وإذا قال لامرأته إن وطئتك فأنت طالق انصرفت يمينه إلى جماعها وقال محمد بن الحسن : يمينه على الوطء بالقدم لأنه الحقيقة وحكي عنه أنه لو قال أردت به الجماع لم يقبل في الحكم
ولنا أن الوطء إذا أضيف إلى المرأة كان في العرف عبارة عن الجماع ولهذا يفهم منه الجماع في لفظ الشارع في مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ] فيجب حمله عند الإطلاق عليه كسائر الأسماء العرفية من الظعينة والرواية وأشبههما ولا يحنث حتى تغيب الحشفة في الفرج وإن حلف ليجامعها أو لا يجامعها انصرف إلى الوطء في الفرج ولم يحنث بالجماع دون الفرج وإن أنزل لأن مبنى الأيمان على العرف والعرف ما قلناه
وإن حلف لافتضضتك فافتضها بأصبع لم يحنث لأن المعهود من إطلاق هذه اللفظة وطء البكر وإن حلف على امرأة لا يملكها أن لا ينكحها فيمينه على العقد لأن إطلاق النكاح ينصرف إليه وإن كان مالكا لها بنكاح أو ملك يمين فهو على وطئها لأن قرينة الحال صارفة عن العقد عليها لكونها معقودا عليها
فصل : وإن قال إن أمرتك فخالفتني فأنت طالق ثم نهاها فخالفته فقال أبو بكر : لا يحنث وهو قول الشافعي لأنها خالفت نهيه لا أمره وقال أبو الخطاب : يحنث إذا قصد أن لا تخالفه أو لم يكن ممن يعرف حقيقة الأمر والنهي لأنه إذا كان كذلك فإنما يريد نفي المخالفة ويحتمل أن تطلق بكل حال لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عنه أمر بضده فقد خالفت أمره وإن قال لها إن نهيتني عن نفع أمي فأنت طالق فقالت له لا تعطها من مالي شيئا لم يحنث لأن إعطاءها من مالها لا يجوز ولا يجوز النفع به فيكون هذا النفع محرما فلا يتناوله يمينه ويحتمل أن يحنث لأنه نفع ولفظه عام فيدخل المحرم فيه
فصل : فإن قال لامرأته إن خرجت إلى غير الحمام فأنت طالق فخرجت إلى غير الحمام طلقت سواء عدلت إلى الحمام أو لم تعدل وإن خرجت إلى الحمام ثم عدلت إلى غيره فقياس المذهب أنه يحنث لأن ظاهر هذه اليمين المنع من غير الحمام فكيفما صارت إليه حنث كما لو خالفت لفظه ويحتمل أن لا يحنث وهو قول الشافعي لأنها لم تفعل ما حلف عليه ويتناوله لفظه وإن خرجت إلى الحمام وغيره وجمعتهما في القصد ففيه وجهان
أحدهما : يحنث لأنها خرجت إلى غير الحمام وانضم إلأيه غيره فحنث بما حلف عليه كما لو حلف لا يكلم زيدا فكلم زيدا وعمرا
والثاني : لا يحنث لأنها ما خرجت إلى غير الحمام بل الخروج مشترك ونقل الفضل بن زياد عن أحمد أنه سئل إذا حلف بالطلاق أن لا يخرج من بغداد إلا لنزهة فخرج إلى النزهة ثم مر إلى مكة فقال النزهة لا تكون إلى مكة فظاهر هذا أنه أحنثه ووجه ما تقدم وقال في رجل حلف بالطلاق أن لا يأتي أرمينية إلا بإذن امرأته فقالت امرأته إذهب حيث شئت فقال لا حتى تقول إلى أرمينية والصحيح أنه متى أذنت له إذنا عاما لم يحنث قال القاضي : وهذا من كلام أحمد محمول على أن هذا خرج مخرج الغضب والكراهة ولو قالت هذا بطيب قلبها كان إذنا منها وله الخروج وإن كان بلفظ عام
فصل : فإن حلف ليرحلن من هذه الدار أو ليخرجن من هذه المدينة ففعل ثم عاد إليها لم يحنث إلا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي عدم الرجوع إليها لأن الحلف على الخروج والرحيل وقد فعلهما وقد نقل عنه إسماعيل بن سعيد إذا حلف على رجل أن يخرج من بغداد فخرج ثم رجع قد مضت يمينه لا شيء عليه
ونقل عنه مثنى بن جامع فيمن قال لامرأته أنت طالق إن لم نرحل من هذه الدار إن لم يدركه الموت ولم ينو شيئا هي إلى أن تموت فإن رحل لم يرجع ومعنى هذا أنه إن أدركه الموت قبل إمكان الرحيل لم يحنث وإن أمكنه الرحيل فلم يفعل لم يحنث حتى يموت أحدهما فيقع بها الطلاق في آخر أوقات الإمكان وأما قوله إن رحل لم يرجع فمحمول على من كان ليمينه سبب يقتضي هجران الدار على الدوام ونقل مهنا في رجل قال لامرأته إن وهبت كذا فأنت طالق فإذا هي قد وهبت قال أخاف أن يكون قد حنث قال القاضي : هذا محمول على أنه قال إن كنت وهبته وإلا فلا يحنث حتى تبتدئ هبته لأن اليمين تقتضي فعلا مستقبلا يحنث به وما فعلت ما حلف عليه بعد يمينه
ونقل عنه أيضا في رجل قال لامرأته إن رأيتك تدخلين الدار فأنت طالق فهو على نيته إن أراد أن لا تدخلها حنث وإن كان نوى إذا رآها لم يحنث حتى يراها تدخل وهو كما قال فإن مبنى اليمين على النيات سيما والرؤية تطلق على العلم كقول الله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } ونحوه ومتى لم تكن له نية ولا سبب هناك يدل على إرادته مع الدخول بمجرده لم يحنث حتى يراها تدخل الدار لأنه الذي تناوله لفظه ونقل عنه المروزي في رجل أقرض رجلا دراهم فحلف أن لا يقبلها وكان الرجل ميتا تعطى الورثة يعني إذا مات الحالف يوفى الورثة ولا يبرأ بيمينه لأنها ليست إبراء فلا يسقط الحق بها
فصل : ولو قال امرأتي طالق إن كنت أملك إلا مائة وكان يملك أكثر من مائة أو أقل حنث فإن نوى أني لا أملك أكثر من مائة لم يحنث بملك ما دونها وإن قال إن كنت أملك أكثر من مائة فامرأتي طالق وكان يملك أقل من المائة لم يحنث لأنه صادق
فصل : فإن قال لامرأته يا طالق أنت طالق إن دخلت الدار طلقت واحدة بقوله يا طالق وبقيت أخرى معلقة بدخول الدار ولو قال أنت طلاق ثلاثا يا طالق إن دخلت الدار فإن كانت له نية رجع إليها وإلا وقعت واحدة بالنداء وبقيت الثلاث معلقة على دخول الدار وكذا لو قال أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار وعاد الشرط إلى الطلاق دون القذف وقال محمد بن الحسن : يرجع الشرط إليهما في المسألتين فلا يقع بها في الحال شيء والأولى أن يرجع الشرط إلى الخبر الذي يصح فيه التصديق والتكذيب وجرت العادة بتعليقه بالشرط بخلاف النداء والقذف الذي لا يوجد ذلك فيه
فصل : فإن قال لامرأته أنت طالق مريضة بالنصبة أو الرفع ونوى به وصفها بالمرض في الحال طلقت في الحال وإن نوى به أنت طالق في حال مرضك لم تطلق حتى تمرض لأن هذا حال والحال مفعول فيه كالظرف ويكون الرفع لحنا لأن الحال منصوب وإن أطلق ونصب انصرف إلى الحال لأن مريضة اسم نكرة جاء بعد تمام الكلام وصفا لمعرفة فيكون حالا وإن رفع فالأولى وقوع الطلاق في الحال ويكون ذلك وصفا لطالق الذي هو خبر المبتدأ وإن أسكن احتمل وجهين
أحدهما وقوع الطلاق في الحال لأن قوله أنت طالق يقتضي وقوع الطلاق في الحال فقد تيقنا وجود المقتضي وشككنا فيما يمنع حكمه فلا نزول عن اليقين بالشك
والثاني : لا يقع إلا في حال مرضها لأن ذكره للمرض في سياق الطلاق يدل على تعليقه به وتأثيره فيه ولا يؤثر فيه إلا إذا كان حالا (8/390)
فصلان : تعليق الطلاق على فعل الغير
مسألة : قال : وإذا قال أنت طالق إذا قدم فلان فقدم به ميتا أو مكرها لم تطلق
أما إذا قدم به ميتا أو مكرها محمولا فلا تطلق لأنه لم يقدم إنما قدم به وهذا قول الشافعي ن ونقل عن أبي بكر أنه يحنث لأن الفعل ينسب إليه ولذلك يقال دخل الطعام البلد إذا حمل إليه ولو قال أنت طالق إذا دخل الطعام البلد طلقت إذا حمل إليه
ولنا أن الفعل ليس منه والفعل لا ينسب إلى غير فاعله إلا مجازا والكلام عند إطلاقه لحقيقته إذا أمكن وأما الطعام فلا يمكن وجود الفعل منه حقيقة فتعين حمل الدخول فيه على مجازه وأما إن قدم بنفسه لإكراه فعلى قول الخرقي لا يحنث وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال أبو بكر : يحنث وحكاه عن أحمد لأن الفعل منه حقيقة وينسب إليه قال الله تعالى : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها } ويصح أمر المكره بالفعل قال الله تعالى : { فادخلوا أبواب جهنم } ولولا أن الفعل يتحقق منه لما صح أمره به ووجه الأول أنه بالإكراه زال اختياره فإذا وجدت الصفة منه كان كوجود الطلاق منه مكرها وهذا فيما إذا أطلق وإن كانت له نية حمل عليها كلامه وتقيد بها
فصل : وإن قدم مختارا حنث الحالف سواء علم القادر باليمين أو جهلها قال أبو بكر : الخلال يقع الطلاق قولا واحدا وقال أبو عبد الله بن حامد : إن كان القادم ممن لا يمتنع من القدون بيمينه كالسلطان والحاج والرجل الأجنبي حنث الحالف ولا يعتبر علمه ولا جهله وإن كان ممن يمتنع باليمين من القدوم كقرابة لهما أو لأحدهما أو غلام لأحدهما فجهل اليمين أو نسيها فالحكم فيه كما لو حلف على فعل نفسه ففعله ناسيا أو جاهلا وفي ذلك روايتان كذلك ههنا وذلك لأنه إذا لم يكن ممن تمنعه اليمين كان تعليقا للطلاق على صفة ولم يكن يمينا فأشبه ما لو علقه على طلوع الشمس وإن كان ممن يمتنع كان يمينا فيعذر فيها بالنسيان والجهل وينبغي أن تعتبر على هذا القول نية الحالف وقرائن أحواله الدالة على قصده فإن كان قصده بيمينه منع القادم من القدوم كان يمينا وإن كان قصده جعله صفة في طلاقها مطلقة لم يكن يمينا ويستوي فيه علم القادم وجهله ونسيانه وجنونه وإفاقته مثل أن يقصد طلاقها إذا حصل معها محرمها ولا يطلقها وحدها وتعتبر قرائن الأحوال فمتى علق اليمين على قدوم غائب بعيد يعلم أنه لا يعلم اليمين ولا يمتنع بها أو على فعل صغير أو مجنون أو من لا يمتنع بها لم تكن يمينا وإن علق ذلك على فعل حاضر يعلم بيمينه ويمتنع لأجلها عن فعل ما علق الطلاق عليه كان يمينا ومتى أشكلت الحال فينبغي أن يقع الطلاق لأن لفظه يقتضي وقوع الطلاق عند وجود هذه الصفة على العموم وإنما ينصرف عن ذلك بدليل فمتى شككنا في الدليل المخصص وجب العمل بمقتضى العموم (8/397)
فصول : صور من تعليق الطلاق بزمن أو فعل معين
فصل : فإن قال إن تركت هذا الصبي يخرج فأنت طالق فانفلت الصبي بغير اختيارها فخرج فإن كان نوى أن لا يخرج فقد حنث وإن نوى أن لا تدعه لم يحنث نص أحمد على معنى هذا وذلك لأن اليمين إذا وقعت على فعلها فقد فعل الخروج عن غير اختيار منها فكانت كالمكره إذا لم يمكنها حفظه ومنعه وإن نوى فعله فقد وجد وحنث وإن لم تعلم نيته انصرفت يمينه إلى فعلها لأنه الذي تناوله لفظه فلا يحنث إلا إذا خرج بتفريطها في حفظه أو اختيارها
فصل : فإن حلف لا تأخذ حقك مني فأكره على دفعه إليه وأخذه منه قهرا حنث لأن المحلوف عليه فعل الأخذ وقد أخذه مختارا وإن أكره صاحب الحق على أخذه خرج على الوجهين : فيمن أكره على القدوم وإن وضعه الحالف في حجره أو بين يديه أو إلى جنبه فلم يأخذه لم يحنث لأن الأخذ ما وجد وإن أخذه الحاكم أو السلطان من الغريم فدفعه إلى المستحق فأخذه فقال القاضي : لا يحنث وهو مذهب الشافعي لأنه ما أخذه منه وإن قال لا تأخذ حقك علي حنث لأنه قد أخذ حقه الذي عليه والمنصوص عن أحمد أنه يحنث في الصورتين قاله أبو بكر وهو الذي يقتضيه مذهبه لأن الأيمان عنده على الأسباب لا على الأسماء ولأنه لو وكل وكيلا فأخذه منه كان آخذا لحقه منه عرفا ويمسى آخذا قال الله تعالى : { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } وقال : { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } وإن كانت اليمين من صاحب الحق فحلف لا أخذت حقي منك فالتفريع فيها كالتي قبلها فإن تركها الغريم في أثناء متاع في خرج ثم دفع الخرج إلى الحالف فأخذه ولم يعلم أنها فيه لم يحنث لأن هذا ليس بمعدود أخذا ولا يبرأ به الغريم منها فقد كانت اليمين لا أعطيتك حقك فأخذه الحاكم منه كرها فدفعه إلى الغريم لم يحنث وإن أكرهه على دفعه إليه فدفعه خرج على الوجهين في المكره وإن أعطاه باختياره حنث وإن وضعه في حجره أو جيبه أو صندوقه وهو يعلم حنث لأنه أعطاه وإن دفعه إلى الحاكم اختيارا ليدفعه إلى الغريم فدفعه أو أخذه من ماله باختياره فدفعه إلى الغريم حنث وقال القاضي : لا يحنث وقياس المذهب أنه يحنث لأنه أوصله إليه مختارا فأشبه ما لو دفعه إلى وكيله فأعطاه إياه ولأن الأيمان على الأسباب لا على الأسماء على ما ذكرناه فيما مضى
فصل : فإن قال إن رأيت أباك فأنت طالق فرأته ميتا أو نائما أو مغمى عليه أو رأته من خلف زجاج أو جسم شفاف طلقت لأنها رأته وإن رأت خياله في ماء أو مرآة أو صورته على حائط أو غيره لم تطلق لأنها لم تره وإن أكرهت على رؤيته خرج على الوجهين (8/399)
مسألتان وفصول : تكرير لفظ الطلاق للمدخول بها أو لغير المدخول بها
مسألة : قال : وإذا قال لمدخول بها أنت طالق أنت طالق لزمه تطليقتان إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى فتلزمه واحدة وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأنه ابتداء كلام
وجملة ذلك أنه إذا قال لامرأته المدخول بها أنت طالق مرتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية وقعت بها طلقتان بلا خلاف وإن نوى بها إفهامها أن الأولى قد وقعت بها أو التأكيد لم تطلق إلا واحدة وإن لم تكن له نية وقع طلقتان وبه قال أبو حنيفة و مالك وهو الصحيح من قولي الشافعي وقال في الآخر : تطلق واحدة لأن التكرار يكون للتأكيد والإفهام ويحتمل الإيقاع فلا توقع طلقة بالشك
ولنا أن هذا اللفظ للإيقاع ويقتضي الوقوع بدليل ما لو لم يتقدمه مثله وإنما ينصرف عن ذلك بنية التأكيد والإفهام فإذا لم يوجد ذلك وقع مقتضاه كما يجب العمل بالعموم في العام إذا لم يوجد المخصص وبالإطلاق في المطلق إذا لم يوجد المقيد فأما غير المدخول بها فلا تطلق إلا طلقة واحدة سواء نوى الإيقاع أو غيره وسواء قال ذلك منفصلا أو متصلا وهذا قول أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث و عكرمة و النخعي و حماد بن أبي سليمان و الحكم و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي و أبي عبيد و ابن المنذر وذكره الحكم عن علي وزيد بن ثابت وابن مسعود وقال مالك و الأوزاعي و الليث : يقع بها تطليقتان وإن قال ذلك ثلاثا طلقت ثلاثا إذا كان متصلا لأنه طلق ثلاثا بكلام متصل أشبه قوله أنت طالق ثلاثا
ولنا أنه طلاق مفرق في غير المدخول بها فلم تقع الأولى كما لو فرق كلامه ولأن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة لأنه لا عدة عليها فتصادفها الطلقة الثانية بائنا فلم يمكن وقوع الطلاق بها لأنها غير زوجة وإنما تطلق الزوجة ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولا نعلم لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا
فصل : فإن قال أنت طالق ثم مضى زمن طويل ثم أعاد ذلك للمدخول بها طلقت ثانية ولم يقبل قوله نويت التوكيد لأن التوكيد تابع للكلام فشرطه أن يكون متصلا به كسائر التوابع من العطف والصفة والبدل
فصل : وكل طلاق يترتب في الوقوع ويأتي بعضه بعد بعض لا يقع بغير المدخول بها منه أكثر من طلقة واحدة لما ذكرناه ويقع بالمدخول بها ثلاث إذا أوقعها مثل قوله أنت طالق فطالق فطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو أنت طالق ثم طالق وطالق أو فطالق وأشباه ذلك لأن هذه حروف تقتضي الترتيب فتقع بها الأولى فتبينها فتأتي الثانية فتصادفها بائنا غير زوجة فلا تقع بها وأما المدخول بها فتأتي الثانية فتصادف محل النكاح فتقع وكذلك الثالثة وكذلك لو قال أنت طالق بل طالق وطالق ذكره أبو الخطاب
ولو قال أنت طالق طلقة قبل طلقة أو بعد طلقة أو بعدها طلقة أو طلقة فطلقة أو طلقة ثم طلقة وقع بغير المدخول بها طلقة وبالمدخول بها طلقتان لما ذكرنا من أن هذا يقتضي طلقة بعد طلقة
فصل : وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة فكذلك ذكره القاضي وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم لا يقع بغير المدخول بها شيء بناء على قولهم في المسألة السريجية وقال أبو بكر : يقع طلقتان وهو قول أبي حنيفة لأنه استحال وقوع الطلقة الأخرى قبل الطلقة الموقعة فوقعت معها لأنها لما تأخرت عن الزمن الذي قصد إيقاعها فيه لكونه زمنا ماضيا وجب إيقاعها في أقرب الأزمنة إليه وهو معها ولا يلزم تأخرها إلى ما بعدها لأن قبله زمن يمكن الوقوع فيه وهو زمن قريب فلا يؤخر إلى البعيد مع إمكان القريب
ولنا أن هذا طلاق بعضه قبل بعض فلم يقع بغير المدخول بها جميعه كما لو قال طلقة بعد طلقة ولا يمتنع أن يقع المتأخر في لفظه متقدما كما لو فال طلقة بعد طلقة أو قال أنت طالق طلقة غدا وطلقة اليوم ولو قال جاء زيد بعد عمرو أو جاء زيد وقبله عمرو أو أعط زيدا بعد عمرو وكان كلاما صحيحا يفيد تأخير المتقدم لفظا عن المذكور بعده وليس هذا طلاقا في زمن ماض وإنما يقع إيقاعه في المستقبل مرتبا على الوجه الذي رتبه ولو قدر أن إحداهما موقعة في زمن ماض لامتنع وقوعها وحدها ووقعت الأخرى وحدها وهذا تعليل القاضي لكونه لا يقع إلا واحدة والأول من التعليل أصح إن شاء الله تعالى
فصل : فإن قال أنت طالق طلقة معها طلقة وقع بها طلقتان وإن قال معها اثنتان وقع بها ثلاث في قياس المذهب وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وقال أبو يوسف : يقع طلقة لأن الطلقة إذا وقعت مفردة لم يمكن أن يكون معها شيء
ولنا أنه أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهن معا فوقعن كلهن كما لو قال أنت طالق ثلاثا ولا نسلم أن الطلقة تقع مفردة فإن الطلاق لا يقع بمجرد التلفظ به إذ لو وقع بذلك لما صح تعليقه بشرط ولا صح وصفه بالثلاث ولا بغيرها وكذلك الحكم لو قال إذا طلقتك فأنت طالق معها طلقة ثم قال أنت طالق فإنها تطلق طلقتين لما ذكرنا
فصل : فإن قال أنت طالق طلقة بعدها طلقة ثم أردت أني أوقع بعدها طلقة دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة وقال أردت أني طلقتها قبل هذا في نكاح آخر أو أن زوجا قبلي طلقها دين وهل يقبل في الحكم ؟ على ثلاثة أوجه أحدها : يقبل والآخر : لا يقبل والثالث : يقبل إن كان وجد وإن لم يكن وجد لم يقبل والصحيح أنه إذا لم يكن وجد لا يقبل لأنه لا يحتمل ما قاله
فصل : فإن قال أنت طالق طالق طالق وقال أردت التوكيد قبل منه لأن الكلام يكرر للتوكيد كقوله عليه السلام [ فنكاحها باطل باطل باطل ] وإن قصد الإيقاع وكرر الطلقات طلقت ثلاثا وإن لم ينو شيئا لم يقع إلا واحدة لأنه لم يأت بينهما بحرف يقتضي المغايرة فلا يكن متغايرات وإن قال أنت طالق وطالق وطالق وقال : أردت بالثانية التأكيد لم يقبل لأنه غاير بينها وبين الأولى بحرف يقتضي العطف والمغايرة وهذا يمنع التأكيد وأما الثالثة فهي كالثانية في لفظها فإن قال أردت بها التوكيد دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين إحداهما : يقبل وهي مذهب الشافعي لأنه كرر لفظ الطلاق مثل الأول فقبل تفسيره بالتأكيد كما لو قال أنت طالق أنت طالق
والثانية : لا يقبل لأن حرف العطف للمغايرة فلا يقبل ما يخالف ذلك كما لا يقبل في الثانية ولو قال أنت طالق فطالق فطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق فالحكم فيها كالتي عطفها بالواو وإن غاير بين الحروف فقال : أنت طالق وطالق ثم طالق أو طالق ثم طالق وطالق أو طالق وطالق فطالق ونحو ذلك لم يقبل في شيء منها إرادة التوكيد لأن كل كلمة مغايرة لما قبلها مخالفة لها في لفظها والتوكيد إنما يكون بتكرير الأول بصورته
فصل : ولو قال أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة وقال أردت التوكيد بالثانية والثالثة قبل لأنه لم يغاير بينهما بالحروف الموضوعة للمغايرة بين الألفاظ بل أعاد اللفظة بمعناها ومثل هذا يعاد توكيدا وإن قال أنت مطلقة ومسرحة ومفارقة وقال : أردت التوكيد احتمل أن يقبل منه لأن اللفظ المختلف يعطف بعضه على بعض توكيدا كقوله * فألقى قولها كذبا ومينا * ويحتمل أن لا يقبل لأن الواو تقتضي المغايرة فأشبه ما لو كان بلفظ واحد
مسألة : قال : وإذا قال لغير مدخول بها أنت طالق وطالق وطالق لزمه الثلاث لأنه نسق وهو مثل قوله أنت طالق ثلاثا
وبهذا قال مالك و الأوزاعي و الليث و ربيعة و ابن أبي ليلى وحكي عن الشافعي في القديم ما يدل عليه وقال الثوري و أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور : لا يقع إلا واحدة لأنه أوقع الأولى قبل الثانية فلم يقع عليها شيء آخر كما لو فرقها
ولنا أن الواو تقتضي الجمع ولا ترتيب فيها فتكون موقعا للثلاث جميعا فيقعن عليها كقوله أنت طالق ثلاثا أو طلقة معها طلقتان ويفارق ما إذا فرقها فإنها لا تقع جميعا وكذلك إذا عطف بعضها على بعض بحرف يقتضي الترتيب فإن الأولى تقع قبل الثانية بمقتضى إيقاعه وههنا لا تقع الأولى حين نطقه بها حتى يتم كلامه بدليل أنه لو ألحقه استثناء أو شرطا أو صفة لحق به ولم يقع الأول مطلقا ولو كان يقع حين تلفظه لم يلحقه شيء من ذلك وإذا ثبت أنه يقف وقوعه على تمام الكلام فإنه يقع عند تمام كلامه على الوجه الذي اقتضاه لفظه ولفظه يقتضي وقوع الطلقات الثلاث مجتمعات وهو معنى قول الخرقي لأنه نسق أي غير متفرق فإن قيل إنما وقف أول الكلام على آخره مع الشرط والاستثناء لأنه مغير له والعطف لا يغير عليه ونتبين أنه وقع أول ما لفظ به ولذلك لو قال لها أنت طالق لم يقع إلا واحدة قلنا ما لم يتم الكلام فهو عرضة للتغيير أما بما يخصه بزمن أو يقيده بقيد كالشرط وأما بما يمنع بعضه كالاستثناء وأما بما يبين عدد الواقع كالصفة بالعدد وأشباه هذا فيجب أن يكون واقعا ولولا ذلك لما وقع بغير المدخول بها ثلاث بحال لأنه لو قال لها أنت طالق ثلاثا فوقعت بها طلقة قبل قوله ثلاثا لم يكن أن يقع بها شيء آخر وأما إذا قال أنت طالق أنت طالق فهاتان جملتان لا تتعلق إحداهما بالأخرى ولو تعقب إحداهما شرط أو استثناء أو صفة لم يتناول الأخرى ولا وجه لوقوف إحداهما على الأخرى والمعطوف مع المعطوف عليه شيء واحد لو تعقبه شرط لعاد إلى الجميع ولأن المعطوف لا يستقبل بنفسه ولا يفيد بمفرده بخلاف قوله أنت طالق فإنها مفيدة لا تعلق لها بالأخرى فلا يصح قياسها عليها
فصل : فإن قال أنت طالق طلقتين ونصفا فهي عندنا كالتي قبلها يقع الثلاث وقال مخالفون يقع طلقتان وإن قال دخلت الدار فأنت طالق وكرر ذلك فدخلت طلقت ثلاثا في قول الجميع لأن الصفة وجدت فاقتضى وقوع دفعة واحدة وإن قال : إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق فدخلت الدار طلقت ثلاثا وبه قال أبو يوسف و محمد وأصحاب الشافعي في أحد الوجهين وقال أبو حنيفة يقع واحدة لأن الطلاق المعلق إذا وجدت الصفة يكون كأنه أوقعه في تلك الحال على صفته ولو أوقعه كذلك لم يقع إلا واحدة
ولنا أنه وجد شرط وقوع الثلاث طلقات غير مرتبات فوقع الثلاث كالتي قبلها وإن قال إذا دخلت الدار فأنت طالق طلقة معها طلقتان فدخلت طلقت ثلاثا وذكر مثل هذا بعض أصحاب الشافعي ولم يحك عنهم فيه خلافا
فصل : وإن قال لغير مدخول بها أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار أو إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق أو إن دخلت فأنت طالق فطالق فطالق فدخلت فطلقت واحدة فبانت بها ولم يقع غيرها وبهذا قال الشافعي وذهب القاضي إلى أنها تطلق في الحال واحدة تبين بها وهو قول أبي حنيفة في الصورة الأولى لأن ثم تقطع الأولى عما بعدها لأنها للمهملة فتكون الأولى موقعة والثانية معلقة بالشرط وقال أبو يوسف و محمد : لا يقع حتى تدخل الدار فيقع بها ثلاث لأن دخول الدار شرط لثلاث فوقعت كما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق
ولنا أن ثم للعطف وفيها ترتيب فتعلقت التطليقات كلها بالدخول لأن العطف لا يمنع تعليق الشرط بالمعطوف عليه ويجب الترتيب فيها كما يجب لو لم يعلقه بالشرط وفي هذا انفصال عما ذكروه ولأن الأولى تلي الشرط فلم يجز وقوعها بدونه كما لو لم يعطف عليها ولأنه جعل الأولى جزاء للشرط وعقبه إياها بفاء التعقيب الموضوعة للجزاء فلم يجز تقديمها عليه كسائر نظائره ولأنه لو قال إن دخل زيد داري فأعطه درهما لم يجز أن يعطيه قبل دخوله فكذا ههنا وما ذكروه تحكم ليس له شاهد في اللغة ولا أصل في الشرع
فصل : وإن قال لمدخول بها إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق لم يقع بها شيء حتى تدخل الدار فتقع بها الثلاث وبهذا قال الشافعي و أبو يوسف و محمد وذهب القاضي إلى وقوع طلقتين في الحال وتبقى الثالثة معلقة بالدخول وهو ظاهر الفساد فإنه يجعل الشرط المتقدم للمعطوف دون المعطوف عليه ويعلق به ما يبعد عنه دون ما يليه ويجعل جزاء ما لم توجد فيه الفاء التي يجازى بها دون ما وجدت فيه تحكما لا يعرف عليه دليل ولا نعلم له نظيرا وإن قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق فدخلت طلقت ثلاثا في قولهم جميعا (8/400)
مسألتان وفصول : ما يختلف به عدد الطلاق من الألفاظ والنية
مسألة : قال : وإذا طلق ثلاثا وهو ينوي واحدة فهي ثلاث
وجملة ذلك أن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى واحدة لا نعلم فيه خلافا لأن اللفظ صريح في الثلاث والنية لا تعارض الصريح لأنها أضعف من اللفظ ولذلك لا نعمل بمجردها والصريح قوي يعمل بمجرده من غير نية فلا يعارض القوي بالضعيف كما لا يعارض النص بالقياس ولأن النية إنما تعمل في صرف اللفظ إلى بعض محتملاته والثلاث نص فيها لا يحتمل الواحدة بحال فإذا نوى واحدة فقد نوى ما لا يحتمله فلا يصح كما لو قال له علي ثلاثة دراهم وقال أردت واحدا
مسألة : قال : وإن طلق واحدة وهو ينوي ثلاثا فهي واحدة
أما إذا قال أنت طالق واحدة ونوى الثلاث لم يقع إلا واحدة لأن لفظه لا يحتمل أكثر منها فإذا نوى ثلاثا فقد نوى ما لا يحتمله لفظه فلو وقع أكثر من ذلك لوقع بمجرد النية ومجرد النية لا يقع بها طلاق وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين يقع ثلاث لأنه يحتمل واحدة معها اثنتان وهذا فاسد فإن قوله معها اثنتان لا يؤديه معنى الواحدة ولا يحتمله فنيته فيه نية مجردة فلا تعمل كما لو نوى الطلاق من غير لفظ وأما إذا قال أنت طالق ونوى ثلاثا فهذا فيه روايتان :
إحداهما : لا يقع إلا واحدة وهو قول الحسن و عمرو بن دينار و الثوري و الأوزاعي وأصحاب الرأي لأن هذا اللفظ لا يتضمن عددا ولا بينونة فلم تقع به الثلاث كما لو قال أنت طالق واحدة بيانه أن قوله أنت طالق إخبار عن صفة هي عليها فلم يتضمن العدد كقوله قائمة وحائض وطاهر
والرواية الثانية : إذا نوى ثلاثا وقع الثلاث وهو قول مالك و الشافعي و أبي عبيد و ابن المنذر لأنه لفظ لو قرن به لفظ الثلاث كان ثلاثا فإذا نوى به الثلاث كان ثلاثا كالكنايات ولأنه نوى بلفظه ما يحتمله فوقع ذلك به كالكناية وبيان احتمال اللفظ للعدد انه يصح تفسيره به فيقول أنت طالق ثلاثا ولأن قوله طالق اسم فاعل واسم الفاعل يقتضي المصدر كما يقتضيه الفعل والمصدر يقع على القليل والكثير وفارق قوله أنت حائض وطاهر لأن الحيض والطهر لا يمكن تعدده في حقها والطلاق يمكن تعدده
فصل : فإن قال : أنت طالق طلاقا ونوى ثلاثا وقع لأنه صرح بالمصدر والمصدر يقع على القليل والكثير فقد نوى بلفظه ما يحتمله وإن نوى واحدة فهي واحدة وإن أطلق فهي واحدة لأنه اليقين وإن قال أنت طالق الطلاق وقع ما نواه وإن لم ينو شيئا فحكى فيها القاضي روايتين إحداهما : يقع الثلاث نص عليها أحمد في رواية مهنا لأن الألف واللام للاستغراق فيقتضي استغراق الكل وهي ثلاث
والثانية : انها واحدة لأنه يحتمل أن تعود الألف واللام إلى معهود يريد الطلاق الذي أوقعته ولأن اللام في أسماء الأجناس تستعمل لغير الاستغراق كثيرا كقوله ومن أكره على الطلاق - وإذا عقل الصبي الطلاق - واغتسلت بالماء - وتيممت بالتراب - وقرأت العلم والحديث والفقه - هذا مما يراد به ذلك الجنس ولا يفهم منه الاستغراق فعند ذلك لا يحمل على التعميم إلا بنية صارفة إليه وهكذا لو قال لامرأته أنت الطلاق فإن أحمد قال : إن أراد ثلاثا فهي ثلاث وإن نوى واحدة فهي واحدة وإن لم ينو شيئا فكلام أحمد يقتضي أن تكون ثلاثا لأنه قال أنت الطلاق فهذا قد بين أي شيء بقي هي ثلاث وهذا اختيار أبي بكر ويخرج فيها أنها واحدة بناء على المسألة قبلها ووجه القولين ما تقدم ومما يبين أنه يراد بها الواحدة قول الشاعر :
( فأنت الطلاق وأنت الطلاق ... وأنت الطلاق ثلاثا تماما )
فجعل المكرر ثلاثا ولو كان للاستغراق لكان ذلك تسعا
فصل : ولو قال الطلاق يلزمني أو الطلاق لي لازم فهو صريح فإنه يقال لمن وقع طلاقه لزمه الطلاق وقالوا إذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه ولعلهم أرادوا لزمه حكمه فحذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه ثم اشتهر ذلك حتى صار من الأسماء العرفية وانغمرت الحقيقة فيه ويقع به ما نواه من واحدة أو اثنتين أو ثلاث وإن أطلق ففيه روايتان وجههما ما تقدم وإن قال علي الطلاق فهو بمثابة قوله : الطلاق يلزمني لأن من لزمه شيء فهو عليه كالدين وقد اشتهر استعمال هذا في إيقاع الطلاق ويخرج فيه في حالة الإطلاق الروايتان هل هو ثلاث أو واحدة ؟
والأشبه في هذا جميعه أن يكون واحدة لأن أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثا ولا يعلمون أن الألف واللام للاستغراق ولهذا ينكر أحدهم أن يكون طلق ثلاثا ولا يعتقد أنه طلق إلا واحدة فمقتضى اللفظ في ظنهم واحدة فلا يريدون إلا ما يعتقدونه مقتضى للفظهم فيصير كأنهم نووا الواحدة
فصل : وإن قال أنت طالق للسنة طلقت واحدة في وقت السنة وذهب أبو حنيفة إلى أنها تطلق ثلاثا في ثلاثة قروء بناء منه على أن هذا هو السنة وقد بينا أن طلاق السنة طلقة واحدة في طهر لم يصبها فيه وإن قال أنت طالق طلاق السنة وقعت بها واحدة في طهر لم يصبها في أيضا إلا أن ينوي الثلاث فتكون ثلاثا لأنه ذكر المصدر والمصدر يقع على الكثير والقليل بخلاف التي قبلها
فصل : وإن قال العجمي بهشتم لبسيار طلقت امرأته ثلاثا نص عليه أحمد لأن معناه أنت طالق كثيرا وإن قال بهشتم فجسبت طلقت واحدة إلا أن ينوي ثلاثا فتكون ثلاثا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وقال القاضي : يتخرج فيه روايتان بناء على قوله : أنت طالق لأن هذا صريح وذاك صريح فهما سواء والصحيح أنه يقع ما نواه لأن معناها خليتك وخليتك يقع بها ما نواه وكذا ههنا وإنما صارت صريحة لشهرة استعمالها في الطلاق وتعينها له وذلك لا ينفي معناها ولا يمنع العمل به إذا أراده وإن قال فارقتك أو سرحتك ونوى واحدة أو أطلق فهي واحدة وإن نوى ثلاثا فهي ثلاث لأنه فعل يمكن أن يعبر به عن القليل والكثير وكذلك لو قال طلقتك (8/408)
فصل : طلاق الأخرس
فصل : ولا يقع الطلاق بغير لفظ الطلاق إلا في موضعين أحدهما : من لا يقدر على الكلام كالأخرس إذا طلق بالإشارة طلقت زوجته وبهذا قال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنه لا طريق إلى الطلاق إلا بالإشارة فقامت إشارته مقام الكلام من غير نية كالنكاح فأما القادر فلا يصح طلاقه بالإشارة كما لا يصح نكاحه بها فإن أشار الأخرس بأصابعه الثلاث إلى الطلاق طلقت ثلاثا لأن إشارته جرت مجرى نطق غيره ولو قال الناطق أنت طالق وأشار بأصابعه الثلاث لم يقع إلا واحدة لأن إشارته لا تكفي وإن قال أنت طالق هكذا بأصابعه الثلاث طلقت ثلاثا لأن قوله هكذا تصريح بالتشبيه بالأصابع في العدد وذلك يصلح بيانا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم [ الشهر هكذا وهكذا وهكذا ] وأشار بيده مرة ثلاثين ومرة تسعا وعشرين وإن قال أردت الإشارة بالأصبعين المقبوضتين قبل منه لأنه يحتمل ما يدعيه
الموضع الثاني : إذا كتب الطلاق فإن نواه طلقت زوجته وبهذا قال الشافعي و النخعي و الزهري و الحكم و أبو حنيفة و مالك وهو المنصوص عن الشافعي وذكر بعض أصحابه أن له قولا آخر أنه لا يقع به طلاق وإن نواه لأنه فعل من قادر على التطليق فلم يقع به الطلاق كالإشارة
ولنا أن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق فإذا أتى فيها بالطلاق وفهم منها ونواه وقع كاللفظ ولأن الكتابة تقوم مقام قول الكاتب بدلالة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان مأمورا بتبليغ رسالته فحصل ذلك في حق البعض بالقول وفي حق آخرين بالكتابة إلى ملوك الأطراف ولأن كتاب القاضي يقوم مقام لفظه في اثبات الديون والحقوق فأما إن كتب ذلك من غير نية فقال أبو الخطاب قد خرجها القاضي الشريف في الإرشاد على روايتين :
إحداهما : يقع وهو قول الشعبي و النخعي و الزهري والحكم لما ذكرنا
والثانية : لا يقع إلا بنية وهو قول أبي حنيفة و مالك ومنصوص الشافعي لأن الكتابة محتملة فإنه يقصد بها تجربة القلم وتجويد الخط وغم الأهل من غير نية ككنايات الطلاق فإن نوى بذلك تجويد خطه أو تجربة قلمه لم يقع لأنه نوى باللفظ غير الإيقاع لم يقع فالكتابة أولى وإذا ادعى ذلك دين فيما بينه وبين الله تعالى ويقبل أيضا في الحكم في أصح الوجهين لأنه يقبل ذلك في اللفظ الصريح في أحد الوجهين فههنا مع أنه ليس بلفظ أولى وإن قال نويت غم أهلي فقد قال في رواية أبي طالب فيمن كتب طلاق زوجته ونوى الطلاق وقع وإن أراد أن يغم أهله فقد عمل في ذلك أيضا يعني أنه يؤاخذ به لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم تكلم أو تعمل به ] فظاهر هذا أنه أوقع الطلاق لأن غم أهله يحصل بالطلاق فيجتمع غم أهله ووقوع طلاقه كما لو قال أنت طالق يريد به غمها ويحتمل أن لا يقع لأنه أراد غم أهله بتوهم الطلاق دون حقيقته فلا يكون ناويا للطلاق والخبر إنما يدل على مؤاخذته بما نواه عند العمل به أو الكلام وهذا لم ينو طلاقا فلا يؤاخذ به (8/412)
فصل : الطلاق في الكتابة بالهواء ونحوه
فصل : وإن كتبه بشيء لا يبين مثل إن كتبه باصبعه على وسادة أو في الهواء فظاهر كلام أحمد أنه لا يقع وقال أبو حفص العكبري يقع ورواه الأثرم عن الشعبي لأنه كتب حروف الطلاق فأشبه ما لو كتبه بشيء يبين والأول أولى لأن الكتابة التي لا تبين كالهمس بالفم بما لا يتبين وثم لا يقع فههنا أولى (8/414)
فصل : الحكم إذا وجدت فترة بين كتابة الطلاق وكتابة شرط فيه
فصل : إذا كتب لزوجته أنت طالق ثم استمد فكتب إذا أتاك كتابي أو علقه بشرط أو استثناء وكان في حال كتابته للطلاق مريدا للشرط لم يقع طلاقه في الحال لأنه لم ينو الطلاق في الحال بل نواه في وقت آخر وإن كان نوى الطلاق في الحال غير معلق بشرط طلقت للحال وإن لم ينو شيئا وقلنا إن المطلق يقع به الطلاق نظرنا فإن كان استمدادا لحاجة أو عادة لم يقع طلاق قبل وجود الشرط لأنه لو قال أنت طالق ثم أدركه النفس أو شيء يسكنه فسكت لذلك ثم أتى بشرط تعلق به فالكتابة أولى وإن استمد لغير حاجة ولا عادة وقع الطلاق كما لو سكت بعد قوله أنت طالق لغير حاجة ثم ذكر شرطا وإن قال إنني كتبته مريدا للشرط فقياس قول أصحابنا أنها لا تطلق قبل الشرط إلا أنه يدين وهل يقبل في الحكم ؟ على وجهين بناء على قولهم فيمن قال أنت طالق ثم قال أردت تعليقه على شرط وإن كتب إلى امرأته أما بعد فأنت طالق طلقت في الحال سواء وصل إليها الكتاب أو لم يصل وعدتها من حين كتبه وإن كتب إليها إذا وصلك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب طلقت عند وصوله إليها وإن ضاع ولم يصلها لم تطلق لأن الشرط وصوله وإن ذهبت كتابته بمحو أو غيره ووصل الكاغد لم تطلق لأنه ليس بكتاب وكذلك إن انطمس ما فيه لعرق أو غيره لأن الكتاب عبارة عما فيه الكتابة وإن ذهبت حواشيه أو تخرق منه شيء لا يخرجه عن كونه كتابا ووصل باقيه طلقت لأن الباقي كتاب وإن تخرق بعض ما فيه الكتابة سوى ما فيه ذكر الطلاق فوصل طلقت لأن الاسم باق فينصرف الاسم إليه وإن تخرق ما فيه ذكر الطلاق فذهب ووصل باقيه لم تطلق لأن المقصود ذاهب فإن قال لها إذا أتاك طلاقي فأنت طالق ثم كتب إليها إذا أتاك كتابي فأنت طالق فأتاها الكتاب طلقت طلقتين لوجود الصفتين في مجيء الكتاب فإن قال أردت إذا أتاك كتابي فأنت طالق بذلك الطلاق الذي علقته دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين (8/415)
فصل : ثبوت الكتابة بالطلاق إذا شهد به عدلان
فصل : ولا يثبت الكتاب بالطلاق إلا بشاهدين عدلين ان هذا كتابه قال أحمد في رواية حرب في امرأة أتاها كتاب زوجها بخطه وخاتمه بالطلاق لا تتزوج حتى يشهد عندها شهود عدول قيل له فإن شهد حامل الكتاب ؟ قال : لا إلا شاهدان فلم يقبل قول حامل الكتاب وحده حتى يشهد معه غيره لأن الكتب المثبتة للحقوق لا تثبت إلا بشاهدين ككتاب القاضي وظاهر كلام أحمد أن الكتاب يثبت عندها بشهادتها بين يديها وإن لم يشهدا به عند الحاكم لأن أثره في حقها في العدة وجواز التزويج بعد انقضائها وهذا معنى يختص به لا يثبت به حق على الغير فاكتفى فيه بسماعها للشهادة ولو شهد شاهدان ان هذا خط فلان لم يقبل لأن الخط يشبه به ويزور ولهذا لم يقبله الحاكم ولو اكتفى بمعرفة الخط لاكتفى بمعرفتها له من غير شهادة
وذكر القاضي أنه لا يصح شهادة الشاهدين حتى يشهداه يكتبه ثم لا يغيب عنهما حتى يؤديا الشهادة وهذا مذهب الشافعي والصحيح أن هذا ليس بشرط فإن كتاب القاضي لا يشترط فيه ذلك فهذا أولى وقد يكون صاحب الكتاب لا يعرف الكتابة وإنما يستنيب فيها وقد يستنيب فيها من يعرفها بل متى أتاها بكتاب وقرأه عليها وقال هذا كتابي كان لهما أن يشهدا به (8/416)
باب الطلاق بالحساب مسألة وفصل : طلاق جزء من المرأة
مسألة : قال : وإذا قال لها نصفك طالق أو يدك أو عضو من أعضائك طالق أو قال لها أنت طالق نصف تطليقة أو ربع تطليقة وقعت بها واحدة
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أنه إذا طلق جزءا منها والثاني : إذا طلق جزءا من طلقة فأما الأول فإنه متى طلق من المرأة جزءا من أجزائها الثابتة طلقت كلها سواء كان جزءا شائعا كنصفها أو سدسها أو جزءا من ألف جزء منها أو جزءا معينا كيدها أو رأسها أو أصبعها وهذا قول الحسن ومذهب الشافعي و أبي ثور و ابن القاسم صاحب مالك ومذهب أصحاب الرأي إلا أنه إن أضافه إلى جزء شائع أو واحد من أعضاء خمسة : الرأس والوجه والرقبة والظهر والفرج طلقت وإن أضافه إلى جزء معين غير هذه الخمسة لم تطلق لأنه جزء تبقى الجملة منه بدونه أو جزء لا يعبر به عن الجملة فلم تطلق المرأة بإضافة الطلاق إليه كالسن والظفر
ولنا أنه أضاف الطلاق إلى جزء ثابت استباجه بعقد النكاح فأشبه الجزء الشائع والأعضاء الخمسة ولأنها جملة لا تتبعض في الحل والحرمة وجد فيها ما يقتضي التحريم والإباحة فغلب عليها حكم التحريم كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل صيد وفارق ما قسوا عليه فإنه ليس بثابت والشعر والظفر ليس بثابت فإنهما يزولان ويخرج غيرهما ولا ينقض مسهما الطهارة (8/417)
فصول : ما يقع ببعض تطليقة
الفصل الثاني : إذا طلقها نصف تطليقة أو جزءا منها وإن قل فإنه يقع بها طلقة كاملة في قول عامة أهل العلم إلا داود قال : لا تطلق بذلك قال ابن المنذر أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أنها تطلق بذلك منهم الشعبي و الحارث العكلي و الزهري و قتادة و الشافعي وأصحاب الرأي و أبو عبيد قال أبو عبيد وهو قول مالك وأهل الحجاز و الثوري وأهل العراق وذلك لأن ذكر بعض ما لا يتبعض ذكر لجميعه كما لو قال نصفك طالق
فصل : فإن قال أنت طالق نصفي طلقة وقعت طلقة لأن نصفي الشيء كله وإن قال ثلاثة أنصاف طلقة طلقت طلقتين لأن ثلاثة أنصاف طلقة ونصف فكمل النصف فصارا طلقتين وهذا وجه لأصحاب الشافعي ولهم وجه آخر انها لا تطلق إلا واحدة لأنه جعل الأنصاف من طلقة واحدة فيسقط ما ليس منها وتقع طلقة ولا يصح لأن إسقاط الطلاق الموقع من الأهل في المحل لا سبيل إليه وإنما الإضافة إلى الطلقة الواحدة غير صحيح فلغت الإضافة
وإن قال أنت طالق نصف طلقتين طلقت واحدة لأن نصف الطلقتين طلقة وذكر أصحاب الشافعي وجها آخر أنه يقع طلقتان لأن اللفظ يقتضي النصف من كل واحدة منهما ثم يكمل وما ذكرناه أولى لأن التنصيف يتحقق به وفيه عمل باليقين وإلغاء الشك وإيقاع ما أوقعه من غير زيادة فكان أولى وإن قال أنت طالق نصفي طلقتين وقعت طلقتان لأن نصفي الشيء جميعه فهو كما لو قال أنت طالق طلقتين وإن قال أنت طالق نصف ثلاث طلقات طلقت طلقتين لأن نصفها طلقة ونصف ثم يكمل النصف فتصير طلقتين
فصل : وإن قال أنت طالق نصف وثلث وسدس طلقة وقعت طلقة لأنها أجزاء الطلقة ولو قال : أنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة فقال أصحابنا : يقع ثلاث لأنه عطف جزءا من طلقة على جزء من طلقة فظاهره انها طلقات متغايرة ولأنها لو كانت الثانية هي الأولى لجاء بها بلام التعريف فقال ثلث الطلقة وسدس الطلقة فإن أهل العربية قالوا إذا ذكر لفظ ثم أعيد منكرا فالثاني غير الأول وإن أعيد معرفا بالألف واللام فالثاني هو الأول كقوله تعالى : { إن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } فالعسر الثاني هو الأول لإعادته معرفا واليسر الثاني غير الأول لإعادته منكرا ولهذا قيل لن يغلب عسر يسرين وقيل لو أراد بالثانية الأولى لذكرها بالضمير لأنه الأولى
وإن قال أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة طلقت طلقة لأنه لم يعطف بواو العطف فيدل على أن هذه الأجزاء من طلقة غير متغايرة ولأنه يكون الثاني ههنا بدلا من الأول والثالث من الثاني والبدل هو المبدل أو بعضه فلم يقتض المغايرة وعلى هذا التعليل لو قال أنت طالق طلقة نصف طلقة أو طلقة طلقة لم تطلق إلا طلقة فإن قال أنت طالق نصفا وثلثا وسدسا لم يقع إلا طلقة لأن هذه أجزاء طلقة إلا أن يريد من كل طلقة جزءا فتطلق ثلاثا
ولو قال أنت طالق نصفا وثلثا وربعا طلقت طلقتين لأنه يزيد على الطلقة نصف سدس ثم يكمل وإن أراد من كل طلقة جزءا طلقت ثلاثا وإن قال أنت طلقة أو أنت نصف طلقة أو أنت نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة أو أنت نصف طالق وقع بها طلقة بناء على قولنا في أنت الطلاق أنه صريح في الطلاق وههنا مثله
فصل : فإن قال لأربع نسوة له أوقعت بينكن طلقة طلقت كل واحدة منهن طلقة كذلك قال الحسن و الشافعي و ابن القاسم و أبو عبيد وأصحاب الرأي لأن اللفظ اقتضى قسمها بينهن لكل واحدة ربعها ثم تكملت وإن قال بينكن طلقة فكذلك نص عليه أحمد لأن معناه أوقعت بينكن طلقة وإن قال أوقعت بينكن طلقتين وقع بكل واحدة طلقة ذكره أبو الخطاب وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وقال أبو بكر و القاضي : تطلق كل واحدة طلقتين ويروى عن أحمد ما يدل عليه فإنه روي عنه في رجل قال أوقعت بينكن ثلاث تطليقات ما أرى إلا قد بن منه لإننا إذا قسمنا كل طلقة بينهن حصل لكل واحدة جزءان من طلقتين ثم تكمل والأول أولى لأنه لو قال أنت طالق نصف طلقتين طلقت واحدة ويكمل نصيبها من الطلاق في واحدة فيكون لكل واحدة نصف ثم يكمل طلقة واحدة وإنما يقسم بالأجزاء مع الاختلاف كالدور ونحوها من المختلفات أما الجمل المتساوية من جنس كالنقود فإنما تقسم برؤوسها ويكمل نصيب كل واحد من واحد كأربعة لهم درهمان صحيحان فإنه يجعل لكل واحد نصف من درهم واحد والطلقات لا اختلاف فيها ولأن فيما ذكرناه أخذا باليقين فكان أولى من إيقاع طلقة زائدة بالشك فإن أراد قسمة كل طلقة بينهن فهو على ما قال أبو بكر وإن قال أوقعت بينكن ثلاث طلقات أو أربع طلقات فعلى قولنا تطلق كل واحدة طلقة وعلى قولهما يطلقن ثلاثا ثلاثا وإن قال أوقعت بينكن خمس طلقات وقع بكل واحدة طلقتان كذلك قال الحسن و قتادة و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأن نصيب كل واحدة طلقة وربع ثم تكمل وكذلك إن قال ستا أو سبعا أو ثمانيا وإن قال أوقعت بينكن تسعا طلقن ثلاثا ثلاثا
فصل : فإن قال أوقعت بينكن طلقة و طلقة و طلقة وقع بكل واحدة منهن ثلاث لأنه لما عطف وجب قسم كل طلقة على حدتها ويستوي في ذلك المدخول بها وغيرها في قياس المذهب لأن الواو لا تقتضي ترتيبا وإن قال أوقعت بينكن نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة فكذلك لأن هذا يقتضي وقوع ثلاث على ما قدمنا وإن قال أوقعت بينكن طلقة فطلقة فطلقة أو طلقة ثم طلقة ثم طلقة أو أوقعت بينكن طلقة وأوقعت بينكن طلقة وأوقعت بينكن طلقة طلقن ثلاثا إلا التي لم يدخل بها فإنها لا تطلق إلا واحدة لأنها بانت بالأولى فلم يحلقها ما بعدها
فصل : فإن قال لنسائه أنتن طوالق ثلاثا أو طلقتكن ثلاثا طلقن ثلاثا ثلاثا نص عليه أحمد لأن قوله طلقتكن يقتضي تطليق كل واحدة منهن وتعميمهن به ثم وصف ما عمهن به من الطلاق بأنه ثلاث فصار لكل واحدة ثلاث بخلاف قوله أوقعت بينكن ثلاثا فإنه يقتضي قسمة الثلاث عليهن لكل واحدة منهن جزء منها وجزء الواحدة من الثلاث ثلاثة أرباع تطليقة (8/418)
مسألة وفصل : صور من طلاق جزء من المرأة
مسألة : قال : وإن قال لها شعرك أو ظفرك طالق لم تطلق
لأن الشعر والظفر يزولان ويخرج غيرهما فليس هما كالأعضاء الثابتة وبهذا قال أصحاب الرأي وقال مالك و الشافعي : تطلق بذلك ونحوه عن الحسن لأنه جزء يستباح بنكاحها فتطلق به كالأصبع
ولنا أنه جزء ينفصل عنها في حال السلامة فلم تطلق بطلاقه كالحمل والريق فإنه لا خلاف فيهما وفارق الأصبع فإنها لا تنفصل في حال السلامة ولأن الشعر لا روح فيه ولا ينجس بموت الحيوان ولا ينقض الوضوء مسه فأشبه العرق والريق واللبن ولأن الحمل متصل بها وإنما لم تطلق بطلاقه لأن مآله إلى الانفصال وهذه كذلك والسن في معناهما لأنها تزول من الصغير ويخلف غيرها وتقلع من الكبير
فصل : وإن أضافه إلى الريق والدمع والعرق والحمل لم تطلق لا نعلم فيه خلافا لأن هذه ليست من جسمها وإنما الريق والدمع والعرق فضلات تخرج من جسمها فهو كلبنها والحمل مودع فيها قال الله تعالى : { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع } قيل مستودع في بطل الأم وإن أضافه إلى الزوج فقال أبو بكر : لا يختلف قول أحمد في الطلاق والعتاق والظهار والحرام إن هذه الأشياء لا تقع إذا ذكر أربعة أشياء الشعر والسن والظفر والروح جرد القول عنه مهنا بن يحيى والفضل بن زياد القطان فبذلك أقول ووجهه أن الروح ليست عضوا ولا شيئا يستمتع به (8/422)
مسألة : حكم من شك أنه طلق أو لم يطلق
مسألة : قال : وإذا لم يدر أطلق أم لا فلا يزول يقين النكاح بشك الطلاق
وجملة ذلك أن من شك في طلاقه لم يلزمه حكمه نص عليه أحمد وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي لأن النكاح ثابت بيقين فلا يزول بشك والأصل في هذا حديث عبد الله بن زيد [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ] متفق عليه فأمره بالبناء على اليقين واطراح الشك ولأنه شك طرأ على يقين فوجب اطراحه كما لو شك المتطهر في الحدث أو المحدث في الطهارة والورع التزام الطلاق فإن كان المشكوك فيه طلاقا رجعيا راجع امرأته إن كانت مدخولا بها أو جدد نكاحها إن كانت غير مدخول بها أو قد انقضت عدتها وإن شك في طلاق ثلاث طلقها واحدة وتركها لأنه إذا لم يطلقها فيقين نكاحه باق فلا تحل لغيره وحكي عن شريك أنه إذا شك في طلاقه طلقها واحدة ثم راجعها لتكون الرجعة عن طلقة تكون صحيحة في الحكم وليس بشيء لأن التلفظ بالرجعة ممكن مع الشك في الطلاق ولا يفتقر إلى ما تفتقر إليه العبادات من النية ولأنه لو شك في طلقتين فطلق واحدة لصار شاكا في تحريمها عليه فلا تفيده الرجعة (8/423)
6037 - مسألة : الشك في عدد الطلاق
مسألة : قال : وإذا طلق فلم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة فإن راجعها في العدة لزمته النفقة ولم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق لأنه متيقن للتحريم شاك في التحليل
وجملة ذلك أنه إذا طلق وشك في عدد الطلاق فإنه يبني على اليقين نص عليه أحمد في رواية ابن منصور في رجل لفظ بطلاق امرأته لا يدري واحدة أم ثلاثا ؟ قال أما الواحدة فقد وجبت عليه وهي حتى يستيقن وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي لان ما زاد على القدر الذي تيقنه طلاق مشكوك فيه فلم يلزمه كما لو شك في أصل الطلاق وإذا ثبت هذا فإنه تبقى أحكام المطلق دون الثلاث من إباحة الرجعة وإذا راجع وجبت النفقة وحقوق الزوجية قال الخرقي يحرم وطؤها ونحوه قول مالك إلا أنه حكي عنه أنه يلزمه الأكثر من الطلاق المشكوك فيه وقولهما تيقن في التحريم لأنه تيقن وجوده بالطلاق وشك في رفعه بالرجعة فلا يرتفع بالشك كما لو أصاب ثوب نجاسة وشك في موضعها فإنه لا يزول حكم النجاسة بغسل موضع من الثوب ولا يزول إلا بغسل جميعه وفارق لزوم النفقة فإنها لا تزول بالطلقة الواحدة فهي باقية لأنها كانت باقية ولم يتيقن زوالها وظاهر قول غير الخرقي من أصحابنا أنه إذا راجعها حلت له وهو قول أبي حنيفة و الشافعي وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور لأن التحريم المتعلق بما ينفيه يزول بالرجعة يقينا فإن التحريم أنواع تحريم تزيله الرجعة تحريم يزيله نكاح وتحريم يزيله نكاح بعد زوج وإصابة من تيقن الأدنى لا يثبت فيه حكم الأعلى كمن تيقن الحدث الأصغر لا يثبت فيه حكم الأكبر ويزول تحريم الصلاة بالطهارة الصغرى ويخالف الثوب فإن غسل بعضه لا يرفع ما تيقنه من النجاسة فنظير مسألتنا أن يتيقن نجاسة كم الثوب ويشك في نجاسة سائره فإن حكم النجاسة فيه يزول بغسل الكم وحدها كذا ههنا ويمكن منع حصول التحريم ههنا ومنع يقينه فإن الرجعية مباحة لزوجها في ظاهر المذهب وما هو إذا متيقن للتحريم بل شاك فيه متيقن للإباحة (8/424)
فصول : الشك في وجود سبب الحنث في الطلاق المعلق
فصل : إذا رأى رجلان طائرا فحلف بالطلاق أنه غراب وحلق الآخر بالطلاق إنه حمام فطار ولم يعلما حاله لم يحكم بحنث واحد منهما لأن يقين النكاح ثبت ووقوع الطلاق مشكوك فيه فإن ادعت امرأة أحدهما حنثه فيها فالأول قوله لأن الأصل معه واليقين في جانبه ولو كان الحالف واحد فقال إن كان غرابا فنساؤه طوالق وإن كان حماما فعبيده أحرار أو قال إن كان غرابا فزينب طالق وإن كان حماما فهند طالق ولم يعلم ما هو لم يحكم بحنثه في شيء لأنه متيقن للنكاح شاك في الحنث فلا يزول عن يقين النكاح والملك بالشك فأما إن أحد الرجلين إن كان غرابا فامرأته طالق ثلاثا وقال الآخر : إن لم يكن غرابا فامرأته طالق ثلاثا فطار ولم يعلما حاله فقد حنث أحدهما لا بعينه ولا يحكم به في حق واحد منهما بعينه بل تبقى في حقه أحكام النكاح من النفقة والكسوة والسكنى لأن كل واحد منهما يقين نكاحه باق ووقوع طلاقه مشكوك فيه فأما الوطء فذكر القاضي إنه يحرم عليهما لأن أحدهما حانث بيقين وامرأته محرمة عليه وقد أشكل فحرم عليهما جميعا كما لو حنث في إحدى امرأتيه لا بعينها وقال أصحاب الرأي و الشافعي لا يحرم على واحد منهما وطء امرأته لأنه محكوم ببقاء نكاحه ولم يحكم بوقوع الطلاق عليه وفارق الحانث في إحدى امرأتيه لأنه معلوم زوال نكاحه عن إحدى زوجتيه قلنا إنما تحقق حنثه في واحدة غير معينة وبالنظر إلى كل واحدة مفردة فيقين نكاحها باق وطلاقها مشكوك فيه لكن لما تحققنا أن إحدهما حرام ولم يمكن تمييزها حرمتا عليه جميعا وكذلك ههنا قد علمنا أن أحد هذين الرجلين قد طلقت امرأته وحرمت عليه وتعذر التمييز فيحرم الوطء عليهما ويصير كما لو تنجس أحد الإناءين لا بعينه فإنه يحرم استعمال كل واحد منهما سواء كانا لرجلين أو لرجل واحد وقال مكحول يحمل الطلاق عليهما جميعا ومال إليه أبو عبيد فإن ادعى كل واحد منهما أنه علم الحال وانه لم يحنث دين فيما بينه وبين الله تعالى ونحو هذا قال عطاء و الشعبي و الزهري و الحارث العكلي و الثوري و الشافعي لأن كل واحد منهما يمكن صدقه فيما ادعاه وإن أقر كل واحد منهما أنه الحانث طلقت زوجتاهما بإقرارهما على أنفسهما وإن أقر أحدهما حنث وحده وإن ادعت امرأة أحدهما عليه الحنث فأنكر فالقول قوله وهل يحلف ؟ يخرج على روايتين
فصل : فإن قال أحدهما إن كان هذا غرابا فعبدي حر وقال الآخر إن لم يكن غرابا فعبدي حر فطار ولم يعلما حاله لم نحكم بعتق واحد من العبدين فإن اشترى أحدهما عبد صاحبه بعد أن أنكر حنث نفسه عتق الذي اشتراه لأن إنكاره حنث نفسه منه بحنث صاحبه وإقرار بعتق الذي اشتراه وإذا اشترى من أقر بحريته عتق عليه وإن لم يكن منه إنكار ولا اعتراف فقد صار العبدان في يده وأحدهما حر ولم يعلم بعينه ويرجع في تعيينه إلى القرعة وهذا قول أبي الخطاب وذهب القاضي إلى أنه يعتق الذي اشتراه في الموضعين لأن تمسكه بعبده اعتراف منه برقه وحرية صاحبه وهذا مذهب الشافعي
ولنا أنه لم يعترف لفظا ولا فعل ما يلزم الاعتراف فإن الشرع يسوغ له إمساك عبده مع الجهل استنادا إلى الأصل فكيف يكون معترفا مع تصريحه بأنني لا أعلم الحر منهما ؟ وإنما اكتفينا في إبقاء رق عبده باحتمال الحنث في حق صاحبه فإذا صار العبدان له وأحدهما حر لا بعينه صار كأنهما كانا له فحلف بعتق أحدهما وحده فيقرع بينهما حينئذ ولو كان الحالف واحدا فقال إن كان غرابا فأمتي حرة ولم يعلم حاله فإنه يقرع بينهما فيعتق أحدهما فإن ادعى أحدهما أنه الذي عتق أو ادعى كل واحد منهما ذلك فالقول قول السيد مع يمينه
فصل : وإن قال إن كان غرابا فهذه طالق وإن لم يكن غرابا فهذه الأخرى طالق فطار ولم يعلم حاله فقد طلقت إحداهما فيحرم عليه قربانهما ويؤخذ بنفقتهما حتى تبين المطلقة منهما لأنهما محبوستان عليه لحقه وذهب أصحابنا إلى أنه يقرع بينهما فتخرج بالقرعة المطلقة منهما كقولنا في العبيد والصحيح أن القرعة لا مدخل لها ههنا لما سنذكره فيما إذا طلق واحدة وأنسيها وهو قول أكثر أهل العلم فعلى هذا يبقى التحريم فيهما إلى أن يعلم المطلقة منهما ويؤخذ بنفقتهما فإن قال هذه التي حنثت فيها حرمت عليه ويقبل قوله في حل الأخرى فإن ادعت التي لم يعترف بطلاقها إنها المطلقة فالقول قوله لأنه منكر وهل يحلف ؟ يخرج على روايتين
فصل : فإن قال إن كان غرابا فنساؤه طوالق وإن لم يكن غرابا فعبيده أحرار وطار ولم يعلم حاله منع من التصرف في الملكين حتى يتبين وعليه نفقة الجميع فإن قال كان غرابا طلق نساؤه ورق عبيده فإن ادعى أنه لم يكن غرابا ليعتقوا فالقول قوله وهل يحلف ؟ يخرج على روايتين وإن قال لم يكن غرابا عتق عبيده ولم تطلق النساء فإن ادعين أنه كان غرابا ليطلقن فالقول قوله وفي تحليفه وجهان وكل موضع قلنا يستحلف فنكل عن اليمين قضي عليه بنكوله وإن قال لا أعلم ما الطائر ؟ فقياس المذهب أن يقرع بينهما فإن وقعت القرعة على الغراب طلق النساء ورق العبيد وإن وقعت على العبيد ولم تطلق النساء وهذا قول أبي ثور وقال أصحاب الشافعي : إن وقعت القرعة على النساء لم يطلقن ولم يعتق العبيد لأن القرعة لها مدخل في العتق لكون النبي صلى الله عليه و سلم أقرع بين العبيد الستة ولا مدخل لها في الطلاق لأنه لم ينقل مثل ذلك فيه ولا يمكن قياسه على العتق لأن الطلاق حل قيد النكاح والقرعة لا تدخل في النكاح والعتق حل الملك والقرعة تدخل في تمييز الأملاك قالوا ولا يقرع بينهم إلا بعد موته ويمكن أن يقال على هذا ان ما لا يصلح للتعيين في حق الموروث لا يصلح في حق الوارث كما لو كانت اليمين في زوجتين ولأن الاماء محرمات على الموروث تحريما لا تزيله القرعة فلم ينجز للوارث بها كما لو تعين العتق فيهن (8/425)
مسألة وفصلان : طلاق امرأة من نسائه مبهمة
مسألة : قال : وإذا قال لزوجاته إحداكن طالق ولم ينو بعينها أقرع بينهن فأخرجت بالقرعة المطلقة منهن
وجملته أنه إذا طلق امرأة من نسائه لا بعينها فإنها تخرج بالقرعة نص عليه في رواية جماعة وبه قال الحسن و أبو ثور وقال قتادة و مالك يطلقن جميعا وقال حماد بن أبي سليمان و الثوري و أبو حنيفة و الشافعي : له أن يختار أيتهن شاء فيوقع عليها الطلاق لأنه يملك إيقاعه ابتداء وتعيينه فإذا أوقعه ولم يعينه ملك تعيينه لأنه استيفاء ما ملكه
ولنا أن ما ذكرناه مروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما ولا مخالف لهما في الصحابة ولأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية فتدخله القرعة كالعتق وقد ثبت الأصل بكون النبي صلى الله عليه و سلم أقرع بين العبيد الستة ولأن الحق لواحد غير معين فوجب تعيينه بالقرعة كالحرية في العبيد إذا أعتقهم في مرضه ولم يخرج جميعهم من الثلث وكالسفر بإحدى نسائه والبداية بإحداهن في القسم وكالشريكين إذا اقتسما ولأنه طلق واحدة من نسائه لا يعلم عينها فلم يملك تعيينها باختياره كالمنسية وأما الدليل على أنهن لا يطلقن جميعا أنه أضاف الطلاق إلى واحدة فلم يطلق الجميع كما لو عينها قولهم إنه كان يملك الإيقاع والتعيين قلنا ملكه للتعيين بالإيقاع لا يلزم أن يملكه بعده كما لو طلق واحدة بعينها وأنسيها وأما إن نوى واحدة بعينها طلقت وحدها لأنه عينها بنيته فأشبه ما لو عينها بلفظه وإن قال إنما أردت فلانة قبل منه لأنه يحتمل ما قاله وإن مات قبل القرعة والتعيين أقرع الورثة بينهن فمن وقعت عليها قرعة الطلاق فحكمها في الميراث حكم ما لو عينها بالتطليق
فصل : وإذا قال لنسائه إحداكن طالق غدا فجاء غد طلقت واحدة منهن وأخرجت بالقرعة فإن مات قبل الغد ورثته كلهن وإن ماتت إحداهن ورثها لأنها ماتت قبل وقوع الطلاق فإذا جاء غد أقرع بين الميتة والأحياء فإن وقعت القرعة على الميتة لم يطلق شيء من الأحياء وصارت كالمعينة بقوله أنت طالق غدا وقال القاضي : قياس المذهب أن يتعين الطلاق في الأحياء فلو كانتا اثنتين فماتت إحداهما طلقت الأخرى كما لو قال لامرأته وأجنبية إحداكما طالق وهو قول أبي حنيفة والفرق بينهما ظاهر فإن الأجنبية ليست محلا للطلاق وقت قوله فلا ينصرف قوله إليها وهذه قد كانت محلا للطلاق وإرادتها بالطلاق ممكنة وإرادتها بالطلاق كإرادة الأخرى وحدوث الموت بها لا يقتضي في حق الأخرى طلاقا فتبقى على ما كانت عليه والقول في تعليق العتق كالقول في تعليق الطلاق وإذا جاء غد وقد باع بعض العبيد أقرع بينه وبين العبيد الأخر فإن وقعت على المبيع لم يعتق شيء منه وعلى قول القاضي ينبغي أن يتعين العتق في الباقين وكذلك ينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة و الشافعي لأن له تعيين العتق عندهم بقوله فبيع أحدهم صرف للعتق عنه فيتعين في الباقين وإن باع نصف العبد أقرع بينه وبين الباقين فإن وقعت قرعة العتق عليه عتق نصفه وسرى إلى باقيه إن كان العتق موسرا وإن كان معسرا لم يعتق إلا نصفه
فصل : وإذا قال امرأتي طالق وأمتي حرة وله نساء وإماء ونوى بذلك معينة انصرف إليها وإن نوى واحدة مبهمة فهي مبهمة فيهن وإن لم ينو فقال أبو الخطاب : يطلق نساؤه كلهن ويعتق إماؤه لأن الواحد المضاف يراد به الكل كقوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } - و { أحل لكم ليلة الصيام } ولأن ذلك يروى عن ابن عباس وقال الجماعة يقع على واحدة مبهمة وحكمه حكم ما لو قال إحداكن طالق وإحداكن حرة لأن لفظ الواحد لا يستعمل في الجمع إلا مجازا والكلام لحقيقته ما لم يصرفه عنها دليل ولو تساوى الاحتمالان لوجب قصره على الواحدة لأنها اليقين فلا يثبت الحكم فيما زاد عليها بأمر مشكوك فيه وهذا أصح والله أعلم (8/429)
مسألتان وفصول : الحكم إذا طلق امرأة من نسائه فنسيها
مسألة : قال : وإذا طلق واحد من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة
أكثر أصحابنا على أنه إذا طلق امرأة من نسائه وأنسيها أنها تخرج بالقرعة فيثبت حكم الطلاق فيها ويحل له الباقيات وقد روى اسماعيل بن سعيد عن أحمد ما يدل على أن القرعة لا تستعمل ههنا لمعرفة الحل وإنما تستعمل لمعرفة الميراث فإنه قال سألت أحمد عن الرجل يطلق امرأة من نسائه ولا يعلم أيتهن طلق ؟ قال أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة قلت أرأيت إن مات هذا ؟ قال أقول بالقرعة وذلك لأنه تصير القرعة على المال وجماعة من روى عنه القرعة في المطلقة المنسية إنما هو في التوريث فأما في الحل فلا ينبغي أن يثبت بالقرعة وهذا قول أكثر أهل العلم فالكلام إذا في المسألة في شيئين
أحدهما : في استعمال القرعة في المنسية للتوريث
والثاني : في استعمالها فيها للحل أما الأول فوجهه ما روى عبد الله بن حميد قال : سألت أبا جعفر عن رجل قدم من خراسان وله أربع نسوة قدم البصرة فطلق إحداهن ونكح ثم مات لا يدري الشهود أيتهن طلق ؟ فقال قال علي رضي الله عنه : أقرع بين الأربع وأنذر منهن واحدة واقسم بينهن الميراث ولأن الحقوق إذا تساوت على وجه لا يمكن التمييز إلا بالقرعة صح استعمالها كالشركاء في القسمة والعبيد في الحرية وأما القرعة في الحل في المنسية فلا يصح استعمالها لأن اشتبهت عليه زوجته بأجنبية فلم تحل له إحداهما بالقرعة كما لو اشتبهت بأجنبية لم يكن له عليها عقد ولأن القرعة لا تزيل التحريم من المطلقة ولا ترفع الطلاق عمن وقع عليه ولا احتمال كون المطلقة غير من خرجت عليها القرعة ولهذا لو ذكر أن المطلقة غيرها حرمت عليه ولو ارتفع التحريم أو زال الطلاق لما عاد بالذكر فيجب بقاء التحريم بعد القرعة كما كان قبلها وقد قال الخرقي : فيمن طلق امرأته فلم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا ؟
ومن حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة فوقعت في تمر فأكل منه واحدة لا تحل له امرأته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت عليها اليمين فحرمها مع أن الأصل بقاء النكاح ولم يعارضه يقين التحريم فههنا أولى وهكذا الحكم في كل موضع وقع الطلاق على امرأة بعينها ثم اشتبهت بغيرها مثل أن يرى امرأة في روزنة أو مولية فيقول أنت طالق ولا يعلم عينها من نسائه وكذلك إذا وقع الطلاق على إحدى نسائه في مسألة الطائر وشبهها فإنه يحرم جميع نسائه عليه حتى تتبين المطلقة ويؤخذ بنفقة الجميع لأنهن محبوسات عليه وإن أقرع بينهن لم تفد القرعة شيئا ولا يحل لمن وقعت عليها القرعة التزوج لأنها يجوز أن تكون غير المطلقة ولا يحل للزوج غيرها لاحتمال أن تكون المطلقة وقال أصحابنا إذا أقرع بينهن فخرجت القرعة على إحداهن ثبت حكم الطلاق فيها فحل لها النكاح بعد قضاء عدتها وحل للزوج من سواها كما لو كان الطلاق في واحدة غير معنية واحتجوا بما ذكرنا من حديث علي ولأنها مطلقة لم تعلم بعينها فأشبه ما لو قال إحداكن طالق ولأنه إزالة أحد الملكين المبنيين على التغليب والسراية أشبه العتق والصحيح إن شاء الله أن القرعة لا تدخل ههنا لما قدمنا وفارق ما قاسوا عليه فإن الحق لم يثبت لواحد بعينه فجعل الشرع القرعة معينة فإنها تصلح للتعيين وفي مسألتنا الطلاق واقع في معينة لا محالة والقرعة لا ترفعه عنها ولا توقعه على غيرها ولا يؤمن وقوع القرعة على غيرها واحتمال وقوع القرعة على غيرها كاحتمال وقوعها عليها بل هو أظهر في غيرها فإنهن إذا كن أربعا فاحتمال وقوعه في واحدة منهن بعينها أندر من احتمال وقوعه في واحدة من ثلاث ولذلك لو اشتبهت أخته بأجنبية أو ميتة بمذكاة أو زوجته بأجنبية أو حلف بالطلاق لا يأكل تمرة فوقعت في تمر وأشباه ذلك مما يطول ذكره لا تدخله قرعة فكذا ههنا وأما حديث علي فهو في الميراث لا في الحل وما نعلم بالقول بها في الحل من الصحابة قائلا
فصل : فعلى قول أصحابنا إذا ذكر أن المطلقة غير التي وقعت عليها القرعة فقد تبين أنها كانت محرمة عليه ويكون وقوع الطلاق من حين طلق لا من حين ذكر وقوله في هذا مقبول لأنه يقر على نفسه وترد إليه التي خرجت عليها القرعة لأننا تبينا أنها غير مطلقة والقرعة ليست بطلاق لا صريح ولا كناية فإن لم تكن تزوجت ردت إليه وقبل قوله في هذا لأنه أمر من جهته لا يعرف إلا من قبله إلا أن تكون قد تزوجت أو يكون بحكم حاكم لأنها إذا تزوجت تعلق بها حق الزوج الثاني فلا يقبل قوله في فسخ نكاحه والقرعة من جهة الحاكم بالفرقة لا يمكن الزوج رفعها فتقع الفرقة بالزوجين
قال أحمد في رواية الميموني : إذا كان له أربع نسوة فطلق واحدة منهن ولم يدر أيتهن طلق يقرع بينهن فإن أقرع بينهن فوقعت القرعة على واحدة ثم ذكر التي طلق فقال هذه ترجع إليه والتي ذكر أنه طلق يقع الطلاق عليها فإن تزوجت فهذا شيء قد مر فإن كان الحاكم أقرع بينهن فلا أحب أن ترجع إليه لأن الحاكم في ذلك أكبر منه وقال أبو بكر و ابن حامد متى أقرع ثم قال بعد ذلك إن المطلقة غيرها وقع الطلاق بهما جميعا ولا ترجع إليه واحدة منهما لا أن التي عينها بالطلاق تحرم بقوله وترثه إن مات ولا يرثها ويجيء على قياس قولهما أن تلزمه نفقتها ولا يحل وطؤها
فصل : فإن قال هذه المطلقة قبل منه وإن قال هذه المطلقة بل هذه طلقتا لأنه أقر بطلاق الأولى فقبل إقراره ثم قبل إقراره بطلاق الثانية ولم يقبل رجوعه عما أقر به من طلاق الأولى وكذلك لو كن ثلاثا فقال هذه بل هذه طلقن كلهن وإن قال هذه أو هذه بل هذه طلقت الثانية وإحدى الأوليين وإن قال طلقت هذه بل هذه أو هذه طلقت الأولى وإحدى الأخريين وإن قال أنت طالق وهذه أو هذه فقال القاضي : هي كذلك وذكر أنه قول الكسائي
وقال محمد بن الحسن : تطلق الثانية ويبقى الشك في الأولى والثالثة وجه الأول أنه عطف الثانية على الأولى بغير شك ثم فصل بين الثانية والثالثة بحرف الشك فيكون الشك فيهما ولو قال طلقت هذه أو هذه وهذه طلقت الثالثة وكان الشك في الأوليين ويحتمل في هاتين المسألتين أن يكون الشك في الجميع لأنه في الأولى أتى بحرف الشك بعدهما فيعود إليهما وفي المسألة الثانية عطف الثالثة على الشك فعلى هذا إذا قال طلقت هذه وهذه أو هذه طولب بالبيان فإن قال هي الثالثة طلقت وحدها وإن قال لم أطلقها طلقت الأولتان وإن لم يبين أقرع بين الأولتين والثالثة قال القاضي في المجرد : وهذا أصح وإن قال طلقت هذه أو هذه وهذه أخذ بالبيان فإن قال هي الأولى طلقت وحدها وإن قال ليست الأولى طلقت الأخريان كما لو قال طلقت هذه أو هاتين وليس له الوطء قبل التعيين فإن وطئ لم يكن تعيينا وإن ماتت إحداهما لم يتعين الطلاق في الأخرى وقال أبو حنيفة : يتعين الطلاق في الأخرى لأنها ماتت قبل ثبوت طلاقها
ولنا أن موت إحداهما أو وطأها لا ينفي احتمال كونها مطلقة فلم يكن تعيينا لغيرها كمرضها وإن قال طلقت هذه وهذه أو هذه وهذه فالظاهر أنه طلق اثنتين لا يدري أهما الأولتان أم الآخرتان كما لو قال طلقت هاتين أو هاتين فإن قال هما الأولتان تعين الطلاق فيهما وإن قال لم أطلق الأولتين تعين الآخرتان وإن قال إنما أشك في طلاق الثانية والآخرتين طلقت الأولى وبقي الشك في الثلاث ومتى فسر كلامه بشيء محتمل قبل منه
مسألة : قال : فإن مات قبل ذلك أقرع الورثة وكان الميراث للبواقي منهن
نص أحمد على هذا وقال أبو حنيفة : يقسم الميراث بينهن كلهن لأنهن تساوين في احتمال استحقاقه ولا يخرج الحق عنهن وقال الشافعي : يوقف الميراث المختص بهن حتى يصطلحن عليه لأنه لا يعلم المستحق منهن ووجه قول الخرقي قول علي رضي الله عنه ولأنهن قد تساوين ولا سبيل إلى التعيين فوجب المصير إلى القرعة كمن اعتق عبيدا في مرضه لا مال له سواهم وقد ثبت الحكم فيهم بالنص ولأن توريث الجميع توريث لمن لا يستحق يقينا والوقف لا إلى غاية حرمان لم يستحق يقينا والقرعة يسلم بها من هذين المحذورين ولها نظير في الشرع
فصل : فإن مات بعضهن أو جميعهن قرعنا بين الجميع فمن خرجت القرعة لها حرمناه ميراثها وإن مات بعضهن قبله وبعضهن بعده وخرجت القرعة لميتة قبله حرمناه ميراثها وإن خرجت لميتة بعده حرمناها ميراثه والباقيات يرثهن ويرثنه فإن قال الزوج بعد موتها هذه التي طلقتها أو قال في غير العينة هذه التي أردتها حرم ميراثها لأنه يقر على نفسه ويرث الباقيات سواء صدقه ورثتهن أو كذبوه لأن علم ذلك إنما يعرف من جهته ولأن الأصل بقاء النكاح بينهما وهم يدعون طلاقه لها والأصل عدمه وهل يستحلف على ذلك ؟ فيه روايتان فإن قلنا يستحلف فنكل حرمناه ميراثها لنكوله ولم يرث الأخرى لإقراره بطلاقها فإن مات فقال ورثته لإحداهن هذه المطلقة فأقرت أو أقر ورثتها بعد موتها حرمناها ميراثه وإن أنكرت أو أنكر ورثتها فقياس ما ذكرناه أن القول قولها لأنها تدعي بقاء نكاحها وهم يدعون زواله والأصل معها فلا يقبل قولهم عليها إلا ببينة وإن شهد اثنان من ورثته انه طلقها قبلت شهادتهما إذا لم يكونا ممن يتوفر عليهما ميراثها ولا على من لا تقبل شهادتهما له كأمهما وجدتهما لأن ميراث إحدى الزوجات لا يرجع إلى ورثة الزوج وإنما يتوفر على ضرائرها وإن ادعت إحدى الزوجات أنه طلقها طلاقا تبين به فأنكرها فالقول قوله وإن مات لم ترثه لإقرارها بأنها لا تستحق ميراثه فقبلنا قولها فيما عليها دون ما لها وعليها العدة لأننا لم نقبل قولها فيما عليها وهذا التفريع فيما إذا كان الطلاق يبينها فأما إن كان رجعيا ومات في عدتها أو ماتت ورث كل واحد منهما صاحبه
فصل : وإذا كان له أربع نسوة فطلق إحداهن ثم نكح أخرى بعد قضاء عدتها ثم مات ولم يعلم أيتهن طلق فللتي تزوجها ربع ميراث النسوة نص عليه أحمد ولا خلاف فيه بين أهل العلم ثم يقرع بين الأربع فأيتهن خرجت قرعتها خرجت وورث الباقيات نص عليه أحمد أيضا وذهب الشعبي و النخعي و عطاء الخراساني و أبو حنيفة إلى أن الباقي بين الأربع وزعم أبو عبيد انه قول أهل الحجاز وأهل العراق جميعا وقال الشافعي : يوقف الباقي بينهن حتى يصطلحن ووجه الأقوال ما تقدم
وقال أحمد في رواية ابن منصور : في رجل له أربع نسوة طلق واحدة منهن ثلاثا وواحدة اثنتين وواحدة واحدة ومات على أثر ذلك ولا يدر أيتهن طلق ثلاثا وأيتهن طلق اثنتين وأيتهن واحدة يقرع بينهن فالتي أبانها تخرج ولا ميراث لها هذا فيما إذا مات في عدتهن وكان طلاقه في صحته فإنه لا يحرم الميراث إلا المطلقة ثلاثا فالباقيتان رجعيتان يرثنه في العدة ويرثهن ومن انقضت عدتها منهن لم ترثه ولم يرثها ولو كان طلاقه في مرضه الذي مات فيه لورثه الجميع في العدة وفيما بعدها قبل التزويج روايتان
فصل : إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها أو يعينها فأنسيها فانقضت عدة الجميع فله نكاح خامسة قبل القرعة وخرج ابن حامد وجها في أنه لا يصح نكاح الخامسة لأن المطلقة في حكم نسائه بالنسبة إلى وجوب الإنفاق عليها وحرمة النكاح في حقها ولا يصح لاننا علمنا أن منهن واحدة بائنا منه ليست في نكاحه ولا في عدة من نكاحه فكيف تكون زوجته وإنما الإنفاق عليها لأجل حبسها ومنعها من التزوج بغيره لأجل اشتباهها ومتى علمناها بعينها إما بتعيينه أو قرعة فعدتها من حين طلقها لا من حين عينها وذكر أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي أن عدتها من حين التعيين وهذا فاسد فإن الطلاق وقع حين إيقاعه وثبت حكمه في تحريم الوطء وحرمان الميراث من الزوج وحرمانه منها قبل التعيين فكذلك العدة وإنما التعيين تبيين لما كان واقعا وإن مات الزوج قبل البيان فعلى الجميع عدة الوفاء في قول الشعبي و النخعي و عطاءالخراساني
قال أبو عبيد وهو قول أهل الحجاز والعراق لأن كل واحدة منهن يحتمل أنها باقية على النكاح والأصل بقاؤه فتلزمها عدته والصحيح أنه يلزم كل واحدة أطول الأجلين من عدة الوفاء وعدة الطلاق لكن عدة الطلاق من حين طلق وعدة الوفاة من حين موته لأن كل واحدة منهن يحتمل أن يكون عليها عدة الوفاة ويحتمل أنها المطلقة فعليها عدة الطلاق فلا تبرأ يقينا إلا بأطولهما وهذا في الطلاق البائن فأما الرجعي فعليها عدة الوفاة بكل حال لأن الرجعية زوجة (8/432)
فصلان : اختلاف الزوجين في فصول التعليق
فصل : إذا ادعت المرأة أن زوجها طلقها فأنكرها فالقول قوله لأن الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق إلا أن يكون لها بما ادعته بينة ولا يقبل فيه إلا عدلان ونقل ابن منصور عن أحمد أنه سئل أتجوز شهادة رجل وامرأتين في الطلاق قال لا والله إنما كان كذلك لأن الطلاق ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال فلم يقبل فيه إلا عدلان كالحدود والقصاص فإن لم تكن بينة فهل يستحلف ؟ فيه روايتان نقل أبو الخطاب أنه يستحلف وهو الصحيح لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] وقوله [ اليمين على من أنكر ] ولأنه يصح من الزوج بذله فيستحلف فيه كالمهر ونقل أبو طالب عنه لا يستحلف في الطلاق والنكاح لأنه لا يقضي فيه بالنكول فلا يستحلف فيه كالنكاح إذا ادعى زوجتيها فأنكرته وإن اختلفا في عدد الطلاق فالقول قوله لما ذكرناه فإذا طلق ثلاثا وسمعت ذلك وأنكر أو ثبت ذلك عندها بقول عدلين لم يحل لها تمكينه من نفسها وعليها أن تفر منه ما استطاعت وتمتنع منه إذا أرادها وتفتدي منه إن قدرت قال أحمد : لا يسعها أن تقيم معه وقال أيضا : تفتدي منه بما تقدر عليه فإن أجبرت على ذلك فلا تزين له ولا تقر به وتهرب إن قدرت وإن شهد عندها عدلان غير متهمين فلا تقيم معه وهذا قول أكثر أهل العلم قال جابر بن زيد وحماد بن أبي سليمان وبن سيرين : تفر منه ما استطاعت وتفتدي منه بكل ما يمكن وقال الثوري و أبو حنيفة و أبو يوسف و أبو عبيد تفر منه وقال مالك : لا تتزين له ولا تبدي له شيئا من شعرها ولا عريتها ولا يصيبها إلا وهي مكرهة وروي عن الحسن و الزهري و النخعي يستحلف ثم يكون الاثم عليه والصحيح ما قاله الأولون لأن هذه تعلم أنها أجنبية منه محرمة عليه فوجب عليها الامتناع والفرار منه كسائر الأجنبيات وهكذا لو ادعى نكاح امرأة كذبا وأقام بذلك شاهدي زور فحكم له الحاكم بالزوجية ولو تزوجها تزويجا باطلا وسلمت إليه بذلك فالحكم في هذا كله كالحكم في المطلقة ثلاثا
فصل : ولو طلقها ثلاثا ثم جحد طلاقها لم ترثه نص عليه أحمد وبه قال قتادة و أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي و ابن المنذر وقال الحسن : ترثه لأنها في حكم الزوجات ظاهرا
ولنا أنها تعلم أنها أجنبية فلم ترثه كسائر الأجنبيات وقال أحمد في رواية أبي طالب : تهرب منه ولا تتزوج حتى يظهر طلاقها وتعلم ذلك يجيء فيدعيها فترد عليه وتعاقب وإن مات ولم يقر بطلاقها لا ترثه لا تأخذ ما ليس لها تفر منه ولا تخرج من البلد ولكن تختفي في بلدها قيل له فإن بعض الناس قال تقتله هي بمنزلة من يدفع عن نفسه فلم يعجبه ذلك فمنعها من التزويج قبل ثبوت طلاقها لأنها في ظاهر الحكم زوجة هذا المطلق فإذا تزوجت غيره وجب عليها في ظاهر الشرع العقوبة والرد إلى الأول ويجتمع عليها زوجان هذا بظاهر الأمر وذاك بباطنه ولم يأذن لها في الخروج من البلد لأن ذلك يقوي التهمة في نشوزها ولأن في قتله قصدا لأن الدافع عن نفسه لا يقتل قصدا فأما إن قصدت الدفع عن نفسها فآل إلى نفسه فلا اثم عليها ولا ضمان في الباطن فأما في الظاهر فإنها تؤخذ بحكم القتل ما لم يثبت صدقها (8/440)
فصل : إذا طلق فشهد عليه أربعة أنه وطئها
فصل : قال أحمد : إذا طلقها ثلاثا فشهد عليه أربعة أنه وطئها أقيم عليها الحد إنما أوجبه لأنها صارت بالطلاق أجنبية فهي كسائر الأجنبيات بل هي أشد تحريما لأنها محرمة وطئا ونكاحا فإن جحد طلاقها ووطئها ثم قامت البينة بطلاقه فلا حد عليه وبهذا قال الشعبي و مالك وأهل الحجاز و الثوري و الأوزاعي و ربيعة و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر لأن جحده لطلاقه يوهمنا أنه نسيه وذلك شبهة في درء الحد عنه ولا سبيل لنا إلى علم معرفته بالطلاق حالة وطئه إلا بإقراره بذلك فإن قال وطئتها عالما بأنني كنت طلقتها ثلاثا كان إقرارا منه بالزنا فيعتبر فيه ما يعتبر في الإقرار بالزنا (8/442)
مسألة : ما ينهدم من عدد الطلاق بزواج المرأة من غير مطلقها
مسألة : قال : وإذا طلق زوجته أقل من ثلاث فقضت العدة ثم تزوجت غيره ثم أصابها ثم طلقها أو مات عنها وقضت العدة ثم تزوجها الأول فهي عنده على ما بقي من الثلاث
وجملة ذلك أن المطلق إذا بانت زوجته منه ثم تزوجها لم يخل من ثلاثة أحوال
أحدها : أن تنكح غيره ويصيبها ثم يتزوجها الأول فهذه ترجع إليه على طلاق ثلاث بإجماع أهل العلم قاله ابن المنذر
والثاني : أن يطلقها دون الثلاث ثم تعود إليه برجعة أو نكاح جديد قبل زوج ثان فهذه ترجع إليه على ما بقي من طلاقها بغير خلاف نعلمه
والثالث : طلقها دون الثلاث فقضت عدتها ثم نكحت غيره ثم تزوجها الأول فعن أحمد فيها روايتان إحداهما : ترجع إليه على ما بقي من طلاقها وهذا قول الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عمر وعلي وأبي ومعاذ وعمران بن حصين وأبي هريرة وروي ذلك عن زيد وعبد الله بن عمرو بن العاص وبه قال سعيد بن المسيب و عبيدة و الحسن و مالك و الثوري و ابن أبي ليلى و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و محمد بن الحسن و ابن المنذر
والرواية الثانية : عن أحمد أنها ترجع إليه على طلاق ثلاث وهذا قول ابن عمر وابن عباس و عطاء و النخعي و شريح و أبي حنيفة و أبي يوسف لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل فيثبت حلا يتسع لثلاث تطليقات كما بعد الثلاث لأن الوطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث فأولى أن يهدم ما دونها
ولنا أن وطء الثاني لا يحتاج إليه في الإحلال للزوج الأول فلا يغير حكم الطلاق كوطء السيد ولأنه تزويج قبل استيفاء الثلاث فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني وقولهم ان وطء الثاني يثبت الحل لا يصح لوجهين
أحدهما : منع كونه مثبتا للحل أصلا وإنما هو في الطلاق الثلاث غاية للتحريم بدليل قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } وحتى للغاية إنما سمى النبي صلى الله عليه و سلم الزوج الذي قصد الحيلة محللا تجوزا بدليل أنه لعنه ومن أثبت حلالا يستحق لعنا
والثاني : أن الحل إنما يثبت في محل فيه تحريم وهي المطلقة ثلاثا وههنا هي حلال له فلا يثبت فيها حل وقولهم إنه يهدم الطلاق قلنا بل هو غاية لتحريمه وما دون الثلاث لا تحريم فيها فلا يكون غاية له (8/442)
مسألة وفصلان : عدد طلاق الرقيق
مسألة : قال : وإذا كان المطلق عبدا وكان طلاقه اثنتين لم تحل له زوجة حتى تنكح زوجا غيره حرة كانت الزوجة أو مملوكة لأن الطلاق بالرجال والعدة بالنساء
وجملة ذلك أن الطلاق معتبر بالرجال فإن كان الزوج حرا فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو أمة وإن كان عبدا فطلاقه اثنتان حرة كانت زوجته أو أمة فإذا طلق اثنتين حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره روي ذلك عن عمر وعثمان وزيد وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و مالك و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر وقال ابن عمر : أيهما رق نقص الطلاق برقه فطلاق العبد اثنتان وإن كان تحته حرة وطلاق الأمة اثنتان وإن كان زوجها حرا وروي عن علي وابن مسعود أن الطلاق معتبر بالنساء فطلاق الأمة اثنتان حرا كان الزوج أو عبدا وطلاق الحرة ثلاث حرا كان زوجها أو عبدا وبه قال الحسن و ابن سيرين و عكرمة و عبيدة و مسروق و الزهري و الحكم و حماد و الثوري و أبو حنيفة لما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان ] رواه أبو داود و ابن ماجة ولأن المرأة محل للطلاق فيعتبر بها كالعدة
ولنا أن الله تعالى خاطب الرجال بالطلاق فكان حكمه معتبرا بهم ولأن الطلاق خالص حق الزوج وهو مما يختلف بالرق والحرية فكان اختلافه به كعدد المنكوحات وحديث عائشة قال أبو داود رواية مظاهر بن أسلم وهو منكر الحديث وقد أخرجه الدارقطني في سننه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ طلاق العبد اثنتان فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وقرء الأمة حيضتان وتتزوج الحرة على الأمة ولا تتزوج الأمة على الحرة ] وهذا نص ولأن الحر يملك أن يتزوج أربعا فملك طلقات ثلاثا كما لو كان تحته حرة ولا خلاف في أن الحر الذي زوجته حرة طلاقه ثلاث وان العبد الذي تحته أمة طلاقه اثنتان وإنما الخلاف فيما إذا كان أحد الزوجين حرا والآخر رقيقا
فصل : قال أحمد : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وطلاقه وأحكامه كلها أحكام العبيد وهذا صحيح فإنه جاء في الحديث [ المكاتب عبد ما بقي علي درهم ] ولأنه يصح عتقه ولا ينكح إلا اثنتين ولا يتزوج ولا يتسرى إلا بإذن سيده وهذه أحكام العبيد فيكون طلاقه كطلاق سائر العبيد
وقد روى الأثرم في سننه عن سليمان بن يسار أن نفيعا مكاتب أم سلمة طلق امرأة حرة تطليقتين فسأل عثمان وزيد بن ثابت عن ذلك فقالا حرمت عليك والمدبر كالعبد القن في نكاحه وطلاق وكذلك المعلق عتقه بصفة لأنه عبد فتثبت فيه أحكام العبيد
فصل : قال أحمد في رواية محمد بن الحكم العبد إذا كان نصفه حرا ونصفه عبدا يتزوج ثلاثا ويطلق ثلاث تطليقات وكذلك كلما تجزأ بالحساب إنما جعل له نكاح ثلاث لأن عدد المنكوحات يتبعض فوجب أن يتبعض في حقه كالحد فلذلك كان له أن ينكح نصف ما ينكح الحر ونصف ما ينكح العبد وذلك ثلاث وأما الطلاق فلا يمكن قسمته في حقه لأن مقتضى حاله أن يكون له ثلاثة أرباع الطلاق وليس له ثلاثة أرباع فكمل في حقه ولأن الأصل اثبات الطلقات الثلاث في حق كل مطلق وإنما خولف فيمن كمل الرق في حقه ففي من عداه يبقى على الأصل
فصل : إذا طلق العبد زوجته اثنتين ثم عتق لم تحل له زوجته حتى تنكح زوجا غيره لأنها حرمت عليه بالطلاق تحريما لا ينحل إلا بزوج وإصابة ولم يوجد ذلك فلا يزول التحريم وهذا ظاهر المذهب وقد روي عن أحمد أنه يحل له أن يتزوجها وتبقى عنده على واحدة وذكر حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم في المملوكين إذا طلقها تطليقتين ثم عتقا فله أن يتزوجها وقال لا أرى شيئا يدفعه وغير واحد يقول به أبو سلمة وجابر وسعيد بن المسيب ورواه الإمام أحمد في المسند وأكثر الروايات عن أحمد الأول وقال : حديث عثمان وزيد في تحريمها عليه جيد وحديث ابن عباس يرويه عمرو بن مغيث ولا أعرفه
وقد قال ابن المبارك من أبو حسن هذا ؟ لقد حمل صخرة عظيمة منكرا لهذا الحديث قال أحمد أما أبو حسن فهو عندي معروف ولكن لا أعرف عمرو بن مغيث قال أبو بكر إن صح الحديث فالعمل عليه وإن لم يصح فالعمل على حديث عثمان وزيد وبه أقول قال أحمد ولو طلق عبد زوجته الأمة تطليقتين ثم عتق واشتراها لم تحل له ولو تزوج وهو عبد فلم يطلقها أو طلقة واحدة ثم عتق فله عليها ثلاث تطليقات أو طلقتان إن كان طلقها واحدة لأنه في حال الطلاق حر فاعتبر حاله حينئذ كما يعتبر حال المرأة في العدة حين وجودها ولو تزوجها وهو حر كافر فسبي واسترق ثم أسلما جميعا لم يملك إلا طلاق العبيد اعتبارا بحاله حين الطلاق ولو طلق في كفره واحدة وراجعها ثم سبي واسترق لم يملك إلا طلقة واحدة ولو طلقها في كفره طلقتين ثم استرق فأراد التزويج بها جاز وله طلقة واحدة لأن الطلقتين وقعتا غير محرمتين فلا يعتبر حكمهما بما يطرأ بعدهما كما أن الطلقتين من العبد لما أن وقعتا محرمتين لم يعتبر ذلك بالعتق بعدهما (8/444)
مسألة : قال : وإذا قال لزوجته أنت طالق ثلاثة انصاف طلقتين
مسألة : قال : وإذا قال لزوجته أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين طلقت بثلاث
نص أحمد على هذا في رواية مهنا وقال أبو عبد الله بن حامد تقع طلقتان لأن معناه ثلاثة أنصاف من طلقتين وذلك طلقة ونصف تم تكمل فتصير طلقتين وقيل بل لأن النصف الثالث من طلقتين محال ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
ولنا أن نصف الطلقتين طلقة وقد أوقعه ثلاثا فيقع ثلاث كما لو قال أنت طالق ثلاث طلقات وقولهم معناه ثلاثة أنصاف من طلقتين تأويل يخالفه ظاهر اللفظ فإنه على ما ذكره يكون ثلاثة أنصاف طلقة وينبغي أن يكون ثلاثة أنصاف طلقتين مخالفة لثلاثة أنصاف طلقة وقولهم إنه محال قلنا وقوع نصف الطلقتين عليها مرات ليس بمحال فيجب أن يقع (8/447)
فصل : وصف الطلاق بلفظ يقضي العظم والشدة
فصل : فإن قال أنت طالق ملء الدنيا ونوى الثلاث وقع الثلاث وإن لم ينو شيئا أو نوى واحدة فهي واحدة قال أحمد فيمن قال لامرأته أنت طالق ملء البيت فإن أراد الغلظة عليها يعني يريد أن تبين منه فهي ثلاث فاعتبر نيته فدل على أنه إذا لم ينو يقع واحدة وذلك لأن الوصف لا يقتضي عددا وهذا لا نعلم فيه خلافا إلا أن الواحدة إذا وقعت كانت رجعية وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه تكون بائنا لأنه وصف الطلاق بصفة زائدة تقتضي الزيادة عليها وذلك هو البينونة
ولنا أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير استيفاء عدد ولا عوض فكان رجعيا كقوله أنت طالق وما ذكروه لا يصح لأن الطلاق حكم فإذا ثبت ثبت في الدنيا كلها فلا يقتضي ذلك زيادة وإن قال أنت طالق أشد الطلاق وأغلظه أو أطول الطلاق أو أعرضه أو أقصره أو مثل الجبل أو مثل عظم الجبل ولا نية له وقعت طلقة رجعية وبهذا قال الشافعي
وقال أبو حنيفة في جميعها يقع بائنا وقال صاحباه إن قال مثل الجبل كانت رجعية وإن قال مثل عظم الجبل كانت بائنا ووجه القولين ما تقدم ولأنه لا يملك إيقاع البينونة فإنها حكم وليس ذلك إليه وإنما تثبت البينونة بأسباب معينة كالخلع والطلاق الثلاث والطلاق قبل الدخول فيملك مباشرة سببها فيثبت وإن أراد اثباتها بدون ذلك لم يثبت ويحتمل أن يكون أشد الطلاق عليه أو عليها وأغلاظ لتعجلهما أو لحب أحدهما صاحبه ومشقة فراقه عليه فلم يقع امر زائد بالشك وإن قال أنت طالق أقصى الطلاق أو أكبره فكذلك في قياس المذهب ويحتمل أن يكون أقصى الطلاق ثلاثا لأن أقصاه آخره وآخر الطلاق الثالثة ومن ضرورة كونها ثالثة وقوع اثنتين وإن قال أتم الطلاق أو أكمله فواحدة إلا أنها تكون سنية لأنها أكمل الطلاق وأتمه (8/448)
فصل : عدد ما يقع من الطلاق إذا وصفه بالكثرة
فصل : وإن قال أنت طالق أكثر الطلاق أو كله أو جميعه أو منتهاه أو مثل عدد الحصا أو الرمل أو القطر طلقت ثلاثا لأن هذا يقتضي عددا ولأن الطلاق أقل وأكثر فأقله واحدة وأكثره ثلاث وإن قال كعدد التراب أو الماء وقع الثلاث وقال أبو حنيفة يقع واحدة بائنا لأن الماء والتراب من أسماء الأجناس لا عدد له
ولنا أن الماء تتعدد أنواعه وقطراته والتراب تتعدد أنواعه وأجزاؤه فأشبه الحصا وإن قال يا مائة طالق أو أنت مائة طالق طلقت ثلاثا وإن قال أنت طالق كمائة أو ألف فهي ثلاث قال أحمد فيمن قال أنت طالق كألف تطليقة فهي ثلاث وبه قال محمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعي وقال أبو حنيفة و أبو يوسف : إن لم تكن له نية وقعت واحدة لأنه لم يصرح بالعدد وإنما شبهها بالألف وليس الموقع للشبه به
ولنا أن قوله كألف تشبيه بالعدد خاصة لأنه لم يذكر إلا ذلك فوقع العدد كقوله أنت طالق كعدد ألف وفي هذا انفصال عما قال وإن قال أردت أنها طلقة كألف في صعوبتها دين وهل يقبل في الحكم ؟ يخرج على روايتين (8/449)
فصل : الطلاق بالحساب
فصل : وإن قال أنت طالق من واحد إلى ثلاث وقع طلقتان وبهذا قال أبو حنيفة لأن ما بعد الغاية لا يدخل فيها كقوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } وإنما يدخل إذا كانت بمعنى مع وذلك خلاف موضوعها وقال زفر يقع طلقة لأن ابتداء الغاية ليس منها كقوله بعتك من هذا الحائط إلى هذا الحائط وقال أبو يوسف و محمد يقع الثلاث لأنه نطق بها فلم يجز إلغاؤها
ولنا أن ابتداء الغاية يدخل كما لو قال خرجت من البصرة فإنه يدل على أنه كان فيها وأما انتهاء الغاية فلا يدخل بمقتضى اللفظ ولو احتمل دخوله وعدم دخوله لم نجز الطلاق بالشك وإن قال أنت طالق ما بين واحدة وثلاث وقعت واحدة لأنها التي بينهما (8/450)
فصل : هل يحمل اللفظ في الطلاق على العرف عند اختلاف النية عن اللفظ ؟
فصل : فإن قال أنت طالق طلقة في اثنتين أو واحدة في اثنتين ونوى به ثلاثا فهي ثلاث لأنه يعبر بفي عن مع كقوله { فادخلي في عبادي } فتقدير الكلام أنت طالق طلقة مع طلقتين فإذا أقر بذلك على نفسه قبل منه وإن قال أردت واحدة قبل أيضا حاسبا كان أو غير حاسب وقال القاضي : إذا كان عارفا بالحساب لم يقبل منه ووقع طلقتان لأنه خلاف ما اقتضاه اللفظ
ولنا أنه فسر كلامه بما يحتمله فإنه لا يبعد أن يريد بكلامه ما يريده العامي وإن لم تكن له نية وكان عارفا بالحساب وقع طلقتان وقال القاضي : إن أطلق لم يقع إلا واحدة لأن لفظ الإيقاع إنما هو بلفظ الواحدة وما زاد عليها لم يحصل فيه لفظ الإيقاع وإنما يقع الزائد بالقصد فإذا خلا عن القصد لم يقع إلا ما أوقعه وقال بعض أصحابه كقولنا وقال أبو حنيفة لا يقع إلا واحدة سواء قصد به الحساب أو لم يقصد إذا لم يقصد به واحدة مع اثنتين لأن الضرب إنما يصح فيما له مساحة فأما ما لا مساحة له فلا حقيقة فيه للحساب وإنما حصل منه الإيقاع في واحدة فوقعت دون غيرها
ولنا أن هذا اللفظ موضوع في اصطلاحهم لاثنتين فإذا لفظ به وأطلق وقع كما لو قال أنت طالق اثنتين وبهذا يحصل الانفصال عما قاله الشافعي فإن اللفظ لا يحتاج معه إلى نية فأما ما قاله أبو حنيفة فإنما ذلك في وضع الحساب في الأصل ثم صار مستعملا في كل ما له عدد فصار حقيقة فيه فأما الجاهل بمقتضى ذلك في الحساب إذا طلق وقعت طلقة واحدة لأن لفظ الإيقاع إنما هو لفظ واحدة وإنما صار مصروفا إلى الاثنتين بوضع أهل الحساب واصطلاحهم فمن لا يعرف اصطلاحهم لا يلزمه مقتضاه كالعربي ينطق بالطلاق بالعجمية وهو لا يعرف معناها ولم يفرق أصحابنا في ذلك بين أن يكون المتكلم بذلك ممن لهم عرف في هذا اللفظ أو لا والظاهر أنه إن كان المتكلم بذلك من عرفهم أن في ههنا بمعنى مع وقع به ثلاث لأن كلامه يحمل على عرفهم والظاهر منه إرادته وهو المتبادر إلى الفهم من كلامه فإن نوى موجبه عند أهل الحساب فقال القاضي لا يلزمه مقتضاه كالعربي ينطق بالطلاق بالعجمية ولا يعرف معناها وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه إذا لم يكن يعرف موجبه فلم يقصد إيقاعه ولا يصح منه قصد ما لا يعرفه (8/451)
فصل : عدم ارتفاع الطلاق بالاضراب عنه
فإن قال أنت طالق طلقة بل طلقتين وقع طلقتان نص عليه أحمد وقال أصحاب الشافعي : يقع ثلاث في أحد الوجهين لأن قوله أنت طالق إيقاع فلا يجوز إيقاع الواحدة مرتين فيدل على أنه أوقعها ثم أراد رفعها وأوقع اثنتين آخرتين فتقع الثلاث
ولنا أن ما لفظ به قبل الإضراب بعض ما لفظ به بعده فلم يلزمه أكثر مما بعده كقوله علي درهم بل درهمان وقولهم لا يجوز إيقاع ما أوقعه قلنا يجوز أن يخبر بوقوعه مع وقوع غيره فلا يقع الزائد بالشك قال أحمد : فإن قال أنت طالق لا بل أنت طالق هي واحدة وهذا اختيار أبي بكر واختار القاضي أنه يقع طلقتان لأنه أراد رفع الأولى وإيقاع الثانية فلم ترتفع الأولى ووقعت الثانية
ووجه الأول أنه لو قال : له علي درهم بل درهم لزمه درهم واحد كذا ههنا فعلى هذا القول إن نوى بقوله بل أنت طالق طلقة أخرى وقع اثنتان لأنه قصد إيقاع طلقتين بلفظين فوقع كما لو قال أنت طالق أنت طالق وذكر القاضي احتمالا آخر أنه لا يقع إلا طلقة لأن اللفظ موضوع لواحدة فلا يصح أن ينوي به اثنتين قال أحمد : ولو كان له امرأتان فقال لإحداهما أنت طالق ثم قال للأخرى لا بل أنت طالق طلقتا جميعا ووجهه أنه أوقع طلاق الأولى ثم أضرب عنه وأوقع طلاق الأخرى فوقع بها ولم يرتفع عن الأولى وفارق ما إذا قال ذلك لواحدة لأن الطلقة يجوز أن تكون هي الثانية كرر الاخبار بها ولا يجوز في المرأتين أن يكون طلاق إحداهما هو طلاق الأخرى ونظيره في الإقرار ما لو قال له علي درهم بل درهم لزمه درهم ولو قال له علي درهم بل دينار لزماه جميعا
ولو قال أنت طالق واحدة بل هذه ثلاثا طلقت الأولى واحدة والثانية ثلاثا ولو قال لامرأة غير مدخول بها أنت طالق واحدة بل ثلاثا طلقت واحدة لأنها بانت الأولى فلم يقع بها ما بعدها وإن قال أنت طالق واحدة بل ثلاثا إن دخلت الدار ونوى تعليق الجميع بدخول الدار تعلق وإن نوى تعليق الثلاث حسب وقعت الواحدة في الحال وإن أطلق ففيه وجهان :
أحدهما : يتعلق الجميع بالشرط لأنه بعدهما فيعود إليهما
والثاني : تقع الواحدة في الحال وتبقى الثلاث معلقة بدخول الدار لأنه إنما ذكر الشرط عقيبها فتختص به
وإن قال أنت طالق إن دخلت الدار بل هذه فدخلت الأولى طلقتا وإن دخلت الثانية لم تطلق واحدة منهما فإن قال أردت أن الثانية تطلق إن دخلت الدار قبل منه لأنه محتمل لما قاله وإن قال أردت أنك تطلقين إذا دخلت الثانية الدار قبل منه لأنه محتمل لما قاله وكان طلاق الأولى وحدها معلقا على دخول كل واحدة منهما (8/453)
فصول : الطلاق المقترن بما يبطل حكمه الشك في الطلاق
فصل : إذا قال أنت طالق طلقة لا تقع عليك أو طالق لا أو طالق طلقة لا ينقص بها عدد طلاقك أو طالق لا شيء أو ليس بشيء طلقت واحدة لأن ذلك رفع لجميع ما أوقعه فلم يصح كاستثناء الجميع وإن قال ذلك خبرا فهو كذب لأن الواحدة إذا أوقعها وقعت وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا وإن قال أنت طالق أولا لم يقع لأن هذا استفهام فإذا اتصل به خرج من أن يكون لفظا لإيقاع ويخالف ما قبل ذلك فإنه إيقاع ويحتمل أن يقع لأن لفظه لفظ الإيقاع لا لفظ الاستفهام لكون الاستفهام يكون بالهمزة أو نحوها فيقع ما أوقعه ولا يرتفع بما ذكره بعده كالتي قبلها وإن قال أنت طالق واحدة أولا فكذلك وبه قال أبو حنيفة و أبو يوسف وهو قياس قول الشافعي وقال محمد : يقع واحدة لأن قوله أولا يرجع إلى ما يليه من اللفظ وهو واحدة دون لفظ الإيقاع وليس بصحيح لأن الواحدة صفة للطلقة الواقعة فما اتصل بها يرجع إليها فصار كقوله أنت طالق أو لا شيء
فصل : فإن قال أنت طالق بعد موتي أو موتك أو مع موتي أو موتك لم تطلق نص عليه أحمد وبه قال الشافعي ولا نعلم فيه مخالفا لأنها تبين بموت أحدهما فلا يصادف الطلاق نكاحا يزيله وإن تزوج أمة أبيه ثم قال إذا مات أبي فأنت طالق فمات أبوه لم يقع الطلاق اختاره القاضي لأنه بالموت يملكها فينفسخ نكاحها بالملك وهو زمن الطلاق فلم يقع كما لو قال أنت طالق مع موتي واختار أبو الخطاب أنه يقع لأن الموت سبب ملكها وطلاقها وفسخ النكاح يترتب على الملك فيوجد الطلاق في زمن الملك السابق على الفسخ فيثبت حكمه وإن قال إن اشتريتك فأنت طالق ثم اشتراها خرج على الوجهين وإن قال الأب إذا مت فأنت حرة وقال الابن إذا مات أبي فأنت طالق وكانت تخرج من الثلث ثم مات الأب وقع العتق والطلاق معا وإن لم تخرج من الثلث فإن بعضها ينتقل إلى الورثة فيملك الابن جزءا منها ينفسخ به النكاح فيكون كملك جميعها في فسخ النكاح ومنع وقوع الطلاق فإن أجاز الورثة عتقها فذكر بعض أهل العلم أن هذا ينبني على الإجازة هل هي تنفيذ أو عطية مبتدأة ؟ فإن قلنا هي عطية مبتدأة فقد انفسخ النكاح قبلها فلم يقع الطلاق وإن قلنا هي تنفيذ لما فعل السيد وقع الطلاق وهكذا إن أجاز الزوج وحده عتق أبيه فإن كان على الأب دين يستغرق تركته لم يعتق والصحيح أن ذلك لا يمنع نقل التركة إلى الورثة فهو كما لو لم يكن عليه دين في فسخ النكاح وإن كان الدين لا يستغرق التركة وكانت تخرج من الثلث بعد أداء الدين عتقت وطلقت وإن لم يخرج من الثلث لم تعتق كلها فيكون حكمها في فسخ النكاح ومنع الطلاق كما لو استغرق الدين التركة وإن أسقط الغريم الدين بعد الموت لم يقع الطلاق لأن النكاح انفسخ قبل إسقاطه
فصل : في مسائل تنبني على نية الحالف وتأويله إذا قال إن لم تخبرني بعدد حب هذه الرمانة فأنت طالق أو أكل تمرا فقال إن لم تخبريني بعدد ما أكلت فأنت طالق ولم تعلم ذلك فإنها تعد له عددا يعلم أنه قد أتى على عدد ذلك مثل أن يعلم عدد ذلك ما بين مائة إلى ألف فتعد ذلك كله ولا يحنث إذا كانت نيته ذلك وإن نوى الإخبار بكميته من غير نقص ولا زيادة لم يبرأ إلا بذلك وإن أطلق فقياس المذهب انه لا يبرأ إلا بذلك أيضا لأن ظاهر حال الحالف إرادته فتنصرف يمينه إليه كالأسماء العرفية التي تنصرف اليمين إلى مسماها عرفا دون مسماها حقيقية ولو أكل تمرا فقال إن لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت فأنت طالق فأفردت كل نواة وحدها فالقول فيها كالتي قبلها وإن وقعت في ماء جار فحلف عليها إن خرجت منه أو قمت فيه فأنت طالق فقال القاضي : قياس المذهب أنه يحنث إلا أن ينوي عين الماء الذي هي فيه لأن إطلاق يمينه يقتضي خروجها من النهر أو إقامتها فيه
وقال أبو الخطاب : لا يحنث لأن الماء المحلوف عليه جرى عنها وصارت في غيره فلم يحنث سواء أقامت أو خرجت لأنها إنما تقف في غيره أو تخرج منه وكذلك قال القاضي في المجرد وهو مذهب الشافعي لأن الأيمان عندهم تنبني على اللفظ لا على القصد وكذلك قالوا لا يحنث في هذه الأيمان السابقة كلها ولو قال إن كانت امرأتي في السوق فعبدي حر وإن كان عبدي في السوق فامرأتي طالق فكانا جميعا في السوق فقيل يعتق العبد ولا تطلق المرأة لأنه لما حنث في اليمين الأولى عتق العبد فلم يبق له في السوق عبد ويحتمل أن يحنث بناء على قولنا فيمن حلف على معين تعلقت اليمين بعينه دون صفته كما قال إن كلمت عبدي سعدا فأنت طالق ثم أعتقه وكلمته طلقت فكذلك ههنا لأن يمينه تعلقت بعبد معين وإن لم يرد عبدا بعينه لم تطلق المرأة لأنه لم يبق له عبد في السوق ولو كان في فيها تمرة فقال أنت طالق إن أكلتها أو ألقيتها أو أمسكتها فأكلت بعضها وألقت بعضها وألقت بعضها لم يحنث إلا على قول من قال إنه يحنث بفعل بعض المحلوف عليه وإن نوى الجميع لم يحنث بحال ولو كانت عنده وديعة لانسان فأحلفه ظالم أن ليس لفلان عندك وديعة فإنه يحلف ما لفلان عندي وديعة وينوي بما الذي ويبر في يمينه وكذلك لو سرقت امرأته منه شيئا فحلف عليها بالطلاق لتصدقني أسرقت مني أم لا وخافت أن تصدقه فإنها تقول سرقت منك ما سرقت منك وتعني الذي سرقت منك ولو استحلفه ظالم هل رأيت فلانا أو لا ؟ فإنه يعني برأيت أي ضربت رئته وذكرته أي قطعت ذكره وما طلبت منه حاجة أي الشجرة التي حبسها الحاج ولا أخذت منه فروجا يعني القباء ولا حصيرا وهو الحبس وأشباه هذا فمن لم يكن ظالما فحلف وعنى به هذا تعلقت يمينه بما عناه ولو كانت له امرأة على درجة فحلف عليها أن لا تنزل عنها ولا تصعد منها ولا تقف عليها فإنها تنتقل عنها إلى سلم آخر وتنزل إن شاءت أو تصعد أو تقف عليه لأن نزولها إنما حصل من غيرها وإن كان في يمينه ولا انتقلت عنها فإنها تحمل مكرهة ولو كان في سلم وله امرأتان إحداهما في الغرفة والأخرى في البيت السفلاني فحلف لا صعدت إلى هذه ولا نزلت إلى الأخرى فإن السفلى تصعد وتنزل العليا ثم ينزل إن شاء أو يصعد
فصل : قال عبد الله بن أحمد : سألت أبي عن رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم أجامعك اليوم وأنت طالق إن اغتسلت منك اليوم قال يصلي العصر ثم يجامعها فإذا غابت الشمس اغتسل إن لم يكن أراد بقوله اغتسلت المجامعة وقال في رجل قال لامرأته أنت طالق إن لم أطأك في رمضان فسافر مسيرة أربعة أيام وثلاثة ثم وطئها قال لا يعجبني لأنها حيلة ولا تعجبني الحيلة في هذا ولا في غيره قال القاضي : إنما كره أحمد هذا لأن السفر الذي يبيح الفطر أن يكون سفرا مقصودا مباحا وهذا لا يقصد به غير حل اليمين والصحيح أن هذا تنحل به اليمين ويباح له الفطر فيه لأنه سفر بعيد مباح لقصد صحيح وإرادة حل يمينه من المقاصد الصحيحة وقد أبحنا لمن له طريقان قصيرة لا تقصر فيها الصلاة وبعيدة أن يسلك البعيدة ليقصر فيها الصلاة ويفطر مع أنه لا قصد له سوى الترخص فههنا أولى (8/456)
كتاب الرجعة الرجعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع
وهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله سبحانه : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } إلى قوله { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } والمراد به الرجعة عند جماعة العلماء وأهل التفسير وقال تعالى : { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } أي بالرجعة ومعناه إذا قاربن بلوغ أجلهن أي انقضاء عدتهن وأما السنة فما [ روى ابن عمر قال طلقت امرأتي وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه و سلم فقال مره فليراجعها ] متفق عليه وروى أبو داود [ عن عمر قال ان النبي صلى الله عليه و سلم طلق حفصة ثم راجعها ] وأجمع أهل العلم أن الحر إذا طلق الحرة دون الثلاث أو العبد إذا طلق دون الاثنتين أن لهما الرجعة في العدة ذكره ابن المنذر (8/471)
مسألة وفصول : صفة الوطء الذي تحل به المطلقة ثلاثا
مسألة : قال : والزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة وتحرمها الثلاث من الحر والاثنتان من العبد
أجمع أهل العلم على أن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة ولا يستحق مطلقها رجعتها وذلك لأن الرجعة إنما تكون في العدة ولا عدة قبل الدخول لقول الله سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } فبين الله سبحانه أنه لا عدة عليها فتبين بمجرد طلاقها وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء عدتها لا رجعة عليها ولا نفقة لها وان رغب مطلقها فيها فهو خاطب من الخطاب يتزوجها برضاها بنكاح جديد وترجع إليه بطلقتين وإن طلقها اثنتين ثم تزوجها رجعت إليه بطلقة واجدة بغير خلاف بين أهل العلم وإن طلقها ثلاثا بلفظ واحد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره في قول أكثر أهل العلم وقد ذكرنا ذلك فيما مضى ولا خلاف بينهم في أن المطلقة ثلاثا بعد الدخول لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره لقول الله سبحانه : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } و [ روت عائشة أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبت طلاقها فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : إنها كانت عند رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير وإنه والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة وأخذت بهدبة من جلبابها قالت فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم ضاحكا وقال : لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته ] متفق عليه وفي إجماع أهل العلم على هذا غنية عن الإطالة فيه وجمهور أهل العلم على أنها لا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثاني وطأ يوجد فيه التقاء الختانين إلا أن سعيد بن المسيب من بينهم قال : إذا تزوجها تزويجا صحيحا لا يريد به إحلالا فلا بأس أن يتزوجها الأول قال ابن المنذر : لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بقول سعيد بن المسيب هذا إلا الخوارج أخذوا بظاهر قوله سبحانه : { حتى تنكح زوجا غيره } ومع تصريح النبي صلى الله عليه و سلم ببيان المراد من كتاب الله تعالى وانها لا تحل للأول حتى يذوق الثاني عسيلتها وتذوق عسيلته لا يعرج على شيء سواه ولا يسوغ لأحد المصير إلى غيره مع ما عليه جملة أهل العلم منهم علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم وممن بعدهم مسروق و الزهري و مالك وأهل المدينة و الثوري وأصحاب الرأي و الأوزاعي وأهل الشام و الشافعي و أبو عبيدة وغيرهم
فصل : ويشترط لحلها للأول ثلاثة شروط
أحدها : أن تنكح زوجا غيره فلو كانت أمة فوطئها سيدها لم يحلها لقول الله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } وهذا ليس بزوج ولو وطئت بشبهة لم تبح لما ذكرنا ولو كانت أمة فاستبرأها مطلقها لم يحل له وطؤها في قول أكثر أهل العلم وقال بعض أصحاب الشافعي : تحل له لأن الطلاق يختص الزوجية فأثر في التحريم بها وقول الله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } صريح في تحريمها فلا يعول على ما خالفه ولأن الفرج لا يجوز أن يكون محرما مباحا فسقط هذا
الشرط الثاني : أن يكون النكاح صحيحا فإن كان فاسدا لم يحلها الوطء فيه وبهذا قال الحسن و الشعبي و حماد و مالك و الثوري و الأوزاعي و إسحاق و أبو عبيد وأصحاب الرأي و الشافعي في الجديد وقال في القديم يحلها ذلك وهو الحكم وخرجه أبو الخطاب وجها في المذهب لأنه زوج فيدخل في عموم النص ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لعن المحلل والمحلل له فسماه محللا مع فساد نكاحه
ولنا قول الله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } وإطلاق النكاح يقتضي الصحيح ولذلك لو حلف لا يتزوج فتزوج تزويجا فاسدا لم يحنث ولو حلف ليتزوجن لم يبر بالتزويج الفاسد ولأن أكثر أحكام الزواج غير ثابتة فيه من الاحصان واللعان والظهار والإيلاء والنفقة وأشباه ذلك وأما تسميته محللا فلقصده التحليل فيما لا يحل ولو أحل حقيقة لما لعن ولا لعن المحلل له وإنما هذا كقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ] وقال الله تعالى : { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } ولأنه وطء في غير نكاح صحيح أشبه وطء الشبهة
الشرط الثالث : أن يطأها في الفرج فلو وطئها دونه أو في الدبر لم يحلها لأن النبي صلى الله عليه و سلم علق الحل على ذواق العسيلة منهما ولا يحصل إلا بالوطء في الفرج وأدناه تغييب الحشفة في الفرج لأن أحكام الوطء تتعلق به ولو أولج الحشفة من غير انتشار لم تحل له لأن الحكم يتعلق بذواق العسيلة ولا تحصل من غير انتشار وإن كان الذكر مقطوعا فإن بقي منه قدر الحشفة فأولجه أحلها وإلا فلا فإن كان خصيا أو مسلولا أو موجوءا حلت بوطئه لأنه يطأ كالفحل ولم يفقد إلا الإنزال وهو غير معتبر في الاحلال وهذا قول الشافعي
قال أبو بكر : وقد روي عن أحمد في الخصي انه لا يحلها فإن أبا طالب سأله في المرأة تتزوج الخصي تستحل به قال لا خصي يذوق العسيلة قال ابو بكر : والعمل على ما رواه مهنا انها تحل ووجه الأول أن الخصي لا يحصل منه الإنزال فلا ينال لذة الوطء فلا يذوق العسيلة ويحتمل أن أحمد قال ذلك لأن الخصي في الغالب لا يحصل منه الوطء أو ليس بمظنة الإنزال فلا يحصل الإحلال بوطئه كالوطء من غير انتشار
فصل : واشترط أصحابنا أن يكون الوطء حلالا فإن وطئها في حيض أو نفاس أو إحرام من أحدهما أو منهما أو وأحدهما صائم فرضا لم تحل وهذا قول مالك لأنه وطء حرام لحق الله تعالى فلم يحصل به الإحلال كوطء المرتدة وظاهر النص حلها وهو قوله تعالى : { حتى تنكح زوجا غيره } وهذه قد نكحت زوجا غيره وأيضا قوله عليه السلام : [ حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ] وهذا قد وجد ولأنه وطء في نكاح صحيح في محل الوطء على سبيل التمام فأحلها كالوطء الحلال وكما لو وطئها وقد ضاق وقت الصلاة أو طئها مريضة يضرها الوطء وهذا أصح إن شاء الله تعالى وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي وأما وطء المرتدة فلا يحلها سواء وطئها في حال ردتهما أو ردتها أو وطئ المرتد المسلمة لأنه إن لم يعلم المرتد منهما إلى الإسلام تبين أن الوطء في غير نكاح وإن عاد إلى الإسلام في العدة فقد كان الوطء في نكاح غير تام لأن سبب البينونة حاصل فيه وهكذا لو أسلم أحد الزوجين فوطئها الزوج قبل إسلام الآخر لم يحلها لذلك
فصل : فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها وبذلك قال عطاء و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي : ولا نعلم لهم مخالفا ولأنه دخل في عموم النص ووطؤه كوطء الحر وإن تزوجها مراهق فوطئها أحلها في قولهم إلا مالكا و أبا عبيد فإنهما قالا لا يحلها ويروى ذلك عن الحسن لأنه وطء من غير بالغ فأشبه وطء الصغير
ولنا ظاهر النص وأنه وطء من زوج في نكاح صحيح فأشبه البالغ ويخالف الصغير فإنه لا يمكن الوطء منه ولا تذاق عسيلته قال القاضي : ويشترط أن يكون له اثنا عشر سنة لأن من دون ذلك لا يمكنه المجامعة ولا معنى لهذا فإن الخلاف في المجامع ومتى أمكنه الجماع فقد وجد منه المقصود فلا معنى لاعتبار سن ما ورد الشرع باعتبارها وتقديره بمجرد الرأي والتحكم وإن كانت ذمية فوطئها زوجها الذمي أحلها لمطلقها المسلم نص عليه أحمد وقال هو زوج وبه تجب الملاعنة والقسم وبه قال الحسن و الزهري و الثوري و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال ربيعة و مالك : لا يحلها
ولنا ظاهر الآية ولأنه وطء من زوج في نكاح صحيح تام أشبه وطء المسلم وإن كانا مجنونين أو أحدهما فوطئها أحلها وقال أبو عبد الله بن حامد لا يحلها لأنه لا يذوق العسيلة
ولنا ظاهر الآية ولأنه وطء مباح في نكاح صحيح أشبه العاقل وقوله لا يذوق العسيلة لا يصح فإن الجنون إنما هو تغطية العقل وليس العقل شرطا في الشهوة وحصول اللذة بدليل البهائم لكن إن كان المجنون ذاهب الحس كالمصروع والمغمى عليه لم يحصل الحل بوطئه ولا بوطء مجنونة في هذه الحال لأنه لا يذوق العسيلة ولا تحصل له لذة ولعل ابن حامد إنما أراد المجنون الذي هذه حاله فلا يكون ههنا اختلاف ولو وطئ مغمى عليها أو نائمة لا تحس بوطئه فينبغي أن لا تحل بهذا لما ذكرناه وحكاه ابن المنذر ويحتمل حصول الحل في ذلك كله أخذا من عموم النص والله أعلم
فصل : ولو وجد على فراشه امرأة فظنها أجنبية أو ظنها جاريته فوطئها فاذا هي امرأته أحلها لأنه صادف نكاحا صحيحا ولو وطئها فأفضاها أو وطئها وهي مريضة تتضرر بوطئه أحلها لأن التحريم ههنا لحقها وإن استدخلت ذكره وهو نائم أو مغمى عليه لم تحل لأنه لا يذوق عسيلتها ويحتمل أن تحل لعموم الآية والله أعلم (8/471)
مسألة وفصل : مراجعة المطلقة وشروطه
مسألة : قال : وإذا طلق الحر زوجته أقل من ثلاث فله عليها الرجعة ما كانت في العدة
أجمع أهل العلم على أن الحر إن طلق الحرة بعد دخوله بها أقل من ثلاث بغير عوض ولا أمر يقتضي بينونتها فله عليها الرجعة ما كانت في عدتها وعلى أنه لا رجعة له عليها بعد قضاء عدتها لما ذكرناه في أول الباب وإن طلق الحر امرأته الأمة فهو كطلاق الحرة إلا أن فيه خلافا ذكرناه فيما مضى وذكرنا أن الطلاق معتبر بالرجال فيكون له رجعتها ما لم يطلقها ثلاثا كالحرة
فصل : ولا يعتبر في الرجعة رضا المرأة لقول الله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } فجعل الحق لهم وقال سبحانه : { فأمسكوهن بمعروف } فخاطب الأزواج بالأمر ولم يجعل لهن اختيارا ولأن الرجعة إمساك للمرأة بحكم الزوجية فلم يعتبر رضاها في ذلك كالتي في صلب نكاحه وأجمع أهل العلم على هذا (8/477)
فصلان : استمرار احكام الزوجية في عدة الطلاق الرجعي
فصل : والرجعية زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ولعانه ويرث أحدهما صاحبه بالإجماع وإن خالعها صح خلعه وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يصح لأنه يراد للتحريم وهي محرمة
ولنا انها زوجة صح طلاقها فصح خلعها كما قبل الطلاق وليس مقصود الخلع التحريم بل الخلاص من مضرة الزوج ونكاحه الذي هو سببها والنكاح باق ولا نأمن رجعته وعلى إننا نمنع كونها محرمة
فصل : وظاهر كلام الخرقي أن الرجعية محرمة لقوله وإذا لم يدر أواحدة طلق أم ثلاثا ؟ فهو متيقن للتحريم شاك في التحليل وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا وهو مذهب الشافعي وحكي ذلك عن عطاء و مالك وقال القاضي : ظاهر المذهب أنها مباحة قال أحمد في رواية أبي طالب : لا تحتجب عنه وفي رواية أبي الحارث تتشرف له ما كانت في العدة فظاهر هذا أنها مباحة له وله أن يسافر بها ويخلو بها ويطؤها وهذا مذهب أبي حنيفة لأنها في حكم الزوجات فأبيحت له كما قبل الطلاق ووجه الأولى أنها طلقة واقعة فأثبتت التحريم كالتي بعوض ولا خلاف في أنه لا حد عليه بالوطء ولا ينبغي أن يلزمه مهر سواء راجع أو لم يراجع لأنه وطئ زوجته التي يلحقها طلاقه فلم يكن عليه مهر كسائر الزوجات ويفارق ما لو وطئ الزوج بعد إسلام أحدهما في العدة حيث يجب المهر إذ لم يسلم الآخر في العدة لأنه إذا لم يسلم تبينا أن الفرقة وقعت من حين إسلام المسلم الأول منهما وهي فرقة فسخ تبين به من نكاحه فأشبهت التي أرضعت من ينفسخ نكاحها برضاعه وفي مسألتنا لا تبين إلا بانقضاء العدة فافترقا وقال أبو الخطاب : إذا أكرهها على الوطء وجب عليه المهر عند من حرمها وهو المنصوص عن الشافعي لأنه وطئ حرمه الطلاق فوجب به المهر كوطء البائن والفرق ظاهر فإن البائن ليست زوجة له وهذه زوجته وقياس الزوجة على الأجنبية في الوطء وأحكامه بعيد (8/478)
مسألة : مراجعة العبد لامرأته
مسألة : قال : وللعبد بعد الواحدة ما للحر قبل الثلاث
أجمع العلماء على أن للعبد رجعة امرأته بعد الطلقة الواحدة إذا وجدت شروطها فإن طلقها ثانية فلا رجعة له سواء كانت امرأته حرة أو أمة لأن طلاق العبد اثنتان وفي هذا خلاف ذكرناه فيما مضى (8/479)
مسألة : قال : ولو كانت حاملا باثنين فوضعت احدهما
مسألة : قال : ولو كانت حاملا باثنين فوضعت أحدهما فله مراجعتها ما لم تضع الثاني
هذا قول عامة العلماء إلا أنه حكي عن عكرمة أن العدة تنقضي بوضع الأول وما عليه سائر أهل العلم أصح فإن العدة لا تنقضي إلا بوضع الحمل كله لقول الله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } واسم الحمل متناول لكل ما في البطن فتبقى العدة مستمرة إلى حين وضع باقي الحمل فتبقى الرجعة ببقائها ولو انقضت العدة بوضع بعض الحمل لحل لها التزويج وهي حامل من زوج آخر ولا قائل به وأظن أن قتادة ناظر عكرمة في هذا فقال عكرمة : تنقضي عدتها بوضع أحد الوالدين فقال له قتادة : أيحل لها أن تتزوج ؟ قال لا قال خصم العبد ولو خرج بعض الولد فارتجعها قبل أن تضع باقيه صح لأنها لم تضع جميع حملها فصارت كمن ولدت أحد الولدين (8/479)
فصلان : ما تقضي به عدة المطلقة المعتدة بالاقرار وحكم زواجها
فصل : إذا انقطع حيض المرأة في المرة الثالثة ولما تغتسل فهي تنقضي عدتها بطهرها ؟ فيه روايتان ذكرهما ابن حامد :
إحداهما : لا تنقضي عدتها حتى تغتسل ولزوجها رجعتها في ذلك وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه قال في العدة فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة أبيحت للأزواج وهذا قول كثير من أصحابنا وروي ذلك عن عمر وعلي وأبي مسعود و سعيد بن المسيب و الثوري و أبي عبيد وروي نحوه عن أبي بكر الصديق وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء وروي عن شريك له الرجعة وإن فرضت في الغسل عشرين سنة ووجه هذا قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فيكون إجماعا ولأن أكثر أحكام الحيض لا تزول إلا بالغسل وكذلك هذا
والرواية الثانية : أن العدة تنقضي بمجرد الطهر قبل الغسل وهو قول طاوس وسعيد بن جبير و الأوزاعي واختاره أبو الخطاب لقوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } والقرء الحيض وقد زالت فيزول التربص وفيما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ وقرء الأمة حيضتان ] وقال [ دعي الصلاة أيام إقرائك ] يعني أيام حيضك ولأن انقضاء العدة تتعلق به بينونتها من الزوج وحلها لغيره فلم يتعلق بفعل اختياري من جهة المرأة بغير تعليق الزوج كالطلاق وسائر العدد ولأنها لو تركت الغسل اختيارا أو لجنون أو نحوه لم تحل إما أن يقال بقول شريك إنها تبقى معتدة ولو بقيت عشرين سنة وذلك خلاف قول الله : { ثلاثة قروء } فإنها تصير عدتها أكثر من مائتي قرء أو يقال تنقضي العدة قبل الغسل فيكون رجوعا عن قولهم ويحمل قول الصحابة في قولهم حتى تغتسل أي يلزمها الغسل
فصل : إذا تزوجت الرجعية في عدتها وحملت من الزوج الثاني انقطعت عدتها من الأول بوطء الثاني وهل يملك الزوج رجعتها في عدة الحمل ؟ يحتمل وجهين :
أولهما : أنه له رجعتها لأنها لم تقض عدتها فحكم نكاحه باق يلحقها طلاقه وظهاره وإنما انقطعت عدته لتعارض فهو كما وطئت في صلب نكاحه فإنها تحرم عليه وتبقى سائر أحكام الزوجية ولأنه يملك إرتجاعها إذا عادت إلى عدته فملكه قبل ذلك كما لو ارتفع حيضها في أثناء عدتها
والوجه الثاني : ليس له رجعتها لأنها ليست في عدته فإذا وضعت الحمل انقضت عدة الثاني وبنت على ما مضى من عدة الأول وله ارتجاعها حينئذ وجها واحدا ولو كانت في نفاسها لأنها بعد الوضع تعود إلى عدة الأول وإن لم تحتسب به فكان له الرجعة فيه كما لو طلق حائضا فإن له رجعتها في حيضتها وإن كانت لا تعتد بها وإن حملت حملا يمكن أن يكون منهما فعلى الوجه الذي لا يملك رجعتها في حملها من الثاني إذا رجعها في هذا الحمل ثم بان أنه من الثاني لم يصح وإن بان من الأول احتمل أن يصح لأنه راجعها في عدتها منه واحتمل أن لا يصح لأنه راجعها مع الشك في إباحة الرجعة والأول أصح فإن الرجعة ليست بعبادة يبطلها الشك في صحتها وعلى أن العبادة تصح مع الشك فيما إذا نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها فصلى خمس صلوات فإن كل صلاة يشك في أنها هل هي المنسية أو غيرها ؟ ولو شك في الحدث فتطهر ينوي رفع الحدث صحت طهارته وارتفع حدثه فههنا أولى فإن راجعها بعد الوضع وبان أن الحمل من الثاني صحت رجعته وإن بان من الأول لم تصح الرجعة لأن العدة انقضت بوضعه (8/480)
مسألة وفصل : ما تحصل به الرجعة والروايات فيه
مسألة : قال : والمراجعة أن يقول لرجلين من المسلمين اشهدا أني قد راجعت امرأتي بلا ولي يحضره ولا صداق يزيده وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه تجوز الرجعة بلا شهادة
وجملته أن الرجعة لا تفتقر إلى ولي ولا صداق ولا رضا المرأة ولا علمها بإجماع أهل العلم لما ذكرنا من أن الرجعية في أحكام الزوجات والرجعة إمساك لها واستبقاء لنكاحها ولهذا سمى الله سبحانه وتعالى الرجعة إمساكا وتركها فراقا وسراحا فقال : { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } وفي آية أخرى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وإنما تشعث النكاح بالطلقة وانعقد بها سبب زواله فالرجعة تزيل شعثه وتقطع مضيه إلى البينونة فلم يحتج لذلك إلى ما يحتاج إليه ابتداء النكاح فأما الشهادة ففيها روايتان :
إحداهما : تجب وهذا أحد قولي الشافعي لأن الله تعالى قال : { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } وظاهر الأمر الوجوب ولأنه استباجة بضع مقصود فوجبت الشهادة فيه كالنكاح وعكسه البيع
والرواية الثانية : لا تجب الشهادة وهي اختيار أبي بكر وقول مالك و أبي حنيفة لأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج ولأن ما لا يشترط فيه الولي لا يشترط فيه الإشهاد كالبيع وعند ذلك يحمل الأمر على الاستحباب ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الإشهاد فإن قلنا هي شرط فإنه يعتبر وجودها حال الرجعة فإن ارتجع بغير شهادة لم يصح لأن المعتبر وجودها في الرجعة دون الإقرار بها إلا أن يقصد بذلك الإقرار الارتجاع فيصح
فصل : وظاهر كلام الخرقي أن الرجعة لا تحصل إلا بالقول بقوله المراجعة أن يقول وهذا مذهب الشافعي لأنها استباحة بضع مقصود أمر بالإشهاد فيه فلم تحصل من القادر بغير قول كالنكاح ولأن غير القول فعل من قادر على القول فلم تحصل به الرجعة كالإشارة من الناطق وهذا إحدى الروايتين عن أحمد
والرواية الثانية : تحصل الرجعة بالوطء سواء نوى به الرجعة أو لم ينو اختارها ابن حامد و القاضي وهو قول سعيد بن المسيب و الحسن و ابن سيرين و عطاء و طاوس و الزهري و الثوري و الأوزاعي و ابن أبي ليلى وأصحاب الرأي قال بعضهم ويشهد وقال مالك و إسحاق تكون رجعة إذا أراد به الرجعة لأن هذه مدة تفضي إلى بينونة فترتفع بالوطء كمدة الإيلاء ولأن الطلاق سبب لزوال الملك ومعه خيار فتصرف المالك بالوطء يمنع عمله كوطء البائع الأمة المبيعة في مدة الخيار وذكر أبو الخطاب أننا إذا قلنا الوطء مباح حصلت الرجعة به كما ينقطع به التوكيل في طلاقها وإن قلنا هو محرم لم تحصل الرجعة به لأنه فعل محرم فلا يكون سببا للحل كوطء المحلل
فصل : فأما إن قبلها أو لمسها لشهوة أو كشف فرجها ونظر إليه فالمنصوص عن أحمد أنه ليس برجعة وقال ابن حامد فيه وجهان :
أحدهما : هو رجعة وهذا قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه استمتاع يستباح بالزوجية فحصلت الرجعة به كالوطء
والثاني : أنه ليس برجعة لأنه أمر لا يتعلق به إيجاب عدة ولا مهر فلا تحصل به الرجعة كالنظر فأما الخلوة بها فليس برجعة لأنه ليس باستمتاع وهذا اختيار أبي الخطاب وحكي عن غيره من أصحابنا أن الرجعة تحصل به لأنه معنى يحرم من الأجنبية ويحل من الزوجة فحصلت به الرجعة كالاستمتاع والصحيح أنه لا تحصل الرجعة بها لأنها لا تبطل اختيار المشتري للأمة فلم تكن رجعة كاللمس لغير شهوة فأما اللمس لغير شهوة والنظر لذلك ونحوه فليس برجعة لأنه يجوز في غير الزوجة عند الحاجة فأشبه الحديث معها (8/482)
مسألة وفصل : صيغة المراجعة وتعليق الرجعة على شرط
فصل : فأما القول فتحصل به الرجعة بغير خلاف وألفاظه راجعتك وارتجعتك ورددتك وأمسكتك لأن هذه الألفاظ ورد بها الكتاب والسنة فالرد والإمساك ورد بهما الكتاب بقوله سبحانه : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } وقال : { فأمسكوهن بمعروف } يعني الرجعة والرجعة وردت بها السنة بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ مره فليراجعها ] وقد اشتهر هذا الاسم فيها بين أهل العرف كاشتهار اسم الطلاق فيه فإنهم يسمونها رجعة والمرأة رجعية ويتخرج أن يكون لفظها هو الصريح وحده لاشتهاره دون غيره كقولنا في صريح الطلاق والاحتياط أن يقول راجعت امرأتي إلى نكاحي أو زوجتي أو راجعتها لما وقع عليها من طلاقي فإن قال نكحتها أو تزوجتها فهذا ليس بصريح فيها لأن الرجعة ليست بنكاح وهل تحصل به الرجعة ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا تحصل به الرجعة لأن هذا كناية والرجعة استباحة بضع مقصود ولا تحصل بالكناية كالنكاح
والثاني : تحصل به الرجعة أومأ إليه أحمد واختاره ابن حامد لأنه تباح به الأجنبية فالرجعية أولى وعلى هذا يحتاج أن ينوي به الرجعة لأن ما كان كناية تعتبر له النية ككنايات الطلاق
فصل : فإن قال راجعتك للمحبة أو قال للإهانة وقال أردت أنني راجعتك لمحبتي إياك أو إهانة لك صحت الرجعة لأنه أتى بالرجعة وبين سببها وإن قال أردت أنني كنت أهنتك أو أحبك وقد رددتك بفراقي إلى ذلك فليس برجعة وإن أطلق ولم ينو شيئا صحت الرجعة ذكره القاضي لأنه أتى بصريح الرجعة وضم إليه ما يحتمل أن يكون بيانا لسببها ويحتمل غيره فلا يزول اللفظ عن مقتضاه بالشك وهذا مذهب الشافعي
فصل : ولا يصح تعليق الرجعة على شرط لأنه استباحة فرج مقصود فأشبه النكاح ولو قال راجعتك إن شئت لم يصح كذلك ولو قال كلما طلقتك فقد راجعتك لم يصح لذلك ولأنه راجعها قبل أن يملك الرجعة فأشبه الطلاق قبل النكاح وإن قال إن قدم أبوك فقد راجعتك لم يصح لأنه تعليق على شرط
فصل : فإن راجعها في الردة من أحدهما فذكر أبو الخطاب انه لا يصح وهو صحيح مذهب الشافعي لأنه استباحة بضع مقصود فلم يصح مع الردة كالنكاح ولأن الرجعة تقرير للنكاح والردة تنافي ذلك فلم يصح اجتماعهما وقال القاضي : إن قلنا تتعجل الفرقة بالردة لم تصح الرجعة لأنها قد بانت بها وإن قلنا لا تتعجل الفرقة فالرجعة موقوفة إن أسلم المرتد منهما في العدة صحت الرجعة لأننا تبينا أنه ارتجعها في نكاحه ولأنه نوع إمساك فلم تمنع منه الردة كما لو لم يطلق وإن لم يسلم في العدة تبينا أن الفرقة وقعت قبل الرجعة وهذا قول المزني واختيار أبي حامد وهكذا ينبغي أن يكون فيما إذا راجعها بعد إسلام أحدهما (8/485)
مسألة وفصل : شرط دعوى الرجل الرجعة ودعوى المرأة انقضاء العدة
مسألة : قال : وإذا قال قد ارتجعتك فقالت قد انفضت عدتي قبل رجعتك فالقول قولها ما ادعت من ذلك ممكنا
وجملة ذلك أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها في مدة يمكن انقضاؤها فيها قبل قولها لقول الله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } قيل في التفسير هو الحيض والحمل فلولا أن قولهن مقبول لم يحرجن بكتمانه ولأنه أمر تختص بمعرفته فكان القول قولها فيه كالنية من الإنسان فيما تعتبر فيه النية أو أمر لا يعرف إلا من جهتها فقبل قولها فيه كما يجب على التابعي قبول خبر الصحابي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما ما تنقضي به العدة فلا يخلو من ثلاثة أقسام
القسم الأول : أن تدعي انقضاء عدتها بالقروء وأقل ذلك ينبني على الخلاف في أقل الطهر بين الحيضتين وعلى الخلاف في القروء هل هي الحيض أو الاطهار ؟ فإن قلنا هي الحيض وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما فأقل ما تنقضي به العدة تسعة وعشرون يوما ولحظة وذلك أن يطلقها مع آخر الطهر ثم تحيض بعده يوما وليلة ثم تطهر ثلاثة عشر يوما ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر ثلاثة عشر يوما ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر لحظة ليعرف بها انقطاع الحيض وإن لم تكن هذه اللحظة من عدتها فلا بد منها لمعرفة انقطاع حيضها ولو صادفتها رجعته لم تصح ومن اعتبر الغسل في قضاء العدة فلا بد من وقت يمكن الغسل فيه بعد انقطاع الحيض وإن قلنا القرء الحيض والطهر خمسة عشر يوما فأقل ما تنقضي به العدة ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة تزيد أربعة أيام في الطهرين وإن قلنا القروء الأطهار وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما فإن عدتها تنقضي بثمانية وعشرين يوما ولحظتين وهو أن يطلقها في آخر لحظة من طهرها فتحتسب بها قرءا ثم تحتسب طهرين آخرين ستة وعشرين يوما وبينهما حيضتين يومين فإذا طعنت في الحيضة الثالثة لحظة انقضت عدتها وإن قلنا الطهر خمسة عشر يوما زدنا على هذا أربعة أيام في الطهرين فيكون اثنين وثلاثين يوما ولحظتين وهذا قول الشافعي فإن كانت أمة انقضت عدتها بخمسة عشر يوما ولحظة على الوجه الأول وتسعة عشر يوما ولحظة على الوجه الثاني وبأربعة عشر يوما ولحظتين على الوجه الثالث وستة عشر يوما ولحظتين على الوجه الرابع فمتى ادعت انقضاء عدتها بالقروء في أقل من هذا لم يقبل قولها عند أحد فيما أعلم لأنه لا يحتمل صدقها
وإن ادعت انقضاء عدتها في أقل من شهر لم يقبل قولها إلا ببينة لأن شريحا قال : إذا ادعت انها حاضت ثلاث حيض في شهر وجاءت ببينة من النساء العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله انها رأت ما يحرم عليها الصلاة من الطمث وتغتسل عند كل قرء وتصلي فقد انقضت عدتها وإلا فهي كاذبة وقال له علي بن أبي طالب : قالون ومعناه بالرومية أصبت أو أحسنت فأخذ أحمد بقول علي في الشهر فإن ادعت ذلك في أكثر من شهر صدقها على حديث [ إن المرأة أؤتمنت على فرجها ] ولأن حيضها في الشهر ثلاث حيض يندر جدا فرجح ببينة ولا يندر فيما زاد على الشهر كندرته فيه فقبل قولها من غير بينة وقال الشافعي : لا يقبل قولها في أقل من اثنين وثلاثين يوما ولحظتين ولا يقبل في أقل من ذلك بحال لأنه لا يتصور عنده أقل من ذلك
وقال النعمان : لا تصدق في أقل من ستين يوما وقال صاحباه : لا تصدق في أقل من تسعة وثلاثين يوما لأن أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام فثلاث حيض تسعة أيام وطهران ثلاثون يوما والخلاف في هذا ينبني على الخلاف في أقل الحيض وأقل الطهر وفي القروء ما هي وقد سبق
ومما يدل عليه في الجملة قبول علي وشريح بينتها على انقضاء عدتها في شهر ولولا تصوره لما قبلت عليه بينة ولا سمعت فيه دعوى ولا يتصور إلا بما قلناه فأما إن ادعت انقضاء العدة في أقل من ذلك لم تسمع دعواها ولا يصغى إلى بينتها لأننا نعلم كذبها فإن بقيت على دعواها حتى أتى عليها ما يمكن صدقها فيه نظرنا فإن بقيت على دعواها المردودة لم يسمع قولها لأنها تدعي محالا وإن ادعت انها انقضت عدتها في هذه المدة كلها أو في ما يمكن منها قبل قولها لأنه أمكن صدقها ولا فرق في ذلك بين الفاسقة والمرضية والمسلمة والكافرة لأن ما يقبل فيه قول الإنسان على نفسه لا يختلف باختلاف حاله كإخباره عن بينة فيما تعتبر فيه بينة
القسم الثاني : أن تدعي انقضاء عدتها بوضع الحمل فلا يخلو إما أن تدعي وضع الحمل التام أو انها أسقطته قبل كماله فإن ادعت وضعه لتمام فلا يقبل قولها في أقل من ستة أشهر من حين إمكان الوطء بعد العقد لأنه لا يكمل في أقل من ذلك وإن ادعت أنها أسقطته لم يقبل قولها في أقل من ثمانين يوما من حين إمكان الوطء بعد عقد النكاح لأن أقل سقط تنقضي به العدة ما أتى عليه ثمانون يوما لأنه يكون نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة أربعين يوما ثم يصير مضغة بعد الثمانين ولا تنقضي به العدة قبل أن يصير مضغة بحال وهذا ظاهر قول الشافعي
القسم الثالث : أن تدعي انقضاء عدتها بالشهور فلا يقبل قولها فيه لأن الخلاف في ذلك ينبني على الاختلاف في وقت الطلاق والقول قول الزوج فيه فيكون القول قوله فيما ينبني عليه إلا أن يدعي الزوج انقضاء عدتها ليسقط عن نفسه نفقتها مثل أن يقول طلقتك في شوال فتقول هي بل في ذي الحجة فالقول قولها لأنه يدعي ما يسقط النفقة والأصل وجوبها فلا يقبل إلا ببينة ولو ادعت ذلك ولم يكن لها نفقة قبل قولها لأنها تقر على نفسها بما هو أغلظ
ولو انعكست الدعوى فقال طلقتك في ذي الحجة فلي رجعتك فقالت بل طلقتني في شوال فلا رجعة لك فالقول قوله لأن الأصل بقاء نكاحه ولأن القول قوله في إثبات الطلاق ونفيه فكذلك في وقته إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا القول قولها فأنكرها الزوج فقال الخرقي : عليها اليمين وهو قول الشافعي و أبو يوسف و محمد وقد أومأ إليه أحمد في رواية أبي طالب
وقال القاضي : قياس المذهب أن لا يجب عليها يمين وقد أومأ إليه أحمد فقال : لا يمين في نكاح ولا طلاق وهو قول أبي حنيفة لأن الرجعة لا يصح بذلها فلا يستحلف فيها كالحدود والأول أولى لقول رسول الله : [ اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق آدمي يمكن صدق مدعيه فيجب اليمين فيه كالأموال فإن نكلت عن اليمين فقال القاضي : لا يقضى بالنكول لأنه مما لا يصح بذله ويحتمل أن يستحلف الزوج وله رجعتها بناء على القول برد اليمين على المدعي وذلك لأنه لما وجد النكول منها ظهر صدق الزوج وقوي جانبه واليمين تشرع في حق من قوي جانبه ولذلك شرعت في حق المدعى عليه لقوة جانبه باليد في العين وبالأصل في براءة الذمة في الدين وهذا مذهب الشافعي
فصل : وإذا ادعى الزوج في عدتها كان راجعها أمس أو منذ شهر قبل قوله لأنه لما ملك الرجعة ملك الإقرار بها كالطلاق وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم وإن قال بعد انقضاء عدتها : كنت راجعتك في عدتك فأنكرته فالقول قولها بإجماعهم لأنه ادعاها في زمن لا يملكها والأصل عدمها وحصول البينونة فإن كان اختلافهما في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها وبقاؤها فبدأت فقالت انقضت عدتي فقال قد كنت راجعتك فأنكرته لم يقبل قوله لأن خبرها بانقضاء عدتها مقبول لإمكانه فصارت دعواه للرجعة بعد الحكم بانقضاء عدتها فلم تقبل فإن سبقها بالدعوى فقال قد كنت راجعتك أمس فقالت قد انقضت عدتي قبل دعواك فالقول قوله لأن دعواه للرجعة قبل الحكم بانقضاء عدتها في زمن الظاهر قبول قوله فيه فلا يقبل قولها بعد ذلك في إبطاله ولو سبق فقال قد راجعتك فقالت قد انقضت عدتي قبل رجعتك فأنكرها فقال القاضي : القول قوله لما ذكرنا وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي وظاهر كلام الخرقي أن قولها مقبول سواء سبقها بالدعوى أو سبقته وهو وجه ثان لأصحاب الشافعي لأن الظاهر البينونة والأصل عدم الرجعة فكان الظاهر معها ولأن من قبل قوله سابقا قبل قوله مسبوقا كسائر من يقبل قوله ولهم وجه ثالث أن القول قول الزوج بكل حال لأن المرأة تدعي ما يرفع النكاح وهو ينكره فكان القول قوله كما لو ادعى المولي والعنين إصابة امرأته فأنكرته وهذا لا يصح فإنه قد انعقد سبب البينونة وهو مفض إليها ما لم يوجد ما يرفعه ويزيل حكمه والأصل عدمه فكان القول قول من ينكره بخلاف ما قاسوا عليه وإن وقع القول منهما جميعا فلا رجعة لأن خبرها بانقضاء عدتها يكون بعدها فيكون قوله بعد العدة فلا يقبل قال أبو الخطاب : ويحتمل أن يقرع بينهما فيكون القول قول من تقع له القرعة والصحيح الأول (8/487)
فصل : حكم ما لو اختلفا في الإصابة
فصل : وإن اختلفا في الإصابة فقال قد أصبتك فلي رجعتك فأنكرته أو قالت قد أصابني فلي المهر كاملا فالقول قول المنكر منهما لأن الأصل معه فلا يزول إلا بيقين وليس له رجعتها في الموضعين لأنه أنكر الإصابة فهو يقر على نفسه ببينونتها وانه لا رجعة له عليها وإن أنكرتها هي فالقول قولها ولا تستحق إلا نصف المهر في الموضعين لأنها إن أنكرتها فهي مقرة إنها لا تستحق إلا نصف المهر وإن أنكرها فالقول قوله هذا إن كان غير مقبوض فإن كان اختلافهما بعد قبضها لها وادعى إصابتها فأنكرته لم يرجع عليها بشري لأنه يقر لها به ولا يدعيه وإن كان هو المنكر رجع عليها بنصفه وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي فإن قيل فلم قبلتم قول المولي والعنين في الإصابة ولم تقبلوه ههنا ؟
قلنا لأن المولي والعنين يدعيان ما يبقي النكاح على الصحة ويمنع فسخه والأصل صحة العقد وسلامته فكان قولهما موافقا للأصل فقبل وفي مسألتنا قد وقع ما يرفع النكاح ويزيله وهو مار إلى بينونة وقد اختلفا فيما يرفع حكم الطلاق ويثبت له الرجعة والأصل عدم ذلك فكان قوله مخالفا للأصل فلم يقبل ولأن المولي والعنين يدعيان الإصابة في موضع تحققت فيه الخلوة والتمكين من الوطء لأنه لو لم يوجد ذلك لما استحقتا الفسخ بعد الوطء فكان الاختلاف فيما يختص به وفي مسألتنا لم تتحقق خلوة ولا تمكين لأنه لو تحقق ذلك لوجب المهر كاملا فكان الاختلاف في أمر ظاهر لا يختص به فلم يقبل فيه قول مدعيه إلا ببينة وهل يشرع اليمين في حق من القول قوله ههنا ؟ على وجهين (8/493)
فصول : الخلوة كالإصابة في إثبات الرجعة للزوج
فصل : والخلوة كالإصابة في إثبات الرجعة للزوج على المرأة التي خلا بها في ظاهر قول الخرقي لقوله حكمها حكم الدخول في جميع أمورها وهذا قول الشافعي في القديم وقال أبو بكر : لا رجعة له عليها إلا أن يصيبها وبه قال النعمان وصاحباه و الشافعي في الجديد لأنها غير مصابة فلا تستحق رجعتها كغير التي خلا بها
ولنا قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } - إلى قوله - { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ولأنها معتدة من طلاق لا عوض فيه ولم تستوف عدده فثبت عليها الرجعة كالمصابة ولأنها معتدة يلحقها طلاقه فملك رجعتها كالتي أصابها وفارق التي لم يخل بها فإنها بائن منه لا عدة لها ولا يلحقها طلاقه وإنما تكون الرجعة للمعتدة التي يلحقها طلاقه
فصل : وإن ادعى زوج الأمة بعد عدتها أنه كان راجعها في عدتها فكذبته وصدقه مولاها فالقول قولها نص عليه أحمد وبذلك قال أبو حنيفة و مالك وقال أبو يوسف و محمد : القول قول الزوج وهو أحق بها لأن إقرار مولاها مقبول في نكاحها فقبل قوله في رجعتها كالحرة إذا أقرت
ولنا أن قولها في انقضاء عدتها مقبول فقبل في إنكارها للرجعة كالحرة ولأنه اختلاف منهما فيما يثبت به النكاح فيكون المنازع هي دون سيدها كما لو اختلفا في الإصابة وإنما قبل قول السيد في النكاح لأنه يملك إنشاءه فملك الإقرار به بخلاف الرجعة وإن صدقته هي وكذبه مولاها لم يقبل إقرارها لأن حق السيد يتعلق بها وحلت له بانقضاء عدتها فلم يقبل قولها في ابطال حقه كما لو تزوجت ثم أقرت أن مطلقها كان راجعها ولا يلزم من قبول إنكارها قبول تصديقها كالتي تزوجت فإنه يقبل إنكارها ولا يقبل تصديقها إذا ثبت هذا فإن مولاها إذا علم صدق الزوج في رجعتها لم يحل له وطؤها ولا تزويجها وإن علمت هي صدق الزوج في رجعتها فهي حرام على سيدها ولا يحل لها تمكينه من وطئها إلا مكرهة كما قبل طلاقها
فصل : ولو قالت انقضت عدتي ثم قالت ما انقضت بعد فله رجعتها لأنها أقرت بكذبها في ما يثبت به حق عليها فقبل إقرارها ولو قال أخبرتني بانقضاء عدتها ثم راجعتها ثم أقرت بكذبها في انقضاء عدتها وأنكرت ما ذكر عنها وأقرت بأن عدتها لم تنقض فالرجعة صحيحة لأنه لم يقر بانقضاء عدتها وإنما أخبر بخبرها عن ذلك وقد رجعت عن خبرها فقبل رجوعها لما ذكرناه (8/494)
مسألة : قال : وإذا طلقها واحدة فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية بنت على ما مضى من العدة
مسألة : قال : وإذا طلقها واحدة فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية بنت على ما مضى من العدة
وبهذا قال أبو حنيفة وهو قول الشافعي وله قول ثان إنها تستأنف العدة لأنها طلقة واقعة في حق مدخول بها فاقتضت عدة كاملة كالأولى
ولنا أنهما طلاقان لم يتخللهما إصابة ولا خلوة فلم يجب بهما أكثر من عدة كما لو والى بينهما أو كما لو انقضت عدتها ثم نكحها وطلقها قبل دخوله بها وهكذا الحكم لو طلقها ثم فسخ نكاحها لعيب في أحدهما أو لعتقها تحت عبد أو غيره أو انفسخ نكاحها لرضاع أو اختلاف دين أو غير ذلك لأن الفسخ في معنى الطلاق (8/495)
فصل : حكم لو طلقها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخوله بها
فصل : وإن طلقها ثم راجعها ثم طلقها قبل دخوله بها ففيه روايتان إحداهما : تبني على ما مضى من العدة نقلها الميموني وهي اختيار أبي بكر وقول عطاء وأحد قولي الشافعي لأنهما طلاقان لم يتخللهما دخول بها فكانت العدة من الأول منهما كما لو لم يرتجعها ولأن الرجعة لم يتصل بها دخول فلم يجب بالطلاق منها عدة كما لو نكحها ثم طلقها قبل الدخول
والثانية : تستأنف العدة نقلها ابن منصور وهي أصح وهذا قول طاوس و أبي قلابة و عمرو بن دينار و جابر و سعيد بن عبد العزيز و إسحاق و أبو ثور و أبي عبيد وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال الثوري : أجمع الفقهاء على هذا
وحكى أبو الخطاب عن مالك إن قصد الاضرار بها بنت وإلا استأنفت لأن الله تعالى إنما جعل الرجعة لمن أراد الاصلاح بقوله تعالى : { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا } والذي قصد الإضرار لم يقصد الإصلاح
ولنا انه طلاق في نكاح مدخول بها فيه فأوجب عدة كاملة كما لو لم يتقدمه طلاق وهذا لأن الطلقة الأولى شعثت النكاح والرجعة لمت شعثه وقطعت عمل الطلاق فصار الطلاق الثاني في نكاح غير مشعث مدخول بها فيه فأوجب عدة كالأول وكما لو ارتدت ثم أسلمت ثم طلقها فإنها تستأنف عدة كذا ههنا ويفارق الطلاق قبل الرجعة فإنه جاء بعد طلاق مفض إلى بينونة فإن راجعها ثم دخل بها ثم طلقها فإنها تستأنف عدة بغير اختلاف بين أهل العلم لأنه بالوطء بعد الرجعة صار كالناكح ابتداء إذا وطئ (8/496)
فصل : حكم لو خالع زوجته ثم نكحها في عدتها
فصل : وإن خالع زوجته أو فسخ النكاح ثم نكحها في عدتها ثم طلقها فإن كان دخل بها فعليها العدة بلا خلاف لأنه طلاق في نكاح مدخول بها فيه لم يتقدمه طلاق سواه وإن لم يكن دخل بها بنت على العدة الأولى في الصحيح من المذهب وعنه أنها تستأنف العدة وهو قول أبي حنيفة لأن النكاح أقوى من الرجعة ولو طلقها بعد الرجعة استأنفت العدة فههنا أولى
ولنا انه طلاق من نكاح لم يصبها فيه فلم تجب به عدة كما لو نكحها بعد انقضاء عدتها وفارق الرجعة لأنها ردت المرأة إلى النكاح الأول فكان الطلاق الثاني في نكاح اتصل به الدخول وهذا النكاح الجديد بعد البينونة من الأولى ولم يوجد فيه دخول فأشبه التزويج بعد قضاء العدة وأما بناؤها على العدة الأولى فلأنها إنما قطع حكمها النكاح وقد زال فيعود إليها ولو أسلمت زوجته ثم أسلم في عدتها أو أسلم هو ثم أسلمت في عدتها وطلقها قبل وطئه أو بعده أو ارتدت ثم أسلمت ثم طلقها فعليها عدة مستأنفة بلا خلاف لأنه طلاق في نكاح وطئ فيه أشبه الطلاق في النكاح الأول (8/497)
فصل : حكم وطء الرجعية وما يترتب عليه
فصل : ومتى وطئ الرجعية وقلنا إن الوطء لا تحصل به الرجعة فعليها أن تستأنف العدة من الوطء ويدخل فيها بقية عدة الطلاق لأنهما عدتان من رجل واحد فتداخلتا كما لو طلقها واحدة فلم تنقض عدتها حتى طلقها وله ارتجاعها في بقية العدة الأولى لأنها عدة من الطلاق فإذا مضت البقية لم يكن له إرتجاعها في بقية عدة الوطء لأنها عدة من وطء شبهة فإن حبلت من الوطء صارت في عدة الوطء وتدخل فيها البقية الأولى ولأنهما عدتان لواحد فأشبه ما لو كانا بالاقراء وتنقضي العدتان جميعا بوضع الحمل لأنه لا يتبعض وله مراجعتها قبل وضعه لأنها في عدة من الطلاق ويحتمل أن لا يتداخلا لأنهما من جنسين فعلى هذا تصير معتدة من الوطء خاصة وهل له رجعتها في مدة الحمل ؟ على وجهين مضى توجيههما فيما إذا حملت من وطء زوج ثان فإذا وضعت أتمت عدة الطلاق وله ارتجاعها في هذه البقية لأنها من عدة الطلاق ولو طلقها حاملا ثم وطئها انقضت عدتها بوضع الحمل منهما جميعا ويحتمل أن تستأنف عدة الوطء بعد وضع الحمل لما ذكرنا ولا رجعة له بعد وضع الحمل في هذه الصورة بكل حال ومذهب الشافعي في هذا الفصل كله على ما ذكرنا سواء (8/498)
مسألة : مراجعة الزوج امرأته الرجعية من غير علمها
مسألة : قال : وإذا طلقها ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم فاعتدت ثم نكحت من أصابها ردت إليه ولا يصيبها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين والأخرى هي زوجة الثاني
وجملة ذلك أن زوج الرجعية إذا راجعها وهي لا تعلم صحت المراجعة لأنها لا تفتقر إلى رضاها فلم تفتقر إلى علمها كطلاقها فإذا راجعها ولم تعلم فانقضت عدتها ثم تزوجت ثم جاء وادعى انه كان راجعها قبل انقضاء عدتها وأقام البينة على ذلك ثبت أنها زوجته وأن نكاح الثاني فاسد لأنه تزوج امرأة غيره وترد إلى الأول سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل بها هذا هو الصحيح وهو مذهب أكثر الفقهاء منهم الثوري و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الراي وروي ذلك عن علي رضي الله عنه
وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية ثانية إن دخل بها الثاني فهي امرأته ويبطل نكاح الأول روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول مالك وروي معناه عن سعيد بن المسيب و عبد الرحمن بن القاسم و نافع لأن كل واحد منهما عقد عليها وهي ممن يجوز له العقد في الظاهر ومع الثاني مزية الدخول فقدم بها
ولنا أن الرجعة قد صحت وتزوجت وهي زوجة الأول فلم يصح نكاحها كما لو لم يطلقها فإذا ثبت هذا فإن كان الثاني ما دخل بها فرق بينهما وردت إلى الأول ولا شيء على الثاني وإن كان دخل بها فلها عليه مهر المثل لأن هذا وطء شبهة وتعتد ولا تحل للأول حتى تنقضي عدتها منه وإن اقام البينة قبل دخول الثاني بها ردت إلى الأول بغير خلاف في المذهب وهو إحدى الروايتين عن مالك وأما إن تزوجها مع علمهما بالرجعة أو علم أحدهما فالنكاح باطل بغير خلاف والوطء محرم على من علم منهما وحكمه حكم الزاني في الحد وغيره لأنه وطئ امرأة غيره مع علمه فأما إن لم يكن لمدعي الرجعة بينة فأنكره أحدهما لم يقبل قوله ولكن إن أنكراه جميعا فالنكاح صحيح في حقهما وإن اعترفا له بالرجعة ثبتت والحكم فيه كما لو قامت به البينة سواء وإن أقر له الزوج وحده فقد اعترف بفساد نكاحه فتبين منه وعليه مهرها إن كان بعد الدخول أو نصفه إن كان قبله لأنه لا يصدق على المرأة في إسقاط حقها عنه ولا تسلم المرأة إلى المدعي لأنه لا يقبل قول الزوج الثاني عليها وإنما يلزمه في حقه ويكون القول قولهما وهل هو مع يمينها أو لا ؟ على وجهين والصحيح أنها لا تستحلف لأنها لو أقرت لم يقبل إقرارها فإذا أنكرت لم تجب اليمين بإنكارها وإن اعترفت المرأة وأنكر الزوج لم يقبل اعترافها على الزوج في فسخ النكاح لأن قولها إنما يقبل على نفسها في حقها وهل يستحلف ؟ يحتمل وجهين
أحدهما : لا يستحلف اختاره القاضي لأنه دعوى في النكاح فلم يستحلف كما لو ادعى زوجية امرأة فأنكرته
والثاني : يستحلف قال القاضي وهو قول الخرقي لعموم قوله عليه السلام : [ ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأنه دعوى في حق آدمي فيستحلف فيه كالمال فإن حلف فيمينه على نفي العلم لأنه على نفي فعل الغير فإن زال نكاحه بطلاق أو فسخ أو موت ردت إلى الأول من غير عقد لأن المنع من ردها إنما كان لحق الثاني فإذا زال زال المانع وحكم بأنها زوجة الأول كما لو شهد بحرية عبد ثم اشتراه عتق عليه ولا يلزمها للأول مهر بحال وذكر القاضي أن عليها له مهرا وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنها أقرت أنها حالت بينه وبين بضعها بغير حق فأشبه شهود الطلاق إذا رجعوا
ولنا أن ملكها استقر على المهر فلم يرجع به عليها كما لو ارتدت أو أسلمت أو قتلت نفسها فإن مات الأول وهي في نكاح الثاني فينبغي أن ترثه لإقراره بزوجيتها أو إقرارها بذلك وإن ماتت لم يرثها لأنها لا تصدق في إبطال ميراث الزوج الثاني كما لم تصدق في إبطال نكاحه ويرثها الزوج الثاني لذلك وإن مات الزوج الثاني لم ترثه لأنها تنكر صحة نكاحه فتنكر ميراثه (8/499)
مسألة : أحكام المطلقة المبتوتة التي انقضت عدتها
مسألة : قال : وإذا طلقها ثلاثا وانقضت عدتها منه ثم أتته فذكرت أنها نكحت من أصابها ثم طلقها أو مات عنها وانقضت عدتها منه وكان ذلك ممكنا فله أن ينكحها إذا كان يعرف منها الصدق والصلاح وإن لم تكن عنده في هذه الحال لم ينكحها حتى يصح عنده قولها
وجملة ذلك أن المطلقة المبتوتة إذا مضى زمن بعد طلاقها يمكن فيه انقضاء عدتين بينهما نكاح ووطء فأخبرته بذلك وغلب على ظنه صدقها إما لمعرفته بأمانتها أو بخبر غيرها ممن يعرف حالها فله أن يتزوجها في قول عامة أهل العلم منهم الحسن و الأوزاعي و الثوري و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي وذلك لأن المرأة مؤتمنة على نفسها وعلى ما أخبرت به عنها ولا سبيل إلى معرفة هذه الحال على الحقيقة إلا من جهتها فيجب الرجوع إلى قولها كما لو أخبرت بانقضاء عدتها فأما إن لم يعرف ما يغلب على ظنه صدقها لم يحل له نكاحها وقال الشافعي : له نكاحها لما ذكرنا أولا والورع أن لا ينكحها ولنا أن الأصل التحريم ولم يوجد غلبة ظن تنقل عنه فوجب البقاء عليه كما لو أخبره فاسق عنها (8/501)
فصل : ادعاء المرأة أن الزوج الثاني أصابها
فصل : وإذا أخبرت أن الزوج أصابها فأنكر القول قولها في حلها للأول والقول قول الزوج في المهر ولا يلزمه إلا نصفه إذا لم يقر بالخلوة بها فإن قال الزوج الأول أنا أعلم أنه ما أصابها لم يحل له نكاحها لأنه يقر على نفسه بتحريمها فإن عاد فاكذب نفسه وقال قد علمت صدقها دين فيما بينه وبين الله تعالى لأن الحل والحرمة من حقوق الله تعالى فإذا علم حلها له لم تحرم بكذبه وهذا مذهب الشافعي ولأنه قد يعلم ما لم يكن علمه ولو قال ما أعلم أنه أصابها لم تحرم عليه بهذا لأن المعتبر في حلها له خبر يغلب على ظنه صدقه لا حقيقة العلم (8/502)
فصل : هل يلزم الرجعية عدم الزواج احتياطا ؟
فصل : وإذا طلقها طلاقا رجعيا وغاب وقضت عدتها وأرادت التزوج فقال وكيله : توقفي كيلا يكون راجعك لم يجب عليها التوقف لأن الأصل عدم الرجعة وحل النكاح فلا يجب الزوال عنه بأمر مشكوك فيه ولأنه أمر لو وجب عليها التوقف في هذه الحال لوجب عليها التوقف قبل قوله لأن احتمال الرجعة موجودة سواء قال أو لم يقل فيفضي إلى تحريم النكاح على كل رجعية غاب زوجها أبدا (8/502)
فصل : تصديق المطلقة ثلاثا إذا اخبرت بما عليها
فصل : فإذا قالت قد تزوجت من أصابني ثم رجعت عن ذلك قبل أن يعقد عليها لم يجز العقد لأن الخبر المبيح للعقد قد زال فزالت الإباحة وإن كان بعد ما عقد عليها لم يقبل لأن ذلك ابطال للعقد الذي لزمها بقولها فلم يقبل كما لو ادعى زوجية امرأة فأقرت له بذلك ثم رجعت عن الإقرار (8/503)
كتاب الإيلاء تعريف الايلاء في اللغة وفي الشرع
الإيلاء في اللغة الحلف يقال آلى يولي إيلاء وألية وجمع الألية الألايا قال الشاعر :
( قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا صدرت منه الألية برت )
ويقال تألى يتألى وفي الخبر من يتأل على الله يكذبه فأما الايلاء في الشرع فهو الحلف على ترك وطء المرأة والأصل فيه قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } وكان أبي بن كعب وابن عباس يقرآن يقسمون (8/503)
مسألة : قال : والمولى الذي يحلف بالله عز و جل
مسألة : قال : والمولي الذي يحلف بالله عز و جل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر
وجملته أن شروط الإيلاء أربعة : أحدها أن يحلف بالله تعلى أو بصفة من صفاته ولا خلاف بين أهل العلم في أن الحلف بذلك إيلاء فأما إن حلف على ترك الوطء بغير هذا مثل أن حلف بطلاق أو عتاق أو صدقة المال أو الحج أو الظهار ففيه روايتان إحداهما : لا يكون موليا وهو قول الشافعي القديم
والرواية الثانية : هو مول وروي عن ابن عباس أنه قال كل يمين منعت جماعها فهي إيلاء وبذلك قال الشعبي و النخعي و مالك وأهل الحجاز و الثوري و أبو حنيفة وأهل العراق و الشافعي و أبو ثور و أبو عبيد وغيرهم : لأنها يمين منعت جماعها فكانت إيلاء كالحلف بالله ولأن تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف بدليل أنه لو قال متى حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال إن وطئتك فأنت طالق طلقت في الحال وقال أبو بكر كل يمين من حرام أو غيرها يجب بها كفارة يكون الحالف بها موليا وأما الطلاق والعتاق فليس الحلف به إيلاء لأنه يتعلق به حق آدمي وما أوجب كفارة تعلق بها حق الله تعالى والرواية الأولى هي المشهورة لأن الإيلاء المطلق إنما هو القسم ولهذا قرأ أبي وابن عباس يقسمون مكان يؤلون وروي عن ابن عباس في تفسير يؤلون قال يحلفون بالله هكذا ذكره الإمام أحمد والتعليق بشرط ليس بقسم ولهذا لا يؤتى فيه بحرف القسم ولا يجاب بجوابه ولا يذكره أهل العربية في باب القسم فلا يكون إيلاء وإنما يسمى حلفا تجوزا لمشاركته القسم في المعنى المشهور في القسم وهو الحث على الفعل أو المنع منه أو توكيد الخبر والكلام عند إطلاقه لحقيقته يدل على هذا قول الله تعالى { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله وأيضا قول النبي صلى الله عليه و سلم [ من حلف بغير الله فقد أشرك ] وقوله [ إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ] متفق عليه وإن سلمنا أن غير القسم حلف لكن الحلف بإطلاقه إنما ينصرف إلى القسم وإنما يصرف إلى غير القسم بدليل ولا خلاف في أن القسم بغير الله تعالى وصفاته لا يكون إيلاء لأنه لا يوجب كفارة ولا شيئا يمنع من الوطء فلا يكون إيلاء كالخبر بغير القسم وإذا قلنا بالرواية الثانية فلا يكون موليا إلا أن يحلف بما يلزمه بالحنث فيه حق كقوله إن وطئتك فعبدي حر أو فأنت طالق أو فأنت علي كظهر أمي أو أنت علي حرام أو فلله علي صوم سنة أو الحج أو صدقة فهذا يكون إيلاء لأنه يلزمه بوطئها حق يمنعه من وطئها خوفه من وجوبه وإن قال إن وطئتك فأنت زانية لم يكن موليا لأنه لا يلزمه بالوطء حق ولا يصير قاذفا بالوطء لأن القذف لا يتعلق بالشرط ولا يجوز أن تصير زانية بوطئه لها كما لا تصير زانية بطلوع الشمس وإن قال إن وطئتك فلله علي صوم هذا الشهر لم يكن موليا لأنه لو وطئها بعد مضيه لم يلزمه حق فإن صوم هذا الشهر لا يتصور بعد مضيه فلا يلزم بالنذر كما لو قال إن وطئتك فلله علي صوم أمس وإن قال إن وطئتك فلله علي أن أصلي عشرين ركعة كان موليا
وقال أبو حنيفة : لا يكون موليا لأن الصلاة لا يتعلق بها مال ولا تتعلق بمال فلا يكون الحالف بها موليا كما لو قال إن وطئتك فلله علي أن أمشي في السوق
ولنا ان الصلاة تجب بالنذر فكان الحالف بها موليا كالصوم والحج وما ذكره لا يصح فإن الصلاة تحتاج إلى الماء والسترة وأما المشي في السوق فقياس المذهب على هذه الرواية أنه يكون موليا لأنه يلزمه بالحنث في هذا النذر أحد شيئين : إما الكفارة وإما المشي فقد صار الحنث موجبا لحق عليه فعلى هذا يكون موليا بنذر فعل المباحات والمعاصي أيضا فإن نذر المعصية موجب للكفارة في ظاهر المذهب وإن سلمنا فالفرق بينهما أن المشي لا يجب بالنذر بخلاف مسألتنا وإذا استثنى في يمينه لم يكن موليا في قول الجميع لأنه لا يلزمه كفارة بالحنث فلم يكن الحنث موجبا لحق عليه وهذا إذا كانت اليمين بالله تعالى أو كانت يمينا مكفرة فأما الطلاق والعتاق فمن جعل الاستثناء فيهما غير مؤثر فوجوده كعدمه ويكون موليا بهما سواء استثنى أو لم يستثن (8/503)
فصل : المدة المعتبرة لصحة الايلاء
فصل : الشرط الثاني : أن يحلف على ترك الوطء أكثر من أربعة أشهر وهذا قول ابن عباس و طاوس و سعيد بن جبير و مالك و الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور و أبي عبيد وقال عطاء و الثوري وأصحاب الرأي إذا حلف على أربعة أشهر فما زاد كان موليا وحكى ذلك القاضي أبو الحسين رواية عن أحمد لأنه ممتنع من الوطء باليمين أربعة أشهر فكان موليا كما لو حلف على ما زاد وقال النخعي و قتادة و حماد و ابن أبي ليلى و إسحاق : من حلف على ترك الوطء في قليل من الأوقات أو كثر وتركها أربعة أشهر فهو مول لقول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } وهذا مول فإن الإيلاء الحلف وهذا حالف
ولنا أنه لم يمنع نفسه من الوطء باليمين أكثر من أربعة أشهر فلم يكن موليا كما لو حلف على ترك قبلتها والآية حجة لنا لأنه جعل له تربص أربعة أشهر فإذا حلف على أربعة أشهر أو ما دونها فلا معنى للتربص لأن مدة الإيلاء تنقضي قبل ذلك ومع انقضائه وتقدير التربص بأربعة أشهر يقتضي كونه في مدة تناولها الإيلاء ولأن المطالبة انما تكون بعد أربعة أشهر فإذا انقضت المدة بأربعة فما دون لم تصح المطالبة من غير إيلاء و أبو حنيفة ومن وافقه بنوا ذلك على قولهم في الفيئة انها تكون في مدة الأربعة أشهر وظاهر الآية خلافه فإن الله تعالى قال : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا } فعقب الفيء عقيب التربص بفاء التعقيب فيدل على تأخرها عنه
إذ ثبت هذا فحكي عن ابن عباس أن المولي من يحلف على ترك الوطء أبدا أو مطلقا لأنه إذا حلف على ما دون ذلك أمكنه التخلص بغير حنث فلم يكن موليا كما لو حلف لا وطئها في مدينة بعينها
ولنا أنه لا يمكنه التخلص بعد التربص من يمينه بغير حنث فأشبه المطلقة بخلاف اليمين على مدينة معينة فإنه يمكن التخلص بغير الحنث ولأن لأربعة الأشهر مدة تضرر المرأة بتأخير الوطء عنها فإذا حلف على أكثر منها كان موليا كالأبد ودليل الوصف ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول :
( تطاول هذا الليل وازور جانبه ... وليس إلى جنبي خليل ألاعبه )
( فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه )
( مخافة ربي والحياء يكفني ... وأكرم بعلي أن تنال مراكبه )
فسأل عمر نساءه : كم تصبر المرأة عن الزوج ؟ فقلن شهرين وفي الثالث يقل الصبر وفي الرابع ينفد الصبر فكتب إلى أمراء الأجناد أن لا تحبسوا رجلا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر (8/506)
فصل : تعليق الإيلاء على شرط مستحيل
فصل : وإذا علق الإيلاء بشرط مستحيل كقوله : والله لا وطئتك حتى تصعدي السماء أو تقلبي الحجر ذهبا أو يشيب الغراب فهو مول لأن معنى ذلك ترك وطئها فإن ما يراد إحالة وجوده يعلق على المستحيلات قال الله تعالى في الكفار { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } ومعناه لا يدخلون الجنة أبدا وقال بعضهم
( إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب )
وإن قال والله لا وطئتك حتى تحبلي فهو مول لأن حبلها بغير وطء مستحيل عادة فهو كصعود السماء وقال القاضي و أبو الخطاب وأصحاب الشافعي ليس بمول إلا أن تكون صغيرة يغلب على الظن أنها لا تحمل في أربعة أشهر أو آيسة فأما إن كانت من ذوات الأقراء فلا يكون موليا لأنه يمكن حملها قال القاضي : وإذا كانت الصغيرة بنت تسع سنين لم يكن موليا لأن حملها ممكن
ولنا أن الحمل بدون الوطء مستحيل عادة فكان تعليق اليمين عليه إيلاء كصعود السماء ودليل استحالته قول مريم { أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } وقوله تعالى { يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } ولولا استحالته لما نسبوها إلى البغاء لوجود الولد وأيضا قول عمر رضي الله عنه : الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت به البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ولأن العادة أن الحبل لا يوجد من غير وطء فإن قالوا يمكن حبلها من وطء الغير أو باستدخال منيه قلنا أما الأول فلا يصح فإنه لو صرح به فقال لا وطئتك حتى تحبلي من غيري أو ما دمت في نكاحي أو حتى تزني كان موليا ولو صح ذكروه لم يكن موليا وأما الثاني فهو من المستحيلات عادة إن وجد كان من خوارق العادات بدليل ما ذكرناه وقد قال أهل الطب أن المني إذا برد لم يخلق منه ولد وصحح قولهم قيام الأدلة التي ذكرنا بعضها وجريان العادة على وفق ما قالوا وإذا كان تعليقه على موته أو موتها أو موت زيد إيلاء فتعليقه على حبلها بغير وطء أولى وإن قال أردت بقولي حتى تحبلي السببية ولم أرد الغاية ومعناه لا أطؤك لتحبلي قبل منه ولم يكن موليا لأنه ليس بحالف على ترك الوطء وإنما هو حالف على قصد ترك الحبل به فإن حتى تستعمل بمعنى السببية (8/508)
فصلان : الايلاء بتعليق الوطء على أمر ممكن
فصل : وإن علقه على غير مستحيل فذلك على خمسة أضرب
أحدها : ما يعلم أنه لا يوجد قبل أربعة أشهر كقيام الساعة فإن لها علامات تسبقها فلا يوجد ذلك في أربعة أشهر وكذلك إن قال حتى تأتي الهند أو نحوه فهذا مول لأن يمينه على أكثر من أربعة أشهر
الثاني : ما الغالب أنه لا يوجد في أربعة أشهر كخروج الدجال والدابة وغيرهما من أشراط الساعة أو يقول حتى أموت أو تموتي أو يموت ولدك أو زيد أو حتى يقدم زيد من مكة والعادة أنه لا يقدم في أربعة أشهر فيكون موليا لأن الغالب أن ذلك لا يوجد في أربعة أشهر فأشبه ما لو قال والله لا وطئتك في نكاحي هذا وكذلك لو علق الطلاق على مرضها أو مرض إنسان بعينه
الثالث : أن يعلقه على أمر يحتمل الوجود في أربعة أشهر ويحتمل أن لا يوجد احتمالا متساويا كقدوم زيد من سفر قريب أو من سفر لا يعلم قدره فهذا ليس بإيلاء لأنه لا يعلم حلفه على أكثر من أربعة أشهر ولا يظن ذلك
الرابع : أن يعلقه على ما يعلم أنه يوجد في أقل من أربعة أشهر أو يظن ذلك كذبول بقل وجفاف ثوب ومجيء المطر في أوانه وقدوم الحاج في زمانه فهذا لا يكون موليا لما ذكرناه ولأنه لم يقصد الاضرار بترك وطئها أكثر من أربعة أشهر فأشبه ما لو قال والله لا وطئتك شهرا
الخامس : أن يعلقه على فعل منها هي قادرة عليه أو فعل من غيرها وذلك ينقسم أقساما ثلاثة أحدها : أن يعلقه على فعل مباح لا مشقة فيه كقوله والله لا أطؤك حتى تدخلي الدار أو تلبسي هذا الثوب أو حتى اتنفل بصوم يوم أو حتى أكسوك فهذا ليس بإيلاء لأنه ممكن الوجود بغير ضرر عليها فيه فأشبه الذي قبله
والثاني : أن يعلقه على محرم كقوله والله لا أطؤك حتى تشربي الخمر أو تزني أو تسقطي ولدت أو تتركي صلاة الفرض أو حتى أقتل زيدا أو نحوه فهذا إيلاء لأنه علقة بممتنع شرعا فأشبه الممتنع حسا
الثالث : أن يعلقه على ما على فاعله فيه مضرة مثل أن يقول والله لا أطؤك حتى تسقطي صداقك عني أو دينك أو حتى تكفلي ولدي أو تهبيني دارك أو حتى يبيعني أبوك داره أو نحو ذلك فهذا ايلاء اخذه لمالها أو ما غيرها من غير رضا صاحبه محرم فجرى مجرى شرب الخمر وإن قال والله لا أطؤك حتى أعطيك مالا أو أفعل في حقك جميلا لم يكن إيلاء لأن فعله لذلك ليس بمحرم ولا ممتنع فجرى مجرى قوله حتى أصوم يوما
فصل : وإن قال والله لا وطئتك إلا برضاك لم يكن موليا لأنه يمكنه وطؤها بغير حنث ولأنه محسن في كونه ألزم نفسه اجتناب سخطها وعلى قياس ذلك كل حال يمكنه الوطء فيها بغير حنث كقوله والله لا وطئتك مكرهة أو محزونة ونحو ذلك فإنه لا يكون موليا وإن قال والله لا وطئتك مريضة لم يكن موليا لذلك إلا أن يكون بها مرض لا يرجى برؤه أو لا يزول في أربعة أشهر فينبغي أن يكون موليا لأنه حالف على ترك وطئها أربعة أشهر فإن قال ذلك لها وهي صحيحة فمرضت مرضا يمكن برؤه قبل أربعة أشهر لم يصر موليا وان لم يرج برؤه فيها صار موليا وكذلك إن كان الغالب أنه لا يزول في أربعة أشهر صار موليا لأن ذلك بمنزلة ما لا يرجى زواله إن قال والله لا وطئتك حائضا ولا نفساه ولا محرمة ولا صائمة ونحو هذا لم يكن موليا لأن ذلك محرم ممنوع منه شرعا فقد أكد منع نفسه منه بيمينه وإن قال والله لا وطئتك وطئا مباحا صار موليا لأنه حالف على ترك الوطء الذي يطالب به في الفيئة فكان موليا كما لو قال والله لا وطئتك في قبلك وإن قال والله لا وطئتك ليلا أو والله لا وطئتك نهارا لم يكن موليا لأن الوطء يمكن بدون الحنث وإن قال والله لا وطئتك في هذه البلدة أو في هذا البيت أو نحو ذلك من الأمكنة المعينة لم يكن موليا وهذا قول الثوري و الأوزاعي و الشافعي والنعمان وصاحبيه وقال ابن أبي ليلى و إسحاق هو مول لأنه حالف على ترك وطئها ولنا أنه يمكن وطؤها بغير حنث فلم يكن موليا كما لو استثنى في يمينه (8/509)
فصل : الخروج من الايلاء بالتكفير عن اليمين
فصل : وإن حلف على ترك وطئها عاما ثم كفر عن يمينه انحل الإيلاء قال الأثرم قيل لأبي عبد الله : المولي يكفر عن يمينه قبل مضي الأربعة الأشهر ؟ قال يذهب عنه الإيلاء ولا يوقف بعد الأربعة وذهب الإيلاء حين ذهبت اليمين وذلك لأنه لم يبق ممنوعا من الوطء بيمينه فأشبه من حلف واستثنى فإن كان تكفيره قبل مضي الأربعة الأشهر انحل الإيلاء حين التكفير وصار كالحلف على ترك الوطء أقل من أربعة أشهر وإن كفر بعد الأربعة وقبل الوقوف صار كالحالف على أكثر منها إذا مضت مدة يمينه قبل وقفه (8/512)
فصل : الايلاء بتعليق ترك الوطء على المشيئة
فصل : فإن قال والله لا وطئتك إن شاء فلان لم يصر موليا حتى يشاء فإذا شاء صار موليا وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لأنه يصير ممتنعا من الوطء حتى يشاء فلا يكون موليا حتى يشاء وإن قال والله لا وطئتك وإن شئت فكذلك وقال أصحاب الشافعي إن شاءت على الفور جوابا لكلامه صار موليا وإن أخرت المشيئة انحلت يمينه لأن ذلك تخيير لها فكان على الفور كقوله اختاري في الطلاق
ولنا أنه علق اليمين على المشيئة بحرف إن فكان على التراخي كمشيئة غيرها فإن قيل فهلا قلتم لا يكون موليا فإنه علق ذلك بإرادتها فأشبه ما لو قال لا وطئتك إلا برضاك ؟ قلنا الفرق بينهما أنها إذا شاءت انعقدت يمينه من وطئها بحيث لا يمكنه بعد ذلك الوطء بغير حنث وإذا قال والله لا وطئتك إلا برضاك فما حلف إلا على ترك وطئها في بعض الأحوال وهو حال سخطها فيمكنه الوطء في الحال الأخرى بغير حنث وإذا طالبته بالفيئة فهو برضاها ولو قال والله لا وطئتك حتى تشائي فهو كقوله إلا برضاك ولا يكون موليا بذلك وإن قال والله لا وطئتك إلا أن يشاء أبوك أو فلان لم يكن موليا لأنه علقه بفعل منه يمكن وجوده في الأربعة الأشهر إمكانا غيربعيد وليس بمحرم ولا فيه مضرة فأشبه ما لو قال والله لا وطئتك إلا أن تدخلي الدار وإن قال والله لا وطئتك إلا أن تشائي لم يكن موليا وكان بمنزلة قوله إلا برضاك أو حتى تشائي وقال أبو الخطاب : إن شاءت في المجلس لم يصر موليا وإلا صار موليا وقال أصحاب الشافعي : إن شاءت على الفور تعقيب كلامه لم يصر موليا وإلا صار موليا لأن المشيئة عندهم على الفور وقد فاتت بتراخيها وقال القاضي : تنعقد يمينه فإن شاءت انحلت وإلا فهي منعقدة
ولنا أنه منع نفسه بيمينه من وطئها إلا عند إرادتها فأشبه ما لو قال إلا برضاك أو حتى تشائي ولأنه علقه على وجود المشيئة أشبه ما لو علقه على مشيئة غيرها فأما قول القاضي فإن أراد وجود المشيئة على الفور فهو كقولهم وإن أراد وجود المشيئة على التراخي تنحل به اليمين لم يكن ذلك إيلاء لأن تعليق اليمين على فعل يمكن وجوده في مدة الأربعة الأشهر إمكانا غير بعيد ليس بإيلاء والله أعلم (8/513)
فصلان : تقيد الايلاء بمدة
فصل : فإن قال والله لا وطئتك فهو إيلاء لأنه قول يقتضي التأبيد وإن قال والله لا وطئتك مدة أو ليطولن تركي لجماعك ونوى مدة تزيد على أكثر من أربعة أشهر فهو إيلاء لأن اللفظ يحتمله فانصرف إليه بنيته وإن نوى مدة قصيرة لم يكن إيلاء لذلك وإن لم ينو شيئا لم يكن إيلاء لأن يقع على القليل والكثير فلا يتعين للكثير فإن قال والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر أو فإذا مضت فوالله لا وطئتك شهرين فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة أشهر ففيه وجهان :
أحدهما : ليس بمول لأنه حالف بكل يمين على مدة ناقصة عن مدة الإيلاء فلم يكن موليا كما لو لم ينو إلا مدتهما ولأنه يمكنه الوطء بالنسبة إلى كل يمين عقيب مدتها من غير حنث فيها فأشبه ما لو اقتصر عليها
والثاني : يصير موليا لأنه منع نفسه من الوطء بيمينه أكثر من أربعة أشهر متوالية فكان موليا كما لو منعها بيمين واحدة ولأنه لا يمكنه الوطء بعد المدة إلا بحنث في يمينه فأشبه ما لو حلف على ذلك بيمين واحدة ولو لم يكن هذا إيلاء أفضى إلى أن يمنع من الوطء طول دهره باليمين فلا يكون موليا وهكذا الحكم في كل مدتين متواليتين يزيد مجموعهما على أربعة كثلاثة أشهر وثلاثة أو ثلاثة وشهرين لما ذكرنا من التعليلين والله أعلم
فصل : فإن قال إن وطئتك فوالله لا وطئتك لم يكن موليا في الحال لأنه لا يلزمه بالوطء حق لكن إن وطئها صار موليا لأنها تبقى يمينا تمنع الوطء على التأبيد وهذا الصحيح عن الشافعي وحكي عنه قول قديم أنه يكون موليا من الأول لأنه لا يمكنه الوطء إلا بأن يصير موليا فيلحقه بالوطء ضرر وكذلك على هذا القول إن قال وطئتك فوالله لا دخلت الدار لم يكن موليا من الأول فإن وطئها انحل الإيلاء لأنه لم يلق ممتنعا من وطئها بيمين ولا غيرها وإنما بقي ممتنعا باليمين من دخول الدار
ولنا أن يمينه معلقة بشرط ففيما قبله ليس بحالف فلا يكون موليا ولأنه يمكنه الوطء من غير حنث فلم يكن موليا كما لو لم يقل شيئا وكونه يصير موليا لا يلزمه به شيء وإنما يلزمه بالحنث ولو قال والله لا وطئتك في السنة إلا مرة لم يصر موليا في الحال لأنه يمكنه الوطء متى شاء بغير حنث فلم يكن ممنوعا من الوطء بحكم يمينه فإذا وطئها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر صار موليا وهذا قول أبي ثور وأصحاب الرأي وظاهر مذهب الشافعي في قوله القديم يكون موليا في الابتداء لما ذكرنا في التي قبلها وقد أجبنا عنه وإن قال والله لا وطئتك سنة إلا يوما فكذلك وبهذا قال أبو حنيفة لأن اليوم منكر فلم يختص يوما دون يوم ولذلك لو قال : صمت رمضان إلا يوما لم يختص اليوم الآخر ولو قال لا أكلمك في السنة إلا يوما لم يختص يوما منها
وفيه وجه آخر أنه يصير موليا في الحال وهو قول زفر لأن اليوم المستثنى يكون من آخر المدة كالتأجيل ومدة الخيار بخلاف قوله لا وطئتك في السنة إلا مرة فإن المرة لا تختص وقتا بعينه ومن نصر الأول فرق بين هذا وبين التأجيل ومدة الخيار من حيث ان التأجيل ومدة الخيار تجب الموالاة فيهما ولا يجوز أن يتخللهما يوم لا أجل فيه ولا خيار لأنه لو جازت له المطالبة في أثناء الأجل لزم قضاء الدين فيسقط التأجيل بالكلية ولو لزم العقد في أثناء مدة الخيار لم يعد إلى الجواز فتعين جعل اليوم المستثنى من آخر المدة بخلاف ما نحن فيه فإن جواز الوطء في يوم من أول السنة أو أوسطها لا يمنع ثبوت حكم اليمين فيما بقي من المدة فصار ذلك كقوله لا وطئتك في السنة إلا مرة والله أعلم (8/514)
فصل : حصول الايلاء الواحد بيمينين
فصل : فإن قال والله لا وطئتك عاما ثم قال والله لا وطئتك عاما فهو إيلاء واحد حلف عليه بيمينين إلا ان ينوي عاما آخر سواه وإن قال والله لا وطئتك عاما ثم قال والله لا وطئتك نصف عام أو قال والله لا وطئتك نصف عام ثم قال والله لا وطئتك عاما دخلت المدة القصيرة في الطويلة لأنها بعضها ولم يجعل إحداهما بعد الأخرى فأشبه ما لو أقر بدرهم ثم أقر بنصف درهم أو أقر بنصف درهم ثم أقر بدرهم فيكون إيلاء واحدا لهما وقت واحد وكفارة واحدة وإن نوى بإحدى المدتين غير الأخرى في هذه أو في التي قبلها أو قال والله لا وطئتك عاما ثم والله لا وطئتك عاما آخر أو نصف عام آخر أو قال والله لا وطئتك عاما فإذا مضى فوالله لا وطئتك عاما فهما إيلاءان في زمانين لا يدخل حكم أحدهما في الآخر أحدهما منجز والآخر متأخر فإذا مضى حكم أحدهما بقي حكم الآخر لأنه أفرد كل واحد منهما بزمن غير زمن صاحبه فيكون له حكم ينفرد به
فإن قال في المحرم والله لا وطئتك هذا العام ثم قال والله لا وطئتك عاما من رجب إلى تمام اثني عشر شهرا أو قال في المحرم والله لا وطئتك عاما ثم قال في رجب والله لا وطئتك عاما فهما إيلاءان في مدتين بعض إحداهما داخل في الأخرى فإن فاء في رجب أو فيما بعده من بقية العام الأول حنث في اليمينين وتجزئه كفارة واحدة وينقطع حكم الإيلاءين وإن فاء قبل رجب أو بعد العام الأول حنث في إحدى اليمينين دون الأخرى وإن فاء في الموضعين حنث في اليمينين وعليه كفارتان (8/517)
فصول : توجيه الايلاء لاكثر من زوجة
فصل : فإن قال لأربع نسوة والله لا أقربكن انبنى ذلك على أصل وهو الحنث بفعل بعض المحلوف عليه أولا فإن قلنا يحنث فهو مول منهن كلهن في الحال لأنه لا يمكنه وطء واحدة بغير حنث فصار مانعا لنفسه من وطء كل واحدة منهن في الحال فإن وطئ واحدة منهن حنث وانحلت يمينه وزال الإيلاء من البواقي وإن طلق بعضهن أو مات لم ينحل الإيلاء في البواقي
وإن قلنا لا يحنث بفعل البعض لم يكن موليا منهن في الحال لأنه يمكنه وطء كل واحدة منهن من غير حنث فلم يمنع نفسه بيمينه من وطئها فلم يكن موليا منها فإن وطئ ثلاثا صار موليا من الرابعة لأنه لا يمكنه وطؤها من غير حنث في يمينه وإن مات بعضهن أو طلقها انحلت يمينه وزال الإيلاء لأنه لا يحنث بوطئهن وإنما يحنث بوطء الأربع فإن راجع المطلقة أو تزوجها بعد بينونتها عاد حكم يمينه وذكر القاضي أنا إذا قلنا يحنث بفعل البعض فوطئ واحدة حنث ولم ينحل الإيلاء في البواقي لأن الإيلاء من امرأة لا ينحل بوطء غيرها
ولنا أنها يمين واحدة حنث فيها فوجب أن تنحل كسائر الأيمان ولأنه إذا وطئ واحدة حنث ولزمته الكفارة فلا يلزمه بوطء الباقيات شيء فلم يبق ممتنعا من وطئهن بحكم يمينه فانحل الإيلاء كما لو كفرها واختلف أصحاب الشافعي فقال بعضهم : لا يكون موليا منهن حتى يطأ ثلاثا فيصير موليا من الرابعة وحكى المزني عن الشافعي أنه يكون موليا منهن كلهن يوقف لكل واحدة منهن فإذا أصاب بعضهن خرجت من حكم الإيلاء ويوقف لمن بقي حتى يفيء أو يطلق ولا يحنث حتى يطأ الأربع وقال أصحاب الرأي : يكون موليا منهن كلهن فإن تركهن أربعة أشهر بن منه جميعا بإيلاء وإن وطئ بعضهن سقط الإيلاء في حقها ولا يحنث إلا بوطئهن جميعا ولنا أن من لا يحنث بوطئها لا يكون موليا منها كالتي يحلف عليها
فصل : فإن قال والله لا وطئت واحدة منكن ونوى واحدة بعينها تعلقت يمينه بها وحدها وصار موليا منها دون غيرها وإن نوى واحدة مبهمة منهن لم يصر موليا مهن في الحال فإذا وطئ ثلاثا كان موليا من الرابعة ويحتمل أن تخرج المولى منهن بالقرعة كالطلاق إذا أوقعه في مبهمة من نسائه وإن أطلق صار موليا منهن كلهن في الحال لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن إلا بالحنث فإن طلق واحدة منهن أو ماتت كان موليا من البواقي وإن وطئ واحدة منهن حنث وانحلت يمينه وسقط حكم الإيلاء في الباقيات لأنها يمين واحدة فإذا حنث فيها مرة لم يحنث مرة ثانية ولا يبقى حكم اليمين بعد حنثه فيها بخلاف ما إذا طلق واحدة أو ماتت فإنه لم يحنث فبقي حكم يمينه فيمن بقي منهن وهذا مذهب الشافعي وذكر القاضي أنه إذا أطلق كان الإيلاء في واحدة غير معينة وهو اختيار بعض أصحاب الشافعي لأن لفظه تناول واحدة منكرة فلا يقتضي العموم
ولنا أن النكرة في سياق النفي تعم كقوله : { ولم تكن له صاحبة } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد } وقوله : { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } ولو قال إنسان والله لا شربت ماء من إداوة حنث بالشرب من أي إداوة كانت فيحب حمل اللفظ عند الإطلاق على مقتضاه في العموم وإن قال نويت واحدة معينة أو واحدة مبهمة قبل منه لأن اللفظ يحتمله احتمالا غير بعيد وهذا مذهب الشافعي إلا أنه إذا أبهم المحلوف عليها فله أن يعينها بقوله وأصل هذا مذكور في الطلاق
فصل : فإن قال والله لا وطئت كل واحدة منكن صار موليا منهن كلهن في الحال ولا يقبل قوله نويت واحدة منهن معينة ولا مبهمة لأن لفظة كل أزالت احتمال الخصوص ومتى حنث في البعض انحل الإيلاء في الجميع كالتي قبلها وقال القاضي وبعض أصحاب الشافعي : لا تنحل في الباقيات
ولنا أنها يمين واحدة حنث فيها فسقط حكمها كما لو حلف على واحدة ولأن اليمين الواحدة إذا حنث فيها مرة لم يمكن الحنث فيها مرة أخرى فلم يبق ممتنعا من وطء الباقيات بحكم اليمين فلم يبق الإيلاء كسائر الأيمان التي حنث فيها وفي هذه المواضع التي قلنا بكونه موليا منهن كلهن إذا طالبن كلهن بالفيئة وقف لهن كلهن وإن طالبن في أوقات مختلفة ففيه روايتان :
إحداهما : يوقف للجميع وقت مطالبة أولاهن قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد
والثانية : يوقف لكل واحدة منهن عند مطالبتها اختاره أبو بكر وهو مذهب الشافعي فإذا وقف للأولى وطلقها ووقف للثانية فإن طلقها وقف للثالثة فإن طلقها وقف للرابعة وكذلك من مات منهن لم يمنع من وقفه للاخرى لأن يمينه لم تنحل وإيلاؤه باق لعدم حنثه فيهن وإن وطئ إحداهن حين وقف لها أو قبله انحلت يمينه وسقط حكم الإيلاء في الباقيات على ما قلناه وعلى قول القاضي ومن وافقه يوقف للباقيات كما لو طلق التي وقف لها
فصل : فإن قال كلما وطئت واحدة منكن فضرائرها طوالق فإن قلنا ليس هذا بإيلاء فلا كلام وإن قلنا هو إيلاء فهو مول منهن جميعا لأنه لا يمكنه وطء واحدة منهن إلا بطلاق ضرائرها فيوقف لهن فإن فاء إلى واحدة طلق ضرائرها فإن كان الطلاق بائنا انحل الإيلاء لأنه لم يبق ممنوعا من وطئها بحكم يمينه وإن كان رجعيا فراجعهن بقي حكم الإيلاء في حقهن لأنه لا يمكنه وطء واحدة إلا بطلاق ضرائرها وكذلك إن راجع بعضهن لذلك إلا أن المدة تستأنف من حين الرجعة ولو كان الطلاق بائنا فعاد فتزوجهن أو تزوج بعضهن عاد حكم الإيلاء واستؤنفت المدة من حين النكاح وسواء تزوجهن في العدة أو بعدها أو بعد زوج آخر وإصابة لما سنذكره فيما بعد وإن قال نويت واحدة بعينها قبل منه وتعلقت يمينه بها فإذا وطئها طلق ضرائرها وإن وطئ غيرها لم يطلق منهن شيء ويكون موليا من المعينة دون غيرها لأنها التي يلزمه بوطئها الطلاق دون غيرها (8/518)
فصل : محل الوطء المعتبر لصحة الايلاء
فصل : الشرط الثالث أن يحلف على ترك الوطء في الفرج ولو قال : والله لا وطئتك في الدبر لم يكن موليا لأنه لم بترك الوطء الواجب عليه ولا تتضرر المرأة بتركه وإنما هو وطء محرم وقد أكد منع نفسه منه بيمينه وإن قال والله لا وطئتك دون الفرج لم يكن مؤليا لأنه لم يحلف على الوطء الذي يطالب به في الفيئة ولا ضرر على المرأة في تركه وإن قال والله لاجامعتك إلا جماع سوء سئل عما أراد فإن قال أردت الجماع في الدبر فهو مول لأنه حلف على ترك الوطء في الفرج وكذلك إن قال أردت أن لا أطأها إلا دون الفرج وإن قال أردت جماعا ضعيفا لا يزيد على التقاء الختانين لم يكن موليا لأنه يمكنه الوطء الواجب عليه في الفيئة بغير حنث وإن قال أردت وطئا لا يبلغ التقاء الختانين فهو مول لأنه لا يمكنه الوطء الواجب عليه في الفيئة بغير حنث وإن لم تكن له نية فليس بمول لأنه محتمل فلا يتعين ما يكون به موليا وإن قال والله لا جامعتك جماع سوء لم يكن موليا بحال لأنه لم يحلف على ترك الوطء إنما حلف على ترك صفته المكروهة (8/522)
فصل : حكم الايلاء من السرية والأجنبية
فصل : الشرط الرابع أن يكون المحلوف عليها امرأة لقول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ولأن غير الزوجة لا حق لها في وطئه فلا يكون مؤليا منها كالأجنبية فإن حلف على ترك وطء أمته لم يكن موليا لما ذكرنا
وإن حلف على ترك وطء أجنبية ثم نكحها لم يكن مؤليا لذلك وبه قال الشافعي و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال مالك : يصير مؤليا إذا بقي من مدة يمينه أكثر من أربعة أشهر لأنه ممتنع من وطء امرأته بحكم يمينه مدة الإيلاء فكان مؤليا كما لو حلف في الزوجية وحكي عن أصحاب الرأي أنه إن مرت به امرأة فحلف أن لا يقربها ثم تزوجها لم يكن موليا وإن قال إن تزوجت فلانة فوالله لا قربتها صار موليا لأنه أضاف اليمين إلى حال الزوجية فأشبه ما لو حلف بعد تزويجها
ولنا قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } وهذه ليست من نسائه ولأن الإيلاء حكم من أحكام النكاح فلم يتقدمه كالطلاق والقسم ولأن المدة تضرب له لقصده الإضرار بها بيمينه وإذا كانت اليمين قبل النكاح لم يكن قاصدا للإضرار فأشبه الممتنع بغير يمين قال الشريف أبو جعفر وقد قال أحمد : يصح الظهار قبل النكاح لأنه يمين فعلى هذا التعليل يصح الإيلاء قبل النكاح والمنصوص انه لا يصح لما ذكرناه (8/522)
فصلان : صفة الزوجة التي يصح الايلاء منها
فصل : فإن آلى من الرجعية صح إيلاؤه : وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وذكر ابن حامد أن فيه رواية أخرى أنه لا يصح إيلاؤه لأن الطلاق يقطع مدة الإيلاء إذا طرأ فلأن يمنع صحته ابتداء أولى
ولنا أنها زوجة يلحقها طلاقه فصح إيلاؤه منها كغير المطلقة وإذا آلى منها احتسب بالمدة من حين آلى وإن كانت في العدة ذكر ابن حامد وهو قول أبي حنيفة ويجيء على قول الخرقي أن لا يحتسب عليه بالمدة إلا من حين راجعها لأن ظاهر كلامه أن الرجعية محرمة وهذا مذهب الشافعي لأنها معتدة منه فأشبهت البائن ولأن الطلاق إذا طرأ قطع المدة ثم لا يحتسب عليه بشيء من المدة قبل رجعتها فأولى أن يستأنف المدة في العدة
ووجه الأول أن من صح إيلاؤه احتسب عليه بالمدة من حين إيلائه كما لو لم تكن مطلقة ولأنها مباحة فاحتسب عليه بالمدة فيها ولو لم يطلقها وفارق البائن فإنها ليست زوجة ولا يصح الإيلاء منها بحال فهي كسائر الأجنبيات
فصل : ويصح الإيلاء من كل زوجة مسلمة كانت أو ذمية حرة كانت أو أمة لعموم قوله سبحانه : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ولأن كل واحدة منهن زوجة فصح الإيلاء منها كالحرة المسلمة ويصح الإيلاء قبل الدخول وبعده وبهذا قال النخعي و مالك و الأوزاعي و الشافعي وقال عطاء و الزهري و الثوري : إنما يصح الإيلاء بعد الدخول
ولنا عموم الآية والمعنى لأنه ممتنع من جماع زوجته بيمينه فأشبه ما بعد الدخول ويصح الإيلاء من المجنونة والصغيرة إلا أنه لا يطالب بالفيئة في الصغر والجنون لأنهما ليسا من أهل المطالبة فأما الرتقاء والقرناء فلا يصح الإيلاء منهما لأن الوطء متعذر دائما فلم تنعقد اليمين على تركه كما لو حلف لا يصعد السماء ويحتمل أن يصح وتضرب له المدة لأن المنع بسبب من جهتها فهي كالمريضة فعلى هذا ينبغي أن يفيء فيئة المعذور لأن الفيئة بالوطء في حقها متعذرة فلا تمكن المطالبة به فأشبه المجبوب (8/523)
فصلان : من يصح ايلاؤه
فصل : ويصح الإيلاء من كل زوج مكلف قادر على الوطء وأما الصبي والمجنون فلا يصح إيلاؤهما لأن القلم مرفوع عنهما ولأنه قول تجب بمخالفة كفارة أو حق فلم ينعقد منهما كالنذر وأما العاجز عن الوطء فإن كان لعارض مرجو زواله كالمرض والحبس صح إيلاؤه لأنه يقدر على الوطء فصح منه الامتناع منه وإن كان غير مرجو الزوال كالجب والشلل لم يصح إيلاؤه لأنها يمين على ترك مستحيل فلم تنعقد كما لو حلف أن لا يقلب الحجارة ذهبا ولأن الإيلاء : اليمين المانعة من الوطء وهذا لا يمنعه يمينه فإنه متعذر منه ولا تضر المرأة يمينه
قال أبو الخطاب : ويحتمل أن يصح الإيلاء منه قياسا على العاجز بمرض أو حبس وللشافعي في ذلك قولان والأول أولى لما ذكرنا فأما الخصي الذي سلت بيضتاه أو رضت فيمكن منه الوطء وينزل ماء رقيقا فيصح إيلاؤه وكذلك المجبوب الذي بقي من ذكره ما يمكن الجماع به
فصل : ويصح إيلاء الذمي ويلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور : وإن أسلم لم ينقطع حكم إيلائه وقال مالك : إن أسلم سقط حكم يمينه وقال أبو يوسف و محمد : إن حلف بالله لم يكن موليا لأنه لا يحنث إذا جامع لكونه غير مكلف وإن كانت يمينه بطلاق أو عتاق فهو مؤل لأنه يصح عتقه وطلاقه
ولنا قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ولأنه مانع نفسه باليمين من جماعها فكان موليا كالمسلم ولأن من صح طلاقه صح إيلاؤه كالمسلم ومن صحت يمينه عند الحاكم صح إيلاؤه كالمسلم (8/524)
فصل : ولا يشترط الغضب والضرر في الايلاء
فصل : ولا يشترط في الإيلاء الغضب ولا قصد الإضرار روي ذلك عن ابن مسعود وبه قال الثوري و الشافعي وأهل العراق و ابن المنذر وروي عن علي رضي الله عنه ليس في إصلاح إيلاء وعن ابن عباس قال : إنما الإيلاء في الغضب ونحو ذلك عن الحسن و النخعي و قتادة وقال مالك و الأوزاعي و أبو عبيد : من حلف لا يطأ زوجته حتى تفطم ولده لا يكون إيلاء إذا أراد الإصلاح لولده
ولنا عموم الآية ولأنه مانع نفسه من جماعها بيمينه فكان مؤليا كحال الغضب يحققه ان حكم الإيلاء يثبت لحق الزوجة فيجب ان يثبت سواء قصد الإضرار أو لم يقصد كاستيفاء ديونها وإتلاف مالها ولأن الطلاق والظهار وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضا فكذلك الإيلاء ولأن حكم اليمين في الكفارة وغيرها سواء في الغضب والرضا فكذلك في الإيلاء وأما إذا حلف أن لا يطأها حتى تفطم ولده فإن أراد وقت الفطام وكانت مدته تزيد على أربعة أشهر فهو مؤل وإن أراد فعل الفطام لم يكن مؤليا لأنه ممكن قبل الأربعة الأشهر وليس بمحرم ولا فيه تفويت حق لها فلم يكن مؤليا كما لو حلف لا يطؤها حتى تدخل الدار (8/525)
فصول : ألفاظ الإيلاء بكل لغة
فصل : في الألفاظ التي يكون بها مؤليا وهي ثلاثة أقسام أحدها : ما هو صريح في الحكم والباطن جميعا وهو ثلاثة ألفاظ قوله والله لا آتيك ولا أدخل ولا أغيب أو أولج ذكري في فرجك ولا افتضضتك للبكر خاصة فهذه صريحة ولا يدين فيها لأنها لا تحتمل غير الإيلاء
القسم الثاني : صريح في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى وهي عشرة ألفاظ لا وطئتك ولا جامعتك ولا أصبتك ولا باشرتك ولا مسستك ولا قربتك ولا أتيتك ولا باضعتك ولا باعلتك ولا اغتسلت منك فهذه صريحة في الحكم لأنها تستعمل في العرف في الوطء وقد ورد القرآن ببعضها فقال الله سبحانه : { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فاتوهن } وقال : { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقال تعالى : { من قبل أن تمسوهن }
وأما الجماع والوطء فهما أشهر الألفاظ في الاستعمال فلو قال أردت بالوطء الوطء بالقدم وبالجماع اجتماع الأجسام وبالإصابة الإصابة باليد دين فما بينه وبين الله تعالى ولم يقبل في الحكم لأنه خلاف الظاهر والعرف وقد اختلف قول الشافعي فيما عدا الوطء والجماع من هذه الألفاظ فقال في موضع ليس بصريح في الحكم لأنه حقيقة في غير الجماع وقال في لا باضعتك ليس بصريح لأنه يحتمل أن يكون التقاء البضعتين البضعة من البدل بالبضعة منه فإن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ فاطمة بضعة مني ]
ولنا أنه مستعمل في الوطء عرفا وقد ورد به القرآن والسنة فكان صريحا كلفظ الوطء والجماع وكونه حقيقة في غير الجماع يبطل بلفظة الوطء والجماع وكذلك قوله فارقتك وسرحتك في ألفاظ الطلاق فإنهم قالوا : هي صريحة في الطلاق مع كونها حقيقة في غيره وأما قوله باضعتك فهو مشتق من البضع ولا يستعمل هذا اللفظ في غير الوطء فهو أولى أن يكون صريحا من سائر الألفاظ لأنها تستعمل في غيره وبهاذ قال أبو حنيفة
القسم الثالث : ما لا يكون إيلاء إلا بالنية وهو ما عدا هذه الألفاظ مما يحتمل الجماع كقوله والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء لا ساقف رأسي رأسك لأسوءنك لأغيظنك لتطولن غيبتي عنك لا مس جلدي جلدك لا قربت فراشك لا أويت معك لا نمت عندك فهذه إن أراد بها الجماع واعترف بذلك كان موليا وإلا فلا لأن هذه الألفاظ ليس ظاهرة في الجماع كظهور التي قبلها ولم يرد النص باستعمالها فيه إلا أن هذه الألفاظ منقسمة إلى ما يفتقر فيه إلى نية الجماع والمدة معا وهي قوله لأسوءنك ولأغيظنك ولتطولن غيبتي عنك فلا يكون مؤليا حتى ينوي ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر لأن غيظها يكون بترك الجماع فيما دون ذلك وفي سائر هذه الألفاظ يكون مؤليا بنية الجماع فقط وإن قال والله ليطولن تركي لجماعك أو لوطئك أو لإصابتك فهذا صريح في ترك الجماع وتعتبر نية المدة دون ينة الوطء لأنه صريح فيه وإن قال والله لا جامعتك إلا جماعا ضعيفا لم يكن مؤليا إلا أن ينوي جماعا لا يبلغ التقاء الختانين وإن قال والله لا أدخلت جميع ذكري في فرجك لم يكن مؤليا لأن الوطء الذي يحصل به الفيئة يحصل بدون إيلاج جميع الذكر وإن قال والله لا أولجت حشفتي في فرجك كان موليا لأن الفيئة لا تحصل بدون ذلك
فصل : وإن قال لأحدى زوجتيه والله لا وطئتك ثم قال للأخرى أشركتك معها لم يصر موليا من الثانية لأن اليمين بالله لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم أو صفة والتشريك بينهما كناية فلم تصح به اليمين وقال القاضي : يكون موليا منهما وإن قال إن وطئتك فأنت طالق ثم قال للأخرى أشركتك معها ونوى فقد صار طلاق الثانية معلقا على وطئها أيضا لأن الطلاق يصح بالكناية فإن قلنا إن ذلك إيلاء في الأولى صار إيلاء في الثانية لأنها صارت في معناها وإلا فليس وإلا فليس بإيلاء في واحدة منهما وكذلك لو آلى رجل من زوجته فقال آخر لامرأته : أنت مثل فلانة لم يكن موليا وقال أصحاب الرأي هو مول
ولنا أنه ليس بصريح في القسم فلا يكون موليا به كما لو لم يشبهها بها
فصل : ويصح الإيلاء بكل لغة من العجمية وغيرها ممن يحسن العربية وممن لا يحسنها لأن اليمين تنعقد بغير العربية وتجب بها الكفارة والمؤلي هو الحالف بالله على ترك وطء زوجته الممتنع من ذلك بيمينه فإن آلى بالعجمية من لا يحسنها وهو لا يدري معناها لم يكن موليا وإن نوى موجبها عند أهلها وكذلك الحكم إذا آلى بالعربية من لا يحسنها لأنه لا يصح منه قصد الإيلاء بلفظ لا يدري معناه فإن اختلف الزوجان في معرفته بذلك فالقول قوله إذا كان متكلما بغير لسانه لأن الأصل عدم معرفته بها فأما إن آلى العربي بالعربية ثم قال جرى على لساني من غير قصد أو قال ذلك العجمي في إيلائه بالعجمية لم يقبل في الحكم لأنه خلاف الظاهر (8/526)
فصل : مدة الإيلاء
فصل : ومدة الإيلاء في حق الأحرار والعبيد والمسلمين وأهل الذمة سواء ولا فرق بين الحرة والأمة والمسلمة والذمية والصغيرة والكبيرة في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي و ابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى أن مدة إيلاء العبيد شهران وهو اختيار أبي بكر وقول عطاء و الزهري و مالك و إسحاق لأنهم على النصف في الطلاق وعدد المنكوحات فكذلك في مدة الإيلاء وقال الحسن و الشعبي إيلاؤه من الأمة شهران ومن الحرة أربعة وقال الشعبي : إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة وهذا قول أبي حنيفة لأن ذلك تتعلق به البينونة عنده واختلف بالرق والحرية كالطلاق ولأنها مدة يثبت ابتداؤها بقول الزوج فوجب أن يختلف برق المرأة وحريتها كمدة العدة
ولنا عموم الآية ولأنها مدة ضربت للوطء فاستوى فيها الرق والحرية كمدة العنة ولا نسلم أن البينونة تتعلق بها ثم يبطل ذلك بمدة العنة ويخالف مدة العدة لأن العدة مبنية على الكمال بدليل أن الاستبراء يحصل بقرء واحد وأما مدة الإيلاء فإن الاستمتاع بالحرة أكثر وكان ينبغي أن تتقدم مطالبتها مطالبة الأمة والحق على الحر في الاستمتاع أكثر منه على العبد فلا تجوز الزيادة في مطالبة العبد عليه (8/528)
مسألة : قال : فإذا مضت أربعة اشهر ورافعته أمر بالفيئة
مسألة : قال : فإذا مضت أربعة أشهر ورافعته أمر بالفيئة والفيئة الجماع
وجملة ذلك أن المولي يتربص أربعة أشهر كما أمر الله تعالى ولا يطالب فيهن فإذا مضت أربعة أشهر ورافعته امرأة إلى الحاكم وقفه وأمره بالفيئة فإن أبى أمره بالطلاق ولا تطلق زوجته بنفس مضي المدة قال أحمد : في الإيلاء يوقف عن الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم عن عمر شيء يدل على ذلك وعن عثمان وعلي وجعل يثبت حديث علي وبه قال ابن عمر وعائشة وروي ذلك عن أبي الدرداء وقال سليمان بن يسار : كان تسعة عشر رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يوقفون في الإيلاء وقال سهيل بن أبي صالح : سألت اثني عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم فكلهم يقول ليس عليه شيء حتى يمضي أربعة أشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق وبهذا قال سعيد بن المسيب و عروة و مجاهد و طاوس و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر وقال ابن مسعود وابن عباس و عكرمة و جابر بن زيد و عطاء و الحسن و مسروق و قبيصة و النخعي و الأوزاعي و ابن أبي ليلى وأصحاب الرأي إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة وروي ذلك عن عثمان وعلي وزيد وابن عمر وروي عن أبي بكر بن عبد الرحمن و مكحول و الزهري تطليقة رجعية ويحكى عن ابن مسعود أنه كان يقرأ :
{ فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } ولأن هذه مدة ضربت لاستدعاء الفعل منه فكان ذلك في المدة كمدة العنة
ولنا قول الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } وظاهر ذلك أن الفيئة بعد أربعة أشهر لذكره الفيئة بعدها بالفاء المقتضية للتعقيب ثم قال : { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ولو وقع بمضي المدة لم يحتج إلى عزم عليه وقوله { سميع عليم } يقتضي أن الطلاق مسموع ولا يكون المسموع إلا كلاما ولأنها مدة ضربت له تأجيلا فلم يستحق المطالبة فيها كسائر الآجال ولأن هذه مدة لم يتقدمها إيقاع فلا يتقدمها وقوع كمدة العنة ومدة العنة حجة لنا فإن الطلاق لا يقع إلا بمضيها ولأن مدة العنة ضربت له ليختبر فيها ويعرف عجزه عن الوطء بتركه في مدتها وهذه ضربت تأخيرا له وتأجيلا ولا يستحق المطالبة إلا بعد مضي الأجل كالدين (8/529)
فصل : بيان ابتداء المدة
فصل : وابتداء المدة من حين اليمين ولا يفتقر إلى ضرب مدة لأنها ثبتت بالنص والإجماع فلم تفتقر إلى ضرب كمدة العنة ولا يطالب بالوطء فيها لما ذكرنا فإن وطئها فيها فقد عجلها حقها قبل محله وخرج من الإيلاء كمن عليه دين دفعه قبل الأجل وهكذا إن وطئ بعد المدة قبل المطالبة أو بعدها خرج من الإيلاء وسواء وطئها وهي عاقلة أو مجنونة أو يقظانة أو نائمة لأنه فعل ما حلف عليه فإن وطئها وهو مجنون لم يحنث ذكره ابن حامد وهو قول الشعبي
وقال أبو بكر : يحنث وعليه الكفارة لأنه فعل ما حلف عليه والأول أصح لأنه غير مكلف والقلم عنه مرفوع ويخرج بوطئه عن الإيلاء لأنه قد وفاها حقها وحصل منه في حقها ما يحصل من العاقل وإنما تسقط الكفارة عنه لرفع القلم عنه وذكر هذا ابن حامد وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وذكر القاضي ما يدل على أنه يبقى موليا فإنه قال إذا وطئ بعد إفاقته تجب عليه الكفارة لأن وطأه الأول ما حنث به وإذا بقيت يمينه بقي الإيلاء كما لو لم يطأ وهذا قول المزني
وينبغي أن يستأنف له مدة الإيلاء من حين وطئ لأنه لا ينبغي أن يطالب بالفيئة مع وجودها منه ولا يطلق عليه لانتفائها وهي موجودة ولكن تضرب له مدة لبقاء حكم يمينه وقيل تضرب له المدة إذا عقل لأنه حينئذ يمنع من الوطء بحكم يمينه ومن قال بالأول قال قد وفاها حقها فلم يبق الإيلاء كما لو حنث ولا يمتنع اكتفاء الإيلاء مع اليمين كما لو حلف لا يطأ أجنبية ثم تزوجها (8/530)
فصول : أحكام وطء المولى امرأته وعفوها عن المطالبة
فصل : وإن وطئ العاقل ناسيا ليمينه فهل يحنث ؟ على روايتين فإن قلنا يحنث انحل إيلاؤه وذهبت يمينه وإن قلنا لا يحنث فهل ينحل إيلاؤه ؟ على وجهين قياسا على المجنون وكذلك يخرج فيما إذا آلى من إحدى زوجتيه ثم وجدها على فراشه فظنها الأخرى فوطئها لأنه جاهل بها والجاهل كالناسي في الحنث وكذلك إن ظنها أجنبية فبانت زوجته
وإن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه ولأن القلم مرفوع عنه وهل يخرج من حكم الإيلاء يحتمل وجهين :
أحدهما : يخرج لأن المرأة وصلت إلى حقها فأشبه ما لو وطئ
والثاني : لا يخرج من حكم الإيلاء لأنه ما وفاها حقها وهو باق على الامتناع من الوطء بحكم اليمين فكان موليا كما لو لم يفعل به ذلك والحكم فيما إذا وطئ وهو نائم كذلك لأنه لا يحنث به
فصل : وإن وطئها وطأ محرما مثل أن وطئها حائضا أو نفساء أو محرمة أو صائمة صوم فرض أو كان محرما أو صائما أو مظاهرا حنث وخرج من الإيلاء وهذا مذهب الشافعي وقال أبو بكر : قياس المذهب أن لا يخرج من الإيلاء لأنه وطء لا يؤمر به في الفيئة فلم يخرج به من الإيلاء كالوطء في الدبر ولا يصح هذا لأن يمينه انحلت ولم يبق ممتنعا من الوطء بحكم اليمين فلم يبق الإيلاء كما لو كفر يمينه أو كما لو وطئها مريضة
وقد نص أحمد فيمن حلف ثم كفر يمينه أنه لا يبقى موليا لعدم حكم اليمين مع انه ما وفاها حقها فلأن يزول بزوال اليمين بحنثه فيها أولى وقد ذكر القاضي في المحرم والمظاهر انهما إذا وطئا فقد وفياها حقها وفارق الوطء في الدبر فإنه لا يحنث به وليس بمحل للوطء بخلاف مسألتنا
فصل : وإذا آلى منها وثم عذر يمنع الوطء من جهة الزوج كمرضه أو حبسه أو إحرامه أو صيامه حسبت عليه المدة من حين إيلائه لأن المانع من جهته وقد وجد التمكين الذي عليها ولذلك لو أمكنته من نفسها وكان ممتنعا لعذر وجبت لها النفقة وإن طرأ شيء من هذه الأعذار بعد الإيلاء أو جن لم تنقطع المدة للمعنى الذي ذكرناه وإن كان المانع من جهتها نظرنا فإن كان حيضا لم يمنع ضرب المدة لأنه لو منع لم يمكن ضرب المدة لأن الحيض في الغالب لا يخرو منه شهر فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكم الإيلاء وإن طرأ الحيض لم يقطع المدة لما ذكرنا وفي النفاس وجهان أحدهما : هو كالحيض لأن أحكامه أحكام الحيض
والثاني : هو كسائر الأعذار التي من جهتها لأنه نادر غير معتاد فأشبه سار الأعذار وأما سائر الأعذار التي من جهتها كصغرها ومرضها وحبسها وإحرامها وصيامها واعتكافها المفروضين ونشوزها وغيبتها فمتى وجد منها شيء حال الإيلاء لم تضرب له المدة حتى يزول لأن المدة تضرب لامتناعه من وطئها والمنع ههنا من قبلها وإن وجد شيء من هذه الأسباب استؤنفت المدة ولم يبن على ما مضى لأن قوله سبحانه : { تربص أربعة أشهر } يقتضي متوالية فإذا قطعتها وجب استئنافها كمدة الشهرين في صوم الكفارة وإن حنث وهربت من يده انقطعت المدة وإن بقيت في يده وأمكنه وطؤها احتسب عليه بها فإن قيل فهذه الأسباب منها ما لا صنع لها فيه فلا ينبغي أن تقطع المدة كالحيض قلنا إذا كان المنع لمعنى فيها فلا فرق بين كونه بفعلها أو بغير فعلها كما أن البائع إذا تعذر عليه تسليم المعقود عليه لم يتوجه له المطالبة بعوضه سواء كان لعذر أو غيره عذر وإن آلى في الردة لم تضرب له المدة إلا من حين رجوع المرتد منهما إلى الإسلام وإن طرأت الردة في أثناء المدة انقطعت لأن النكاح قد تشعث وحرم الوطء فإذا عاد إلى الإسلام استؤنفت المدة سواء كانت الردة منهما أو من أحدهما وكذلك إن أسلم أحد الزوجين الكافرين أو خالعها ثم تزوجها والله أعلم
فصل : وإذا انقضت المدة فلها المطالبة بالفيئة إن لم يكن عذر فإن طالبته فطلب الامهال فإن لم يكن له عذر لم يمهل لأنه حق توجه عليه لا عذر له فيه فلم يمهل به كالدين الحال ولأن الله تعالى جعل المدة أربعة أشهر فلا تجوز الزيادة عليها بغير عذر وإنما يؤخر قدر ما يتمكن من الجماع في حكم العادة فإنه لا يلزمه الوطئ في مجلسه وليس ذلك بإمهال فإن قال أمهلوني حتى آكل فإني جائع أو ينهضم الطعام فإني كظيظ أو أصلي الفرض أو أفطر من صومي أمهل بقدر ذلك فإنه يعتبر أن يصير إلى حال يجامع في مثلها في العادة وكذلك يمهل حتى يرجع إلى بيته لأن العادة فعل ذلك في بيته وإن كان لها عذر يمنع من وطئها لم يكن لها المطالبة بالفيئة لأن الوطء ممتنع من جهتها فلم يكن لها مطالبته بما يمنعه منه ولأن المطالبة مع الاستحقاق وهي لا تستحق الوطء في هذه الأحوال وليس لها المطالبة بالطلاق لأنه إنما يستحق عند امتناعه من الفيئة الواجبة ولم يجب عليه شيء ولكن تتأخر المطالبة إلى حال زوال العذر إن لم يكن العذر قاطعا للمدة كالحيض أو كان العذر حدث بعد انقضاء المدة
فصل : فإن عفت عن المطالبة بعد وجوبها فقال بعض أصحابنا يسقط حقها وليس لها المطالبة بعده وقال القاضي : هذا قياس المذهب لأنها رضيت بإسقاط حقها من الفسخ لعدم الوطء فسقط حقها منه كامرأة العنين إذا رضيت بعنته ويحتمل أن لا يسقط حقها ولها المطالبة متى شاءت وهذا مذهب الشافعي لأنها تثبت لرفع الضرر بترك ما يتجدد مع الأحوال فكان لها الرجوع كما لو أعسر بالنفقة فعفت عن المطالبة بالفسخ ثم طالبت وفارق الفسخ للعنة فإنه فسخ لعيبه فمتى رضيت بالعيب سقط حقها كما لو عفا المشتري عن عيب المبيع وإن سكتت عن المطالبة ثم طالبت بعد فلها ذلك لأن حقها يثبت على التراخي فلم يسقط بتأخير المطالبة كاستحقاق النفقة
فصل : والأمة كالحرة في استحقاق المطالبة سواء عفا السيد عن ذلك أو لم يعف لأن الحق لها حيث كان الاستمتاع يحصل لها فإن تركت المطالبة لم يكن لمولاها الطلب لأنه لا حق له فإن قيل حقه في الولد ولهذا لم يجز العزل عنها إلا بإذنه قلنا لا يستحق على الزوج استيلاد المرأة ولذلك لو حلف ليعزلن عنها أو لا يستولدها لم يكن موليا ولو أن المولي وطئ بحيث يوجد التقاء الختانين حصلت الفيئة وزالت عنه المطالبة وإن لم ينزل وإنما استؤذن السيد في العزل لأنه يضر بالأمة فربما نقص قيمتها
فصل : فإن كانت المرأة صغيرة أو مجنونة فليس لهما المطالبة لأن قولهما غير معتبر وليس لوليهما المطالبة لهما لأن هذا طريقه الشهوة فلا يقوم غيرهما مقامهما فيه فإن كانتا ممن لا يمكن وطؤهما لم يحتسب عليه بالمدة لأن المنع من جهتهما وإن كان وطؤهما ممكنا فإن أفاقت المجنونة أو بلغت الصغيرة قبل انقضاء المدة تممت المدة ثم لها المطالبة وإن كان ذلك بعد انقضاء المدة فلهما المطالبة يومئذ لأن الحق لهما ثابت وإنما تأخر لعدم إمكان المطالبة وقال الشافعي : لا تضرب المدة في الصغيرة حتى تبلغ وقال أبو حنيفة : تضرب المدة سواء أمكن الوطء أو لم يمكن الوطء فإن لم يمكن فاء بلسانه وإلا بانت بانقضاء المدة وكذلك الحكم عنده في الناشز والرتقاء والقرناء والتي غابت في المدة لأن هذا إيلاء صحيح فوجب أن تتعقبه المدة كالتي يمكنه جماعها
ولنا أن حقها من الوطء يسقط بتعذر جماعها فوجب أن تسقط المدة المضروبة له كما يسقط أجل الدين بسقوطه وأما التي أمكنه جماعها فتضرب له المدة في حقها لأنه إيلاء صحيح ممن يمكنه جماعها فتضرب له المدة كالبالغة ومتى قصد الإضرار بها بترك الوطء أثم ويستحب أن يقال له اتق الله فإما أن تفيء وإما أن تطلق فإن الله تعالى قال : { وعاشروهن بالمعروف } وقال تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وليس الاضرار من المعاشرة بالمعروف (8/531)
مسألة : خروج المولى من الايلاء وطء
مسألة : قال : والفيئة الجماع
ليس في هذا اختلاف بحمد الله قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظه عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع كذلك قال ابن عباس : وروي ذلك عن علي وابن مسعود وبه قال مسروق و عطاء و الشعبي و النخعي و سعيد بن جبير و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيدة وأصحاب الرأي : إذا لم يكن عذر وأصل الفيء الرجوع ولذلك يسمى الظل بعد الزوال فيئا لأنه رجع من المغرب إلى المشرق فسمي الجماع من المولي فيئة لأنه رجع إلى فعل ما تركه وأدنى الوطء الذي تحصل به الفيئة أن تغيب الحشفة في الفرج فإن أحكام الوطء تتعلق به ولو وطئ دون الفرج أو في الدبر لم يكن فيئة لأنه ليس بمحلوف على تركه ولا يزول الضرر بفعله (8/535)
فصلان : إذا أفاء المولى بالوطء لزمته الكفارة
فصل : وإذا فاء لزمته الكفارة في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن زيد وابن عباس وبه قال ابن سيرين و النخعي و الثوري و قتادة و مالك وأهل المدينة وأبو عبيد وأصحاب الرأي و ابن المنذر وهو ظاهر مذهب الشافعي وله قول آخر لا كفارة عليه وهو قول حسن وقال النخعي : كانوا يقولون ذلك لأن الله تعالى قال : { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } قال قتادة : هذا خالف الناس يعني قول الحسن ؟
ولنا قول الله تعالى : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين } - الآية إلى قوله - { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وقال سبحانه : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك ] متفق عليه ولأنه حالف حانث في يمينه فلزمته الكفارة كما لو حلف على ترك فريضة ثم فعلها والمغفرة لا تنافي الكفارة فإن الله تعالى قد غفر لرسوله صلى الله عليه و سلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقد كان يقول : [ إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ] متفق عليه
فصل : وإن كان الإيلاء بتعليق عتق أو طلاق وقع بنفس الوطء لأنه معلق بصفة وقد وجدت وإن كان على نذر أو عتق أو صوم أو صلاة أو صدقة أو حج أو غير ذلك من الطاعات أو المباحات فهو مخير بين الوفاء به وبين كفارة يمين لأنه نذر لجاج وغضب فهذا حكمه وإن علق طلاقها الثلاث بوطئها لم يؤمر بالفيئة وأمر بالطلاق لأن الوطء غير ممكن لكونها تبين منه بإيلاج الحشفة فيصير مستمتعا بأجنبية وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وأكثرهم قالوا تجوز الفيئة لأن النزع ترك للوطء وترك الوطء ليس بوطء وقد ذكر القاضي أن كلام أحمد يقتضي روايتين كهذين الوجهين واللائق بمذهب أحمد تحريمه لوجوه ثلاثة
أحدها : أن آخر الوطء حصل في أجنبية كما ذكرنا فإن النزع يلتذ به كما يلتذ بالإيلاج فيكون في حكم الوطء ولذلك قلنا فيمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع إنه يفطر والتحريم ههنا أولى لأن الفطر بالوطء ويمكن منع كون النزع وطئا والمحرم ههنا الاستمتاع والنزع استمتاع فكان محرما ولأن لمسها على وجه التلذذ بها محرم فلمس الفرج بالفرج أولى بالتحريم فإن قيل فهذا إنما يحصل ضرورة ترك الوطء المحرم قلنا فإذا لم يمكن الوطء إلا بفعل محرم حرم ضرورة ترك الحرام كما لو اختلط لحم الخنزير بلحم مباح لا يمكنه أكله إلا بأكل لحم الخنزير حرم ولو اشتبهت ميتة بمذكاة أو امرأته بأجنبية حرم الكل
الوجه الثاني : انه بالوطء يحصل الطلاق بعد الإصابة وهو طلاق بدعة وكما يحرم إيقاعه بلسانه يحرم تحقيق سببه
الثالث : أن يقع به طلاق البدعة من وجه آخر وهو جمع الثلاث فإن وطئ فعليه أن ينزع حين يولج الحشفة ولا يزيد على ذلك ولا يلبث ولا يتحرك عند النزع لأنها أجنبية فإذا فعل ذلك فلا حد ولا مهر لأنه تارك للوطء وإن لبث أو تمم الإيلاج فلا حد عليه لتمكن الشبهة منه لكونه وطأ بعضه في زوجته وفي المهر وجهان :
أحدهما : يلزمه لأنه حصل منه وطء محرم في محل غير مملوك فأوجب المهر كما لو أولج بعد النزع
والثاني : لا يجب لأنه تابع الإيلاج في محل مملوك فكان تابعا له في سقوط المهر وإن نزع ثم أولج وكانا جاهلين بالتحريم فلا حد عليهما وعليه المهر لها ويلحقه النسب وإن كانا عالمين بالتحريم فعليهما الحد لأنه إيلاج في أجنبية بغير شبهة فأشبه ما لو طلقها ثلاثا ثم وطئها ولا مهر لها لأنها مطاوعة على الزنا ولا يلحقه النسب لأنه من زنا لا شبهة فيه
وذكر القاضي وجها أنه لا حد عليهما لأ هذا مما يخفى على كثير من الناس وهو وجه لأصحاب الشافعي والصحيح الأول لأن الكلام في العالمين وليس هو في مظنة الخفاء فإن أكثر المسلمين يعلمون أن الطلاق الثلاث محرم للمرأة وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا نظرت فإن كان هو العالم فعليه الحد ولها المهر ولا يلحقه النسب لأنه زاد محدود وإن كانت هي العالمة دونه فعليها الحد وحدها ولا مهر لها والنسب لاحق بالزوج لأن وطأه وطء شبهة (8/535)
فصل : الايلاء بتعليق الظهار على الوطء
فصل : وإن قال إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي فقال أحمد : لا يقر بها حتى يكفر وهذا نص في تحريمها قبل التكفير وهو دليل على تحريم الوطء في المسألة التي قبلها بطريق التنبية لأن المطلقة ثلاثا أعظم تحريما من المظاهر منها وإذا وطئ ههنا فقد صار مظاهرا من زوجته وزال حكم الإيلاء ويحتمل أن أحمد إنما أراد إذا وطئها مرة فلا يطؤها حتى يكفر لكونه صار بالوطء مظاهرا إذ لا يصح تقديم الكفارة على الظهار لأنه سببها ولا يجوز تقديم الحكم على سببه ولو كفر كفر قبل الظهار لم يجزئه وقد روى إسحاق قال قلت ل أحمد فيمن قال لزوجته أنت علي كظهر أمي إن قربتك إلى سنة قال إن جاءت تطلب فليس له أن يعضلها بعد مضي الأربعة الأشهر يقال له إما ان تفيء وإما أن تطلق فإن وطئها فقد وجب عليه كفارة وإن أتى وأرادت مفارقته طلقها الحاكم عليه فينبغي أن تحمل الرواية الأولى على المنع من الوطء بعد الوطء الذي صار به مظاهرا لما ذكرناه فتكون الروايتان متفقتين والله تعالى أعلم (8/537)
مسألة وفصلان : فيئة من له عذر بمنع الوطء
مسألة : قال : أو يكون له عذر من مرض أو إحرام أو شيء لا يمكن معه الجماع فيقول متى قدرت جامعتها فيكون ذلك من قوله فيئة للعذر
وجملة ذلك أنه إذا مضت المدة وبالمولي عذر يمنع الوطء من مرض أو حبس بغير حق أو غيره لزمه أن يفيء بلسانه فيقول متى قدرت جامعتها ونحو هذا وممن قال يفيء بلسانه إذا كان ذا عذر ابن مسعود وجابر بن زيد و النخعي و الحسن و الزهري و الثوري و الأوزاعي و عكرمة و أبو عبيد وأصحاب الرأي وقال سعيد بن جبير : لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره وقال أبو ثور : إذا لم يقدر لم يوقف حتى يصح أو يصل إن كان غائبا ولا تلزمه الفيئة بلسانه لأن الضرر بترك الوطء لا يزول بالقول وقال بعض الشافعية : يحتاج أن يقول قد ندمت على ما فعلت وإن قدرت وطئت
ولنا أن القصد بالفيئة ترك ما قصده من الاضرار وقد ترك قصد الاضرار بما أتى به من الاعتذار والقول مع العذر يقوم مقام فعل القادر بدليل أن إشهاد الشفيع على الطلب بالشفعة عند العجز عن طلبها يقوم مقام طلبها في الحضور في إثباتها ولا يحتاج أن يقول ندمت لأن الغرض أن يظهر رجوعه عن المقام على اليمين وقد حصل بظهور عزمه عليه وحكى أبو الخطاب عن القاضي أن فيئة المعذور أن يقول فئت إليك وهو قول الثوري و أبي عبيد وأصحاب الرأي والذي ذكر القاضي في المجرد مثل ما ذكر الخرقي وهو أحسن لأن وعده بالفعل عند القدرة عليه دليل على ترك قصد الاضرار وفيه نوع من الاعتذار واخبار بإزالته للضرر عند إمكانه ولا يحصل بقوله فئت إليك شيء من هذا فأما العاجز لجب أو شلل ففيئته أن يقول لو قدرت لجامعتها لأن ذلك يزيل ما حصل بإيلائه
فصل : والاحرام كالمرض في ظاهر قول الخرقي وكذلك على قياسه الاعتكاف المنذور والظهار وذكر أصحابنا أن المظاهر لا يمهل ويؤمر بالطلاق فيخرج من هذا أن كل عذر من فعله يمنعه الوطء لا يمهل من أجله وهو مذهب الشافعي لأن الامتناع بسبب منه فلا يسقط حكما واجبا عليه فعلى هذا لا يؤمر بالوطء لأنه محرم عليه ولكن يؤمر بالطلاق ووجه القول الأول أنه عاجز عن الوطء بأمر لا يمكنه الخروج منه فأشبه المريض فأما المظاهر فيقال له إما أن تكفر وتفيء وإما أن تطلق فإن قال أمهلوني حتى أطلب رقبة أو أطعم فإن علم أنه قادر على التكفير في الحال وإنما يقصد المدافعة والتأخير لم يمهل لأن الحق حال عليه وإنما يمهل للحاجة ولا حاجة وإن لم يعلم ذلك أمهل ثلاثة أيام لأنها قريبة ولا يزاد على ذلك وإن كان فرضه الصيام فطلب الامهال ليصوم شهرين متتابعين لم يمهل لأنه كثير ويتخرج أن يفيء بلسانه فيئة المعذور ويمهل حتى يصوم كقولنا في المحرم فإن وطئها فقد عصى وانحل إيلاؤه ولها منعه منه لأن هذا الوطء محرم عليها
وقال القاضي : يلزمها التمكين وإن امتنعت سقط حقها لأن حقها في الوطء وقد بذله لها ومتى وطئها فقد وفاها حقها والتحريم عليه دونها
ولنا أنه وطء حرام فلا يلزم التمكين منه كالوطء في الحيض والنفاس وهذا ينقض دليلهم ولا نسلم كون التحريم عليه دونها فإن الوطء متى حرم على أحدهما حرم على الآخر لكونه فعلا واحدا ولو جاز اختصاص أحدهما بالتحريم لاختصت المرأة بتحريم الوطء في الحيض والنفاس وإحرامها وصيامها لاختصاصها بسببه
فصل : وإن انقضت المدة وهو محبوس بحق يمكن أداؤه طولب بالفيئة لأنه قادر عليها بأداء ما عليه فإن لم يفعل أمر بالطلاق وإن كان عاجزا عن أدائه أو حبس ظلما أمر بفيئة المعذور وإن انقضت وهو غائب والطريق آمن فلها أن توكل من يطالبه بالمسير إليها أو حملها إليه فإن لم يفعل أخذ بالطلاق وإن كان الطريق مخوفا أو له عذر يمنعه فاء فيئة المعذور
فصل : فإن كان مغلوبا على عقله بجنون أو إغماء لم يطالب لأنه لا يصح للخطاب ولا يصح منه الجواب وتتأخر المطالبة إلى حال القدرة وزوال العذر ثم يطالب حينئذ وإن كان مجبوبا وقلنا يصح إيلاؤه فاء فيئة المعذور فيقول لو قدرت جامعتها
فصل : وإذا انقضت المدة فادعى انه عاجز عن الوطء فإذا كان قد وطئها مرة لم تسمع دعواه العنة كما لم تسمع دعواها عليه ويؤخذ بالفيئة أو بالطلاق كغيره وإن لم يكن وطئها ولم تكن حاله معروفة فقال القاضي : تسمع دعواه ويقبل قوله لأن التعنين من العيوب التي لا يقف عليها غيره وهذا ظاهر نص الشافعي ولها أن تسأل الحاكم فيضرب له مدة العنة بعد أن يفيء فيئة أهل الأعذار
وفيه وجه آخر انه لا يقبل قوله لأنه متهم في دعوى ما يسقط عنه حقا توجه عليه الطلب به والأصل سلامته منه وإن ادعت انه قد أصابها مرة وأنكر ذلك لم يكن لها المطالبة بضرب مدة العنة لاعترافها بعدم عنته والقول قوله في عدم الإصابة (8/538)
مسألة : قال فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق
مسألة : قال : فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق
وجملة الأمر أن المولي إذا وقف وطولب بالفيئة وهو قادر عليها فلم يفعل أمر بالطلاق وهذا قول كل من يقول يوقف المولي لأن الله تعالى قال : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فإذا امتنع من أداء الواجب لها عليه فقد امتنع من الإمساك بمعروف فيؤمر بالتسريح بالإحسان وإن كان معذورا ففاء بلسانه ثم قدر على الوطء أمر به فإن فعل وإلا أمر بالطلاق وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر : إذا فاء بلسانه لم يطالب بالفيئة مرة أخرى وخرج من الإيلاء وهو قول الحسن و عكرمة و الأوزاعي لأنه فاء مرة فخرج من الإيلاء ولم تلزمه فيئة ثانية كما لو فاء بالوطء وقال أبو حنيفة : تستأنف له مدة الإيلاء لأنه وفاها حقها بما أمكنه من الفيئة فلا يطالب إلا بعد استئناف مدة الإيلاء كما لو طلقها
ولنا أنه أخر حقها لعجزه عنه فإذا قدر عليه لزمه أن يوفيها إياه كالدين على المعسر إذا قدر عليه وما ذكروه فليس بحقها ولا يزول الضرر عنها به وإنما وعدها بالوفاء ولزمها الصبر عليها وإنكاره كالغريم المعسر (8/541)
فصل : وليس على من فاء بلسان كفارة
فصل : وليس على من فاء بلسانه كفارة ولا حنث لأنه لم يفعل المحلوف عليه وإنما وعد بفعله فهو كمن عليه دين حلف أن لا يوفيه ثم أعسر به فقال متى قدرت وفيته (8/542)
مسألة وفصل : فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه
مسألة : قال : فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه
وجملة الأمر أن المولي إذا امتنع من الفيئة بعد التربص أو امتنع المعذور من الفيئة بلسانه أو امتنع من الوطء بعد زوال عذره أمر بالطلاق فإن طلق وقع طلاقه الذي أوقعه واحدة كانت أو أكثر وليس للحاكم إجباره على أكثر من طلقة لأنه يحصل الوفاء بحقها فإنه يفضي إلى البينونة والتخلص من ضرره وإن امتنع من الطلاق طلق الحاكم عليه وبهذا قال مالك وعن أحمد رواية أخرى ليس للحاكم الطلاق عليه لأن ما خير الزوج فيه بين أمرين لم يقم الحاكم مقامه فيه كالاختيار لبعض الزوجات في حق من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أو أختان فعلى هذا يحبسه ويضيق عليه حتى يفيء أو يطلق و للشافعي قولان كالروايتين
ولنا أن ما دخلته النيابة وتعين مستحقه وامتنع من هو عليه قام الحاكم مقامه فيه كقضاء الدين وفارق الاختيار فإنه ما تعين مستحقه وهذا أصح في المذهب وليس للحاكم أن يأمر بالطلاق ولا يطلق إلا أن تطلب المرأة ذلك لأنه حق لها وإنما الحاكم يستوفي لها الحق فلا يكون إلا عند طلبها
فصل : والطلاق الواجب على المولي رجعي سواء أوقعه بنفسه أو طلق الحاكم عليه وبهذا قال الشافعي قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله في المولي فإن طلقها قال تكون واحدة وهو أحق بها وعن أحمد رواية أخرى ان فرقة الحاكم تكون بائنا ذكر أبو بكر الروايتين جميعا
وقال القاضي : المنصوص عن أحمد في فرقة الحاكم أنها تكون بائنا فإن رواية الأثرم وقد سئل إذا طلق عليه السلطان أتكون واحدة ؟ فقال : إذا طلق فهي واحدة وهو أحق بها فأما تفريق السلطان فليس فيه رجعة وقال أبو ثور : طلاق المولي بائن سواء طلق هو أو طلق عليه الحاكم لأنها فرقة لرفع الضرر فكان بائنا كفرقة العنة ولأنها لو كانت رجعية لم يندفع الضرر لأنه يرتجعها فيبقى الضرر وقال أبو حنيفة : يقع الطلاق بانقضاء العدة بائنا ووجه الأول انه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فكان رجعيا كالطلاق في غير الإيلاء ويفارق فرقة العنة لأنها فسخ لعيب وهذه طلقة ولأنه لو أبيح له ارتجاعها لم يندفع عنها الضرر وهذه يندفع عنها الضرر فإنه إذا ارتجعها ضربت له مدة أخرى ولأن العنين قد يئس من وطئه فلا فائدة في رجعته وهذا غير عاجز ورجعته دليل على رغبته فيها وإقلاعه عن الاضرار بها فافترقا والله أعلم (8/542)
مسألة : قال : فإن طلق عليه ثلاث فهي ثلاث
مسألة : قال : فإن طلق عليه ثلاثا فهي ثلاث
وجملة الأمر أن المولي إذا امتنع من الفيئة والطلاق معا وقام الحاكم مقامه فإنه يملك من الطلاق ما يملكه المولي وإليه الخيرة فيه إن شاء طلق واحدة وإن شاء اثنتين وإن شاء ثلاثا وإن شاء فسخ قال القاضي : هذا ظاهر كلام أحمد وقال الشافعي : ليس له إلا واحدة لأن إيفاء الحق يحصل بها فلم يملك زيادة عليها كما لم يملك الزيادة على وفاء الدين في حق الممتنع
ولنا أن الحاكم قائم مقامه فملك من الطلاق ما يملكه كما لو وكله في ذلك وليس ذلك زيادة على حقها فإن حقها الفرقة غير أنها تتنوع وقد يرى الحاكم المصلحة في تحريمها عليه ومنعه رجعتها لعلمه بسوء قصده وحصول المصلحة ببعده قال أبو عبد الله : إذا قال فرقت بينكما فإنما هو فسخ وإذا قال طلقت واحدة فهي واحدة وإذا قال ثلاثا فهي ثلاث (8/544)
مسألة : انقطاع مدة التربص بالطلاق الرجعي واستئنافها بالرجعة
مسألة : قال : وإن طلق واحدة وراجع وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر كان الحكم كما حكمنا في الأول
وجملة الأمر أنه إذا طلق المولي أو طلق الحاكم عليه أقل من ثلاث فله رجعتها وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أن تفريق الحاكم ليس فيه رجعة فإنه قال وأما تفريق السلطان فليس فيه رجعة في العدة ولا بعدها فعلى هذه الرواية يكون طلاق الحاكم بائنا ليس فيه رجعة وقال أبو بكر : في كل فرقة فرقها الحاكم روايتان لعانا كانت أو غيره
إحداهما : تحرم على التأبيد واختارها
والثانية : له المراجعة فيها بعقد جديد وهذا الصحيح وليس في كلام أحمد ما يقتضي تحريمها عليه وقوله ليس فيه رجعة في العدة ولا بعدها يمكن حمله على أنه ليس له رجعتها بغير نكاح جديد لأنه قد صرح في سائر الروايات به ولأنه لم يوجد سبب يقتضي تحريمها عليه وتفريق الحاكم لا يقتضي سوى التفريق بينهما في هذا النكاح ولذلك لو فرق بينهما لأجل العنة لم تحرم عليه
وأما فرقة اللعان فإنها تحصل بدون تفريق الحاكم ولو حصلت بتفريق الحاكم غير أن المقتضي للتفريق والتحريم اللعان بدليل أنه لا يجوز إقرارهما على النكاح وإن تراضوا به بخلاف مسألتنا وأما على قول الخرقي فإن الطلاق إذا كان دون الثلاث فهو رجعي سواء أكان من المولي أو الحاكم وهذا مذهب الشافعي لأن الحاكم نائبه فلا يقع طلاقه مفيدا كما لم يفده طلاق المولي كالوكيل فإن لم يراجع حتى انقضت عدتها بانت ولم يلحقها طلاق ثان وهذا مذهب الشافعي وروي عن علي إذا سبق حد الإيلاء حد الطلاق فهما تطليقتان وإن سبق حد الطلاق حد الإيلاء فهي واحدة ويقتضيه مذهب الزهري وهذا مبني على أن الطلاق يقع بانقضاء مدة الإيلاء من غير إيقاع وقد سبق ذكر ذلك فأما إن فسخ الحاكم النكاح فليس للمولي الرجوع عليها إلا بنكاح جديد سواء كان في العدة أو بعدها ولا ينقص به عدد طلاقه لأنه ليس بطلاق فأشبه فسخ النكاح لعيبه أو عنته وإن طلق المولي أو الحاكم ثلاثا لم تحل له إلا بعد زوج ثان وإصابة ونكاح جديد إذا ثبت هذا فإنه إذا طلق دون الثلاث فراجعها في عدتها فإن مدة الإيلاء تنقطع بالطلاق ولا يحتسب عليه بما قبل الرجعة من المدة لأنها صارت ممنوعة منه بغير اليمين فانقطعت المدة كما لو كان الطلاق بائنا فإن راجع استؤنفت المدة من حين رجعته فإن كان الباقي منها أقل من أربعة أشهر سقط الإيلاء وإن كان أكثر منها تربصنا به أربعة أشهر ثم وقفناه ليفيء أو يطلق ثم يكون الحكم ههنا كالحكم في وقفه الأول فإن طلق أو طلق الحاكم عليه واحدة ثم راجع وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر انتظرناه أربعة أشهر ثم طولب بالفيئة أو الطلاق فإن طلق فقد كملت الثلاث وحرمت عليه وهذا مذهب الشافعي ويقتضي مذهب أبي عبد الله بن حامد أنه إذا طلق استؤنفت المدة الأخرى من حين طلق فلو تمت أربعة أشهر قبل انقضاء عدة الطلاق وقف ثانيا فإن فاء وإلا أمر بالطلاق ونحو هذا مذهب مالك و أبي عبيد وإن انقضت العدة قبل مدة الإيلاء بانت وانقطع الإيلاء فإن راجع في العدة قبل مدة الإيلاء تربص به تمام أربعة أشهر من حين طلق وعن ابن مسعود و عطاء و الحسن و النخعي و الأوزاعي أن الطلاق يهدم الإيلاء وهذا يحتمل أن يكون معناه أن يقطع مدته فلا يحتسب بمدته قبل الرجعة فيكون قول الخرقي مثله ويحتمل أنه يزيل حكمه بالكلية لأنه قد وفاها حقها بالطلاق فسقط حكم الإيلاء كما لو وطئها والجواب عن هذا أن حكم اليمين باق في المنع من الوطء فيبقى الإيلاء كما لو لم يطلق بخلاف الفيئة فإنها ترفع اليمين لحصول الحنث فيها (8/545)
مسألة وفصل : ادعاء الموالي الوطء
مسألة : قال : ولو وقفناه بعد الأربعة أشهر فقال قد أصبتها فإن كانت ثيبا كان القول قوله مع يمينه
وهذا قول الشافعي لأن الأصل بقاء النكاح والمرأة تدعي ما يلزمه به رفعه وهو يدعي ما يوافق الأصل ويبقيه فكان القول قوله كما لو ادعى الوطء في العنة ولأن هذا أمر خفي ولا يعلم إلا من جهته فقبل قوله فيه كقول المرأة في حيضها وتلزمه اليمين لأن ما تدعيه المرأة محتمل فوجب نفيه باليمين ونص أحمد في رواية الأثرم على أنه لا يلزمه يمين لأنه لا يقضي فيه بالنكول وهذا اختيار أبي بكر فأما إن كانت بكرا واختلفا في الإصابة أريت النساء الثقات فإن شهدن بثيوبتها فالقول قوله وإن شهدن ببكارتها فالقول قولها لأنه لو وطئها زالت بكارتها وظاهر قول الخرقي أنه لا يمين ههنا لقوله في باب العنين فإن شهدن بما قالت أجل سنة ولم يذكر يمينه وهذا قول أبي بكر لأن البينة تشهد لها فلا تجب اليمين معها
فصل : ولو كانت هذه المرأة غير مدخول بها فادعى أنه أصابها وكذبته ثم طلقها وأراد رجعتها كان القول قولها فنقبل قوله في الإصابة في الإيلاء ولا نقبله في إثبات الرجعة له وقد سبق تعليل ذلك في كتاب الرجعة (8/548)
مسألة وفصل : عودة حكم الايلاء بعودة النكاح بعد الفرقة البائنة
مسألة : قال : ولو آلى منها فلم يصبها حتى طلقها وانقضت عدتها منه ثم نكحها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر وقف لها كما وصفت
وجملة الأمر أن المولي إذا أبان زوجته انقطعت مدة الإيلاء بغير خلاف علمناه سواء بانت بفسخ أو طلاق ثلاث أو بخلع أو بانقضاء عدتها من حين الطلاق الرجعي لأنها صارت أجنبية منه ولم يبق شيء من أحكام نكاحها فإن عاد فتزوجها عاد حكم الإيلاء من حين تزوجها واستؤنفت المدة حينئذ فإن كان الباقي من مدة يمينه أربعة أشهر فما دون لم يثبت حكم الإيلاء لأن مدة التربص أربعة أشهر وإن كان أكثر من أربعة أشهر تربص أربعة أشهر ثم وقف لها فإما أن يفيء أو يطلق وإن لم يطلق طلق الحاكم عليه وهذا قول مالك وقال أبو حنيفة : إن كان الطلاق أقل من ثلاث ثم تركها حتى انقضت عدتها ثم نكحها عاد الإيلاء وإن استوفى عدد الطلاق لم يعد الإيلاء لأن حكم النكاح الأول زال بالكلية ولهذا يرجع إليه على طلاق ثلاث فصار إيلاؤه في النكاح الأول كإيلائه من أجنبية وقال أصحاب الشافعي يتحصل من أقواله ثلاثة أقاويل : قولان كالمذهبين وقول ثالث لا يعود حكم الإيلاء بحال وهو قول ابن المنذر لأنها صارت بحال لو آلى منها لم يصح إيلاؤه فبطل حكم الإيلاء منها كالمطلقة ثلاثا
ولنا أنه ممتنع من وطء امرأته بيمين في حال نكاحها فثبت له حكم الإيلاء كما لو لم يطلق وفارق الإيلاء من الأجنبية فإنه لا يقصد باليمين عليها الإضرار بها بخلاف مسألتنا أر
فصل : ولو آلى من امرأته الأمة ثم اشتراها ثم أعتقها وتزوجها عاد الإيلاء ولو كان المولي عبدا فاشترته امرأته ثم أعتقه وتزوجته عاد الإيلاء ولو بانت الزوجة بردة أو إسلام من أحدهما أو غيره ثم تزوجها تزويجا جديدا عاد الإيلاء وتستأنف المدة في جميع ذلك وسواء عادت إليه بعد زوج ثان أو قبله لأن اليمين كانت منه في حال الزوجية فيبقى حكمها ما وجدت الزوجية وهكذا لو قال لزوجته : إن دخلت الدار فوالله لا جامعتك ثم طلقها ثم نكحت غيره ثم تزوجها الأول عاد حكم الإيلاء لأن الصفة المعقودة في حال الزوجية لا تنحل بزوال الزوجية فإن دخلت الدار في حال البينونة ثم عاد فتزوجها لم يثبت حكم الإيلاء في حقه لأن الصفة وجدت في حال كونها أجنبية ولا ينعقد الإيلاء بالحلف على الأجنبية بخلاف ما إذا دخلت وهي امرأته (8/549)
مسألة وفصل : الاختلاف في وقت صدور يمين الايلاء
مسألة : قال : ولو آلى منها واختلفا في مضي الأربعة أشهر كان القول قوله في أنها لم تمض مع يمينه
إنما كان كذلك لأن الاختلاف في مضي المدة ينبني على الخلاف في وقت يمينه فإنهما لو اتفقا على وقت اليمين حسب من ذلك الوقت فعلم هل انقضت المدة أو لا وزال الخلاف أما إذا اختلفا في وقت اليمين فقال حلفت في غرة رمضان وقالت بل حلفت في غرة شعبان فالقول قوله لأنه صدر من جهته وهو أعلم به فكان القول قوله فيه كما لو اختلفا في أصل الإيلاء ولأن الأصل عدم الحلف في غرة شعبان فكان قوله في نفيه موافقا للأصل قال الخرقي : ويكون ذلك مع يمينه وهو مذهب الشافعي وذهب أبو بكر إلى أنه لا يمين عليه قال القاضي : وهو أصح لأنه اختلاف في أحكم النكاح فلم تشرع فيه يمين كما لو ادعى زوجية امرأة فأنكرته ووجه قول الخرقي قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ اليمين على المدعى عليه ] ولأنه حق لآدمي يجوز بذله فيستحلف فيه كالديون
فصل : فإن ترك الوطء بغير يمين لم يكن موليا لأن الإيلاء الحلف ولكن إن ترك ذلك لعذر من مرض أو غيبة ونحوه لم تضرب له مدة وإن تركه مضرا بها فهل تضرب له مدة ؟ على روايتين :
إحداهما : تضرب له مدة أربعة أشهر فإن وطئها وإلا دعي بعدها إلى الوطء فإن امتنع منه أمر بالطلاق كما يفعل في الإيلاء سواء لأنه أضر بها بترك الوطء في مدة الإيلاء فيلزم حكمه كما لو حلف ولأن ما وجب أداؤه إذا حلف على تركه وجب أداؤه إذا لم يحلف كالنفقة وسائر الواجبات يحققه أن اليمين لا تجعل غير الوجب واجبا إذا أقسم على تركه فوجوبه معها يدل على وجوبه قبلها ولأن وجوبه في الإيلاء إنما كان لدفع حاجة المرأة وإزالة الضرر عنها وضرها لا يختلف بالإيلاء وعدمه فلا يختلف الوجوب فإن قيل فلا يبقى للإيلاء أثر فلم أفردتم له بابا ؟ قلنا بل له أثر فإنه يدل على قصد الاضرار فيتعلق الحكم به وإن لم يظهر منه قصد الاضرار اكتفي بدلالته وإذا لم توجد اليمين احتجنا إلى دليل سواه يدل على المضارة فيعتبر الإيلاء لدلالته عل المقتضي لا لعينه
والثانية : لا تضرب له مدة وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي لأنه ليس بمول فلم تضرب له مدة كما لو لم يقصد الاضرار ولأن تعليق الحكم بالإيلاء يدل على انتفائه عند عدمه إذ لو ثبت هذا الحكم بدونه لم يكن له أثر والله أعلم (8/551)
كتاب الظهار تعريف الظهار وحكمه
الظهار مشتق من الظهر وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء لأن كل مركوب يسمى ظهرا لحصول الركوب على ظهره في الأغلب فشبهوا الزوجة بذلك وهو محرم لقول الله تعالى : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } ومعناه أن الزوجة ليست كالأم في التحريم قال الله تعالى : { ما هن أمهاتهم } وقال تعالى : { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم } والأصل في الظهار الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى : { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } والآية التي بعدها وأما السنة فروى أبو داود بإسناده [ عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت : تظاهر مني أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه و سلم أشكو ورسول الله صلى الله عليه و سلم يجادلني فيه ويقول : اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } فقال : يعتق رقبة فقلت لا يجد قال : فيصوم شهرين متتابعين فقلت يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال : فليطعم ستين مسكينا قلت ما عنده من شيء يتصدق به قال : فإني سأعينه بعرق من تمر فقلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر قال : قد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك ] قال الأصمعي : العرق بفتح العين والراء هو ما سف من خوص كالزنبيل الكبير وروي أيضا بإسناده عن سليمان بن يسار [ عن سلمة بن صخر البياضي قال : كنت أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتتابع حتى أصبح فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قالوا لا والله فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبرته الخبر فقال : أنت بذاك يا سلمة ؟ فقلت أنا بذاك يا رسول الله وأنا صابر لحكم الله فاحكم في ما أراك الله قال : حرر رقبة قلت والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي قال : صم شهرين متتابعين قلت وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ؟ قال : فاطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قلت والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام قال : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك - قال - فاطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم ] (8/554)
فصلان : من صح طلاقه صح ظهاره
فصل : وكل زوج صح طلاقه صح ظهاره وهو البالغ العاقل سواء كان مسلما أو كافرا حرا أو عبدا قال أبو بكر : وظهار السكران مبني على طلاقه قال القاضي : وكذلك ظهار الصبي مبني على طلاقه والصحيح أن ظهار الصبي غير صحيح لأنها يمين موجبة للكفارة فلم تنعقد منه كاليمين بالله تعالى ولأن الكفارة وجبت لما فيه من قول المنكر والزور وذلك مرفوع عن الصبي لكون القلم مرفوعا عنه وقد قيل لا يصح ظهار العبد لأن الله تعالى قال : { فتحرير رقبة } والعبد لا يملك الرقاب
ولنا عموم الآية ولأنه يصح طلاقه فصح ظهاره كالحر فأما إيجاب الرقبة فإنما هو على من يجدها ولا يبقى الظهار في حق من لا يجدها كالمعسر فرضه الصيام ويصح ظهار الذمي وبه قال الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يصح منه لأن الكفارة لا تصح منه وهي الرافعة للتحريم فلا يصح منه التحريم ودليل أن الكفارة لا تصح منه انها عبادة تفتقر إلى النية فلا تصح منه كسائر العبادات
ولنا أن من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فأما ما ذكروه فيبطل بكفارة الصيد إذا قتله في الحرم وكذلك الحد يقام عليه ولا نسلم أن التكفير لا يصح منه فإنه يصح منه العتق والإطعام وإنما لا يصح منه الصوم فلا تمتنع صحة الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة كما في حق العبد والنية إنما تعتبر لتعيين الفعل للكفارة فلا يمتنع ذلك في حق الكافر كالنية في كنايات الطلاق ومن يخنق في الأحيان يصح ظهاره في إفاقته كما يصح طلاقه فيه
فصل : ومن لا يصح طلاقه لا يصح ظهاره كالطفل والزائل العقل بجنون أو إغماء أو نوم أو غيره لا نعلم في هذا خلافا وبه قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا يصح ظهار المكره وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال أبو يوسف : يصح ظهاره والخلاف في ذلك مبني على الخلاف في صحة طلاقه وقد مضى ذلك (8/555)
فصل : ويصح الظهار من كل زوجة كبيرة
فصل : ويصح الظهار من كل زوجة كبيرة كانت أو صغيرة مسلمة كانت أو ذمية ممكنا وطؤها أو غير ممكن وبه قال مالك و الشافعي وقال أبو ثور : لا يصح الظهار من التي لا يمكن وطؤها لأنه لا يمكن وطؤها والظهار لتحريم وطئها
ولنا عموم الآية ولأنها زوجة يصح طلاقها فصح الظهار منها كغيرها (8/556)
مسألة : متى ظاهر منها لا يحل له وطؤها حتى يكفر
مسألة : قال : وإذا قال لزوجته أنت علي كظهر أمي أو كظهر امرأة أجنبية أو أنت علي حرام أو حرم عضوا من أعضاها فلا يطؤها حتى يأتي بالكفارة (8/557)
فصول : حكم التشبه بظهر الأب وبالأم والألفاظ التي تحصل فيها الظهار
في هذه المسألة فصول خمسة أحدها : أنه متى شبه امرأته بمن تحرم عليه على التأييد فقال أنت علي كظهر أمي أو أختي وغيرهما فهو مظاهر وهذا على ثلاثة أضرب
أحدها : أن يقول أنت علي كظهر أمي فهذا ظهار إجماعا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن تصريح الظهار أن يقول أنت علي كظهر أمي وفي حديث خويلة امرأة أوس بن الصامت أنه قال لها أنت علي كظهر أمي فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأمره بالكفارة
الضرب الثاني : أن يشبهها بظهر من تحرم عليه من ذوي رحمه كجدته وعمته وخالته وأخته فهذا ظهار في قول أكثر أهل العلم منهم الحسن و عطاء و جابر بن زيد و الشعبي و النخعي و الزهري و الثوري و الأوزاعي و مالك و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي وهو جديد قولي الشافعي وقال في القديم : لا يكون الظهار إلا بأم أو جدة لأنها أم أيضا لأن اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالام مختص بالام فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه
ولنا أنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم فأما الآية فقد قال فيها : { وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } وهذا موجود في مسألتنا فجرى مجراه وتعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها إذا كانت مثلها
الضرب الثالث : أن يشبهها بظهر من تحرم عيه على التأبيد سوى الأقارب كالأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة وحلائل الآباء والأبناء وأمهات النساء والربائب اللائي دخل بأمهن فهو ظهار أيضا والخلاف فيها كالتي قبلها ووجه المذهبين ما تقدم ويزيد في الأمهات المرضعات دخولها في عموم الأمهات فتكون داخلة في النص وسائرهن في معناها فثبت فيهن حكمها
الفصل الثاني : إذا شبهها بظهر من تحرم عليه تحريما مؤقتا كأخت امرأته وعمتها أو الأجنبية فعن أحمد فيه روايتان
إحداهما : انه ظهار وهو اختيار الخرقي وقول أصحاب مالك والثانية : ليس بظهار وهو مذهب الشافعي لأنها غير محرمة على التأبيد فلا يكون التشبيه بها ظهارا كالحائض والمحرمة من نسائه ووجه الأول انه شبهها بمحرمة فأشبه ما لو شبهها بالأم ولأن مجرد قوله أنت علي حرام ظهار إذا نوى به الظهار والتشبيه بالمحرمة تحريم فكان ظهارا فأما الحائض فيباح الاستمتاع بها في غير الفرج والمحرمة يحل له النظر إليها ولمسها من غير شهوة وليس في وطء واحدة منهما حد بخلاف مسألتنا واختار أبو بكر أن الظهار لا يكون إلا من ذوات المحارم من النساء قال فبهذا أقول
فصل : وإن شبهها بظهر أبيه أو بظهر غيره من الرجال أو قال أنت علي كظهر البهيمة أو أنت علي كالميتة والدم في ذلك كله روايتان :
إحداهما : انه ظهار قال الميموني : قلت ل أحمد إن ظاهر من ظهر الرجل قال فظهر الرجل حرام يكون ظهارا وبهذا قال ابن القاسم : صاحب مالك فيما إذا قال أنت علي كظهر أبي وروي ذلك عن جابر بن زيد
والرواية الثانية : ليس بظهار وهو قول أكثر العلماء لأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع أشبه ما لو قال أنت علي كمال زيد وهل فيه كفارة ؟ على روايتين :
إحداهما : فيه كفارة لأنه نوع تحريم فأشبه ما لو حرم ماله
والثانية : ليس فيه شيء نقل ابن القاسم عن أحمد فيمن شبه امرأته بظهر الرجل لا يكون ظهارا ولم أره يلزمه فيه شيء وذلك لأنه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل للاستمتاع أشبه التشبيه بمال غيره وقال أبو الخطاب : في قوله أنت علي كالميتة والدم وإن نوى به الطلاق كان طلاقا وإن نوى الظهار كان ظهارا وإن نوى اليمين كان يمينا وإن لم ينو شيئا ففيه روايتان إحداهما : هو ظهار والأخرى : هو يمين ولم يتحقق عندي معنى إرادته الظهار واليمين والله أعلم
فصل : فإن قال أنت عندي أو مني أو معي كظهر أمي كان ظهارا بمنزلة علي لأن هذه الألفاظ في معناه وإن قال جملتك أو بدنك أو جسمك أو ذاتك أو كلك علي كظهر أمي كان ظهارا لأنه أشار إليها فهو كقوله أنت وإن قال أنت كظهر أمي كان ظهارا لأنه أتى بما يقتضي تحريمها عليه فانصرف الحكم إليه كما لو قال أنت طالق وقال بعض الشافعية : ليس بظهار لأنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك في حقه وليس بصحيح فإنها إذا كانت كظهر أمه محرم عليه
فصل : وإن قال أنت علي كأمي أو مثل أمي ونوى به الظهار فهو ظهار في قول عامة العلماء منهم أبو حنيفة وصاحباه و الشافعي و إسحاق وإن نوى به الكرامة والتوقير أو انها مثلها في الكبر أو الصفة فليس بظهار والقول قوله في نيته وإن أطلق فقال أبو بكر : هو صريح في الظهار وهو قول مالك و محمد بن الحسن وقال ابن أبي موسى فيه روايتان أظهرهما انه ليس بظهار حتى ينويه وهذا قول أبي حنيفة و الشافعي لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق
ووجه الأول انه شبه امرأته بجملة أمه فكان مشبها لها بظهرها فيثبت الظهار كما لو شبهها به منفردا والذي يصح عندي في قياس المذهب أنه إن وجدت قرينة تدل على الظهار مثل أن يخرجه مخرج الحلف فيقول إن فعلت كذا فأنت علي مثل أمي أو قال ذلك حال الخصومة والغضب فهو ظهار لأنه إذا خرج مخرج الحلف فالحلف يراد للامتناع من شيء أو الحث عليه وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه ولأن كونها مثل أمه في صفتها أو كرامتها لا يتعلق على شرط فيدل على أنه إنما أراد الظهار ووقوع ذلك في حال الخصومة والغضب ودليل على أنه أراد به ما يتعلق بأذاها ويوجب اجتنابها وهو الظهار وإن عدم هذا فليس بظهار لأنه محتمل لغير الظهار احتمالا كثيرا فلا يتعين الظهار فيه بغير دليل ونحو هذا قول أبي ثور وهكذا لو قال أنت علي كأمي أو مثل أمي أو قال أنت أمي أو امرأتي أمي مع الدليل الصارف له إلى الظهار كان ظهارا إما بنية أو ما يقوم مقامها وإن قال أمي امرأتي أو مثل امرأتي لم يكن ظهارا لأنه تشبيه لأنه ووصف لها وليس يوصف لامرأته (8/557)
فصول : تحريم الرجل امرأته على نفسه وجمع الظهار والطلاق معا
الفصل الثالث : أنه إذا قال أنت علي حرام فإن نوى به الظهار فهو ظهار في قول عامتهم وبه يقول أبو حنيفة و الشافعي وإن نوى به الطلاق فقد ذكرناه في باب الطلاق وإن أطلق ففيه روايتان إحداهما : هو ظهار ذكره الخرقي في موضع آخر ونص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه وذكره إبراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس وأبي قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبتي انهم قالوا : الحرام ظهار وروي عن أحمد ما يدل على أن التحريم يمين وروي عن ابن عباس أنه قال إن التحريم يمين في كتاب الله عز و جل قال الله عز و جل : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } - ثم قال - { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وأكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينو به الظهار ليس بظهار وهو قول مالك و أبي حنيفة و الشافعي ووجه ذلك الآية المذكورة وإن التحريم يتنوع منه ما هو بظهار وبطلاق وبحيض وإحرام وصيام فلا يكون التحريم صريحا في واحد منهما ولا ينصرف إليه بغير نية كما لا ينصرف إلى تحريم الطلاق ووجه الأول إنه تحريم أوقعه في امرأته فكان باطلاقه ظهارا كتشبيهها بظهر أمه وقولهم ان التحريم يتنوع قلنا إلا أن تلك الأنواع منتفية ولا يحصل بقوله منها إلا الطلاق وهذا أولى منه لأن الطلاق تبين به المرأة وهذا يحرمها مع بقاء الزوجية فكان أدنى التحريمين فكان أولى فأما إن قال لمحرمة عليه بحيض أو نحوه وقصد الظهار فهو ظهار وإن قصد انها محرمة عليه بذلك السبب فلا شيء فيه فإن أطلق فليس بظهار لأنه يحتمل الخبر عن حالها ويحتمل إنشاء التحريم فيها بالظهار فلا يتعين أحدهما بتغير تعيين
فصل : فإن قال الحل علي حرام أو ما أحل الله علي حرام أو ما أنقلب إليه حرام وله امرأة فهو مظاهر نص عليه أحمد في الصور الثلاث وذلك لأن لفظه يقتضي العموم فيتناول المرأة بعمومه وإن صرح بتحريم المرأة أو نواها فهو آكد قال أحمد : فيمن قال ما أحل الله علي حرام من أهل وما عليه كفارة الظهار هو يمين وتجزئه كفارة واحدة في ظاهر كلام أحمد هذا واختار ابن عقيل أنه يلزمه كفارتان للظهار ولتحريم المال لأن التحريم تناولهما وكل واحد منهما لو انفرد أوجب كفارة فكذلك إذا اجتمعا
ولنا أنها يمين واحدة فلا توجب كفارتين كما لو تظاهر من امرأتين أو حرم من ماله شيئين وما ذكره ينتقض بهذا وفي قول أحمد هو يمين إشارة إلى التعليل بما ذكرناه لأن اليمين الواحدة لا توجب أكثر من كفارة وإن نوى بقوله ما أحل الله علي حرام وغيره من لفظات العموم لم يلزمه إلا كفارة يمين لأن اللفظ العام يجوز استعماله في الخاص وعلى الرواية الأخرى التي تقول إن الحرام بإطلاقه ليس بظهار لا يكون ههنا مظاهرا إلا أن ينوي الظهار
فصل : وإن قال أنت علي كظهر أمي حرام فهو صريح في الظهار لا ينصرف إلى غيره سواء نوى الطلاق أو لم ينوه وليس فيه اختلاف بحمد الله لأنه صرح بالظهار وبينه بقوله حرام وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي أو كأمي فكذلك وبه قال أبو حنيفة : وهو أحد قولي الشافعي والقول الثاني : إذا نوى الطلاق فهو طلاق وهو قول أبي يوسف و محمد إلا أن أبا يوسف قال لا أقبل قوله في نفي الظهار ووجه قولهم ان قوله أنت علي حرام إذا نوى به الطلاق فهو طلاق وزيادة قوله كظهر أمي بعد ذلك لا ينفي الطلاق كما لو قال أنت طالق كظهر أمي
ولنا أنه أتى بصريح الظهار فلم يكن طلاقا كالتي قبلها وقولهم إن التحريم مع نية الطلاق طلاق لا نسلمه وإن سلمناه لكنه فسر لفظه ههنا بصريح الظهار بقوله فكان العمل بصريح القول أولى من العمل بالنية
فصل : وإن قال أنت طالق كظهر أمي طلقت وسقط كظهر أمي لأنه أتى بصريح الطلاق أولا وجعل قوله كظهر أمي صفة له فإن نوى بقوله كظهر أمي تأكيد الطلاق لم يكن ظهارا كما لو أطلق وإن نوى به الظهار وكان الطلاق بائنا فهو كالظهار من الأجنبية لأنه أتى بعد بينونتها بالطلاق وإن كان رجعيا كان ظهارا صحيحا ذكره القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه أتى بلفظ الظهار فيمن هي زوجة وإن نوى بقوله أنت طالق الظهار لم يكن ظهارا لأنه نوى الظهار بصريح الطلاق وإن قال أنت علي كظهر أمي طالق وقع الظهار والطلاق معا سواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا لأن الظهار سبق الطلاق
فصل : فإن قال أنت علي حرام ونوى الطلاق والظهار معا كان ظهارا ولم يكن طلاقا لأن اللفظ الواحد لا يكون ظهارا وطلاقا والظهار أولى بهذا اللفظ فينصرف إليه وقال بعض أصحاب الشافعي : يقال له اختر أيهما شئت وقال بعضهم : إن قال أردت الطلاق والظهار كان طلاقا لأنه بدأ به وإن قال أردت الظهار والطلاق كان ظهارا لأنه بدأ به فيكون ذلك اختيارا له ويلزمه ما بدأ به
ولنا أنه أتى بلفظ الحرام ينوي بها الظهار فكانت كما لو انفرد الظهار بنيته ولا يكون طلاقا لأنه زاحمت نيته نية الظهار وتعذر الجميع والظهار أولى بهذه اللفظة لأن معناهما واحد وهو التحريم فيجب أن يغلب ما هو الأولى أما الطلاق فإن معناه الإطلاق وهو حل قيد النكاح وإنما التحريم حكم له في بعض أحواله وقد ينفك عنه فإن الرجعية مطلقة بماحة وأما التخيير فلا يصح لأن هذه اللفظة قد ثبت حكمها حين لفظ بها لكونه أهلا والمحل قابلا ولهذا لو حكمنا بأنه طلاق لكانت عدتها من حين أوقع الطلاق وليس إليه رفع حكم ثبت في المحل باختياره وإبداله بإرادته والقول الآخر مبني على أن له الاختيار وهو فاسد على ما ذكرنا ثم أن الاعتبار بجميع لفظه لا بما بدأ به ولذلك لو قال طلقت هذه أو هذه لم يلزمه طلاق الأولى (8/561)
فصلان : الظهار من بعض المرأة
الفصل الرابع : أنه إذا شبه عضوا من امرأته بظهر أمه أو عضو من أعضائها فهو مظاهر فلو قال فرجك أو ظهرك أو رأسك أو جلدك علي كظهر أمي أو بدنها أو رأسها أو يدها فهو مظاهر وبهذا قال مالك : وهو نص الشافعي وعن أحمد رواية أخرى انه ليس بمظاهر حتى يشبه جملة امرأته لأنه لو حلف بالله لا يمس عضوا منها لم يسر إلى غيره فكذلك المظاهرة ولأن هذا ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص لأن تشبيه جملتها تشبيه لمحل الاستمتاع بما يتأكد تحريمه وفيه تحريم لجملتها فيكون آكد وقال أبو حنيفة : إن شبهها بما يحرم النظر إليه من الأم كالفرج والفخذ ونحوهما فهو مظاهر وإن لم يحرم النظر إليه كالرأي والوجه لم يكن مظاهرا لأنه شبهها بعضو لا يحرم النظر إليه فلم يكن مظاهرا كما لو شبهها بعضو زوجة له أخرى
ولنا أنه شبهها بعضو من أمه فكان مظاهرا كما لو شبهها بظهرها وفارق الزوجة فإنه لو شبهها بظهرها لم يكن مظاهرا والنظر إن لم يحرم فإن التلذذ يحرم وهو المستفاد بعقد النكاح
فصل : وإن قال كشعر أمي أو سنها أو ظفرها أو شبه شيئا من ذلك من امرأته بأمه أو بعضو من أعضائها الثلاثة لم يكن مظاهرا لأنها ليست من أعضاء الأم الثابتة ولا يقع الطلاق بإضافته إليها فكذلك الظهار وكذلك لو قال كزوج أمي فإن الزوج لا يوصف بالتحريم ولا هو محل للاستمتاع وكذلك الريق والعرق والدمع وإن قال وجهي من وجهك حرام فليس بظهار نص علي أحمد وقال هذا شيء يقوله الناس ليس بشيء وذلك لأن هذا يستعمل كثيرا في غير الظهار ولا يؤدي معنى الظهار فلم يكن ظهارا كما لو قال لا أكلمك (8/566)
فصلان : بيان ما يحرم وما يباح من المرأة المظاهر منها قبل التكفير
فصل : فإن قال أنا مظاهر أو علي الظهار أو علي الحرام أو الحرام لي لازم ولا نية له لم يلزمه شيء لأنه ليس بصريح في الظهار ولا نوى به الظهار وإن نوى به الظهار أو اقترنت به قرينة تدل على إرادته الظهار مثل أن يعلقه على شرط فيقول علي الحرام إن كلمتك احتمل أن يكون ظهارا لأنه أحد نوعي تحريم الزوجة فصح بالكناية مع النية كالطلاق ويحتمل أن لا يثبت به الظهار لأن الشرع إنما ورد به بصريح لفظه وهذا ليس بصريح فيه ولأنه يمين موجة للكفارة فلم يثبت حكمه بغير الصريح كاليمين بالله تعالى
فصل : يكره أن يسمي الرجل امرأته بمن تحرم عليه كأمه أو أخته أو بنته لما روى أبو داود بإسناده [ عن أبي تميمة الهجيمي أن رجلا قال لامرأته يا أخية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أختك هي ؟ فكره ذلك ونهى عنه ] ولأنه لفظ يشبه لفظ الظهار ولا تحرم بهذا ولا يثبت حكم الظهار فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم يقل له حرمت عليك ولأن هذا اللفظ ليس بصريح في الظهار ولا نواه به فلا يثبت التحريم وفي الحديث [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أن إبراهيم عليه السلام أرسل إليه جبار فسألها عنها يعني عن سارة فقال : إنها أختي ولم يعد ذلك ظهارا ]
الفصل الخامس : أن المظاهر يحرم عليه وطء امرأته قبل أن يكفر وليس في ذلك اختلاف إذا كانت الكفارة عتقا أو صوما لقول الله تعالى : { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وقوله سبحانه : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } وأكثر أهل العلم على أن التكفير بالاطعام مثل ذلك وأنه يحرم وطؤها قبل التكفير منهم عطاء و الزهري و الشافعي وأصحاب الرأي وذهب أبو ثور إلى إباحة الجماع قبل التكفير بالإطعام وعن أحمد ما يقتضي ذلك لأن الله تعالى لم يمنع المسيس قبله كما في العتق والصيام
ولنا ما روى عكرمة [ عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله : إني تظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر ؟ فقال : ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر قال : فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ] رواه أبو داود و الترمذي وقال حديث حسن ولأنه مظاهر لم يكفر فحرم عليه جماعها كما لو كانت كفارته العتق أو الصيام وترك النص عليها لا يمنع قياسها على المنصوص الذي في معناها (8/567)
فصلان ومسألة : يصح الظهار مؤقتا ويصح تعليقه بشروط
فصل : فأما التلذذ بما دون الجماع من القبلة واللمس والمباشرة فيما دون الفرج ففيه روايتان
إحداهما : يحرم وهو اختيار أبي بكر وهو قول الزهري و مالك و الأوزاعي و أبي عبيد وأصحاب الرأي وروي ذلك عن النخعي وهو أحد قولي الشافعي لأن ما حرم الوطء من القول حرم دواعيه كالطلاق والإحرام
والثانية : لا تحرم قال أحمد أرجو أن لا يكون به بأس وهو قول الثوري و إسحاق و أبي حنيفة وحكي عن مالك وهو القول الثاني لل شافعي لأنه وطء يتعلق بتحريمه مال فلم يتجاوزه التحريم كوطء الحائض
فصل : ولا يصح الظهار من أمته ولا أم ولده روي ذلك عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو و سعيد بن المسيب و مجاهد و الشعبي و ربيعة و الأوزاعي و الشافعي و أبي حنيفة وأصحابه وروي عن الحسن و عكرمة و النخعي و عمرو بن دينار و سليمان بن يسار و الزهري و قتادة و الحكم و الثوري و مالك في الظهار من الأمة كفارة تامة لأنها مباحة له فصح الظهار منها كالزوجة وعن الحسن و الأوزاعي إن كان يطؤها فهو ظهار وإلا فلا لأنه إذا لم يطأها فهو كتحريم ماله وقال عطاء عليه نصف كفارة حرة لأن الأمة على النصف من الحرة في كثير من أحكامها وهذا من أحكامها فتكون على النصف
ولنا قول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم } فخصهن به ولأنه لفظ يتعلق به تحريم الزوجة فلا تحرم به الأمة كالطلاق ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فنقل حكمه وبقي محله قال أحمد قال أبو قلابة و قتادة ان الظهار كان طلاقا في الجاهلية وروي عن أحمد أن على المظاهر من أمته كفارة ظهار وقال أبو بكر لا يتوجه هذا على مذهبه لأنه لو كانت عليه كفارة ظهار كان ظهارا ولكن عليه كفارة يمين لأنه تحريم لمباح من ماله فكانت فيه كفارة يمين كتحريم سائر ماله قال نافع حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم جاريته فأمره الله أن يكفر يمينه ويحتمل أن لا يلزمه شيء بناء على قوله في المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أبي لا يلزمها شيء وإن قال لأمته أنت علي حرام فعليه كفارة لقول الله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ؟ } - إلى قوله تعالى - { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } نزلت في تحريم النبي صلى الله عليه و سلم لجاريته في قول بعضهم ويخرج على الرواية الأخرى أن تلزمه كفارة ظهار لأن التحريم ظهار والأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى
ويصح الظهار مؤقتا مثل أن يقول أنت علي كظهر أمي شهرا أو حتى ينسلخ شهر رمضان فإذا مضى الوقت زال الظهار وحلت المرأة بلا كفارة ولا يكون عائدا بالوطء في المدة وهذا قول ابن عباس و عطاء و قتادة و الثوري و إسحاق و أبي ثور وأحد قولي الشافعي وقوله الآخر لا يكون ظهارا وبه قال ابن أبي ليلى و الليث لأن الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقا وهذا لم يطلق فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون وقت وقال طاوس إذا ظاهر في وقت فعليه الكفارة وإن بر وقال مالك يسقط التأقيت ويكون ظهارا مطلقا لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة فإذا وقته لم يتوقت كالطلاق
ولنا حديث سلمة بن صخر وقوله تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان وأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه أصابها في الشهر فأمره بالكفارة ولم يعتبر عليه تقييده ولأنه منع نفسه منها بيمين لها كفارة فصح مؤقتا كالإيلاء وفارق الطلاق فإنه يزيل الملك وهو يوقع تحريما يرفعه التكفير فجاز تأقيته ولا يصح قول من أوجب الكفارة وإن بر لأن الله تعالى إنما أوجب الكفارة على الذين يعودون لما قالوا ومن بر وترك العود في الوقت الذي ظاهر فلم يعد لما قال فلا تجب عليه كفارة وفارق التشبيه بمن لا تحرم عليه على التأبيد لأن تحريمها غير كامل وهذه حرمها في هذه المدة تحريما مشبها بتحريم ظهر أمه على أننا نمنع الحكم فيها إذا ثبت هذا فإنه لا يكون عائدا إلا بالوطء في المدة وهذا هو منصوص عن الشافعي وقال بعض أصحابه إن لم يطلقها عقيب الظهار فهو عائد عليه الكفارة وقال أبو عبيد إذا أجمع على غشيانها في الوقت لزمته الكفارة وإلا فلا لأن العود العزم على الوطء
ولنا حديث سلمة بن صخر وانه لم يوجب عليه الكفارة إلا بالوطء ولأنها يمين لم يحنث فيها فلا يلزمه كفارتها كاليمين بالله تعالى ولأن المظاهر في وقت عازم على امساك زوجته في ذلك الوقت فمن أوجب عليه الكفارة بذلك كان قوله كقول طاوس فلا معنى لقوله يصح الظهار مؤقتا لعدم تأثير الوقت
فصل : ويصح تعليق الظهار بالشروط نحو أن يقول إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي وإن شاء زيد فأنت علي كظهر أمي فمتى شاء زيد أو دخلت الدار صار مظاهرا وإلا فلا وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي لأنه يمين فجاز تعليقه على شرط كالإيلاء ولأن أصل الظهار أنه كان طلاقا والطلاق يصح تعليقه بالشرط فكذلك الظهار ولأنه قول تحرم به الزوجة فصح تعليقه على شرط كالطلاق ولو قال لامرأته إن تظاهرت من امرأتي الأخرى فأنت علي كظهر أمي ثم تظاهر من الأخرى صار مظاهرا منهما جميعا وإن قال إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت علي كظهر أمي ثم قال للأجنبية أنت علي كظهر أمي صار مظاهرا من امرأته عند من يرى الظهار من الأجنبية ومن لا فلا وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى
فصل : فإن قال أنت علي كظهر أمي إن شاء الله لم ينعقد كظهاره نص عليه أحمد فقال إذا قال لامرأته عليه كظهر أمه إن شاء الله فليس عليه شيء هي يمين وإذا قال ما أحل الله علي حرام إن شاء الله وله أهل هي يمين ليس عليه شيء وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم وذلك لأنها يمين مكفرة فصح الاستثناء فيها كاليمين بالله تعالى أو كتحريم ماله وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه ] رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وفي لفظ [ من حلف فاستثنى فإن شاء فعل وإن شاء رجع غير حنث ] رواه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي وإن قال أنت علي حرام ووالله لا أكلمك إن شاء الله عاد الاستثناء إليهما في أحد الوجهين لأن الاستثناء إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها إلا أن ينوي الاستثناء في بعضها فيعود إليه وحده وإن قال أنت علي حرام إذا شاء الله أو إلا ما شاء الله أو إلى أن يشاء الله أو ما شاء الله فكله استثناء يرفع حكم الظهار وإن قال إن شاء الله فأنت حرام فهو استثناء يرفع حكم الظهار لأن الشرط إذا تقدم يجاب بالفاء وإن قال إن شاء الله أنت حرام فهو استثناء لأن الفاء مقدرة وإن قال إن شاء الله فأنت حرام صح أيضا والفاء زائدة وإن قال أنت حرام إن شاء الله وشاء زيد فشاء زيد لم يصر مظاهرا لأنه علقه على مشيئتين فلا يحصل إحداهما (8/570)
مسألة : قال : فإن ماتت أو مات لم تلزم الكفارة
مسألة : قال : فإن مات أو ماتت أو طلقها لم تلزمه الكفارة فإن عاد فتزوجها لم يطأها حتى يكفر لأن الحنث بالعهود وهو الوطء لأن الله عز و جل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث
الكلام في هذه المسألة في ثلاثة فصول
أحدها : أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار فلو مات أحدهما أو فارقها قبل العود فلا كفارة عليه وهذا قول عطاء و النخعي و الأوزاعي و الحسن و الثوري و مالك و أبو عبيد وأصحاب الرأي وقال طاوس و مجاهد و الشعبي و الزهري و قتادة عليه الكفارة بمجرد الظهار لأنه سبب للكفارة وقد وجد ولأن الكفارة وجبت لقول المنكر والزور وهذا يحصل بمجرد الظهار وقال الشافعي متى أمسكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه فلم يطلقها فعليه الكفارة لأن ذلك هو العود عنده
ولنا قول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } فأوجب الكفارة بأمرين ظهار وعود فلا تثبت بأحدهما ولأن الكفارة في الظهار كفارة يمين فلا يحنث بغير الحنث كسائر الأيمان والحنث فيها هو العود وذلك فعل ما حلف على تركه وهو الجماع وترك طلاقها ليس بحنث فيها ولا فعل لما حلف على تركه فلا تجب به الكفارة ولأنه لو كان الإمساك عودا لوجبت الكفارة على المظاهر الموقت وإن بر وقد نص الشافعي على أنها لا تجب عليه
إذا ثبت هذا فإنه لا كفارة عليه إذا مات أحدهما قبل وطئها وكذلك إن فارقها سواء كان ذلك متراخيا عن يمينه أو عقيبه وأيهما مات ورثه صاحبه في قول الجمهور وقال قتادة إن ماتت لم يرثها حتى يكفر ولنا أن من ورثها إذا كفر ورثها وإن لم يكفر كالمولي منها (8/573)
فصلان : إذا طلق من ظاهر منها لم يحل له وطؤها
الفصل الثاني : انه إذا طلق من ظاهر منها ثم تزوجها لم يحل له وطؤها حتى يكفر سواء كان الطلاق ثلاثا أو أقل منه وسواء رجعت إليه بعد زوج آخر أو قبله نص عليه أحمد وهو قول عطاء و الحسن و الزهري و النخعي و مالك و أبي عبيد وقال قتادة إذا بانت سقط الظهار فإذا عاد فنكحها فلا كفارة عليه و للشافعي قولان كالمذهبين وقول ثالث إن كانت البينونة بالثلاث لم يعد الظهار وإلا عاد وبناه على الأقاويل في عود صفة الطلاق في النكاح الثاني
ولنا عموم قول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وهذا قد ظاهر من امرأته فلا يحل أن يتماسا حتى يكفر ولأنه ظاهر من امرأته فلا يحل له مسها قبل التكفير كالتي لم يطلقها ولأن الظهار يمين مكفرة فلم يبطل حكمها بالطلاق كالإيلاء
الفصل الثالث : أن العود هو الوطء فمتى وطئ لزمته الكفارة ولا تجب قبل ذلك إلا أنها شرط لحل الوطء فيؤمر بها من أراده ليستحله بها كما يؤمر بعقد النكاح من أراد حل المرأة وحكي نحو ذلك عن الحسن و الزهري وهو قول أبي حنيفة إلا أنه لا يوجب الكفارة على من وطئ وهي عنده في حق من وطئ كمن لم يطأ
وقال القاضي وأصحابه : العود العزم على الوطء إلا أنهم لم يوجبوا الكفارة على العازم على الوطء إذا مات أحدهما أو طلق قبل الوطء إلا أبا الخطاب فإنه قال إذا مات بعد العزم أو طلق فعليه الكفارة وهذا قول مالك و أبي عبيد وقد أنكر أحمد هذا فقال مالك يقول إذا أجمع لزمته الكفارة فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع كان عليه كفارة ؟ إلا أن يكون يذهب إلى قول طاوس إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق ولم يعجب أحمد قول طاوس
وقال أحمد : في قوله تعالى { ثم يعودون لما قالوا } قال العود الغشيان إذا أراد أن يغشى كفر واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } فأوجب الكفارة بعد العود قبل التماس وما حرم قبل الكفارة فلا يجوز كونه متقدما عليها ولأنه قصد بالظهار تحريمها فالعزم على وطئها عود فيما قصده ولأن الظهار تحريم فإذا أراد استباحتها فقد رجع في ذلك التحريم فكان عائدا وقال الشافعي العود امساكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه لأنه ظهاره منها يقتضي ابانتها فامساكها عود فيما قال وقال داود العود تكرار الظهار مرة ثانية لأن العود في الشيء إعادته
ولنا أن العود فعل ضد قوله ومنه العائد في هبته هو الراجع في الموهوب والعائد في عدته التارك للوفاء بما وعد والعائد فيما نهى عنه فاعل المنهي عنه قال الله تعالى { ثم يعودون لما نهوا عنه } فالمظاهر محرم للوطء على نفسه ومانع لها منه فالعود فعله وقولهم ان العود يتقدم التكفير والوطء يتأخر عنه قلنا المراد بقوله { ثم يعودون } أي يريدون العود كقول الله تعالى { إذا قمتم إلى الصلاة } أي أردتم ذلك وقوله تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } فإن قيل فهذا تأويل ثم هو رجوع إلى إيجاب الكفارة بالعزم المجرد قلنا دليل التأويل ما ذكرنا
وأما الأمر بالكفارة عند العزم فإنما أمر بها شرطا للحل كالأمر بالطهارة لمن أراد صلاة النافلة والأمر بالنية لمن أراد الصيام فأما الإمساك فليس بعود لأنه ليس بعود في الظهار المؤقت فكذلك في المطلق ولأن العود فعل ضد ما قاله والإمساك ليس بضد له وقولهم ان الظهار يقتضي إبانتها لا يصح وإنما يقتضي تحريمها واجتنابها ولذلك صح توقيته ولأنه قال { ثم يعودون لما قالوا } وثم للتراخي والإمساك غير متراخ وأما قول داوود فلا يصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر أوسا وسلمة بن صخر بالكفارة من غير إعادة اللفظ ولأن العود إنما هو في مقوله دون قوله كالعود في الهبة والعدة والعود لما نهى عنه ويدل على إبطال هذه الأقوال كلها أن الظهار يمين مكفرة فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الايمان وتجب الكفارة بذلك كسائر الايمان ولأنها يمين تقتضي ترك الوطء فلا تجب كفارتها إلا به كالإيلاء (8/575)
مسألة : صحة الظهار من الأجنبية
مسألة : قال : وإذا قال لامرأة أجنبية أنت علي كظهر أمي لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بالكفارة
وجملته أن الظهار من الأجنبية يصح سواء قال ذلك لامرأة بعينها أو قال كل النساء علي كظهر أمي وسواء أوقعه مطلقا أو علقه على التزويج فقال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي ومتى تزوج التي ظاهر منها لم يطأها حتى يكفر يروى نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال سعيد بن المسيب و عروة و عطاء و الحسن و مالك و إسحاق ويحتمل أن لا يثبت حكم الظهار قبل التزويج وهو قول الثوري و أبي حنيفة و الشافعي ويروى ذلك عن ابن عباس لقول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم } والأجنبية ليست من نسائه ولأن الظهار يمين ورد الشرع بحكمها مقيدا بنسائه فلم يثبت حكمها في الأجنبية كالإيلاء فإن الله تعالى قال { والذين يظاهرون من نسائهم } كما قال { للذين يؤلون من نسائهم } ولأنها ليست بزوجة فلم يصح الظهار منها كأمته ولأنه حرم محرمة فلم يلزمه شيء كما لو قال أنت حرام ولأنه نوع تحريم فلم يتقدم النكاح كالطلاق
ولنا ما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب أنه قال في رجل قال : إني تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي فتزوجها قال عليه كفارة الظهار ولأنها يمين مكفرة فصح انعقادها قبل النكاح كاليمين بالله تعالى أما الآية فإن التخصيص خرج مخرج الغالب فإن الغالب أن الإنسان إنما يظاهر من نسائه فلا يوجب تخصيص الحكم بهن كما أن تخصيص الربيبة التي في حجره بالذكر لم يوجب اختصاصها بالتحريم وأما الإيلاء فإنما اختص حكمه بنسائه لكونه يقصد الاضرار بهن دون غيرهن والكفارة وجبت ههنا لقول المنكر والزور ولا يختص ذلك بنسائه ويفارق الظهار الطلاق من وجهين
أحدهما : أن الطلاق حل قيد النكاح ولا يمكن حله قبل عقده والظهار تحريم للوطء فيجوز تقديمه على العقد كالحيض
الثاني : أن الطلاق يرفع العقد فلم يجز أن يسبقه وهذا لا يعرفه وإنما تتعلق الإباحة على شرط فجاز تقدمه وأما الظهار من الأمة فقد انعقد يمينا وجبت به الكفارة ولم تجب كفارة الظهار لأنها ليست امرأة له حال التكفير بخلاف مسألتنا (8/578)
فصل ومسألتان : أحكام الظهار والمظاهرة من الأمة
فصل : وإذا قال كل امرأة أتزوجها فهي علي كظهر أمي ثم تزوج نساء وأراد العود فعليه كفارة واحدة سواء تزوجهن في عقد أو في عقود متفرقة نص عليه أحمد وهو قول عروة و إسحاق لأنها يمين واحدة فكفارتها واحدة كما لو ظاهر من أربع نساء بكلمة واحدة وعنه أن لكل عقد كفارة فلو تزوج اثنتين في عقد وأراد العود فعليه كفارة واحدة ثم إذا تزوج أخرى وأراد العود فعليه كفارة أخرى وروي ذلك عن إسحاق لأن المرأة الثالثة وجد العقد عليها الذي يثبت به الظهار وأراد العود إليها بعد التكفير عن الأولتين فكانت عليه لها كفارة كما لو ظاهر منها ابتداء ولو قال لأجنبية أنت علي كظهر أمي وقال أردت أنها مثلها في التحريم في الحال دين في ذلك وهل يقبل في الحكم ؟ يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يقبل لأنه صريح للظهار فلا يقبل صرفه إلى غيره
والثاني : يقبل لأنها حرام عليه كما أن أمه حرام عليه
مسألة : قال : ولو قال أنت حرام وأراد في تلك الحال لم يكن عليه شيء وإن تزوجها لأنه صادق وإن أراد في كل حال لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بكفارة الظهار
أما إذا أراد بقوله لها أنت علي حرام الاخبار عن حرمتها في الحال فلا شيء عليه لأنه صادق لكونه وصفها بصفتها ولم يقل منكرا ولا زورا وكذلك لو أطلق هذا القول ولم يكن له نية فلا شيء عليه لذلك وإن أراد تحريمها في كل حال فهو ظهار لأن لفظة الحرام إذا أريد بها الظهار ظهار في الزوجة فكذلك في الأجنبية فصار كقوله أنت علي كظهر أمي
مسألة : قال : ولو ظاهر من زوجته وهي أمة فلم يكفر حتى ملكها انفسخ النكاح ولم يطأها حتى يكفر
وجملته أن الظهار يصح من كل زوجة أمة كانت أو حرة فإذا ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها انفسخ النكاح واختلف أصحابنا في بقاء حكم الظهار فذكر الخرقي ههنا أنه باق ولا يحل له الوطء حتى يكفر وبه يقول مالك و أبو ثور وأصحاب الرأي ونص عليه الشافعي وقال القاضي المذهب ما ذكر الخرقي وهو قول أبي عبد الله بن حامد لقول الله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وهذا قد ظاهر من امرأته فلم يحل له مسها حتى يكفر ولأن الظهار قد صح فيها وحكمه لا يسقط بالطلاق المزيل للملك والحل فبملك اليمين أولى ولأنها يمين انعقدت موجبة لكفارة فوجبت دون غيرها كسائر الأيمان وقال أبو بكر عبد العزيز يسقط الظهار بملكه لها وإن وطئها حنث وعليه كفارة يمين كما لو تظاهر منها وهي أمته لأنها خرجت عن الزوجات وصار وطؤه لها بملك اليمين فلم يكن موجبا لكفارة الظهار كما لو تظاهر منها وهي أمته ويقتضي قول أبي بكر هذا أن تباح قبل التكفير لأنه أسقط الظهار وجعله يمينا كتحريم أمته فإن أعتقها عن كفارته صح على القولين فإن تزوجها بعد ذلك حلت له بغير كفارة لأنه كفر عن ظهاره بإعتاقها ولا يمتنع اجزاؤها عن الكفارة التي وجبت بسببها كما لو قال إن ملكت أمه فلله علي عتق رقبة فملك أمة فأعتقها وإن أعتقها عن غير الكفارة ثم تزوجها عاد حكم الظهار ولم تحل له حتى يكفر (8/580)
مسألة وفصلان : التظاهر من أربعة نسوة بكلمة واحدة ومن امرأة واشراك غيرها
مسألة : قال : ولو تظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة لم يكن عليه أكثر من كفارة
وجملته أنه إذا ظاهر من نسائه الأربع بلفظ واحد فقال أنتن علي كظهر أمي فليس عليه أكثر من كفارة بغير خلاف في المذهب وهو قول علي و عروة و طاوس و عطاء و ربيعة و مالك و الأوزاعي و إسحاق و أبي ثور و الشافعي في القديم وقال الحسن و النخعي و الزهري و يحيى الأنصاري و الحكم و الثوري وأصحاب الرأي و الشافعي في الجديد عليه لكل امرأة كفارة لأنه وجد الظهار والعود في حق كل امرأة منهن فوجب عليه عن كل واحدة كفارة كما لو أفردها به
ولنا عموم قول عمر وعلي رضي الله عنهما رواه عنهما الأثرم ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا فكان إجماعا ولأن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى وفارق ما إذا ظاهر منها بكلمات فإن كل كلمة تقتضي كفارة ترفعها وتكفر إثمها وههنا الكلمة واحدة فالكفارة الواحدة ترفع حكمها وتمحو اثمها فلا يبقى لها حكم
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا ظاهر منهن بكلمات فقال لكل واحدة أنت علي كظهر أمي فإن لكل يمين كفارة وهذا قول عروة و عطاء قال أبو عبد الله بن حامد : المذهب رواية واحدة في هذا قال القاضي : المذهب عندي ما ذكر الشيخ أبو عبد الله وقال أبو بكر : فيه رواية أخرى أنه يجزئه كفارة واحدة واختار ذلك وقال هذا الذي قلناه اتباعا لعمر بن الخطاب و الحسن و عطاء و إبراهيم و ربيعة و قبيصة و إسحاق لأن كفارة الظهار حق لله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد وعليه يخرج الطلاق
ولنا أنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة فكان لكل واحدة كفارة كما لو كفر ثم ظاهر ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى فلا تكفرها كفارة واحدة كالأصل ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة فتتعدد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل ويفارق الحد فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات فأما إن ظاهر من زوجته مرارا ولم يكفر فكفارة واحدة لأن الحنث واحد فوجبت كفارة واحدة كما لو كانت اليمين واحدة
فصل : إذا ظاهر من امرأة ثم قال لأخرى أشركتك معها أو أنت شريكتها أو كهي ونوى المظاهرة من الثانية صار مظاهرا منها بغير خلاف علمناه وبه يقول مالك و الشافعي وإن أطلق صار مظاهرا أيضا إذا كان عقيب مظاهرته من الأولى ذكره أبو بكر وبه قال مالك قال أبو الخطاب : ويحتمل أن لا يكون مظاهرا وبه قال الشافعي : لأنه ليس بصريح في الظهار ولا نوى به الظهار فلم يكن ظهارا كما لو قال ذلك قبل أن يظاهر من الأولى ولأنه يحتمل أنها شريكتها في دينها أو في الخصومة أو في النكاح أو سوء الخلق فلم تخصص بالظهار لا بالنية كسائر الكنايات
ولنا أن الشركة والتشبيه لا بد أن يكون في شيء فوجب تعليقه بالمذكور معه كجواب السؤال فيما إذا قيل له ألك امرأة فقال قد طلقتها وكالعطف مع المعطوف عليه والصفة مع الموصوف وقولهم إنه كناية لم ينوبها الظهار قلنا قد وجد دليل النية فيكتفى بها وقولهم إنه يحتمل قلنا ما ذكرنا من القرينة يزيل الاحتمال وإن بقي احتمال ما كان مرجوحا فلا يلتفت إليه كالاحتمال في اللفظ الصريح (8/582)
مسائل وفصول : بيان الكفارة الواجبة في الظهار وصفتها
مسألة : قال : والكفارة عتق رقبة مؤمنة سالمة من العيوب المضرة بالعمل
في هذه المسألة ثلاث مسائل :
المسألة الأولى : أن كفارة المظاهر القادر على الاعتاق عتق رقبة لا يجزئه غير ذلك بغير خلاف علمناه بين أهل العلم والأصل في ذلك قول الله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } - إلى قوله - { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لأوس بن الصامت حين ظاهر من امرأته : يعتق رقبة قلت لا يجد قال : فيصوم ] وقوله لسلمة بن صخر مثل ذلك فمن وجد رقبة يستغني عنها أو وجد ثمنها فاضلا عن حاجته ووجدها به لم يجزئه إلا الاعتاق لأن وجود المبدل إذا منع الانتقال إلى البدل كانت القدرة على ثمنه تمنع الانتقال كالماء وثمنه يمنع الانتقال إلى التيمم
المسألة الثانية : أنه لا يجزئه إلا عتق رقبة مؤمنة في كفارة الظهار وسائر الكفارات هذا ظاهر المذهب وهو قول الحسن و مالك و الشافعي و إسحاق و أبي عبيد وعن أحمد رواية ثانية أنه يجزئ فيما عدا كفارة القتل من الظهار وغيره عتق رقبة ذمية وهو قول عطاء و النخعي و الثوري و أبي ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر لأن الله تعالى أطلق الرقبة في هذه الكفارة فوجب أن يجزئ ما تناوله الاطلاق
ولنا ما [ روى معاوية بن الحكم قال كانت لي جارية فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فقلت علي رقبة فأعتقها ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : أين الله ؟ فقالت في السماء فقال : من أنا ؟ فقالت أنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم : أعتقها فإنها مؤمنة ] أخرجه مسلم و النسائي فعلل جواز إعتاقها عن الرقبة التي عليه بأنها مؤمنة فدل على أنه لا يجزئ عن الرقبة التي عليه إلا مؤمنة ولأنه تكفير بعتق فلم يجز إلا مؤمنة ككفارة القتل والمطلق يحمل على المقيد من جهة القياس إذا وجد المعنى فيه ولا بد من تقييده فإنا أجمعنا على أنه لا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا فالتقييد بالسلامة من الكفر أولى
المسألة الثالثة : أنه لا يجزئه إلا رقبة سالمة من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا لأن المقصود تمليك العبد منافعه ويمكنه من التصرف لنفسه ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا فلا يجزئ الأعمى لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع ولا المقعد ولا المقطوع اليدين أو الرجلين لأن اليدين آلة البطش فلا يمكنه العمل مع فقدهما والرجلان آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلفهما والشلل كالقطع في هذا ولا يجزئ المجنون جنونا مطبقا لأنه وجد فيه المعنيان ذهاب منفعة الجنس وحصول الضرر بالعمل وبهذا كله قال مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وحكي عن داود أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم أخذا باطلاق اللفظ
ولنا أن هذا نوع كفارة فلم يجزئ ما يقع عليه الاسم كالاطعام فإنه لا يجزئ أن يطعم مسوسا ولا عفنا وإن كان يسمى طعاما والآية مقيدة بما ذكرناه
فصل : ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل ولا أشلها ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة لأن نفع اليدين يزول أكثره بذلك وإن قطعت كل واحدة من يد جاز لأن نفع الكفين باق وقطع أنملة الأبهام كقطع جميعها فإن نفعها يذهب بذلك لكونها أنملتين وإن كان من غير الإبهام لم يمنع لأن منفعتها لا تذهب فإنها تصير كالأصابع القصار حتى لو كانت أصابعه كلها غير الأبهام قد قطعت من كل واحدة منها أنملة لم يمنع وإن قطع من الأصبع أنملتان فهو كقطعها لأنه يذهب بمنفعتها وهذا جميعه مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : يجزئ مقطوع إحدى اليدين أو إحدى الرجلين ولو قطعت يده ورجله جميعا من خلاف أجزأت لأن منفعة الجنس باقية فأجزأت في الكفارة كالأعور فأما إن قطعتا من وفاق أي من جانب واحد لم يجزئ لأن منفعة المشي تذهب
ولنا أن هذا يؤثر في العمل ويضر ضررا بينا فوجب أن يمنع اجزاءها كما لو قطعتا من وفاق ويختلف العور فإنه لا يضر ضررا بينا والاعتبار بالضرر أولى من الاعتبار بمنفعة الجنس فإنه لو ذهب شمه أو قطعت أذناه معا أجزأ مع ذهاب منفعة الجنس ولا يجزئ الأعرج إذا كان عرجا كثيرا فاحشا لأنه يضر بالعمل فهو كقطع الرجل وإن كان عرجا كثيرا لا يمنع الأخرى لأنه قليل الضرر
فصل : ويجزئ الأعور في قولهم جميعا وقال أبو بكر فيه قول آخر : لا يجزئ لأنه نقص يمنع التضحية والاجزاء في الهدي فأشبه العمى والصحيح ما ذكرناه فإن المقصود تكميل الأحكام وتمليك العبد المنافع والعور لا يمنع ذلك ولأنه لا يضر بالعمل فأشبه قطع إحدى الأذنين ويفارق العمى فإنه يضر بالعمل ضررا بينا ويمنع كثيرا من الصنائع ويذهب بمنفعة الجنس ويفارق قطع إحدى اليدين والرجلين فإنه لا يعمل بإحداهما ما يعمل بهما والأعور يدرك بإحدى العينين ما يدرك بهما وأما الأضحية والهدي فإنه لا يمنع منهما مجرد العور وإنما يمنع انخساف العين وذهاب العضو المستطاب ولأن الأضحية يمنع فيها قطع الأذن والقرن والعتق لا يمنع فيه إلا ما يضر بالعمل ويجزئ المقطوع الأذنين وبذلك قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك و زفر لا يجزئ لأنهما عضوان فيهما الديه أشبها اليدين
ولنا أن قطعهما لا يضر بالعمل الضرر البين فلم يمنع كنقص السمع بخلاف قطع اليدين ويجزئ مقطوع الأنف لذلك ويجزئ الأصم إذا فهم بالإشارة ويجزئ الأخرس إذا فهمت إشارته وفهم بالإشارة وهذا مذهب الشافعي و أبي ثور وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ لأن منفعة الجنس ذاهبة فأشبه زائل العقل وهذا المنصوص عليه عن أحمد لأن الخرس نقص كثير يمنع كثيرا من الأحكام مثل القضاء والشهادة وأكثر الناس لا يفهم إشارته فيتضرر في ترك استعماله وإن اجتمع الخرس والصمم فقال القاضي : لا يجزئ وهو قول بعض الشافعية لاجتماع النقصين فيه وذهاب منفعتي الجنس ووجه الاجزاء ان الإشارة تقوم مقام الكلام في الإفهام ويثبت في حقه أكثر الأحكام فيجزئ في العتق كالذي ذهب شمه فأما الذي ذهب شمه فيجزئ لأنه لا يضر بالعمل ولا بغيره
فأما المريض فإن كان مرجو البرء كالحمى وما أشبهها أجزأ في الكفارة وإن كان غير مرجو الزوال كالسل ونحوه لم يجزئ لأن زواله يندر ولا يتمكن من العمل مع بقائه وأما نضو الخلق فإن كان يتمكن معه من العمل أجزأ وإلا فلا ويجزئ الأحمق وهو الذي يخطئ على بصير ويصنع الأشياء لغير فائدة ويرى الخطأ صوابا ومن يخنق في الأحيان والخصي والمجبوب والرتقاء والكبير الذي يقدر على العمل لأن ما لا يضر بالعمل لا يمنع تمليك العبد منافعه وتكميل أحكامه فيحصل الاجزاء به كالسالم من العيوب
فصل : ويجزئ عتق الجاني والمرهون وعتق المفلس عبده إذا قلنا بصحة عتقهم وعتق المدبر والخصي وولد الزنا لكمال العتق فيهم
فصل : ولا يجزئ عتق المغصوب لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه ولا غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره لأنه لا يعلم حياته فلا يعلم صحة عتقه وإن لم ينقطع خبره أجزأ عتقه لأنه عتق صحيح ولا يجزئ عتق الحمل لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا ولذلك لم تجب فطرته ولا يتيقن أيضا وجوده وحياته ولا عتق أم الولد لأن عتقها مستحق بسبب غير الكفارة والملك فيها غير كامل ولهذا لا يجوز بيعها وقال طاوس و البتي : يجزئ عتقها لأنه عتق صحيح ولا يجزئ عتق مكاتب أدى من كتابته شيئا وسنذكر هذا في الكفارات إن شاء الله تعالى (8/585)
مسائل وفصول : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين وفروع فيها
مسألة : قال : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد رقبة أن فرضه صيام شهرين متتابعين وذلك لقول الله تعالى : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } وحديث أوس بن الصامت وسلمة بن صخر وأجمعوا على أن من وجد رقبة فاضلة عن حاجته فليس له الانتقال إلى الصيام وإن كانت له رقبة يحتاج إلى خدمتها لزمن أو كبر أو مرض أو عظم خلق ونحوه مما يعجزه عن خدمة نفسه أو يكون ممن لا يخدم نفسه في العادة ولا يجد رقبة فاضلة عن خدمته فليس عليه الإعتاق وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي : متى وجد رقبة لزمه اعتاقها ولم يجز له الانتقال إلى الصيام سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن لأن الله تعالى شرط في الانتقال إلى الصيام أن لا يجد رقبة بقوله : { فمن لم يجد } وهذا واجد وإن وجد ثمنها وهو محتاج إليه لم يلزمه شراؤها وبه قال أبو حنيفة وقال مالك : يلزمه لأن وجدان ثمنها كوجدانها
ولنا أن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى البدل كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم وإن كان له خادم وهو ممن يخدم نفسه عادة لزمه اعتاقها لأنه فاضل عن حاجته بخلاف من لم تجر عادته بخدمة نفسه فإن عليه مشقة في إعتاق خادمه وتضييعا لكثير من حوائجه وإن كان له خادم يخدم امرأته وهي ممن عليه اخدامها أو كان له رقيق يتقوت بخراجهم أو دار يسكنها أو عقار يحتاج إلى غلته لمؤنته أو عرض للتجارة لا يستغني عن ربحه في مؤنته لم يلزمه العتق وإن استغنى عن شيء من ذلك مما يمكنه أن يشتري به رقبة لزمه لأنه واجد للرقبة وإن كانت له رقبة تخدمه يمكنه بيعها وشراء رقبتين بثمنها يستغني بخدمة إحداهما ويعتق الأخرى لزمه لأنه لا ضرر في ذلك وهكذا لو كانت له ثياب فاخرة تزيد على ملابس مثله يمكنه بيعها وشراء ما يكفيه في لباسه ورقبة لزمه ذلك وإن كانت له دار يمكنه بيعها وشراء ما يكفيه لسكنى مثله ورقبة أو ضيعة يفضل منها عن كفايته ما يمكنه شراء رقبة لزمه ويراعى في ذلك الكفاية التي يحرم معها أخذ الزكاة فإذا فضل عن ذلك شيء وجبت فيه الكفارة ومذهب الشافعي في هذا الفصل جميعه على نحو مما قلنا وإن كانت له سرية لم يلزمه اعتاقها لأنه يحتاج إلأيها وإن أمكنه بيعها وشراء سرية أخرى ورقبة يعتقها لم يلزمه ذلك لأن الفرض قد يتعلق بعينها فلا يقوم غيرها مقامها سيما إذا كان بدون ثمنها
فصل : فإن كان موسرا حين وجوب الكفارة إلا أن ماله غائب فإن كان مرجو الحضور قريبا لم يجز الانتقال إلى الصيام لأن ذلك بمنزلة الانتظار لشراء الرقبة وإن كان بعيدا لم يجز الانتقال إلى الصيام في غير كفارة الظهار لأنه لا ضرر في الانتظار وهل يجوز ذلك في كفارة الظهار ؟ فيه وجهان :
أحدهما : لا يجوز لوجود الأصل في ماله فأشبه سائر الكفارات
والثاني : يجوز لأنه يحرم عليه المسيس فجاز له الانتقال لموضع الحاجة فإن قيل فلو عدم المال وثمنه جاز له الانتقال إلى التيمم وإن كان قادرا عليهما في بلده قلنا الطهار تجب لأجل الصلاة وليس له تأخيرها عن وقتها فدعت الحاجة إلى الانتقال بخلاف مسألتنا ولأننا لو منعناه من التيمم لوجود القدرة في بلده بطلت رخصة التيمم فإن كل أحد يقدر على ذلك
فصل : وإن وجد ثمن الرقبة ولم يجد رقبة يشتريها فله الانتقال إلى الصيام كما لو وجد ثمن الماء ولم يجد ما يشتريه وإن وجد رقبة تباع بزيادة على ثمن المثل تجحف بماله لم يلزمه شراؤها لأن فيه ضررا وإن كانت لا تجحف بماله احتمل وجهين :
أحدهما : يلزمه لأنه قادر على الرقبة بثمن يقدر عليه لا يجحف به فأشبه ما لو بيعت بثمن مثلها
والثاني : لا يلزمه لأنه لم يجد رقبة بثمن مثلها أشبه العادم وأصل الوجهين العادم للماء إذا وجده بزيادة على ثمن مثله فإن وجد رقبة بثمن مثلها إلا أنها رقبة رفيعة يمكن أن يشتري بثمنها رقابا من غير جنسها لزمه شراؤها لانها بثمن مثلها ولا يعد شراؤها بذلك الثمن ضررا وإنما الضرر في اعتاقها وذلك لا يمنع الوجوب كما لو كان مالكا لها
مسألة : قال : فإن أفطر فيها من عذر بنى وإن أفطر من غير عذر ابتدأ
أجمع أهل العلم على وجوب التتابع في الصيام في كفارة الظهار وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر ثم قطعه لغير عذر وأفطر عليه استئناف الشهرين وإنما كان كذلك لورود لفظ الكتاب والسنة به ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامهما فلا يفطر فيها ولا يصوم عن غير الكفارة ولا يفتقر التتابع إلى نية ويكفي فعله لأنه شرط وشرائط العبادات لا تحتاج إلى نية وإنما تجب النية لأفعالها وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي والوجه الآخر أنها واجبة لكل ليلة لأن ضم العبادة إلى العبادة إذا كان شرطا وجبت النية فيه كالجمع بين الصلاتين والثالث تكفي نية التتابع في الليلة الأولى
ولنا أنه تتابع واجب في العبادة فلم يفتقر إلى نية كالمتابعة بين الركعات ويفارق الجمع بين الصلاتين فإن ذلك رخصة فافتقر إلى نية الترخص وما ذكروه ينتقض بالمتابعة بين الركعات وأجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعا إذا حاضت قبل إتمامه تقضي إذا طهرت وتبني وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس وفيه تغرير بالصوم لأنها ربما ماتت قبله والنفاس كالحيض في أنه لا يقطع التتابع في أحد الوجهين لأنه بمنزلته في أحكامه ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما وإنما ذلك الزمان كزمان الليل في حقهما
والوجه الثاني : أن النفاس يقطع التتابع لأنه فطر أمكن التحرز منه لا يتكرر كل عام فقطع التتابع كالفطر لغير عذر ولا يصح قياسه على الحيض لأنه أندر منه ويمكن التحرز عنه وإن أفطر لمرض مخوف لم ينقطع التتابع أيضا روي ذلك عن ابن عباس وبه قال ابن المسيب و الحسن و عطاء و الشعبي و طاوس و مجاهد و مالك و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر و الشافعي في القديم وقال في الجديد ينقطع التتابع وهذا قول سعيد بن جبير و النخعي و الحكم و الثوري وأصحاب الرأي لأنه أفطر بفعله فلزمه الاستئناف كما لو أفطر لسفر
ولنا أنه أفطر لسبب لا صنع له فيه فلم يقطع التتابع كإفطار المرأة للحيض وما ذكروه من الأصل ممنوع وإن كان المرض غير مخوف لكنه يبيح الفطر فقال أبو الخطاب فيه وجهان :
أحدهما : لا يقطع التتابع لأنه مرض أباح الفطر أشبه المخوف
والثاني : يقطع التتابع لأنه أفطر اختيارا فانقطع التتابع كما لو أفطر لغير عذر فأما الحامل والمرضع فإن أفطرتا خوفا على أنفسهما فهما كالمريض وإن أفطرتا خوفا على ولديهما ففيهما وجهان :
أحدهما : لا ينقطع التتابع اختاره أبو الخطاب لأنه فطر أبيح لهما بسبب لا يتعلق باختيارهما فلم ينقطع التتابع كما لو أفطرتا خوفا على أنفسهما
والثاني : ينقطع لأن الخوف على غيرهما ولذلك يلزمهما الفدية مع القضاء وإن أفطر لجنون أو إغماء لم ينقطع التتابع لأنه عذر لا صنع له فيه فهو كالحيض
فصل : وإن أفطر لسفر مبيح للفطر فكلام أحمد يحتمل الأمرين وأظهرهما أنه لا يقطع التتابع فإنه قال في رواية الأثرم : كان السفر غير المرض وما ينبغي أن يكون أوكد من رمضان وظاهر هذا أنه لا يقطع التتابع وهذا قول الحسن ويحتمل أن ينقطع به التتابع وهو قول مالك وأصحاب الرأي واختلف أصحاب الشافعي فمنهم من قال فيه قولان كالمرض ومنهم من يقول بنقطع التتابع وجها واحدا لأن السفر يحصل باختياره فقطع التتابع كما لو أفطر لغير عذر
ووجه الأول أنه فطر لعذر مبيح للفطر فلم ينقطع به التتابع كإفطار المرأة بالحيض وفارق الفطر لغير عذر فانه لا يباح وإن أكل يظن أن الفجر لم يطلع وقد كان طلع أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب أفطر ويتخرج في انقطاع التتابع وجهان أحدهما : لا ينقطع لأنه فطر لعذر
والثاني : يقطع التتابع لأنه بفعل أخطأ فيه فأشبه ما لو ظن أنه قد أتم الشهرين فبان خلافه وإن أفطر ناسيا لوجوب التتابع أو جاهلا به أو ظنا منه أنه قد أتم الشهرين انقطع التتابع لأنه أفطر لجهله فقطع التتابع كما لو ظن أن الواجب شهر واحد وإن أكره على الأكل أو الشرب بأن أوجر الطعام أو الشراب لم يفطر وإن أكل خوفا فقال القاضي : لا يفطر ولم يذكر غير ذلك وفيه وجه آخر أنه يفطر فعلى ذلك هل يقطع التتابع ؟ فيه وجهان أحدهما : لا يقطعه لأنه عذر مبيح للفطر فأشبه المرض والثاني : ينقطع التتابع وهو مذهب الشافعي لأنه أفطر بفعله لعذر نادر
فصل : وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر أو قطع التتابع بصوم نذر أو قضاء أو تطوع أو كفارة أخرى لزمه استئناف الشهرين لأنه أخل بالتتابع المشروط ويقع صومه عما نواه لأن هذا الزمان ليس بمستحق متعين للكفارة ولهذا يجوز صومها في غيره بخلاف شهر رمضان فإنه متعين لا يصلح لغيره وإذا كان عليه صوم نذر غير معين أخره إلى فراغه من الكفارة وإن كان متعينا في وقت بعينه أخر الكفارة عنه أو قدمها عليه إن أمكن وإن كان أياما من كل شهر كيوم الخميس أو أيام البيض قدم الكفارة عليه وقضاه بعدها لأنه لو وفى بندره لانقطع التتابع ولزمه الاستئناف فيفضي إلى أن لا يتمكن من التكفير والنذر يمكن قضاؤه فيكون هذا عذرا في تأخيره كالمرض (8/591)
مسائل وفصول : قال فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا وفروع
مسألة : قال : وإن أصابها في ليالي الصوم أفسد ما مضى من صيامه وابتدأ الشهرين
وبهذا قال مالك و الثوري و أبو عبيد وأصحاب الرأي لأن الله تعالى قال : { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } فأمر بها خاليين عن وطء ولم يأت بهما على ما أمر فلم يجزئه كما لو وطئ نهارا ولأنه تحريم للوطء لا يختص النهار فاستوى فيه الليل والنهار كالإعتكاف وروى الأثرم عن أحمد أن التتابع لا ينقطع بهذا ويبني وهو مذهب الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر لأنه وطء لا يبطل الصوم فلا يوجب الاستئناف كوطء غيرها ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم للذي قبله من غير فارق وهذا متحقق وإن وطئ ليلا وارتكاب النهي في الوطء قبل إتمامه إذا لم يخل بالتتابع المشترط لا يمنع صحته وإجزاءه كما لو وطئ قبل الشهرين أو وطئ ليلة أو الشهرين وأصبح صائما والإتيان بالصيام قبل التماس في حق هذا لا سبيل إليه سواء بنى أو استأنف
وإن وطئها أو وطئ غيرها في نهار الشهرين عامدا أفطر وانقطع التتابع إجماعا إذا كان غير معذور وإن وطئها أو وطئ غيرها نهارا ناسيا أفطر وانقطع التتابع في إحدى الروايتين لأن الوطء لا يعذر فيه بالنسيان وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يفطر ولا ينقطع التتابع وهو قول الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر لأنه فعل المفطر ناسيا أشبه ما لو أكل ناسيا وإن أبيح له الفطر لعذر فوطئ غيرها نهارا لم ينقطع التتابع لأن الوطء لا أثر له في قطع التتابع وإن وطئها كان كوطئها ليلا هل ينقطع التتابع ؟ على وجهين وإن وطئ غيرها ليلا لم ينقطع التتابع لأن ذلك ليس بمحرم عليه ولا هو مخل باتباع الصوم فلم ينقطع التتابع كالأكل ليلا وليس في هذا اختلاف نعلمه وإن لمس المظاهر منها أو باشرها دون الفرج على وجه يفطر به قطع التتابع لإخلاله بموالاة الصيام وإلا فلا ينقطع والله أعلم
مسألة : قال : فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا
أجمع أهل العلم على أن المظاهر إذا لم يجد الرقبة ولم يستطع الصيام أن فرضه إطعام ستين مسكينا على ما أمر الله تعالى في كتابه وجاء في سنة نبيه صلى الله عليه و سلم سواء عجز عن الصيام لكبر أو مرض يخاف بالصوم تباطؤه أو الزيادة فيه أو الشبق فلا يصبر فيه عن الجماع [ فإن أوس بن الصامت لما أمره رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصيام قالت إمرأته : يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام قال : فليطعم ستين مسكينا ولما أمر سلمة إبن صخر بالصيام قال : وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام ؟ قال : فاطعم ] فنقعله إلى الإطعام لما أخبره بن من الشبق والشهوة ما يمنعه من الصيام وقسنا على هذين ما يشبههما في معناهما ويجوز أن ينتقل إلى الإطعام إذا عجز عن الصيام للمرض وإن كان مرجو الزوال لدخول في قوله سبحانه وتعالى : { فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا } ولأنه لا يعلم أن له نهاية فأشبه الشبق ولا يجوز أن ينتقل لأجل السفر لأن السفر لا يعجزه عن الصيام وله نهاية ينتهي إليها وهو من أفعاله الاختيارية والواجب في الإطعام إطعام ستين مسكينا لا يجزئه أقل من ذلك وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لو أطعم مسكينا واحدا في ستين يوما أجزأه وحكاه القاضي أبو الحسين رواية عن أحمد لأن هذا المسكن لم يستوف قوت يومه من هذه الكفارة فجاز أن يعطى منها كاليوم الأول
ولنا قول الله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } وهذا لم يطعم إلا واحدا فلم يمتثل الأمر ولأنه لم يطعم ستين مسكينا فلم يجزئه كما لو دفعها إليه في يوم واحد ولأنه لو جاز الدفع إليه في أيام لجاز في يوم واحد كالزكاة وصدقة الفطر يحقق هذا أن الله تعالى أمر بعدد المساكين لا بعدد الأيام وقائل هذا يعتبر عدد الأيام دون عدد المساكين والمعنى في اليوم الأول أنه لم يستوف حقه من هذه الكفارة وفي اليوم الثاني قد استوفى حقه منها وأخذ منها قوت يوم فلم يجز أن يدفع إليه في اليوم الثاني كما لو أوصى إنسان بشيء لستين مسكينا
مسألة : قال : لكل مسكين مد من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير
وجملة الأمر أن قدر الطعام في الكفارات كلها مد من بر لكل مسكين أو نصف صاع من تمر أو شعير وممن قال مد بر زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر حكاه عنهم الإمام أحمد ورواه عنهم الأثرم وعن عطاء و سليمان بن موسى وقال سليمان بن يسار : أدركت الناس إذا أعطوا في كفارة اليمين مدا من حنطة بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه و سلم وقال أبو هريرة : يطعم مدا من أي الأنواع كان وبهذا قال عطاء و الأوزاعي و الشافعي لما روى أبو داود بإسناده عن عطاء عن أوس ابن أخي عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه يعني المظاهر خمسة عشر صاعا من شعير إطعام ستين مسكينا وروى الأثرم بإسناده عن أبي هريرة في حديث المجامع في رمضان أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بعرق فيه خمسة عشر صاعا فقال خذه وتصدق به وإذا ثبت في المجامع بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه ولأنه إطعام واجب فلم يختلف باختلاف أنواع المخرج كالفطرة وفدية الأذى وقال مالك لكل مسكين مدان من جميع الأنواع وممن قال مدان من قمح مجاهد و عكرمة و الشعبي و النخعي لأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام فكان لكل مسكين نصف صاع كفدية الأذى وقال الثوري وأصحاب الرأي : من القمح مدان ومن التمر والشعير صاع لكل مسكين لقول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث سلمة بن صخر : [ فاطعم وسقا من تمر ] رواه الإمام أحمد في المسند و أبو داود وغيرهما وروى الخلال بإسناده عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن خويلة فقال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر ] وفي رواية أبي داود والعرق ستون صاعا وروى ابن ماجة بإسناده عن ابن عباس قال كفر رسول الله صلى الله عليه و سلم بصاع من تمر وأمر الناس : [ فمن لم يجد فنصف صاح من بر ] وروى الأثرم بإسناده عن عمر رضي الله عنه قال أطعم عني صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من ابن عبد البر ولأنه إطعام للمساكين فكان صاعا من التمر والشعير أو نصف صاع من ابن عبد البر كصدقة الفطر
ولنا ما روى الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن أبي يزيد المدني قال جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ف [ قال النبي صلى الله عليه و سلم للمظاهر : أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر ] وهذا نص ويدل على أنه مد بر أنه قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفا فكان إجماعا وعلى أنه نصف صاع من التمر والشعير ما روى عطاء بن يسار [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لخولة امرأة أوس بن الصامت : اذهبي إلى فلان الأنصاري فإن عنده شطر وسق من تمر أخبرني أنه يريد أن يتصدق به فلتأخذيه فليتصدق به على ستين مسكينا ] و [ في حديث أوس بن الصامت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إني سأعينه بعرق من تمر قلت يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر قال : قد أحسنت اذهبي فاطعمي بها عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك ] وروى أبو داود بإسناده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال العرق زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا فعرقان يكونان ثلاثين صاعا لكل مسكين نصف صاع ولأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام فكان لكل مسكين نصف صاع من التمر والشعير كفدية الأذى فأما رواية أبي داود أن العرق ستون صاعا فقد ضعفها وقال غيرها أصح منها وفي الحديث ما يدل على الضعف لأن ذلك في سياق قوله : [ إني سأعينه بعرق فقالت امرأته إن سأعينه بعرق آخر قال : فاطعمي بها عنه ستين مسكينا ] فلو كان العرق ستين صاعا لكانت الكفارة مائة وعشرين صاعا ولا قائل به
وأما حديث المجامع الذي أعطاه خمسة عشر صاعا فقال تصدق به فيحتمل أنه إقتصر عليه إذا لم يجد سواه ولذلك لما أخبره بحاجته إليه أمره بأكله وفي الحديث المتفق عليه قريب من عشرين صاعا وليس ذلك مذهبا ل أحمد فيدل على أنه اقتصر على البعض الذي لم يجد سواه وحديث أوس ابن أخي عبادة مرسل يرويه عنه عطاء ولم يدركه على أنه حجة لنا لأن النبي صلى الله عليه و سلم أعطاه عرقا وأعانته امرأته بآخر فصارا جميعا ثلاثين صاعا وسائر الأخبار تجمع بينها وبين أخبارنا بحملها على الجواز وأخبارنا على الجواز وأخبارنا على الأجزاء وقد عضد هذا أن ابن عباس راوي بعضها ومذهبه أن المد من البر يجزئ وكذلك أبو هريرة وسائر ما ذكرنا من الأخبار مع الإجماع الذي نقله سليمان بن يسار والله أعلم
فصل : وبقي الكلام في الإطعام في أمور ثلاثة : كيفيته وجنس الطعام ومستحقه فأما كيفيته فظاهر المذهب أن الواجب تمليك كل إنسان من المساكين القدر الواجب له من الكفارة ولو غدى المساكين أو عشاهم لم يجزئه سواء فعل ذلك بالقدر الواجب أو أقل أو أكثر ولو غدى كل واحد بمد لم يجزئه إلا أن يملكه إياه وهذا مذهب الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أنه يجزئه إذا أطعمهم القدر الواجب لهم وهو قول النخعي و أبي حنيفة وأطعم أنس في فدية الصيام قال أحمد : أطعم شيئا كثيرا وصنع الجفان وذكر حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس وذلك لقول الله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } وهذا قد أطعمهم فينبغي أن يجزئه ولأنه أطعم المساكين فأجزأه كما لو ملكهم
ولنا أن المنقول عن الصحابة اعطاؤهم ففي قول زيد وابن عباس وابن عمر وأبي هريرة مد لكل فقير و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لكعب في فدية الأذى : أطعم ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين ] ولأنه مال وجب للفقراء شرعا فوجب تمليكهم إياه كالزكاة فإن قلنا يجزئ اشترط أن يغديهم بستين مدا فصاعدا ليكون قد أطعمهم قدر الواجب وإن قلنا لا يجزئه أن يغديهم فقدم إليهم ستين مدا وقال هذا بينكم بالسوية فقبلوه أجزأ لأنه ملكهم التصرف فيه والانتفاع قبل القسمة وهذا ظاهر مذهب الشافعي
وقال أبو عبد الله بن حامد : يجزئه وإن لم يقل بالسوية لأن قوله خذوها عن كفارتي يقتضي التسوية لأن ذلك حكمها وقال القاضي : إن علم أنه وصل إلى كل واحد قدر حقه أجزأ وإن لم يعلم لم يجزئه لأن الأصل شغل ذمته ما لم يعلم وصول الحق إلى مستحقه ووجه الأول أنه دفع الحق إلى مستحقه مشاعا فقبلوه قبرئ منه كديون غرمائه
فصل : ولا يجب التتابع في الإطعام نص عليه أحمد في رواية الأثرم وقيل له تكون عليه كفارة يمين فيطعم اليوم واحدا وآخر بعد أيام وآخر بعد حتى يستكمل عشرة ؟ فلم ير بذلك بأسا وذلك لأن الله تعالى لم يشترط التتابع فيه ولو وطىء في أثناء الإطعام لم تلزمه إعادة ما مضى منه وبه قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يستأنف لأنه وطىء في أثناء كفارة الظهار فوجب الإستئناف كالصيام
ولنا أنه وطىء في أثناء ما لا يشترط التتابع فيه فلم يوجي الاستئناف كوطء غير المظاهر منها أو كالوطء في كفارة اليمين وبهذا فارق الصيام
مسألة : قال : ولو أعطى مسكينا مدين من كفارتين في يوم واحد أجزأ في إحدى الوايتين
وهذا مذهب الشافعي لأنه دفع القدر الواجب إلى العدد الواجب فأجزأ كما كما لو دفع إليه المدين في يومين
والأخرى : لا يجزئه وهو قول أبي حنيفة لأنه استوفى قوت يوم من كفارة فلم يجزئه الدفع إليه ثانيا في يومه كما لو دفعهما إليه من كفارة واحدة فعلى هذه الرواية يجزئه عن إحدى الكفارتين وهل له الرجوع في الأخرى ؟ ينظر فإذ كان أعلمه أنها عن كفارة فله الرجوع وإلا فلا ويخرج أن لا يرجع بشيء على ما ذكرناه في الزكاة والرواية الأولى أقيس وأصح فإن اعتبار عدد المساكين أولى نت اعتبار عدد الأيام ولو دفع إليه ذلك في يومين أجزأ ولأنه لو كان الدافع اثنين أجزأ عنهما فكذلك إذا كان الدافع واحدا ولو دفع ستين مدا إلى ثلاثين فقيرا من كفارة واحدة اجزأه من ذلك ثلاثون ويطعم ثلاثين آخرين وإن دفع الستين من كفارتين أجزأ ذلك على احدى الوايتين ولا يجزىء في الأخرى إلا عن ثلاثين
الأمر الثاني : أن المجزىء في الإطعام ما يجزىء في الفطرة وهو البر والشعير والتمر والزبيب سواء كانت قوته أو لم تكن وما عداها فقال القاضي : لا يجزىء إخراجه سواء كان قوت بلده أو لم يكن لأن الخبر ورد بإخراج هذه الأصناف على ما جاء في الأحاديث التي رويناها ولأنه الجنس المخرج في الفطرة فلم يجزىء غيره كما لو لم يكن قوت بلده وقال أبو الخطاب : عندي أنه يجزئه الإخراج من جميع الحبوب التي هي قوت بلده كالذرة والدخن والأرز لأن الله تعالى قال : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وهذا مما يطعمه أهله فوجب أن يجزئه بظاهر النص وهذا مذهب الشافعي فإن أخرج غير قوت بلده أجود منه فقد زاد خيرا وإن كان أنقص لو يجزئه وهذا أجود
فصل : والأفضل عند أبي عبد الله إخراج الحب لأنه يخرج به من الخلاف وهي حالة كماله لأنه يدخر فيها ويتهيأ لمنافعه كلها بخلاف غيره فإن أخرج دقيقا جاز لكن يزيد على قدر المد قدرا يبلغ المد حبا أو يخرجه بالوزن لأن للحب ربعا فيكون في مكيال الحب أكثر مما في مكيال الدقيق
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله فيعطي البر والدقيق ؟ فقال أما الذي جاء فالبر ولكن إن أعطاهم الدقيق بالوزن جاز وقال الشافعي : لا يجزىء لأنه ليس بحال الكمال لأجل ما يفوت به من وجوه الانتفاع فلم يجز كالهريسة
ولنا قول الله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } والدقيق من أوسط ما يطعمه أهله ولأن الدقيق أجزأ الحنطة وقد كفاهم مؤنته وطحنه وهيأه وقربه من الأكل وفارق الهريسة فإنها تتلف على قرب ولا يمكن الانتفاع بها في غير الأكل في تلك الحال بخلاف مسألتنا وعن أحمد في إخراج الخبز روايتان
إحداهما : يجزىء اختارها الخرقي ونص عليه أحمد في رواية الأثرم فإنه قال قلت لأبي عبد الله رجل أخذ ثلاثة عشر رطلا وثلثا دقيقا وهو كفارة اليمين فخبزه للمساكين وقسم الخبز على عشرة مساكين أيجزئه ذلك ؟ قال ذلك أعجب إلي وهو الذي جاء فيه الحديث أن يطعمهم مد بر وهذا فعل فأرجو أن يجزئه قلت إنما قال الله : { إطعام عشرة مساكين } فهذا اطعم عشرة مساكين وأوفاهم المد قال أرجو أن يجزئه وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ونقل الأثرم في موضع آخر أن أحمد سأله رجل عن الكفارة قال أطعمهم خبزا وتمرا قال ليس فيه تمر قال فخبز ؟ قال لا ولكن برا أو دقيقا بالوزن رطل وثلث لكل مسكين فظاهر هذا أنه لا يجزئه وهو مذهب الشافعي لأنه خرج عن حالة الكمال والادخار فأشبه الهريسة والأول أحسن لأن الله تعالى قال : { إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } وهذا من أوسط ما يطعم أهله وليس الإدخار مقصودا في الكفارة فإنها مقدرة بما يقوت المسكين في يومه فيدل ذلك على أن المقصود كفايته في يومه وهذا قد هيأه للأكل المعتاد للاقتيات وكفاهم مؤنته فأشبه ما لو نقى الحنطة وغسلها
وأما الهريسة والكبولا ونحوها فلا يجزىء لأنهما خرجا عن الإقتيات المعتاد إلى خبز الأدام وأما السويق فالصحيح أنه لا يجزىء لأنه يقتات في بعض البلدان ولا يجزئه من الخبز والسويق أقل من شيء يعمل من مد فإن أخذ مد حنطة أو رطلا وثلثا من الدقيق وصنعه خبزا أجزأه وقال الخرقي : يجزئه رطلان
قال القاضي : المد يجيء رطلان وذلك لأن الغالب أن رطلين من الخبز لا تكون إلا من مد وذلك بالرطل الدمشقي خمس أواق وأقل من خمس أوقية وهذا في البر فأما إن كان المخرج من الشعير فلا يجزئه إلا ضعف ذلك على ما قررناه (8/599)
فصل : ولا تجزىء قيمة الكفارة
فصل : ولا تجزىء القيمة في الكفارة نقلها الميموني و الأثرم وهو مذهب الشافعي وخرج بعض أصحابنا من كلام أحمد رواية أخرى أنه يجزئه وهو ما روى الأثرم أن رجلا سأل أحمد قال : أعطيت في كفارة خمسة دوانيق فقال : لو استشرتني قبل أن تعطي لم أشر عليك ولكن اعط على ما بقي من الأثمان على ما قلت لك وسكت عن الذي أعطى وهذا ليس برواية وإنما سكت عن الذي اعطى لأنه مختلف فيه فلم ير التضييق عليه فيه
الأمر الثالث : أن مستحقي الكفارة هم المساكين الذين يعطون من الزكاة لقول الله تعالى : { فإطعام ستين مسكينا } والفقراء يدخلون فيهم لأن فيهم المسكنة وزيادة ولا خلاف في هذا فأما الأغنياء فلا حق لهم في الكفارة سواء كانوا من أصناف الزكاة كالغزاة والمؤلفة أو لم يكونوا لأن الله تعالى خص بها المساكين واختلف أصحابنا في المكاتب فقال القاضي في المجرد و أبو الخطاب في الهداية : لا يجوز دفعها إليه وهو مذهب الشافعي وقال الشريف أبو جعفر و أبو الخطاب في مسائلهما : يجوز الدفع إليه وهو مذهب أبي حنيفة و أبي ثور لأنه يأخذ من الزكاة لحاجته فأشبه المسكين
ووجه الأول أن الله تعالى خص بها المساكين والمكاتبون صنف آخر فلم يجز الدفع إليهم كالغزاة والمؤلفة ولأن الكفارة قدرت بقوت يوم لكل مسكين وصرفت إلى من يحتاج إليها للاقتيات والمكاتب لا يأخذ لذلك فلا يكون في معنى المسكين ويفارق الزكاة فإن الأغنياء يأخذون منها وهم الغزاة والعاملون عليها والمؤلفة والغارمون ولأنه غني بكسبه أو بسيده فأشبه العامل ولا خلاف بينهم في أنه لا يجوز دفعها إلى عبد لأن نفقته واجبة على سيده وليس هو من أصناف الزكاة ولا إلى مالك ولد لأنها أمة نفقتها على سيدها وكسبها له ولا إلى من تلزمه نفقته وقد ذكرنا ذلك في الزكاة وفي دفعها إلى الزوج وجهان بناء على دفع الزكاة إليه
ولا يجوز دفعها إلى كافر وبهذا قال الشافعي وخرج أبو الخطاب وجها في إعطائهم بناء على الواية في إعتاقهم وهو قول أبي ثور و أصحاب الرأي لأن الله تعالى قال : { إطعام عشرة مساكين } وأطلق فيدخلون في الإطلاق
ولنا أنه كافر فلم يجز الدفع إليه كمساكين أهل الحرب وقد سلمه أصحاب الرأي والآية مخصومة بأهل الحرب فنقيس عليهم سائر الكفار ويجوز صرفها إلى الصغير والكبير إن كان ممن يأكل الطعام وإذا أراد صرفه إلى الصغير فإنه يدفعه إلى وليه يقبض له فغن الصغير لا يصح منه القبض فأما من لا يأكل الطعام فظاهر كلام الخرقي أنه لا يجوز الدفع إليه لأنه لا يأكله فيكون بمنزلة دفع القيمة وقال أبو الخطاب : يجزىء لأنه مسكين يدفع إليه من الزكاة فأشبه الكبير وإذا قلنا يجوز الدفع إلى المكاتب جاز للسيد الدفع من كفارته إلى مكاتبه لأنه يجوز أن يدفع إليه من زكاته (8/611)
فصل : ويجوز دفع الكفارة لمن ظاهره الفقر
فصل : ويجوز دفع الكفارة إلى من ظاهره الفقر فإن بان غنيا فهل تجزئه ؟ فيه وجهان بناء على الوايتين في الزكاة وإن بان كافرا او عبدا لم يجزئه وجها واحدا (8/612)
مسائل وفصول : حكم ما إذا تخلل صوم الظهار زمان لا يصح صومه وفروع أخرى
مسألة : قال : ومن ابتدأ صوم الظهار من أول شعبان أفطر يوم الفطر وبنى كذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة أفطر يوم النحر وأيام التشريق وبنى على ما مضى من صيامه
وجملة ذلك أنه إذا تخلل صوم الظهار زمان لا يصح صومه عن الكفارة مثل أن يبتدىء الصوم من أول شعبان فيتخلله رمضان ويوم الفطر أو يبتدىء من ذي الحجة فيتخلله يوم النحر وأيام التشريق فإن التتابع لا ينقطع بهذا ويبني على ما مضى من صيامه وقال الشافعي : ينقطع التتابع ويلزمه الاستئناف لأنه أفطر في أثناء الشهرين بما كان يمكنه التحرز منه فأشبه إذا أفطر بغير ذلك أو صام عن نذر أو كفارة أخرى
ولنا أنه منعه الشرع عن صومه في الكفارة فلم يقطع التتابع كالحيض والنفاس فإن قال : والحيض والنفاس غير ممكن التحرز منه قلنا : قد يمكن التحرز من النفاس بأن لا تبتدىء الصوم في حال الحمل ومن الحيض إذا كان طهرها يزيد عن الشهرين بأن تبتدى الصوم عقيب طهرها من الحيضة ومع هذا فإنه لا ينقطع التتابع به ولا يجوز للمأموم مفارقة إمامه لغير عذر ويجوز ان يدخل معه المسبوق في أثناء الصلاة مع علمه بلزوم مفارقته قبل إتمامها ويتخرج في أيام التشريق رواية أخرى أنه يصومها عن الكفارة ولا يفطر إلا يوم النحر وحده فعلى هذا إن أفطرها استأنف لأنها أيام أمكنه صيمها في الكفارة ففطرها يقطع التتابع كغيرها إذا ثبت هذا فإنه إن ابتدأ الصوم من أول شعبان أجزأه صوم شعبان عن شهر ناقصا كان أو تاما وأما شوال فلا يجوز أن يبدأ به من أوله لأن أوله يوم الفطر وصومه حرام فيشرع في صومه من اليوم الثاني ويتمم شهرا بالعدد ثلاثين يوما وإن بدأ من أول ذي الحجة إلى آخر المحرم قضى أربعة أيام وأجزأه لأنه بدأ بالشهرين من أولهما ولو ابتدأ صوم الشهرين من يوم الفطر لم يصح صوم يوم الفطر وصح صوم بقية الشهر وصوم ذي القعدة ويحتسب له بذي القعدة ناقصا كان أو تاما لأنه بدأه من أوله وأما شوال فإن كان تاما صام يوما من ذي الحجة مكان يوم الفطر وأجزأه وإن كان ناقصا صام من ذي الحجة يومين لأنه لم يبدأه من أوله وإن بدأ بالصيام من أول أيام التشريق وقلنا يصح صومها عن الغرض فإنه يحتسب له بالمحرم ويكمل صوم ذي الحجة بتمام ثلاثين يوما من صفر وإن قلنا لا يصح صومها عن الفرض صام مكانها من صفر
فصل : ويجوز أن يبتدىء صوم الشهرين من أول شهر ومن أثنائه لا نعلم في هذا خلافا لأن الشهر اسم لما بين الهلالين ولثلاثين يوما فأيهما صام فقد أدى الواجب فإن بدأ من أول شهر فصام شهرين بالأهلة أجزأه ذلك تامين كانا أو ناقصين إجماعا وبهذا قال الثوري وأهل العراق و مالك في الحجاز و الشافعي و أبو ثور و أبو عبيد وغيرهم لأن الله تعالى قال : { فصيام شهرين متتابعين } وهذان شهران متتابعان وإن بدأ من أثناء شهر فصام ستين يوما أجزأه بغير خلاف أيضا قال ابن المنذر أجمع على هذا من نحفظ عنه من اهل العلم فأما إن صام شهرا بالهلال وشهرا بالعدد فصام خمسة عشر يوما من المحرم وصفر جميعه وخمسة عشر يوما من ربيع فإنه يجزئه سواء كان صفر تاما أو ناقصاص لأن الأصل اعتبار الشهور بالأهلة لكن تركناه في الشهر الذي بدأ من وسطه لتعذره ففي الشهر الذي أمكن اعتباره يجب أن يعتبر وهذا مذهب الشافعي وأصحاب الرأي ويتوجه أن يقال لا يجزئه إلا شهران بالعدد لأننا لما ضممنا إلى الخمسة عشر من المحرم خمسة عشر من صفر فصار ذلك شهرا صار ابتداء صوم الشهر الثاني من أثناء شهر أيضا وهذا قول الزهري
فصل : فإن نوى صوم شهر رمضان عن الكفارة لم يجزئه عن رمضان ولا عن الكفارة وانقطع التتابع حاضرا كان أو مسافرا لأنه تخلل صوم الكفارة فطر غير مشروع وقال مجاهد و طاوس يجزئه عنهما وقال أبو حنيفة إن كان حاضرا أجزأه عن رمضان دون الكفارة لأن تعيين النية غير مشترطة لرمضان وإن كان في سفر أجزأه عن الكفارة دون رمضان وقال صاحباه يجزىء عن رمضان دون الكفارة سفرا وحضرا ولنا أن رمضان متعين لصومه محرم صومه من غيره فلم يجزئه عن غيره كيومي العيدين ولا يجزىء عن رمضان لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرىء ما نوى ] وهذا ما نوى رمضان فلا يجزئه ولا فرق بين الحضر والسفر لأن الومان متعين وإنما جاز فطره في السفر رخصة فإذا تكلف وصام رجع إلى الأصل فإن سافر في رمضان المتخلل لصوم الكفارة وأفطر لم ينقطع التتابع لأنه زمن لا يستحق صومه عن الكفارة فلم ينقطع التتابع بفطره كالليل
مسألة : قال : وإذا كان المظاهر عبدا لم يكفر إلا بالصيام وإذا صام فلا يجزئه إلا شهران متتابعان
قد ذكرنا أن ظهار العبد صحيح وكفارته بالصيام لأن الله تعالى قال : { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين } والعبد لا يستطيع الإعتاق فهو كالحر والمعسر وأسوأ منه حالا وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزئه غير الصيام سواء أذن له سيده في التكفير بالعتق أو لم يأذن وحكي هذا عن الحسن و أبي حنيفة و الشافعي وعن أحمد رواية أخرى إن أذن له سيده في التكفير بالمال جاز وهو مذهب الأوزاعي و أبي ثور لأنه بإذن سيده يصير قادرا على التكفير بالمال فجاز له ذلك كالحر وعلى هذه الرواية يجوز له التكفير بالإطعام عند العجز عن الصيام وهل له العتق ؟ على روايتين
إحداهما : لا يجوز وحكي هذا عن مالك وقال أرجو أن يجزئه الإطعام وأنكر ذلك ابن القاسم صاحبه وقال لا يجزئه إلا الصيام وذلك لأن العتق يقتضي الولاء والولاية والإرث وليس ذلك للعبد
والرواية الثانية : له العتق وهو قول الأوزاعي واختارها أبو بكر لأن من صح تكفيره بالإطعام صح بالعتق ولا يمتنع صحة العتق مع انتفاء الإرث كما لو أعتق من يخالفه في دينه ولأن المقصود بالعتق إسقاط الملكية عن العبد وتمليكه نفع نفسه وخلوصه من ضرر الرق وما يحصل من توابع ذلك ليس هو المصقود فلا يمنع من صحته ما يحصل منه المقصود لامتناع بعض توابعه
ووجه الأول أن العبد مال لا يملك المال فيقع تكفيره بالمال بمال غيره فلم يجزئه كما لو أعتق عبد غيره عن كفارته وعلى كلتا الوايتين لا يلزمه التكفير بالمال وإن أذن له سيده فيه لأن فرضه الصيام فلم يلزمه غيره كما لو أذن موسر لحر معسر في التكفير من ماله وإن كان عاجزا عن الصيام فأذن له سيده في التكفير بما شاء من العتق والإطعام فإن له التكفير بالإطعام لأن من لا يلزمه الإعتاق مع قدرته على الصيام لا يلزمه مع عجزه عنه كالحر المعسر ولأن عليه ضررا في التزام المنة الكبيرة في قبول الرقبة ولا يلزم مثل ذلك في الطعام لقلة المنة فيه وهذا فيما إذا أذن له سيده في التكفير قبل العود فإن عاد وجبت الكفارة في ذمته ثم أذن له سيده في التكفير انبنى مع ذلك على أصل آخر وهو أن التكفير هل هو معتبر لحالة الوجوب أو بأغلظ الأحوال ؟ وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى وعلى كل حال فإذا صام لا يجزئه إلا شهران متتابعان لدخوله في عموم قوله تعال : { فصيام شهرين متتابعين } ولأنه صوم في كفارة فاستوى فيه الحر والعبد ككفارة اليمين وبهذا قال الحسن و الشعبي و النخعي و إسحاق ولا نعلم لهم مخالفا إلا مكا روى عن عطاء أنه لو صام شهرا أجزأه وقاله النخعي ثم رجع عنه إلى قول الجماعة
فصل : والاعتبار في الكفارة بحالة الوجوب في أظهر الروايتين وهو ظاهر كلام الخرقي لأنه قال إذا حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق فعليه الصوم لا يجزئه غيره وكذلك قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن عبد حلف على يمين فحنث فيها وهو عبد فلم يكفر حتى عتق أيكفر كفارة حر أو كفارة عبد ؟ قال يكفر كفارة عبد إنما يكفر ما وجب عليه يوم حنث لا يمو حلف قلت له حلف وهو عبد وحنث وهو حر قال يوم حنث واحتج فقال افترى وهو عبد أي ثم أعتق فإنما يجلد جلد العبد وهو احد أقوال الشافعي فعلى هذه الرواية يعتبر يساره وإعساره حال وجوبها عليه فإن كان موسرا حال الوجوب استقر وجوب الرقبة عليه فلم تسقط بإعساره بعد ذلك وإن كان معسرا ففرضه الصوم فإذا أيسر بعد ذلك لم يلزمه الانتقال إلى الرقبة
والرواية الثانية : الاعتبار بأغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى حين التكفير فمتى وجد رقبة فيما بين الوجوب إلى حين التكفير لم يجزئه إلا الإعتاق وهذا قول لـ الشافعي لأنه حق يجب في الذمة بوجود مال فاعتبر فيه أغلظ الحالين كالحج وله قول ثالث أن الإعتبار بحالة الاداء وهو قول أبي حنيفة و مالك لأنه حق له بدل من غير جنسه فكان الاعتبار فيه بحالة الأداء كالوضوء
ولنا أن الكفارة تجب على وجه الطهرة فكان الاعتبار فيها بحالة الوجوب كالحد أو نقول من وجب عليه الصيام في الكفارة لم يلزمه غيره كالعبد إذا اعتق ويفارق الوضوء فإنه لو تيمم ثم وجد الماء بطل تيممه وههنا لو صام ثم قدر على الرقبة لم يبطل صومه وليس الاعتبار في الوضوء بحالة الاداء فغن أداؤه فعله وليس الاعتبار به وإنما الاعتبار بأداء الصلاة وهي غير الوضوء وأما الحج فهو عبادة العمر وجميعه وقت لها فمتى قدر عليه في جزء من وقته وجب بخلاف مسألتنا ثم يبطل ما ذكروه بالعبد إذا أعتق فإنه لا يلزمه الانتقال إلى العتق مع ما ذكروه فإن قيل العبد لم يكن ممن تجب عليه الرقبة ولا تجزئه فلما لم تجزئه الزيادة لم تلزمه بتغير الحال بخلاف مسألتنا قلنا هذا لا أثر له
إذا ثبت هذا فإنه إذا أيسر فأحب أن ينتقل إلى الإعتاق جاز له في ظاهر كلام الخرقي فإنه قال ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي لم يكن عليه الخروج إلا أن يشاء وهذا يدل على أنه إذا شائ فله الانتقال إليه ويجزئه إلا أن يكون الحانث عبدا فليس له إلا إلا الصوم وان عتق وهو قول الشافعي على القول الذي توافقنا فيه وذلك لأن العتق هو الأصل فوجب أن يجزئه كسائر الأصول فأما إن استمر به العجز حتى شرع في الصيام لم يلزمه الانتقال إلى العتق بغير خلاف في المذهب وهو مذهب الشعبي و قتادة و مالك و الأوزاعي و الليث و الشافعي و أبي ثور و ابن المنذر وهو أحد قولي الحسن وذهب ابن سيرين و عطاء و النخعي و الحكم و حماد و الثوري و أبو عبيد و أصحاب الرأي إلى أنه بلزمه العتق لأنه قدر على الأصل قبل أداء فرضه بالبدل فلزمه العود إليه كالمتيمم يجد الماء قبل الصلاة أو في أثنائها
ولنا أنه لم يقدر على العتق قبل تلبسه بالصيام فلم يسقط عنه كما لو استمر العجز إلى بعد الفراغ ولا يشبه الوضوء فإنه لو وجد الماء بعد التيمم بطل وههنا بخلافه ولأنه وجد المبدل بعد الشروع في صوم البدل فلم يلزم الانتقال إليه كالمتمتع يجد الهدي بعد الشروع في صيام لسبعة
فصل : إذا قلنا الاعتبار بحالة الوجوب فوقته في الظهار زمن العود لا وقت المظاهرة لأن الكفارة لا تجب حتى يعود وقته في اليمين زمن الحنث لا وقت اليمين وفي القتل زمن الزهوق لا زمن الحرج وتقديم الكفارة قبل الوجوب تعجيل لها قبل وجوبها سببها كتعجيل الزكاة قبل الحول وبعد وجود النصاب
فصل : فإذا كان المظاهر ذميا فتكفيره بالعتق أو الإطعام لأنه يصح منه في غير الكفارة فصح منه فيها ولا يجوز بالصيام لأنه عبادة محضة والكافر ليس من أهلها ولأنه لا يصح منه في غير الكفارة فلا يصح منه فيها ولا يجزئه في العتق إلا عتق رقبة مؤمنة فإن كانت في ملكه إو ورثها أجزأت عنه وإن لم يكن كذلك فلا سبيل له إلى شراء رقبة مؤمنة لأن الكافر لا يصح منه شراء المسلم ويتعين تكفيره بالإطعام إلا أن يقول لمسلم أعتق عبدك عن كفارتي وعلي ثمنه فيصح في إحدى الروايتين وإن أسلم الذمي قبل التكفير بالإطعام فحكمه حكم العبد يعتق قبل التكفير بالصيام على ما مضى لأنه في معناه وإن ظاهر وهو مسلم ثم ارتد فصام في ردته عن كفارته لم يصح وإن كفر بعتق إو إطعام فقد أطلق أحمد القول أنه لا يجزئه وقال القاضي المذهب أن ذلك موقوف فإن أسلم تبينا أنه أجزأه وإن مات أو قتل بينا لم يصح منه كسائر تصرفاته (8/613)
مسألة : حكم من وطىء قبل أن يكفر
مسألة : قال : ومن وطىء قبل أن يأتي بالكفارة كان عاصيا وعليه الكفارة المذكورة
قد ذكرنا أن المظاهر يحرم عليه وطء زوجته قبل التكفير لقول الله تعالى في العتق والصيام { من قبل أن يتماسا } فإن وطىء عصى ربه لمخالفة أمره وتستقر الكفارة في ذمته فلا تسقط بعد ذلك بموت ولا طلاق ولا غيره وتحريم زوجته عليه باق بحاله حتى يكفر هذا قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و جابر بن زيد و مورق العجلي و أبي مجلز و النخعي و عبد الله بن أذينة و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وروى الخلال عن الصلت بن دينار قال سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل ان يكفر قالوا : ليس عليه إلا كفارة واحدة الحسن و ابن سيرين و بكر المزني و مورق العجلي و عطاء و طاوس و مجاهد و عكرمة و قتادة وقال وكيع وأظن العاشر نافعا وحكي عن عمرو بن العاص أن عليه كفارتين وروى ذلك عن قبيصة و سعيد بن جبير و الزهري و قتادة لأن الوطء يوجب كفارة والظهار موجب بلأخرى وقال أبو حنيفة : لا تثبت الكفارة في ذمته وإنما هي شرط للإباحة بعد الوطء كما كانت قبله وحكي عن بعض الناس أن الكفارة تسقط لأنه فات وقتها لكونها وجبت قبل المسيس
ولنا حديث سلمة بن صخر حين ظاهر ثم وطىء قبل التكفير فأمره النبي صلى الله عليه و سلم بكفارة واحدة ولأنه وجد الظهار والعود فيدخل في عموم قوله تعالى : { ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } وأما قولهم فات وقتها فيبطل بما ذكرناه وبالصلاة وسائر العبادات يجب قضاؤها بعد فوات عتقها (8/621)
مسألة : وإذا قالت المرأة لزوجها أنت علي كظهر أبي
مسألة : قال : وإذا قالت المرأة لزوجها أنت علي كظهر أبي لم تكن مظاهرة ولزمتها كفارة الظهار لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور
وجملة ذلك أن المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي كظهر أبي أو قالت إن تزوجت فلانا فهو علي كظهر أبي فليس ذلك بظهار قال القاضي : لا تكون مظاهرة رواية واحدة وهذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الزهري و الأوزاعي : هو ظهار وروي ذلك عن الحسن و النخعي قال إذا قالت ذلك بعد ما تزوج فليس بشيء ولعلهم يحتجون بأنها أحد الزوجين ظاهر من الآخر فكان مظاهرا كالرجل
ولنا قول الله تعالى : { والذين يظاهرون من نسائهم } فخصهم بذلك ولأنه قول يوجب تحريما في الزوجة يملك الزوج رفعه فاختص به الرجل كالطلاق ولأن الحل في المرأة حق للرجل فلم تملك المرأة إزالته كسائر حقوقه إذا ثبت هذا فاختلف عن أحمد في الكفارة فنقل عنه جماعة عليها كفارة الظهار لما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي فسألت أهل الميدنة فرأوا أن عليها الكفارة وروى علي بن مسهر عن الشيباني قال كنت جالسا في المسجد أنا وعبد الله بن مغفل المزني فجاء رجل حتى جلس إلينا فسألته من أنت فقال أنا مولى لعائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها خطبها مصعب بن الزبير فقالت هو علي كظهر أبي إن تزوجته ثم رغبت فيه فاستفتت أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وهم يومئذ كثير فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه فأعتقتني وتزوجته وروى سعيد هذين الخبرين مختصرين ولأنها زوج أتى بالمنكر من القول والزور فلزمه كفارة الظهار كالآخر ولأن الواجب كفارة يمين فاستوى فيها الزوجان بالله تعالى
والرواية الثانية : ليس عليها كفارة وهو قول مالك و الشافعي و إسحاق و أبي ثور لأنه قول منكر وزور وليس بظهار فلم يوجب كفارة كالسب والقذف ولأنه قول ليس بظهار فلم يوجب كفارة الظهار كسائر الأقوال أو تحريم مما لا يصح منه الظهار فأشبه الظهار من أمته
والرواية الثالثة : عليها كفارة اليمين قال أحمد : قد ذهب عطاء مذهبا حسنا جعله بمنزلة من حرم على نفسه شيئا مثل الطعام وما أشبهه وهذا أقيس على مذهب أحمد وأشبه بأصوله لأنه ليس بظهار ومجرد القول من الشكر والزور لا يوجب كفارة الظهار بدليل سائر الكذب والظهار قبل العود والظهار من أمته وأم ولده ولأنه تحريم لا يثبت التحريم في المحل فلم يوجب كفارة الظهار كتحريم سائر الحلال ولأنه ظهار من غير امرأته فأشبه الظهار من أمته وما روي عن عائشة بنت طلحة في عتق الرقبة فيجوز أن يكون اعتاقها تكفيرا ليمينها فإن عتق الرقبة أحد خصال كفارة اليمين ويتعين حمله على هذا لكون الموجود منها ليس بظهار وكلام أحمد في رواية الأثرم لا يقتضي وجوب كفارة الظهار وإنما قال الأحوط أن تكفر وكذا حكاه ابن المنذر ولا شكل في أن الأحوط التكفير بأغلظ الكفارات ليخرج من الخلاف ولكن ليس ذلك بواجب عليه لأنه ليس بمنصوص عليه ولا هو في معنى المنصوص وإنما هو تحريم للحلال من غير ظهار فأشبه ما لو حرم أمته أو طعامه وهذا قول عطاء والله أعلم (8/622)
فصل : حكم ما لو قلنا بوجوب الكفارة عليها
فصل : وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فلا تجب عليها حتى يطأها وهي مطاوعة فإن طلقها أو مات أحدهما قبل وطئها أو إكراهها على الوطء فلا كفارة عليها لأنها يمين فلا تجب كفارتها قبل الحنث فيها كسائر الأيمان ولا يجب تقديمها قبل المسيس ككفارات سائر الأيمان ويجوز تقديمها لذلك وعليها تمكين زوجها من وطئها قبل التكفير لأنه حق له عليها فلا يسقط بيمينها ولأنه ليس بظهار وإنما هو تحريم للحلال فلا يثبت تحريما كما لو حرم طعامه وحكي أن ظاهر كلام أبي بكر أنها لا تمكنه قبل التكفير إلحاقا بالرجل وليس ذلك بجيد لأن الرجل الظهار منه صحيح ولا يصح ظهار المرأة ولأن الحل حق الرجل فملك رفعه والحل حق عليها فلا تملك إزالته والله أعلم (8/623)
مسألة : وإذا ظاهر امرأته مرارا
مسألة : قال : وإذا ظاهر من زوجته مرارا فلم يكفر فكفارة واحدة
هذا ظاهر المذهب سواء كان في مجلس أو مجالس ينوي بذلك التأكيد أو الاستئناف أو أطلق نقله عن أحمد جماعة واختاره أبو بكر و ابن حامد و القاضي وروى ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال عطاء و جابر بن زيد و طاوس و الشعبي و الزهري و مالك و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وهو قول الشافعي القديم ونقل عن أحمد فيمن حلف أيمانا كثيرة فإن أراد تأكيد اليمين فكفارة واحدة فمفهومه أنه إن نوى الاستئناف فكفارتان وبه قال الثوري و الشافعي في الجديد وقال أصحاب الرأي إن كان في مجلس واحد فكفارة واحدة وإن كان في مجالس فكفارات وروي ذلك عن علي وعمرو بن دينار وقتادة لأنه قول يوجب تحريم الزوجة فإذا نوى الاستئناف تعلق بكل مرة حكم حالها كالطلاق
ولنا أنه قول لم يؤثر تحريما في الزوجة فلم تجب به كفارة الظهار كاليمين بالله تعالى ولا يخفى أنه لم يؤثر تحريما فإنها قد حرمت بالقول الأول ولم يزد تحريمها ولأنه لفظ يتعلق به كفارة فإذا كرره كفاه واحدة كاليمين بالله تعالى وأما الطلاق فما زاد على ثلاث لا يثبت له حكم بالإجماع وبهذا ينتقض ما ذكروه وأما الثالثة فإنها تثبت تحريما زائدا وهو التحريم قبل زوج وإصابة بخلاف الظهار الثاني فإنه لا يثبت به تحريم فنظيره ما زاد على الطلقة الثالثة لا يثبت له حكم فكذلك الظهار الثاني فأما إن كفر عن الأول ثم ظاهر لزمته للثاني كفارة بلا خلاف لأن الظهار الثاني مثل الأول فإنه حرم الزوجة المحللة فأوجب الكفارة كالأول بخلاف ما قبل التكفير (8/624)
فصل : والنية شرط في صحة الكفارة
فصل : والنية شرط في صحة الكفارة لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ إنما الأعمال بالنيات ] ولأن العتق يقع متبرعا به وعن كفارة أخرى أو نذر فلم ينصرف إلى هذه الكفارة إلا بنية وصفتها أن ينوي العتق أو الصيام او الإطعام عن الكفارة فإن زاد الواجبة كان تأكيدا وإلا أجزأت نيته الكفارة وإن نوى وجوبها ولم ينو الكفارة لم يجزئه لأن الوجوب يتنوع عن كفارة ونذر فوجب تمييزه وموضع النية مع التكفير أو قبله بيسير وهذا الذي نص عليه الشافعي وقال به بعض أصحابه وقال بعضهم لا يجزئ حتى يستصحب النية وإن كانت الكفارة صياما اشترط نية الصيام عن الكفارة في كل ليلة لقوله عليه السلام [ لا صيام لمن لم يثبت الصيام من الليل ] وإن اجتمعت عليه كفارات من جنس واحد لم يجب تعيين سببها وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا فعلى هذا لو كان مظاهرا من أربع نساء فأعتق عبدا عن ظهاره أجزأه عن إحداهن وحلت له واحدة غير معينة لأنه واجب من جنس واحد فأجزأته نية مطلقة كما لو كان عليه صوم يومين من رمضان وقياس المذهب أن يقرع بينهن فتخرج بالقرعة المحللة منهن وهذا قول أبي ثور وقال الشافعي له أن يصرفها إلى أيتهن شاء فتحل وهذا يفضي إلى أنه يتخير بين كون هذه المرأة محللة له أو محرمة عليه وإن كان الظهار من ثلاث نسوة فأعتق عبدا عن إحداهن ثم صام شهرين متتابعين عن أخرى ثم مرض فأطعم ستين مسكينا عن أخرى اجزأه وحل له الجميع من غير قرعة ولا تعيين وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال أبو ثور يقرع بينهن فمن تقع لها القرعة فالعتق لها ثم يقرع بين الباقيتين فمن تقع لها القرعة فالصيام لها والإطعام عن الثالثة لأن كل واحدة من هذه الخصال لو انفردت احتاجت إلى قرعة فكذلك إذا اجتمعت
ولنا أن التكفير قد حصل عن الثلاث وزالت حرمة الظهار فلم يحتج إلى قرعة كما لو أعتق ثلاثة أعبد عن ظهارهن دفعة واحدة فأما إن كانت الكفارة من أجناس كظهار وقتل وجماع في رمضان ويمين فقال أبو الخطاب لا يفتقر إلى تعيين السبب وهذا مذهب الشافعي لأنها عبادة واجبة فلم تفتقر صحة أدائها إلى تعيين سببها كما لو كانت من جنس واحد وقال القاضي يحتمل أن يشترط تعيين سببها ولا تجزئ نية مطلقة وحكاه أصحاب الشافعي عن أحمد وهو مذهب أبي حنيفة لأنهما عبادتان من جنسين فوجب تعيين النية لهما كما لو وجب عليه صوم من قضاء ونذر فعلى هذا لو كانت عليه كفارة واحدة لا يعلم سببها فكفر كفارة واحدة أجزأه على الوجه الأول قاله أبو بكر وعلى الوجه الثاني ينبغي أن يلزمه التكفير بعدد أسباب الكفارات كل واحدة عن سبب كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها فإنه يلزمه خمس صلوات ولو علم أن عليه صوم يوم لا يعلم أمن قضاء هو أو نذر لزمه صوم يومين فإن كان عليه صوم ثلاثة أيام لا يدري أهي من كفارة يمين أو قضاء أو نذر لزمه صوم تسعة أيام كل ثلاثة عن واحدة من الجهات الثلاث (8/624)
فصل : أحكام عتق عبدين عن كفارتين
فصل : وإذا كانت على رجل كفارتان فأعتق عنهما عبدين لم يخل من أربعة أحوال أحدها : أن يقول أعتقت هذا عن هذه الكفارة وهذا عن هذه فيجزئه إجماعا
الثاني : أن يقول أعتقت هذا عن إحدى الكفارتين وهذا عن الأخرى من غير تعيين فينظر فإن كانا من جنس واحد ككفارتي ظهار أو كفارتي قتل أجزأه وإن كانتا من جنسين ككفارة ظهار وكفارة قتل خرج على الوجهين في اشتراط تعيين السبب إن قلنا يشترط لم يجزئه واحد منهما وإن قلنا لا يشترط أجزأه عنهما
الثالث : أن يقول أعتقتهما عن الكفارتين فإن كانتا من جنس واحد أجزأ عنهما ويقع كل واحد عن كفارة ولأن عرف الشرع والاستعمال إعتاق الرقبة عن الكفارة فإذا أطلق ذلك وجب حمله عليه وإن كانتا من جنسين خرج على الوجهين
الرابع : أن يعتق كل واحد عنهما جميعا فيكون معتقا عن كل واحدة من الكفارتين نصف العبدين فينبني ذلك على أصل آخر وهو إذا أعتق نصف رقبتين عن كفارة هل يجزئه أو لا ؟ فعلى قول الخرقي يجزئه لأن الأشقاص بمنزلة الأشخاص فيما لا يمنع منه العيب اليسير بدليل الزكاة فإن من ملك نصف ثمانين شاة كان بمنزلة من ملك أربعين ولا تلزم الأضحية فإنه يمنع منه العيب اليسير
وقال أبو بكر و ابن حامد : لا يجزئه وهو قول مالك و أبي حنيفة لأن ما أمر بصرفه إلى شخص في الكفارة لم يجز تفريقه على اثنين كالمد في الإطعام ولأصحاب الشافعي كهذين الوجهين ولهم وجه ثالث وهو أنه إن كان باقيهما حرا أجزأ وإلا فلا لأنه متى كان باقيهما حرا حصل تكميل الأحكام والتصرف وخرجه القاضي وجها لنا أيضا إلا أن للمعترض عليه أن يقول ان تكميل الأحكام ما حصل بعتق هذا وإنما حصل بانضمامه إلى عتق النصف الآخر فلم يجزئه فإذا قلنا لا يجزئ عتق النصفين لم يجزئ في هذه المسألة عن شيء من الكفارتين وإن قلنا يجزئ وكانت الكفارتان من جنس أجزأ العتق عنهما وإن كانتا من جنسين فقد قيل يخرج على الوجهين والصحيح أنه يجزئ وجها واحدا لأن عتق النصفين عنهما كعتق عبدين عنهما (8/626)
فصل : امتناع تقديم كفارة الظهار قبل العتق
فصل : ولا يجوز تقديم كفارة الظهار قبله لأن الحكم لا يجوز تقديمه على سببه فلو قال لعبده أنت حر الساعة عن ظهاري إن تظهرت عتق ولم يجزئه عن ظهاره إن تظاهر لأنه قدم الكفارة على سببها المختص فلم يجز كما لو قدم كفارة اليمين عليها أو كفارة القتل على الجرح ولو قال لامرأته ان دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي لم يجز التكفير قبل دخول الدار لأنه تقديم للكفارة قبل الظهار فإن أعتق عبدا عن ظهاره ثم دخلت الدار عتق العبد وصار مظاهرا ولم يجزئه لأن الظهار معلق على شرط فلا يوجد قبل وجود شرطه وإن قال لعبده إن تظاهرت فأنت حر عن ظهاري ثم قال لامرأته أنت علي كظهر أمي عتق العبد لوجود الشرط وهل يجزئه عن الظهار ؟ فيه وجهان
أحدهما : يجزئه لأنه عتق بعد الظهار وقد نوى إعتاقه عن الكفارة
والثاني : لا يجزئه لأن عتقه مستحق بسبب آخر وهو الشرط ولأن النية لم توجد عند العتق والنية عند التعليق لا تجزئ لأنه تقديم لها على سببها وإن قال لعبده إن تظاهرت فأنت حر عن ظهاري فالحكم فيه كذلك أنه تعليق لعتقه على المظاهرة (8/628)
معنى اللعان ومشروعيته
كتاب اللعان : قال رحمه الله تعالى :
وهو مشتق من اللعن لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا وقال القاضي : سمي بذلك لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا فتحصل اللعنة عليه وهي الطرد والإبعاد
والأصل فيه قول الله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } الآيات [ روى سهل بن سعد الساعدي أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ] متفق عليه وروى أبو داود بإسناده [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فجاء أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهجه حتى أصبح ثم غدا على رسول الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني جئت أهلي فوجدت عندهم رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه و سلم ما جاء به واشتد عليه فنزلت : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم } الآيتين كلتيهما فسري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا قال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي تبارك وتعالى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرسلوا إليها فأرسلوا إليها فتلاها عليهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال هلال : والله لقد صدقت عليها فقالت : كذب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لاعنوا بينهما فقيل لهلال : اشهد فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم قيل اشهدي فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قال : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفا عنها وقال : إن جاءت به أصيهب أريضخ أثيبج حمش الساقين فهو لهلال وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سالغ الأليتيتن فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ] قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرا على مصر وما يدعى لأب ولأن الزوج يبتلى بقذف امرأته لينفي العار والنسب الفاسد وتتعذر عليه البينة فجعل اللعان بينة له ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه و سلم : أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا (9/3)
مسألة وفصلان صفة الزوجين اللذين يصح اللعان بينهما
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : وإذا قذف الرجل زوجته البالغة الحرة المسلمة فقال لها زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين ولم يأت بالبينة لزمه الحد إن لم يلتعن مسلما كان أو كافرا حرا كان أو عبدا
الكلام في هذه المسألة في فصول :
الفصل الأول : في صفة الزوجين اللذين يصح اللعان بينهما وقد اختلفت الرواية فيهما فروي أنه يصح من كل زوجين مكلفين سواء كانا مسلمين أو كافرين أو عدلين أو فاسقين أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك وبه قال سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار و الحسن و ربيعة و مالك و إسحاق قال أحمد في رواية ابن منصور : جميع الأزواج يلتعنون الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة وكذلك العبد من الحرة والأمة إذا كانت زوجة وكذلك المسلم من اليهودية والنصرانية وعن أحمد رواية أخرى : لا يصح اللعان إلا من زوجين مسلمين عدلين حرين غير محدودين في قذف وروي هذا عن الزهري و الثوري و الأوزاعي و حماد وأصحاب الرأي وعن مكحول ليس بين المسلم والذمية لعان وعن عطاء و النخعي في المحدود في القذف يضرب الحد ولا يلاعن وروي فيه حديث لا يثبت كذلك قال الشافعي و الساجي لأن اللعان شهادة بدليل قوله سبحانه : { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } فاستثنى أنفسهم من الشهداء وقال تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات } فلا يقبل ممن ليس من أهل الشهادة وإن كانت المرأة ممن لا يجد بقذفها لم يجب اللعان لأنه يراد لإسقاط الحد بدليل قوله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } ولا حد ههنا فينتفي اللعان لانتفائه
وذكر القاضي في المجرد أن من لا يجب الحد بقدفها وهي الأمة والذمية والمحدودة في الزنا لزوجها لعانها لنفي الولد خاصة وليس له لعانها القذف والتعزير لأن الحد لا يجب واللعان إنما يشرع لإسقاط حد أو نفي ولد فإذا لم يكن واحد منهما لم يشرع اللعان
ولنا عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } الآية ولأن اللعان يمين فلا يفتقر إلى ما شرطوه كسائر الأيمان ودليل أنه يمين [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ] وأنه يفتقر إلى إسم الله تعالى ويستوي فيه الذكر والأنثى
وأما تسميتة شهادة فلقوله في يمينه أشهد بالله فسمى ذلك شهادة وإن كان يمينا كما قال الله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } ولأن الزوج يحتاج إلى نفي الولد فيشرع له طريقا إلى نفيه كما لو كانت امرأته ممن يحد بقذفها وهذه الرواية هي المنصوصة عن أحمد في رواية الجماعة وما يخالفها شاذ في النقل
وأما قول الخرقي : وإذا قذف زوجته البالغة الحرة المسلمة فيحتمل أنه شرط هذا لوجوب الحد عليه لا لنفي اللعان ويحتمل أن يكون هذا شرطا عنده في المرأة لتكون ممن يجب عليه الحد بقذفها فينفيه باللعان ولا يشترط في الزوج شيء من ذلك لأن الحد يجب عليه بقذف المحصنة وإن كان ذميا أو فاسقا فأما قوله مسلما كان أو كافرا ففيه نظر لأنه أوجب عليه بقذف زوجته المسلمة والكافر لا يكون زوجا لمسلمة فيحتاج إلى تأويل لفظه بحمله على أحد شيئين أحدهما : أنه أراد أن الزوج يلاعن زوجته وإن كان كافرا فرد ذلك إلى اللعان لا إلى الحد الثاني : أنه أراد ما إذا أسلمت زوجته فقذفها في عدتها ثم أسلم الزوج فإنه يلاعن
فصل : ولا فرق بين كون الزوجة مدخولا بها أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من علماء الأمصار منهم عطاء و الحسن و الشعبي و النخعي و عمرو بن دينار و قتادة و مالك وأهل المدينة و الثوري وأهل العراق و الشافعي بظاهر قول الله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } فإن كانت غير مدخول بها فلها نصف الصداق لأنها فرقة منه كذلك قال الحسن و سعيد بن جبير و قتادة و مالك وفي رواية أخرى لا صداق لها لأن الفرقة حصلت بلعانهما جميعا فأشبه الفرقة لعيب في أحدهما (9/5)
فصل لعان غير المكلف
فصل : فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما لأنه قول تحصل به الفرقة ولا يصح من غير المكلف كالطلاق أو يمين فلا تصح من غير المكلف كسائر الايمان ولا يخلو غير المكلف من أن يكون الزوج أو الزوجة أو هما فإن كان الزوج فله حالان أحدهما : أن يكون طفلا والثاني : أن يكون بالغا زائل العقل فإن كان طفلا لم يصح منه القذف ولا يلزمه به حد لأن القلم مرفوع عنه وقوله غير معتبر وأن أتت امرأته بولد نظرنا فإن كان لدون عشر سنين لم يلحقه الولد ويكون منفيا عنه لأن العلم يحيط به بأنه ليس منه فإن الله عز و جل لم يجر العادة بأن يولد له لدون ذلك فينتفي عنه كما لو أتت به المرأة لدون ستة أشهر منذ تزويجها
وإن كان ابن عشر فصاعدا فقال أبو بكر لا يلحق به إلا بعد البلوغ أيضا لأن الولد لا يخلق إلا من جاء الرجل والمرأة ولو أنزل لبلغ وقال ابن حامد يلحق به قال القاضي وهو ظاهر كلام أحمد وهذا مذهب الشافعي لأن الولد يلحق بالإمكان وإن خالف الظاهر ولهذا لو أتت بولد لستة أشهر من حين العقد لحق بالزوج وإن كان خلاف الظاهر وكذلك يلحق به إذا أتت به لأربع سنين مع ندرته وليس له نفيه في الحال حتى يتحقق بلوغه بأحد أسباب البلوغ فله نفي الولد واستلحاقه فإن قيل : فإذا ألحقتم به الولد فقد حكمتم ببلوغه فهلا سمعتم نفيه ولعانه ؟ قلنا إلحاق الولد يكفي فيه الإمكان والبلوغ لا يثبت إلا بسبب ظاهر ولأن إلحاق الولد به حق عليه واللعان حق له فلم يثبت مع الشك فإن قيل فإن لم يكن بالغا انتفى عنه الولد وإن كان بالغا انتفى عنه اللعان قلنا إلا أنه لا يجوز أن يبتدىء اليمين مع الشك في صحتها فسقطت للشك فيها
الثاني : إذا كان زائل العقل لجنون فلا حكم لقذفه لأن القلم عنه مرفوع أيضا وإن أتت امرأته بولد فنسبه لا حق به لإمكانه ولا سبيل إلى نفيه مع زوال عقله فإذا عقل فله نفي الولد حينئذ واستلحاقه وإن ادعى أنه ان ذاهب العقل حين قذقه وأنكرت ذلك ولأحدهما بينة بما قال ثبت قوله وإن لم يكن لواحد منهما بينة ولم يكن له حالة علم فيها زوال عقله فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل والظاهر الصحة والسلامة وإن عرفت له حالة جنون ولم تعرف له حالة إفاقة فالقول قوله مع يمينه وإن عرفت له حالة جنون وحالة إفاقة ففيه وجهان أحدهما :
القول قولها قال القاضي هذا قياس قول أصحابنا في الملفوف إذا ضربه فقده ثم ادعى أنه كان ميتا وقال الولي كان حيا والوجه الثاني : أن القول قوله لأن الأصل براءة ذمته من الحد فلا يجب بالشك ولأن الحد يسقط بالشبهة ولا يشبه هذا الملفوف لأن الملفوف قد علم أنه كان حيا ولم يعلم منه ضد ذلك فنظيره في مسألتنا أنه يعرف له حالة إفاقة ولا يعلم منه ضدها وفي مسألتنا قد تقدم في مسألتنا قد تقدم له حالة جنون فيجوز أن تكون قد استمرت إلى حين قذفه وأما إن كانت الزوجة غير مكلفة فقذفها الزوج نظرنا فإن كانت طفلة لا يجامع مثلها فلا حد على قاذفها لأنه قول يتقين كذبه فيه وبراءة عرضها منه فلم يجب به حد كما لو قال : أهل الدنيا زناة ولكنه يعزر للسبب لا للقذف فلا يحتاج في التعزيز إلى مطالبة لأنه مشروع لتأديبه وللإمام فعله إذا رأى ذلك فإن كانت يجامع مثلها كابنة تسع سنين فعليه الحد وليس لوليها ولا لها المطالبة به حتى تبلغ فإذا بلغت فطالبت فلها الحد وله إسقاطه باللعان وليس له لعانها قبل البلوغ لأن اللعان يراد لإسقاط الحد أو نفي الولد ولا حد عليه قبل بلوغها ولا ولد فينفيه فإن أتت بولد حكم ببلوغها لأن الحمل أحد أسباب البلوغ ولأنه لا يكون إلا من نطفتها فمن ضرورته إنزالها وهو من أسباب بلوغها وإن قذف امرأته المجنونة بزنا أضافه إلى حال إفاقتها أو قذفها وهي عاقة ثم حنث لم يكن لها المطالبة ولا لوليها قبل إفاقتها لأن هذا طريقه التشفي فلا ينوب عنه الولي فيه كالقصاص فإذا أفاقت فلها المطالبة بالحد وللزوج إسقاطه باللعان فإن أراد لعانها في حال جنونها ولا ولد ينفيه لم يكن له ذلك لعدم الحاجة إليه لأنه لم يتوجه عليه حد فيسقطه ولا نسب فينفيه وإن كان هناك ولد يريد نفيه فاذي يقتضيه المذهب أنه لا يلاعن ويلحقه الولد لأن الولد إنما ينتفي باللعان من الزوجين وهذه لا يصح منها لعان وقد نص أحمد في الخرساء أن زوجها لا يلاعن ويلحقه الولد لأن الولد إنما ينتفي باللعان من الزوجين وهذا لا يصح منها لعان وقد نص أحمد في الخرساء أن زوجها لا يلاعن فهذه أولى وقال الخرقي في العاقلة لا يعرض له حتى تطالبه زوجته وهذا قول أصحاب الرأي لأنه أحد الزوجين فلم يشرع اللعان مع جنونه كالزوج ولأن لعان الزوج وحده لا ينتفي به الولد فلا فائدة في مشروعيته وقال القاضي : له أن يلاعن لنفي الولد لأنه محتاج إلى نفيه فشرع له طريق إلى نفيه وقال الشافعي : له أن يلاعن وظاهر مذهبه أن له لعانها مع عدم الولد لدخوله في عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ولأنه زوج مكلف قاذف لامرأته التي يولد لمثلها فكان له أن يلاعنها كما لو كانت عاقلة (9/8)
فصول لعان الأخرس
فصل : فأما الأخرس والخرساء فإن كانا غير معلومي الإشارة والكتابة فهما كالمجنونين فيما ذكرناه لأنه لا يتصور منهما لعان ولا يعلم من الزوج قذف ولا من المرأة مطالبة وإن كانا معلومي الإشارة والكتابة فقد قال أحمد : إذا كانت المرأة خرساء لم تلاعن لأنه لا تعلم مطالبتها وحكاه ابن المنذر عن أحمد و أبي عبيد وأصحاب الرأي وكذلك ينبغي أن يكون في الأخرس وذلك لأن اللعان لفظ يفتقر إلى الشهادة فلم يصح من الأخرس كالشهادة الحقيقية ولأن الحد يدرأ بالشهبات والشهادة لنسبه صريحة كالنطق فلا يخلو من احتمال وتردد فلا يجب الحد بها كما لا يجب على أجنبي بشهادته وقال القاضي وأبو الخطاب : هو كالناطق في قذفه ولعانه وهو مذهب الشافعي لأنه يصح طلاقه فصح قذفه ولعانه كالناطق ويفارق الشهادة لأنه يمكن حصولها من غيره فلم تدع الحاجة إلى الأخرس وفي اللعان لا يحصل إلا منه فدعت الحاجة إلى قبوله منه كالطلاق والأول أحسن لأن موجب القذف وجوب الحد وهو يدرأ بالشهادة ومقصود اللعان الأصلي نفي النسب وهو يثبت بالإمكان مع ظهور انتفائه فلا ينبغي أن يشرع ما ينفيه ولا ما يوجب الحد مع الشبهة العظيمة ولذلك لم تقبل شهادته وقولهم إن الشهادة تحصل من غيره قلنا قد لا تحصل إلا منه لاختصاصه برؤية المشهود له أو إسماعه إياه
فصل : فإن قذف الأخرس أو لاعن ثم تكلم فأنكر القذف واللعان لم يقبل إنكاره للقذف لأنه قد تعلق به حق لغيره بحكم الظاهر فلا يقبل إنكاره له ويقبل إنكاره اللعان فيما عليه فيطالب بالحد ويلحقه النسب ولا تعود الزوجية فإن قال أنا ألاعن للحد ونفي النسب كان له ذلك لأنه إنما لزمه بإقراره أنه لم يلاعن فإذا أراد أن يلاعن كان له ذلك
فصل : فإن قذفها وهو ناطق ثم خرس وأيس من نطقه فحكمه حكم الأصلي وإن رجي عود نطقه وزوال خرسه انتظر به ذلك ويرجع في معرفة ذلك إلى قول عدلين من أطباء المسلمين وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وذكر بعضهم أنه يلاعن في الحالين بالإشارة لأن أمامة بنت أبي العاص أصمتت فقيل لها لفلان كذا ولفلان كذا ؟ فاشارت أن نعم فرأوا أنها وصية وهذا لا حجة فيه لأنه لم يذكر من الراوي لذلك ولم يعلم أنه قول من قوله حجة ولا علم هل كان ذلك لخرس يرجى زواله أو لا ؟ وقال أبو الخطاب فيمن اعتقل لسانه وأيس من نطقه هل يصح لعانه بالإشارة ؟ على وجهين : (9/11)
فصل لحوق النسب إذا قذف الرجل زوجته ما لم يكن لعان
فصل : وكل موضع لالعان فيه فالنسب لاحق فيه ويجب بالقذف موجبه من الحد والتعزير إلا أن يكون القاذف صبيا أو مجنونا فلا ضرب فيه ولا لعان كذلك قال الثوري و مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال : ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم (9/13)
فصل تعليل تسمية المرأة فراشا وحكم دعوى الاستبراء
الفصل الثاني : أنه لا لعان بين غير الزوجين فإذا قذف أجنبية محصنة حد ولم يلاعن وإن لم تكن محصنة عزر ولا لعان أيضا ولا خلاف في هذا وذلك لأن الله تعالى قال : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ثم خص الزوجات من عموم هذه الآية بقوله : { والذين يرمون أزواجهم } ففيما عداهن يبقى على قضية العموم وإن ملك أمة ثم قذفها فلا لعان سواء كانت فراشا له أو لم تكن ولا حد عليه بقذفها ويعزر فإن أتت بولد نظرنا فإن لم يعترف بوطئها لم يحلقه نسبه ولم يحتج إلى نفيه وإن اعترف بوطئها فراشا له وإذا أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطء لحقه وبهذا قال مالك و الشافعي وقال الثوري و أبو حنيفة لا تصير فراشا له حتى يقر بولدها فإذا أقر به صارت فراشا له ولحقه أولادها بعد ذلك لأنها لو صارت فراشا بالوطء لصارت فراشا بإباحته كالزوجة
[ ولنا أن سعدا نازع عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة فقال هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر ] متفق عليه وروى ابن عمر عن عمر رضي الله عنه قال : ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلونهن لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا ولأن الوطء يتعلق به تحريم المصاهرة فإذا كان مشروعا صارت به المرأة فراشا كالنكاح ولأن المرأة إنما سميت فراشا تجوزا إما لمضاجعته لها على الفراش وإما لكونها تحته في حال المجامعة وكلا الأمرين يحصل في الجماع وقياسهم الوطء على الملك لا يصح لأن الملك لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا يحصل منه الولد بدون الوطء ويفارق النكاح فإنه لا يراد للوطء ويتعلق به تحريم المصاهرة ولا ينعقد في محل يحرم الوطء فيه كالمجوسية والوثنية وذواتي محارمه إذا ثبت هذا فإن أراد نفي ولد أمته التي يلحقه ولدها فطريقه أن يدعي أنه استبرأها بعد وطئه لها بحيضه فينتفي بذلك وإن ادعى أنه كان يعزل عنها لم ينتف عنه بذلك لما روى جابر قال : [ جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إن لي جارية وأنا أطوف عليها وأنا أكره أن تحمل فقال : اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها قال : فلبث الرجل ثم أتاه فقال : إن الجارية قد حملت قال : قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها ] رواه أبو داود وروي عن أبي سعيد أنه قال : كنت أعزل عن جارتي فولدت احب الخلق إلي يعني ابنه ولحديث عمر الذي ذكرناه ولأنه حكم تعلق بالوطء فلم يعتبر معه الإنزال كسائر الأحكام وقد قيل إنه ينزل من الماء ما لا يحس به وإن أقر بالوطء دون الفرج أو في الدبر لم تصر بذلك فراشا لأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولنه ينتفي عنه الولد بدعوى الاستبراء إذا أتت به بعد الاستبراء بمدة الحمل فههنا أولى وروي عن أحمد أنها تصير فراشا لأنه قد يجامع فيسبق الماء إلى الفرج ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا ادعى الاستبراء قبل قوله بغير يمين في أحد الوجهين لأن من قبل قوله في الاستبراء قبل بغير يمين كالمرأة تدعي انقضاء عدتها وفي الآخر يستحلف وهو مذهب الشافعي لعموم [ قوله عليه السلام : ولكن اليمين على المدعى عليه ] ولأن الاستبراء غير مختص به فلم يقبل فيه بغير يمين كسائر الحقوق بخلاف العدة ومتى لم يدع الاستبراء لحقه ولدها ولم ينتف عنه وقال الشافعي في أحد قوليه : له نفيه باللعان لأنه لم يرض به فأشبه ولد المرأة
ولنا قوله تعالى { والذين يرمون أزواجهم } فخص بذلك الأزواج ولأنه ولد يلحقه نسبه من غير الزوجة فلم يملك نفيه باللعان كما لو وطىء أجنبية بشبهة فألحقت القافة ولدها به ولأن له طريقا إلة نفي الولد بغير اللعان فلم يحتج إلى نفيه باللعان فلا يشرع ولأنه إذا وطىء أمته ولم يستبرئها فأتت بولد احتمل أن يكون منه فلم يجز له نفيه لكون النسب يلحق بالإمكان فكيف مع ظهور وجود سببه ؟ ولو ادعى الاستبراء فأتت بولدين فأقربأحدهما ونفى الآخر لحقاه معا لأنه لا يمكن جعل أحدهما منه والآخر من غيره وهما حمل واحدولا يجوز نفي الولد المقر به عنه مع إقراره به فوجب إلحاقهما به معا وكذلك إن أتت أمته التي لم يعترف بوطئها بتوأمين فاعترف بأحدهما ونفى الآخر (9/13)
فصل حكم المرأة المنكوحة نكاحا فاسدا ثم قذفها
فصل : وإذا نكح امرأة نكاحا فاسدا ثم قذفها وبينهما ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه ولا حد عليه وإن لم يكن بينهما ولد حد ولا لعان بينهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يلحقه الولد وليس له نفيه ولا اللعان لأنها أجنبية فأشبهت سائر الأجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد
ولنا أن هذا ولد يلحقه بحكم عقد النكاح فكان له نفيه كما لو كان النكاح صحيحا ويفارق إذا لم يكن ولد فإنه لا حاجة إلى القذف لكونها أجنبية ويفارق سائر الأجنبيات لأنه لا يلحقه ولدهن فلا حاجة به إلى قذفهن ويفارق الزوجة فإنه يحتاج إلى قذفها مع عدم الولد لكونها خانته وغاظته وأفسدت فإذا كان له منها ولد فالحاجة موجودة فيهما وإذا لاعن سقط الحد لأنه لعان مشروع لنفي الحد فأسقط الحد كاللعان في النكاح الصحيح وهل يثبت التحريم المؤبد ؟ فيه وجهان :
احدهما : يثبته لأنه لعان صحيح أشبه لعان الزوجة
والثاني : لا ثبته لأن الفرقة لم تحصل به فإنه لا نكاح بينهما يحصل قطعة به بخلاف لعان الزوجة فإن الفرقة حصلت به ولو لاعنها من غير ولد لم يسقط الحد ولم يثبت التحريم المؤبد لأنه لعان فاسد فلم تثبت أحكامه وسواء أعتقد أن النكاح صحيح أو لم يعتقد ذلك لأن النكاح في نفسه ليس بنكاح صحيح فأشبه ما لو لاعن أجنبية يظنها زوجته (9/16)
فصل حكم الذي أبان زوجته ثم قذفها
فصل : فلو أبان زوجته ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال الزوجية فهي كالمسألة التي قبلها إن كان بينهما ولد يريد نفيه فله أن ينفيه باللعان وإلا حد ولم يلاعن وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة يحد ويلحقه الولد ولا يلاعن وهو قول عطاء ووجه المذهبين ما تقدم في التي قبلها وقال عثمان البتي : له أن يلاعن وإن لم يكن بينهما ولد وروي عن ابن عباس و الحسن أنه يلاعنها لأنه قذف مضاف إلى حال الزوجية أشبه ما لو كانت زوجته
ولنا أنه إذا كان بينهما ولد فيه حاجة إلى القذف فشرع كما لو قذفه وهي زوجته وإذا لم يكن له ولد فلا حاجة به إليه وقد قذفها وهي أجنبية فأشبه ما لو لم يضفه إلى حال الزوجية ومتى لاعنها لنفي ولدها انتفى وسقط عنه الحد وفي ثبوت التحريم المؤبد وجهان وهل له أن يلاعنها قبل وضع الولد ؟ فيه وجهان :
أحدهما : له ذلك لأن من كان له لعانها بعد الوضع كان له لعانها قبله كالزوجة
والثاني : ليس له ذلك وهو ظاهر قول الخرقي لأن الولد عنده لا ينتفي في حال الحمل ولأن اللعان إنما يثبت ههنا لأجل الولد فلم يجز أن يلاعن إلا بعد تحققه بوضعه بخلاف الزوجة فإنه يجوز لعانها مع عدم الولد وهكذا الحكم في نفي الحمل في النكاح الفاسد (9/17)
فصول قذف الرجل لمطلقته الرجعية وللأجنبية ثم تزويجها
فصل إذا اشترى زوجته الأمة ثم أقر بوطئها ثم أتت بولد لستة أشهر كان لاحقا له ولم ينتف عنه إلا بدعوى الاستبراء لأنه ملحق به بالوطء في الملك دون النكاح لكون الملك حاضرا فصار كالزوج الثاني يلحق به الولد وإن أمكن أن يكون من الأول وإن لم يكن أقر بوطئها أو أقر به فأتت بولد لدون ستة أشهر منذ وطىء كان ملحقا بالنكاح إن أمكن ذلك وله نفيه باللعان وهل يثبت هذا اللعان التحريم المؤبد ؟ على وجهين :
فصل : إذا قذف مطلقته الرجعية فله لعانها سواء كان بينهما ولد أم أو لم يكن قال أبو طالب : سألت أبا عبد الله عن الرجل يطلق تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال : قال ابن عباس : لا يلاعن ويجلد وقال ابن عمر : يلاعن ما دامت في العدة قال : وقول ابن عمر أجود لأنها زوجته وهو يرثها وترثه فهو يلاعن وبهذا قال جابر بن زيد و النخعي و الزهري و قتادة و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور و أصحاب الرأي وروي ذلك عن ابن عمر لأن الرجعية زوجة فكان له لعانها كما لو لم يطلقها
فصل : وإن قذف زوجته ثم أبانها فله لعانها نص عليه أحمد سواء كان له ولد أو لم يكن روي ذلك عن ابن عباس وبه قال الحسن و القاسم بن محمد و مكحول و مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر وقال الحارث العكلي و جابر بن زيد و قتادة و الحكم : يجلد وقال حماد بن أبي سليمان و أصحاب الرأي : لا حد ولا لعان لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين ولا يحد لأنه لم يقذف أجنبية :
ولنا قول الله تعالى { والذين يرمون أزواجهم } وهذا قد رمى زوجته فيدخل في عموم الآية وإذا لم يلاعن وجب الحد بعموم قوله : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ولأنه قاذف لزوجته فوجب أن يكون له أن يلاعن كما لو كانا على النكاح إلى حالة اللعان
فصل : وإن قالت قذفني قبل أن يتزوجني وقال بل بعده أو قالت قذفني بعد ما بنت منه وقال بل قبله فالقول قوله لأن القول قوله في أصل القذف فكذلك في وقته وإن قالت أجنبية قذفني فقال كنت زوجتي حينئذ فأنكر الزوجية فالقول قولها لأن الأصل عدمها
فصل : ولو قذف أجنبية ثم تزوجها فعليه الحد ولا يلاعن لأنه وجب في حال كونها أجنبية فلم يملك اللعان من أجله كما لو لم يتزوجها وإن قذفها بعد تزوجها بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن سواء كان ثم ولد أو لم يكن وهو قول مالك و أبي ثور وروي ذلك عن سعيد بن المسيب و الشعبي وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي : له أن يلاعن لأنه قذف امرأته فيدخل في عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى كذلك وقال الشافعي : إن لم يكن ثم ولد لم يلاعن وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان
ولنا أنه قذفها قذفا مضافا إلى حال البينونة أشبه ما لو قذفها وهي بائن وفارق الزوجة لأنه محتاج إليه لأنها غاظتة وخانته وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه وههنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها فهو المفرط في نكاح حامل من الزنا فلا يشرع له طريق إلى نفيه (9/18)
فصول وجوب اللعان في جميع أنواع القذف
فصل : ولو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا يا زانية فنقل مهنا قال : سألت أحمد عن رجل قال لامرأته أنت طالق يا زانية ثلاثا فقال : يلاعن قلت : إنهم يقولون يحد ولا يلزمها إلا واحدة قال : بئس ما يقولون فهذا يلاعن لأنه قذفها قبل الحكم ببينونتها فأشبه قذف الرجعية
وأما في المسألة الأولى فإن كان بينهما ولد فإنه يلاعن لنفيه وإلا حد ولم يلاعن لأنه يتعين إضافة القذف إلى حال الزوجية لاستحالة الزنا منها بعد طلاقه لها فصار كأنه قال لها بعد إبانتها : زنيت إذ كنت زوجتي على ما قررناه
الفصل الثالث : إن كل قذف للزوجة يجب به اللعان سواء قال لها زنيت أو رأيتك تزنين سواء كان القذف أعمى أو بصيرا نص عليه أحمد وبهذا قال الثوري و الشافعي و أبو عبيد و ابو ثور وهو قول عطاء
وقال يحيى الأنصاري وأبو زناد و مالك : لا يكون اللعان إلا بأحد أمرين : إما رؤية وإما إنكار للحمل لأن آية اللعان نزلت في هلال بن أمية وكان قال : رأيت بعيني وسمعت باذني فلا يثبت اللعان إلا في مثله
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } الآية وهذا رام لزوجته فيدخل في عموم الآية ولأن اللعان معنى يتخلص به من موجب القذف فيشرع في حق كل رام لزوجته كالبينة والأخذ بعموم اللفظ أولى من خصوص السبب ثم لم يعملوا به في قوله وسمعت بأذني وسواء قذفها بزنا في القبل أو في الدبر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يثبت اللعان بالقذف بالوطء في الدبر وبناه على أصله في ان ذلك لا يجب به الحد
ولنا أنه رام لزوجته بوطء في فرجها فأشبه ما لو قذفها بالوطء في قبلها وأما إن قذفها بالوطء دون الفرج أو بشيء من الفواحش غير الزنا فلا حد عليه ولا لعان لأنه قذفها بما لا يجب به الحد فلم يثبت به الحد واللعان كما لو قذفها بضرب الناس وأذاهم
الفصل الرابع : أنه إذا قذف زوجته المحصنة وجب عليه الحد وحكم بفسقه ورد شهادته إلا أن يأتي ببينة أو يلاعن فإن لم يأت بأربعة شهداء أو امتنع من اللعان لزمه ذلك كله وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة يجب اللعان دون الحد فإن أبى حبس حتى يلاعن لأن الله تعالى قال : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات } الآيات فلم يوجب بقذف الأزواج إلا اللعان
ولنا قول الله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } وهذا عام في الزوج وغيره وإنما خص الزوج بأن أقام لعانه مقام الشهادة في نفي الحد والفسق ورد الشهادة عنه وأيضا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : البينة ولا حد في ظهرك ] وقوله لما لاعن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ولأنه قاذف يلزمه الحد لو أكذب نفسه فلزمه إذ لم يأت بالبينة المشروعة كالأجنبي فأما إن قذف غيرها كالكتابية والأمة والمجنونة والطفلة فإنه يجب عليه التعزير بذلك لأنه أدخل عليهن المعرة بالقذف ولا يحد لهن حدا كاملا لنقصانهن بذلك ولا يتعلق به فسق ولا رد شهادة لأنه لا يوجب الحد قال القاضي : وليس له إسقاط هذا التعزير باللعان لأن اللعان إما لنفي النسب أو لدرء الحد وليس ههنا واحد منهما وقال الشافعي : له إسقاطه باللعان لأنه إذا ملك إسقاط الحد الكامل باللعان فإسقاط ما دونه أولى وللقاضي أن يقول : لا يلزم من مسروعيته لدفع الحد الذي يعظم ضرره مشروعيته لدفع ما يقل ضرره كما لو قذف طفلة لا يتصور وطؤها فإنه يعزر تعزير السب والأذى وليس له إسقاطه باللعان كذا ههنا وأما إن كان لأحد هؤلاء ولد يريد نفيه فقال القاضي : له أن يلاعن لنفيه وهذا قول الشافعي وهو ظاهر كلام أحمد في الأمة والكتابية سواء كان لهما ولد أو لم يكن وقد ذكرنا ذلك فيما مضى (9/20)
مسألة إقامة الحد على الزوج بطلب من زوجته
مسألة : قال : ولا يعرض له حتى تطلبه زوجته
يعني لا يتعرض له بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى تطالب زوجته بذلك فإن ذلك حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقهما وليس لوليها المطالبة عنها إن كانت مجنونة أو محجورا عليها ولا لولي الصغيرة وسيد الأمة المطالبة بالتعزير من أجلهما لأن هذا حق ثبت للتشفي فلا يقوم الغير فيه مقام المستحق كالقصاص فإن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة نظرنا فإن لم يكن هناك نسب يريد نفيه لم يكن له أن يلاعن وكذلك كل موضع سقط فيه الحد مثل أن أقام البينة بزناها أو أبرأته من قذفها أو حد لها ثم أراد لعانها ولا نسب هناك ينفى فإنه لا يشرع اللعان وهذا قول أكثر أهل العلم ولا نعلم فيه مخالفا إلا بعض أصحاب الشافعي قالوا : له الملاعنة لإزالة الفراش والصحيح عندهم مثل قول الجماعة لأن إزالة الفراش تمكنه بالطلاق والتحريم المؤبد ليس بمقصود يشرع اللعان من أجله وإنما حصل ذلك ضمنا
فأما إن كان هناك ولد يريد نفيه فقال القاضي : له أن يلاعن لنفيه وهذا مذهب الشافعي لأن هلال بن أمية لما قذف امرأته وأتى النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره أرسل إليها فلاعن بينهما ولم تكن طالبته ولأنه محتاج إلى نفيه فشرع له طريق إليه كما لو طالبته ولأن نفي النسب الباطل حق له فلا يسقط برضاها به كما لو طالبت باللعان ورضيت بالولد يحتمل أن لا يشرع اللعان ههنا كما لو قذفها فصدقته وهو قول أصحاب الرأي لأنه أحد موجبي القذف فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد (9/23)
مسألة وفصل سقوط اللعان والحد بموت الزوج أو المقذوف قبل المطالبة به
فصل وإذا قذفها ثم مات قبل لعانهما أو قبل إتمام لعانه سقط اللعان ولحقه الولد وورثته في قول الجميع لأن اللعان لم يوجد فلم يثبت حكمه وإن مات بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها فكذلك وقال الشافعي تبين بلعانه ويسقط التوارث وينتفي الولد ويلزمها الحد إلا أن تلتعن
ولنا أنه مات قبل إكمال اللعان أشبه ما لو مات قبل إكمال التعانة وذل لأن الشرع إنما رتب هذه الأحكام على اللعان التام والحكم لا يثبت قبل كمال سببه وإن ماتت المرأة قبل اللعان فقد ماتت على الزوجية ويرثها في قول عامة أهل العلم روي عن ابن عباس إن التعن لم يرث ونحو ذلك عن الشعبي وعكرمة لأن اللعان يوجب فرقة تبين بها فيمنع التوارث كما لو التعن في حياتها
ولنا أنها ماتت على الزوجية فورثها كما لو لم يلتعن ولأن اللعان سبب الفرقة فلم يثبت حكم بعد موتها كالطلاق وفارق اللعان في الحياة فإنه يقطع الزوجية على أننا قد ذكرنا أنه لو لاعنها ولم تلتعن هي لم تنقطع الزوجية أيضا فههنا أولى فإن قيل أليس قد قلتم لو التعن من الولد الميت ونفاه لم يرثه فكذلك الزوجة ؟ قلنا لو التعن الزوج وحده دونها لم ينتف الولد ولم يثبت حكم اللعان على ما ذكرنا ثم الفرق بينهما أنه إذا نفى الولد تبينا أنه لم يكن منه أصلا في حال من الأحوال والزوجة قد كانت امرأته فيما قبل اللعان وإنما يزيل نكاحها اللعان كما يزيله الطلاق وإذا ماتت قبله فقد ماتت قبل وجود ما يزيله فيكون موجودا حال الموت فيوجب التوارث وينقطع بالموت فلا يمكن انقطاعه مرة أخرى وإن أراد الزوج اللعان ولم تكن طالبت بالحد في حياتها لم يكن له أن يلتعن سواء كان ثم ولد يريد نفيه أو لم يكن
وقال الشافعي إن كان ثم ولد يريد نفيه فله أن يلتعن وهذا ينبني على أصل وهو أن اللعان إنما يكون بين الزوجين فإن لعان الرجل وحده لا يثبت به حكم وعندهم بخلاف ذلك فأما إن كانت طالبت بالحد في حياتها فإن أولياءها يقومون في الطلب به مقامها فإن طولب به فله إسقاطه باللعان ذكره القاضي وإلا فلا لأنه لا حاجة إليه مع عدم الطلب فإنه لا حد عليه وقال أصحاب الشافعي : إن كان للمرأة وارث غير الزوج فله اللعان ليسقط الحد عن نفسه وإلا فلا لعدم الحاجة إليه
فصل : وإذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد سقط ولم يكن لورثته الطلب به وقال أصحاب الشافعي يورث وإن لم يكن طالب به ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : من ترك حقا فلورثته ] ولأنه حق ثبت له في الحياة يورث إذا طالب به فيورث وإن لم يطالب به كحق القصاص
ولنا أنه حد تعتبر فيه المطالبة فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب كحد القطع في السرقة والحديث يدل على أن الحق المتروك يورث وهذا ليس بمتروك وأما حق القصاص فإنه حق يجوز الإعتياض عنه وينتقل إلى المال بخلاف ما نحن فيه فأما إن طالب به ثم مات فإنه يرثه العصبات من النسب دون غيرهم لأنه حق يثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح وهذا أحد الوجوه لأصحاب الشافعي ومتى ثبت للعصبات فلهم استيفاؤه وإن طلب أحدهم وحده فله استيفاؤه وإن عفا بعضهم لم يسقط وكان للباقين استيفاؤه ولو بقي واحد كان له استيفاء واحد كان له استيفاء جميعه لأنه حق يراد للردع والزجر فلم يتبعض كسائر الحدود ولا يسقط فيثبت له جميعه ولاية النكاح ويفارق حق القصاص لأن ذلك يفوت إلى بدل ولو أسقطناه ههنا لسقط حق غير العافي إلى غير بدل فعلى هذا لو قذف امرأته فماتت بعد المطالبة ولها أحد من عصباتها غيره فله استيفاؤه وإن كان زوجها عصبتها وليس لها أحد سواء سقط وإن كان لها من عصبتها غيره فله الطلب به ولا يسقط بما ذكرنا من أنه يكمل لكل واحد بخلاف القصاص (9/24)
فصل وإذا قدف زوجته وله بينة تشهد بزناها
فصل : وإذا قذف امرأته وله بينة تشهد بزناها فهو مخير بين لعانها وبين إقامة البينة لأنهما بينتان فكانت له الخيرة في إقامة أيتهما شاء كمن له بدين شاهدان وشاهد وامرأتان ولأن ل واحدة منهما يحصل بها ما لا يحصل بالأخرى فإنه يحصل باللعان نفي النسب الباطل ولا يحصل ذلك بالبينة ويحصل بالبينة ثبوت زناها وإقامة الحد عليها ولا يحصل باللعان فإن لاعنها ونفى ولدها ثم أراد إقامة البينة فله ذلك فإذا اقامها ثبت موجب اللعان وموجب البينة وإن أقام البينة أولا ثبت الزنا وموجبه ولم ينتف عنه الولد فإنه لا يلزم من الزنا كون الولد منه وإن أراد لعانها بعد ذلك وليس بينهما ولد يريد نفيه لم يكن له ذلك لأن الحد قد انتفى عنه بإقامة البينة فلا حاجة إليه وإن كان بينهما ولد يريد نفيه فعلى قول القاضي : له أن يلاعن وقد ذكرنا ذلك فيما مضى (9/26)
فصول حكم ما لو قذفها فطالبته بالحد وشهد عليه شاهدان
فصل : : وإن قذفها فطالبته بالحد فأقام شاهدين على إقرارها بالزنا سقط عنه الحد لأنه ثبت تصديقها إياه ولم يجب عليها الحد لأن الحد لا يجب إلا بالإقرار أربع مرات ويسقط بالرجوع عن الإقرار وهل يثبت الإقرار بالزنا بشاهدين ؟ قال أبو بكر : فيه قولان أحدهما يثبت بشاهدين كسائر الأقارير واختاره
والثاني : لا يثبت لأنه لا يثبت به المقر به فلا يثبت به الإقرار به كرجل وامرأتين وإن لم تكن له بينة حاضرة فقال لي بينة غائبة أقيمها على الزنا أمهل اليومين والثلاثة لأن ذلك قريب فإن أتى بالبينة وإلا حد إلا أن يلاعن إذا ان زوجا فإن قال : قذفتها وهي صغيرة فقالت : قذفني وأنا كبيرة وأقام كل واحد منهما بينة قال فهما قذفان وذلك إن اختلفا في الكفر والرق أو الوقت لأنه لا تنافي بينهما إلا أن يكونا مؤرخين تاريخا واحدا فيسقطان في أحد الوجهين وفي الآخر يقرع بينهما فمن خرجت قرعته قدمت بينته
فصل فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعدواته لهما وشهادة العدو لا تقبل على عدوه فإن أبرآه وزالت العدواة ثم شهدا عليه بذلك القذف لم تقبل لأنها ردت للتهمة فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ثم تاب وأعادها ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما ثم أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ولو شهدا أنه قذف امرأته ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين وإن انا بعد الحكم لم يبطل لأن الحكم تم قبل وجود المانع كظهور الفسق وإن شهدا امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما لأنها ردت في البعض للتهمة فةجب أن ترد للكل وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما وبهذا قال مالك و أبو حنيفة و الشافعي في الجديد وقال في القديم لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشيء لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به وإن شهدا بطلاق الضرة ففيه وجهان أحدهما : لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما والثاني تقبل لأنهما لا يجران إلى أنفسهما نفعا
فصل : ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية تمت الشهادة لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الإقرار دون القذف ويجوز أن يكون القذف واحدا والإقرار به في مرتين وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها وشهد آخر أنه أقر بذاك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر أوأنه قذفها بالعربية أو بالعجمية أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة ففيه وجهان
أحدهما : تكمل الشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة لأن الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة بالفذف وكذلك اللسان فلم يؤثر الإختلاف كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية
والآخر لا تكمل الشهادة وهو مذهب الشافعي لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم تثبت كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين (9/27)
مسائل وفصول قال : فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما والخلاف في حصول الفرقة
مسألة : قال : فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا
في هذه المسألة مسألتان :
المسألة الأولى : أن الفرقة بين المتلاعنين لا تحصل إلا بلعانهما جميعا وهل يعتبر تفريق الحاكم بينهما ؟ فيه روايتان :
إحداهما : أنه معتبر فلا تحصل الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما وهو ظاهر كلام الخرقي وقول أصحاب الرأي لقول ابن عباس في حديثه : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وهذا يقتضي أن الفرقة لم تحصل قبله وفي حديث عويمر قال : كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم وهذا يقتضي إمكان إمساكها وأنه وقع طلاقه ولو كانت الفرقة وقعت قبل ذلك لما وقع طلاقه ولا أمكنه إمساكها ولأن سبب هذه الفرقة يقف على الحاكم فالفرقة المتعلقة به لم تقع إلا بحكم الحاكم كفرقة العنة
والرواية الثانية : تحصل الفرقة بمجرد لعانهما وهي اختيار أبي بكر وقول مالك و أبي عبيد عنه و أبي ثور و داود و زفر و ابن المنذر وروي ذلك عن ابن عباس لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : المتلاعنان يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا رواه سعيد ولأنه معنى يقتضي التحريم المؤبد فلم يقف على حكم الحاكم الرضاع ولأن الفرقة لو لم تحصل إلا بتفريق الحاكم لساغ ترك التفريق إذا كرهاه كالتفريق للعيب والإعسار ولوجب أن الحاكم إذا لم يفرق بينهما أن يبقى النكاح مستمرا و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا سبيل لك عليها ] يدل على هذا وتفريقه بينهما بمعنى إعلامه لهما بحصول الفرقة وعلى كلتا الروايتين لا تحصل الفرقة قبل تمام اللعان منهما
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : تحصل الفرقة بلعان الزوج وحده وإن لم تلتعن المرأة لأنها فرقة حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق ولا نعلم أحدا وافق الشافعي على هذا القول وحكي عن البتي أنه لا يتعلق باللعان فرقة لما [ روي أن العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه و سلم ولو وقعت الفرقة لما نفذ طلاقه وكلا القولين لا يصح لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين المتلاعنين ] رواه عبد الله بن عمر وسهل بن سعد وأخرجهما مسلم وقال سهل فكانت سنة لمن كان بعدهما أن يفرق بين المتلاعنين وقال عمر : المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا
وأما القول الآخر فلا يصح لأن الشرع إنما ورد بالتفريق بين المتلاعنين ولا يكونان متلاعنين بلعان أحدهما وإنما فرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما بعد تمام اللعان منهما فالقول بوقوع الفرقة قبله تحكم يخالف مدلول السنة وفعل النبي صلى الله عليه و سلم ولأن لفظ اللعان لا يقتضي فرقة فإنه إنا أيمان على زناها أو شهادة بذلك ولولا ورود الشرع بالتفريق بينهما لم يحصل التفريق وإنما ورد الشرع به بعد لعانهما فلا يجوز تعليفه على بعضه كما لم يجز تعليقه على بعض لعان الزوج ولأنه فسخ ثبت بأيمان مختلفين فلم يثبت بيمين أحدهما كالفسخ لتحالف المتبايعين عند الاختلاف ويبطل ما ذكروه بالفسخ بالعيب أو العتق وقول الزوج اختاري وأمرك بيدك أو وهبتك أو لنفسك واشباه ذلك كثير إذا ثبت هذا فإن قلنا إن الفرقة تحصل بلعانهما فلا تحصل إلا بعد إكمال اللعان منهما وإن قلنا لا تحصل إلا بتفريق الحاكم لم يجز له أن يفرق بينهما إلا بعد كمال لعانهما فإن فرق قبل ذلك كان تفريقه باطلا وجوده كعدمه وبهذا قال مالك وقال الشافعي : لا تقع الفرقة حتى يكمل الزوج لعانه وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن : إذا فرق بينهما بعد أن لاعن كل واحد منهما ثلاث مرات أخطأ السنة والفرقة جائزة وإن فرق بينهما بأقل من ثلاث فالفرقة باطلة لأن من أتى بالثلاث فقد أتى بالأكثر فيتعلق الحكم به
ولنا أنه تفريق قبل تمام اللعان فلم يصح كما لو فرق بينهما لأقل من ثلاث أو قبل لعان المرأة ولأنها أيمان مشروعة لا يجوز للحاكم الحكم قبلها بالإجماع فإذا حكم لم يصح حكمه كأيمان المختلفين في البيع وكما قبل الثلاث ولأن الشرع إنما ورد بالتفريق بعد كمال السبب فلم يجز قبله كسائر الأسباب وما ذكروه تحكم لا دليل عليه ولا أصل له ثم يبطل بما إذا شهد بالدين رجل وامرأة واحدة أو بمن توجهت عليه اليمين إذا أتى بأكثر حروفها وبالمسابقة إذا قال : من سبق إلى خمس إصابات فسبق إلى ثلاثة وبسائر الأسباب فأما إذا تم اللعان فللحاكم أن يفرق بينهما من غير استئذانهما ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم فرق بين المتلاعنين ولم يستأذنهما ] [ وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم فرق بين المتلاعنين ] أخرجهما سعيد ومتى قلنا إن الفرقة لا تحصل إلا بتفريق الحاكم فلم يفرق بينهما فالنكاح باق بحاله لأن ما يبطل النكاح لم يوجد فأشبه ما لو لم يلاعن
فصل : وفرقة اللعان فسخ وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : هي طلاق لأنها فرقة من جهة الزوج تختص النكاح فكانت طلاقا كالفرقة بقوله : أنت طالق
ولنا أنها فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع ولأن اللعان ليس بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به النكاح ولأنه لو كان طلاقا لوقع بلعان الزوج دون لعان المرأة
فصل : وذكر بعض أهل العلم أن الفرقة إنما حصلت باللعان لأن لعنة الله وغضبه قد وقع لأحدهما لتلاعنهما ف [ إن النبي صلى الله عليه و سلم قال عند الخامسة : أنها الموجبة ] أي إنها توجب لعنة الله وغضبه ولا نعلم من هو منهما يقينا ففرقنا بينهما خشية أن يكون هو الملعون فيعلو امرأة غير ملعونة وهذا لا يجوز كما لا يجوز أن يعلو المسلمة كافر ويمكن أن يقال على هذا : لو كان هذا الاحتمال مانعا من دوام نكاحهما لمنعة من نكاح غيرها فإن هذا الاحتمال متحقق فيه ويحتمل أن يكون الموجب للفرقة وقوع اللعنة والغضب بأحدهما غير معين فيفضي إلى علو ملعون لغير أو إلى إمساكه لملعونة مغضوب عليها ويحتمل أن سبب الفرقة النفرة الحاصلة من إساءة كل واحد منهما إلى صاحبه فإن الرجل إن كان صادقا فقد أشاع فاحشتها وفضحها على رؤوس الأشهاد وأقامها مقام خزي وحقق عليها اللعنة والغضب وقطع نسب ولدها وإن كان كاذبا فقد اضاف إلى ذلك بهتها وقذفها بهذه الفرية العظيمة والمرأة إن كانت صادقة فقد أكذبته على رؤوس الأشهاد وأوجبت عليه لعنة الله وإن كانت كاذبة فقد أفسدت فراشه وخانته في نفسها وألزمته والفضيحة وأحوجته إلى هذا المقام المخزي فحصل لكل واحد نفرة من صاحبه لما حصل إليه من إساءته لا يكاد يلتئم لهما معها حال فاقتضت حكمه الشارع انحتام الفرقة بينهما وإزالة الصحبة المتمحضة مفسدة ولأنه إن كان كاذبا عليها فلا ينبغي أن يسلط على إمساكها مع ما صنع من القبيح إليها وإن كان صادقا فلا ينبغي أن يمسكها مع علمه بحالها ولهذا قال العجلاني : كذبت عليها أن أمسكتها
المسألة الثانية : أنها تحرم عليه باللعان تحريما مؤبدا فلا تحل له وإن أكذب نفسه في ظاهر المذهب ولا خلاف بين أهل العلم في أنه إذا لم يكذب نفسه لا تحل له إلا أن يكون قولا شاذا وأما إذا أكذب نفسه فالذي رواه الجماعة عن أحمد أنها لا تحل له أيضا وجاءت الأخبار عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهم أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وبه قال الحسن و عطاء و جابر بن زيد و النخعي و الزهري و الحكم و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور و أبو يوسف وعن أحمد رواية أخرى : إن أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله وهي رواية شاذة شذ بها حنبل عن أصحابه قال أبو بكر : لا نعلم أحدا رواها غيره وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق بينهما الحاكم فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله وقد ذكرنا أن مذهب البتي أن اللعان لا يتعلق به فرقة وعن سعيد بن المسيب إن أكذب نفسه فهو خاطب من الخطاب وبه قال أبو حنيفة و محمد بن الحسن لأن فرقة اللعان عندهما طلاق وقال سعيد بن جبير : إن أكذب ردت إليه ما دامت في العدة
ولنا ما روى سهل بن سعد قال : مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا رواه الجوزجاني في كتابه بإسناده وروي مثل هذا عن الزهري و مالك ولأنه تحريم لا يرتفع قبل الحد والتكذيب فلم يرتفع بهما كتحريم الرضاع
فصل : فإن كانت أمة فاشتراها ملاعنها لم تحل له لأن تحريمها تحريم مؤبد فحرمت به على مشتريها كالرضاع ولأن المطلق ثلاثا إذا اشترى مطلقته لا تحل له قبل زوج وإصابة فههنا أولى لأن هذا التحريم مؤبد وتحريم الطلاق ليس بمؤبد ولأن تحريم الطلاق يختص النكاح وهذا لا يختص به وهذا مذهب الشافعي (9/29)
مسألة وفصلان قال : فإن كذب نفسه فلها عليه الحد ويلحقه نسب الولد وإن لم يكذب
مسألة : قال فإن أكذب نفسه فلها عليه الحد
وجملة ذلك أن الرجل إذا قذف امرأته ثم أكذب نفسه فلها عليه الحد سواء أكذبها قبل لعانها أو بعده وهذا قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم لهم مخالفا وذلك لأن اللعان أقيم مقام البينة في حق الزوج فإذا أكذب نفسه بان أن لعانها كذب وزيادة في هتها وتكرار لقذفها فلا أقل من أن يجب الحد الذي كان واجبا بالقذف المجرد فإن عاد عن إكذاب نفسه وقال : لي بينة أقيمها بزناها أو اراد إسقاط الحد عنه باللعان لم يسمع منه لأن البينة واللعان لتحقيق ما قاله وقد أقر بكذب نفسه فلا يسمع منه خلافه وهذا فيما إذا كانت المقذوفة محصنة فإن كانت غير محصنة فعليه التعزير
فصل : ويلحقه نسب الولد سواء كان الولد حيا أو ميتا غنيا كان أو فقيرا وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال الثوري إذا استحلق الولد الميت نظرنا فإن كان ذا مال لم يلحقه لأنه إنما يدعي مالا وإن لم يكن ذا مال لحقه وقال أصحاب الرأي : إن كان الولد الميت ترك ولدا ثبت نسبه من المستلحق وتبعه نسب ابنه وإن لم يكن ترك ولدا لم يصح استلحاقه ولم يثبت نسبه ولا يرث منه المدعي شيئا لأن نسبه منقطع بالموت فلم يصح استلحاقه فإذا كان له ولد مستلحقا لولده وتبعه نسب الميت
ولنا أن هذا ولد نفاه باللعان فكان له استلحاقه كما لو كان حيا أو كان له ولد ولأن ولد الولد يتبع نسب الولد وقد جعل أبو حنيفة نسب الولد تابعا لنسب ابنه فجعل الأصل تابعا للفرع وذلك باطل فأما قول الثوري إنه إنما يدعي مالا قلنا إنما يدعي النسب والميراث والمال تبع له فإن قيل فهو متهم في أن غرضه حصول الميراث قلنا إن النسب لا تمنع التهمة لحوقه بدليل أنه لو كان له أخ يعاديه فأقر بابن لزمه وسقط ميراث أخيه ولو كان الابن حيا وهو غني والأب فقير فاستلحقه فهو متهم في إيجاب نفقته على ابنه ويقبل قوله فكذلك ههنا ثم كان ينبغي أن يثبت النسب ههنا لأنه حق للولد ولا تهمة فيه ولا يثبت الميراث المختص بالتهمة ولا يلزم من انقطاع التبع انقطاع الأصل قال القاضي : ويتعلق باللعان أربعة أحكام : حقان عليه وجوب الحد ولحوق النسب وحقان له : الفرقة والتحريم المؤبد فإذا أكذب نفسه قبل قوله فيما عليه فلزمه الحد والنسب فلم يقبل فيما له فلم تزل الفرقة ولا التحريم المؤبد
فصل : فإن لم يكذب نفسه ولكن لم يكن به بينة ولا لاعن أقيم عليه الحد فإن أقيم عليه بعضه فبذل اللعان وقال أنا ألاعن قبل منه لأن اللعان يسقط جميع الحد فيسقط بعضه كالبينة فإن ادعت زوجته أنه قذفها بالزنا فأنكر فأقامت عليه بينة أنه قذفها بالزنا فقال : صدقت البينة وليس ذلك قذفا لأن القذف الرمي بالزنا كذبا وأنا صادق فيما رميتها به لم يكن ذلك إكذابا لنفسه لأنه مصر على رميها بالزنا وله إسقاط الحد باللعان ومذهب الشافعي في هذا الفصل كمذهبنا فإن قال ما زنت ولا رميتها بالزنا فقامت البينة عليه بقذفها لزمه الحد ولم تسمع بينته ولا لعانه نص عليه أحمد لأن قوله : ما زنت تكذيب للبينة واللعان فلا تثبت له حجة قد أكذبها وجرى هذا مجرى قوله في الوديعة إذا ادعيت عليه فقال ما أودعتني فقامت عليه البينة بالوديعة فادعى الرد أو التلف لم يقبل ولو أجاب بأنه ما له عندي شيء ولا يستحق علي شيئا فقامت عليه البينة فادعى الرد أو التلف قبل منه (9/35)
مسائل وفصول شروط اللعان التام وضروب القذف واستلحاق التوأمين
مسألة : قال : وإن قذفها وانتفى من ولدها وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم نفي عنه إذا ذكره في اللعان
وجملة ذلك أن الزوج إذا ولدت امرأته ولدا يمكن كونه منه فهو ولده في الحكم ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم الولد للفراش ] ولا ينتفي عنه إلا أن ينفيه باللعان التام الذي اجتمعت شروطه وهي أربعة :
أحدها أن يوجد اللعان منهما جميعا وهذا قول عامة أهل العلم وقال الشافعي : ينتفي بلعان الزوج وحده لأن نفي الولد إنما كان بيمينه والتعانة لا بيمين المرأة على تكذيبه ولا معنى ليمين المرأة في نفي النسب وهي تثبته وتكذب قول من ينفيه وإنما لعانها لدرء الحد عنها كما قال الله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } ولنا أن النبي صلى الله عليه و سلم إنما نفى الولد عنه بعد تلاعنهما فلا يجوز النفي ببعضه كبعض لعان الزوج ( والثاني ) أن تكمل ألفاظ اللعان منهما جميعا
الشرط الثالث : أن يبدأ بلعان الزوج قبل المرأة فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به وبه قال أبو ثور و ابن المنذر وقال مالك وأصحاب الرأي : إن فعل أخطأ السنة والفرقة جائزة وينتفي الولد عنه لأن الله تعالى عطف لعانها على لعانه بالواو وهي لا تقتضي ترتيبها ولأن اللعان قد وجد منهما جمعا فأشبه ما لو رتبت وعند الشافعي لا يتم اللعان إلا بالترتيب إلا أنه يكفي عنده لعان الرجل وحده لنفي الولد وذلك حاصل مع إخلاله بالترتيب وعدم كمال ألفاظ اللعان من المرأة
ولنا أنه أتي باللعان على غير ما ورد به القرآن والسنة فلم يصح ما لو اقتصر على لفظة واحدة ولأن لعان الرجل بينته لإثبات زناها ونفي ولدها ولعان المرأة للإنكار فقدمت بينة الإثبات كتقديم الشهود على الأيمان ولأن لعان المرأة لدرء العذاب عنها ولا يتوجه عليها ذلك إلا بلعان الرجل فإذا قدمت لعانها على لعانه فقد قدمته على وقته فلم يصح كما لو قدمته على القذف
الشرط الرابع : أن يذكر نفي الولد في اللعان فإذا لم يذكر لم ينتف إلا أن يعيد اللعان ويذكر نفيه وهذا ظاهر كلام الخرقي واختيار القاضي ومذهب الشافعي وقال أبو بكر : ولا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه وينتفي بزوال الفراش ولأن حديث سهل بن سعد الذي وصف فيه اللعان لم يذكر فيه الولد وقال فيه ف [ فرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ] رواه أبو داود وفي حديث رواه مسلم عن عبد الله [ أن رجلا لاعن امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ففرق النبي صلى الله عليه و سلم بينهما وألحق الولد بأمه ]
ولنا أن من سقط حقه باللعان كان ذكره شرطا كالمرأة ولأن غاية ما في اللعان أن يثبت زناها وذلك لا يوجب نفي الولد كما لو أقرت به أو قامت به بينة فأما حديث سهل بن سعد فقد روي فيه : وكانت حاملا فأنكر حملها من رواية البخاري [ وروى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما وألحق الولد بالمرأة ] والزيادة من الثقة مقبولة فعلى هذا لا بد من ذكر الولد في كل لفظة ومع اللعن في الخامسة لأنها من لفظات اللعان
وذكر الخرقي شرطا خامسا وهو تفريق الحاكم بينهما وهذا على الرواية التي تشترط تفريق الحاكم لوقوع الفرقة فأما على الرواية الأخرى فلا يشترط تفريق الحاكم لنفي الولد كما لا يشترط لدرء الحد عنه ولا لفسخ النكاح وشرط أيضا شرطا سادسا وهو أن يكون قد قذفها وهذا شرط اللعان فإنه لا يكون إلا بعد القذف وسنذكره إن شاء الله تعالى
فصل : وإن ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر فاستحلق أحدهما ونفى الآخر لحقا به لأن الحمل الواحد لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة فجعلنا ما نفاه تابعا لما استحلقه ولم نجعل ما أقر به تابعا لما نفاه لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا ولم نقطعه عنه احتباطا لنفيه فإن : كان قد قذف أمها فطالبته بالحد فله إسقاطه باللعان وحكي عن القاضي أنه يحد ولا يملك إسقاطه باللعان وهو مذهب الشافعي لأنه باستلحاقه اعترف بكذبه في قذفه فلم يسمع إنكاره بعد ذلك
ووجه الأول أنه لا يلزم من كون الولد منه انتفاء الزنا عنها كما لا يلزم من وجو الزنا منها كون الولد منه ولذلك لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف الولد عنه فلا تنافي بين لعانه وبين استحلقاه للولد وإن استحلق أحد التوأمين وسكت عن الآخر لحقه لأنه لو نفاه لحقه فإذا سكت عنه كان أولى ولأن امرأته متى أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه باللعان وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر لحقاه جميعا فإن قيل : ألا نفيتم المسكوت عنه لأنه قد نفى أخاه وهما حمل واحد ؟ قلنا : لحوق النسب مبني على التغليب وهو يثبت بمجرد الإمكان وإن كان لم يثبت الوطء ولا ينتفي الإمكان للنفي فافترقا فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول لأن اللعان تناول الأول وحده ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان ويحتمل أنه ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان ذكره القاضي فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضا فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى ولا ينتفي بغير اللعان لأنه حمل منفرد وإن استحلقه أو ترك نفيه لحقه وإن كانت قد بانت باللعان لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول وإن لاعنها قبل وضع الأول فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني لأنها بانت اللعان وانقضت عدتها بوضع الأول وكان حملها الثاني بعد انقضاء عدتها في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه
فصل : وإن مات أحد التوأمين أو ماتا معا فله أن يلاعن لنفي نسبهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يلزمه نسب الحي ولا يلاعن إلا لنفي الحد لأن الميت لا يصح نفيه باللعان فإن نسبه قد انقطع بموته فلا حاجة إلى نفيه باللعان كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لقطع النكاح لكونه قد انقطع وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي لأنهما حمل واحد
ولنا أن الميت ينسب إليه فيقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه فكان له نفي وإسقاط مؤنته كالحي وكما لو كان للميت ولد
مسألة : قال : وإن أكذب نفسه بعد ذلك لحقه الولد
وجملة ذلك أن الرجل لاعن امرأته ونفى ولدها ثم أكذب نفسه لحقه الولد إذا كان حيا بغير خلاف بين أهل العلم وإن كان ميتا لحقه نسبه أيضا في قول أكثر أهل العلم سواء كان له ولد أو لم يكن وسواء خلف مالا أو لم يخلف وذلك لأن النسب حق للولد فإذا أقر به لزمه وسواء تقدم إنكاره له أو لم يكن ولأن سبب نفيه عنه نفيه له فإذا أكذب نفسه فقد زال سبب النفي وبطل فوجب أن يلحقه نسبه بحكم النكاح للحوق نسبه به
فصل : والقذف على ثلاثة أضرب : واجب : وهو أن يرى امرأته تزني في طهر لم يطأها فيه فإنه يلزمه اعتزالها حتى تنقضي عدتها فإذا أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا وأمكنه نفيه عنه لزمه قذفها ونفي ولدها لأن ذلك يجري مجرى اليقين في أن الولد من الزاني فإذا لم ينفه لحقه الولد وورثه وورث أقاربه وورثوا منه ونظر إلى بناته وأخواته وليس ذلك بجائز فيجب نفيه لإزالة ذلك ولو أقرت بالزنا ووقع في قلبه صدقها فهو كما لو رآها الثاني : أن يراها تزني أو يثبت عنده زناها وليس ثم ولد يلحقه نسبه أو ثم ولد لكن لا يعلم أنه من الزنا أو يخبره بزناها ثقة يصدقه أو يشيع في الناس أن فلانا يفجر بفلانة ويشاهده عندها أو داخلا إليها أو خارجا من عندها أو يغلب على ظنه فجورها فهذا له قذفها لأنه [ روي عن عبد الله أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : : أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ فذكر أنه يتكلم أو يسكت ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه و سلم ولأن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينكر على هلال والعجلاني قذفهما حين رأيا ] وإن سكت جاز وهو أحسن لأنه يمكنه فراقها بطلاقها ويكون فيه سترها وستر نفسه وليس ثم ولد يحتاج إلى نفيه
الحال الثالث : محرم وهو ما عدا ذلك من قذف أزواجه والأجانب فإن من الكبائر قال الله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ] رواه أبو داود
وقوله [ وهو ينظر إليه ] يعني يراه منه فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم حرم على الرجل جحد ولده ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره لأنه غير مأمون على الكذب عليها ولا برؤيته رجلا خارجا من عندها من غير أن يستفيض زناها لأنه يجوز أن يكون دخل سارقا أو هاربا أو لحاجة أو لغرض فاسد فلم يمكنه ولا لاستفاضه ذلك في الناس من غير قرينة تدل على صدقهم لاحتمال أن يكون أعداؤها أشاعوا ذلك عنها وفيه وجه آخر أنه يجوز لأن الاستفاضة أقوى من خبر الثقة ولا بمخالفة الولد لون والديه أو شبههما ولا لشبهة بغير والديه لما روى أبو هريرة قال : [ جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إن امرأتي جاءت بولد أسود يعرض بنفيه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : هل لك من إبل ؟ قال نعم قال : فما ألوانها ؟ قال حمر قال : هل فيها من أورق ؟ قال إن فيها قال : فأنى اتاها ذلك ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق قال : فهذا عسى أن يكون نزعه عرق قال ولم يرخص له في الانتفاء منه ] متفق عليه ولأن الناس كلهم من آدم وحواء وألوانهم وخلقهم مختلفة فلولا مخالفتهم شبه والديهم لكانوا على خلقة واحدة ولأن دلالة الشبه ضعيفة ودلالة ولادته على الفراش قوية فلا يجوز ترك القوي لمعرضة الضعيف ولذلك لما [ تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ورأى النبي صلى الله عليه و سلم فيه شبها بينا بعتبة ألحق الولد بالفراش وترك الشبه ] وهذا اختيار أبي عبد الله بن حامد وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي
وذكر القاضي وأبو الخطاب أن ظاهر كلام أحمد جواز نفيه وهو الوجه الثاني لأصحاب الشافعي ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث اللعان : إن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به فأتت به على النعت المكروه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ] فجعل الشبه دليلا على نفيه عنه والصحيح الأول وهذا الحديث إنما يدل على نفيه عنه مع ما تقدم من لعانه ونفيه إياه عن نفسه فجعل الشبه مرجحا لقوله ودليلا على تصديقه وما تقدم من الأحاديث يدل على استقلال الشبه بالنفي ولأن هذا كان في موضع زال الفراش وانقطع نسب الولد عن صاحبه فلا يثبت مع بقاء الفراش المقتضي لحوق نسب الولد بصاحبه وإن كان يعزل عن امرأته فأتت بولد لم يبح له نفيه لما ذكرنا من حديث جابر وأبي سعيد
[ وعن أبي سعيد أنه قال يا رسول الله إن نصيب من النساء ونحب الأثمان أفنعزل عنهم ؟ قال : إن الله إذا قضى خلق نسمة خلقها ] ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به فتعلق وأما إن كان لا يطؤها إلا دون الفرج أو في الدبر فأتت بولد فذكر أصحابنا أنه ليس له نفيه لأنه لا يأمن أن يسبق الماء إلى الفرج فيعلق به وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وهو بعيد لأنه من أحكام الوطء في الفرج فلا يتعلق بما دونه كسائر الأحكام ودلالة عدم الوطء في الفرج على انتفاء الولد أشد من دلالة مخالفة الولد لون والديه فأما إن وجد أحد هذه الوجوه التي ذكرنا مع الزنا ويحتمل كونه منه أو من الزاني مثل أن زنت في طهر أصابها فيه أو زنت فلم يعتزلها ولكنه كان يعزل عنها أو كان لا يطؤها إلا دون الفرج أو كان الولد شبيها بالزاني دونه لزمه نفيه لأن هذا مع الزنا يوجب نسبته إلى الزاني بدليل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم حكم بولد امرأة هلال لشريك بن سحماء بشبهه له مع لعان هلال لها وقذفه إياها ] وأما إذا أتت زوجته بولد فشك فيه من غير معرفته لزناها فلا يحل له قذفها ولا لعانها لما تقدم من حديث الفزاري وكذلك إن عرف زناها ولم يعلم أن الولد من الزاني ولا وجد دليل عليه فليس له نفيه لأن الولد للفراش وللعاهر الحجر
فصل : فإن أكرهت زوجته على الزنا في طهر لم يصبها فيه فأتت بولد يمكن أن يكون من الواطىء فهو منه وليس للزوج قذفها بالزنا لأن هذا ليس بزنا منها وقياس المذهب أنه ليس له نفيه ويلحقه النسب لأن نفي الولد لا يكون إلا باللعان ومن شرط اللعان القذف ولأن اللعان لا يتم إلا بلعان المرأة ولا يصح اللعان من المرأة ههنا لأنها لا تكذب الزوج في إكراهها على ذلك وهذا قول أصحاب الرأي
وذكر بعض أصحابنا في ذلك روايتين إحداهما : له نفيه باللعان لأنه محتاج إلى نفيه فكان له نفيه كما لو زنت مطاوعة وهذا مذهب الشافعي وهذا إنما يصح عند الشافعي لأنه يرى نفي الولد بلعان الزوج وحده وأما من لا يرى ذلك فلا يصح عنده النفي باللعان ههنا والله تعالى أعلم (9/38)
مسألة وفصول قال : وإن نفى الحمل في التعانة وحكم ما لو ولدت امرأته فسكت عن نفيه
مسألة : قال : وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف عنه حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن
اختلف أصحابنا فيما إذا لاعن امرأته وهي حامل ونفى حملها في لعانه فقال الخرقي وجماعة : ولا ينتفي الحمل بنفيه قبل الوضع ولا ينتفي حتى يلاعنها بعد الوضع وينتفي الولد فيه وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من أهل الكوفة لأن الحمل غير متسيقن يجوز أن يكون ريحا أو غيرها فيصير نفيه مشروطا بوجوده ولا يجوز تعليق اللعان بشرط وقال مالك و الشافعي وجماعة من أهل الحجاز : يصح نفي الحمل وينتفي عنه محتجين بحديث هلال وأنه نفى حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه و سلم وألحقه بالأول ولا خفاء بأنه كان حملا ولهذا [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : انظروها فإن جاءت به كذا وكذا ] قال ابن عبد البر : الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة وأوردها ولأن الحمل مظنون بأمارات تدل عليه ولهذا ثبتت للحامل أحكام تخالف بها الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد عليها وتأخير القصاص عنها وغير ذلك مما يطول ذكره ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه وهذا القول هو الصحيح لموافقته ظواهر الأحاديث وما خالف الحديث لا يعبأ به كائنا ما كان وقال أبو بكر : ينتفي الولد يزوال الفراش ولا يحتاج إلى ذكره في اللعان احتجاجا بظاهر الأحاديث حيث لم ينقل فيها نفي الحمل ولا التعرض لنفيه وقد ذكرنا ذلك فأما من قال إن الولد لا ينتفي إلا بنفيه بعد الوضع فإنه يحتاج في نفيه إلى إعادة اللعان بعد الوضع وقال أبو حنيفة ومن وافقه : إن لاعنها حاملا ثم أتت بالولد لزمه ولم يتمكن من نفيه لأن اللعان لا يكون إلا بين الزوجين وهذه قد بانت بلعانها في حال حملها وهذا فيه إلزامه ولدا ليس منه وسد باب الانتفاء من أولاد الزنا والله تعالى قد جعل له إلى ذلك طريقا فلا يجوز سده وإنما تعتبر الزوجية في الحال التي أضاف الزنا إليها فيه لأن الولد الذي تاتي به يلحقه إذا لم ينفه فيحتاج إلى نفيه وهذه كانت زوجة في تلك الحال فملك نفي ولدها والله أعلم
فصل : وإن استحلق الحمل فمن قال لا يصح نفيه قال لا يصح استلحاقه وهو المنصوص عن أحمد ومن جاز نفيه قال لا يصح استلحاقه وهو مذهب الشافعي لأنه محكوم بوجوده بدليل وجوب النفقة ووقف الميراث فصح الإقرار به كالمولود وإذا استلحقه لم يملك نفيه بعد ذلك كما لو استلحقه بعد الوضع ومن قال لا يصح استلحاقه قال : لو صح استلحاقه لزمه بترك نفيه كالمولود ولا يلزمه ذلك بالإجماع ولأن للشبه أثرا في الإلحاق بدليل حديث الملاعنة وذلك مختص بما بعد الوضع فاختص صحة الاستلحاق به فعلى هذا لو استلحقه ثم نفاه بعد وضعه كان له ذلك فأما إن سكت عنه فلم ينفه ولم يستلحقه لم يلزمه عند أحد علمنا قوله لأن تركه يحتل أن يكون لأنه لا يتحقق وجوده إلا أن يلاعنها فإن أبا حنيفة ألزمه الولد على ما أسلفناه
فصل : وإذا ولدت امرأته ولدا فسكت عن نفيه مع إمكانه لزمه نسبه ولم يكن له نفيه بعد ذلك وبهذا قال الشافعي قال أبو بكر : لا يتقدر ذلك بثلاث بل هو على ما جرت به العادة إن كان ليلا فحتى يصبح وينتشر الناس وإن كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب أو ينام إن كان ناعسا أو يلبس ثيابه ويسرج دابته ويركب ويصلي إن حضرته الصلاة ويحرز ماله إن كان غير محرز وأشباه ذلك من أشغاله فإن أخره بعد هذا كله لم يكن له نفيه وقال أبو حنيفة له تأخير نفيه يوما ويومين استحسانا لأن النفي عقيب الولادة يشق فقدر باليومين لقلته وقال أبو يوسف و محمد : يتقدر بمدة النفاس لأنها جارية مجرى الولادة في الحكم وحكي عن عطاء و مجاهد أن له نفيه ما لم يعترف به فكان له نفيه كحالة الولادة
ولنا أنه خيار لدفع ضرر متحقق فكان على الفور كخيار الشفعة وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الولد للفراش ] عام خرج منه ما اتفقنا عليه مع السنة الثابتة فما عداه يبقى على عموم الحديث وما ذكره أبو حنيفة يبطل بخيار الرد بالعيب والأخذ بالشفعة وتقديره بمدة النفاس تحكم لا دليل عليه وما قاله عطاء يبطل أيضا بما ذكرناه ولا يلزم القصاص لأنه لاستيفاء حق لا لدفع ضرر ولا الحمل لأنه لم يتحقق ضرره إذا ثبت هذا فهل يتقدر الخيار في النفي بمجلس العلم أو بإمكان النفي على وجهين بناء على المطالبة بالشفعة فإن أخر نفيه عن ذلك ثم ادعى أنه لا يعلم بالولادة وأمكن صدقه بأن يكون في موضع يخفى عليه ذلك مثل أن يكون في محلة أخرى فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم العلم وإن لم يمكن مثل أن يكون معها في الدار لم يقبل لأن ذلك لا يكاد يخفى عليه وإن قال علمت ولادته ولم أعلم أن لي نفيه أو علمت ذلك ولم أعلم أنه على الفور وكان ممن يخفى عليه ذلك كعامة الناس قبل منه لأن هذا مما يخفى عليهم فأشبه ما لو كان حديث عهد بالإسلام وإن كان فقيها لم يقبل ذلك منه لأنه مما لا يخفى عليه ذلك ويحتمل أن يقبل منه لأن الفقيه يخفى عليه كثير من الأحكام وقال أصحابنا لا يقبل ذلك من الفقيه ويقبل من الناشيء ببادية وحديث العهد بالإسلام وهل يقبل من سائر العامة ؟ على وجهين وإن كان له عذر يمنعه من الحضور لنفيه المرض والحبس أو الاشتغال بحفظ مال يخاف ضيعته أو بملازمة غريم يخاف قوته أو غيبته نظرت فإن كانت مدة ذلك قصيرة فأخره إلى الحضور ليزول عذره لم يبطل نفيه بمنزلة من علم ذلك ليلا فأخره إلى الصبح وإن كانت تتطاول فأمكنه النتفيذ إلى الحاكم لبيعث إليه من يستوفي عليه اللعان والنفي فلم يفعل سقط نفيه فإن لم يمكنه أشهد على نفسه أن ناف لولد امرأته فإن لم يفعل بطل خياره لأنه إذا لم يقدر على نفيه كان الإشهاد قائما مقامه كما يقيم المريض الفيئة بقوله بدلا عن الفيئة بالجماع فإن قال : لم أصدق المخبر عنه نظرت فإن كان مستفيضا منتشرا لم يقبل قوله وإن لم يكن مستفيضا وكان المخبر مشهور العدالة لم يقبل وإلا قبل وإن قال : لم أعلم أن علي ذلك قبل قوله لأنه مما يخفى وإن علم وهو غائب فأمكنه السير فاشتغل به لم يبطل خياره وإن أقام من غير حاجة بطل لأنه أخره لغير عذر وإن كانت له حاجة تمنعه من السير فهو على ما ذكرنا من قبل وإن أخر نفيه لغير عذر وقال : أخرت نفيه رجاء أن يموت فأستر عليه وعلي بطل خياره لأنه أخر نفيه مع الإمكان لغير عذر
فصل : فإن هنىء به فأمن على الدعاء لزمه في قولهم جميعا وإن قال : أحسن الله جزاءك أو بارك الله عليك أو رزقك الله مثله لزمه الولد وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يلزمه لأنه جازاه على قصده وإذا قال رزقك الله مثله فليس ذلك إقرارا ولا متضمنا له
ولنا أن ذلك جواب الراضي في العادة فكان إقرارا كالتأمين على الدعاء وإن سكت كان إقرارا ذكره أبو بكر لأن السكوت صلح دالا على الرضا في حق البكر وفي مواضع أخر فههنا أولى وفي ل موضع لزمه الولد لم يكن له نفيه بعد ذلك في قول جماعة أهل العلم منهم الشعبي و النخعي وعمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و ابن المنذر وأصحاب الرأي وقال الحسن : له أن يلاعن لنفيه ما دامت أمه عنده يصير لها الولد ولو أقر به والذي عليه الجمهور أولى فإنه أقر به فلم يملك جحده كما لو بانت منه أمه ولأنه أقر بحق عليه فلم يقبل منه جحده كسائر الحقوق (9/47)
مسألة وفصل انكار الولد الذي ولدته امرأته لا يوجب الحد
مسألة : قال : ولو جاءت امرأته بولد فقال لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فهو ولده في الحكم ولا حد عليه لها
وجملة ذلك أن المرأة إذا ولدت فقال زوجها ليس هذا الولد مني أو قال : ليس هذا ولدي فلا حد عليه لأن هذا ليس بقذف بظاهره لاحتمال أنه يريد أنه من زوج آخر أو من وطء بشبهة أو غير ذلك ولكنه يسأل فإن قال زنت فولدت هذا من الزنا فهذا قذف يثبت به اللعان وإن قال أردت أنه لا يشبهني خلقا ولا خلقا فقالت بل أردت قذفي فالقول قوله لأنه أعلم لمراده لا سيما إذا صرح بقوله : لم تزن وإن قال : وطئت بشبهة والولد من الواطىء فلا حد عليه أيضا لأنه لم يقذفها ولا قذف واطئها وإن قال : أكرهت على الزنا فلا حد أيضا لأنه لم يقذفها ولا لعان في هذه المواضع لأنه لم يقذفها ومن شرط اللعان القذف ويلحقه نسب الولد وبهذا قال أبو حنيفة
وذكر القاضي أن في هذه الصورة الآخرة رواية أخرى أن له اللعان لأنه محتاج إلى نفي الولد بخلاف ما إذا قال : وطئت بشبهة فإنه يمكن نفي النسب بعرض الولد على القافة فيستغني بذلك عن اللعان فلا يشرع كما لا يشرع لعان أمته لما أمكن نفي نسب ولدها بدعوى الاستبراء وهذا مذهب الشافعي
ولنا أن اللعان إنما ورد الشرع بعد القذف في قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } الآية ولما لاعن النبي صلى الله عليه و سلم بين هلال وامرأته كان بعد قذفه إياها وكذلك لما لاعن بين عويمر العجلاني وامرأته كان بعد قذفه إياها ولايثبت الحكم إلا في مثله ولأن نفي اللعان إنما ينتفي به الولد بتمامه منهما ولا يتحقق اللعان من المرأة ههنا فأما ههنا فأما إن قال : وطئك فلان بشبهة وأنت تعلمين الحال فقد قذفها وله لعانها ونفي نسب ولدها وقال القاضي : ليس له نفيه باللعان وكذلك قال أصحاب الشافعي لأنه يمكنه نفي نسبه بعرضه على القافة فأشبه ما لو قال : واشتبه علي أيضا
ولنا أنه رام لزوجته فيدخل في عموم قوله تعالى : { والذين يرمون أزواجهم } ولأنه رام لزوجته بالزنا فملك لعانها ونفى ولدها كما لو قال : زنى بك فلان وما ذكروه لا يصح فإنه لا يوجد قافة وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه أو يغيب أو يموت فلا ينتفي الولد وإن قال ما ولدته وإنما التقطته أو استعارته فقالت بل هو ولدي منك لم يقبل قول المرأة إلا ببينة وهذا قول الشافعي و أبي ثور واصحاب الرأي لأن لولادة يمكن إقامة البينة عليها والأصل عدمها فلم تقبل دعواها من غير بينة كالدين قال القاضي : وكذلك لا تقبل دعواها للولادة فيما إذا علق طلاقها بها ولا دعوى الأمة لها لتصير بها أم ولد ويقبل قولها فيه لتقضي عدته بها فعلى هذا لا يلحقه الولد إلا أن تقيم بينة وهي امرأة نرضية تشهد بولادتها له فإذا ثبتت ولادتها له لحقه نسبه لأنه ولد على فراشه والولد للفراش
وذكر القاضي في موضع آخر أن القول قول المرأة لقول الله تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } وتحريم كتمانه دليل على قبول قولها فيه ولأنه خارج من المرأة تنقضي به عدتها فقبل قولها فيه كالحيض ولأنه حم يتعلق بالولادة فقبل قولها فيه كالحيض فعلى هذا النسب لاحق به وهل له نفيه باللعان ؟ فيه وجهان :
أحدهما : ليس له نفيه لإن إنكاره لولادتها إياه إقرار بأنها لم تلده من زنا فلا يقبل إنكاره لذلك لأنه تكذيب لنفسه والثاني : له نفيه لأنه رام لزوجته وناف لولدها فكان له نفيه باللعان كغيره
فصل : ومن ولدت مرأته ولدا لا يمكن كونه منه في النكاح لم يلحقه نسبه ولم يحتج إلى نفيه لأنه يعلم أنه ليس منه فلم يلحقه كما لو أتت به عقيب نكاحه لها وذلك مثل أن تأتي به لدون ستة أشهر من حين تزوجها فلا يلحق به في قول كل من علمنا قوله من أهل العلم لأننا نعلم أنها علقت به قبل أن يتزوجها وإن كان الزوج طفلا له أقل من عشر سنين فأتت بولد لم يلحقه لأنه لم يوجد ولد لمثله ولا يمكنه الوطء وإن كان له عشر فحملت المرأته لحقه ولدها ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : واضربوهم على الصلاة لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع ] وقال القاضي : يلحق به إذا أتت به لتسعة أعوام ونصف عام مدة الحمل لأن لجارية يولد لها لتسع فكذلك الغلام وقال أبو بكر : لا يلحقه حتى يلغ لأن الولد إنما يكون من الماء ولا ينزل حتى يبلغ
ولنا أنه زمن يمكن البلوغ فيه فيلحقه الولد كالبالغ [ وقد روي أن عمرو بن العاص وابنه عبد الله لم يكن بينهما إلا اثنا عشر عاما ] وأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالتفريق بينهم دليل على إمكان الوطء الذي هو سبب الولادة وأما قياس الغلام على الجارية فغير صحيح فإن الجارية يمكن الاستمتاع بها لتسع عادة والغلام لا يمكنه الاستمتاع لتسع وقد تحيض لستع وما عهد بلوغ غلام لتسع ولو تزوج رجل إمرأة في مجلس ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ثم أتت إمرأة بولد لستة أشهر من حين العقد أو تزوج مشرقي بمغربية ثم ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه وبذلك قال مالك والشافعي وقال أيو حنيفة : يلحقه نسبه لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الإمكان لحق الولد وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء
ولنا أنه لم يحصل إمكان الوطء بهذا العقد فلم يلحق به الولد كزوجة ابن سنة أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر وفارق ما قاسوا عليه لأن الإمكان إذا وجد لم يعلم أنه ليس منه قطعا لجواز أن يكون وطئها من حيث لا يعلم ولا سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطء فعلقنا الحكم على إمكانه في النكاح ولم يجز حذف الإمكان عن الاعتبار لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه فلم يجز إلحاقه به مع يقين كونه ليس منه وإن ولدت امرأة مقطوع الذكر والأنثيين لم يلحق نسبه به في قول عامة أهل العلم لأنه يستحيل منه الإنزال والإيلاج وإن قطعت أنثياه دون ذكره فكذلك لأنه لا ينزل ما يخلق منه الولد وقال أصحابنا : يلحقه النسب لأنه يتصور مته الإيلاج وينزل ماء رقيقا
ولنا أن هذا لا يخلق منه ولد عادة ولا وجد ذلك فأشبه ما لو قطع ذكره معهما ولا اعتبار بإيلاج لا يخلق منه الولد كما لو أولج أصبعه وأما قطع ذكره وحده فإنه يلحقه الولد لأنه يمكن أن يساحق فينزل ماء يخلق منه الولد ولأصحاب الشافعي اختلاف في ذلك على نحو ما ذكرنا من الخلاف عندنا قال ابن اللبان : لا يلحقه الولد في هاتين الصورتين في قول الجمهور
وقال بعضهم : يلحقه بالفراش وهو غلط لأن الولد إنما يلحق بالفراش إذا أمكن ألا ترى أنها إذا ولدت بعد شهر منذ تزوجها لم يلحقه وههنا لا يمكن لفقد المني من المسلول وتعذر إيصال المني إلى قرار الرحم من المجبوب ولا معنى لقول من قال : يجوز أن تستدخل المرأة مني الرجل فتحمل لأن الولد مخلوق من مني الرجل والمرأة جميعا ولذلك يأخذ الشبه منهما وإذا استدخلت المني بغير جماع لم تحدث لها لذة تمني بها فلا يختلط منهما
ولو صح ذلك لكان الأجنبيان الرجل والمرأة إذا تصادقا أنها استدخلت منيه وإن الولد من ذلك المني يلحقه نسبه وما قال ذلك أحد (9/52)
فصول ولادة المطلقة ولدا ثم آخر وحكم من غاب عن زوجته سنين فطلقت منه ثم عاد
فصل : وإن طلق امرأته وهي حامل فوضعت ولدا ثم ولدت آخر قبل مضي ستة أشهر فهو من الزوج لأننا نعلم أنهما حمل واحد فإذا كان أحدهما منه فالآخر منه وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر لم يلحق الزوج وانتفى عنه من غير لعان لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما مدة الحمل فعلم أنها علقت به بعد زوال الزوجية وانقضاء العدة وكونها أجنبية فهي كسائر الأجنبيات وإن طلقها فاعتدت بالإقراء ثم ولدت ولدا قبل مضي ستة أشهر من آخر إقرائها لحقه لأننا تيقنا أنها لم تحمله بعد انقضاء عدتها ونعلم أنها كانت حاملا به في زمن رؤية الدم فيلزم أن لا يكون الدم حيضا فلم تنقض عدتها به وإن أتت به لأكثر من ذلك لم يلحق بالزوج وهذا قول أبي العباس بن سريج وقال غيره من أصحاب الشافعي : يلحق به لأنه يمكن أن يكون منه والولد يلحق بالإمكان
ولنا أنها أتت به بعد الحكم بانقضاء عدتها في وقت يمكن أن لا يكون منه فلم يلحقه كما لو انقضت عدتها بوضع الحمل وإنما يعتبر الإمكان مع بقاء الزوجة أو العدة وأما بعدهما فلا يكتفى بالإمكان للحاقه وإنما يكتفى بالإمكان لنفيه وذلك لأن الفراش سبب ومع وجود السبب يكتفى بإمكان الحكمة واحتمالها فإذا انتفى السبب وآثاره فينتفي الحكم لانتفائه ولا يلتفت إلى مجرد الإمكان والله أعلم فأما إن وضعته قبل انقضاء العدة لأقل من أربع سنين لحق بالزوج ولم ينتف عنه إلا باللعان وإن وضعته لأثر من أربع سنين من حين الطلاق وكان بائنا انتفى عنه بغير لعان لأننا علمنا أنها علقت به بعد زوال الفراش وإن كان رجعيا فوضعته لأكثر من أربع سنين منذ انقضت العدة فكذلك لأنها علقت به بعد البينونة وإن وضعته لأكثر من أربع سنين منذ الطلاق ولأقل منها منذ انقضت العدة ففيه روايتان : إحداهما : لا يلحقه لأنها لم تعلق به قبل طلاقها فأشبهت البائن والثانية : يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار والإيلاء والحل في رواية فأشبه ما قبل الطلاق
فصل : فإن غاب عن زوجته سنين فبلغتها وفاته فاعتدت ونكحت نكاحا صحيحا في الظاهر ودخل بها الثاني وأولدها أولادا ثم قدم الأول فسخ نكاح الثاني وردت إلى الأول وتعتد من الثاني ولها عليه صداق مثلها والأولاد له أنهم ولدوا على فراشه روي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو قول الثوري وأهل العراق و ابن أبي ليلى و مالك و أهل الحجاز و الشافعي و إسحاق و أبي يوسف وغيرهم من أهل العلم إلا أبا حنيفة قال : الولد للأول لأنه صاحب الفراش لأن نكاحه صحيح ثابت ونكاح الثاني غير ثابت فأشبه الأجنبي
ولنا أن الثاني انفرد بوطئها في نكاح يلحق النسب في مثله فكان الولد له دون غيره كولد الأمة من زوجها يلحقه دون سيدها وفارق الأجنبي فإنه ليس له نكاح
فصل : وإن وطىء رجل امرأة لا زوج لها بشبهة فأتت بولد لحقه نسبه وهذا قول الشافعي و أبي حنيفة وقال القاضي : وجدت بخط أبي بكر أنه لا يلحق به لأن النسب لا يلحق إلا في نكاح صحيح أو فاسد أو ملك أو شبهة ملك ولم يوجد شيء من ذلك ولأنه وطء لا يستند إلى عقد فلم يلحق الولد فيه بالوطء كالزنا والصحيح في المذهب الأول
قال أحمد : كل من درأت عند الحد ألحقت به الولد ولأنه وطء اعتقد الواطىء حله فلحق به السنب كالوطء في النكاح الفاسد وفارق وطء الزنا فإنه لا يعتقد الحل فيه ولو تزوج رجلان اختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الأخرى فوطئها وحملت منه لحق الولد بالواطىء لأنه وطء يعتقد حله فلحق به النسب كالوطء في نكاح فاسد
وقال أبو بكر لا يكون الولد للواطىء وإنما يكون للزوج وهذا الذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة لأن الولد للفراش ولنا أن الواطىء انفرد بوطئها فيما يلحق به النسب فلحق به كما لو لم تكن ذات زوج وكما لو تزوجت امرأة المفقود عند الحكم بوفاته ثم بان حيا والخبر مخصوص بهذا فنقيس عليه ما كان في معناه وإن وطئت امرأته أو أمته بشبهة في طهر لم يصبها فيه فاعتزلها حتى أتت بولد لستة أشهر من حين الوطء لحق الواطىء وانتفى عن الزوج من غير لعان وعلى قول أبي بكر و ابي حنيفة : يلحق الزوج لأن الولد للفراش وإن أنكر الواطىء الوطء فالقول قوله بغير يمين ويلحق نسب الولد بالزوج لأنه لا يمكن إلحاقه بالمنكر ولا تقبل دعوى الزوج في قطع نسب الولد وإن أتت بالولد لدون ستة أشهر من حين الوطء لحق الزوج بكل حال لأننا نعلم أنه ليس من الواطىء وإن اشتركا في وطئها في طهر فأتت بولد يمكن أن يكون منهما لحق الزوج لأن الولد للفراش وقد أمكن كونه منه وإن ادعى الزوج أنه من الواطىء فقال بعض أصحابنا : يعرض على القافة معهما فيلحق بمن ألحقته منهما فإن ألحقته بالواطىء لحقه ولم يملك نفيه عن نفسه وانتفى عن الزوج بغير لعان وإن ألحقته بالزوج لحق ولم يملك نفيه باللعان في أصح الراويتين والأخرى : له ذلك وإن ألحقته بهما لحق بهما ولم يملك الواطىء نفيه عن نفسه وهل يملك الزوج نفيه باللعان ؟ على روايتين وإن لم توجد قافة أو أنكر الواطىء الوطء أو اشتبه على القافة لحق الزوج لأن المقتضي للحاق النسب به متحقق ولم يوجد ما يعارضه فوجب إثبات حكمه ويحتمل أن يلحق الزوج بكل حال لأن دلالة قول القافة ضعيفة ودلالة الفراش قوية فلا يجوز ترك دلالته لمعارضة دلالة ضعيفة
فصل : وإن أتت بولد فادعى أنه من زوج قبله نظرنا فإن كانت تزوجت بعد انقضاء العدة لم يلحق بالأول بحال وإن كان بعد أربع سنين منذ بانت من الأول لم يلحق به أيضا وإن وضعته لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني : لم يلحق به وينتفي عنهما وإن كان لأكثر من ستة أشهر فهو ولده وإن كان لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ولأقل من أربع سنين من طلاق الأول ولم يعلم انقضاء العدة عرض على القافة وألحق بمن ألحقته به منهما فإن ألحقته بالأول انتفى عن الزوج بغير لعان وإن ألحقته بالزوج انتفى عن الأول ولحق الزوج وهل له نفيه باللعان ؟ على روايتين (9/56)
مسائل وفصول اللعان الذي يبرأ به من الحد وألفاظ اللعان وصفته وشروطه
مسألة : قال : واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم : أشهد بالله لقد زنت ويشير إليها وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها حتى يكمل ذلك أربع مرات ثم يوقف عند الخامسة ويقال به : اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإن أبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب أربع مرات ثم توقف عند الخامسة تخوف كما خوف الرجل فإن أبت إلا أن تتم فلتقل : وغضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا
في هذه المسألة مسألتان :
المسألة الأولى : أن اللعان لا يصح إلا بمحضر من الحاكم أو من يقوم مقامه وهذا مذهب الشافعي ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر هلال بن أمية أن يستدعي زوجته إليه ولاعن بينهما ولأنه إما يمين وإما شهادة فأيهما كان فمن شرطه الحاكم ] وإن تراضى الزوجان بغير الحاكم يلاعن بينهما لم يصح ذلك لأن اللعان مبني على التغليظ والتأكيد فلم يجز بغير الحاكم كالحد وسواء كان الزوجان حرين أو مملوكين في ظاهر كلام الخرقي وقال أصحاب الشافعي : للسيد أن يلاعن بين عبده وأمته لأن له إقامة الحد عليهما
ولنا أنه لعان بين زوجين فلم يجز لغير الحاكم أو نائبه كاللعان بين الحرين ولا نسلم أن السيد يملك إقامة الحد على أمته المزوجة ثم لا يشبه اللعان الحد لأن الحد زجر وتأديب واللعان إما شهادة وإما يمين فافترقا ولأن اللعان دارىء للحد وموجب له فجرى مجرى إقامة البينة على الزنا والحكم به أو بنفيه وإن كانت المرأة خفرة لا تبرز لحوائجها بعث الحاكم نائبه وبعث معه عدولا ليلاعنوا بينهما وإن بعث نائبه وحده جاز لأن الجمع غير واجب
فصل : ويستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين لأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد حضروه مع حداثة أسنانهم فدل ذلك على أنه حضره جمع كثير لأن الصبيان إنما يحضرون المجالس تبعا للرجال ولأن اللعان بني على التغليظ مبالغة في الردع به والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في ذلك ويستحب أن لا ينقصوا عن أربعة لأن بينة الزنا الذي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة وليس شيء من هذا واجبا ويستحب أن يتلاعنا قياما فيبدأ الزوج فيلتعن وهو قائم فإذا فرغ قامت المرأة فالتعنت وهي قائمة لما [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لهلال بن أمية : قم فاشهد أربع شهادات ] ولأنه إذا قام شاهده الناس فكان أبلغ في شهرته فاستحب كثرة الجمع وليس ذلك واجبا وبهذا كله قال أبو حنيفة و الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا
فصل : قال القاضي : ولا يستحب التغليظ في اللعان بمكان ولا زمان وبهذا قال أبو حنيفة لأن الله تعالى أطلق الأمر بذلك ولم يقيده بزمن ولا مكان فلا يجوز تقييده إلا بدليل ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر الرجل بإحضار امرأته ] ولم يخصه بزمن ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل وقال أبو الخطاب : يستحب أن يتلاعنا في الأزمان والأماكن التي تعظم وهذا مذهب الشافعي إلا أن عنده في التغليظ بالمكان قولين : أحدهما : أن التغليظ به مستحب كالزمان والثاني : أنه واجب ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لاعن عند المنبر ] فكان فعله بيانا للعان ومعنى التغليظ بالمكان أنهما إذا كانا بمكة لاعن بينهما بين الركن والمقام فإنه أشرف البقاع وإن كان في المدينة فعند منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلدان في جوامعها وأما الزمان فبعد العصر لقول الله تعالى : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } وأجمع المفسرون على أن المراد بالصلاة صلاة العصر قال أبو الخطاب : في موضع أو بين الأذانين لأن الدعاء بينهما لا يرد والصحيح الأول ولو استحب ذلك لفعله النبي صلى الله عليه و سلم ولو فعله لنقل ولم يسغ تره وإهماله وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه و سلم لاعن بينهما عند المنبر فليس هذا في شيء من الأحاديث المشهورة وإن ثبت هذا فيحتمل أنه كان بحكم الإتفاق لأن مجلسه كان عنده فلاعن بينهما في مجلسه فإن كان اللعان بين كافرين فالحكم فيه كالحكم في اللعان بين المسلمين ويحتمل أن يغلظ في المكان لقوله في الأيمان وإن كان لهم مواضع يعظمونها ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها فعلى هذا يلاعن بينهما في مواضعهم اللاتي يعظمونها النصراني في البيعة واليهودي في الكنيسة والمجوسي في بيت النار وإن لم يكن لهم مواضع يعظمونها حلفهم الحاكم في مجلسه لتعذر التغليظ بالمكان وإن كانت المسلمة حائضا وقلنا إن للعان بينهما يكون في المسجد وقفت على بابه ولم تدخله لأن ذلك أقرب المواضع إليه
المسألة الثانية : في ألفاظ اللعان وصفته : اما ألفاظه فهي خمسة في حق كل واحد منهما وصفته أن الإمام يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له : قل أربع مرات أشهد إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا ويشير إليها إن كانت حاضرة ولا يحتاج مع الحضور والإشارة إلى نسبه وتسميته كما لا يحتاج إلى ذلك في سائر العقود وإن كانت غائبة أسماها ونسبها فقال : امرأتي فلانة بنت فلان ويرفع في نسبها حتى ينفي المشاركة بينها وبين غيرها فإذا شهد أربع مرات وقفه الحاكم وقال له : اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون ن عذاب الآخر وكل شيء أهون من لعنة الله ويأمر رجلا فيضع يده على فيه حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة ثم يأمر الرجل فيرسل يده عن فيه فإن رآه يمضي في ذلك قال له : قل : وإن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا
ثم يأمر المرأة بالقيام ويقول لها : قولي أشهد بالله إن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه وإن كان غائبا أسمته ونسبته فإذا كررت ذلك أربع مرات وقفها ووعظها كما ذكرنا في حق الزوج ويأمر امرأة فتضع يدها على فيها فإن رآها تمضي على ذلك قال لها : قولي : وإن غضب الله علي إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا
قال إسحاق بن منصور قلت لـ أحمد كيف يلاعن ؟ قال علي ما في كتاب الله يقول أربع مرات أشهد بالله إني فيما رميتها به لمن الصادقين ثم يوقف عند الخامسة فيقول : لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين والمرأة مثل ذلك توقف عند الخامسة فيقال له : اتقي الله فإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فإن حلفت قالت غضب الله عليها إن كان من الصادقين وعدد هذه الألفاظ الخمسة شرط في اللعان فإن أخل بواحدة منها لم يصح على ما ذكرناه فيما مضى وإن أبدل لفظا منها فظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يبدل قوله : إني لمن الصادقين بقوله : لقد زنت لأن معناهما واحد ويجوز لها إبدال إنه لمن الكاذبين بقولها : لقد كذب لأنه ذكر صفة اللعان كذلك واتباع لفظ النص أولى وأحسن وإن أبدل لفظه أشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال أحلف أو أقسم أو أولي لم يعتد به
وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أنه يعتد به لأنه أتى بالمعنى فأشبه ما لو أبدل إني لمن الصادقين بقوله لقد زنت ولـ لشافعي وجهان في هذا والصحيح أنه لا يصح لأن ما اعتبر فيه لفظ الشهادة لم يقم غيره مقامه كالشهادات في الحقوق ولأن اللعان يقصد فيه الغليظ واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ فلم يجز تركه ولهذا لم يجز أن يقسم بالله من غير كلمة تقوم مقام أشهد
والثاني : يعتد به لأنه أتى بالمعنى أشبه ما قبله ولـ لشافعي وجهان كهذين وإن أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد لم يجز لأن لفظ اللعنة أبلغ في الزجر وأشد في أنفس الناس ولأنه عدل عن المنصوص وقيل : يجوز لأن معناهما واحد وإن أبدلت المرأة لفظة الغضب باللعنة لم يجز لأن الغضب أغلظ ولهذا خصت المرأة به لأن المعزة بزناها أقبح وإثمها بفعل الزنا أعظم من إثمه بالقذف وإن أبدلتها بالسخط خرج على وجهين فيما إذا أبدل الرجل لفظة اللعنة بالإبعاد وإن أبدل الرجل لفظة اللعنة بالغضب احتمل أن يجوز لأنه أبلغ واحتمل أن لا يجوز لمخالفته المنصوص
قال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى : من الفقهاء من اشترط أن يزاد بعد قوله من الصادقين فيما رميتها به من الزنا واشترط في نفيها عن نفسها فيما رماني به من الزنا ولا أراه يحتاج إليه لأن الله سبحانه أنزل ذلك وبينه ولم يذكر هذا الاشتراط
وأما موعظة الإمام لهما بعد الرابعة وقبل الخامسة فهي مستحبة في قول أكثر أهل العلم لما روى ابن عباس قال : لما كانت الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإنها الموجبة التي توجب عليك العذاب فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها فشهد الخامسة فلما كانت الخامسة قيل لها اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وروى أبو إسحاق الجوزجاني بإسناده حديث المتلاعنين قال : فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه وقال : ويحك كل شيء أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل فقال لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ثم أمر بها فأمسك على فيها وقال : ويحك كل شيء أهون عليك من عذاب الله وذكر الحديث
فصل : ويشترط في صحة اللعان شروط ستة أحدها : أن يكون بمحضر الإمام أو نائبه الثاني : أن يأتي كل واحد منهما باللعان بعد إلقائه عليه فإن بادر به قبل أن يلقيه الإمام عليه لم يصح كما لو حلف قبل أن يحلفه الحاكم الثالث : استكمال لفظات اللعان الخمسة فإن نقص منها لفظة لم يصح الرابع : أن يأتي بصورته إلا ما ذكرنا من الاختلاف في إبدال لفظة بمثلها في المعنى الخامس : الترتيب فإن قدم لفظة اللعنة على شيء من الألفاظ الأربعة أو قدمت المرأة لعانها على لعان الرجل لم يعتد به السادس : الإشارة من كل واحد منهما إلى صاحبه إن كان حاضرا وتسميته ونسبته إن كان غائبا ولا يشترط حضورهما معا بل لو كان أحدهما غائبا عن صاحبه مثل : أن لاعن الرجل في المسجد والمرأة على بابه لعدم إمكان دخولها جاز
فصل : وإذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز أن يلتعنا بغيرها لأن اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية وإن كانا لا يحسنان ذلك جاز لهما الالتعان بلسانهما لموضع الحاجة فإن كان الحاكم يحسن لسانهما أجزأ ويستحب أن يحضر معه أربعة يحسنون لسانهما وإن كان الحاكم لا يحسن لسانهما فلا بد من ترجمان قال القاضي : ولا يجزىء في الترجمة أقل من اثنين عدلين وهو قول الشافعي وظاهر قول الخرقي لأنه قال : ولا يقبل في الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه أقل من عدلين يعرفان لسانه وذكر أبو الخطاب رواية أخرى أنه يجزىء قول عدل واحد وهو قول أبي حنيفة وسنذكر ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى (9/60)
مسألة قال : وإن كان بينهما في اللعان ولد
مسألة : قال : وإن كان بينهما في اللعان ولد ذكر الولد فإذا قال : أشهد بالله لقد زنت يقول : وما هذا الولد ولدي وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب وهذا الولد ولده
وجملة ذلك أنه متى كان اللعان لنفي ولد فلا بد من ذكره في لعانهما وقال الشافعي : لا تحتاج المرأة إلى ذكره لأنها لا تنفيه وإنما احتاج الزوج إلى ذكره لنفيه وقال أبو بكر : لا يحتاج واحد منهما إلى ذكره وينتفي بزوال الفراش
ولنا أن من سقط حقه باللعان اشترط ذكره فيه المرأة والمرأة أحد الزوجين فكان ذكر الولد شرطا في لعانها كالزوج ولأنهما متحالفان على شيء فاشترط ذكره في تحالفهما كالمختلفين في اليمين وظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي بقول الزوج : وما هذ الولد ولدي ومن المرأة بقولها : وهذا الولد ولده وقال القاضي يشترط أن يقول هذا الولد من زنا وليس هو مني وهو مذهب الشافعي لأنه قد يريد بقوله ليس هو مني يعني خلقا وخلقا ولم نقتصر على قوله من زنا لأنه قد يعتقد أن الوطء في نكاح فاسد زنا فأكدنا بذكرهما جميعا
ولنا أنه نفى الولد في اللعان فاكتفى به كما لو ذكر اللفظين وما ذكروه من التأكيد تحكم بغير دليل ولا ينتفي الاحتمال بضم إحدى اللفظتين إلى الأخرى فإنه إذا اعتقد أنه من وطء فاسد واعتقد أن ذلك زنا صح منه أن يقول اللفظتين جميعا وقد يريد أنه لا يشبهني خلقا وخلقا او أنه من وطء فاسد فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عنه وإن أراد نفيه أعاد اللعان ويذكر نفي الولد فيه (9/66)
فصول قذف الرجل امرأته بالزنا برجل وقذف أكثر من زوجته وتكرار القذف
فصل : وإذا قذف امرأته بالزنا برجل بعينه فقد قذفهما وإذا لاعنها سقط الحد عنه لهما سواء ذكر الرجل في لعانه أو لم يذكره وإن لم يلاعن فلكل واحد منهما المطالبة وأيهما طالب حد له ومن لم يطالب فلا يحد له كما لو قذف رجلا بالزنا بامرأة معينة وبهذا قال أبو حنيفة مالك إلا في أنه لا يسقط حده بلعانها وقال بعض أصحابنا : القذف للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق في المطالبة ولا الحد لأن هلال بن أمية قذف زوجته بشريك ابن سحماء فلم يحده النبي صلى الله عليه و سلم ولا عزره له
وقال بعض أصحاب الشافعي : يجب الحد وهل يجب حد واحد أو حدان ؟ على وجهين وقال بعضهم : لا يحد إلا حد واحد قولا واحدا ولا خلاف بينهم أنه إذا لاعن وذكر الأجنبي في لعانه أنه يسقط عنه حكمه وإن لم يذكره فعلى وجهين
ولنا أن اللعان في احد الطرفين فكان بينة في الطرف الآخر كالشهادة ولأن به حاجة إلى قذف الزاني لما أفسد عليه من فراشه وربما يحتاج إلى ذكره ليستدل بشبه الولد للمقذوف على صدق قاذفه كما استدل النبي صلى الله عليه و سلم على صداق هلال بشبه الولد لشريك بن سحماء فوجب أن يسقط حكم قذفه ما أسقط حكم قذفها قياسا له عليها
فصل : ولو قذف امرأته وأجنبية أو أجنبيا بكلمتين فعليه حدان لهما فيخرج من حد الأجنبية بالبينة خاصة ومن حد الزوجة بالبينة أو اللعان وإن قذفهما بكلمة فكذلك إلا أنه إذا لم يلاعن ولم تقم بينة فهل يحد لهما واحدا أو حدين ؟ على روايتين إحداهما : يحد حدا واحدا وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في القديم وزاد أبو حنيفة سواء كان بكلمة أو بكلمات لأنهما حدود من جنس فوجب أن تتداخل كحدود الزنا والثانية : إن طالبوا مجتمعين فحد واحد وإن طالبوا متفرقين فلكل واحد حد لأنهم إذا اجتمعوا في الطلب أمكن إيفاؤهم بالحد الواحد وإذا تفرقوا لم يمكن جعل الحد الواحد إيفاء لمن لم يطالب لأنه لا يجوز إقامة الحد له قبل المطالبة منه وقال الشافعي في الحد : يقام لكل واحد حد بكل حال لأنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون
ولنا أنه إذا قذفهما بكلمة واحدة يجزىء حد واحد لأنه يظهر كذبه في قذفه وبراءة عرضهما من رميه بحد واحد فأجزأ كما لو كان القذف لواحد وإذا قذفهما بكلمتين وجب حدان لأنهما قذفان لشخصين فوجب لكل واحد حد كما لو قذف الثاني بعد حد الأول وهكذا الحكم فيما إذ قذف أجنبيتين أو أجنبيات فالتفصيل فيه على ما ذكرناه وإن قذف أربع نسائه فالحكم في الحد كذلك وإن أراد اللعان فعليه أن يلاعن لكل واحدة لعانا مفردا ويبدأ بلعان التي تبدأ بالمطالبة فإن طالبن جميعا وتشاححن بدأ بإحداهن بالقرعة وإن لم يتشاححن بدأ بلعان من شاء منهن ولو بدأ بواحدة منهن من غير قرعة من المشاحة صح ويحتمل أن يجزئه لعان واحد فيقول : أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به كل واحدة من زوجاتي هؤلاء الأربع من الزنا وتقول كل واحدة : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا لأنه يحصل المقصود بذلك والأول أصح لأن اللعان أيمان فلا تتداخل لجماعة كالأيمان في الديون
فصل : ولو قال لزوجته يا زانية بنت الزانية فقد قذفها وقذف أمها بكلمتين والحكم في الحد لهما على ما مضى في التفصيل فيه فإن اجتمعا في المطالبة ففي أيتهما يقدم ؟ فيه وجهان أحدهما : الأم لأن حقها آكد لكونه لا يسقط إلا بالبينة ولأن لها فضيلة الأمومة والثاني : تقديم البنت لأنه بدأ بقذفها ومتى حد لإحداهما ثم وجب عليه الحد للأخرى لم يحد حتى يبرأ جلده من حد الأولى فإن قيل إن الحد ههنا حق لآدمي فلم لا يتوالى بينهما كالقصاص فإنه لو قطع يدي رجلين قطعنا يديه لهما ولم نؤخره ؟ قلنا لأن حد القذف لا يتكرر بتكرر سببه قبل إقامة حده فالموالاة بين حدين فيه تخرجه عن موضوعه والقصاص يجوز أن تقطع الأطراف كلها في قصاص واحد فإذا جاز لواحد فلاثنين أولى
فصل : وإن قذف محصنا مرات فحد واحد رواية واحدة سواء قذفه بزنا آخر أو كرر القذف بالأول لأنهما حدان ترادف سببهما فتداخلا كالزنا مرارا وإن قذفه فحد له ثم قذفه مرة أخرى بذلك الزنا فلا حد عليه لأنه قد تحقق كذبه فيه بالحد فلا حاجة إلى إظهار كذبه فيه ثانيا ولما جلد عمر ابا بكرة حين شهد على المغيرة بن شعبة أعاد قذفه فهم عمر بإعادة الحد عليه فقال له علي إن جلدته فارجم صاحبه فتركه ولكنه يعزر تعزير السب والشتم وذكر القاضي أن فيه رواية أخرى أن عليه الحد ثانيا لأنه قذف ثان بعد إقامة الحد عليه فأشبه ما لو قذفه بزنا ثان وأما إن قذفه بزنا آخر فعليه حد آخر لأنه قذف لمحصن لم يحد فيه فوجب أن يتعقبه الحد كالأول ولأن سبب الحد وجد بعد إقامته فأعيد عليه كالزنا والسرقة وعن أحمد رواية أخرى لا حد عليه في الثاني لأنه حد لصاحبه مرة فلا يعاد عليه الحد كما لو قذفه بالزنا الأول وعلى هذه الرواية يعزر تعزير السب والشتم وهذه الرواية الثانية فيما إذا تقارب القذف الثاني من الحد فأما إذا تباعد زمانهما وجب الحد بكل حال لأنه لا يجوز أن يكون حده مرة من أجله فوجب إطلاق عرضه له ومذهب الشافعي في هذا كمذهبنا إلا أنهم حكوا عن الشافعي فيما إذا أعاد القذف بزنا ثان قبل إقامة الحد قولين أحدهما : يجب حد واحد والثاني : يجب حدان فأما إن قذف أجنبية ثم تزوجها ثم قذفها فعليه الحد للقذف الأول ولا شيء عليه للثاني في قول أبي بكر و حكي نحو ذلك عن الزهري و الثوري و أصحاب الرأي لأنه لو قذف أجنبية قذفين لم يجب عليه أكثر من حد واحد واختار القاضي أنه إن قذفها بالزنا الأول لم يكن عليه أكثر من حد واحد وليس له إسقاطه إلا بالبينة وإن قذفها بزنا آخر فهو على الراويتين فيما إذا قذف الأجنبية ثم حد لها ثم قذفها بزنا آخر فإن قلنا يجب حدان فطالبت المرأة بموجب القذف الأول فاقام به بينة سقط عنه حده ولم يجب في الثاني حد لأنها غير محصنة وإن لم يقم بينة حد لها ومتى طالبته بموجب الثاني فأقام به بينة أو لاعنها سقط وإلا وجب عليه الحد أيضا لأن هذا القذف موجبه غير موجب الأول فإن لأول موجبه الحد على الخصوص والثاني موجبه للعان والحد إن بدأت بالمطالبة بموجب الثاني فأقام بينة به أو لاعن سقط حده ولها المطالبة بموجب الأول فإن أقام به بينة وإلا حد
قال القاضي : إن أقام بالثاني بينة سقط موجب الأول وهو مذهب الشافعي لأنها صارت غير محصنة ولا يثبت لها حد المحصنات
ولنا أن سقوط إحصانها في الثاني لا يوجب سقوطه فيما قبل ذلك كما لو استوفى حده قبل إقامة البينة ولعل هذا ينبني على ما إذا قذف رجلا فلم يقم الحد على القاذف حتى زنى المقذوف وإن لم يقم بينة عليهما ولم يلتعن للثاني لم يجب إلا حد واحد نص عليه أحمد ولأنهما حدان من جنسين ترادفا فلم يقم أحدهما فتداخلا كما لو قذفها وهي أجنبية قذفين ولو قذف زوجته فحد لها ثم أعاد قذفها بذلك الزنا لم يحد لها لما ذكرنا في إعادة قذف الأجنبي لكن يعزر للأذى والسب وليس له إسقاط التعزير باللعان لأنه تعزير سب لا تعزير قذف إلا على الرواية التي تلزم الأجنبي حدان بإعادة القذف فإن هيلزمه ههنا حد وله إسقاطه باللعان وإن ولد له ولد بعد حده فذكر أنه من ذلك الزنا فله اللعان لإسقاطه على كلتا الروايتين لأنه محتاج إلى نفيه وإن قذفها في الزوجية قذفين بزناءين فليس عليه إلا حد واحد ويكفيه لعان واحد لأنه يمين فإذا كان الحقان لواحد كفته يمين واحدة لكنه يحتاج أن يقول : اشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزناءين وفارق ما إذا قذف زوجتين حيث لا يكفيه لعان واحد لأن اليمين وجبت لكل واحد منهما فلا تتداخل كسائر الأيمان وإن أقام البينة بالأول سقط عنه موجب الثاني لأنه زال إحصانها ولا لعان إلا أن يكون فيه نسب يريد نفيه وإن أقامها بالثاني لم يسقط الحد الأول وله إسقاطه باللعان إلا على قول القاضي فإنه يسقط بإقامة البينة على الثاني وإن قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الأول فلا حد عليه لأنه قد حققه لعانه ويحتمل أن يحد كما لو قذفها به أجنبي وهو قول القاضي ولو قذفها به أجنبي أو بزنا غيره فعليه الحد في قول عامة أهل العلم منهم ابن عباس و الزهري و الشعبي و النخعي و قتادة و مالك و الشافعي و أبو عبيد وذكر أبو عبيد عن أصحاب الرأي أنهم قالوا : إن لم ينف بلعانها ولدا حد قاذفها وإن نفاه فلا حد على قاذفها لأنه منتف عن زوجها بالشرع
ولنا ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من رماها أو ولدها فعليه الحد ] رواه أبو داود وهذا نص فإنه نص على ما رماها مع أن ولدها منفي عن الملاعن شرعا ولأنه لم يثبت زناها ولا زال إحصانها فيلزم قاذفها الحد بقوله تعالى : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } وكما لو لم ينف ولدها فأما إن أقام بينة فقذفها قاذف بذلك الزنا أو بغيره فلا حد عليه لأنه قد زال إحصانها ولأن هذا القذف لم يدخل المعرة عليها وإنما دخلت المعرة بقيام البينة ولكنه يعزر تعزير السب والأذى وهكذا كل من قامت البينة بزناه لا حد على قاذفه وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي ولكنه يعزر تعزير السب والأذى ولا يملك الزوج إسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه وإن قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا آخر فعليه الحد لأنها بانت منه باللعان وصارت أجنبية إلا أن يضيف الزنا إلى حال الزوجية فعند ذلك إن كان ثم نسب يريد نفيه فله الملاعنة لنفيه وإلا لزمه الحد ولا لعان بينهما (9/67)
مسألتان وفصل التعان الرجل دون المرأة وحكم ما لو أقرت دون الأربع مرات
مسألة : قال : فإن التعن هو ولم تلتعن هي فلا حد عليها والزوجية بحالها
وجملة ذلك أنه إذا لاعنها وامتنعت من الملاعنة فلا حد عليها وبه قال الحسن و الأوزاعي وأصحاب الرأي وروي ذلك عن الحارث العكلي و عطاء الخراساني وذهب مكحول و الشعبي و مالك و الشافعي و بو عبيد و أبو ثور و أبو إسحاق الجوزجاني و ابن المنذر إلى أن عليها الحد لقول الله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات } والعذاب الذي يدرؤه لعانها هو الحد المذكور في قوله سبحانه : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } ولأنه بلعانه حقق زناها فوجب عليها الحد كما لو شهد عليها أربعة
ولنا أنه لم يتحقق زناها فلا يجب عليها الحد كما لو لم يلاعن ودليل ذلك أن تحقيق زناها لا يخلو إما أن يكون بلعان الزوج أو بنكولها أو بهما معا لا يجوز أن يكون بلعان الزوج وحده لأنه لو ثبت زناها به لما سمع لعانها ولا وجب الحد على قاذفها ولأنه إما يمين وإما شهادة وكلاهما لا يثبت له الحق على غيره ولا يجوز أن يثبت بنكولها لأن لحد لا يثبت بالنكول فإنه يدرأ بالشبهات فلا يثبت بها وذلك لأن النكول يحتمل أن يكون لشدة خفرها أو لعقله على لسانها أو غير ذلك فلا يجوز إثبات الحد لذي اعتبر في بينته من العدد ضعف ما اعتبر في سائر الحدود واعتبر في حقهم أن يصفوا صورة الفعل وأن يصرحوا بلفظه وغير ذلك مبالغة في نفي الشبهات عنه وتوسلا إلى إسقاطه ولا يجوز أن يقضى فيه بالنكول الذي هو في نفسه شبهة لا يقضى به في شيء من الحدود ولا العقوبات ولا ما عدا الأمول مع أن الشافعي لا يرى القضاء بالنكول في شيء فكيف يقضي به في أعظم الأمور وأبعدها ثبوتا وأسرعها سقوطا ولأنها لو أقرت بلسانها ثم رجعت لم يجب عليها الحد فلأن لا يجب بمجرد امتناعها من اليمين على براءتها أولى ولا يجوز أن يقضى فيه بهما لأن ما لا يقضى فيه باليمين المفردة لا يقضى فيه باليمين مع النكول كسائر الحقوق ولأن ما في كل واحد منهما من الشبهة لا ينتفي بضم أحدهما إلى الآخر فإن احتمال نكولها لفرط حيائها وعجزها عن النطق باللعان في مجمع الناس لا يزول بلعان الزوج والعذاب يجوز أن يكون الحبس أو غيره فلا يتعين في الحد وإن احتمل أن يكون هو المراد فلا يثبت الحد بالاحتمال وقد يرجح ما ذكرناه بقول عمر رضي الله عنه إن الحد على من زنا وقد أحصن إذا كانت بينة أو كان الحمل أو الاعتراف فذكر موجبات الحد ولم يذكر اللعان
واختلفت الرواية فيما يصنع بها فروي أنها تحبس حتى تلتعن أو تقر أربعا قال أحمد : فإن أبت المرأة أن تلتعن بعد التعاون الرجل أجبرتها عليه وهبت أن أحكم عليها بالرجم لأنها لو أقرت بلسانها لم ارجمها إذا رجعت فكيف إذا أبت اللعان ؟ ولا يسقط النسب إلى بالتعانهما جميعا لأن الفراش قائم حتى تلتعن والولد للفراش قال القاضي : هذه الرواية أصح وهذا قول من وافقنا في أنه لا حد عليها وذلك لقول الله تعالى : { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله } فيدل على أنها إذا لم تشهد لا يندرىء عنها العذاب
والرواية الثانية : يخلى سبيلها وهو قول أبي بكر لأنه لم يجب عليها الحد فيجب تخلية سبيلها كما لو لم تكمل البينة فأما الزوجية فلا تزول والولد لا ينتفي ما لم يتم اللعان بينهما في قول عامة أهل العلم إلا الشافعي فإنه قضى بالفرقة ونفي الولد بمجرد لعان الرجل وقد ذكرنا ذلك
مسألة : قال : وكذلك إن أقرت دون الأربع مرات
وجملته أن الرجل إذا قذف امرأته فصدقته وأقرت بالزنا مرة أو مرتين أو ثلاثا لم يجب عليها الحد لأنه لا يثبت إلا بإقرار أربع مرات على ما يذكر في الحدود ثم إن كان تصديقها أنه قبل لعانه فلا لعان بينهما لأن اللعان كالبينة إنما يقام مع الإنكار وإن كان بعد لعانه لم تلاعن هي لأنها لا تحلف مع الإقرار وحكمها حكم ما لو امتنعت من غير إقرار وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : إن صدقته قبل لعانه فعليها الحد وليس له أن يلاعن إلا أن يكون ثم نسب ينفيه فيلاعن وحده وينتفي النسب بمجرد لعانه فإن كان بعد لعانه فقد انتفى النسب ولزمها الحد بناء على أن النسب ينتفي بمجرد لعانه وتقع الفرقة ويجب الحد فإن الحد بإقرار مرة وهذه الأصول قد مضى أكثرها ولو أقرت أربعا وجب الحد ولا لعان بينهما إذا لم يكن ثم نسب ينفي وإن رجعت سقط الحد عنها بغير خلاف علمناه وبه يقول الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي فإن الرجوع عن الإقرار بالحد مقبول وليس له ان يلاعن للحد فإنه لم يجب عليه لتصديقها إياه وإن أراد لعانها لنفي نسب فظاهر قول الخرقي أنه ليس له ذلك في جميع هذه الصور وهو قول أصحاب الرأي
وقال الشافعي : له لعانها لنفي النسب فيها كلها لأنها لو كانت عفيفة صالحة فكذبته ملك نفي ولدها فإذا كانت فاجرة فصدقته فلأن يملك نفي ولدها أولى ووجه الأول أن نفي الولد إنما يكون بلعانهما معا وقد تعذر اللعان منهما ولأنها لا تستحلف على نفي ما تقر به فتعذر نفي الولد لتعذر سببه كما لو مات بعد القذف وقبل اللعان
فصل : ولو قال لامرأته يا زانية فقالت بك زنيت فلا حد عليها ولا عليه وقال أصحاب الشافعي : عليه حد القذف لأنه يحتمل أنها أرادت بذلك نفي الزنا عن نفسها كما يستعمل أهل العرف فيما إذا قال قائل : سرقت قال معك سرقت أي أنا لم اسرق لكونك أنت لم تسرق
ولنا أنها صدقته في قذفه إياها فأشبه ما لو قال : صدقت ولا حد عليها لأن حد الزنا لايثبت إلا بالإقرار اربع مرات وليس عليها حد القذف لأنها لم تقذفه وإنما أقرت على نفسها بزناها به ويمكن ذلك من غير كونه زانيا بأن يظنها زوجته وهي عالمة أنه أجنبي ولأنه يحتمل أن تريد نفي ذلك عنهما كما ذكروه أو أنه يطأني سواك فإن لم يكن زنا فأنت شريكي فيه ولا يجب الحد مع الاحتمال ولا يلزم من سقوطه عن الرجل بظاهر تصديقها وجوبه عليها مع الاحتمال فإن الحد يدرأ بالشبهات ولا يجب بها ولو قال يا زانية فقالت أنت أزنى مني فقال أبو بكر فيها كالتي قبلها لا حد على الزوج بتصديقها له ولا على المرأة لما ذكرنا في التي قبلها
وقال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي : ليس قولها قذفا قال الشافعي : إلا أن تريد القذف لأنه يحتمل أن تريد أنه أصابني وهو زوجي فإن كان ذلك فهو أبلغ مني منه وقال القاضي : عليها حد لقذفها ولا حد عليه لتصديقها إياه وقد أتت بصريح قذفه بالزنا فوجب عليها الحد كما لو قالت : أنت زان والاحتمال مع التصريح بالقذف لا يمنع الحد كما لو قالت أنت زان فأما إن قال يا زانية فقالت : بل أنت زان فكل واحد منهما قاذف لصاحبه عليه حد القذف إلا أن المرأة لا تملك إسقاط حدها إلا بالبينة والزوج يملك إسقاطه ببينة أو لعان (9/73)
فصل كتاب العدد
الأصل في وجوب العدة الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقوله سبحانه : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وقوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] [ وقال لفاطمة بنت قيس : اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ] في آي وأحاديث كثيرة وأجمعت الأمة على وجوب العدة في الجملة وإنما اختلفوا في أنواع منها وأجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا } ولأن العدة تجب لبراءة الرحم وقد تيقناها وهكذا كل فرقة في الحياة كالفسخ لرضاع أو عيب أو عتق أو لعان أ واختلاف دين (9/77)
فصول وجوب العدة وأقسام المعتدات وفروع من الفرقة بين الزوجين
فصل : وتجب العدة على الذمية من الذمي والمسلم وقال أبو حنيفة : إن لم تكن من دينهم لم تلزمها لأنهم لا يخاطبون بفروع الدين
ولنا عموم الآيات ولأنها بائن بعد الدخول أشبه المسلمة وعدتها كعدة المسلمة في قول علماء الأمصار منهم مالك و الثوري و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي ومن تبعهم إلا ما روي عن مالك أنه قال : تعتج من الوفاة بحيضة
ولنا عموم قول الله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ولأنها معتدة من الوفاة أشبهت المسلمة
فصل : والمعتدات ثلاثة أقسام :
الأول : معتدة بالحمل وهي امرأة حامل من زوج إذا فارقت زوجها بطلاق أو فسخ أو موته عنها حرة كانت أو أمة مسلمة أو كافرة فعدتها بوضع الحمل ولو بعد ساعة لقول الله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }
والثاني : معتدة بالقروء وهي كل معتدة من فرقة في الحياة أو وطء في غير نكاح إذا كانت ذات قرء فعدتها القرء لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }
والثالث : معتدة بالشهور وهي كل من تعتد بالقرء إذا لم تكن ذات قرء لصغر أو إياس لقول الله تعالى { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } وذات القرء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة اشهر للحمل وعدة الآيسة وكل من توفي عنها زوجها ولا حمل بها قبل الدخول أو بعده حرة أو أمة فعدتها بالشهور لقول الله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا }
فصل : وكل فرقة بين زوجين فعدتها عدة الطلاق سواء كانت بخلع أو لعان أو رضاع أو فسخ بعيب أو إعسار أو إعتاق أو اختلاف دين أو غيره في قول أكثر أهل العلم وروي عن ابن عباس أن عدة الملاعنة تسعة أشهر وأبى ذلك سائر أهل العلم وقالوا : عدتها عدة الطلاق لأنها مفارقة في الحياة فأشبهت المطلقة وأكثر اهل العلم يقولون : عدة المختلعة عدة المطلقة منهم سعيد بن المسيب و سالم بن عبد الله و عروة و سليمان بن يسار و عمر بن عبد العزيز و الحسن و الشعبي و النخعي و الزهري و قتادة و خلاس بن عمرة وأبو عياض و مالك و الليث و الأوزاعي و الشافعي وروي عن عثمان بن عفان وابن عمر وابن عباس وأبان بن عثمان و إسحاق و ابن المنذر أن عدة المختلعة حيضة ورواه ابن القاسم عن أحمد [ لما روى ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت منه فجعل النبي صلى الله عليه و سلم عدتها حيضة ] رواه النسائي وعن ربيع بنت معوذ مثل ذلك وأن عثمان قضى به رواه النسائي و ابن ماجة
ولنا قول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ولأنها فرقة بعد الدخول في الحياة فكانت ثلاثة قروء كغير الخلع و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : قرء الأمة حيضتان ] عام وحديثهم يرويه عكرمة مرسلا قال أبو بكر ضعيف مرسل وقول عثمان وابن عباس قد خالفه قول عمر وعلي فإنهما قالا عدتها ثلاث حيض وقولهما أولى وأما ابن عمر فقد روى مالك عن نافع أنه قال عدة المختلعة عدة مطلقة وهو اصح عنه
فصل : والموطوءة بشبهة تعتد عدة المطلقة وكذلك الموطوءة في نكاح فاسد وبهذا قال الشافعي لأن وطء الشبهة وفي النكاح الفاسد في شغل الرحم ولحقوق النسب كالوطء في النكاح الصحيح فكان مثله فيما تحصل به البراءة وإن وطئت المزوجة بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدتها كيلا يفضي إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب وله الاستمتاع منها بما دون الفرج في أحد الوجهين لأنها زوجة حرم وطؤها لعارض مختص بالفرج فابيح الاستمتاع منها بما دونه كالحائض
فصل : والمزني بها كالموطوءة بشبهة في العدة وبهذا قال الحسن و النخعي وعن أحمد رواية أخرى أنها تستبرأ بحيضة ذكرها ابن أبي موسى وهذا قول مالك وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : لا عدة عليها وهو قول الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي لأن العدة لحفظ النسب ولا يلحقه نسب وقد روي عن علي رضي الله عنه ما يدل على ذلك
ولنا أنه وطء يقتضي شغل الرحم فوجبت العدة منه كوطء الشبهة وأما وجوبها كعدة المطلقة فلأنها حرة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة وقولهم إنما تجب لحفظ النسب لا يصح فإنها لو اختصت بذلك لما وجبت على الملاعنة المنفي ولدها والآيسة والصغيرة ولما وجب استبراء الأمة التي لا يلحق ولدها بالبائع ولو وجبت لذلك لكان استبراء الأمة على البائع ثم لو ثبت أنها وجبت لذلك فالحاجة إليها داعية فإن المزني بها إذا تزوجت قبل الاعتداد اشتبه ولد الزوج بالولد من الزنا فلا يحصل حفظ النسب (9/77)
مسأل وفصول عدة من طلقها زوجها وقد خلا بها وبيان عدة المطلقة الحرة
مسألة : قال رحمه الله تعالى : وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض غير الحيضة التي طلقها فيها
في هذه المسألة ثلاثة فصول :
الفصل الأول : ان العدة تجب على كل من خلا بها زوجها وإن لم يمسها ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس فأما إن خلا بها ولم يصبها ثم طلقها فإن مذهب أحمد وجوب العدة عليها وروي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر وبه قال عروة وعلي بن الحسين و عطاء و الزهري و الثوري و الأوزاعي و إسحاق وأصحاب الرأي و الشافعي في قديم قوليه وقال الشافعي في الجديد : لا عدة عليها لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وهذا نص ولأنها مطلقة لم تمس فأشبهت من لم يخل بها
ولنا إجماع الصحابة روى الإمام أحمد و الأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت العدة ورواه الأثرم أيضا عن الأحنف عن عمر وعلي وعن سعيد بن المسيب عن عمر وزيد بن ثابت وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعا وضعف أحمد ما روي في خلاف ذلك وقد ذكرناه في كتاب الصداق ولأنه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام المتعلقة كعقد الإجارة والآية مخصوصة بما ذكرناه ولا يصح القياس على من لم يخل بها لأنه لم يوجد منها التمكين
فصل : وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يخلو بها مع المانع من الوطء أو مع عدمه سواء كان المانع حقيقيا كالجب والعنة والفتق والرتق أو شرعيا كالصوم والإحرام أو الحيض والنفاس والظهار لأن الحكم علق ههنا على الخلوة التي هي مظنة الإصابة دون حقيقتها ولهذا لو خلا به فأتت بولد لمدة الحمل لحقه نسبه وإن لم يطأ وقد روي عن أحمد أن الصداق لا يكمل مع وجود المانع فكذلك يخرج في العدة وروي عنه أن صوم شهر رمضان يمنع كمال الصداق مع الخلوة وهذا يدل على أنه متى كان المانع متأكدا كالإحرام وشبهه منع كمال الصداق ولم تجب العدة لأن الخلوة إنما أقيمت مقام المسيس لأنها مظنة له ومع المانع لا تتحقق المظنة وأما إن خلا بها وهي صغيرة لا يمكن وطؤها أو كان أعمى فلم يعلم بها فلا عدة عليها ولا يكمل صداقها لأن المظنة لا تتحقق مع ظهور استحالة المسيس
الفصل الثاني : إن عدة المطلقة إذا كانت حرة وهي من ذوات القروء ثلاثة قروء بلا خلاف بين أهل العلم وذلك لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } والقرء في كلام العرب يقع على الحيض والطهر جميعا فهو من الأسماء المشتركة قال أحمد بن يحيى ثعلب : القروء الأوقات الواحد قرء وقد يكون حيضا وقد يكون طهرا لأن كل واحد منهما يأتي لوقت قال الشاعر :
( كرهت العقر عقر بني تميم ... إذا هبت لقارئها الرياح )
يعني لوقتها وقال الخليل بن أحمد : يقال أقرأت المرأة إذا دنا حيضها وأقرأت إذا دنا طهرها وفي الحديث [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : دعي الصلاة أيام إقرائك فهذا الحيض ] وقال الشاعر :
( مورثة عزا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا )
فهذا الطهر واختلف أهل العلم المراد بقوله سبحانه : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } واختلفت الرواية في ذلك عن أحمد فروي أنها الحيض روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس و سعيد بن المسيب و الثوري و الأوزاعي و العنبري و إسحاق و أبي عبيد و أصحاب الرأي وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان رضي الله عنهما وأبي موسى وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء قال القاضي : الصحيح عن أحمد أن الإقراء الحيض وإليه ذهب أصحابنا ورجع عن قوله بالإطهار فقال في رواية النيسابوري : كنت أقول إنه الاطهار وأنا أذهب اليوم إلى أن الإقراء الحيض وقال في رواية الأثرم كنت أقول الاطهار ثم وقفت لقول الأكابر والرواية الثانية : عن أحمد أن القروء الأطهار وهو قول زيد وابن عمر وعائشة و سليمان بن يسار و القاسم بن محمد و سالم بن عبد الله وأبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز و الزهري و مالك و الشافعي و أبي ثور وقال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك قال ابن عبد البر : رجع أحمد إلى أن القروء الأطهار قال في رواية الأثرم رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف والأحاديث عمن قال أنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح وقوية واحتج من قال ذلك بقول الله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } أي في عدتهن كقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } أي في يوم القيامة وإنما أمر بالطلاق في الطهر لا في الحيض ويدل عليه [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عمر : مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن شاء طلق وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء ] متفق عليه [ وفي رواية ابن عمر : فطلقوهن في قبل عدتهن ] ولأنها عدة عن طلاق مجرد مباح فوجب أن يعتبر عقيب الطلاق وكعدة الآيسة والصغيرة
ولنا قول الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فنقلهن عند عدم الحيض إلى الاعتداد بالأشهر فدل ذلك على أن الأصل الحيض كما قال تعالى : { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا } الآية ولأن المعهود في لسان الشرع استعمال القرء بمعنى الحيض [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : تدع الصلاة أيام أقرائها ] رواه أبو داود [ وقال لفاطمة بنت أبي حبيش : انظري فإذا أتى قرؤك فلا تصلي وإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء ] رواه النسائي ولم يعهد في لسانه استعماله بمعنى الطهر في موضع فوجب أن يحمل كلامه على المعهود في لسانه و [ روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : طلا ق الأمة طلقتان وقرؤها حيضتان ] رواه أبو داود و غيره فإن قالوا هذا يرويه مظاهر بن مسلم وهو منكر الحديث قلنا : قد رواه عبد الله بن عيسى عن عطية العوفي عن ابن عمر كذلك أخرجه ابن ماجة في سننه وأبو بكر الخلال في جامعه وهو نص في عدة الأمة فكذلك عدة الحرة ولأن ظاهر قوله تعالى : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وجوب التربص ثلاثة كاملة ومن جعل الحيض القروء الأطهار لم يوجب ثلاثة لأنه يكتفي بطهرين وبعض الثالث فيخالف ظاهر النص ومن جعله الحيض أوجب ثلاثة كاملة فيوافق ظاهر النص فيكون أولى من مخالفته ولأن العدة استبراء فكانت بالحيض كاستبراء الأمة وذلك لأن الاستبراء لمعرفة براءة الرحم من الحمل والذي يدل على الحيض فوجب أن يكون الاستبراء به فإن قيل لا نسلم ان استبراء الأمة بالحيضة وإنما هو بالطهر الذي قبل الحيضة كذلك فال ابن عبد البر وقال : قولهم إن استبراء الأمة حيضة بإجماع ليس كما ظنوا بل جائز لها عندنا أن تنكح إذا دخلت في الحيضة واستيقنت أن دمها دم حيض كذلك قال إسماعيل بن إسحاق ليحيى بن أكثم حين دخل عليه في مناظرته إياه قلنا هذا يرده قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ] ولأن الاستبراء تعرف براءة الرحم وإنما يحصل بالحيضة لا بالطهر الذي قبلها ولأن العدة تتعلق بخروج خارج من الرحم فوجب أن تتعلق فوجب أن تتعلق بالطهر كوضع الحمل يحققه أن العدة مقصودها معرفة براءة المرأة من الحمل فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو الحيض الذي لا يتصور وجوده معه فأما قوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } فيحتمل أنه أراد قبل عدتهن إذ لا يمكن جمله على الطلاق في العدة ضروة أن الطلاق سبق العدة لكونه سببها والسبب يتقدم على الحكم فلا يوجد قبله والطلاق في الطهر تطليق قبل العدة إذا كانت الأقراء الحيض
الفصل الثالث : إن الحيضة التي طلق فيها لا تحسب من عدتها بغير خلاف بين أهل العلم لأن الله تعالى أمر بثلاثة قروء فتناول ثلاثة كاملة والتي طلق فيها لم يبق منها ما تتم به مع اثنتين كاملة فلا يعتد بها ولأن الطلاق إنما حرم في الحيض لما فيه من تطويل العدة عليها فلو احتسبت بتلك الحيضة قرءا كان أقصر لعدتها وأنفع لها فلم يكن محروما ومن قال : القروء الأطهار احتسب لها بالطهر الذي طلقها فيه قرءا فلو طلقها وقد بقي من قرئها لحظة حسبها قرءا وهذا قول كل من قال القروء الأطهار إلا الزهري وحده قال : تعتد بثلاثة قروء سوى الطهر الذي طلقها فيه وحكي عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر لم يحتسب ببقيته لأنه زمن حرم فيه الطلاق فلم يحتسب به من العدة كزمن الحيض
ولنا أن الطلاق حرم في زمن الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها فلو لم يحتسب ببقية الطهر قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها وأطول عليها وما ذكر عن أبي عبيد لا يصح لأن تحريم الطلاق في الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن تجعل العلة في عدم الاحتساب تحريم الطلاق فتصير العلة معلولا وإنما تحرم الطلاق في الطهر الذي أصابها فيه لكونها مرتابة ولكونه لا يأمن الندم بظهور حملها فأما إن انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر فإن الطلاق يقع في أول الحيضة ويكون محرما ولا تحتسب بتلك الحيضة من عدتها وتحتاج أن تعتد بثلاث حيض بعدها أو ثلاثة أطهار على الرواية الأخرى ولو قال لها أنت طالق في آخر طهرك أو في آخر جزء من طهرك أو انقضت حروف الإيقاع ولم يبق من الطهر إلا زمن الوقوع فإنها لا تحتسب بالطهر الذي وقع فيه الطلاق لأن العدة لا تكون إلا بعد وقوع الطلاق وليس بعده طهر تعتد به ولا يجوز الاعتداد بما قبله ولا بما قاربه ومن جعل القرء الحيض اعتد لها بالحيضة التي تلي الطلاق لأنها حيضة كاملة لم يقع طلاق فوجب أن تعتد بها قرءا وإن اختلفا فقال الزوج : وقع الطلاق في أول الحيض وقالت : بل في آخر الطهر او قال : انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر وقالت : بل وقد بقي منه بقية فالقول قولها لأن قولها مقبول في الحيض وفي انقضاء العدة (9/81)
مسائل وفصول متى تباح المعتدة للأوزاج ؟ وعدة الآياسات والأمة واللآتي لم يحضن
مسألة : قال : فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة أبيحت للأزواج
حكى أبو عبد الله بن حامد في هذه المسألة روايتين إحداهما : أنها في العدة ما لم تغتسل فيباح لزوجها ارتجاعها ولا يحل لغيره نكاحها قال أحمد : عمر وعلي وابن مسعود يقولون قبل أن تغتسل من الحيضة الثالثة وروى ذلك عن سعيد بن المسيب و الثوري و إسحاق وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعثمان بن عفان وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهم ؟ قال شريك : له الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة قال أبو بكر : وروي عن أبي عبد الله أنها في عدتها ولزوجها رجعتها حتى يمضي وقت الصلاة التي طهرت في وقتها وهذا قول الثوري وبه قال أبو حنيفة إذا انقطع الدم لدون أكثر الحيض فإن انقطع لأكثر انقضت العدة بانقطاعه ووجه اعتبار الغسل قول الأكثر ين من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا ولأنها ممنوعة من الصلاة بحكم حدث الحيض فأشبهت الحائض
والرواية الثانية : أن العدة تنقضي بطهرها من الحيض الثالثة وانقطاع دمها اختاره أبو الخطاب وهو قول سعيد بن جبير و الأوزاعي و الشافعي في القديم لأن الله تعالى قال : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقد كملت القروء بدليل وجوب الغسل عليها ووجوب الصلاة وفعل الصيام وصحته منها ولأنه لم يبق حكم العدة في الميراث ووقوع الطلاق بها واللعان والنفقة فكذلك فيما نحن فيه قال القاضي : إذا شرطنا الغسل أفاد عدمه إباحة الرجعة وتحريمها على الأزواج فأما سائر الأحكام فإنها تنقطع بانقطاع دمها
وإن قلنا القروء والأطهار فطلقها وهي طاهر انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الثالثة وإن طلقها حائضا انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الرابعة وهذا قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة والقاسم ابن محمد وسالم بن عبد الله وأبان بن عثمان و مالك و أبي ثور و هو ظاهر مذهب الشافعي وحكي عنه قول آخر لا تنقضي العدة حتى يمضي زمن الدم يوم وليلة الجواز أن يكون الدم دم فساد فلا نحكم بانقضاء العدة حتى يزول الاحتمال وحكى القاضي هذا احتمالا في مذهبنا أيضا
ولنا أن الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالزيادة عليها مخالفة للنص فلا يعول عليه ولأنه قول من سمينا من الصحابة رواه الأثرم عنهم بإسناده ولفظ حديث زيد بن ثابت : إذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرىء منها ولا ترثه ولا يرثها وقولهم إن الدم يكون دم فساد قلنا : قد حكم بكونه حيضا في ترك الصلاة وتحريمها على الزوج وسائر أحكام الحيض فكذلك في انقضاء العدة ثم إن كان التوقف عن الحكم بانقضاء العدة للاحتمال فإذا تبين أنه حيض علمنا أن العدة قد انقضت حين رأت الدم كما لو قال لها : إن حضت فانت طالق اختلف القائلون بهذا القول فمنهم من قال اليوم والليلة من العدة لأنه دم تكمل به العدة فكان منها كالذي في أثناء الأطهار ومنهم من قال ليس منها إنما يتبين به انقضاؤها ولأننا لو جعلناه منها أوجبنا الزيادة على ثلاثة قروء ولكننا نمنعها من النكاح حتى يمضي يوم وليلة ولو راجعها زوجها فيها لم تصح الرجعة وهذا أصح الوجهين
مسألة : قال : وإن كانت أمة فإذا اغتسلت من الحيضة الثانية
أكثر أهل العلم يقولون : عدة الأمة بالقرء قرءان منهم عمر وعلي وابن عمر و سعيد بن المسيب و عطاء و عبد الله بن عتبة والقاسم و سالم وزيد بن أسلم و الزهري و قتادة و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وعن ابن سيرين : عدتها عدة الحرة إلا أن تكون قد مضت بذلك سنة وهو قول داود لقول الله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ قرء الأمة حيضتان ] وقد ذكرناه وقول عمر وعلي وابن عمر ولم نعرف لهم مخالفا في الصحابة فكان إجماعا وهذا يخص عموم الآية ولأنه معنى ذو عدد بني على التفاضل فلا تساوي فيه الأمة الحرة كالحد وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفا كما كان حدها على النصف من حد الحرة إلا أن الحيض لا يتبعض فكمل حيضتين ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لو أستطيع أن أجعل العدة حيضة ونصفا لفعلت : فإذا تقرر هذا فانقضاء عدتها بالغسل من الحيضة الثانية في إحدى الروايتين وفي الأخرى بانقطاع الدم من الحيضة الثانية وعلى الرواية التي تقول إن القروء الأطهار فانقضاء عدتها برؤية الدم من الحيضة الثانية
مسألة : قال : وإن كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر
أجمع أهل العلم على هذا لأن الله تعالى ذكره في كتابه بقوله سبحانه : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتبر ثلاثة أشهر بالأهلة لقول الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } وقال سبحانه : { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم } ولم يختلف الناس في أن الأشهر الحرم معتبرة بالأهلة وإن وقع الطلاق في اثناء الشهر اعتدت بقيته ثم اعتدت شهرين بالأهلة ثم اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما وهذا مذهب مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : تحتسب بقية الأول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من الأول أو ناقصا لأنه لو كان من أول الهلال كانت العدة بالأهلة فإذا كان بعض الشهر وجب قضاء ما فات منه وخرج أصحابنا وجها ثانيا أن جميع الشهور محسوبة بالعدد وهو قول ابن بنت الشافعي لأنه إذا حسب الأول بالعدد كان ابتداء الثاني من بعض الشهر فيجب أن يحسب بالعدد وكذلك الثالث
ولنا أن الشهر يقع على ما بين الهلالين وعلى الثلاثين ولذلك إذا غم الشهر كمل ثلاثين والأصل الهلال فإذا أمكن اعتبار الهلال اعتبروا وإذا تعذر رجعوا إلى العدد وفي هذا انفصال عما ذكرلـ أبي حنيفة وأما التخريج الذي ذكرناه فإنه لا يلزمه تمام الشهر الأول من الثاني ويجوز أن يكون تمامه من الرابع
فصل : وتجب العدة من الساعة التي فارقها زوجها فيها فلو فارقها نصف الليل أو نصف النهار اعتدت من ذلك الوقت إلى مثله في قول أكثر أهل العلم وقال أبو عبد الله بن حامد : لا تحتسب بالساعات وإنما تحتسب بأول الليل والنهار فإذا طلقها نهارا احتسب من أول الليل الذي يليه وإن طلقها ليلا أحتسب بأول النهار الذي يليه وهذا قول مالك لأن حساب الساعات يشق فسقط اعتباره
ولنا قول الله تعالى : { فعدتهن ثلاثة أشهر } ولا تجوز الزيادة عليها بغير دليل وحساب الساعات ممكن إما يقينا وإما إستظهارا فلا وجه للزيادة على ما أوجبه الله تعالى
مسألة : قال : والأمة شهران
اختلفت الروايات عن أبي عبد الله في عدة الأمة فأكثر الروايات عنه أنها شهران رواه عنه جماعة من أصحابه واحتج فيه بقول عمر رضي الله عنه : عدة أم الولد حيضتان ولو لم تحض كان عدتها شهرين رواه الأثرم عنه بإسناده وهذا قول عطاء و الزهري و إسحاق وأحد قولي الشافعي لأن الأشهر بدل من القروء وعدة ذات القروء قرءان فبدلهما شهران ولأنها معتدة بالشهور من غير الوفاة فكان عددها كعدد القروء ولو كانت ذات قرء كالحرة
والرواية الثانية : أن عدتها شهر ونصف نقلها الميموني و الأثرم واختارها أبو بكر وهذا قول علي رضي الله عنه وروي ذلك عن ابن عمر و ابن المسيب و سالم الشعبي و الثوري وأصحاب الرأي وهو قول ثان لـ لشافعي لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة وعدة الحرة ثلاثة أشهر فنصفها شهر ونصف وإنما كملنا للذات الحيض حيضتين لتعذر تبعيض الحيضة فإذا صرنا إلى الشهور أمكن التنصيف فوجب المصير إليه كما في عدة الوفاة ويصير هذا كالمحرم إذا وجب عليه في جزاء الصيد نصف مد أجزأه إخراجه فإن أراد الصيام مكانه صام يوما كاملا ولأنها عدة أمكن تنصيفها فكانت على النصف من عدة الحرة كعدة الوفاة ولأنها معتدة بالشهور فكانت على النصف من عدة الحرة كالمتوفى عنها زوجها
والرواية الثالثة : أن عدتها ثلاثة أشهر وروي ذلك عن الحسن و مجاهد و عمر بن عبد العزيز و النخعي و يحيى الأنصاري و ربيعة و مالك وهو القول الثالث لـ لشافعي لعموم قوله تعالى : { فعدتهن ثلاثة أشهر } ولأنه استبراء للأمة الآيسة بالشهور فكان ثلاثة أشهر كاستبراء الأمة إذا ملكها أو مات سيدها ولأن اعتبار الشهور ههنا للعلم ببراءة الرحم ولا يحصل هذا بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة جميعا لأن الحمل نطفة أربعين يوما وعلقة أربعين يوما ثم يصير مضغة ثم يتحرك ويعلو بطن المرأة فيظهر الحمل وهذا معنى لا يختلف بالرق والحرية ولذلك كان استبراء الأمة في حق سيدها ثلاثة أشهر ومن رد هذه الرواية قال : هي مخالفة لإجماع الصحابة لأنهم اختلفوا على القولين الأولين ومتى اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث لأنه يفضي إلى تخطئتهم وخروج الحق عن قول جميعهم ولا يجوز ذلك ولأنها معتدة لغير الحمل فكانت دون عدة الحرة كذات القرء المتوفى عنها زوجها
فصل : واختلف عن أحمد في السن الذي تصير به المرأة من الآيسات فعنه أوله خمسون سنة لأن عائشة قالت : لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة وعنه : إن كانت من نساء العجم فخمسون وإن كانت من نساء العرب فستون لأنهن أقوى طبيعة وقد ذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب أن هندا بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ولها ستون سنة وقال : يقال إنه لمن تلد بعد خمسين سنة إلا عربية ولا تلد لستين إلا قرشية و لـ لشافعي قولان أحدهما : يعتبر السن الذي يتيقن أنه إذا بلغته لم تحض قال بعضهم : هو اثنان وستون سنة والثاني يعتبر السن الذي ييأس فيه نساء عشيرتها لأن الظاهر أن نشأها كنشئهن وطبعها كطعبهن والصحيح إن شاء الله أنه متى بلغت المرأة خمسين سنة فانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب فقد صارت آيسة لأن وجود الحيض في حق هذه نادر بدليل قول عائشة وقلة وجوده فإذا انضم إلى هذا انقطاعه عن العادات مرات حصل اليأس من وجوده فلها حينئذ أن تعتد بالأشهر وإن انقطع قبل ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه على ما سنذكره إن شاء الله وإن رأت الدم بعد الخمسين على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض في الصحيح لأن دليل الحيض الوجود في زمن الإمكان وهذا يمكن وجود الحيض فيه وإن كان نادرا وإن رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض لأنه لم يوجد ذلك قال الخرقي : فإذا رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض فعند ذلك لا تعتد به وتعتد بالأشهر كالتي لا ترى دما
فصل : وأقل سن نحيض فيه المرأة تسع سنين لأن المرجع فيه في الوجود وقد وجد من تحيض لتسع وقد روي عن الشافعي أنه قال : رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة فهذه إذا أسقطت من عمها مدة الحملين في الغالب عاما ونصفا وقسمت الباقي بينهما وبين ابنتها كانت كل واحدة منهما قد حملت لدون عشر سنين فإن رأت دما قبل ذلك فليس بحيض لأنه لم يوجد من مثلها متكررا والمعتبر من ذلك ما تكرر ثلاث مرات في حال الصحة ولم يوجد ذلك فلا يعتد به
فصل : فإن بلغت سنا تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة سنة فعدتها ثلاثة أشهر في ظاهر قول الخرقي وهو قول أبي بكر وهو مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي وضعف أبو بكر الرواية المخالفة لهذا وقال : رواها أبو طالب فخالف فيها أصحابه وذلك ما روى أبو طالب عن أحمد أنها تعتد سنة قال القاضي : هذه الرواية أصح لأنه متى أتى عليها زمان الحيض فلم تحض صارت مرتابة يجوز أن يكون به حمل منع حيضها فيجب أن تعتد بسنة كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده
ولنا قول الله تعالى : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } وهذه من اللائي لم يحضن ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بحال غيرها ولهذا لو حاضت قبل بلوغ سن يحيض لمثله النساء في الغالب مثل أن تحيض ولها عشر سنين اعتدت بالحيض وفارق من ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه فإنها من ذوات القروء وهذه لم تكن منهن (9/87)
مسألة وفصل عدة الأم المطلقة طلاقا فيه الرجعية
مسألة : قال : وإذا طلقها طلاقا يملك فيه الرجعة وهي أمة فلم تنقض عدتها حتى أعتقت بنت على عدة حرة وإن طلقها طلاقا لا يملك فيه الرجعة فأعتقت اعتدت عدة أمة
هذا قول الحسن و الشعبي و الضحاك و إسحاق و أصحاب الرأي وهذا أحد أقوال الشافعي والقول الثاني : تكمل عدة أمة سواء كانت بائنا أو رجعية وهو قول مالك و أبي ثور لأن الحرية طرأت بعد وجوب العدة عليها فلا يعتبر حكمها كما لو كانت بائنا أو كما لو طرأت بعد وجوب الاستبراء ولأنه معنى يختلف بالرق والحرية فكان الاعتبار بحالة الوجوب كالحد وقال عطاء و الزهري و قتادة : تبني على عدة حرة بكر حال وهو القول الثالث لـ لشافعي لأن سبب العدة الكاملة إذا وجد في أثناء العدة انتقلت إليها وإن كانت بائنا كما لو اعتدت بالشهور ثم رأت الدم
ولنا أنها إذا اعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة تعتد عدة الوفاة لو مات فوجب أن تعتد عدة الحرائر كما لو أعتقت قبل الطلاق وإن أعتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية فلم تجب عليها عدة الحرائر كما لو أعتقت بعد مضي القرأين ولأن عدة الرجعية تنتقل إلى عدة الوفاة لو مات فتنتقل إلى عدة الحرائر والبائن لا تنتقل إلى عدة الوفاة فلا تنتقل إلى عدة الحرائر كما لو انقضت عدتها وما ذكرناه لـ مالك يبطل بما إذا مات زوج الرجعية فإنها تنتقل إلى عدة الوفاة والفرق بين ما نحن فيه وبين ما إذا حاضت الصغيرة أن الشهور بدل عن الحيض فإذا وجد المبدل زال حكم البدل كالمتيمم يجد الماء وليس كذلك ههنا فإن عدة الأمة ليست ببدل ولذلك تبني الأمة على ما مضى من عدتها اتفاقا وإذا حاضت الصغيرة استأنفت العدة فافترق وتخالف الاستبراء فإن الحرية لو قارنت سبب وجوبه لم تكمل ألا ترى أن أم الولد إذا مات سيدها عتقت لموته ووجب الاستبراء كما يجب على التي لم تعتق ولأن الاستبراء لا يختلف بالرق والحرية بخلاف مسألتنا
فصل : إذا أعتقت الأمة تحت العبد فاختارت نفسها اعتدت عدة الحرة لأنه بانت من زوجها وهي حرة
[ وقد روى الحسن أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بريرة أن تعتد عدة الحرة ] وإن طلقها العبد طلاقا رجعيا فأعتقها سيدها بنت على عدة الحرة سواء فسخت أو أقامت على النككاح لأنها عتقت في عدة رجعية وإن لم تفسخ فراجعها في عدتها فلها الخيار بعد رجعتها فإن اختارت الفسخ قبل المسيس فهل تستأنف العدة أم تبني على ما مضى من عدتها ؟ على وجهين فإن قلنا تستأنف فإنها تستأنف عدة حرة وإن قلنا تبني على عدة حرة (9/96)
مسائل وفصول حكم عدة المطلقة وقد حاضت فارتفع حيضها ولا ندري ما رفعه وعدة المستحاضة
مسألة : قال : وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ؟ اعتدت سنة
وجملة ذلك أن الرجل إذا طلق امرأته وهي من ذوات الاقراء فلم تر الحيض في عادتها ولم تدر ما رفعه ؟ فإنها تعتد سنة تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة رحمها لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم ظاهرا فتعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر هذا قول عمر رضي الله عنه قال الشافعي : هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منهم منكر علمناه وبه قال مالك و الشافعي في أحد قوليه وروي ذلك عن الحسن وقال الشافعي في قول آخر : تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد بثلاثة أشهر لأن هذه المدة هي التي يتيقن بها براءة رحمها فوجب اعتبارها احتياطا
وقال في الجديد تكون في عدة أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس تعتد حينئذ بثلاثة أشهر وهذا قول جابر بن زيد و عطاء و طاوس و الشعبي و النخعي و الزهري و أبي الزناد و الثوري و أبي عبيد وأهل العراق لأن الاعتداد بالأشهر جعل بعد الإياس فلم يجز قبله وهذه ليست آيسة ولأنها ترجو عود الدم فلم تعتد بالشهور كما لو حيضها لعارض
ولنا الاجماع الذي حكاه الشافعي ولأن الغرض بالاعتداد معرفة براءة رحمها وهذا تحصل به براءة رحمها فاكتفي به ولهذا اكتفي في حق ذات القرء بثلاثة قروء وفي حق الآيسة بثلاثة أشهر ولو روعي اليقين الاعتبر أقصى مدة الحمل ولأن عليها في تطويل العدة ضررا فإنها تمنع من الأزواج وتحبس دائما ويتضرر الزوج بإيجاب السكنى والنفقة عليه وقد قال ابن عباس لا تطولوا عليه الشقة كفاها تسعة أشهر فإن قيل : فإذا مضت تسعة أشهر فقد علم براءة رحمها ظاهرا فلم اعتبرتم ثلاثة أشهر بعدها ؟ قلنا : الاعتداد بالقروء والأشهر إنما يكون عند عدم الحمل وقد تجب العدة مع العلم ببراءة الرحم بدليل ما لو علق طلاقها بوضع الحمل فوضعته موقه الطلاق لزمتها العدة
فصل : فإن عاد الحيض إليها في السنة ولو في آخرها لزمها الانتقال إلى القروء لأنها الأصل فبطل بها حكم البدل وإن عاد بعد مضيها ونكاحها لم تعد إلى القروء لأن عدتها انقضت وحكمنا بصحة نكاحها فلم تبطل كما لو اعتدت الصغيرة بثلاثة أشهر وتزوجت ثم حاضت وإن حاضت بعد السنة وقبل نكاحها ففيه وجهان أحدهما : لا تعود لأن العدة انقضت بالشهور فلم تعد كالصغيرة والثاني : تعود لأنها من ذوات القروء وقد قدرت على المبدل قبل تعلق حق زوج بها فلزمها العود كما لو حاضت في السنة
مسألة : قال : وإن كانت أمة اعتدت بأحد عشر شهرا تسعة أشهر للحمل وشهران للعدة
هذه المسألة مبنية على أصلين أحدهما : أن الحرة تعتد بسنة إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه والثاني : أن عدة الأمة الآيسة شهران فتتربص تسعة أشهر لأن مدة الحمل تتساوى فيها الحرة والأمة لكونه أمرا حقيقيا فإذا يئست من الحمل اعتدت عدة الآيسة شهرين وعلى الرواية التي جعل عدتها شهرا ونصفا تكون عدتها عشرة أشهر ونصفا ومن جعلها ثلاثة أشهر فعدتها سنة كالحرة
مسألة : قال : وإن عرفت ما رفع الحيض كانت في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به إلا أن تصير من الآيسات فتعتد بثلاثة أشهر من وقت تصير في عداد الآيسات
أما إذا عرفت أن ارتفاع الحيض بعارض من مرض أو نفاس أو رضاع فإنها تنتظر زوال العارض وعود الدم وإن طال إلا أن تصير في سن اليأس وقد ذكرناه فعند ذلك تعتد عدة الآيسات وقد روى الشافعي في مسنده بإسناده عن حبان بن منقذ أنه طلق امرأته طلقة واحدة وكانت لها منه بنية ترضعها فتباعد حيضها ومرض حبان فقيل له إنك إن مت ورثتك فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد بن ثابت فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلي وزيد : ما تريان ؟ فقالا نرى أنها إن ماتت ورثها وإن مات ورثته لأنها ليست من القواعد اللائي يئس من المحيض ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت منها فعاد إليها الحيض فحاضت حيضتين ومات حبان قبل انقضاء الثالثة فورثها عثمان رضي الله عنه وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كانت عند جده امرأتان هاشمية وأنصارية وهي مرضع فمرت بها سنة ثم هلك ولم تحض فقالت الأنصارية : لم أحض فاختصموا إلى عثمان رضي الله عنه فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال : هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بهذا ـ يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه
مسألة : قال : وإن حاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه لم تنقض عدتها إلا بعد سنة بعد انقطاع الحيض
وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه تجلس تسعة أشهر فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثة أشهر فذلك سنة ولا نعرف له مخالفا قال ابن المنذر قضى به عمر بين المهاجرين والأنصار ولم ينكره منكر وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يطلق امرأته فتحيض حيضة ثم يرتفع حيضها قال : اذهب إلى حديث عمر إذا رفعت حيضتها فلم تدر مما ارتفعت فإنها تنتظر سنة قيل له : فحاضت دون السنة فقال : ترجع إلى الحيضة قيل له : فإن ارتفعت حيضتها أيضا لا تدري مما ارتفعت ؟ قال : تقعد سنة أخرى وهذا قول كل من وافقنا في المسألة الأولى وذلك لأنها لما ارتفعت حيضتها حصلت مرتابة فوجب أن تنتقل إلى الاعتداد بسنة كما لو ارتفع حيضها حين طلقها ووجب عليها سنة كاملة لأن العدة لا تنبني على عدى أخرى ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست انتقلت إلى ثلاثة أشهر كاملة ولو اعتدت الصغيرة شهرا أو شهرين ثم حاضت انتقلت إلى ثلاثة قروء
فصل : فإن كانت عادة المرأة أن يتباعد ما بين حيضتيها لم تنقض عدتها حتى تحيض ثلاث حيض وإن طالت لأن هذه لم يرتفع حيضها ولم تتأخر عن عادته فهي من ذوات القروء باقية على عادتها فأشبهت من لم يتباعد حيضها ولا نعلم في هذا مخالفا
فصل : في عدة المستحاضة لا تخلو إما أن يكون لها حيض محكوم به بعادة أو تمييز أو لا تكون كذلك فإن كان لها حيض محكوم به بذلك فحكمها فيه حكم غير المستحاضة إذا مرت لها ثلاثة قروء فقد انقضت عدتها قال أحمد : المستحاضة تعتد أيام إقرائها التي كانت تعرف وإن علمت أن لها في كل شهر حيضة ولم تعلم موضعها فعدتها ثلاثة أشهر وإن شكت في شيء تربصت حتى تستيقن أن القروء الثلاث قد انقضت وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها أو ناسية لا تعرف لها وقتا ولا تمييزا فعن أحمد فيها روايتان :
إحداهما : أن عدتها ثلاثة أشهر وهو قول عكرمة و قتادة و أبي عبيد ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر حمنة بنت جحش أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة ] فجعل لها حيضة في كل شهر تترك فيها الصلاة والصيام ويثبت فيها سائر أحكام الحيض فيجب أن تنقضي به العدة لأن ذلك من أحكام الحيض
والرواية الثانية : تعتد سنة بمنزلة من رفعت حيضتها لا تدري ما رفعها قال أحمد : إذا كانت قد اختلطت ولم تعلم إقبال الدم وإدباره اعتدت سنة لحديث عمر لأن به يتبين الحمل وهو قول مالك و إسحاق لأنها لم نتيقن لها حيضا مع أنها من ذوات القروء فكانت عدتها سنة كالتي ارتفع حيضها وعلى الرواية الأولى ينبغي أن يقال إننا متى حكمنا بأن حيضها سبعة أيام من كل شهر فمضى لها شهران بالهلال وسبعة أيام من أول الثالث فقد انقضت عدتها وإن قلنا القروء الأطهار فطلقها في آخر شهر ثم مر لها شهران وهل الثالث انقضت عدتها وهذا مذهب الشافعي (9/98)
مسائل وفصول عدة اللائي لم يحضن أو أصبحن من الآيسات
مسألة : قال : ولو طلقها وهي من اللائي لم يحضن فلم تنقض عدتها بالشهر حتى حاضت استقبلت العدة بثلاث حيض إن كانت حرة وبحيضتين إن كانت أمة
وجملته أن الصغيرة التي لم تحض أو البالغ التي لم تحض إذا اعتدت بالشهور فحاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعة لزمها استئناف العدة في قول عامة علماء الأمصار منهم سعيد بن المسيب و الحسن و مجاهد و قتادة و الشعبي و النخعي و الزهري و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أصحاب الرأي وأهل المدينة وأهل البصرة وذلك لأن الشهور بدل الحيض فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل كالتيمم مع الماء ويلزمها أن تعتد بثلاث حيض إن قلنا القروء الحيض وإن قلنا القروء الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرءا ؟ فيه وجهان :
أحدهما : تعتد به لأنه طهر انتلقت منه إلى حيض فأشبه الطهر بين الحيضتين والثاني : لا تعتد به وهو ظاهر كلام الشافعي لأن القرء هو الطهر بين الحيضتين وهذا لم يتقدمه حيض فلم يكن قرءا فأما إن انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت بعدها ولو بلحظة لم يلزمها استئناف العدة لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة كالتي حاضت بعد انقضاء العدة بزمن طويل ولا يمكن منع هذا الأصل لأنه لو صح منعه لم يحصل لمن لم تحض الاعتداد بالشهور بحال
فصل : ولو حاضت حيضة أو حيضتين ثم صارت من الآيسات استأنفت العدة بثلاثة أشهر لأن العدة لا تلفق من جنسين وقد تعذر إتمامها بالحيض فوجب تكميلها بالأشهر وإن ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم ما مضى وتبين أن ما رأته من الدم لم يكن حيضا لأن الحامل لا تحيض ولو حاضت ثلاث حيض ثم ظهر بها حمل لأقل من ستة أشهر منذ انقضت الحيضة الثالثة تبينا أن الدم ليس بحيض لأنها كانت حاملا مع رؤية الدم والحامل لا تحيض ولو حاضت ثلاث حيض ثم ظهر بها حمل يمكن أن يكون حادثا بعد قضاء العدة بأن تأتي به لستة أشهر منذ فرغت من عدتها لم تلحق بالزوج وحكمنا بصحة الاعتداد وكان هذا الولد حادثا وإن أتت به لدون ذلك تبينا أن الدم ليس بحيض لأنه لا يجوز وجوده في مدة الحمل
فصل : وإذا ارتابت المعتدة ومعناه أن ترى أمارات الحمل من حركة أو نفخة ونحوهما وشكت هل هو حمل أم لا ؟ فلا يخلو من ثلاثة أحوال :
أحدها : أن تحدث به الريبة قبل انقضاء عدتها فإنما تبقى في حكم الاعتداد حتى تزول الريبة فإن بان حملا انقضت عدتها بوضعه فإن زالت وبان أنه ليس بحمل تبينا أن عدتها انقضت بالقروء أو الشهور فإن زوجت قبل زوال الريبة فالنكاح باطل لأنها تزوجت وهي في حكم المعتدات في الظاهر ويحتمل أنه إذا تبين عدم الحمل أنه يصح النكاح لأنا تبينا أنها تزوجت بعد انقضاء عدتها
الثاني : أن تظهر الريبة بعد انقضاء عدتها والتزويج فالنكاح صحيح لأنه وجد بعد قضاء العدة ظاهرا والحمل مع الريبة مشكوك فيه ولا يزل به ما حكم بصحته لكن لا يحل لزوجها وطؤها لأننا شككنا في صحة النكاح ولأنه لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره ثم ننظر فإن وضعت الولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ووطئها فنكاحه باطل لأنه نكحها وهي حامل وإن أتت به لأكثر من ذلك فالولد لاحق به ونكاحه صحيح
الحال الثالث : ظهرت الريبة بعد قضاء العدة وقبل النكاح ففيه وجهان أحدهما : لا يحل لها أن تتزوج وإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها تتزوج مع الشك في انقضاء العدة فلم يصح كما لو وجدت الريبة في العدة ولأننا لو صححنا النكاح لوقع موقوفا ولا يجوز كون النكاح موقوفا ولهذا لو أسلم وتخلفت امرأته في الشرك لم يجز أن يتزوج أختها لأن نكاحها يكون موقوفا على إسلام الأولى والثاني : يحل لها النكاح ويصح لأننا حكمنا بانقضاء العدة وحل النكاح وسقوط النفقة والسكنى فلا يجوز زوال حكم به بالشك الطارىء ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده ورجوع الشهود
فصل : وإذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها خرجت بالقرعة وعليها العدة دون غيرها وتحسب عدتها من حين طلقها لا من حين القرعة وإن طلق واحدة بعينها وأنسبها ففي قول أصحابنا الحكم فيها كذلك والصحيح أنه يحرم عليه الجميع فإن مات فعلى الجميع الاعتداد باقصى الأجلين من عدة الطلاق والوفاة لأن النكاح كان ثابتا بيقين وكل واحدة منهن يجوز أن تكون هي المطلقة وأن تكون زوجة فوجب أقصى الأجلين إن كان الطلاق بائنا ليسقط الفرض بيقين كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات لكن باتداء القرء من حين طلق وابتداء عدة الوفاة من حين الموت وهذا مذهب الشافعي وإن طلق الجميع ثلاثا بعد ذلك فعليهن كلهن تكميل عدة الطلاق من حين طلقهن ثلاثا وإن طلق ثلاثا وأنسبهن فهو كما لو طلق واحدة
مسألة : قال : ولو مات عنها وهو حر أو عبد قبل الدخول أو بعده انقضت عدتها لتمام أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة ولتمام شهرين وخمسة أيام إن كانت أمة
أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة غير ذات الحمل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر مدخولا بها أو غير مدخول بها سواء كانت كبيرة بالغة أو صغيرة لم تبلغ وذلك لقوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة شهر وعشرا ] متفق عليه
فإن قيل ألا حملتم الآية على المدخول بها كما قلتم في قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ؟ قلنا : إنما خصصنا هذه بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ولم يرد تخصيص عدة الوفاة ولا أمكن قياسها على المطلقة في التخصيص لوجهين أحدهما : أن النكاح عقد عمر فإذا مات انتهى والشيء إذا انتهى تقررت أحكامه كتقرر أحكام الصيام بدخول الليل وأحكام الإجارة بانقضائها والعدة من أحكامه الثاني : أن المطلقة إذا أتت بولد يمكن الزوج تكذيبها ونفيه باللعان وهذا ممتنع في حق الميت فلا يؤمن أن تاتي بولد فيلحق الميت نسبه وما له من ينفيه فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها من التصرف والمبيت في غير منزلها حفظا لها
إذا ثبت هذا فإنه لا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة في قول عامة أهل العلم وحكي عن مالك أنها إذا كانت مدخولا بها وجب أربعة أشهر وعشر فيها حيضة واتباع الكتب والسنة أولى ولأنه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر ثلاثة قروء كالمطلقة وهذا الخلاف يختص بذات القرء فأما الآيسة والصغيرة فلا خلاف فيها وأما الأمة المتوفى عنها زوجها فعدتها شهران وخمسة أيام في قول عامة أهل العلم منهم سعيد بن المسيب و عطاء و سليمان ابن يسار و الزهري و قتادة و مالك و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وغيرهم إلا ابن سيرين فإنه قال : ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة إلا أن تكون قد مضت في ذلك سنة فإن السنة أحق ان تتبع وأخذ بظاهر النص وعمومه ولنا اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة
فصل : والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها فتجب عشرة أيام مع الليل وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو عبيد و ابن المنذر و أصحاب الرأي وقال الأوزاعي يجب عشر ليالي وتسعة أيام لأن العشر تستعمل في الليالي دون الأيام وإنما دخلت الأيام اللاتي في أثناء الليالي تبعا قلنا العرب تغلب اسم التأنيث في العدد خاصة على المذكر فتطلق لفظ الليالي وتريد الليالي بأيامها كما قال الله تعالى لزكريا : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } يريد أيامها بدليل أنه قال في موضع آخر : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } يريد بلياليها ولو نذر اعتكاف العشر الأخير من رمضان لزمه الليالي والأيام ويقول القائل : سرنا عشرا يريد الليالي بأيامها فلم يجز نقلها عن العدة إلى الإباحة بالشك
فصل : وإذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بلا خلاف قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك وذلك لأن الرجعية زوجة يلحقها طلاقه وينالها ميراثه فاعتدت للوفاة كغير المطلقة وإن مات مطلق البائن في عدتها بنت على عدة طلاق إلا أن يطلقها في مرض موته فإنها تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء نص على هذا أحمد وبه قال الثوري و أبو حنيفة و محمد بن الحسن وقال مالك و الشافعي و أبو عبيد و أبو ثور و ابن المنذر تبني على عدة الطلاق لأنه مات وليست زوجة له لأنها بائن من النكاح فلا تكون منكوحة
ولنا أنها وارثة له فيجب عليها عدة الوفاة كالرجعية وتلزمها عدة الطلاق لما ذكروا في دليلهم وإن مات المريض المطلق بعد انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان قبل الدخول فليس عليها عدة لموته وقال القاضي : عليهن عدة الوفاة إذا قلنا يرثنه لأنهن يرثنه بالزوجية فتجب عليهن عدة الوفاة كما لو مات بعد الدخول وقبل قضاء العدة ورواه أبو طالب عن أحمد في التي انقضت عدتها وذكر ابن موسى فيها روايتين والصحيح أنها لا عدة عليها لأن الله تعالى قال : { إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } وقال : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ـ وقال : { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فلا يجوز تخصيص هذه النصوص بالتحكم ولأنها أجنبية تحل للأزواج ويحل للمطلق نكاح أختها وأربع سواها فلم تجب عليها عدة لموته كما لو تزوجت وتخالف التي مات في عدتها فإنها لا تحل لغيره في هذه الحال ولم تنقض عدتها ولا نسلم أنها ترثه فإنها لو ورثته لأفضى إلى أن يرث الرجل ثماني زوجات فأما إن تزوجت إحدى هؤلاء فلا عدة عليه بغير خلاف نعلمة ولا ترثه أيضا وإن كانت المطلقة البائن لا ترث كالأمة أو الحرة يطلقها العبد أو الذمية يطلقها المسلم والمختلفة أو فاعلة ما يفسخ نكاحها لم تلزمها عدة سواء مات زوجها في عدتها أو بعدها على قياس قول أصحابنا فهم عللوا نقلها إلى عدة الوفاة بإرثها وهذه ليست وارثة فأشبهت المطلقة في الصحة وأما المطلقة في الصحة إذا كانت بائنا فمات زوجها فإنها تبني على عدة الطلاق ولا تعتد للوفاة وهذا قول مالك و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور و ابن المنذر وقال الثوري و أبو حنيفة : عليها أطول الأجلين كما لو طلقها في مرض موته
ولنا قوله سبحانه : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ولأنها أجنبية منه في نكاحه وميراثه والحل له ووقوع طلاقه وظهاره وتحل له أختها وأربع سواها فلم تعتد لوفاته كما لو انقضت عدتها وذكر القاضي في المطلقة في المرض أنها إذا كانت حاملا تعتد أطول الأجلين وليس هذا بشيء لأن وضع الحمل تنقضي به كل عدة ولا يجوز أن يجب عليها الاعتداد بغير الحمل على ما نذكره في المسألة التي تلي هذا إن شاء الله تعالى (9/103)
مسألة وفصل عدة المطلقة أو مات عنها زوجها وهي حامل
مسألة : قال : ولو طلقها أو مات عنها وهي حامل منه لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل أمة كانت أو حرة
أجمع أهل العلم في جميع الأعصار على أن المطلقة الحامل تنقضي بوضع حملها وكذلك كل مفارقة في الحياة وأجمعوا أيضا على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا أجلها وضع حملها إلا ابن عباس وروي عن علي من وجه منقطع انها تعتد بأقصى الأجلين وقاله أبو السنابل بن بعكك في حياة النبي صلى الله عليه و سلم فرد عليه النبي صلى الله عليه و سلم قوله وقد روي عن ابن عباس أنه رجع إلى قول الجماعة لما بلغه حديث سبيعة وكره الحسن و الشعبي أن تنكح في دمها ويحكى عن حماد و إسحاق أن عدتها لا تنقضي حتى تطهر وأبى سائر أهل العلم هذا القول وقالوا : لو وضعت بعد ساعة من وفاة زوجها حل هلا أن تتزوج ولكن لا يطؤها زوجها حتى تطهر من نفاسها وتغتسل وذلك لقول الله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ وروي عن أبي بن كعب قال : قلت لنبي صلى الله عليه و سلم : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } للمطلقة ثلاثا أو للمتوفى عنها ؟ قال : هي المطلقة ثلاثا وللمتوفى عنها ] وقال ابن مسعود : من شاء بأهلته أو لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } نزلت بعد التي في سورة البقرة { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } يعني أن هذه الآية هي الأخيرة فتقدم على ما خالفها من عموم الآيات المتقدمة ويخص بها عمومها
[ وروى عبد الله بن الأرقم أن سبيعة الأسلمية أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أو السنابل بن بعكك فقال مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح ؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي فأمرني بالتزويج إن بدا لي ] متفق عليه قال ابن عبد البر هذا حديث صحيح قد جاء من وجوه شتى كلها ثابتة إلا ما روي عن ابن عباس وروي عن علي من وجه منقطع ولأنها معتدة حامل فتنقضي عدتها بوضعه كالمطلقة يحققه أن العدة إنما شرعت لعرفة براءتها من الحمل ووضعه أدل الأشياء على البراءة منه فوجب أن تنقضي العدة ولأنه لا خلاف في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب أن تنقضي به كما في حق المطلقة
فصل : وإذا كان الحمل واحدا انقضت العدة بوضعه وانفصال جميعه وإن ظهر بعضه فهي في عدتها حتى ينفصل باقيه لأنها لا تكون واضعة لحملها ما لم يخرج كله وإن كان الحمل اثنين أو أكثر لم تنقض عدتها إلا بوضع الآخر لأن الحمل هو الجميع هذا قول جماعة أهل العلم إلا أبا قلابة وعكرمة فإنهما قالا : تنقضي عدتها بوضع الأول ولا تتزوج حتى تضع الآخر
وذكر ابن أبي شيبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال : إذا وضعت أحدهما فقد انقضت عدتها قيل له فتتزوج قال لا : قال قتادة : خصم العبد وهذا قول شاذ يخالف ظاهر الكتاب وقول أهل العلم والمعنى فإن العدة شرعت لمعرفة البراءة من الحمل فإذا علم وجود الحمل فقد تيقن وجود الموجب للعدة وانتفت البراءة الموجبة لانقضائها ولأنها لو انقضت عدتها بوضع الأول لأبيح لها النكاح كما لو وضعت الآخر فإن وضعت ولدا وشكت في وجود ثان لم تنقض عدتها حتى تزول الريبة وتتيقن أنها لم يبق معها حمل لأن الأصل بقاؤها فلا يزول بالشك (9/111)
مسألة وفصل صفة الحمل وأحوال الوضع
مسألة : قال : والحمل الذي تنقضضي به العدة ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان حرة كانت أو أمة
وجملة ذلك أن المرأة إذا ألقت بعد فرقة زوجها شيئا لم يخل من خمسة أحوال أحدها : أن تضع ما بان فيه خلق الآدمي من الرأس واليد والرجل فهذا تنقضي به العدة بلا خلاف بينهم قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط إذ علم أنه ولد وممن نحفظ عنه ذلك الحسن و ابن سيرين و شريح و الشعبي و النخعي و الثوري و مالك و الشافعي و أحمد و إسحاق
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله : إذا نكس في الخلق الرابع ؟ يعني تنقضي به العدة ؟ فقال : إذا نكس في الخلق الرابع فليس فيه اختلاف ولكن إذا تبين خلقه هذا أدل وذلك لأنه إذا بان فيه شيء من خلق الآدمي علم أنه حمل فيدخل في عموم قوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }
الحال الثاني : ألقت نطفة أو دما لا تدري هل هو ما يخلق منه الآدمي أو لا فهذا لا يتعلق به شيء من الأحكام لأنه لم يثبت انه ولد لا بالمشاهدة ولا بالبينة
الحال الثالث : ألقت مضغة لم تبن فيها الخلقةة فشهد ثقات من القوابل أن فيه صورة خفية بان أنها خلقة آدمي فهذا في حكم الحال الأول لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة أنه ولد
الحال الرابع : إذا ألقت مضغة لا صورة فيها فشهد ثقات من القوابل أنه مبتدأ خلق آدمي فاختلف عن أحمد فنقل أبو طالب أن عدتها لا تنقضي به ولا تصير به أم ولد لأنه لم يبن فيه خلق آدمي فاشبه الدم وقد ذكر هذا قولا لـ لشافعي وهو اختيار أبي بكر
ونقل الأثرم عن أحمد أن عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لأنه مشكوك في كونه ولدا فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر مشكوك فيه ولم يجز بيع الأمة الوالدة له مع الشك في رقها فيثبت كونها أم ولد احتياطا ولا تنقضي العدة احتياطا ونقل حنبل أنها تصير أم ولد ولم يذكر العدة فقال بعض اصحابنا : على هذا تنقضي به العدة وهو قول الحسن وظاهر مذهب الشافعي لأنهم شهدوا بأنه خلقة آدمي أشبه ما لو تصور والصحيح أن هذا ليس برواية في العدة لأنه لم يذكرها ولم يتعرض لها
الحال الخامس : أن تضع مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمي فهذا لا تنقضي به عدة ولا تصير به أم ولد لأنه لم يثبت كونه ولدا ببينة ولا مشاهدة فأشبه العلقة فلا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال سواء كان نطفة أو علقة وسواء قيل إنه مبتدأ خلق آدمي أو لم يقل نص عليه أحمد فقال : أما إذا كان علقة فليس بشيء إنما هي دم لا تنقضي به عدة ولا تعتق به أمة ولا نعلم مخالفا في هذا إلا الحسن فإنه قال : إذا علم أنها حمل انقضت به العدة وفيه الغرة والأول أصح وعليه الجمهور وأقل ما تنقضي به العدة من الحمل أن تضعه بعد ثمانين يوما منذ أمكنه وطؤها ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن خلق أحدكم ليجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ] ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن تكون بعد الثمانين فأما ما بعد الأربعة أشهر فليس فيه إشكال لأنه منكس في الخلق الرابع
فصل : وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنه رفع إلى عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له علي : ليس لك ذلك قال الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وقال تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } فحولان وستة أشهر ثلاثون شهرا لا رجم عليها فخلى عمر سبيلها وولدت مرة أخرة لذلك الحد ورواه الأثرم أيضا عن عكرمة ان ابن عباس قال ذلك قال عاصم الأحول : فقلت لعكرمة إنا بلغنا أن عليا قال هذا فقال عكرمة : لا ما قال هذا إلا ابن عباس وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر وهذا قول مالك و الشافعي واصحاب الرأي وغيرهم (9/114)
مسألة وفصول بيان أقصى مدة الحمل واتيان زوجة الصغير الذي لا يولد لمثله
مسألة : قال : ولو طلقها أو مات عنها فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين لحقه الولد وانقضت عدتها به
ظاهر المذهب أن أقصى مدة الحمل أربع سنين به قال الشافعي وهو المشهور عن مالك وروي عن أحمد أن أقصى مدته سنتان وروي ذلك عن عائشة وهو مذهب الثوري و أبي حنيفة لما روت جميلة بنت سعد عن عائشة : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل ولأن التقدير إنما يعلم بتوقيف أو اتفاق ولا توقيف ههنا ولا اتفاق إنما هو على ما ذكرنا وقد وجد ذلك فإن الضحاك بن مزاحم وهرم بن حيان حملت أم كل واحد منهما به سنتين وقال الليث : أقصاه ثلاث سنين حملت مولاة لعمر بن عبد الله ثلاث سنين وقال عباد بن العوام خمس سنين وعن الزهري قال : قد تحمل المرأة ست سنين وسبع سنين وقال أبو عبيد : ليس لأقصاه وقت يوقف عليه
ولنا أن ما لا نص فيه يرجع إلى الوجود وقد وجد الحمل لأربع سنين فروى الوليد بن مسلم قال : قلت لـ مالك بن أنس حديث جميلة بنت سعد عن عائشة لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل قال مالك : سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد وقال الشافعي : بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين وقال أحمد : نساء بني عجلان يحملن أربع سنين وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون كل دفعة أربع سنين وبقي محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي في بطن أمه أربع سنين وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي حكى ذلك أبو الخطاب وإذا تقرر وجوده وجب أن يحكم به ولا يزاد عليه لأنه ما وجد ولأن عمر ضرب لامرأة المفقود أربع سنين ولم يكن ذلك إلا أنه غاية الحمل وروي ذلك عن عثمان وعلي وغيرهما إذ ثبت هذا فإن المرأة إذا ولدت لأربع سنين فما دون من يوم موت الزوج أو طلاقه ولم تكن تزوجت ولا وطئت ولا انقضت عدتها بالقروء ولا بوضع الحمل فإن الولد لاحق بالزوج وعدتها منقضية به
فصل : وإن أتت بالولد لأربع سنين منذ مات أو بانت منه بطلان أو فسخ أو انقضاء عدتها إن كانت رجعية لم يلحقه ولدها لأننا نعلم أنها علقت به بعد زوال النكاح والبينونة منه وكونها قد صارت منه أجنبية فأشبهت سار الأجنبيات ومفهوم كلام الخرقي أن عدتها لا تنقضي به لأنه لا ينتفي عنه بغير لعان فلم تنقض عدتها منه بوضعه كما لو أتت به لأقل من ستة أشهر منذ نكحها قال أبو الخطاب : هل تنقضي به العدة ؟ على وجهين
وذكر القاضي أن عدتها تنقضي به وهو مذهب الشافعي لأنه ولد يمكن أن يكون منه بعد نكاحه بأن يكون قد وطئها بشبهة أو جدد نكاحها فوجب أن تنقضي به العدة وإن لم يلحق به كالولد المنفي باللعان وبهذا فارق الذي أتت به لأقل من ستة أشهر فإنه ينتفي يقينا ثم ناقضوا قولهم فقالوا لو تزوجت في عدتها وأتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين دخل بها الثاني ولأكثر من أربع سنين من حين بانت من الأول فالولد منتف عنهما ولا تنقضي عدتها بوضعه عن واحد منهما وهذا أصح فإن احتمال كونه منه لم يكف في إثبات نسب الولد منه مع أنه يثبت بمجرد الإمكان فلأن لا يكفي في انقضاء العدة أولى وأحرى وما ذكروه منتقض بما سلموه وما ذكروه من الفرق بين هذا وبين الذي أتت به لأقل من ستة أشهر غير صحيح فإنه يحتمل أن يكون أصابها قبل نكاحها بشبهة أو بنكاح غير هذا النكاح الذي أتت بالولد فيه فاستويا
وأما المنفي باللعان فإنا نفينا الولد عن الزوج بالنسبة إليه ونفينا حكمه في كونه منه بالنسبة إليها حتى أوجبنا الحد على قاذفها وقاذف ولدها وانقضاء عدتها من الأحكام المتعلقة بها دونه فثبتت
فصل : وإن أقرت المرأة بانقضاء عدتها بالقروء ثم أتت بولد لستة أشهر فصاعدا من بعد انقضائها لم يحلق نسبه بالزوج وبه قال أبو حنيفة و ابن سريج وقال مالك و الشافعي : يلحق به وما لم تتزوج و يبلغ أربع سنين وكلام لخرقي يحتمل ذلك فإنه أطلق قوله إذا أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين لحقه الولد وذلك لأنه ولد يمكن كونه منه وليس معه من هو أولى منه ولا من يساويه فوجب أن يلحق به كما لو أتت به بعد عقد النكاح
ولنا أنها أتت به بعد الحكم بقضاء عدتها وحل النكاح لها بمدة الحمل فلم يلحق به كما لو أتت به بعد انقضاء عدتها بوضع حملها لمدة الحمل وإنما يعتبر الإمكان مع بقاء النكاح أو آثاره وقد زال ذلك وإن انقضت عدتها بالشهور ثم أتت بولد لدون أربع سنين لحقه نسبه لأنها إن كانت تدعي الإياس تبينا كذبها فإن من تحمل ليست بآيسة وإن كانت من اللائي لم يحضن أو متوفى عنها لحقه ولدها لأنه لم يوجد في حقها ما ينافي كونها حاملا
فصل : وإذا مات الصغير الذي لا يولد لمثله عن زوجته فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض العدة بوضعه وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : إن مات وبها حمل ظاهر اعتدت عنه بالوضع فإن ظهر الحمل بها بعد موته لم تعتد به
وقد روي عن احمد في الصبي مثل قول ابي حنيفة وذكره ابن أبي موسى قال أبو الخطاب وفيه بعد وهكذا الخلاف فيما إذا تزوج بإمرأة ودخل بها وأتت بولد لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح فإنها لا تعتد بوضعه عندنا وعنده تعتد به واحتج بقوله تعالى : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن }
ولنا أن هذا حمل منفي عنه يقينا فلم تعتد بوضعه كما لو ظهر بعد موته والآية واردة في المطلقات ثم هي مخصوصة بالقياس الذي ذكرناه إذا ثبت هذا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل من الوطء الذي علقت به منه سواء كان هذا الولد ملحقا بغير الصغير مثل ان يكون من عقد فاسد أو وطء شبهة أو كان من زنا لا يلحق بأحد لأن العدة تجب من كل وطء فإذا وضعته اعتدت من الصبي بأربعة أشهر وعشر لأن العدتين من رجلين لا يتداخلان وإن كانت الفرقة في الحياة بعد الدخول كزوجة كبير دخل بها ثم طلقها وأتت بولد لودن ستة أشهر منذ تزوجها فإنها تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء وكذلك إذا طلق الخصي المجبوب امرأته أو مات عنها فأتت بولد لم يلحقه نسبه ولم تنقض عدتها بوضعه وتنقضي به عدة الوطء ثم تستأنف عدة الطلاق أو عدة الطلاق أو عدة الوفاة على ما بيناه وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد أن الولد يلحق به لأنه قد يتصور منه الإنزال بأن يحك موضع ذكره بفرجها فينزل فعلى هذا القول يلحق به الولد وتنقضي به العدة والصحيح أن هذا لا يلحق به ولد لأنه لم تجر به عادة فلا يلحق به ولدها كالصبي الذي لم يبلغ عشر سنين ولو تزوج امرأة في مجلس الحاكم ثم طلقها في المجلس أو تزوج المشرقي بالمغربية ثم أتت بولد لا يمكن أن يكون منه بعد اجتماعهما بمدة الحمل فإنه لا يلحقه نسبه ولا تنقضي العدة بوضعه (9/117)
مسألة قال ولو طلقها أو مات عنها فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها
مسألة : قال : ولو طلقها أو مات عنها فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها فرق بينهما وبنت على ما مضى من عدة الأول ثم استقبلت العدة من الثاني
وجملة الأمر أن المعتدة لا يجوز لها أن تنكح في عدتها إجماعا أي عدة كانت لقول الله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } ولأن العدة إنما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم لئلا يفضي إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب وإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الأول فكان نكاحا باطلا كما لو تزوجت وهي في نكاحه ويجب أن يفرق بينه وبينها فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها ولا تنقطع بالعقد الثاني لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا يستحق عليه بالعقد شيء وتسقط سكناها ونفقتها عن الزوج الأول لأنها ناشز وإن وطئها انقطعت العدة سواء علم التحريم أو جهله وقال ابو حنيفة : لا تنقطع لأن كونها فراشا لغير من له العدة لا يمنعها كما لو وطئت بشبهة وهي زوجة فإنها تعتد وإن كانت فراشا للزوج وقال القاضي : إن وطئها عالما بأنها معتدة وأنها تحرم فهو زان فلا تنقطع العدة بوطئه لأنها لا تصير به فراشا ولا يلحق به نسب وإن كان جاهلا أنها معتدة أو بالتحريم العدة بالوطء لأنها تصير به فراشا والعدة تراد للاستبراء وكونها فراشا ينافي ذلك فوجب أن يقطعها فأما طريانه عليها فلا يجوز
ولنا أن هذا وطء بشبهة نكاح فتنقطع به العدة كما لو جهل وقولهم : إنها لا تصير به فراشا قلنا : لكنه لا يلحق نسب الولد الحادث من وطئه بالزوج الأول فهما شيئان إذا ثبت هذا فعليه فراقها فإن لم يفعل وجب التفريق بينها فإن فارقها أو فرق بينهما وجب عليها أن تكمل عدة الأول لأن حقه أسبق وعدته وجبت عن وطء في نكاح صحيح فإذا أكملت عدة الأول وجب عليها أن تعتد من الثاني ولا تتداخل العدتان لأنهما من رجلين وهذا مذهب الشافعي
وقال أبو حنيفة : يتداخلان فتأتي بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني تكون عن بقية عدة الأول و عدة الثاني لأن القصد معرفة براءة الرحم وهذا تحصل به براءة الرحم منهما جميعا
ولنا ما روى مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب و سليمان بن يسار أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحها غيره في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها ضربات بمخفقة وفرق بينهما ثم قال : أيما ارأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينها ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبدا
وروى بإسناده عن علي أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر وهذان قولا سيدين من الخلفاء لم يعرف لهما في الصحابة مخالف ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين واليمينين ولأنه حبس يستحقه الرجال على النساء فلم يجز أن تكون المرأة ف يحبس رجلين كحبس الزوجة (9/121)
مسألة حل نكاح المرأة لزوجها الثاني بعد انقضاء عديتها
مسألة : قال : وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين
يعني للزوج الثاني أن يتزوجها بعد قضاء العدتين فأما الزوج الأول فإن كان طلاقه ثلاثا لم تحل له بهذا النكاح وإن وطىء فيه لأنه نكاح باطل وإن كان طلاقه دون الثلاث فله نكاحها أيضا بعد العدتين وإن كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه
وعن أحمد رواية أخرى أنها تحرم على الزوج الثاني على التأبيد وهو قول مالك وقديم قولي الشافعي لقول عمر لا ينكحها أبدا ولأنه استعجل الحق قبل وقته فحرمه في وقته كالوارث إذا قتل موروثه ولأنه يفسد النسب فيوقع التحريم المؤبد كاللعان
وقال الشافعي في الجديد : له نكاحها بعد قضاء عدة الأول ولا يمنع من نكاحها في عدتها منه ولأنه وطء يلحق به النسب فلا يمنع من نكاحها في عدتها منه كالوطء في النكاح ولأن العدة إنما شرعت حفظا للنسب وصيانة للماء والنسب لاحق به ههنا فأشبه ما لو خلعها ثم نكحها في عدتها وهذا حسن موافق للنظر
ولنا على إباحتها بعد العدتين أنه لا يخلو إما أن يكون تحريمها بالعقد أو بالوطء في النكاح الفاسد أو بهما وجميع ذلك لا يقتضي التحريم بدليل ما لو نكحها بلا ولي ووطئها ولأنه لو زنى بها لم تحرم عليه على التأبيد فهذا أولى ولأن آيات الإباحة عامة كقوله تعالى : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } وقوله : { والمحصنات من المؤمنات } فلا يجوز تخصيصها بغير دليل وما روي عن عمر في تحريمها فقد خالفه علي فيه
وروي عن عمر أنه رجع عن قوله في التحريم إلى قول علي فإن عليا قال : إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب فقال عمر : ردوا الجهالات إلى السنة ورجع إلى قول علي وقياسهم يبطل بما إذا زنى بها فإنه قد استعجل وطأها ولا تحرم عليه على التأبيد ووجه تحريمها قبل قضاء عدة الثاني عليه قول الله تعالى : { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } ولأنه وطء يفسد به النسب فلم يجز النكاح في العدة منه كوطء الأجنبي (9/123)
فصل انقضاء العدة مطلقا بوضع الحمل
فصل : وكل معتدة من غير النكاح الصحيح كالزانية والموطوءة بشبهة أو في نكاح فاسد فقياس المذهب تحريم نكاحها على الواطىء وغيره والأولى حل نكاحها لمن هي معتدة منه إن كان يلحقه نسب ولدها لأن العدة لحفظ مائه وصيانة نسبه ولا يصان ماؤه المحترم عن مائه المحترم ولا يحفظ نسبه عنه ولذلك أبيح للمختلعة نكاح من خالعها ومن لا يلحقه نسب ولدها كالزانية لا يحل له نكاحها لأن نكاحها يفضي إلى اشتباه النسب فالواطىء كغيره في أن الولد لا يلحق نسبه بواحد منهما (9/125)
مسألة وإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما
مسألة : قال : وإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما أري القافة وألحق بمن ألحقوه منما وانقضت عدتها من واعتدت للآخر
وجملته أنها إذا كانت حاملا انقضت عدتها منه بوضع حملها لقوله سبحانه : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ثم ننظر فإن كان يمكن أن يكون من الأول دون الثاني وهو أن يأتي به لدون ستة أشهر من وطء الثاني وأربع سنين فما دونها من فراق الأول فإنه يلحق بالأول وتنقضي عدتها به منه بوضعه ثم تعتد بثلاثة قروء عن الثاني وإن أمكن كونه من الثاني دون الأول وهو أن تأتي لستة أشهر فما زاد إلى اربع سنين من وطء الثاني ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول فهو ملصق بالثاني دون الأول فتنقضي به عدتها من الثاني ثم تتم عدة الأول وتقدم عدة الثاني ههنا على الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من إنسان والعدة من غيره وإن أمكن أن يكون منهما وهو أن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني ولأربع سنين فما دونها من بينونتها من الأول أري القافة فإن الحقته بالأول لحق به كما لو أمكن أن يكون منه دون الثاني وإن ألحقته بالثاني لحق به وكان الحكم كما له أمكن كونه من الثاني دون الأول فإن أشكل أمره على القافة أو لم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة قروء لأنه إن كان من الأول فقد أتت بما عليها من عدة الثاني وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول ليسقط الفرض بيقين فأما الولد فقال ابو بكر : يضيع نسبه لأنه لا دليل على نسبته إلى واحد منهما فأشبه ما لو كان مجنونا لم ينتسب إلى واحد منهما وقال أبو عبد الله بن حامد : يترك حتى يبلغ فينتسب إلى أحدهما وإن ألحقته القافة بهما لحق بهما ومقتضى المذهب أن تنقضي عدتها به منهما جميعا لأن نسبه ثبت منهما كما تنقضي عدتها به من الواحد الذي يثبت نسبه منهما
وإن نفته القافة عنهما فحكمه حكم ما لو أشكل أمره وتعتد بعد وضعه بثلاثة قروء ولا ينتفي عنهما بقول القافة لأن عمل القافة في ترجيح أحد صاحبي الفراش لا في النفي عن الفراش كله ولهذا لو كان صاحب الفراش واحدا فنفته القافة عنه لم ينتف عنه بقولها
فأما إن ولدت لدون ستة أشهر من وطء الثاني ولأكثر من أربع من فراق الأول لم يلحق بواحد منهما ولا تنقضي به عدتها منه لأننا نعلم أنه من وطء آخر فتنقضي به عدتها من ذلك الوطء ثم تتم عدة الأول وتستأنف عدة الثاني لأنه قد وجد ما يقتضي عدة ثالثة وهو الوطء الذي حملت منه فتجب عليها عدتان وإتمام العدة الأولى (9/125)
فصل وإذا تزوج معتدة وهما عالمان بالعدة وتحريم النكاح فيها ووطئها
فصل : وإذا تزوج معتدة وهما عالمان بالعدة وتحريم النكاح فيها ووطئها فهما زانيان عليهما حد الزنا ولا مهر لها ولا يلحقه النسب وإن كان جاهلين بالعدة أو بالتحريم ثبت النسب وانتفى الحد ووجب المهر وإن علم هو دونها فعليه الحد والمهر ولا نسب له وإن علمت هي دونه فعليها الحد ولا مهر لها ولانسب لاحق به وإنما كان كذلك لأن هذا نكاح متفق على بطلانه فأشبه نكاح ذوات محارمه (9/127)
فصول اباحة نكاح المعتدة من خلع أو فسخ لزوجها في عدتها وارتجاع الرجعية في عدتها ثم وطئها وطلاقها
فصل : وإذا خالع الرجل زوجته أو فسخ نكاحه فله أن يتزوجها في عدتها في قول جمهور الفقهاء وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و الزهري و الحسن و قتادة و مالك و مالك و الشافعي واصحاب الرأي وشذ بعض المتأخرين فقال : لا يحل له نكاحها ولا خطبتها لأنها معتدة
ولنا أن العدة لحفظ نسبه وصيانة مائه ولا يصان ماؤه عن مائه إذا كانا من نكاح صحيح فإذا تزوجها انقطعت العدة لأن المرأة تصير فراشا به بعقده ولا يجوز أن تكون زوجة معتدة فإن وطئها ثم طلقها لزمتها عدة مستأنفة ولا شيء عليها من الأولى لأنها قد انقطعت وارتفعت وإن طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف العدة أو تبني على ما مضى ؟ قال القاضي : فيه روايتان إحداهما : تستأنف وهو قول أبي حنيفة لأنه طلاق لا يخلو من عدة فأوجب عدة مستأنفة كالأول والثانية : لا يلزمها استئناف عدة وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن لأنه طلاق في نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة لعموم قوله سبحانه : { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها }
وذكر القاضي في كتاب الروايتين أنه لا يلزمها استئناف العدة رواية واحدة لكن يلزمها إتمام بقية العدة الأولى لأن إسقاطها يفضي إلى اختلاط المياه لأنه يتزوج امرأة ويطؤها ويخلعها ثم يتزوجها ويطلقها في الحال ويتزوجها الثاني في يوم واحد فإن خلعها حاملا ثم تزوجها حاملا ثم طلقها وهي حامل انقضت عدتها بوضع الحمل على كلتا الروايتين ولا نعلم فيه مخالفا ولا تنقضي عدتها قبل وضعها بغير خلاف نعلمه وإن وضعت حملها قبل النكاح الثاني فلا عدة عليها للطلاق من النكاح الثاني بغير خلاف أيضا لأنه نكحها بعد قضاء عدة الأول وإن وضعته بعد النكاح الثاني وقبل طلاقه فمن قال يلزمها استئناف عدة أوجب عليها الاعتداد بعد طلاق الثاني بثلاثة قروء ومن لا يلزمها استئناف عدة لم يوجب عليها ههنا عدة لأن العدة الأولى انقضت بوضع الحمل إذ لا يجوز أن تعتد الحامل بغير وضعه وإن كانت من ذوات القروء أو الشهور فنكحها الثاني بعد مضي قرء او شهر ثم مضى قرآن أو شهران قبل طلاقه من النكاح الثاني فقد انقطعت العدة بالنكاح الثاني فإن قلنا تستانف العدة فعليها عدة تامة بثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر وإن قلنا تبني أتمت العدة الأولى يقرأين أو شهرين
فصل : وإن طلقها طلاقا رجعيا ثم ارتجعها في عدتها ووطئها ثم طلقها انقطعت العدة الأولى برجعته لأنه زال حكم الطلاق وتستأنف عدة من الطلاق الثاني لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس وإن طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف عدة أو تبني على العدة الأولى ؟ فيه روايتان أولاهما : أنها تستأنف لأن الرجعة أزالت شعهث الطلاق الأول وردتها إلى النكاح الأول فصار الطلاق الثاني طلاقا من نكاح اتصل به المسيس والثانية تبني لأن الرجعة لا تزيد على النكاح الجديد ولو نكحها ثم طلقها قبل المسيس لم يلزمها لذلك الطلاق عدة فكذلك الرجعة فإن فسخ نكاحها قبل الرجعة بخلع أو غيره احتمل أن يكون حكمه حكم الطلاق لأن موجبه في العدة موجب الطلاق ولا فرق بينهما واحتمل أن تستأنف العدة لأنهما جنسان بخلاف الطلاق وإن لم يرتجعها بلفظه لكن وطئها في عدتها فهل تحصل بذلك رجعة أو لا ؟ فيه روايتان :
إحداهما : تحصل به الرجعة فيكون حكمها حكم من ارتجعها بلفظه ثم وطئها سواء والثانية : لا تحصل الرجعة به ويلزمها استئناف عدة لأنه وطء في نكاح تشعث فهو كوطء الشبهة وتدخل بقية عدة الطلاق فيها لأنهما من رجل واحد وإن حملت من هذا الوطء فهل تدخل فيها بقية الأولى ؟ على وجهين أحدهما : تدخل لأنهما من رجل واحد والثاني : لا تدخل لأنهما من جنسين فعلى هذا إذا وضعت حملها أتمت عدة الطلاق وإن وطئها وهي حامل ففي تداخل العدتين وجهان فإن قلنا يتداخلان فانقضاؤهما معا بوضع الحمل وإن قلنا لا يتداخلان فانقضاء عدة الطلاق بوضع الحمل وتستأنف عدة الوطء بالقروء
فصل : فإن طلقها طلاقا رجعيا فنكحت في عدتها من وطئها فقد ذكرنا أنها تبني على عدة الأول ثم تستأنف عدة الثاني ولزوجها الأول رجعتها في بقية عدتها منه لأن الرجعة إمساك للزوجة وطريان الوطء من أجنبي على النكاح لا يمنع الزوج إمساك زوجته كما لو كانت في صلب النكاح وقيل : ليس له رجعتها لأنها محرمة عليه فلم يصح له ارتجاعها كالمرتدة والصحيح الأول فإن التحريم لا يمنع الرجعة كالإحرام ويفارق الردة لأنها جارية إلى بينونة بعد الرجعة بخلاف العدة وإذا انقضت عدتها منه فليس له رجعتها في عدة الثاني لأنها ليست منه وإذا ارتجعها في عدتها من نفسه وكانت بالقروء أو بالأشهر انقطعت عدته بالرجعة وابتدأت عدة من الثاني ولا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدة الثاني كما لو وطئت بشبهة في صلب نكاحه وإن كانت معتدة بالحمل لم يمكن شروعها في عدة الثاني قبل وضع الحمل لأنها بالقروء فإذا وضعت حملها شرعت في عدة الثاني وإن كان الحمل ملحقا بالثاني فإنها تعتد به عن الثاني وتقدم عدة الثاني على الأول فإذا أكملتها شرعت في إتمام عدة الأول وله حينئذ أن يرتجعها لأنها في عدته وإن أحب أن يرتجعها في حال حملها ففيه وحهان أحدهما : ليس له ذلك لأنها ليست في عدته وهي محرمة عليه فأشبهت الأجنبية أو المرتدة والثاني له رجعتها لأن عدتها منه لم تنقض وتحريمها لا يمنع رجعتها كالمحرمة (9/127)
فصل تزوج الرجل امرأة لها ولد من غيره
فصل : إذا تزوج رجل امرأة لها ولد من غيره فمات ولدها فإن أحمد قال : يعتزل امرأته حتى تحيض حيضة وهذا يروى عن علي بن أبي طالب و الحسن ابنه ونحوه عن عمر بن الخطاب وعن الحسن بن علي والصعب بن جثامة وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز و النخعي و مالك و إسحاق و أبو عبيد قال عمر بن عبد العزيز لا يقربها حتى ينظر بها حمل أم لا وإنما قالوا ذلك لأنها إن كانت حاملا حين موته ورثه حملها وإن حدث الحمل بعد الموت لم يرثثه فإن كان للميت ولد أو أب أو جد لم يحتج إلى استبرائها لأن الحمل لا ميراث له وإن كانت حاملا قد تبين حملها لم يحتج إلى استبرائها لأن الحمل معلوم وإن كانت آيسة لم يحتج إلى استبرائها لليأس من حملها وإن كانت ممن يمكن حملها ولم يبين لها حمل ولم يعتزلها زوجها فأتت بولد قبل ستة أشهر ورث وإن أتت به بعد ستة أشهر من حين وطئها بعد موت ولدها لم يرث لأنا لا نتيقن وجوده حال موته هذا يروى عن سفيان وهو قياس قول الشافعي (9/130)
فصول أحكام المفقود الغائب وقد تزوجت امرأته
فصل : في أحكام المفقود إذا غاب الرجل عن امرأته لم يخل من حالين أحدهما : أن تكون غيبة غير منقطعة يعرف خبره ويأتي كتابه فهذا ليس لامرأته أن تتزوج في قول أهل العلم أجمعين إلا أن يتعذر الانفاق عليها من ماله فلها أن تطلب فسخ النكاح فيفسخ نكاحه وأجمعوا على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى تعلم يقين وفاته وهذا قول النخعي و الزهري و يحيى بن الأنصاري و مكحول و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور و إسحاق وأصحاب الرأي وإن ابق العبد فزوجته على الزوجية حتى تعلم موته أو ردته وبه قال الأوزاعي و الثوري و الشافعي و إسحاق وقال الحسن : إباقه طلاقه
ولنا أنه ليس بمفقود فلم ينفسخ نكاحه كالحر ومن تعذر الإنفاق من ماله على زوجته فحكمها في الفسخ حكم ما ذكرنا إلا أن العبد نفقة زوجته على سيده أو في كسبه فيعتبر تعذر الإنفاق من محل الوجوب
الحال الثاني : أن يفقد وينقطع خبره ولا يعلم له موضع فهذا ينقسم قسمين أحدهما : أن يكون ظاهر غيبته السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة وإباق العبد وطلب العلم والسياحة فلا تزول الزوجية أيضا ما لم يثبت موته وروي ذلك عن علي وإليه ذهب ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و ابو حنيفة و الشافعي في الجديد وروي ذلك عن أبي قلابة و النخعي و أبي عبيد
وقال مالك و الشافعي في القديم : تتربص أربع سنين وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للأزواج لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطء بالعنة وتعذر النفقة بالإعسار فلأن يجوز ههنا لتعذر الجميع أولى واحتجوا بحديث عمر في المفقود مع موافقة الصحابة له وتركهم إنكاره
ونقل أحمد بن أصرم عن أحمد إذا مضى عليه تسعون سنة قسم ماله وهذا يقتضي أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج قال أصحابنا : إنما اعتبر تسعين سنة من يوم ولادته لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها الهلال والمذهب الأول لأن هذه غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قبل الأربع سنين أو كما قبل التسعين ولأن هذا التقدير بغير توقيف والتقدير لا ينبغي أن يصار إليه إلا بالتوقيف لأن تقديرها بتسعين سنة من يوم ولادته يفضي إلى اختلاف العدة في حق المرأة باختلاف عمر الزوج ولا نظير لهذا وخبر عمر ورد فيمن ظاهر غيبته الهلاك فلا يقاس عليه غيره
القسم الثاني : أن تكون غيبته ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع أو يمضي إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع فلا يظهر له خبر أو يفقد بين الصفين أو ينكسر بهم مركب فيغرق بعض رفقته أو يفقد مهلكه كبرية الحجاز ونحوها فمذهب أحمد الظاهر عنه أن زوجته تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل للأزواج
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله تذهب إلى حديث عمر ؟ قال : هو أحسنها يروى عن عمر من ثمانية وجوه ثم قال : زعموا أن عمر رجع عن هذا هؤلاء الكذابين قلت فروي من وجه ضعيف أن عمر قال بخلاف هذا
قال : لا إلا أن يكون إنسان يكذب وقلت له مرة إن إنسانا قال لي إن أبا عبد الله قد ترك قوله في المفقود بعدك فضحك ثم قال : من ترك هذا القول أي شيء يقول ؟ وهذا قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير قال أحمد : خمسة من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وبه قال عطاء وعمر بن عبد العزيز و الحسن و الزهري و قتادة و الليث و علي بن المديني وعبد العزيز بن أبي سلمة وبه يقول مالك و الشافعي في القديم إلا أن مالكا قال : ليس في انتظار من يفقد في القتال وقت وقال سعيد بن المسيب في امرأة المفقود بين الصفين : تتربص سنة لأن غلبة هلاكه هنا أكثر من غلبة غيره لوجود سببه
وقد نقل عن أحمد أنه قال : كنت أقول : إذا تربصت أربع سنين ثم اعتدت أربعة أشهر وعشرا تزوجت وقد ارتبت فيها وهبت الجواب فيها لما اختلف الناس فيها فكأني أحب السلامة وهذا توقف يحتمل الرجوع عما قاله وتتربص أبدا ويحتمل التورع ويكون المذهب ما قاله أولا
قال القاضي : أكثر أصحابنا على أن المذهب رواية واحدة وعندي أن المسألة على روايتين وقال أبو بكر الذي أقول به إن صح الاختلاف في المسألة أن لا يحكم بحكم ثان إلا بدليل على الانتقال وإن ثبت الإجماع فالحكم فيه على ما نص عليه وظاهر المذهب على ما حكيناه من رواية أولا نقله عن أحمد الجماعة وقد أنكر أحمد رواية من روى عنه الرجوع على ما حكيناه من رواية الأثرم
وقال أبو قلابة و النخعي و الثوري و ابن أبي ليلى و ابن شبرمة وأصحاب الرأي و الشافعي في الجديد : [ لا تتزوج امرأة المفقود حتى يتبين موته أو فراقه لما روى المغيرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : امرأة المفقود امرأته حتى يأتي زوجها ] وروى الحكم و حماد عن علي : لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتي موته أو طلاقه لأنه شك في زوال الزوجية فلم تثبت به الفرقة كما لو كان ظاهر غيبته السلامة
ولنا ما روى الأثرم و الجوزجاني بإسنادهما عن عبيد بن عمير قال : فقد رجل في عهد عمر فجاءت امرأته إلى عمر فذكرت ذلك له فقال : انطلقي فتربصي أربع سنين ففعلت ثم أتته فقال : انطلقي فاعتدي أربعة اشهر وعشرا ففعلت ثم أتته فقال : أين ولي هذا الرجل ؟ فقال : طلقها ففعل فقال لها عمر : انطلقي فتزوجي من شئت فتزوجت ثم جاء زوجها الأول فقال عمر أين كنت ؟ قال يا أمير المؤمنين استهوتني الشياطين فوالله ما أدري في أي أرض الله كنت عند قوم يستعبدونني حتى اغتزاهم منهم قوم مسلمون فكنت فيما غنموه فقالوا لي : أنت رجل من الإنس وهؤلاء من الجن فما لك وما لهم ؟ فأخبرتهم خبري فقالوا : بأي أرض الله تحب أن تصبح ؟ قلت المدينة هي أرضي فأصبحت وأنا أنظر إلى الحرة فخيره عمر إن شاء امرأته وإن شاء الصداق فاختار الصداق وقال : قد حبلت لا حاجة لي فيها قال أحمد : يروى عن عمر من ثلاثة وجوه ولم يعرف في الصحابة له مخالف
وروى الجوزجاني وغيره بإسنادهم عن علي في امرأة المفقود تعتد أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها وتعتد بعد ذلك أربعة أشهر وعشرا فإن جاء زوجها المفقود بعد ذلك خير بين الصداق وبين امرأته وقضى به عثمان أيضا وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم وهذه قضايا انتشرت في الصحابة فلم تنكر فكانت إجماعا
فأما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه و سلم فلم يثبت ولم يذكره أصحاب السنن ومارووه عن علي فيرويه الحكم و حماد مرسلا والمسند عنه مثل قولنا ثم يحمل ما رووه على المفقود الذي ظاهر غيبته السلامة جمعا بينه وبين ما رويناه وقولهم إنه شك في زوال الزوجية ممنوع فإن الشك ما تساوى فيه الأمران والظاهر في مسألتنا هلاكه
فصل : وهل يعتبر أن يطلقها ولي زوجها ثم تعتد بعد ذلك بثلاثة قروء ؟ فيه روايتان إحداهما : يعتبر ذلك لأنه في حديث عمر الذي رويناه وقد قال أحمد : هة احسنها وذكر في حديث علي أنه يطلقها ولي زوجها والثانية : لا يعتبر ذلك كذلك قال ابن عمر وابن عباس وهو القياس فإن ولي الرجل لا ولاية له في طلاق امرأته ولأننا حكمنا عليها بعدة الوفاة فلا تجب عليها مع ذلك عدة الطلاق كما لو تيقنت وفاته ولأنه قد وجد دليل هلاكه على وجه أباح لها التزويج وأوجب عليها عدة الوفاة فأشبه ما لو شهد به شاهدان
فصل : وهل يعتبر ابتداء المدة من حين الغيبة أو من حين ضرب الحاكم المدة ؟ على روايتين إحداها : يعتبر ابتداؤها من حين ضربها الحاكم لأنها مدة مختلف فيها فافتقرت إلى ضرب الحام كمدة العنة والثاني : من حين انقطع خبره وبعد اثره لأن هذا ظاهر في موته فكان ابتداء المدة منه كما لو شهد به شاهدان ولـ لشافعي وجهان كالروايتين (9/131)
فصلان حكم قدوم المفقود الغائب وقد تزوجت امرأته
فصل : فإن قدم زوجها الأول قبل أن تتزوج فهي امرأته وقال بعض أصحاب الشافعي : إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الأول والذي ذكرنا أولى لأننا إنما أبحنا لها التزويج لأن الظاهر موته فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله كما لو شهدت البينة بموته ثم بان حيا ولأنه أحد الملكين فأشبه ملك المال فأما إن قدم بعد أن تزوجت نظرنا فإن كان قبل دخول الثاني بها فهي زوجة الأول ترد إليه ولا شيء قال أحمد : أما قبل الدخول فهي امرأته وإنما التخيير بعد الدخول وهذا قول الحسن و عطاء و خلاس ابن عمرو و النخعي و قتادة و مالك و إسحاق وقال القاضي : فيه رواية أخرى أنه يخير وأخذه من عموم قول أحمد : إذا تزوجت امرأته فجاء خير بين الصداق وبين امرأته والصحيح أن عموم كلام أحمد يحمل على خاصه في رواية الأثرم وأنه لا تخيير إلا بعد الدخول فتكون زوجة الأول رواية واحدة لأن النكاح إنما يصح في الظاهر دون الباطن فإذا قدم تبينا ان النكاح كان باطلا لأنه صادف امرأة ذات زوج فكان باطلا كما لو شهدت بينة بموته وليس عليه صداق لأنه نكاح فاسد لم يتصل به دخول ويعود الزوج بالعقد الأول كما لو لم تتزوج وإن قدم بعد دخول الثاني بها خير الأول بين أخذها فتكون زوجته بالعقد الأول وبين أخذ صداقها وتكون زوجة الثاني وهذا قول مالك لإجماع الصحابة عليه فروى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر وعثمان قالا : إن جاء زوجها الأول خير بين المرأة وبين الصداق الذي ساق هو رواه الجوزجاني و الأثرم وقضى به ابن الزبير في مولاة لهم وقال عي ذلك في الحديث الذي رويناه ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا فعلى هذا إن أمسكها الأول فهي زوجته بالعقد الأول والمنصوص عن أحمد أنه لا يحتاج الثاني إلى طلاق لأن نكاحه كان باطلا في الباطن وقال القاضي : قياس قوله أنه يحتاج إلى طلاق لأن هذا نكاح مختلف في صحته فكام مأمورا بالطلاق ليقطع حكم العقد الثاني كسائر الأنكحة الفاسدة ويجب على الأول اعتزالها حتى تقضي عدتها من الثاني وإن لم يخترها الأول فإنها تكون مع الثاني ولم يذكروا لها عقدا جديدا والصحيح أنه يجب أن يستأنف لها عقدا لأننا تبينا بطلان عقده بمجيء الأول ويحمل قول الصحابة على هذا لقيام الدليل عليه فإن زوجه الإنسان لا تصير زوجة لغيره بمجرد تركه لها وقال أبو الخطاب : القياس أننا إن حكمنا بالفرقة ظاهرا وباطنا فهي امرأة الثاني ولا خيار للأول لأنها بانت منه بفرقة الحاكم فأشبه ما لو فسخ نكاحها لعسرته وإن لم نحكم بفرقته باطنا فهي امرأة الأول ولا خيار له
فصل : ومتى اختار الأول تركها فإنه يرجع على الثاني بصداقها لقضاء الصحابة بذلك ولأنه حال بينه وبينها بعقده عليها دخوله بها واختلف عن أحمد فيما يرجع به فروي عنه أنه يرجع بالصداق الذي أصدقها هو وهو اختيار أبي بكر وقول الحسن و الزهري و قتادة وعلي بن المديني لقضاء علي وعثمان أنه يخير بينهما وبين الصداق الذي ساق هو ولأنه أتلف عليه المعوض فرجع عليه بالعوض كشهود الطلاق إذا رجعوا عن الشهادة فعلى هذا إن كان لم يدفع إليها الصداق لم يرجع بشيء وإن كان قد دفع بعضه رجع بما دفع ويحتمل أن يرجع عليه بالصداق وترجع المرأة بما بقي عليه من صداقها وعن أحمد أنه يرجع عليه بالمهر الذي أصدقها الثاني لأن إتلاف البضع من جهته والرجوع عليه بقيمته والبضع لا يتقوم إلا على زوج أو من جرى مجراه فيجب الرجوع عليه بالمسمى الثاني دون الأول وهل يرجع الزوج الثاني على الزوجة بما أخذ منه ؟ فيه روايتان ذكر ذلك أبو عبد الله بن حامد إحداهما : يرجع به لأنها غرامة لزمت الزوج بسبب وطئه لها فرجع بها كالمغرور والثانية : لا يرجع بها وهو أظهر لأن الصحابة لم يقضوا بالرجوع فإن سعيد بن المسيب روى أن عمر وعثمان قضيا في المرأة التي لا تدري ما مهلك زوجها ؟ أن تربص أربع سنين ثم تعتد عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ثم تزوج إن بدا لها فإن جاء زوجها خير إما امرأته وإما الصداق فإن اختار الصداق فالصداق على زوجها الآخر وتثبت عنده وإن اختار امرأته عزلت عن زوجها الآخر حتى تنقضي عدتها وإن قدم زوجها وقد توفي زوجها الآخر ورثت واعتدت عدة المتوفى عنها وترجع إلى الأول رواه الجوزجاني ولأن المرأة لا تغرير منها فلم يرجع عليها بشيء كغيرها فإن قلنا : يرجع عليها فإن كان قد دفع إليها الصداق رجع به وإن كان لم يدفعه إليها دفعه إلى الأول ولم يرجع عليها بشيء وإن كان قد دفع بعضه رجع بما دفع وإن قلنا لا يرجع عليها وكان قد دفع إليها الصداق لم يرجع به وإن لم يكن دفعه إليها لزمه دفعه ويدفع إلى الأول صداقا آخر (9/137)
فصل حكم ما لو اختارت امرأة المفقود المقام والصبر
فصل : وإن اختارت امرأة المفقود المقام والصبر حتى يتبين أمره فلها النفقة ما دام حيا وينفق عليها من ماله حتى يتبين أمره لأنها محكوم لها بالزوجية فتجب لها النفقة كم لو علمت حياته فإذا تبين أنه مات أو فارقها فلها النفقة إلى يوم موته أو بينونتها منه ويرجع عليها بالباقي لأنا تبينا أنها أنفقت مال غيره أو أنفقت من ماله وهي غير زوجة له وإن رفعت أمرها إلى الحاكم فضرب لها مدة فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لأن مدة التربص لم يحكم فيه بينونتها من زوجها فهي محبوسة عليه بحكم الزوجية فأشبه ما قبل المدة وأما مدة العدة فلأنها غير متيقنة بخلاف عدة الوفاة فإن موته متيقن وما بعد العدة إن تزوجت أو فرق الحاكم بينهما سقطت نفقتها لأنها أسقطتها بخروجها عن حكم نكاحه وإن لم تتزوج ولا فرق الحاكم بينهما فنفقتها باقية لأنها لم تخرج بعد من نكاحه وإن قدم الزوج بعد ذلك وردت إليه عادت نفقتها من حين الرد وقد روى الأثرم و الجوزجاني عن ابن عمر وابن عباس قالا : تنتظر امرأة المفقود أربع سنين قال ابن عمر ينفق عليها من مال زوجها وقال ابن عباس : إذا يجحف ذلك بالورثة ولكنها تستدين فإن جاء زوجها أخذت من ماله وإن مات أخذت من نصيبها من الميراث وقالا : ينفق عليها بعد في العدة بعد الأربع سنين من مال زوجها جميعه أربعة أشهر وعشرا وإن قلنا : ليس لها أن تتزوج لم تسقط نفقتها مالم تتزوج فإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها بالتزويج تخرج عن يديه وتصير ناشزا وإن فرق بينهما فلا نفقة لها ما دامت في العدة فإذا انقضت فلم تعد إلى مسكن زوجها فلا نفقة لها أيضا لأنها باقية على النشوز وإن عادت إلى مسكنه احتمل أن تعود النفقة لأن النشوز مسكن المسقط لنفقتها قد زال ويحتمل ألا تعود لأنها ما سلمت نفسها إليه وإن عاد فتسلمها عادت نفقتها ومتى أنفق عليها ثم بان أن الزوج كان قد مات قبل ذلك حسب عليها ما أنفق عليها من حين موته من ميراثها فإن لم ترث شيئا فهو عليها لأنها انفقت من مال الوارث ما لا تستحقه فأما نفقتها على الزوج الثاني فإن قلنا لها أن تتزوج فنكاحها صحيح حكمه في النفقة حكم غيره من الأنكحة الصحيحة وإن قلنا ليس لها أن تتزوج فلا نفقة لها فإن انفق عليها لم يرجع بشيء لأنه تطوع به إلا أن يجبره على ذلك حاكم فيحتمل أن يرجع بها لأنه الزمه أداء ما لم يكن واجبا عليه ويحتمل ألا يرجع به لأن ما حكم به الحاكم لا يجوز نقضه ما لم يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا فإن فارقها بتفريق الحاكم أو غيره فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملا فينبني وجوب النفقة على الروايتين في النفقة هل هي للحمل أو لها من أجله ؟ فإن قلنا هي للحمل فلها النفقة لأن نسب الحمل لاحق به فيجب عليه الإنفاق على ولده وإن قلنا لها من أجله فلا نفقة لها لأنه في غير نكاح صحيح فأشبه حمل الموطءة بشبهة وإذا أتت بولد يمكن كونه من الثاني لحقه نسبه لأنها صارت فراشا له وقد علمنا أن الولد ليس من الأول لأنها تربصت بعد فقده أكثر من مدة الحمل وتنقضي عدتها من الثاني بوضعه لأن الولد منه و عليها أن ترضعه اللبأ لأن الولد لا يقوم بدنه إلا به فإن ردت إلى الأول فله منعها من إرضاعه كما له أن يمنعها من رضاع أجنبي لأن ذلك يشغلها عن حقوقه إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه التلف فليس له منعها من إرضاعه لأن هذا حال ضرورة فإن أرضعته في بيت الزوج الأول لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته ويده وإن أرضعته في غير بيته بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها ناشز وإن كان بإذنه خرج على الروايتين فيما إذا سافرت لحاجتها بإذنه (9/140)
فصل ميراث الزوجة من الزوجين وتوريثهما منها
فصل : في ميراثها من الزوجين وتوريثهما منها متى مات زوجها الأول أو ماتت قبل تزوجها للثاني ورثته وورثها وكذلك إن تزوجت الثاني فلم يدخل بها لأننا قد تبينا أنه متى قدم قبل الدخول بها ردت إليه بغير تخيير
وقد ذكرنا أن القاضي ذكر أن فيها رواية أخرى أنه يخير فيها فعلى هذه الرواية حكمه حكم ما لو دخل بها الثاني فأما إن دخل الثاني بها نظرنا فإن قدم الأول فاختارها وردت إليه ورثها وورثته ولم ترث الثاني ولم يرثها لأنه لا زوجية بينهما وإن مات أحدهما قبل اختيارها إما في الغيبة أو بعد قدومه فإن قلنا : لها أن تتزوج ورثت الزوج الثاني وورثها ولم ترث الأول ولم يرثها لأن من خير بين شيئين فتعذر أحدهما تعين الآخر وإن ماتت قبل اختيار الأول خير فإن اختارها ورثها وإن لم يخترها ورثها الثاني هذا ظاهر قول أصحابنا وأما على ما اختاره فإنها لا ترث الثاني ولا يرثها بحال إلا أن يجدد لها عقدا أو لا يعلم أن الأول كان حيا ومتى علم أن الأول كان حيا ورثها وورثته إلا أن يختار تركها فتبين منه بذلك فلا ترثه ولا يرثها
وعلى قول أبي الخطاب : إن حكمنا بوقوع الفرقة بتفريق الحاكم ظاهرا وباطنا ورثت الثاني وورثها ولم ترث الأول ولم يرثها فأما عدتها منهما فمن ورثته اعتدت لوفاته عدة الوفاة وإن مات الثاني في موضع لا ترثه فالمنصوص عن أحمد أنها تعتد عدة الوفاة في النكاح الفاسد فعلى هذا عليها عدة الوفاة لوفاته وهو اختيار أبي بكر
وقال ابن حامد : لا عدة عليها لوفاته لكن تعتد من وطئه بثلاثة قروء فإن ماتا معا اعتدت لكل واحد منهما وبدأت بعدة الأول فإذا أكملتها اعتدت للآخر وإن مات الأول أولا فكذلك وإن مات الثاني أولا بدأت بعدته فإذا مات الأول انقطعت عدة الثاني ثم ابتدأت عدة الأول فإذا أكملتها أتمت عدة الثاني وإن علم موت أحدهما وجهل وقت موت الآخر أو جهل موتهما فعليها أن تعتد عدتين من حين تيقنت الموت وتبدأ بعدة الأول لأنه أسبق وأولى وإن كانت حاملا فبوضع الحمل تنقضي عدة الثاني لأن الولد منه ثم تبتدىء بعده بعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا (9/142)
فصل حكم ما لو تزوجت مرأة المفقود في وقت ليس لها فيه أن تتزوج
فصل : وإذا تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه مثل أن تتزوج قبل مضي المدة التي يباح لها التزويج بعدها أو كانت غيبة زوجها ظاهرها السلامة أو ما أشبه هذا فنكاحها باطل وقال القاضي إن تبين أن زوجها قد مات وانقضت عدتها منه أو فارقها وانقضت عدتها ففي صحة نكاحها وجهان :
أحدهما : هو صحيح لأنها ليست في نكاح ولا عدة فصح تزويجها كما لو علمت ذلك
والثاني : لا يصح لأنها معتقدة تحريم نكاحها وبطلانه وأصل هذا من باع عينا في يده يعتقدها لموروثه فبان موروثه ميتا والعين مملوكة له بالإرث هل يصح البيع ؟ فيه وجهان كذا ههنا ومذهب الشافعي مثل هذا
ولنا أنها تزوجت في مدة منعها الشرع من النكاح فيها فلم يصح كما لو تزوجت المعتدة في عدتها أو المرتابة قبل زوال ريبتها (9/143)
فصل اقتسام مال المفقود
فصل : ويقسم مال المفقود في الوقت الذي تؤمر زوجته بعدة الوفاة فيه وبهذا قال قتادة وقال الشافعي و مالك و أصحاب الرأي و ابن المنذر : لا يقسم ماله حتى تعلم وفاته لأن الأصل البقاء فلا يزول بالشك وإنما صرنا إلى إباحة التزويج لامرأته لإجماع الصحابة ولأن بالمرأة حاجة إلى النكاح وضررا في الانتظار فاختص ذلك بها
ولنا أن من اعتدت زوجته للوفاة قسم ماله كمن قامت البينة بموته وما أجمع عليه الصحابة يقاس عليه ما كان في معناه وتأخير القسمة ضرر بالورثة وتعطيل لمنافع المال وربما تلف أو قلت قيمته فهو في معنى الضرر بتأخير التزويج (9/144)
فصول حكم تصرف الزوج المفقود في زوجته بطلاق أو ظهار ونكاح المرأة نكاحا متفقا على بطلانه
فصل : وإن تصرف الزوج المفقود في زوجته بطلاق أو ظهار أو إيلاء أو قذف صح تصرفه لأن نكاحه باق ولهذا خير في أخذها وإنما حكمنا بإباحة تزويجها لأن الظاهر موته فلا يبطل في الباطن كما لو شهدت بموته بينة كاذبة
فصل : وإذا فقدت الأمة زوجها تربصت أربع سنين ثم اعتدت للوفاة شهرين وخمسة أيام وهذا اختيار أبي بكر وقال القاضي : تتربص تربص الحرة ورواه أبو طالب عن أحمد وهو قول الأوزاعي و الليث لأنها مدة مضروبة للمرأة لعدم زوجها فكانت الأمة فيه على النصف من الحرة كالعدة
ولنا أن الأربع سنين مضروبة كونها أكثر مدة الحمل ومدة الحمل في الحرة والأمة سواء فاستويا في التربص لها كالتسعة الأشهر في حق من ارتفع حيضها لا تدري مارفعه ؟ وكالحمل نفسه وبهذا ينتقض قياسهم فأما العبد فإن كانت زوجته حرة فتربصها تربص الحرة تحت الحر وإن كانت أمة فهي كالأمة تحت الحر لأن العدة معتبرة بالنساء دون الرجال وكذلك مدة التربص وحكي عن الزهري و مالك أنه يضرب له نصف أجل الحر والأولى ما قلناه لأنه تربص مشروع في حق المرأة لفرقة زوجها فأشبه العدة
فصل : فإن غاب رجل عن زوجته فشهد ثقات بوفاته فاعتدت زوجته للوفاة أبيح لها أن تتزوج فإن عاد الزوج بعد ذلك فحكمه حكم المفقود يخير زوجها بين أخذها وتركها وله الصداق وكذلك إن تظاهرت الأخبار بموته وقد روى الأثرم بإسناده عن أبي المليح عن شهية أن زوجها صيفي بن فشيل نعي لها من قيذائيل فتزوجت بعده ثم إن زوجها الأول قدم فأتينا عثمان وهو محصور فأشرف علينا فقال : كيف أقضي بينكم وأنا على هذا الحال ؟ فقلنا : قد رضينا بقولك فقضى أن يخير الزوج الأول بين الصداق وبين المرأة فرجعنا فلما قتل عثمان أتينا عليا فخير الزوج الأول بين الصداق وبين المرأة فاختار الصداق فأخذ مني ألفين ومن زوجي الآخر ألفين فإن حصلت الفرقة بشهادة محصورة فما حصل من غرامة فعليهما لأنهما سبب في إيجابها وإن شهدوا بموت رجل فقسم ماله ثم قدم فما وجد من ماله أخذه وما تلف منه تعذر رجوعه فيه فله تضمين الشاهدين لأنهما سبب الاستيلاء عليه وللمالك تضمين المتلف لأنه أتلف ماله بغير إذنه
فصل : وإذا نكح رجل امرأة نكاحا متفقا على بطلانه مثل أن ينكح ذات محرمة أو معتدة يعلم حالها وتحريمها فلا حك لعقده والخلو بها كالخلوة بالأجنبية لا توجب عدة وكذلك الموت عنها لا يوجب عدة الوفاة وإن وطئها اعتدت لوطئه بثلاثة قروء منذ وطئها سواء فارقها أو مات عنها كما لو زنى بها من غير عقد وإن نكحها نكاحا مختلفا فيه فهو فاسد فإن مات عنها فنقل جعفر بن محمد أن عليها عدة الوفاة وهذا اختيار أبي بكر
وقال أبو عبد الله بن حامد : ليس عليها عدة الوفاة وهو مذهب الشافعي لأنه نكاح لا يثبت الحل فأشبه الباطل فعلى هذا إن كان قبل الدخول فلا عدة عليها وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء ووجه الأول أنه نكاح يلحق به النسب فوجبت به عدة الوفاة النكاح الصحيح وفارق الباطل فإنه لا يحلق به النسب وإن فارقها في الحياة بعد الإصابة اعتدت بعد فرقته بثلاثة قروء ولا اختلاف فيه وإن كان قبل الخلوة فلا عدة عليها فلا خلاف لأن المفارقة في الحياة في النكاح الصحيح لا عدة عليها بلا خلاف ففي الفاسد أولى وإن كان بعد الخلوة قبل الإصابة فالمنصوص عن أحمد أن عليها العدة لأنه مجرى مجرى النكاح الصحيح في لحوق النسب فكذلك في العدة وقال الشافعي : لا عدة عليها لوجهين أحدهما : أنها خلوة في غير نكاح صحيح أشبهت التي نكاحها باطل والثاني : أن الخلوة عنده في النكاح الصحيح لا توجب العدة ففي الفاسد أولى وهذا مقتضى قول ابن حامد
فصل : في عدة المعتق بعضها ومتى كانت معتدة بالحمل أو بالقروء بالحمل أو بالقروء فعدتها كعدة الحرة لأن عدة الحامل لا تختلف بالرق والحرية وعدة الأمة بالقروء قرآن فأدنى ما يكون فيها من الحرية يوجب قرءا ثالثا لأنه لا يتبعض وإن كانت معتدة بالشهور إما للوفاة وإما للإياس أو الصغر فعدتها بالحساب من عدة حرة وأمة فإذا كان نصفها حرا فاعتدت للوفاة فعليها ثلاثة أشهر وثمان ليال لأن الليل يحسب مع النهار فيكون عليها ثلاثة أرباع ذلك وإن كانت معتدة بالشهور عن الطلاق وقلنا إن عدة الأمة شهر ونصف كان عدو المعتق نصفه شهرين وربعا وإن قلنا عدة الأمة شهران أوثلاثة أشهر فعدة بعضها كعدة الحرة سواء وأم الولد والمدبرة والمكاتبة عدتهن كعدة الأمة سواء لأنهن إماء (9/145)
مسائل وفصول أحكام عدة أم الولد إذا مات سيدها وحكم ما لو كانت آيسة أو رفع حيضها أو حامل
مسألة : قال : وأم الولد إذا مات سيدها فلا تنكح حتى تحيض حيضة كاملة
هذا المشهور عن أحمد وهو قول ابن عمر وروي ذلك عن عثمان وعائشة و الحسن و الشعبي و القاسم بن محمد وأبي قلابة و مكحول و مالك و الشافعي و أبي عبيد و أبي ثور وروي عن أحمد أنها تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا وهو قول سعيد بن المسيب وأبي عياض و ابن سيرين و سعيد بن جبير و مجاهد وخلاس بن عمرو وعمر بن عبد العزيز و الزهري ويزيد بن عبد الملك و الأوزاعي و إسحاق لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال : لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه و سلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر رواه أبو داود ولأنها حرة تعتد للوفاة فكانت عدتها أربعة أشهر وعشرا كالزوجة الحرة وحكى أبو الخطاب رواية ثالثة تعتد شهرين وخمسة أيام ولم أجد هذه الرواية عن أحمد في الجامع ولا أظنها صحيحة عن أحمد وروي ذلك عن عطاء و طاوس و قتادة ولأنها حين الموت أمة فكانت عدتها عدة الأمة كما لو مات رجل عن زوجته الأمة فعتقت بعد موته ويروى عن علي وابن مسعود و عطاء و النخعي و الثوري وأصحاب الرأي أن عدتها ثلاث حيض لأنها حرة تستبرىء فكان استبراؤها بثلاث حيض كالحرة المطلقة
ولنا أنه استبراء لزوال الملك عن الراقبة فكان حيضة في حق من تحيض كسائر استبراء المعتقات والمملوكات ولأنه استبراء لغير الزوجات والموطوءات بشبهة فأشبه ما ذكرنا قال القاسم بن محمد : سبحان الله يقول الله تعالى في كتابه : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } ما هن بأزواج فأما حديث عمرو بن العاص فضعيف قال ابن المنذر : ضعف أحمد و أبو عبيد حديث عمرو بن العاص
وقال محمد بن موسى : سألت أبا عبد الله عن حديث عمرو بن العاص فقال : لا يصح وقال الميموني : رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو بن العاص هذا ثم قال : أين سنة النبي صلى الله عليه و سلم في هذا ؟ وقال أربعة أشهر وعشر إنما هي عدة الحرة من النكاح وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية ويلزم من قال بهذا أن يورثها وليس لقول من قال : تعتد بثلاث حيض وجه وإنما تعتد بذلك المطلقة وليست هذه مطلقة ولا في معنى المطلقة وأما قياسهم إياها على الزوجات فلا يصح فإن هذه ليست زوجة ولا في حكم الزوجة ولا مطلقة ولا في حكم المطلقة
فصل : ولا يكفي في الاستبراء طهر واحد ولا بعض حيضة وهذا قول أكثر أهل العلم وقل بعض أصحاب مالك : متى طعنت في الحيضة فقد تم استبراءها وزعم أنه مذهب مالك وقال الشافعي في أحد قوليه : يكفي طهر واحد إذا كان كاملا وهو أن يموت في حيضها فإذا رأت الدم من الحيضة الثانية حلت وتم استبراؤها وهكذا الخلاف في الاستبراء كله وبنوا هذا على أن القروء الأطهار وهذا يرده [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ]
و [ قال رويفع بن ثابت سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم خيبر : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة ] رواه الأثرم وهذا صريح فلا يعول على ما خالفه ولأن الواجب استبراء والذي يدل على البراءة هو الحيض فإن الحامل لا تحيض فأما الطهر فلا دلالة فيه على البراءة فلا يجوز أن يعول في الاستبراء على ما لا دلالة عليه دون ما يدل عليه وبناؤهم قولهم هذا على قولهم : إن القروء الأطهار بناء للخلاف على الخلاف ليس ذلك بحجة ثم لم يمكنهم بناء هذا على ذلك حتى خالفوه فجعلوا الطهر الذي طلقها فيه قرءا ولم يجعلوا الطهر الذي مات فيه سيد أم الولد قرءا وخالفوا الحديث والمعنى فإن قالوا : إن بعض الحيضة المقترن بالطهر يدل على البراءة قلنا فيكون الاعتماد حينئذ على بعض الحيضة وليس ذلك قرءا عند أحد فإذا تقرر هذا فإن مات عنها وهي طاهر فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة حلت وإن كانت حائضا لم تعتد ببقية تلك الحيضة ولكن متى طهرت من الحيضة الثانية حلت لأن استبراء هذه بحيضة فلا بد من حيضة كاملة
مسألة : قال : وإن كانت مؤيسة فبثلاثة أشهر
وهذا المشهور عن أحمد أيضا وهو قول الحسن و ابن سيرين و النخعي و أبي قلابة وأحد قولي الشافعي وسأل عمر بن عبد العزيز أهل المدينة والقوابل فقالوا : لا تستبرأ الحبلى في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه قولهم وعن أحمد رواية أخرى أنها تستبرىء بشهر وهو قول ثان لـ لشافعي لأن الشهر قائم مقام القرء في حق الحرة والأمة المطلقة فكذلك في الاستبراء
وذكر القاضي رواية ثالثة أنها تستبر بشهرين كعدة الأمة المطلقة ولم أر لذلك وجها ولو كان استبراؤها بشهرين لكان استبراء ذات القرء بقرأين ولم نعلم به قائلا وقال سعيد بن المسيب و عطاء و الضحاك و الحكم في الأمة التي لا تحيض : تستبرأ بشهر ونصف رواه حنبل عن أحمد فإنه قال : قال عطاء : إن كانت لا تحيض فخمس وأربعون ليلة قال علي كذلك أذهب لأن عدة الأمة المطلقة الآيسة كذلك والمشهور عن أحمد الأول
قال أحمد بن القاسم قلت لأبي عبد الله : كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرا ؟ فقال : إنما قلنا بثلاثة أشهر من أجل الحمل فإنه لا يتبين في أقل من ذلك فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروه أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك ثم قال : ألا تسمع قول ابن مسعود إن النطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين يوما ثم مضغة بعد ذلك
قال أبو عبد الله : فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة وهي لحم فتبين حينئذ وقال لي : هذا معروف عند النساء فأما شهر فلا معنى فيه ولا نعلم به قائلا ووجه استبرائه بشهر أن الله تعالى جعل الشهر مكان الحيضة ولذلك اختلفت الشهور باختلاف الحيضات فكانت عدة الحرة الآيسة ثلاثة أشهر مكان ثلاثة قروء وعدة الأمة شهرين مكان قرأين وللأمة المستبرأة التي ارتفع حيضها عشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة فجب أن يكون مكان الحيضة ههنا شهر كما في حق من ارتفع حيضها فإن قيل فقد وجدتم ما دل على البراءة وهو تربص تسعة أشهر قلنا : وههنا ما يدل على البراءة وهو الإياس فاستويا
مسألة : قال : وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت بتسعة أشهر للحمل وشهر مكان الحيضة
وفي هذه المسألة أيضا روايتان إحداهما : أنها تستبرأ بعشرة أشهر والثانية : بسنة تسعة أشهر للحمل لأنها غالب مدته وثلاثة أشهر مكان الثلاثة التي تستبرأ بها الآيسات وقد ذكرنا الروايتان في الآيسة وذكرنا أن المختار عن أحمد استبراؤها بثلاثة أشهر وههنا جعل مكان الحيضة شهرا لأن اعتبار تكراها في الآيسة لتعلم براءتها من الحمل وقد علم براءتها منه ههنا بمضي غالب مدته فجعل الشهر مكان الحيضة على وفق القياس
فصل : وإن علمت ما رفع الحيض لم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرىء نفسها بحيضة إلا أن تصير آيسة فتستبرىء نفسها استبراء الآيسات وإن ارتابت بنفسها فهي كالحرة المستريبة وقد ذكرنا حكمها فيما مضى من هذا الباب والله تعالى أعلم
مسألة : قال : وإن كانت حاملا فحتى تضع
وهذه بحمد الله لا خلاف فيها فإن الله تعالى قال : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا توطأ حامل حتى تضع ] ولأن عدة الحرة والأمة والمتوفى عنها والمطلقة واستبراء كل أمة إذا كانت حاملا بوضع حملها وذلك لأن المقصود من العدة والاستبراء معرفة براءة الرحم من الحمل وهذا يحصل بوضعه ومتى كانت حاملا باثنين أو أكثر فلا ينقضي استبراؤها حتى تضع آخر حملها على ما ذكرناه في المعتدة
فصل : وإذا زوج أم ولده ثم مات عتقت ولم يلزمها استبراء لأنها محرمة على المولى وليست له فراشا وإنما هي فراش للزوج فلم يلزمها الاستبارء ممن ليست له فراشا ولأنه لم يزوجها حتى استبرأها فإنه لا يحل له تزويجها قبل استبرائها فإن طلقها الزوج قبل دخوله بها فلا عدة عليها أيضا وإن طلقها بعد المسيس أو مات عنها قبل ذلك أو بعده فعليها عدة حرة كاملة لأنها قد صارت حرة في حال وجوب العدة عليها وإن مات سيدها وهي في عدة الزوج عتقت ولم يلزمها استبراء لما ذكرناه ولأنه زال فراشه عنها قبل موته فلم يلزمها استبراء من أجله كغير أم الولد إذا باعها ثم مات وتبني على عدة أمة إن كان طلاقها بائنا أو كانت متوفى عنها وإن كانت رجعية بنت على عدة حرة على ما مضى وإن بانت من الزوج قبل الدخول بطلاق أو بانت بموت زوجها أو طلاقه بعد الدخول فقضت عدته ثم مات سيدها فعليها الاستبراء لأنها عادت إلى فراشه وقال أبو بكر : لا يلزمها استبراء إلا ن يردها السيد إلى نفسه لأن فراشه قد زال بتزويجها ولم يتجدد لها ما يردها إليه فاشبهت الأمة غير الموطوءة
فصل : فإن مات زوجها وسيدها ولم تعلم أيهما مات أولا فعلى قول ابي بكر ليس عليها استبراء لأن فراش سيدها قد زال عنها ولم تعد إليه وعليها ان تعتد لوفاة زوجها عدة الحرئر ولأنه يحتمل أن سيدها مات أولا ثم مات زوجها وهي حرة فلزمها عدة الحرة لتخرج من العدة بيقين وعلى القول الآخر إن كان بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون فليس عليها استبراء لأن السيد إن كان مات أولا فقد مات وهي زوجته وإن كان مات آخرا فقد مات وهي معتدة وليس عليها استبراء في هاتين الحالتين وعليها أن تعتد بعد موت الآخر منهما عدة لحرة لما ذكرناه وإن كان بين موتهما أكثر من ذلك فعليها بعد موت الآخر منهما أطول الأجلين من أربعة أشهر وعشر واستبراء بحيضة لأنه يحتمل أن يكون السيد مات أولا فيكون عليها عدة الحرة من الوفاة ويحتمل أنه مات آخرا بعد انقضاء عدتها من الزوج وعودها إلى فراشه فلزمها الاستبراء بحيضة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين قال ابن عبد البر : وعلى هذا جميع القائلين من العلماء بأن عدة الأمة من سيدها بحيضة ومن زوجها شهران وخمس ليال فإن جهل ما بين موتهما فلحكم فيه كما لو علمنا أن بينهما شهرين وخمس ليال احتياطا لإسقاط الفرض بيقين كما أخذنا بالاحتياط في الإيجاب بين عدة حرة وحيضة فيما إذا علمنا أن بينهما شهرين وخمس ليال وقول أصحاب الشافعي في هذا القول مثل قولنا وكذلك قول أبي حنيفة وأصحابه إلا أنهم جعلوا مكان الحيضة ثلاث حيضات بناء على أصلهم في استبراء أم الولد
وقال ابن المنذر : حكمها حكم الإماء وعليها شهران وخمسة أيام ولا أنقلها إلى حكم الحرائر إلا بإحاطة أن الزوج مات بعد المولى وقيل إن هذا قول أبي بكر عبد العزيز أيضا والي ذكرناه أحوط فأما الميراث فإنها لا ترث من زوجها شيئا لأن الأصل الرق والحرية مشكوك فيها فلم ترث مع الشك والفرق بين الإرث والعدة أن إيجاب العدة عليها استظهار لا ضرر فيه على غيره وإيجاب الإرث إسقاط لحق غيرها ولأن الأصل تحريم النكاح عليها فلا يزول إلا بيقين والأصل عدم الميراث لها فلا ترث إلا بيقين فإن قيل : أفليس المفقود إذا ماتت زوجته وقف ميراثه منها مع الشك في إرثه ؟ قلنا الفرق بينهما أن الأصل ههنا الرق والشك في زواله وحدوث الحال التي يرث فيها والمفقود الأصل حياته والشك في موته وخروجه عن كونه وارثا فافترقا (9/148)
مسألة وفصول حكم من اعتق أم ولد أو أمة كان يصبيها
مسألة : قال : وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لم تنكح حتى تحيض حيضة كاملة وكذلك إن أراد أن يزوجها وهي في ملكه استبرأها بحيضة ثم زوجها
لا يختلف المذهب في ان الاستبراء ههنا بحيضة في ذات القروء وهو قول الشافعي وهو قول الزهري و الثوري فيمن أراد تزويج أمة كان يصيبها وقال أصحاب الرأي : ليس عليها استبراء لأن له بيعها فكان له تزويجها كالتي لا يصيبها وقال عطاء و قتادة : عدتها حيضتان كعدة الأمة المطلقة
ولنا أنها فراش لسيدها فلم يجز أن تنتقل إلى فراش غيره بغير استبراء كما لو مات عنها ولأن هذه موطوءة وطئا له حرمة فلم يجز أن تتزوج قبل الاستبراء كالموطوءة بشبهة وهذا لأنه إذا وطئها سيدها اليوم ثم زوجها فوطئها الزوج في آخر اليوم أفضى إلى اختلاط المياه وامتزاج النساب وهذا لا يحل ويخالف البيع فإنها لا تصير به فراشا ولا يحل لمشتريها وطؤه حتى يستبرئها فلا يفضي إلى اختلاط المياه ولهذا يصح في المعتدة والمزوجة بخلاف التزويج
فصل : فإن لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما ذكرنا في أم الولد على ما شرحنا ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا كانت أمة لا يطؤها سيدها لم يلزمها استبراء لأنها ليست فراشا لسيدها فلم يلزمها الاستبراء كالمزوجة والمعتدة ولأن تركها للاستبراء لا يفضي إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب بخلاف الموطوءة
فصل : وإن مات عن أمة كان يصيبها فاستبراؤها بما ذكرنا في أم الولد لأنها فراش لسيدها فأشبهت أم الولد إلا أنها إذا كانت من ذوات القروء فاستبراؤها بحيضة واحدة رواية واحدة لأنها لا تصير حرة
فصل : وإن أعتق أم ولده أو أمته التي كان يصيبها أو غيرها ممن تحل له إصابتها فله أن يتزوجها في الحال من غير استبراء ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها ]
و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ثلاثة يوفون أجرهم مرتين : رجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها وتزوجها ] ولم يذكر الاستبراء ولأن الاستبراء لصيانة مائه وحفظه عن الاختلاط بماء غيره ولا يصان ماؤه عن مائه ولهذا كان له أن يتزوج مختلعة في عدتها
وقد روى عن أحمد في الأمة التي لا يطؤها : إذا أعتقها لا يتزوجها بغير استبراء لأنه لو باعها لم تحل للمشتري بغير استبراء والصحيح أنه يحل له ذلك لأنه يحل له وطؤها بملك اليمين فكذلك بالنكاح كالتي كان يصيبها ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أعتق صفية وتزوجها ولم ينقل أنه كان أصابها والحديث الآخر يدل على حلها له بظاهره لدخولها في العموم ] ولأنها تحل لمن تزوجها سواه فله أولى ولأنه لو استبرأها ثم أعتقها وتزوجها في لحال كان جائزا حسنا فكذلك هذه فإنه تارك لوطئها ولأن وجوب الاستبراء في حق غيره إنما كان لصيانة مائه عن الاختلاط بغيره ولا يوجد ذلك ههنا وكلام أحمد محمول على من اشتراها ثم تزوجها قبل أن يستبرئها (9/155)
فصول حكم من اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها
فصل : وإن اشترى أمة فأعتقها قبل استبرائها لم يجز أن يتزوجها حتى يستبرئها وبهذا قال الشافعي وقال أصحاب الرأي : له ذلك ويحكى أن الرشيد اشترى جارية فتاقت نفسه إلى جماعها قبل استبرائها فأمره أبو يوسف أن يعتقها ويتزوجها ويطأها قال أبو عبد الله : وبلغني أن المهدي اشترى جارية فأعجبته فقيل له أعتقها وتزوجها قال أبو عبد الله : سبحان الله ما أعظم هذا ؟ أبطلوا الكتاب والسنة جعل الله على الحرائر العدة من أجل الحمل فليس من امرأة تطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل [ وسن رسول الله صلى الله عليه و سلم استبراء الأمة بحيضة من أجل الحمل ففرج يوطأ يشتريه ثم يعتقها على المكان فيتزوجها فيطؤها يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدا فإن كانت حاملا كيف يصنع ؟ هذا نقض الكتاب والسنة قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا توطأ الحامل حتى تضع ولا غير الحامل حتى تحيض ] وهذا لا يدري أهي حامل أم لا ؟ ما أسمج هذا ؟ قيل له : إن قوما يقولون هذا فقال قبح الله هذا وقبح من يقوله وفيما نبه عليه أو بو عبد الله من الأحاديث كفاية مع ما ذكرنا فيما قبل هذا الفصل
إذا ثبت هذا فليس له تزويجها لغيره قبل استبرائها إذا لم يعتقها لأنها ممن يجب استبراؤها فلم يجز أن يتزوج كالمعتدة وسواء في ذلك المشتراه من رجل يطؤها أو من رجل قد استبرأها ولم يطأها أو ممن لا يمكنه الوطء كالصبي والمرأة والمجبوب وقال الشافعي : إذا اشتراها ممن لا يطؤها فله تزويجها سوء أعتقها أو لم يعتقها وله أن يتزوجها إذا أعتقها لأنها ليست فراشا وقد كان لسيدها تزويجها قبل بيعها فجاز ذلك بعد بيعها ولأنها لو عتقت على البائع باعتاقه أو غيره لجاز لكل أحد نكاحها فكذلك إذا أعتقها المشتري
ولنا عموم قوله عليه السلام : [ لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة ] ولأنها أمة يحرم عليه وطؤها قبل استبرائها فحرم عليه تزويجها والتزوج بها كما لو كان بائعها يطؤها فأما إن أعتقها في هذه الصورة فله تزويجها لغيره لأنها حرة لم تكن فراشا فأبيح لها النكاح كما لو أعتقها البائع وفارق الموطوءة فإنها فراش يجب عليها استبراء نفسها إذا أعتقت فحرم عليها النكاح كالمعتدة وفارق ما إذا أراد سيدها نكاحها فإنه لم يكن له وطؤها بملك اليمين فلم يكن له أن يتزوجها كالمعتدة ولأن هذا يتخذ حيلة على إبطال الاستبراء فمنع منه بخلاف تزويجها لغيره
فصل : وإذا كانت أمة يطؤها فاستبرأها ثم أعتقها لم يلزمها استبراء لأنها خرجت عن كونها فراشا باستبرائه لها وإن باعها فأعتقها المستري قبل وطئها لم تحتج إلى استبراء لذلك وإن باعها قبل استبرائها فأعتقها المشتري قبل وطئها واستبرائها فعليها استبراء نفسها وإن مضى بعض الاستبراء في ملك المشتري لزمها إتمامه بعد عتقها ولا ينقطع بانتقال الملك فيها لأنه لم تصر فراشا للمشتري ولم يلزمها استبراء بإعتاقه
فصل : وإذا كانت الأمة بين شريكين فوطئاها لزمها استبراءان وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين : يلزمها استبراء واحد لأن لقصد معرفة براءة الرحم ولذلك لا يجب الاستبراء بأكثر من حيضة واحدة وبراءة الرحم تعلم باستبراء واحد
ولنا أنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالعدتين ولأنهم استبراءان من رجلين فأشبها العدتين وما ذكروه يبطل بالعدتين من رجلين (9/157)
مسألة وفصول من ملك أمة لم يصبها حتى يستبرئها وفروع في استبراء لأمة
مسألة : قال : ومن ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بعد تمام ملكه لها بحيضة إن كانت ممن تحيض أو بوضع الحمل إن كانت حاملا أو بمضي ثلاثة اشهر إن كانت من الآيسات أو من اللائي لم يحضن
وجملته أن من ملك أمة بسبب من أسباب الملك كالبيع والهبة والإرث وغير ذلك لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها بكرا أو ثيبا صغيرة كانت أو كبيرة ممن تحمل أو ممن لا تحمل وبهذا قال الحسن و ابن سيرين وأكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي واصحاب الرأي وقال ابن عمر : لا يجب استبراء البكر وهو قول داود لأن الغرض بالاستبراء معرفة براءتها من الحمل وهذا معلوم في البكر فلا حاجة إلى الاستبراء وقال الليث : إن كانت ممن لا يحمل مثلها لم يجب استبراؤها لذلك وقال عثمان البتي : يجب الاستبراء على البائع دون المشتري لأنه لو زوجها لكان الاستبراء على المزوج دون الزوج كذلك ههنا
[ ولنا ما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عام أو طاس أن توطأ حامل حتى تضع ولا غير حامل حتى تحيض ] رواه أحمد [ في المسند وعن رويفع بن ثابت قال : إنني لا أقول إلا ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعته يقول : لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة ] رواه أبو داود [ وفي لفظ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم خيبر يقول : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة ] رواه الأثرم ولأنه ملك جارية محرمة عليه فلم تحل له قبل استبرائها كالثيب التي تحمل ولأنه سبب موجب للاستبراء فلم يفترق الحال فيه بين البكر والثيب والتي تحمل والتي لا تحمل كالعدة قال أبو عبد الله : قد بلغني أن العذراء تحمل فقال له بعض أهل المجلس : نعم قد كان في جيراننا وذكر ذلك بعض أصحاب الشافعي وما ذكروه يبطل بما إذا اشتراها من امرأة أو صبي أو ممن تحرم عليه برضاع أو غيره ما ذكره البتي لا يصح لأن الملك قد يكون بالسبي والإرث والوصية فلو لم يستبرئها المشتري أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب والفرق بين البيع ولتزويج أن النكاح لايراد إلا للاستمتاع فلا يجوز إلا فيمن تحل له فوجب أن يتقدمه الاستبراء ولهذا لا يصح تزويج معتدة ولا مرتدة ولا مجوسية ولا وثنية ولا محرمة بالرضاع ولا المصاهرة والبيع يراد لغير ذلك فصح قبل الاستبراء ولهذا صح في هذه المحرمات ووجب الاستبراء على المشتري لما ذكرناه فأما الصغيرة التي لا يوطأ مثلها فظاهر كلام الخرقي تحريم قبلتها ومباشرته لشهوة قبل استبرائها وهو ظاهر كلام أحمد وفي أكثر الروايات عنه قال : تستبرأ وإن كانت في المهد وروي عنه أنه قال : إن كانت صغيرة بأي شيء تستبرأ إذا كانت رضيعة ؟ وقال في رواية أخرى : تستبرأ بحيضة إذا كانت ممن تحيض وإلا بثلاثة أشهر إن كانت ممن توطأ وتحبل فظاهر هذا نه لا يجب استبراؤها ولا تحرم مباشرتها
وهذا اختيار أبي موسى وقول مالك وهو الصحيح لأن سبب الإباحة متحقق وليس على تحريمها دليل فإنه لا نص فيه ولا معنى نص لأن تحريم مباشرة الكبيرة إنما كان لكونه داعيا إلى الوطء المحرم أو خشية أن تكون أم ولد لغيره ولا يتوهم في هذه فوجب العمل بمقتضى الإباحة فأما من يمكن وطؤها فلا تحل قبلتها ولا الاستمتاع منها بما دون الفرج قبل الاستبراء إلا المسبية على إحدى الروايتين وقال الحسن : لا يحرم من المشتراه إلا فرجها وله أن يستمتع منها بما لم يمس لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما نهى عن الوطء ولأنه تحريم للوطء مع ثبوت الملك فاختص بالفرج كالحيض
ولنا أنه استبراء يحرم الوطء فحرم الاستمتاع كالعدة ولأنه لا يأمن من كونها حاملا من بائعها فتكون أم ولد والبيع باطل فيكون مستمتعا بأم ولد غيره وبهذا فارق تحريم الوطء للحيض فأما المسبية فظاهر كلام الخرقي تحريم مباشرتها فيما دون الفرج لشهوة وهو الظاهر عن أحمد لأن كل استبراء حرم الوطء حرم دواعيه كالعدة ولأنه داعية إلى الوطء المحرم لأجل اختلاط المياه واشتباه الأنساب فأشبهت المبيعة وروي عن أحمد أنه لا يحرم لما روي عن ابن عمر أنه قال : وقع في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ولأنه لا نص في المسبية ولا يصح قياسها على المبيعة لأنها تحمل أن تكون أم ولد للبائع فيكون مستمتعا بأم ولد غيره ومباشرا لمملوكة غيره والمسبية مملوكة له على كل حال وإنما حرم وطؤها لئلا يسقي ماءه زرع غيره وقول الخرقي بعد تمام ملكه لها يعني أن الاستبراء لا يكون إلا بعد ملك المشتري لجميعها على نقل الملك بعضها ثم ملك باقيها لم يحتسب الاستبراء إلا من حين ملك باقيها وإن ملكها ببيع فيه الخيار انبنى على نقل الملك في مدته فإن قلنا : ينتقل فابتداء الاستبراء من حين البيع وإن قلنا : لا ينتقل فابتداؤه م نحين انقطع الخيار وإن كان المبيع قبل القبض أو من حين القبض ؟ فيه وجهان : أحدهما : من حين البيع لأن الملك ينتقل به والثاني : من حين القبض لأن القصد معرفة براءتها من ماء البائع ولا يحصل ذلك مع كونها في يده وإن اشترى عبده التاجر أمة فاستبرأها ثم صارت إلى السيد حلت له بغير استبراء لأن ملكه ثابت على ما في يد عبده فقد حصل استبراؤها في ملكه وإن اشترى مكاتبه أمة فاستبرأها ثم صارت إلى سيده فعليه استبراؤها لأن ملكه تجدد عليها إذ ليس للسيد ملك على ما في يد مكاتبه إلا أن تكون الجارية من ذوات محارم المكاتب فقال أصحابنا : تباح للسيد بغير استبراء لأنه يصير حكمها حكم المكاتب إن رق رقت وإن عتق عتقت والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والاستبراء الواجب ههنا في حق الحامل بوضعه بلا خلاف وفي ذات القروء بحيضة في قول أكثر أهل العلم وقال سعيد بن المسيب و عطاء : بحيضتين وهو مخالف للحديث الذي رويناه وللمعنى فإن المقصود معرفة براءتها من الحمل وهو حاصل بحيضة وفي الآيسة والتي لم تحض والتي ارتفع حيضها بما ذكرناه في أم الولد على ما مضى من الخلاف فيه
فصل : ومن ملك مجوسية أو وثنية فأسلمت قبل استبرائها لم تحل له حتى يستبرئها أو تتم ما بقي من استبرائها لما مضى وإن استبرأها ثم أسلمت حلت له بغير استبرائها وقال الشافعي : لا تحل له حتى تجدد استبراءها بعد إسلامها لأن ملكه تجدد على استمتاعها فأشبهت من تجدد ملكه على رقبتها
ولنا قوله عليه السلام : [ لا توطأ حائل حتى تستبرأ بحيضة ] وهذا ورد في سبايا أوطاس وكن مشركات ولم يأمر في حقهن بأكثر من حيضة ولأنه لم يتجدد ملكه عليها ولا أصابها وطء من غيره فلم يلزمه استبراؤها كما لو حلت المحرمة ولأن الاستبراء إنما وجب كيلا يفضي إلى اختلاط المياه وامتزاج الأنساب ومظنة ذلك تجدد الملك على رقبتها ولم يوجد ولو باع أمته ردت عليه بفسخ أو إقالة بعد قبضها أو افتراقهما لزمه استبراؤها لأنه تجديد ملك سواء كان المشتري لها امرأة أو غيرها فإن كان ذلك قبل افتراقهما أو قبل غيبة المشتري بالجارية ففيها روايتان إحداهما : عليه الاستبراء وهو مذهب الشافعي لأنه تجديد ملك والثانية : ليس عليه استبراء وهو قول أبي حنيفة إذا تقابلا قبل القبض لأنه لا فائدة في الاستبراء مع تعين البراءة
فصل : وإذا زوج الرجل أمته فطلقها الزوج لم يلزم السيد استبراءها ولكن إن طلقت بعد الدخول أو مات عنها فعليها العدة ولو ارتدت أمته أو كاتبها ثم أسلمت المرتدة وعجزت المكاتبة حلت لسيدها بغير استبراء وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : يجب عليه الاستبراء في هذا كله لأنه زال ملكه عن استمتاعها ثم عاد فأشبهت المشتراه
ولنا أنه لم يتجدد ملكه عليها فأشبهت المحرمة إذا حلت والمرهونة إذا فكت فإنه لا خلاف في حلهما بغير استبراء ولأن الاستبراء شرع لمعنى مظنته تجدد الملك فلا يشرع مع تخلف المظنة والمعنى
فصل : وإن اشترى أمة مزوجة فطلقها الزوج قبل الدخول لم تبح بغير استبراء نص عليه أحمد وقال : هذه حيلة وضعها أهل الرأي لابد من استبراء
ووجه ذلك أن هذه تجدد الملك فيها ولم يحصل استبراؤها في ملكه فلم تحل بغير استبراء كما لو تكن مزوجة ولأن إسقاط الاستبراء ههنا ذريعة إلى إسقاطه في حق من أراد إسقاطه بأن يزوجها عند بيعها ثم يطلقها زوجها بعد تمام البيع والحيل حرام فأما إن كان الزوج دخل بها ثم طلقها فعليها العدة ولا يلزم المشتري استبراؤها لأن ذلك قد حصل بالعدة ولأنها لو عتقت لم يجب عليها مع العدة استبراء ولأنها قد استبرأت نفسها ممن كانت فراشا له فجزأ ذلك كما لو كانت استبرأت نفسها من سيدها إذ كنت خالية من زوج وإن اشتراها وهي معتدة من زوجها لم يجب عليها استبراء لأنها لم تكن فراشا لسيدها وقد حصل الاستبراء من الزوج بالعدة ولذلك لو عتقت في هذه الحال لم يجب عليها استبراء وقال أبو الخطاب في المزوجة هل يدخل الاتسبراء في العدة ؟ على وجهين
وقال القاضي في المعتدة : يلزم السيد استبراؤها بعد قضاء العدة ولا يتداخلان لأنهما من رجلين ومفهوم كلام أحمد ما ذكرناه أولا لأنه علل فيما قبل الدخول بأنها حيلة وضعها أهل الرأي ولا يوجد ههنا ولا يصح قولهم : إن الاستبراء من رجلين فإن السيد ههنا ليس له استبراء
فصل : وإن كانت الأمة لرجلين فوطئاها ثم باعاها لرجل أجزأه استبراء واحد لأنه يحصل به معرفة البراءة فإن قيل : فلو أعتقها لألزمتموها استبراءين قلنا : وجوب الاستبراء في حق المعتقة معلل بالوطء ولذلك لو أعتقها وهي ممن لا يطؤها لم يلزمها استبراء وقد وجد الوطء من اثنين فلزمها حكم وطئهما وفي مسألتنا هو معلل بتجديد الملك لا غير ولهذا يجب على المشتري الاستبراء سواء كان سيدها يطؤها أو لم يكن والملك واحد فوجب أن يتجدد الاستبراء
فصل : وإذا اشترى الرجل زوجته الأمة لم يلزمه استبراؤها لأنها فراش له فلم يلزمه استبراؤها من مائه لكن يستحب ذلك ليعلم هل الولد من النكاح فيكون عليه ولاء له لأنه عتق بملكه له ولا تصير به الأمة أم ولد أو هو حادث في ملك يمينه فلا يكون عليه ولاء وتصير به الأمة أم ولد ومتى تبين حملها فله وطؤها لأنه قد علم الحمل وزال الاشتباه
فصل : وإن وطىء الجارية التي يلزمه استبراؤها قبل استبرائها أثم والاستبراء باق بحله لأنه حق عليه فلا يسقط بعدوانه فإن لم تعلق منه استبرأها بما كان يستبرئها به قبل الوطء وتبني على ما مضى من الاستبراء وإن علقت منه فمتى وضعت حملها استبرأها بحيضة ولا يحل له الاستمتاع منها في حال حمله لأنه لم يستبرئها وإن وطئها وهي حامل حملا كان موجودا حين البيع من غير البائع فمتى وضعت حملها انقضى استبراؤها قال أحمد : ولا يلحق بالمشتري ولا تبيعه ولكن يعتقه لأنه قد شرك فيه لأن الماء يزيد في الولد
وقد روى أبو داود بإسناده عن أبي الدرداء [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه مر بامرأة مجح على باب فسطاط فقال : لعله يريد أن يلم بها فقالوا نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد هممت أن ألعنه يدخل معه قبره كيف يورثه وهو لا يحل له أو كيف يستخدمه وهو لا يحل له ] ومعناه أنه إن استلحقه وشركه في ميراثه لم يحل له لأنه ليس بولده وإن اتخذه مملوكا لم يحل له لأنه قد شرك فيه لكون الوطء يزيد في الولد [ وعن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم وطء الحبالى حتى يضعن ما في بطونهن ] رواه النسائي و الترمذي
فصل : ومن أراد بيع أمته فإن كان لا يطؤها لم يلزمه استبراؤها لكن يستحب ذلك ليعلم خلوها من الحمل فيكون أحوط للمشتري وأقطع للنزاع قال أحمد : وإن كانت لامرأة فإني أحب أن لا تبيعها حتى تستبرئها بحيضة فهو أحوط لها وإن كان يطؤها وكانت آيسة فليس عليه استبراؤها لأن انتفاء الحمل معلوم وإن كانت ممن تحمل وجب عليه استبراؤها وبه قال النخعي و الثوري وعن أحمد رواية أخرى : لا يجب عليه استبراؤها وهو قول أبي حنيفة و مالك و الشافعي لأن عبد الرحمن بن عوف باع جارية كان يطؤها قبل استبرائها ولأن الاستبراء على المشتري فلا يجب على البائع فإن الاستبراء في حق الحرة آكد ولا يجب قبل النكاح وبعده كذلك لا يجب في الأمة قبل البيع وبعده
ولنا أن عمر أنكر على عبد الرحمن بن عوف بيع جارية كان يطؤها قبل استبرائها فروى عبد الله بن عبيد بن عمير قال : باع عبد الرحمن بن عوف جارية كان يقع عليها قبل أن يستبرئها فظهر بها حمل عند الذي اشتراها فخاصموه إلى عمر فقال له عمر : كنت تقع عليها ؟ قال نعم قال : فبعتها قبل أن تستبرئها ؟ قال نعم قال : ما كنت لذلك بخليق قال : فدعا القافة فنظروا إليه فألحقوه به ولأنه يجب على المشتري الاستبراء لحفظ مائه فكذلك البائع ولأنه قبل الاستبراء مشكوك في صحة البيع وجوازه لاحتمال أن تكون أم ولد فيجب الاستبراء لإزالة الاحتمال فإن خالف وباع فالبيع صحيح في الظاهر لأن الأصل عدم الحمل ولأن عمر وعبد الرحمن لم يحكما بفساد البيع في الأمة التي باعها قبل استبرائها إلا بلحقا الولد به ولو كان البيع باطلا قبل ذلك لم يحتج إلى ذلك وذكر أصحابنا الروايتين في كل أمة يطؤها من غير تفريق بين الآيسة وغيرها والأولى أن ذلك لا يجب في الآيسة لأن علة الوجوب احتمال الحمل وهو وهم بعيد والأصل عدمه فلا نثبت به حكما بمجرده
فصل : وإذا اشترى جارية فظهر بها حمل لم يخل من أحوال خمسة أحدها : أن يكون البائع أقر بوطئها عند البيع أو قبله وأتت بولد لدون ستة أشهر أو يكون البائع ادعى الولد فصدقه المشتري فإن الولد يكون للبائع والجارية أم ولد له والبيع باطل
الحال الثاني : أن يكون أحدهما استبرأها ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين وطئها المشتري فالولد للمشتري والجارية أم ولد له
الحال الثالث : أن تأتي به لأكثر من ستة أشهر بعد استبراء أحدهما لها ولأقل من ستة أشهر منذ وطئها المشتري فلا يلحق نسبه بواحد منهما ويكون ملكا للمشتري ولا يملك فسخ البيع لأن الحمل تجدد في ملكه ظاهرا فإن ادعاه كل واحد منهما فهو للمشتري لأنه ولد في ملكه مع احتمال كونه منه وإن ادعاه البائع وحده فصدقه المشتري لحقه وكان البيع باطلا وإن كذبه فالقول قول المشتري في ملك الولد لأن الملك انتقل إليه ظاهرا فلم تقبل دعوى البائع فيما يبطل حقه كما لو أقر بعد البيع أن الجارية مغصوبة أو معتقة وهل يثبت نسب الولد من البائع ؟ فيه وجهان :
أحدهما : يثبت لأنه نفع للولد من غير ضرر على المشتري فيقبل قوله فيه كما لو أقر لولده بمال
والثاني : لا يقبل لأنه فيه ضررا على المشتري فإنه لو أعتقه كان أبوه أحق بميراثه منه وذلك لو أقر عبدان كل واحد منهما أنه أخو صاحبه لم يقبل إلا ببينة
الحال الرابع : أن تأتي به بعد ستة أشهر منذ وطئها المشتري قبل استبرائها فنسبه لاحق بالمشتري فإن ادعاه البائع فأقر له المشتري لحقه وبطل البيع وإن كذبه فالقول قول المشتري وإن ادعى كل واحد منهما أنه من الآخر عرض على القافة فألحق بمن ألحقه به لحديث عبد الرحمن بن عوف ولأنه يحتمل كونه من كل واحد منهما وإن ألحقته القافة بهما لحق بهما وينبغي أن يبطل البيع وتكون أم ولد للبائع لأننا نتبين أنها كانت حاملا منه قبل بيعها
الحال الخامس : إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ باعها ولم يكن أقر بوطئها فالبيع صحيح في الظاهر والولد مملوك للمشتري فإن ادعى البائع فالحكم فيه كما ذكرنا في الحال الثالث سواء (9/159)
مسائل وفصول الاحداد على الزوج وأحكامه وما يجب على المحدة
مسألة : قال : وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة والبيتوتة في غير منزلها والكحل بالإثمد والنقاب
هذا يسمى الإحداد ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في وجوبه على المتوفى عنها زوجها إلا عن الحسن فإنه قال لا يجب الإحداد وهو قول شذ به أهل العلم وخالف به السنة فلا يعرج عليه ويستوفي في وجوبه الحرة والأمة والمسلمة والذمية والكبيرة والصغيرة وقال أصحاب الرأي : لا إحداد على ذمية ولا صغيرة لأنهما غير مكلفتين
ولنا عموم الأحاديث التي سنذكرها ولأن غير المكلفة تساوي المكلفة في اجتناب المحرمات كالخمر والزنا وإنما يفترقان في الإثم فكذلك الإحداد ولأن حقوق الذمية في النكاح كحقوق المسلمة فكذلك فيما عليها
فصل : ولا إحداد على غير الزوجات كأم الولد إذا مات سيدها قال ابن المنذر : لا أعلمهم يختلفون في ذلك وكذلك الأمة التي يطؤها سيدها إذا مات عنها ولا الموطوءة بشبهة والمزني بها ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] ولا إحداد على الرجعية بغير خلاف نعلمه لأنها في حكم الزوجات لها أن تتزين لزوجها وتستشرف له ليرغب فيها وتتفق عنده كما تفعل في صلب النكاح ولا إحداد على المنكوحة نكاحا فاسدا لأنها ليست زوجة على الحقيقة ولا لها من كانت تحل له ويحل لها فتحزن على فقده
فصل : وتجتنب الحادة ما يدعو إلى جماعها ويرغب في النظر إليها ويحسنها وذلك أربعة أشياء : أحدها : الطيب ولا خلاف في تحريمه عند من أوجب الإحداد ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذه من قسط أو اظفار ] متفق عليه [ وروت زينب بنت أم سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه و سلم حين توفي أبو سفيان فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضها ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] متفق عليه ولأن الطيب يحرك الشهوة ويدعو إلى المباشرة ولا يجوز لها استعمال الأدهان المطيبة كدهن الورد والبنفسج والياسمين والبان وما أشبهه لأنه استعمال للطيب فأما الأدهان بغير المطيب كالزيت والسريج والسمن فلا بأس به لأنه ليس بطيب الثاني : اجتناب الزينة وذلك واجب في قول عامة أهل العلم منهم ابن عمر وابن عباس و عطاء وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه وهو ثلاثة أقسام :
أحدها : الزينة في نفسها فيحرم عليها أن تخضب وأن تحمر وجهها بالكلكون وأن تبيضه باسفيداج العرايس وأن تجعل عليه صبرا بصفرة وأن تنقش وجهها ويديها وأن تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها وأن تكتحل بالإثمد من غير ضرورة وذلك لما [ روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ] رواه النسائي و أبو داود [ وروت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا عند أدنى طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذه من قسط أو اظفار ] متفق عليه [ وعن أم سلمة قالت : جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا مرتين أو ثلاثا ] متفق عليه [ وروت أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا فقال : ماذا يا أم سلمة ؟ قلت إنما هو صبر ليس فيه طيب قال : إنه يشب الوجه لا تجعليه إلا بالليل وتنزعينه بالنهار ولا تمشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قال : قلت بأي شيء أمتشط قال : بالسدر تغلفين به رأسك ] ولأن الكحل من أبلغ الزينة والزينة تدعو إليها وتحرك الشهوة فهي كالطيب وأبلغ منه وحكي عن بعض الشافعية أن للسوداء أن تكتحل وهو مخالف للخبر والمعنى فإنه يزينها ويحسنها وإن اضطرت الحادة إلى الكحل بالإثمد للتداوي فلها أن تكتحل ليلا وتمسحه نهارا ورخص فيه عند الضرورة عطاء و النخعي و مالك وأصحاب الرأي لما روت أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها عن كحل الجلاء فقالت : لا تكتحلي إلا لما بد منه يشتد عليك فتكتحلين بالليل وتغسلينه بالنهار رواه أبو داود و النسائي وإنما منع من الكحل بالإثمد لأنه الذي تحصل به الزينة فأما الكحل بالتوتيا والعنزروت ونحوهمت فلا بأس به لأنه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها ولا تمنع من جعل الصبر على غير وجهها من بدنها لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب ولهذا [ قال النبي صلى الله عليه و سلم أنه يشب الوجه ] ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط به لحديث أم سلمة ولأنه يراد للتنظيف لا للتطييب
القسم الثاني : زينة الثياب فتحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين كالمعصفر والمزعفر وسائر الأحمر وسائر الملون للتحسين كالأزرق الصافي والأخضر الصافي والأصفر فلا يجوز لبسه ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تلبس ثوبا مصبوغا ] وقوله : [ لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ] فأما ما لا يقصد بصبغه حسنة كالكحلي والأسود والأخضر المشبع فلا تمنع منه لأنه ليس بزينة وما صبغ غزله ثم نسج فيه احتمالان : أحدهما : يحرم لبسه لأنه أرفع وأحسن ولأنه مصبوغ للحسن فأشبه ما صبغ بعد نسخه والثاني لا يحرم ل [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في حديث أم سلمة : إلا ثوب عصب ] وهو ما صبغ غزله قبل نسجه ذكره القاضي ولأنه لم يصبغ وهو ثوب فأشبه ما كان حسنا من الثياب غير مصبوغ والأول أصح وأما العصب فالصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب قال صاحب الروض الأنف : الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به فأرخص النبي صلى الله عليه و سلم للحادة في لبس ما صبغ لبسه مع حصول الزينة بصبغة كحصولها بما صبغ بعد نسجه ولا تمنع من حسان الثياب غير المصبوغة وإن كان رقيقا سواء كان من قطن أو كتان أو إبريسم لأن حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغيره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها
القسم الثالث : الحلي فيحرم عليها لبس الحلي له حتى الخاتم في قول أهل العلم ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : ولا الحلي ] وقال عطاء : يباح حلي الفضة دون الذهب وليس بصحيح لأن النهي عام ولأن الحلي يزيد حسنها ويدعو إلى مباشرتها قالت امرأة :
( وما الحلي إلا زينة لنقيصة ... تتم من حسن إذا الحسن قصرا )
فصل : الثالث مما تجتنبه الحادة النقاب وما في معناه مثل البرقع ونحوه لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة والمحرمة تمنع من ذلك وإذا احتاجت إلى ستر وجهها أسدلت عليه ما تفعل المحرمة
فصل : والرابع المبيت في غير منزلها وممن أوجب على المتوفى عنها زوجها الاعتداد في منزلها عمر وعثمان رضي الله عنهما وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود وأم سلمة وبه يقول مالك و الثوري و الأوزاعي و أبو حنيفة و الشافعي و إسحاق وقال ابن عبد البر : : وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق ومصر
وقال جابر بن زيد و الحسن و عطاء : تعتد حيث شاءت وروي ذلك عن علي وابن عباس وجابر وعائشة رضي الله عنهم قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهله وسكتت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله تعالى : { فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن } قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى تعتد حيث شاءت رواهما أبو داود
ولنا ما [ روت فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القدوم فسألت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي فدعيت له فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف قلت ؟ فرددت عليه القصة فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به رواه مالك في موطئه و الأثرم وهو حديث صحيح قضى به عثمان في جماعة الصحابة فلم ينكروه إذا ثبت هذا فإنه يجب الاعتداد في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة به سواء كان مملوكا لزوجها أو بإجارة أو عارية لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لفريعة : امكثي في بيتك ولم تكن في بيت يملكه زوجها وفي بعض ألفاظه اعتدي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك ] وفي لفظ [ اعتدي حيث أتاك الخبر ] فإن أتاها الخبر في غير مكسنها رجعت إلى مسكنها فاعتدت فيه وقال سعيد بن المسيب و النخعي : لا تبرح من مكانها الذي أتاها فيه نعي زوجها اتباعا للفظ الخبر الذي رويناه
ولنا [ قوله عليه السلام : امكثي في بيتك ] واللفظ الآخر قضية في عين والمراد به هذا فإن قضايا الأعيان لا عموم لها ثم لا يمكن حمله على العموم فإنه لا يلزمها الاعتداد في السوق والطريق والبرية إذا أتاها الخبر وهي فيها (9/167)
فصل حكم ما إذا خافت المحدة هدما أو غرقا
فإن خافت هدما أو غرقا أو عدوا أو نحو ذلك أو حولها صاحب المنزل لكونه عارية رجع فيها أو بإجارة انقضت مدتها أو منعها السكنى تعديا أو امتنع من إجارته أو طلب به أكثر من أجرة المثل أو لم تجد ما تكتري به أو لم تجد إلا من مالها فلها أن تنتقل لأنها حال عذر ولا يلزمها بذلك أجر المسكن وإنما الواجب عليها فعل السكنى لا تحصيل المسكن وإذا تعذرت السكنى سقطت ولها أن تسكن حيث شاءت ذكره القاضي
وذكر أبو الخطاب أنها تنتقل إلى أقرب ما يمكنها النقلة إليه وهو مذهب الشافعي لأنه أقرب إلى موضع الوجود فأشبه من وجبت عليه الزكاة في وضع لا يجد فيه أهل السهمان فإنه ينقلها إلى أقرب موضع يجدهم فيه
ولنا أن الواجب سقط لعذر ولم يرج الشرع له ببدل فلا يجب كما لو سقط الحج للعجز عنه وفوات شرط والمعتكف إذا لم يقدر على الاعتكاف في المسجد ولأنه ما ذكروه اثبات حكم بلا نص ولا معنى نص فإن معنى الاعتداد في بيتها لا يوجد في السكنى فيما قرب منه ويفارق أهل السهمان فإن القصد نفع الأقرب وفي نقلها إلى أقرب موضع يجده نفع الأقرب فوجب لذلك (9/172)
فصول لا سكنى للمتوفى عنها إذا كانت حائلا
فصل : قال أصحابنا : ولا سكنى للمتوفى عنها إذ كانت حائلا رواية واحدة وإن كانت حاملا فعلى روايتين ولـ لشافعي في سكنى المتوفى عنها قولان : وجه الوجوب قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } فنسخ بعض المدة وبقي باقيها على الوجوب
ولأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر فريعة بالسكنى في بيتها من غير استئذان الورثة ولو لم تجب السكنى لم يكن لها أن تسكن إلا بإذنهم كما أنها ليس لها أن تتصرف في شيء من مال زوجها بغير إذنهم
ولنا أن الله تعالى إنما جعل للزوجة ثمن التركة أو ربعها وجعل باقيها لسائر الورثة والمسكن من التركة فوجب أن لا يستحق منه أكثر من ذلك ولأنها بائن من زوجها فأشبهت المطلقة ثلاثا وأما إذا كانت حاملا وقلنا : لها السكنى فلأنها حامل من زوجها فوجب لها السكنى قياسا على المطلقة فأما الآية التي احتجوا بها فإنها منسوخة
وأما أمر النبي صلى الله عليه و سلم فريعة بالسكنى فقضية في عين يحتمل أنه عليه السلام علم أن الوارث يأذن في ذلك أو يكون الأمر يدل على وجوب السكنى عليها ويتقيد ذلك بالإمكان وإذن الوارث من جملة ما يحصل الإمكان به فإذا قلنا : لها السكنى فهي أحق بسكنى المسكن الذي كانت تسكنه من الورثة والغرماء من رأس مال المتوفى ولا يباع في دينه بيعا يمنعها السكنى فيه حتى تقضي العدة وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو حنيفة وجمهور العلماء وإن تعذر المسكن فعلى الوارث أن يكتري لها مسكنا من مال الميت فإن لم يفعل أجبره الحاكم وليس لها أن تنتقل من مسكنها إلا لعذر كما ذكرنا وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه لم بجز لأن هذه السكنى يتعلق بها حق الله تعالى لأنها تجب للعدة والعدة يتعلق بها حق الله تعالى فلم يجز اتفاقهما على إبطالها بخلاف سكنى النكاح فإنها حق لهما ولأن السكنى ههنا من الإحداد فلم يجز الإتفاق على تركها كسائر خصال الإحداد وليس لهم أن يخرجوها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة لقول الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهي أن تطول لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه روي ذلك عن ابن عباس وهو قول الأكثرين
وقال ابن مسعود و الحسن : هي الزنا لقول الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } واخراجهن هو الإخراج لإقامة حد الزنا ثم ترد إلى مكانها
ولنا أن الآية تقتضي الإخراج عن السكنى وهذا لا يتحقق فيما قالاه وأما الفاحشة فهي اسم للزنا وغيره من الأقوال الفاحشة يقال أفحش فلان في مقاله [ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قالت له عائشة يا رسول الله قلت لفلان بئس أخو العشيرة فلما دخل ألنت له القول فقال : يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ] إذا ثبت هذا فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن إلى مسكن آخر من الدار إن كانت كبيرة تجمعهم فإن كانت لا تجمعهم أو لم يمكن نقلها إلى غيره في الدار ولم يتخلصوا من أذاها بذلك فلهم نقلها وقال بعض أصحابنا : ينتقلون هم عنها لأن سكناها واجب في المكان وليس بواجب عليهم والنص يدل على أنها تخرج فلا يعرج على ما خالفه ولأن الفاحشة منها فكان الإخراج لها وإن كان أحماؤها هم الذين يؤذونها ويفحشون عليها نقلوا هم دونها فإنها لم تأت بفاحشة فلا تخرج بمقتضى النص ولأن الذنب لهم فيخضون بالإخراج
وإن كان المسكن لغير الميت فتبرع صاحبه بإسكانها فيه لزمها الاعتداد به وإن أبى أن يسكنها إلا بأجرة وجب بذلها من مال الميت إلا أن يتبرع إنسان ببذلها فيلزمها الاعتداد به فإن حولها صاحب المكان أو طلب أكثر من أجرة المثل فعلى الورثة إسكانها إن كان للميت تركة يستأجر لها به مسكن لأنه حق لها يقدم على الميراث فإن اختارت النقلة عن هذا المسكن الذي ينقلونها إليه فلها ذلك لأن سكناها به حق لها وليس بواجب عليها فإن المسكن الذي كان يجب عليها السكنى به هو الذي كانت تسكنه حين موت زوجها وقد سقطت عنها السكنى به وسواء كان المسكن الذي كانت به لأبويها أو لأحدهما أو لغيرهم وإن كانت تسكن في دارها فاختارت الإقامة فيها والسكنى بها متبرعة أو بأجرة تأخذها من التركة جاز ويلزم الورثة بذل الأجرة إذا طلبتها وإن طلبت أن تسكنها غيرها وتنتقل عنها فلها ذلك لأنه ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها وعليهم إسكانها
فصل : فأما إذا قلنا : ليس لها السكنى فتطوع الورثة بإسكنها في مسكن زوجه أو السلطان أو اجنبي لزمها الاعتداد به وإن منعت السكنى به أو طلبوا منها الأجرة فلها أن تنتقل عنه إلى غيره كما ذكرنا فيما إذا أخرجها المؤجر عند انقضاء الإجارة وسواء قدرت على الأجرة أو عجزت عنها لأنه إنما تلزمها السكنى لا تحصيل المسكن وإن كانت في مسكن لزوجها فأخرجها الورثة منه وبذلوا لها مسكنا آخر لم تلزمها السكنى وكذلك إن أخرجت من المسكن الذي هي به أو خرجت لأي عارض كان لم تلزمها السكنى في موضع معين سواه سواء بذله الورثة أو غيرهم لأنها إنما يلزمها الاعتداد في بيتها الذي كانت فيه لا في غيره وكذلك إذا قلنا : لها السكنى فتعذر سكنها في مسكنها وبذل لها سواه وإن طلبت مسكنا سواه لزم الورثة تحصيله بأجرة أو بغيرها إن خلف الميت تركه نفي بذلك ويقدم ذلك على الميراث لأنه حق على الميث فأشبه الدين فإن كان على الميت دين يستغرق ماله ضربت بأجرة المسكن مع الغرماء لأن حقها مساو لحقوق الغرماء وتستأجر بما يصيبها موضعا تسكنه وكذلك الحكم في المطلقة إذا حجر على الزوج قبل أن يطلقها ثم طلقها فإنها تضرب بأجرة المسكن لمدة العدة مع الغرماء إذا كانت حاملا فإن قيل : فهلا قدمتم حق الغرماء لأنه أسبق ؟ قلنا : لأن حقها ثبت عليه بغير اختيارها فشاركت الغرماء فيه كما لو أتلف المفلس مالا لإنسان أو جنى عليه وإن مات وهي في مسكنه لم يجز إخراجها منه لأن حقها تعلق بعين المسكن قبل تعلق حقوق الغرماء بعينه فكان حقها مقدما كحق المرتهن وإن طلب الغرماء بيع هذا المسكن وتترك السكنى لها مدة العدة لم يجز لأنها إنما تستحق السكنى إذا كانت حاملا ومدة الحمل مجهولة فتصير كما لو باعها واستثنى نفعها مدة مجهولة وإن أراد الورثة قسمة مسكنها على وجه يضر بها في ا لسكنى لم يكن لهم ذلك وإن أرادوا التعليم بخطوط من غير نقض ولا بناء جاز لأنه لا ضرر عليها فيه
فصل : وإذا قلنا : أنها تضرب نع الغرماء بقدر مدة عدتها فإنها تضرب بمدة عادتها في وضع الحمل إن كانت حاملا وإن كانت مطلقة من ذوات القروء وقلنا لها لسكنى صربت بمدة عادتها في القروء فإن لم تكن لها عادة ضربت بغالب عادات النساء وهو تسعة أشهر للحمل وثلاثة أشهر لكل قرء شهر أو بما بقي من ذلك إن كان قد مضى من مدة حملها شيء لأنه لا يمكن تأخير القسمة لحق الغرماء فإذا ضربت بذلك فوافق الصواب فلم تزد ولم تنقص استقر الحكم وتستأجر بما يحصل لها مكانا تسكنه إذا تعذر ذلك سكنت حيث شاءت وإن كانت المدة أقل مما ضربت به مثل أن وضعت حملها لستة أشهر أو تربصت ثلاثة قروء في شهرين فعليها رد الفضل وتضرب فيه بحصتها منه وإن طالت العدة أكثر من ذلك مثل أن وضعت حملها في عام أو رأت ثلاثة قروء في نصف عام رجعت بذلك على الغرماء كما يرجعون عليها في صورة النقص ويحتمل أن لا ترجع يه ويكون في ذمة زوجها لأننا قدرنا ذلك مع تجويز الزيادة فلم تكن لها الزيادة عليه (9/173)
فصل للمعتدة الخروج في حوائجها نهارا
فصل : وللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها لما [ روى جابر قال : طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجذ نخلها فلقيها رجل فنهاها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : اخرجي فجذي نخلك لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرا ] رواه النسائي و ابو داود [ وروى مجاهد قال : اسشتهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقلن يا رسول الله نستوحش بالليل أفبنيت عند إحدانا فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها ] وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلا إلا لضرورة لأن الليل مظنة الفساد بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه وإن وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا بها كاليمين والحد وكانت ذات خدر بعث إليها الحاكم من يستوفي الحق منها في منزلها وإن كانت برزة جاز إحضارها لاستيفائه فإذا فرغت رجعت إلى منزلها (9/177)
فصل كون الأمة كالحرة في الإحداد
فصل : والأمة كالحرة في الإحداد والاعتداد في المنزل إلا أن سكناها في العدة كسكناها في حياة زوجها للسيد إمساكها نهارا وإرسالها ليلا فإن أرسلها ليلا ونهارا اعتدت زمانها كله في المنزل وعلى الورثة سكناها فيهما كالحرة سواء (9/178)
فصل والبدوية كالحضرية في الاعتداد في منزلها
فصل : والبدوية كالحضرية في الاعتداد في منزلها الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه فإن انتقلت الحلة انتقلت معهم لأنها لا يمكنها المقام وحدها وإن انتقل غير أهلها لزمها المقام معهم وإن انتقل أهلها انتقلت معهم إلا أن يبقى من الحلة من لا تخاف على نفسها معهم فتكون مخيرة بين الإقامة والرحيل وإن هرب أهلها فخافت هربت معهم وإن أمنت أقامت لقضاء العدة في منزلها (9/178)
فصل حكم المسافرة في السفينة التي مات فيها زوجها
فصل : فإن مات صاحب السفينة وامرأته في السفينة ولها مسكن في البر فحكمها حكم المسافرة في البر على ما سنذكره وإن لم يكن لها مسكن سواها وكان فيها بيت يمكنها السكنى فيه بحيث لا تجتمع مع الرجال وأمكنها المقام فيه بحيث تأمن على نفسها ومعها محرمها لزمها أن تعتد به فإن كانت ضيقة وليس معها محرمها أو لا يمكنها الإقامة فيها إلا بحيث تختلط بالرجال لزمها الانتقال منها إلى موضع سواها (9/178)
فصل المطلقة البائن هل يجب عليها الاحدااد ؟
مسألة : قال : والمطلقة ثلاثا تتوقي الطيب والزينة والكحل بالإثمد
اختلفت الرواية عن أحمد في وجوب الإحداد على المطلقة البائن فعنه يجب عليها وهو قول سعيد بن المسيب و أبي عبيد و أبي ثور وأصحاب الرأي والثانية لا يجب عليها وهو عطاء و ربيعة و مالك و ابن المنذر ونحوه قول الشافعي ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ] وهذه عدة الوفاة فيدل على أن الإحداد إنما يجب في عدة الوفاة ولأنها معتدة عن غير وفاة فلم يجب عليها الإحداد كالرجعية والموطوءة بشبهة ولأن الإحداد في عدة الوفاة لإظهار الأسف على فراق زوجها وموته فأما الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه ولأن المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج وليس له من نفيه فاحتيط عليها بالإحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه بخلاف المطلقة فإن زوجها باق فهو يحتاط عليها بنفسه وينفي ولدها إذا كان من غيره
ووجه الرواية الأولى أنها معتدة بائن من نكاح فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها وذلك لأن العدة تحرم النكاح فحرمت دواعيه ويخرج على هذا الرجعية فإنها زوجة والموطوءة بشبهة ليست معتدة من نكاح فلم تكمل الحرمة فأما الحديث فإنما مدلوله تحريم الإحداد على ميت غير الزوج ونحن نقول به ولهذا جاز الإحداد ههنا بالإجماع فإذا قلنا يلزمها الإحداد لزمها شيئان : توقي الطيب والزينة في نفسها على ما قدمنا فيها ولا تمنع من النقاب ولا من الاعتداد في غير منزلها ولذلك [ أمر النبي صلى الله عليه و سلم فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ] على ما سنذكره إن شاء الله تعالى (9/179)
فصلان وجوب السكنى للمبتوتة الحامل
فصل : وإذا كانت المبتوتة حاملا وجب لها السكنى رواية واحدة ولا نعلم بين أهل العلم خلافا فيه وإن لم تكن حاملا ففيها روايتان :
إحداهما : لا يجب لها ذلك وهو قول ابن عباس وجابر وبه قال عطاء و طاوس و الحسن و عمرو بن ميمون وعكرمة و إسحاق و أبو ثور و داود
والثانية : يجب لها ذلك وهو قول ابن مسعود وابن عمر وعائشة و سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبي بكر ابن عبد الرحمن وخارجة بن زيد سليمان بن يسار و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي لقول الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وقال تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } فأوجب لها السكنى مطلقا ثم خص الحامل بالإنفاق عليها
[ ولنا روت فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال : والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال لها : ليس لك عليه نفقة ولا سكنى فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ـ ثم قال ـ إن تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ] متفق عليه فإن قيل فقد أنكرعليها عمر وقال : ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت وقال عروة : لقد عابت عائشة ذلك أشد العيب وقال إنها كانت في مكان وحش فخيف على ناحيتها وقال سعيد بن المسيب : تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى قلنا أما مخالفة الكتاب فإن فاطمة لما أنكروا عليها قالت : بيني وبينكم كتاب لله قال الله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } فأي أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها فكيف تحبس امرأة بغير نفقة ؟ وأما قولهم : إن عمر قال لا ندع كتاب ربنا فقد أنكر أحمد هذا القول عن عمر قال : ولكنه قال لا نجيز في ديننا قول امرأة وهذا مجمع على خلافه وقد أخذنا بخبر فريعة وهي امرأة وبرواية عائشة وأزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم في كثير من الأحكام وصار أهل العلم إلى خبر فاطمة هذا في كثير من الأحكام مثل سقوط نفقة المبتوتة إذا لم تكن حاملا ونظر المرأة إلى الرجال وخطبة الرجل على خطبة أخيه إذا لم تكن سكنت إلى الأول
وأما تأويل من تأول حديثها فليس بشيء فإنها تخالفهم في ذلك وهي أعلم بحالها ولم يتفق المتأولون على شيء وقد رد على من رد عليها فقال ميمون بن مهران لـ سعيد بن المسيب لما قال : تلك امرأة فتنت الناس : لئن كانت إنما أخذت بما أفتاها رسول الله صلى الله عليه و سلم ما فتنت الناس وإن لنا في رسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة حسنة مع أنها أحرم الناس عليه ليس له عليها رجعة ولا بينهما ميراث [ وقول عائشة إنها كانت في مكان وحش لا يصح فإن النبي صلى الله عليه و سلم علل ذلك فقال : يا ابنة آل قيس إنما السكنى والنفقة ما كان لزوجك عليك الرجعة ] هكذا رواه الحميدي و الأثرم ولأنه لو صح ما قالته عائشة أو غيرها من التأويل ما احتاج عمر في رده إلا أن يعتذر بأنه قول امرأة ثم فاطمة صاحبة القصة وهي أعرف بنفسها وبحالها وقد أنكرت على من أنكر عليها وردت على من رد خبرها أو تأوله بخلاف ظاهره فيجب تقديم قولها لمعرفتها بنفسها وموافقتها ظاهر الخبر كما في سار ما هذا سبيله
فصل : قال أصحابنا ولا يتعين الموضع الذي تسكنه في الطلاق سواء قلنا لها السكنى أو لم نقل بل يتخير الزوج بين إقرارها في الموضع الذي طلقها وبين نقلها إلى مسكن مثلها والمستحب إقرارها لقوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ولأن فيه خروجا من الخلاف فإن الذين ذكرنا عنهم أن لها السكنى يرون وجوب الاعتداد عليها في منزلها فإن كانت في بيت يملك الزوج سكناه ويصلح لمثلها اعتدت فيه فإن ضاق عنهما انتقل عنها وتركه لها لأنه يستحب سكناها في الموضع الذي طلقها فيه وإن اتسع الموضع لهما وفي الدار موضع لها منفرد كالحجرة أو علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق سكنت فيه وسكن الزوج في الباقي لأنهما كالحجرتين المتجاورتين وإن لم يكن بينهما باب مغلق لكن لها موضع تتستر فيه بحيث لا يراها ومعها محرم تتحفظ به جاز لأن مع المحرم يؤمن الفساد ويكره في الجملة لأنه لا يؤمن النظر وإن لم يكن معها محرم لم يجز لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يخلون رجل بامراة ليست له بمحرم فإن ثالثهما الشيطان ] وإن امتنع من إسكانها وكانت ممن لها عليه السكنى أجبره الحاكم فإن كان الحاكم معدوما رجعت على الزوج وإن كان الحاكم موجودا فهل ترجع ؟ على روايتين وإن كان الزوج حاضرا ولم يمنعها من السكن فاكترت لنفسها موضعا أو سكنت في موضع تملكه لم ترجع بالأجرة لأنها تبرعت بذلك فلم ترجع به على أحد وإن عجز الزوج عن إسكانها لعسرته أو غيبته أو امتنع من ذلك مع قدرته سكنت حيث شاءت وكذلك المتوفى عنها زوجها إذا لم يسكنها ورثته لأنه إنما تلزمها السكنى في منزله لتحصين مائه فإذا لم تفعل لم يلزمها ذلك (9/180)
مسألة وفصل ليس للمعتدة الخروج للحج
مسألة : قال : وإذا خرجت إلى الحج فتوفي عنها زوجها وهي بالقرب رجعت لتقضي العدة فإن كانت قد تباعدت مضت في سفرها فإن رجعت وقد بقي من عدتها شيء أتت به في منزلها
وجملته أن المعتدة من الوفاة ليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره روي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن المسيب و القاسم مالك و الشافعي و أبو عبيد وأصحاب الرأي و الثوري وإن خرجت فمات زوجها في الطريق رجعت إن كانت قريبة لأنها في حكم الإقامة وإن تباعدت مضت في سفرها وقال مالك : ترد ما لم تحرم والصحيح أن البعيدة لا ترد لأنه يضر بها وعليها مشقة ولا بد لها من سفر وإن رجعت قال القاضي : ينبغي أن يحد القريب بما لا تقصر فيه الصلاة والبعيد ما تقصر فيه لأن ما لا تقصر الصلاة فيه أحكامه أحكام الحضر وهذا قول أبي حنيفة إلا أنه لا يرى القصر إلا في مسيرة ثلاثة أيام فقال : متى كان بينها وبين مسكنها دون ثلاثة أيام فعليها الرجوع إليه وإن كان فوق ذلك لزمها المضي إلى مقصدها والاعتداد فيه إذا كان بينها وبينه دون ثلاثة أيام وإن كان بينه وبينها ثلاثة أيام وفي موضعها الذي هي به موضع يمكنها الإقامة فيه لزمها الإقامة وإن لم يمكنها الإقامة مضت إلى مقصدها
وقال الشافعي : إن فارقت البنيان فلها الخيار بين الرجوع والتمام لأنها صارت في موضع أذن لها زوجها فيه وهو السفر فأشبه مالو كانت قد بعدت
ولنا على وجوب الرجوع إذا كانت قريبة ما روى سعيد ثنا جرير عن منصور عن سعيد بن المسيب قال : توفي أزواج نساؤهن حاجات أو معتمرات فردهن عمر من ذي الحليفة حتى يعتددن في بيوتهن ولأنه أمكنها الاعتداد في منزلها قبل أن يبعد سفرها فلزمها كما لولم تفارق البنيان وعلى أن البعيدة لا يلزمها الرجوع لأن عليها مشقة وتحتاج إلى سفر في رجوعها فاشبهت من بلغت مقصدها وإن اختارت البعيدة الرجوع فلها ذلك إذا كانت تصل إلى منزلها قبل انقضاء عدتها ومتى كان عليها في الرجوع خوف أو ضرر فلها المضي في سفرها ما لو بعدت ومتى رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها لزمها أن تأتي به في منزل زوجها بلا خلاف نعلمه بينهم في ذلك لأنه أمكنها الاعتداد فيه فلزمها كما لو لم تسافر منه
فصل : ولو كانت عليها حجة الإسلام فمات زوجها لزمها العدة في منزلها وإن فاتها الحج لأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها والحج يمكن الإتيان به في غير هذا العام وإن مات زوجها بعد إحرامها بحج الفرض أو بحج أذن لها زوجها فيه نظرت فإن كان وقت الحج متسعا لا تخاف فوته ولا فوت الرفقة لزمها الاعتداد في منزلها لأنه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز إسقاط أحدهما وإن خشيت فوات الحج لزمها المضي فيه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : يلزمها المقام وإن فاتها الحج لأنها معتدة فلم يجز لها أن تنشىء سفرا كما لو أحرمت بعد وجوب العدة عليها
ولنا أنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق منهما كما لو كانت العدة أسبق ولأن الحج آكد لأنه أحد أركان الإسلام والمشقة بتفويته تعظم فوجب تقديمه كما لو مات زوجها بعد أن بعد سفرها إليه وإن أحرمت بالحج بعد موت زوجها وخشيت فواته احتمل أن يجوز لها المضي إليه لما في بقائها في الإحرام من المشقة واحتمل أن يلزمها الاعتداد في منزلها لأن العدة أسبق ولنها فرطت وغلطت على نفسها فإذا قضت العدة وأمكنها السفر إلى الحج لزمها ذلك فإن أدركته وإلا تحللت بعمل عمرة وحكمها في القضاء حكم من فاته الحج وإن لم يمكنها السفر فحكمها حكم المحصر كالتي يمنعها زوجها من السفر وحكم الإحرام بالعمرة كذلك إذا خيف فوات الرفقة أو لم يخف (9/184)
فصلان حكم ما أذن لها بالسفر قبل أن يموت فخرجت فمات
فصل : وإذا أذن لها زوجها للسفر لغير النقلة فخرجت ثم مات زوجها فالحكم في ذلك كالحكم في سفر الحج على ما ذكرنا من التفصيل وإذا مضت إلى مقصدها فلها الإقامة حتى تقضي ما خرجت إليه وتنقضي حاجتها من تجارة أو غيرها وإن كان خروجها لنزهة أو زيارة أو لم يكن قدر لها مدة فإنها تقيم إقامة المسافر ثلاثا وإن قدر لها مدة فلها إقامتها لأن سفرها بحكم إذنه فكان لها إقامة ما أذن لها فيه فإذا مضت مدتها أو قضت حاجتها ولم يمكنها الرجوع لخوف أو غيره أتمت العدة في مكانها وإن أمكنها الرجوع لكن لا يمكنها الوصول إلى منزلها حتى تنقصي عدتها لزمتها الإقامة في مكانها لأن الاعتداد وهي مقيمة أولى من الإتيان بها في السفر وإن كانت تصل وقد بقي من عدتها شيء لزمها العود لتأتي بالعدة في مكانها
فصل : وإن أذن الزوج لها في الانتقال إلى دار أخرى أو بلد آخر فمات قبل انتقالها لزمها الاعتداد في الدار التي هي بها لأنها بيتها وسواء مات قبل نقل متاعها أو بعده لأنها مسكنها ما لم تنتقل عنه وإن مات بعد انتقالها إلى الثانية اعتدت فيها لأنها مسكنها وسواء كانت قد نقلت متاعها أو لم تنقله وإن مات وهي بينهما مخيرة لا مسكن لها منهما فإن الأولى قد خرجت عنها منتقلة فخرجت عن كونها لها والثانية : لم تسكن بها فهما سواء وقيل يلزمها الاعتداد في الثانية لأنه المسكن الذي أذن لها زوجها في السكنى به وهذا يمكن في الدارين فأما إذا كانا بلدين لم يلزمها الانتقال إلى البلد الثاني بحال لأنها إنما كانت تنتقل لغرض زوجها في صحتبها إياه وإقامتها معه فلو ألزمناها ذلك بعد موته لكلفناها السفر الشاق والتغرب عن وطنها وأهلها والمقام مع غير محرمها والمخاطرة بنفسها مع فوات الغرض وظاهر حال الزوج أنه لو علم أنه يموت لما نقلها فصارت الحياة مشروطة في النقلة فأما إن انتقلت إلى الثانية ثم عادت إلى الأولى لنقل متاعها فمات زوجها وهي بها فعليها الرجوع إلى الثانية لأنها صارت مسكنها بانتقالها إليها وإنما عادت إلى الأولى لحاجة والاعتبار بمسكنها دون موضعها وإن مات وهي في الثانية فقالت أذن لي زوجي في السكنى بهذا المكان وأنكر ذلك الورثة أو قالت : إنما أذن لي زوجي في المجيء إليه لا في الإقامة به وأنكر ذلك الورثة فالقول قولها لأنها أعرف بذلك منهم وكل موضع قلنا يلزمها السفر عن بلدها فهو مشروط بوجود محرمها مسافرا معها والأمن على نفسها ل [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم من أهلها ] أو كما قال (9/187)
مسألة حكم ما لو طلقت أو مات وهو ناء عنها
مسألة : قال : وإذا طلقها زوجها أو مات عنها وهو ناء عنها فعدتها من يوم مات أو طلق إذا صح ذلك عندها وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة
هذا المشهور في المذهب وأنه متى مات زوجها أو طلقها فعدتها من يوم موته وطلاقه قال أبو بكر : لا خلاف عن أبي عبد الله أعلمه أن العدة تجب من حين الموت والطلاق إلا ما رواه إسحاق بن إبراهيم وهذا قول ابن عمر وابن عباس وابن مسعود و مسروق و عطاء و جابر بن زيد و ابن سيرين و سعيد بن جبير و عكرمة و طاوس و سليمان بن يسار و أبي قلابة وأبي العالية و النخعي و نافع و مالك و الشافعي و إسحاق و أبي عبيد و أبي ثور وأصحاب الرأي وعن أحمد إن قامت بذلك بينة فكما ذكرنا وإلا فعدتها من يوم يأتيها الخبر
وروى ذلك عن سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز عن علي و الحسن و قتادة و عطاء الخراساني وخلاس بن عمرو أن عدتها من يوم يأتيها الخبر لأن العدة اجتناب أشياء وما اجتنبتها
ولنا أنها لو كانت حاملا فوضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لانقضت عدتها فكذلك سائر أنواع العدد ولأنه زمان عقيب الموت أو الطلاق فوجب أن تعتد به كما لو كان حاضرا ولأن القصد غير معتبر في العدة بدليل أن الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتهما من غير قصد ولم يعدم ههنا إلا القصد وسواء في هذا اجتنبت ما تجتنبه المعتدات أو لم تجتنبه فإن الإحداد الواجب ليس بشرط في العدة فلو تركته قصدا أو عن غير قصد لانقضت عدتها فإن الله تعالى قال : { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقال : { فعدتهن ثلاثة أشهر } وقال : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وفي اشتراط الإحداد مخالفة هذه النصوص فوجب ألا يشترط (9/189)
كتاب الرضاع
الأصل في التحريم بالرضاع الكتاب والسنة والإجماع : وأما الكتاب فقول الله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } ذكرهما الله سبحانه في جملة المحرمات
وأما السنة فما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ] متفق عليه وفي لفظ [ يحل من الرضاع ما يحرم من النسب ] رواه النسائي وعن ابن عباس قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في بنت حمزة : لا تحل لي يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة ] متفق عليه في أخبار كثيرة نذكر أكثرها إن شاء الله تعالى في تضاعيف الباب وأجمع علماء الأمة على التحريم بالرضاع إذا ثبت هذا فإن تحريم الأم والأخت ثبت بنص الكتاب وتحريم البنت ثبت بالتنبيه فإنه إذا حرمت الأخت فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن بالسنة وتثبت المحرمية لأنها فرع على التحريم إذا كان بسبب مباح فأما بقية أحكام النسب من النفقة والعتق ورد الشهادة وغير ذلك فلا يتعلق به لأن النسب أقوى منه فلا يقاس عليه في جميع أحكامه وإنما يشبه به فيما نص عليه فيه (9/192)
مسألتان وفصلان الرضاع الذي لا يشك في تحريمه وشروط الرضعات المحرمات
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون خمس رضعات فصاعدا
في هذه المسألة مسألتان :
المسألة الأولى : أن الذي يتعلق به التحريم خمس رضعات فصاعدا هذا الصحيح في المذهب وروي هذا عن عائشة وابن مسعود وابن الزبير و عطاء و طاوس وهو قول الشافعي وعن أحمد رواية ثانية أن قليل الرضاع وكثيرة يحرم وروي ذلك عن علي وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن و مكحول و الزهري و قتادة و الحكم و حماد و مالك و الأوزاعي و الثوري و الليث وأصحاب الرأي وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يحرم في المهد ما يفطر به الصائم واحتجوا بقول الله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } وقوله عليه السلام : [ يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ]
[ وعن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فقال : كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما ؟ ] متفق عليه ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبد فلم يعتبر فيه العدد كتحريم أمهات النساء ولا يلزم اللعان لأنه قول
والرواية الثانية : لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات وبه قال أبو ثور و أبو عبيد و داود و ابن المنذر ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا تحرم المصة ولا المصتان ] [ وعن أم الفضل بنت الحارث قالت : قال نبي الله صلى الله عليه و سلم : لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ] رواهما مسلم ولأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار يعتبر فيه الثلاث [ وروي عن حفصة : لا يحرم دون عشر رضعات وروي ذلك عن عائشة لأن عروة روى في حديث سهلة بنت سهيل فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بلغنا : أرضعيه عشر رضعات فيحرم بلبنها ] وجه الأولى ما روي عن عائشة أنها قالت : انزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه و سلم والأمر على ذلك رواه مسلم وروى مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة عن سهلة بنت سهيل : أرضعي سالما خمس رضعات فيحرم بلبنها والآية فسرتها السنة وبينت الرضاعة المحرمة وصريح ما رويناه يخص مفهوم ما رووه فنجمع بين الأخبار ونحملها على الصريح الذي رويناه
فصل : وإذا وقع الشك في وجود الرضاع أو في عدد الرضاع المحرم هل كملا أو لا لم يثبت التحريم لأن الأصل عدمه فلا تزول عن اليقين بالشك كما لو شك في وجود الطلاق وعدده
المسألة الثانية : أن تكون الرضعات متفرقات وبهذا قال الشافعي والمرجع في معرفة الرضعة إلى العرف لأن الشرع ورد بها مطلقا ولم يحدها بزمن ولا مقدار فدل ذلك على أنه ردهم إلى العرف فإذا ارتضع الصبي وقطع قطعا بينا باختياره وكان ذلك رضعه فإذا عاد كانت رضعة أخرى فأما إن قطع لضيق نفس أو للانتقال من ثدي أو لشيء يلهيه أو قطعت عليه المرضعة نظرنا فإن لم يعد قريبا فهي رضعة وإن عاد في الحال ففيه وجهان :
أحدهما : أن الأول رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى وهذا اختيار أبي بكر وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل فإنه قال : أما ترى الصبي يرتضع من الثدي فإذا أدركه النفس أمسك عن الثدي ليتنفس أو يستريح فإذا فعل ذلك فهي رضعة وذلك لأن الأولى رضعة لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره والوجه الآخر : أن جميع ذلك رضعة وهو مذهب الشافعي إلا فيما إذا قطعت عليه المرضعة ففيه وجهان لأنه لو حلف إليه من الطعام إلا أكلة واحدة فاستدام الأكل زمنا أو قطع لشرب الماء أو انتقال من لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام لم يعد إلا أكلة واحدة فكذا ههنا والأول أصح لأن اليسير من السعوط والوجور رضعة فكذا هذا (9/193)
مسألة وفصل والسعوط والوجور مثل الرضاع
مسألة : قال : والسعوط كالرضاع وكذلك الوجور
معنى السعوط أن يصب اللبن في أنفه من إناء أو غيره والوجور أن يصب في حلقه صبا من غير الثدي
واختلفت الرواية في التحريم بهما فأصح الروايتين أن التحريم يثبت بذلك كما يثبت بالرضاع وهو قول الشعبي و الثوري و أصحاب الرأي وبه قال مالك في الوجور
والثانية : لا يثبت بهما التحريم وهو اختيار ابي بكر ومذهب داود وقول عطاء الخراساني في السعوط لأن هذا ليس برضاع وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع ولأنه حصل من غير ارتضاع فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه
ولنا ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم ] رواه أبو داود ولأن هذا يصل به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع فيجب أن يساويه في التحريم والأنف سبيل الفطر للصائم فكان سبيلا للتحريم كالرضاع بالفم
فصل : وإنما يحرم من ذلك مثل الذي يحرم بالرضاع وهو خمس في الرواية المشهورة فإنه فرع على الرضاع فيأخذ حكمه فإن ارتضع وكمل الخمس بسعوط أو وجور أو استعط أو أوجر وكمل الخمس برضاع ثبت التحريم لأنا جعلناه كالرضاع في أصل التحريم فكذلك في إكمال العدد ولو حلبت في إناء دفعة واحدة ثم سقته غلاما في خمسة أوقات فهو خمس رضعات فإنه لو أكل من طعام خمس أكلات متفرقات لكان قد أكل خمس أكلات وإن حلبت في إناء حلبات في خمسة أوقات ثم سقيه دفعة واحدة كان رضعة واحدة كما لو جعل الطعام في إناء واحد في خمسة أوقات ثم أكله دفعة واحدة كان أكلة واحدة وحكي عن الشافعي قول في الصورتين عكس ما قلنا اعتبارا بخروجه منها لأن الاعتبار بالرضاع والوجور فرعه
ولنا أن الاعتبار بشرب الصبي له لأنه المحرم ولهذا ثبت التحريم به من غير رضاع ولو ارتضع بحيث يصل إلى فيه ثم مجه لم يثبت التحريم فكان الاعتبار به وما وجد منه إلا دفعة واحدة فكان رضعة واحدة وإن سقته في أوقات فقد وجد في خمسة أوقات فكان خسم رضعات فأما إن سقته اللبن المجموع جرعة بعد جرعة متتابعة فظاهر قول الخرقي أنه رضعة واحدة لاعتباره خمس رضعات متفرقات ولأن المرجع في الرضعة إلى العرف وهم لا يعدون هذا رضعات فأشبه ما لو أكل الآكل الطعام لقمة بعد لقمة فإنه لا يعد أكلات ويحتمل أن يخرج على ما إذا قطعت عليه المرضعة الرضاع على ما قدمنا (9/196)
مسألتان وفصول التحريم باللبن ولو عمل جبنا ولبن الميتة كلبن الحية
فصل : وإن عمل اللبن جبنا ثم أطعمه الصبي ثبت به التحريم وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يحرم به لزوال الإسم وكذلك على الرواية التي تقول لا يثبت التحريم بالوجور لا يثبت ههنا بطريق الأولى ولنا أنه واصل من الحلق يحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم فحصل به التحريم كما لو شربه
فصل : فأما الحقنة فقال أبو الخطاب : المنصوص عن أحمد أنها لا تحرم وهو مذهب أبي حنيفة و مالك وقال ابن حامد وابن أبي موسى : تحرم وهذا مذهب الشافعي لأنه سبيل يحصل بالواصل منه الفطر فتعلق به التحريم كالرضاع
ولنا أن هذا ليس برضاع ولا يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة كما لو قطر في إحليله ولأنه ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز إثبات حكمه فيه ويفارق فطر الصائم فإنه لا يعتبر فيه إثبات فيه إنبات اللحم ولا إنشاز العظم وهذا لا يحرم فيه إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم ولأنه وصل اللبن إلى الباطن من غير الحلق أشبه ما لو وصل من جرح
مسألة : قال : واللبن المشوب كالمحض
المشوب المختلط بغيره والمحض الخالص الذي لا يخالطه سواه وسوى الخرقي بينهما سواء شيب بطعام أو شراب أو غيره وبهذا قال الشافعي وقال أبو بكر : قياس قول أحمد أنه لا يحرم لأنه وجور وحكي عن ابن حامد قال : إن كان الغالب اللبن حرم وإلا فلا وهو قول أبي ثور و ألمزني لأن الحكم للأغلب ولأنه يزول بذلك الإسم والمعنى المراد به ونحو هذا قول أصحاب الراي وزادوا فقالوا : إن كانت النار قد مست اللبن حتى أنضجت الطعام أو حتى تغير فليس برضاع ووجه الأول أن اللبن متى كان ظاهرا فقد حصل شربه ويحصل منه إنبات اللحم وإنشاز العظم فحرم كما لو كان غالبا وهذا فيما إذا كانت صفات اللبن باقية فأما إن صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت به التحريم لأن هذا ليس بلبن مشوب ولا يحصل به التغذي ولا إنبات اللحم ولا إنشاز العظم وحكي عن القاضي أن التحريم يثبت به وهو قول الشافعي لأن أجزاء اللبن حصلت في بطنه فأشبه ما لو كان لونه ظاهرا
ولنا أن هذا ليس برضاع ولا في معناه فوجب أن لا يثبت حكمه فيه
فصل : وإن حلب من نسوة وسقيه الصبي فهو كما لو ارتضع من كل واحدة منهن لأنه لو شيب بماء أو عسل لم يخرج عن كونه رضاعا محرما فكذلك إذا شيب بلبن آخر
مسألة : قال : ويحرم لبن الميتة كما يحرم لبن الحية لأن اللبن لا يموت
المنصوص عن أحمد في رواية إبراهيم الحربي أنه ينشر الحرمة وهو اختيار أبي بكر وهو قول أبي ثور و الأوزاعي وا بن القاسم وأصحاب الرأي و ابن المنذر وقال الخلال : لا ينشر الحرمة وتوقف عنه أحمد في رواية مهنا وهو مذهب الشافعي لأنه لبن ممن ليس بمحل للولادة فلم يتعلق به التحريم كلبن الرجل
ولنا أنه وجد الارتضاع على وجه ينبت اللحم وينشز العظم من امرأة فأثبت التحريم كما لو كانت حية ولأنه لا فارق بين شربه في حياتها وموتها إلا الحياة والموت أو النجاسة وهذا لا أثر له فإن اللبن لا يموت والنجاسة لا تمنع كما لو حلب في وعاء نجس ولأنه لو حلب منها في حياتها فشربه بعد موتها لنشر الحرمة وبقاؤه في ثديها لا يمنع ثبوت الحرمة لأن ثديها لا يزيد على الإناء في عدم الحياة وهي لا تزيد على عظم الميتة في ثبوت النجاسة (9/197)
فصل ومسألة بيان من ينتشر إليه التحريم بسبب الرضاع
فصل : ولو حلبت المرأة لبنها في إناء ثم ماتت فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل الوجور محرما وبه قال أبو ثور و الشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم وذلك لأنه لبن امرأة في حياتها فأشبه ما لو شربه وهي في الحياة
مسألة : قال : وإذا حلبت ممن يلحق نسب ولدها به فثاب لها لبن فأرضعت به طفلا خمس رضعات متفرقات في حولين حرمت عليه وبناتها من أبي هذا الحمل ومن غيره وبنات أبي هذا الحمل منها ومن غيرها وإن أرضعت صبية فقد صارت ابنة لها ولزوجها لأن اللبن من الحمل الذي هو منه
وجملة ذلك أن المرأة إذا حملت من رجل وثاب لها لبن فأرضعت به طفلا رضاعا محرمأ صار الطفل المرتضع ابنا للمرضعة بغير خلاف وصار أيضا ابنا لمن ينسب الحمل إليه فصار في التحريم وإباحة الخلوة ابنا لهما وأولاده من البنين والبنات أولاد أولادهما وإن نزلت درجتهم وجميع أولاد المرضعة من زوجها ومن غيره وجميع أولاد الرجل الذي انتسب الحمل إليه من المرضعة ومن غيرها إخوة المرتضع وأخواته وأولاد أولادها أولاد إخوته وأخواته وإن نزلت درجتهم وأم المرضعة جدته وأبوها جده وإخوتها أخواله وأخواتها خالاته وأبو الرجل جده وأمه جدته وإخوته أعمامه وأخواته عماته وجميع أقاربهما ينتسبون إلى المرتضع كما ينتسبون إلى ولدهما من النسب لأن اللبن الذي ثاب للمرأة مخلوق من ماء الرجل والمرأة فنشر التحريم إليهما ونشر الحرمة إلى الرجل وإلى أقاربه وهو الذي يسمى لبن الفحل وفي التحريم به اختلاف ذكرناه في باب ما يحرم نكاحه والجمع بينه والحجة القاطعة فيه ما [ روت عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما أنزل الحجاب فقلت : والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته قال : ائذني له فإنه عمك تربت يمينك ] قال عروة : فبذلك كانت عائشة تأخذ بقول : [ حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب ] متفق عليه
وسئل ابن عباس عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما هل يتزوج الغلام بالجارية ؟ فقال لا اللقاح واحد قال مالك : اختلف قديما في الرضاعة من قبل الأب ونزل برجال من أهل المدينة في أزواجهم منهم محمد بن المنكدر وابن أبي حبيبة فاستفتوا في ذلك فاختلفت عليهم ففارقوا زوجاتهم فأما المرتضع فإن الحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا ولا تتنشر إلى من في درجته من إخوته وأخواته ولا إلى أعلى منه كأبيه وأمه وأعمامه وأخواله وخالاته وأجداده وجداته فلا يحرم على المرضعة نكاح أبي الطفل المرتضع ولا أخيه ولا عمه ولا خاله ولا يحرم على زوجها نكاح أم الطفل المرتضع ولا أخته ولا عمته ولا خالته ولا بأس أن يتزوج أولاد المرضعة وأولاد زوجها إخوة الطفل المرتضع وأخواته قال أحمد : لا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخته من الرضاع ليس بينهما رضاع ولا نسب وإنما الرضاع بين الجارية وأخته
إذا ثبت هذا فإن شرط تحريم الرضاع أن يكون في الحولين وهذا قول أكثر أهل العلم روي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وأزواج النبي صلى الله عليه و سلم سوى عائشة وإليه ذهب الشعبي و ابن شبرمة و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف ومحمد و أبو ثور ورواية عن مالك وروي عنه إن زاد شهرا جاز وروي شهران
وقال أبو حنيفة : يحرم الرضاع في ثلاثين شهرا لقوله سبحانه : { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء لأنه يكون سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال وقال زفر مدة الرضاع ثلاث سنين وكانت عائشة ترى رضاعة الكبيرة تحرم ويروى هذا عن عطاء و الليث و داود لما روي أن سهلة بنت سهيل قالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا فكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلا وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : أرضعيه فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها فبذلك كانت عائشة تأخذ تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيرا خمس رضعات وأبت ذلك أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس حتى يرضع في المهد وقلن لعائشة : والله ما ندري لعلها رخصة من النبي صلى الله عليه و سلم لسالم دون الناس رواه النسائي و أبو داود وغيرهما
ولنا قول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } فجعل تمام الرضاعة حولين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما [ وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة ] متفق عليه [ وعن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام ] أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح وعند هذا يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون الناس كما قال سائر أزواج النبي صلى الله عليه و سلم وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب وقول الصحابة فقد روينا عن علي وابن عباس أن المراد بالحمل حمل البطن وبه استدل على أنه أقل مدة الحمل ستة أشهر وقد دل على هذا قول الله تعالى : { وفصاله في عامين } فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفا لهذه الآية إذا ثبت هذا فالاعتبار بالعامين لا بالفطام فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع فيهما لحصل التحريم ولو لم يفطم حتى تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل الفطام لم يثبت التحريم وقال ابن القاسم صاحب مالك : لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم تحرم عليه لقوله عليه السلام : وكان قبل الفطام
ولنا قول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وروي عنه عليه السلام : [ لا رضاع إلا ما كان في الحولين ] والفطام معتبر بمدته لا بنفسه قال أبو الخطاب : لو ارتضع بعد الحولين بساعة لم يحرم
وقال القاضي : لو شرع في الخامسة فحال الحول قبل كمالها لم يثبت التحريم ولا يصح هذا لأن ما وجد من الرضعة في الحولين كاف في التحريم بدليل ما لو انفصل مما بعده فلا ينبغي أن يسقط حكم بإيصال ما لا أثر له به واشترط الخرقي نشر الحرمة بين المرتضع وبين الرجل الذي ثاب اللبن بوطئه أن يكون لبن حمل ينتسب إلى الواطىء إما لكون الوطء في نكاح أو ملك يمين أو شبهة فأما لبن الزاني أو النافي للولد باللعان فلا ينشر الحرمة بينهما في مفهوم كلام الخرقي وهو قول أبي عبد الله بن حامد ومذهب الشافعي وقال أبو بكر عبد العزيز : تنتشر الحرمة بينهما لأنه معنى ينشر الحرمة فاستوى في ذلك مباحة ومحظورة كالوطء يحققه أن الواطىء حصل منه لبن وولد ثم أن الولد ينشر الحرمة بينه وبين الواطىء كذلك اللبن ولأنه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة فنشرها إلى الوطء كصورة الإجماع ووجه القول الأول أن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت ما هو فرع لها ويفارق تحريم ابنته من الزنا لأنها من نطفته حقيقة بخلاف مسألتنا ويفارق تحريم المصاهرة فإن التحريم ثم لا يقف على ثبوت النسب ولهذا تحرم أم زوجته وابنتها من غير نسب وتحريم الرضاع مبني على النسب ولهذا قال عليه السلام : [ يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] فأما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها عند الجميع وكذلك يحرم جميع أولادها وأقاربها الذين يحرمون على أولادها على هذا المرتضع كما في الرضاع باللبن المباح وإن كان المرتضع جارية حرمت على الملاعن بغير خلاف أيضا لأنها ربيبته فإنها بنت امرأته من الرضاع وتحرم على الزاني عند من يرى تحريم المصاهرة وكذلك يحرم بناتها وبنات المرتضع من الغلمان لذلك
فصل : وإذا وطىء رجلان امرأة فأتت بولد فأرضعت بلبنه طفلا صار ابنا لمن ثبت الولد منه سواء ثبت نسبه منه بالقافة أو بغيرها وإن ألحقته القافة بهما صار المرتضع ابنا لهما فالمرتضع في كل موضع تبع للمناسب فمتى لحق المناسب بشخص فالمرتضع مثله وإن انتفى المناسب عن أحدهما فالمرتضع مثله لأنه بلبنه ارتضع وحرمته فرع على حرمته وإن لم يثبت نسبه منهما لتعذر القافة أو لاشتباهه عليهم ونحو ذلك حرم عليهما تغليبا للخطر لأنه يحتمل أن يكون منهما ويحتمل أن يكون أحدهما فيحرم عليه أقاربه دون أقارب الآخر وقد اختلطت أخته بغيرها فحرم الجميع كما لو علم أخته بعينها ثم اختلطت بأجنبيات وإن انتفى عنهما جميعا بأن تأتي يه لدون شتة أشهر من وطئهما أو لأكثر من أربع سنين أو لدون ستة أشهر من وطء أحدهما أو لأكثر من أربع سنين من وطء الآخر انتفى المرتضع عنهما أيضا فإن كان المرتضع جارية حرمت عليهما تحريم المصاهرة ويحرم أولادهما عليها أيضا لأنها ابنة موطوءتهما فهي ربيته لهما (9/200)
فصل لا تنشر الحرمة بغير لبن الآدمية
فصل : ولا تنتشر الحرمة بغير لبن الآدمية بحال فلو ارتضع اثنان من لبن بهيمة لم يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم منهم الشافعي و ابن القاسم و ابو ثور وأصحاب الرأي لو ارتضعا من رجل لم يصيرا أخوين ولم تنتشر الحرمة بينه وبينهما في قول عامتهم وقال الكرابيسي : يتعلق به التحريم لأنه لبن آدمي أشبه لبن الآدمية وحكي عن بعض السلف أنهما إذا ارتضعا من لبن بهيمة صارا أخوين وليس بصحيح لأن هذا لا يتعلق به تحريم الأمومة فلا يثبت به تحريم الأخوة لأن الأخوة فرع على الأمومة وكذلك لا يتعلق به تحريم الأبوة لذلك ولأن هذا اللبن لم يخلق لغذاء المولود فلم يتعلق به التحريم كسائر الطعام فإن ثاب لخنثى مشكل لبن لم يثبت به التحريم لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك وقال ابن حامد : يقف الأمر حتى ينكشف أمر الحنثى فعلى قوله يثبت التحريم إلا أن يتبين كونه رجلا لأنه لا يأمن كونه محرما (9/206)
مسألة وفصول فروع في الرضاع المحرم
فصل : وإن ثاب لامرأة لبن من غير وطء فأرضعت به طفلا نشر الحرمة في أظهر الروايتين وهو قول ابن حامد ومذهب مالك و الثوري و الشافعي و أبي ثور و أصحاب الرأي وكل من نحفظ عنه ابن المنذر لقول الله تعالى : { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم كما لو ثاب بوطء ولأن ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال فإن كان هذا نادرا فجنسه معتاد
والرواية الثانية : لا تنشر الحرمة لأنه نادر لم تجر العادة به لتغذية الأطفال فأشبه لبن الرجال والأول أصح
فصل : إذا كان لرجل خمس أمهات أولاد له منهن لبن فارتضع طفل من كل واحدة منهن رضعة لم يصرن أمهات له وصار المولى أبا له وهذا قول ابن حامد لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات وفيه وجه آخر لا تثبت الأبوة لأنه رضاع لم يثبت الأمومة فلم يثبت الأبوة كالارتضاع بلبن الرجل والأول أصح فإن الأبوة إنما تثبت لكونه رضع من لبنه لا لكون المرضعة أما له ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين وإذا قلنا بثبوت الأبوة حرمت عليه المرضعات لأنه ربيبهن وهن موطوءات أبيه وإن كان لرجل خمس بنات فأرضعن طفلا كل واحدة رضعة لم يصرف أمهات له وهل يصير الرجل جدا له وأودلاه أخوالا له وخالات ؟ على وجهين أحدهما : يصير جدا وأخوهن خالا لأنه قد كمل للمرتضع خمس رضعات من لبن بناته أو أخواته فأشبه ما لو كان من واحدة والآخر لا يثبت ذلك لأن كونه جدا فرع كون ابنته أما وكونه خالا فرع كون أخته أما ولم يثبت ذلك فلا يثبت الفرع وهذا الوجه يترجح في هذه المسألة لأن الفرعية محتققة بخلاف التي قبلها فإن قلنا : يصير أخوهن خالا لم تثبت الخؤولة في حق منهن لأنه لم يرتضع من لبن أخواتها خمس رضعات ولكن يحتمل التحريم لأنه قد اجتمع من اللبن المحرم خمس رضعات ولو كمل للطفل خمس رضعات من أمه وأخته وابنته وزوجته وزوجة أبيه من كل واحدة رضعة خرج على الوجهين
فصل : إذا كان لامرأة لبن من زوج فأرضعت طفلا ثلاث رضعات وانقطع لبنها فتزوجت آخر فصار لها منه لبن فأرضعت منه الصبي رضعتين صارت أما له بغير خلاف علمناه عند القائلين بأن الخمس محرمات ولم يصر واحد من الزوجين أبا له لأنه لم يكمل عدد الرضاع من لبنه ويحرم على الرجلين لكونه ربيبهما لا لكونه ولدهما
مسألة : قال : ولو طلق زوجته ثلاثا وهي ترضع من لبن ولده فتزوجت بصبي مرضع فأرضعته فحرمت عليه ثم تزوجت بآخر بها ووطئها ثم طلقها أو مات عنها لم يجز أن يتزوجها الأول لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به
هذه المسألة من فروع التي قبلها وهو أن المرتضع يصير ابنا للرجل الذي ثاب اللبن بوطئه فهذه المرأة لما تزوجت صبيا ثم أرضعته بلبن مطلقها صار ابنا لمطلقها فحرمت عليه لأنها أمه وبانت منه وكانت زوجة له فصارت زوجة لابن مطلقها فحرمت على الأول على التأبيد لكونها صارت من حلائل أبنائه ولو تزوجت امرأة صبيا فوجدت به عيبا ففسخت نكاحه ثم تزوجت كبيرا فصار لها منه لبن فأرضعت به الصبي خمس رضعات حرمت على زوجها لأنها صارت من حلائل أبنائه ولو زوج الرجل أم ولده أو أمته بصبي مملوك فأرضعته بلبن سيدها خمس رضعات انفسخ نكاحه وحرمت على سيدها على التأبيد لأنها صارت من حلائل أبنائه فإن كان الصبي حرا لم يتصور هذا الفرع لم يصح نكاحه لأن من شرط جواز نكاح الحر الأمة خوف العنت ولا يوجد ذلك في الطفل فإن زوج بها كان النكاح فاسدا وإن أرضعته لم تحرم على سيدها لأنه ليس بزوج في الحقيقة
فصل : وإذا طلق الرجل زوجته ولها منه لبن فتزوجت آخر لم يخل من خمسة أحوال أحدها أن يبقى لبن الأول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم تلد من الثاني فهو للأول سواء حملت من الثاني أو لم تحمل لا نعلم فيه خلافا لأن اللبت كان للأول ولم يتجدد ما يجعله من الثاني فبقي للأول والثاني : أن لا تحمل من الثاني فهو للأول سواء زاد أو لم يزد أو انقطع ثم عاد أو لم ينقطع الثالث : أن تلد من الثاني فاللبن له خاصة قال ابن المنذر أجمع على هذا كل من أحفظ عنه وهو قول أبي حنيفة و الشافعي سواء زاد أو لم يزد انقطع أو اتصل لأن لبن الأول ينقطع بالولادة من الثاني فإن حاجة المولود إلى اللبن تمنع كونه لغيره الحال الرابع : أن يكون لبن الأول باقيا وزاد بالحمل من الثاني فاللبن منهما جميعا في قول أصحابنا وقال ابو حنيفة : هو للأول ما لم تلد من الثاني
وقال الشافعي : إن لم ينته الحمل إلى حال ينزل منه اللبن فهو للأول فإن بلغ إلى حال ينزل به اللبن فزاد به ففيه قولان : أحدهما : هو للأول والثاني : هو لهما
ولنا أن زيادته عند حدوث الحمل ظاهر في أنها منه وبقاء لبن يقتضي كون أصله منه فيجب أن يضاف إليهما كما لو كان الولد منهما الحال الخامس : انقطع من الأول ثم ثاب بالحمل من الثاني فقال أبو بكر : هو منهما وهو أحد أقوال الشافعي إذا انتهى الحمل إلى حال ينزل به اللبن وذلك لأن اللبن كان للأول فلما عاد بحدوث الحمل فالظاهر أن لبن ثاب بسبب الحمل الثاني فكان مضافا إليهما كما لو لم ينقطع واختار أبو الخطاب أنه من الثاني وهو القول الثاني لـ لشافعي لأن لبن الأول انقطع فزال حكمه بانقطاعه وحدث بالحمل من الثاني فكان له كما لو لم يكن لها لبن من الأول وقال أبو حنيفة : هو للأول ما لم تلد من الثاني وهو القول الثالث لـ لشافعي لأن الحمل لا يقتضي اللبن وإنما يخلقه الله تعالى للولد عند وجوده لحاجته إليه والكلام عليه قد سبق (9/207)
مسألة وفصول إرضاع الكبرى الصغرى من امرأتين لرجل واحد
مسألة : قال : ولو تزوج كبيرة وصغيرة ولم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الصغيرة في الحولين حرمت عليه الكبيرة وثبت نكاح الصغيرة وإن كان دخل بالكبيرة حرمتا عليه جميعا ويرجع بنصف مهر الصغيرة على الكبيرة
نص أحمد على هذا كله في هذه المسألة فصول أربعة :
الفصل الأول : أنه متى تزوج كبيرة وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة قبل دخوله بها فسد نكاح الكبيرة في الحال وحرمت على التأبيد وبهذا قال الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الأوزاعي : نكاح الكبيرة ثابت وتنزع منه الصغيرة وليس بصحيح فإن الكبيرة صارت من أمهات النساء فتحرم أبدا لقول الله سبحانه : { وأمهات نسائكم } ولم يشترط دخوله بها فأما الصغيرة ففيها روايتان :
إحداهما : نكاحها ثابت لأنها ربيبة ولم تدخل بأمها فلا تحرم لقول الله سبحانه : { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم }
والرواية الثانية : ينفسخ نكاحها وهو قول الشافعي و أبي حنيفة لأنهما صارتا أما وبنتا واجتمعتا في نكاحه والجمع بينهما محرم فانفسخ نكاحهما كما لو صارتا أختين وكما لو عقد عليهما بعد الرضاع عقدا واحدا
ولنا أنه أمكن إزالة الجمع بانفساخ نكاح الكبيرة وهي أولى به لأن نكاحها محرم على التأبيد فلم يبطل نكاحهما به كما لو ابتدأ العقد على أخته وأجنبية ولأأن الجمع طرأ على نكاح الأم والبنت فاختص الفسخ بنكاح الأم كما لو أسلم وتحته امرأة وبنتها وفارق الأختين لأنه ليست إحداهما أولى بالفسخ من الأخرى وفارق ما لو ابتدأ العقد عليهما لأن الدوام أقوى من الابتداء
الفصل الثاني : أنه إن كان دخل بالكبيرة حرمتا جميعا على الأبد وانفسخ نكاحهما لأن الكبيرة صارت من أمهات النساء والصغيرة ربيبة قد دخل بأمها فتحرم تحريما مؤبدا وإن كان الرضاع بلبنه صارت الصغيرة بنتا محرمة عليه لوجهين لكونها بنته وربيبته التي دخل بأمها
الفصل الثالث : أن عليه نصف مهر الصغيرة لأن نكاحا انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها والفسخ إذا جاء من أجنبي كان الطلاق الزوج في وجوب الصداق عليه ولا مهر للكبيرة إن لم يكن دخل بها لأن فسخ نكاحها بسبب من جهتها فسقط صداقها كما لو ارتدت وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا وإن كان دخل بالكبيرة لم يسقط مهرها لأنه استقر بدخوله بها استقرارا لا يسقطه شيء ولذلك لا يسقط بردتها ولا بغيرها
الفصل الرابع : أنه يرجع على الكبيرة بما لزمه من صداق الصغيرة وبهذا قال الشافعي وحكي عن بعض أصحابه أنه يرجع بجميع صداقها لأنها أتلفت البضع فوجب ضمانه وقال أصحاب الرأي : إن كانت المرضعة أرادت الفساد رجع عليها بنصف الصداق وإلا فلا يرجع بشيء وقال مالك : يرجع بشيء
ولنا أنه يرجع عليها بالنصف أنها قررته عليها وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته فوجب عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع
ولنا على أبي حنيفة أن ما ضمن في العمد ضمن في الخطأ كالمال ولأنها أفسدت نكاحه وقررت عليه نصف الصداق فلزمها ضمانه كما لو قصدت الإفساد
ولنا على أن الزوج إنما يرجع بالنصف أن الزوج لم يغرم إلا النصف فلم يجب له أكثر مما غرم ولأنه بالفسخ يرجع إليه بدل النصف الآخر فلم يجب له بدل ما أخذ بدله مرة أخرى ولأن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له إنما صمنت المرضعة ههنا لما ألزمت الزوج ما كان معرضا للسقوط بسبب يوجد من الزوجة فلم يرجع ههنا بأكثر مما ألزمته
فصل : والواجب نصف المسمى لا نصف المهر المثل لأنه إنما يرجع بما غرم والذي غرم نصف ما فرض لها فرجع به وبهذا قال أبو حنيفة : وقال الشافعي : يرجع بنصف مهر المثل لأنه ضمان متلف فكان الاعتبار بقيمته دون ما ملكه به كسائر الأعيان
ولنا أن خروج البضع من ملك الزوج لا قيمة له بدليل ما لو قتلت نفسها أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ نكاحها بإرضاعه فإنها لا تغرم له شيئا وإنما الرجوع ههنا بما غرم فلا يرجع بغيره وأنه لو رجع بقيمة المتلف لرجع بمهر المثل كله ولم يختص بنصفه لأن التلف لم يختص بالنصف ولأن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا لزمهم نصف المسمى كذا ههنا (9/211)
فصول ارضاع زوجة الرجل أو بلبن ينسب إليه وما يترتب عليع من أحكام
فصل : وكل امرأ ة تحرم بنتها إذا أرضعت زوجته الصغيرة افسدت نكاحه وحرمتها عليه ولزمهانصف الصداق فإن أرضعتها أمه صارت أخته وإن أرضعتها جدته صارت عمته أو خالته وإن أرضعتها أخته صارت بنت أخيه وكل امرأة تحرم بنت زوجها إذا أرضعتها بلبن زوجها حرمتها عليه وعليها نصف مهرها كامرأة ابنه وامرأة أبيه وامرأة أخيه وامرأة جده لأنها إن أرضعتها امرأة أبيه بلبنه صارت أخته وإن أرضعتها امرأة ابنه صارت بنت أبيه وإن أرضعتها امرأة أخيه صارت بنت أخيه وإن أرضعتها امراة جده بلبنه صارت عمته أو خالته وإن أرضعتها امرأة أحد هؤلاء بلبن غيره لم تحرم عليه لأنها صارت ربيبة زوجها وإن أرضعتها من لا تحرم بنتها كعمته وخالته لم تحرمها عليه ولو تزوج ابنة عمه فأرضعت جدتهما أحدهما صغيرا انفسخ النكاح لأنها إن أرضعت الزوج صار عم زوجته وإن أرضعت الزوجة صارت عمة وإن أرضعتهما جميعا صار كل واحد منهما عم الآخر وإن تزوج بنت عمته فأرضعت جدتهما أحدهما صغيرا انفسخ النكاح لأنها إن أرضعت الزوج صار خالا لها وإن أرضعت الزوجة صارت عمته وإ ن تزوج ابنة خاله فأرضعت جدتها الزوج صار عم زوجته وإن أرضعتها صارت خالته وإن تزوج ابنة خالته فأرضعت الزوج صار خال زوجته وإن أرضعتها صارت خالة زوجها
فصل : إن تزوج كبيرة ثم طلقها فأرضعت صغيرة بلبنه صارت بنتا له وإن أرضعتها بلبن غيره صارت ربيبة فإن كان قد دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة على التأبيد وإن كان لم يدخل بها لم تحرم لأنها ربيبة لم يدخل بأمها وإن تزوج صغيرة ثم طلقها فأرضعتها امرأة حرمت المرضعة على التأبيد لأنها من أمهات نسائه وإن تزوج كبيرة وصغيرة ثم طلق الصغيرة فأرضعتها الكبيرة حرمت الكبيرة وانفسخ نكاحها وإن كان لم يدخل بها فلا مهر لها وله نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها فلها مهرها وتحرم هي والصغيرة على التأبيد وإن طلق الكبيرة وحدها قبل الرضاع فأرضعت الصغيرة ولم يكن دخل بالكبيرة ثبت نكاح الصغيرة وإن كان دخل بها حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ويرجع على الكبيرة بنصف صداقها وإن طلقهما جميعا فالحكم في التحريم على ما مضى ولو تزوج رجل كبيرة وآخر صغيرة ثم طلقاهما ونكح كل واحد منهما زوجة الآخر ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت عليهما الكبيرة وانفسخ نكاحها وإن كان زوج الصغيرة دخل بالكبيرة حرمت عليه وانفسخ نكاحها وإلا فلا
فصل : وإن أرضعت بنت الكبيرة الصغيرة فالحكم في التحريم والفسخ حكم ما لو أرضعتها الكبيرة لأنها صارت جدتها والرجوع بالصداق على المرضعة التي أفسدت النكاح وإن أرضعتها أم الكبيرة انفسخ نكاحهما معا لأنهما صارتا أختين فإن كان لم يدخل بالكبيرة فله أن ينكح من شاء منهما ويرجع على المرضعة بنصف صداقهما وإن كان قد دخل بالكبيرة فله نكاحها لأن الصغيرة لا عدة عليها وليس له نكاح الصغيرة حتى تنقضي عدة الكبيرة لأنها قد صارت أختها فلا ينكحها في عدتها وكذلك الحكم إن أرضعتها جدة الكبيرة لأنها تصير عمة الكبيرة أو خالتها والجمع بينهما محرم وكذلك الحكم إن أرضعتها أختها أو زوجة أخيها بلبنه لأنها صارت بنت أخت الكبيرة أو بنت أخيه وكذلك إن أرضعتها بنت أخيها أو بنت أختها ولا يحرم في شيء من هذا واحدة منهن على التأبيد لأنه تحريم جمع إلا إذا أرضعتها بنت الكبيرة وقد دخل بأمها (9/214)
فصول تغريم نصف الصداق على من أفسد النكاح قبل الدخول
فصل : ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع قبل الدخول غرم نصف صداقها وإن كان بعد الدخول فنص أحمد على أنه يرجع عليه بالمهر كله وهو مذهب الشافعي لأن المرأة تستحق المهر كله على زوجها فترجع بما لزمه كنصف المهر في غير المدخول بها والصحيح إن شاء الله تعالى أنه لا يرجع على المرضعة بعد الدخول بشيء لأنها لم تقرر على الزوج شيئا ولم تلزمه إياه فلم يرجع عليها بشيء كما لو أفسدت نكاح نفسها ولأنه لو ملك الرجوع بالصداق بعد الدخول لسقط إذا كانت المرأة هي المفسدة للنكاح كالنصف قبل الدخول ولأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم على ما ذكرناه فيما مضى ولذلك لا يجب مهر المثل وإنما رجع الزوج بنصف المسمى قبل الدخول لأنها قررته عليه ولذلك يسقط إذا كانت هي المفسدة لنكاحها ولم يوجد ذلك ههنا وهذا قول بعض أصحاب الشافعي ولأنه لو رجع بالمهر بعد الدخول لم يخل إما أن يكون رجوعه ببدل البضع الذي فوتته أو بالمهر الذي أداه لا يجوز أن يكون ببدل البضع لأنه لو وجب بدله لوجب له على الزوجة إذا فات بفعلها أو بقتلها ولكان الواجب لها مهر مثلها ولا يجوز له بدل ما أداه إليها لذلك ولأنها ما أوجبته ولا لها أثر في إيجابه ولا أدئاه ولا تقريره ولا نعلم بينهم خلافا في أنها إذا أفسدت نكاح نفسها بعد الدخول أنه لا يسقط مهرها ولا يرجع عليها بشيء إن كان أداه إليها ولا في أنها إذا افسدته قبل الدخول أنه يسقط صداقها وأنه يرجع عليها بما أعطاها فلو دبت صغيرة إلى كبيرة فارتضعت منها خمس رضعات وهي نائمة وهما زوجتا رجل انفسخ نكاح الكبيرة وحرمت على التأبيد فإن كان دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة وانفسخ نكاحها ولا مهر للصغيرة لأنها فسخت نكاح نفسها وعليه مهر الكبيرة يرجع به على الصغيرة عند أصحابنا ولا يرجع على ما اخترناه وإن لم يكن دخل بالكبيرة فعليه نصف صداقها يرجع به على مال الصغيرة لأنها فسخت نكاحها وإن ارتضعت الصغيرة منها رضعتين وهي نائمة ثم انتبهت الكبيرة فأتمت لها ثلاث رضعات فقد حصل الفساد بفعلهما فيتقسط الواجب عليهما وعليه مهر الكبيرة وثلاثة أعشار مهر الصغيرة يرجع به على الكبيرة وإن لم يكن دخل بالكبيرة فعليه خمس مهرها يرجع به على الصغيرة وهل ينفسخ نكاح الصغيرة ؟ على روايتين
فصل : وإن أفسد النكاح جماعة تقسط المهر عليهم فلو جاء خمس فسقين زوجة صغيرة من لبن أم الزوج خمس مرات انفسخ نكاحها ولزمهن نصف مهرها بينهن فإن سقتها واحدة شربتين وأخرى ثلاثا فعلى الأولى الخمس وعلى الثانية خمس وعشر وإن سقتها واحدة شربتين وسقاها ثلاث ثلاث شربات فعلى الأولى الخمس وعلى كل واحدة من الثلاث عشر وإن كان له ثلاث نسوة كبار وواحدة صغيرة فأرضعت كل واحدة من الثلاث الصغيرة أربع رضعات ثم حلبن في إناء وسقينه الصغيرة حرم الكبار وانفسخ نكاحهن فإن لم يكن دخل بهن فنكاح الصغيرة ثابت على إحدى الروايتين وعليه لكل واحدة منهن ثلث صداقها ترجع به على ضرتيها لأن فساد نكاحها حصل بفعلها وفعلهما فسقط ما قابل فعلها وهو سدس الصداق وبقي عليه الثلث فرجع به على ضرتيها فإن كان صداقهن متساويا سقط ولم يجب شيء لأنه يتقاص ما لها على الزوج بما يرجع به عليها إذ لا فائدة في أن يجب لها عليه ما يرجع به عليها وإن كان مختلفا وهو من جنس واحد تقاصا منه بقدر أقلهما ووجبت الفضلة به لصاحبها وإن كان من أجناس ثبت التراجع على ما ذكرنا وإن كان قد دخل بإحدى الكبار حرمت الصغيرة أيضا وانفسخ نكاحها ووجب لها نصف صداقها ترجع به عليهن أثلاثا وللتي دخل بها المهر كاملا وفي الرجوع به ما أسلفناه من الخلاف وإن حلبن في إناء فسقته إحداهن الصغيرة خمس مرات كان صداق ضراتها يرجع به عليها إن كان قبل الدخول بهن لأنها أفسدت نكاحهن ويسقط مهرها إن لم يكن دخل بها وإن كان دخل بها فلها مهرها ولا ترجع به على أحد وإن كانت كل واحدة من الكبار أرضعت الصغيرة خمس رضعات حرم الثلاث فإن كان لم يدخل بهن فلا مهر لهن عليه وإن كان دخل بهن فعليه لكل واحدة مهرها لا يرجع به على أحد وتحرم الصغيرة ويرجع بما لزمه من صداقها على المرضعة الأولى أنها التي حرمتها عليه وفسخت نكاحها ولو أرضع الثلاث الصغيرة بلبن الزوج فأرضعتها كل واحدة رضعتين صارت بنتا لزوجها في الصحيح وينفسخ نكاحها ويرجع بنصف صداقها عليهن على المرضعتين الأوليين منه أربعة أخماسه وعلى الثالثة خمسه لأن رضعتها الأولى حصل بها التحريم لكمال الخمس بها والثانية لا أثر لها في التحريم فلم يجب عليها بها شيء ولا ينفسخ نكاح الأكابر لأنهن لم يصرن أمهات لها ولو كان لامرأته الكبيرة خمس بنات لهن لبن فأرضعن امرأته الصغيرة رضاعا تصير به إحداهن أما لها لحرمت أمها وانفسخ نكاحها وهل ينفسخ نكاح الصغيرة على روايتين وإن أرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة فالصحيح أن الكبيرة لا تحرم بهذا لأن كونها جدة يبنى على كون ابنتها أما وما صارت واحدة من بناتها أما ويحتمل أن تحرم لأنه قد كمل لها من بناتها خمس رضعات وكذلك الحكم لو أرضعتها بنتها رضعة وبنت ابنها رضعة وبنات بناتها ثلاث رضعات ولو كمل لها من زوجته بلبنه ومن أمه وأخته وابنته وابنة ابنه خمس رضعات فعلى وجهين أصحهما : لا يثبت تحريمها وفي الآخر يثبت فعلى على الوجه ينفسخ نكاحها ويرجع عليهن بما غرم من صداقها على قدر رضاعهن فإن قيل : فلم لا يرجع عليهن على عدد رؤوسهن لكون الرضاع مفسدا فيستوي قليله وكثيره كما لو طرح النجاسة جماعة في مائع في حالة واحدة ؟ قلنا لأن التحريم يتعلق بعدد الرضعات فكان الضمان متعلقا بالعدد بخلاف النجاسة فإن التنجيس لا يتعلق بقدر فيستوي قليله وكثيره ليكون القليل والكثير سواء في الإفساد فنظير ذلك أن يشرب في الرضعة من إحداهما أكثر مما يشرب من الأخرى
فصل : إذا كانت له زوجة أمة فأرضعت امرأته الصغيرة فحرمتها عليه وفسخت نكاحها كان مالزمه من صداق الصغيرة له في رقبة الأمة لأن ذلك من جنايتها وإن أرضعتها أم ولده أفسدت نكاحها وحرمتها عليه لأنها ربيبة دخل بأمها وتحرم أم الولد عليه أبدا لأنها من أمهات نسائه ولا غرامة عليها لأنها أفسدت على سيدها فإن كان قد كاتبها رجع عليها لأن المكاتبة يلزمها أرش جنايتها وإن أرضعت أم ولده امرأة ابنه بلبنه فسخت نكاحها وحرمتها عليه لأنها صارت أخته وإن أرضعت زوجة أبيه بلبنه حرمتها عليه لأنها صارت بنت ابنه ويرجع الأب على ابنه بأقل الأمرين مما غرمه لزوجته أو قيمتها لأن ذلك من جناية أم ولده وإن ارضعت واحدة منهما بغير لبن سيدها لم تحرمها لأن كل واحدة منهما صارت بنت أم ولده (9/216)
مسألة وفصلان حكم ما لو تزوج بكبيرة وصغيرتين ولو أرضعت الصغيرتين أجنبية
مسألة : قال : ولو تزوج بكبيرة وصغيرتين فأرضعت الكبيرة الصغيرتين حرمت عليه الكبيرة وانفسخ نكاح الصغيرتين ولا مهر عليه للكبيرة ويرجع عليها بنصف صداق الصغيرتين وله أن ينكح من شاء منهما
أما تحريم الكبيرة فلأنها صارت من أمهات النساء وأما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما صارتا أختين واجتمعتا في الزوجية فينفسخ نكاحهما كما لو أرضعتا معا ولا مهر للكبيرة لأن الفساد جاء من قبلها ويرجع عليها بنصف صداق الصغيرتين لأنها أفسدت نكاحهما وله أن ينكح من شاء منهما لأن انفساخ نكاحهما للجمع ولا يوجب تحريما مؤبدا وهذا على الرواية التي قلنا أنها إذا أرضعت الصغيرة اختص الفسخ بالكبيرة فأما على الرواية التي تقول ينفسخ نكاحهما معا فإنه يثبت نكاح الأخيرة من الصغيرتين لأن الكبيرة لما أرضعت الأولى انفسخ نكاحهما ثم أرضعت الأخرى فلم تجتمع معمها في النكاح فلم ينفسخ نكاحهما فأما إن كان دخل بالكبيرة حرمت وحرمت الصغيرتان على التأبيد لأنهما ربيبتان قد دخل بأمهما
فصل : فإن أرضعت الصغيرتين أجنبية انفسخ نكاحهما أيضا وهذا قول أبي حنيفة و المزني وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر ينفسخ نكاح الآخرة وحدها لأن سبب البطلان حصل بها وهو الجمع فأشبه ما لو تزوج إحدى الأختين بعد الأخرى
ولنا أنه جامع بين الأختين في النكاح فانفسخ نكاحهما كما لو أرضعتهما معا وفارق مالو عقد على واحدة بعد الأخرى فإن عقد الثانية لم يصح فلم يصح فلم يصر به جامعا بينهما وههنا حصل الجمع برضاع الثانية ولا يمكن القول بأنه لم يصح فحصلتا معا في نكاحه وهما أختان لا محالة
فصل : وإن أرضعتهما بنت الكبيرة فالحكم في الفسخ كما لو أرضعته الكبيرة نفسها لأن الكبيرة تصير جدة لهما ولكن الرجوع يكون على المرضعة المفسدة لنكاحهن (9/220)
مسألة وإن كن الأصاغر ثلاثا فأرضعتهن منفردات
مسألة : قال : وإن كن الأصاغر ثلاثا فأرضعتهن منفردات حرمت الكبيرة وانفسخ نكاح المرضعتين أولا وثبت نكاح آخرهن رضاعا فإن ارضعت إحداهن منفردة واثنتين بعد ذلك معا حرمت الكبيرة وانفسخ نكاح الأصاغر وتزوج من شاء من الأصاغر وإن كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد
إنما حرمت الكبيرة لأنها صارت من أمهات النساء وانفسخ نكاح المرضعتين أولا لأنهما صارتا أختين في نكاحه وثبت نكاح الأخيرة لأن رضاعها بعد انفساخ نكاح الصغيرتين اللتين قبلها فلم يصادف إخوتها جمعا في النكاح وإن أرضعت إحداهن منفردة وأثنتين بعد ذلك معا بأن تلقم كل واحدة منهما ثديا فيمتصان معا أو تحلب من لبنها في إناء فتسقيهما انفسخ نكاح الجميع لأنهن صرن أخوات في نكاحه وله أن يتزوج من شاء من الأصاغر لأن تحريمهن تحريم جمع لا تحريم تأبيد فإنهن ربائب لم يدخل بأمهن وإن دخل بالكبيرة حرم الكل على الأبد لأنهن ربائب مدخول بأمهن هذا على الرواية الأولى وعلى الأخرى لما ارضعت الأولى انفسخ نكاحها ونكاح الكبيرة لأنها صارت أمها واجتمعتا في نكاحه ثم ارتضعت الثانية فلم ينفسخ نكاحها لأنها منفردة بالرضاع في النكاح فلما أرضعت الثالثة صارتا أختين فانفسخ نكاحهما (9/222)
فصل وإن أرضعتهن بنت الكبيرة
فصل : فإن أرضعتهن بنت الكبيرة فهو كما لو أرضعتهن أمها ولو كان لها ثلاث بنات فأرضعت كل واحدة منهن زوجة من الأصاغر حرمت الكبيرة بإرضاع أولاهن ويرجع على مرضعتها بما لزمه من مهرها لأنها أفسدت نكاحها ولا ينفسخ نكاح الأصاغر لأنهن لم يصرن أخوات وإنما هن بنات خالات وعلى الرواية الأخرى ينفسخ نكاح المرضعة الأولى لاجتماعها مع جدتها في النكاح ويثبت نكاح الأخيرتين ويرجع بما لزمه من مهر التي فسد نكاحها على التي أرضعتها وإن كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد ورجع على كل واحدة بما لزمه من مهر التي أرضعتها وإن قلنا إنه يرجع بمهر الكبيرة رجع به على المرضعة الأولى لأنها التي أفسدت نكاحها (9/223)
مسألة وفصل قال وإن شهدت امرأة واحدة على الرضاع أو المرضعة على نفسها
مسألة : قال : وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إذا كانت مرضية وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى إن كانت مرضية استحلفت فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى يبيض ثدياها وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس رضي الله عنه
وجملة ذلك أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع إذا كانت مرضية وبهذا قال طاوس و الزهري و الأوزاعي و ابن أبي ذئب و سعيد بن عبد العزيز وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل إلا شهادة امرأتين وهو قول الحكم لأن الرجال أكمل من النساء ولا يقبل إلا شهادة رجلين فالنساء أولى وعن أحمد رواي ثالثة أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة وتستحلف مع شهادتها وهو قول ابن عباس و إسحاق لأن ابن عباس قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلا وأهله فقال إن كان مرضية استحلفت وفارق امرأته وقال : إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى يبيض ثدياها يعني يصيبها فيهما برص عقوبة على كذبها وهذا لا يقتضيه قياس ولا يهتدى إليه رأي فالظاهر أنه لا يقوله إلا توقيفا وقال عطاء و قتادة و الشافعي : لا يقبل من النساء أقل من أربع لأن كل امرأتين كرجل وقال أصحاب الرأي : لا يقبل فيه إلا رجلان أو رجل وامرأتان وروى ذلك عن عمر لقول الله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان }
[ ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال : تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما فأتيت النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فقال : كيف وقد زعمت ذلك ؟ ] متفق عليه وفي لفظ رواه النسائي قال : [ فأتيته من قبل وجهه فقلت إنها كاذبة قال : كيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما ؟ خل سبيلها ؟ ] وهذا يدل على الاكتفاء بالمرأة الواحدة
وقال الزهري : فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان رضي الله عنه بشهادة امرأة في الرضاع وقال الأوزاعي فرق عثمان بين أربعة نسائهم بشهادة امرأة في الرضاع وقال الشعبي : كانت القضاة تفرق بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع ولأن هذا شهادة على عورة فقبل فيها شهادة النساء المنفردات كالولادة وعلى الشافعي بأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات فقبل فيه شهادة المرأة المنفردة كالخبر
فصل : ويقبل فيه شهادة المرضعة على فعل نفسها لما ذكرنا [ من حديث عقبة من أن الأمة السوداء قالت : قد أرضعتكما فقبل النبي صلى الله عليه و سلم شهادتها ] ولأنه فعل لا يحصل لها به نفع مقصود ولا تدفع عنها به ضررا فقبلت شهادتها به كفعل غيرها فإن قيل فإنها تستبيح الخلوة به والسفر معه وتصير محرما له قلنا : ليس هذا من الأمور المقصودة التي ترد بها الشهادة ألا ترى أن رجلين لو شهدا أن فلانا طلق زوجته وأعتق أمته قبل شهادتهما وإن كان يحل لهما نكاحها بذلك ؟ (9/223)
فصل لا تقبل الشهادة على الرضاع إلا مفسرة
فصل : ولا تقبل الشهادة على الرضاع إلا مفسرة فلو قالت : أشهد أن هذا ابن هذه من الرضاع لا يقبل لأن الرضاع المحرم يختلف الناس فيه منهم من يحرم بالقليل ومنهم من يحرم بعد الحولين فلزم الشاهد تبيين كيفيته ليحكم الحاكم فيه باجتهاده فيحتاج الشاهد أن يشهد أن هذا ارتضع من ثدي هذه خمس رضعات متفرقات خلص اللبن فيهن إلى جوفه في الحولين فإن قيل : خلوص اللبن إلى جوفه لا طريق له إلى مشاهدته فكيف تجوز الشهادة ؟ قلنا إذا علم أن هذه المرأة ذات لبن ورأى الصبي قد التقم ثديها وحرك فمه في الامتصاص وحلقه في الاجتراع حصل ظن يقرب إلى اليقين أن اللبن قد وصل إلى جوفه وما يتعذر الوقوف عليه بالمشاهدة اكتفي فيه بالظاهر كالشهادة بالملك وثبوت الدين في الذمة والشهادة على النسب بالاستفاضة
ولو قال الشاهد : أدخل رأسه تحت ثيابها والتقم ثديها لا يقبل لأنه قد يدخل رأسه ولا يأخذ الثدي وقد يأخذ الثدي ولا يمص فلا بد من ذكر ما يدل عليه وإن قال : أشهد أن هذه أرضعت هذا فالظاهر أنه يكتفى في ثبوت أصل الرضاع لأن المرأة التي قالت : قد أرضعتكما اكتفي بقولها (9/225)
مسألة وفصلان اقرار الزوج بما يتضمن تحريم زوجته عليه قبل الدخول
مسألة : قال : وإذا تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول : هي أختي من الرضاعة انفسخ النكاح فإن صدقته المرأة فلا مهر لها وإن كذبته فلها نصف المهر
وجملته أن الزوج إذا أقر أن زوجته أخته من الرضاعة انفسخ نكاحه ويفرق بينهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إذا قال وهمت أو أخطأت قبل قوله لأن قوله ذلك يتضمن أنه لم يكن بينهما نكاح ولو جحد النكاح ثم أقر به قبل كذلك ههنا
ولنا أنه أقر بما يتضمن تحريمها عليه فلم يقبل رجوعه عنه كما لو أقر بالطلاق ثم رجع أو أقر أن أمته أخته من النسب وما قاسوا عليه غير مسلم وهذا الكلام في الحكم فأما فيما بينه وبين ربه فينبني ذلك على علمه بصدقه فإن علم أن الأمر كما قال فهي محرمة عليه ولا نكاح بينهما وإن علم كذب نفسه فالنكاح باق بحاله وقوله كذب لا يحرمها عليه لأن المحرم حقيقة الرضاع لا القول وإن شك في ذلك لم نزل عن اليقين بالشك وقيل في حلها له إذا علم كذب نفسه روايتان والصحيح ما قلناه لأن قوله ذلك إذا كان كذبا لم يثبت التحريم كما لو قال لها وهي أكبر منه : هي ابنتي من الرضاعة إذا ثبت هذا فإنه إن كان قبل الدخول وصدقته المرأة فلا شيء لها لأنهما اتفقا على أن النكاح فاسد من أصله لا يستحق فيه مهر فأشبه ما لو ثبت ذلك ببينة وإن أكذبته فالقول قولها لأن قوله غير مقبول عليها في إسقاط حقوقها فلزمه إقراره فيما هو حق له وهو تحريمها عليه وفسخ نكاحه ولم يقبل قوله فيما عليه من المهر
فصل : فإن قال : هي عمتي أو خالتي أو ابنة أخي أو أختي أو أمي من الرضاع وأمكن صدقه فالحكم فيه كما لو قال هي أختي وإن لم يمكن صدقه مثل أن يقول لأصغر منه أو لمثله هي أمي أو لأكبر منه أو لمثله هذه ابنتي لم تحرم عليه وبهذا قال الشافعي وقال أبو يوسف ومحمد : تحرم عليه لأنه إقرار بما يحرمها عليه فوجب أن يقبل كما لو أمكن
ولنا أنه أقر بما تحقق كذبه فيه فأشبه ما لو قال أرضعتني وإياها حواء أو كما لو قال هذه حواء وما ذكروه منتقض بهذه الصور ويفارق إذا أمكن فإنه لا يتحقق كذبه والحكم في الإقرار بقرابة من النسب تحرمها عليه كالحكم في الإقرار بالرضاع لأنه في معناه
فصل : إذا ادعى أن زوجته أخته من الرضاع فأنكرته فشهدت بذلك أمه أو ابنته لم تقبل شهادتهما لأن شهادة الوالدة لولدها والوالد لولده غير مقبولة وإن شهدت بذلك أمها أو ابنتها قبلت وعنه لا يقبل بناء على شهادة الوالد على ولده والولد على والده وفي ذلك روايتان : وإن ادعت ذلك المرأة وأنكره الزوج فشهدت لها أمها أو أبنتها لم تقبل وإن شهدت لها أم الزوج أو ابنته فعلى روايتين : (9/225)
مسألة اقرار المرأة أن زوجها أخوها من الرضاع
مسألة : قال : وإن كانت المرأة هي التي قالت هو أخي من الرضاعة فأكذبها ولم تأت بالبينة على ما وصفت فهي زوجته في الحكم
وجملته أن المرأة إذا أقرت أن زوجها أخوها من الرضاعة فأكذبها لم يقبل قولها في فسخ النكاح لأنه حق عليها فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لأنها تقر بأنها لا تستحقه فإن كانت قد قبضته لم يكن للزوج أخذه منها لأنه يقر بأنه حق لها وإن كان بعد الدخول فأقرت أنها كانت عالمة بأنها أخته وبتحريمها عليه ومطاوعة له في الوطء فلا مهر لها أيضا لإقرارها بأنها زانية مطاوعة وإن أنكرت شيئا من ذلك فلها المهر لأنه وطء بشبهة وهي زوجته في ظاهر الحكم لأن قولها عليه غير مقبول فأما فيما بينها وبين الله تعالى فإن علمت صحة ما اقرت به لم يحل لها مساكنته وتمكينه من وطئها وعليها أن تفر منه وتفتدي نفسها بما أمكنها لأن وطأة لها زنا فعليها التخلص منه مهما أمكنها كما قلنا في التي عملت أن زوجها طلقها ثلاثا وجحدها ذلك وينبغي أن يكون الواجب لها من المهر بعد الدخول أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل لأنه إن كان المسمى أقل فلا يقبل قولها في وجوب زائد عليه وإن كان الأقل مهر المثل لم تستحق أكثر منه لاعترافها بأن استحقاقها له بوطئها لا بالعقد فلا تستحق أكثر منه وإن كان إقرارها بأخوته قبل النكاح لم يجز لها نكاحه ولا يقبل رجوعها عن إقرارها في ظاهر الحكم لأن إقرارها لم يصادف زوجية عليها يبطلها فقبل إقرارها على نفسها بتحريمه عليها وكذلك لو أقر الرجل أن هذه أخته الرضاع أو محرمة عليه برضاع أو غيره وأمكن صدقه لم يحل له تزوجها فيما بعد ذلك في ظاهر الحكم وأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني على علمه بحقيقة الحال على ما ذكرناه (9/227)
فصل ادعاء أحد الزوجين على الآخر أنه أخو صاحبه
فصل : وإن ادعى أحد الزوجين على الآخر أنه أقر أنه أخو صاحبه من الرضاع فأنكر لم يقبل في ذلك شهادة النساء المنفردات لأنها شهادة على الإقرار مما يطلع عليه الرجال فلم يحتج فيه إلى شهادة النساء المنفردات فلم يقبل ذلك بخلاف الرضاع نفسه (9/229)
فصل كراهة الارتضاع بلبن الفجور والمشركات
فصل : كره أبو عبد الله الارتضاع بلبن الفجور والمشركات وقال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما : اللبن يشتبه فلا تستق من يهوديه ولا نصرانية ولا زانية ولا يقبل أهل الذمة المسلمة ولا يرى شعورهن ولأن لبن الفاجرة ربما أفضى إلى شبه المرضعة في الفجور ويجعلها أما لولده فيعتبر بها ويتضرر طبعا وتعيرا الإرتضاع من المشتركة يجعلها أما لها حرمة الأم مع شركها ربما مال إليها في محبة دينها ويكره الإرتضاع بلبن الحمقاء كيلا يشبهها الولد في الحمق فإنه يقال : إن الرضاع بغير الطباع والله تعالى أعلم (9/229)
كتاب النفقات نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع
نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعال : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } ومعنى قدر عليه أي ضيق عليه ومنه قوله سبحانه : { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وقال الله تعالى : { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم }
وأما السنة فما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب الناس فقال : [ اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] رواه مسلم و أبو داود ورواه الترمذي بإسناده عن عمرو بن الأحوص قال : [ ألا أن لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ] وقال : هذا حديث حسن صحيح [ وجاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال : خذي ما يكفيك ووولدك بالمعروف ] متفق عليه وفيه دلالة بالمعروف وإن لها أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إذا لم يعطها إياه
وأما الإجماع فاتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره وفيه ضرب من العبرة وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من التصرف والاكتساب فلا بد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده (9/230)
مسألة و فصل كيفية تقدير نفقة الزوجة
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله تعالى : وعلى الزوج نفقة زوجته ما لا غناء بها عنه وكسوتها
وجملة الأمر أن المرأة إذا سلمت نفسها إلى الزوج على الوجه الواجب عليها فلها عليه جميع حاجتها من مأكول ومشروب وملبوس ومسكن قال أصحابنا : ونفقتها معتبرة بحال الزوجين جميعا فإن كانا موسرين فلها عليه نفقة الموسرين وإن كانا معسرين فعليه نفقة المعسرين وإن كانا متوسطين فلها عليه نفقة المتوسطين وإن كان أحدهما موسرا والآخر معسرا فعليه نفقة المتوسطين أيهما كان الموسر وقال أبو حنيفة و مالك : يعتبر حال المرأة على قدر كفايتها لقول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } والمرعوف الكفاية ولأنه سوى بين النفقة والكسوة والكسوة على قدر حالها فكذلك النفقة [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فاعتبر كفايتها دون حال زوجها ولأن نفقتها واجبة لدفع حاجتها فكان الاعتبار بما تندفع به حاجتها دون حال من وجبت عليه كنفقة المماليك ولأنه واجب للمرأة على زوجها بحكم الزوجية لم يقدر فكان معتبرا بها كمهرها وكسوتها وقال الشافعي : الاعتبار بحال الزوج وحده لقول الله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } ولنا أن فيما ذكرناه جمعا بين الدليلين وعملا بكلا النصين ورعاية لكلا الجانبين فيكون أولى
فصل : والنفقة مقدرة بالكفاية وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها وبهذا قال أبو حنيفة و مالك وقال القاضي : هي مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة والواجب رطلان من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارا بالكفارات وإنما يختلفان في صفته وجوته لأن الموسر والمعسر سواء في قدر المأكول وفيما تقوم به البنية وإنما يختلفان في جودته فكذلك النفقة الواجبة وقال الشافعي : نفقة المقتر مد بمد النبي صلى الله عليه و سلم لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل فقال سبحانه : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وعلى الموسر مدان لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدين في كفارة الأذى وعلى المتوسط مد ونصف ونصف نفقة الموسر ونصف نفقة الفقير
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في المدين بحيث لا يزيد عنهما ولا ينقص ولأن الله تعالى قال : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } و [ قال النبي صلى الله عليه و سلم : ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] وإيجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف وإيجاب قدر الكفاية وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز إنفاق بالمعروف فيكون ذلك هو الواجب بالكتاب والسنة واعتبار النفقة بالكفارة في القدر لا يصح لأن الكفارة لا تختلف باليسار والإعسار ولا هي مقدرة بالكفارة وإنما اعتبرها الشرع بها في الجنس دون القدر ولهذا لا يجب فيها الأدم (9/231)
فصول ما تشمله نفقة الزوجة
فصل : ولا يجب فيها الحب وقال الشافعي : الواجب فيها الحب اعتبارا بالإطعام في الكفارة حتى لو دفع إليها دقيقا أو سويقا أو خبزا لم يلزمها قبوله كما لا يلزم ذلك المسكين في الكفارة قال بعضهم : يجيء على قول أصحابنا أنه لا يجوز وإن تراضيا لأنه بيع حنطة بجنسها متفاضلا
ولنا قول ابن عباس في قولع تعالى : { من أوسط ما تطعمون أهليكم } قال الخبز والزيت وعن ابن عمر الخبز والسمن والخبز والزيت والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمونهن الخبز واللحم ففسر إطعام الأهل بالخبز مع غيره من الأدم ولأن الشرع ورد بالإنفاق مطلقا من غير تقييد ولا تقدير فوجب أن يرد إلى العرف كما في القبض والإحراز وأهل العرف إنما يتعارفون فيما بينهم في الإنفاق على أهليهم الخبز والأدم دون الحب والنبي صلى الله عليه و سلم وصحابته إنما كانون ينفقون ذلك دون ما ذكروه فكان ذلك هو الوجوب ولأنها نفقة قدرها الشرع بالكفاية فكان الواجب الخبز كنفقة العبد ولأن الحب تحتاج فيه إلى طحنة وخبزه فمتى احتاجت إلى تكلف ذلك من مالها لم تحصل الكفاية بنفقته وفارق الإطعام في الكفارة لأنها لا تتقدر بالكفاية ولا يجب فيها الأدم فعلى هذا لو طلبت مكان الخبز دارهم أو حبا أو دقيقا أو غير ذلك لم يلزمه بذله ولو عرض عليها بدل الواجب لها لم يلزمها قبوله لأنها معاوضة فلا يجبر واحد منهما على قبوله كالبيع وإن تراضيا على ذلك جاز لأنه طعام وجب في الذمة لآدمي معين فجازت المعاوضة عنه كالطعام في القرض ويفارق الطعام في الكفارة لأنه حق الله تعالى وليس هو لآدمي معين فيرضى بالعوص عنه وإن أعطاها مكان الخبز حبا أو دقيقيا جاز إذا تراضيا عليه لأن هذا ليس بمعاوصة حقيقة فإن الشارع لم يعتبر الوابج بأكثر من الكفاية فبأي شيء حصلت الكفاية كان ذلك هو الواجب وإنما صرنا إلى إيجاب الخبز عند الاختلاف لترحجه بكونه القوت المعتاد
فصل : ويرجع في تقدير الواجب إلى اجتهاد الحاكم أو نائبه إن لم يتراضيا على شيء فيفرض للمرأة قدر كفايتها من الخبز والأدم فيفرض للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالهما وللمعسرة تحت المعسر قدر كفايتها من أدنى خبز البلد وللمتوسطة تحت المتوسط من أوسطه لكل أحد على حسب حاله على ما جرت به العادة في حق أمثاله وكذلك الأدم للموسرة تحت الموسر قدر حاجتها من أرفع الأدم من اللحم والأرز واللبن وما يطبخ به اللحم والدهن على اختلاف أنواعه في بلدانه السمن في موضع والزيت في آخر والشيرج في آخر وللمعسرة تحت المعسر من الأدم أدونه كالباقلاء والخل والبقل والكامخ وما جرت به عادة أمثالهم وما يحتاج إليه من الدهن وللمتوسطة تحت المتوسط أوسط ذلك من الخبز والأدم كل على حسب عادته قال الشافعي : الواجب من جنس قوت البلد لا يختلف باليسار والإعسار سوى المقدار والأدم هو الدهن خاصة لأنه أصلح للأبدان وأجود في المؤنة لأنه لا يحتاج إلى طبخ وكلفة ويعتبر الأدم بغالب عادة أهل البلد كالزيت بالشام والشيرج بالعراق والسمن بخراسان ويعتبر قدر الأدم بالقوت فإذا قيل إن الرطل تكفيه الأوقية من الدهن فرض ذلك وفي كل يوم جمعة رطل لحم فإن كان في موضع يرخص اللحم زادها على الرطل شيئا وذكر القاضي في الأدم مثل هذا وهذا مخالف لقول الله تعالى : { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } ولقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] ومتى أنفق الموسر نفقة المعسر فما أنفق من سعته ولا رزقها بالمعروف وقد فرق الله عز و جل بين الموسر والمعسر في الإنفاق وفي هذا جمع بين ما فرق الله تعالى وتقدير الأدم بما ذكروه تحكم لا دليل عليه وخلاف العادة والعرف بين الناس في إنفاقهم فلا يعرج على مثل هذا وقد قال ابن عمر : من أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم والصحيح ما ذكرناه من رد النفقة المطلقة في الشرع إلى العرف فيما بين الناس في نفقاتهم في حق الموسر والمتوسط كما رددناهم في الكسوة إلى ذلك ولأن النفقة من مؤنة المرأة على الزوج فاختلف جنسها بالإيسار والإعسار كالكسوة
فصل : وحكم المكاتب والعبد حكم المعسر لأنهما ليس باحسن حالا منه ومن نصفه حر إن كان موسرا فحكمه حكم المتوسط لأنه متوسط نصفه موسر ونصفه معسر
فصل : ويجب للمرأة ما تحتاج إليه من المشط والدهن لرأسها والسدر أو نحوه مما تغسل به رأسها وما يعود بنظافتها لأن ذلك يراد للتنظيف فكان عليه كما أن على المستأجر كنس الدار وتنظيفها فأما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج منها لم يلزمه لأنه يراد للزينة وإن طلبه منها فهو عليه وأما الطيب فما يراد منه لقطع السهوكة كدواء العرق لزمه لأنه يراد للتطيب وما يراد منه للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه لأن الاستمتاع حق له فلا يجب عليه ما يدعوه إليه ولا يجب عليه شراء الأدوية ولا أجرة الطبيب لأنه يراد إصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر بناء ما يقع من الدار وحفظ أصولها وكذلك أجرة الحجام والفاصد
فصل : وتجب عليه كسوتها بإجماع أهل العلم لما ذكرنا من النصوص ولأنها لابد منها الدوام فلزمته كالنفقة وهي معتبرة بكفايتها وليست مقدرة بالشرع كما قلنا في النفقة ووافق أصحاب الشافعي على هذا ويرجع في ذلك إلى اجتهاد الحاكم فيفرض لها على قدر كفايتها على قدر يسرهما وعسرهما وما جرت عادة أمثالهما به من الكسوة فيجتهد الحاكم في ذلك عند نزول الأمر كنحو اجتهاده في المتعة للمطلقة وكما قلنا في النفقة فيفرض للموسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد من الكتان والخبز والإبريسم وللمعسرة تحت المعسر غليظ القطن والكتان وللمتوسطة تحت المتوسط من ذلك فأقل ما يجب من ذلك قميص وسراويل ومقنعة ومداس وجبة للشتاء ويزيد من عدد الثياب ما جرت العادة بلبسه مما لا غني عنه دون ما للتجمل والزينة والأصل في هذا قول الله عز و جل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ] والكسوة بالمعروف هي الكسوة التي جرت عادة أمثالها بلبسه [ وقول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ]
فصل : وعليه لها ما تحتاج إليه للنوم من الفراش واللحاف والوسادة كل على حسب عادته فإن كانت ممن عادته النوم في الأكسية والبساط فعليه لها لنومها ما جرت عادتهم به ولجلوسها بالنهار البساط والزلى والحصير الرفيع أو الخشن الموسر على حسب إيساره والمعسر على قدر إعساره على حسب العوائد
فصل : ويجب لها مسكن بدليل قوله سبحانه وتعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } فإذا وجبت السكنى للمطلقة فللتي في صلب النكاح أولى قال الله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } ومن المعروف أن يسكنها في مسكن ولأنها لا تستغني عن المسكن للاستتار عن العيون وفي التصرف والاستمتاع وحفظ المتاع ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما لقول الله تعالى : { من وجدكم } ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام فجرى مجرى النفقة والكسوة
فصل : فإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } ومن العشرة أن يقيم لها خادما ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة ولا يجب لها أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها ويحصل ذلك بواحد وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي إلا أن مالكا قال : إن كان لا يصلح المرأة إلا أكثر من خادم فعليه أن ينفق على أكثر من واحد ونحوه قال أبو ثور إذا احتمل الزوج ذلك فرض لخادمين
ولنا أن الخادم الواحد يكفيها لنفسها والزيادة تراد لحفظ ملكها أو للتجمل وليس عليه ذلك إذا ثبت هذا فلا يكون لخادم إلا ممن يحل له النظر إليها إما امرأة وإما ذو رحم محرم لأن الخادم يلزم المخدوم في غالب أحواله فلا يسلم من النظر وهل يجوز أن يكون من أهل الكتاب ؟ فيه وجهان : الصحيح منهما جوازه لأن استخدامهم مباح وقد ذكرنا فيما مضى أن الصحيح إباحة النظر لهم : والثاني : لا يجوز لأن في إباحة نظرهم اختلافا وتعافهم النفس ولا يتنظفون من النجاسة ولا يلزم الزوج أن يملكها خادما لأن المقصود الخدمة فإذا حصلت من غير تمليك جاز كما أنه إذا أسكنها دارا بأجرة جاز ولا يلزمه تمليكها مسكنا فإن ملكها الخادم فقد زاد خيرا وإن أخدمها من يلازم خدمتها من غير تمليك جاز سواء كان له أو استأجره حرا كان أو عبدا وإن كان الخادم لها فرضيت بخدمته لها ونفقته على الزوج جاز وإن طلبت منه أجرة خادمها فوافقها جاز وإن قال لا أعطيك أجر هذا ولكن أنا آتيك بخادم سواه فله ذلك إذا أتاها بمن يصلح وإن قالت أنا أخدم نفسي وآخذ أجبر الخادم لم يلزم الزوج قبول ذلك لأن الأجر عليه فتعيين الخادم إليه ولأن في إخدامها توفيرها على حقوقه وترفيهها ورفع قدرها وذلك يفوت بخدمتها لنفسها وإن قال الزوج : أنا أخدمك بنفسي لم يلزمها لأنها تحتشمه وفيه غضاضة عليها لكون زوجها خادما وفيه وجه آخر أنه يلزمها الرضا به لأن الكفاية تحصل به
فصل : وعلى الزوج نفقة الخادم ومؤنته من الكسوة والنفقة مثل ما لامرأة المعسر إلا أنه لا يجب لها المشط والدهن لرأسها والسدر لأن ذلك يراد للزينة والتنظيف ولا يراد ذلك من الخادم لكن إن احتاجت إلى خف لتخرج إلى شراء الحوائج لزمه ذلك (9/233)
مسألة قال فإن منعها ما يجب لها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدرا حاجتها
مسألة : قال : فإن منعها ما يجب لها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدار حاجتها بالمعروف [ كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لهند حين قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ؟ فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ]
وجملته أن الزوج إذا لم يدفع إلى امرأته ما يجب لها عليه من النفقة والكسوة أو دفع إليها أقل من كفايتها فلها أن تأخذ من ماله الواجب أو تمامه بإذنه وبغير إذنه بدليل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وهذا إذن لها في الأخذ من ماله بغير إذنه ورد لها إلى اجتهادها في قدر كفايتها وكفاية ولدها وهو متناول لأخذ تمام الكفاية فإن ظاهر الحديث دل على أنه قد كان يعطيها بعض الكفاية ولا يتممها لها فرخص النبي صلى الله عليه و سلم لها في أخذ تمام الكفاية بغير علمه لأنه موضع حاجة ] فإن النفقة لا غنى عنها ولا قوام إلا بها فإذا لم يدفعها الزوج ولن تأخذها افضى إلى ضياعها وهلاكها فرخص لها في أخذ قدر نفقتها دفعا لحاجتها ولأن النفقة تتجدد بتجدد الزمان شيئا فشيئا فتشق المرافعة إلى الحاكم والمطالبة بها في كل الأوقات فلذلك رخص لها في أخذها بغير إذن من هي عليه وذكر القاضي بينهما وبين الدين فرقا آخر وهو أن نفقة الزوجة تسقط بفوات وقتها عند بعض أهل العلم ما لم يكن فرضها لها لو لم تأخذ حقها أفضى إلى سقوط والإضرار بها بخلاف الدين فإن لا يسقط عند أحد بترك المطالبة فلا يؤدي ترك الأخذ إلى الإسقاط (9/240)
فصل وقت وجوب نفقة الزوجة
فصل : يجب عليه دفع نفقتها إليها في صدر نهار كل يوم إذا طلعت الشمس لأنه أول وقت الحاجة فإن اتفقا على تأخيرها لأن الحق لها فإذا رضيت بتأخيره جاز كالدين وإن اتفقا على تعجيل نفقة عام أو شهر أو أقل من ذلك أو أكثر أو تأخيره جاز لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فجاز من تعجيله وتأخيره ما اتفقا عليه كالدين وليس بين أهل العلم في هذا خلاف علمناه فإن سلم إليها نفقة يوم ثم ماتت فيه لم يرجع عليها بها لأنه دفع إليها ما وجب عليه دفعه إليها وإن أبانها بعد وجوب الدفع إليها لم تسقط نفقتها فيه ولها مطالبته بها لأنها قد وجبت فلم تسقط بالطلاق كالدين وإن عجل لها نفقة شهر أو عام ثم طلقها أو ماتت قبل انقضائه أو بانت بفسخ أو إسلام أحدهما أو ردته فله أن يسترجع نفقة سائر الشهر وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن وقال أبو حنيفة و أبو يوسف : لا يسترجعها لأنها صلة فإذا قبضتها لم يكن له الرجوع فيها كصدقة التطوع
ولنا أنه سلم إليها النفقة سلفا عما يجب في الثاني فإذا وجد ما يمنع الوجوب ثبت الرجوع كما لو أسلفها إياها فنشزت أو عجل الزكاة إلى الساعي فتلف ماله قبل الحول وقولهم إنها صلة قلنا بل هي عوض عن التمكين وقد فات التمكين وذكر القاضي أن زوج الوثنية والمجوسية إذا دفع إليها نفقة سنتين ثم بانت بإسلامه فإن لم يكن أعلمها أنها نفقة عجلها لها لم يرجع عليها لأن الظاهر أنه تطوع بها وإن أعلمها ذلك انبنى على معجل الزكاة إذا أعلم الفقير أنها زكاة معجلة ثم تلف المال وفي الرجوع بها وجهان كذلك ههنا وكذلك ينبغي أن يكون في سائر الصور مثل هذا لأنه تبرع بدفع ما لا يلزمه من غير إعلام الآخر بتعجيله فلم يرجع به كمعجل الزكاة ولو سلم إليها نفقة اليوم فسرقت أو تلفت لم يلزمه عوضها لأنه بريء من الواجب بدفعه فأشبه ما لو تلفت الزكاة بعد قبض الساعي لها أو الدين بعد أخذ صاحبه له (9/241)
فصول تصرف الزوجة في النفقة والذمية كالمسلمة في النفقة
فصل : وإذا دفع إليها نفقتها فلها أن تتصرف فيها بما أحبت من الصدقة والهبة والمعاوضة ما لم يعد ذلك عليها بضرر في بدنها وضعف في جسمها لأنه حق لها فلها التصرف فيه بما شاءت كالمهر وليس لها التصرف فيها على وجه يضر بها لأن فيه تفويت حقه منها ونقصا في استمتاعه بها
فصل : وعليه دفع الكسوة إليها في كل عام مرة لأنها العادة ويكون الدفع إليها في أوله لأنه أول وقت الوجوب فإن بليت الكسوة في الوقت الذي يبلى فيه مثلها لزمه أن يدفع إليها كسوة أخرى لأن ذلك وقت الحاجة إليها وإن بليت قبل ذلك لكثرة دخولها وخروجها أو استعمالها لم يلزمه إبدالها لأنه ليس بوقت الحاجة إلى الكسوة في العرف وإن مضى الزمان الذي تبلى في مثله بالاستعمال المعتاد ولم تبل فهل يلزمه بدلها ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يلزمه بدلها لأنها غير محتاجة إلى الكسوة والثاني : يلزمه لأن الاعتبار بمضي الزمان دون حقيقة الحاجة بدليل أنها لو بليت قبل ذلك لم يلزمه بدلها ولو أهدي إليها كسوة لم تسقط كسوتها وإن أهدي إليها طعام فأكلته وبقي قوتها إلى الغد لم يسقط قوتها فيه وإن كساها ثم طلقها قبل أن تبلى فهل له أن يسترجعها ؟ فيه وجهان : أحدهما : له ذلك لأنه دفعها للزمان المستقبل فإذا طلقها قبل مضيه كان له استرجاعها كما لو دفع إليها نفقة مدة ثم طلقها قبل انقضائها والثاني : ليس له الاسترجاع لأنه دفع إليها الكسوة بعد وجوبها عليه فلم يكن له الرجوع فيها كما لو دفع إليها النفقة بعد وجوبها ثم طلقها قبل أكلها بخلاف النفقة المستقبلة
فصل : وإذا دفع إليها كسوتها فأرادت بيعها أو التصدق بها وكان ذلك يضر بها أو يخل بتجملها بها أو بسترها لم تملك ذلك كما لو أرادت الصدقة بقوتها على وجه يضر بها وإن لم يكن في ذلك ضرر احتمل الجواز لأنها تملكها فأشبهت النفقة واحتمل المنع لأن له استرجاعها لو طلقها في أحد الوجهين بخلاف النفقة
فصل : والذمية كالمسلمة في النفقة والمسكن والكسوة في قول عامة أهل العلم وبه يقول مالك و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي لعموم النصوص والمعنى (9/242)
مسألة قال فإذا منعها ولم تجد ما تأخذه
مسألة : قال : فإذا منعها ولم تجد ما تأخذه واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما
وجملته أن الرجل إذا منع امرأته النفقة لعسرته وعدم ما ينفقه فالمرأة مخيرة بين الصبر عليه وبين فراقه وروي ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن وعمر بن عبد العزيز و حماد و مالك و يحيى القطان و عبد الرحمن بن مهدي و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وذهب عطاء و الزهري و ابن شبرمة و أبو حنيفة وصاحباه إلى أنها لا تملك فراقه بذلك ولكن يرفع يده عنها لتكتسب لأنه حق لها عليه فلا يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين وقال العنبري : يحبس إلى أن ينفق
ولنا قول الله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكا بمعروف فيتعين التسريح وروى سعيد عن سفيان عن أبن أبي الزناد قال : سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته أيفرق بينهما ؟ قال نعم قال سنة ؟ قال سنة وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال ابن المنذر ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولأنه إذا ثبت الفسخ بالعجز عن الوطء والضرر فيه أقل لأنه إنما هو فقد لذة وشهوة يقوم البدن بدونه فلأن يثبت بالعجز عن النفقة التي لا يقوم البدن إلا بها أولى إذا ثبت هذا فإنه متى ثبت الإعسار بالنفقة على الإطلاق فللمرأة المطالبة بالفسخ من غير إنظار وهذا أحد قولي الشافعي وقال حماد بن أبي سليمان : يؤجل سنة قياسا على العنين وقال عمر بن عبد العزيز : اضربوا له شهرا أو شهرين وقال مالك : الشهر ونحوه وقال الشافعي قي القول الآخر : يؤجل ثلاثا لأنه قريب
ولنا ظاهر حديث عمر ولأنه معنى يثبت الفسخ ولم يرد الشرع بالإنظار فيه فوجب أن يثبت الفسخ في الحال كالعيب ولأن سبب الفسخ الإعسار وقد وجد فلا يلزم التأخير (9/244)
فصلان كيفية تحقق عشرة الزوج
فصل : وإن لم يجد النفقة إلا يوما بيوم فليس ذلك إعسارا يثبت به الفسخ لأن ذلك هو الواجب عليه وقد قدر عليه وإن وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره ما يعيشها لم يكن لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها وما يقوم به بدنها وإن كان صانعا يعمل في الأسبوع بما يبيعه في يوم بقدر كفايتها في الإسبوع كله لم يثبت الفسخ لأن هذا يحصل الكفاية في جميع زمانه وإن تعذر عليه الكسب في بعض زمانه أو تعذر البيع لم يثبت الفسخ لأنه يمكن الاقتراض إلى زوال العارض وحصول الاكتساب وإن عجز عن الاقتراض أياما يسيرة لم يثبت الفسخ لأن ذلك يزول عن قريب ولا يكاد يسلم منه كثير من الناس وإن مرض مرضا يرجى زواله في أيام يسيرة لم يفسخ لما ذكرناه وإن كان ذلك يطول فلها الفسخ لأن الضرر الغالب يلحقها ولا يمكنها الصبر وكذلك إن كان لا يجد من النفقة إلا يوما دون يوم فلها الفسخ لأنها لا يمكنها الصبر على هذا ويكون بمثابة من لا يجد إلا بعض القوت وإن أعسر ببعض نفقة المعسر ثبت لها الخيار لأن البدن لا يقوم بما دونها وإن أعسر بما زاد على نفقة المعسر فلا خيار لها لأن تلك الزيادة تسقط بإعساره ويمكن الصبر عنها ويقوم البدن بما دونها وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها خيار لما ذكرنا وكذلك إن أعسر بالأدم وإن أعسر بالكسوة فلها الفسخ لأن الكسوة لا بد منها ولا يمكن الصبر عنها ولا يقوم البدن بدونها وإن أعسر بأجرة مسكن ففيه وجهان : أحدهما : لها الخيار لأنه مما لا بد منه فهو كالنفقة والكسوة والثاني : لا خيار لها لأن البنية تقوم بدونه وهذا الوجه هو الذي ذكره القاضي وإن أعسر بالنفقة الماضية لم يكن لها الفسخ لأنها دين يقوم البدن بدونها فأشبهت سائر الديون
الحال الثاني : أن يمتنع من الإنفاق مع يساره فإن قدرت له على مال أخذت منه قدر حاجتها ولا خيار لها ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر هندا بالأخذ ولم يجعل لها الفسخ ] وإن لم رافعته إلى الحاكم فيأمره بالإنفاق ويجبره عليه فإن أبى حبسه فإن صبر على الحبس أخذ الحاكم النفقة من ماله فإن لم يجد عروضا أو عقارا باعها في ذلك وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو يوسف و محمد و أبو ثور وقال أبوحنيفة : النفقة في ماله من الدنانير والدارهم ولا يبيع عوضا إلا بتسليم لأن بيع مال الإنسان لا ينفذ إلا بإذنه أو إذن وليه ولا ولاية على الرشيد
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك ولم يفرق ولأن ذلك مال له فتؤخذ منه النفقة كالدراهم والدنانير وللحاكم ولاية عليه إذا امتنع بدليل ولايته على دراهمه ودنانيره ] وإن تعذرت النفقة في حال غيبته وله وكيل فحكم وكيله حكمه في المطالبة والأخذ من المال عند امتناعه وإن لم يكن له وكيل ولم تقدر المرأة على الأخذ أخذ لها الحاكم من ماله يجوز بيع عقاره وعروضه في ذلك إذا لم تجد ما تنفق سواه وينفق على المرأة يوما بيوم وبهذا قال الشافعي ويحيى بن آدم وقال أصحاب الرأي : يفرض لها في كل شهر
ولنا أن هذا تعجيل للنفقة قبل وجوبها فلم يجز كما لو عجل لها نفقة زيادة عن شهر
فصل : وإن غيب ماله وصبر على الحبس ولم يقدر الحاكم له على مال يأخذه أو لم يقدر على أخذ النفقة من مال الغائب فلها الخيار في الفسخ في ظاهر قول الخرقي واختيار أبي الخطاب واختار القاضي أنها لا تملك الفسخ وهو ظاهر مذهب الشافعي لأن الفسخ في المعسر لعيب الإعسار ولم يوجد ههنا ولأن الموسر في مظنة إمكان الأخذ من ماله وإذا امتنع في يوم فربما لا يمتنع في الغد بخلاف المعسر
ولنا أن عمر رضي الله عنه كتب في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا وهذا إجبار على الطلاق عند الامتناع من الإنفاق ولأن الإنفاق عليها من ماله يتعذر فكان لها الخيار كحال الإعسار بل هذا أولى بالفسخ فإنه إذا جاز الفسخ على المعذور فعلى غيره أولى ولأن في الصبر ضررا أمكن ازالته بالفسخ فوجبت إزالته ولأنه نوع تعذر يجوز الفسخ فلم يفترق الحال بين الموسر والمعسر كما إذا أدى ثمن المبيع فإنه لا فرق في جواز الفسخ بين أن يكون المشتري معسرا وبين أن يهرب قبل أداء الثمن وعيب الإعسار إنما جوز الفسخ لتعذر الإنفاق بدليل أنه لو اقترض ما ينفق عليها أو تبرع له إنسان بدفع ما ينفقه لم تملك الفسخ وقولهم إنه يحتمل أن ينفق فيما بعد هذا قلنا : وكذلك المعسر يحتمل أن يغنيه الله وإن يقترض أو يعطى ما ينفقه فاستويا (9/245)
فصل المقاصة بين النفقة الزوجية والدين
فصل : ومن وجبت عليه نفقة امرأته وكان له عليها دين فأراد أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها فإن كانت موسرة فله ذلك لأن من عليه حق فله أن يقضيه من أي أمواله شاء وهذا من ماله وإن كانت معسرة لم يكن له ذلك لأن قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوته ن هذا لا يفضل عنها ولأن الله تعالى أمر بإنظار المعسر بقوله سبحانه : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } فيجب إنظارها بما عليها (9/248)
فصل الفسخ لعدم النفقة إنما يكون بحكم حاكم
فصل : وكل موضع ثبت لها الفسخ لأجل النفقة لم يجز إلا بحكم الحاكم لأنه فسخ مختلف فيه فافتقر إلى الحاكم كالفسخ بالعنة ولا يجوز له التفريق إلا أن تطلب المرأة ذلك لأنه لحقها فلم يجز من غير طلبها كالفسخ للعنة فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخ لا رجعة له فيه وبهذا قال الشافعي و ابن المنذر وقال مالك : هو تطليقة وهو أحق بها إن أيسر في عدتها لأنه تفريق لامتناعه من الواجب عليه لها فأشبه تفريقه بين المولى وامرأته إذا امتنع من الفيئة والطلاق
ولنا أنها فرقة لعجزه عن الواجب لها عليه أشبهت فرقة العنة فأما إن أجبره الحاكم على الطلاق فطلق أقل من ثلاث فله الرجعة عليها ما دامت في العدة فإن راجعها وهو معسر أو امتنع من الإنفاق عليها ولم يمكن الأخذ من ماله فطلبت المرأة الفسخ فللحاكم الفسخ لأن المقتضى له باق أشبه ما قبل الطلاق (9/248)
فصلان رضا الزوجية بعدم الانفاق
فصل : وإن رضيت بالمقام معه مع عسرته أو ترك إنفاقه ثم بدا لها الفسخ أو تزوجت معسرا عالمة بحاله راضية بعسرته وترك إنفاقه أو شرك عليها أن لا ينفق عليها ثم عن لها الفسخ فلها ذلك وبهذا قال الشافعي وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد ليس لها الفسخ ويبطل خيارها في الموضعين وهو قول مالك لأنها رضيت بعيبه ودخلت في العقد عالمة به فلم تملك الفسخ كما لو تزوجت عنينا عالمة بعنته أو قالت بعد العقد : قد رضيت به عنينا
ولنا أن وجوب النفقة يتجدد في كل يوم فيتجدد لها الفسخ ولا يصح إسقاط حقها فيما لم يجب لها كإسقاط شفعتها قبل البيع ولذلك لو أسقطت النفقة المستقبلة لم تسقط ولو أسقطتها أو أسقطت المهر قبل النكاح لم يسقط وإذا لم يسقط وجوبها لم يسقط الفسخ الثابت به وإن أعسر بالمهر وقلنا لها الفسخ إعساره به فرضيت بالمقام لم يكن لها الفسخ لأن وجوبه لم يتجدد بخلاف النفقة ولو تزوجته عالمة بغعسار بالمهر راضية بذلك فينبغي أن لا تملك الفسخ بإعساره به لأنها رضيت بذلك في وقت لو أسقطته فيه سقط
فصل : إذا رضيت بالمقام مع ذلك لم يلزمها التمكين من الاستمتاع لأنه لم يسلم إليها عوضه فلم يلزمها تسليمه كما لو أعسر المشتري بثمن المبيع لم يجب تسليمه إليه وعليه تخلية سبيلها لتكتسب لها وتحصل ما تنفقه على نفسها لأن في حبسها بغير نفقة إضرارا بها ولو كانت موسرة لم يكن له حبسها لأنه إنما يملك حبسها إذا كفاها المؤنة وأغناها عما لا بد لها منه ولحاجته إلى الاستمتاع الواجب عليها فإذا انتفى الأمران لم يملك حبسها (9/249)
فصل ترك الانفاق الواجب مدة لا يسقط
فصل : ومن ترك الإنفاق الواجب لامرأته مدة لم يسقط بذلك وكان دينا في ذمته سواء تركه لعذر أو غير عذر في أظهر الروايتين وهذا قول الحسن و مالك و الشافعي و إسحاق و ابن المنذر والرواية الأخرى تسقط نفقتها ما لم يكن الحاكم قد فرضها لها وهذا مذهب أبي حنيفة لأنها نفقة تجب يوما فيوما فتسقط بتأخيرها إذا لم يفرضها الحاكم كنفقة الأقارب لأن نفقة الماضي قد استغني عنها بمضي وقتها فتسقط كنفقة الأقارب
ولنا أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم أن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى ولأنها حق يجب مع اليسار والإعسار فلم يسقط بمضي الزمان كأجرة العقار والديون قال ابن المنذر : هذه نفقة وجبت بالكتاب والسنة والإجماع ولا يزول ما وجب بهذه الحجج إلا بمثلها ولأنها عوض واجب فأشبهت الأجرة وفارق نفقة الأقارب فإنها صلة يعتبر فيها اليسار من المنفق والإعسار ممن تجب له وجبت لتزجية الحال فإذا مضى زمنها استغني عنها فأشبه لو استغنى عنها بيساره وهذه بخلاف ذلك إذا ثبت هذا فإنه إن ترك الإنفاق عليها مع يساره فعليه النفقة بكمالها وإن تركها لإعساره لم يلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزائد سقط بإعساره (9/250)
فصل ضمان النفقة
فصل : ويصح ضمان النفقة ما وجب منها وما يجب في المستقبل إذا قلنا إنها تثبت في الذمة وقال الشافعي : يصح ضمان ما وجب وفي ضمان المستقبل وجهان بناء على أن النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين ومبنى الخلاف على ضما ما لم يجب إذا كان مآله إلى الوجب فعندنا يصح وعندهم لا يصح وقد ذكرنا ذلك في باب الضمان (9/251)
فصل وإن أعسر بنفقة الخادم الخ
فصل : وإن أعسر بنفقة الخادم أو الأدم أو المسكن ثبت ذلك في ذمته وبهذا قال الشافعي وقال القاضي : لا يثبت لأنه من الزوائد فلم يثبت في ذمته كالزائد عن الواجب عليه
ولنا أنها نفقة تجب على سبيل العوض فتثبت في الذمة كالنفقة الواجبة للمرأة قوتا وفارق الزائد عن نفقة النعسر فإنه يسقط بالإعسار (9/251)
فصل إذا انفقت الزوجة المرأة على نفسها
فصل : وإذا أنفقت المرأة على نفسها من مال زوجها الغائب ثم بان أنه قد مات قبل إنفاقها حسب عليها ما أنفقته من ميراثها سواء أنفقته بنفسها أو بأمر الحاكم وبهذا قال أبو العالية ومحمد بن سيرين و الشافعي و ابن المنذر ولا أعلم عن غيرهم خلافهم لأنها أنفقت ما لا تستحق وإن فضل لها شيء فهو لها وإن فضل عليها شيء وكان لها صداق أو دين على زوجها حسب منه وإن لم يكن لها شيء من ذلك كان الفضل دينا عليها والله أعلم (9/252)
فصل حكم ما لو أعسر
فصل : وإن أعسر الزوج بالصداق ففيه ثلاثة أوجه أصحها : ليس لها الفسخ وهو اختيار ابن حامد والثاني : لها الفسخ وهو اختيار أبي بكر لأنه أعسر بالعوض فكان لها الرجوع في المعوض كما لو أعسر بثمن مبيعها والثالث : إن أعسر قبل الدخول فلها الفسخ كما لو أفلس المشتري والمبيع بحاله وإن كان بعد الدخول لم تملك الفسخ لأن المعقود عليه قد استوفي فأشبه ما لو أفلس المشتري بعد تلف المبيع أو بعضه
ولنا أنه دين فلم يفسخ النكاح للإعسار به كالنفقة الماضية ولأن تأخيره ليس فيه ضرر مجحف فأشبه نفقة الخادم والنفقة الماضية ولأنه لا نص فيه ولا يصح قياسه على الثمن في المبيع لأن الثمن كل مقصود البائع والعاجة تعجيله والصداق فضلة ونحلة ليس هو المقصوج في النكاح ولذلك لا يفسد النكاح بفساده ولا بترك ذكره والعادة تأخيره ولأن أكثر من يشتري بثمن حال يكون موسرا له وليس الأكثر أن من تزوج بمهر يكون موسرا به ولا يصح قياسه على النفقة لأن الضرورة لا تندفع إلا بها بخلاف الصداق فأشبه شيء به النفقة الماضية ولـ لشافعي نحو هذه الوجوه وإذا قلنا لها الفسخ للإعسار به فتزوجته عالمة بعسرته فلا خيار لها وجها واحدا لأنها رضيت به كذلك وكذلك إن علمت عسرته بعد العقد فرضيت بالمقام سقط حقها من الفسخ لأنها رضيت بإسقاط حقها بعد وجوبه فسقط كما لو رضيت بعيبه (9/252)
فصل نفقة الأمة المزوجة
فصل : ونفقة الأمة المزوجة حق لها ولسيدها لأن كل واحد منهما ينتفع بها ولكل واحد منهما طلبها إن امتنع الزوج من أدائها ولا يملك واحد منهما إسقاطها لأن في سقوطها بإسقاط أحدهما ضررا بالآخر وإن أعسر الزوج بها فلها الفسخ لأنه عجز عن نفقتها فملكت الفسخ كالحرة وإن لم تفسخ فقال القاضي لسيدها الفسخ لأن عليه ضررا في عدمها لما يتعلق بفواتها من فوات ملكه وتلفه فإن أنفق عليها سيدها محتسبا بالرجوع فله الرجوع بها على الزوج رضيت بذلك أو كرهت لأن الدين خالص حقه لا حق لها فيه وإنما تعلق حقها بالنفقة الحاضرة لوجوب صرفها إليها وقوام بدنها بها بخلاف الماضية وقال أبو الخطاب وأصحاب الشافعي : ليس لسيدها الفسخ لعسرة زوجها بالنفقة لأنها حق لها فلم يملك سيدها الفسخ دونها كالفسخ للعيب فإن كانت معتوهة أنفق المولى وتكون النفقة دينا في ذمة الزوج وإن كانت عاقلة قال لها السيد : إن أردت النفقة فافسخي النكاح وإلا فلا نفقة لك عندي (9/253)
فصلان الاختلاف بين الزوجين في نفقة المعتدة الحامل
فصل : وإن اختلف الزوجان في الإنفاق عليها أو في تقبيضها نفقتها فالقول قول المرأة لأنها منكرة والأصل معها وإن اختلفا في التمكين الموجب للنفقة أو في وقته فقالت كان ذلك من شهر فقال بل من يوم فالقول قوله لأنه منكر والأصل معه وإن اختلفا في يساره فادعته المرأة أو الزوج ليفرض لها نفقة الموسرين أو قالت كنت موسرا وأنكر ذلك فإن عرف له مال فالقول قولها وإلا فالقول قوله وبهذا كله قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي وإن اختلفا في فرض الحاكم للنفقة أو في وقتها فقال فرضها منذ شهر فقالت بل منذ عام فالقول قوله وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك : إن كان مقيما معها فالقول قوله وإن كان غائبا عنها فالقول قول المرأة من يوم رفعت أمرها إلى الحاكم
ولنا أن قوله يوافق الأصل فقدم كما لو كان مقيما معها وكل من قلنا القول قوله فلخصمه عليه اليمين لأنها دعاو في المال فأشبهت دعوى الدين ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ولكن اليمين على المدعى عليه ] وإن دفع الزوج إلى امرأته نفقة وكسوة أو بعث به إليها فقالت : إنما فعلت ذلك تبرعا وهبة وقال : بل وفاء للواجب علي فالقول قوله لأنه أعلم بنيته أشبه ما لو قضى دينه واختلفت هو وغريمه في نيته وإن طلق امرأته وكانت حاملا فوضعت فقال : طلقتك حاملا فانقضت عدتك بوضع الحمل وانقطعت نفقتك ورجعتك وقالت : بل بعد الوضع فلي النفقة ولك الرجعة فالقول قولها لأن الأصل بقاء النفقة وعدم المسقط لها وعليها العدة ولا رجعة للزوج لإقراره بعدمها وإن رجع فصدقها فله الرجعة لأنها مقرة له بها وإن قال طلقتك بعد الوضع فلي الرجعة ولك النفقة وقالت : بل وأنا حامل فالقول قوله لأن الأصل بقاء الرجعة ولا نفقة لها ولا عدة عليها لأنها حق الله تعالى فالقول قولها فيها وإن عاد فصدقها سقطت رجعته ووجبت لها النفقة هذا في ظاهر الحكم فأما فيما بينه وبين الله تعالى فينبني على ما يعلمه من حقيقة الأمر دون ما قاله
فصل : وإن طلق الرجل امرأته فادعت أنها حامل لتكون لها النفقة عليها ثلاثة أشهر ثم ترى القوابل بعد ذلك لأن الحمل يبين بعد ثلاثة أشهر إلا أن تظهر براءتها من الحمل بالحيض أو بغيره فتنقطع نفقتها كما تنقطع إذا قال القوابل : ليست حاملا ويرجع عليها بما أنفق لأنها أخذت منه ما لا تستحقه فرجع عليها كما لو ادعت عليه دينا وأخذته من ثم تبين كذبها
وعن أحمد رواية أخرى لا يرجع عليها لأنه أنفق عليها بحكم آثار النكاح فلم يرجع به كالنفقة في النكاح الفاسد إذا تبين فساده وإن علمت براءتها من الحمل بالحيض فكتمته فينبغي أن يرجع عليها قولا واحدا لأنها أخذت النفقة مع علمها ببراءتها كما لو أخذتها من ماله بغير علمه وإن ادعت الرجعية الحمل فأنفق عليها أكثر من مدة عدتها رجع عليها بالزيادة ويرجع في مدة العدة إليها لأنها أعلم بها فالقول قولها فيها مع يمينها فإن قال : قد ارتفع حيضي ولم أدر ما رفعه فعدتها سنة إن كانت حرة وإن قالت : قد انقضت بثلاثة قروء وذكرت آخرها فلها النفقة إلى ذلك ويرجع عليها بالزائد وإن قالت : لا أدري متى آخرها رجعنا إلى عادتها فحسبنا لها بها وإن قالت : عادتي تختلف فتطول وتقصر انقضت العدة بالأقصر لأنه اليقين وإن قالت : عادتي تختلف ولا أعلم رددناها إلى غالب عادات النساء في كل شهر قرء لأنا رددنا المتحيرة إلى ذلك في أحكامها فكذلك هذه وإن بان أنها حامل من غيره مثل أن تلده بعد أربع سنين فلا نفقة عليه لمدة حملها لأنه من غيره وإن كانت رجعية فلها النفقة في مدة عدتها فإن كانت انقضت قبل حملها فلها النفقة إلى انقضائها وإن حملت في أثناء عدتها فلها النفقة إلى الوطء الذي حملت ثم لا نفقة لها حتى تضع حملها ثم تكون لها النفقة في تمام عدتها وإن وطئها زوجها في العدة الرجعية حصلت الرجعة وإن قلنا لا تحصل فالنسب لا حق به وعليه النفقة لمدة حملها وإن وطئها بعد انقضاء عدتها أو وطىء البائن عالما بذلك وبتحريمه فهو زان لا يلحقه نسب الولد ولا نفقة عليه من أجله وإن جهل بينونتها أو انقضاء عدة الرجعية أو تحريم ذلك وهو ممن يجهله لحقه نسبه وفي وجوب النفقة عليه روايتان : (9/254)
مسألة وفصل حكم نفقة الأقارب
مسألة : قال : ويجبر الرجل على نفقة والديه وولده الذكور والإناث إذا كانوا فقراء وكان له ما ينفق عليهم
الأصل في وجوب نفقة الوالدين والمولدين الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } أوجب أجر رضاع الولد على أبيه وقال سبحانه : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقال سبحانه : { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما [ ومن السنة قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] متفق عليه
[ وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ] رواه أبو داود وأما الإجماع فحكى ابن المنذر قال : أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال الذين لا مال لهم ولأن ولد الإنسان بعضه وهو بعض والده فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك على بعضه وأصله
إذا ثبت هذا فإن الأم تجب نفقتها ويجب عليها أن تنفق على ولدها إذا لم يكن له أب وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و حكي عن مالك أنه لا نفقة عليها ولا لها لأنها ليست عصبة لولدها
ولنا قوله سبحانه : { وبالوالدين إحسانا } [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لرجل سأله من أبر ؟ قال : أمك ثم أمك ثم أمك أباك ثم الأقرب فالأقرب ] رواه أبو داود ولأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب ولأن بينهما قرابة توجب رد الشهادة ووجوب العتق فأشبهت الأب فإن أعسر الأب وجبت النفقة على الأم ولم ترجع بها عليه إن أيسر وقال أيو يوسف ومحمد : ترجع عليه ولنا أن من وجب عليه الإنفاق بالقرابة لم يرجع به كالأب
فصل : ويجب الإنفاق على الأجداد والجدات وإن علوا وولد الولد وإن سفلوا وبذلك قال الشافعي و الثوري و أصحاب الرأي وقال مالك : لا تجب النفقة عليهم ولا لهم لأن الجد ليس بأب حقيقي
ولنا قوله سبحانه : { وعلى الوارث مثل ذلك } ولأنه يدخل في مطلق اسم الولد والوالد بدليل أن الله تعالى قال : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } فيدخل فيهم ولد البنين وقال : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } وقال : { ملة أبيكم إبراهيم } ولأن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأشبه الولد والوالد القريبين (9/257)
فصول الشروط المعتبرة لوجوب الانفاق وأحكام اعفاف الأب ابنه وبالعكس
فصل : ويشترط لوجوب الإنفاق ثلاثة شروط أحدها : أن يكونوا فقراء لا مال لهم ولا كسب يستغنون به عن إنفاق غيرهم فإن كانوا موسرين بمال أو كسب يستغنون به فلا نفقة لهم لأنها تجب على سبيل المواساة والموسر مستغن عن المواساة
الثاني : أن تكون لمن تجب عليه النفقة ما ينفق عليهم فاضلا عن نفقة نفسه إما من ماله وإما من كسبه فأما من لا يفضل عنه شيء فليس عليه شيء لما [ روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه فإن فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى قرابته ] وفي لفظ : [ أبدأ بنفسك ثم بمن تعول ] حديث صحيح
[ وروى أبو هريرة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله عندي دينار قال : تصدق به على نفسك ـ قال عندي آخر قال : ـ تصدق به على ولدك ـ قال عندي آخر قا ل : ـ تصدق به على زوجك ـ قال عندي آخر قال : ـ تصدق به على خادمك ـ قال عندي آخر قال : ـ أنت أبصر ] رواه أبو داود ولأنها مواساة فلا تجب على المحتاج كالزكاة
الثالث : أن يكون المنفق وارثا لقول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } ولأن بين المتوارثين قرابة تقتضي كون الوارث أحق بمال الموروث من سائر الناس فينبغي أن يختص بوجوب صلته بالنفقة دونهم فإن لم يكن وارثا لعدم القرابة لم تجب عليه النفقة لذلك وإن امتنع الميراث مع وجود القرابة لم يخل من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يكون أحدهما رقيقا فلا نفقة لأحدهما على صاحبه بغير خلاف لأنه لا ولاية بينهما ولا إرث فأشبه الأجنبيين ولأن العبد لا مال له فتجب عليه النفقة وكسبه لسيده ونفقته على سيده فيتسغني بها عن نفقة غيره
الثاني : أن يكون دينهما مختلفا فلا نفقة لأحدهما على صاحبه وذكر القاضي في عمودي النسب روايتين : إحداهما : تجب النفقة مع اختلاف الدين وهو مذهب الشافعي لأنها نفقة تجب مع اتفاق الدين فتجب مع احتلافه كنفقة الزوجة والمملوكة ولأنه يعتق على قريبه فيجب عليه الإنفاق عليه كما لو اتفق دينهما
ولنا أنها مواساة على سبيل البر والصلة فلم تجب مع اختلاف الدين كنفقة غير عمودي النسب وأنهما غير متوارثين فلم يجب على الآخر نفقته بالقرابة كما لو كان أحدهما رقيقا وتفارق نفقة الزوجات لأنها عوض يجب مع الأعسار فلم ينافها اختلاف الدين كالصداق والأجرة وكذلك تجب مع الرق فيهما أو في أحدهما وكذلك نفقة المماليك والعتق عليه يبطل بسائر ذوي الرحم المحرم فإنهم يعتقون مع اختلاف الدين ولا نفقة لهم معه ولأن هذه صلة ومواساة فلا تجب مع اختلاف الدين كأداء زكاته إليه وعقله عنه وإرثه منه
الثالث : أن يكون القريب محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه فينظر فإن كان الأقرب موسرا فالنفقة عليه ولا شيء على المحجوب به لأن الأقرب أولى بالميراث منه فيكون أولى بالإنفاق وإن كان الأقرب معسرا وكان من ينفق عليه من عمودي النسب وجبت نفقته على الموسر ذكر القاضي في اب معسر وجد موسر أن النفقة على الجد وقال في أم معسرة وجدة موسرة : النفقة على الجدة وقد قال أحمد : [ لا يدفع الزكاة إلى ولد ابنته لقول النبي صلى الله عليه و سلم : إن ابني هذا سيد ] فسماه ابنه وهو ابن ابنته وإذا منع من دفع الزكاة إليهم لقرابتهم يجب أن تلزمه نفقتهم عند حاجتهم وهذا مذهب الشافعي وإن كان من غير عمودي النسب لم تجب النفقة عليه إذا كان محجوبا قال القاضي وأبو الخطاب في ابن فقير وأخ موسر : لا نفقة عليهما لأن الابن لا نفقة عليه لعسرته والأخ لا نفقة عليه لعدم إرثه ولأن قرابته ضعيفة لا تمنع شهادته له فإذا لم يكن وارثا لم تجب عليه النفقة كذوي الرحم ويتخرج في كل وارث لولا الحجب إذا كان من يحجبه معسرا وجهان :
أحدهما : لا نفقة عليه لأنه ليس بوارث أشبه الأجنبي والثاني : عليه النفقة لوجود القرابة المقتضية للإرث والإنفاق والمانع من الإرث لا يمنع من الإنفاق لأنه معسر لا يمكنه الإنفاق فوجوده بالنسبة إلى الإنفاق كعدمه
فصل : فأما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب فإن كانوا من غير عمودي النسب فلا نفقة عليهم نص عليه أحمد فقال : الخالة والعمة لا نفقة عليهما قال القاضي : لا نفقة لهم رواية واحدة وذلك لأن قرابتهم ضعيفة وإنما يأخذون ماله عند عدم الوارث فهم كسائر المسليمن فإن المال يصرف إليهم إذا لم يكن للميت وارث وذلك الذي ياخذه بيت المال ولذلك يقدم الرد عليهم وقال أبو الخطاب : يخرج فيهم رواية أخرى أن النفقة تلزمهم عند عدم العصبات وذوي الفروض لأنهم وارثون في تلك الحال قال ابن أبي موسى : هذا يتوجه على معنى قوله والأول هو المنصوص عنه فأما عمود النسب فذكر القاضي ما يدل على أنه يجب الإنفاق عليهم سواء كانوا من ذوي الأرحام كأب الأم وابن البنت أو من غيرهم وسواء كانوا محجوبين أو وارثين وهذا مذهب الشافعي وذلك لأن قرابتهم قرابة جزئية وبعضيه وتقتضي رد الشهادة تمنع جريان القصاص على الوالد بقتل الولد وإن سفل فأوجبت النفقة على كل حال كقرابة الأب الأدنى
فصل : ولا يشترط في وجوب نفقة الوالدين والمولودين نقص الخلقة ولا نقص الأحكام في ظاهر المذهب وظاهر كلام الخرقي فإنه أوجب نفقتهم مطلقا إذا كانوا فقراء وله ما ينفق عليهم وقال القاضي : لا يشترط في الوالدين وهل يشترط ذلك في الولد ؟ فكلام أحمد يقتضي روايتين إحداهما : تلزمه نفقته لأنه فقير والثانية : إن كان يكتسب فينفق على نفسه لم تلزم نفقته وهذا القول يرجع إلى أن الذي لا يقدر على كسب ما يقوم به تلزم نفقته رواية واحدة سواء كان ناقص الأحكام كالصغير والمجنون أو ناقص الخلقة كالزمن وإنما الروايتان فيمن لا حرفة له ممن يقدر على الكسب ببدنه وقال الشافعي : يشترط نقصانه إما من طريق الحكم أو من طريق الخلقة وقال أبو حينفة : ينفق على الغلام حتى يبلغ فإذا بلغ صحيحا انقطعت نفقته ولا تسقط نفقة الجارية حتى تتزوج ونحوه قال مالك إلا أنه قال ينفق على النساء حتى يتزوجن ويدخل بهن الأزواج ثم لا نفقة لهن وإن طلقن ولو طلقن قبل البناء بهن فهن على نفقتهن
[ ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] لم يستثن منهم بالغا صحيحا ولأنه والد أو ولد فقير فاستحق النفقة على والده أو ولده الغني كما لو كان زمنا أو مكفوفا فأما الوالد فإن ابا حنيفة وافقنا على وجوب نفقته صحيحا إذا لم يكن ذا كسب ولـ لشافعي في ذلك قولان ولنا أنه والد محتاج فأشبه الزمن
فصل : ومن كان له أب من أهل الإنفاق لم تجب نفقته على سواه لأن الله تعالى قال : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقا ل : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } [ وقال النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فجعل النفقة على أبيهم دونها ولا خلاف في هذا نعلمه إلا أن لأصحاب الشافعي فيما إذا اجتمع للفقير أب وابن موسران وجيهن : أحدهما : أن النفقة على الأب وحده والثاني : عليهما جميعا لتساويهما في القرب
ولنا أن النفقة عى الأب منصوص عليها فيجب اتباع النص وترك ما عداه
فصل : ويلزم الرجل إعفاف ابنه إذا احتاج إلى النكاح وهذا ظاهر مذهب الشافعي ولهم في إعفاف الأب الصحيح وجه آخر أنه لا يجب وقال أبو حينفة : لا يلزم الرجل إعفاف أبيه سواء وجبت نفقته أو لم تجب لأن ذلك من أعظم الملاد فلم تجب للأب كالحلواء ولأنه أحد الأبوين فلم يجب ذلك له كالأم
ولنا أن ذلك مما تدعو حاجته إليه ويستضر بفقده فلزم ابنه له كالنفقة ولا يشبه الحلواء لأنه لا يستضر بفقدها وإنما يشبه الطعام والأدم وأما الأم فإنما إعفافها بتزويجها إذا طلبت وخطبها كفؤها ونحن نقول بوجوب ذلك عليه وهم يوافقوننا في ذلك إذا ثبت هذا فإنه يجب إعفاف من لزمت نفقته من الآباء والأجداد فإن اجتمع جدان ولم يمكن إلا إعفاف أحدهما قدم الأقرب إلا أن يكون أحدهما من جهة الأب والآخر من جهة الأم فيقدم الذي من جهة الأب وإن بعد لأنه عصبة والشرع قد اعتبر جهته من التوريث والتعصيب فكذلك في الإنفاق والاستحقاق
فصل : وإذا وجب عليه إعفاف أبيه فهو مخير أن شاء زوجة حرة وإن شاء ملكه أمة أو دفع إليه ما يتزوج به حرة أو يشتري به أمة وليس للأب التخيير عليه إلا أن الأب إذا عين امرأة وعين الابن أخرى وصداقهما واحد قدم تعيين الأب لأن النكاح له والمؤنة واحدة فقدم قوله كما لو عينت البنت كفؤا وعين الأب كفؤا يقدم بتعيينها وإن اختلفا في الصداق لم يلزم الابن الأكثر لأنه إنما يلزم أقل ما تحصل به الكفاية ولكن ليس له أن يزوجه أو يملكه قبيحة أو كبيرة لا استمتاع فيها وليس له أن يزوجه أمى لأن فيه ضررا عليه وهو إرقاق ولده والنقص في استمتاعه وإن رضي الأب بذلك لم يجز لأن الضرر يلحق بغيره وهو الولد ولذلك لم يكن للموسر أن يتزوج أمة وإذا زوجة زوجة أو ملكة أمة فعليه نفقته ونفقتها ومتى أيسر الأب لم يكن للولد استرجاع ما دفعها إليه ولا عوص ما زوجه به لأنه دفعه إليه في حال وجوبه عليه فلم يملك استرجاعه كالزكاة وإن زوجه أو ملكه أمة فطلق الزوجة أو أعتق الأمة لم يكن عليه أن يزوجه أو يملكه ثانيا لأنه فوت ذلك على نفسه وإن ماتتا فعليه إعفافه ثانيا لأنه لا صنع له في ذلك
فصل : قال أصحابنا : وعلى الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجا إلى إعفافه وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعضهم : لا يجب ذلك عليه ولنا أنه من عمودي نسبه وتلزمه نفقته فيلزمه إعفافه عند حاجته إليه كأبيه قال القاضي : وكذلك يجيء في كل من لزمته نفقته من أخ وعم أو غيرهم لأن أحمد قد نص في العبد يلزمه أن يزوجه إذا طلب ذلك وإلا بيع عليه وكل من لزمه إعفافه لزمته نفقة زوجته لأنه لا يتمكن من الإعفاف إلا بذلك وقد روي عن أحمد أنه لا يلزم الأب نفقة زوجة الابن وهذا محمول على أن الابن كان يجد نفقتها (9/258)
مسألة احكام نفقة الصبي المرضع الذي لا أب له ولا جد
مسألة : قال : وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب أجبر وارثه على نفقته على قدر ميراثهم منه
ظاهر المذهب أن النفقة تجب على كل وارث لموروثه إذا اجتمعت الشروط التي تقدم ذكرنا لها وبه قال الحسن و مجاهد و النخعي و قتادة و الحسن بن صالح و ابن أبي ليلى و أبو ثور وحكى ابن المنذر عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له ولا جد : نفقة وأجر رضاعه على الرجال دون النساء وكذلك روى أبو بكر بن محمد عن أبيه عن أحمد : النفقة على العصبات وبه قال الأوزاعي و إسحاق وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى على بني عم منفوس بنفقته احتج به أحمد وقال ابن المنذر : روي عن عمر أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء ولأنها مواساة ومعونة تختص القرابة فاختصت بالعصبات كالعقل وقال أصحاب الرأي : تجب النفقة على كل ذي رحم محرم ولا تجب على غيرهم لقول الله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وقال مالك و الشافعي و ابن المنذر : [ لا نفقة إلا على المولودين والوالدين لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل سأله عندي دينار قال : أنفقه على نفسك ـ قال عندي آخر ؟ قال ـ أنفقه على أهلك ـ قال عندي آخر قال ـ أنفقه على خادمك ـ قال عندي آخر ؟ قال ـ أنت أعلم به ] ولم يأمره بإنفاقه على غير هؤلاء ولأن الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها فلا يصح قياسه عليهم
ولنا قول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ثم قال : { وعلى الوارث مثل ذلك } فأوجب على الأب نفقة الرضاع ثم عطف الوارث عليه فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد
[ وروى أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم من أبر ؟ قال : أمك وأباك وأختك وأخاك ] وفي لفظ : [ ومولاك الذي هو أدناك حقا ورحما موصولا ] رواه أبو داود وهذا نص لأن النبي صلى الله عليه و سلم ألزمه الصلة والبر والنفقة من الصلة جعلها حقا واجبا وما احتج به أبو حنيفة حجة عليه فإن اللفظ عام في كل ذي رحم فيكون حجة عليه فيمن عدا ذا الرحم المحرم وقد اختصت بالوارث في الإرث فكذلك في الإنفاق وأما خبر أصحاب الشافعي فقضية في عين يحتمل أنه لم يكن له غير من أمر بالإنفاق عليه ولهذا لم يذكر الوالد والأجداد وأولاد الأولاد وقولهم لا يصح القياس قلنا إنما أثبتناه بالنص ثم أنهم قد ألحقوا أولاد بالأولاد مع التفاوت فبطل ما قالوه إذا ثبت هذا فإنه يختص بالوارث بفرض أو تعصيب لعموم الآية ولايتناول ذوي الأرحام على ما مضى بيانه فإن كان اثنان يرث أحدهما الآخر ولا يرثه الآخر كالرجل مع عمته أو ابنة عمه وابنة أخيه والمرأة مع ابنة بنتها وابن بنتها فالنفقة على الوارث دون الموروث نص عليه أحمد في رواية ابن زياد فقال : يلزم الرجل نفقة عمته ولا يلزمه نفقة بنت أخيه وذكر أصحابنا رواية أخرى : لا تجب النفقة على الوارث ههنا لقول أحمد : العمة والخالة لا نفقة لهما إلا أن القاضي قال : هذه الرواية محمولة على العمة من الأم فإنه لايرثها لكونه ابن أخيها من أمها وقد ذكر الخرقي أن على الرجل نفقة معتقه لأنه وارثه ن ومعلوم أن المعتق لا يرث معتقه ولا تلزمه نفقته فعلى هذا يلزم الرجل نفقة عمته لأبويه أو لأبيه وابنة عمه وابنة أخيه كذلك ولا يلزمهن نفقته وهذا هو الصحيح إن شاء الله لقول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } وكل واحد من هؤلاء وارث (9/265)
مسألة وفصل قال فإن كان للصبي أم وجد
مسألة : قال : فإن كان للصبي أم وجد فعلى الأم ثلث النفقة وعلى الجد ثلثا النفقة
وجملته أنه إذا لم يكن للصبي أب فالنفقة على وارثه فإن كان له وارثان فالنفقة عليهما على قدر إرثهما منه وإن كانوا ثلاثة أو أكثر فالنفقة بينهم على قدر إرثهم منه فإذا كان له أم وجد فعلى الأم الثلث والباقي على الجد لأنهما يرثان كذلك وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : النفقة كلها على الجد لأنه ينفرد بالتعصيب فأشبه الأب وقد ذكرنا رواية أخرى عن أحمد أن النفقة على العصبات خاصة
ولنا قول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } والأم وارثه فكان عليها بالنص ولأنه معنى يستحق بالنسب فلم يختص به الجد دون الأم كالوراثة
فصل : وإن اجتمع ابن وبنت فالنفقة بينهما أثلاثا كالميراث وقال أبو حنيفة : النفقة عليهما سواء لأنهما سواء في القرب وإن كان أم وابن فعلى الأم السدس والباقي على الابن وإن كانت بنت وابن ابن فالنفقة بينهما نصفين وقال أبو حنيفة : النفقة على البنت لأنها أقرب وقال الشافعي في هذه المسائل الثلاث : النفقة على الابن لأنه العصبة وإن كانت له أم وبنت فالنفقة بينهما أرباعا لأنهما يرثانه كذلك وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : النفقة على البنت لأنها تكون عصبة مع أخيها وإن كانت له بنت وابن بنت فالنفقة على البنت وقال أصحاب الشافعي في احد الوجهين : النفقة على ابن البنت لأنه ذكر
ولنا قول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } فرتب النفقة على الإرث فيجب أن تترب في المقدار عليه وإيجابها على ابن البنت بخلاف النص والمعنى فإنه ليس بعصبة ولا وارث فلا معنى لإيجابها عليه دون البنت الوارثة (9/268)
مسألة قال فإن كانت جدة وأخا
مسألة : قال : فإن كانت جدة وأخا فعلى الجدة سدس النفقة والباقي على الأخ وعلى هذا المعنى حساب النفقات
يعني أن ترتيب النفقات على ترتيب الميراث فكما أن للجدة ههنا سدس الميراث فعليها سدس النفقة وكما أن الباقي للأخ فكذلك الباقي من النفقة عليه وعند من لا يرى النفقة على غير عمودي النسب يجعل النفقة كلها على الجدة وهذا أصل قد سبق الكلام فيه فإن اجتمع بنت وأخت أو بنت وأخ أو بنت وعصبة أو أخت وعصبة أو أخت وأم أو بنت وبنت ابن أو أخت لأبوين وأخت لأب أو ثلاث أخوات متفرقات فالنفقة بينهم على قدر الميراث في ذلك سواء كان في المسألة رد أو عول أو لم يكن وعلى هذا تحسب ما أتاك من المسائل وإن اجتمع أم أم وأم أب فهما سواء في النفقة لاستوائهما في الميراث (9/269)
فصول فيمن تجب عليه النفقة وقدر ما يجب وفروع أخرى
فصل : فإن اجتمع أبوا أم فالنفقة على أم الأم لأنها الوارثة وإن اجتمع أبوا أب فعلى أم الأب السدس والباقي على الجد وإن اجتمع جد وأخ فهما سواء وإن اجتمعت أم وأخ وجد فالنفقة بينهم أثلاثا وقال الشافعي : النفقة على الجد في هذه المسائل كلها إلا المسألة الأولى فالنفقة عليهما بالسوية وقد مضى الكلام على أصل هذا فيما تقدم
فصل : فإن كان فيمن عليه النفقة خنثى مشكل فالنفقة عليه بقدر ميراثه فإن انكشف بعد ذلك حاله فبان أنه أنفق أكثر من الواجب عله رجع بالزيادة على شريكه في الإنفاق وإن بان أنه أنفق أقل رجع عليه فلو كان للرجل ابن وولد خنثى عليهما نفقته فأنفقا عليه ثم بان أن الخنثى ابن رجع عليه أخوة بالزيادة وإن بان بنتا رجعت على أخيها بفضل نفقتها لأن له الفضل أدى ما لا يجب عليه أداؤه معتقدا وجوبه فإذا تبين خلافه رجع ذلك كما لو أدى ما يعتقده دينا فبان بخلافه
فصل : فإن كان له قرابتان موسران واحدهما محجوب عن ميراثه بفقير فقد ذكرنا أنه إن كان المحجوب من عمودي النسب فالظاهر أن الحجب لا يسقط النفقة عنه وإن كان من غيرهما فلا نفقة عليه فعلى هذا إذا كان له أبوان وجد والأب معسر كان الأب كالمعدوم فيكون على الأم ثلث النفقة والباقي على الجد وإن كان معهم زوجة فكذلك وإن قلنا لا نفقة على المحجوب فليس على الأم ههنا إلا ربع النفقة ولا شيء على الجد وإن كان أبوان وأخوان وجد والأب معسر فلا شيء على الأخوين لأنهما محجوبان وليسا من عمودي النسب ويكون على الأم الثلث والباقي على الجد كما لو لم يكن أحد غيرهما ويحتمل ان لا يجب على الأك إلا السدس لأنه لو كان الأب معدوما لم ترث إلا السدس وإن قلنا : إن كل محجوب لا نفقة عليه فليس على الأم إلا السدس ولا شيء على غيرها وإن لم يكن في المسألة جد فالنفقة كلها على الأم على القول الأول وعلى الثاني ليس عليها إلا السدس وإن قلنا إن على المحجوب بالمعسر النفقة وإن كان من غير عمودي النسب فعلى الأم السدس والباقي على الجد والأخوين أثلاثا كما يرثون إذا كان الأب معدوما وإن كان بعض من عليه النفقة غائبا وله مال حاضر أنفق الحاكم منه حصته وإن لم يوجد له مال حاضر فأمكن الحاكم الاقتراض عليه اقتراض فإذا قدم فعليه وفاؤه
فصل : ومن لم يفضل عن قوته إلا نفقة شخص وله امرأة فالنفقة لها دون الأقارب ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم في حديث جابر : إذا كان أحدكم فقيرا فيبدأ بنفسه فإن كان له فضل فعلى عياله فإن كان له فضل فعلى قرابته ] ولأن نفقة القريب مواساة ونفقة المرأة تجب على سبيل المعاوضة فقدمت على مجرد المواساة ولذلك وجبت مع يسارهما وإعسارهما ونفقة القريب بخلاف ذلك ولأن نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القرابة كنفقة نفسه ثم من بعدها نفقة الرقيق لأنها تجب مع اليسار والإعسار فقدمت على مجرد المواساة ثم من بعد ذلك الأقرب فالأقرب فإن اجتمع أب وجد وابن وابن ابن قدم الأب على الجد والابن على ابنه وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين : يستوي الأب والجد والابن وابنه لتساويهم في الولادة والتعصيب
ولنا أن الأب والابن أقرب وأحق بميراثه فكانا أحق كالأب مع الأخ وإن اجتمع ابن وجد أو أب وابن ابن احتمل وجهين : أحدهما : تقديم الابن والأب لأنهما أقرب فإنهما يليانه واسطة ولا يسقط إرثهما بحال والجد وابن الابن بخلافهما ويحتمل التسوية بينهما لأنهما سواء في الإرث والتعصيب والولادة وإن اجتمع جد وابن ابن فهما سواء لتساويهما في القرب والإرث والولادة والتعصيب ويحتمل فيهما ما يحتمل في الأب والابن على ما سنذكره
فصل : وإن اجتمع أب وابن فقال القاضي : إن كان الابن صغيرا أو مجنونا قدم لأن نفقتة وجبت بالنص مع أنه عاجز عن الكسب والأب قد يقدر عليه وإن كان الابن كبيرا والأب زمن فهو أحق لأن حرمته آكد وحاجته أشد ويحتلم تقديم الابن لأن نفقته وجبت بالنص وإن كانا صحيحين فقيرين ففيهما ثلاثة أوجه :
أحدها : التسوية بينهما لتساويهما في القرب وتقابل مرتبتهما والثاني : تقديم الابن لوجوب نفقته بالنص والثالث : تقديم الأب لتأكد حرمته وإن اجتمع أبوان ففيهما الوجوه الثلاثة : أحدها : التسوية لما ذكرنا والثاني : تقديم الأم لأنها أحق بالبر ولها فضيلة الحمل والرضاع والتربية وزيادة الشفقة وهي أضعف وأعجز والثالث : تقديم الأب لفضيلته وانفراده بالولاية على ولده واستحقاق الأخذ من ماله وإضافة النبي صلى الله عليه و سلم الولد وماله إليه بقوله : [ أنت ومالك لأبيك ] والأول أولى وإن اجتمع جد وأخ احتمل التسوية بينهما لاستوائهما في استحقاق ميراثه والصحيح أن الجد أحق لأنه له مزية الولادة والأبوة ولأن ابن ابنه يرثه ميراث ابن ويرث الأخ ميراث أخ وميراث الابن آكد فالنفقة الواجبة به تكون آكد وإن كان مكان الأخ ابن أخ أو عم فالجد أولى بكل حال
فصل : والواجب في نفقة القريب قدر الكفاية من الخبز والأدم والكسوة بقدر العادة على ما ذكرناه في الزوجة لأنها وجبت للحاجة فتقرت بما تندفع به الحاجة وقد [ قال النبي صلى الله عليه و سلم لهند : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية فإن احتاج إلى خادم فعليه إخدامه كما قلنا في الزوجة لأن ذلك من تمام كفايته (9/270)
مسائل وفصول أحكام نفقة المعتق والأمة المزوجة ونفقة الولد من الأمة ونفقة ولد المكاتبة والمكاتب
مسألة : قال : وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا لأنه وارثه
هذا مبني على الأصل الذي تقدم وإن النفقة تجب على الوارث والمعتق وارث عتيقه فتجب عليه نفقته إذا كان فقيرا ولمولاه يسار ينفق عليه منه وقال مالك و الشافعي وأصحاب الرأي : لا تجب عليه نفقة بناء على أصولهم التي ذكرناها
ولنا قول الله تعالى : { وعلى الوارث مثل ذلك } وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك ومولاك الذي يلي ذاك حقا واجبا ورحما موصولا ] ولأنه يرثه بالتعصيب فكانت عليه نفقته كالأب ويشترط في وجوب الإنفاق عليه لشروط المذكورة في غيره
فصل : فإن مات مولاه فالنفقة على الوارث من عصباته على ما بين في باب الولاء ويجب على السيد نفقة أولاد عتيقه إذا كان له عليهم ولاء لأنه عصبتهم ووارثهم وعليه نفقة أولاد معتقه إذا كان أبوهم عبدا كذلك فإن أعتق أبوهم فانجز الولاء إلى معتقه صار ولاؤهم لمعتق أبيهم ونفقتهم عليه إذا كملت الشروط وليس على المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا لأنه لا يرثه فإن كان كل واحد منهما مولى صاحبه مثل أن يعتق الحربي عبدا ثم يسبي العبد سيده فيتعقه فعلى كل واحد منهما نفقة الآخر لأنه يرثه
مسألة : قال : وإذا زوجت الأمة لزم زوجها أو سيده إن كان مملوكا نفقتها
وجملته أن زوج الأمة لا يخلو إما أن يكون حرا أو عبدا أو بعضه حر وبعضه عبد فإن كان حرا فنفقتها عليه للنص واتفاق أهل العلم على وجوب نفقه الزوجات على أزواجهن البالغين والأمة داخلة في عمومهن ولأنها زوجة ممكنة من نفسها فوجب على زوجها نفقتها كالحرة وإن كان زوجها مملوكا فالنفقة واجبة لزوجته لذلك وقال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن على العبد نفقة زوجته هذا قول الشعبي و الحكم و الشافعي وبه قال أصحاب الرأي إذا بوأها بيتا وحكي عن مالك أنه قال : ليس عليه نفقتها لأن النفقة مواساة وليس هو من أهلها ولذلك لا تجب عليه نفقة أقاربه ولا زكاة ماله
ولنا أنها عوض واجب في النكاح فوجبت على العبد كالمهر والدليل على أنها عوض انها تجب في مقابلة التمكين ولهذا تسقط عن الحر بفوات التمكين وفارق نفقة الأقارب إذا ثبت وجوبها على العبد فإنها تلزم سيده لأن السيد أذن له في النكاح المفضي إلى إيجابها وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى أنها تجب في كسب العبد وهو قول أصحاب الشافعي لأنه لم يمكن إيجابها في ذمته ولا رقبته ولا ذمة سيده ولا إسقاطها فلم يبق إلا أن تتعلق بكسبه وقال القاضي : تتعلق برقبته لأن الوطء في النكاح بمنزلة الجناية وأرش جناية العبد يتعلق برقبته يباع فيها أو يفديه سيده وهذا قول أصحاب الرأي
ولنا أنه دين أذن السيد فيه فلزم ذمته كالذي استدانه وكيله وقولهم إنه في مقابلة الوطء غير صحيح فإنه يجب من غير وطء ويجب للرتقاء والحائض والنفساء وزوجة المجبوب والصغير وإنما يجب بالتمكين وليس ذلك بجناية ولا قائم مقامها وقول من قال : إنه تعذر إيجابه في ذمة السيد غير صحيح فإنه لا مانع من إيجابه وقد ذكرنا وجود مقتضيه فلا معنى لدعوى التعذر
مسألة : قال : وإن كانت أمة تأوي بالليل عند الزوج وبالنهار عند المولى أنفق كل واحد منهما مدة مقامها عنده
هذه المسألة قد تقدمت وذكرنا أن النفقة في مقابلة التمكين وقد وجد منها في الليل فتجب على الزوج النفقة فيه والباقي منها على السيد بحكم أنها مملوكته لم تجب لها نفقة على غيره في هذا الزمن فيكون على هذا على كل واحد منهما نصف النفقة وهذا أحد قولي الشافعي وقال في الآخر : لا نفقة لها على الزوج لأنها لم تمكن من نفسها في جميع الزمان فلم يجب لها شيء من النفقة كالحرة إذا بذلت نفسها في أحد الزمانين دون الآخر
ولنا أنه وجد التمكين الواجب بعقد النكاح فاستحقت النفقة كالحرة إذا مكنت من نفسها في غير أوقات الصلوات المفروضات والصوم الواجب والحج المفروض وفارق الحرة إذا امتنعت في أحد الزمانين فإنها لم تبذل الواجب فتكون ناشزا وهذه ليست ناشزا ولا عاصية
مسألة : قال : فإن كان لها ولد لم تلزمه نفقة ولده حرا كان أو عبدا ونفقتهم على سيدهم
يعني الأمة ليس على زوجها نفقة ولده منها وإن كان حرا لأن ولد الأمة عبد لسيدها فإن الولد يتبع أمه في الرق والحرية فتكون نفقتهم على سيدهم دون أبيهم فإن العبد أخص بسيده من أبيه ولذلك لا ولاية بينه وبين أبيه ولا ميراث ولا إنفاق وكل ذلك للسيد وقد رويت عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أن ولد العربي يكون حرا وعلى أبيه فداؤه فعلى هذا تكون نفقتهم عليه ولو أعتق الولد سيده أو علق عتقه بولادته أو تزوج الأمة على أنه حرة فولده منها أحرار وعلى أبيهم نفقتهم في هذه المواضع كلها إذا كان حرا وتحققت فيه شرائط الإنفاق
فصل : وإذا طلق الأمة طلاقا رجعيا فلها النفقة في العدة لأنها زوجة وإن أبانها وهي حائل فلا نفقة لها لأنها لو كانت حرة لم يكن لها نفقة فالأمة أولى وإن كانت حاملا فلها النفقة لقوله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } نص على هذا أحمد وبه قال إسحاق وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله في نفقة الحامل روايتان : هل هي للحمل أو للحامل بسببه ؟ احداهما : هي للحمل فعلى هذا لا تجب للمملوكة الحامل البائن نفقة لأن الحمل مملوك لسيدها فنفقته عليه ولـ لشافعي في هذا قولان كالروايتين
فصل : وإن طلق العبد زوجته الحالم طلاقا بائنا على وجوب النفقة على الروايتين في النفقة هل هي للحمل أو للحامل ؟ فإن قلنا : هي للحمل فلا نفقة على العبد وبه قال مالك وروي ذلك عن الشعبي لأنه لا تجب عليه نفقة ولده وإن قلنا هي للحامل بسببه وجبت لها النفقة وهذا قول الأوزاعي لأن الله تعالى قال : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ولأنها حامل فوجبت لها النفقة كما لو كان زوجها حرا
فصل : والمعتق بعضه عليه من نفقة امرأته بقدر ما فيه من الحرية وباقيها على سيده أو في ضريبته أو في رقبته على ما ذكرنا في العبد والقدر الذي يجب عليه بالحرية يعتبر فيه حاله إن كان موسرا فنفقة الموسرين وإن كان معسرا فنفقة المعسرين والباقي تجب فيه نفقة المعسرين لأن النفقة مما يتبعض وما يتبعض بعضناه في حق المعتق بعضه كالميراث والديات وما لا يتبعض فهو فيه كالعبد لأن الحرية إما شرط فيه أو سبب له فلم يكمل وهذا اختيار المزني وقال الشافعي : حكمه حكم القن في الجميع إلحاقا لأحد الحكمين بالآخر
ولنا أنه يملك بنصفه الحر ملكا تاما ولهذا يورث عنه ويكفر بالإطعام ويجب فيه نصف دية الحر فوجب أن تتبعض نفقته لأنها من جملة الأحكام القابلة للتبعيض فأما نفقة أقاربه فيلزمه منها بقدر ميراثه لأن النفقة تنبني على الميراث وعند المزني تلزمه كلها لأنها لا تتبعض وعند الشافعي لا يلزمه شيء لأن حكمه حكم العبيد وقد سبق الكلام في هذا
مسألة : قال : وليس على العبد نفقة ولده حرة كانت الزوجة أو أمة
أما إذا كانت زوجة العبد حرة فولدها أحرار لأن الولد يتبع الأم في الرق والحرية وليس على العبد نفقة أقاربه الأحرار لأن نفقتهم تجب على سبيل المواساة وليس هذا من أهلها وأما إذا كانت زوجته مملوكة فولدها عبيد لسيدها لأنهم يتبعونها فتكون نفقتهم على سيدهم
فصل : وحكم المكاتب في نفقة الزوجات والأولاد والأقارب حكم العبد القن لأنه عبد ما بقي عليه درهم إلا أنه إذا كانت له زوجة أنفق عليها من كسبه لأن نفقة الزوجة واجبة بحكم المعاوضة مع اليسار والإعسار ولذلك وجبت على العبد فعلى المكاتب أولى ولأن نفقة المرأة لا تسقط عن أحد من الناس إذا لم يوجد منها ما يسقط نفقتها ولا يمكن إيجابها على سيده لأن نفقة المكاتب لا تجب على سيده فنفقة امرأته أولى فأما نفقة أولاده وأقاربه والأحرار فلا تجب عليه لأنه تجب على سبيل المواساة وليس هو من أهلها ولذلك لا تجب عليه الزكاة في ماله ولا الفطرة في بدنه فإن كانت زوجته حرة فنفقة أولادها عليها لأنهم يتبعونها في الحرية وإن كان لهم أقارب أحرار كجد حر وأخ حر مع الأم أنفق كل واحد منهم بحسب ميراثه والمكاتب كأنه معدوم بالنسبة إلى النفقة
مسألة : قال : وعلى المكاتبة نفقة ولدها دون أبيه المكاتب
وجملته أن المكاتب إذا كان له ولد لم يخل إما أن يكون من زوجته أو من أمته فإن كان من زوجة وكانت مكاتبة فولدها يتبعونها في الكتاب ويكونون موقوفين على كتابتها إن رقت رقوا وإن عتقت بالأداء عتقوا فتكون نفقتهم عليها مما في يدها لأنهم في حكم نفسها ونفقتها مما في يديها فكذلك على ولدها وأما زوجها المكاتب فليس عليه نفقتهم لأنهم عبيد لسيد المكاتبة وإن كانت زوجته حرة أو أمة فقد بينا حكمهم وإن أراد المكاتب التبرع بالإنفاق على لده وكان من أمة أو مكاتبة لغير سيده أو حرة لم يكن له ذلك لأن فيه تغريرا بمال سيده وإن كان من أمة لسيده جاز لأنه مملوك لسيده فهو ينفق عليه من المال الذي تعلق به جق سيده وإن كان من مكاتبة لسيده احتمل الجواز لأنه في الحال بمنزلة أمه وأمه مملوكة لسيدها ويحتمل أن لا يجوز لأن فيه تغريرا إذ لا يحتمل أن يعجز هو وتؤدي المكاتبة فيعتق ولدها فيحصل الإنفاق عليها من مال سيده ويصير حرا
مسألة : قال : وعلى المكاتب نفقة ولده من أمته
أما ولد المكاتب من أمته فنفقتهم عليه لأن ولده من أمته تابع له يرق برقه ويعتق بعتقه فجرى مجرى نفسه في النفقة فكما أن المكاتب ينفق على نفسه فكذلك على ولده الذي هذا حاله ولأن هذا الولد ليس له من ينفق عليه سوى أبيه فإن أمة أمة للمكاتب وليس له من الأحرار أقارب فيتعين على المكاتب الإنفاق عليه كأمه ولأنه لا ضرر على السيد في إنفاق المكاتب على ولده من أمته لأنه إن أدى وعتق فقد وفى مال الكتابة وليس للسيد أكثر منها وإن عجز ورق عاد إليه المكاتب وولده الذي أنفق عليه فكأنه إنما أنفق على عبده وتصير نفقته عليه كنفقته على سائر رقيقه
فصل : وليس للمكاتب أن يتسرى بأمته إلا بإذن سيده لأن ملكه غير تام وعلى السيد ضرر في تسريه بها لما فيه من التغرير بها وإن أذن له سيده في ذلك جاز لأن المنع لحقه فجاز بإذنه كما لو أذن لعبده القن وإن وطىء بغير إذنه فلا حد عليه لأنه وطىء مملوكته فإن أولدها في الموضعين صارت أم ولد له ليس له بيعها ولا بيع ولده فإ عتق عتق ولدها وصارت الأمة أم ولده تعتق بموته وإن رق رقت هي وولدها وصارت أمة لسيده والمكاتب وولده عبدان له ويلزم المكاتب الإنفاق على عبيده وإمائه وأمهات أولاده لأنهم ملك له فلزمه الإنفاق عليه كبهائمه (9/273)
باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج
مسألة : قال رحمه الله : وإذا تزوج بامرأة مثلها يوطأ فلم تمنعه نفسها ولا منعه أولياؤها لزمته النفقة
وجملة ذلك أن المرأة تستحق النفقة على زوجها بشرطين :
أحدهما : أن تكون كبيرة يمكن وطؤها فإن كانت صغيرة لا تحتمل الوطء فلا نفقة لها وبهذا قال الحسن و بكر بن عبد الله المزني و النخعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وهو المنصوص عن الشافعي وقال في موضع : او قيل لها النفقة كان مذهبا وهذا قول الثوري لأن تعذر الوطء لم يكن بفعلها فلم يمنع وجود النفقة لها كالمرض
ولنا أن النفقة تجب بالتمكين من الاستمتاع ولا يتصور ذلك مع تعذر الاستمتاع فلم تجب نفقتها كما لو منعه أولياؤها من تسليم نفسها وبهذا يبطل ما ذكروه ويفارق المريضة فإن الاستمتاع بها ممكن وإنما نقص بالمرض ولأن من لا تمكن الزوج من نفسها لا يلزم الزوج نفقتها فهذه أولى لأن تلك يمكن الزوج قهرها والاستمتاع بها كرها وهذه لا يمكن ذلك فيها بحال
الشرط الثاني : أن تبذل التمكين التام من نفسها لزوجها فأما إن منعت نفسها أو منعها أولياؤها أو تساكتا بعد العقد فلم تبذل ولم يطلب فلا نفقة لها وإن أقاما زمنا [ فإن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج عائشة ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق إلا بعد دخوله ولم يلتزم نفقتها لما مضى ] ولأن النفقة تجب في مقابلة التمكين المستحق بعقد النكاح فإذا وجد استحقت وإذا فقد لم تستحق شيئا ولو بذلت تسليما غير تام بأن تقول أسلم إليك نفسي في منزلي دون غيره أو في الموضع الفلاني دون غيره لم تستحق شيئا إلا أن تكون قد اشترطت ذلك في العقد لأنها لم تبذل التسليم الواجب بالعقد فلم تستحق النفقة كما لو قال البائع : أسلم إليك السلع على أن تتركها في موضعها أو في مكان بعينه وإن شرطت دارها أو بلدها فسلمت نفسها في ذلك استحقت النفق لأنها سلمت التسليم الواجب عليها ولذلك لو سلم السيد أمته المزوجة ليلا دون النهار استحقت النفقة وفارق الحرة فإنها لو بذلت تسليم نفسها في بعض الزمان لم تستحق شيئا لأنها لم تسلم التسليم الواجب بالعقد وكذلك إن أمكنته من الاستمتاع ومنعته استمتاعا لم تستحق شيئا لذلك (9/282)
فصل وإن غاب الزوج بعد تمكينها
فصل : وإن غاب الزوج بعد تمكينها ووجوب نفقتها عليه لم تسقط عنه بل تجب عليه في زمن غيبته لأنها استحقت النفق بالتمكين ولم يوجد منها ما يسقطها وإن غاب قبل تمكينها فلا نفقة لها عليه لأنه لم يوجد الموجب لها فإن بذلت التسليم وهو غائب لم تستحق نفقته لأنها بذلته في حال لا يمكنه التسليم فيه لكن إن مضت إلى الحاكم فبذلت التسليم كتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي هو فيه ليستدعيه ويعلمه ذلك فإن سار إليها أو وكل من يسلمها إليه فوصل وسلمها هو أو نائبه وجبت النفقة حينئذ وإن لم يفعل فرض الحاكم عليه نفقتها من الوقت الذي كان يمكن الوصول إليها ويسلمها فيه لأن الزوج امتنع من تسلمها مع إمكان ذلك وبذلها إياه له فلزمته نفقتها كما لو كان حاضرا وإن كانت الزوجة صغيرة يمكن وطؤها أو مجنونة فسلمت نفسها إليه فتسلمها لزمته نفقتها كالكبيرة وإن لم يتسلمها لمنعها نفسها أو منع أوليائها فلا نفقة لها عليه وإن غاب الزوج فبذل وليها تسليمها فهو كما لو بذلت المكلفة التسليم فإن وليها يقوم مقامها وإن بذلت هي دون ولهيا لم يفرض الحاكم النفقة لها لأنه لا حكم لكلامها (9/283)
مسألة ومتى استكلمت شروط الانفاق وكان زوجها صبيا
مسألة : قال : وإذا كانت بهذه الحال التي وصفت وزوجها صبي أجبر وليه على نفقتها من مال الصغير فإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما
يعني إذا كانت المرأة كبيرة يمكن الاستمتاع بها فمكنت من نفسها أو بذلت تسليمها ولم تمنع نفسها ولا منعها أولياؤها فعلى زوجها الصبي نفقتها وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن و الشافعي في أحد قوليه وقال في الآخر : لا نفقة لها وهو قول مالك لأن الزوج لا يتمكن من الاستمتاع بها فلم تلزمه نفقتها كما لو كانت غائبة صغيرة
ولنا أنها سلمت نفسها تسليما صحيحا فوجبت لها النفقة كما لو كان الزوج كبيرا ولأن الاستمتاع بها ممكن وإنما تعذر من جهة الزوج كما لو تعذر التسليم لمرضه أو غيبته وفارق ما إذا غابت أو كانت صغيرة فإنها لم تسلم نفسها تسليما صحيحا ولم تبذل ذلك فعلى هذا يجبر الولي على نفقتها من مال الصبي لأن النفقة على الصبي وإنما الولي ينوب عنه في أداء الواجبات عليه كما يؤدي أروش جناياته وقيم متلفاته وزكواته وإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما كما ذكرنا في حق الكبير فإن كان له مال وامتنع الولي من الإنفاق أجبره الحاكم بالحبس فإن لم ينفق أخذ الحاكم من مال الصبي وأنفق عليها فإن لم يمكنه وصبر الولي على الحبس وتعذر الإنفاق فرق الحاكم بينهما إذا طلبت ذلك على ما ذكرنا في حق الكبير وذكر القاضي في الكبير أنه لا يفرق بينهما فكذلك ههنا مثله لأنهما سواء في وجوب الإنفاق عليهما فكذلك في أحكامه (9/284)
فصل حكم ما لو بذلت الرتقاء تسليم نفسها
فصل : وإن بذلت الرتقاء أو الحائض أو النفساء أو النضوة الخلق التي لا يمكن وطؤها أو المريضة تسليم نفسها لزمته نفقتها وإن حدث بها شيء من ذلك لم تسقط نفقتها لأن الاستمتاع ممكن ولا تفريط من جهتها وإن منع من الوطء ويفارق الصغيرة فإن لها حالا يتمكن من الاستمتاع بها فيها استمتاعا تاما والظاهر أنه تزوجها انتظارا لتلك الحال بخلاف هؤلاء ولذلك لو طلب تسليم هؤلاء وجب تسليمهن ولو طلب تسليم الصغيرة لم يجب فإن قيل : فلو بذلت الصحيحة الاستمتاع بما دون الوطء لم تجب لها النفقة فكذلك هؤلاء قلنا : لأن تلك منعت مما يجب عليها وهؤلاء لا يجب عليهن التمكين مما فيه ضرر فإن ادعت أن عليها ضررا في وطئه لضيق فرجها أو قروح به أو نحو ذلك وأنكره أريت امرأة ثقة وعمل بقولها وإن ادعت عبالة ذكره وعظمه جاز أن تنظر المرأة إليهما حال اجتماعهما لأنه موضع حاجة ويجوز النظر إلى العورة للحاجة والشهادة (9/285)
مسألة حكم ما لو طالب الزوج بالدخول
مسألة : قال : وإن طالب الزوج بالدخول وقالت : لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي كان ذلك لها ولزمته النفقة إلى أن يدفع إليها صداقها
وجملته أن للمرأة أن تمنع نفسها حتى تتسلم صداقها لأن تسليم نفسها قبل تسليم صداقها يفضي إلى أن يستوفي منفعتها المعقود عليها بالوطء ثم لا يسلم صداقها فلا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها بخلاف المبيع إذا تسلمه المشتري ثم أعسر بالثمن فإنه يمكنه الرجوع فيه فلهذا ألزمناه تسليم صداقها أولا وجعلنا لها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض صداقها لأنه إذا سلم إليها لاصداق ثم امتنعت من تسليم نفسها أمكن الرجوع فيه إذا ثبت هذا فمتى امتنعت من تسليم نفسها لتقبض صداقها فلها نفقتها لأنها امتنعت لحق فإن قيل فلو امتنعت لصغر أو مرض لم تلزمه نفقتها قلنا : الفرق بينهما أن امتناعها لمرض من جهتها وكذلك الامتناع للصغر وههنا الامتناع لمعنى من جهة الزوج وهو منعه لما وجب لها عليه فأشبه ما لو تعذر الاستمتاع لصغر الزوج فإنه لا تسقط نفقتها عنه ولو تعذر لصغرها لا تلزمه نفقتها (9/286)
فصل حكم ما إذا سافرت الزوجة بدون إذن الزوج
فصل : إذا سافرت زوجته بغير إذنه سقطت نفقتها عنه لأنها ناشز وكذلك إن انتقلت من منزله بغير إذنه وإن سافرت بإذنه في حاجته فهي على نفقتها لأنها سافرت في شغله ومراده وإن كان في حاجة نفسها سقطت نفقتها لأنها فوتت التمكين لحظ نفسها وقضاء حاجتها فأشبه ما لو استنظرته قبل الدخول مدة فأنظرها إلا أن يكون مسافرا معها متمكنا من استمتاعها فلا تسقط نفقتها لأنها لم تفت التمكين فأشبهت غير المسافرة ويحتمل أن لا تسقط نفقتها وإن لم يكن معها لأنها مسافرة بإذنه أشبه ما لو سافرت في حاجته وسواء كان سفرها لتجارة أو حج تطوع أو زيارة ولو أحرمت بحج تطوع بغير إذنه سقطت مفقتها لأنها في معنى المسافرة وإن أحرمت به بإذنه فقال القاضي : لها النفقة والصحيح أنها كالمسافرة لأنها بإحرامها مانعة له من التمكين فهي كالمسافرة لحاجة نفسها على ما ذكرناه وإن أحرمت بالحج الواجب أو العمرة الواحبة في الوقت الواجب من الميقات فلها النفقة لأنها فعلت الواجب عليها بأصل في وقته فلم تسقط نفقتها كما لو صامت رمضان وإن قدمت الإحرام على الميقات أو قبل الوقت خرج فيها من القول ما في المحرمة بحج التطوع لأنها فوتت عليه التمكين بشيء مستغنى عنه (9/287)
فصل فإن اعتكفت
فصل : فإن اعتكفت فالقياس أنه كسفرها إن كان بغير إذنه فهي ناشز لخروجها من منزل زوجها بغير إذنه فيما ليس بواجب بأصل الشرع وإن كان بإذنه فلا نفقة لها على قول الخرقي وقال القاضي : لها النفقة وإن صامت رمضان لم تسقط نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع لا يملك منعها منه فلم تسقط نفقتها كالصلاة ولأنه يكون صائما معها فيمتنع الاستمتاع لمعنى وجد فيه وإن كان تطوعا لم تسقط نفقتها لأنها لم تخرج عن قبضته ولم تأت بما يمنعه من الاستمتاع بها فإنه يمكنه تفطيرها ووطؤها فإن أراد ذلك منها فمنعته نفسها سقطت نفقتها بامتناعها من التمكين الواجب وإن كان صوما منذورا معلقا بوقت معين فقال القاضي : لها النفقة لأن أحمد نص على أنه ليس له منعها ويحتمل أنه إن كان نذرها فبل النكاح أو كان النذر بإذنه لم تسقط نفقتها لأنه كان واجبا عليها بحق سابق على نكاحه أو واجب أذن في سببه وإن كان النذر في نكاحه بغير إذنه فلا نفقة لها لأنها فوتت عليه حقه من الاستمتاع باختيارها بالنذر الذي لم يوجبه الشرع عليها ولا ندبها إليه وإن كان النذر مطلقا أو كان صوم كفارة فصامت بإذنه فلها النفقة لأنها أدت الواجب بإذنه فأشبه ما لو صامت المعين في وقته وإن صامت بغير إذنه فقال القاضي : لا نفقة لها لأنها يمكنها تأخيره فإنه على التراخي وحق الزوج على الفور وإن كان قضاء رمضان قبل ضيق وقته فكذلك وإن كان وقته مضيقا مثل أن قرب رمضان الآخر فعليه نفقتها لأنه واجب مضيق بأصل الشرع أشبه أداء رمضان (9/288)
مسألة وإذا طلق الرجل زوجته طلاقا لا يملك فيه الرجعة
مسألة : قال : وإذا طلق الرجل زوجته طلاقا لا يملك فيه الرجعة فلا سكنى لها ولا نفقة إلا أن تكون حاملا
وجملة الأمر أن الرجل إذا طلق امرأته طلاقا بائنا فإما أن يكون ثلاثا أو بخلع أو بانت بفسخ وكانت حاملا فلها النفقة والسكنى بإجماع أهل العلم لقول الله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وفي بعض أخبار فاطمة بنت قيس : [ لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا ] ولأن الحمل ولده فيلزمه الانفاق عليه ولا يمكنه النفقة عليه إلا بالانفاق عليها فوجب كما وجبت أجرة الرضاع وإن كانت حائلا فلا نفقة لها وفي السكنى روايتان : إحداهما : لها ذلك وهو قول عمر وابنه وابن مسعود وعائشة وفقهاء المدينة السبعة و مالك و الشافعي للآية والرواية الثانية : لا سكنى لها ولا نفقة وهي ظاهر المذهب وقول علي وابن عباس وجابر و عطاء و طاوس و الحسن و عكرمة و ميمون بن مهران و إسحاق و أبي ثور و داود وقال أكثر الفقهاء العراقيين : لها السكنى والنفقة وبه قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الثوري و الحسن بن صالح و أبو حنيفة و أصحابه والبتي والعنبري لأن ذلك يروى عن عمر وابن مسعود ولأنها مطلقة فوجبت لها النفقة والسكنى كالرجعية وردوا خبر فاطمة بنت قيس بما روي عن عمر أنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امراة وأنكرته عائشة و سعيد بن المسيب وتأولوه
[ ولنا ما روت فاطمة بنت قيس أن وجها طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه و سلم تذكر ذلك له فقال : ليس لك عليه نفقة ولا سكنى فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ] متفق عليه وفي لفظ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ انظري يا ابنة قيس إنما النفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها الرجعة فإذا لم يكن له عليها الرجع فلا نفقة ولا سكنى ] رواه الإمام أحمد و الأثرم و الحميدي وغيرهم
قال ابن عبد البر من طريق الحجة وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأحج لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم نصا صريحا فأي شيء يعارض هذا إلا مثله عن النبي صلى الله عليه و سلم الذي هو المبين عن الله مراده ولا شيء يدفع ذلك ومعلوم أنه أعلم بتأويل قول الله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم }
وأما قول عمر ومن وافقه فقد خالفه علي وابن عباس ومن وافقهما والحجة معهم ولو لم يخالفه أحد منهم لما قبل قوله المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن قول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة على عمر وعلي غيره ولم يصح عن عمر أنه قال لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة فإن أحمد أنكره وقال : أما هذا فلا ولكن قال : لا نقبل في ديننا قول امرأة وهذا أمر يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية فأي حجة في شيء يخالفه الإجماع وترده السنة ويخالفه فيه علماء الصحابة ؟ قال إسماعيل بن إسحاق : نحن نعلم أن عمر لا يقول : لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله والذي في الكتاب أن لها النفقة إذا كانت حاملا بقوله سبحانه : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق
وقد روي أبو داود وغيره من الأئمة بإسنادهم [ عن ابن عباس قال : ففرق رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما يعني المتلاعنين وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت ] ولأن هذه محرمة عليه تحريما لا تزيله الرجعة فلم يكن لها سكنى ولا نفقة كالملاعنة أو كالأجنبية وفارقت الرجعية في ذلك وأما الرجعية فلها السكنى والنفقة للآية والخبر والإجماع ولأنها زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه (9/289)
فصل كون الملاعنة لا سكنى لها ولا نفقة
فصل : فأما الملاعنة فلا سكنى لها ولا نفقة إن كانت غير حامل للخبر وكذلك إن كانت حاملا فنفى حملها وقلنا إنه ينتفي عنه أو قلنا إنه ينتفي بزوال الفراش وإن قلنا لا ينتفي بنفيه أو لم ينفه وقلنا إنه يلحقه نسبه فلها السكنى والنفقة لأن ذلك للحمل أو لها بسببه وهو موجود فأشبهت المطلقة البائن فإن نفى الحمل فأنفقت أمه وسكنت من غير الزوج وأرضعت ثم استلحقه الملاعن لحقه ولزمته النفقة وأجر المسكن والرضاع لأنها فعلت ذلك على أنه لا اب له فإذا ثبت له أب لزمه ذلك ورجع به عليه فإن قيل : النفقة لأجل الحمل نفقة الأقارب وهي تسقط بمضي الزمان فكيف ترجع عليه بما يسقط عنه ؟ قلنا : بل النفقة للحامل من أجل الحمل فلا تسقط كنفقتها في الحياة وإن سلمنا أنها للحمل إلا أنها مصروفة إليها ويتعلق بها حقها فلا تسقط بمضي الزمان كنفقتها (9/291)
فصول بيان نفقة الحمل
فصل : فأما المعتدة من الوفاة فإن كانت حائلا فلا سكنى لها ولا نفقة لأن النكاح قد زال بالموت وإن كانت حاملا ففيها روايتان :
إحداهما : لها السكنى والنفقة لأنها حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة كالمفارقة في الحياة
والثانية : لا سكنى لها ولا نفقة لأن المال قد صار للورثة ونفقة الحامل وسكناها إنما هو للحمل أو من أجله ولا يلزم ذلك الورثة لأنه إن كان للميت ميراث فنفقة الحمل من نصيبه وإن لم يكن له ميراث لم يلزم وارث الميت الإنفاق على حمل امرأته كما بعد الولادة قال القاضي : وهذه الرواية أصح
فصل : وهل تجب نفقة الحمل للحامل من أجل الحمل أو للحمل فيه روايتان : إحداهما : تجب للحمل اختارها أبو بكر لأنها تجب بوجوده وتسقط عند انفصاله فدل على أنها له
والثانية : تجب لها من أجله لأنها تجب مع اليسار والإعسار فكانت له كنفقة الزوجات ولأنها لا تسقط بمضي الزمان فأشبهت نفقتها في حياته و لـ لشافعي قولان كالروايتين وينبني على هذا الاختلاف فروع منها أنها إذا كانت المطلقة الحامل أمة وقلنا النفقة للحمل فنفقتها على سيدها لأنه ملكه وإن قلنا لها فعلى الزوج لأن نفقتها عليه وإن كان الزوج عبدا وقلنا هي للحمل فليس عليه نفقته لأنه لا تلزمه نفقة ولده وإن قلنا لها فالنفقة عليه لما ذكرنا وإن كانت حاملا من نكاح فاسد أو وطء شبهة وقلنا النفقة للحمل فعلى الزوج والواطىء لأنه ولده فلزمته نفقته كما بعد الوضع وإن قلنا للحامل فلا نفقة عليها لأنها ليست زوجة يجب الإنفاق عليها وإن نشزت امرأة إنسان وهي حامل وقلنا النفقة للحمل لم تسقط نفقتها لأن نفقة ولده لا تسقط بنشوز أمه وإن قلنا لها فلا نفقة لها لأنها ناشز
فصل : ويلزم الزوج دفع نفقة الحامل المطلقة إليها يوما فيوما كما يلزمه دفع نفقة الرجعية وقال الشافعي في أحد قوليه : لا يلزمه دفعها إليها حتى تضع لأن الحمل غير متحقق ولهذا وقفنا الميراث وهذا خلاف قول الله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ولأنها محكوم لها بالنفقة فوجب دفعها إليه كالرجعية وما ذكروه غير صحيح فإن الحمل يثبت بالأمارات وتثبت أحكامه في منع النكاح والحد والقصاص وفسخ البيع في الجارية المبيعة والمنع من الأخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية فهو كالمتحقق ولا يشبه هذا الميراث فإن الميراث لا يثبت إلا بمجرد الحمل فإنه يشترط له الوضع والاستهلال بعد الوضع ولا يوجد ذلك قبله ولأننا لانعلم صفة الحمل وقدره ووجوده توريثه بخلاف مسألتنا فإن النفقة تجب بمجرد الحمل ولا تختلف باختلافه فإذا ثبت هذا فمتى ادعت الحمل فصدقها دفع إليها إن كان حملا فقد استوفت حقها وإن بان أنها ليست حاملا رجع عليها سواء دفع إليها بحكم الحاكم أو بغيره وسواء شرط أنها نفقة أو لم يشترط وعنه : لا يرجع والصحيح أنه يرجع لأنه دفعه على أنه واجب فإذا بان أنه ليس بواجب استرجعه كما لو قضاها دينا فبان أنه لم يكن عليه دين وإن أنكر حملها نظر النساء الثقات فرجع إلى قولهن ويقبل قول المرأة الواحدة إذا كانت من أهل الخبرة والعدالة لأنها شهادة على ما لا يطلع عليه الرجال أشبه الرضاع وقد ثبت الأصل بالخبر (9/292)
فصل سقوط النفقة عن الزوج في النكاح الفاسد
فصل : ولا تجب النفقة على الزوج في النكاح الفاسد لأنه ليس بينهما نكاح صحيح فإن طلقها أو فرق بينهما قبل الوطء فلا عدة عليها وإن كان بعد الوطء فعليها العدة ولا نفقة لها ولا سكنى إن كانت حائلا لأنه إذا لم يجب ذلك قبل التفريق فبعده أولى وإن كانت حاملا فعلى ما ذكرنا من قبل فإن قلنا لها النفقة إذا كانت حاملا فلها ذلك قبل التفريق لأنه إذا وجب بعد التفريق فقبله أولى ومتى أنفق عليها قبل مفارقتها أو بعدها لم يرجع عليها لأنه إن كان عالما بعدم الوجوب فهو متطوع به وإن لم يكن عالما فهو مفرط فلم يرجع به كما لو أنفق على أجنبية وكل معتدة من الوطء في غير نكاح صحيح كالموطوءة بشبهة وغيرها إن كان يلحق الواطىء نسب ولدها فهي كالموطوءة في النكاح الفاسد وإن كان لا يلحقه نسب ولدها كالزاني فليس عليه نفقتها حاملا كانت أو حائلا لأنه لا نكاح بينهما ولا بينهما ولد ينسب إليه (9/294)
مسألة مخالعة المرأة زوجها على ابرائه من الحمل
مسألة : قال : وإذا خالعت المرأة زوجها وأبرأته من حملها لم يكن لها نفقة ولا للولد حتى تفطمه
أما إذا خالعته ولم تبرئه من حملها فلها النفقة كما لو طلقها ثلاثا وهي حامل لأن الحمل ولده فعليه نفقته وإن أبرأته من الحمل عوضا في الخلع صح سواء كان العوض كله أو بعضه وقد ذكرناه في الخلع ويبرأ حين تفطمه إذا كانت قد ابرأته من نفقة الحمل وكفالة الولد إلى ذلك أو أطلقت البراءة من نفقة الحمل وكفالته لأن البراءة المطلقة تنصرف إلى المدة التي تستحق المرأة العوض عليه فيها وهي مدة الحمل والرضاع لأن المطلق إذا كان له عرف انصرف إلى العرف وإن اختلفا في مدة الرضاع انصرف إلى حولين لقوله سبحانه : { وفصاله في عامين } وقال تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } ثم قال : { فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } فدل على أنه لا يجوز فصاله قبل العامين إلا بتراض منهما وتشاور وإن قدرا مدة البراءة بزمن الحمل أو بعام أو نحو ذلك فهو على ما قدراه وهو احسن لأنه أقطع للنزاع وأبعد من اللبس والاشتباه ولو أبرأته من نفقة الحمل انصرف ذلك إلى زمن الحمل قبل وضعه قال القاضي : إنما صح مخالعتها على نفقة الولد وهي للولد دونها في حكم المالكة لها لأنها هي القابضة لها المستحقة المتصرفة فيها فإنها في مدة الحمل هي الآكلة لها المنتفعة بها وبعد الولادة هي أجر رضاعتها وهي الآخذة لها المتصرفة فيها أيضا فصارت كملك من أملاكها فصح جعلها عوضا فأما النفقة الزائدة على هذا من كسوة الطفل ودهنه ونحو ذلك فلا يصح أن يعارض به في الخلع لأنه ليس هو لها ولا هو في حكم ما هو لها (9/295)
مسألة وفصل والناشز لا نفقة لها معنى النشوز
مسألة : قال : والناشز لا نفقة لها فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها
معنى النشوز معصيتها لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له النكاح وأصله من الأرتفاع مأخوذ من النشز وهو المكان المرتفع فكأن الناشز ارتفعت عن طاعة زوجها فسميت ناشزا فمتى امتنعت من فراشه أو خرجت من منزله بغير إذنه أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها أو من السفر معه فلا نفقة لها ولا سكنى في قول عامة أهل العلم منهم الشعبي و حماد و مالك و الأوزاعي و الشافعي وأصحاب الرأي و أبو ثور وقال الحكم : لها النفقة وقال ابن المنذر : لا أعلم أحدا خالف هؤلاء إلا الحكم ولعله يحتج بأن نشوزها لا يسقط مهرها فكذلك نفقتها
ولنا أن النفقة إنما تجب في مقابلة تمكينها بدليل أنها لا تجب قبل تسليمها إليه وإذا منعها النفقة كان لها منعه التمكين فإذا منعته التمكين كان له منعها من النفقة كما قبل الدخول ويجانب المهر فإنه يجب بمجرد العقد ولذلك لو مات أحدهما قبل الدخول وجب المهر دون النفقة فأما إذا كان له منها ولد فعليه نفقة ولده لأنها واجبة له فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبيرة وعليه ان يعطيها إياها إذا كانت هي الخاضعة له أو المرضعة له وكذلك أجر رضاعها يلزمه تسليمه إلهيا لأنه أجر ملكته عليه بالإرضاع لا في مقابلة الاستمتاع ولا يزول بزواله
فصل : وإذا سقطت نفقة المرأة بنشوزها فعادت عن النشوز والزوج حاضر عادت نفقتها الزوال المسقط لها ووجود التمكين المقتضي لها وإن كان غائبا لم تعد نفقتها حتى يعود التسليم بحضوره أو حضور وكيله أو حكم الحاكم بالوجوب إذا مضى زمن الإمكان ولو ارتدت امرأته سقطت نفقتها فإن عادت إلى الإسلام عادت نفقتها بمجرد عودها لأن المرتدة إنما سقطت نفقتها بخروجها عن الإسلام فإذا عادت إليه زال المعنى المسقط فعادت النفقة وفي النشوز سقطت النفقة بخروجها عن يده أو منعها له من التمكين المستحق عليها ولا يزول ذلك إلا بعودها إلى يده وتمكينه منها ولا يحصل ذلك في غيبته ولذلك لو بذلت تسليم نفسها قبل دخوله بها في حال غيبته لم تستحق النفقة بمجرد البدل كذا ههنا والله أعلم (9/296)
باب من أحق بكفالة الطفل
كفالة الطفل وحضانته واجبة لأنه يهلك بتركه فيجب حفظه عن الهلاك كما يجب الإنفاق عليه وإنجاؤه من المهالك ويتعلق بها حق لقرابته لأن فيها ولاية على الطفل واستحقاقا له فيتعلق بها الحق ككفالة اللقيط ولا يثبت الحضانة لطفل ولا معتوه لأنه لا يقدر عليها وهو محتاج إلى من يكفله فكيف يكفل غيره ؟ ولا الفاسق لأنه غير موثوق به في أداء الواجب من الحضانة ولا حظ للولد في حضانته لأنه ينشأ على طريقته ولا الرقيق وبهذا قال عطاء و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال مالك في حر له ولد حر من أمة : الأم أحق به إلا أن تباع فتنقل فيكون الأب أحق به لأنها أم مشفقة فأشبهت الحرة
ولنا أنها لا تملك منافعها التي تحصل الكفالة بها لكونهت مملوكة لسيدها فلم يكن لها حضانة كما لو بيعت ونقلت ولا تثبت لكافر على مسلم وبهذا قال مالك و الشافعي وسوار والعنبري وقال ابن القاسم و أبو ثور واصحاب الرأي : تثبت له لما [ روي عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع ابن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو أشبهه وقال رافع : ابنتي فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اقعد ناحية ـ وقال لها ـ اقعدي ناحية ـ وقال ـ ادعواها فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اللهم اهدها فمالت إلى أبيها فأخذها ] رواه أبو داود
ولنا أنها ولاية فلا تثبت لكافر على مسلم كولاية النكاح والمال ولأنها إذا لم تثبت للفاسق فالكافر أولى فإن ضرره أكثر فإنه يفتنه عن دينه ويخرجه عن الإسلام بتعليمه الكفر وتزيينه له وتربيته عليه وهذا أعظم الضرر والحضانة إنما تثبت لحظ الولد فلا تشرع على وجه يكون فيه هلاكه وهلاك دينه فأنا الحديث فقد روي على غير هذا الوجه ولا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال قال ابن المنذر : ويحتمل أن النبي صلى الله عليه و سلم علم أنها تختار أباها بدعوته فكان ذلك خاصا في حقه فأما من بعضه حر فإن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة فلا حضانة له لأنه لا يقدر عليها لكون منافعه مشترك بينه وبين سيده وإن كان بينهما مهايأة فقياس قول أحمد أن له الحضانة في أيامه لأنه قال : كل ما يتجزأ فعليه النصف من كل شيء وهذا اختيار أبي بكر وقال الشافعي : لا حضانة له لأنه كالقن عنده وهذا أصل قد تقدم (9/298)
مسألة وفصلان والأم أحق بكفالة الطفل
مسألة : قال : والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت
وجملته أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد طفل أو معتوه فأمه أولى الناس بكفالته إذا كملت الشرائط فيها ذكرا كان أو أنثى وهذا قول يحيى الأنصاري و الزهري و الثوري و مالك و الشافعي و أبي ثور و إسحاق وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم [ والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنت أحق به ما لم تنكحي ] رواه أبو داود ويروى أبا بكر الصديق حكم على عمر بن الخطاب يعاصم لأمه أم عاصم وقال : ريحها وشمها ولطفها خير له منك رواه سعيد في سننه ولأنها اقرب إليه وأشفق عليه ولا يشاركها في القرب إلا أبوه وليس له مثل شفقتها ولا يتولى الحضانة بنفسه وإنما يدفعه إلى امرأته وأمه أولى به من امرأة أبيه
فصل : فإن لم تكن الأم من أهل الحضانة لفقدان الشروط التي ذكرنا فيها أو بعضها فهي كالمعدومة وتنتقل إلى من يليها في الاستحقاق ولو كان الأبوان من غير أهل الحضانة إلى من يليهما لأنهما كالمعدومين
فصل : ولا تثبت الحضانة إلا على الطفل أو المعتوه فأما البالغ الرشيد فلا حضانة عليه وإليه الخيرة في الإقامة عند من شاء من أبويه فإن كان رجلا فله الانفراد بنفسه لاستغنائه عنهما ويستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما وإن كانت جارية لم يكن لها الانفراد ولأبيها منعها منه لأنه لا يؤمن أن يدخل عليها من يفسدها ويلحق العار بها وبأهلها وإن لم يكن لها أب فلوليها وأهلها منعها من ذلك (9/299)
مسألة وفصول قال وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير وشروط التخيير
مسألة : قال : وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه فكان مع من اختار منهما
وجملته أن الغلام إذا بلغ سبعا وليس بمعتوه خير بين أبويه إذا تنازعا فيه فمن اختاره منها فهو أولى به قضى بذلك عمر وعلي و شريح وهو مذهب الشافعي وقال مالك و أبو حنيفة : لا يخير لكن قال أبو حنيفة : إذا استقل بنفسه فأكل بنفسه ولبس بنفسه واستنجى بنفسه فالأب أحق به و مالك يقول : الأم أحق به حتى يتغر وأما التخيير فلا يصح لأن الغلام لا قول له ولا يعرف حظه وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه ويمكنه من شهواته فيؤدي إلى فساده ولأنه دون البلوغ فلم يخير كمن دون السبع
[ ولنا ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم خير غلاما بين ابيه وأمه ] رواه سعيد بإسناده و الشافعي وفي لفظ عن أبي هريرة قال : [ جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال له النبي صلى الله عليه و سلم هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد ايهما شئت ] فأخذ بيد أمه فانطلقت به رواه أبو داود ولأنه إجماع الصحابة قروي عن عمر أنه خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد وروي عن عمارة الجرمي أنه قال : خيرني علي بين عمي وأمي وكنت ابن سبع أو ثمان وروي نحو ذلك عن أبي هريرة وهذه قصص في مظنة الشهرة ولم تنكر فكانت إجماعا ولأن التقديم في الحضانة يلحق به الولد فيتقدم من هو أشفق لأن حظ الولد عنده أكثر واعتبرنا الشفقة بمظنتها إذا لم يمكن اعتبارها بنفسها فإذا بلغ الغلام حدا يعرب عن نفسه ويميز بين الإكرام وضده فمال إلى أحد الأبوين دل على أنه أرفق به واشفق عليه فقدم بذلك وقيدناه بالسبع لأنها أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالأمر بالصلاة ولأن الأم قدمت في حال الصغر لحاجته إلى حمله ومباشرته خدمته لأنها أعرف بذلك وأقوم به فإذا استغنى عن ذلك تساوى والداه لقربهما منه فرجح باختياره
فصل : ومتى اختار أحدهما فسلم إليه ثم اختار الآخر رد إليه فإن عاد فاختار الأول أعيد إليه هكذا أبدا كلما اختار أحدهما صار إليه لأنه اختيار شهوة لحظ نفسه فاتبع ما يشتهيه كما يتبع ما يشتهيه في المأكول والمشروب وقد يشتهي المقام عند أحدهما في وقت وعند الآخر في وقت وقد يشتهي التسوية بينهما وأن لا ينقطع عنهما وإن خيرناه فلم يختر واحدا منهما أو اختارهما معا قدم أحدهما بالقرعة لأنه مزية لأحدهما على صاحبه ولا يمكن اجتماعهما على حضانته فقدم أحدهما بالقرعة فإذا قدم بها ثم اختار الآخر رد إليه لأننا قدمنا اختياره الثاني على الأول فعلى القرعة التي هي بدل أولى
فصل : فإن كان الأب معدوما أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من العصبات كالأخ والعم وابنه قام مقام الأب فيخير الغلام بين أمه وعصبته لأن عليا رضي الله عنه خير عمارة الجرمي بين أمه وعمه ولأن عصبة فأشبه الأب وكذلك إن كانت أمة معدومة أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى الجدة خير الغلام بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات فإن كان الأبوان معدومين أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى امرأة كأخته أو عمته أو خالته قامت مقام أمه في التخيير بينها وبين عصباته للمعنى الذي ذكرناه في الأبوين فإن كان الأبوان رقيقين وليس له أحد من أقاربه سواهما فقال القاضي : لا حضانة لهما عليه ولا نفقة له عليهما ونفقته في بيت المال ويسلم إلى من يحضنه من المسلمين
فصل : وإنما يخير الغلام بشرطين : أحدهما : أن يكونا جميعا من أهل الحضانة فإن كان أحدهما من غير أهل الحضانة كان كالمعدوم ويعين الآخر
الثاني : أن لا يكون الغلام معتوها فإن كان معتوها كان عند الأم ولم يخير لأن المعتوه بمنزلة الطفل وإن كان كبيرا ولذلك كانت الأم بكفالة ولدها المعتوه بعد بلوغه ولو خير الصبي فاختار أباه ثم زال عقله رد إلى الأم وبطل اختياره لأنه إنما خير حين استقل بنفسه فإذا زال استقلاله بنفسه كانت الأم أولى لأنها أشفق عليه وأقوم بمصالحه كما في حال طفوليته (9/301)
مسألة وفصل حكم تخيير الجارية
مسألة : قال : وإذا بلغت الجارية سبع سنين فالأب أحق بها
وقال الشافعي : تخير الغلام لأن كل سن خير فيه الغلام خيرت فيه الجارية كسن البلوغ وقال أبو حنيفة : الأم أحق بها حتى تزوج أو تحيض وقال مالك : الأم أحق بها حتى تزوج أو يدخل بها الزوج لأنها لا حكم لاختيارها ولا يمكن انفرادها فكانت الأم أحق بها كما قبل السبع
ولنا أن الغرض بالحضانة الحفظ والحفظ للجارية بعد السبع في الكون عند أبيها لأنها تحتاج إلى حفظ والأب أولى بذلك فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها ولأنها إذا بلغت السبع قاربت الصلاحية للتزويج [ وقد تزوج النبي صلى الله عليه و سلم عائشة وهي ابنة سبع ] وإنما تخطب الجارية من أبيها لأنه وليها والمالك لتزويجها وهو أعلم بالكفاءة واقدر على البحث فينبغي أن يقدم على غيره ولا يصار إلى تخييرها لأن الشرع لم يرد به فيها ولا يصح قياسها على الغلام لأنه لا يحتاج إلى الحفظ والتزويج كحاجتها إليه ولا على سن البلوغ لأن قولها حينئذ معتبر في إذنها وتوكيلها وإقرارها واختيارها بخلاف مسألتنا ولا يصح قياس ما بعد السبع على ما قبلها لما ذكرنا في دليلنا
فصل : إذا كانت الجارية عند الأم أو عند الأب فإنها تكون عنده ليلا ونهارا لأن تأديبها وتخريجها في جوف البيت من تعليمها الغزل والطبخ وغيرهما ولا حاجة بها إلى الإخراج منه ولا يمنع أحدهما من زيارتها عند الآخر من غير أن يخلو الزوج بأمها ولا يطيل ولا يتبسط لأن الفرقة بينهما تمنع تبسط أحدهما في منزل الآخر وإن مرضت فالأم أحق بتمريضها في بيتها وإن كان الغلام عند الأم بعد السبع لاختياره لها كان عندها ليلا ويأخذه الأب نهارا ليسلمه في مكتب أو في صناعة لأن القصد حظ الغلام وحظه فيما ذكرناه وإن كان عند الأب كان عنده ليلا ونهارا ولا يمنع من زيادة أمه لأن منعه من ذلك إغراء بالعقوق وقطعية الرحم وإن مرض كانت الأم أحق بتمريضه في بيتها لأنه صار بالمرض كالصغير في الحاجة إلى من يقوم بأمره فكانت الأم أحق به كالصغير وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الآخر لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته سواء كان ذكرا أو أنثى لأن المرض يمنع المريض من المشي إلى ولده فمشي ولده إليه أولى فأما في حال الصحة فإن الغلام يزور أمه لأنها عورة فسترها أولى والأم تزور ابنتها لأن كل واحدة منهما عورة تحتاج إلى صيانة وستر وستر الجارية أولى لأن الأم قد تخرجت وعقلت بخلاف الجارية (9/303)
فصل حكم ما لو أراد أحد الأبوين السفر
فصل : وإذا أراد أحد الأبوين السفر لحاجة ثم يعود والآخر مقيم فالمقيم أولى بالحضانة لأن في المسافرة بالولد إضرارا به وإن كان منتقلا إلى بلد ليقيم به وكان الطريق مخوفا أو البلد الذي ينتقل إليه مخوفا فالمقيم أولى بالحضانة لأن في السفر به خطرا به ولو اختار الولد السفر في هذه الحال لم يجب إليه لأن فيه تغريرا به وإن كان البلد الذي ينتقل إليه آمنا وطريقه آمن فالأب أحق به سواء كان هو المقيم أو المنتقل إلا أن يكون بين البلدين قريب بحيث يراهم الأب كل يوم ويرونه فتكون الأم على حضانتها وقال القاضي : إذا كان السفر دون مسافة القصر فهو في حكم الإقامة وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأن ذلك في حكم الإقامة في غير هذا الحكم فكذلك في هذا ولأن مراعاة الأب له ممكنة والمنصوص عن أحمد ما ذكرناه وهو أولى لأن البعد الذي يمنعه من رؤيته يمنعه من تأديبه وتعليمه ومراعاة حاله فأشبه مسافة القصر وبما ذكرناه من تقديم الأب عند افتراق الدار بهما قال شريح و مالك و الشافعي وقال أصحاب الرأي : إن انتقل الأب فالأم احق به وإن انتقلت الأم إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح فهي أحق وإن انتقلت إلى غيره فالأب أحق
وحكي عن أبي حنيفة : إن انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق وإن انتقلت إلى بلد آخر فهي أحق لأن في البلد يمكن تعليمه وتخريجه
ولنا أنه اختلف مسكن الأبوين فكان الأب أحق كما لو انتقلت من بلد إلى قرية أو إلى بلد لم يكن فيه أصل النكاح وما ذكروه لا يصح لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب ابنه وتخريجه وحفظ نسبه فإذا لم يكن في بلده ضاع فأشبه ما لو كان في قرية وإن انتقلا جميعا إلى بلد واحد فالأم باقية على حضانتها وكذلك إن أخذه الأب لافتراق البلدين ثم اجتمعا عادت إلى الأم حضانتها وغير الأم ممن له الحضانة من النساء يقوم مقامها وغير الأب من عصبات الولد يقوم مقامه عند عدمهما أو كونهما من غير أهل الحضانة (9/305)
مسألة وفصول سقوط حق الأم في الحضانة بتزوجها وبيان من يكون أحق بالحضانة
مسألة : قال : فإن لم تكن أم أو تزوجت الأم فأم الأب أحق من الخالة
في هذه المسألة فصلان : الفصل الأول : أن الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من اهل العلم قضى به شريح وهو قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وحكي عن الحسن أنها لا تسقط بالتزويج
ونقل مهنا عن أحمد : [ إذا تزوجت الأم وابنها صغير أخذ منها قيل له فالجارية مثل الصبي ؟ قال لا الجارية تكون معها إلى سبع سنين ] فظاهر أنه لم يزل الحضانة عن الجارية لتزويج أمها وأزالها عن الغلام ووجه ذلك ما [ روي أن عليا وجعفرا وزيد بن حارثة تنازعوا في حضانة ابنة حمزة فقال علي : ابنة عمي وأنا أخذتها وقال زيد : بنت أخي لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم آخى بين زيد وحمزة وقال جعفر : بنت عمي وعندي خالتها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الخالة أم وسلمها إلى جعفر ] رواه أبو داود بنحو هذا المعنى فجعل لها الحضانة وهي مزوجة
والرواية الأولى هي الصحيحة قال ابن أبي موسى : عليها العمل ل [ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم للمرأة : أنت أحق به ما لم تنكحي ] ولأنها إذا تزوجت اشتغلت بحقوق الزوج عن الحضانة فكان الأب أحظ له ولأن منافعها تكون مملوكة لغيرها فأشبهت المملوكة فأما بنت حمزة فإنما قضى لها لخالتها لأن زوجها من أهل الحضانة ولأنه لا يساويه في الاستحقاق إلا علي وقد ترجح جعفر بأن امرأته من أهل الحضانة فكان أولى وعلى هذا متى كانت المرأة متزوجة لرجل من أهل الحضانة كالجدة تكون متزوجة للجد لم تسقط حضانتها لأنه يشاركها في الولادة والشفقة على الولد فأشبه الأم إذا كانت متزوجة للأب ولو تنازع العمان في الحضانة وأحدهما متزوج للأم أو الخالة فهو أحق لحديث بنت حمزة وكذلك كل عصبتين تساويا وأحدهما متزوج بمن هي من أهل الحضانة قدم بها لذلك وظاهر قول الخرقي أن التزويج بأجنبي يسقط الحضانة بمجرد العقد وإن عري عن الدخول وهو قول الشافعي ويحتمل أن لا تسقط إلا بالدخول وهو قول مالك لأن به تشتغل عن الحضانة
ووجه الأول [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : أنت أحق به ما لم تنكحي ] وقد وجد النكاح قبل الدخول ولأن بالعقد يملك منافعها ويستحق زوجها منعها من حضانته فزال حقها كما لو دخل بها
الفصل الثاني : إن الأم إذا عدمت أو تزوجت أو لم تكن من أهل الحضانة واجتمعت أم أب وخالة فأم الأب أحق وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في الجديد وحكي ذلك عن مالك و أبي ثور وروي عن أحمد أن الأخت والخالة أحق من لأب فعلى هذا يحتمل أن تكون الخالة أحق من أم الأب وهو قول الشافعي القديم لأنها تدلي بأم وأم الأب تدلي به فقدم من يدلي بالأم كتقديم أم الأم على أم الأب ول [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى ببنت حمزة لخالتها وقال : الخالة أم ]
ولنا أن أم الأب جدة فقدمت على الخالة كأم الأم ولأن لها ولادة ووراثة فأشبهت أم الأم فأما الحديث فيدل على أن للخالة حقا في الجملة وليس النزاع فيه إنما النزاع في الترجيح عند الاجتماع وقولهم تدلي بأم قلنا لكن لا ولادة لها فيقدم عليها من له ولادة كتقديم أم الأم على الخالة فعلى هذا متى وجدت جدة وارثة فهي أولى ممن هو من غير عمودي النسب بكل حال وإن علت درجتها لفضيلة الولادة والوراثة فأما أم أبي الأم فلا حصانة لها لأنها تدلي بأبي الأم ولا حضانة له ولا من أدلى به
فصل : فإن اجتمعت أم أم وأم أب فأم الأم أحق وإن علت درجتها لأن لها ولادة وهي تدلي بالأم التي تقدم على الأب فوجبت تقديمها عليها كتقديم الأم على الأب وعن أحمد أن أم الأب أحق وهو قياس قول الخرقي لأنه قدم خالة الأب على خالة الأم وخالة الأب أخت أمه وخالة الأم أخت أمها فإذا قدم أخت أم الأب دل على تقديمها وذلك لأنها تدلي بعصبة مع مساواتها للأخرى في الولادة فوجب تقديمها كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم وإنما قدمت الأم على الأب لأنها التي تلي الحضانة بنفسها فكذلك أمه فإنها أنثى تلي بنفسها فقدمت لما ذكرناه (9/307)
مسائل وفصول بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة
مسألة : قال : والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم وأحق من الخالة
وجملته أنه إذا عدم من يستحق الحضانة من الآباء والأمهات وإن علو انتقلت إلى الأخوات وقدمن على سائر القرابات كالخالات والعمات وغيرهن لأنهن شاركن في النسب وقدمن في الميراث ولأن العمات والخالات إنما يدلين بأخوة والأمهات ولا ميراث لهن مع ذي فرض ولا عصبة فالمدلي إلى نفس المكفول ويرثه أقرب وأشفق فكان أولى وأولى الأخوات من كان لأبوين لقوة قرابتها ثم من كان لأب ثم من كان لأم نص عليه أحمد وهو ظاهر مذهب الشافعي وقال أبو حنيفة : الأخت من الأم أولى من الأخت من الأب وهو قول المزني وابن سريج لأنها أدلت بالأم فقدمت على المدلية بالأب كأم الأم مع أم الأب وقال ابن سريج : تقدم الخالة على الأخت من الأب لذلك ولـ أبي حنيفة فيه روايتان
ولنا أن الأخت من الأب أقوى في الميراث فقدمت كالأخت من الأبوين ولا تخفى قوتها فإنها أقيمت مقام الأخت من الأبوين عند عدمها وتكون عصبة مع البنات وتقاسم الجد وما ذكروه من الإدلاء لا يلزم لأن الأخت تدلي بنفسها لكونهما خلقا من ماء واحد لهما تعصيب فكانت أولى والله أعلم
مسألة : قال : وخالة الأب أحق من خالة الأم
وجملته أنه إذا عدمت الأمهات والآباء والأخوات انتقلت الحضانة إلى الخالات ويقدمن على العمات نص عليه أحمد ويحتمل كلام الخرقي تقديم العمات لأنه قدم خالة الأب وهي أخت أمه على خالة الأم وهي أخت أمها فيدل ذلك على تقديم قرابة الأب على قرابة الأم ولأنهن يدلين بعصبة فقدمن كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم
وقال القاضي : مراد الخرقي بقوله خالة الأب أي الخالة من الأب تقدم على الخالة من الأم كتقديم الأخت من الأب على الأخت من الأم لأن الخالات أخوات الأم فيجرين في الاستحقاق والتقديم فيما بينهن مجرى الأخوات المفترقات وكذلك الحكم في العمات المفترقات فإن قلنا بتقديم الخالات فإذا انقرضن فالعمات بعدهن وإن قلنا بتقديم العمات فالخالات بعدهن فإذا عدمن انتقلت إلى خالات الأب على قول الخرقي وعلى القول الآخر إلى خالات الأم وهل يقدم خالات الأب على عماته ؟ على وجهين بناء على ما ذكرنا على في الخالات والعمات فأما عمات الأم فلا حضانة لهن لأنهن يدلين بأبي الأم وهو رجل من ذوي الأرحام لا حضانة له ولا لمن أدلى به
فصل : وللرجال من العصبات مدخل في الحضانة وأولاهم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا ثم الأخ من الأبوين ثم الأخ من الأب ثم بنوهم وإن سفلوا على ترتيب الميراث ثم العمومة ثم بنوهم كذلك ثم عمومة الأب ثم بنوهم وهذا قول الشافعي وقال بعض أصحابه : لا حضانة لغير الآباء والأجداد لأنهم لا معرفة لهم بالحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم يكن لهم حضانة كالأجانب
[ ولنا أن عليا وجعفرا اختصما في حضانة ابنة حمزة فلم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه و سلم ادعاء الحضانة ولأن لهم ولاية وتعصيبا بالقرابة فتثبت لهم الحضانة كالأب والجد ] وفارق الأجانب فإنهم ليست لهم قرابة ولا شفقة ولأن الأجانب تساووا في عدم القرابة فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر والعصبات لهم قرابة يمتازون بها وأحقهم بالحضانة أحقهم بالميراث بعد الآباء والأجداد ويقومون مقام الأب في التخيير للصبي بينه وبين الأم أو غيرهما ممن له الحضانة من النساء ويكونون أحق بالجارية إذا بلغت سبعا إلا ابن العم فإن الجارية لا تسلم إليه إذا بلغت سبعا لأنه ليس بمحرم لها
فصل : فأما الرجال من ذوي الأرحام كالخال والأخ من الأم وأبي الأم وابن الأخت فلا حضانة لهم مع وجود أحد من أهل الحضانة سواهم لأنه ليس بامرأة يتولى الحضانة ولا له قوة قرابة كالعصبات ولا حضانة إلا يدلي بهم كأم أبي الأم وابنة الخال وابنة الأخ من الأم لأنهن يدلين بمن لا حضانة له فإذا لم تثتب للمدلي فللمدلين به أولى فإن لم يكن هناك غيرهم احتمل وجهين : أحدهما : هم أولى لأن لهم رحما وقرابة يرثون بها عند عدم من هو أولى منهم كذلك الحضانة تكون لهم عند عدم من هو أولى بها منهم والثاني : لا حق لهم في الحضانة وينتقل الأمر إلى الحاكم والأول أولى
فصل : في بيان الأولى فالأولى من أهل الحضانة عند اجتماع الرجال والنساء
أولى الكل بها الأم ثم امهاتها وإن علون يقدم منهن الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة فهي في معنى الأم وعن أحمد أن أم الأب وأمهاتها مقدمات على أم الأم فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم لأنهن يدلين به فيكون الأب بعد الأم ثم أمهاته والأولى هي المشهورة عند أصحابنا وإن المقدم الأم ثم أمهاتها ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته ثم جد الأب ثم أمهاته وإن كن غير وارثات لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة بخلاف أم أبي الأم
وحكي عن أحمد رواية أخرى أن الأخت من الأم والخالة من الأب فتكون الأخت من الأبوين أحق منه ومنهما ومن جميع العصبات والأولى هي المشهورة في المذهب فإذا انقرض الآباء والأمهات انتقلت الحضانة إلى الأخوات وتقدم الأخت من الأبوين ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم وتقدم الأخت على الأخ لأنها امرأة من أهل الحضان فقدمت على من في درجتها من الرجال كالأم تقدم على الأب وأم الأب على أبي الأب وكل جد في درجة جد تقدم عليه لأنها تلي الحضانة بنفسها والرجل لا يليها بنفسه
وفيه وجه آخر أنه يقدم عليها لأنه عصبة بنفسه والأول أولى وفي تقديم الأخت من الأبوين أو من الأب على الجد وجهان وإذا لم تكن أخت فالأخ للأبوين أولى ثم الأخ للأب ثم أبناؤهما ولا حضانة للأخ للأم لما ذكرنا فإذا عدموا صارت الحضانة للخالات على الصحيح وترتيبهن فيها كترتيب الأخوات ولا حضانة للأخوال فإذا عدمن صارت للعمات ويقدمن على الأعمام كتقديم الأخوات على الأخوة ثم للعم للأبوين ثم للعم للأب ولا حضانة للعم من الأم ثم أبناؤهما ثم إلى خالات الأب على قول الخرقي وعلى القول الآخر إلى خالات الأم ثم إلى عمات الأب ولا حضانة لعمات الأم لأنهن يدلين بأبي الأم ولا حضانة له وإن اجتمع شخصان أو أكثر من أهل الحضانة في درجة قدم المستحق منهم بالقرعة (9/309)
فصل إذا تركت الأم الحضانة مع استحقاقها لها
فصل : فإن تركت الأم الحضانة مع استحقاقها لها ففيه وجهان : أحدهما : تنتقل إلى الأب لأن أمهاتها فرع عليها في الاستحقاق فإذا أسقطت حقها سقط فروعها والثاني : تنتقل إلى أمها وهو أصح لأن الأب أبعد فلا تنتقل الحضانة إليه مع وجود أقرب منه كما لا تنتقل إلى الأخت وكونهن فروعا لها لا يوجب سقوط حقوقهن بسقوط حقها كما لو سقط حقها لكونها من غير أهل الحضانة أو لتزوجها وهكذا الحكم في الأب إذا أسقط حقه هل يسقط حق أمهاته ؟ على وجهين وإن كانت من أبوين وأخت من أب فأسقطت الأخت من الأبوين حقها لم يسقط حق الأخت من الأب لأن استحقاقها من غير جهتها وليست فرعا عليها (9/311)
مسألة رجوع حق الأم المتزوجة في الحضانة إذا طلقت
مسألة : قال : وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ثم طلقت رجعت على حقها من كفالته
وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي إلا أن أبا حنيفة و المزني قالا : إن كان الطلاق رجعيا لم يعد حقها لأن الزوجية قائمة فأشبه ما لو كانت في صلب النكاح
ولنا أنها مطلقة فعاد حقها من الحضانة كالبائن وقولهم إنها زوجة قلنا إلا أنه قد عزلها عن فراشه ولم يبق لها عليه قسم ولا لها به شغل وعقد سبب زوال نكاحها فأشبهت البائن في عدتها ويخرج عندنا مثل قولهما لكون النكاح قبل الدخول مزيلا لحق الحضانة مع عدم القسم والشغل بالزوج (9/311)
فصل وكل قرابة تستحق بها الحضانة منع منها مانع
فصل : وكل قرابة تستحق بها الحضانة منع منها مانع كرق أو كفر أو فسوق أو جنون أو صغر إذا زال المانع مثل أن عتق الرقيق وأسلم الكافر وعدل الفاسق وعقل المجنون وبلغ الصغير عاد حقهم من الحضانة لأن سببها قائم وإنما امتنعت لمانع فإذا زال المانع عاد الحق بالسبب السابق الملازم كالزوجة إذا طلقت (9/311)
مسألة وفصل حق الزوج في منع امرأته من ارضاع ولدها
مسألة : قال : وإذا تزوجت المرأة فلزوجها أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليها ويخشى عليه التلف
وجملة ذلك أن للزوج منع امرأته من رضاع ولدها من غيره ومن رضاع ولد غيرها إلا أن يضطر إليها لأن عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان من كل الجهات سوى أوقات الصلوات والرضاع يفوت عليه الاستمتاع في بعض الأوقات فكان له المنع كالخروج من منزله فإن اضطر الولد بأن لا توجد مرضعة سواها أو لا يقبل الولد الارتضاع من غيرها وجب التمكين من إرضاعه لأنها حال ضرورة وحفظ لنفس ولدها فقدم على حق الزوج كتقديم المضطر المالك إذا لم يكن بالمالك مثل ضرورته
فصل : فإن أرادت إرضاع ولدها منه فكلام الخرقي يحتمل وجهين : أحدهما : أن له منعها من رضاعة لعموم لفظه وهو قول الشافعي لأنه يخل باستمتاعه منها فأشبه ما لو كان الولد من غيره والثاني : ليس له منعها فلإنه قال : وإن أرادت رضاع ولدها بأجرة مثلها فهي أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة وذلك لقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } وهذا خبر يراد به أمر وهو عام في كل والدة ولا يصح من أصحاب الشافعي حمله على المطلقات لأنه جعل لهن رزقهن وكسوتهن وهم لا يجيزون جعل ذلك أجر الرضاع ولا غيره وقولنا في الوجه الأول إنه يخل باستمتاعه قلنا : ولكن لإيفاء حق عليه وليس ذلك ممتنعا كما أن قضاء دينه بدفع ماله فيه واجب سيما إذا تعلق به حق الولد في كونه مع أمه وحق الأم في الجمع بينها وبين ولدها وهذا الوجه ظاهر كلام ابن أبي موسى وهو ظاهر كلام القاضي أبي يعلى (9/312)
فصلان وإن أجرت المرأة نفسها للرضاع
فصل : وإن أجرت المرأة نفسها للرضاع ثم تزوجت صح النكاح ولم يملك الزوج فسخ الإجارة وله منعها من الرضاع حتى تنقضي المدة لأن منافعه ملكت بعقد سابق على نكاحه فأشبه ما لو اشترى أمة مستأجرة أو دارا مشغولة فإن نام الصبي أو اشتغل بغيرها فللزوج الاستمتاع وليس لولي الصبي منعه وبهذا قال الشافعي وقال مالك : ليس له وطؤها إلا برضاء الولي لأن ذلك ينقص اللبن
ولنا أن وطء الزوج مستحق بالعقد فلا يسقط بأمر مشكوك فيه كما لو أذن الولي فيه ولأنه يجوز له الوطء مع إذن الولي فجاز مع عدمه لأنه ليس للولي الإذن فيما يضر الصبي ويسقط حقوقه
فصل : وإن أجرت المرأة المزوجة نفسها للرضاع بإذن زوجها جاز ولزم العقد لأن الحق لهما ولا يخرج عنهما وإن أجرتها بغير إذن الزوج لم يصح لما يتضمن من تفويت حق زوجها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر يصح لأنه تناول محلا غير محل النكاح لكن للزوج فسخه لأنه يفوت به الاستمتاع ويختل
ولنا أنه عقد يفوت به حق من ثبت له الحق بعقد سابق فلم يصح كإجارة المستأجر (9/312)
مسألة وفصول كون رضاع الولد انما يجب على الأب وحده وفروع في الرضاع
مسألة : قال : وعلى الأب أن يسترضع لولده إن أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها فتكون أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة
الكلام في هذه المسألة في فصلين :
الفصل الأول : أن رضاع الولد على الأب وحده وليس له إجبار أمه على رضاعه دنيئة كانت أم شريفة سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة ولا نعلم في عدم إجبارها على ذلك إذا كانت مفارقة خلافا فأما إن كانت مع الزوج فكذلك عندنا وبه يقول الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح : له إجبارها على رضاعها وهو قول أبي ثور ورواية عن مالك لقول الله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } والمشهور عن مالك أنها إن كانت شريفة لم تجر عادة مثلها بالرضاع لولدها لم تجبر عليه وإن كانت ممن ترضع في العادة أجبرت عليه
ولنا قوله تعالى : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } وإذا اختلفا فقد تعاسرا ولأن الإجبار على الرضاع لا يخلو إما أن يكون لحق الولد أو لحق الزوج أو لهما : لا يجوز أن يكون لحق الزوج فإنه لا يملك إجبارها على رضاع ولده من غيرها ولا على خدمته فيما يختص به ولا يجوز أن يكون لحق الولد فإن ذلك لو كان له للزمها بعد الفرقة ولأنه مما يلزم الوالد لولده فلزم الأب على الخصوص كالنفقة أو كما بعد الفرقة ولا يجوز أن يكون لهما لأن ما لا مناسبة فيه لا يثبت الحكم بانضمام بعضه إلى بعض ولأنه لو كان لهما لثبت الحكم به بعد الفرقة والآية محمولة على حال الاتفاق وعدم التعاسر
الفصل الثاني : إن الأم إذا طلبت إرضاعه بأجر مثلها فهي أحق به سواء كانت في حال الزوجية أو بعدها وسواء وجد الأب مرضعة متبرعة أو لم يجد وقال أصحاب الشافعي : إن كانت في حبال الزوج فلزوجها منعها من إرضاعه لأنه يفوت حق الاستمتاع بها في بعض الأحيان وإن استأجرها على رضاعة لم يجز لأن المنافع حق له فلا يجوز أن يستأجر منها ما هو أو بعضه حق له وإن أرضعت الولد فهل لها أجر المثل ؟ على وجهين وإن كانت مطلقة وطلبت أجر المثل فأراد انتزاعه منها ليسلمه إلى من ترضعه بأجر المثل أو أكثر لم يكن له ذلك وإن وجد متبرعة أو من ترضعه بدون أجر المثل فله انتزاعه منها في ظاهر المذهب لأنه لا يلزمه المؤنة مع دفع حاجة الولد بدونها وقال أبو حنيفة : إن طالبت الأجر لم يلزم الأب بذلها لها ولا يسقط حقها من الحضانة وتأتي المرضعة عندها لأنه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز الإخلال بأحدهما
ولنا على الأول ما تقدم وعلى جواز الاستئجار أنه عقد إجارة يجوز من غير الزوج إذا أذن فيه فجاز مع الزوج كإجارة نفسها للخياطة أو الخدمة وقولهم إن المنافع مملوكة له غير صحيح فإنه لو ملك منفعة الحضانة لملك إجبارها عليها ولم تجز إجارة نفسها لغيره بإذنه ولكانت الأجرة له وإنما امتنعت إجارة نفسها لأجنبي بغير إذنه لما فيه من تفويت الاستمتاع في بعض الأوقات ولهذا جازت بإذنه وإذا أستأجرها فقد أذن لها في إجارة نفسها فصح كما يصح من الأجنبي وأما الدليل على وجوب تقديم الأم إذا طلبت أجر مثلها على المتبرعة فقوله تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } وقوله سبحانه : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ولأن الأم أحنى وأشفق ولبنها أمرأ من لبن غيرها فكانت أحق به من غيرها كما لو طلبت الأجنبية رضاعه بأجر مثلها ولأن في رضاع غيرها تفويتا لحق الأم من الحضانة وإضرارا بالولد لا يجوز تفويت حق الحضانة الواجب والإضرار بالولد لغرض إسقاط حق أوجبه الله تعالى على الأب وقول أبي حنيفة يفضي إلى تفويت حق الولد من لبن أمه وتفويت الأم في إرضاعه لبنها فلم يجز ذلك كما لو تبرعت برضاعه فأما إن طلبت الأم أكثر من أجر مثلها ووجد الأب من ترضعه بأجر مثلها أو متبرعة جاز انتزاعه منها لأنها أسقطت حقها باشتطاطها وطلبها ما ليس لها فدخلت في عموم قوله : { فسترضع له أخرى } وإن لم يجد مرضعة إلا بمثل تلك الأجرة فالأم أحق لأنهما تساوتا في الأجر فكانت الأم أحق كما لو طلبت كل واحدة منهما أجر مثلها
فصل : وإن طلبت ذات الزوج الأجنبي إرضاع ولدها بأجرة مثلها بإذن زوجها ثبت حقها وكانت أحق به من غيرها لأن الأم إنما منعت من الإرضاع لحق الزوج فإذا أذن فيه زال المانع فصارت كغير ذات الزوج وإن منعها الزوج سقط حقها لتعذر وصولها إلى ذلك
فصل : وإن أرضعت المرأة ولدها وهي في حبال والده فاحتاجت إلى زيادة نفقة لزمه لقول الله تعالى : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولأنها تستحق عليه قدر كفايتها فإذا زادت حاجتها زادت كفايتها والله أعلم (9/313)
باب نفقة المماليك مسألة وفصل تقدير نفقة الرقيق وكيفية صرفها إليه
مسألة : قال رحمه الله : وعلى ملاك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسرهم بالمعروف
وجملة ذلك أن نفقة المملوكين ثابتة بالسنة والإجماع : أما السنة فما [ روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : إخوانكم خولكم جعلهم الله تحب أيديكم فمن كان أخوة تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم ] متفق عليه
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ] رواه الشافعي في مسنده وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده ولأنه لا بد له من نفقة ومنافعه لسيده وهو أخص الناس به فوجبت نفقته عليه كبهيمته والواجب من ذلك قدر كفايته من غالب قوت البلد سواء كان قوت سيده أو دونه أو فوقه وأدم مثله بالمعروف ل [ قوله عليه السلام : للملوك طعامه وكسوته بالمعروف والمستحب أن يطعمه من جنس طعامه لقوله : فليطعمه مما يأكل ] فجمعنا بين الخبرين وحملنا خبر أبي هريرة على الإجزاء وحديث خبر أبي ذر على الاستحباب والسيد مخير بين أن يجعل نفقته من كسبه إن كان له كسب وبين أن ينفق عليه من ماله ويأخذ كسبه أو يجعله برسم خدمته لأن الكل ماله فإن جعل نفقته في كسبه فكانت وفق الكسب صرفه إليها وإن فضل من الكسب شيء فهو لسيده وإن كان فيه عوز فعلى سيده تمامها وأما الكسوة فبالمعروف من غالب الكسوة لأمثال العبد في ذلك البلد الذي هو به والأولى أن يلبسه من لباسه ل [ قوله عليه السلام : وليلبسه مما يلبس ] ويستحب أن يساوي بين عبيده الذكور في الكسوة والإطعام وبين إمائه إن كن للخدمة أو الاستمتاع وإن كان فيهن من هو للخدمة وفيهن من هو للاستمتاع فلا بأس بزيادة من يزيدها للاستمتاع في الكسوة لأن ذلك حكم العرف ولأن غرضه تجميل من يزيدها للاستمتاع بخلاف الخادمة
فصل : إذا تولى أحدهم طعامه استحب له أن يجلسه معه فيأكل فإن لم يفعل استحب أن يطعمه منه ولا لقمة أو لقمتين لما [ روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا كفى أحدكم خادمة طعامه حره ودخانه فليدعه وليجلسه فإن أبى فليروغ له اللقمة واللقمتين ] رواه البخاري ومعنى ترويغ اللقمة غمسها في المرق والدسم وترويتها بذلك ويدفعها إليه ولأنه يشتهيه لحضوره فيه وتوليه إياه وقد قال الله تعالى : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } الآية ولأن نفس الحاضرة تتوق ما لا تتوق نفس الغائب (9/315)
مسائل وفصول معاملة المماليك
فصل : ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق وهو ما يشق عليه ويقرب من العجز عنه لحديث أبي ذر ولأن ذلك يضر به ويؤذيه وهو ممنوع من الإضرار به
فصل : ولا يجبر المملوك على المخارجة ومعناه أن يضرب عليه خراجا معلوما يؤديه وما فضل للعبد لأن ذلك عقد بينهما فلا يجبر عليه كالكتابة وإن طلب العبد ذلك وأباه لم يجبر عليه أيضا فإن اتفقا على ذلك جاز [ لما روي أن أبا ظبية حجم النبي صلى الله عليه و سلم فأعطاه أجره وأمر مواليه أن يخففوا عنه من خراجه ] وكان كثير من الصحابة يضربون على رقيقهم خراجا فروي أن الزبير كان له ألف مملوك على كل واحد منهم كل يوم درهم وجاء أبو لؤلؤة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فسأله أن يسأل المغيرة بن شعبة يخفف عنه من خراجه ثم ينتظر فإن كان ذا كسب يجعل عليه بقدر ما يفضل من كسبه عن نفقته وخراجه شيء جاز فإن لهما به نفعا فإن العبد يحرص على الكسب وربما فضل معه شيء يزيده في نفقته ويتسع به وإن وضع عليه أكثر من كسبه بعد نفقته لم يجز وكذلك إن كلف من لا كسب له المخارجة لم يجز لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : [ لا تكلفوا الصغير الكسب فإنكم متى تكلفوه الكسب سرق ولا تكلفوا المرأة غير ذات الصنعة الكسب فإنكم متى كلفتموها الكسب كسبت بفرجها ولأنه متى كلف غير ذي الكسب خراجا كلفه ما يغلبه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم : لا تكلفوهم ما يغلبهم ] وربما حمله ذلك عل أن يأتي به من غير وجهه فلم يكن للسيد أخذه
فصل : وإذا مرض المملوك أو زمن أو عمي أن انقطع كسبه فعلى سيده القيام به والإنفاق عليه لأن نفقة تجب بالملك ولهذا تجب مع الصغير والملك باق مع العمى والزمانة فتجب نفقته مع عموم النصوص المذكورة في أول الباب
مسألة : قال : وإن يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك
وجملة ذلك أنه يجب على السيد إعفاف مملوكه إذا طلب ذلك وهو أحد قولي الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : لا يجبر عليه لأن فيه ضررا عليه وليس مما تقوم به البنية فلم يجبر علهي كإطعام الحلواء
ولنا قوله تعالى : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم } والأمر يقتضي الوجوب ولا يجب إلا عند الطلب وروي عن عكرمة عن ابن عباس قال : من كانت له جارية فلم يزوجها ولم يصبها أو عبد فلم يزوجه فما صنعا من شيء كان على السيد ولولا وجوب إعفافهما لما لحق السيد الإثم بفعلهما ولأنه مكلف محجور عليه دعي إلى تزويجه فلزمته إجابته كالمحجور عليه للسفه ولأن النكاح مما تدعو إليه الحاجة غالبا ويتضرر بفواته فأجبر عليه كالنفقة بخلاف الحلواء إذا ثبت هذا فالسيد مخير بين تزويجه أو تمليكه أمة يتسراها وله أن يزوجه عند طلبه لأن هذا مما يختلف الناس فيه وفي الحاجة إليه ولا تعلم حاجته إلا بطلبه ولا يجوز تزويجه إلا باختياره فإن اجبار العبد الكبير على النكاح غير جائز فأما الأمة فالسيد مخير بين تزويجها إذا طلبت ذلك وبين أن يستمتع بها فيغنيها باستمتاعه عن غيره لأن المقصود قضاء الحاجة وإزالة ضرر الشهوة وذلك يحصل بأحدهما فلم يتعين أحدهما
فصل : وإذا كان للعبد زوجة فعلى سيده تمكينه من الاستمتاع بها ليلا لأن إذنه في النكاح إذن في الاستمتاع المعتاد والعادة جارية بذلك ليلا وعليه نفقة زوجته على ما قدمنا
مسألة : قال : فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب المملوك ذلك
وجملته أن السيد إذا امتنع مما يجب للعبد عليه من نفقة أو كسوة أو تزويج فطلب العبد البيع أجبر سيده عليه سواء كان امتناع السيد من ذلك لعجزه عنه أو مع قدرته عليه لأن بقاء ملكه عليه مع الإخلال بسد خلاته إضرار به وإزالة الضرر واجبة فوجبت إزالته ولذلك أبحنا للمرأة فسخ النكاح عند عجز زوجها عن الإنفاق عليها
وقد روي في بعض الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ عبدك يقول أطعمني وإلا فبعني وامرأتك تقول أطعمني أو طلقني ] وهذا يدل بمفهومه على أن السيد متى وفى بحقوق عبده فطلب العبد بيعه لم يجبر السيد عليه وقد نص عله أحمد قال أبو داود : قيل لأبي عبد الله رحمه الله : استباعت المملوكة وهو يكسوها مما يلبس ويطعمها مما يأكل ؟ قال : لا تباع وإن أكثرت من ذلك إلا أن تحتاج إلى زوج فتقول زوجني وقال عطاء و إسحاق في العبد يحسن إليه سيده وهو يستبيع : لا يبعه لأن الملك للسيد والحق له فلا يجبر على إزالته من غير ضرر بالعبد كما لا يجبر على طلاق زوجته مع القيام بما يجب لها ولا على بيع بهيمته مع الإنفاق عليها
مسألة : قال : وليس عليه نفقة مكاتبه إلا أن يعجز
لا خلاف في أن المكاتب لا تلزم سيده نفقته لأن المكاتبة عقد أوجب ملك المكاتب إكساب نفسه ومنافعه ومنع السيد من التصرف فيهما فلا يملك استخدامه ولا إجارته ولا إعارته ولا أخذ كسبه ولا أرش الجناية عليه ولا يلزمه أداء أرش جنايته فسقطت نفقته عنه كما لو باعه أو أعتقه فإذا عجز عاد رقيقا قنا وعاد إليه ملك نفعه وإكسابه فعادت عليه نفقته كما لو اشتراه بعد بيعه (9/316)
مسائل وفصول حكم رهن المملوك وتأديبه
مسألة : قال : وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ريه
أما إذا أراد استرضاع أمته لغير ولدها مع كونه لا يفضل عنه فليس له ذلك لأن فيه إضرارا بولدها لنقصه من كفايته وصرف اللبن المخلوق لولدها إلى غيره مع حاجته إليه فلم يجز كما لو أراد أن ينقص الكبير من كفايته ومؤنته فإن كان فيها فضل عن ري ولدها جاز لأنه ملكه وقد استغنى عنه الولد فكان له استيفاؤه كالفاضل من كسبها عن مؤنتها وكما لو مات ولدها وبقي لبنها
مسألة : قال : وإذا رهن المملوك أنفق عليه سيده
وذلك لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه ونفقته من غرمه ] ولأنه ملك الراهن ونماؤه له فكانت عليه نفقته كغير الرهن وقد ذكرت هذه المسألة في باب الرهن
مسألة : قال : وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه
إنما كان كذلك لأن نفقة العبد على سيده وقد قام الذي جاء مقام سيده في الواجب عليه فرجع به عليه كما لو أذن له وقال الشافعي : لا يرجع بشيء لأنه متبرع بإنفاق لم يجب عليه
ولنا أنه أدى عنه ما وجب عليه تعذر أدائه منه فرجع به عليه كما لو أدى الحاكم عن الممتنع من الإنفاق على امرأته ما يجب عليه من النفقة ويتخرج أن لا يرجع بشيء بناء على الرواية الأخرى فيمن أنفق على الرهن الذي عنده أو الوديعة أو الجمال إذا هرب الجمال فتركها مع المستأجر
فصل : وله تأديب عبده وأمته إذا أذنبا بالتوبيخ والضرب الخفيف كما يؤدب ولده وامرأته في النشوز وليس له ضربه على غير ذنب ولا ضربه ضربا مبرحا وإن أذنب ولا لطمه في وجهه [ وقد روي عن ابن مقرن المزني قال : لقد رأيتني سابع سبعة ليس لنا إلا خادم واحد فلطمها أحدنا فأمرنا النبي صلى الله عليه و سلم بإعتاقها فأعتقناها ] [ وروي عن أبي مسعود قال : كنت أضرب غلاما لي فإذا رجل من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود فالتقت فإذا النبي صلى الله عليه و سلم يقول : اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ] (9/318)
فصل في النفقة على البهيمة
فصل : ومن ملك بهيمة لزمه القيام بها والإنفاق عليها ما تحتاج إليه من علفها أو إقامة من يرعاها لما روى ابن عمر أن النب صلى الله عليه و سلم قال : [ عذبت امرأة في هرة حبستها حتى ماتت جوعا فلا هي أطعمتها ولا ارسلتها تأكل من خشاش الأرض ] متفق عليه فإن امتنع من الإنفاق عليها أجبر على ذلك فإن أبى أو عجز أجبر على بيعها أو ذبحها إن كانت مما يذبح وقال أبو حنيفة : لا يجبره السلطان بل يأمره به كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لأن البهيمة لا يثبت لها حق من جهة الحكم ألا ترى أنه لا تصح منها الخصومة ولا ينصب عليها خصم فصارت كالزرع والشجر
ولنا أنها نفقة حيوان واجبة عليه فكان للسلطان إجباره عليها كنفقة العبيد ويفارق الشجر والزرع فإنها لا تجب فإن عجز عن الإنفاق وامتنع عن البيع يبعث عليه كما يباع العبد إذا طلب البيع عند إعسار سيده بنفقته وكما يفسخ نكاحه إذا أعسر بنفقة امرأته وإن عطبت البهيمة فلم ينتفع بها فإن كانت مما يؤكل خير بين ذبحها والإنفاق عليها وإن كانت مما لا يؤكل أجبر على الإنفاق عليها كالعبد الزمن على ما ذكرناه فيما مضى [ ولا يجوز أن يحمل البهيمة ما لا تطيق لأنها في معنى العبد وقد منع النبي صلى الله عليه و سلم تكليف العبد ما لا يطيق ] لأن فيه تعذيبا للحيوان الذي له حرمة في نفسه وإضرار به وذلك غير جائز ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن كفاية ولدها لأن كفايته واجبة على مالكه ولبن أمه مخلوق له فأشبه ولد الأمة (9/318)
كتاب الجراح
يعني كتاب الجنايات وإنما عبر عنها بالجراح لغلبة وقوعها به والجناية كل فعل عدوان على نفس أو مال لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان وسموا الجنايات على الأموال غصبا ونهبا وسرقة وخيانة وإتلافا (9/319)
فصل تحريم القتل بغير حق ثابت بالكتاب والسنة والإجماع
فصل : وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع ؟ أما الكتاب فقول الله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وقالت تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } وقال : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } الآية
وأما السنة فروى عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ] متفق عليه وروى عثمان وعائشة عن النبي صلى الله عليه و سلم مثله في آي وأخبار سوى هذه كثيرة ولا خلاف بين الأمة في تحريمه فإن فعله إنسان متعمدا فسق وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم وقال ابن عباس : أن توبته لا تقبل للآية التي ذكرناها وهي من آخر ما نزل قال ابن عباس : ولم ينسخها شيء ولأن لفظ الآية لفظ الخبر والأخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقا
ولنا قول الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فجعله داخلا في المشيئة وقال تعالى : { إن الله يغفر الذنوب جميعا } وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ أن رجلا قتل مائة رجل ظلما ثم سأل هل له من توبة ؟ فدل على عالم فسأله فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ولكن اخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها فخرج تائبا فأدركه الموت في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله إليهم ملكا فقال : قيسوا ما بين القريتين فإلى أيهما كان أقرب فاجعلوه من أهلها فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر فجعلوه من أهلها ] ولأن التوبة تصح من الكفر فمن القتل أولى والآية محمولة على من لم يتب أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه وله العفو إذا شاء وقوله : لا يدخلها النسخ قلنا لكن يدخلها التخصيص والتأويل (9/319)
مسألة والقتل على ثلاثة أوجه
مسألة : قال أبو القاسم رحمه الله : والقتل على ثلاثة أوجه عمد وشبه العمد وخطأ
أكثر أهل العلم يرون القتل منقسما إلى هذه الأقسام الثلاثة روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال الشعبي و النخعي و قتادة و حماد وأهل العراق و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي وأنكر مالك شبه العمد وقال : ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا وجعله من قسم العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما [ روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها ] رواه أبو داود وفي لفظ : [ قتيل خطأ العمد ] وهذا نص يقدم على ما ذكروه وقسمة أبو الخطاب أربعة أقسام فزاد قسما رابعا وهو ما أجري مجرى الخطأ نحو أن ينقلب نائم على شخص فيقتله أو يقع عليه من علو والقتل بالسبب كحفر البئر ونصل السكين وقتل غير المكلف أجري مجرى الخطأ وإن كان عمدا وهذه الصورة التي ذكرها عند الأكثرين من قسم الخطأ فإن صاحبها لم يعمد الفعل أو عمده وليس هو من أهل القصد الصحيح فسموه خطأ فأعطوه حكمه وقد صرح الخرقي بذلك فقال في الصبي والمجنون : عمدهما خطأ (9/321)
مسألة القتل العمد أنواعه وأحكامه
مسألة : قال : فالعمد ما ضربه بحديدة أو خشبه كبيرة فوق عمود الفسطاط أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة أو فعل به فعلا الغالب من ذلك الفعل أنه يتلف
وجملة ذلك أن العمد نوعان :
أحدهما : أن يضربه بمحدد وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين والسنان وما في معناه مما يحد فيخرج من الحديد والنحاس والرصاص والذهب والفضة والزجاج والحجر والقصب والخشب فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين العلماء فيما علمناه فأما إن جرحه جرحا صغيرا كشرطة الحجام أو غرزه بإبرة أو شوكة نظرت فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدغ وأصل الأذن فمات فهو عمد أيضا لأن الإصابة بذلك في المقتل كالجرح بالسكين في غير المقتل وإن كان في مقتل نظرت فإن كان قد بالغ في إدخالها في البدن فهو كالجرح الكبير لأن هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل كالكبير وإن كان الغور يسيرا أو جرحه بالكبير جرحا بالكبير جرحا لطيفا كشرطة الحجام فما دونها فقال أصحابنا : إن بقي من ذلك ضمنا حتى مات ففيه القود لأن الظاهر أنه مات وإن مات في الحال ففيه وجهان : أحدهما : لا قصاص فيه قاله ابن حامد لأن الظاهر أنه لم يمت منه ولأنه لا يقتل غالبا فأشبه العصا والسوط والتعليل الأول أجود لأنه لما احتمل حصول الموت بغيره ظاهرا كان ذلك شبهة في درء القصاص ولو كانت العلة كونه لا يحصل به القتل غالبا لم يفترق الحال بين موته في الحال وموته متراخيا عنه كسائر ما لا يجب به القصاص والثاني : فيه القصاص لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل به بدليل ما لو قطع شحمة أذنه أو قطع أنملته ولأنه لما لم يمكن إدارة الحكم وضبطه بغلبة الظن وجب ربطه بكونهمحددا ولا يعتبر ظهور الحكم في آحاد صور المظنة بل يكفي احتمال الحكمة ولذلك ثبت الحكم به فيما إذا بقي ضمنا مع أن العمد لا يختلف مع اتحاد الآلة والفعل بسرعة الإفضاء وإبطائه ولأن في البدن مقاتل خفية وهذا له سراية ومور فأشبه الجرح الكبير وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه لم يفرق بين الصغير والكبير وهو مذهب أبي حنيفة ولـ لشافعي من التفصيل نحو ما ذكرنا
النوع الثاني : القتل بغير المحدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهذا عمد موجب للقصاص أيضا وبه قال النخعي و الزهري و ابن سيرين و حماد وعمروبن دينار و ابن أبي ليلى و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف ومحمد وقال الحسن : لا قود في ذلك وروي ذلك عن الشعبي وقال ابن المسيب و عطاء و طاوس : العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة : لا قود في ذلك إلا أن يكون قتله بالنار وعنه في مثقل الحديد روايتان واحتج بقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا أن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل ] فسماه عمد الخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه بمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالبا لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير فوجب ضبطه بالجرح
ولنا قول الله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وهذا مقتول ظلما وقال الله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى }
[ وروى أنس أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين حجرين ] متفق عليه [ وروى أبو هريرة قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما يودي وإما أن يقاد ] متفق عليه ولأنه يقتل غالبا فأشبه المحدد وأما الحديث فمحمول على المثقل الصغير لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحج فدل على أنه أراد ما يشبههما وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع فإننا نوجب القصاص بما نتيقن حصول الغلبة به فإذا شككنا لم نوجبه مع الشك وصغير الجرح قد سبق القول فيه ولأنه لا يصح ضبطه بالجرح بدليل ما لو قتله بالنار أو بمثقل الحديد إذا ثبت هذا فإن هذا النوع يتنوع أنواعا
أحدها : أن يضربه بمثقل كبير يقتل مثله غالبا سواء كان من حديد كاللت والسندان والمطرقة أو حجر ثقيل أو خشبة كبيرة وحد الخرقي الخشبة الكبيرة بما فوق عمود الفسطاط يعني العمد التي يتخذها الأعراب لبيوتها وفيها دقة فأما عمد الخيام فكبيرة تقتل غالبا فلم يردها الخرقي وإنما حد الموجب للقصاص بما فوق عمود الفسطاط ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم لما سئل عن المرأة التي ضربت جاريتها بعمود فسطاط فقتلتها وجنينها قضى النبي صلى الله عليه و سلم في الجنين بغرة وقضى بالدية على عاقلتها ] والعاقلة لا تحمل العمد فدل على أن القتل بعمود الفسطاط ليس بعمد وإن كان أعظم منه فهو عمد لأنه يقتل غالبا ومن هذا النوع أن يلقي عليه حائطا أو صخرة أو خشبة عظيمة أو ما أشبه مما يهلكه غالبا فيهلكه ففيه القود لأنه يقتل غالبا
النوع الثاني : أن يضربه بمثقل صغير كالعصا والسوط والحجر الصغير أو يلكزه بيده في مقتل أو في حال ضعف من المضروب لمرض أو صغر أو في زمن مفرط الحر أو البرد بحيث تقتله تلك الضربة أو كرر الضرب حتى قتله بما يقتل غالبا ففيه القود لأنه قتله بما يقتل مثله غالبا فأشبه الضرب بمثقل كبير ومن هذا النوع لو عصر خصيته عصرا شديدا فقتله بعصر يقتل مثله غالبا فعليه القود وإن لم يكن كذلك في جميع ما ذكرناه فهو عمد الخطأ وفيه الدية إلا أن يصغر جدا كالضربة بالقلم والأصبع في غير مقتل ونحو هذا مما لا يتوهم القتل به فلا قود فيه ولا دية لأنه لم يمت به وكذلك إن مسه بالكبير ولم يضربه به لأن الدية إنما تجب بالقتل وليس هذا بقتل
النوع الثالث : أن يمنع خروج نفسه وهو ضربان : أحدهما : أن يجعل في عنقه خراطة ثم يعلقه في خشبة أو شيء بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق ويموت فهذا عمد سواء مات في الحال أو بقي زمنا لأن هذا أوحى أنواع الخنق وهو الذي جرت العادة بفعله من الولادة في اللصوص وأشباههم من المفسدين والضرب الثاني : أن يخنقه وهو على الأرض بيديه أو منديل أو حبل أو يغمه بوسادة أو شيء يضعه على فيه وأنفه أو يضع يديه عليهما فيموت فهذا إن فعل به ذلك مدة يموت في مثلها غالبا فمات فهو عمد فيه القصاص وبه قال عمر بن عبد العزيز و النخعي و الشافعي وإن فعله في مدة لا يموت في مثلها غالبا فمات فهو عمد الخطأ إلا أن يكون ذلك يسيرا في العادة بحيث لا يتوهم الموت منه فلا يوجب ضمانا لأنه بمنزلة لمسه وإن خنقه وتركه مثلا حتى مات ففيه القود لأنه مات من سراية جنايته فهو كالميت من سراية الجرح وإن تنفس وصح ثم مات فلا قود لأن الظاهر أنه لم يمت منه فأشبه مالو اندمل الجرح ثم مات
النوع الرابع : أن يلقيه في مهلكة وذلك على أربعة أضرب أحدها : أن يلقيه من شاهق كرأس جبل أو حائط عال يهلك به غالبا فيموت فهو عمد الثاني : أن يلقيه في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه التخلص منه إما لكثرة الماء أو النار وإما لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر أو كونه مربوطا أو منعه الخروج أو كونه في حفيرة لا يقدر على الصعود منها ونحو هذا أو القاه في بئر ذات نفس فمات به عالما بذلك فهذا كله عمد لأنه يقتل غالبا وإن ألقاه في ماء يسير يقدر على الخروج منه فلبث فيه اختيارا حتى مات فلا قود ولا دية لأن هذا الفعل لم يقتله وإنما حصل موته بلبثه فيه وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره وإن تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها أو كونه في طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود لأن هذا لا يقتل غالبا وهل يضمنه ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يضمنه لأنه ملك لنفسه بإقامته فلم يضمنه كما لو ألقاه في ماء يسير لكن يضمن ما أصابت النار منه والثاني : يضمنه لأنه جان بالإلقاء المفضي إلى الهلاك وترك التخلص لا يسقط الضمان كما لو فصده فترك شد فصاده مع إمكانه أو جرحه فترك مداواة جرحه وفارق الماء لأنه لا يهلك بنفسه ولهذا يدخله الناس للغسل والسباحة والصيد وأما النار فيسيرها يهلك وإنما تعلم قدرته على التخلص بقوله : أنا قادر على التخلص أو نحو هذا لأن النار لها حررة شديدة فربما أزعجته حرارتها عن معرفة ما يتخلص به أو أذهبت عقله بألمهاوروعتها وإن القاه في لجة لا يمكنه التخلص منها فالتقمه حوت ففيه وجهان : أحدهما : عليه القود لأنه القاه في مهلكة فهلك فأشبه ما لو غرق فيها والثاني : لا قود عليه لأنه لم يهلك بها أشبه ما لو قتله آدمي آخر وإن ألقاه في ماء يسير فأكله سبع أو التقمه حوت أو تمساح فلا قود عليه لأن الذي فعله لا يقتل غالبا وعليه ضمانه لأنه هلك بفعله
الضرب الثالث : أن يجمع بينه وبين أسد أو نمر في مكان ضيق كزينة ونحوها فيقتله فهذا عمد فيه القصاص إذا فعل السبع به فعلا يقتل مثله وإن فعل به فعلا لو فعله الآدمي لم يكن عمدا لم يجب القصاص به لأن السبع صار آلة للآدمي فكان فعله كفعله وإن ألقاه مكتوفا بين يدي الأسد أو النمر في فضاء فأكله فعليه القود وكذلك إن جمع بينه وبين حية في مكان ضيق فنهشته فقتلته فعليه القود وقال القاضي : لا ضمان عليه في الصورتين وهو قول أصحاب الشافعي لأن الأسد والحية يهربان من الآدمي ولأن هذا سبب غير ملجىء
ولنا أن هذا يقتل غالبا فكان عمدا محضا كسائر الصور وقولهم : إنهما يهربان غير صحيح فإن الأسد يأخذ الآدمي المطلق فكيف يهرب من مكتوف ألقي إليه ليأكله ؟ والحية إنما تهرب في مكان واسع أما إذا ضاق المكان فالغالب أنها تدقع عن نفسها بالنهش على ما هو العادة
وقد ذكر القاضي فيمن ألقي مكتوفا في ارض مسبعة أو ذات حيات فقتلته أن في وجوب القصاص روايتين وهذا تناقض شديد فإنه نفي الضمان بالكلية في صورة كان القتل فيها أغلب وأوجب القصاص في صورة كان فيها أندر والصحيح أنه لا قصاص ههنا ويجب الضمان لأنه فعل به فعلا متعمدا تلف به لا يقتل مثله غالبا وإن أنهشه حية أو سبا فقتله فعليه القود إذا كان ذلك ممايقتل غالبا فإن كان مما لا يقتل غالبا كثعبان الحجاز أو سبع صغير ففيه وجهان : أحدهما : فيه القود لأن الجرح لا يعتبر فيه غلبة حصول القتل به وهذا جرح ولأن الحية من جنس ما يقتل غالبا والثاني : هو شبيه العمد لأنه لا يقتل غالبا أشبه الضرب بالعصا والحجر وإن كتفه وألقاه في أرض غير مسبعة فأكله سبع أو نهشته حية فمات فهو شبه العمد وقال أصحاب الشافعي : هو خطأ محض
ولنا أنه فعل به فعلا لا يقتل مثله غالبا فأفضى إلى هلاكه أشبه ما لو ضربه بعصا فمات وكذلك إن ألقاه مشدودا في موضع لم يعهد وصول زيادة الماء إليه فأما إن كان في موضع يعلم وصول زيادة الماء إليه في ذلك الوقت فمات بها فهو عمد محض وإن كانت غير معلومة إما لكونه تحتمل الوجود وعدمه أو لا تعهد أصلا فهو شبه عمد
الضرب الرابع : أن يحبسه في مكان ويمنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها حتى يموت فعليه القود لأن هذا يقتل غالبا وهذا يختلف باختلاف الناس والزمان والأحوال فإذا كان عطشان في شدة الحر مات في الزمن القليل وإن كان ريان والزمن بارد أو معتدل لم يمت إلا في زمن طويل فيعتبر هذا فيه وإن كان في مدة يموت في مثلها غالبا ففيه القود وإن كان لا يموت في مثلها غالبا فهو عمد الخطأ وإن شككنا فيها لم يجب القود لأننا شككنا في السبب ولا يثبت الحكم مع الشك في سببه سيما القصاص الذي يسقط بالشبهات
النوع الخامس : أن يسقيه سما أو يطعمه شيئا قاتلا فيموت به فهو عمد موجب للقود إذا كان مثله يقتل غالبا وإن خلطه بطعام وقدمه إليه فأكله أو أهداه إليه أو خلطه بطعام رجل ولم يعلم ذلك فأكله فعليه القود لأنه يقتل غالبا وقال الشافعي في أحد قوليه : لا قود عليه لأنه أكله مختارا فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فطعن بها نفسه ول [ أن أنس بن مالك روى أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه و سلم بشاة مسمومة فأكل منها النبي صلى الله عليه و سلم ولم يقتلها النبي صلى الله عليه و سلم ] قال : وهل يجب القود ؟ فيه قولان
[ ولنا خبر اليهودية فإن أبا سلمة قال فيه : فمات بشر بن البراء فأمر بها النبي صلى الله عليه و سلم فقتلت ] أخرجه أبو داود ولأن هذا يقتل غالبا ويتخذ طريقا إلى القتل كثيرا فأوجب القصاص كما لو أكرهه على شربه فأما حديث أنس فلم يذكر فيه أن أحدا مات منه ولا يجب القصاص إلا أن يقتل به ويجوز أن يكون النب صلى الله عليه و سلم لم يقتلها قبل أن يموت بشر ابن البراء فلما مات أرسل إليها النبي صلى الله عليه و سلم فسألها فاعترفت فقتلها فنقل أنس صدر القصة دون آخرها ويتعين حمله عليه جمعا بين الخبرين ويجوز أن يترك قتلها لكونها ما قصدت بشر بن البراء إنما قصدت قتل النبي صلى الله عليه و سلم فاختل العمد بالنسبة إلى بشر وفارق تقديم السكين لأنها لا تقدم إلى إنسان ليقتل بها نفسه إنما تقدم إليها لينتفع بها وهو عالم بمضرتها ونفعها فأشبه ما لو قدم إليه السم وهو عالم به فأما إن خلط السم بطعام نفسه وتركه في منزله فدخل إنسان فأكله فليس عليه ضمان بقصاص ولا دية لأنه لم يقتله وإنما الداخل قتل نفسه فأشبه ما لو حفر في داره بئرا فدخل رجل فوقع فيها وسواء قصد بذلك قتل الآكل مثل أن يعلم ظالما يريد هجوم داره فترك السم فأكل الطعام ليقتله فه كما لو حفر بئرا في داره ليقع فيها اللص إذا دخل ليسرق منها ولو دخل رجل بإذنه فأكل الطعام المسموم بغير إذنه لم يضمنه لذلك وإن خلطه بطعام رجل أو قدم طعاما مسموما وأخبره بسمه فأكله لم يضمنه لأنه أكله عالما بحاله فأشبه ما لو قدم إليه سكينا فوجأ بها نفسه وإن سقى إنسانا سما أو خلطه بطعامه فأكله ولم يعلم به وكان مما لا يقتل مثله غالبا فهو شبه عمد فإن اختلف فيه هل يقتل مثله غالبا أو لا ؟ وثم بينة تشهد عمل بها وإن قالت البينة : هو يقتل النضو الضعيف دون القوي أو غير هذا عمل على حسب ذلك وإن لم يكن مع أحدهما بينة فالقول قول الساقي لأن الأصل عدم وجوب القصاص فلا يثبت بالشك ولأنه أعلم بصفة ما سقى وإن ثبت أنه قاتل فقال لم أعلم أنه قاتل ففيه وجهان : أحدهما : عليه القود لأن السم من جنس ما يقتل به غالبا فأشبه ما لو جرحه وقال لم أعلم أنه يموت منه والثاني : لا قود عليه لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل وهذه شبهة يسقط بها القود
النوع السادس : أن يقتله بسحر يقتل غالبا فيلزمه القود لأنه قتله غالبا فأشبه ما لو قتله بسكين وإن كان مما لا يقتل غالبا أو كان مما يقتل ولا يقتل ففيه الدية دون القصاص لأنه عمد الخطأ فأسبه ضرب العصا
النوع السابع : أن يتسبب إلى قتله بما يقتل غالبا وذلك اربعة أضرب أحدها : أن يكره رجلا على قتل آخر فيقتله فيجب القصاص على المكره والمكره جميعا وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة ومحمد : يجب القصاص على المكره دون المباشر ل [ قوله عليه الصلاة السلام : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأن المكره آلة للمكره بدليل وجوب القصاص على المكره ونقل فعله إليه فلم يجب على المكره كما لو رمى به عليه فقتله وقال زفر : يجب على المباشر دون المكره لأن المباشرة تقطع حكم السبب كالحافر مع الدافع والآمر مع القاتل وقال الشافعي : يجب على المكره وفي المكره قولان وقال أبو يوسف : لا يجب على واحد منهما لأن المكره لم يباشر القتل فهو كحافر البئر والمكره ملجأ فأشبه المرمي به على إنسان
ولنا على وجوبه على المكره أنه تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبا فأشبه ما لو ألسعه حية أو ألقاه على أسد في زبية
ولنا على وجوبه على المكره أنه قتله عمدا ظلما لاستبقاء نفسه فأشبه ما لو قتله في المخمصة ليأكله وقولهم إن المكره ملجأ غير صحيح فإنه متمكن من الامتناع ولذلك أثم بقتله وحرم عليه وإنما قتله عند الإكراه ظنا منه أن في قتله نجاة نفسه وخلاصه من شر المكره فأشبه القاتل في المخمصة ليأكله وإن صار الأمر إلى الدية وجبت عليهما وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومحمد : لا دية على المكره بناء منهما على أنه آلة وقد بينا فساده وإنما هما شريكان يجب القصاص عليهما جميعا فوجبت الدية عليهما كالشريكين بالفعل وكما يجب الجزاء على الدال على الصيد في الإحرام والمباشر والردء كالمباشر في المحاربة فعلى هذا إن أحب الولي قتل أحدهما وأخذ نصف الدية من الآخر أو العفو عنه فله ذلك
الضرب الثاني : إذا شهد رجلان على رجل بما يوجب قتله فقتل بشهادتهما ثم رجعا واعترفا بتعمد القتل ظلما وكذبهما في شهادتهما فليهما القصاص وبهذا قال الشافعي وقال ابو حنيفة : لا قصاص عليهما لأنه تسبب غير ملجىء فلا يوجب القصاص كحفر البئر
ولنا ما روى القاسم بن عبد الرحمن أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال علي لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فوجب عليهما القصاص كالمكره
الضرب الثالث : الحاكم إذا حكم على رجل بالقتل عالما بذلك متعمدا فقتله واعترف بذلك وجب القصاص والكلام فيه كالكلام في الشاهدين ولو أن الولي الذي باشر قتله أقر بعلمه بكذب الشهود وتعمد قتله فعليه القصاص لا أعلم فيه خلافا فإن أمر الشاهدان والحاكم والوالي جميعا بذلك فعلى الولي القصاص لأنه باشر القتل عمدا وعدوانا وينبغي أن لا يجب على غيره شيء لأنهم متسببون والمباشرة تبطل حكم السبب كالدافع مع الحافر ويفارق هذا ما إذا لم يقر لأنه لم يثبت حكم مباشرة القتل في حقه ظلما فكان وجوده كعدمه ويكون القصاص على الشاهدين والحاكم لأن الجميع متسببون وإن صار الأمر إلى الدية فهي عليهم أثلاثا ويحتمل أن يتعلق الحكم بالحاكم وحده لأن تسببه أخص من تسببهم فإن حكمه واسطة بين شهادتهم وقتله فأشبه المباشر مع المتسبب ولو كان الولي المقر بالتعمد لم يباشر القتل وإنما وكل فيه نظرت في الوكيل فإن أقر بالعلم وتعمد القتل ظلما فهو القاتل وحده لأنه مباشر للقتل عمدا وظلما من غير إكراه فتعلق الحكم به كما لو أمر بالقتل في غير هذه الصورة وإن لم يعترف بذلك فالحكم متعلق بالولي كما لو باشره والله أعلم (9/322)
مسألة وفصلان إذا كان المقتول ظلما حرا مسلما ففيه القود
مسألة : قال : ففيه القود إذا اجتمع عليه الأولياء وكان المقتول حرا مسلما
أجمع العلماء على أن القود لا يجب إلا بالعمد ولا نعلم بينهم في وجوبه بالقتل العمد إذا اجتمعت شروطه خلافا وقد دلت عليه الآيات والأخبار بعمومها فقال الله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } وقال تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } وقال تعالى : { ولكم في القصاص حياة } يريد والله أعلم أن وجوب القصاص يمنع من يريد القتل منه شفقة على نفسه من القتل فتبقى الحياة فيمن أريد قتله وقيل إن القاتل تنعقد العداوة بينه وبين قبيلة المقتول فيريد قتلهم خوفا منهم ويريدون قتله وقتل قبيلته استيفاء ففي الاقتصاص منه بحكم الشرع قطع لسبب الهلاك بين القبيلتين وقال الله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } الآية وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدى ] متفق عليه
وروى أبو شريح الخزاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من أصيب بدم أو خبل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ] رواه أبو داود وفي لفظ : [ فمن قتل له بعد مقالتي قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا الدية أو يقتلوا ] وقال عليه السلام : [ العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول ] وفي لفظ : [ من قتل عامدا فهو قود ] رواه أبو داود وفي لفظ رواه ابن ماجة : [ من قتل عامدا فهو قود ومن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ] وقول الخرقي : إذا اجتمع عليه الأولياء يعني إذا كان للمقتول أولياء يستحقون القصاص فمن شرط وجوبه اجتماعهم على طلبه ولو عفا واحد منهم سقط كله وإن كان بعضهم غائبا أو غير مكلف لم يكن لشركائه القصاص حتى يقدم الغائب ويختار القصاص أو يوكل ويبلغ الصبي ويفيق المجنون ويختاراه وقولهم : إذا كان المقتول حرا مسلمأ يعني مكافئا للقاتل فإذا كان القاتل حرا مسلما اشترط كون المقتول حرا مسلما لتحقق الكافأة بينهما فإن الكافر لا يكافىء المسلم والعبد لا يكافىء الحر
فصل : وأجمع أهل العلم على أن الحر المسلم يقاد به قاتله وإن كان مجدع الأطراف معدوم الحواس والقاتل صحيح سوي الخلق أو كان بالعكس وكذلك إن تفاوتا في العلم والشرف والغنى والفقر والصحة والمرض والقوة والضعف والكبر والصغر والسلطان والسوقة ونحو هذا من الصفات لم يمنع القصاص بالاتفاق وقد دلت عليه العمومات التي تلوناها و [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : المؤمنون تكافأ دماؤهم ] ولأن اعتبار التساوي في الصفات والفضائل يفضي إلى إسقاط القصاص بالكلية وفوات حكمة الردع والزجر فوجب أن يسقط اعتباره كالطول والقصر والسواد والبياض
فصل : ولا يشترط في وجوب القصاص كون القتل في دار الإسلام بل متى قتل في دار الحرب مسلما عامدا عالما بإسلامه فعليه القود سواء كان قد هاجر أو لم يهاجر وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يجب القصاص بالقتل في غير دار الإسلام فإن لم يكن المقتول هاجر لم يضمنه بقصاص ولا دية عمدا قتله أو خطأ وإن كان قد هاجر ثم عاد إلى دار الحرب كرجلين مسلمين دخلا دار الحرب بأمان فقتل احدهما صاحبه فضمنه بالدية ولم يجب القود وحكي عن أحمد رواية كقوله ولو قتل رجلا أسيرا مسلما في دار الحرب لم يضمنه إلا بالدية عمدا قتله أو خطأ
ولنا ما ذكرنا من الآيات والأخبار ولأنه قتل من يكافئه عمدا ظلما فوجب عليه القود كما لو قتله في دار الإسلام ولأن كل دار يجب فيها القصاص إذا كان فيها إمام يجب وإن لم يكن فيها إمام كدار الإسلام (9/334)
فصل قتل الغيلة وغيره سواء في القصاص
فصل : وقتل الغيلة وغيره سواء في القصاص والعفو وذلك للولي دون السلطان وبه قال أبو حنيفة و الشافعي و ابن المنذر وقال مالك : الأمر عندنا أن يقتل به وليس لولي الدم أن يعفو عنه وذلك إلى السلطان والغيلة عنده أن يخدع الإنسان فيدخل بيتا أو نحوه فيقتل أو يؤخذ ماله ولعله يحتج بقول عمر في الذي قتل غيلة : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لأقدتهم به وبقياسه على المحارب
ولنا عموم قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } وقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فأهله بين خيرتين ] ولأنه قتيل في غير المحاربة فكان أمره إلى وليه كسائر القتلى وقول عمر : لأقدتهم به أي أمكنت الولي من استيفاء القود منه (9/336)
فصل حكم ما لو قتل رجلا وادعى أنه وجد مع زوجته
فصل : وإذا قتل رجلا وادعى أنه وجده مع امرأته أو أنه قتله دفعا عن نفسه أو أنه دخل منزله يكابره على ماله فلم يقدر على دفعه إلا بقتله لم يقبل قوله إلا ببينة ولزمه القصاص روي نحو ذلك عن علي رضي الله عنه وبه قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ولا أعلم فيه مخالفا وسواء وجد في دار القاتل أو في غيرها أو وجد معه سلاح أو لم يوجد لما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عمن وجد مع امرأته رجلا فقتله فقال : إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته ولأن الأصل عدم ما يدعيه فلا يثبت بمجرد الدعوى وإن اعترف الولي بذلك فلا قصاص عليه ولا دية لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يوما يتغذى إذ جاءه رجل يعدو وفي يده سيف ملطخ بالدم ووراءه قوم يعدون خلفه فجاء حتى جلس مع عمر فجاء الآخرون فقالوا يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا فقال له عمر : ما يقولون ؟ فقال يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي فإن كان بينهما أحد فقد قتلته فقال عمر : ما يقول ؟ قالوا يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط الرجل وفخذي المرأة فأخذ عمر سيفه فهزه ثم دفعه إليه وقال : إن عادوا فعد رواه سعيد في سننه وروى عن الزبير أنه كان يوما قد تخلف عن الجيش ومعه جارية له فأتاه رجلان فقالا : أعطنا شيئا فألقى إليهما طعاما كان معه فقالا : خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة ولأن الخصم اعترف بما يبيح قتله فسقط حقه كما لو أقر بقتله قصاصا أو في حد يوجب قتله وإن ثبت ذلك ببينة فكذلك (9/337)
مسألة القتل الشبيه بالعمد وأقسامه وأحكامه
مسألة : قال : وشبه العمد ما ضربه بخشبة صغيرة أو حجر صغير أو لكزه أو فعل به فعلا الأغلب من ذلك الفعل أنه لا يقتل مثله فلا قود في هذا والدية على العاقلة
شبه العمد أحد أقسام القتل وهو أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالبا إما لقصد العدوان عليه أو لقصد التأديب له فيسرف فيه كالضرب بالسوط والعصا والحجر الصغير والوكز وسائر ما لا يقتل غالبا إذا قتل فهو شبه عمد لأنه قصد الضرب دون القتل ويسمى عمد الخطأ وخطأ العمد لاجتماع العمد والخطأ فيه فإنه عمد الفعل وأحطأ في القتل فهذا لا قود فيه والدية على العاقلة في قول أكثر اهل العلم وجعله مالك عمدا موجبا للقصاص ولأنه ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ فمن زاد قسما ثالثا زاد على النص ولأنه قتله بفعل عمده فكان عمدا كما لو غرزه بإبراة فقتله وقال أبو بكر من أصحابنا : تجب الدية في مال القاتل وهو قول ابن شبرمة لأنه موجب فعل عمد فكان في مال القاتل كسائر الجنايات
ولنا ما روى أبو هريرة قال : [ اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى النبي صلى الله عليه و سلم أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها ] متفق عليه فأوجب ديتها على العاقلة والعاقلة لا تحمل عمدا وأيضا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ ألا إن في قتيل خطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل ] وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه ] رواه أبو داود وهذا نص وقوله هذ قسم ثالث قلنا نعم هذا ثبت بالسنة والقسمان الأولان ثبت بالكتاب ولأنه قتل لا يوجب القود فكانت ديته على العاقلة كقتل الخطأ (9/338)
مسألتا وفصل القتل الخطأ معناه وحكمه
مسألة : قال : والخطأ على ضربين أحدهما أن يرمي الصيد أو يفعل ما يجوز له فعله فيؤول إلى إتلاف حر مسلما كان أو كافرا فتكون الدية على عاقلته وعليه عتق رقبة مؤمنة
وجملته أن الخطأ أن يفعل فعلا لا يريد به إصابة المقتول فيصيبه ويقتله مثل أن يرمي صيدا أو هدفا فيصيب إنسانا فيقتله قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره لا اعلمهم يختلفون فيه هذا قول عمر بن عبد العزيز و قتادةو و النخعي و الزهري و ابن شبرمة و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي فهذا الضرب من الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة في مال القاتل بغير خلاف نعلمه والأصل في وجوب الدية والكفارة قول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا له عهد لقول الله تعالى : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } ولا قصاص في شيء من هذا لأن الله تعالى أوجب به الدية ولم يذكر قصاصا وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه لم يوجب القاص في عمد الخطأ ففي الخطأ أولى
فصل : وإن قصد فعلا محرما فقتل آدميا مثل أن يقصد بهيمة أو آدميا معصوما فيصيب غيره فيقتله فهو خطأ أيضا لأنه لم يقصد قتله وهذا مذهب الشافعي وكذلك قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره ويتخرج على قول أبي بكر أن هذا عمد لقوله فيمن رمى نصرانيا فلم يقع به السهم حتى أسلم أنه عمد يجب به القصاص لكونه قصد فعلا محرما قتل به إنسانا
مسألة : قال : والضرب الثاني أن يقتل في بلاد الروم من عنده أنه كافر ويكون قد أسلم وكتم إسلامه إلى أن يقدر على التخلص إلى أرض الإسلام فيكون عليه في ماله عتق رقبة مؤمنة بلا دية لقول الله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة }
هذا الضرب الثاني من الخطأ وهو أن يقتل في أرض الحرب من يظنه كافرا ويكون مسلما ولا خلاف في أن هذا خطأ لا يوجب قصاصا لأنه لم يقصد قتل مسلم فأشبه ما لو ظنه صيدا فبان آدميا إلا أن هذا لا تجب به دية أيضا ولا يجب إلا الكفارة وروي هذا عن ابن عباس وبه قال عطاء و مجاهد و عكرمة و قتادة و الأوزاعي و الثوري و أبو ثور و ابو حنيفة وعن أحمد رواية أخرى تجب به الدية والكفارة وهو قول مالك و الشافعي لقول الله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وقال عليه السلام : [ ألا أن في قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل ] ولأنه قتل مسلما خطأ فوجبت ديته كما لو كان في دار الإسلام
ولنا قول الله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ولم يذكر دية وتركه ذكرها في القسم مع ذكرها في الذي قبله وبعده ظاهر في أنها غير واجبة وذكره لهذا قسما مفردا يدل على انه لم يدخل في عموم الآية التي احتجوا بها ويخص بها عموم الخبر الذي رووه (9/339)
مسألة وفصلان أحكام قتل المسلم الكافر أو جرحه
مسألة : قال : ولا يقتل مسلم بكافر
أكثر أهل العلم لا يوجبون على مسلم قصاصا بقتل كافر أي كافر كان روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم وبه قال عمر بن عبد العزيز و عطاء و الحسن و عكرمة و الزهري و ابن شبرمة و مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و ابو عبيد و ابن المنذر وقال النخعي و الشعبي وأصحاب الراي : يقتل المسلم بالذمي خاصة قال أحمد : الشعبي و النخعي قالا : دية المجوسي واليهودي والنصراني مثل دية المسلم وإن قتله يقتل به هذا عجب يصير المجوسي مثل المسلم سبحان الله ما هذا القول ؟ واستبشعه وقال : [ النبي صلى الله عليه و سلم يقول : لا يقتل مسلم بكافر وهو يقول : يقتل بكافر فأي شيء أشد من هذا ؟ واحتجوا بالعمومات التي ذكرناها في أول الباب وبما روى ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه و سلم أقاد مسلما بذمي وقال : أنا أحق من وفى بذمته ] ولأنه معصوم عصمة مؤبدة فيقتل به قاتله كالمسلم
ولنا قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر ] رواه الإمام أحمد و ابو داود وفي لفظ : [ لا يقتل مسلم بكافر ] رواه البخاري و أبو داود و [ عن علي رضي الله عنه قال : من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر ] رواه الإمام أحمد ولأنه منقوص بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات مخصوصات بحديثنا وحديثهم ليس له إسناد قال أحمد وقال الدار قطني : يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل ؟ والمعنى في المسلم أنه مكافىء للمسلم بخلاف الذمي فأما المستأمن فوافق أبو حنيفة الجماعة في أن المسلم لا يقاد به وهو المشهور عن أبي يوسف وعنه يقتل به لما سبق في الذمي ولنا أنه ليس بمحقون الدم على التأبيد فأشبه الحربي مع ما ذكرنا من الدليل في التي قبلها
فصل : فإن قتل كافر كافرا ثم أسلم القاتل او جرحه ثم اسلم الجارح ومات المجروح فقال أصحابنا : يقتص منه وهو قول الشافعي لأن القصاص عقوبة فكان الاعتبار فيها بحال وجوبها دون حال استيفائها كالحدود ولأنه حق وجب عليه قبل إسلامه فلم يسقط بإسلامه كالدين ويحتمل أن لا يقتل به وهو قول الأوزاعي لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقتل مسلم بكافر ] ولأنه مؤمن فلا يقتل بكافر كما لو كان مؤمنا حال قتله ولأن إسلامه لو قارن السبب منع عمله فإذا طرأ سقط حكمه
فصل : وإن جرح مسلم كافرا فاسلم المجروح ثم مات مسلما بسراية الجرح لم يقتل به قاتله لأن التكافؤ معدوم حال الجناية وعليه دية مسلم لأن اعتبار الأرش بحالة استقرار الجناية بدليل ما لو قطع يدي رجل ورجليه فسري إلى نفسه دية واحدة ولو اعتبر حال الجرح وجب ديتان ولو قطع حر يد عبد ثم عتق ومات لم يجب قصاص لعدم التكافؤ حال الجناية وعلى الجاني دية حر اعتبارا بحال الاستقرار وهذا قول ابن حامد وهو مذهب الشافعي وللسيد أقل الأمرين من نصف قيمته أو نصف دية حر والباقي لورثته لأن نصف قيمته إن كانت أقل فهي التي وجدت في ملكه فلا يكون له أكثر منها لأن الزائد حصل بحريته ولا حق له فيما حصل بها وإن كان الأقل الدية لم يستحق أكثر منها لأن نقص القمية حصل بسبب من جهة السيد وإعتاقه وذكر القاضي أن أحمد نص في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم أعتق ومات أن على الجاني قيمته للسيد وهذا يدل على أن الاعتبار بحال الجناية وهذا اختيار أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب
وقال أبو الخطاب : من قطع يد ذمي ثم أسلم ومات ضمنه بدية ذمي ولو قطع يد عبد فأعتقه سيده ومات فعلى الحاني قيمته للسيد لأن حكم القصاص معتبر بحال الجناية دون حال السراية فكذلك الدية والأول أصح إن شاء الله لأن سراية الجرح مضمونة فإذا أتلفت حرا مسلما وجب ضمانه بدية كاملة كما لو قتله بجرح ثان وقول أحمد فيمن فقأ عيني عبد عليه قيمته للسيد لا خلاف فيه وإنما الخلاف في وجوب الزائد على القيمة من دية الحر للورثة ولم يذكره أحمد ولأن الواجب مقدر بما تفضي إليه السراية دون ما تتلفه الجناية بدليل أن من قطعت يداره ورجلاه فسرى القطع إلى نفسه لم يلزم الجاني أكثر من دية ولو قطع أصبعا فسرى إلى نفسه لوجبت الدية كاملة فكذلك إذا سرت إلى نفس حر مسلم تجب ديته كاملة فأما إن جرح مرتدا أو حربيا فسرى الجرح إلى نفسه فلا قصاص فيه ولا دية سواء أسلم قبل السراية أو لم يسلم لأن الجرح غير مضمون فلم يضمن سرايته بخلاف التي قبلها (9/342)
فصل ارتداد المسلم بعد الجناية عليه بقطع يده
فصل : ولو قطع يد مسلم فارتد ثم مات بسراية الجرح لم يجب في النفس قصاص ولا دية ولا كفارة لأنها نفس مرتد غير معصوم ولا مضمون وكذلك لو قطع يد ذمي فصار حربيا ثم مات من جراحه وأما اليد فالصحيح أنه لا قصاص فيها وذكر القاضي وجها في وجوب القصاص فيها لأن القطع استقر حكمه بانقطاع حكم سرايته فأشبه ما لو قطع طرفه ثم قتله أو جاء آخر فقتله ولـ لشافعي في وجوب القصاص قولان
ولنا أنه قطع هو قتل لم يجب به القتل فلم يجب القطع كما لو قطع من غير مفصل وفارق ما قاسوا عليه فإن القطع لم يصر قتلا وهل تجب دية الطرف ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا ضمان فيه لأنه تبين أنه قتل لغير معصوم والثاني : تجب لأن سقوط حكم سراية الجرح لا يسقط ضمانه كما لو قطع طرف رجل ثم قتله آخر فعلى هذا هل يجب ضمانه بدية المقطوع أو بأقل الأمرين من ديته أو دية النفس ؟ فيه وجهان : أحدهما : تجب دية المقطوع فلو قطع يديه ورجليه ثم ارتد ومات ففيه ديتان لأن الردة قطعت حكم السراية فأشبه انقطاع حكمها باندمالها أو بقتل آخر له والثاني : يجب أقل الأمرين لأنه لو لم يرتد لم يجب أكثر من دية النفس فمع الردة أولى ولأنه قطع صار قتلا فلم يجب أكثر من دية كما لو لم يرتد وفارق أصل الوجه الأول فإنه يصر قتلا ولأن الاندمال والقتل منع وجود السراية والردة منعت ضمانها ولم تمنع جعلها قتلا ول لشافعي من التفصيل نحو مما قلنا (9/345)
فصلان حكم من قطع يد مسلم ثم ارتد
فصل : وإن قطع مسلم يد نصراني فتمجس وقلنا لا يقر فهو كما لو جنى على مسلم فارتد وإن قلنا يقر عليه وجبت دية مجوسي وإن قطع يد مجوسي فتنصر ثم مات وقلنا يقر وجبت دية نصراني ويجيء على قول أبي بكر والقاضي أن تجب دية نصراني في الأولى ودية مجوسي في الثانية كقولهم فيمن جنى على عبد ذمي فأسلم وعتق ثم مات من الجناية ضمنه بقيمة عبد ذمي اعتبارا بحال الجناية
فصل : وإن قطع يد مسلم فارتد ثم أسلم ومات وجب القصاص على قاتله نص عليه أحمد رحمه الله في رواية محمد بن الحكم وقال القاضي : يتوجه عندي أنه إن كان زمن الردة تسري في مثله الجناية لم يجب القصاص في النفس وهل يجب في الطرف الذي قطع في إسلامه ؟ على وجهين وهذا مذهب الشافعي لأن القصاص يجب بالجناية والسراية كلها فإذا لم يوجد جميعها في الإسلام لم يجب القصاص كما لو جرحه جرحين أحدهما في الإسلام والآخر في الردة فمات منهما
زلنا أنه مسلم حال الجناية والموت فوجب القصاص بقتله كما لو لم يرتد واحتمال السراية حال الردة لا يمنع لأنها غير معلومة فلا يجوز ترك السبب المعلوم باحتمال المانع كما لو لم يرتد فإنه يحتمل أن يموت بمرض أو بسبب آخر أو بالجرح مع شيء آخر يؤثر في الموت فأما الدية فتجب كاملة ويحتمل وجوب نصفها لأنه مات من جرح مضمون وسراية غير مضمونة فوجب نصف الدية كما لو جرحه إنسان وجرح نفسه فمات منهما فأما إن كان زمن الردة لا تسري في مثله الجناية ففيه الدية أو القصاص وقال الشافعي في احد قوليه : لا قصاص فيه لأنه انتهى إلى حال لو مات لم يجب القصاص
ولنا أنهما متكافئان حال الجناية والسراية والموت فأشبه ما لو لم يرتد وإن كان الجرح خطأ وجبت الكفارة بكل حال لأنه فوت نفسا معصومة (9/346)
فصل حكم ما لو جرحه وهو مسلم مرتد
فصل : وإن جرحه وهو مسلم فارتد ثم جرحه جرحا آخر ثم أسلم ومات منهما فلا قصاص فيه لأنه مات من جرحين : مضمون وغير مضمون ويجب فيه نصف الدية لذلك وسواء تساوى الجرحان أو زاد أحدهما مثل أن قطع يديه وهو مسلم فارتد فقطع رجله أو كان بالعكس لأن الجرح في الحالين كجرح رجلين وهل يجب القصاص في الطرف الذي قطعه في حال إسلامه ؟ يحتمل وجهين بناء على من قطع طرفه وهو مسلم فارتد ومات في ردته ولو قطع طرفه في ردته أولا فأسلم ثم قطع طرفه الآخر ومات منهما فالحكم فيه كالتي قبلها (9/347)
فصلان قتل الذمي بالمسلم أو بحربي
فصل : ويقتل الذمي بالمسلم ل [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قتل اليهودي الذي رض رأس جارية من الأنصار على أوضاح لها ولأنه إذا قتل بمثله فبمن فوقه أولى ] ويقتل الذمي بالذمي سواء اتفقت أديانهم أو اختلفت فو قتل النصراني مجوسيا أو يهوديا قتل به نص عليه أحمد في النصراني يقتل بالمجوسي إذا قتله فكيف يقتل به وديتهما مختلفة ؟ فقال : أذهب إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم قتل رجلا بامرأة يعني أنه قتله بها مع اختلاف ديتهما ولأنهما تكافآ في العصمة بالذمة ونقيصة الكفر فجرى القصاص بينهما كما لو تساوى ديتهما وهذا مذهب الشافعي
فصل : ولا يقتل ذمي بحربي لا نعلم فيه خلافا لأنه مباح الدم على الإطلاق أشبه الخنزير ولا دية فيه لذلك ولا كفارة ولا يجب بقتل المرتد قصاص ولا دية ولا كفارة لذلك سواء قتله مسلم أو ذمي وهو قول بعض أصحاب الشافعي وقال بعض أصحاب الشافعي : يجب القصاص على الذمي بقتله والدية إذا عفا عنه لأنه لا ولاية له في قتله وقال بعضهم : يجب القصاص دون الدية لأنه لا قيمة له ولنا أنه مباح الدم أشبه الحربي ولأن من لا يضمنه المسلم لا يضمنه الذمي كالحربي (9/347)
فصل ليس على قاتل الزاني المحصن قصاص
وليس على قاتل الزاني المحصن قصاص ولا دية ولا كفارة وهذا ظاهر مذهب الشافعي وحكي بعضهم وجها أن على قاتله القود لأنه قتله إلى الإمام فيجب القود على من قتله سواه كمن عليه القصاص إذا قتله غير مستحقه
ولنا أنه مباح الدم وقتله متحتم فلم يضمن كالحربي ويبطل ما قاله بالمرتد وفارق القاتل فإن قتله غير متحتم وهو مستحق على طريق المعاوضة فاختص بمستحقه وههنا يجب قتله لله تعالى فأشبه المرتد وكذلك الحكم في المحارب الذي تحتم قتله (9/348)
مسألةو فصول لا يقتل السيد بعبده ولا يقطع طرف الحر بطرف العبد وفصول في القصاص
فصل : ويقتل المرتد بالمسلم والذمي ويقدم القصاص على القتل بالردة لأنه حق آدمي وإن عفا عنه ولي القصاص فله دية المقتول فإن أسلم المرتد فهي في ذمته وإن قتل بالردة أو مات تعلقت بماله وإن قطع طرفا من أحدهما فعليه القصاص فيه أيضا وقال بعض أصحاب الشافعي : لايقتل المرتد بالذمي ولا يقطع طرفه بطرفه لأن أحكام الإسلام في حقه باقية بدليل العبادات عليه ومطالبته بالإسلام
ولنا أنه كافر فيقتل بالذمي كالأصلي وقولهم إن أحكام الإسلام باقية غير صحيح فإنه قد زالت عصمته وحرمته وحل نكاح المسلمات وشراء العبيد المسلمين وصحة العبادات وغيرها وأما مطالبته بالإسلام فهو حجة عليهم فإنه يدل على تغليظ كفره وأنه لا يقر لى ردته لسوء حاله فإذا قتل بالذمي مثله فمن هو دونه أولى
فصل : وإن جرح مسلم ذميا ثم ارتد ومات المجروح لم يقتل به لأن التكافؤ مشترط حال وجود الجناية ولم يوجد وإن قتل من يعرفه ذميا أو عبدا وكان قد أسلم وعتق وجب القصاص لأنه قتل من يكافئه عمدا عدوانا فلزمه القصاص كما لو علم حاله وفارق من علمه حربيا لأنه لم يعمد إلى قتل معصوم
مسألة : قال : ولا حر بعبد
روي هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال الحسن و عطاء وعمر بن بد العزيز و عكرمة و عمرو بن دينار و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور ويروى عن سعيد بن المسيب و النخعي و قتادة و الثوري وأصحاب الرأي أنه يقتل به لعموم الآيات والأخبار لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ المؤمنون تتكافأ دماؤهم ] ولأنه آدمي معصوم فأشبه الحر
ولنا ما روى الإمام أحمد بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال : من السنة أن لا يقتل حر بعبد وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يقتل حر بعبد ] رواه الدار قطني ولأنه لا يقطع طرفه بطرفه مع التساوي في السلامة فلا يقتل به كالأب مع ابنه ولأن العبد منقوص بالرق فلم يقتل به الحر كالمكاتب إذا ملك ما يؤدي والعمومات مخصوصات بهذا فنقيس عليه
فصل : ولا يقتل السيد بعبده في قول أكثر أهل العلم وحكي عن النخعي و داود أنه يقتل به لما روى قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ومن قتل عبده قتلناه ومن جدعه جدعناه ] رواه سعيد والإمام أحمد و الترمذي وقال : حديث صحيح حسن غريب مع العمومات والمعنى في التي قبلها
ولنا ما ذكرناه في التي قبلها [ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : لو لم أسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : لا يقاد المملوك من مولاه والولد من والده لأقدته منك ] رواه النسائي [ وعن علي رضي الله عنه رجلا قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه و سلم مائة جلده ونفاه عاما ومحا اسمه من المسلمين ] رواه سعيد والخلال وقال أحمد : ليس بشيء من قبل إسحاق بن ابي فروة ورواه عمر بن شعيب عن ابيه عن جده عن أبي بكر وعمر أنهما قالا : من قتل عبده جلد مائة وحرم سهمه مع المسلمين فأما حديث سمرة فلم يثبت قال أحمد : الحسن لم يسمع من سمرة إنما وهي صحيفة وقال عنه أحمد : إنما سمع الحسن من سمرة ثلاثة أحاديث ليس هذا منها ولأن الحسن افتى بخلافه فإنه يقول لا يقتل الحر بالعبد وقال إذا قتل السيد عبده يضرب ومخالفته لم تدل على ضعفه
فصل : ولا يقطع طرف الحر بطرف العبد بغير خلاف علمناه بينهم ويقتل العبد بالحر ويقتل بسيده لأنه إذا قتل بمثله فبمن هو اكمل منه أولى مع عموم النصوص الواردة في ذلك ومتى وجب القصاص على العبد فعفا ول يالجناية إلى المال فله ذلك ويتعلق أرشها برقبته لأنه موجب جنايته فتعلق برقبته كالقصاص ثم أن شاء سيده أن يسلمه إلى ولي الجناية لم يلزمه أكثر من ذلك لأنه سلم إليه ما تعلق حقه به وإن قال ولي الجناية بعه وادفع إلي ثمنه لم يلزمه ذلك لأنه لم يتعلق بذمته شيء وإنما تعلق بالرقبة التي سلمها فبرىء منها وفيه وجه آخر أنه يلزمه ذلك كما يلزمه بيع الرهن وإن امتنع من تسليمه واختار فداءه فهل تلزمه قيمته أو أرش الجناية جميعا ؟ على روايتين ذكرناهما في غير هذا الموضع وإن عفا عن القصاص ليملك رقبة العبد ففيه روايتان إحداهما يملكه بذلك لأنه يملك إتلافه فكان ملكا له كسائر أمواله والثانية : لا يملكه لأنه محل تعلق به القصاص فلا يملكه بالعفو كالحر فعلى هذه الرواية يتعلق أرش الجناية برقبته كما لو عفا على مال لأن العوض الذي عفا لأجله لم يصح له فكان له عوضه كالعقود الفاسدة (9/349)
فصول قصاص العبيد
فصل : ويجري القصاص بين العبيد في النفس في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر ابن عبد العزيز وسالم و النخعي و الشعبي و الزهري و قتادة و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وروي عن أحمد رواية أخرى أن من شرط القصاص تساوي قيمتهم وإن اختلفت قيمتهم لم يجر بينهم قصاص وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر فإن كانت أقل فلا وهذا قول عطاء وقال ابن عباس : ليس بين العبيد قصاص في نفس ولا جرح لأنهم أموال
ولنا أن الله تعالى قال : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } وهذا نص من الكتاب فلا يجوز خلافه لأن تفاوت القيمة كتفاوت الدية والفضائل فلا يمنع القصاص كالعلم والشرف والذكورية والأنوثية
فصل : ويجري القصاص بينهم فيما دون النفس وبه قال عمر بن عبد العزيز وسالم و الزهري و قتادة و مالك و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وعن أحمد رواية أخرى لا يجري القصاص بينهم فيما دون النفس وهو قول الشعبي و النخعي و الثوري و أبي حنيفة لأن الأطراف مال فلا يجري القصاص فيها كالبهائم ولأن التساوي في الأطراف معتبر في جريان القصاص بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بالناقصة وأطراف العبيد لا تتساوى ولنا قول الله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } الآية ولأنه أحد نوعي القصاص فجري بين العبيد كالقصاص في النفس
فصل : وإذا وجب القصاص في طرف العبد وجب للعبد وله استيفاؤه والعفو عنه
فصل : ولو قتل عبد عبدا ثم عتق القاتل قتل به وكذلك لو جرح عبد عبدا ثم عتق الجارح ومات المجروح قتل به لأن القصاص وجب فلم يسقط بالعتق بعده ولأن التكافؤ موجود حال وجود الجناية وهي السبب فاكتفي به ولو جرح ذمي عبدا ثم لحق بدار الحرب فأسر واسترق لم يقتل بالعبد لأنه حين وجوب القصاص حر
فصل : وإذا قتل عبد عبدا عمدا فسيد المقتول مخير بين القصاص والعفو فإن عفا إلى مال تعلق المال برقبة القاتل لأنه وجب بجنايته وسيده مخير بين فدائه وتسليمه فإن اختار فداءه فداه بأقل الأمرين من قيمته أو قيمة المقتول لأنه إن كان الأقل قيمته لم يلزمه أكثر منها لأنها بدل عنه وإن كان الأقل قيمة المقتول فليس لسيده أكثر منها لأنها بدل عنه وعنه رواية أخرى أن سيده إن اختار فداءه لزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ لأنه إذا سلمه للبيع ربما زاد فيها مزايد أكثر من قيمته فإن قتل عشرة أعبد عبدا لرجل عمدا فعليهم القصاص فإن اختار السيد قتلهم فله قتلهم وإن عفا إلى مال تعلقت قيمة عبده برقابهم على كل واحد منهم عشر يباع منه بقدرها ويفديه سيده فإن اختار قتل بعضهم والعفو عن البعض كان ذلك له لأن له قتل جميعهم والعفو عن جميعهم وإن قتل عبد عبدين لرجل واحد فله قتله والعفو عنه فإن قتله سقط حقه وإن عفا إلى مال تعلقت قيمة العبدين برقبته فإن كانا لرجلين فكذلك إلا أن القاتل يقتل بالأول منهما لأن حقه أسبق فإن عفا عنه الأول قتل بالثاني وإن قتلهما دفعه واحدة أقرع بين السيدين فأيهما خرجت له القرعة اتقص وسقط حق الآخر وإن عفا عن القصاص أو عفا سيد القتيل الأول عن القصاص إلى مال تعلق برقبة العبد وللثاني أن يقتص لأن تعلق المال بالرقبة لا يسقط حق القصاص كما لو جنى العبد المرهون وإن قتله الآخر سقط حق الأول من القيمة لأنه لم يبق محل يتعلق به وإن عفا الثاني تعلقت قيمة القتيل الثاني برقبته أيضا ويباع فيهما ويقسم ثمنه على قدر القيمتين ولم نقدم الأول بالقيمة كما قدمناه بالقصاص لأن القصاص لا يتبعض بينهما والقيمة يمكن تبعيضها فإن قيل فحق الأول أسبق قلنا لا يراعى السبق كما لو أتلف أموالا لجماعة واحدا بعد واحد فأما إن قتل العبد عبدا بين شريكين كان لهما القصاص والعفو فإن عفا أحدهما سقط القصاص وينتقل حقهما إلى القيمة لأن القصاص لا يتبعض وإن قتل عبدين لرجل واحد فله أن يقتص منه لأحدهما ايهما كان ويسقط حقه من الآخر وله أن يعفو عنه إلى مال وتتعلق قيمتهما جميعا برقبته
فصل : ويقتل العبد القن بالمكاتب والمكاتب به ويقتل كل واحد منهما بالمدبر وأم الولد ويقتل المدبر وأم الولد بكل واحد منهما لأن الكل عبيد فيدخلون في عموم قوله تعالى : { والعبد بالعبد } فقد دل على كون المكاتب عبدا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ] وسواء كان المكاتب قد أدى من كتابته شيئا أو لم يؤد وسواء ملك ما يؤدي أو لم يملك إلا إذا قلنا إنه إذا ملك ما يؤدي فقد صار حرا فإنه لا يقتل بالعبد لأنه حر فلا يقتل بالعبد وإن أدى ثلاثة أرباع مال الكتابة لم يقتل به أيضا لأنه يصير حرا ومن لم يحكم بحريته إلا بأداء جميع الكتابة جاز قتله به وقال أبو حنيفة إذا قتل العبد مكاتبا له وفاء ووارث سوى مولاه لم يقتل به لأنه حين الجرح كان المستحق المولى وحين الموت الوارث ولا يجب القصاص إلا لمن يثبت حقه في الطرفين
ولنا قوله تعالى : { النفس بالنفس } وقوله تعالى : { العبد بالعبد } ولأنه لو كان قنا لوجب بقتله القصاص فإذا كان مكاتبا كان أولى كما لو لم يخلف وارثا وما ذكروه شيء بنوه على أصولهم ولا نسلمه (9/352)
مسألة وفصل كون الكافر الحر لا يقتل بالعبد المسلم ولكن لنقضه العهد
مسألة : قال : وإذا قتل الكافر العبد عمدا فعليه قيمته ويقتل لنقضه للعهد
يعني الكافر الحر لا يقتل بالعبد المسلم لأن الحر لا يقتل بالعبد لفقدان التكافؤ بينهما ولأنه لا يحد بقذفه فلا يقتل بقتله كالأب مع ابنه وعليه قيمته ويقتل لنقضه العهد فإن قتل المسلم ينتقض به العهد بدليل ما روي أن ذميا كان يسوق حمارا بامرأة مسلمة فنخسه بها فرماها ثم اراد إكراهها على الزنا فرفع إلى عمر رضي الله عنه فقال : ما على هذا صالحناهم فقتله وصلبه وروي في شروط عمر أنه كتب إلى عبد الرحمن بن غنم أن ألحق بالشروط من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده ولأنه فعل ينافي الأمان وفيه ضرر على المسلمين فكان نقضا للعهد كالاجتماع على قتال المسلمين والامتناع من أداء الجزية وفيه رواية أخرى أنه لا ينتقض عهده بذلك فعلى هذا عليه قيمته ويؤدب بما يراه ولي الأمر
فصل : وإن قتل عبد مسلم حرا كافرا لم يقتل به لأنا لا نقتل المسلم بالكافر وإن قتل من نصفه حر عبدا لم يقتل به لأنا لا نقتل نصف الحر بعبد وإن قتله حر لم يقتل به لأن النصف الرقيق لا يقتل به الحر وإن قتل من نصفه حر من نصفه حر قتل به لأن القصاص يقع بين الجملتين من غير تفصيل وهما مستويان (9/355)
فصل جريان القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم
فصل : ويجري القصاص بين الولاة والعمال وبين رعيتهم لعموم الآيات والأخبار ولأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم ولا نعلم في هذا خلافا وثبت عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه عاملا أنه قطع يده ظلما : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه وثبت أن عمر رضي الله عنه كان يقيد من نفسه وروى أبو داود قال : خطب عمر فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم فمن فعل به ذلك فيلرفعه إلي اقصة منه فقال عمرو بن العاص : لو أن رجلا أدب بعض رعيته تقصه منه ؟ قال : إي والذي نفسي بيده اقصه وقد رايت رسول الله صلى الله عليه و سلم أقص من نفسه ولأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم هذان حران مسلمان ليس بينهما إيلاد فيجري القصاص بينهما كسائر الرعية (9/356)
فصل حكم ما إذا قتل القاتل غيرغير أولياء الدم
فصل : وإذا قتل القاتل غير ولي الدم فعلى قاتله القصاص ولورثة الأول الدية في تركة الجاني الأول وبهذا قال الشافعي وقال الحسن و مالك : يقتل قاتله ويبطل دم الأول لأنه فات محله فأشبه ما لو قتل العبد الجاني وروي عن قتادة و أبي هاشم : لا قود على الثاني لأنه قتل مباح الدم فلم يجب بقتله قصاص كالزاني المحصن
ولنا على وجوب القصاص على قاتله أنه محل لم يتحتم قتله ولم يبح لغير ولي الدم قتله فوجب القصاص بقتله كما لو كان عليه دين
ولنا على وجوب الدية في تركة الجاني الأول أن القصاص إذا تعذر وجبت الدية كما لو مات أو عفا بعض الشركاء أو حدث مانع وفارق العبد الجاني فإنه ليس له مال ينتقل إليه فإن عفا أولياء الثاني على الدية أخذوها ودفعوها إلى ورثة الأول فإن كانت عليه ديون ضم ما قبضوا من الدية إلى سائر تركته ثم ضرب أولياء المقتول الأول مع سائر أهل الديون في تركته وديته وإن أحال ورثة المقتول الثاني ورثة المقتول الأول بالدية على القاتل الثاني صحت الحوالة ويتخرج أن تجب دية القتيل الأول على قاتله ابتداء لأنه أتلف محل حق ورثته فكان غرامته عليه كما لو قتل العبد الجاني وإن مات القاتل عمدا وجبت الدية في تركته وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة و مالك : يسقط حق ولي الجناية وتوجيه المذهبين على ما تقدم (9/356)
مسألة وفصول سقوط القصاص عن الصبي والمجنون وقصاص السكرن
مسألة : قال : والطفل والزائل العقل لا يقتلان بأحد
لا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه مثل النائم والمغمى عليه ونحوهما والأصل في هذا [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق ] ولأن القصاص عقوبة مغلظة فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود ولأنهم ليس لهم صحيح فهم كالقاتل خطأ
فصل : فإن اختلف الجاني وولي الجناية فقال الجاني : كنت صبيا حال الجناية وقال ولي الجناية : كنت بالغا فالقول قول الجاني مع يمينه إذا احتمل الصدق لأن الأصل الصغر وبراءة ذمته من القصاص وإن قال : قتلته وأنا مجنون وأنكر الولي جنونه فإن عرف له حال جنون فالقول قوله أيضا لذلك فإن لم يعرف حال جنون فالقول قول الولي لأن الأصل السلامة وكذلك إن عرف له جنون ثم علم زواله قبل القتل وإن ثبتت لأحدهما بينة بما ادعاه حكم له وإن أقاما بينتين تعارضتا فإن شهدت البينة أنه كان زائل العقل فقال الولي : كنت سكران وقال القاتل : كنت مجنونا فالقول قول القاتل مع يمينه لأنه أعرف بتفسه ولأن الأصل براءة ذمته واجتناب المسلم فعل ما يحرم عليه
فصل : فإن قتله وهو عاقل ثم جن لم يسقط عنه القصاص سواء ثبت ذلك عليه ببينة أو إقرار لأن رجوعه غير مقبول ويقتص منه في حال جنونه ولو ثبت عليه الحد بإقراره ثم جن لم يقم عليه حال جنونه لأن رجوعه يقبل فيحتمل أنه لو كان صحيحا رجع
فصل : ويجب القصاص على السكران إذا قتل حال سكره ذكره القاضي وذكر أبو الخطاب أن وجوب القصاص عليه مبني على وقوع طلاقه وفيه روايتان فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان : أحدهما : لا يجب عليه لأنه زائل العقل أشبه المجنون ولأنه غير مكلف اشبه الصبي والمجنون
ولنا أن الصحابة رضي الله عنهم أقاموا سكره مقام قذفه فأجبوا عليه حد القاذف فلولا أن قذفه موجب للحد عليه لما وجب بمظنته وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي وأولى ولأنه حكم لو لم يجب القصاص والحد لأفضى إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى شرب ما يسكره ثم يقتل ويزني ويسرق ولا يلزمه عقوبة ولا مأثم ويصبر عصيانه سببا لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه ولا وجه لهذا وفارق هذا الطلاق ولأنه قول يمكن إلغاؤه بخلاف القتل فأما إن شرب أو أكل ما يزيل عقله غير الخمر على وجه محرم فإن زال عقله بالكلية بحيث صار مجنونا فلا قصاص عليه وإن كان يزول قريبا ويعود من غير تداو فهو كالسكر على ما فصل فيه (9/358)
مسائل وفصول القصاص للفروع من الأصول وحكم قتل أحد الزوجين الآخر وفروع
مسألة : قال : ولا يقتل والد بولده وإن سفل
وجملته أن الأب لا يقتل بولده والجد لا يقتل بولد ولده وإن نزلت درجته وسواء في ذلك ولد البنين أو ولد البنات وممن نقل عنه أن الوالد لا يقتل بولده عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال ربيعة و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و اصحاب الرأي وقال ابن نافع وابن عبد الحكم و ابن المنذر : يقتل به لظاهر آي الكتاب والأخبار الموحبة للقصاص ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص فوجب أن يقتل كل واحد منهما بصاحبه كالأجنبيين وقال ابن المنذر : قد رووا في هذا أخبارا وقال مالك : إن قتله حذفا بالسيف ونحوه لم يقتل به وإن ذبحه أو قتله قتلا لا يشك في أنه عمد إلى قتله دون تأديبه أقيد به
ولنا ما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا يقتل والد بولده ] أخرج النسائي حديث عمر ورواهما ابن ماجة وذكرهما ابن عبد البر وقال : هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكون الإسناد قس مثله مع شهوته تكلفا ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أنت ومالك لأبيك ] وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملكية بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات ولأنه سبب إيجاده فلا ينبغي أن يتسلط بسببه على إعدامه وماذكرناه يخص العمومات ويفارق الأب وسائر الناس فإنهم لو قتلوا بالحذف بالسيف وجب عليهم القصاص والأب بخلافه
فصل : والجد وإن علا كالأب في هذا وسواء كان من قبل الأب أو من قبل الأم في قول أكثر مسقطي القصاص عن الأب وقال الحسن بن حي : يقتل به
ولنا أنه والد فيدخل في عموم النص ولأن ذلك حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد كالمحرمية والعتق إذا ملكه والجد من قبل الأب كالجد من قبل الأم لأن ابن البنت يسمى ابنا [ قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحسن : إن ابني هذا سيد ]
مسألة : قال : والأم في ذلك كالأب
هذا الصحيح من المذهب وعليه العمل عند مسقطي القصاص عن الأب وروي عن أحمد رحمه الله ما يدل على أنه لا يسقط عن الأم فإن مهنا نقل عنه في أم ولد قتلت سيدها عمدا تقتل وقال من يقتلها ؟ قال ولدها وهذا يدل على إيجاب القصاص على الأم بقتل ولدها وخرجها أبو بكر على روايتين إحداهما : أن الأم تقتل بولدها لأنه لا ولاية لها عليه فيقتل به كالأخ والصحيح الأول ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا يقتل والد بولده ] ولأنها أحد الوالدين فأشبهت الأب ولأنها أولى بالبر فكانت أولى بنفي القصاص عنها والولاية غير معتبرة بدليل انتفاء القصاص عن الأب بقتل الكبير الذي لا ولاية عليه وعن الجد ولا ولاية له وعن الأب المخالف في الدين أو الرقيق والجدة وإن علت في ذلك كالأم وسواء في ذلك من قبل الأب أو من قبل الأم لما ذكرنا في الجد
فصل : وسواء كان الوالد مساويا للولد في الدين والحرية أو مخالفا له في ذلك لأن انتفاء القصاص لشرف الأبوة وهو موجود في كل حال فلو قتل الكافر ولده المسلم أو قتل المسلم أباه الكافر أو قتل العبد ولده الحر أو قتل الحر ولده العبد لم يجب القصاص لشرف الأبوة فيما إذا قتل ولده وانتفاء المكافأة فيما إذا قتل والده
فصل : وإذا ادعى نفران نسب صغير مجهول النسب ثم قتلاه قبل إلحاقه بواحد منهما فلا قصاص عليهما لأنه يجوز أن يكون ابن كل واحد منهما أو ابنهما وان ألحقته القافة بأحدهما ثم قتلاه لم يقتل أبوه وقتل الآخر لأنه شريك الأب في قتل ابنه وإن رجعا جميعا عن الدعوى لم يقبل رجوعهما لأن النسب حق للولد فلم يقبل رجوعهما عن إقرارهما به كما لو أقر له بحق سواع أو كما لو ادعاه واحد فألحق به ثم جحده وإن رجع أحدهما صح رجوعه وثبت نسبه من الآخر لأن رجوعه لم يبطل نسبه ويسقط القصاص عن الذي لم يرجع ويجب على الراجع لأنه شارك الأب وإن عفا عنه فعليه نصف الدية ولو اشترك رجلان في وطء امرأة في طهر واحد وأتت بولد يمكن أن يكون منهما فقتلاه قبل إلحاقه بأحدهما لم يجب القصاص وإن نفيا نسبه لم ينتف بقولهما وإن نفاه أحدهما لم ينتف بقوله لأنه لحقه بالفراش فلا ينتفي إلا باللعان وفارق التي قبلها من وجهين : أحدهما : إذا رجع عن دعواه لحق الآخر وههنا لا يلحق ذلك والثاني : أن ثبوت نسبه تم بالاعتراف فيسقط بالجحد وههنا يثبت بالاشتراك في الوطء فلا ينتفي بالجحد ومذهب الشافعي في هذا الفصل كما قلنا سواء
فصل : ولو قتل أحد الأبوين صاحبه ولهما ولد لم يجب القصاص لأنه لو وجب لوجب لولده ولا يجب للولد قصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأن لا يجب له بالجناية على غيره أولى وسواء كان الولد ذكرا أو أنثى أو كان للمقتول ولد سواه أو من يشاركه في الميراث أو لم يكن لأنه لو ثبت القصاص لوجب له جزء منه ولا يمكن وجوبه وإذا لم يثبت بعضه سقط كله لأنه لا يتبعض وصار كما لو عفا بعض مستحقي القصاص عن نصيبه منه فإن لم يكن للمقتول ولد منهما وجب القصاص في قول أكثر أهل العلم منهم عمر بن عبد العزيز و النخعي و الثوري و الشافعي واصحاب الرأي وقال الزهري : لا يقتل الزوج بامرأته لأنه ملكها بعقد النكاح فأشبه الأمة
ولنا عمومات النص ولأنهما شخصان متكافئان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فيقتل به كالأجنبيين وقوله : إنه ملكها غير صحيح فإنها حرة وإنما ملك منفعة الاستمتاع فأشبه المستأجرة ولهذا تجب ديتها عليه ويرثها ورثتها ولا يرث منها إلا قدر ميراثه ولو قتلها غيره كانت ديتها أو القصاص لورثتها بخلاف الأمة
فصل : ولو قتل رجل أخاه فورثه ابنه أو أحد يرث ابنه منه شيئا من ميراثه لم يجب القصاص لما ذكرنا ولو قتل خال ابنه فورثت أم ابنه القصاص أو جزءا منه ثم ماتت بقتل الزوج أو غيره فورثها ابنه سقط القصاص لأن ما منع مقارنا أسقط طارئا وتجب الدية ولو قتلت المرأة أخا زوجها فصار القصاص أو جزء منه لابنها سقط القصاص سواء صار إليها ابتداء أو انتقل إليه من أبيه أو من غيره لما ذكرنا
فصل : وإذا قتل أحد أبوي المكاتب المكاتب أو عبدا له لم يجب القصاص لأن الوالد لا يقتل بولده ولا يثبت للولد على والده قصاص وإن اشترى المكاتب أحد أبويه ثم قتله لم يجب عليه قصاص لأن السيد لا يقتل بعبده
فصل : ابنان قتل أحدهما أباه والآخر أمه فإن كانت الزوجية بينهما موجودة حال قتل الأول فالقصاص على قاتل الثاني دون الأول لأن القتيل الثاني ورث جزءا من دم الأول فلما قتل ورثه قاتل الأول فصار له جزء من دم نفسه فسقط القصاص عنه ووجب له القصاص على أخيه فإن قتله ورثه إن لم يكن له وارث سواه لأنه قتله بحق وإن عفا عنه إلى الدية وجبت وتقاصا بما بينهما وما فضل لأحدهما فهو له على أخيه وإن لم تكن الزوجية بين الأبوين قائمة فعلى كل واحد منهما القصاص لأخيه لأنه ورث الذي قتله أخوه وحده دون قاتله فإن بادر أحدهما فقتل صاحبه فقد استوفى صاحبه حقه وسقط القصاص عنه لأنه يرث أخاه لكونه قتلا بحق فلا يمنع الميراث إلا أن يكون للمقتول ابن أو ابن ابن يحجب القاتل فيكون له قتل عمه ويرثه إن لم يكن له وارث سواه وإن تشاحا في المبتدىء منهما بالقتل احتمل أن يبدأ بقتل القاتل الأول لأنه اسبق واحتمل أن يقرع بينهما وهذا قول القاضي ومذهب الشافعي لأنهما تساويا في الاستحاق فيصيرا إلى القرعة وأيهما قتل صاحبه أولا إما بمبادرة أو قرعة ورثه في قياس المذهب إن لم يكن له وارث سواه وسقط عنه القصاص وإن كان محجوبا عن ميراثه كله فلوارث القتيل قتل الآخر وإن عفا أحدهما عن الآخر ثم قتل المعفو عنه العافي ورثه أيضا وسقط عنه ما وجب عليه من الدية وإن تعافيا جميعا على الدية تقاصا بما استويا فيه ووجب لقاتل الأم الفضل على قاتل الأب لأن عقل الأم نصف عقل الأب ويتخرج أن يسقط القصاص عنهما لتساويهما في استحقاقه لسقوط الديتين إذا تساوتا ولأنه لا سبيل إلى استيفائهما واستيفاء أحدهما دون الآخر حيف فلا يجوز فتعين السقوط وإن كان لكل واحد منهما ابن يحجب عمه عن ميراث أبيه فإذا قتل أحدهما صاحبه ورثه ابنه ثم لابنه أن يقتل عمه ويرثه ابنه ويرث كل واحد من الابنين مال أبيه ومال جده الذي قتله عمه دون الذي قتله أبوه وإن كان لكل واحد منهما ابنة فقتل أحدهما صاحبه سقط القصاص عنه لأنه ورث نصف مال أخيه ونصف قصاص نفسه فسقط عنه القصاص وورث مال أبيه الذي قتله أبوه ونصف مال أخيه ونصف مال أبيه الذي هو قتله وورثت البنت التي قتل أبوها نصف مال أبيها ونصف مال جدها الذي قتله عمها ولها على عمها نصف دية قتله
فصل : أربعة إخوة قتل الأول الثاني والثالث الرابع فالقصاص على الثالث لأنه لما قتل الرابع لم يرثه وورثه الأول وقد كان للرابع نصف قصاص الأول فرجع نصف قصاصه إليه فسقط ووجب للثالث نصف الدية وكان للأول قتل الثالث لأنه لم يرث من دم نفسه شيئا فإن قتله ورثه في ظاهر المذهب ويرث ما يرثه عن أخيه الثاني وإن عفا عنه إلى الدية وجبت عليه بكمالها يقاصه بنصفها وإن كان لهما ورثه كان فيها من التفصيل مثل الذي في التي قبلها (9/360)
مسألة ويقتل الولد بكل واحد من أبويه
مسألة : قال : ويقتل الولد بكل واحد منهما
هذا قول عامة أهل العلم منهم مالك و الشافعي و إسحاق واصحاب الرأي وحكى أصحابنا عن أحمد رواية ثانية أن الابن لا يقتل بأبيه لأنه ممن لا تقبل شهادته به بحق النسب فلا يقتل به كالأب مع ابنه والمذهب أنه يقتل به للآيات والأخبار وموافقة القياس ولأن الأب أعظم رحمة وحقا من الأجنبي فإذا قتل بالأجنبي فبالأب أولى ولأنه يجد بقذفه فيقتل به كالأجنبي ولا يصح قياس الابن على الأب لأن حرمة الوالد على الولد آكد والابن مضاف إلى أبيه بلام التمليك بخلاف الوالد مع الولد وقد ذكر أصحابنا حديثين متعارضين عن سراقة النبي صلى الله عليه و سلم أحدهما : أنه قال : [ لا يقاد الأب من ابنه ولا الابن من أبيه ] والثاني : [ أنه كان يقيد الأب من ابنه ولا يقيد الابن من أبيه ] رواه الترمذي وهذان الحديثان أما الحديث الأول لا نعرفه ولم نجده في كتب السنن المشهورة ولا أظن له أصلا وإن كان له أصل فهما متعارضان متدافعان يجب اطراحهما والعمل بالنصوص الواضحة الثابتة والإجماع الذي لا يجوز مخالفته (9/366)
مسألة وفصول قتل الجماعة بالواحد ولا عبرة للتساوي بينهم في سبب القتل
مسألة : قال : ويقتل الجماعة بالواحد
وجملته أن الجماعة إذا قتلوا واحدا فعلى كل واحد منهم القصاص إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بفعله وجب عليه القصاص روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و الحسن وأبو سلمة و عطاء و قتادة وهو مذهب مالك و الثوري و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و أبي ثور أصحاب الرأي وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يقتلون به وتجب علهيم الدية وهذا قول ابن الزبير و الزهري و ابن سيرين و حبيب بن أبي ثابت وعبد الملك و ربيعة و داود و ابن المنذر و حكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس وروي عن معاذ بن جبل وابن الزبير و ابن سيرين و الزهري أنه يقتل منهم واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية لأن كل واحد منهم مكافىء له فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد ولأن الله تعالى قال : { الحر بالحر } وقال : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد والتفاوت في العدد أولى قال ابن المنذر : لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد
ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا وعن علي رضي الله عنه أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا وعن ابن عباس أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف فكان إجماعا ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف ويفارق الدية فإنها تتبعض والقصاص لا يتبعض ولأن القصاص لو سقط بالاشتراك أدى إلى التسارع إلى القتل به فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر
فصل : ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التساوي في سببه فلو جرحه رجل جرحا والآخر مائة أو جرحه أحدهما موضحة والآخر آمه أو أحدهما جائفة والآخر غير جائفة فمات كانا سواء في القصاص والدية لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ولا يكتفي باحتمال الوجود بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم ولأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة ومن غير الجائفة دون الجائفة ولأن الجراح إذا صارت نفسا سقط اعتبارها فكان حكم الجماعة كحكم الواحد الا ترى أنه لو قطع أطرافه كلها فمات وجبت دية واحدة كما لو قطع طرفه فمات
فصل : إذا اشترك ثلاثة في قتل رجل فقطع أحدهم يده والآخر رجله وأوضحه الثالث فمات فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدية فيأخذ من كل واحد ثلثها وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ويقتل الآخرين وله أن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ويقتل الثالث فإن برئت جراحه أحدهم ومات من الجرحين الآخرين فله أن يقتص من الذي برىء جرحه بمثل جرحه ويقتل الآخرين أو يأخذ منهما دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخر نصف الدية وله أن يعفو عن الذي برىء جرحه ويأخذ منه دية جرحه فإن ادعى الموضح أن جرحه برىء قبل موته وكذبه شريكاه نظرت في الولي فإن صدقه ثبت حكم البرء بالنسبة إليه فلا يملك قتله ولا مطالبته بثلث الدية وله أن يقتص منه موضحة أو يأخذ منه أرشها ولم يقبل قوله في حق شريكه لأن الأصل عدم البرء فيها لكن ان اختار الولي القصاص فلا فائدة لهما في إنكار ذلك لأن له أن يقتلهما سواء برئت أو لم تبرأ وإن اختار الدية لم يلزمهما أكثر من ثلثيها وإن كذبه الولي حلف وله الاقتصاص منه أو مطالبته بثلث الدية ولم يكن له مطالبة شريكه بأكثر من ثلثها فإن شهد له شريكاه ببرئها لزمهما الدية كاملة لإقرارهما بوجوبها وللولي أخذها منهما أن صدقهما وإن لم يصدقهما وعفا إلى الدية لم يكن له أكثر من ثلثيها لأنه لا يدعي أكثر من ذلك وتقبل شهادتهما له أن كانا قد تابا وعدلا لأنهما لا يجران إلى أنفسهما بذلك نفعا فيسقط القصاص عنه ولا يلزمه أكثر من أرش موضحة
فصل : إذا قطع رجل يده من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق ثم مات نظرت فإن كانت جراحة الأول برئت قبل قطع الثاني فالثاني هو القاتل وحده وعليه القود أو الدية كاملة إن عفا عن قتله وله قطع يد الأول أو نصف الدية وإن لم تبرأ فهما قاتلان وعليهما القصاص في النفس وإن عفا إلى الدية وجبت عليهما وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة القاتل هو الثاني وحده ولا قصاص على الأول في النفس لأن قطع الثاني قطع سراية قطعه ومات بعد زوال جنايته فأشبه ما لو اندمل جرحه وقال مالك أن قطعه الثاني عقيب قطع الأول قتلا جيمعا وإن عاش بعد قطع الأول حتى أكل وشرب ومات عقيب الثاني فالثاني هو القاتل وحده وإن عاش بعدهما حتى أكل وشرب فللأولياء أن يقسموا على أيهما شاؤوا ويقتلوه
ولنا أنهما قطعان لو مات بعد كل واحد منهما وحده لوجب عليه القصاص فإذا مات بعدهما وجب عليهما القصاص كما لو كان في يدين ولأن القطع الثاني لا يمنع جنايته بعده فلا يسقط حكم ما قبله كما لو في يدين ولا نسلم زوال جنايته ولا قطع سرايته فإن الألم الحاصل بالقطع الأول لم يزل وإنما انضم إليه الألم الثاني فضعفت النفس عن احتمالهما فزهقت بهما فكان القتل بهما ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فاختلفا فإن ادعى الأول أن جرحه اندمل فصدقه الولي سقط عنه القتل ولزمه القصاص في اليد أو نصف الدية وإن كذبه شريكه واختار الولي القصاص فلا فائدة له في تكذيبه لأن قتله واجب وإن عفا عنه إلى الدية فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه أكثر من نصف الدية وإن كذب الولي الأول حلف وكان له قتله لأن الأصل عدم ما ادعاه ولو ادعى الثاني اندمال جرحه فالحكم فيه كالحكم في الأول إذا ادعى ذلك (9/367)
مسألة اشتراك الجماعة في جرح موجب القصاص
مسألة : قال : وإذا قطعوا يدا قطعت نظيرتها من كل واحد منهم
وجملته أن الجماعة إذا اشتركوا في جرح موجب للقصاص وجب القصاص على جميهم وبه قال مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وقال الحسن و الزهري و الثوري واصحاب الرأي و ابن المنذر : لا تقطع يدان بيد واحدة ويتعين ذلك وجها في مذهب أحمد لأنه روي عنه أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ووهذا تنبيه على أن الأطراف لا تؤخذ بطرف واحد لأن الأطراف يعتبر التساوي فيها بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصتها ولا أصلية بزائدة بأصلية ولا يمينا بيسار ولا يسارا بيمين ولا نساوي بين الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما ولا يعتبر التساوي في النفس فإننا نأخذ الصحيح بالمريض وصحيح الأطراف يمقطوعها وأشلها ولأنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس القطع بحيث لو قطع كل واحد من جانب لم يجب القصاص بخلاف النفس ولأن الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيرا فوجب القصاص زجرا عنه كيلا يتخذ وسيلة إلى كثرة القتل والاشتراك المختلف فيه لا يقع إلا في غاية الندرة فلا حاجة إلى الزجر عنه ولأن إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن الاشتراك المعتاد وإيجابه عن المشتركين في الطرف لا يحصل به الزجر عن الاشتراك المعتاد ولا عن شيء من الاشتراك إلا على صورة نادرة الوقوع بعيدة الوجود يحتاج في وجودها إلى تكلف فإيجاب القصاص للزجر عنها يكون منعا لشيء ممتنع بنفسه لصعوبته وإطلاقا في القطع السهل المعتاد بنفي القصاص عن فاعله وهذا لا فائدة فيه بخلاف الاشتراك في النفس يحققه أن وجوب القصاص على الجماعة بواحد في النفس والطرف على خلاف الأصل لكونه يأخذ في الاستيفاء زيادة على ما فوت عليه ويخل بالتماثل المنصوص على النهي عما عداه وإنما خولف هذا الأصل في الأنفس زجرا عن الاشتراك الذي يقع القتل به غالبا ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم ولأن النفس أشرف من الطرف ولا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها بذلك
ولنا ما روي أن شاهدين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم جاءا بالآخر فقالا : هذا هو السارق وأخطأنا في الأول فرد شهادتهما على الثاني وغرمهما دية الأول وقال : لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما فأخبر أن القصاص على كل واحد منهما لو تعمدا قطع يد واحدة ولأنه أحد نوعي القصاص فتؤخذ الجماعة بالواحد كالأتفس وأما اعتبار التساوي فمثله في الأنفس فإننا نعتبر التسوي فيها فلا نأخذ مسلما بكافر ولا حرا بعبد وأما أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها فلأن الطرف ليس هو من النفس المقتص منها وإنما يفوت تبعا ولذلك كانت ديتهما واحدة بخلاف اليد الناقصة والشلاء مع الصحيحة فإن ديتهما مختلفة وأما اعتبار التساوي في الفعل فإنما اعتبر في اليد لأنه يمكن مباشرتها بالقطع فإذا قطع كل واحد منهما من جانب كان فعل كل واحد منهما متميزا عن فعل صاحبه فلا يجب على إنسان قطع محل لم يقطع مثله وأما النفس فلا يمكن مباشرتها بالفعل وإنما أفعالهم في البدن فيفضي ألمه إليها فتزهق ولا يتميز ألم فعل أحدهما من ألم فعل الآخر فكان كالقاطعين في محل واحد ولذلك لا يستوفى من الطرف إلا في المفصل الذي قطع الجاني منه ولا يجوز تجاوزه وفي النفس لو قتله بجرح في بطنه أو جنبه أو غير ذلك كان الاستيفاء من العنق دون المحل الذي وقعت الجناية فيه إذا ثبت هذا فإنما يجب القصاص على المشتركين في الطرف إذا اشتركوا فيه على وجه لا يتميز فعل أحدهم عن فعل الآخر إما بأن يشهدوا عليه بما يوجب قطعه فيقطع ثم يرجعون عن الشهادة أو يكرهوا إنسانا أو يكرهوا على قطع طرف فيجب قطع المكرهين كلهم والمكره أو يلقوا ضخرة على طرف إنسان فيقطعه أو يقطعوا يدا أو يقلعوا عينا بضربة واحدة أو يضعوا حديدة على مفصل ويتحاملوا عليها جميعا أو يمدوها فتبين فإن قطع كل واحد منهم من جانب أو قطع أحدهم بعض المفصل وأتمه غيره أو ضرب كل واحد ضربة أو وضوا منشارا على مفصله ثم مده كل واحد إليه مرة مرة حتى بانت اليد فلا قصاص فيه لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ولم يشارك في قطع جميعها وإن كان فعل واحد منهم يمكن الاقتصاص بمفرده اقتص منه وهذا مذهب الشافعي (9/371)
مسألتان وفصل اشتراك من لا قصاص عليه مع من عليه القصاص في الجناية
مسألة : قال : وإذا قتل الأب وغيره عمدا قتل من سوى الأب
وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وعن أحمد رواية أخرى لا قصاص على واحد منهما وهو قول أصحاب الرأي لأنه قتل تركب من موجب فلم يوجب كقتل العامد والخاطىء والصبي والبالغ والمجنون والعاقل
ولنا أنه شارك في القتل العمد العدوان فيمن يقتل به لو انفرد بقتله فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي ولا نسلم أن فعل الأب غير موجب فإنه يقتضي الإيجاب لكونه تمحض عمدا عدوانا والجناية به أعظم إثما وأكثر جرما ولذلك خصه الله تعالى بالنهي عنه فقال : { ولا تقتلوا أولادكم } ثم قال : { إن قتلهم كان خطأ كبيرا } [ ولما سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن أعظم الذنب قال : أن تجعل لله ندا وهو خلفك ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ] فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك ولأنه قطع الرحم التي أمر الله تعالى بصلتها ووضع الإساءة موضع الإحسان فهو أولى بإيجاب العقوبة ولازجر عنه وإنما امتنع الوجوب في حق الأب لمعنى مختص بالمحل لا لقصور في السبب الموجب فلا يمتنع عمله في المحل الذي لا مانع فيه وأما شريك الخاطىء فلنا فيه منع ومع التسليم فامتناع الوجوب فيه لقصور السبب عن الإيجاب فإن فعل الخاطىء غير موجب للقصاص ولا صالح له والقتل منه ومن شريكه غير متمحض عمدا لوقوع الخطأ في الفعل الذي حصل به زهوق النفس بخلاف مسألتنا
فصل : وكل شريكين امتنع القصاص في حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور في السبب فهو في وجوب القصاص على شريكه كالأب وشريكه مثل أن يشترك مسلم وذمي في قتل عبد عمدا عدوانا فإن القصاص لا يجب على المسلم والحر ويجب على الذمي والعبد إذا قلنا بوجوبه على شريك الأب لأن امتناع القصاص عن المسلم لإسلامه وعن الحر لحريته وانتفاء مكافأة المقتول له وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعله ولا إلى شريكه فلم يسقط القصاص عنه
وقد نقل عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي رحمه الله عن حر وعبد قتلا عبدا عمدا قال : أما الحر فلا يقتل بالعبد وعلى الحر نصف قيمة العبد في ماله والعبد إن شاء سيده أسلمه وإلا فداه بنصف قيمة العبد وظاهر هذا أنه لا قصاص على العبد فيخرج مثل ذلك في كل قتل شارك فيه من لا يجب عليه القصاص
مسألة : قال : وإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ لم يقتل واحد منهم وعلى العاقل ثلث الدية في ماله وعلى عاقلة كل واحد من الصبي والمجنون ثلث الدية وعتق رقبتين في أموالهما لأن عمدهما خطأ
أما إذا شاركوا في القتل من لا قصاص عليه لمعنى في فعله كالصبي والمجنون فالصحيح في المذهب أنه لا قصاص عليه وبهذا قال الحسن و الأوزاعي و إسحاق و أبو حنيفة وأصحابه وهو أحد قولي الشافعي وعن أحمد رواية أخرى أن القود يجب على البالغ العاقل حكاها ابن المنذر عن أحمد وحكي ذلك عن مالك وهو القول الثاني لـ لشافعي وروي ذلك عن قتادة و الزهري و حماد لأن القصاص عقوبة تجب عليه جزاء لفعله فمتى كان فعله عمدا وعدوانا وجب القصاص عليه ولا ننظر إلى فعل شريكه بحال ولأنه شارك بحال ولأنه شارك في القتل عمدا وعدوانا فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وذلك لأن الإنسان إنما يؤخذ بفعله لا بفعل غيره فعلى هذا يعتبر فعل الشريك منفردا فمتى تمحض عمدا عدوانا وكان المقتول مكافئا له وجب عليه القصاص وبنى الشافعي قوله على أن فعل الصبي والمجنون إذا تعمداه عمد لأنهما يقصدان القتل وإنما سقوط القصاص عنهما لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه عن شركيهما كالأبوة
ولنا أنه شارك من لا مأثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطىء ولأن الصبي والمجنون لا قصد لهما صحيح ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ وهذا معنى قول الخرقي : عمدها خطأ أي في حكم الخطأ في انتفاء القصاص عنه ومدار ديته وحمل عاقلتهما إياها ووجوب الكفارة إذا ثبت هذا فإن الدية تجب عليهم اثلاثا على كل واحد منهم ثلها لأن الدية بدل المحل ولذلك اختلفت باختلافه والمحل المتلف واحد فكانت ديته واحدة ولأنها تتقدر بقدره أما القصاص فإنما كمل في كل واحد لأنه جزاء الفعل وأفعالهم متعددة فتعدد في حقهم وكمل في حق كل واحد كما لو قذف جماعة واحدا إلا أن الثلث الواجب على المكلف يلزم في ماله حالا لأن فعله عمد والعاقلة لا تحمل العمد وما يلزم الصبي والمجنون فعلى عاقلتهما لأن عمدهما خطأ والعاقلة تحمل جناية الخطأ إذا بلغت ثلث الدية وتكون مؤجلة عاما فإن الواجب متى كان ثلث الدية كان أجله عاما ويلزم كل واحد منهما الكفارة من ماله لأن فعلهما خطأ والقاتل الخاطىء والمشارك في القتل خطأ يلزمه كفارة لأنها لا تجب بدلا عن المحل ولهذا لم تختلف وإنما وجبت تكفيرا للفعل ومحوا فوجب تكميلها كالقصاص (9/374)
مسألة وفصل يقتل الذكر بالأنثى وبالعكس
مسألة : قال : ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر
هذا قول عامة أهل العلم منهم : النخعي و الشعبي و الزهري وعمر بن عبد العزيز و مالك وأهل المدينة و الشافعي و إسحاق و أصحاب الرأي وغيرهم
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يقتل الرجل بالمرأة ويعطى أولياؤه نصف الدية أخرجه سعيد وروي مثل هذا عن أحمد وحكي ذلك عن الحسن و عطاء و حكي عنهما مثل قول الجماعة ولعل من ذهب إلى القول الثاني يحتج بقول علي رضي الله عنه ولأن عقلها نصف عقله فإذا قتل بها بقي له بقية فاستوفيت ممن قتله
ولنا قوله تعالى : { النفس بالنفس } وقوله : { الحر بالحر } مع عموم سائر النصوص [ وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه و سلم قتل يهوديا رض رأس جارية من الأنصار ] وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والأسنان وأن الرجل يقتل بالمرأة وهو كتاب مشهور عند أهل العلم متلقى بالقبول عندهم ولأنهما شخصان يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فقتل كل واحد منهما بالآخر كالرجلين ولا يجب مع القصاص شيء لأنه قصاص واجب فلم يجب معه شيء على المقتص كسائر القصاص واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل الجماعة يقتلون بالواحد والنصراني يؤخذ بالمجوسي مع اختلاف دينيهما ويؤخذ العبد بالعبد مع اختلاف قيمتهما ]
فصل : ويقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى ويقتل بهما لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى (9/378)
مسألة ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح
مسألة : قال : ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح
وجملته أن كل شخصين جرى بينهما القصاص في النفس جرى القصاص بينهما في الأطراف فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم والعبد بالعبد والذمي بالذمي والذكر بالأنثى والأنثى بالذكر ويقطع الناقص بالكامل كالعبد بالحر والكافر بالمسلم ومن لا يقتل بقتله لا يقطع طرفه بطرفه فلا يقطع مسلم بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد وبهذا قال مالك و الثوري و الشافعي و بو ثور و إسحاق و ابن المنذر وقال ابو حنيفة : لا قصاص في الطرف بين مختلفي البدل فلا يقطع الكامل بالناقص ولا الناقص بالكامل ولا الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا الحر بالعبد ولا العبد بالحر ويقطع المسلم بالكافر والكافر بالمسلم لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء ولا الكاملة بالناقصة فكذا لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المرأة ولا يؤخذ طرفها بطرفه كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى
ولنا أن من جرى بينهما القصاص في النفس جرى في الطرف كالحرين وما ذكروه يبطل بالقصاص في النفس فإن التكافؤ معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة لأن المماثلة قد وجدت وزيادة فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع وأما اليسار واليمين فيجريان مجرى النفس لاختلاف محليهما ولهذا استوى بدلهما فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعا ولا العلة فيهما ذلك (9/379)
مسألة اشتراك المخطىء والعامد في القتل
مسألة : قال : وإذا قتلاه وأحدهما مخطىء والآخر متعمد فلا قود على واحد منهما وعلى العامد نصف الدية في ماله وعلى عاقلة المخطىء نصفها وعليه في ماله عتق رقبة مؤمنة
أما المخطىء فلا قصاص عليه للكتاب والسنة والإجماع : أما الكتاب فقول الله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } وقال تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ] وأجمع أهل العلم على أنه لا قصاص عليه وأما شريكه فأكثر أهل العلم لا يرون عليه قصاصا وبه قال النخعي و الشافعي وأصحاب الرأي وروي عن أحمد أن عليه القصاص وحكي ذلك عن مالك لأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فوجب عليه القصاص كشريك العامد ولأن مؤاخذته بفعله وفعله عمد وعدوان لا عذر له فيه
ولنا أنه قتل لم يتمحض عمدا فلم يوجب القصاص كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ ولأن كل واحد من الشريكين مباشر ومتسبب فإذا كانا عامدين فكل واحد متسبب إلى فعل موجب للقصاص فقام فعل شريكه مقام فعله لتسببه إليه وههنا إذا أقمنا المخطىء مقام العامد صار كأنه قتله بعمد وخطأ وهذا غير موجب (9/380)
فصل مشركة الرجل غيره في قتل نفسه
فصل : وهل يجب القصاص على شريك نفسه وشريك السبع ؟ فيه وجهان ذكرهما أبو عبد الله ابن حامد وصورة ذلك أن يجرحه سبع ويجرحه إنسان عمدا إما قبل ذلك أو بعده فيموت منهما أو يجرح نفسه عمدا ثم يجرحه غيره عمدا فيموت منهما فهل يجب على المشارك له قصاص ؟ فيه وجهان واختلف عن الشافعي فيه وقال أصحاب الرأي : لا قصاص عليه لأنه شارك من لا يجب القصاص عليه فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطىء ولأنه قتل تركب من موجب وغير موجب فلم يوجب كالقتل الحاصل من عمد وخطأ إذا لم يجب على شريك الخاطىء وفعله مضمون فلأن لا يجب على شريك من لا يضمن فعله أولى
والوجه الثاني : عليه القصاص وهو قول أبي بكر وروي عن أحمد أنه قال : إذا جرحه رجل ثم جرح الرجل نفسه فمات فعل شريكه القصاص لأنه قتل عمد متمحض فوجب القصاص على الشريك فيه كشريك الأب فأما إن جرح الرجل نفسه خطأ كأن أراد ضرب جارحه فأصاب نفسه أو خاط جرحه فصادف اللحم الحي فلا قصاص على شريكه في أصح الوجهين وفيه وجه آخر أن عليه القصاص بناء على الروايتين في شريك الخاطىء (9/381)
فصل القصاص من الخارج إذا مات المجروح تحت العلاج
فصل : فإن جرحه إنسان فتداوى بسم فمات نظرت فإن كان سم ساعة يقتل في الحال فقد قتل نفسه وقطع سراية الجرح وجرى مجرى من ذبح نفسه بعد أن جرح وتنظر في الجرح فإن كان موجبا للقصاص فلوليه استيفاؤه وإن لم يكن موجبا له فلوليه الأرش وإن كان السم لا يقتل في الغالب وقد يقتل بفعل الرجل في نفسه عمد خطأ والحكم في شريكه كالحكم في شريك الخاطىء وإذا لم يجب القصاص فعلى الجارح نصف الدية وإن كان السم يقتل غالبا بعد مدة احتمل أن يكون عمد الخطأ أيضا لأنه لم يقصد القتل إنما قصد التداوي فيكون كالذي قتله واحتمل أن يكون في حكم العمد فيكون في شريكه الوجهان المذكوران في الفصل الذي قبله وإن جرح رجل فخاط جرحه أو أمر غيره فخاطه له وكان ذلك مما يجوز أن يقتل فحكمه حكم ما لو شرب سما يجوز أن يقتل على ما يقتل على ما مضى فيه وإن خاطه غيره بغير إذنه كرها فهما قاتلان عليهما القود وإن خاطه وليه أو الإمام وهو ممن لا ولاية عليه فهما كالأجنبي وإن كان لهما عليه ولاية فلا قود عليهما لأن فعلهما جائز لهما إذ لهما مداوته فيكون ذلك خطأ وهل على الجارح القود ؟ فيه وجهان بناء على شريك الخاطىء (9/382)
مسألة دية العبد
مسألة : قال : ودية العبد قيمته وإن بلغت ديات
أجمع أهل العلم أن في العبد الذي لا تبلغ قيمته دية الحر قيمته وإن بلغت قيمته دية الحر أو زادت عليها فذهب أحمد رحمه الله إلى أن فيه قيمته بالغة ما بلغت وإن بلغت ديات عمدا كان القتل أو خطأ سواء ضمن باليد أو بالجناية وهذا قول سعيد بن المسيب و الحسن و ابن سيرين وعمر بن عبد العزيز و إياس بن معاوية و الزهري و مكحول و مالك و الأوزاعي و الشافعي و إسحاق و ابي يوسف وقال النخعي و الشعبي و الثوري و أبو حنيفة ومحمد : لا تبلغ به دية الحر وقال أبو حنيفة : ينتقص عن دية الحر دينارا أو عشرة دراهم القدر الذي يقطع به السارق وهذا إذا ضمن بالجناية وإن ضمن باليد بأن يغصب عبدا فيموت في يده فإن قيمته تجب وإن زادت على دية الحر واحتجوا بأنه ضمان آدمي فلم يزد على دية الحر كضمان الحر وذلك لأن الله تعالى لما أوجب في الحر دية لا تزيد وهو أشرف لخلوصه من نقيصة الرق كان تنبيها على أن دية العبد المنقوص لا يزاد عليها فنجعل مالية العبد معيارا للقدر الواجب فيه ما لم يزد على الدية فإذا زاد علمنا خطأ ذلك فنرده إلى دية الحر كأرش ما دون الموضحة يجب فيه ما تخرجه الحكومة ما لم يزد على أرش الموضحة فنرده إليها
ولنا أنه مال متقوم فيضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت كالفرس أو مضمون بقيمته فكانت جميع القيمة كما لو ضمنه باليد ويخالف الحر فإنه ليس بمضمون بالقيمة وإنما ضمن بما قدره الشرع فلم يتجاوزه ولأن ضمان الحر ليس بضمان مال ولذلك لم يختلف باختلاف صفاته وهذا ضمان مال يزيد بزيادة المالية وينقص بنقصانها فاختلفتا وقد حكى أبو الخطاب عن أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه لا يبلغ بالعبد دية الحر والمذهب الأول (9/383)
باب القود
القود القصاص ولعله إنما سمي بذلك لأن المقتص منه في الغالب يقاد بشيء يربط فيه أو بيده إلى القتل فسمي القتل قودا لذلك (9/384)
مسألة وفصل تحديد القاتل عند تعدد الجناة
مسألة : قال : ولو شق بطنه فأخرج حشوته فقطعها فأبانها منه ثم ضرب عنقه آحر فالقاتل هو الأول ولو شق بطنه ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأن الأول لا يعيش مثله والثاني قد يعيش مثله
وجملته أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل قطع حشوته أي ما في بطنه وإبانتها منه أو ذبحه ثم ضرب عنقه الثاني فالأول هو القاتل لأنه لا يبقى مع جنايته حياة فالقود عليه خاصة وعلى الثاني التعزير كما لو جنى على ميت وإن عفا الولي إلى الدية فهي على الأول وحده وإن كان جرح الأول يجوز بقاء الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة الحشوة أو قطع طرف ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأنه لم يخرج الأول من حكم الحياة فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس والدية كاملة وإن عفا عنه ثم ننظر في جرح الأول فإن كان موجبا للقصاص كقطع الطرف فالولي مخير بين قطع طرفه والعفو عن ديته مطلقا وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة ونحوها فعليه الأرش وإنما جعلنا عليه القصاص لأن فعل الثاني قطع سراية جراحة فصار كالمندمل الذي لا يسري وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه مخالفا ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل خرق المعى أو أم الدماغ فضرب الثاني عنقه فالقاتل هو الثاني لأنه فوت حياة مستقرة وقيل : هو في حكم بدليل أن عمر رضي الله عنه لما جرح دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج يصلد فعلم الطبيب أنه ميت فقال : أعهد إلى الناس فعهد إليهم وأوصى وجعل الخلافة إلى أهل الشورى فقبل الصحابة هده وأجمعوا على قبول وصاياه وعهده فما كان خكم الحياة باقيا كان الثاني مفوتا لها فكان هو القاتل كما لو قتل عليلا لا يرجى برء علته
فصل : إذا ألقى رجلا من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقتله فالقصاص على من قتله لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حال يئسوا فيها من حياته فأشبه ما لو رماه إنسان بسهم قاتل فقطع آخر عنقه قبل وقوع السهم به أو ألقى عليه صخرة فأطار آخر راسه بالسيف قبل وقوعها عليه وبهذا قال الشافعي : إن رماه من مكان يجوز أن يسلم منه وإن رماه من شاهق لا يسلم منه الواقع ففيه وجهان : أحدهما : كقولنا والثاني : الضمان عليهما بالقصاص والدية عند سقوطه لأن كل واحد منهما سبب للإتلاف
ولنا أن الرمي سبب والقتل مباشرة فانقطع حكم السبب كالدافع مع الحافر والجارح مع الذابح وكالصور التي ذكرنا وما ذكروه باطل بهذه الأصول المذكورة (9/385)
مسألة وفصل كيفية استيفاء القصاص ممن قطع الأطراف أو جرح قبل أن يقتل
مسألة : قال : وإذا قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه قتل ولم تقطع يده ولا رجلاه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله والرواية الأخرى قال إنه لأهل أن يفعل به كما فعل فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة
وجملة ذلك أن الرجل إذا جرح رجلا ثم ضرب عنقه قبل اندمال الجرح فالكلام في المسألة حالين : أحدهما : أن يختار الولي القصاص فاختلفت الرواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء فروي عنه : لا يستوفي إلا بالسيف في العنق وبه قال عطاء و الثوري و أبو يوسف و محمد لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قود إلا بالسيف ] رواه ابن ماجة ولأن القصاص أحد بدلي النفس فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر إلى الدية لم تجب إلا دية النفس ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل وإتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعديته بإتلاف أطرافه كما لو قتله بسيف كال فإنه لا يقتل بمثله والرواية الثانية عن أحمد قال : إنه لأهل أن يفعل به كما فعل يعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه ثم يقتله وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز و مالك و الشافعي و أبي حنيفة و أبي ثور لقول الله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقوله سبحانه : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم رض رأس يهودي لرضه رأس جارية من الأنصار بين حجرين ] ولأن الله تعالى قال : { والعين بالعين } وهذا قد قلع عينه فيجب أن تقلع عينه للآية وروي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ومن حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ] ولأن القصاص موضوع على المماثلة ولفظه به فوجب أن يستوفي منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره فأما حديث : [ لا قود إلا بالسيف ] فقال أحمد : ليس إسناده بجيد
الحال الثاني : أن يصير الأمر إلى الدية إما بعفو الولي أو كون الفعل خطأ أو شبه عمد أو غير ذلك فالواجب دية واحدة وهذا ظاهر مذهب الشافعي وقال بعضهم : تجب دية الأطراف المقطوعة ودية النفس لأنه لما قطع بسراية الجرح بقتله صار كالمستقر فأشبه ما لو قتله غيره ولهذا لم يسقط القصاص فيه
ولنا أنه قاتل قبل استقرار الجرح فدخل أرش الجراحة في أرش النفس كما لو سرت إلى نفسه والقصاص في الأطراف على إحدى الروايتين لا يجب وإن وجب فإن القصاص لا يشبه الدية لأن سراية الجرح لا تسقط القصاص فيه وتسقط ديته
فصل : ومتى قلنا له أن يستوفي بمثل ما فعل بوليه فأحب أن يقتصر على ضرب عنقه فله ذلك وهو أفضل وإن قطع أطرافه التي قطعها الجاني أو بعضها ثم عفا عن قتله فكذلك لأنه تارك بعض حقه وإن قطع بعض أطرافه ثم عفا إلى الدية لم يكن له ذلك لأن جميع ما فعل بوليه لا يجب به إلا دية واحدة فلا يجوز أن يستوفي بعضه ويستحق كمال الدية فإن فعل فله ما بقي من الدية فإن لم يبق منها شيء فلا شيء له وإن قلنا : ليس له أن يستوفي إلا بضرب العنق فاستوفى منه بمثل ما فعل فقد أساء ولا شيء عليه سوى المأثم لأن فعل الجاني في الأطراف لم يوجب عليه شيئا يختص بها فكذلك فعل المستوفي إن قطع الجاني طرفا واحدا ثم عفا إلى الدية لم يكن له إلا تمامها وإن قطع ما تجب به الدية ثم عفا لم يكن له شيء وإن قطع ما يجب به أكثر من الدية ثم عفا احتمل أن يلزمه ما زاد على الدية لأنه لا يستحق أكثر من دية وقد فعل ما يوجب أكثر منها فكانت الزيادة عليه واحتمل أن لا يلزمه شيء لأنه لو قتله لم يلزمه شيء فإذا ترك قتله وعفا عنه فأولى أن لا يلزمه شيء ولأنه فعل بعض ما فعل بوليه فلم يلزمه شيء كما لو قلنا إن له أن يستوفي مثل ما فعل به (9/387)
فصول القصاص حين يسري الجرح إلى النفس
فصل : فإن قطع يديه ورجليه أو جرحه جرحا يوجب القصاص إذا انفرد فسرى إلى النفس فله القصاص في النفس وهل له أن يستوفي القطع قبل القتل ؟ على روايتين ذكرهما القاضي وبناهما على الروايتين المذكورتين في المسألة وإحداهما : ليس له قطع الطرف وهو مذهب أبي حنيفة لأن ذلك يفضي إلى الزيادة على ما جناه الأول والقصاص يعتمد المماثلة فمتى خيف فيه الزيادة سقط كما لو قطع يده من نصف الذراع والثانية : يجب القصاص في الطرف فإن مات به وإلا ضربت عنقه وهذا مذهب الشافعي لما ذكرناه في أول المسألة وذكر أبو الخطاب أنه لا يقتص منه في الطرف رواية واحدة وأنه لا يصح تخريجه على الروايتين في المسألة لإفضاء هذا إلى الزيادة بخلاف المسألة والصحيح تخريجه على الروايتين وليس هذا بزيادة لأن فوات النفس بسراية فعله وسراية فعله كفعله فأشبه ما لو قطعه ثم قتله ولأن زيادة الفعل في الصورة محتمل في الاستيفاء كما لو قتله بضربة فلم يمكن قتله في الاستيفاء إلا بضربتين
فصل : وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه ولا يلزم فوات الحياة به مثل أن أجافه أو أمه أو قطع يده من نصف ذراعه أو رجله من نصف ساقه فمات منه أو قطع يدا ناقصة الأصابع أو شلاء أو زائدة ويد القاطع أصلية صحيحة فالصحيح في المذهب أنه ليس له فعل مثل ما فعل وليس له أن يقتص إلا في العنق بالسيف ذكره أبو بكر والقاضي وقال غيرهما فيه رواية أخرى أن له أن يقتص بمثل ما فعله لأنه صار قتلا فكان له القصاص بمثل فعله كما لو رض رأشه بحجر فقتله به والصحيح الأول لأن هذا لو انفرد لم يكن فيه قصاص فلم يجز القصاص فيه مع القتل كما لو قطع يمينه ولم يكن للقاطع يمين لم يكن له أن يستوفي من يساره وفارق ما إذا رض رأسه فمات لأن ذلك الفعل قتل مفرد وههنا قتل وقطع والقطع لا يوجب قصاصا فبقي مجرد القتل فإذا جمع المستوفي بينهما فقد زاد قطعا لم يرد الشرع باستيفائه فيكون حراما وسواء في هذا ما إذا قطع ثم قتل عقيبه وبين ما إذا قطع فسرى إلى النفس
فصل : فأما قطع اليمنى ولا يمنى للقاطع أو اليد ولا يد له أو قلع العين ولا عين له فمات المجني عليه فإنه يقتل بالسيف في العنق ولا قصاص في طرفه ولا أعلم فيه خلافا لأن القصاص إنما يكون من مثل العضو المتلف وهو ههنا معدوم ولأن القصاص فعل مثل فعل الجاني ولا سبيل إليه ولأنه لو قطع ثم عفا عن القتل لصار مستوفيا رجلا ممن لم يقطع له مثلها أو أذنا بدلا عن عين وهذا غير جائز وهذا يدل على فساد الوجه الثاني في الفصل الذي قبله (9/389)
فصلان حكم القتل بغير السيف وبما لا يحل لعينه
فصل : وإن قتله بغير السيف مثل أن قتله بحجر أو هدم أو تغريق أو خنق فهل يستوفي القصاص بمثل فعله ؟ فيه روايتان : إحداهما : له ذلك وهو قول مالك و الشافعي والثانية : لا يستوفي إلا بالسيف في العنق وبه قال أبو حنيفة فيما إذا قتله بمثقل الحديد على إحدى الروايتين عنده أو جرحه فمات ووجه الروايتين ما تقدم في أول المسألة ولأن هذا لا تؤمن معه الزيادة على ما فعله الجاني فلا يجب القصاص بمثل آلته كما لو قطع الطرف بآلة كالة أو مسمومة أو بالسيف فإنه لا يستوفى بمثله ولأن هذا لا يقتل به المرتد فلا يستوفى به القصاص كما لو قتله بتجريع الخمر أو بالسحر ولا تفريع على هذه الرواية فأما على الرواية الأخرى فإنه إذا فعل به مثل فعله فلم يمت قتله بالسيف وهذا أحد قولي الشافعي والقول الثاني أنه يكرر عليه ذلك الفعل حتى يموت به لأنه قتله بذلك فله قتله بمثله
ولنأ انه قد فعل به مثل فعله فلم يزد عليه كما لو جرحه جرحا أو قطع منه طرفا فاستوفى منه الولي مثله فلم يمت به فإنه لا يكرر عليه الجرح بغير خلاف ويعدل إلى ضرب عنقه فكذا ههنا
فصل : وإن قتله بما لا يحل لعينه مثل أن لاط به فقتله أو جرعه خمرا أو سحره لم يقتل بمثله اتفاقا ويعدل إلى القتل بالسيف وحكى أصحاب الشافعي فيمن قتله باللواط وتجريع الخمر وجه آخر أنه يدخل في دبره خشبة يقتله بها ويجرعه الماء حتى يموت
ولنا أن هذا محرم لعينه فوجب العدول عنه إلى القتل بالسيف كما لو قتله بالسحر وإن حرقه فقال بعض أصحابنا لا يحرق لأن التحريق محرم لحق الله تعالى ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : لا يعذب بالنار إلا رب النار ] ولأنه داخل في عموم الخبر وهذا مذهب أبي حنيفة وقال القاضي : الصحيح أن فيه روايتين كالتغريق :
إحداهما : يحرق وهو مذهب الشافعي لما [ روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ] وحملوا الحديث الأول على غير القصاص في المحرق (9/391)
فصلان زيادة مستوفي القصاص في النفس على حقه
فصل : إذا زاد مستوفي القصاص في النفس على حقه مثل أن يقتل وليه فيقطع المقتص أطرافه أو بعضها نظرنا فإن عفا عنه بعد قطع طرفه فعليه ضمان ما أتلف بديته وبهذا قال أبو حنيفة وقال مالك و الشافعي و ابن المنذر و أبو يوسف و محمد : لا ضمان عليه ولكن قد اساء ويعزر وسواء عفا عن القاتل أو قتله لأنه قطع طرفا من جملة استحق إتلافها فلم يضمنه كما لو قطع أصبعا من يد يستحق قطعها
ولنا أنه قطع طرفا له قيمة حال القطع بغير حق فوجب عليه ضمانه كما لو عفا ثم قطعه أو كما لو قطعه أجنبي فأما إن قطعه ثم قتله احتمل أن يضمنه أيضا لأنه يضمنه إذا عفا عنه فكذلك إذا لم يعف عنه لأن العفو إحسان فلا يكون موجبا للضمان واحتمل أن لا يضمنه وهو قول أبي حنيفة لو قطع متعديا ثم قتل لم يضمن الطرف فلأن يضمنه إذا كان القتل مستحقا أولى
فأما القصاص فلا يجب في العرف بحال ولا نعلم في هذا خلافا لأن القصاص عقوبة تدرأ بالشبهات والشبهة ههنا متحققة لأنه متحقق لإتلاف هذا الطرف ضمنا لاستحقاقه إتلاف الجملة ولا يلزم من سقوط القصاص أن لا تجب الدية بدليل امتناعه لعدم المكافآت فأما إن كان الجاني قطع طرفه ثم قتله فاستوفى منه بمثل فعله فقد ذكرناه فيما مضى وإن قطع طرفا غير الذي قطعه الجاني كأن قطع الجاني يده فقطع المستوفى رجله احتمل أن يكون بمنزلة ما لو قطع يده لأن ديتهما واحدة واحتمل أن تلزمه دية الرجل لأن الجاني لم يقطعها فأشبه ما لو لم يقطع يده
فصل : فأما إن كانت الزيادة في الاستيفاء لأنه الطرف مثل أن استحق قطع أصبع فقطع اثنتين فحكمه حكم القاطع ابتداء إن كان عقدا من مفصل أو شجة يجب في مثلها القصاص فعليه القصاص في الزيادة وإن كان خطأ أو جرحا لا يوجب القصاص مثل من يستحق موضحة فاستوفاها هاشمة فعليه أرش الزيادة إلا أن يكون ذلك بسبب من الجاني كاضطرابه حال الاستيفاء فلا شيء على المقتص لأنه حصل بفعل الجاني فإن اختلفا هل فعله خطأ أو عمدا ؟ فالقول قول المقتص مع يمينه لأن هذا مما يمكن الخطأ فيه وهو أعلم بقصده وإن قال المقتص حصل هذا باضطرابك أو فعل من جهتك فالقول قول المقتص منه لأنه منكر فإن سرى الاستيفاء الذي حصلت فيه الزيادة إلى نفس المقتص منه فمات أو إلى بعض أعضائه مثل أن قطع أصبعه فسرى إلى جميع يده أو اقتص منه بآلة كالة أو مسمومة أو في حال حر مفرط أو برد شديد فسرى فقال القاضي : على المقتص نصف الدية لأنه تلف بفعلين جائز ومحرم ومضمون وغير مضمون فانقسم الواجب عليهما نصفين كما لو جرحه جرحا في حال ردته وجرحا بعد إسلامه فمات منهما وهذا كله مذهب الشافعي ويحتمل أن يلزمه ضمان السراية كلها فيما إذا اقتص بآلة مسمومة أو كالة لأن الفعل كله محرم بخلاف قطع الأصبعين فإن أحدهما مباح (9/392)
فصل استيفاء القصاص بحضرة السلطان
قال القاضي ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان وحكاه عن أبي بكر وهو مذهب الشافعي لأنه أمر يفتقر إلى الاجتهاد ويحرم الحيف فيه فلا يؤمن الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع ويعزر لافتياته بفعل ما منع فعله ويحتمل أن يجوز الاستيفاء بغير حضور السلطان إذا كان القصاص في النفس ل [ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه و سلم برجل يقوده بنسعة فقال إن هذا قتل أخي فاعترف بقتله فقال النبي صلى الله عليه و سلم اذهب فاقتله ] رواه مسلم بمعناه ولأن اشتراط حضور السلطان لا يثبت إلا بنص أو إجماع أو قياس ولم يثبت ذلك ويستحب أن يحضر شاهدين لئلا يجحد المجني عليه الاستيفاء وإذا أراد الولي الاستيفاء فعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفي بها فإن كانت كالة منعه الاستيفاء بها لئلا يعذب المقتول
وقد روى شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] وإن كانت مسمومة منعه الاستيفاء بها لأنها تفسد البدن وربما منعت غسله وإن عجل فاستوفى بآلة كالة أو مسمومة عزر وإن كان السيف صارما غير مسموم نظر في الولي فإن كان يحسن الاستيفاء ويكمله بالقوة والمعرفة مكنه منه لقوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } وقال عليه السلام : [ من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ] ولأنه حق له متميز فكان له استيفاؤه بنفسه إذا أمكنه كسائر الحقوق وإن لم يحسن الاستيفاء أمره بالتوكيل لأنه عاجز عن استيفاء حقه فإن ادعى الولي المعرفة بالاستيفاء فأمكنه السلطان من ضرب عنقه فضرب عنقه فأبانه فقد استوفى حقه وإن أصاب غيره وأقر بتعمد ذلك عزر وإن قال : أخطأت وكانت الضربة في موضع قريب من العتق كالرأس والمنكب قبل قوله مع يمنيه لأن هذا مما يجوز الخطأ في مثله وإن كان بعيدا كالوسط والرجلين لم يقبل قوله لأن مثل هذا لا يقع الخطأ فيه ثم إن أراد العود ففيه وجهان : أحدهما : لا يمكن منه لأنه تبين منه أنه لا يحسن الاستيفاء ويحتمل العود إلى مثل فعله والثاني : يمكن منه قاله القاضي لأن الظاهر تحرزه عن مثل ذلك ثانيا وإن كان الولي لا يحسن الاستيفاء أمره بالتوكيل فيه لأنه حقه فكان له التوكيل في استيفائه كسائر حقوقه فإن لم يجد من يوكله إلا بعوض أخذ العوض من بيت المال
قال بعض أصحابنا : يرزق من بيت المال رجل يستوفي الحدود والقصاص لأن هذا من المصالح العامة فإن لم يحصل ذلك فالأجرة على الجاني لأنها أجرة لإيفاء الحق الذي عليه فكانت عليه كأجرة الكيال في بيع المكيل ويحتمل أن تكون على المقتص لأنه وكيله فكانت الأجرة على موكله كسائر المواضع والذي على الجاني التمكين دون الفعل ولهذا لو أراد أن يقتص من نفسه لم يمكن منه ولأنه لو كانت عليه أجرة التوكيل للزمته أجرة الولي إذا استوفى بنفسه وإن قال الجاني أنا أقتص لك من نفسي لم يلزم تمكينه ولم يجز ذلك له لأن الله تعالى قال : { ولا تقتلوا أنفسكم } ولأن معنى القصاص أن يفعل به كما فعل ولأن القصاص حق عليه لغيره فلم يجز أن يكون هو المستوفي له كالبائع لا يستوفي من نفسه (9/394)
فصل حكم ما لو كان القصاص لجماعة من الأولياء
فصل : وإن كان القصاص لجماعة من الأولياء وتشاحوا في المتولي منهم للاستيفاء أمروا بتوكيل أحدهم أو واحد من غيرهم ولم يجز أن يتولاه جميعهم لما فيه من تعذيب الجاني وتعدد أفعالهم فإن لم يتفقوا على واحد وتشاحوا وكان كل واحد منهم يحسن الاستيفاء أقرع بينهم لأن الحقوق إذا تساوت وعدم الترجيح صرنا إلى القرعة كما لو تشاحوا في تزويج موليتهم فمن خرجت له القرعة أمر الباقون بتوكليه ولا يجوز له الاستيفاء بغير إذنهم لأن الحق لهم فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم وإن لم يتفقوا على توكيل واحد منعوا الاستيفاء حتى يوكلوا (9/396)
مسألة وفصل حكم ما برئت الجراح قبل القتل
مسألة : قال : وإن كانت الجراح برئت قبل قتله فعلى المعفو عنه ثلاث ديات إلا أن يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين
أما إذا قطع يديه ورجليه فبرئت جراحه ثم قتله فقد استقر حكم القطع ولولي القتيل الخيار إن شاء عفا وأخذ ثلاث ديات دية لنفسه ودية ليديه ودية لرجليه وإن شاء قتله قصاصا بالقتل وأخذ ديتين لأطرافه وإن أحب قطع أطرافه الأربعة وأخذ دية لنفسه وإن أحب قطع يديه وأخذ ديتين لنفسه ورجليه وإن أحب قطع رجليه وأخذ ديتين لنفسه ويديه وإن أحب قطع طرفا واحدا وأخذ دية الباقي وإن أحب قطع ثلاثة أطراف وأخذ دية الباقي وكذلك سائر فروعها لأن حكم القطع استقر قبل القتل بالاندمال فلم يتغير حكمه بالقتل الحادث بعده كما لو قتله أجنبي ولا نعلم في هذا مخالفا
فصل : فإن اختلف الجاني والولي في اندمال الجرح قبل القتل وكانت المدة بينهما يسيرة لا يحتمل اندماله في مثلها فالقول قول الجاني بغير يمين وإن اختلفا في مضي المدة فالقول قول الجاني مع يمينه لأن الأصل عدم مضيها وإن كانت المدة مما يحتمل البرء فيها فالقول قول الولي مع يمينه لأنه قد وجد سبب وجوب دية اليدين بقطعهما والجاني يدعي سقوط ديتهما بالقتل والأصل عدم ذلك فإن كانت للجاني بينة ببقاء المجني عليه ضمنا حتى قتله حكم له ببينته وإن كان للولي بينة ببرئه حكم له أيضا وإن تعارضتا قدمت بينة الولي لأنها مثبتة للبرء
ويحتمل أن يكون القول قول الجاني إذا لم يكن لهما بينة لأن الأصل بقاء الجراحة وعدم اندمالها وإن قطع أطرافه فمات واختلفا هل برأ قبل الموت أو مات بسراية الجرح أو قال الولي إنه مات بسبب آخر كأن لدغ أو ذبح نفسه أو ذبحه غيره فالحكم فيما إذا مات بغير سبب آخر كالحكم فيما إذا قتله سواء وأما إذا مات بقتل أو سبب آخر ففيه وجهان : أحدهما : تقديم قول الجاني لأن الظاهر بقاء الجناية والأصل عدم سبب آخر فيكون الظاهر معه والثاني : القول قول ولي الجناية لأن الأصل بقاء الديتين اللتين وجد سببهما حتى يوجد ما يزيلهما فإن كانت دعواهما بالعكس فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك القصاص في النفس فقال الجاني بل اندملت جراحه قبل موته ادعى موته بسبب آخر فالقول قول الولي مع يمينه لأن الجرح سبب للموت فقد تحقق والأصل عدم الاندمال وعدم سبب آخر يحصل الزهوق به وسواء كان الجرح فيما يجب به القصاص في الطرف كقطع اليد من مفصل ولا يوجبه كالجائفة والقطع من غير مفصل وهذا كله مذهب الشافعي (9/397)
مسألة وفصل إن رمى المسلم ذميا أو عبدا
مسألة : قال : ولو رمى وهو مسلم كافرا عبدا فلم يقع به السهم حتى عتق وأسلم فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من سهمه
هذا قول ابن حامد مذهب الشافعي وقال ابو بكر : يجب القود لأنه قتل مكافئا له ظلما فوجب القصص كما لو كان حرا مسلما حال الرمي يحققه ان الاعتبار بحال الجناية بدليل ما رمى مسلما حيا فلم يقع به السهم حتى ارتد أو مات لم يلزمه شيء ولو رمى عبدا كافرا فلم يقع به السهم حتى عتق وأسلم فعليه درة حر مسلم وقال أبو حنيفة : يلزمه في العبد دية عبد لمولاه لأن الإصابة ناشئة عن إرسال السهم فكان الاعتبار بها كحالة الجرح فأما الكافر فمذهبه أن ديته دية المسلم وأنه يقتل به المسلم وكذلك يقتل الحر بالعبد
ولنا على درء القصاص أنه لم يتعد إلى نفس مكافئته له حال الرمي فلم يجب عليه قصاص كما لو رمى حربيا أو مرتدا فاسلم وعلى أبي حنيفة أنه أتلف حرا فضمنه ضمان الأحرار كما لو قصد صيدا وما قاله يبطل بما إذا رمى حيا فأصابه ميتا أو صحيحا فأصابه معيبا
ولناعلى أن ديته تجب لورثته دون سيده وأنه إذا أسلم تجب ديته لورثته المسلمين دون الكفار إن مات مسلما حرا فكانت ديته لورثته المسلمين كما لو كان كذلك حال رميه ولأن الميراث إنما يستحق بالموت فتعتبر حاله حينئذ لا حين سبب الموت بدليل ما لو مرض وهو عبد كافر ثم اسلم بتلك العلة والواجب بدل المحل فيعتبر بالمحل الذي فات بها فيجب بقدره وقد فات بها نفس حر مسلم والقصاص جزاء الفعل فيعتبر الفعل فيه والإصابة معا لأنهما طرفاه فلذلك لم يجب القصاص بقتله
فصل : ولم يفرق الخرقي بين كون الكافر ذميا أو غيره إلا أنه يتعين التفريق فيه فمتى رمى إلى حربي في دار الحرب فأسلم قبل وقوع الرمية به فلا دية له وفيه الكفارة لأنه رمي مندوب إليه مأمور به فأشبه ما لو قتله في دار الحرب يظنه حربيا وكان قد أسلم وكتم إسلامه وفيه رواية أخرى أن فيه الدية على عاقلة القاتل لأنه نوع خطأ فكذلك ههنا ولو رمى مرتدا في دار الإسلام فأسلم ثم وقع السهم به ضمنه لأنه مفرط بإرسال سهمه عليه لأن قتل المرتد إلى الإمام لا إلى آحاد الناس وقتله بالسيف لا بالسهم (9/399)
فصل حكم ما لو رمى حربيا فتترس بمسلم فأصابه
فصل : ولو رمى حربيا فتترس بمسلم فأصابه فقتله نظرنا فإن كان تترس به بعد الرمي ففيه الكفارة وفي الدية على عاقلة الرامي روايتان كالتي قبلها وإن تترس به قبل الرمي لم يجز رميه إلا أن يخاف على المسلمين فيرمي الكافر ولا يقصد الكافر ولا يقصد المسلم فإذا قتله ففي ديته أيضا روايتان وإن رماه من غير خوف على المسلم فقتله فعليه ديته لأنه لم يجز له رميه (9/400)
فصول حكم ما لو قطع أنف عبد والجناية على العبد قبل عتقه وبعده
فصل : ولو قطع يد عبد ثم أعتق ومات أو يد ذمي ثم أسلم ومات ففيه وجهان : أحدهما : الواجب دية حر مسلم لورثته ولسيده منها أقل الأمرين من ديته أو أرش جناية اعتبارا بحال استقرار الجناية وقال القاضي وأبو بكر : تجب قيمة العبد بالغة ما بلغت مصروفة إلى السيد اعتبارا بحال الجناية لأنها الموجبة للضمان فاعتبرت حال وجودها ومقتضى قولهما ضمان الذمي الذي أسلم بدية ذمي ويلزمهما على هذا أن يصرفاها إلى ورثتة من أهل الذمة وهو غير صحيح لأن الدية لا تخلو من أن تكون مستحقة للمجني عليه أو لورثته فإن كانت له وجب أن تكون لورثته المسلمين كسائر أمواله وأملاكه كالذي كسبه بعد جرحه وإن كانت تحدث على مالك ورثته فورثته هم المسلمون دون الكفار
فصل : وإذا قطع أنف عبد قيمته ألف دينار فاندمل ثم أعتقه السيد وجبت قيمته بكمالها للسيد وإن أعتقه ثم اندمل فكذلك لأنه إنما استقر بالاندمال ما وجب بالجناية والجناية كانت في ملك سيده وإن مات من سراية الجرح فكذلك في قول ابي بكر والقاضي وهو قول المزني لأن الجناية يراعى فيها حال وجودها
وذكر القاضي أن أحمد نص عليه في رواية حنبل فيمن فقأ عيني عبد ثم أعتق ومات ففيه قيمته لا الدية ومقتضى قول الخرقي أن الواجب فيه دية حر وهو مذهب الشافعي لأن اعتبار الجناية بحالة الاستقرار وقد ذكرناه وتصرف الى السيد لأن استحق أقل الأمرين من ديته أو أرش الجرح والدية ههنا أقل الأمرين وما ذكروه ينتقض بما إذا قطع يديه ورجليه فمات بسراية الجرح فإن الواجب دية النفس لا دية الجرح
فصل : وإن قطع يد عبد فأعتق ثم عاد فقطع رجله واندمل القطعان فلا قصاص في اليد لأنها قطعت في حال رقه ويجب فيها نصف قيمته أو ما نقصه القطع لسيده ويجب القصاص في الرجل التي قطعها حال حريته أو نصف الدية إن عفا عن القصاص لورثته وإن اندمل قطع اليد وسرى قطع الرجل الى نفسه ففي اليد نصف القيمة لسيده وعلى القاطع القصاص في النفس أو الدية كاملة لورثته وإن اندمل قطع الرجل وسرى قطع اليد ففي الرجل القصاص بقطعها أو نصف الدية لورثته ولا قصاص في اليد ولا في سرايتها وعلى الجاني دية حر لسيده منها أقل الأمرين من أرش القطع أو دية الحر على قول ابن حامد وعلى قول أبي بكر والقاضي تجب قيمة العبد لسيده اعتبارا بحال جنايته وإن سرى الجرحان لم يجب القصاص في النفس ولا اليد لأنه مات من جرحين موجب وغير موجب فلم يجب القصاص كما لو جرحه جرحين عمدا وخطأ ولكن يجب القصاص في الرجل لأنه قطعها من حر فإن اقتص منه وجب نصف الدية لأنه مات من جنايته وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية فإن زاد نصف الدية على نصف القيمة كان الزائد للورثة وإن عفا ورثته عن القصاص فلهم أيضا نصف الدية وإن كان قاطع الرجل غير قاطع اليد واندمل الجرحان فعلى قاطع اليد نصف القيمة لسيده وعلى قاطع الرجل القصاص فيها أو نصف الدية وإن سرى الجرحان إلى نفسه فلا قصاص على ألأول لأنه قطع يد عبد وعليه نصف دية حر لأن المجني عليه حر في حال قرر الجناية وعلى الثاني القصاص في النفس إذا كان عمد القطع لأنه شارك في القتل عمدا عدوانا فهو كشريك الأب ويتخرج أن لا قصاص عليه في النفس لأن الروح خرجت من سراية قطعين موجب وغير موجب بناء على شريك الأب وإن عفا عنه إلى الدية فعليه نصف دية حر وإن قلنا بوجوب القصاص في النفس خرج في وجوبه في الطرف روايتان وإن قلنا لا تجب في النفس وجب في الرجل
فصل : وإن قلع عين عبد ثم أعتق ثم قطع آخر يده ثم قطع آخر رجله فلا قود على الأول سواء اندمل جرحه أو سرى وأما الآخران فعليهما القود في الطرفين إن وقف قطعهما أو ديتهما إن عفا عنهما وإن سرت الجراحات كلها فعليهما القصاص في النفس لأن جنايتهما صارت نفسا وفي ذلك وفي القصاص في الطرف اختلاف وقد ذكرناه وأن عفا عنهما فعليهم الدية أثلاثا وفيما يستحقه السيد وجهان :
أحدهما : أقل الأمرين من نصف القيمة أو ثلث الدية هذا قياس قول ابي بكر لأنه بالقطع استحق نصف القيمة فإذا صارت نفسا وجب فيها ثلث الدية فكان له اقل الأمرين
والثاني : له اقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية لأن الجناية إذا صارت نفسا كان الاعتبار بما آلت إليه ألا ترى أنه لو جنى الجانيان الآخران قبل العتق أيضا لم يكن على الأول إلا ثلث القيمة فلا يزيد حقه بالعتق كما لو قطع رجل عينه ثم باعه سيده ثم قطع آخر يده وآخر رجله ثم مات فإنه يكون للأول ثلث القيمة وإن كان أرش الجناية نصف القيمة فإذا قلنا بالوجه الأول فلو كان قطع أصبعيه أو هشمه والجانيان في الحرية قطعا يده فالدية عليهم أثلاثا للسيد منها أقل الأمرين من أرش الأصبع وهو عشر القيمةأو ثلث الدية ولو كان الجاني في حال الرق قطع يديه والجانيان في الحرية قطعا رجليه وجبت الدية أثلاثا وكان للسيد منها أقل الأمرين من جميع قيمته أو ثلث الدية وعلى الوجه الآخر يكون له في الفرعين اقل الأمرين من ثلث القيمة أو ثلث الدية
فصل : فإن كان الجانيان في حال الرق والواحد في حال الحرية فمات فعليهم الدية وللسيد من ذلك في أحد الوجهين أقل الأمرين من أرش الجنايتين أو ثلثي الدية وعلى الآخر أقل الأمرين من ثلثي القيمة أو ثلثي الدية
فصل : وإن كان الجناة أربعة واحد في الرق وثلاثة في الحرية ومات كان للسيد في أحد الوجهين الأقل من أرش الجناية أو ربع الدية وعلى الآخر الأقل من ربع القيمة أو ربع الدية وإن كان الثلاث في الرق والواحد كان للسيد أقل الأمرين من أرش الجنايات وثلاثة أرباع الدية في أحد الوجهين وفي ألاخر الأقل من ثلاث أرباع القيمة أو ثلاثة أرباع الدية ولو كانوا عشرة واحد في الرق وتسعة في الحرية فالدية عليهم وللسيد فيها بحساب ما ذكرنا على اختلاف الوجهين
فصل : فإن قطع يده ثم أعتق فقطع آخر رجله ثم عاد الأول فقتله بعد الاندمال فعليه القصاص للورثة ونصف القيمة للسيد وعلى الآخر القصاص للورثة في الرجل أو نصف الدية فإن كان قبل الاندمال فعلى الجاني الأول الأول القصاص في النفس دون اليد لأنه قطعها في رقه فإن اختار الورثة القصاص في النفس سقط حق السيد لأنه لا يجوز أن يستحق عليه النفس وأرش الطرف قبل الاندمال فإن الطرف داخل في النفس في الأرش وإن اختاروا العفو فعليه الدية دون أرش الطرف لأن أرش الطرف يدخل في النفس وللسيد أقل الأمرين من نصف القيمة أو أرش الطرف والباقي للورثة وأما الثاني فعليه نصف القصاص في الرجل لأن القتل قطع سرايتها فصار كما لو اندملت فإن عفا فعليه القصاص في النفس وهل يقطع طرفه ؟ على روايتين فإن عفا الورثة فعليه دية واحدة وأما الأول فعليه نصف القيمة للسيد ولا قصاص عليه وإن كان القاتل ثالثا فقد استقر القطعان ويكون على الأول نصف القيمة لسيده وعلى الثاني القصاص في الرجل أو نصف الدية لورثته وعلى الثالث القصاص في النفس أو الدية
فصل : وإذا قطع رجل يد عبده ثم أعتقه ثم اندمل جرحه فلا قصاص عليه ولا ضمان لأنه إنما قطع يد عبده وإنما استقر بالاندمال ما وجب بالجراح وإن مات بعد العتق بسراية الجرح فلا قصاص فيه لأن الجناية كانت على مملوكه وفي وجوب الضمان وجهان : أحدهما : لا يجب شيء لأنه مات بسراية جرح غير مضمون أشبه مالو مات بسراية القطع في الحد وسراية القود ولأنا تبينا أن القطع كان قتلا فيكون قاتلا لعبده فلا يلزمه ضمانه كما لو لم يعتقه والثاني : يضمنه بما زاد على أرش القطع من الدية لأنه مات وهو حر بسراية قطع عدوان فيضمن كما لو كان القاطع أجنبيا لكن يسقط القطع لأنه في ملكه ويجب الزائد لورثته فإن لم يكن له وارث سواه وجب لبيت المال ولا يرث السيد شيئا لأن القاتل لا يرث (9/400)
مسألة وفصول استيفاء القصاص من قاتل جماعة واستحقاق القصاص لجماعة في عضو
مسألة : قال : وإذا قتل رجل اثنين واحدا بعد واحد فاتفق أولياء الجميع على القود أقيد لهما وإن اراد ولي الأول القود والثاني الدية أقيد الأول وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية والثاني القود
وجملة ذلك أنه إذا قتل اثنين فاتفق أولياؤهما على قتله بهما وإن أراد أحدهما القود والآخر الدية قتل لمن أراد القود وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله سواء كان المختار للقود الثاني أو الأول وسواء قتلهما دفعة واحدة أو دفعتين فإن بادر أحدهما فقتله وجب للآخر الدية في ماله أيهما كان وقال أبو حنيفة و مالك : يقتل بالجماعة ليس لهم إلا ذلك فإن طلب بعضهم الدية فليس له وإن بادر أحدهم فقتل سقط حق الباقين لأن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به فكذلك إذا قتلهم واحد قتل بهم كالواحد بالواحد
وقال الشافعي : لا يقتل إلا بواحد سواء اتفقوا على طلب القصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتركهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق
ولنا على أبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين : إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل ] فظاهر هذا أن أهل كل قتيل يستحقون ما اختاروه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وإن اختار بعضهم الدية وجب له بظاهر الخبر ولأنهما جنايتان لا يتداخلان إذا كانتا خطأ أو أحدهما فلم يتداخلا في العمد كالجنايات على الأطراف وقد سلموها
ولنا على الشافعي أنه محل تعلق به حقان لا يتسع لهما معا رضي المستحقان به عنهما فيكتفي به كما لو قتل عبد عبدين خطأ فرضي بأخذه عنهما ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز كما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء أو ولي الحر بالعبد وولي المسلم بالكافر وفارق ما إذا كان القتل خطأ فإن الجناية تجب في الذمة والذمة تتسع لحقوق كثيرة وما ذكره مالك و أبو حنيفة فليس بصحيح فإن الجماعة قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص تغليظا للقصاص ومبالغة في الزجر وفي مسألتنا ينعكس هذا فإنه إذا علم أن القصاص واجب عليه بقتل واحد وإن قتل الثاني والثالث لا يزداد به عليه حق بادر إلى قتل من يريد قتله وفعل ما يشتهي فعله فيصير هذا كإسقاط القصاص عنه ابتداء مع الدية
فصل : وإن طلب كل ولي قتله بوليه مستقلا من غير مشاركة قدم الأول لأن حقه أسبق ولأن المحل صار مستحقا له بالقتل الأول فإن عفا ولي الأول فلولي الثاني قتله وإن طالب ولي الثاني قبل طلب الأول بعث الحاكم إلى ولي الأول فأعلمه وإن بادر الثاني فقتله أساء وسقط حق الأول إلى الدية وإن كان ولي الأول غائبا أو صغيرا أو مجنونا انتظر وإن عفا أولياء الجميع إلى الديات فلهم ذلك وإن قتلهم دفعة واحدة وتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم فقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم وإن بادر غيره فقتله استوفى حقه ويسقط حق الباقين إلى الدية وإن قتلهم متفرقا وأشكل الأول أو ادعى كل ولي أنه الأول ولا بينة لهم فأقر القاتل لأحدهم قدم بإقراره وإن لم يقر أقرعنا بينهم لاستواء حقوقهم
فصل : وإن قطع يمينى رجلين فالحكم فيه كالحكم في الأنفس على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف إلا أن أصحاب الرأي قالوا : يقاد لهما جميعا ويغرم لهما دية اليد في ماله نصفين وهذا لا يصح لأنه يفضي إلى إيجاب القود في بعض العضو والدية في بعضه والجمع بين البدل والمبدل في محل واحد ولم يرد الشرع به ولا له نظير يقاس عليه
فصل : وإن قطع يد رجل ثم قتل آخر ثم سرى القطع إلى نفس المقطوع فمات فهو قاتل لهما فإذا تشاحا في المستوفى للقتل قتل بالذي قتله لأن وجوب القتل عليه أسبق فإن القتل بالذي قطعه إنما وجب عند السراية وهي متأخرة عن قتل الآخر وأما القطع فإن قلنا إنه يستوفى منه مثل ما فعل فإنه يقطع له أولاد ثم يقتل للذي قتله ويجب للأول نصف الدية وإن قلنا لا يستوفى القطع وجبت له الدية كاملة ولم يقطع طرفه ويحتمل أن يجب له القطع على كل حال لأن القطع إنما يدخل في القتل عند استيفاء القتل فإذا تعذر استيفاء القتل وجب استيفاء الطرف لوجوب مقتضيه وعدم المانع من استيفائه كما لو لم يسر ولو كان قطع اليد لم يسر إلى النفس فإنه تقطع يده أولا ثم يقتل وسواء تقدم القطع أو تأخر وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك : يقتل ولا يقطع لأنه إذا قتل تلف الطرف فلا فائدة في القطع فأشبه ما لو كانا لواحد
ولنا أنهما جنايتان على رجلين فلم يتداخلا كقطع يدي رجلين وما ذكره من القياس غير صحيح لأنه قد قال : لو قطع يد رجل ثم قتله يقصد المثلة به قطع وقتل ونحن نوافقه على هذا في رواية فقد حصل الإجماع منا ومنهم على انتفاء التداخل في الأصل فكيف نقيس عليه ؟ ولكنه ينقلب دليلا عليه فنقول قطع وقتل فيستوفى منه مثل مافعل كما لو فعله برجل واحد يقصد المثلة به ويثبت الحكم في محل النزاع بطريق التنبيه فإنه إذا لم يتداخل حق الواحد فحق الاثنين أولى ويبطل بهذا ما قاله من المعنى
فصل : وإن قطع أصبعا من يمين رجل ويمينا لآخر وكان قطع الأصبع أسبق قطعت أصبعه قصاصا وخير الآخر بين العفو إلى الدية وبين القصاص وأخذ دية الأصبع ذكره القاضي وهو اختيار ابن حامد ومذهب الشافعي لأنه وجد بعض حقه فكان له استيفاء الموجود وأخذ بدل المفقود كمن أتلف مثليا لرجل فوجد بعض المثل وقال أبو بكر : يخير بين القصاص ولا شيء له معه وبين الدية هذا قياس قوله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يجمع في عضو واحد بين قصاص ودية كالنفس وإن كان قطع اليد سابقا على قطع الصبع قطعت يمينه قصاصا ولصاحب الأصبع أرشها ويفارق هذا ما إذا قتل رجلا ثم قطع يد آخر حيث قدمنا استيفاء القطع مع تأخره لأن قطع اليد لا يمنع التكافؤ في النفس بدليل أنا نأخذ كامل أنا نأخذ كامل الأطراف بناقصها وأن ديتهما واحدة ونقص الأصبع يمنع التكافؤ في اليد بدلي أنا لا نأخذه الكاملة بالنقاصة واختلاف ديتهما وإن عفا صاحب اليد قطعت الأصبع لصاحبها إن اختار قطعها (9/406)
مسألة حكم ما لو جرحه يمكن الاقتصاص منه
مسألة : قال : وإذا جرحه جرحا يمكن الاقتصاص منه بلا حيف اقتص منه
وجملة ذلك أن القصاص يجري فيما دون النفس من الجروح إذا امكن للنص والإجماع أما النص فقول الله تعال : { والجروح قصاص } [ وروي أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية فعرضوا عليهم الأرش فأبو إلا القصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله تكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها قال النبي صلى الله عليه و سلم : يا أنس كتاب الله القصاص قال : فعفا القوم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ] متفق عليه وأجمع المسلمون على جريان القصاص فيما دون النفس إذا أمكن ولأن مادون النفس في الحاجة إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوبه (9/410)
فصل شروط وجوب القصاص في الجروح
فصل : ويشترط لوجوب القصاص في الجروح ثلاثة أشياء :
أحدها : ان يكون عمدا محضا فأما الخطأ فلا قصاص فيه إجماعا لأن الخطأ لا يوجب القصاص في النفس وهي الأصل ففيما دونها أولى ولا يجب بعمد الخطأ وهو أن يقصد ضربه بما لا يفضي إلى ذلك غالبا مثل أن يضربه بحصاة لا يوضح مثلها فتوضحه فلا يجب به القصاص لأنه شبه العمد ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض وقال أبو بكر : يجب به القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية
الثاني : التكافؤ بين الجارح والمجروح وهو أن يكون الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله كالحر المسلم مع الحر المسلم فأما من لا يقتل بقتله فلا يقتص منه فيما دون النفس له كالمسلم مع الكافر والحر مع العبد والأب مع ابنه لأنه لا تأخذ نفسه بنفسه فلا يؤخذ طرفه بطرفه ولا يجرح بجرحه كالمسلم مع المستأمن
الثالث : إمكان الاستيفاء من غير حيف ولا زيادة لأن الله تعالى قال : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ولأن دم الجاني معصوم إلا في قدر جنايته فما زاد عليها يبقى على العصمة فيحرم استيفاؤه بعد الجناية كتحريمه قبلها ومن ضرورة المنع من الزيادة المنع من القصاص لأنها من لوازمه فلا يمكن المنع منها إلا بالمنع منه وهذا لا خلاف فيه نعلمه
وممن منع القصاص فيما دون الموضحة الحسن و الشافعي أبو عبيد وأصحاب الرأي ومنعه في العظام عمر ابن عبد العزيز و عطاء و النخعي و الزهري و الحكم و ابن شبرمة و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي إذا ثبت هذا فإن الجرح الذي يمكن استيفاؤه من غير زيادة هو كل جرح ينتهي إلا عظم كالموضحة في الراس والوجه ولا نعلم في جواز القصاص في الموضحة خلافا وهي كل جرح ينتهي إلى العظم في الرأس والوجه وذلك لأن الله تعالى نهى عن القصاص في الجروح فلو لم يجب ههنا لسقط حكم الآية وفي معنى الموضحة كل جرح ينتهي إلى عظم فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والساق والفخذ في قول أكثر اهل العلم وهو منصوص الشافعي وقال بعض أصحابه : لا قصاص فيها لأنه لا يقدر فيها وليس بصحيح لقول الله تعالى : { والجروح قصاص } ولأنه أمكن استيفاؤها بغير حيف ولا زيادة لانتهائها إلى عظم فهي كالموضحة والتقدير في الموضحة ليس هو المقتضي للقصاص ولا عدمه مانعا وإنما كان التقدير في الموضحة لكثرة شينها وشرف محلها ولهذا قدر ما فوقها من شجاج الرأس والوجه ولا قصاص فيه وكذلك الجائفة أرشها مقدر لا قصاص فيه (9/411)
فصلان لا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف
فصل : ولا يستوفى القصاص فيما دون النفس بالسيف ولا بآلة يخشى منها الزيادة سواء كان الجرح بها أو بغيرها لأن القتل إنما استوفى بالسيف لأنه آلته وليس ثمة شيء يخشى التعدي إليه فيجب أن يستوفى ما دون النفس بآلته ويتوقى ما يخشى منه الزيادة إلى محل لا يجوز استيفاؤه ولأننا منعنا القصاص بالكلية فيما تخشى الزيادة في استيفائه فلأن نمنع الآلة التي يخشى منها ذلك أولى فإن كان الجرح موضحة أو ما اشبهها فبالموسى أو حديدو ماضية معدة لذلك ولا يستوفي في ذلك إلا من له علم بذلك كالجرائحي ومن أشبهه فإن لم يكن للولي علم بذلك أمر بالاستبانة وإن كان له علم فقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص فيمكن من استيفائه إذا كان يحسن القتل ويحتمل أن لا يمكن من استيفائه بنفسه ولا يليه إلا نائب الإمام أو من يستنيبه ولي الجناية وهذا مذهب الشافعي لأنه لا يؤمن مع العداوة وقصد التشفي الحيف في الاستيفاء بما لا يمكن تلافيه وربما افضى إلى النزاع والاختلاف بأن يدعي الجاني الزيادة وينكرها المستوفي
فصل : وإذا أراد الاستيفاء من موضحة وشبهها فإن كان على موضعها شعر حلقه ويعمد إلى موضع الشجة من رأس المشجوج فيعلم منه طولها بخشبة أو خيط ويضعها على رأس الشاج ويعلم طرفيه بخط بسواد أو غيره ويأخذ حديدة عرضها كعرض الشجة فيضعها في أول الشامة ويجرها إلى آخرها ويأخذ مثل الشجة طولا وعرضا ولا يراعى العمق لأن حده العظم ولو روعي العمق لتعذر الاستيفاء لأن الناس يختلفون في قلة اللحم وكثرته وهذا كما يستوفى في الطرف مثله وإن اختلفا في الصغر والكبر والدقة والغلظ ويراعى الطول والعرض لأنه ممكن فإن كان راس الشاج والمشجوج سواء استوفى في قدر الشجة وإن كان رأس الشاج أصغر لكنه يتسع للشجة استوفيت إن استوعب رأس الشاج كله وهي بعض راس المسجوج لأنه استوفاها بالمساحة ولا يمنع الاستيفاء زيادتها على مثل موضعها من رأس الجاني لأن الجميع راسه وإن كان قدر الشجة يزيد على رأس الجاني فإنه يستوفي الشجة من جميع رأس الشاج ولا يجوز أن ينزل إلى جبهته لأنه يقتص في عضو آخر غير العضو الذي جنى عليه وكذلك لا ينزل إلى قفاه لما ذكرناه ولا يستوفي بقية الشجة في موضع آخر من رأسه لأنه يكون مستوفيا لموضحتين وواضعا للحديدة في غير الموضع الذي وضعها فيه الجاني واختلف أصحابنا فيماذا يصنع فذكر القاضي أن ظاهر كلام أبي بكر أنه لا أرش له فيما بقي كيلا يجتمع قصاص ودية في جرح واحد وهذا مذهب أبي حنيفة فعلى هذا يتخير بين الاستيفاء في جميع رأس الشاج ولا ارش له وبين العفو إلى دية موضحة وقال أبو عبد الله بن حامد وبعض أصحابنا : له أرش ما بقي وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيما جنى عليه فكان له أرشه كما لو تعذر في الجميع فعلى هذا تقدر شجة الجاني من الشجة في رأس المجني عليه ويستوفي أرش الباقي فإن كانت بقدر ثلثها فله ثلث أرش موضحة وإن زادت أو نقصت عن هذا فبالحساب من أرش الموضحة ولا يجب له أرش موضحة كاملة لئلا يفضي إلى إيجاب القصاص ودية موضحة في موضحة واحدة فإن أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فللمجني عليه أن يوضح منه بقدر مساحة موضحته من أي الطرفين شاء لأنه جنى عليه في ذلك الموضع كله وإذا استوفى قدر موضحته ثم تجاوزها واعترف أنه عمد ذلك فعليه القصاص في ذلك القدر فإذا اندملت موضحته استوفي منه القصاص في موضع الاندمال لأنه موضع الجناية وإن ادعى الخطأ فالقول قوله لأنه محتمل وهو أعلم بقصده وعليه أرش موضحة فإن قيل فهذه الموضحة كلها لو كانت عدوانا لم يجب فيها إلا دية موضحة فكيف يجب في بعضها دية موضحة ؟ قلنا : لأن المستوفى لم يكن جناية إنما الجناية الزائد والزائد لو انفرد لكان موضحة فكذلك إذا كان معه ما ليس بجناية بخلاف ما إذا كانت كلها عدوانا فإن الجميع جناية واحدة (9/413)
فصول القصاص في جروح الرأس
فصل : وإذا أوضحه في جميع رأسه ورأس الجاني أكبر فأحب أن يستوفي القصاص بعضه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره احتمل أن يمنع منه لأنه يلأخذ موضحتين بواحدة وديتهما مختلفة واحتمل الجواز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها إلا أن يقول أهل الخبر : إن في ذلك زيادة ضرر أو شين فلا يفعل ولأصحاب الشافعي كهذين فإن كان رأس المجني عليه أكبر فأوضحه الجاني في مقدمه ومؤخره موضحتين قدرهما جميغ رأس الجاني فله الخيار بين أن يوضحه موضحة واحدة في جميع رأسه أو يوضحه موضحتين يقتصر في كل واحدة منهما على قدر موضحته ولا أرش لذلك وجها واحدا لأنه ترك الاستيفاء مع إمكانه وإن عفا إلى الأرش فله أرش موضحتين وإن شاء اقتص من أحدهما وأخذ دية الأخرى
فصل : وإذا كانت الجناية في غير الرأس والوجه فكانت في ساعد فزادت على ساعد الجاني لم ينزل إل الكف ولم يصعد إلى العضد وإن كانت في الساق لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ لأنه عضو آخر فلا يقتص منه كمالو لم ينزل من الرأس إلى الوجه ولم يصعد من الوجه إلى الرأس
فصل : وإذا شج في مقدم رأسه أو مؤخره عرضا شجه لا يتسع لها مثل ذلك الموضع من رأس الشاج فأراد أن يستوفي من وسط الرأس فيما بين الأذنين لكونه يتسع لمثل تلك الموضحة ففيه وجهان : أحدهما : لا يجوز لأنه غير الموضع الذي شجه فيه فلم يجز له الإستيفاء منه كما لو أمكنه استيفاء حقه من محل شجته واحتمل أن يجوز لأن الرأس عضو واحد فإذا لم يمكنه استيفاء حقه من محل شجته جاز من غيره كما لو شجه في مقدم رأسه شجة قدرها جميه رأس الشاج جاز إتمام استيفائها في مؤخر رأس الجاني وهذا منصوص الشافعي وهكذا يخرج فيما إذا كان الجرح في موضع من الساق والقدم والذارع والعضد وإن أمكن الاستيفاء من محل الجناية لم يجر العدول عنه وجها واحدا (9/415)
فصلان شروط القصاص في الأطراف
مسألة : قال : وكذلك إذا قطع منه طرفا من مفصل قطع منه مثل ذلك المفصل إذا كان الجاني يقاد من المجني عليه لو قتله
أجمع أهل العلم على جريان القصاص في الأطراف وقد ثبت ذلك بقوله تعالى : { العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص } وبخبر الربيع بنت النضر بن أنس ويشترط الجريان القصاص فيها شروط خمسة :
أحدها : أن يكون عمدا على ما أسلفناه والثاني : أن يكون المجني عليه مكافئا للجاني بحيث يقاد به لو قتله والثالث : أن يكون الطرف مساويا للطرف ولا يؤخذ صحيح بأشل ولا كاملة الأصابع بناقصة ولا أصلية بزائدة ولا يشترط التساوي في الدقة والغلظ والصغر والكبر والصحة والمرض لأن اعتبار ذلك يفضي إلى سقوط القصاص بالكلية والرابع : الاشتراك في الإسم الخاص فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين ولا إصبع بمخالفة لها ولا جفن أو شفة إلا بمثلها الخامس : إمكان الاستيفاء من غير حيف وهو أن يكون القطع من مفصل فإن كان من غير مفصل فلا قصاص فيه من موضع القطع بغير خلاف عليه [ وقد روى نمر بن جابر عن أبيه أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف فقطعها من غير مفصل فاستعدى عليه النبي صلى الله عليه و سلم فأمر له بالدية فقال : إني أريد القصاص ؟ قال : خذ الدية بارك الله لك فيها ] ولم يقض له القصاص رواه ابن ماجة
فصل : وفي قطع اليد ثمان مسائل أحدها : قطع الأصابع من مفاصلها فالقصاص واجب لأن لها مفاصل ويمكن القصاص من غير حيف وإن اختار الدية فله نصفها لأن في كل أصبع عشر الدية والثانية : قطعها من نصف الكف فليس له القصاص من موضع القطع لأنه ليس بمفصل فلا يؤمن الحيف فيه وإن أراد قطع الأصابع ففيه وجهان : أحدهما : ليس له ذلك وهذا اختيار أبي بكر لأنه يقتص من غير موضع الجناية فلم يجز كما لو كان القطع من الكوع يحققه أن امتناع قطع الأصابع إذا قطع من الكوع إنما كان لعدم المقتضى أو وجود مانع وأيهما كان فهو متحقق إذا كان القطع من نصف الكف والثاني : له قطع الأصابع ذكره أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يأخذ دون حقه لعجزه عن استيفاء حقه فأشبه ما لو شجه هاشمة فاستوفى موضحة ويفارق ما إذا قطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه فلم يجز له العدول إلى غيره وهل له حكومة في نصف الكف ؟ فيه وجهان : أحدهما : ليس له ذلك لأنه يجمع بين القصاص والأرش في عضو واحد فلم يجز كما لو قطع من الكوع والثاني : له أرش نصف الكف لأنه حق له تعذر استيفاؤه فوجب أرشه كسائر ما هذا حاله وإن اختار الدية فله نصفها لأن قطع اليد من الكوع لا يوجب أكثر من نصف الدية فما دونه أولى
الثالثة : قطع من الكوع فله قطع يده من الكوع لأنه مفصل وليس له قطع الأصابع لأنه غير محل الجناية فلا يستوفى منه مع إمكان الاستيفاء من محلها الرابعة : قطع من نصف الذراع فليس له أن يقطع من ذلك الموضع لأنه ليس بمفصل وقد ذكرنا الخبر الوارد فيه فله نصف الدية وحكومة في المقطوع من الذراع وهل له أن يقطع من الكوع ؟ فيه وجهان كما ذكرنا فيمن قطع من نصف الكف ومن جوز له القطع من الكوع فعنده في وجوب الحكومة لما قطع من الذراع وجهان ويخرج أيضا في جواز قطع الأصابع وجهان فإن قطع منها لم يكن له حكومة في الكف لأنه أمكنه أخذه قصاصا فلم يكن له طلب أرشه كما لو كانت الجناية من الكوع
الخامسة : قطع من المرفق فله القصاص منه لأنه مفصل وليس له القطع من الكوع لأنه أمكنه استيفاء حقه بكماله والاقتصاص من محل الجناية عليه فلم يجز له العدول إلى غيره وإن عفا إلى الدية فله دية اليد وحكومة للساعد
السادسة : قطعها من العضد فلا قصاص فيها في أحد الوجهين وله دية اليد وحكومة للساعد وبعض العضد والثاني له القصاص من المرفق وهل له حكومة في الزائد ؟ على وجهين وهل له القطع من الكوع ؟ يحتمل وجهين والسابعة : قطع من المنكب فالواجب القصاص لأنه مفصل وإن اختار الدية فله دية اليد وحكومة لما زاد
الثامنة : خلع عظم المنكب ويقال له مشط الكتف فيرجع فيه إلى اثنين من ثقات أهل الخبرة فإن قالوا يمكن الاستيفاء من غير أن تصير جائفة استوفي وإلا صار الأمر إلى الدية وفي حواز الاستيفاء من المرفق أو ما دونه مثل ما ذكرنا في نظائره ومثل هذه المسائل في الرجل والساق كالذراع والفخذ كالعضد والورك كعظم الكتف والقدم كالكف (9/417)
مسألة وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص
مسألة : قال : وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص
المأمومة شجاج الرأس وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وتسمى تلك الجلدة أم الدماغ لأنها تجمعه فالشجة الواصلة إليها تسمى مأمومة وآمة لوصولها إلى أم الدماغ والجائفة في البدن وهي التي تصل إلى الجوف وليس فيهما قصاص عند أحد من أهل العلم ونعلمه إلا ما روي عن ابن الزبير أنه قص من المأمومة فأنكر الناس عليه وقالوا : ما سمعنا أحدا قص منها قبل ابن الزبير وممن لم ير في ذلك قصاصا مالك و الشافعي واصحاب الرأي وروي عن علي رضي الله عنه : لا قصاص في المأمومة وقاله مكحول و الزهري و الشعبي وقال عطاء و النخعي : لا قصاص في الجائفة
وروى ابن ماجة في سننه عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا قود في المأمومة ولا في الجائفة ولا في المنقلة ] ولأنهما جرحان لا تؤمن الزيادة فيهما فلم يجب فيهما قصاص ككسر العظام (9/420)
فصلان جواز اقتصاص موضحة لمن شجته موضحة
فصل : وليس في شيء من شجاج الرأس قصاص سوى الموضحة وسواء في ذلك ما دون الموضحة كالحارصة والبازلة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق وما فوقها وهي الهاشمة والمنقلة والآمة وبهذا قال الشافعي فأما ما فوق الموضحة فلا نعلم أحدا أوجب فيها القصاص إلا ما روي عن ابن الزبير أنه أقاد من المنقلة وليس بثابت عنه وممن قال به عطاء و قتادة و ابن شبرمة و مالك و الشافعي وأصحاب الرأي وقال ابن المنذر : لا أعلم أحدا خالف ذلك ولأنهما جراحتان لا تؤمن الزيادة فيهما أشبها المأمومة والجائفة وأما ما ون الموضحة فقد روي عن مالك واصحاب الرأي أن القصاص يجب في الدامية والباضعة والسمحاق ولنا أنها جراحة لا تنتهي إلى عظم فلم يجب فيها قصاص كالمأمومة ولأنه لا يؤمن فيها الزيادة فأشبه كسر العظام وبيان ذلك أنه إن اقتص من غير تقدير أفضى إلى أن يأخذ أكثر من حقه وإن اعتبر مقدار العمق أفضى إلى أن يقتص من الباضعة والسمحاق موضحة ومن الباضعة سمحاقا لأنه قد يكون لحم المشجوج كثيرا بحيث يكون عمق باضعته كموضحة الشاج أو سمحاقة ولأننا لم نعتبر في الموضحة قدر عمقها فكذلك في غيرها وبهذا قال الحسن و أبو عبيد
فصل : وإن كانت الشجة فوق الموضحة فأحب أن يقتص موضحة جاز ذلك بغير خلاف بين أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأنه يقتص على بعض حقه ويقتص من محل جنايته فإنه إنما يضع السكين في موضع وضعها الجاني لأن سكين الجاني وصلت إلى العظم ثم تجاوزته بخلاف قاطع الساعد فإنه لم يضع سكينه في الكوع وهل له أرش ما زاد على الموضحة ؟ فيه وجهان : أحدهما : ليس له ذلك وهو اختيار أبي بكر لأنه جرح واحد فلا يجمع فيه بين قصاص ودية كما لو قطع الشلاء بالصحيحة وكما في الأنفس إذا قتل المسلم بالكافر والعبد بالحر والثاني : له أرش ما زاد على الموضحة اختاره ابن حامد وهو مذهب الشافعي لأنه تعذر القصاص فيه فانتقل إلى البدل كما لو قطع أصبعيه ولم يمكن الاستيفاء إلا من واحدة وفارق الشلاء بالصحيحة لأن الزيادة ثم من حيث المعنى وليست متميزة بخلاف مسألتنا (9/420)
مسألة وفصول حكم قطع الأذن بالأذن
مسألة : قال : وتقطع الأذن بالأذن
أجمع اهل العلم على أن الأذن تؤخذ بالأذن وذلك لقول الله تعالى : { والأذن بالأذن } ولأنها تنتهي إلى حد فاصل فأشبهت اليد وتؤخذ الكبيرة بالصغيرة وتؤخذ أذن السميع بأذن السميع وتؤخذ أذن الأصم بكل واحدة منهما لتساويهما فإن ذهاب السمع نقص في الرأس لأنه محله وليس بنقص فيهما وتؤخذ الصحيحة بالمثقوبة لأن الثقب ليس بعيب وإنما يفعل في العادة للقرط والتزين به فإن كان الثقب في غير محله أو كانت مخرومة أخذت بالصحيحة ولم تؤخذ الصحيحة بها لأن الثقب إذا انخرم صار نقصا فيها والثقب في غير محله عيب ويخير المجني عليه بين أخذ الدية إلا قدر النقص وبين أن يقتص فيما سوى العيب ويتركه من أذن الجاني وفي وجوب الحكومة له في قدر الثقب وجهان وإن قطعت بعض أذنه فله أن يقتص من أذن الجاني وتقدير ذلك بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف والثلث بالثلث وعلى حساب ذلك وقال بعض أصحاب الشافعي : لا يجري القصاص في البعض لأنه لا ينتهي إلى حد
ولنا أنه يمكن تقدير المقطوع وليس فيها كسر عظم فجرى القصاص في بعضها كالذكر وبهذا ينتقص ما ذكره
فصل : وتؤخذ الأذن المستحشفة بالصحيحة وهل تؤخذ الصحيحة بها ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا تؤخذ بها لأنها ناقصة معيبة فلم تؤخذ بها الصحيحة كاليد الشلاء وسائر الأعضاء والثاني : تؤخذ بها لأن المقصود منها جمع الصوت وحفظ محل السمع والجمال وهذا يحصل بها كحصوله بالصحيحة بخلاف سائر الأعضاء
فصل : وإن قطع أذنه فأبانها فألصقها صاحبها فالتصقت وثبتت فقال القاضي : يجب القصاص وهو قول الثوري و الشافعي و إسحاق لأنه وجب بالإبانة وقد وجدت الإبانة وقال أبو بكر : لا قصاص فيها وهو قول مالك لأنها لم تبن على الدوام فلم يستحق إبانة أذن الجاني دواما وإن سقطت بعد ذلك قريبا أو بعيدا فله القصاص ويرد ما أخذه وعلى قول أبي بكر إذا لم تسقط له دية الأذن وهو قول أصحاب الرأي وكذلك قول الأولين إذا اختار الدية وقال مالك : لا عقل لها إذا عادت مكانها فأما إن قطع بعض أذنه فالتصق فله أرش الجرح ولا قصاص فيه وإن قطع أذن إنسان فاستوفى منه فألصق الجاني أذنه فالتصقت وطلب المجني عليه إبانتها لم يكن له ذلك لأن الإبانة قد حصلت والقصاص قد استوفى فلم يبق له قبله حق فأما إن كان المجني عليه لم يقطع جميع الأذن إنما قطع بعضها فألتصق كان للمجني عليه قطع جميعها لأنه استحق إبانة جميعها ولم يكن أبانه والحكم في السن كالحكم في الأذن
فصل : ومن ألصق أذنه بعد إبانتها أو سنه فهل تلزمه إبانتها ؟ فيه وجهان مبنيان على الروايتين فيما بان من الآدمي هل هو نجس أو طاهر ؟ إن قلنا هو نجس لزمته إزالتها ما لم يخف الضرر بإزالتها كما لو جبر عظمه بعظم نجس وإن قلنا بطهارتها لم تلزمه إزالتها وهذا اختيار أبي بكر وقول عطاء بن أبي رباح و عطاء الخراساني وهو الصحيح لأنه جزء آدمي طاهر في حياته وموته فكان طاهرا كحالة اتصاله فأما إن قطع بعض أذنه فألتصق لم تلزمه إبانتها لأنها ظاهرة على الروايتين جميعا لأنها لم تصر ميتة لعدم إبانتها ولا قصاص فيها قاله القاضي وهو مذهب الشافعي لأنه لا يمكن المماثلة في المقطوع منها (9/422)
مسألة حكم قطع الأنف بالأنف
مسألة : قال : والأنف بالأنف
وأجمعوا على جريان القصاص في الأنف أيضا للآية والمعنى ويؤخذ الكبير بالصغير والأقنى بالأفطس وأنف الأشم بأنف الأخشم الذي لا يشم لأن ذلك لعلة في الدماغ والأنف صحيح كما تؤخذ أذن السميع بأذن الأصم وإن كان بأنفه جذام به الأنف الصحيح ما لم يسقط منه شيء لأن ذلك مرض فإن سقط منه شيء لم يقطع به الصحيح إلا أن يكون من أحد جانبيه فيأخذ من الصحيح مثل ما بقي منه أو يأخذ أرش ذلك والذي يجب فيه القصاص أو الدية هو المارن وهو ما لان منه دون قصبة الأنف لأن ذلك حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيماانتهى إلى الكوع وإن قطع الأنف كله مع القصبة فعليه القصاص في المارن وحكومة اللقصبة هذا قول ابن حامد ومذهب الشافعي وفيه وجه آخر أنه لا يجب مع القصاص حكومة كيلا يجتمع في عضو واحد قصاص ودية وقياس قول أبي بكر أنه لا يجب القصاص ههنا لأنه يضع الحديدة في غير الموضع الذي وضعها الجاني فيه فلم يملك ذلك كقوله فيمن قطع اليد من نصف الذراع أو الكف
وذكر القاضي ههنا كقول أبي بكر وفي نظائره مثل قول ابن حامد ولا يصح التفريق مع التساوي وإن قطع بعض الأنف قدر بالأجزاء وأخذ منه بقدر ذلك وكقولنا في الأذن ولا يؤخذ بالمساحة لئلا يفضي إلى قطع جميع أنف الجاني لصغره ببعض أنف المجني عليه لكبره ويؤخذ المنخر الأيمن بالأيمن والأيسر بالأيسر ولا يؤخذ أيمن بأيسر ولا أيسر بأيمن ويؤخذ الحاجز بالحاجز لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى حد (9/424)
مسألة وفصل والذكر بالذكر
مسألة : قال : والذكر بالذكر
لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن القصاص يجري في الذكر لقوله تعالى : { والجروح قصاص } ولأن له حدا ينتهي إليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص كالأنف ويستوي في ذلك ذكر الصغير والكبير والشيخ والشاب والذكر الكبير والصغير والصحيح والمريض لأن ما وجب فيه القصاص من الأطراف لم يختلف بهذه المعاني كذلك الذكر ويؤخذ كل واحد من المختون والأغلف بصاحبه لأن الغلظة زيادة تستحق إزالتها فهي كالمعدومة
وأما ذكر الخصي والعنين فذكر الشريف أن غيرهما لا يؤخذ بهما وهو قول مالك لأنه لامنفعة فيهما لأن العنين لا يطأ ولا ينزل والخصي لا يولد ولا ينزل ولا يكاد يقدر على الوطء فهما كالأشل ولأن كل واحد منهما ناقص فلا يؤخذ به الكامل كاليد الناقصة بالكاملة وقال أبو الخطاب : يؤخذ بهما غيرهما في أحد الوجهين وهو مذهب الشافعي لأنهما عضوان صحيحان ينقبضان وينبسطان ويؤخذ بهما غيرهما كذكر الفحل غير العنين وإنما عدم الإنزال لذهاب الخصية والعنة لعلة في الظهر فلم يمنع ذلك من القصاص بهما كأذن الأصم وأنف الأخشم وقال القاضي : لا يؤخذ ذكر الفحل بالخصي لتحقق نقصه وإلا يئس من برئه وفي أخذه بذكر العنين وجهان :
أحدهما : يؤخذ به غيره لأنه غير مأيوس من زوال عنته ولذلك يؤجل سنة بخلاف الخصي والصحيح الأول فإنه إذا ترددت الحال بين كونه مساويا للآخر وعدمه لم يجب القصاص لأن الأصل عدمه فلا يجب بالشك سيما وقد حكمنا بانتفاء التساوي لقيام الدليل على عنته وثبوت عيبه فيؤخذ كل واحد من الخصي والعنين بمثله لتساويهما كما ؤخذ العبد بالعبد والذمي بالذمي
فصل : ويؤخذ بعضه ببعضه ويعتبر ذلك بالأجزاء دون المساحة فيؤخذ النصف بالنصف والربع بالربع وما زاد أو نقص فبحسب ذلك على ما ذكرناه في الأنف والأذن (9/426)
مسألة وفصول والأنثيان بالأنثيين وفروع
مسألة : قال : والأنثيان بالأنثيين
ويجري القصاص في الأنثيين لما ذكرنا من النص والمعنى لا نعلم فيه خلافا فإن قطع إحداهما وقال أهل الخبرة : إنه ممكن أخذها مع سلامة الأخرى جاز فإن قالوا : لا يؤمن تلف الأخرى لم تؤخذ خشية الحيف ويكون فيها نصف الدية وإن أمن تلف الأخرى أخذت اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى لما ذكرناه في غيرهما
فصل : وفي القصاص في شفري المرأة وجهان : أحدهما : لا قصاص فيهما لأنه لحم لا مفصل له ينتهي إليه فلم يجب فيه قصاص كلحم الفخذين هذا قول القاضي
والثاني : فيهما القصاص لأن انتهاءهما معروف فأشبها الشفتين وجفني العين وهذا قول أبي الخطاب ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : وإن قطع ذكر خنثى مشكل أو أنثييه أو شفريه فاختار القصاص لم يكن له قصاص في الحال ويقف الأمر حتى يتبين حاله لأننا لا نعلم أن المقطوع عضو أصلي وإن اختار الدية وكان يرجى انكشاف حاله أعطيناه اليقين فيكون له حكومة في المقطوع وإن كان قد قطع جيمعها فله دية امرأة في الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين وإن يئس من انكشاف حاله أعطي نصف دية الذكر والأنثيين ونصف دية الشفرين وحكومة في نصف ذلك كله
فصل : يجب القصاص في الأليتين الناتئتين بين الفخذين والظهر بجانبي الدبر هذا ظاهر مذهب الشافعي وقال المزني : لاقصاص فيهما لأنهما لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذ
ولنا قوله تعالى : { والجروح قصاص } ولأن لهما حدا ينتهيان إليه فجرى القصاص فيهما كالذكر والأنثيين (9/427)
مسألة وفصول قصاص العين وفروع
مسألة : قال : وتقلع العين بالعين
أجمع أهل العلم على قصاص في العين وممن بلغنا في ذلك مسروق و الحسن و ابن سيرين و الشعبي و النخعي و الزهري و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أصحاب الرأي وروي عن علي رضي الله عنه والأصل فيه قول الله تعالى : { والعين بالعين } ولأنها تنتهي إلى مفصل فجرى القصاص فيها كاليد وتؤخذ عين الشاب بعين الكبير المريضة وعين الصغير بعين الكبير والأعمش ولا تؤخذ صحيحة بقائمة لأنه يأخذ أكثر من حقه
فصل : فإن قلع عينه بأصبعه لم يجز أن يقتص بأصبعه لأنه لا يمكن المماثلة فيه وإن لطمه فذهب ضوء عينه لم يجز أن يقتص منه باللطمة لأن المماثلة فيها غير ممكنة ولهذا لو انفردت من إذهاب الضوء لم يحب فيها قصاص ويجب القصاص في البصر فيعالج بما يذهب ببصره من غير أن يقلع عينه كما روى يحيى بن جعدة أن أعرابيا قدم بحلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان : هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه ؟ فأبى فرفعهما إلى علي رضي الله عنه فدعا علي بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه وإن وضع فيها كافورا يذهب بضوئها من غير أن يجني على الحدقة جاز وإن لم يمكن إلا بالجناية على العضو سقط القصاص لتعذرالمماثلة
وذكر القاضي أنه يقتص منه باللطمة فيلطمه المجني عليه مثل لطمته فإن ذهب ضوء عينه وإلا كان له أن يذهبه ما ذكرنا وهذا مذهب الشافعي وهذا لا يصح فإن اللطمة لا يقتص منها منفردة فلا يقتص منها إذا سرت إلى العين كالشجة إن كانت دون الموضحة ولأن اللطمة إذا لم تكن في العين لايقتص منها بمثلها مع الأمن من إفساد العضو في العين فمع خوف ذلك أولى ولأنه قصاص فيما دون النفس فلم يجز لغير الآلة المعدة كالموضحة وقال القاضي : لايجب القصاص إلا أن تكون اللطمة تذهب بذلك غالبا فإن كانت لا تذهب به غالبا فذهب فهو شبه عمد لا قصاص فيه وهو قول الشافعي لأنه فعل لا يفضي إلى الفوات غالبا فلم يجب به القصاص كشبه العمد في النفس وقال أبو بكر : يجب القصاص بكل حال لعموم قوله : { والعين بالعين } ولأن اللطمة إذا أسالت إنسان العين كانت بمنزلة الجرح ولا يعتبر في الجرح الإفضاء إلى التلف غالبا
فصل : فلو لطم عينه فذهب بصرها وأبيضت وشخصت فإن أمكن معالجة عين الجاني حتى يذهب بصرها وتبيض وتشخص من غير جناية على الحدقة فعل ذلك وإن لم يمكن إلا ذهاب بعض ذلم مثل أن يذهب البصر دون أن تبيض وتشخص فعليه حكومة للذي لم يمكن القصاص فيه كما لو جرح هاشمة فإنه يقتص موضحة ويأخذ أرش باقي جرحه وعلى قول أبي بكر : لا يستحق مع القصاص أرش
وقال القاضي : إذا اقتص منه يعني لطمه مثل لطمته فذهب ضوء عينه ولم تبيض ولم تشخص فإن أمكن معالجتها حتى تبيض وتشخص من غير ذهاب الحدقة فعله وإن تعذر ذلك فلا شيء عليه كما لو اندملت موضحة المجني عليه وحشة قبيحة وموضحة الجاني حسنة جميلة لم يجب شيء كذلك ههنا وهذا بناء على أن اللطمة حصل بها القصاص كما حصل بجرح الموضحة وقد بينا فساد هذا
فصل : وإن شجه شجة دون الموضحة فأذهب ضوء عينه لم يقتص منه مثل شجته بغير خلاف نعلمه لأنها لا قصاص فيها إذا لم يذهب ضوء العين فكذلك إذا ذهب ويعالج ضوء العين بمثل ما ذكرنا في اللطمة وإن كانت الشجة فوق الموضحة فله أن يقتص موضحة وهل له أرش الزيادة عليها ؟ فيه وجهان وإن ذهب ضوء العين وإلا استعمل فيه ما يزيله من غير أن يجني على الحدقة وإن شجه موضحة فله أن يقتص منها وحكم القصاص في البصر على ما ذكرنا من قبل واختلف أصحاب الشافعي في القصاص في البصر إلى التي في هذه المواضع كلها فقال بعضهم : لا قصاص فيه لأنه لا يجب بالسراية كما لو قطع أصبعه فسرى القطع إلى التي تليها فأذهبها عندهم وقال بعضهم : يجب القصاص ههنا قولا واحدا لأن ضوء العين لا تمكن مباشرته بالجناية فيقتص منه بالسراية كالنفس فيقتص من البصر كما ذكرنا فيما قبل هذا
فصل : إذا قلع الأعور عين صحيح فلا قود وعليه دية كاملة روي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء وقال الحسن و النخعي : إن شاء اقتص وأعطاه نصف دية وقال مالك : إن شاء اقتص وإن شاء أخذ دية كاملة
وقال مسروق و الشعبي و ابن سيرين و ابن مغفل و الثوري و الشافعي واصحاب الرأي و ابن المنذر : له القصاص ولا شيء عليه وإن عفا فله نصف الدية لقول الله تعالى : { والعين بالعين } [ وجعل النبي صلى الله عليه و سلم في العينين الدية لأنها إحدى شيئين فيهما الدية فوجب القصاص ممن له واحدة أو نصف الدية كما لو قطع الأقطع يد من له يدان ]
ولنا قول عمر وعثمان رضي الله عنهما ولم نعرف لهما مخالفا في عصرهما ولأنه لم يذهب بجميع بصره فلم يجز له الاقتصاص منه بجميع بصره كما لو كان ذا عينين وأما إذا قطع يد الأقطع فلنا فيه منع ومع التسليم فالفرق بينهما أن يد الأقطع لا تقوم مقام اليدين في النفع الحاصل بهما بخلاف عين الأعور فإن النفع الحاصل بالعينين حاصل بها وكل حكم يتعلق بصحيح العينين ويثبت في الأعور مثله ولهذا صح عتقه في الكفارة دون الأقطع فأما وجوب الدية كاملة عليه وهو قول مالك فلأنه لما دفع القصاص مع إمكانه لفضيلته ضوعفت الدية عليه كالمسلم إذا قتل ذميا عمدا ولو قلع الأعور إحدى عيني الصحيح خطأ لم يلزمه إلا نصف الدية بغير اختلاف لعدم المعنى المقتضي لتضعيف الدية (9/428)
فصول حكم قلع الأعور عين مثله وبالعكس
فصل : ولو قلع الأعور عين مثله ففيه القصاص بغير خلاف لتساويهما من كل وجه إذا كانت العين مثل العين في كونها يمينا أو يسارا وإن عفا إلى الدية فله جميعها وكذلك إن قعلها خطأ أو عفا بعض مستحقي القصاص لأنه ذهب بجميع بصره فأشبه ما لو قلع عيني صحيح
فصل : وإن قلع الأعور عيني صحيح فقال القاضي : هو مخير إن شاء اقتص ولا شيء له سوى ذلك لأنه قد أخذ جميع بصره فإن اختار الدية فله دية واحدة ل [ قول النبي صلى الله عليه و سلم : وفي العينين الدية ] لأنه لم يتعذر القصاص فلم تتضاعف الديةكما لو قطع الأشل يد صحيح أو كان رأس الشاج أصغر أو يد القاطع أنقص وقال القاضي : يقتضي الفقه أن يلزمه ديتان إحداهما للعين التي تقابل عينه والدية الثانية لأجل العين الناتئة لأنها عين أعور والصحيح ما قلنا وهو قول أكثر أهل العلم وأشد موافقة للنصوص وأصح في المعنى
فصل : وإن قلع صحيح العينين عين أعور فله القصاص من مثلها ويأخذ نصف الدية نص عليه أحمد لأنه ذهب بجميع بصره وأذهب الضوء الذي بدله دية كاملة وقد تعذر استيفاء جميع الضوء إذ لا يمكن أخذ عينين بعين واحدة ولا أخذ يمين بيسرى فوجب الرجوع ببدل نصف الضوء ويحتمل أنه ليس له إلا القصاص من غير زيادة أو العفو على الدية كما لو قطع الشل يدا صحيحة ولأن الزيادة ههنا غير متميزة فلم يكن لها بدل كزيادة الصحيحة على الشلاء هذا مع عموم قوله تعالى : { والعين بالعين } (9/432)
فصلان قصاص الجفن ولو قطع أقطع يد من له يدان
فصل : وإن قطع الأقطع يد من له يدان فعليه القصاص وإن قطعت رجل الأقطع أو يده فله القصاص أو نصف الدية لأن يد الأقطع لا تقوم مقام يديه في الانتفاع والبطش ولا يجزىء في العتق عن الكفارة بخلاف عين الأعور فإنها تقوم مقام عينيه جميعا وقال القاضي : إن كانت المقطوعة أو لا قطعت ظلما أو قصاصا ففي الباقية نصف الدية رواية واحدة وإن كانت الأولى قطعت في سبيل الله ففي الثاني روايتان : إحداهما : نصف الدية والثانية دية كاملة لأنه عطل منافعه من العضوين جملة وأما إن قطع الأقطع يد من ليس بأقطع فإن قلنا إن في يد الأقطع دية كاملة فلا قصاص وإن قلنا لا تكمل فيها الدية فالقصاص واجب فيها واللائق بالفقه ما ذكرناه أولا والتعليل بتفويت منفعة العضوين ينتقض بما إذا قطعت الأولى قصاصا والقياس على عين الأعور غير صحيح لما بينهما من الفرق فأما إن قطعت أذن من قطعت إحدى أذنيه فليس له إلا نصف الدية رواية واحدة وإن قطع هو أذن ذي أذنين وجب عليه القصاص بغير خلاف علمناه لا في المذهب ولا في غيره لأن نفع كل إذن لا يتعلق بالأخرى
فصل : ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى : { والجروح قصاص } ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل وهذا مذهب الشافعي ويؤخذ جفن البصيربجفن البصير والضرير وجفن الضرير بكل واحد منهما تساويا في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره لأنه يمنع أخذ أحدهما بالآخر كالأذن إذا عدم السمع منها (9/433)
مسألة وفصول أحكام القصاص في السن
مسألة : قال : والسن بالسن
أجمع أهل العلم على القصاص في السن للآية وحديث الربيع ولأن القصاص فيها ممكن لأنها محدودة في نفسها فوجب فيها القصاص كالعين وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة وتؤخذ المكسورة بالصحيحة لأنه يأخذ بعض حقه وهل يأخذ مع القصاص أرش الباقي ؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما مضى
فصل : ولا يقتص إلا من سن من اتغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت يقال لمن سقطت رواضعه ثغر فهو مثغور فإذا نبت قيل أثغر وأتغر لغتان وإن قلع سن من لم يثغر لم يقتص من الجاني في الحال وهذا قول مالك و الشافعي وأصحاب الرأي لأنها تعود بحكم العادة فلا يقتص منها كالشعر ثم إن عاد بدل السن في محلها مثلها على صفتها فلا شيء على الجاني كما لو قلع شعرة نبتت وإن عادت مائلة عن محلها أو متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة لأنها لو لم تعد ضمن السن فإذا عادت ناقصة ضمن ما نقص منها بالحساب ففي ثلثها ثلث ديتها وفي ربعها ربعها وعلى هذا وإن عادت والدم يسيل ففيها حكومة لأنه نقص حصل بفعله وإن مضى زمن عودها ولن تعد سئل أهل العلم بالطب فإن قالوا قد يئس من عودها فالمجني عليه بالخيار بين القصاص أو دية السن فإن مات المجني عليه قبل الإياس من عودها فلا قصاص لأن الاستحقاق له غير متحقق فيكون ذلك شبهة في درئه وتجب الدية لأن القلع موجود والعود مشكوك فيه ويحتمل أنه إذا مات قبل مجيء وقت عودها أن لا يجب شيء لأن العادة عودها فأشبه ما لو حلق شعره فمات قبل نباته فأما إن قلع سن من قد أثغر وجب القصاص له في الحال لأن الظاهر عدم عودها وهذا قول بعض أصحاب الشافعي وقال القاضي : يسأل أهل الخبرة فإن قالوا : لا تعود فله القصاص في الحال وإن قالوا : يرجى عودها إلى وقت ذكروه لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي لأنها تحتمل العود فأشبهت سن من لم يثغر وإذا ثبت هذا فإنها إن لم تعد بعد فلا كلام وإن عادت لم يجب قصاص ولا يدة وهذا قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقال في الآخر : لا يسقط الأرش لأن هذه السن لا تستخلف عادة فإذا عادت كانت هبة مجددة ولذلك لا ينتظر عودها في الضمان
ولنا أنها سن عادت فسقط الأرش كسن من لم يثغر وندرة وجودها لا يمنع ثبوت حكمها إذا وجدت فعلى هذا إن كان أخذ الأرش رده وإن كان استوفى القصاص لم يجز قلع هذه قصاصا لأنه لم يقصد العدوان وإن عادت سن الجاني دون سن المجني عليه ففيه وجهان : أحدهما : لا تقلع لئلا يأخذ سنين بسن واحدة وإنما قال الله تعالى : { السن بالسن } والثاني تقلع وإن عادت مرات لأنه قلع سنة وأعدمها فكان له إعدام سنه ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين
فصل : وإن قلع سنا فاقتص منه ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانية فلا شيء عليه لأن سن المجني عليه لما عادت وجب للجاني عليه دية سنة فلما قلعها وجب على الجاني ديتها للمجني عليه فقد وجب لكل واحد منهما دية سن فيتقاصان
مسألة : قال : وإن كسر بعضها برد من سن الجاني مثله
وجملته أن القصاص جار في بعض السن ل [ أن الربيع كسرت سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بالقصاص ] ولأن ما جرى القصاص في جملته جرى في بعضه إذا أمكن كالأذن فيقدر ذلك بالأجزاء فيؤخذ النصف والثلث بالثلث وكل جزء بمثله ولا يؤخذ ذلك بالمساحة كيلا يفضي إلى أخذ جميع سن الجاني ببعض سن المجني عليه ويكون القصاص بالمبرد ليؤمن أخذ الزيادة فإنا لو أخذناها بالكسر لم نأمن أن تنصدع أو تنقلع أو تنكسر من غير موضع القصاص ولا يقتص حى يقول أهل الخبرة إنه يؤمن انقلاعها أو السواد فيها لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل فإن قيل : فقد أجزتم القصاص في الأطراف مع توهم سرايتها إلى النفس فلم منعتم منه لتوهم السراية إلى بعض العضو ؟ قلنا : وهم السراية إلى النفس لا سبيل إلى التحرز منه فلو اعتبرناه في المنع لسقط القصاص في الأطراف بالكلية فسقط اعتباره أما السراية إلى بعض العضو فتارة نقول إنما منع القصاص فيها احتمال الزيادة في الفعل لا في السراية مثل من يستوفي بعض الذراع فإنه يحتمل أن يفعل أكثر مما فعل به وكذلك من كسر سنا ولم يصدعها فكسر المستوفي سنة وصدعها أو قلعها أو كسر أكثر مما كسر فقد زاد على المثل والقصاص يعتمد المماثلة وتارة نقول : إن السراية في بعض العضو إنما منع إذا كانت ظاهرة ومثل هذا يمنع في النفس ولهذا منعناه من الإستيفاء بآلة كالة أو مسمومة وفي وقت افراط الحرارة أو البرودة تحرزا من السراية
فصل : ومن قلع سنا زائدة وهي التي تنبت فضلة في سمت الأسنان خارجة عنها إما إلى داخل الفم وإما إلى الشفة وكانت للجاني مثلها في موضعها فللمجني عليه القصاص أو أخذ حكومة في سنة وإن لم يكن له مثلها في محلها فليس للمجني عليه إلا الحكومة وإن كانت إحدى الزائدتين أكبر من الأخرى ففيه وجهان : أحدهما : لا تؤخذ الكبرى بالصغرى لأن الحكومة فيها أكبر فلا يقلع بها ما هو أقل قيمة منها
والثاني : تؤخذ لأنهما سنان متساويان في الموضع قتؤخذ كل واحدة منهما بالأخرى كالأصليتين ولأن قول الله تعالى : { والسن بالسن } عام فيدخل فيه محل النزاع وإن قلنا يثبت القياس في الزائدتين بالاجتهاد فالثابت بالاجتهاد معتبر بما ثبت بالنص واختلاف القيمة لا يمنع القصاص بدليل جريانه بين العبيد وبين الذكر والأنثى في النفس والأطراف على أن كبر لا يوجب كثرة قيمتها فإن السن الزائدة نقص وعيب وكثرة العيب زيادة في النقص لا في القيمة ولأن كبر السن الأصلية لا يزيد قيمتها فالزائدة كذلك (9/434)
فصل ويؤخذ اللسان باللسان
فصل : ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى : { والجروح قصاص } ولأن له حدا ينتهي إليه فاقتص منه كالعين ولا نعلم في هذا خلافا ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرس لأنه أفضل منه ويؤخذ الأخرس بالناطق لأنه بعض حقه ويؤخذ بعض اللسان ببعض لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كالسن ويقدر ذلك بالأجزاء ويؤخذ منه بالحساب (9/438)
فصل وتؤخذ الشفة بالشفة
فصل : وتؤخذ الشفة بالشفة وهي ما جاوز الذقن والخدين علوا وسفلا لقول الله تعالى : { والجروح قصاص } ولأن له حدا ينتهي إليه يمكن القصاص منه فوجب كاليدين (9/439)
مسألة وفصل امناع أخذ اليمين باليسارواليسار باليمين
مسألة : قال : ولا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين
هذا قول أكثر أهل العلم منهم مالك و الشافعي واصحاب الرأي وحكي عن أبن سيرين و شريك أن إحداهما تؤخذ بالأخرى لأنهما يستويان في الخلقة والمنفعة
ولنا أن كل واحدة منهما تخص باسم فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى كاليد مع الرجل فعلى هذا كل ما انقسم إلى يمين ويسار كاليدين والرجلين والأذنين والمنخرين والثدين والأليتين والأنثيين لا تؤخذ إحداهما بالأخرى
فصل : وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين لا يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لما ذكرنا ولا تؤخذ أصبع بأصبع إلا أن يتفقا في الإسم والموضع ولا تؤخذ أنملة بأنملة إلا أن يتفقا في ذلك ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى والوسطى والسفلى لا تؤاخذان بغيرهما ولا تؤخذ السن بالسن إلا أن يتفق موضعهما واسمهما ولا تؤخذ أصبع ولا سن أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية ولا زائدة في غير محلها لما ذكرناه
فصل : وما لا يجوز أخذه قصاصا لا يجوز بتراضيهما واتفاقهما عليه لأن الدماء لا تستباح بالاستباحة والبذل ولذلك لو بذلها له ابتداء لا يحل أخذها ولا يحل لأحد قتل نفسه ولا قطع طرفه فلا يحل لغيره ببذله فلو تراضيا على قطع إحدى اليدين بدلا عن الأخرى فقطعها المقتص سقط القود لأن القود سقط في الأولى بإسقاط صاحبها وفي الثانية بإذن صاحبها في قطعها ودياتهما متساوية وهذا قول أبي بكر ولذلك قال : لو قطع المقتص اليد بالأخرى عدوانا لسقط القصاص لأنهما تساويا في الألم والدية والاسم فتقاصا وتساقطا ولأن إيجاب القصاص يفضي إلى قطع يدي كل واحد منهما وإذهاب منفعة الجنس وإلحاق الضرر العظيم بهما جميعا ولا تفريع على هذا القول لوضوحه وكل واحد من القطعين مضمون بسرايته لأنه عدوان وقال ابن حامد : إن كان أخذها عدوانا فلكل واحد منهما القصاص على صاحبه وإن أخذها بتراضيهما فلا قصاص في الثانية لرضا صاحبها ببذلها وإذنه في قطعها وفي وجوبه في الأولى وجهان : أحدهما : يسقط لما ذكرنا والثاني : لا يسقط لأنه رضي بتركه بعوض لم يثبت فكان له الرجوع إلى حقه كما لو باعه سلعة بخمر وقبضه إياه فعلى هذا له القصاص إلا أنه لا يقتص إلا بعد اندمال الأخرى وللجاني دية يده فإذا وجب للمجني عليه دية يده وكانت الديتان واحدة تقاصا وإن كانت إحداهما أكبر من الأخرى كالرجل مع المرأة وجب القصاص لصاحبه (9/439)
فصل قطع اليسار بدل اليمين خطأ
وإذا قال المقتص للجاني : أخرج يمينك لأقطعها فأخرج يساره فقطعها فعلى قول أبي بكر يجزىء ذلك سواء قطعها عالما بها أو غير عالم وعلى قول ابن حامد : إن أخرجها عمدا عالما بأنها يساره وأنها لا تجزىء فلا ضمان على قاطعها ولا قود لأنه بذلها بإخراجه لها لا على سبيل العوض وقد يقوم الفعل في ذلك مقام النطق بدليل أنه لا فرق بين قوله : خذ هذا فكله وبين استدعاء ذلك منه فيعطيه إياه ويفارق هذا ما لو قطع يد إنسان وهو ساكت لأنه لم يوجد منه البذل وينظر في المقتص فإن فعل ذلك عالما بالحال عذر لأنه ممنوع منه لحق الله تعالى وهل يسقط القصاص في اليمن على وجهين : أحدهما : يسقط لأن قاطع اليسار تعدى بقطعها ولأنه قطع إحدى يديه فلم يملك قطع اليد الأخرى كما لو قطع يد السارق اليسرى مكان يمينه فإنه لا يملك قطع يمينه
والوجه الثاني : أنه لا يسقط وهو مذهب الشافعي وفرقوا بين القصاص وقطع السارق من ثلاثة أوجه أحدها : أن الحد مبني على الإسقاط بخلاف القصاص والثاني : أن اليسار لا تقطع في السرقة وإن عدمت يمينه لأنه يفوت منفعة الجنس في الحد بخلاف القصاص والثالث : أن اليد لو سقطت بأكلة أو قصاص سقط القطع في السرقة فجاز أن يسقط بقطع اليسار بخلاف القصاص فإنه لا يسقط وينتقل إلى البدل لكن لا تقطع يمينه حتى تندمل يساره لئلا يؤدي إلى ذهاب نفسه فإن قيل : أليس لو قطع يمين رجل ويسار آخر لم يؤخر أحدهما إلى اندمال الآخر ؟ قلنا : الفرق بينهما أن القطعين قصاصا فلهذا جمعنا بينهما وفي مسألتنا أحدهما غير مستحق فلم نجمع بينهما فإذا اندملت اليسار قطعنا اليمين فإن سرى قطع اليسار إلى نفسه كانت هدرا ويجب في تركته دية اليمين لتعذر الاستيفاء فيها بموته وإن قال المقتص منه : لم أعلم أنها اليسار أو ظننت أنها تجزىء عن اليمين نظر في المستوفي إن علم أنها يساره وأنها لا تكون قصاصا ضمنها بديتها ويعزر وقال بعض الشافعية : عليه القصاص لأنه قطعها مع العلم بأنه ليس له قطعها
ولنا أنه قطعها ببذل صاحبها فلم يجب عليه القصاص كما لو علم باذلها وإن كان جاهلا فلا تعزير عليه وعليه الضمان بالدية لأنه بذلها على وجه البدل فكانت مضمونة عليه ولأنها مضمونة لو كان القاطع عالما بها وما وجب ضمانه في العمد وجب في الخطأ كإتلاف المال والقصاص باق له في اليمين ولا تقطع حتى تندمل اليسار فإذا اندملت فله قطع اليمين فإن عفا وجب بذلها ويتقاصان وإن سرت اليسار إلى نفسه كانت مضمونة بالدية الكاملة وقد تعذر قطع اليمين ووجب له نصف الدية فيتقاصان به ويبقى نصف الدية لورثة الجاني وإن اختلفا في بذلها فقال الجاني : إنما بذلتها بدلا عن اليمين وقال المجني عليه : بذلتها في غير عوض أو قال أخرجتها دهشة فقال : بل عالما فالقول قول الجاني لأنه أعلم بنيته ولأن الظاهر أن الإنسان لا يبذل طرفه للقطع تبرعا مع أن عليه قطعا مستحقا وهذا مذهب الشافعي وإن كان باذل اليسار مجنونا مثل أن يجن بعد وجوب القصاص عليه فعلى قاطعها ضمانها بالقصاص إن كان عالما وبالدية إن كان مخطئا لأن بذل المجنون ليس بشبهة وإن كان من له القصاص مجنونا ومن عليه القصاص عاقلا فأخرج إليه يساره أو يمينه فقطعها ذهبت هدرا لأنه لا يصح منه الاستيفاء ولا يجوز البدل له ولاضمان عليه لأنه أتلفها ببذل صاحبها لكن إن كان المقطوع اليمنى فقد تعذر استيفاء القصاص فيها لتلفها فيكون للمجنون ديتها وإن وثب المجنون عليه فقطع يده التي لا قصاص فيها فعلى عاقلته ديتها وله القصاص في الأخرى وإن قطع الأخرى فهو مستوف حقه في أحد الوجهين لأن حقه متعين فيها فإذا أخذها قهرا سقط حقه كما لو أتلف وديعته والثاني : لا يسقط حقه وله عقل يده وعقل يد الجاني على عاقلته لأن المجنون لا يصح منه الاستيفاء ويفارق الوديعة إذا أتلفها بغير تفريط وليس لها بذل إذا تلفت بذلك واليد بخلافه فإنها لو تلفت بغير تفريط كانت عليه ديتها وكذلك الصغير وكذلك الحكم فيهما إذا قتلا قاتل أبيهما عمدا وإن اقتصا من الجاني ما لا تحمله عاقلته كما دون الثلث كقطع أصبع ونحوها سقط حقهما لأن ذلك يقتضي الدية في ذمتهما ولهما في ذمة الجاني مثل ذلك فيتقاصان وإن كانت ديتهما مختلفة كالمسلم والذمي والرجل والمرأة فإن قلنا : يكونان مستوفيين لحقهما بالقطع لم يبق لهما حق كما لو أتلفا وديعتهما وإن قلنا : لا يكونان مستوفيين يقاص من الديتين بقدر الأدني منهما ووجب الفضل للصبي والمجنون وإن كانت الجناية عليهما أو على وليهما خطأ تحمله العاقلة فاستوفيا القصاص لم يسقط حقهما حقا وجها واحدا وكانت دية من استوفيا منه على عاقلتهما مؤجلة ودية الجناية عليهما أو على وليهما على عاقلة الجاني مؤجلة (9/440)
فصل سراية القود غير مضمونة
فصل : وسراية القود غير مضمونة ومعناه أنه إذا قطع طرفا يجب القود فيه فاستوفى منه المجني عليه ثم مات الجاني بسراية الاستيفاء لم يلزم المستوفي شيء وبهذا قال الحسن و ابن سيرين و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو يوسف و محمد و ابن المنذر وروي ذلك عن أبي بكر وعلي رضي الله عنهم وقال عطاء و طاوس و عمرو بن دينار و الحارث العكلي و الشعبي و النخعي و الزهري و ابو حنيفة : عليه الضمان قال ابو حنيفة : عليه كمال الدية في ماله وقال غيره : هي على عاقلته لأنه فوت نفسه ولا يستحق إلا طرفه فلزمته ديته كما لو ضرب عنقه ولأنها سراية قطع مضمونة فكانت مضمونة كسراية الجناية والدليل على أنه مضمون بالقطع الأول لأنه في مقابلته
ولنا أن عمر وعليا رضي الله عنهما قالا : من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله رواه سعيد بمعناه ولأنه قطع مستحق مقدر فلا تضمن سرايته كقطع السارق وفارق ما قاسوا عليه فإنه ليس ما فعله مستحقا إذا ثبت هذا فلا فرق بين سرايته إلى النفس بأن يموت منها أو إلى ما دونها مثل أن يقطع أصبعا فتسري إلى كفه (9/444)
فصل سراية الجناية مضمونة
فصل : وسراية الجناية مضمونة بلا خلاف لأنها أثر الجناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها ثم إن سرت إلى النفس وما لا يمكن مباشرته بالإتلاف مثل أن يهشمه في رأسه فيذهب ضوء عينيه وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك في النفس وفي ضوء العين خلاف قد ذكرناه فيما تقدم وإن سرت إلى ما يمكن مباشرته بالإتلاف مثل أن قطع أصبعا فتآكلت أخرى وسقطت من مفصل ففيه القصاص أيضا في قول إمامنا و أبي حنيفة و محمد بن الحسن وقال أكثر الفقهاء : لا قصاص في الثانية وتجب ديتها لأن ما أمكن مباشرته بالجناية لا يجب القود فيه بالسراية كما لو رمى سهما فمرق منه إلى آخر
ولنا أن ما وجب فيه القود بالجناية وجب بالسراية كالنفس وضوء العين ولأنه أحد نوعي القصاص فأشبه ما ذكرنا وفارق ما ذكروه فإن ذلك فعل وليس بسراية ولأنه لو قصد ضرب رجل فأصاب آخر لم يجب القصاص ولو قصد قطع إبهامه فقطع سبابته وجب القصاص ولو ضرب إبهامه فمرق إل سبابته وجب القصاص فيهما فافترقا ولأن الثانية تلفت بفعل أوجب القصاص فوجب القصاص فيها كما لو رمى إحداهما فمرق إلى الأخرى فأما إن قطع أصبعا فسلت إلى جانبها أخرى وجب القصاص في المقطوعة حسب والأرش في الشلاء وبهذا قال مالك و الشافعي وقال أبو حنيفة : لاقصاص فيهما ويجب أرشهما جيمعا لأن حكم السراية لا ينفرد عن الجناية بدليل ما لو سرت إلى النفس فإذا لم يجب القصاص في إحداهما لم يجب في الأخرى
ولنا أنها جناية موجبة للقصاص لو لم تسر فأوجبته إذا سرت كالتي تسري إلى سقوط أخرى وكما لو قطع يد حبلى فسرى إلى جنينها وبهذا يبطل ما ذكره وفارق الأصل لأن السراية مقتضية للقصاص كاقتضاء الفعل له فاستوفى حكمهما وههنا بخلافه ولأن ما ذكره غير صحيح فإن القطع إذا سرى إلى النفس سقط القصاص في القطع ووجب في النفس فخالف حكم الجناية حكم السراية فسقط ما قاله إذا ثبت هذا فإن الأرش يجب في ماله ولا تحمله العاقلة لأنه جناية عمد وإنما لم يجب القصاص فيه لعدم المماثلة في القطع والشلل فإذا قطع أصبعه فشلت أصابعه الباقية وكفه فعفا عن القصاص وجب له نصف الدية وإن اقتص من الأصبع فله في الأصابع الباقية أربعون من الإبل ويتبعها ما حاذاها من الكف وهو أربعة أخماسه فيدخل أرشه فيها ويبقى خمس الكف فيه وجهان : أحدهما : يتبعها في الأرش ولا شيء فيه والثاني : فيه الحكومة لأن ما يقابل الأربع تبعها في الأرش لاستوائهما في الحكم وحكم التي اقتص منها مخالف لحكم فلم يتبعها (9/445)
فصل لا يجوز القصاص الا بعد اندمال الجرح
فصل : ولا يجوز القصاص في الطرف إلا بعد اندمال الجرح في قول اكثر أهل العلم منهم النخعي و الثوري و ابو حنيفة و مالك و إسحاق و أبو ثور وروي ذلك عن عطاء و الحسن قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى الانتظار بالجرح حتى يبرأ ويتخرج لنا أنه يجوز الاقتصاص قبل البرء بناء على قولنا إنه إذا سرى إلى النفس يفعل كما فعل وهذا قول الشافعي قال : ولو سأل القود ساعة قطعت أصبعه أقدته لما [ روى جابر أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فقال يا رسول الله أقدني قال : حتى تبرأ فأبى وعجل فاستقاد له رسول الله صلى الله عليه و سلم فعييت رجل المستقيد وبرأت رجل المستفاد منه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : ليس لك شيء عجلت ] رواه سعيد مرسلا ولأن القصاص من الطرف لا يسقط بالسراية فوجب أن يملكه في الحال كما لو برأ
ولنا ما [ روى جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يستفاد من الجروح حتى يبرأ المجروح ] [ ورواه الدار قطني عن عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم ولأن الجرح لا يدري أقتل هو أم ليس بقتل ؟ فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه ؟ فأما حديثهم فقد رواه الدار قطني وفي سياقه : فقال يا رسول الله عرجت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك ثم نهى أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه وهذه زيادة يجب قبولها وهي متأخرة عن الاقتصاص فتكون ناسخة له وفي نفس الحديث ما يدل على أن استقادته قبل البرء معصية لقوله : قد نهيتك فعصيتني ] وما ذكروه ممنوع وهو مبني على الخلاف (9/446)
فصول سراية الجرح بعد القصاص
فصل : فإن اقتص قبل الاندمال هدرت سراية الجناية وقال ابو حنيفة و الشافعي : بل هي مضمونة لأنها سراية جناية فكانت مضمونة كما لو لم يقتص
ولنا الخبر المذكورة ولأنه استعجل ما لم يكن له استعجاله فبطل حقه كقاتل موروثه وبهذا فارق من لم يقتص فعلى هذا لو سرى القطعان جميعا فمات الجاني والمستوفي فهما هدر وقال أبو حنيفة : يجب ضمان كل واحد منهما لأن سراية كل واحد منهما مضمونة ثم يتقاصان فيسقطان وقال الشافعي : إن مات المجني عليه أولا ثم مات الجاني كان قصاصا لأنه مات من سراية القطع فقد مات بفعل المجني عليه وإن مات الجاني فكذلك في أحد الوجهين وفي الآخر يكون موت الجاني هدرا ولولي المجني عليه نصف الدية فأما إن سرى أحد القطعين دون صاحبه فعندنا هو هدر لا ضمان فيه وعند أبي حنيفة يجب ضمان سرايته وعند الشافعي إن سرت الجناية فهي مضمونة وإن سرى الاستيفاء لم يجب ضمانه ومبنى ذلك على ما تقدم من الخلاف
فصل : وإن اندمل جرح الجناية فاقتص منه ثم انتقص فسرى فسرايته مضمونة وسراية الاستيفاء غير مضمونة لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص فعلى هذا لو قطع يد رجل فبرأ فاقتص ثم انتقض جرح المجني عليه فمات فلوليه قتل الجاني لأنه مات من جنايته وإن عفا إلى الدية فلا شيء له لأنه استوفى بالقطع ما قيمته دية وهو يداه وإن سرى الاستيفاء لم يجب أيضا شيء لأن القصاص قد سقط بموته والدية لا يمكن إيجابها لما ذكرنا وإن كان المقطوع بالجناية يدا فوليه بالخيار بين القصاص في النفس وبين العفو إلى نصف الدية ومتى سقط القصاص بموت الجاني أو غيره وجب نصف الدية في تركه الجاني أو ماله إن كان حيا
فصل : ولو قطع كتابي يد مسلم فبرأ أو اقتص ثم اقتص جرح المسلم فمات فلوليه قتل الكتابي والعفو إلى أرش الجرح وفي قدره وجهان :
أحدهما : نصف الدية لأنه قد استوفى بدل يده بالقصاص وبدلها نصف ديته فبقي له نصفها كما لو كان القاطع مسلما
والثاني : له ثلاثة أرباعها لأن يد اليهودي تعدل نصف ديته وذلك ربع دية المسلم فقد استوفى ربع ديته وبقي له ثلاثة أرباعها وإن كان قطع يدي المسلم فاقتص منه ثم مات المسلم فعفا وليه إلى مال انبنى على الوجهين إن قلنا تعتبر قيمة اليهودي فله ههنا نصف الدية وإن قلنا الاعتبار بقيمة يد المسلم فلا شيء له ههنا لأنه قد استوفى بدل يديه وهما جميع ديته ولو كان القطع في يديه ورجليه فعفا إلى الدية لم يكن له شيء وجها واحدا لأن دية ذلك دية مسلم ولو كان الجاني امرأة على رجل فالحكم على ما ذكرنا سواء لأن ديتها نصف دية الرجل
فصل : إذا قطع يد رجل من الكوع ثم قطعها آخر من المرفق فمات بسرايتهما فلوليه قتل القاطعين وليس له أن يقطع طرفيهما في أحد الوجهين وفي الاخر له قطع يد القاطع من الكوع فإن قطعها ثم عفا عنه فله نصف الدية وأما الآخر فإن كانت يده مقطوعة من الكوع فقطعها من المرفق ثم عفا فله دية الا قدر الحكومة في الذارع ولو كانت يد القاطع من المرفق صحيحة لم يجز قطعها رواية واحدة لأنه ياخذ صحيحة بمقطوعة وإن قطع أيديهما وهما صحيحتان أو قطع رجلان يديه فقطع يديهما ثم سرت الجناية فمات من قطعهما فليس لوليه العفو على الدية لأنه قد استوفى ما قيمته دية وإن اختار قتلهما فله ذلك (9/447)
فصول أحكام الاقتصاص من الحامل
فصل : ولا يجوز أن يقتص من حامل قبل وضعها سواء كانت حاملا وقت الجناية أو حملت بعدها قبل الاستيفاء وسواء كان القصاص في النفس أو في الطرف : أما في النفس فلقول الله تعالى : { فلا يسرف في القتل } وقتل الحامل قتل لغير القاتل فيكون إسرافا
وروى ابن ماجة بإسناده عن عبد الرحمن بن غنم قال : [ حدثنا معاذ بن جبل و أبو عبيدة بن الجراح وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حالا وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها ] وهذا نص [ ولأن النبي صلى الله عليه و سلم قال للغامدية المقرة بالزنا : ارجعي حتى تضعي ما في بطنك ـ ثم قال لها ـ ارجعي حتى ترضعيه ] ولأن هذا إجماع من أهل العلم لا نعلم بينهم فيه اختلافا
وأما القصاص في الطرف فلأننا منعنا الاستيفاء فيه خشية السراية إلى الجاني أو إلى زيادة في حقه فلأن نمنع منه خشية السراية إلى غير الجاني وتفويت نفس معصومة أولى وأحرى ولأن في القصاص منها قتلا لغير الجاني وهو حرام وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبأ لأن الولد لا يعيش إلا به في الغالب ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى يجيء أوان فطامه لما ذكرنا من الخبرين ولأنه لما أخر الاستيفاء لحفظه وهو حمل فلأن يؤخر لحفظه بعد وضعه أولى إلا أن يكون القصاص فيما دون النفس ويكون الغالب بقاؤها وعدم ضرره بالاستيفاء منها فيستوفى وإن وجد له مرضعة راتبة جاز قتلها لأنه يستغني بلبنها وإن كانت مترددة أو جماعة يتناوبنه أو أمكن أن يسقى من لبن شاة أو نحوها جاز قتلها ويستحب للولي تأخيرها لما على الولد من الضرر لاختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة
فصل : وإذا ادعت الحمل ففيه وجهان : أحدهما : تحبس حتى يتبين حملها لأن للحمل أمارات خفية تعلمها من نفسها ولا يعلمها غيرها فوجب أن يحتاط للحمل حتى يتبين انتفاء ما ادعته ولأنه أمر يختصها فقبل قولها فيه كالحيض والثاني : ذكره القاضي أنها ترى أهل الخبرة فإن شهدن بحملهن أخرت وإن شهدن ببراءتها لن تؤخر لأن الحق حال عليها فلا يؤخر بمجرد دعواها
فصل : وإن اقتص من حامل فقد أخطأ وأخطأ السلطان الذي مكنه من الاستيفاء وعليهما الإثم إن كانا عالمين أو كان منهما تفريط وإن علم أحدهما أو فرط فالإثم عليه ثم ننظر فإن لم تلق الولد فلا ضمان فيه لأنا لم نتحقق وجوده وحياته وإن انفصل ميتا أو حيا لوقت لا يعيش في مثله ففيه غرة وإن انفصل حيا لوقت يعيش مثله ثم مات من الجناية وجبت فيه دية وعلى من يجب ضمانه ؟ ننظر فإن كان الإمام والولي عالمين بالحمل وتحريم الاستيفاء أو جاهلين بالأمرين أو بأحدهما أو كان الولي عالما بذلك دون الممكن له من الاستيفاء فالضمان عليه وحده لأنه مباشر والحاكم الممكن له صاحب سبب ومتى اجتمع المباشر مع المتسبب كان الضمان على المباشر دون المتسبب كالحافز مع الدافع وإن علم الحاكم دون الولي فالضمان على الحاكم وحده لأن المباشر معذور فكان الضمان على المتسبب كالسيد إذا أمر عبده بالقتل والعبد أعجمي لا يعرف تحريم القتل وكشهود القصاص إذا رجعوا عن الشهادة بعد الاستيفاء وقال القاضي : إن كان أحدهما عالما وحده فالضمان عليه وحده وإن كانا عالمين فالضمان على الحاكم لأنه الذي يعرف الأحكام والولي إنما يرجع إلى حكمه واجتهاده وإن كانا جاهلين ففيه وجهان : أحدهما : الضمان على الإمام كما لو كانا عالمين والثاني : على الولي وهذا مذهب الشافعي
وقال أبو الخطاب : الضمان على الحاكم ولم يفرق وقال المزني : الضمان على الولي في كل حال لأنه المباشر والسبب غير ملجىء فكان الضمان عليه كالحافر مع الدافع وكا لو أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل وقد ذكرنا ما يقتضي التفريق والله أعلم (9/450)
مسألة وفصول أخذ العضو الصحيح بالأشل والشلاء بالشلاء والناقصة بالناقصة وذات الأصبع الزائد
مسألة : قال : وإذا كان القاطع سالم الطرف والمقطوعة شلاء فلا قود
لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بوجوب ثطع يد أو رجل أو لسان صحيح بأشل إلا ما حكي عن داود أنه أوجب ذلك لأن كل واحد منهما مسمى باسم صاحبه فيؤخذ به كالأذنين
ولنا أن الشلاء لا نفع فيها سوى الجمال فلا يؤخذ بها فيه نفع كالصحيحة لا تؤخذ بالقائمة وما ذكر له قياس وهو لا يقول بالقياس وإذا لم نوجب القصاص في العينين مع قول الله تعالى : { العين بالعين } لأجل تفاوتهما في الصحة والعمى فلأن لا يجب ذلك فيما لا نص فيه أولى
فصل : وإن قطع أذنا شلاء أو أنفا أشل فهل يؤخذ به الصحيح ؟ فيه وجهان : أحدهما : لا يؤخذ به كسائر الأعضاء والثاني : يؤخذ به لأن نفعه لا يذبه بشلله فإن نفع الأذن جمع الصوت ورد الهوام وستر موضع السمع ونفع الأنف جمع الريح ورد الهواء أو الهوام فقد ساوى الصحيح في الجمال والنفع فوجب أخذ كل واحد منهما بالآخر كالصحيح بالصحيح بخلاف اليد والرجل ولـ لشافعي قولان كالوجهين
فصل : ولا تؤخذ يد كامل الأصابع بناقصة الأصابع فلو قطع من له خمس أصابع يد وله أربع أو ثلاث أو قطع من له أربع أصابع يد من له ثلاث لم يجب القصاص لأنها فوق حقه وهل له أن يقطع من أصابع الجاني بعدد أصابعه ؟ فيه وجهان ذكرناهما فيما إذا قطع من نصف الكف وإن قطع ذو اليد الكاملة يدا فيها أصبع شلاء وباقيها صحاح لم يجز أخذ الصحيحة بها لأنه أخذ كامل بناقص وفي الاقتصاص من الأصابع الصحاح وجهان فإن قلنا له أن يقتص فله الحكومة في الشلاء وأرش ما تحتها من الكف وهل يدخل ما تحت الأصابع الصحاح في قصاصها أو تجب فيه حكومة ؟ على وجهين
فصل : وإن قطع اليد الكاملة ذو يد فيها أصبع زائدة وجب القصاص فيها ذكره أبو عبد الله بن حامد لأن الزائدة عيب ونقص في المعنى يرد بها المبيع فلم يمنع وجودها القصاص منها كالسلعة فيها والخراج واختار القاضي أنها لا تقطع بها وهو مذهب الشافعي لأنها زيادة فعلى هذا إن كان للمجني عليه أيضا أصبع زائدة في محل الزائدة من الجاني وجب القصاص لاستوائهما وإن كانت في غير محلها أو لم يكن للمجني عليه أصبع زائدة لم تؤخذ يد الجاني وهل يملك قطع الأصابع ؟ ننظر فإن كانت الزائدة ملصقة بأحد الأصابع فليس له قطع تلك الأصبع لأن في قطعها إضرارا بالزائدة وهل له قطع الأصابع الأربع على وجهين وإن لم تكن ملصقة بواحدة منهن فعل له قطع الخمس ؟ على وجهين وإن كانت الزائدة نابته في أصبع في أنملتها العليا لم يجز قطعها وإن كانت نابته في السفلى أو الوسطى فله قطع ما فوقها من الأنامل في أحد الوجهين ويأخذ أرش الأنملة التي تعذر قطعها في أحد الوجهين ويتبع ذلك خمس الكف
فصل : وإن قطع ذو يد لها أظفار يد من لا أظفار له لم يجز القصاص لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة وإن كانت المقطوعة ذات أظفار إلا أنها خضراء أو مستحشفة أخذنا بها السليمة لأن ذلك علة ومرص والمرض لا يمنع القصاص بدليل أنا نأخذ الصحيح بالسقيم
مسألة : قال : وإن كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فشاء المظلوم أخذها فذلك له ولا شيء له غيرها وإن شاء عفا وأخذ دية يده
أما إذا اختار الدية فله دية يده لا نعلم فيه خلافا لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد وهذا قول ابي حنيفة و مالك و الشافعي وإن اختار القصاص سئل أهل الخبرة فإن قالوا إنه إذا قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن فأفسده سقط القصاص لأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف وإن أمن هذا فله القصاص لأنه رضي بدون حقه فكان له ذلك كما لو رضي المسلم بالقصاص من الذمي والرجل من المرأة والحر من العبد وليس له مع القصاص أرش لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت في الصفة فلم يكن له أرش كالصورة التي ذكرناها وقال أبو الخطاب : عندي له أرش مع القصاص على قياس قوله في عين الأعور والأول أصح فإن إلحاق هذا الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من إلحاقه بفرع مختلف فيه خارج عن الأصول مخالف للقياس
فصل : وتؤخذ الشلاء بالشلاء إذا أمن في الاستيفاء الزيادة وقال أصحاب الشافعي : لا تؤخذ بها في أحد الوجهين لأن الشلاء عليلة والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما
ولنا أنهما متماثلان في ذات العضو وصفته فجاز أخذ إحداهما بالأخرى كالصحيحة بالصحيحة
فصل : وتؤخذ الناقصة بالناقصة إذا تساوتا فيه بأن يكون المقطوع من يد الجاني كالمقطوع من يد المجني عليه لأنهما تساوتا في الذات والصفة فأما إن اختلفا فكان المقطوع من يد أحدهما الإبهام ومن الأخرى أصبع غيرها لم يجز القصاص لأن فيه أخذ أصبع بغيرها وإن كانت يد أحدهما ناقصة أصبعا والأخرى ناقصة تلك الأصبع وأخرى جاز أخذ الناقصة أصبعين بالناقصة أصبعا وهل له أرش أصبعه الزائدة ؟ فيه وجهان ولا يجوز أخذ الأخرى بها لأن الكاملة لا تؤخذ بالناقصة
فصل : ويجوز أخذ الناقصة بالكاملة لأنها دون حقه وهل له أخذ دية الأصابع الناقصة ؟ على وجهين : أحدهما : له ذلك وهو قول الشافعي واختيار ابن حامد
والثاني : ليس له مع القصاص أرش وهو مذهب أبي حنيفة وقياس قول أبي بكر لئلا يفضي إلى الجمع بين قصاص ودية في عضو واحد وقال القاضي : قياس قوله سقوط القصاص كقوله فيمن قطعت يده من نصف الذراع وليس كذلك لأنه يقتص من موضع الجناية ويضع الحديدة في موضع وضعها الجاني فملك ذلك كما لو جنى عليه فوق الموضحة أو كان رأس الشاج أصغر أو أخذ الشلاء بالصحيحة ويفارق القاطع من نصف الذارع لأنه لا يمكنه القصاص من موضع الجناية هكذا حكاه الشريف عن أبي بكر
فصل : وإن كانت يد القاطع والمجني عليه كاملتين وفي يد المجني عليه أصبع زائدة فعلى قول ابن حامد : لا عبرة بالزائدة لأنها بمنزلة الخراج والسلعة وعلى قول غيره : له قطع يد الجاني وهل له حكومة في الزائدة ؟ على وجهين وإن قطع من له خمس أصابع أصلية كف من له أربع أصابع أصلية وأصبع زائدة أو قطع من له أربع أصابع وأصبع زائدة وكف من له خمس أصابع أصلية فلا قصاص في الصورة الأولى لأن الأصلية لا تؤخذ بالزائدة وله القصاص في الصورة الثانية في قول ابن حامد لأن الزائدة لا عبرة بها وقال غيره : إن لم تكن الزائدة في محل الأصلية فلا قصاص أيضا لأن الأصبعين مختلفتان وإن كانت في محل الأصلية فقال القاضي يجري القصاص وهو مذهب الشافعي ولا شيء له لنقص الزائدة وهذا فيه نظر فإنها متى كانت في محل الأصلية كانت أصلية لأن الزائدة هي التي زادت عن عدد الأصابع أو كانت في غير محل الأصابع وهذا له خمس أصابع في محلها فكانت كلها أصلية فإن قالوا معنى كونها زائدة أنها ضعيفة مائلة عن سمت الأصابع قلنا : ضعفها لا يوجب كونها زائدة كذكر العنين وأما ميلها عن الأصابع فإنها إن لم تكن نابته في محل الأصبع المعدومة فسد قولهم إنها في محلها وإن كانت نابته في موضعها وإنما مال رأسها واعوجت فهذا مرض لا يخرجها عن كونها أصلية (9/452)
فصلان حصول الأكلة في اليد بسبب قطع الأصبع
فصل : وإذا قطع أصبعه فأصابه من جرحها أكلة في يده وسقطت من مفصل ففيها القصاص وإن بادرها صاحبها فقطعها من الكوع لئلا تسري إلى سائر جسده ثم اندمل جرحه فعلى الجاني القصاص في الأصبع والحكومة فيما تأكل من الكف ولا شيء عليه فيما قطعه المجني عليه لأنه تلف بفعله وإن لم يندمل قصد به ومات من ذلك فالجاني شريك نفسه فيحتمل وجوب القصاص عليه ويحتمل أن لا يجب بحال لأن فعل المجني إنما قصد به المصلحة فهو عمد الخطأ وشريك الخاطىء لا قصاص عليه ويكون عليه نصف الدية وإن قطع المجني عليه موضع الأكلة نظرت فإن قطع لحما ميتا ثم سرت الجناية فالقصاص على الجاني لأنه سراية جرحه خاصة وإن كان في لحم حي فمات فالحكم فيه كما لو قطعها خوفا من سرايتها
فصل : وإذا قطع أنملة لعا طرفان إحداهما زائدة والأخرى أصلية فإن كانت أنملة القاطع ذات طرفين أيضا أخذت بها وإن لم تكن ذات طرفين قطعت وعليه حكومة في الزائدة وإن كانت المقطوعة ذات طرف واحد وأنملة القاطع ذات طرفين أخذت بها في قول ابن حامد وعلى قول غيره : لا قصاص فيها وله دية أنملته وإن ذهب الطرف الزائد فله الاستيفاء وإن قال أنا أصبر حق يذهب الزائد ثم أقتص فله ذلك لأن القصاص حقه فلا يجبر على تعجيل استيفائه (9/457)
فصلان قصاص قطع الأنامل
فصل : ولو قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملة آخر الوسطى ثم قطع السفلى من ثالث فللأول القصاص من العليا ثم للثاني أن يقتص من الوسطى ثم للثالث أن يقتص من السفلى سواء جاؤوا دفعة واحدة أو واحدا بعد واحد وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا قصاص إلا في العليا لأنه لم يجب في غيرها حال الجناية لتعذر استيفائه فلم يجب بعد ذلك كما لو كان غير مكافىء حال الجناية ثم صار مكافئا بعده
ولنا أن تعذر القصاص لإيصال محله بغيره لا يمنعه إذا زال الاتصال كما لو جنت الحامل ويفارق عدم التكافؤ لأنه تعذر لمعنى فيه وههنا تعذر لاتصال غيره به فأما إن جاء صاحب الوسطى أو السفلى يطلب القصاص قبل صاحب العليا لم يعطه لأن في استيفائه إتلاف أنملة لا يستحقها وقيل لهما إما أن تصبرا حتى تعلما ما يكون من الأول فإن اقتص فلكما القصاص وإن عفا فلا قصاص لكما وإما أن ترضيا بالعقل فإذا جاء صاحب العليا فاقتص فللثاني الاقتصاص وحكم الثالث مع الثاني كحكم الثاني مع الأول وإن عفا فلهما العقل فإن قالا : نحن نصبر وننظر بالقصاص أن تسقط العليا بمرض أو نحوه ثم نقتص لم يمنعا من ذلك وإن قطع صاحب الوسطى الوسطى والعليا فعليه دية العليا تدفع إلى صاحب العليا وإن قطع الأصبع كلها فعليه قصاصها في الأنملة الثالثة وعليه أرش العليا للأول وأرش السفلى على الجاني لصاحبها وإن عفا الجاني عن قصاصها وجب أرشها يدفعه إليه ليدفعه إلى المجني عليه
فصل : وإن قطع أنملة رجل العليا ثم قطع أنملتي آخر العليا والوسطى من تلك الأصبع فللأول قطع العليا لأن حقه أسبق ثم يقطع الثاني الوسطى ويأخذ أرش العليا منه فإن بادر الثاني فقطع الأنملتين فقد استوفى حقه وتعذر استيفاء القصاص للأول وله الأرش على الجاني وإن كان قطع الأنملتين أولا قدمنا صاحبهما في القصاص للأول وله الأرش على الجاني وإن بادر صاحبها فقطعها فقد استوفى حقه وتقطع الوسطى للأول ويأخذ الأرش للعليا ولو قطع أنملة رجل العليا ولم يكن للقاطع عليا فاستوفى الجاني من الوسطى فإن عفا إلى الدية تقاصا وتساقطا لأن ديتهما واحدة وإن اختار الجاني القصاص فله ذلك ويدفع أرش العليا ويجيء على قول أبي بكر أن لا يجب القصاص لأن ديتهما واحدة واسم الأنملة يشملها فتساقطا كقوله في إحدى اليدين بدلا عن الأخرى (9/458)
مسألة وفصول حكم ما لو قتل وله وليان بالغ وطفل وحكم الوارث الصغير
مسألة : قال : وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل أو غائب لم يقتل حتى يقدم الغائب ويبلغ الطفل
وجملته أن ورثة القتيل إذا كان أكثر من واحد لم يجز لبعضهم استيفاء القود إلا بإذن الباقين فإن كان بعضهم غائبا انتظر قدومه ولم يجز للحاضر الاستقلال بالاستيفاء بغير خلاف علمناه وإن كان بعضهم صغيرا أو مجنونا فظاهر مذهب أحمد رحمه الله أنه ليس لغيرهما الاستيفاء حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون وبهذا قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الشافعي و أبو يوسف و إسحاق ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وعن أحمد رواية أخرى : للكبار العقلاء استيفاؤه وبه قال حماد و مالك و الأوزاعي و الليث و أبو حنيفة لأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصا وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك ولأن ولاية القصاص هي استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية
ولنا أنه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالا كما لو كان بين حاضر وغائب أو أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقا أربعة أمور أحدها : أنه لو كان منفردا لاستحقه ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفردا كولاية النكاح والثاني : أنه لو بلغ لاستحق ولو لم يكن مستحقا عند الموت لم يكن مستحقا بعده كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه والثالث : أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق ورثته ولو لم يكن حقا لم يرثه كسائر ما لم يستحقه فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره لأنه قتل عليا مستحلا لدمه معتقدا كفره متقربا بذلك إلى الله تعالى وقيل : قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح فيكون كقاطع الطريق إذا تقل وقتله متحتم وهو إلى الإمام و الحسن هو الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم وإن قدر أنه قتله قصاصا فقد اتفقنا على خلافه فكيف يحتج به بعضنا على بعض
فصل : وإن كان الوارث واحدا صغيرا كصبي قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص له وليس لأبيه ولا غيره استيفاؤه وبهذا قال الشافعي وقال أبوحنيفة و مالك : له استيفاؤه وكذلك الحكم في الوصي والحاكم في الطرف دون النفس وذكر أبو الخطاب في موضع في الأب روايتين وفي موضع وجهين أحدهما : كقولنا لأن القصاص أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية
ولنا أنه لا يملك إيقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص له كالوصي ولأن القصد التشفي ودرك الغيظ ولا يحصل ذلك باستيفاء الولي ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب له فافترقا ولأن الدية إنما يملك استيفاءها إذا تعينت والقصاص لا يتعين فإنه يجوز العفو إلى الدية والصلح على مال أكثر منها وأقل والدية بخلاف ذلك
فصل : وكل موضع وجب تأخير الاستيفاء فإن القاتل يحبس حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ويقدم الغائب وقد حبس معاوية هدية بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل في عصر الصحابة فلم ينكر ذلك وبذل الحسن والحسين وسعيد بن العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها فإن قيل : فلم لا يخلى سبيله كالمعسر بالدين ؟ قلنا :
لأن في تخليته تضييعا للحق فإنه لا يؤمن هربه والفرق بينه وبين المعسر من وجوه أحدها أن قضاء الدين لا يجب مع الإعسار فلا يحبس بما لا يجب والقصاص ههنا واجب وإنما تعذر المستوفى الثاني : أن المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين فلا يفيد بل يضر من الجانبين وههنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس الثالث : أنه قد استحق قتله وفيه تفويت نفسه ونفعه فإذا تعذر تفويت نفسه جاز تفويت نفعه لإمكانه فإن قيل فلم يحبس من أجل الغائب وليس للحاكم عليه ولاية إذا كان مكلفا رشيدا ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوبا لم يملك انتزاعه ؟ قلنا لأن في القصاص حقا للميت وللحاكم عليه ولاية ولهذا ينفذ وصاياه من الدية ويقضي ديونه منها فنظيره أن يجد الحاكم من تركة الميت في يد إنسان شيئا غصبا والوارث غائب فإنه يأخذه ولو كان القصاص لحي في طرفه لم يتعرض لمن هو عليه فإن أقام القاتل كفيلا بنفسه ليخلي سبيله له لم يجز لأن الكفالة لا تصح في القصاص فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر إحضار المكفول به ولا يمكن استيفاؤه من غير القاتل فلم تصح الكفالة به كالحد ولأن فيه تغريرا بحق المولى عليه فإنه ربما خلي سبيله فهرب فضاع الحق (9/459)