ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه ويرفع يديه مع كل تكبيرة.
--------------------------------
كان يكبر أربعا ثم يقف ما شاء الله فكنت أحسب هذه الوقفة ليكبر آخر الصفوف ظاهره أنه لا يشرع بعدها دعاء نص عليه واختاره الخرقي وابن عقيل وغيرهم ولم يذكر بعضهم الوقوف ونقل جماعة يدعوا فيها كالثالثة اختاره أبو بكر والآجري والمجد في شرح الهداية لأن ابن أبي أوفى فعله وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله قال أحمد هو أصلح ماروي وقال لا أعلم شيئا يخالفه ولأنه قيام في جنازة أشبه الذي قبله فيقول {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: من الآية201] واختاره جمع وحكاه ابن الزاغواني عن الأكثر وصح أن أنسا كان لا يدعوا بدعاء إلا ختمه بهذا واختار أبو بكر اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله لأنه لائق بالمحل وفي الوسيلة رواية أيهما شاء وقد نص في رواية جماعة أنه يدعوا للميت بعد الرابعة وللمسلمين بعد الثالثة وهي اختيار الخلال وظاهره أنه لا يتشهد ولا يسبح مطلقا نص عليه واختار حرب يقول السلام عليك أيها النبي إلى قوله وأن محمدا عبده ورسوله وهو قول عطاء.
"ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه" نص عليه وقال عن ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم "وتحليلها التسليم" روى عطاء بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم على الجنازة تسليمة رواه الجوزجاني وقال ابن المبارك من سلم عليها تسليمتين فهو جاهل ولأن التسليمة عن يمينه أكثر ما روى فيه وهو أشبه وإن سلم تلقاء وجهه جاز نص عليه وتجوز ثانية واستحبها القاضي وذكره الحلواني رواية وقد روى الحاكم عن ابن أبي أوفى تسليمتين وظاهر كلامهم يجهر بها الإمام وقيل ويتابع إماما في الثانية كالقنوات
"ويرفع يديه مع كل تكبيرة" روي عن ابن عمر رواه الشافعي وعن ابن عباس رواه سعيد وعمر عن زيد بن ثابت رواه الأثرم ولأنه لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود فسن فيها الرفع لتكبيرة الإحرام وحكى في الشرح(2/230)
والواجب من ذلك القيام والتكبيرات والفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأدنى دعاء للميت والسلام.
-------------------------------
الإجماع على أنه يرفع في الأولى وصفة الرفع وانتهاؤه كما سبق.
"والواجب من ذلك القيام والتكبيرات" الأربع لما روى ابن عباس وأبو هريرة وجابر أنه عليه السلام كبر أربعا متفق عليه فلو نقص تكبيرة عمدا بطلت وسهوا يكره ما لم يطل الفصل: وقيل يعيدها لفعل أنس المنصوص أنه لا يستأنفها إلا إذا أطال أو وجد مناف من كلام أو نحوه "والفاتحة" ولم يوجب الشيخ تقي الدين قراءة بل استحبها وهو ظاهر نقل أبي طالب "والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" لقوله "لا صلاة لمن لا يصلي على نبيه" وقال ابن تميم وإن قلنا لا تجب في الصلاة لم تجب هنا "وأدنى دعاء للميت" لأنه هو المقصود فلا يجوز الإخلال به "والسلام" لأنه عليه السلام كان يسلم على الجنائز وقال "صلوا كما رأيتموني أصلي" والمراد به واحدة وعنه ثنتان وظاهر ما ذكره في المستوعب والكافي وهنا أنه يتعين القراءة في الأولى والصلاة في الثانية والدعاء في الثالثة وقدم في الفروع خلافه.
ويشترط لها النية فينوي الصلاة على الميت ولا يضر جهله بالذكر وغيره فإن جهله نوى من يصلي عليه الإمام وإن نوى أحد الموتى اعتبر تعيينه فإن نوى على رجل فبان امرأة أو عكسه فقال أبو المعالي يجزئه لقوة التعيين على الصفة.
والقيام في فرضها لأنها فرض كفاية فيجب فيها القيام كالمكتوبة فلا تصح من قاعد ولا على راحلة بلا عذر وظاهره ولو تكررت إن قيل الثانية فرض والمؤلف ترك ذكرهما لظهورهما وإسلام الميت والطهارة من حدث ونجس والاستقبال والسترة كمكتوبة فإن تعذر تطهير الميت صلي عليه وحضور الميت بين يدي المصلي ولا تصح على جنازة محمولة ذكره جماعة في المسبوق لأنها كإمام ولهذا لا صلاة بدون الميت وقال المجد وغيره قربها من الإمام مفصولة كقرب المأموم من الإمام لأنه يسن الدنو(2/231)
وإن كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره وعنه لا يتابع في زيادة على أربع وعنه يتابع إلى سبع.
----------------------------------------
منها ولو صلى وهي من وراء جدار لم يصح.
"وإن كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره" نقله الأثرم واختاره الخرقي وقدمه في التلخيص وذكر في الشرح أنه ظاهر المذهب لما روى مسلم عن زيد بن أرقم أنه كبر على الجنازة خمسا وقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبرها وعن حذيفة نحوه رواه أحمد.
"وعنه لا يتابع في زيادة على أربع" نقلها حرب واختارها ابن عقيل وجزم به في الوجيز وهو المذهب قاله أبو المعالي لأنه زاد على القدر المشروع فلم يتبعه كالقنوت في الأولى وكما لو زاد على عدد الركعات وكما لو علم أو ظن بدعة وأجاب الثوري عما سبق بالنسخ بالإجماع وفيه نظر.
"وعنه يتابع إلى سبع" نقله الجماعة واختارها أكثر الأصحاب وقدمها في المحرر والفروع لأنه عليه السلام كبر على حمزة سبعا رواه ابن شاهين وعن الحكم بن عتيبة قال كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا وستا وسبعا رواه سعيد ولأن المأموم يتابع إمامه في تكيبرات العيد فكذا هنا وظاهره أنه لا يتابعه فيما زاد عليها قال أحمد هو أكثر ما جاء فيه ولا تبطل مجاوزة سبع نص عليه وينبغي أن يسبح بعدها لا قبلها قاله أحمد وذكر ابن حامد وجها تبطل مجاوزة أربع عمدا وبكل تكبيرة لا يتابع فيها وفي الخلاف قول أحمد في رسالة مسدد خالفني الشافعي في هذا فقال إذا زاد على أربع تعاد الصلاة واحتج بحديث النجاشي قال أحمد والحجة له ويمكن الجمع بينهما فإن المداومة على أربع تدل على الفضيلة وغيرها يدل على الجواز فتعين المتابعة وإذا لم يتابع في الزيادة فلا يجوز للمأموم السلام قبله نص عليه لأنها زيادة مختلف فيها وذكر أبو المعالي وجها ينوي مفارقته ويسلم كما لو قام إلى خامسة وعجب أحمد من ذلك مع ما ورد قال ابن مسعود كبر ما(2/232)
وإن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته وقال الخرقي يكفيه متتابعا فإن سلم ولم يقضه فعلى روايتين.
------------------------------------------
كبر إمامك.
تنبيه: المنفرد كإمام في زيادة ولو كبر فجيء بثانية أو أكثر وكبر الإمام ونواهما جاز نص عليه إذا بقي من تكبيره أربع فيقرأ في الخامسة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في السادسة ويدعو في السابعة ولو جيء بخامسة لم يكبر عليها الخامسة لئلا يفضي إلى زيادة التكبير على سبع أو نقصان الخامسة من أربع وكلاهما ممنوع فإن أراد أهل الجنازة الأولى رفعها قبل سلام الإمام لم يجز لأن الصلاة لا تتم إلا به
ويستحب للمسبوق إذا حضر بين تكبيرتين أن يحرم ويدخل معه كالصلاة وعنه وينتظر تكبيره لأن كل تكبيرة كركعة فلا يشتغل بقضائها ورده المؤلف بأن هذا ليس اشتغالا بقضاء ما فاته وإنما يصلي معه ما أدركه وخيره في الفصول كسائر الصلوات وإن أدركه بعد الرابعة فمسألتها إن شرع بعد ذكر كبر وتبعه.
"وإن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته" قدمه جماعة لأن القضاء محل الأداء كسائر الصلوات والمقضي أول صلاته يأتي فيه بحسب ذلك وفيه وجه آخر هنا فيأتي بالقراءة فيما أدركه مع الإمام وهذا ظاهر التلخيص لكن إذا خشي رفعها تابع رفعت أم لا نص عليه.
"وقال الخرقي يقضيه متتابعا" هذا رواية عن أحمد وقدمه في المحرر وحكاه أحمد عن إبراهيم لقول ابن عمر لا يقضي فإن كبر سابعا فلا بأس ولم يعرف له مخالف في الصحابة وقال القاضي وأبو الخطاب وهو الأصح إن رفعت قبل إتمام التكبير قضاه متتابعا لعدم من يدعى له وإن لم يرفع قضاه على صفته
"فإن سلم" مع الإمام "ولم يقضه فعلى روايتين" إحداهما يصح ,(2/233)
ومن فاتته صلاة على الجنازة صلى على القبر إلى شهر.
-----------------------------------
اختارها الأكثر لقوله عليه السلام لعائشة "ما فاتك فلا قضاء عليك" ولأنها تكبيرات حال القيام فلم يجب قضاؤها كتكبيرات العيد والثانية لا تصح اختاره أبو بكر والآجري وابن عقيل وحكاه عن شيخه لقوله "وما فاتكم فاقضوا" .
أصل: إذا صلى لم يصل ثانيا كما لا يستحب له رد السلام ثانيا ذكره جماعة ونص أحمد أنه يكره وقيل يحرم ذكره في المنتخب نصا كالغسل ونحوه وقيل يصلي اختاره في الفنون والشيخ تقي الدين لأنه دعاء واختار ابن حامد والمجد يصلي تبعا وإلا فلا إجماعا كبقية الصلوات ومن لم يصل جاز أن يصلي بل يستحب كصلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم كما لو صلى عليه بلا إذن وال حاضر أو ولي بعده حاضر وإنما تعاد تبعا ومتى رفعت بعد الصلاة لم توضع لأحد ويبادر إلى دفنها وقال القاضي إلا أن يرجى مجيء الولي فيؤخر إلا أن يخاف تغيره.
"ومن فاته الصلاة على الجنازة صلى على القبر إلى شهر" نص عليه واختاره الأكثر لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر وعن سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب فلما قدم صلى عليها وقد مضى لذلك شهر رواه الترمذي ورواته ثقات.
قال أحمد أكثر ما سمعت هذا ولأنه لا يعلم بقاؤه أكثر منه فيقيده به قيل من دفنه جزم به في الوجيز وقيل من موته ويحرم بعده نص عليه قال في الخلاف أجاب أبو بكر فيما سأله أبو إسحاق عن قول الراوي بعد شهر يريد شهرا {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أراد الحين لكن ذكر المؤلف وابن تميم أنه لا يضر زيادة يسيرة لما روى الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا "أنه صلى على قبر بعد شهر" قال القاضي كاليومين وقيل إلى سنة وقيل ما لم يبل فإن شك في بقائه فوجهان وقيل يصلى(2/234)
ويصلى على الغائب بالنية فإن كان في أحد جانبي البلد لم يصل عليه بالنية في أصح الروايتين
------------------------------
عليه أبدا ولو لم يكن من أهل فرضها يوم موته وإنما يجد على قبره عليه السلام لئلا يتخذ مسجدا
ومن شك في المدة صلى حتى يعلم فراغها وحكم الغريق كذلك وأما إذا لم يدفن فإنه يصلى عليه وإن مضى أكثر من شهر وقيده ابن شهاب وقدمه في الرعاية بالشهر.
"ويصلى على الغائب بالنية" كالصلاة على قبر في أصح الروايتين وظاهره لا فرق بين الإمام وغيره ولا من مسافة القصر وغيرها في جهة القبلة أو غيرها.
والثانية: لا يجوز لأن حضور الجنازة شرط كما لو كانا في بلد واحد وقيل إن كان صلي عليه واختاره الشيخ تقي الدين والأول المذهب لأنه عليه السلام صلى على النجاشي فصف وكبر عليه أربعا متفق عليه.
لا يقال: لم يكن بأرض الحبشة من يصلي عليه لأنه ليس من مذهبكم فإنكم تمنعون الصلاة على الغريق والأسير وإن لم يكن صلي عليه مع أنه يبعد ما ذكرتم فإن النجاشي ملك الحبشة وقد أظهر الإسلام فيبعد أنه لم يوافقه أحد يصلي عليه ومدته كمدة صلاة على القبر ويعتبر انفصال مكانه عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر وقال القاضي يكفي خمسون خطوة قال الشيخ تقي الدين وأقرب الحدود ما تجب فيه الجمعة لأنه إذن من أهل الصلاة في البلد فلا يعد غائبا عنها ويعتبر أن يكون غير وقت نهي قاله في الرعاية.
"فإن كان في أحد جانبي البلد لم يصل عليه في أصح الروايتين" هذا المذهب لأنه يمكن حضوره أشبه ما لو كانا في جانب واحد والثانية يجوز اختاره ابن حامد كالعيد وللمشقه.
مسائل:
منها: إذا صلى على غائب ثم حضر به استحب أن يصلي عليه ثانيا جزم به(2/235)
ولا يصلي الإمام على الغال ولا على من قتل نفسه.
------------------------------------
ابن تميم وغيره فيعايا بها.
ومنها: أنه لا يصلى كل يوم على كل غائب لأنه لم ينقل قاله الشيخ تقي الدين.
ومنها: الصلاة على مستحيل بإحراق وأكيل سبع ونحوه وجهان قال في التلخيص الأظهر المنع لاستحالته بخلاف الغريق في اللجة قال في الفصول فأما إن حصل في بطن سبع لم يصل عليه مع مشاهدة السبع.
ومنها: أنه لا يصلى على من في تابوت معغطى وقيل إن أمكن كشفه عادة وقال ابن حامد يصح كالمكبة.
"ولا يصلي الإمام" أي الإمام الأعظم نقله الجماعة واختاره الخلال وجزم به في التبصرة وقيل أو نائبه وإمام قرية وهو واليها في القضاء نقله حرب "على الغال" من الغنيمة نص عليه لأنه عليه السلام امتنع من الصلاة على رجل من المسلمين فقال "صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه القوم فقال "إن صاحبكم غل في سبيل الله" رواه أحمد واحتج به وأبو داود والنسائي بإسناده من حديث زيد بن خالد وهو شامل للقليل والكثير
"ولا على من قتل نفسه" عمدا في الأصح لما روى مسلم عن جابر بن سمرة أن رجلا قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه وفي رواية للنسائي قال النبي صلى الله عليه وسلم "أما أنا فلا أصلي عليه" وهو سهم له نصل عريض ليس بالطويل وقيل يحرم وحكي رواية.
قال ابن عقيل هو في هجر أهل البدع والفساق فيجيء الخلاف فلا يصلي أهل الفضل على الفساق لأن في امتناع الإمام ردعا وزجرا وظاهره أنه يصلي عليها غير الإمام قاله السامري وغيره لقوله عليه السلام "صلوا على من قال لا إله إلا الله" رواه الخلال على كل عاص نص عليه وقال ما نعلم أنه عليه السلام ترك الصلاة على أحد إلا على الغال وقاتل نفسه ويلحق بهما(2/236)
وإن وجد بعض الميت غسل وصلي عليه ، وعنه لا يصلى على الجوارح ، وإن اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه صلى على الجميع ،
---------------------------------
صاحب بدعة مكفرة وعنه ولا يصلي على أهل الكبائر جزم به في الترغيب واختاره المجد في كل من مات عن معصية ظاهرة بلا توبة وهو متجه وعنه ولا على من قتل في حد ولا على مدين وعنه يصلي على كل أحد اختاره ابن عقيل كما يصلي غيره حتى على باغ ومحارب.
"وإن وجد بعض الميت" تحقيقا ذكره ابن عقيل "غسل وصلي عليه" على المذهب لأن أبا أيوب صلى على رجل قاله أحمد وصلى عمر على عظام بالشام وصلى أبو عبيدة على رؤوس بعد تغسيلها وتكفينها رواهما عبد الله بن أحمد وقال الشافعي ألقى طائر يدا بمكة في وقعة الجمل عرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فصل:ى عليها أهل مكة والمراد بالبعض غير شعر وظفر رواية واحدة لأنه لا حياة فيه وكذا سن قاله في الفروع فعلى ما ذكره يلف في شيء بعد تطهيره ويصلى عليه وجوبا إن لم يكن صلي عليه وقيل مطلقا كغسله وتكفينه ودفنه في الأصح فقيل ينوي الجملة إذا صلى ثم وجد الأكثر ففي الوجوب احتمالان وإن تكرر الوجوب جعلا للأكثر كالكل
"وعنه لا يصلى على الجوارح" التي يكتسب بها كما لو بان في حي وجوابه بأنه من جملة من لا يصلى عليه ولئلا تتكرر الصلاة فمتى وجد الأكثر صلى عليه وهل ينبش ليدفن معه أم بجنبه فيه وجهان.
فرع: إذا بان من حي كيد سارق انفصل: في وقت لو وجدت فيه الجملة لم يغسل ولم يصل عليها وقيل يصلى عليها إن احتمل موته.
"وإن اختلط من يصلى عليه" كمسلم "ومن لا يصلى عليه" ككافر "صلى على الجميع" لأن الصلاة على المسلم واجبة ولا يمكنه الخروج عن العهدة إلا بذلك وفهم منه أنه يغسل الجميع ويكفنون سواء كان من يصلى عليه(2/237)
ينوي من يصلى عليه ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد وإن لم يحضره غير النساء صلين عليه.
----------------------------------
أكثر أم لا وسواء في ذلك دار الحرب وغيرها وعنه إذا اشتبهوا في دار الحرب فلا
"ينوي من يصلي عليه" أي ينوي الصلاة على المسلم في ذلك لأن الصلاة على الكافر لا تجوز فلم يكن بد من ذلك ثم إن أمكن عزلهم وإلا دفنوا مع المسلمين قاله أحمد.
مسألة: يصلي على المسلمة الحاملة دون حملها قبل مضي تصويره وعليهما معا بعده ولا يصلى على أطفال المشركين لأن لهم حكم آبائهم إلا من حكمنا بإسلامه منهم ذكره جماعة.
"ولا بأس بالصلاة على الميت في المسجد" قال الآجري السنة أن يصلى عليها فيه لقول عائشة صلى النبي صلى الله عليه وسلم على سهل بن بيضاء في المسجد رواه مسلم وصلي على أبي بكر وعمر فيه رواه سعيد ولأنها صلاة فلم تكره فيه كسائر الصلوات وقيل هو أفضل وقيل عكسه وخيره أحمد واقتصر عليه في الوجيز وإن لم يؤمن تلويثه لم يجز ذكره أبو المعالي وذهب قوم إلى الكراهة لما روى أحمد ثنا وكيع ثنا ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعا "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" ولأنه يحتمل انفجاره فيه وجوابه بأن صالحا فيه ضعف وبأن احتمال انفجاره نادر ثم هو عادة بعلامة فمتى ظهرت كره إدخاله المسجد.
"وإن لم يحضره غير النساء صلين عليه" لأن عائشة أمرت أن يؤتى بأم سعد وكسائر الصلوات وظاهره أنهن يصلين عليه مع عدم الرجال وجوبا ضرورة الخروج عن عهدة الفرض ويسقط بهن وفي كلام القاضي ما يشعر بخلافه وتسن لهن جماعة نص عليه وتقف إمامتهن وسطا كمكتوبة ويقدم منهن من يقدم من الرجال حتى قاضية ووالية وكره ابن عقيل لسرعان(2/238)
---------------------------------
الاجتهاد وقيل فرادى أفضل واختاره القاضي كصلاتهن بعد رجال في وجه.
فائد: يحصل له بالصلاة عليها قيراط وهو أمر معلوم عند الله تعالى وذكر ابن عقيل أنه قيراط بنسبته من أجر صاحب المصيبة وله بتمام دفنها آخر وذكر أبو المعالي وجها أن الثاني بوضعه في قبره وقيل إذا ستر باللبن وهل يعتبر للثاني أن لا يفارقها من الصلاة حتى تدفن أم يكفي حضور دفنها فيه وجهان ولا تحمل الجنازة إلى مكانه ومحله ليصلى عليها فهي كالإمام يقصد ولا يقصد ذكره ابن عقيل.(2/239)
فصل: في حمل الميت
يستحب التربيع في حمله وهو أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على الكتف الأيمن ثم ينتقل إلى المؤخرة.
---------------------------------
فصل: في حمل الميت
وهو فرض كفاية ولا يختص كون فاعله من أهل القربة فيسقط بكافر وغيره وكذا تلقينه ودفنه وفاقا لعدم اعتبار النية
"يستحب" أن يحمله أربعة لأنه يسن "التربيع في حمله" لما روى سعيد وابن ماجه عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال من أتبع جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها فإنه من السنة ثم إن شاء فليتطوع وإن شاء فليدع إسناده ثقات إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه لكن كرهه الآجري وغيره إذا ازدحموا عليها
"وهو أن يضع قائمة السرير اليسرى المقدمة على كتفه الأيمن ثم ينتقل إلى المؤخرة ثم يضع قائمة اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة" هذا صفة التربيع ونقله الجماعة وهو المذهب لأنه أحد الجانبين فبدئ فيه بالمقدمة وعنه ينتقل من رجل السرير اليمنى إلى رجله اليسرى ثم يختم(2/239)
ثم يضع قائمة اليمنى المقدمة على كتفه اليسرى ثم ينتقل إلى المؤخرة وإن حمل بين العمودين فحسن ويستحب الإسراع بها ويكون المشاة أمامها
------------------------------------
برأسه رواه البخاري عن ابن عمر ولأنه أخف
"وإن حمل" كل واحد على عاتقه "بين العمودين فحسن" نص عليه في رواية ابن منصور لأنه عليه السلام حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين وروي عن سعد وابن عمر وأبي هريرة أنهم فعلوا ذلك وعنه يكره حكاها ابن الزاغواني والأصح عدمها وليس بأفضل من التربيع وعنه هما سواء والأولى الجمع بينهما فإن عجز عن حملها على ما ذكر حملت بالتابوت والرجال
وإن كان الميت طفلا فلا بأس بحمله على الأيدي صرح به جماعة ويستحب أن يكون على نعش كما قدمنا وإن كانت امرأة استحب ستر نعشها بمكبة لأنه أستر لها وروي أن فاطمة صنع لها ذلك بأمرها وما نقله بعضهم أنه أول من اتخذ ذلك له زينب أم المؤمنين فيه نظر فإن وفاتها كانت سنة عشرين قال في التلخيص ويجعل فوق المكبة ثوب وكذا إن كان به حدب ونحوه لأنه يشهر بالمثلة.
ولا بأس بحمله على دابة لغرض صحيح كبعد قبره وعنه يكره وظاهر كلامهم لا يحرم حملها على هيأة مزرية أو هيأة يخاف معها سقوطها.
"ويستحب الإسراع بها" لقول النبي صلى الله عليه وسلم "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" متفق عليه ويكون دون الخبب نص عليه زاد في المذهب وفوق السعي وفي الكافي لا يفرط في الإسراع فيمخضها ويؤذي متبعها وقال القاضي يستحب أن لا يخرج عن المشي المعتاد ولكن يراعي الحاجة نص عليه فإن خيف عليه التغير أسرع.
"ويكون المشاة أمامها" نص عليه وهو قول أكثرهم قال ابن المنذر ثبت(2/240)
والركبان خلفها ولا يجلس من تبعها حتى توضع وإن جاءت وهو.
---------------------------------------
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة ورواه أحمد عن ابن عمر ولأنهم شفعاء والشفيع يتقدم المشفوع له واختار ابن حمدان حيث شاء وفي الكافي حيث مشى قريبا منها فحسن وقال الأوزاعي أفضل لأنها متبوعة.
"والركبان خلفها" لما روى المغيرة بن شعبة مرفوعا "الراكب خلف الجنازة" رواه الترمذي وقال حسن صحيح ولأن سيره أمامها يؤذي متبعها وقال المجد يكره أمامها وفي راكب سفينة وجهان بناء على أن حكمه كراكب أو كماش وإن عليهما ينبني دورانه في الصلاة ويكره للمرأة اتباعها وحرمه الآجري في الشابة قال أبو المعالي يمنعن من اتباعها وهو قول الجمهور وأباحه قوم لقرابة وقال أبو حفص هو بدعة ويجب طردهن فإن رجعن وإلا رجع الرجال بعد أن يحثوا في وجوههن التراب.
وكذا يكره لمتبعها الضحك والتبسم والتحدث بأمر الدنيا وأن توضع عليها الأيدي وأن يقال حال المشي معها اللهم سلم رحمه الله واستغفروا له نص عليه ويسن أن يسكتوا أو يذكروا الله قال بعضهم خفية.
فرع: يكره الركوب لمن تبعها إلا لحاجة وكعوده وتقدمها إلى موضع الصلاة لا إلى المقبرة.
تنبيه: إذا كان معها منكر وقدر على إزالتها تبعها وأزاله فإن عجز عنه لم يجز أن يتبعها وعنه بل وينكره بحسبه ومن كان حضوره يزيل المنكر لزمه على الروايتين كحصول المقصود فيعايا بها.
"ولا يجلس من تبعها حتى توضع" لقوله عليه السلام "من تبع جنازة فلا يجلس حتى توضع" متفق عليه من حديث أبي سعيد والمراد بها وضعها على الأرض للدفن نقله الجماعة وعنه للصلاة وعنه في اللحد لاختلاف الخبر وعنه لا يكره الجلوس قبل وضعها كمن بعد "وإن جاءت وهو(2/241)
جالس لم يقم لها ويدخل قبره من عند رجل القبر إن كان أسهل عليهم.
----------------------------------------
جالس لم يقم لها" لقوله علي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد رواه مسلم وقال علي كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام ثم جلس وأمرنا بالجلوس رواه أحمد وغيره وإسناده ثقات وكذا إذا مرت به وعنه القيام وتركه سواء وعنه يستحب القيام اختاره ابن عقيل والشيخ تقي الدين لأمره بذلك وعنه حتى تغيب أو توضع فيقوم قبل وصولها إليه حين رؤيتها للخبر وظاهره لو كانت جنازة كافر لفعله عليه السلام متفق عليه والأصح الكراهة إذ دليله ناسخ لما ذكرناه.
"ويدخل قبره من عند رجل القبر" أي من شرقه ثم يسله سلا لأنه عليه السلام سل من قبل رأسه سلا وعبد الله بن يزيد أدخل الحارث قبره من قبل رجل القبروقال هذا من السنة رواه أحمد ولأنه ليس بموضع موجه بل دخول الرأس أولى كعادة الحي لكونه يجمع الأعضاء الشريفة ولهذا يقف عند رأسه في الصلاة ويبدأ به في حمله.
"إن كان أسهل عليهم" كذا ذكره جماعة منهم المجد لأن في ضدها ضررا ومشقة وهو منفي شرعا ولم يقبل منه وفي الوجيز والفروع وظاهر كلامه أنه يدخله معترضا من قبلته إذا لم يسهل من عند رجل القبر وخرج به في المحرر وقيل يبدأ بإدخال رجله من عند رأسه ذكره ابن الزاغواني.
وظاهره أنه لا توقيت فيمن يدخله بحسب الحاجة كسائر أموره وقيل الوتر أفضل وأنه لا حد لعمقه نص عليه لقوله "احفروا وأعمقوا وأحسنوا" رواه النسائي قال أحمد يعمق إلى الصدر وقدره أكثر أصحابنا بقامة وبسطة وذكره جماعة نصا والبسطة الباع وجعلهما في الوسيلة أربعة أذرع ونصفا نصا وبالجملة يكفي ما يمنع الرائحة والسباع ولا يجوز جعله على الأرض وموضع فوقه خشبا لا في تراب لأنه ليس بسنة كما لا يجوز ستره إلا بالثياب ذكره ابن عقيل.(2/242)
ولا يسجى القبر إلا أن يكون لامرأة ويلحد له لحدا ،.
-----------------------------
تنبيه: الأحق بالتلقين والدفن أحقهم والدفن أحقهم بالغسل وذكر المجد وابن تميم أنه يستحب أن يتولى دفن الميت غاسله فيقدم الوصي ثم الأقرب فالأقرب ثم الرجال الأجانب ثم النساء المحارم ثم الأجنبيات والمرأة محارمها الرجال أولى من الأجانب ومن محارمها النساء بدفنها وهل يقدم الزوج على محارمها الرجال أم لا فيه روايتان فإن عدما فالرجال الأجانب أولى في المشهور وعنه نساء محارمها قدمه المؤلف وذكر أنه أولى وشرطه عدم محذور من تكشفهن بحضرة الرجال أو غيره قال المجد أو اتباعهن الجنازة ويقدم من الرجال خصي ثم شيخ ثم أفضل دينا ومعرفة ومن بعد عهده بجماعة أولى ممن قرب.
فرع: لا يكره للرجال دفن امرأة مع حضور محرم نص عليه قال في الفروع ويتوجه احتمال يحملها من المغتسل إلى النعش ويسلمها إلى من في القبر ويحل عقد الكفن وقاله الشافعي في الأم ومتى كان الأولى بغسله الأولى بدفنه تولاهما بنفسه ثم نائبه إن شاء.
"ولا يسجى القبر إلا أن يكون امرأة" فإنه يسن تغطية قبرها بغير خلاف نعلمه لأنها عورة ولا يؤمن أن يبدو منها شيء فيراه الحاضرون وظاهر كلام الوجيز ولو كانت صغيرة ويكره ستر قبر الرجل نص عليه لقول علي وتقدم بقوم دفنوا ميتا وبسطوا على قبره الثوب فجذبه وقال إنما يصنع هذا بالنساء رواه سعيد ولأن كشفه أمكن وأبعد من التشبه بالنساء فإن كان ثم عذر من مطر ونحوه لم يكره.
"ويلحد له لحدا" لقول سعد الحدوا لي لحدا وانصبوا اللبن علي نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم واللحد إذا بلغ الحافر قرار القبر حفر فيه مما يلي القبلة مكانا يوضع فيه الميت وهو أفضل من الشق على الأصح وهو أن يحفروا أرض القبر شقا يضع فيه الميت ويسقف عليه شيء فيكره الشق بلا عذر فلو تعذر اللحد لكون التراب ينهار يبنيه بلبن وحجارة إن أمن نص(2/243)
وينصب اللبن عليه نصبا ولا يدخله خشبا ولا شيئا مسه النار ويقول الذي يدخله القبر بسم الله وعلى ملة رسول الله ويضعه في لحده على جنبه الأيمن مستقبل القبلة.
----------------------------------------
عليه ولا يشق إذن قال أحمد لا أحب الشق لما روى ابن عباس مرفوعا "اللحد لنا والشق لغيرنا" رواه أحمد والترمذي وقال غريب.
"وينصب اللبن عليه نصبا" لحديث سعد وإن جعل عليه طن قصب جاز لقول عمرو بن شرحبيل رأيت المهاجرين يستحبون ذلك ولكن اللبن أفضل لأنه من جنس الأرض وأبعد من أبنية الدنيا وعنه القصب اختارها الخلال وصاحبه وابن عقيل لأنه عليه السلام خرج على قبره طن من قصب وفي المحرر هما سواء ويسد الخلل بما يمنع التراب من طين وغيره قال أحمد ويسد الفرجة بحجر فدل على أن البلاط كاللبن وإن كان اللبن أفضل.
"ولا يدخله خشبا" بلا ضرورة "ولا شيئا مسه النار" لقول إبراهيم كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر ولأن فيه تشبها بأهل الدنيا وتفاؤلا أن لا تمسه النار ويكره دفنه في تابوت ولو كان الميت امرأة أو في حجر منقوش قال بعضهم أو يجعل فيه حديد ولو كانت الأرض رخوة أو ندية.
"ويقول الذي يدخله القبر بسم الله وعلى ملة رسول الله" لقول ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وضع الميت قال ذلك وفي لفظ "وعلى سنة رسول الله" روى ذلك أحمد والترمذي وقال حسن غريب وعنه يقول اللهم بارك في القبر وصاحبه وإن قرأ {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} الآية وأتى بذكر أو دعاء لائق عند وضعه وإلحاده فلا بأس لفعله عليه السلام وفعل الصحابة.
"ويضعه في لحده على جنبه الأيمن مستقبل القبلة" لأنه عليه السلام هكذا دفن والمذهب عند القاضي وأصحابه والمؤلف وقدمه في الفروع يجب دفنه مستقبل القبلة وعند صاحب الخلاصة والمحرر وظاهر كلامه أنه يستحب كجنبه الأيمن.(2/244)
ويحثي التراب في القبر ثلاث حثيات ثم يهال عليه التراب ويرفع القبر عن الأرض.
---------------------------------------
وظاهره أنه لا يجعل تحت رأسه شيئا لقول عمر إذا جعلتموني في اللحد فأفضوا بخدي إلى الأرض واستحب عامتهم أن يجعل تحت رأسه لبنة كالمخدة للحي ويجعل قدامه وخلفه ما يمنع وقوعه على قفاه أو وجهه وفي الشرح والفروع يدنيه من قبلة اللحد ويسند خلفه ويكره المرقعة والمضربة نص عليه وكذا قطيفة تحته لكراهة الصحابة وهو قول الأكثر ونص أنه لا بأس بها من علة في الأرض وعنه مطلقا وقيل يستحب لأن شقران وضع في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء لكن من غير اتفاق منهم.
"ويحثي التراب في القبر ثلاث حثيات" استحبابا لما روى جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حثى على الميت ثلاث حثيات بيديه جميعا رواه الشافعي وروي عن علي وابن عباس وأن يكون ذلك باليد قاله في المحرر والفروع وهو شامل لحاضر به زاد ابن تميم من قبل رأسه لفعله عليه السلام رواه ابن ماجه وقيل من دنا منه وعنه لا بأس بذلك وذكر ابن المنجا أنه ينبغي أن يقول إذا حثى الأولى {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ} وفي الثانية {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} وفي الثالثة {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}
"ثم يهال" أي يصب "عليه التراب" لقول عائشة ما علمنا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي رواه أحمد وقالت فاطمة لأنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب رواه البخاري.
ويكره أن يزاد في القبر من غير ترابه نص عليه لنهي عقبة عنه رواه أحمد قال في الفصول إلا أن يحتاج إليه ولا بأس بتعليمه بحجر أو خشبة ونحوهما عند رأسه نص عليه لأنه عليه السلام ترك عند قبر عثمان بن مظعون صخرة رواه أبو داود ونص على استحبابه واختلف عنه في اللوح والأشبه أنه لا بأس به بلا كتابة قاله ابن تميم
"ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر" لأنه عليه السلام رفع قبره عن الأرض(2/245)
مسنما ويرش عليه الماء ولا بأس بتطيينه ويكره تجصيصه.
-------------------------------------
قدر شبر رواه الساجي من حديث جابر ولأنه يعلم أنه قبر فيتوقى ويترحم عليه ويكره فوق شبر لأن فضالة أمر بقبر فسوي وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك رواه مسلم وحمله المجد على تقريبه من الأرض والمنع عن علوها الفاحش.
"مسنما" لما روى البخاري عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما ولأن التسطيح يشبه أبنية أهل الدنيا وهو شعار أهل البدع فكان مكروها وقال الشافعي التسطيح أفضل وخالفه كثير من أصحابه قال وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم وهو محمول على أنه سطح جوانبها وسنم سطحها لكن يستثنى منها إذا دفن بدار الحرب بعد تعذر نقله فالأولى تسويته بالأرض وإخفاؤه قاله أبو المعالي وغيره.
"ويرش عليه الماء" لأنه عليه السلام رش على قبر سعيد ماء رواه ابن ماجه من حديث أبي رافع وروى الخلال بإسناده أنه رش على قبر النبي صلى الله عليه وسلم الماء ولأن الماء يلبده وهو آثار الرحمة ويوضع عليه حصى صغار وظاهر كلام جماعة أنه يعمه بها ليحفظ ترابه وعن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رش على قبر ابنه ماء ووضع عليه حصى رواه الشافعي
"ولا بأس بتطيينه" قاله أحمد لأنه عليه السلام طين قبره ولأن فيه صيانة عن الدرس وكرهه أبو حفص وقيل يستحب والنهي الوارد فيه محمول على طين فيه تحسين للقبر وزينة
"ويكره تجصيصه" وتزويقه وتحليقه وهو بدعة "والبناء" عليه أطلقه أحمد والأصحاب لاصقة أو لا لقول جابر نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يعقد عليه وأن يبنى عليه رواه مسلم وذكر جماعة أنه لا بأس بالقبة والبيت والحظيرة في ملكه قال المجد ويكره في صحراء للضيق والتشبه بأبنية الدنيا وكره في الوسيلة البناء الفاخر كالقبة.(2/246)
والبناء والكتابة عليه والجلوس والوطء عليه والاتكاء إليه
-----------------------------------
وظاهره لا بأس ببناء ملاصق لأنه يراد لتعليمه وحفظه دائما فهو كالحصباء ولم يدخل في النهي لأنه خرج على المعتاد أو يخص منه وعنه منع البناء في وقف عام وقال الشافعي رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما تبقى.
والمنقول هنا المنع خلاف ما اقتضاه كلام ابن تميم يؤيد ما نقله أبو طالب عنه عمن اتخذ حجرة في المقبرة لغيره قال لا يدفن فيها والمراد لا يختص به وهو لغيره.
وجزم ابن الجوزي بأنه يحرم حفر قبر في مسبلة قبل الحاجة فها هنا أولى وتكره الخيمة والفسطاط نص عليه لأمر ابن عمر بإزالته وقال إنما يظله عمله وظاهر ما سبق أن الصحراء أفضل لأنه عليه السلام كان يدفن أصحابه بالبقيع وهو أشبه بمساكن الآخرة وأكثر للدعاء له والترحم عليه سوى النبي صلى الله عليه وسلم واختار صاحباه الدفن عنده تشرفا وتبركا ولم يزد عليهما لأن الخرق يتبع والمكان ضيق وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع ذكرها المجد.
"والكتابة عليه" لما روى الترمذي وصححه من حديث جابر مرفوعا "نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن توطأ".
"والجلوس" لما روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر" .
"والوطء عليه" لما روى ابن ماجه والخلال مرفوعا "لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم" وفي الكافي إن لم يكن له طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء جاز للحاجة "والاتكاء إليه" لما روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عمرو بن حزم متكئا على قبر فقال "لا تؤذه" .
مسألة: لا يجوز الإسراج على القبور ولا اتخاذ المساجد عليها ولا بينها قال الشيخ تقي الدين ويتعين إزالتها لا أعلم فيه خلافا ولا تصح الصلاة فيها على ظاهر المذهب فلو وضع المسجد والقبر معا لم يجز ولم يصح الوقف ولا(2/247)
ولا يدفن فيه اثنان إلا للضرورة.
------------------------------------------
الصلاة قاله في الهدى وفي الوسيلة يكره اتخاذ المساجد عندها ويكره الحديث عندها والمشي بالنعل فيها ويسن خلعه إلا خوف نجاسة أو شوك نص عليه.
فصل: يستحب الدعاء له عند القبر بعد دفنه نص عليه فعله أحمد جالسا واستحب الأصحاب وقوفه ونص أحمد أنه لا بأس به وقد فعله علي والأحنف وقال أبو حفص هو بدعة واستحب الأكثر تلقينه بعد دفنه لقول راشد بن سعد وضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير كانوا يستحبون أن يقالعند قبره يا فلان قل لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ثلاث مرات يا فلان قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد رواه عنه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف ولحديث أبي أمامة رواه ابن شاهين والطبراني فيجلس الملقن عند رأسه وقال أحمد ما رأيت أحدا يفعله إلا أهل الشام وقال الشيخ تقي الدين تلقينه مباح عند أحمد وبعض أصحابه ولا يكره وفي تلقين غير المكلف وجهان بناء على نزول الملكين وسؤاله وانتخابه النفي قول القاضي وابن عقيل والإثبات قول أبي حكيم وحكاه ابن عبدوس عن الأصحاب وصححه الشيخ تقي الدين.
"ولا يدفن فيه اثنان" أي يحرم دفن اثنين فأكثر في قبر لأنه عليه السلام كان يدفن كل ميت في قبر وعلى هذا استمر فعل الصحابة ومن بعدهم وعنه يكره اختاره ابن عقيل والشيخ تقي الدين قال في الفروع وهي أظهر وعنه يجوز وهو ظاهر الخرقي نقل أبو طالب لا بأس به وقيل يجوز في المحارم وقيل فيمن لا حكم لعورته وعلى الأول لا فرق بين أن يدفنا معا أو أحدهما بعد الآخر لكن إن لم يبل لم يجز نص عليه وإن بلي جاز في الأصح ويعمل بقول أهل الخبرة بتلك الأرض وإن حفر فوجد عظام الميت دفنها وحفر في مكان آخر نص عليه.
"إلا لضرورة" وككثرة الموتى وقلة من يدفنهم وخوف الفساد عليهم لقوله(2/248)
ويقدم الأفضل إلى القبلة ويجعل بين كل اثنين حاجز من التراب
---------------------------------------
عليه السلام "يوم أحد ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد" رواه النسائي.
"ويقدم الأفضل إلى القبلة" لقوله عليه السلام "قدموا أكثرهم قرآنا" حين سألوه من يقدم فيه ؟ رواه النسائي والترمذي وصححه وكما يقدم إلى الأمام في الصلاة
"ويجعل بين كل اثنين حاجز من التراب" نص عليه ليصير كل واحد كأنه في قبر منفرد وقال الآجري إن كان فيهم نساء وفيه نظر ولا بأس بالذهاب بعد دفنه من غير إذن أهل الميت نص عليه.
تذنيب: كره أحمد الدفن عند طلوع الشمس وغروبها وقيامها وفي المغني لا يجوز ويجوز ليلا ذكره في شرح مسلم قول الجمهور وعنه يكره حكاه ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة وفيه نظر فإنه حكى في الإفصاح الإجماع أنه لا يكره وأنه بالنهار أمكن وعنه لا يفعله إلا لضرورة.
مسألة: يستحب جمع الأقارب في بقعة لتسهل زيارتهم قريبا من الشهداء والصالحين لينتفع بمجاورتهم من البقاع الشريفة فلو أوصى أن يدفن في ملكه دفن مع المسلمين قاله أحمد كما إذا اختلف الورثة وحمل المجد الأول على ما إذا نقصها نقصا لا يحتمله الثلث قال في الفروع وهو متجه قال أحمد لا بأس بشراء موضع قبره و يوصي بدفنه فيه فعله عثمان وعائشة.
قال ابن تميم بشرط خروجه من الثلث ويصح بيع ما دفن من ملكه ما لم يجعل أو يصر مقبرة نص عليه وقال ابن عقيل لا يجوز بيع موضع القبر مع بقاء رمته وإن ثقلت وجب ردها لتعيينه لها قال جماعة وله حرثها إذا بلي العظم ومن سبق إلى مسبلة قدم ثم يقرع وقيل يقدم ممن له مزية نحو كونه عند أهله.(2/249)
وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخذ.
--------------------------------
"وإن وقع في القبر ماله قيمة" عادة وعرفا وإن قل خطره قاله أصحابنا أو رماه ربه فيه "نبش وأخذ" نص عليه في مسحاة الحفار دليله ما روي عن المغيرة بن شعبة أنه وضع خاتمة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال خاتمي فدخل وأخذه ولتعلق حقه بعينه ولا ضرر في أخذه.
وعنه المنع إن بذل له عوضه فدل على رواية تمنع نبشه بلا ضرورة وفي النبش ضرر.
مسائل
منها: من أمكن غسله ودفن قبله فإنه ينبش نص عليه وجزم جماعة بأنه يترك إن خشي تفسخه وقيل يحرم نقله مطلقا فيصلى عليه لعدم ماء وتراب.
ومنها: إذا دفن قبل الصلاة فإنه ينبش ويصلى عليه نص عليه ليوجد شرط الصلاة وهو عدم الحائل وقيل يصلى على القبر وهو ظاهر وعنه يخير.
ومنها: إذا دفن قبل تكفينه فإنه ينبش نص عليه وصححه في الرعاية كالغسل وقيل لا لستره بالتراب.
ومنها: إبدال كفنه بأحسن منه وخير من بقعته ودفنه لعذر بلا غسل ولا حنوط كإفراده نص على الكل.
ومنها: إذا دفن غير موجه للقبلة وقيل يحرم نبشه وقدم ابن تميم يستحب.
ومنها: إذا دفن في مسجد فنص أحمد على نبشه.
ومنها: إذا دفن في ملك غيره فللمالك نقله والأولى تركه وكرهه أبو(2/250)
وإن كفن بثوب غصب أو بلع مال غيره غرم ذلك من تركته وقيل ينبش ويؤخذ الكفن ويشق جوفه فيخرج.
-------------------------------------------------
المعالي لهتك حرمته.
ومنها: إذا كفن الرجل في حرير لغير حاجة نبش وأخذ في وجه قال في الشرح فإن تغير الميت لم ينبش بحال وكل موضع أجزنا نبشه فالأفضل تركه.
"وإن كفن بثوب غصب" لم ينبش لهتك حرمته مع إمكانه دفع الضرر بدونها فعلى هذا تجب قيمته في تركته وقال المجد يضمنه من كفنه به لمباشرته الإتلاف عالما وإن جهل فالقرار على الغاصب ولو أنه الميت فإن تعذر نبش وإن كان قبل الدفن أخذ لتعلق حقه بعينه
"أو بلع مال غيره" بغير إذنه "غرم ذلك من تركته" بطلب ربه لأن استحقاق العين يسقط عند تعذر الرجوع وينتقل إلى القيمة كما لو أتلف شيئا في حياته وظاهره لا فرق بين أن تبقى ماليته كخاتم أو غيره يسيرا كان أو كثيرا وذكر جماعة أنه يغرم الكثير من تركه وجها واحدا وإطلاق غيرهم بخلافه
فإن تعذرت القيمة ولم يعدلها وارث شق جوفه في الأصح فلو بلعه بإذن مالكه لم يجب شيء ويؤخذ إذا بلي ولا تعرض له قبله بحال ولا يضمنه وكذا إذا بلع مال نفسه لأنه أتلف ملكه حيا فإن كان عليه دين فوجهان وقيل بل يشق ويؤخذ وفي المبهج تحسب من ثلثه.
"وقيل ينبش ويؤخذ الكفن ويشق جوفه فيخرج" قدمه في الكافي والرعاية لما فيه من تخليص الميت من الإثم ورد المال إلى مالكه ودفع الضرر عن الورثة بحفظ التركة لهم فعلى هذا إن كان ظنه أنه ملكه ففيه وجهان.
تنبيه: إذا اتخذ أنفا من ذهب ومات لم يقلع عنه ويأخذ البائع ثمنه من تركته فإن لم يكن أخذه إذا بلي وقيل يؤخذ في الحال فدل أنه لا يعتبر(2/251)
وإن ماتت حامل لم يشق بطنها وتسطو عليه القوابل فيخرجنه ويحتمل أن يشق بطنها إذا غلب على الظن أنه يحيا وإن ماتت ذمية حامل من مسلم دفن وحدها.
------------------------------------------
للرجوع حياة المفلس في قول مع أن فيه هنا مثلة.
"وإن ماتت حامل لم يشق بطنها" نص عليه وقدمه ونصره الأكثر لما فيه من هتك حرمة متيقنة لإبقاء حياة موهومة ثم إنه لو خرج حيا فالغالب المتعاد أنه لا يعيش وقد احتج أحمد بقوله عليه السلام "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي" رواه أبو داود.
"وتسطو عليه" النساء "القوابل" فيدخلن أيديهن في رحم الميتة "فيخرجنه" إذا طمعن في حياته بأن قربت الحركة وانفتحت المخارج قاله في الخلاف وابن المنجا في شرحه والمذهب أنهن يفعلن ذلك إذا احتملت حياته لأن فيه إبقاء للولد من غيرمثلة بائنة فإن عجزن أو عدمن واختار ابن هبيرة أنه يشق بطنها والمذهب لا وعنه يفعل ذلك الرجال والمحارم أولى اختاره أبو بكر والمجد كمداواة الحي والأشهر لا فإن لم يخرج لم تدفن ما دام حيا ولا يوضع عليها ما يموته فلو خرج بعضه حيا شق حتى يخرج فإن مات قبل خروجه أخرج إن أمكن وغسل فإن تعذر غسل ما خرج ولا يحتاج إلى تيمم لأنه في حكم الباطن في الأشهر وصلي عليه معها بشرطه وإلا عليه دونه
"ويحتمل أن يشق بطنها إذا غلب على الظن أنه يحيا" لأنه تعارض حقاهما فقدم حق الحي لكون حرمته أولى.
"وإن ماتت ذمية حامل من مسلم دفنت وحدها" نص عليه لأنه جائز ودفن الميت عند من يباينه في دينه منهي عنه واختار الآجري يدفن بجنب قبور المسلمين
وقال أحمد لا بأس أن تدفن معنا روي عن عمر لما في بطنها وعبارة(2/252)
ويجعل ظهرها إلى القبلة ولا تكره القراءة على القبر في أصح الروايتين.
---------------------------------
المحرر حامل بمسلم وهي أولى لشمولها صورا
"ويجعل ظهرها إلى القبلة" على جنبها الأيسر ليكون وجه الجنين إلى القبلة على جنبه الأيمن لأن وجه الجنين إلى ظهرها ويتولى المسلمون دفنها وظاهره أنه لا يصلي عليه لأنه ليس مولودا ولا سقطا وقيل يصلى عليه إن مضى زمن تصويره قال في الفروع ولعل مراده إذا انفصل وهو الظاهر.
"ولا تكره القراءة على القبر" وفي المقبرة في أصح الروايتين هذا المذهب روى أنس مرفوعا قال "من دخل المقابر فقرأ فيها {يس} خفف عنهم يومئذ وكان له بقدرهم حسنات" وصح عن ابن عمر أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها ولهذا رجع أحمد عن الكراهة قاله أبو بكر وأصلها أنه مر على ضرير يقرأ عند قبر فنهاه عنها فقال له محمد بن قدامة الجوهري يا أبا عبد الله ما تقول في مبشر الحلبي قال ثقة فقال أخبرني مبشر عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عنده بفاتحة البقرة وخاتمتها وقال سمعت ابن عمر أوصى بذلك فقال أحمد عند ذلك ارجع فقل للرجل يقرأ فلهذا قال الخلال وصاحبه المذهب رواية واحدة أنه لا يكره لكن قال السامري يستحب أن يقرأ عند رأس القبر بفاتحة البقرة وعند رجله بخاتمتها والثانية يكره اختارها عبد الوهاب الوارق وأبو حفص وهي قول جمهور السلف لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تجعلوا بيوتكم مقابر لا يقرأ فيها شيئا من القرآن فإن الشيطان ينفر من بيت يقرأ فيه سورة البقرة" وعلله أبو الوفاء وغيره بأنها مدفن النجاسة كالحش قال بعضهم شدد أحمد حتى قال لا تقرأ فيها في الصلاة الجنازة ونقل المروذي فيمن نذر أن يقرأ عند قبر أبيه يكفر عن يمينه ولا يقرأ واختار في الفروع أنه يقرأ إلا عند القبر وعنه أنها بدعة لأنه ليس من فعله عليه السلام ولا فعل أصحابه.(2/253)
وأي قربة فعلها وجعلها للميت المسلم نفعه ذلك.
-------------------------------------
"وأي قربة فعلها" من دعاء واستغفار وصلاة وصوم وحج وقراءة وغير ذلك "وجعل ثواب ذلك للميت المسلم نفعه ذلك" قال أحمد الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ويقرؤون ويهدون لموتاهم من غير نكير فكان إجماعا وكالدعاء والاستغفار حتى لو أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم جاز ووصل إليه الثواب ذكره المجد
وقال الأكثر لا يصل إلى الميت ثواب القراءة وإن ذلك لفاعله واستدلوا بقوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [لنجم:39] {و لها ما كسبت} [البقرة] وبقوله عليه السلام "إذا مات الإنسان انقطع عمله" .
وجوابه بأن ذلك في صحف إبراهيم وموسى قال عكرمة هذا في حقهم خاصة بخلاف شرعنا بدليل حديث الخثعمية أو بأنها منسوجة بقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: من الآية21] أو أنها مختصة بالكافر أي ليس له من الجزاء إلا جزاء سعيه توفاه في الدنيا وماله في الآخرة من نصيب أو أن معناه ليس للإنسان إلا ما سعى عدلا وله ما سعى غيره فضلا أو أن اللام بمعنى على لقوله تعالى {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: من الآية25] وعن الثانية بأنها بدل المفهوم ومنطوق السنة بخلافه وعن الحديث بأن الكلام في عمل غيره لا عمله فعلى هذا لا يفتقر أن ينويه حال القراءة نص عليه وذكر القاضي أنه يقول اللهم إن كنت أثبتني على هذا فاجعله أو ما يشابه لفلان وقيل يسير الثواب ثم يجعله له ولا يضر جهله به لأن الله يعلمه وبالغ القاضي فقال إذا صلى فرضا وأهدى ثوابه صحت الهدية وأجزأ فاعله وفيه بعد فلو أهدى بعض القربة فنقل الكحال في الرجل يعمل شيئا من الخير من الصلاة ونحوها ويجعل نصفه لأبيه أو أمه قال أرجو وظاهر كلامه وكلام صاحب التلخيص والمحرر أنه إذا جعل ثواب قربة لحي لا ينفعه ذلك والمذهب أن الحي كالميت في ذلك قال القاضي لا يعرف رواية بالفرق بل ظاهر الرواية يعم لأن المعنى فيهما.(2/254)
ويستحب أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث إليهم ولا يصلحون هم طعاما للناس.
فصل:
يستحب للرجال زيارة القبور.
----------------------------------
واحد قال ابن المنجا ولعل المصنف إنما ذكر الميت لأن أكثر الأدلة فيه وحاجته إلى الثوب أكثر وأنه إذا جعلها لغير مسلم لا ينفعه وهو صحيح لنص ورد فيه.
"ويستحب أن يصلح لأهل الميت طعاما يبعث إليهم" لقوله عليه السلام "اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم ما يشغلهم" رواه الشافعي وأحمد والترمذي وحسنه ولأن فيه جبرا والمذهب ثلاثة أيام
"ولا يصلحون هم طعاما للناس" فإنه مكروه لما روى أحمد عن جرير قال كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة وإسناده ثقات زاد في المغني والشرح إلا لحاجة وقيل يحرم قال أحمد ما يعجبني ونقل المروذي هو من أفعال الجاهلية وأنكره شديدا.
فرع: يكره الذبح عند القبر والأكل منه لخبر أنس لا عقر في الإسلام رواه أحمد بإسناده صحيح وفي معناه الصدقة عند القبر فإنه محدث وفيه رياء.
فصل:
"يستحب للرجال زيارة القبور" نص عليه وحكاه النووي إجماعا لقوله عليه السلام "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه مسلم والترمذي وزاد "فإنها تذكر الآخرة" وقال أبو هريرة زار رسول الله صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال "استأذنت ربي أن استغفرا لها فلم يؤذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم(2/255)
وهل تكره للنساء على روايتين وأن يقول إذا زارها أو مر بها سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ,
------------------------
الموت" متفق عليه وعنه لا بأس به وقاله الخرقي وغيره وأخذ منه جماعة الإباحة لأنه الغالب في الأمر بعد الحظر لاسيما وقد قرنه بما هو مباح وفي الرعاية يكره الإكثار منه وفيه نظر.
فوائد: يستحب للزائر أن يقف أمام القبر وعنه حيث شاء وعنه قعوده كقيامه ذكره أبو المعالي وينبغي قربه كزيارته في حياته ويجوز لمس القبر باليد وعنه يكره لأن القرب تتلقى من التوقيف ولم ترد به سنة وعنه يستحب صححها أبو الحسن لأنه يشبه مصافحة الحي ولاسيما ممن ترجى بركته واجتماع الناس للزيارة كما هو المعتاد بدعة قال ابن عقيل أبرأ إلى الله تعالى منه ويجوز زيارة قبر المشرك والوقوف لزيارته لما سبق ذكره المجد وجوزه حفيده للاعتبار قال ولا يمنع الكافر زيارة قبر أبيه المسلم
"وهل يكره للنساء على روايتين" إحداهما وهي المذهب يكره لأن المرأة قليلة الصبر فلا يؤمن تهييج حزنها برؤية الأحبة فيحملها على فعل محرم والثانية يباح لأن عائشة زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقال لها ابن أبي مليكة أليس كان نهي عن الزيارة القبور قالت نعم ثم أمر بزيارتها رواه الأثرم واحتج به أحمد وعنه يحرم لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور رواه أحمد والترمذي وصححه وكما لو علمت أنها تقع في محرم ذكره المجد مع تأثيمه بظن وقوع النوح ولا فرق ولم يحرم هو وغيره دخول الحمام إلا مع العلم المحرم ويستثنى منه زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما.
"و" يستحب "أن يقول إذا زارها أو مر بها سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا شاء الله بكم للاحقون" كذا رواه مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا والسلام فيه معرف وقاله جماعة والتنكير من طريق لأحمد عن أبي هريرة وعائشة وظاهره أن تنكيره أفضل نص عليه وخيره المجد وبعضهم(2/256)
ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ويستحب تعزية أهل الميت.
---------------------------
حكاه نصا وكذا السلام على الأحياء وعنه تعريفه أفضل كالرد وقال ابن البنا سلام التحية منكر وسلام الوداع معرف والاستثناء للتبرك قاله العلماء وفي البغوي أنه يرجع إلى اللحوق لا إلى الموت وفي الشافي أنه يرجع إلى البقاع.
"ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين" روي من حديث عائشة ذكره في الشرح "فنسأل الله لنا ولكم العافية" رواه مسلم من حديث بريدة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية فدل على أن اسم الدار يقع على المقابر وإطلاق الأهل على ساكن المكان من حي وميت.
"اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم" رواه أحمد من حديث عائشة "واغفر لنا ولهم" لأنه روي يغفر الله لنا ولكم وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الغرقد فقال "اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" سمي به لغرقد كان به وهو ما عظم من العوسج وقيل كل شجر له شوك.
فائد: يسمع الميت الكلام ويعرف زائره قاله أحمد يوم الجمعة بعد الفجر قبل طلوع الشمس وفي الغنية يعرفه كل وقت وهذا الوقت آكد ويكره مشيه بين القبور بنعلين إلا خوف نجاسة أو شوك نص عليه واحتج بخبر بشير بن الخصاصية وعنه لا يكره كالخف للمشقة وفي التمشك ونحوه وجهان.
"ويستحب تعزية أهل الميت" نص عليه لما روى ابن ماجه وإسناده ثقات عن عمرو بن حزم مرفوعا "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من(2/257)
ويكره الجلوس لها ويقول في تعزية المسلم بالمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك.
-------------------------------
حلل الكرامة يوم القيامة" وعن عبد الله بن مسعود مرفوعا "من عزى أخاه مصيبته فله مثل أجره" رواه الترمذي وفي سنده علي بن عاصم وهو ضعيف وهي التسلية والحث على الصبر بوعد الأجر والدعاء للميت والمصاب وينبغي أن يستعين بالصبر والصلاة ويسترجع ولا يقول إلا خيرا ويسأل الله أجر الصابرين
وظاهره: لا فرق بين أن يكون قبل الدفن أو بعده ويعم بها أهل الميت حتى الصغير لكن يكره لامرأة شابة أجنبية ولو شق نص عليه لزوال المحرم وهو الشق واستدامة لبسه مكروه ويبدأ بخيارهم وهو مخير في أخذ يد من يعزيه قاله أحمد.
وظاهره: أنه لا حد لآخر وقت التعزية فدل أنها تستحب مطلقا وهو ظاهر الخبر وحدها في المستوعب إلى ثلاثة أيام وذكر ابن شهاب والآمدي وأبو الفرج يكره بعدها لتهيج الحزن واستثنى أبو المعالي إذا كان غائبا فلا بأس بها إذا حضر واختاره صاحب النظم وزاد ما لم ينس.
فرع: إذا جاءته التعزية في كتاب ردها على الرسول لفظا قاله أحمد ويكره تكرارها فلا يعزي من عزى
"ويكره الجلوس لها" نص عليه واختاره الأكثر لأنه محدث مع ما فيه من تهييج الحزن وعنه الرخصة فيه قال الخلال سهل أحمد في الجلوس إليهم من غير موضع قال ونقل عنه المنع وفيه وجه لا بأس فيه لأهل الميت دون غيرهم وعنه لا بأس بالجلوس عندهم إذا خيف عليهم شدة الجزع وأما المبيت عندهم فأكرهه لكن يستثنى منه الجلوس بقرب دار الميت ليتبع الجنازة أو يخرج وليه فيعزيه فعله السلف.
"ويقول في تعزية المسلم بالمسلم أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وغفر لميتك" قال المؤلف لا أعلم في التعزية شيئا محدودا إلا أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم(2/258)
وفي تعزيته عن كافر أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وفي تعزية الكافر بمسلم أحسن الله عزاءك وغفر لميتك وفي تعزيته عن كافر أخلف الله عليك ولا نقص عددك ويجوز البكاء على الميت،
---------------------------
عزى رجلا فقال "رحمك الله وآجرك" رواه أحمد وعزى رجلا فقال "آجرنا الله وإياك في هذا الرجل" وروي أنه قال "أعظم الله أجركم وأحسن عزاءكم" ويقول المعزى استجاب الله دعاءك ورحمنا وإياك نقله أحمد.
فرع: إذا قال الآخر عز عني فلانا توجه أن يقول له فلان يعزيك
"وفي تعزيته عن كافر أعظم الله أجرك وأحسن عزاءك وفي تعزية الكافر بمسلم أحسن الله عزاءك وغفر لميتك" لأن ذلك لائق بحال الميت والمصاب ويحرم تعزية كافر وعنه يجوز فيقول ما ذكره المؤلف وظاهره أنه لا يدعو لكافر حي بالأجر ولا لكافر ميت بالمغفرة "وفي تعزيته" أي الكافر "عن كافر أخلف الله عليك ولا نقص عددك" فيدعو له بما يرجع إلى طول الحياة وكثرة المال والولد لأجل الجزية وقال ابن بطة يقول أعطاك الله على مصيبتك أفضل ما أعطى أحدا من أهل دينك يقال لمن ذهب له شيء يتوقع مثله أخلف الله عليك أي رد الله عليك مثله وإن لم يتوقع حصول مثله خلف الله عليك أي كان الله خليفة منه عليك ذكره ابن فارس والجوهري.
"ويجوز البكاء على الميت" من غير كراهة لما روى أنس قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه تدمعان وقال "إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم" متفق عليه ودخل عليه السلام على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عيناه تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف وأنت يا رسول الله فقال "يا ابن عوف إنها رحمة" ثم أتبعها بأخرى فقال "إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم المحزنون" رواه البخاري.(2/259)
وأن يجعل المصاب على رأسه ثوبا يعرف به ولا يجوز الندب ولا النياحة.
-------------------------------------
وظاهرة لا فرق قبل الموت أو بعده أو بعد الدفن وأخبار النهي كقوله "فإذا وجب فلا تبكين باكية" محمولة على بكاء معه ندب أو نياحة قال المجد أو أنه كره كثرة البكاء والدوام عليه أياما ذكر الشيخ تقي الدين أنه يستحب رحمة للميت وأنه أكمل من الفرح لفرح الفضيل لما مات ابنه علي وقال عليه السلام "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء" .
"و" يجوز "أن يجعل المصاب على رأسه ثوبا يعرف به" والمراد به علامة ليعرف بها فيعزى لأنها سنة وهو وسيلة إليها فإذا لم تكن سنة بقي الجواز وقال ابن الجوزي يكره لبسه خلاف زيه المعتاد وقيل يكره تغير حاله من خلع ردائه ونعله وغلق حانوته وتعطيل معاشه وسئل أحمد يوم مات بشر عن مسألة: فقال ليس هذا يوم جواب هذا يوم حزن فدل على ما ذكرنا قال جماعة لا بأس بهجر المصاب للزينة وحسن الثياب ثلاثة أيام
"ولا يجوز الندب" وهو تعداد المحاسن نحو وارجلاه "ولا النياحة" نص عليهما وذكره في المذهب و التلخيص و الوجيز و الفروع وذكر ابن عبد البر تحرم النياحة إجماعا لقول عبد الرحمن بن عوف ولكن نهيت عن صوتين أحمقين فجرين صوت عند مصيبة وخمش وجه حديث حسن رواه الترمذي.
وقالت أم عطية أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في البيعة أن لا ننوح متفق عليه وقال أحمد في قوله تعالى
{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: من الآية12] هو النوح وقدم في الكافي وهو ظاهر الخرقي الكراهة لقول أم عطية إلا آل فلان فإنهم أسعدوا في الجاهلية فلا بد لي من أن أسعدهم فقال "إلا آل فلان"(2/260)
ولا شق الثياب ولطم الخدود وما أشبه ذلك.
----------------------------------
حديث صحيح وهو خاص بها لخبر أنس "لا إسعاد في الإسلام" رواه أحمد وعنه يكره الندب والنياحة الذي ليس فيه إلا تعداد المحاسن بصدق وعنه إباحتهما اختاره الخلال وصاحبه لأن واثلة وأبا وائل كانا يسمعان النوح ويبكيان رواه حرب لكن قال المؤلف ظاهر الأخبار التحريم وجزم المجد وابن تميم أنه لا بأس بيسير الندب إذا كان صدقا ولم يخرج مخرج النوح ولا قصد نظمه نص عليه لفعل أبي بكر وفاطمة
"ولا شق الثياب ولطم الخدود" لقوله عليه السلام "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" متفق عليه من حديث ابن مسعود "وما أشبه ذلك" كتخميش الوجه ونتف الشعر وإظهار الجزع.(2/261)
كتاب الزكاة
باب الزكاة
...
كتاب الزكاة
تجب الزكاة في أربعة أصناف من المال السائمة من بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة ولا تجب في غير ذلك.
--------------------------------
كتاب الزكاة
وهي في اللغة النماء والزيادة يقال زكا الزرع إذا نما وزاد ويطلق على المدح لقوله تعالى {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [لنجم: من الآية32] وعلى التطهير لقوله تعالى
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] أي طهرها عن الأدناس ويطلق على الصلاح يقال رجل زكي أي زائد الخير من قوم أزكياء وزكى القاضي الشهود إذا بين زيادتهم في الخير فسمي المال المخرج زكاة لأنه يزيد في المخرج منه ويقيه الآفات
وفي الشرع حق يجب في مال خاص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص وتسمى صدقة لأنها دليل لصحة إيمان مؤديها وتصديقه وهي أحد أركان الإسلام وهي واجبة بالإجماع وسنده {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: من الآية43] البقرة والأحاديث المستفيضة واختلف العلماء هل فرضت بمكة أم في المدينة وفي ذلك آيات وذكر صاحب المغني والمحرر وحفيده أنها مدنية قال في الفروع ولعل المراد طلبها وبعث السعاة لقبضها فهذا بالمدينة.
"تجب الزكاة في أربعة أصناف" واحدها صنف وفتح الصاد فيه لغة حكاه الجوهري "من المال" وهو اسم لجميع ما ملكه الإنسان وعن ثعلب أقل المال عند العرب ما يجب فيه الزكاة وقال ابن سيده العرب لا توقع المال مطلقا إلا على الإبل وربما أوقعوه على المواشي "السائمة من بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة" وسيأتي ذلك "ولا تجب في غير ذلك" لأنه الأصل فلا زكاة في(2/262)
وقال أصحابنا يجب في المتولد من الوحشي والأهلي وفي بقر الوحش روايتان ولا تجب إلا بشروط خمسة الإسلام والحرية فلا تجب على كافر.
-------------------------
الخيل والرقيق لقوله عليه السلام "ليس على المسلم في عبده وفرسه صدقة" متفق عليه ولأبي داود "ليس في الخيل والرقيق زكاة إلا زكاة الفطر" لأنه لا يطلب درها ولا يعتبر في الغالب إلا للزينة والاستعمال ولا في العقار والثياب إلا أن يكون معدا للتجارة ولا في الظباء نص عليه وعنه بلى اختاره ابن حامد لأنها تشبه الغنم.
"وقال أصحابنا" أي أكثرهم "يجب في المتولد من الوحشي والأهلي" تغلبا للوجوب واحتياطا لتحريم قتله وإيجاب الجزاء والنصوص تتناوله واختيار المؤلف أولى لأن الواجبات لا تثبت احتياطا ولأنه ينفرد باسمه وخفته فلم يتناوله النص ولا يجزئ في الهدي ولا أضحية ولا يدخل في وكالة
"وفي بقر الوحش" وغنمه بشرط "روايتان" أصحهما: الوجوب لعموم قوله عليه السلام لمعاذ "خذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا" قال القاضي وغيره ويسمى بقرا حقيقة فيدخل تحت الظاهر
وفي ندائها حرام وإحرام وجواز هدي وأضحية وجهان والثانية: لا يجب اختارها المؤلف وصححها في الشرح لأنها تفارق البقر الأهلية صورة وحكما والإيجاب من الشرع ولم يرد ولا يصح القياس لوجود الفارق وكغنم الوحش.
"ولا يجب إلا بشروط خمسة الإسلام والحرية فلا تجب على كافر" لأنه عليه السلام جعل شرطا لوجوبها متفق عليه من حديث معاذ ولأنها قربة وطاعة والكفر يضاد ذلك وطهرة والكافر لا يطهره إلا الإسلام وهو يفتقر إلى النية فلم تجب كالصوم وظاهره لا فرق بين الأصلي والمرتد أما الأصلي فلا تجب عليه زاد في الرعاية على الأشهر ولا يقضيها إذا أسلم إجماعا وأما المرتد فالمذهب عدم الوجوب فقيل مأخذه كونها عبادة ,(2/263)
ولا عبد ولا مكاتب وإن ملك السيد عبده مالا وقلنا إنه يملكه فلا زكاة فيه.
----------------------------------
وقيل لمنعه من ماله وإن قلنا يزول ملكه فلا زكاة عليه
والثانية: تجب نصره أبو المعالي وصححه الأزجي لأنها حق مالي أشبه الدين والردة لا تنافي الوجوب ولا استمراره لكنها تنافي الأداء فيأخذها الإمام منه وينوى عنه للتعذر وكسائر الحقوق الممتنع منها وإن لم يكن قربة كالحدود تستوفى ردعا وزجرا مع وجود التوبة قال أبو المعالي فإن أخذها الإمام بعد ردته ثم أسلم أجزأت في الظاهر وكذا فيما بينه وبين الله في وجه فلو ارتد بعد الوجوب أخذت من ماله مطلقا وفيه وجه
وظاهره إيجابها على الصبي والمجنون للعموم وأقوال الصحابة ولأنها مواساة وهما من أهلها كالمرأة
"ولا عبد" لأنه لا مال له فإن كان معتقا بعضه فبقدره لأنه يملك ملكا تاما أشبه الحر "ولا مكاتب" نص عليه لأنه عبد وملكه غير تام يؤيده ما روي أنه عليه السلام قال "لا زكاة في مال المكاتب" وقاله ابن عمر وجابر ولم يعرف لهما مخالف فكان كالإجماع ولأن ملكه متزلزل لأنه بعرضية أن يعجز وهو محجور عليه لنقص ملكه ولا يرث ولا يورث وهو مشغول بوفاء نجومه بخلاف المحجور عليه لنقص تصرفه والمرهون فإنه منع من التصرف فيه بعقده فلم يسقط حق الله تعالى وعنه هو كالقن وعنه يزكي بإذن سيده ولا عشر في زرعه فإن عتق أو عجز أو قبض من نجوم كتابته وفي يده نصاب استقبل به حولا وما دون نصاب فكمستفاد
"وإن ملك السيد عبده مالا وقلنا إنه يملكه" على رواية "فلا زكاة فيه" على واحد منهما قاله الأصحاب لأن سيده لا يملكه وملك العبد ضعيف لا يحتمل المواساة بدليل أنه لا يعتق عليه أقاربه إذا ملكهم ولا يجب عليه نفقة قريبه والزكاة إنما تجب بطريق المواساة وحينئذ فلا فطرة إذن في الأصح وعنه يزكيه العبد وعنه بإذن السيد ويحتمل أنه يزكيه السيد وعنه الوقف.(2/264)
وإن قلنا لا يملكه فزكاته على سيده الثالث ملك نصاب فإن نقص عنه فلا زكاة فيه إلا أن يكون نقص يسيرا كالحبة والحبتين.
--------------------------------------
"وإن قلنا لا يملكه" على رواية وهي اختيار أبي بكر والقاضي وظاهر الخرقي "فزكاته على سيده" نص عليه لأنه مالكه.
أصل: أم الولد والمدبر كالقن.
فرع: هل تجب في المال المنسوب إلى الجنين إذا انفصل: حيا اختاره ابن حمدان لحكمنا له بالملك ظاهرا حتى منعنا باقي الورثة أم لا كما هو ظاهر كلام الأكثر فإنه لا مال له فيه وجهان.
"الثالث: ملك نصاب" للنصوص ولا فرق بين بهيمة الأنعام وغيرها ولا يرد الركاز لأن شبهه بالغنيمة أكثر من الزكاة ولهذا وجب فيه الخمس "فإن نقص عنه فلا زكاة فيه" في رواية واختارها أبو بكر وهو ظاهر الخرقي وجزم به في الوجيز قال في الشرح وهو ظاهر الأخبار فينبغي أن لا يعدل عنه "إلا أن يكون نقصا يسيرا كالحبة والحبتين" فإنها تجب كذلك قاله الأكثر لأنه لا ينضبط غالبا فهو كنقص الحلول ساعة أو ساعتين وهو لا يخل بالمواساة لأن اليسير لا حكم له في أشياء كثيرة كالعمل اليسير في الصلاة وانكشاف العورة والعفو عن يسير الدم فكذا هنا
وظاهره: أنه إذا كان نقصا بينا كالدانق والدانقين أنها لا تجب في رواية وصححها في المذهب وذكرها في الشرح عن الأصحاب وعنه إن جازت جواز الوازنة وجبت ولعل المراد المضروبة وهو الظاهر قاله في الفروع ولأنها تقوم مقام الوازنة وذكر جماعة إذا نقص النصاب ثلاثة دراهم أو ثلث مثقال فلا زكاة في أصح الروايتين وقيل الدانق والدانقان لا يمنع في الفضة بخلاف الذهب قال أبو المعالي وهذا أوجه وقيل النقص اليسير لا يؤثر في آخر الحول بل في أوله ووسطه.
وظاهره: أن نصاب الباقي تحديد وهو كذلك في بهيمة الأنعام وكذا في الزرع والثمرة كما سيأتي.(2/265)
وتجب فيما زاد على النصاب بالحساب إلا السائمة الرابع تمام الملك فلا زكاة في دين الكتابة ولا في السائمة الموقوفة.
---------------------------
"وتجب فيما زاد على النصاب بالحساب" أما زيادة الحب فيجب فيها بالحساب اتفاقا وكذا زيادة النقدين لقوله عليه السلام "هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهما وليس عليكم شيء حتى تتم مائتين فتجب فيها خمسة دراهم فما زاد فبحساب ذلك" رواه الأثرم والدارقطني وروي عن علي وابن عمر ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة ولأنه مال من الأرض يتجزأ ويتبعض من غير ضرر أشبه الأربعين وظاهره أنه يجب ولو لم يبلغ نقد أربعين درهما أو أربعة دنانير.
"إلا السائمة" فلا زكاة في وقصها لما روى أبو عبيد في غريبه مرفوعا أنه قال "ليس في الأوقاص صدقة" وقال الوقص ما بين النصابين وفي حديث معاذ أنه قيل له أمرت في الأوقاص بشيء قال لا وسأسأل رسوله الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال "لا" رواه الدارقطني ولما فيه من ضرر وعدم التشقيص وقيل يجب اختاره الشيرازي فعليه لو تلف بعير من تسع أو ملكه قبل التمكن إن اعتبرنا سقط تسع شاة ولو تلف منها ستة زكى الباقي ثلث شاه ولو كانت مغصوبة فأخذ منها بعيرا بعد الحول زكاه بتسع شاة.
"الرابع: تمام الملك" لأن الملك الناقص ليس نعمة كاملة وهي إنما تجب في مقابلتها إذ الملك التام عبارة عما كان بيده لم يتعلق فيه حق غيره يتصرف فيه على حسب اختياره وفوائده حاصلة له قاله أبو المعالي
"فلا زكاة في دين الكتابة" وفاقا لعدم استقراره لأنه يملك تعجيز نفسه ويمتنع من الأداء ولهذا لا يصح ضمانها وفيه رواية فدل على الخلاف هنا
"ولا في السائمة الموقوفة" على معين قال في التلخيص الأشبه أنه لا زكاة وجزم به في الكافي لنقصه والثاني: يجب وهو المنصوص للعموم وكسائر أملاكه وبنى بعض أصحابنا الخلاف على الملك الموقوف.(2/266)
ولا في حصة المضارب ومن الربح قبل القسمة على أحد الوجهين فيهما ومن كان له دين على مليء.
------------------------------
عليه وعلى الوجوب لا يخرج منها لأن الوقف لا يجوز نقل الملك فيه وأما الوقف على غير معين كالمساكين والمساجد ونحوها فلا زكاة فيه قولا واحدا.
تنبيه: إذا وقف على معين أرضا أو شجرا فحصل له من غلته نصاب وجبت الزكاة نص عليه لأن الزرع والثمر ليس وقفا بدليل بيعه وقال أبو الفرج لا عشر فيها إن كان فقيرا وجزم به الحلواني وإن حصل لأهل الوقف خمسة أوسق خرج على الروايتين في تأثير الخلطة في غير السائمة
"ولا في حصة المضارب ومن الربح قبل القسمة على أحد الوجهين" هذا ظاهر المذهب واختاره أبو بكر والقاضي والمؤلف إما لعدم الملك أو لنقصانه لأنه وقاية كرأس المال ولا ينعقد الحول إلا باستقرار ملكه نص عليه والثاني: الوجوب وينعقد حوله بظهور الربح اختاره أبو الخطاب وقدمه في المستوعب و الرعاية لأنه ملكه فيجب كسائر أملاكه فعلى هذا لا يجوز أن يخرج من المضاربة بدون إذن رب المال في الأصح
والثاني: يجوز لأنهما دخلا على حكم الإسلام ومن حكم وجوب الزكاة وإخراجها من المال وعلى قولنا لا يملك العامل الربح بظهوره فلا يلزم رب المال زكاة حصة العامل في الأصح وإن كان حق العامل دون نصاب انبنى على الخلطة في غير السائمة وظاهره وجوبها على رب المال فيزكي حقه من الربح مع الأصل عند حوله نص عليه أمانة أو من غيره لأنه يملك حقه من الربح بظهور في الأظهر فإن أخرج شيئا من المال جعل من الربح ذكره في المغني وقدمه في الرعاية لأنه وقاية لرأس المال وفي الكافي يجعل من رأس المال نص عليه لأنه واجب كديته وقال القاضي يجعل منهما بالحصص فينقص ربع عشر رأس المال وقيل إن قلنا الزكاة في الذمة فمنهما وإن قلنا في العين فمن الربح.
"فيهما" أي في الصورتين المذكورتين "ومن كان له دين على مليء" باذل(2/267)
من صداق أو غيره زكاه إذا قبضه لما مضى. وفي الدين على غير المليء والمؤجل والمجحود والمغصوب والضائع ، روايتان : إحداهما: كالدين على المليء.
---------------------------------------
أو غيره "من صداق زكاه إذا قبضه لما مضى" روي عن علي وقاله أبو ثور لأنه يقدر على قبضه والانتفاع به أشبه سائر ماله وللعموم ولأنه ليس من المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه ولا فرق بين أن يقصد ببقائه عليه الفرار من الزكاة أم لا وعنه يجب إخراجها في الحال قبل قبضه كالوديعة وعنه لسنة واحدة وقاله ابن المسيب وعطاء بناء على أنه يعتبر لوجوبها إمكان الأداء ولم يوجد فيما مضى وعنه لا زكاة في دين بحال روي عن عائشة لأنه غير نام والأول المذهب لما روى أحمد عن علي وابن عمر وعائشة لا زكاة في الدين حتى يقبض ذكره أبو بكر بإسناده ولم يعرف لهم مخالف.
فرع: لو قبض دون نصاب زكاة نص عليه خلافا للقاضي وابن عقيل وكذا لو كان بيده دون نصاب وباقيه دين أو غصب أو ضال والحوالة به والإبراء كالقبض.
"وفي الدين على غير المليء" وهو المعسر "والمؤجل والمجحود" الذي لا بينة به "والمغصوب والضائع" إذا عاد إليه "روايتان" وكذا أطلقها في المحرر "إحداهما" هو "كالدين على المليء" اختارها الأكثر وذكرها جماعة ظاهر المذهب وجزم به في الوجيز لصحة الحوالة به والإبرار فيزكي ذلك إذا قبضه لما مضى من السنين رواه أبو عبيد عن علي وابن عباس للعموم وكسائر ماله وقال الشيرازي إذا قلنا يجب في الدين وقبضه فهل يزكيه لما مضى على روايتين ويتوجه ذلك في بقية الصور وقيد في المستوعب المجحود ظاهرا وباطنا وقال أبو المعالي ظاهرا وقال غيرهما ظاهرا أو باطنا أو هما وإن كان به بينة فوجهان.
فرع: حكم مسروق ومدفون ومنسي وموروث جهله أو جهل عند من هو كذلك.(2/268)
والثانية: لا زكاة فيه قال الخرقي : واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها.
---------------------------------------
"والثانية لا زكاة فيه" صححها في التلخيص وغيره ورجحها جماعة واختارها ابن شهاب والشيخ تقي الدين روي عن عثمان وابن عمر لأنه غير نام وهو خارج عن يده وتصرفه أشبه الحلي ودين الكتابة ولأن الزكاة وجبت في المقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة وهو مفقود هنا
وفي ثالثة: إن كان لا يؤمل رجوعه كالمسروق والمغصوب فلا زكاة فيه وما يؤمل رجوعه كالدين على المفلس والغائب المنقطع خبره فيه الزكاة قال الشيخ تقي الدين وهذا أقرب إن شاء الله تعالى
وفي رابعة: إن كان من عليه الدين يؤدي زكاته فلا شيء على ربه وإلا وجبت نص عليه في المجحود حذارا من وجوب زكاتين في مال واحد.
"قال الخرقي واللقطة إذا جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها" هذا من صور المال الضائع ذكرها لتأكيد وجوب الزكاة وهو المذهب ولذلك ذكرها بغير واو وفيه إشارة أن الملتقط يملكها بعد حول التعريف إذ لو لم يملكها لوجب على مالكها زكاتها لجميع الأحوال على المذهب وحينئذ إذا ملكها الملتقط استقبل بها حولا وزكى نص عليه لأنه ملكها تاما فوجبت كسائر ماله وكون المالك له انتزاعها إذا عرفها كمال وهبه لابنه وقيل لا يلزمه لأنه مدين بها وعلى الأول لا زكاة على ربها إذا زكاها الملتقط على الأصح وإن أخرج الملتقط زكاتها عليه منها ثم أخذها ربها رجع عليه بما أخرج في الأشهر.
مسائل: يجزئ الصداق وعوض الخلع والأجرة قبل القبض وإن لم يستوف المنفعة في حول الزكاة نص عليه لأن الملك جميعه مستقر وتعريضه للزوال لا تأثير له وهو ظاهر إجماع الصحابة وعنه حتى يقبض ذلك وعنه لا زكاة في صداق قبل الدخول حتى يقبض فيثبت الانعقاد والوجوب قبل الدخول وحكاه المجد إجماعا مع احتمال الانفساخ وعنه:(2/269)
ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب.
-----------------------------------------------
يملك نصفه قبل الدخول قال في الفروع وكذا الخلاف في اعتبار القبض في كل دين لا في مقابلة مال أو مال غير زكوي عند الكل كموصى به وموروث وعن مسكن وعنه لا حول لأجرة اختاره الشيخ تقي الدين كالمعدن وقيده بعضهم بأجرة العقار وإن سقط قبل القبض لانفساخ النكاح من جهتها فلا زكاة عليها في الأشهر وإن زكت صداقها ثم تنصف بطلاقه رجع الزوج فيما بقي بجميع حقه ذكره جماعة وإن لم تكن زكته قبل الطلاق فليس لها أن تخرج بعده فإن فعلت لم يجزئها لأنه صار مشتركا وإن زكته من غيره رجع بنصفه كاملا
ولا زكاة في الفيء والخمس ولو عزلها الإمام منهما ولا في الغنيمة والحرب قائمة ولا في الذمة على العاقلة وتجب في مبيع قبل القبض جزم به جماعة فيزكيه المشتري مطلقا وكذا مبيع بشرط الخيار أو خيار المجلس فيزكيه من حكم له بملكه ولو فسخ العقد ودين السلم إن كان للتجارة ولم يكن أثمانا وعن المبيع ورأس مال السلم قبل عوضهما ولو انفسخ العقد ويجب في مال الابن وإن كان معرضا لتملك الأب ورجوعه ويجب في وديعة ومرهون في الأصح ولا يجب في مال حجر عليه القاضي للغرماء كالمغصوب تشبيها للمنع الشرعي بالمنع الحسي فإن حجر عليه بعد وجوبها لم يسقط وقيل بل إن كان قبل تمكنه من الإخراج وله إخراجها منه في وجه ولا يقبل إقراره بها وعنه بلا كما لو صدقه الغريم
"ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب" أي يمنع الدين وإن لم يكن من جنس المال وجوب الزكاة في قدره من الأموال الباطنة رواية واحدة لقول عثمان هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه وليزك ما بقي رواه سعيد وأبو عبيد واحتج به أحمد والأموال الباطنة هي الأثمان وعروض التجارة ذكره الشيخان والسامري وفي المعدن وجهان وجزم الشيرازي بأنها الأثمان فقط وعنه لا يمنع لمن لا دين عليه وعلى الأول لا فرق بين الحال والمؤجل ,(2/270)
إلا في المواشي والحبوب في إحدى الروايتين.
-------------------------------------
ذكره السامري قال ولم يفرق أصحابنا وجزم في الإرشاد وغيره بأن مانعها الدين الحال خاصة وهو رواية
ويستثنى من كلامه إلا دينا بسبب ضمان أو مؤونة حصاد ودياس ولا يمنع الدين خمس الركاز ويمنع الخراج نص عليه وكذا دين المضمون عنه لا الضامن خلافا لما ذكره أبو المعالي كنصاب غصب من غاصبه وأتلفه فإن المنع يختص بالثاني مع أن للمالك طلب كل منهما ولو استأجر لرعي غنمه بشاة موصوفة صح وهي كالدين في منعها الزكاة.
فرع: إذا كان عليه دين وله دين مثله جعل الدين في مقابلة ما في يده نص عليه وفيه وجه في مقابلة دينه إن كان على مليء
"إلا في المواشي والحبوب" والثمار وتسمى الأموال الظاهرة "في إحدى الروايتين" فإنه لا يمنع لأنه عليه السلام كان يبعث سعاته فيأخذون الزكاة مما وجدوا من المال الظاهر سؤال عن دين صاحبه بخلاف الباطنة وكذا الخلفاء بعده ولأن تعلق الأطماع من الفقراء بها أكثر والحاجة إلى حفظها أوفر بخلاف الباطنة والثانية يمنع اختارها القاضي وأصحابه وجمع وهي الأصح لأن توجه المطالبة أظهر وإلزام الحاكم بالأداء منها آكد وأشد وفي ماله يمنع ما استدانه للنفقة على ذلك دون ما استدانه للنقفة على نفسه وأهله لأنه في الأول من مصالح الزرع فهو كالخراج بخلاف الثاني.
ورده بعضهم لكونهم لا تخرج عن الأولتين لأن ما هو من مصالح الزرع فله إخراجه منه على كلتا الروايتين فإذا لم يخرجه أولا أخرجناه ثانية لأن الزكاة إنما تجب فيما بقي بعده وفي رابعة يمنع ما استدانه للنفقة على زرعه وثمره أو كان من ثمنه خاصة خلا الماشية وهو ظاهر الخرقي قال أحمد اختلف ابن عمر وابن عباس وقال ابن عباس يخرج ما استدانه على ثمرته ويزكي ما بقي وإليه أذهب لأن المصدق إذا جاء فوجد إبلا أو بقرا أو غنما لم يسال أي شيء(2/271)
والكفارة كالدين في أحد الوجهين الخامس مضي الحول شرط.
------------------------------------------------
على صاحبها وليس المال هكذا.
"والكفارة كالدين في أحد الوجهين" وهذا رواية وصححها صاحب المحرر والرعاية وجزم به ابن البنا في خلافه في الكفارة والخراج ولأن ذلك يجب قضاؤه أشبه دين الآدمي ولقوله عليه السلام "دين الله أحق بالقضاء" وكذا حكم نذر مطلق وزكاة ودين حج وغيرها والثاني لا يمنع وهو رواية وفي المحرر الخراج من دين الله لأن حقوق الله مبناها على المساهلة ولا مطالب بها معين وعلى ما ذكره فيه نظر فإن المطالب به الإمام الذي لا يمكن دفعه ولا مماطلته فهو أشد من دين غيره.
تنبيه: إذا نذر الصدقة بمال بعينه فحال الحول فلا زكاة لزوال أو نقصه وقال ابن حامد تجب وفي الرعاية إذا نذر التضحية بنصاب معين فلا زكاة ويحتمل وجوبها إذا تم حوله قبلها وإن قال لله علي الصدقة بهذا النصاب إذا حال الحول فقيل لا زكاة وقيل بلى فتجزئه الزكاة منه في الأصح ويبرأ بقدرها من الزكاة والنذر إن نواهما معا لكون الزكاة صدقة وكذا لو نذر الصدقة ببعض النصاب هل يخرجهما أو يدخل النذر في الزكاة وينويهما ذكره في الفروع.
"الخامس: مضي الحول شرط" لقول عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" رواه ابن ماجه من رواية حارثه بن محمد وقد ضعفه جماعة وقال النسائي متروك وروى الترمذي معناه من حديث ابن عمر من رواية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقد تكلم فيه غير واحد قال الخطابي أراد به المال النامي كالمواشي والنقود لأن نماءها لا يظهر إلا بمضي الحول عليها وإذا ثبت فيهما ثبت في عروض التجارة لأن الزكاة في قيمتها ولأنها لا تجب إلا في ملك تام فاعتبر له الحول رفقا بالمالك وليتكامل النماء فيتساوى فيه
وظاهره: لا بد من تمام الحول والأشهر أنه يعفى عن ساعتين وكذا نصف(2/272)
إلا في الخارج من الأرض فإذا استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يتم عليه الحول إلا نتاج السائمة وربح التجارة فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصابا وإن لم يكن نصابا فحوله من حين كمل النصاب.
---------------------------------------
يوم وفي المحرر وقاله جماعة لا يؤثر نقصه دون اليوم لأنه لا يضبط غالبا ولا يسمى في العرف نقصا ولا يعتبر طرفا الحول خاصة ولنا وجه
"إلا في الخارج من الأرض" لقوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141] وذلك ينفي اعتباره في الثمار والحبوب وأما المعدن والركاز فبالقياس عليهما
"فإذا استفاد مالا" بإرث أو هبة ونحوها "فلا زكاة فيه حتى يتم عليه الحول" لقوله عليه السلام "ليس في المستفاد زكاة حتى يحول عليه الحول" رواه الترمذي وقال روي موقوفا على ابن عمر وهو أصح ولأنه مال ملكه بسبب منفرد فاعتبر له الحول أشبه ما لو استفاده ولا مال له غيره وظاهره لا فرق بين أن يكون من جنس ما عنده كمن استفاد إبلا وعنده إبل أو من غير جنسه
"إلا نتاج السائمة وربح التجارة فإن حولهما حول أصلهما" أي يجب ضمهما إلى ما عنده من أصله "إن كان نصابا" في قول الجمهور ولقول عمر اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم رواه مالك ولقول علي عد عليهم الصغار والكبار ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة ولأن السائمة يختلف وقت ولادتها فإفراد كل واحدة يشق فجعلت تبعا لأماتها ولأنها تابعة لها في الملك فيتبعها في الحول فلو ماتت واحدة من الأمَّات فنتجت سخلة انقطع بخلاف ما لونتجت ثم ماتت وربح التجارة كذلك معنى فوجب أن يكون مثله حكما.
"وإن لم يكن" الأصل "نصابا فحوله من حين كمل النصاب" لأنه حينئذ تتحقق فيه التبعية كما وجبت فيه الزكاة وقد علم أنه قبل ذلك لا تحب فيه الزكاة لنقصانه عن النصاب ونقل حنبل حول الكل منذ ملك الأمات(2/273)
وإن ملك نصابا صغارا انعقد عليه الحول حين ملك وعنه لا ينعقد حتى يبلغ سنا يجزئ مثله في الزكاة ومتى نقص النصاب في بعض الحول أو باعه أو أبدله بغير جنسه.
----------------------------
لنماء النصاب وفيه شيء.
تنبيه: إذا نض الربح قبل الحول لم يستأنف له حولا ولا يبني الوارث على حول الموروث نقله الميموني عن أحمد ويضم المستفاد إلى نصاب بيده من جنسه أو ما في حكمه ويزكي كل واحد إذا تم حوله وقيل يعتبر النصاب في مستفاد
"وإن ملك نصابا صغارا انعقد عليه الحول حين ملك" هذا هو المذهب لعموم قوله "في أربعين شاة شاة" لأنها تقع على الكبير والصغير ولقول أبي بكر لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها وهي لا تجب في الكبار لكن لو تغذت باللبن فقط فقيل يجب لوجوبها فيها للأمات كما يتبعها في الحول وقيل لا لعدم السوم اختاره المجد
"وعنه لا ينعقد حتى يبلغ سنا يجزئ مثله في الزكاة" لقول مصدق النبي صلى الله عليه وسلم أمرني ألا آخذ من راضع شيئا إنما حقنا في الثنية والجدعة وعليها إذا ماتت الأمات كلها إلا واحدة لم ينقطع الحول بخلاف ما إذا ماتت كلها قاله في الشرح وذكر القاضي في شرحه الصغير أنها تجب في الحقاق وفي بنات المخاض واللبون وجهان بناء على السخال "ومتى نقص النصاب في بعض الحول" انقطع لأن وجود النصاب في جميع الحول شرط للوجوب وظاهره عدم العفو عنه مطلقا لكن اليسير معفو عنه كالحبة والحبتين ولا فرق في النقص بين أن يكون في وسط الحول أو طرفه وظاهر كلام القاضي وغيره أن اليسير من وسط الحول مؤثر وظاهر الخبر يقتضي التأثير مطلقا قال في الشرح وهو أولى إن شاء الله تعالى
"أو باعه" ولو بيع خيار على المذهب "أو أبدله بغير جنسه" كمن أبدل أربعين(2/274)
انقطع الحول إلا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة عند قرب وجوبها فلا تسقط.
-----------------------------------
من الغنم بعشرين دينارا أو مائتي درهم بثلاثين من البقر "انقطع الحول" لما تقدم ويستأنف حولا لكن لا ينقطع بموت الأمات والنصاب تام النتاج ولا بيع فاسد وظاهره أنه ينقطع إذا أبدل ذهبا بفضة وبالعكس وهو رواية مخرجة من عدم الضم وإخراجه عنه لأنهما جنسان والمذهب لا ينقطع لأنهما كالجنس الواحد فإن لم ينقطع أخرج مما معه عند وجوب الزكاة وذكر القاضي أنه يخرج مما ملكه أكثر الحول قال ابن تميم ونص أحمد على مثله وذكر القاضي وأصحابه والشيخان إذا اشترى عرضا لتجارة بنقد أو باعها به أنه يبنى على حول الأول لأن الزكاة تجب في أثمان العروض وهي من جنس النقد وفاقا وفي عطفه الإبدال على البيع دليل على أنهما غيران وقال أبو المعالي المبادلة هل هي بيع فيه رويتان ثم ذكر نصه بجواز إبدال المصحف لا بيعه وقول أحمد المعاطاة بيع والمبادلة معاطاة وبعض أصحابنا عبر بالبيع وبعض بالإبدال ودليلهم يقتضي التسوية.
فرع: لا ينقطع الحول في أموال الصيارفة لئلا يفضي إلى سقوطها فيما ينمو ووجوبها في غيره والأخرى يقتضي العكس.
"إلا أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة عند قرب وجوبها فلا تسقط" ويحرم لقوله تعالى {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: من الآية17] فعاقبهم تعالى بذلك لفرارهم من الزكاة لأنه قصد به إسقاط حق غيره فلم يسقط كالمطلق في مرض موته وشرط المؤلف وجماعة أن يكون ذلك عند قرب وجوبها لأنه مظنة قصد الفرار ما لو كان في أول الحول أو وسطه لأنها بعيدة أو منتفية وفي الرعاية قبل الحول بيومين وقيل أو بشهرين لا أزيد والمذهب أنه إذا فعل ذلك فرارا منها أنها لا تسقط مطلقا أطلقه أحمد وحكم الإتلاف كذلك وحينئذ يزكي من جنس المبيع لذلك الحول.
وفي "مفردات أبي يعلى الصغي"ر عن بعض أصحابنا يسقط بالتحيل وهو(2/275)
وإن أبدله بنصاب من جنسه بنى على حوله ويتخرج أن ينقطع وإذا تم الحول وجبت الزكاة في عين المال وعنه تجب في الذمة ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء.
---------------------------------
قول أكثرهم كما بعد الحول الأول لعدم تحقق التحيل فيه.
فرع: إذا ادعى عدم الفرار وثم قرينة عمل بها وإلا فالقول قوله في الأشهر.
"وإن أبدله بنصاب من جنسه بنى على حوله" نص عليه لأنه لم يزل مالكا لنصاب في جميع الحول نص عليه فوجبت الزكاة لوجود شرطها وإن زاد بالاستبدال يتبع الأصل في الحول نص عليه كنتاج فلو أبدل مائة شاة بمائتين لزمه شاتان إذا حال حول المائة وقال أبو المعالي يستأنف لزائد حولا وهو ظاهر ومقتضاه أنه أبدله بدون نصاب أنه ينقطع وهو كذلك "ويتخرج أن ينقطع" ذكره أبو الخطاب لأن كل واحد منهما لم يحل عليه الحول وكالحقين وكرجوعه إليه بعيب أو فسخ.
"وإذا تم الحول وجبت الزكاة في عين المال" نقله واختاره الأكثر قال الجمهور هو ظاهر المذهب وجزم به في الوجيز لقوله عليه السلام "في أربعين شاة شاة" و "فيما سقت السماء العشر" وغيرها من الألفاظ الواردة بلفظ "في" المقتضية للظرفية وإنما جاز الإخراج من غير رخصة "عنه: يجب في الذمة" اختاره الخرقي وأبو الخطاب قال ابن عقيل هو الأشبه بمذهبنا لأنه يجوز إخراجها من غير النصاب أشبه صدقة الفطر ولو وجبت فيه لامتنع تصرف المالك فيه بغير إذن الفقير ولتمكنه من أدائها من غير المال ولسقطت بتلفه من غير تفريط لسقوط أرش الجناية بتلف الجاني.
"ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء" كخبر اشتراط الحول فإنه يدل على الوجوب بعد الحول مطلقا ولأنها حق الفقير فلم يعتبر فيها إمكان الأداء كدين الآدمي ولأنه لو اشترط لم ينعقد الحول الثاني حتى يمكن من الأداء ,(2/276)
ولا تسقط بتلف المال وعنه أنها تسقط إذا لم يفرط وإذا مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاتهما فعليه زكاة واحدة إن.
----------------------------------
وليس كذلك بل ينعقد عقب الأول إجماعا واحتج القاضي بأن للساعي المطالبة ولا يكون إلا لحق سبق وجوبه كالصوم فإنه يقضيه المريض بخلاف الإطعام عنه على الأصح لأن في الكفارة والفدية معنى العقوبة وعنه ويعتبر لأنها عبادة فاشترط لوجوبها إمكان كسائر العبادات وعنه يعتبر في غير المال الظاهر والأول هو المجزوم به وقياسهم ينقلب فيقال عبادة فلا يشترط لوجوبها إمكان الأداء كسائر العبادات فإن الصوم يجب على المريض والحائض والعاجز عن أدائه وعليه لو أتلف النصاب بعد الحول قبل التمكن من الأداء ضمنها وعلى الثانية لا وجزم في الكافي ونهاية أبي المعالي بالضمان.
"ولا يسقط بتلف المال" لأنها عين يلزمه مؤنة تسليمها إلى مستحقها يضمنها بتلفها في يده كعارية وغصب وظاهره ولو فرط لأنها حق آدمي أو مشتملة عليه فلا تسقط بعد وجوبها لدين آدمي ويستثني منه المعشرات إذا تلفت بآفة قبل الإحراز وفي المحرر قبل قطعها لأنها من ضمان البائع بدليل الجائحة إذ استقراره منوط بالوضع في الجرين وزكاة الدين بعدم تلفه بيده
"وعنه أنها تسقط إذا لم يفرط" قال المؤلف وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأنها تجب على سبيل المواساة فلا يجب على وجه يجب أداؤها مع عدم المال وفقر من تجب عليه ولأنها حق يتعلق بالعين فيسقط بتلفها من غير تفريط كالوديعة وجزم بعضهم إن علقت بالذمة لم يسقط وإلا فالخلاف وقال المجد على الرواية الثانية يسقط في الأموال الظاهرة دون الباطنة نص عليه وقال أبو حفص العكبري روى أبو عبد الله النيسابوري الفرق بين الماشية والمال والعمل على ما روى الجماعة أنها كالمال ذكره القاضي وغيره.
"وإذا مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاتها فعليه زكاة واحدة إن(2/277)
قلنا تجب في العين وزكاتان إن قلنا تجب في الذمة إلا ما كانت زكاته الغنم من الإبل ، فإن عليه لكل حول زكاة وإن كان أكثر من نصاب فعليه زكاة لكل حول إن قلنا تجب في الذمة.
----------------------------------------
قلنا تجب في العين" ولو تعدى بالتأخير لأن المال يصير ناقصا لتعليق حق الفقراء بجزء منه فلا تجب فيه للحول الثاني لنقصانه وتصير زكاة الحول الأول باقية
"وزكاتان إن قلنا تجب في الذمة" أطلقه أحمد وبعض الأصحاب لأن المال نصاب كامل من كل حول فلم يؤثر في تنقيص النصاب قال ابن عقيل ولو قلنا إن الدين يمنع لم يسقط هنا لأن الشيء لا يسقط نفسه وقد يسقط غيره
واختار جماعة منهم صاحب المستوعب والمحرر إن سقطت الزكاة بدين الله وليس له سوى النصاب فلا زكاة للحول الثاني لأجل الدين لا للتعلق بالعين زاد صاحب المستوعب متى قلنا يمنع الدين فلا زكاة للعام الثاني تعلقت بالعين أو الذمة وإن أحمد حيث لم يوجب زكاة الحول الثاني فإنه بناء على رواية منع الدين لأن زكاة العام الأول صارت دينا على رب المال والعكس بالعكس فعلى المذهب في مائتين وواحدة من الغنم خمس ثلاث للأول واثنتان للثاني وعلى الثاني ست لحولين
"إلا ما كانت زكاته الغنم من الإبل فإن عليه لكل حول زكاة" نص عليه في رواية الأثرم أن الواجب فيه من الذمة وإن الزكاة تتكرر لأن الواجب من غير الجنس أي ليس بجزء من النصاب وبه يفرق بينه وبين الواجب من الجنس وظاهر كلام أبي الخطاب واختاره السامري والمحرر أنه كالواجب من الجنس لأن تعلق الزكاة كتعلق الأرش بالجاني فعلى ما ذكره لو لم يكن سوى خمس من الإبل ففي امتناع زكاة الحول الثاني لكونها دينا ما سبق من الخلاف.
"وإن كان أكثر من نصاب فعليه زكاة جميعه لكل حول إن قلنا تجب في الذمة" لأن الزكاة لما وجبت في الذمة لم تتعلق بشيء من المال فوجب إخراجها(2/278)
وإن قلنا تجب في العين نقص عليه من زكاته في كل حول بقدر نقصه بها وإذا مات من عليه الزكاة أخذت من تركته فإن كان عليه دين اقتسموا بالحصص.
---------------------------------
لكل حول ما لم تفن الزكاة المال
"وإن قلنا تجب في العين يسقط من زكاة كل حول بقدر نقصه بها" لأنها لما وجبت في العين نقص من المال مقدار الزكاة لتعلقها به فوجب أن لا تجب فيه زكاة لكونه مستحقا للفقراء فوجب أن ينقص من الجميع مقدار زكاة النقص الذي تعلقت به الزكاة.
فعلى الأول لو كان له أربعمائة درهم وجب فيها لحولين عشرون وعلى الثاني تسعة عشر درهما ونصف درهم وربعه لأنه تعلق قدر الواجب في الحول الأول بالمال من الحول الثاني فينقص عشرة فيبقى ثلاثمائة وتسعون درهما وقوله "سقط من زكاة كل حول" لا يشمل الحول الأول لأنه بلا حول لم يكن قبله شيء وجب حتى ينقص بقدره على التعلق بالعين "وإذا مات من عليه الزكاة أخذت من تركته" نص عليه لقوله عليه السلام "دين الله أحق بالقضاء" ولأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كدين الآدمي وظاهره ولو لم يوص بها كالعشر ونقل إسحاق بن هانئ في حج لم يوص به وزكاة وكفارة من الثلث ونقل عنه أيضا من رأس المال سوى النص السابق
"فإن كان عليه دين" ولم يف بالكل "اقتسموا بالحصص" نص عليه كديون الآدميين إذا ضاق عنها المال وعنه يبدأ بالدين وذكره بعضهم قولا لتقديمه بالرهينة ولأن حقه مبني على الشح بخلاف حق الله وأجاب ابن المنجا بأنها حق آدمي أو مشتملة على حقه وقيل يقدم الزكاة إن علقت بالعين اختاره في المجرد والمستوعب
قال صاحب المحرر لبقاء المال الزكوي فجعله أصلا ولو علقت بالذمة لأن تعلقها بالعين قهري فيقدم على مرتهن وغريم مفلس كأرش جناية وإن(2/279)
----------------------------------
تعلقت بالذمة فهذا التعلق بسبب المال فيزداد وينقص ويختلف بحسبه وعنه تقدم الزكاة على الحج لأن قدر الواجب منها مستقر ويقدم النذر بمعين عليها وعلى الدين.(2/280)
باب زكاة بهيمة الأنعام
ولا تجب إلا في السائمة منها وهي التي ترعى في أكثر الحول.
----------------------------------
باب زكاة بهيمة الأنعام
بدأ به اقتداء بكتاب الصديق الذي كتبه لأنس رضي الله عنهما أخرجه البخاري بطوله مفرقا سميت بهيمة لأنها لا تتحكم والأنعام في الإبل والبقر والغنم وقال عياض النعم هي خاصة فإذا قيل الأنعام دخل فيه البقر والغنم.
"ولا تجب إلا في السائمة منها" السائمة الراعية وقد سامت تسوم سوما إذا رعت وأسمتها إذا رعيتها ومنه قوله تعالى {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: من الآية10] وقوله عليه السلام "في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون وفي سائمة الغنم أربعين شاة" فذكره السوم يدل على نفي الوجوب في غيرها لأنها تراد للنسل والدر بخلاف العلوفة والعوامل وقيل يجب في العوامل كالإبل التي تكرى قال في الفروع وهو أظهر ونص أحمد على عدم الوجوب وقيل وتجب في معلوفة كمتولد بين سائمة ومعلوفة
"وهي التي ترعى" المباح فلو اشترى لها ما ترعاه أو جمع لها ما تأكل فلا زكاة واختلف الأصحاب هل السوم شرط أو عدمه مانع فلا يصح التعجيل قبل الشروع فيه على الأول دون الثاني "أكثر الحول" نص عليه لأن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير من الإحكام ولأنه لو اعتبر في جميع الحول لا متنع وجوب الزكاة أصلا وقيل يعتبر كله زاد بعضهم ولا أثر لعلف يوم أو يومين.
ولا يعتبر للسوم والعلف نية في وجه فلو سامت بنفسها أو أسامها غاصب ,(2/280)
وهي ثلاثة أنواع أحدها: الإبل ولا زكاة فيها حتى تبلغ خمسا فتجب فيها شاة فإن أخرج بعيرا لم يجزئه.
---------------------------------------
وجبت كغصبه حبا وزرعه في أرض مالكه فيه العشر على ربه كنباته بلا زرع وإن اعتلفت بنفسها أو علفها غاصب فلا زكاة لفقدان الشرط وفي آخر يعتبر فتنعكس الأحكام وقيل تجب إذا علفها غاصب اختاره جماعة فقيل لتحريم فعله وقيل لانتفاء المؤنة عن ربها وقيل يجب إن أسامها لتحقق الشرط كما لو كمل النصاب بيد الغاصب.
"وهي ثلاثة أنواع أحدها الإبل" بدأ بها لبداءة الشارع حين فرض زكاة الأنعام ولأنها أهم لكونها أعظم النعم قيمة وأجساما وأكثر أموال العرب ووجوب الزكاة فيها مما أجمع عليه علماء الإسلام
"ولا زكاة فيها حتى تبلغ خمسا" وهي أقل نصابها لقوله عليه السلام "من لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة"
"فتجب فيها شاة" إجماعا لقوله عليه السلام "إذا بلغت خمسا ففيها شاة" رواه البخاري وقال أبو بكر يجزئه عشرة دراهم لأنها بدل شاة الجبران وجعله في الشرحين إذا عدم الشاة وذكر بعضهم لا يجزئه مع وجود الشاة في ملكه وإلا فوجهان وتعتبر الشاة بصفة الإبل ففي كرام سمينة كريمة سمينة والعكس بالعكس وإن كانت بديل معيبة فقيل الشاة كشاة الصحاح لأن الواجب من غير الجنس كشاة الفدية والأضحية وقيل بل صحتها بقدر المال ينقص قيمتها بقدر نقص الإبل كشاة الغنم وقيل شاة تجزيء في الأضحية من غير نظر إلى القيمة قال في الشرح وبكل حال لا يخرج مريضة وكذا شاة الجبران ولا يعتبر كونها من جنس غنمه ولا جنس غنم البلد ولا يجزئ الذكر وقيل بلا لإطلاقها.
"فإن أخرج بعيرا لم يجزئه" نص عليه لأنه عدل عن المنصوص عليه فلم تجزئه كما لو أخرج بقرة وكنصفي شاتين في الأصح وسواء كانت قيمته أكثر(2/281)
وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض وهي التي لها سنة فإن عدمها أجزأه ابن لبون.
----------------------------------
من قيمة الشاة أولا وإنما أجزأت بنت لبون عن بنت مخاض لأنه مخرج للواجب وزيادة من جنس الواجب بخلاف البعير وقيل يجزئ إن كانت قيمته قيمة شاة وسط فأكثر بناء على إخراج القيمة وقيل يجزئ إن أجزأ عن خمس وعشرين
"وفي العشر شاتان وفي خمس ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه" هذا كله مجمع عليه وثابت بسنة رسول الله لقوله في حديث أبي بكر "في أربع وعشرين من الإبل فما دونها في كل خمس شاة"
"فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض" لا نعلم فيه خلافا إلا ما يحكى عن علي لقوله عليه السلام "فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض"
"وهي التي لها سنة"ودخلت في الثانية سميت بذلك لأن أمها قد حملت غالبا والمخاض الحائل وليس بشرط وإنما ذكر تعريفا بغالب حالها كتعريفه الربيبة بالحجر
"فإن عدمها" في ماله أو كانت معيبة "أجزأه ابن لبون" لقوله عليه السلام "فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر" رواه أبو داود وفي لفظ "فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها" لأن وجودها كالعدم في الانتقال إلى البدل والأشهر أو خنثى وظاهره أنه يجزئ ولو نقصت قيمته عن بنت مخاض ويجزئ حق أو جزع أوثني وأولى لزيادة السن وفي بنت لبون وله جبران وجهان فإن اشترى بنت مخاض وأخرجها أجزأ بلا نزاع لأنها الأصل ولا يجزئ إخراج ابن لبون بعد شرائها فإن كان في ماله بنت مخاض أعلى من الواجب لم يجزئه ابن لبون والأشهر لا يلزمه(2/282)
وهو الذي له سنتان فإن عدمه أيضا لزمه بنت مخاض وفي ست وثلاثين بنت لبون وفي ست وأربعين حقة وهي التي لها ثلاث سنين وفي إحدى وستين جذعة وهي التي لها أربع سنين
------------------------------------------
إخراجها بل يخير بينها وبين سوى بنت مخاض بصفة الواجب وقال أبو بكر يجب عليه إخراجها بناء على قوله إنه يخرج عن المراض صحيحة حكاه ابن عقيل عنه
"وهو الذي له سنتان" ودخل في الثالثة سمي بذلك لأن أمه وضعت فهي ذات لبن "فإن عدمه أيضا لزمه" شراء "بنت مخاض" ولا يجزئه هو لقوله عليه السلام في خبر أبي بكر "فمن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه" ذكره ابن حامد وتبعه الأصحاب ولأنهما استويا في العدم فلزمه بنت مخاض كما لو استويا في الوجود والخبر محمول عليه
"وفي ست وثلاثين بنت لبون" لقوله في خبر أبي بكر "فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أثنى" وظاهره لا يجزئ ابن لبون وقيل بل يجبران لعدم
"وفي ست وأربعين حقة" لحديث الصديق فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل "وهي التي لها ثلاث سنين" ودخلت في الرابعة سميت به لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها ويطرقها الفحل والذكر منها حق.
"وفي إحدى وستين جذعة" لقوله عليه السلام في الصدقة "وإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة" "وهي التي لها أربع سنين" ودخلت في الخامسة سميت به لأنها تجذع إذا سقط منها سنها والذكر جذع فلو أخرج ثنية وهي التي دخلت في السادسة أجزأ بلا جبران سميت به لأنها ألقت ثنيتها وقيل يجزئ عن الجذعة حقتان وابنتا لبون وابنتا لبون عن الحقة ذكره المؤلف ونقضه بعضهم ببنت مخاض عن العشرين وببنت بنات مخاض عن الجذعة .(2/283)
وفي ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فإذا بلغت مائتين اتفق الفرضان فإن شاء أخرج أربع حقاق وإن شاء خمس بنات لبون.
-------------------------------------
فصل:
الأسنان المذكورة للإبل هو قول أهل اللغة وذكر ابن أبي موسى لبنت مخاض سنتان ولبنت لبون ثلاث ولحقة أربع ولجذعة خمس كاملة فحمله المجد على بعض السنة وهو غريب لقوله كاملة وقيل لبنت مخاض نصف سنة ولحقة سنتان ولجذعة ثلاث
"وفي ست وسبعين ابنتا لبون" إجماعا لقوله عليه السلام "فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون" .
"وفي إحدى وتسعين حقتان" إجماعا لقوله عليه السلام "فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل"
"فإذا زادت واحدة" أي على العشرين والمائة "ففيها ثلاث بنات لبون" في المشهور والمختار للعامة لظاهر خبر الصديق "فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة" وبالواحدة حصلت الزيادة فقيل الواحدة عفو وإن تغير بها الفرض وقيل يتعلق بها الوجوب
"ثم" تستقر الفريضة "ففي كل أربعين بنت لبون وفي خمسين حقة" هذا المذهب لخبر الصديق رواه البخاري وعنه لا يتغير الفرض إلا إلى مائة وثلاثين فتستقر الفريضة ففي مائة وثلاثين حقة وبنتا لبون اختاره أبو بكر والآجري لخبر عمرو بن حزم وفيه ضعف فإن صح عورض بروايته الأخرى وبما أكثر منه وأصح.
"فإذا بلغت مائتين اتفق الفرضان فإن شاء أخرج أربع حقاق وإن شاء خمس بنات لبون" هذا المذهب واختاره الأكثر ونص أحمد على مثله في البقر ,(2/284)
والمنصوص أنه يخرج الحقاق وليس فيها بين الفريضتين شيء ومن وجبت عليه سن فعدمها أخرج سنا أسفل منها ومعها شاتان أو عشرون درهما وإن شاء أخرج أعلى منها وأخذ مثل ذلك من الساعي.
-----------------------------
ذكره المجد وجزم به في الوجيز للأخبار وزاد بعضهم ما لم يكن المال ليتيم أو مجنون فحينئذ يتعين إخراج الأدون المجزئ فلو جمع بين النوعين في الإخراج كأربع حقاق وخمس بنات لبون عن أربع مائة جاز جزم به الأئمة فإطلاق وجهين سهو أما مع الكسر فلا كحقين وبنتي لبون ونصف عن مائتين وفيه تخريج وهو ضعيف.
فرع: إذا وجد أحد الفرضين كاملا والآخر ناقصا لا بد له من جبران يعين الكامل لأن الجبران بدل.
"والمنصوص أنه يخرج الحقاق" أي يجب إخراجها وقاله القاضي في الشرح نظر لحظ الفقراء إذ هي أنفع لهم لكثرة درها ونسلها وأول في المغني والشرح النص على صفة التخير وقدم في الأحكام السلطانية أن الساعي يأخذ أفضلها وقال القاضي وابن عقيل يأخذ ما وجد عنده منها ومرادهم ليس للساعي تكليف المالك سواه لأن الزكاة سببها النصاب فاعتبرت به.
"وليس فيما بين الفريضتين شيء" وتسمى الأوقاص لعفو الشارع عنها وقد تقدم "ومن وجبت عليه سن فعدمها" لم يكلف تحصيلها وخير المالك فإن شاء "أخرج سنا أسفل منها ومعها شاتان أو عشرون درهما وإن شاء أخرج أعلى منها وأخذ مثل ذلك من الساعي" هذا هو المذهب كما في كتاب أنس "ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهما" متفق عليه وهذا التخيير ثابت في كون ما عدل إليه في ملكه فإن عدمها حصل الأصل.
وظاهره: أنه لا يجوز أن يخرج أدنى من بنت مخاض لأنها أقل ما يجب في(2/285)
فإن عدم السن التي تليها انتقل إلى الأخرى وجبرها بأربع شياه أو أربعين درهما قال أبو الخطاب لا ينتقل إلا إلى سن تلي الواجب ولا مدخل للجبران في غير الإبل.
--------------------------------
زكاتها ولا يخرج أعلى من الجذعة إلا أن يرضى رب المال بغير جبران ذكره في الشرح واقتضى أن من وجبت عليه الجذعة وليست عنده وأخرج الثنية أن يأخذ الجبران من الساعي وليس كذلك لعدم وروده وأنه لا يجبر بشاة وعشرة دراهم في وجه حذارا من تخيير ثالث ويجوز من آخر وقاله القاضي لأن الشارع جعل العشرة في مقابلة الشاة.
"فإن عدم السن التي تليها انتقل إلى الأخرى وجبرها بأربع شياه أو أربعين درهما" أومأ إليه أحمد واختاره القاضي وأورده الشيخان مذهبا لأن الشارع جوز له الانتقال إلى الذي يليه مع الجبران وجوز العدول عنها إذا عدم الجبران إذا كان هو الوصي وهاهنا لو كان موجودا فإذا عدم جاز العدول إلى ما يليه مع الجبران ولا شك في التعدية إذا عقل معنى النص ومحله ما إذا كان بصفة الصحة أو لجائز الأمر فأما إذا كان النصاب معيبا وعدمت الفريضة فله دفع السن السفلى مع الجبران وليس له دفع ما فوقها مع الجبران لأن الجبران قدره الشارع وقيل ما بين الصحيحين وما بين المعيبين أقل فإذا دفعه المالك صار كتطوعه بالزائد بخلاف الساعي وولي اليتيم فإنه لا يجوز لهما إلا إخراج الأدون وهو أقل الواجب كما لا يتبرع.
"وقال أبو الخطاب" وابن عقيل وذكره صاحب النهاية ظاهر المذهب "لا ينتقل إلا إلى سن تلي الواجب" إذ النص إنما لم يرد به والزكاة فيها شيابة التعبد.
"ولا مدخل للجبران في غير الإبل" لأن النص إنما ورد فيها فيقتصر عليه وليس غيرهما في معناها لكثرة قيمتها لأن الغنم لا تختلف فريضتها باختلاف سنها وما بين الفريضتين في البقر يخالف ما بين الفريضتين في الإبل فامتنع القياس فلو غير صفة الواجب بشيء من جنسه وأخرج الرديء عن الجيد ,(2/286)
فصل:
النوع الثاني البقر ولا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين فيجب فيها تبيع أو تبيعة وهي التي لها سنة وفي أربعين مسنة وهي التي لها سنتان.
--------------------------------.
وزاد قدر ما بينهما من الفضل لم يجزئ لأن القصد من غير الأثمان النفع بعينها فيفوت بعض المقصود ومن الأثمان القيمة وقال المجد قياس المذهب جوازه في الماشية وغيرها.
فصل:
"النوع الثاني البقر" وهو اسم جنس والبقرة تقع على الأنثى والذكر ودخلت الهاء على أنها واحدة من جنس والبقرات الجمع والباقر جماعة البقر مع رعاتها وهي مشتقة من بقرت الشيء إذا شققته لأنها تبقر الأرض بالحراثة.
والأصل في وجوبها أحاديث منها ما روى معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر رواه أحمد ولفظه له وأبو داود وغيرهما وصححه بعضهم وقال على شرط الشيخين وإنما لم يذكر في خبر الصدقة لقلتها في الحجاز إذ يندر ملك نصاب منها بل لا يوجد ولما أرسل معاذ إلى اليمن ذكر له حكمها لوجودها ولا خلاف في وجوبها.
"ولا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين" وهي أقل نصابها "فيجب فيها تبيع" سمي به لأنه يتبع أمه وهو جذع البقر الذي استوى قرناه وحاذى قرنه أذنه غالبا "أو تبيعة وهي التي لها سنة" وعبارة الفروع لكل منهما سنة وذكره الأكثر وفي الأحكام السلطانية نصف سنة وقال ابن أبي موسى سنتان
"وفي أربعين مسنة" لأنها ألقت سنا غالبا وهي الثنية "وهي التي لها سنتان" وفي الأحكام السلطانية سنة وقيل ثلاث وقيل أربع ولا يجزئ عنها(2/287)
وفي الستين تبيعان ثم في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة ولا يجزئ الذكر في الزكاة في غير هذا إلا ابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها إلا أن يكون النصاب كله ذكورا فيجزئ الذكر في الغنم وجها واحدا ومن الإبل والبقر في أحد الوجهين.
--------------------------------
مسن بل عن الأولين وقيل يجزئ عنها تبيعان
"وفي الستين تبيعان ثم في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة" وقاله الأكثر لما روى أحمد بإسناده عن يحيى بن الحكم عن معاذ قال بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا ومن الثمانين مسنتين ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات وأربعة أتباع وأمرني أن لا آخذ مما بين ذلك شيئا إلا أن يبلغ مسنة أو جذعا وظاهره أنها إذا بلغت مائة وعشرين اتفق فيها الفرضان كالإبل ونص أحمد هنا على التخير.
"ولا يجزئ الذكر في الزكاة" إذا كانت ذكورا أو إناثا لأن الأنثى أفضل لما فيها من الدر والنسل وقد نص الشارع على اعتبارها في الإبل في الأربعين من البقر "في غير هذا" إذ التبيع مكان التبيعة للنص السابق ولأنه أكثر لحما فتعادل الأنوثة "إلا ابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها" لأنه يمتنع من صغار السباع ويرعى الشجر فيجزئ بنفسه ويرد الماء لكن ليس بأصل لكونه لا يجزئ مع وجودها بخلاف التبيع فيجزئ في الثلاثين وما تكرر منها كالستين وأما الأربعون وما تكرر منها كالثمانين فلا يجزئ في فرضها إلا الإناث لنص الشارع عليها إلا أن يخرج عن المسنة تبيعين فيجزئ ذكره في الشرح.
"إلا أن يكون النصاب كله ذكورا فيجزئ الذكر في الغنم وجها واحدا" لأن الزكاة مواساة فلا يكلفها من غير الجنس وقيل لا فيخرج أنثى بقيمة الذكر
و يجزئ "من الإبل والبقر في أحد الوجهين" هذا المذهب جزم به في(2/288)
ويؤخذ من الصغار صغيرة ومن المراض مريضة وقال أبو بكر لا يؤخذ إلا كبيرة صحيحة على قدر المال.
-----------------------------------
الوجيز لما سبق الثاني لا يجزئ فيهما لأن الشارع نص على الأنثى وهي أفضل ففي العدول عنها عدول عن المنصوص وصحح في الكافي والشرح الإجزاء في البقر لأنه قد جوزنا الذكر في الغنم مع أنه لا مدخل له في زكاتها مع وجود الإناث فالبقر التي فيها مدخل أولى وفي الإبل وجهان أحدهما يجزئ لما ذكر من المواساة والثاني لا يجزئ لإفضائه إلى إخراج ابن لبون عن خمس وعشرين وست وثلاثين وفيه تسوية بين النصابين
فعلى هذا: يخرج أنثى ناقصة بقدر قيمة الذكر وعلى الأول يخرج ابن لبون عن النصابين ويكون التعديل بالقيمة والفرق أن الشارع أطلق الشاة الواجبة ونص على الأنثى من الإبل والبقر.
"ويؤخذ من الصغار صغيرة" نص عليه لقول أبي بكر والله لو منعوني عناقا الخبر ويتصور أخذها إذا أبدل الكبار بالصغار أو بموت الإناث وتبقى الصغار وهذا على المشهور أن الحول ينعقد عليها مفردة وهذا في الغنم دون الإبل والبقر فلا يجزئ إخراجه فصل:انا وعجاجيل فيقوم النصاب من الكبار ويقوم فرضه ثم تقوم الصغار ويؤخذ عنها كبيرة بالقسط وقيل يجزئ فيؤخذ من خمس وعشرين إلى إحدى وستين واحدة والتعديل بالقيمة مكانه زيادة السن.
"ومن المراض مريضة" لأنها وجبت مواساة وليس منها أن يكلف غير الذي في ماله ولا اعتبار بقلة العيب وكثرته لأن القيمة تأتي على ذلك لكون أن المخرج وسط القيمة "وقال أبو بكر لا يؤخذ" فيهما "إلا كبيرة صحيحة على قدرالمال" لقوله في رواية أحمد بن سعيد لا يأخذ إلا ما يجوز في الأضاحي قال القاضي وأومأ إليه في رواية ابن منصور وذكره الحلواني ظاهر الخرقي لقول مصدق النبي صلى الله عليه وسلم أمرني أن لا آخذ من راضع شيئا إنما(2/289)
فإن اجتمع صغار وكبار وصحاح ومراض وذكور وإناث لم يؤخذ إلا أنثى صحيحة كبيرة على قدر قيمة المالين.
-----------------------------
حقنا في الثنية والجذعة ولقول عمر اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم وكشاة الإبل فعلى هذا يكلف سواء كبيرة أو صحيحة بقدر قيمة الفرض لتحصل المواساة والأول أشهر وما ذكرناه محمول على ما إذا اشتمل على نوعين وشاة الإبل ليست من جنس المال فلا يرتفق المالك وهنا من جنسه فهو كالحبوب
"فإن اجتمع" في النصاب "صغار وكبار وصحاح ومراض وذكور وإناث لم يؤخذ إلا أنثى صحيحة كبيرة على قدر قيمة المالين" للنهى عن أخذ الصغير والمعيب والكريمة لقوله ولكن من وسط أموالكم ولتحصل المواساة فإذا كان قيمة المال المخرج إذا كان المزكى كله كبارا صحاحا عشرين وقيمته بالعكس عشرة وجب كبيرة صحيحة قيمتها خمسة عشر هذا مع تساوي العددين فلو كان الثلث أعلى والثلثان أدنى فشاة قيمتها ثلاثة عشر وثلث وبالعكس قيمتها ستة عشر وثلثان.
"وإن كان نوعين كالبخاتي" الواحد بختي والأنثى بختية قال عياض هي إبل غلاظ ذوات سنامين "والعراب" هي جرد ملس حسان الألوان كريمة "والبقر والجواميس" واحدهما جاموس قال موهوب هو أعجمي تكلمت به العرب "والضأن والمعز أو كان فيه كرام" واحدها كريم وذكر عياض في قوله "واتق كرائم أموالهم" أنها جمع كريمة وهي الجامعة للكمال الممكن في حقها من غزارة لبن أو جمال صورة أو كثرة لحم أو صوف وقيل هي التي يختصها مالكها لنفسه ويؤثرها "ولئام" واحدها لئيمة وهي ضد الكريمة "وسمان ومهازيل أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين" لأنها مع اتحاد الجنس هي المقصودة وذكره أبو بكر في بقيمة سمينة وظاهره أنه مخير في أي الأنواع أحب سواء دعت إليه الحاجة أولا لكن من كرام وسمان وضدهما يخرج وسطا نص عليه ,(2/290)
وإن كان نوعين كالبخاتي والعراب والبقر الجواميس والضأن والمعز أو كان فيه كرام ولئام ومهازيل أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين.
فصل:
النوع الثالث الغنم ولا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين فيجب فيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه ثم في كل مائة شاة شاة.
------------------------------
قدمه في الفروع وجزم به في المحرر وقيل يخير الساعي ونقل حنبل في ضأن ومعز يخير الساعي لاتحاد الواجب ولم يعتبر أبو بكر القيمة في النوعين قال المجد وهو ظاهر نقل حنبل ولا يلزمه من أكثرهما عددا وقد تضمن كلامه ضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض في إيجاب الزكاة وخرج به الخرقي في الضأن والمعز وحكاه ابن المنذر إجماعا.
مسألة: إذا أخرج عن النصاب من غير نوعه ما ليس في ماله منه جاز إن لم ينقص قيمة المخرج عن النوع الواجب وعلى قول أبي بكر ولو نقصت وقيل لا يجزئ هنا مطلقا كغير الجنس.
فصل:
"النوع الثالث: الغنم ولا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين" وهي أقل نصابها إجماعا "فيجب فيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين" إجماعا "فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه" وفاقا "ثم" تستقر الفريضة فيجب "في كل مائة شاة شاة" وسنده ما روى أنس في كتاب الصدقات أنه قال في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل(2/291)
ويؤخذ من المعز الثني ومن الضأن الجذع ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا تيس ولا ذات عوار وهي المعيبة.
--------------------------
مائة شاة وإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها مختصر رواه البخاري وعنه في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ خمسمائة فيكون خمس شياه وعنه أن المائة زائدة ففي أربعمائة وواحدة خمس شياه وفي خمسمائة وواحدة ست وعلى هذا أبدا واختلف اختيار أبي بكر والمذهب الأول نص عليه وعلى هذا لا يتغير بعد مائتين وواحدة حتى تبلغ أربعمائة فيجب في كل مائة شاة والوقص مائتين مائتين وواحدة إلى أربعمائة وهو مائة وتسعة وتسعون.
"ويؤخذ من المعز الثني ومن الضأن الجذع" لما روى سويد بن غفلة قال أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن والثنية من المعز ولأنهما يجريان في الأضحية فكذا هنا الجذع من الضأن ماله ستة أشهر وقيل ثمانية أشهر لا سنة والثني من المعز ماله لا سنتان
"ولا يؤخذ في الصدقة هرمة ولا تيس ولا ذات عوار" لقوله تعالى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية267] البقرة وفي كتاب أبي بكر ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس إلا ما شاء المصدق رواه البخاري وكان أبو عبيدة يرويه بفتح الدال من المصدَق يعني المالك فيكون الاستثناء راجعا إلى التيس فقط وخالفه عامة الرواة فقالوا بكسرها يعني الساعي ذكره الخطابي وقال التيس لا يؤخذ لنقصه وفساد لحمه فيكون كتيس لا يضرب لكن قدم في الفروع أن فحل الضراب لا يؤخذ لخيره فلو بذله المالك لزم قبوله حيث يقبل الذكر والهرمة هي الكبيرة الطاعنة في السن والعوار بفتح العين على الأفصح "وهي المعيبة" التي لا يضحى بها قاله الأكثر وفي نهاية الأزجي وأومأ إليه المؤلف إذا ردت في البيع ونقل حنبل لا يؤخذ عوراء ولا عرجاء ولا ناقصة الخلق(2/292)
ولا الربى وهي التي تربي ولدها ولا الحامل ولا كرائم المال إلا أن يشاء ربه ولا يجوز إخراج القيمة وعنه يجوز.
-----------------------------
واختار المجد جوازه إن رآه الساعي انفع للفقراء لزيادة صفة فيه وأنه أقيس بالمذهب لأن من أصله إخراج المكسورة عن الصحاح إذا زاد قدر ما بينهما من الفضل فيكون الاستثناء راجعا إلى الثلاثة وقاله بعض العلماء.
"ولا الربى وهي التي تربي ولدها" قاله أحمد وقيل هي التي تربى في البيت لأجل اللبن "ولا الحامل" لقول عمر لا تؤخذ الربى ولا الماخض ولا الأكولة ومراده السمينة مع أنه يجب إخراج الفريضة على صفة مع الاكتفاء بالسن المنصوص عليه وكذا لا يؤخذ طروقة الفحل لأنها تحبل غالبا "ولا كرائم المال" وهي النفسية فهذه لا تؤخذ لشرفها ولحق المالك إلا أن يشاء ربه لأنه خير المال فلم يجزئ أخذه بغير رضا مالكه والحق في الوسط قال الزهري إذا جاء المصدق قسم الشاء أثلاثا ثلث خيار وثلث وسط شرار وأخذ من الوسط
وروي عن عمر يؤيد قوله عليه السلام ولكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم شره رواه أبو داود.
"ولا يجوز إخراج القيمة" في ظاهر المذهب لقوله عليه السلام لمعاذ خذ الحب من الحب والإبل من الإبل والبقر من البقر والغنم من الغنم رواه أبو داود وابن ماجه ومقتضاه عدم الأخذ من غيره لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ولا فرق بين الماشية وغيرها قال أبو داود قيل لأحمد أعطي دراهم في الصدقة الفطر فقال أخاف أن لا يجزئ خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
"وعنه: يجوز" لقول معاذ ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم من الصدقة مكان الذرة والشعير فإنه أيسر عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة ولأن المقصود دفع حاجة الفقراء ولا يختلف ذلك باختلاف صور الأموال إذا حصلت القيمة
قال في الشرح هذا فيما عدا صدقة الفطر فتكون بالبر وعنه يجزئ(2/293)
وإن أخرج سنا أعلى من الفرض من جنسه جاز.
---------------------------------------------
للحاجة إن تعذر الفرض والأول أولى للنصوص وقول معاذ محمول على الجزية فإنه يطلق عليها صدقة مجازا وقوله مكان الذرة والشعير يجوز أن يكون صالحهم عن أراضيهم بذلك قاله ابن المنجا ولأنها وجبت لدفع حاجة الفقراء وشكرا لنعمة المال فيتنوع الواجب ليصل إلى الفقير من كل نوع ما تندفع به الحاجة ويحصل شكر النعمة بالمواساة من جنس ما أنعم الله عليه مع أن في تجويز إخراج غيرها عدول عن المفروض
"وإن أخرج سنا أعلى من الفرض من جنسه" كبنت لبون عن بنت مخاض جاز قاله الأئمة لما روى أبي بن كعب أن رجلا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي فزعم أن ما علي بنت مخاض فعرضت عليه ناقة فتية سمينة فقال عليه السلام "ذاك الذي وجب عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك" فقال ها هي ذه فأمر بقبضها ودعا له بالبركة رواه أحمد وأبو داود ولأنه زاد على الواجب من جنسه ما يجرئ عن غيره فأجزأ كما لو زاد في العدد
وذكر ابن عقيل وجها لا يجزئ وظاهره أنه لا يجزئ في غيرالجنس لأنه عدول عن المنصوص عليه.(2/294)
فصل: في الخلطة
وإذا اختلط نفسان أو أكثر من أهل الزكاة في نصاب من الماشية حولا لم يثبت لهما حكم الانفراد في بعضه فحكمهما في الزكاة حكم الواحد سواء كانت خلطة أعيان بأن يكون مشاعا بينهما أو خلطة أوصاف بأن يكون مال كل واحد منهما متميزا.
------------------------
فصل: في الخلطة
بضم الخاء الشركة وهي جائزة في الجملة لما روى الترمذي عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب الصدقة "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من الخلطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" ورواه البخاري من حديث أنس "وإذا اختلط نفسان" لأن اقل من ذلك الواحد ولا خلطة معه "أو أكثر من أهل الزكاة" فلو كان أحدهما مكاتبا أو ذميا فلا أثر لها لأنه لا زكاة في ماله فلم يكمل النصاب به "في نصاب" فلو كان المجموع أقل من نصاب فلا عبرة في ذلك سواء كان له مال غيره أو لا وظاهره الجواز فيما زاد عليه من باب أولى من الماشية فلا يؤثر في غيرها وسيأتي "حولا لم يثبت لهما حكم الانفراد في بعضه" لأن الخلطة معنى يتعلق به إيجاب الزكاة فاعتبرت في جميع الحول كالنصاب "فحكمها في الزكاة حكم الواحد" لأنه لو لم يكن كذلك لما نهى الشارع عن جمع التفرق وعكسه خشية الصدقة وسواء أثرت في إيجاب الزكاة أو إسقاطها أو في تغيير الفرض فلو كان لأربعين من أهل الزكاة أربعون شاة أو لواحد شاة وللآخر تسعة وثلاثون لزمهم شاة نص عليهما ومع الانفراد لا يلزمهم شيء ولو كان لثلاثة مائة وعشرون شاة لزمهم شاة ومع الانفراد ثلاث شياه "سواء كانت خلطة أعيان" لأن أعيانها مشتركة "بأن يكون مشاعا بينهما" بأن ملكاه بإرث أو شراء أو غيرها "أو خلطة أوصاف بأن يكون مال كل واحد منها متميزا" عن الآخر بصفة أو صفات "واشتركا"(2/295)
فاشتركا في المراح والمسرح والمشرب والمحلب والراعي والفحل.
---------------------------
في الأوصاف الآتي ذكرها ويعتبر فيها أن لا يتميز "في المراح" بضم الميم المكان الذي تروح إليه الماشية عند رجوعها فتبيت فيه "والمسرح" موضع الرعي وفسره صاحب التلخيص وغيره موضع جمعها عند خروجها للرعي "والمشرب" بفتح الميم والراء المكان الذي يشرب فيه وكذا ذكره أبو الخطاب وصاحب التلخيص والوجيز ولم يذكره الأكثر "والمحلب" بفتح الميم واللام الموضع الذي يحلب فيه وبكسر الميم الإناء والمراد الأول لأنه ليس المقصود خلط اللبن في إناء واحد لأنه ليس بمرفق بل مشقة لما فيه من حاجة إلى قسم اللبن وربما أفضي إلى الربا وقيل يلزم خلط اللبن وقيل يشترط اتحاد الآنية جزم به في الوجيز
"والراعي" كذا قاله أبو الخطاب وصاحب الوجيز والمستوعب وأسقط المحلب "والفحل" جزم به معظم الأصحاب والمراد به المعد للضراب وليس المعتبر اتحاده ولا أن يكون مشتركا بل أن لا يتميز فحول أحد المالين عن الآخر عند الضراب وجمع في المحرر والوجيز بين المسرح والمرعى كالخرقي قال ويحتمل أن الخرقي أراد بالرعي الرعي الذي هو المصدر لا المكان وأنه أراد بالمسرح المصدر الذي هو السروح لا المكان فإذا كان كذلك زال التكرار وحصل به اتحاد الراعي والمشرب
وقال ابن حامد المرعى والمسرح شرط واحد وإنما ذكر أحمد المسرح ليكون فيه راع واحد وقال في الواضح الفحل والراعي والمحلب وذكر الآمدي المراح والمسرح والفحل والمرعى وذكر القاضي أنه الراعي فقط وذكر رواية أنه يعتبر الراعي والمبيت فقط وفيه طرق أخرى واحتج الأصحاب لاعتبار ذلك بحديث سعد بن أبي وقاص قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "الخليطان ما اجتمعا على الحوض والفحل والراعي" رواه(2/296)
فإن اختل شرط منها أو ثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول زكيا زكاة المنفردين فيه وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد وحده.
------------------------------------
الخلال والدارقطني ورواه أبو عبيد وجعل بدل الراعي المرعى وضعفه أحمد فإنه من رواية ابن لهيعة فيتوجه العمل بالعرف في ذلك ويحتمل أن خلطة الأوصاف لا أثر لها كما يروى عن طاووس وعطاء لعدم الدليل والأصل اعتبار المال بنفسه ذكره في الفروع وظاهره أنه لا يشترط للخلطة نية وهي في خلطة الأعيان إجماع وكذا في خلطة الأوصاف في الأصح واحتج المؤلف بنية السوم في السائمة وكنية السقي في المعشرات واختار في المحرر أنها يعتبر فيها لأنها معنى يتغير به الفرض فافتقر إلى النية كالسوم وفائد: الخلاف في خلط وقع اتفاقا أو فعله راع وتأخر النية عن الملك وقيل لا يضر تأخيرها بزمن يسير لتقديمها على الملك بزمن يسير.
"فإن اختل شرط منها" بطل حكمها لفوات شرطها وصار وجودها كالعدم فيزكي كل واحد ماله إن بلغ نصابا وإلا فلا.
"أو ثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول" كرجلين لكل واحد منهما نصاب ملكه في أول المحرم ثم اختلط بعد ذلك "زكيا زكاة المنفردين فيه" يعنى على كل واحد منهما عند تمام حوله شاة وفيما بعد ذلك من السنين يزكيان زكاة الخلطة فإن اتفق حولاهما أخرجا شاة عند تمام الحول نصفين وإن اختلف فعلى الأول عند تمام حوله نصف شاة وإذا تم حول الثاني فإن كان الأول أخرجها من غير المال فعلى الثاني نصف شاة أيضا وإن أخرجها من المال فقد تم حول الثاني على تسعة وسبعين شاة ونصف شاة له منها أربعون شاة يلزمه أربعون جزءأ من تسعة وسبعين جزءاً ونصف جزء من شاة فيضعفها لتكون ثمانين جزءا من مائة وتسعة وخمسين جزءأ من شاة كلما تم حول أحدهما لزمه من زكاة الجميع بقدر ماله فيه
"وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد وحده" بأن يملك رجلان نصابين ثم يخلطاهما ثم يبيع أحدهما نصيبه أجنبيا بعد ملك المشتري أربعين ثم يثبت(2/297)
فعليه زكاة المنفرد وعلى الثاني زكاة الخلطة ثم يزكيان فيما بعد ذلك الحول زكاة الخلطة كلما تم حول أحدهما فعليه بقدر ماله منها وإن ملك نصابا شهرا ثم باع نصفه مشاعا أو أعلم على بعضه وباعه مختلطا فقال أبو بكر ينقطع الحول ويستأنفانه من حين البيع.
---------------------------------
لها حكم الانفراد فإذا تم الحول "فعليه زكاة المنفرد" وهو شاة لثبوت حكم الانفراد من حقه "وعلى الثاني" إذ اتم حوله "زكاة الخلطة" وهو نصف شاة لكونه لم يزل مخالطا في جميع الحول إن كان الأول أخرجها من غير المال وإن كان أخرج منه لزمه أربعون جزءأ من تسعة وسبعين جزءأ من شاة "ثم يزكيان فيما بعد ذلك الحول زكاة الخلطة" لأنها موجودة في جميع الحول بشروطها "كلما تم حول أحدهما فعليه بقدر ماله منها" أي يزكي بقدر ملكه فيه وفيه تنبيه: على أمرين أحدهما: أن من ثبت له حكم الانفراد في الحول الأول يزكي ما عليه عند تمام حوله الثاني ولا ينتظر حوله المشتري لأن الزكاة بعد حولان الحول لا يجوز تأخيرها وإن المشتري لا يجب عليه تقديم زكاته إلى رأس حول شريكه لأن تقديمها قبل حولان الحول لا يجب وثانيهما: أنه إذا كان لكل واحد نصاب فعلى كل منها نصف شاة فإن كان للأول أربعون وللثاني ثمانون فعلى الأول ثلث شاة وعلى الثاني ثلثاها ذكره ابن المنجا
تنبيه: يثبت حكم الانفراد أيضا فيما إذا كان لأحدهما نصاب وللآخر دونه ثم يختلطان في أثناء الحول به وكذا إذا أبدل نصابا منفردا بنصاب مختلط من جنسه وقلنا لا ينقطع الحول به زكيا زكاة انفراد كمال واحد حصل الانفراد في أحد طرفي حوله وكذا لو اشترى أحد الخليطين بأربعين مختلطة أربعين منفردة وخلطها في الحال لوجود الانفراد في بعض الحول وقيل يزكي زكاة خلطة لأنه يبني على حول خلطة وزمن الانفراد يسير
"وإن ملك نصابا شهرا ثم باع نصفه مشاعا أو أعلم على بعضه" أي عينه "وباعه مختلطا فقال أبو بكر ينقطع الحول ويستأنفانه من حين البيع" هذا(2/298)
وقال ابن حامد لا ينقطع حول بائع وعليه إذا تم حوله زكاة حصته فإن كان أخرجها من المال انقطع حول المشتري لنقصان النصاب وإن أخرجها من غيره وقلنا الزكاة في العين فكذلك وإن قلنا في الذمة فعليه عند تمام حوله زكاة حصته.
--------------------------------
هو المذهب وجزم به في الوجيز لأنه قد انقطع في النصف المبيع فصار كأنه لم يجر في حول الزكاة أصلا فلزم انقطاع الحول في الثاني "وقال ابن حامد لا ينقطع حول البائع" فيما لم يبع لأنه لم يزل مخالطا لمال جار في حول الزكاة "وعليه إذا تم حوله زكاة حصته" فيلزمه نصف شاة لكونه ما خلا حوله من ملك نصف نصاب فهو كالخليط إذا تم ماله بمال شريكه
"فإن كان" البائع "أخرجها من المال انقطع حول المشتري" ذكره المجد إجماعا فعلى هذا لا زكاة عليه لنقصان النصاب في بعض الحول إلا أن يستديم الفقير الخلطة بنصفه فلا ينقص النصاب إذن ويخرج الثاني نصف شاة وقيل إن زكى البائع منه إلى الفقير زكى المشتري "وإن أخرجها" البائع "من غيره وقلنا الزكاة في العين فكذلك" وكذا ذكره المؤلف في بقية كتبه وصححه وعزاه إلى أبي الخطاب لأن تعلقها بالعين ينقص النصاب فمنع وجوبها على المشتري
وجزم الأكثر منهم القاضي وأبو الخطاب وابن عقيل وقاله في المستوعب والمحرر وقدمه في الفروع أنه يجب على المشتري نصف شاة إذا تم حوله لأن التعلق بالعين لا يمنع انعقاد الحول الثاني بالاتفاق والفقير لا يملك جزءا من النصاب وإنما يتعلق حقه به كتعلق أرش الجناية بالجاني فلم يمنع وجوبها وضعف المجد الأول عن أبي الخطاب وقال هذا مخالف لما ذكره في كتابه ولا يعرف له موضع يخالفه مع أن في كلامه نظر من حيثية إنه بعد إخراجها كيف يتصور التعلق لأن بعد الأداء لا يجوز تعلقها كما لا يتعلق الدين بالرهن بعد أدائه وأرش الجناية بالجاني بعد فدائه.
"وإن قلنا في الذمة فعليه" أي المشتري "عند تمام حوله زكاة حصته" ؛(2/299)
وإن أفرد بعضه وباعه ثم اختلفا انقطع الحول وقال القاضي يحتمل ألا ينقطع إذا كان الزمن يسيرا وإن ملك نصابين شهرا ثم باع أحدهما مشاعا فعلى قياس قول أبي بكر يثبت للبائع حكم الانفراد وعليه عند تمام حوله زكاة المنفرد وعلى قياس قول ابن حامد عليه زكاة خليط فإذا تم حول المشتري فعليه زكاة خليط وجها واحدا وإذا ملك نصابا شهرا ثم ملك آخر لا يتغير به الفرض مثل أن يملك أربعين شاة في المحرم.
-------------------------------
لعدم نقصان النصاب في حقه مطلقا وعكسها صورة لو كان لرجلين نصاب خلطة فباع أحدهما خليطه في بعض الحول لأنه في الأول خليط نفسه ثم صار خليط أجنبي وهاهنا كان خليط أجنبي ثم صار خليط نفسه ذكره في الشرح فإن كان البائع استدان ما أخرجه ولا مال له يجعل في مقابلة دينه إلا مال الخلطة أو لم يخرج البائع الزكاة حتى تم حول المشتري فإن قلنا الدين لا يمنع وجوب الزكاة أو قلنا يمنع لكن للبائع مال يجعل في مقابلة دين الزكاة زكى المشتري حصته زكاة الخلطة نصف شاة وإلا فلا
"وإن أفرد بعضه وباعه ثم اختلطا انقطع الحول" في قول الأكثر لوجود الانفراد وكحدوث بعض مبيع بعد ساعة "وقال القاضي يحتمل ألا ينقطع إذا كان زمنا يسيرا" لأن اليسير معفو عنه فوجب ألا ينقطع كما لو باعه مشاعا "وإن ملك نصابين شهرا ثم باع أحدهما مشاعا فعلى قياس قول أبي بكر يثبت للبائع حكم الانفراد" لأنه اختار أن البيع يقطع الحول فيصير البائع كأنه ملك نصابا منفردا "وعليه عند تمام حوله زكاة المنفرد" لثبوت حكم الانفراد له "وعلى قياس قول ابن حامد عليه زكاة خليط" لاختياره عدم الانقطاع بالبيع فوجب عليه زكاة خلطة لكونه لم يزل مخالطا في جميع الحول.
"فإذا تم حول المشتري فعليه زكاة خليط وجها واحدا" لأن الأربعين التي له تزل مختلطة في جميع الحول "وإذا ملك نصابا شهرا ثم ملك آخر لا يتغير به الفرض مثل أن يملك أربعين شاة في المحرم(2/300)
وأربعين في صفر فعليه زكاة الأول عند تمام حوله ولا شيء عليه في الثاني في أحد الوجهين وفي الآخر عليه للثاني زكاة خلطة كالأجنبي في التي قبلها وإن كان الثاني يتغير به الفرض مثل أن يكون مائة شاة فعليه زكاته إذا تم حوله وجها واحدا
-----------------------------------
"وأربعين في صفر فعليه زكاة الأول عند تمام حوله" وهي شاة لانفرادها في بعض الحول "ولا شيء عليه في الثاني" إذا تم حوله" في أحد الوجهين" قدمه في المحرر والفروع وجزم به في الوجيز لأن الجميع ملك واحد فلم يزد فرضه على شاة كما لو اتفقت أحواله وللعموم في الأوقاص كمملوك دفعة
"وفي الآخر عليه للثاني زكاة خلطة" وهو نصف شاة لاختلاطها بالأربعين الأولى "كالأجنبي في" المسألة "التي قبلها" وقيل يجب شاة كالأولى وكما لمنفرد وعلى الثاني فيما بعد الحول الأول يزكيهما زكاة خلطة كلما تم حول إحداهما أخرج قسطها نصف شاة فلو ملك أربعين أخرى في ربيع فعلى الأول لا شيء سوى الشاة الأولى وعلى الثاني زكاة خلطة ثلث شاة لأنها ثلث الجمع وفيما بعد الحول الأول في كل ثلث شاة لتمام حولها وعلى الثالث شاة.
"وإن كان الثاني يتغير به الفرض مثل أن يكون مائة شاة فعليه زكاته إذا تم حوله وجها واحدا" قدمه في المحرر والفروع وجزم به في الوجيز كما لو انقضت أحواله لأنه إما أن يجعلا كالمال الواحد لمالك أو كمالين لمالكين وعلى التقديرين يجب شاة أخرى بخلاف التي قبلها.
وهذا على الأول لأنه ينظر هنا إلى زكاة الجميع فيسقط منها ما وجب في الأول ويجب الباقي في الثاني وكذا على الثالث لأنه هناك يعتبر مستقلا بنفسه وكذا هنا.
وعلى الثاني: يجب زكاة خلطة وهي شاة وثلاثة أسباع شاة لأن في كل شاتين حصة المائة منها خمسة أسباع الكل بحصتها من فرضه خمسة أسباعه فلو(2/301)
وإن كان الثاني يتغير به الفرض ولا يبلغ نصابا مثل أن ملك ثلاثين من البقر في المحرم وعشرا في صفر فعليه في العشر إذا تم حولها ربع مسنة وإن ملك مالا يغير الفرض كخمس فلا شيء وفيها في أحد الوجهين وفي الثاني عليه سبع تبيع إذا تم حولها وإذا كان لرجل ستون شاة كل عشرين منها مختلطة بعشرين لآخر فعلى الجميع شاة نصفها على صاحب الستين ونصفها على خلطائه على كل واحد سدس شاة.
-------------------------------
ملك مائة أخرى في ربيع فعلى الأول والثالث شاة وعلى الثاني شاة وربع لأن في الكل ثلاث شياه والمائة ربع كل وسدسه فحصتها من فرضه ربعه وسدسه وفي إحدى وثمانين شاة بعد أربعين شاة شاة وقيل شاة واحدة وأربعون جزءأ من مائة وأحد وعشرين جزءا من شاة الخليط.
"وإن كان الثاني يتغير به الفرض ولا يبلغ به نصابا مثل أن ملك ثلاثين من البقر في المحرم وعشرا في صفر" فيجب في ثلاثين إذا تم حولها تبيع وأما المستفاد "فعليه في العشر إذا تم حولها ربع مسنة" ذكره في المحرر وجها واحدا لأن الفريضة الموجبة للمسنة قد كملت وقد أخرج زكاة الثلاثين فوجب في العشر يقطعها من المسنة وهو ربعها وعلى الثالث لا يجب شيء كما لو ملكها منفردة
"وإن ملك ما لا يغير الفرض كخمس فلا شيء فيهما في أحد الوجهين" قدمه في الفروع وجزم به في الوجيز لأنه وقص وكما لو ملكها دفعة واحدة وكذا على الثالث "وفي الثاني عليه سبع تبيع إذا تم حولها" لأنه مخالط بخمس كثلاثين كالأجنبي.
"وإذا كان لرجل ستون شاة كل عشرين منها مختلطة بعشرين لآخر فعلى الجميع شاة" لأنهم يملكون شيئا يجب فيه شاة واحدة على الانفراد فكذا في الاختلاط "نصفها على صاحب الستين ونصفها على خلطائه على كل واحد سدس شاة" ضم مال كل خليط إلى مال الكل فيصير كمال واحد قاله الأصحاب ومحله إذا لم يكن بينهما مسافة قصر أو كان على رواية ,(2/302)
وإن كان كل عشر منها مختلطة بعشر لآخر فعليه شاة ولا شيء على خلطائه لأنهم لم يختلطوا في نصاب وإذا كانت ماشية الرجل متفرقة في بلدين لا تقصر بينهما الصلاة فهي كالمجتمعة وإن كان بينهما مسافة القصر فكذلك في قول أب الخطاب والمنصوص أن لكل مال حكم نفسه كما لو كان لرجلين.
----------------------------------
وقيل يلزمهم شاتان وربع على صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة لأنه مخالط العشرين خلطة وصف ولأربعين بجهة الملك وحصة العشرين من زكاة الثمانين ربع شاة لأنه مخالط العشرين وقال ابن عقيل يجب في الجميع ثلاث شياه على رب الستين شاة ونصف جعلا للخلطة قاطعة بعض ملكه عن بعض وعلى كل خليط نصف شاة لأنه لم تخالط سوى عشرين
"وإن كانت كل عشر منها مختلطة بعشر لآخر فعليه شاة" لأن من شرط صحتها أن يكون المجموع نصابا وقد فات هنا فوجب على مالك الستين شاة
"ولا شيء على خلطائه" وأبرز المؤلف علته فقال "لأنهم لم يختلطوا في نصاب" بخلاف الأول "وإذا كانت ماشية الرجل متفرقة في بلدين لا تقصر بينهما الصلاة فهي كالمجتمعة" يضم بعضها إلى بعض ويزكيها كالمختلطة لا نعلم فيه خلافا "وإن كان بينهما مسافة القصر فكذلك" في رواية هي "قول" أكثر العلماء واختيار "أبي الخطاب" وصححه في المغني والشرح لقوله في أربعين شاة شاة ولأنه ملك واحد أشبه ما لو كان دون مسافة القصر وكغير السائمة إجماعا وعليها يخرج الفرض في أحد البلدين لأنه موضع حاجة وقيل بالقسط "والمنصوص" عن أحمد كما نقله الأثرم وغيره "أن لكل مال حكم نفسه" فإن كان نصابا وجبت الزكاة وإلا فلا فجعل التفرقة في البلدين كالتفرقة في الملكين فصار "كما لو كانا لرجلين" احتج أحمد بقوله عليه السلام "لا يجمع بين متفرق" الخبر وعندنا أن من جمع أو فرق خشية الصدقة لم يؤثر ذلك ولأن كل مال ينبغي معرفته ببلده فتعلق الوجوب به لكن قال ابن المنذر لا أعلم هذا القول عن غير(2/303)
ولا تؤثر الخلطة في غير السائمة وعنه أنها تؤثر ويجوز للساعي أخذ الفرض من مال أي الخليطين شاء مع الحاجة وعدمها.
---------------------------------
أحمد وحمل المؤلف النص على المجتمعة وكلام أحمد على أن الساعي لا يأخذها وإنما رب المال فيخرج إذا بلغ ماله نصابا وظاهره أن غير الماشية لا تكون كذلك لكن جعل أبو بكر في سائر الأموال روايتين كالماشية قاله ابن تميم.
"ولا تؤثر الخلطة في غيرالسائمة" نص عليه لقوله "لا يجمع الخليطان" ولأن السائمة تقل تارة وتكثر أخرى وسائر المال يجب فيما زاد على النصاب بحسابه فلا أثر لجمعها والخلطة من الماشية يؤثر في النفع والضرر فلو اعتبرناها في غيرها لأثرت ضررا محضا برب المال.
"وعنه: أنها تؤثر" لأن الارتفاق المعتبر فيها موجود في غيرها وظاهره مطلقا وخصها الأكثر بخلطة الأعيان وهي قول إسحاق والأوزاعي قال في الشرح فأما خلطة الأوصاف فلا مدخل لها في غير السائمة بحال لأن الاختلاط لا يحصل.
وقيل: لها مدخل نقل حنبل كالمواشي فقال إذا كانا رجلين لهما من المال ما فيه الزكاة من النقدين فعليهما بالحصص فيعتبر على هذا الوجه اتحاد المؤن ومرافق الملك وما يتعلق بإصلاح الشركة وخصها القاضي في شرحه الصغير بالنقدين.
"ويجوز للساعي أخذ الفرض من مال أي الخليطين شاء" لأن الجميع كالمال الواحد "مع الحاجة" بأن تكون الفريضة عينا واحدة لا يمكن أخذها إلا من أحد المالين أو يكون أحدهما صغارا والآخر كبارا ونحوه "وعدمها" بأن يجد فرض كل من المالين فيه نص أحمد على ذلك وظاهره ولو بعد قسمة في خلطة أعيان مع بقاء النصيبين وقد وجبت الزكاة خلافا لـ "المحرر" فأما من لا زكاة عليه كذمي ومكاتب فلا أثر لخلطته في جواز الأخذ لأن الجزء من(2/304)
ويرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته من القيمة فإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرجوع عليه إذا عدمت البينة وإذا أخذ الساعي أكثر من الفرض ظلما لم يرجع بالزيادة على خليطه.
----------------------------------
خليطين يمكن رجوع كل منهما على الآخر
"ويرجع المأخوذ به على خليطه" لقوله عليه السلام "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" أي إذا أخذ من أحدهما "بحصته من القيمة" يوم أخذت لزوال ملكه إذن ولأنها ليست من ذوات الأمثال فيرجع بالقسط الذي قابل ماله من المخرج فإذا كان لأحدهما ثلث المال وأخذ الفرض منه رجع بقيمة ثلثي المخرج على شريكه وإن أخذه من الآخر رجع بقيمة الثلث يرجع رب عشرة من الإبل أخذت منه بنت مخاض على رب عشرين بقيمة ثلثيها وبالعكس بقيمة ثلثها.
"فإن اختلفا في القيمة" بأن قال المأخوذ منه قيمتها عشرون وقال الآخر بل قيمتها عشرة "فالقول قول المرجوع عليه" مع يمينه "إذا عدمت البينة" واحتمل صدقه لأنه منكر غارم وكالغاصب وظاهره أنه لا يقبل قوله مع وجود البينة لأن العمل يجب بما يقوله لأنها ترفع النزاع "وإذا أخذ الساعي أكثر من الفرض ظلما" أي ثلاثا قيل كأخذه عن أربعين مختلطة شاتين من مال أحدهما "لم يرجع بالزيادة على خليطه" لأنها ظلم فلا يجوز رجوعه على غير ظالمه وفاقا وحينئذ يرجع على خليطه بنصف شاة فقط وذكر الشيخ تقي الدين فيها قولين للعلماء أظهرهما يرجع وقال في المظالم المشتركة وحينئذ تطلب من الشركاء يطلبها الولاة من البلدان أو التجار أو الحجيج أو غيرهم والكلف السلطانية على الأنفس أو الأموال أو الدواب ويلزمهم التزام العدل في ذلك كما يلزم فيما يؤخذ منهم بحق ولا يجوز لأحد أن يمتنع من أداء قسطه من ذلك بحيث يؤخذ قسطه من الشركاء لأنه لم يدفع الظلم عنه إلا بظلم شركائه.(2/305)
وإن أخذه بقول بعض العلماء رجع عليه.
----------------------------------
"وإن أخذه بقول بعض العلماء" كأخذه صحيحة عن مراض أو كبيرة عن صغار أو قيمة الواجب "رجع عليه" لأن الساعي نائب الإمام فعله كفعله ولهذا لا ينقض لكونه مختلفا فيه كما في الحاكم قال في المغني و الشرح ما أداه اجتهاده إليه وجب دفعه وصار بمنزلة الواجب وقال غيره لأن فعله في محل الاجتهاد سائغ نافذ فترتب عليه الرجوع لسوغانه وقال أبو المعالى إن أخذ القيمة وصار أحدها رجع بنصفها إن قلنا القيمة أصل وإن قلنا بدل فبنصف قيمة الشاة وإن لم تجزئ القيمة فلا رجوع ولم يرتضه في الفروع وإطلاق الأصحاب يقتضي الإجزاء ولو اعتقد المأخوذ به عدمه وعلم منه أنه إذا أخرج أحد الخليطين فوق الواجب لم يرجع بالزيادة قال صاحب المحرر عقد الخلطة جعل كل واحد منهما كالإذن لخليطه في الإخراج عنه وكذا قاله ابن حامد غاب الآخر أو حضر واختار ابن حمدان لا يجزئ.
تنبيه: إذا أخذ الساعي فرضا مجمعا عليه لكنه مختلف فيه هل هو عن الخليطين أو عن أحدهما عمل كل في التراجع بمذهبه لأنه لا نقض فيه لفعل الساعي فعشرون خلطة بستين فيها ربع شاة فإذا أخذ الشاة من الستين رجع ربها بربع الشاة وإن أخذها من العشرين رجع ربها بثلاثة أرباعها لا بقيمتها كلها ولا يسقط زيادة مختلف فيها بأخذ الساعي مجمعا عليه كمائة وعشرين خلطة بينهما ثلاث وستون عقب الحول بأخذ نصف شاة بناء على تعلق الزكاة بالنصاب والعفو وجعل للخلطة والتلف تأثيرا لزمهما إخراج نصف شاة ذكرهما في منتهى الغاية.(2/306)
باب زكاة الخارج من الأرض
تجب الزكاة في الحبوب كلها وفي كل ثمر يكال ويدخر كالتمر والزبيب واللوز والفستق والبندق.
------------------------------
باب زكاة الخارج من الأرض
والأصل في وجوبها قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: من الآية267] والزكاة تسمى نفقة لقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: من الآية34] وقوله تعالى {وَءآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه} [الأنعام: من الآية141] الأنعام قال ابن عباس حقه الزكاة مرة العشر ومرة نصف العشر والسنة مستفيضة بذلك وأجمعوا على وجوبها في الحنطة والشعير والتمر والزبيب حكاه ابن المنذر.
"تجب الزكاة في الحبوب كلها" سواء كان قوتا كالحنطة والشعير والأرز والدخن أو من القطنيات كالباقلاء والعدس والحمص أو من الأبازير كالكسفرة والكمون وكبزر الكتان والقثاء والخيار وحب البقول كحب الرشاد والفجل والقرطم لعموم النص السابق ولقوله عليه السلام "فيما سقت السماء والعيون العشر" رواه البخاري.
"وفي كل ثمر يكال ويدخر" نقله أبو طالب لقوله عليه السلام "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" متفق عليه فدل على أن مالا يدخله التوسيق ليس مرادا من عموم الآية والخبر وإلا لكان ذكر الأوسق لغوا ولأن غير المدخر لا تكمل فيه النعمة لعدم النفع فيه مالا "كالثمر والزبيب واللوز" نص عليه وعلله بأنه مكيل "والفسق والبندق" والسماق نقل صالح وعبد الله وأن يكال ويدخر ويقع فيه القفيز ففيه العشر وما كان مثل البصل والرياحين والرمان فليس فيه زكاة إلا أن يباع ويحول على ثمنه حول اختاره جماعة وجزم به آخرون(2/307)
ولا تجب في سائر الثمر ولا في الخضر والبقول والزهر وعنه أنها تجب في الزيتون والقطن والزعفران إذا بلغا بالوزن نصابا.
-----------------------------------------
"ولا تجب في سائر الثمر" كالجوز نص عليه وعلل بأنه معدود والخوخ والآجاص والكمثري والمشمش والتين والتوت ونحوه لأنها ليست مكيلة وقد روي أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك والرمان ما هو أكثر غلة من الكروم أضعافا فكتب إليه عمر ليس فيها عشر هي من العضاة رواه الأثرم وكذا العناب وجزم في الأحكام السلطانية و المستوعب و الكافي بالزكاة فيه قال في الفروع وهذا أظهر والتين والمشمش والتوت مثله واختاره شيخنا في التين لأنه يدخر كالتمر.
"ولا في الخضر" كالقثاء والباذنجان واللفت لما روى الدارقطني بإسناده عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس في الخضروات صدقة" وعن عائشة نحوه
"والبقول والزهر" لأنه غير مكيل مدخر ونحوهما الورق وطلع الفحال والسعف والخوص والحطب والخشب وأغصان الخلاف والحشيش والقصب مطلقا ولبن الماشية وصوفها وكذا الحرير ودود القز.
"وعنه: أنها تجب في الزيتون" اختاره القاضي والمجد لقوله تعالى {وَالزَّيْتُونَ} [الأنعام: من الآية99] ولأنه حب مكيل ينتفع بدهنه الخارج منه أشبه السمسم والكتان فيزكى إذا بلغ خمسة أوسق كيلا نص عليه ويخرج منه وإن صفاه وأخرج عصير زيته فهو أفضل لأنه المقصود منه والثانية واختارها الخرقي وأبو بكر والمؤلف عدم الوجوب لأن الادخار شرط ولم تجر العادة به فلم يجب والآية بمكة نزلت قبل وجوب الزكاة فلا تكون مرادة بدليل أنها لا تجب في الرمان
"والقطن والزعفران" لأن ذلك موزون مدخر تام المنفعة والوزن أقيم مقام الكيل لاتفاقهما في عموم المنفعة "إذا بلغا بالوزن نصابا" وهو ألف وستمائة رطل عراقية لأنه لما تعذر اعتباره بالكيل رجع فيه إلى الوزن ذكره القاضي في(2/308)
وقال ابن حامد لا زكاة في حب البقول كحب الرشاد والأبازير كالكسفرة والكمون وبزر القثاء والخيار ونحوه ويعتبر لوجوبها شرطان أحدهما: أن قدره بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار خمسة أوسق.
__________
المجرد وعنه أن نصاب ذلك ما يبلغ قيمته قيمة نصاب من أدنى العشرات
والثانية: لا يجب فيهما وهو اختيار الأكثر لعدم الكيل فيهما وقيام الوزن مقام الكيل لم يرد به نص ولا يصح قياسه على الكيل لأن معقولة فيه وقال ابن عقيل لم أجد فيهما نصا عن أحمد غير أن القاضي حكى عنه روايتين فإذا لم يجب في القطن وجب في حبه جزم به جماعة وقدم ابن تميم عدم الوجوب والكتان مثله وذكره القاضي وكذا العنب واختار المجد أنه لا يجب في الزعفران ويخرج عليه العصفر والورس والنيل قال الحلواني والفوة وفي الحناء الخلاف
"وقال ابن حامد لا زكاة في حب البقول كحب الرشاد والأبازير كالكسفرة والكمون وبزر القثاء والخيار ونحوه" كبزر الرياحين لأنها ليست بقوت ولا أدم ويدخل في هذا بزر اليقطين وذكره في المستوعب من المقتات ويخرج الصعتر والأشنان على الخلاف وجزم أبو الخطاب والمجد بالوجوب لأنه نبات مكيل مدخر وماله ورق مقصود كورق السدر والخطمي والآس على الخلاف والأشهر الوجوب وحكى ابن المنذر عن أحمد لا زكاة إلا في التمر والزبيب والبر والشعير قدمه ابن رزين في مختصره يروى عن ابن عمر وأبي موسى وقاله جمع من التابعين
"ويعتبر لوجوبها شرطان أحدهما أن قدره بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار خمسة أوسق" فلا يجب في أقل من ذلك لقوله عليه السلام "ليس فيما دون خمسة أوسق من ثمر ولا حب صدقة" رواه أحمد ومسلم فتقديره بالكيل يدل على إناطة الحكم به ولا يعتبر له الحول لتكامل النماء عند الوجوب بخلاف غيره ويشترط كون النصاب بعد التصفية في الحبوب ؛(2/309)
والوسق ستون صاعا والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي فيكون ذلك ألفا وستمائة رطل.
----------------------------------
لأنه حال الكمال والادخار والجفاف في الثمار لأن التوسيق لا يكون إلا بعد التجفيف فوجب اعتباره عنده فلو كان عشرة أوسق عنبا لا يجيء منه خمسة أوسق زبيبا لم يجب شيء.
"والوسق" بفتح الواو وكسرها "ستون صاعا" لقوله عليه السلام "الوسق ستون صاعا" رواه الأثرم بإسناده من حديث سلمة بن صخر وعن أبي سعيد وجابر ونحوه رواه ابن ماجه وهذا أشهر في اللغة وتوارد عليه علماء الشريعة فيكون ثلاثمائة صاع
"والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي" وهو رطل وسبع دمشقي فرد على الثلاثمائة سبعها تكن ثلاثمائة واثنين وأربعين رطلا وستة أسباع رطل بالدمشقي على ما حكاه في المغني الجديد أن الرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وبالقدسي وما وافقه مائتان وسبعة وخمسون رطلا وسبع رطل وبالحلبي وما وافقه مائتان وخمسة وثمانون رطلا وخمسة أسباع رطل وبالمصري وما وافقه ألف وأربعمائة وثمانية وعشرون رطلا وأربعة أسباع رطل
"فيكون ذلك" أي بالعراقي "ألفا وستمائة رطل" وعلى ما ذكره أبو عبيد أنه بلا كسر ثلاثمائة رطل وأحد وأربعون رطلا وثلث رطل والوسق والصاع كيلان لا صنجان وإنما نقل إلى الوزن ليحفظ وينقل إذ المكيل يختلف في الوزن فمنه ثقيل كالأرز والتمر ومتوسط كالحنطة والعدس وخفيف كالشعير والذرة والاعتبار في ذلك بالمتوسط نص عليه فيجب في الخفيف إذا قارب هذا الوزن وإن لم يبلغه لأنه في الكيل كالرزين قال في الفروع وأكثر الثمر أخف من الحنطة على الوجه الذي يكال شرعا لأن ذلك على هيئة غير مكبوس وعنه أن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي بالحنطة أي بالرزين لأنه الذي يساوي العدس في وزنه وحكى القاضي عن ابن حامد أنه يعتبر أبعد الأمرين الكيل أو الوزن.(2/310)
إلا الأرز والعلس نوع من الحنطة ويدخر في قشره فإن نصاب كل واحد منهما مع قشرة عشرة أوسق وعنه أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطبا ثم يؤخذ عشرة يابسا.
__________
تنبه: نصاب الزرع والثمرة تحديد في الأشهر لتحديد الشارع بالأوسق وعنه تقريب فيؤثر نحو رطلين ومدين على الأول لا الثاني وجعله في الرعاية فائد: الخلاف وقدم الثانية ولا اعتبار بنقص ذلك في الأصح جزم به الأئمة وقال صاحب التلخيص إذا نقص ما لو وزع على الخمسة أوسق ظهر فيها فلا زكاة وإلا وجبت
فرع: إذا شك في بلوغ قدر النصاب احتاط وأخرج ولم تجب لأنه الأصل قاله في المغني و الشرح و منتهى الغاية ومن اتخذ وعاء يسع خمسة أرطال وثلثا من البر الرزين ثم كال به ما شاء عرف أبلغ حد الوجوب من غيره نص عليه
"إلا الأرز والعلس نوع من الحنطة" وهو منقول عن أئمة اللغة والفقه "يدخر في قشره" عادة لحفظه "فإن نصاب كل واحد منهما مع قشره عشرة أوسق" لأن أهله زعموا أنه يخرج على النصف وأنه إذا خرج من قشره لا يبقى كغيره فيجب العشر إذا بلغا ذلك لأن فيه خمسة أوسق حبا وإن صفيا فخمسة أوسق ويختلف ذلك بثقل وخفة فيرجع إلى أهل الخبرة ويؤخذ بقدره
"وعنه أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطبا ثم يؤخذ عشرة يابسا" لما روى أبو داود والترمذي بإسنادهما عن عتاب بن أسيد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص العنب كما يخرص النخل فيؤخذ زكاته زبيبا كما يؤخذ صدقة النخل تمرا وما وجب خرصه اعتبر بحال رطوبته كما لو كانت الثمرة لا وعنه يعتبر نصابهما رطبا وعنبا اختاره الخلال وصاحبه والقاضي وأصحابه ويؤخذ عشر ما يجيء منه وحملها في المغني على أنه أراد أن يؤخذ عشر ما يجيء منه من التمر إذا بلغ رطبها خمسة أوسق لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر إيجاب لأكثر من العشر وذلك مخالف للنص والإجماع ورده الزركشي بأن أحمد قال في(2/311)
وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب فإن كان له نخل يحمل في السنة حملين ضم أحدهما إلى الآخر ولا يضم جنس إلى آخر في تكميل النصاب وعنه أن الحبوب يضم بعضها إلى بعض.
------------------------------
رواية الأثرم قال الشافعي يخرص ما يؤول إليه وإنما هو على ظاهر الحديث قيل له فإن خرص عليه مائتا وسق رطبا يعطي عشرة أوسق تمرا قال نعم هو على ظاهر الحديث فهذا نص صريح في مخالفة التأويل
"وتضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض في تكميل النصاب" لعموم الخبر وكما لو بدا صلاح إحداهما قبل الأخرى وهو محمول على اختلاف الأنواع كالبرني والمعقل وسواء اتفق وقت إطلاعها وإدراكها أو اختلف أو تعدد البلد أو لا نص عليه فيأخذ عامل البلد حصته من الواجب في محل ولاية وعنه لا يجوز لنقص ما في ولايته عن نصاب فيخرج المالك فيما بينه وبين الله وليس المراد بالعام هنا اثني عشر شهرا بل وقت استغلال المغل من العام عرفا وأكثره عادة ستة أشهر بقدر فصل:ين وعلم منه أنه لا يضم ثمرة عام أو زرعه إلى آخر
"فإن كان له نخل يحمل في السنة حملين ضم أحدهما إلى الآخر" لزرع العام الواحد وكالذرة التي تنبت مرتين "وقال القاضي لا يضم" لقدرته مع بيان أصله فهو لثمرة عام آخر بخلاف الزرع فعليه لو كان له نخل يحمل بعضه في سنة حملا وبعضه حملين ضم ما يحمل حملا إلى أيهما بلغ معه وإن كان بينهما فإلى أقربهما إليه
"ولا يضم جنس إلى آخر في تكميل النصاب" اختاره المؤلف وغيره وصححه في الشرح كأجناس الثمار والماشية
"وعنه: أن الحبوب يضم بعضها إلى بعض" نقلها جماعة وصححها القاضي وغيره وقدمها في المحرر واختارها أبو بكر لاتفاقهما في قدر النصاب والمخرج كضم أنواع الجنس.(2/312)
وعنه يضم الحنطة إلى الشعير والقطنيات بعضها إلى بعض الثاني: أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة ولا يجب فيما يكتسبه اللقاط أو يأخذه بحصاده ولا فيما يجتنيه من المباح كالبطم والزعبل وبزر قطونا ونحوه وقال القاضي فيه الزكاة إذا ثبت في أرضه.
فصل:
ويجب العشر فيما سقي بغير كلفة كالغيث.
---------------------------------
"وعنه يضم الحنطة إلى الشعير والقطنيات بعضها إلى بعض" اختاره الخرقي وأبو بكر وجماعة وجزم به في الوجيز لأن ذلك يتقارب منفعة أشبه نوعي الجنس وعليها تضم الأبازير بعضها إلى بعض وكذا حب البقول لتقارب المقصود والذرة إلى الدخن وكل ما يقارب من الحبوب ضم ومع المسك لا ضم لأن الأصل عدم الوجوب "الثاني أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة" وهو بدو الصلاح "ولا يجب فيما يكتسبه اللقاط" من السنبل "أو يأخذه" أجرة "بحصاده" وكذا ما ملكه بعد بدو الصلاح بشراء أو إرث أو غيره بخلاف العسل للأثر "ولا فيما يجتنيه من المباح كالبطم والزعبل" بوزن جعفر وهو شعير الجبل "ويزر قطونا ونحوه" كحب النمام وبزر البقلة وهذا هو المشهور لأن وقت الوجوب لم يملكه فلم تجب كما لو اتهبه "وقال القاضي" وأبو الخطاب "فيه الزكاة" لكونه مكيلا مدخرا "إذا ثبت في أرضه" وهو مبني على أن المباح إذا ثبت في أرضه هل يملك بملك الأرض أو يأخذه والأصح أنه لا يملكه بملكها بل يأخذه فإن ثبت بنفسه ما يزرعه الآدمي كمن سقط له حب حنطة في أرضه أو أرض مباحة ففيه الزكاة لأنه ملكه وقت الوجوب
فصل:
"ويجب العشر" واحد من عشرة إجماعا "فيما سقي بغير كلفة كالغيث(2/313)
والسيوح وما يشرب بعروقه ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح فإن سقى السنة بهذا ونصفها بهذا ففيه ثلاثة أرباع العشر وإن سقى بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما.
----------------------------------------
والسيوح" جمع سيح وهو الماء الجاري على وجه الأرض والمراد الأنهار والسواقي "وما يشرب بعروقه" كالبعل "ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي" واحدتها دالية وهي الدولاب تديره البقر والناعورة تديرها الماء "والنواضح" جمع ناضح وناضحة وهما البعير والناقة يستقى عليهما والأصل فيه ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر" رواه البخاري
سمي عثريا لأنهم يجعلون في مجرى الماء عاثورا فإذا صدته الماء يزاد مدخل تلك المجار فتسقيه ولأن للكلفة تأثيرا في إسقاط الزكاة ففي تخفيفها أولى ولا تؤثر مؤنة حفر الأنهار والسواقي لأنه من جملة إحياء الأرض ولا يتكرر كل عام وكذا من يحول الماء في السواقي لأنه كحرث الأرض وتسحيتها فلو اشترى ماء بركة أو حفيرة وسقى سيحا فالعشر في ظاهر كلامهم لندرة هذه المؤنة وفيه وجه نصفه وكذا إن جمعه ثم سقى به فيجب العشر فإن كان يجري من النهر في ساقيه إلى الأرض ويستقر في مكان قريب من وجهها إلا أنه يحتاج في ترقية الماء إلى الأرض إلى آله من غرف أو دولاب فهو من الكلفة المسقطة لنصف العشر.
فرع: إذا سقيت أرض العشر بماء الخراج لم يؤخذ منها وعكسه لم يسقط خراجها ولا يمنع من سقي كل واحدة بماء الأخرى نص على ذلك
"فإن سقى السنة بهذا ونصفها بهذا ففيه ثلاثة أرباع العشر" بغير خلاف نعلمه لأن كل واحد منهما لو وجد في جميع السنة لأوجب مقتضاه فإذا وجد في نصفه أوجب نصفه "فإن سقى بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما نص عليه" لأن مقدار عدد السقي ومراته وقدر ما(2/314)
نص عليه وقال ابن حامد يؤخذ بالقسط وإن جهل المقدار وجب العشر وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح في الثمر وجبت الزكاة فإن قطعها قبله فلا زكاة فيها إلا أن يقطعها فرارا من الزكاة فيلزمه.
--------------------------------
يسقى به في كل مرة يشق فاعتبر الأكثر كالسوم وقال القاضي بعدد السيقات وقيل باعتبار المدة.
"وقال ابن حامد يؤخذ بالقسط" لوجوبه عند التماثل فكذا عند التفاضل كفطرة العبد المشترك فلو اختلف المالك والساعي فيما سقي به أكثر صدق المالك بغير يمين لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم وقيل يحلف لكن إن نكل لزمه ما اعترف به فقط
"وإن جهل المقدار وجب العشر" نص عليه لأن الأصل وجوبه كاملا ولأنه خروج عن عهدة الواجب بيقين وعلى قول ابن حامد يجعل منه بكلفة المتقين والباقي سيحا ويؤخذ بالقسط وهو معنى القول بلزوم الأنفع للفقير.
مسألة: إذا كان له حائطان أحدهما يسقي بمؤنة والآخر بغيرها ضما في النصاب ولكل منهما حكم نفسه في سقيه بمؤنتها أو غيرها
"وإذا اشتد الحب وبدا الصلاح في الثمر وجبت الزكاة" لأنه يقصد للأكل والا قتيات كاليابس ولأنه وقت خرص الثمرة لحفظ الزكاة ومعرفة قدرها بدليل أنه لو أتلفه لزمه زكاته ولو باعه أو وهبه قبل الخرص وبعده فزكاته عليه دون المشتري والموهوب له ولو مات وله ورثة لم يبلغ حصته واحد منهم نصابا لم يؤثر ذلك وقال ابن أبي موسى تجب زكاة الحب يوم حصاده لقوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141] وفائد: الخلاف في التصرف
"فإن قطعها قبله فلا زكاة فيها" كما لو أكل السائمة أو باعها قبل الحول "إلا أن يقطعها فرارا من الزكاة فيلزمه" لتفويته الواجب بعد انعقاد سببه أشبه العامل والمطلق ثلاثا في مرض موته.(2/315)
ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في الجرين فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت سواء كانت خرصت أو لم تخرص وإذا ادعى تلفها قبل قوله بغير يمين ويجب إخراج زكاة الحب مصفى والثمر يابسا.
-----------------------------
"ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في الجرين" ويجعل الزرع في البيدر لأنه قبل ذلك في حكم ما لم يثبت اليد عليه بدليل ما لو كانت مبيعة فتلفت بجائحة رجع المشتري على البائع وهذا ظاهر على قول من لم يجعل التمكن من الأداء شرطا
"فإن تلفت قبله بغير تعد منه سقطت" لأنها لم تستقر أشبه ما لو لم يتعلق به فإن تلف بعض الثمرة فقال القاضي إن كان الباقي نصابا ففيه الزكاة وإلا فلا والمذهب إن كان التلف قبل الوجوب فهو كما قال القاضي وإن كان بعده وجب في الباقي بقدره مطلقا وظاهره أنه إذا أتلفها أو تلفت بتفريطه أنه يضمن نصيب الفقراء صرح به في الكافي و الشرح لأنه مفرط "سواء كانت خرصت أو لم تخرص" لأن الخرص لا يوجب وإنما فعل ذلك للتمكن من التصرف فوجب سقوط الزكاة مع وجوده كعدمه
"وإذا ادعى تلفها" بغير تفريط "قبل قوله" ولو أنهم "بغير يمين" نص عليه لأنه خالص حق الله فلا يستخلف فيه كالصلاة.
"ويجب إخراج زكاة الحب مصفى والثمر يابسا" لحديث عتاب بن أسيد ولا يسمى زبيبا وتمرا إلا اليابس وإذا ثبت ذلك فالكل كذلك لأن حالة اليباس حالة الكمال وفي الرعاية وقيل يجزئ رطبه وقيل فيما لا يتمر ولا يزبب فهذا وأمثاله لا عبرة به قاله في الفروع وأطلق ابن تميم عن ابن بطة له أن يخرج رطبا وعنبا فعلى الأول لو أخرج سنبلا ورطبا وعنبا لم يجزئه ووقع نفلا وإن كان الساعي أخذه فجففه وصفاه وكان قدر الواجب أجزأه وإن كان دونه أخذ الباقي وإن كان زائدا رد الفضل وإن كان رطبا بحاله رده وإن تلف رد مثله قاله الأصحاب .(2/316)
فإن احتيج إلى قطعه قبل كماله لضعف الأصل ونحوه أو كان رطبا لا يجيء منه تمر أو عنبا لا يجيء منه زبيب أخرج منه عنبا ورطبا وقال القاضي يخير الساعي بين قسمته مع رب المال قبل الجذاذ أو بعده وبين بيعها منه أو في غيره والمنصوص أنه لا يخرج إلا يابسا وأنه لا يجوز له شراء زكاته.
----------------------------------------
"فإن احتيج إلى قطعه قبل كماله لضعف الأصل ونحوه" كخوف عطش قال في الفروع أو لتحسين بقيته "أو كان رطبا لا يجيء منه تمر" كالحسنوي "أو عنبا لا يجيء منه زبيب" كالخمري "أخرج منه عنبا ورطبا" إن كان قدر نصاب يابسا اختاره القاضي والشيخان وصاحب الفروع لأنها وجبت مواساة ولا مواساة في إلزامه ما ليس في ملكه وقد تضمن ذلك جواز القطع لأنه لا يتمكن من الإخراج إلا به ولأن عليه ضررا في إبقائه لكن قال المؤلف إن كفى التجفيف لم يجز قطع الكل وفي كلام بعضهم إطلاق وإنما قيل جاز لأنه مستثنى من عدم الجواز ومراده يجب لإضاعة المال ولا يجوز القطع إلا بإذن الساعي إن كان
"وقال القاضي" وجماعة "يخير الساعي بين قسمته مع رب المال قبل الجذاذ" بالخرص ويأخذ نصيبهم نخلات مفردة بأخذ تمرتها "أو بعده" بأن جذها وقاسمه إياها بالليل ويقسم الثمرة في الفقراء "وبين بيعها منه أو في غيره" ويقسم ثمنها ولأن رب المال يبذل فيها عوض مثلها أشبه الأجني
"والمنصوص: أنه لا يخرج إلا يابسا" مصفاة اختاره أبو بكر وجزم به في الوجيز لقوله عليه السلام يخرص العنب فتؤخذ زكا ته زبيبا ولأنه حالة الكمال فاعتبر فإن أتلف رب المال هذه الثمرة ضمن الواجب في ذمته تمرا أو زبيبا كغيرها فإن لم يجده فهل يخرج قيمته أو يبقى في ذمته يخرجه إذا قدر فيه روايتان "وأنه لا يجوز له شراء زكاته" لقوله عليه السلام لعمر في سرير الفرس "لا تشتره ولا تعد في صدقتك ولو أعطاكه بدرهم" وقيده في الوجيز بغير ضرورة وهو مراد.(2/317)
وينبغي أن يبعث الإمام ساعيا إذا بدا صلاح الثمر ليخرصه عليهم ليتصرفوا فيه فإن كان أنواعا خرص كل نوع وحده وإن كان نوعا واحدا فله خرص كل شجرة وحدها وله خرص الجميع دفعة واحدة.
----------------------------
"وينبغي أن يبعث الإمام ساعيا إذا بدا صلاح الثمر ليخرصه عليهم ليتصرفوا فيه" لقول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه رواه أبو داود ولحديث عتاب وغيره ولأنه اجتهاد في معرفة الحق بالظن للحاجة لغيره وذكر ابن المنجا أن نخل البصرة لا يخرص وأنه أجمع عليه الصحابة ومعها الأمصار للمشقة ويكفي خارص واحد لأنه يفعل ما يؤدي إليه اجتهاده كحاكم وقائف ويعتبر كونه مسلما أمينا لا يتهم خبيرا وقيل حرا وأجرته على بيت المال فإن لم يبعث فعلى رب المال من الخرص ما يفعله الساعي ليعرف قدر الواجب قبل تصرفه ويخيره بين أن يتصرف بما شاء ويضمن قدرها وبين حفظها إلى وقت الجفاف فإن لم يضمن الزكاة وتصرف صح تصرفه وحكى ابن تميم عن القاضي أنه لا يباح التصرف كتصرفه قبل الخرص
"فإن كان أنواعا خرص كل نوع وحده" لأنه أقرب إلى العدل وعدم الجور لأن الأنواع تختلف فمنها ما يكثر رطبه ويقل تمره وبالعكس "وإن كان نوعا واحدا فله خرص كل شجرة وحدها" فيطيف بها "وله خرص الجميع دفعة واحدة" لأن النوع الواحد لا يختلف غالبا ولما فيه من المشقة بخرص كل شجرة على حدة والخرص خاص بالنخل والكرم فقط للنص وللحاجة إلى أكلها رطبين وخرصهما ممكن لظهور ثمرتهما واجتماعهما في عناقيدهما بخلاف الزيتون لتفرق حبه واستتاره بورقه وقيل يخرص.
فرع: إذا ادعى المالك غلط الخارج وكان ممكنا فإن فحش فقيل يرد قوله وقيل ضمانا كانت أو أمانة ترد في الفاحش وظاهر كلامهم لو ادعى كذبه عمدا لم يقبل ولو قال ما حصل بيدي إلا هذا قبل ويكلف ببينة في دعواه جائحة ظاهرة ثم يصدق في التلف وإن ادعى بالحالف العادة لم يقبل(2/318)
ويجب أن يترك في الخرص لرب المال الثلث أو الربع فإن لم يفعل فلرب المال الأكل بقدر ذلك ولا يحسب عليه ويؤخذ العشر في كل نوع على حدته.
-------------------------------------
"ويجب أن يترك في الخرص لرب المال الثلث أو الربع" بحسب اجتهاد الساعي لما روى سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" رواه الخمسة إلا ابن ماجه ورواه ابن حبان والحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد وهذا توسعة على رب المال لأنه يحتاج إلى الأكل هو وأضيافه وجيرانه وأهله ويأكل منها المارة ومنها الساقطة فلو استوفى الكل أضربهم.
وذكر جماعة أنه يترك قدر أكلهم وهديتهم بالمعروف بلا تحديد للأخبار وقاله أكثر العلماء وقال ابن حامد إنما يترك في الخرص إذا زادت الثمرة على النصاب فإن كانت نصابا فلا وهذا القدر المدرك لا يكمل به النصاب نص عليه فدل أن رب المال لو لم يأكل شيئا لم يزكه وهو ظاهر كلام جماعة وفي الوجيز يزكي الكل وفي المحرر ويوضع ثلث الثمرة أو ربعها فلا يحتسب له زكاة ويزكي الباقي إن بلغ نصابا
"فإن لم يفعل فلرب المال الأكل بقدر ذلك ولا يحسب عليه" نص عليه لأنه حق له بأن يرى الساعي شيئا من الواجب أخرجه المالك نصا
تذنيب: ظاهر ما سبق أن الحبوب لا تخرص وللمالك الأكل منها هو وعياله بحسب العادة كالفريك وما يحتاجه ولا يحتسب عليه ولا يهدي نص على ذلك قال في الخلاف أسقط أحمد عن أرباب الزرع الزكاة في مقدار ما يأكلون كما أسقط في الثمار وفي المحرر و الفصول يحتسب عليه ولا يترك له منه شيء وذكره الآمدي ظاهر كلامه كالمشترك من الزرع نص عليه لأنه القياس والحب ليس في معنى الثمرة.
"ويؤخذ العشر في كل نوع على حدته" لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فينبغي(2/319)
فإن شق ذلك أخذ من الوسط ويجب العشر على المستأجر دون المالك ويجتمع العشر والخراج في كل أرض فتحت عنوة.
--------------------------
أن يتساووا في كل نوع ولا مشقة فيه بخلاف السائمة فإن أخرج زكاة كل نوع أفضى إلى التشقيص وفيه مشقة ولا يجوز الرديء عن الجيد وبالعكس لا يجب لما فيه من الإضرار بالمالك
"فإن شق ذلك أخذ من الوسط" لانتفاء الحرج والمشقة شرعا وكالسائمة فلو كان المال نوعا واحدا أخذ منه مطلقا بغير خلاف لأنها وجبت على طريق المواساة فهم بمنزلة الشركاء
"ويجب العشر على المستأجر دون المالك" في قول الأكثر لقوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141] ولأنه مالك للزرع كالمستعير وكتاجر استأجر حانوتا وفي إيجابه على المالك إجحاف ينافي المواساة وهو من حقوق الزرع بدليل أنها لا تجب إذا لم يزرع ويتقدر بقدره بخلاف الخراج فإنه من حقوق الأرض والغاصب إذا حصد زرعه يزكيه لاستقرار ملكه فإن ملكه رب الأرض قبل اشتداد حبه زكاه وكذا بعد اشتداد الحب لأنه استند إلى أول زرعه فكأنه أخذه إذن وقيل يزكيه الغاصب لأنه تملكه وقت الوجوب.
"ويجتمع العشر والخراج في كل أرض فتحت عنوة" وكل أرض خراجية نص عليه للعموم فالخراج في رقبتها والعشر في غلتها ولأن سبب الخراج التمكين من النفع لوجوبه وإن لم يزرع وسبب العشر الزرع كأجرة المتجر مع زكاة التجارة ولأنها بسببين مختلفين لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد المملوك والحديث المروي "لا يجتمع العشر والخراج في أرض مسلم" ضعيف جدا قال ابن حبان ليس هذا الحديث من كلام النبوة ثم يحمل على الخراج الذي هو الجزية ولو كان عقوبة لما وجب على مسلم كالجزية وشرطه أن يكون لمسلم قال أحمد ليس في أرض أهل الذمة صدقة وظاهره أنهما لا يجتمعان في أرض الصلح.(2/320)
ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية ولا عشر عليهم وعنه عليهم عشران
------------------------------
تذنيب: الأرض الخراجية ما فتح عنوة ولم تقسم وما جلا عنها أهلها خوفا منا وما صولحوا عليها على أنها لنا ونقرها معهم بالخراج والعشرية عند أحمد وأصحابه ما أسلم أهلها عليها نقله حرب كالمدينة ونحوها وما اختطه المسلمون كالبصرة وما صولح أهله على أنه لهم بخراج يضرب عليهم كأرض اليمن وما فتح عنوة وقسم كنصف خيبر وما أقطعه الخلفاء الراشدون من السواد إقطاع تمليك
فرع: لا زكاة في قدر الخراج إذا لم يكن له مال آخر لأنه من مؤنة الأرض كنفقة زرعه ومتى لم يكن له سوى غلة الأرض وفيها ما لا زكاة فيه كالخضروات جعل ما لا زكاة فيه في معاملة الخراج لأنه أحوط للفقراء ولا ينقص النصاب بمؤنة حصاد ودياس وغيرهما منه لسبق الوجوب
"ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية" في رواية وقالها الأكثر لأنها مال مسلم يجب الحق فيها للفقراء فلم يمنع من بيعها لذمي كالسائمة واقتصر جمع كالمؤلف على الجواز ومنهم من قال يكره نص عليه وعنه يمنعون من شرائها اختارها الخلال وصاحبه فعليها يصح جزم به الأصحاب وحكى أحمد عن الحسن وعمر بن عبد العزيز يمنعون من الشراء فإن اشتروا لم يصح نقل عدم المنع
"ولا عشر عليهم" لأنه زكاة فلا يجب على ذمي كالسائمة وذكر القاضي في شرحه الصغير أنه يجب على الذمي غير التغلبي نصف العشر في إحدى الروايتين سواء اتجر بذلك أم لم يتجر به من ماله وثمرته وماشيته وعلى المنع
"وعنه: عليهم عشران" لأن فيه تصحيح كلام المتعاقدين ودفع الضرر المؤبد عن الفقراء بوجوب الحق فيه وكان ضعف ما على المسلم كما يجب(2/321)
يسقط أحدهما بالإسلام.
فصل:
وفي العسل العشر
-------------------------------------------------
في الأموال التي يمرون بها على العاشر نصف العشر ضعف الزكاة.
"يسقط أحدهما بالإسلام" وكذا لو باعها مسلما فإنه يسقط عشر ويبقى عشر الزكاة للمستقبل لعموم الأخبار وقدم في الفروع أنهما يسقطان بالإسلام لسقوط جزية الرؤوس وجزية الأرض وهو خراجها بالإسلام ولم يكن وقت الوجوب من أهل الزكاة
وعنه: لا شيء عليهم قدمه بعضهم وعنه عليهم عشر واحد ذكرها في الخلاف كما كان لتعلقه بالأرض كبقاء الخراج وظاهر ما سبق أنه يجوز إجارتها منه لكن يكره لإفضائه إلى إسقاط عشر الخارج منها وهذه الأرض لا تصير خراجية بما ذكرنا لأنها أرض عشر كما لو كان مشتريها مسلما ولا يجوز بقاء أرض بلا عشر ولا خراج بالاتفاق.
فصل:
"وفي العسل العشر" لما روى سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعي قال قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال "فأد العشور" قال قلت يا رسول الله احم لي جبلها قال فحمى لي جبلها رواه أحمد وابن ماجه ورواته ثقات إلا سليمان الأشدق قال البخاري عنده مناكير وقد وثقه ابن معين قال الترمذي هو ثقة عند المحدثين غير أنه لم يدرك أبا سيارة واحتج أحمد بقول عمر قيل لأحمد إنهم تطوعوا به قال لا بل أخذ منهم وعنه لا زكاة فيه بناء على قول الصحابي لأنه تابع خارج من حيوان أشبه اللبن قال ابن المنذر ليس في وجوب الصدقة حديث يثبت ولا إجماع وعنه ما يدل على أنه لا زكاة فيه من المباح واعترف المجد أنه القياس لو لا الأثر.(2/322)
سواء أخذه من موات أو من ملكه ونصابه عشرة أفراق كل فرق ستون رطلا.
--------------------------------
"سواء أخذه من موات أو من ملكه" قال في الرعاية وغيرها أو ملك غيره ونقل صالح لا فرق بين أرض الخراج والعشر.
تنبيه: ما ينزل من السماء على الشجر كالمن والزنجبين والشيرخشك وشبهها ومنه اللادن وهو طل ينزل على نبت تأكله المعزى فيه العشر كالعسل في ظاهر كلام أحمد وقيل لا لعدم النص وجزم به جماعة منهم في المغني و المحرر فيما يخرج من البحر
"ونصابه عشرة أفراق" نص عليه لقول عمر في كل عشرة أفراق فرق رواه الجوزجاني وتقدم قول في نصاب الزيت خمسة أفراق فيتوجه منه تخريج لأنه أعلى ما يقدر فيه فاعتبر خمسة أمثاله كالوسق وحينئذ فلا زكاة في قليله بل يعتبر نصابه بالأفراق وهو جمع فرق قيل بسكون الراء وقيل بفتحها قال عياض وهو الأشهر.
"كل فرق ستون رطلا" عراقية في قول ابن حامد والقاضي في المجرد وروي عن الخليل بن أحمد فيكون نصابه ستمائة رطل وزنها بالدمشقي مائة وعشرون رطلا وثلث رطل وفي الخلاف ستة وثلاثون رطلا عراقية والأشهر أنه ستة عشر رطلا عراقية وهو مكيال معروف بالمدينة ذكره الجوهري وغيره لخبر كعب في الفدية وحمل كلام عمر على المتعارف ببلده وهي الحجاز أولى وهذا ظاهر الأحكام السلطانية واختاره صاحب المحرر و الوجيز وقيل نصابه ألف رطل عراقية قدمه في الكافي نقل أبو داود من عشر قرب قربة وأما الفرق بسكون الراء مكيال ضخم من مكايل أهل العراق قاله الخليل قال ابن قتيبة وغيره يسع مائة وعشرين رطلا قال المجد ولا قائل به هنا.
مسألة: من زكى ما ذكرنا من المعشرات مرة فلا زكاة فيه بعد ذلك خلافا للحسن لأنه غير مرصد للنماء فهو كالقنية بل أولى لنقصه بأكل ونحوه.(2/323)
----------------------------
فرع: تضمين أموال العشر والخراج باطل نص عليه وعلله في الأحكام السلطانية بأن ضمانها بقدر معلوم يقتضي الاقتصار عليه في ملك ما زاد وغرم ما نقص وهذا مناف لموضوع العمالة وحكم الأمانة.(2/324)
فصل: في المعدن
ومن استخرج من معدن نصابا من الأثمان وأما قيمته نصاب من الجوهر والصفر والزئبق والقاري والنفط والكحل والزرنيخ وسائر ما يسمى معدنا ففيه الزكاة.
----------------------------
فصل: في المعدن
بكسر الدال سمي به لعدون ما أثبته الله فيه لإقامته يقال عدن عدونا والمعدن المكان الذي عدن فيه الجوهر
"ومن استخرج" إذا كان من أهل الزكاة وترك التنبية عليه لدلالة ما سبق من معدن سواء كان في أرض مملوكة أو مباحة ولو من داره نص عليه أو في موات خرب فإن أخرجه من أرض غيره فإن كان جاريا فكأرضه إن قلنا هو على الإباحة وأنه يملك وإن قلنا لا يملكه وأنه يملك بملك الأرض أو كان جامدا فهو لرب الأرض لكن لا يلزمه زكاته حتى يصل إلى بلده كالمغصوب "نصابا من الأثمان" فلعموم الأدلة "أو ما قيمته نصاب" من غير النقدين بقيمة أحدهما لأنهما قيم الأشياء وعنه يجب فيما دون نصاب الأثمان ثم مثله بقوله "من الجوهر والصفر والزئبق والقار والنفط والكحل والزرنيخ وسائر ما يسمى معدنا" كالبلور والعقيق والحديد والكبريت والمغرة ونحوها.
"ففيه الزكاة" لقوله تعالى {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: من الآية267] ولما روى ربيعة بن عبد الرحمن عن غير واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية قال فتلك لا يؤخذ منها إلا(2/324)
في الحال ربع العشر من قيمته سواء استخرجه من دفعة أو دفعات لم يترك العمل بينهما ترك إهمال ولا يجوز إخراجها إذا كانت أثمانا إلا بعد السبك والتصفية.
------------------------------
الزكاة إلى اليوم رواه مالك وأبو داود ولأنه حق يحرم على أغنياء ذوي القربى ففيه الزكاة لا الخمس كسائر الزكوات
وظاهره وإن لم ينطبع من غير جنس الأرض وقد روي مرفوعا "لا زكاة في حجر" إن صح فمحمول على الأحجار التي لا يرغب فيها عادة فدل أن الرخام معدن وجزم به جماعة قال الأصحاب الطين والماء غير مرغوب فيه فلاحق فيه ولأن الطين تراب ونقل مهنا لم أسمع في معدن النار والنفط والكحل والزرنيخ شيئا قال بعضهم وظاهره التوقف من غير المنطبع "في الحال" لأهلها لأنه مال مستفاد من الأرض فلم يعتبر له حول كالزرع "ربع العشر" من عين أثمان أو "من قيمته" من غيرها وظاهره أنه يجب بظهوره جزم به في الكافي و منتهى الغاية وغيرهما كالثمرة "سواء استخرجه من دفعة أو دفعات لم يترك العمل بينهما ترك إهمال" لأنه لو اعتبر دفعة واحدة لأدى إلى عدم الوجوب فيه لأنه يبعد استخراج نصاب دفعة واحدة فإن أخرج دون نصاب ثم ترك العمل مهملا له أخرج دون نصاب فلا شيء فيهما وإن بلغ نصابا فعلى هذا لا أثر لتركه لمرض وسفر وصلاح آلة ونحوه مما جرت العادة به كالاستراحة ليلا أو نهارا أو لاشتغاله بنقل تراب خرج بين المثلين أو هرب عبيده لأن كل عرق يعتبر بنفسه وحد ابن المنجا الإهمال بترك العمل ثلاثة أيام إن لم يكن عذر وإن كان فبزواله.
مسألة: لا يضم جنس لآخر في تكميل نصاب غير نقد وقيل بلى وقيل مع تقاربهما كنار ونفط ومن أخرج نصابا من معادن ضم كالزرع في مكانين
"ولا يجوز إخراجها إذا كانت أثمانا إلا بعد السبك والتصفية" لأنه قبل(2/325)
ولا زكاة فيما يخرج من البحر من اللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه وعنه فيه الزكاة.
------------------------------
ذلك لا يتحقق إخراج الواجب فلم يجز كالحبوب فلو أخرج ربع عشر ترابه قبل تصفيته رده إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا ويقبل قول الآخذ في قدره لأنه غارم فإن صفاه الآخذ مكان الواجب أجزأ وإن زاد رد الفاضل إلا أن يتركه المخرج وإن نقص كمله ولا يحتسب بمؤنتهما في الأصح كمؤنة استخراجه فإن كان دينا عليه احتسب به على الصحيح كما يحتسب بما أنفق على الزرع وأطلق في الكافي لا يحتسب به بكون الحصاد والزراعة وظاهره أنه يجزئ إخراج القيمة عن غيرها قبل السبك والتصفية وهو غير ظاهر.
مسألة: يجوز بيع تراب معدن وصاغة بغير جنسه نص عليه كعرض لأنه مستور بما هو من أصل الخلقة كالباقلاء في قشرته وعنه لا كجنسه ونقل مهنا لا في تراب صاغة وإن غيره أهون وزكاته على البائع لوجوبها عليه كبيع حب بعد صلاحه.
"ولا زكاة فيما يخرج من البحر من اللؤلؤ والمرجان" هو نبات حجري يتوسط في خلقه بين النبات والمعدن ومن خواصه أن النظر إليه يشرح الصدر ويفرح القلب "والعنبر ونحوه" نص عليه وهو المذهب وقاله عمر بن عبد العزيز والأكثر لقول ابن عباس ليس في العنبر شيء إنما هو شيء دسره البحر وعن جابر نحوه رواهما أبو عبيد ولم تأت به سنة صحيحة ولأن الأصل عدم الوجوب لأن الغالب فيه وجوده من غير مشقة فهو كالمباحات الموجودة في البر
"وعنه: فيه الزكاة" نصره القاضي وأصحابه وقدمه في المحرر لأنه مستخرج فوجب فيه الزكاة كالمعدن وقيل غير حيوان جزم به بعضهم كصيد البر ونص أحمد التسوية ومثل في الهداية و المستوعب و المحرر بالمسك والسمك فيكون المسك بحريا وفي الشرح أنه لا شيء في السمك في قول أهل العلم كافة ونص في رواية الميموني بأن قال كان الحسن يقول في المسك إذا أصابه صاحبه فيه الزكاة شبهه بالسمك إذا صاده وصار في(2/326)
فصل:
وفي الركاز خمس ، أي نوع كان من المال ، قل أو كثر ، لأهل الفيء. وعنه: أنه زكاة.
-----------------------------
يده منه مائتا درهم وما أشبهه وظاهر كلامهم أنه لا زكاة فيه قال في الفروع وهو أولى.
فصل:
"وفي الركاز الخمس" لحديث أبي هريرة مرفوعا "وفي الركاز الخمس" متفق عليه قال ابن المنذر لا نعلم أحدا خالف هذا الحديث إلا الحسن فإنه قال في أرض الحرب الخمس وفي أرض العرب الزكاة "أي نوع كان من المال" كالنقدين والحديد والرصاص ونحوها لأنه مال مظهور عليه من مال الكفار فوجب فيه الخمس والغنيمة "قل" ذلك الموجود "أو أكثر" بخلاف المعدن والزرع لكونهما يحتاجان إلى كلفة واعتبر لهما النصاب تحقيقا واختلفت الرواية في مصرفه فروى عنه محمد بن عبد الحكم أنه "لأهل الفيء" اختارها ابن أبي موسى والقاضي في تعليقه وابن عقيل وصححها في المغني لفعل عمر رواه سعيد عن هشيم عن مجاهد عن الشعبي ولأنه مال مخموس كخمس الغنيمة ولا يختص بمصرف الغنيمة بل الفيء المطلق للمصالح كلها
"وعنه: أنه زكاة" نقلها حنبل واختارها الخرقي وقدمها في المحرر لأن عليا أمر صاحب الكنز أن يتصدق بالخمس على المساكين ولأنه حق يجب في الخارج من الأرض كالمعدن فيصرف مصرف الزكاة ويجب على كل واحد إذا قلنا بأنه فيء إلا إذا كان عبدا فيكون لسيده لأنه كسب ماله كالاحتشاش وإذا قلنا بأنه زكاة لم يجب على من ليس من أهلها ويملكه صبي ومجنون ويخرجه عنهما وليهما وصحح بعضهم وجوبه على كل واحد(2/327)
وباقيه لواجده إن وجده في موات ، أو أرض لا يعلم مالكها. وإن علم مالكها ، أو كانت منتقلة إليه ، فهو له أيضا.
----------------------------
مطلقا
ويجوز لواجده تعر يفه بنفسه كما لو قلنا إنه زكاة نص عليه واحتج بقول علي وجزم به في الكافي لأنه أدى الحق إلى مستحقيه وعنه لا يجوز قدمه في منتهى الغاية كخمس الغنيمة والفيء فعلى هذا هل يضمن ولا يجوز لواجده والمعدن إمساك الحق لنفسه لحاجة
"وباقيه لواجده" لفعل عمر وعلي فإنهما دفعا باقي الركاز لواجده ولأنه مال كافر مظهور عليه فكان لواجده بعد الخمس كالغنيمة وظاهره أنه له ولو كان مستأمنا بدارنا ومحله ما لم يكن أجيرا لطلبه فإنه لا شيء له سوى الأجرة
"إن وجده في موات" لأنه مباح لا حق لأحد فيه كالصيد منها "أو أرض لا يعلم مالكها" كالأرض التي يوجد فيها آثار الملك من الأبنية القديمة وجدران الجاهلية وقبورهم ولو كان على وجهها قاله في الشرح أو قرية خراب أو طريق غير مسلوك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا قال "وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخمس" رواه النسائي وفي لفظ "وإن وجده في خربة جاهلية أو في قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس"
"وإن علم مالكها" كمن دخل دار غيره أو استأجرها أو استعادها "أو كانت منتقلة إليه" ببيع أو هبة "فهو له أيضا" في الأشهر لأنه ليس من أجزاء الأرض بل هو مودع فيها فهو كالصيد والكلأ يملكه من ظفر به كالمباحات كلها وعليها لا فرق بين أن يدعيه المالك أولا
ونقل محمد بن يحيى الكحال عن أحمد فيمن استأجر أجيرا ليحفر له في داره فأصاب كنزا فهو للأجير وصححه القاضي(2/328)
وعنه أنه لمالكها أو لمن انتقلت عنه إن اعترف به وإلا فهو لأول مالك وإن وجده في أرض حربي ملكه إلا ألا يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين فتكون غنيمة والركاز ما وجد من دفن الجاهلية.
-------------------------------------
"وعنه: أنه لمالكها" قطع به في الهداية و التلخيص لأن يده عليها فكان ما فيها له كالقماش "أو لمن انتقلت عنه" لأن الظاهر أنه له "إن اعترف به" كل من المالك والمنتقل عنه فإن انتقلت إليه ميراثا حكم بأنه ميراث فإن أنكر الورثة أنه لمورثهم فلأول مالك وإن اختلفوا أعطي كل حكمه
"وإلا" فإن لم يعترف به ولم يدعه "فهو لأول مالك" لأنه في ملكه فكان له كحيطانه وظاهره أنه له وإن لم يعترف به كما لو ادعاه بصفة وفي المغني و الشرح أنه يكون كالمال الضائع حيث لم يعترف به وإذا لم يعترف به فادعاه واجده فهو له جزم به بعضهم وظاهر كلام جماعة خلافه وعلى الأولى إن ادعاه المالك قبله بلا بينة ولا وصف فهو له مع يمينه لأنه ادعى ممكنا وكانت يده عليها فالظاهر صدقه
وعنه: لا تقبل دعواه كسائر الدعاوي بلا بينة ولا ما يقوم مقامها فعليها يكون لواجده ومتى دفع إلى مدعيه بعد إخراج خمسه غرم واجده بدله إن كان أخرج باختياره وإن كان الإمام أخذه منه قهرا غرمه لكن هل هو من ماله أو من بيت المال فيه الخلاف وعنه ماله يكون للمالك قبله إن اعترف به فإن لم يعترف به أو لم يعرفه الأول فلواجده وقيل لبيت المال
"وإن وجده في أرض حربي ملكه" نص عليه إذا قدر عليه بنفسه لأن المالك لا حرمة له كما لو وجده في موات وقيل غنيمة خرجه في منتهى الغاية كما لو قدر عليه بمنعة "إلا ألا يقدر عليه إلا بجماعة من المسلمين فتكون غنيمة" لأن قوتهم أوصلته إليه فكان غنيمة كالمأخوذ بالحرب
"والركاز" اشتقاقه من ركز يركز كغرز يغرز إذا خفي ومنه غرزت الرمح إذا أخفيت أسفله فهو في اللغة المال المدفون في الأرض وفي الاصطلاح "ما وجد من دفن الجاهلية" لأن دفنهم تقادم عهده وخفي(2/329)
باب زكاة الأثمان
وهي الذهب والفضة ولا زكاة في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا فيجب فيه نصف مثقال.
---------------------------
باب زكاة الأثمان
"وهي الذهب والفضة" فدل أن الفلوس الرائجة لا تسمى به ونص عليهما خاصة والأصل في وجوبها الإجماع وسنده قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: من الآية34] والسنة مستفيضة بذلك
"ولا زكاة في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا فيجب نصف مثقال" لما روى ابن عمر وعائشة مرفوعا "أنه كان يأخذ من كل عشرين مثقالا نصف مثقال" رواه ابن ماجه عن علي نحوه فالمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم وهو ثنتان(2/330)
باب زكاة العروض
تجب الزكاة في عروض التجارة.
--------------------------------
باب زكاة العروض
هي جمع عرض بإسكان الراء وهو ما عدا الأثمان والحيوان والنبات وبفتحها فهو كثرة المال والمتاع وسمي عرضا لأنه يعرض ثم يزول ويفنى وقيل لأنه يعرض ليباع ويشتري تسمية للمفعول باسم المصدر كتسمية المعلوم علما وفي اصطلاح المتكلمين هو الذي لا يبقى زمانين وبوب عليه في المحرر والفروع تبعا للخرقي بزكاة التجارة وهي أشمل لدخول الإيجار في النقدين وعدل المؤلف عنه لأنه ترجم في أول كتاب الزكاة والعروض
"تجب الزكاة في عروض التجارة" لقوله تعالى {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] و {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: من الآية103] ومال التجارة أعم الأموال فكانت أولى بالدخول واحتج الأصحاب بما روى جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب حدثني خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه قال أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع رواه أبو(2/341)
إذا بلغت قيمتها نصابا ، ويؤخذ منها لا من العروض. ولا تصير للتجارة إلا أن يملكها بفعله.
------------------------------------
داود قال ابن حزم جعفر وحبيب مجهولان وقال الحافظ عبد الغني إسناده مقارب
وعن أبي ذر مرفوعا "وفي البز صدقته" رواه أحمد ورواه الحاكم من طريقين بكذا إسنادهما وقال إنه على شرط الشيخين واحتج أحمد بقول عمر قومها ثم أد زكاتها وقال المجد هو إجماع متقدم وذكر الشافعي في القديم لا يجب وحكاه أحمد عن مالك واحتج بقوله عليه السلام "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" ولأن الأصل عدم الوجوب والأول قول الجماهير وادعاه ابن المنذر إجماع أهل العلم ولأنه مال نام فوجبت فيه الزكاة كالسائمة وخبرهم المراد به زكاة العين لا القيمة على أن خبرنا خاص وهو متقدم على خبرهم العام
"إذا بلغت قيمتها نصابا" وحال عليها الحول لأنه مال نام فاعتبر له ما ذكرنا كالماشية فعلى هذا لو نقصت قيمة النصاب في بعض الحلول ثم زادت القيمة فبلغته ابتدئ حينئذ كسائر أموال الزكاة
"ويؤخذ منها" أي من القيمة لأنها محل الوجوب كالدين ربع العشر وما زاد فبحسابه لتعلقها بالقيمة "لا من العروض" إلا أن يقول بإخراج القيمة فيجوز بقدرها وقت الإخراج وتتكرر الزكاة لكل حول نص عليه "ولا تصير" العروض "للتجارة إلا" بشرطين أحدهما "أن يملكه بفعله" سواء كان بعوض كالبيع والنكاح أولا كالهبة والغنيمة هذا هو الأشهر وأنه لا تعتبر المعاوضة لظاهر خبر سمرة ولأنه ملكها بفعله واختار في المجرد أنه يعتبر المعاوضة محضة كبيع وإجارة أولا كنكاح وخلع وصلح عن دم عمد قال المجد وهو نصه في رواية ابن منصور لأن الغنيمة والهبة ليستا من جهات(2/342)
بنية التجارة بها. فإن ملكها بإرث أو ملكها بفعله بغير نية ، ثم نوى التجارة لم تصر للتجارة وإن كان عنده عرض للتجارة فنواه للقنية ثم نواه للتجارة لم يصر للتجارة وعنه أن العروض تصير للتجارة بمجرد النية.
---------------------------------
التجارة كالموروث وعنه يعتبر كون العوض نقدا ذكره أبو المعالي لاعتبار النصاب بهما فيعتبر أصل وجودهما
الثاني، ونبه عليه بقوله "بنية التجارة بها" عند التملك لأن الأعمال بالنية والتجارة عمله فوجب اقتران النية به كسائر الأعمال ولأنها مخلوقة في الأصل للاستعمال فلا يصير للتجارة إلا بنيتها كعكسه وتعتبر النية في كل الحول لأنه شرط أمكن اعتباره في جميعه فوجب كالنصاب
"فإن ملكها بإرث" ولو نواها "وملكها بفعله بغير نية ثم نوى التجارة لم تصر للتجارة" اختاره الخرقي والقاضي وأكثر الأصحاب لأن ما لا يتعلق به الزكاة من أصله لا يصير محلا بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى فيها إسامتها ولأن مجرد النية لا ينقل عن الأصل إذ الأصل فيها النية
"وإن كان عنده عرض للتجارة فنواه للقنية ثم نواه للتجارة لم يصر للتجارة" هذا ظاهر المذهب وفي الشرح أنه لا يختلف المذهب فيه لأن القنية هي الأصل فيكفي في الرد إليه مجرد النية كما لو نوى بالحلي التجارة والمسافر الإقامة ولأن نية التجارة شرط للوجوب فيها وإذا نوى القنية زالت نية التجارة ففات شرط الوجوب بخلاف السائمة إذا نوى علفها فإن الشرط الإسامة دون نيتها.
"وعنه: إن العروض تصير للتجارة بمجرد النية" نقلها صالح وغيره واختارها أبو بكر وابن عقيل وجزم بها في التبصرة والروضة لعموم حديث سمرة ولأن نية القنية كافية بمجردها فكذا نية التجارة بل أولى إذ الإيجاب يغلب على الإسقاط احتياطا والفرق ظاهر فعلى الأول لا شيء فيها حتى تباع ويستقبل بثمنها حولا.(2/343)
وتقوم العروض عند تمام الحول بما هو أحظ للمساكين من غير أو ورق ولا يعتبر ما اشتريت به وإن اشترى عرضا بنصاب من الأثمان أو من العروض بنى على حوله.
----------------------------------------
فرع: إذا كان عنده ماشية للتجارة نصف حول فنوى بها الإسامة وقطع نية التجارة انقطع حولها واستأنف حول السائمة لأن حول التجارة انقطع بنية الاقتناء وحول السائمة لا ينبني على حول التجارة قال المؤلف والأشبه بالدليل أنها متى كانت سائمة في أول الحول وجبت الزكاة فيها عند تمامه وروي عن إسحاق
"وتقوم العروض عند" تمام "الحول بما هو أحظ للمساكين من غير أو ورق" لأن تقويمه لحظ الفقراء فيقوم بالأحظ لهم كما لو اشتراه بعرض قنية وفي البلد نقد إن تساويا في الغلة يبلغ بأحدهما نصابا بخلاف المتلفات وذكر الحلواني يقوم بنقد البلد فإن تعدد فبالأحظ فإن كان اشتراه بنقد قوم بجنس ما اشتراه به لأنه الذي وجبت الزكاة بحوله فوجب جنسه كالماشية ولأن أصله أقرب إليه وعنه لا يقوم نقد بآخر وعلى الأول إذا تساوت قيمة العروض فكل منهما خير لقيام كل منها مقام الآخر في حصول الغرض وذكر القاضي والمؤلف وصححه المجد يقوم بالأنفع للفقراء كأصل الوجوب
"ولا يعتبر ما اشتريت به" من عين أو ورق قدرا ولا جنسا روي عن عمر لأن في تقويمها بما اشتريت به إبطالا للتقويم بالأنفع فعلى هذا إذا بلغت قيمتها نصابا بالدراهم قومت به وإن كان اشتراها بالذهب وكذا عكسه.
فرع: تقوم المغنية ساذجة والخصي بصفته ولاعبرة بقنية آنية ذهب وفضة ويضم بعض العروض إلى بعض وإن اختلفت قيمة ومشترى.
"وإن اشترى" أو باع "عرضا" للتجارة "بنصاب من الأثمان أو من العروض بنى على حوله" أي حول الأول وفاقا لأن الزكاة في الموضعين يتعلق بالقيمة وهي الأثمان والأثمان يبني حول بعضها على بعض فلو قطع نية(2/344)
وإن اشتراه بنصاب من السائمة لم يبن على حوله وإن ملك نصابا من السائمة للتجارة فعليه زكاة التجارة وإن لم يبلغ قيمتها نصاب التجارة.
---------------------------
التجارة في العروض بنى حول النقد على حولها لأن وضع التجارة للتقلب والاستبدال بثمن وعرض فلو لم يبن بطلت زكاة التجارة وإن لم يكن النقد نصابا فحوله منذ كملت من شرائه.
"وإن اشتراه" أو باعه "بنصاب من السائمة لم يبن على حوله" لاختلافهما في النصاب والواجب إلا أن يشتري نصاب سائمة للتجارة بمثله للقنية في الأصح لأن السوم سبب للزكاة قدم عليه زكاة التجارة لقوته فبزوال العارض ثبت حكم السوم لظهوره.
"وإن ملك نصابا من السائمة للتجارة فعليه زكاة التجارة" لأن وضعها على التقلب فهي تزيل سبب زكاة السوم وهو الاقتناء لطلب النماء معه واقتصر في المغني والشرح على التعليل بالأحظ فلذلك وجبت "دون" زكاة "السوم" وقيل يجب زكاة السوم لأنها أقوى للإجماع وتعلقها بالعين وقيل يعتبر الأحظ منهما للفقراء اختاره المجد.
ففي أربعين أو خمسين حقه أو جذعة أو ثنية أو إحدى وستين جذعة أو ثنية أو مائة من الغنم زكاة التجارة أحظ لزيادتها بزيادة القيمة من غير وقص وفي ست وثلاثين بنت مخاض أو بنت لبون زكاة السوم وفي إحدى وستين دون الجذعة أو خمسين بنت مخاض أو بنت لبون أو خمس وعشرين حقة أو خمس من الإبل يجب الأحظ من زكاة التجارة أو السوم وفي الروضة يزكي النصاب للعين والوقص للقيمة وهذا كله اتفق حولاهما أو لا في وجه وهو ظاهر كلام أحمد وجزم به المؤلف وقيل يقدم السابق اختاره المجد لأنه وجد سبب زكاته بلا معارض
" وإن لم يبلغ قيمتها نصاب التجارة" كمن ملك أربعين شاة قيمتها دون مائتي(2/345)
فعليه زكاة السوم وإذا اشترى أرضا ونخلا للتجارة فأثمرت النخل وزرعت الأرض فعليه فيهما العشر ويزكي الأصل للتجارة وقال القاضي: يزكي الجميع زكاة القيمة ولا عشر عليه،
--------------------------------
درهم "فعليه زكاة السوم" بغير خلاف لوجود سبب الزكاة فيه بلا معارض وقيل يغلب ما يغلب إذا اجتمع النصابان ولو سقطت ذكره المجد وجزم جماعة بأنه إن نقص نصاب السوم كمن ملك أربعا من الإبل قيمتها مائتا درهم وجبت زكاة التجارة
فأما إن سبق جري السوم بأن كانت قيمته دون نصاب في بعض الحول فلا زكاة حتى يتم الحول من بلوغ النصاب في ظاهر كلام أحمد
قال القاضي يتأخر وجوب الزكاة حتى يتم حول التجارة لأنه أنفع للفقراء وفيه وجه تجب زكاة السوم عند تمام حولها لوجود مقتضيها إذ لا يمكن إيجاب زكاتين بكمالهما لأنه يفضي إلي إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد فلم يجز بخلاف زكاة التجارة والفطر في العبد الذي للتجارة لأنهما يجتمعان بسببين مختلفين
"وإذا اشترى أرضا أو نخلا للتجارة فأثمرت النخل وزرعت الأرض فعليه فيهما العشر" أي في الثمر والزرع بشرطه "ويزكي الأصل" أي الأرض والنخل "للتجارة" جزم به في الوجيز لأنهما عينان تجب في أحدهما زكاة العين وهو أحظ للفقراء إذ العشر أحظ من ربعه وفي الأخرى زكاة القيمة حال الانفراد فكذا عند الاجتماع وحينئذ فمراده إذا اتفق حولاهما قاله في الشرح.
"وقال القاضي" وأصحابه "يزكي الجميع زكاة القيمة" إذا تم الحول نص عليه وقدمه في المحرر والفروع وهو المذهب لأنه مال تجارة فوجبت زكاتها كالسائمة ولا شك أن الثمر والزرع جزء الخارج منه فوجب أن يقوم مع الأصل كالسخال والربح المتجدد إذا كانت الأصول للتجارة "ولا عشر عليه" لأنه لو وجب لاجتمع في مال واحد زكاتان وفيه ضرر بالمالك وهو(2/346)
إلا أن يسبق وجوب العشر حول التجارة فيخرجه وإذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في إخراج زكاته فأخرجاها معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه.
----------------------------------
منفي شرعا
"إلا أن يسبق وجوب العشر حول التجارة فيخرجه" أي فيخرج العشر لوجود سببه من غير معارض وهو أحظ للفقراء وكان الأنسب للمؤلف أن يقدم ذلك على قول القاضي ولعله أراد أن يحل الخلاف فيها ثم يذكر المستثنى لأنه من المعلوم أن من أوجب من الجميع زكاة القيمة لم يوجب العشر ولم يعتبر سبق أحدهما
واعتراض ابن المنجا عليه بأنه قدم غير المذهب اعتبارا بما ذكره في المغني من إيماء أحمد إليه ليس بجيد إذ التقديم بحسب ما ظهر له من الدليل ويعضده أنه قول أكثر العلماء وقيل بزكاة العشور هنا لكثرة الواجب لعدم الوقص والخلف في اعتبار النصاب.
تنبيه: يستأنف حول التجارة على زرع وثمر من حصاد وجذاذ لأن به ينتهي وجوب العشر الذي لولاه لجريا في حول التجارة وقيل لا يستأنفه إلا بثمنهما إن بيعا كمال القنية وإن اختلف وقت الوجوب أو وجد نصاب أحدهما فكمسألة: سائمة التجارة
وإن زرع بذر تجارة في أرض قنية فهل يزكى الزرع زكاة عشر أو قيمة فيه خلاف و في بذر قنية العشر أو في أرضه للتجارة القيمة وإن كان الثمر والزرع لا زكاة فيه ضم قيمة الثمر والآخر إلى قيمة الأصل من الحول كربح ونتاج وقيل لا.
"وإذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه في إخراج زكاة فأخرجاها معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه" لأنه انعزل من طريق الحكم بإخراج المالك زكاة نفسه وكما لو علم ثم نسي وانعزل حكما العلم(2/347)
وإن أخرجها أحدهما قبل الآخر ضمن الثاني نصيب الأول علم أولم يعلم ويتخرج أنه لا ضمان عليه إذا لم يعلم.
---------------------------------
وعدمه سواء بدليل ما لو وكله في بيع عبد فباعه الموكل أو أعتقه.
"وإن أخرجها أحدهما قبل الآخر ضمن الثاني نصيب الأول علم أو لم يعلم" لأن العزل الحكمي لا يختلف بذلك كما لو مات المالك "ويتخرج أنه لا ضمان عليه إذا لم يعلم" بإخراج صاحبه بناء على أن الوكيل لا ينعزل قبل العلم وقيل لا يضمن وإن قلنا ينعزل اختاره المؤلف لأنه غره وكما لو وكله في قضا دينه فقضاه المالك ثم الوكيل والفرق ظاهر لأنه يمكنه الرجوع على المالك بخلاف الفقير لأنها تنقلب تطوعا كمن دفع زكاة يعتقدها عليه فلم تكن
فأما إن كان القابض منهما الساعي ثم علم الحال فلا ضمان لإمكان الرجوع عليه والمراد مع بقائها بيد الساعي.
فرع: إذا وكله في إخراج زكاته فأخرجها الموكل ثم الوكيل فالخلاف ويقبل قوله إنه أخرجها قبل وكيله وله الصدقة قبل إخراج زكاته.
مسألة: إذا اشترى ما يصبغ به ويبقى كزعفران ونيل ونحوه فهو عرض تجارة يقومه عند حوله لاعتياضه عن صبغ قائم بالثوب ففيه معنى التجارة وكذا يجب فيما يشتريه دباغ ليدبغ به كعفص وما يدهنه به كسمن وملح وقيل لا لأنه لا يبقى له أثر كما يشتريه قصار من قلي وصابون ونحوهما ولا شيء في آلات الصباغ وأمتعة التجار وقوارير العطار إلا أن يريد بيعها مع ما فيها ولا زكاة في غير ما تقدم ولا في قيمة ما أعد للكراء من عقار وحيوان لكن من أكثر من شراء عقار فارا من الزكاة فقيل يزكي قيمته وظاهر كلام الأكثر لا.(2/348)
باب زكاة الفطر
وهي واجبة
---------------------------
باب زكاة الفطر
هو اسم مصدر من قولك أفطر الصائم إفطارا وأضيفت إلى الفطر لأنها تجب به فهو من إضافة الشيء إلى سببه والفطرة الخلقة لقوله تعالى {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: من الآية30] وهذه يراد بها الصدقة عن البدن والنفس وبضم الفاء كلمة مولدة وقد زعم بعضهم أنه مما يلحن فيها العامة وليست كذلك لاستعمال الفقهاء لها
"وهي واجبة" قال إسحق هو كالإجماع لقوله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:15] الأعلى قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز إنها زكاة الفطر ورد بقول ابن عباس إن المراد إنها تطهر من الشرك والسورة مكية ولم يكن بها زكاة ولا عيد والمعتمد عليه ما روى ابن عمر قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة متفق عليه ولفظه للبخاري ودعوى أن فرض بمعنى قدر مردود بأن كلام الراوي لا يحمل إلا على الموضوع الشرعي بدليل الأمر بها في الصحيح أيضا من حديثه ويسمى فرضا على الأصح لقول جمهور الصحابة وعنه لا وفيه رواية المضمضة
وذهب الأصم وابن علية وجماعة أنها سنة مؤكدة لما روى أحمد عن قيس بن سعد قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت الزكاة فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله إسناده جيد ولا حجة لهم فيه لأنه يجب استصحاب الأمر السابق مع عدم المانع والمعارض وقد فرضها الشارع وأمر بها والظاهر أن فرضها مع رمضان من السنة الثانية من الهجرة.(2/349)
على كل مسلم تلزمه مؤنة نفسه إذا فضل عنده عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع وإن كان مكاتبا وإن فضل بعض صاع فهل يلزمه إخراجه؟ على روايتين.
-------------------------------
"على كل مسلم" وهو شامل للكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد لأن لفظة كل إذا أضيفت إلى نكرة فيقتضي عموم الأفراد فعلى هذا تجب في مال اليتيم نص عليه فخرج الكافر مطلقا لأن من شرطها النية ولا تصح منه لكن يستثنى منه ما إذا هل شوال على عبد مسلم لكافر فالأظهر وجوبها على الكافر وقيل لا يجب على غير مخاطب بالصوم وعنه رواية مخرجة تجب على مرتد ولا فرق بين أهل البوادي وغيرهم
"يلزمه مؤونة نفسه" لقوله عليه السلام "أدوا الفطرة عمن تمونون" وهو دال على عدم وجوبها على من لا يمون نفسه لأنه خاطب بالوجوب غيره ولو وجب عليه لخاطبه به كسائر من تجب عليه
"إذا فضل عنده عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع" لأن ذلك أهم فيجب تقديمه لقوله عليه السلام "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" وظاهره أنه لا يعتبر لوجوبها ملك نصاب وقاله الأكثر.
"وإن كان مكاتبا" فيجب عليه لد خوله في عموم النص ولأنه مسلم تلزمه نفقته فلزمه فطرته كالحر لا على سيده
"وإن فضل بعض صاع فهل يلزمه إخراجه" عن نفسه "على روايتين" وكذا أطلقهما في الفروع وقال الترجيح مختلف إحداهما: يجب قدمه في المحرر لقوله عليه السلام "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" ولأنها طهرة فهي كالطهارة بالماء.
والثانية: لا يلزمه اختارها ابن عقيل وهي ظاهر الخرقي والوجيز كالكفارة والفرق أن الكفارة لها بدل ويعتبر كون ذلك كله بعد ما يحتاجه(2/350)
ويلزمه فطرة من يمونه من المسلمين فإن لم يجد ما يؤدي عن جميعهم بدأ بنفسه ثم بامرأته ثم برقيقه.
---------------------------------
لنفسه أو لمن تلزمه مؤنته من سكن وعبد ودابة وثياب بذلة وقال ابن حمدان المذهب أنه لا يعتبر وجزم المؤلف أو له كتب يحتاجها للنظر والحفظ أو للمرأة حلي للبس أو الكراء وهي تحتاجه.
"و" حيث لزمه فطرة نفسه فإنه "يلزمه فطرة من يمونه" فدخل فيه الزوجات والإماء والأقارب من المسلمين فدل أنه لا تلزمه فطرة من يمونه من الكفار لأنها طهرة للمخرج عنه وهو لا يقبلها لأنه لا يطهره إلا الإسلام
"ولو كان عبدا" نص عليه وشمل ما إذا كان لزوجته خادم فإنه يخرج عنه إن لزمته نفقة وكذا عبد عبده وهو ظاهر كلام المؤلف وصححه في الشرح والأشهر فيه أنه إن لم يملك بالتمليك أدى عنه وإن ملك فلا فطرة له لعدم ملك السيد الأعلى ومقتضى ملك العبد أنه لا يلزمه عن نفسه فغيره أولى
فأما زوجة عبده فذكر أصحابنا المتأخرون أن فطرتها عليها إن كانت حرة وعلى سيدها إن كانت أمة وقيل يجب على سيد العبد وهو ظاهر كلامه كالنفقة وكما لو زوج عبده بأمته وكذا لو زوج قريبه ولزمه نفقة امرأته فعليه فطرتها لكن لا يلزمه فطرة أجير وظئر استأجرهما بطعامهما نص عليه ولا من وجبت نفقته في بيت المال وفي الضيف نقل عبد الله تجب على من يجب عليه نفقته
"فإن لم يجد ما يؤدي عن جميعهم بدأ بنفسه" وهي تبنى على النفقة ونفقة نفسه مقدمة فكذا فطرته "ثم بامرأته" لوجوب نفقتها مطلقا بخلاف الإيماء وقدمت على غيرها لآكديتها ولأنها معارضة وقيل لا يلزمه فطرة زوجته الأمة فإن سلمها ليلا ففطرتها على سيدها لقوة ملك اليمين في تحملها للإجماع عليه وقيل بينهما كالنفقة.
"ثم برقيقه" لوجوب نفقتهم مع الإعسار وظاهره ولو كان مرهونا ولا(2/351)
ثم بولده ثم بأمه ثم بأبيه ثم بالأقرب فالأقرب على ترتيب الميراث ويستحب أن يخرج عن الجنين ولا يجب.
--------------------------------
فرق بين أن يكون للتجارة أولا وقال ابن عقيل ويحتمل تقديمهم على الزوجة لئلا تسقط بالكلية
"ثم بولده" لوجوب نفقته في الجملة وقيل مع صغره وجزم به ابن شهاب وحمل ابن المنجا كلام المؤلف عليه وليس بجيد وقيل يقدم الولد على الزوجة وقيل الصغير يقدم عليها وعلى عبد
"ثم بأمه" لتقديمها على الأب في البر "ثم بأبيه" للخبر وقيل يقدم عليها وحكاه ابن أبي موسى رواية لقوله عليه السلام "أنت ومالك لأبيك" وقيل بتساويهما وقدمهما في الفروع على الولد وليس بظاهر والذي ذكره المؤلف جزم به جماعة وقدمه آخرون وذكره في منتهى الغاية ظاهر المذهب
"ثم بالأقرب فالأقرب في الميراث" لأن الأقرب أولى من غيره فقدم كالميراث.
فرع: إذا استوى اثنان فأكثر ولم يفضل غير صاع أقرع بينهم وقيل يوزع وقيل يخير "ويستحب أن يخرج عن الجنين" في ظاهر المذهب لأن ظاهر الخبر أن الصاع مجزئ مطلقا "ولا يجب" ذكره ابن المنذر قول من يحفظ عنه من علماء الأمصار لأنها لو تعلقت به قبل ظهوره لتعلقت الزكاة بأجنة السوائم.
وعنه: يجب اختارها أبو بكر لفعل عثمان قال أحمد ما أحسبه صار ولدا ولأنه آدمي تصح الوصية له وبه ويرث فيدخل في عموم الأخبار قال في المغني والأول أصح لأنه لا تثبت له أحكام الدنيا إلا في الإرث والوصية بشرط خروجه حيا وأما أمه فإن كانت بائنا فيلزمه فطرتها إن قلنا النفقة لها وإن قلنا للحمل لم يجب على الأصح بناء على وجوبها على الجنين.(2/352)
ومن تكفل بمؤنة شخص في شهر رمضان لم تلزمه فطرته عند أبي الخطاب والمنصوص أنها تلزمه وإذا كان العبد بين شركاء فعليهم صاع وعنه على كل واحد صاع وكذلك الحكم فيمن بعضه حر.
------------------------------------------
"ومن تكفل" أي تبرع "بمؤنة شخص من شهر رمضان لم تلزمه فطرته" عند أبي الخطاب وصححه في المغني والشرح وحملا كلام أحمد على الاستحباب لعدم الدليل ولأن سبب الوجوب وجوب النفقة واجبة هنا فكذا فطرته فعلى هذا فطرته على نفسه كما لو يمنه إذ الحديث محمول على من تلزمه مؤنته لا على حقيقة المؤنة بدليل وجوبها على الآبق "والمنصوص أنها تلزمه" وهو قول أكثر أصحابنا وقدمه في المحرر والفروع لقوله عليه السلام " عمن تمونون" رواه أبو بكر في الشافعي من حديث أبي هريرة والدارقطني من حديث ابن عمر وإسنادهما ضعيف ولأنه شخص منفق عليه فلزمته فطرته كعبده والمعتبر جميع الشهر بفوته لنفقة التبرع وقال ابن عقيل قياس المذهب تلزمه إذا مانه آخر ليلة من الشهر كمن ملك عبدا أو زوجة قبل الغروب فإن مانه جماعة كل الشهر أو إنسان بعضه فقال في المغني في الأولى لا أعلم فيها للأصحاب قولا وفي الشرح والفروع فيه احتمالان أحدهما: لا تجب على أحد لأن سبب الوجوب المؤنة في جميع الشهر ولم توجد والثاني: أنها تجب بالحصص كعبد مشترك.
"وإذا كان العبد بين شركاء فعليهم صاع" اختاره الأكثر وهو المذهب وآخر قولي أحمد لأن الشارع إنما أوجب عن الواحد صاعا فأجزأه لظاهر الخبر وكالنفقة وماء طهارته
"وعنه: على كل واحد صاع" قدمه الخرقي واختاره أبو بكر وجمع لأنها طهرة ككفارة القتل وكذا إذا ورثه اثنان فأكثر "وكذلك الحكم فيمن بعضه حر" لأنه يساوي العبد المشترك معنى فوجب أن يساويه حكما واختار أبو(2/353)
وإن عجز زوج المرأة عن فطرتها فعليها أو على سيدها إن كانت أمة فطرتها ويحتمل ألا يجب ومن كان له غائب أو آبق فعليه فطرته.
-----------------------------------
بكر يلزم السيد بقدر ملكه فيه ولا شيء على العبد.
تنبيه: لا تدخل الفطرة في المهايأة ذكره القاضي وجماعة لأنها حق الله كالصلاة والمهايأة معارضة كسب بكسب ومن عجز عما عليه لم يلزم الآخر قسطه كشريك ذمي لا يلزم المسلم قسطه فإن كان يوم العيد مؤنة العبد المعتق نصفه اعتبر أن يفضل عن قوته نصف صاع وإن كانت مؤنة سيده لزم العبد نصف صاع ولو لم يملك غيره لأن مؤنته على غيره وقيل يدخل في المهايأة بناء على وجه من كسب نادر فيها كالنفقة فلو كان يوم العبد وعجز عنها لم يلزم السيد شيء لأنه لا يلزمه نفقته كمكاتب عجز عنها.
فرع: إذا ألحقت القافة ولدا باثنين أو أكثر فالحكم في فطرته كالعبد المشترك جزم به الأصحاب وقال ابن تميم وابن حمدان يلزم كل واحد صاع وجها واحدا
"وإن عجز زوج المرأة عن فطرتها فعليها" إن كانت حرة "أو على سيدها إن كانت أمة فطرتها" لأنه كالمعدوم "ويحتمل أن لا يجب" عليهما شيء لأنها لم تجب على من وجد سبب الوجوب في حقه لعسرته فلم تجب على غيره كفطرة نفسه بخلاف النفقة لوجوبها مطلقا فعلى هذا تبقى في ذمته كالنفقة أم لا كفطرة نفسه يتوجه احتمالان وعلى الأول هل ترجع الحرة والسيد على الزوج كالنفقة أم لا كفطرة القريب فيه وجهان
"ومن كان له غائب أو آبق" أو مغصوب أو ضال "فعليه فطرته" للعموم ولوجوب نفقته بدليل رجوع من يرد الآبق بنفقته على سيده بخلاف زكاة المال وعليه لا فرق بين أن يرجو رجعته أو ييأس منها وسواء كان مطلقا أو محبوسا أو لا قاله في الشرح وعنه رواية مخرجة من زكاة المال لا(2/354)
إلا أن يشك في حياته فتسقط وإن علم حياته بعد ذلك أخرج لما مضى ولا تلزم الزوج فطرة الناشز وقال أبو الخطاب: تلزمه ومن لزم غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه فهل يجزئه؟ على وجهين.
---------------------------------------
يجب ولو ارتجى عود الآبق وعلى الأول لا يلزمه إخراجها حتى يعود إليه زاد بعضهم أو يعلم مكان الآبق
"إلا أن يشك في حياته فتسقط" نص عليه في رواية صالح لأنه لا يعلم بقاؤه والأصل براءة الذمة والظاهر موته وكالنفقة ولأنه لو أعتقه عن كفارته لم تجزئه وذكر ابن شهاب تلزمه لئلا تسقط بالشك والكفارة ثابتة بيقين فلا يسقط مع الشك في حياته "و" على الأول "إن علم حياته بعد ذلك أخرج لما مضى" لأنه بان له وجود سبب الوجوب في الماضي فوجب الإخراج كمال غائب بانت سلامته وقيل لا وقيل عن القريب كالنفقة
"ولا يلزم الزوج فطرة الناشز" في الصحيح من المذهب لعدم وجوب نفقتها ففطرتها عليها أو على سيدها والمراد إذا كان نشوزها في وقت وجوب الفطرة "وقال أبو الخطاب: تلزمه" لأن الزوجية ثابتة عليها فلزمه فطرتها كالمريضة وأجيب بأن المريضة لا تحتاج إلى نفقة لا لخلل في المقتضي لها وحكم كل امرأة لا نفقة لها كغير المدخول بها إذا لم تسلم إليه والصغيرة التي لا يمكن الاستمتاع بها تجب على الثاني لا الأول
"ومن لزم غيره فطرته فأخرج عن نفسه بغير إذنه" أي بغير إذن من تلزمه زاد في الانتصار ونيته "فهل يجزئه على وجهين" ظاهر المذهب الإجزاء لأنه أخرج عن نفسه فأجزأه كمن وجبت عليه
والثاني: لا لأنه أدى الواجب عن غيره بغير إذنه فلم يصح كما لو أدى عن غيره وهما ينفيان هل يكون متحملا عن الغير لكونهما طهرة له أو أصيلا لأنه المخاطب بها وفيه وجهان فلو لم يخرج مع قدرته لم يلزم الغير شيء وله(2/355)
ولا يمنع الدين وجوب الفطرة، إلا أن يكون مطالبا به وتجب بغروب الشمس من ليلة الفطر
----------------------------------
مطالبته بالإخراج جزم به الأصحاب كنفقته لكن لو أخرج العبد بلا إذن سيده لم يجزئه وقيل: إن ملكه سيده مالا وقلنا يملكه ففطرته عليه مما في يده فعلى هذا يخرج العبد عن عبده منه وظاهر ما سبق أنه إذا أخرج بإذنه أنه يجزئه فلو أخرج عمن لا تلزمه فطرته بإذنه أجزأ وإلا فلا قال الآجري هذا قول فقهاء المسلمين.
مسألة: من لزمه فطرة حر أو عبد أخرجها مكانهما كمال مزكّى في غير بلد مالكه ونص على أنه يخرجها مكانه كفطرة نفسه.
فرع: من أنفق عليه من بيت المال لم يلزمه فطرته لأن ذلك ليس بإنفاق وإنما هو إيصال المال من حقه قاله القاضي أو لأنه لا مالك له معين كعبيد الغنيمة قبل الغنيمة والفيء ونحو ذلك
"ولا يمنع الدين وجوب الفطرة" لتأكدها بدليل وجوبها على الفقير وشمولها لكل مسلم قدر على إخراجها فجرى مجرى النفقة بخلاف زكاة المال فإنها تجب بالملك والدين يؤثر فيه والفطرة تجب على البدن وهو غير مؤثر فيه "إلا أن يكون مطالبا به" فيمنع في ظاهر المذهب نص عليه واختاره الأكثر لوجوب أدائه عند المطالبة وتأكده بكونه حق آدمي لا يسقط بالإعسار أشبه من لا فضل عنده وعنه يمنع مطلقا وقاله أبو الخطاب كزكاة المال وقال ابن عقيل عكسه لتأكدها كالنفقة والخراج
"وتجب بغروب الشمس من ليلة الفطر" لقول ابن عباس فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين رواه أبو داود والحاكم وقال على شرط البخاري فأضاف الصدقة إلى الفطر فكانت واجبة به لأن الإضافة تقتضي الاختصاص والسببية وأول فطر يقع(2/356)
فمن أسلم بعد ذلك أو ملك عبدا أو زوجة أو ولد له ولد لم تلزمه فطرته وإن وجد ذلك قبل الغروب وجبت ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين.
-------------------------------------
من جميع رمضان بمغيب الشمس من ليلة الفطر
"فمن أسلم بعد ذلك" أي بعد الغروب "أو ملك عبدا وزوجة أو ولد له ولد لم يلزمه فطرته" نقله الجماعة لعدم وجود سبب الوجوب
وعنه: يمتد وقت الوجوب إلى طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر
وعنه: يجب بطلوع الفجر منه وعنه :ويمتد إلى أن يصلى العيد
"وإن وجد ذلك قبل الغروب وجبت" لوجود السبب فالاعتبار بحال الوجوب فلو كان معسرا وقت الوجوب ثم أيسر فلا فطرة على الأصح وعكسه لا يسقط وكذا لو مات قبل الغروب فلا فطرة ولو كان بعده لم يسقط وذكره المجد إجماعا في عتق عبد والفطرة في عبد موهوب وموصى به على المالك وقت الوجوب وكذا المبيع في مدة الخيار وفي ملك عبد دون نفعه أوجه ثالثها أنها في كسبه بالنفقة
"ويجوز إخراجها قبل العيد بيومين" نص عليه لقول ابن عمر كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين رواه البخاري والظاهر بقاؤها أو بقاء بعضها إليه وإنما لم تجز بأكثر لفوات الإغناء المأمور به في قوله "أغنوهم عن الطلب هذا اليوم" رواه الدارقطني من رواية أبي معشر وفيه كلام من حديث ابن عمر بخلاف زكاة المال ولأن الفطر سببها أو أقوى جزئي سببها لمنع التقديم على النصاب قال في الفروع والأولى الاقتصار على الأمر بالإخراج في الوقت الخاص خرج منه التقديم باليومين لفعلهم وإلا فالمعروف منع التقديم على السبب الواحد وجوازه على أحد السببين
وعنه: يجوز تقديمها بثلاثة جزم في المستوعب بأيام وقيل بخمسة عشر حولا للأكثر كالكل وقيل بشهر لا أكثر لأن سببها الصوم والفطر(2/357)
والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة وتجوز في سائر اليوم فإن أخرجها عنه أثم وعليه القضاء.
فصل:
والواجب في الفطرة صاع من البر أو الشعير أو دقيقهما وسويقهما والتمر والزبيب ومن الأقط في إحدى الروايتين.
---------------------------------------
منه كزكاة المال
"والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة" أو قدرها لأنه عليه السلام أمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة من حديث ابن عمر وقال جمع الأفضل أن يخرجها إذا خرج إلى المصلى وفي الكراهة بعده وجهان وقيل تحرم بعد الصلاة فعليه تكون قضاء جزم به ابن الجوزي واستدل الأصحاب بحديث ابن عباس السابق وتمامه فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات
"وتجوز في سائر اليوم" لحصول الإغناء بها فيه إلا أنه ترك الأفضل "فإن أخرها عنه أثم" لتأخيره الواجب عن وقته ولمخالفة الأثر "وعليه القضاء" لأنها عبادة فلم تسقط بخروج الوقت كالصلاة وعنه لا يأثم نقل الأثرم أرجو أن لا بأس وقيل له في رواية الكحال وإن أخرها قال إذا أعدها لقوم.
فصل:
"والواجب في الفطرة صاع" بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل القامة وحكمته كفاية الصاع للفقير في أيام العيد "من البر أو الشعير" إجماعا "أو دقيقهما وسويقهما والتمر والزبيب" إجماعا "ومن الأقط" وهي شيء يعمل من اللبن المخيض وقيل من الإبل فقط "في إحدى الروايتين" هذا المذهب جزم به أكثر الأصحاب.(2/358)
---------------------------------------------
لما روى أبو سعيد الخدري قال كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب أو صاعا من أقط متفق عليه
وصريحه إجزاء الدقيق وهو الطحين والسويق وهو قمح أو شعير يقلى ثم يطحن نص عليه واحتج بزيادة انفرد بها ابن عيينة من حديث أبي سعيد أو صاعا من دقيق قيل لابن عيينة إن أحدا لا يذكره فيه قال بل هو فيه رواه الدارقطني
قال المجد بل أولى بالإجزاء لأنه كفى مؤنته كتمر نزع حبه ويعتبر صاعه بوزن حبه نص عليه ليفرق الأجزاء بالطحن وظاهره يجزئ بلا محل وفيه وجه كما لا يكمل تمر بنواه المنزوع.
وعنه لا يجزئ فيهما اختاره صاحب الإرشاد والمحرر في السويق لأن الزيادة أنكرت على سفيان فتركها وفي كلام المؤلف نظر لأنه لو قد ذكر التمر والزبيب ثم ذكرهما والأقط لرجع الخلاف إلى ذلك
والثانية لا يجزئ الأقط اختاره أبو بكر لأنه جنس لا تجب فيه الزكاة فلا يجزئ إخراجه كاللحم وعنه لا يجزئ إلا لمن هو قوته اختاره الخرقي وظاهره يجزئ وإن وجد غيره وخصصه الخرقي بأهل البادية نظرا إلى الغالب
فعلى الأول" هو أصل بنفسه وهو طريق الأكثر
وفي اللبن غير المخيض والجبن أوجه ثالثها يجزئ اللبن فقط ورابعها يجزئان مع عدم الأقط ويحتمل أنه يجزئ الجبن لا اللبن وحده لأنه بلغ حالة الادخار وظاهره أنه لا يجزئ نصف صاع من بر نص عليه لحديث أبي هريرة أو صاع من قمح وهو من رواية سفيان بن حسين عن الزهري وليس بالقوي واختار الشيخ تقي الدين الإجزاء وأنه قياس المذهب في الكفارة ويقتضيها نقل الأثرم وفيه شيء لأن في رواية الأثرم صاع من(2/359)
ولا يجزئ غير ذلك إلا أن يعدمه فيخرج مما يقتات عند ابن حامد وعند أبي بكر: يخرج ما يقوم مقام المنصوص ولا يخرج حبا معيبا ولا خبزا.
-----------------------------------------------
كل شيء ولأحمد وغيره من حديث الحسن عن ابن عباس نصف صاع من بر وفيه مقال لأن الحسن لم يسمع منه قاله ابن المديني وابن معين
"ولا يجزئ غير ذلك" أي: الأصناف المذكورة مع قدرته على تحصيلها كالدبس والمصل وقيل يجزئ كل مكيل مطعوم واختار الشيخ تقي الدين يجزئ قوت بلده مثل الأرز ونحوه وأنه قول أكثر العلماء لقوله تعالى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: من الآية89] وجزم به ابن رزين
"إلا أن يعدمه فيخرج مما يقتات عند ابن حامد" كلحم ولبن وقيل لا يعدل عنهما لأن المقصود من المنصوص عليها الاقتيات وحصول الغنى عن الطلب وهو حاصل بذلك
"وعند أبي بكر" وهو أشبه بكلام أحمد وظاهر الخرقي وقدمه الشيخان في الكافي والمحرر وجزم به في الوجيز "يخرج" صاع "مما يقوم مقام المنصوص" من كل حبة كذرة ودخن أو ثمر يقتات كتين يابس ونحوه ولأنها أشبه بالمنصوص عليها فكانت أولى زاد بعضهم بالبلد غالبا وقيل يجزئ ما يقوم مقامها وإن لم يكن مكيلا
"ولا يخرج حبا معيبا" كمسوس ومبلول لقوله تعالى {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية267] ولأن السوس يأكل جوفه والبلل ينفخه والمخرج بصاع منه ليس هو الواجب شرعا
وإن خالط الجيد ما يجزئ فإن كثر لم يجزئه وإن قل زاد بقدر ما يكون المصفى صاعا لأنه ليس عيبا لقلة مشقة تنقيته قال أحب تنقية الطعام وحكاه عن ابن سيرين ليكون أكمل "ولا خبزا" لأنه خرج عن الكيل والادخار وفيه شبه بإخراج القيمة وقال(2/360)
ويجزئ إخراج صاع من أجناس وأفضل المخرج التمر ثم ما هو أنفع للفقراء بعده. ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد والواحد ما يلزم الجماعة.
---------------------------------------------
ابن عقيل يجزئ
"ويجزئ إخراج صاع من أجناس" نص عليه لأن كلا منها يجوز منفردا وكذا مع غيره لتفاوت مقصودها أو اتحاده وقاسه في المغني والشرح على فطرة عبد مشترك إذا أخرج كل واحد من جنس وفي الفروع يتوجه تخريج في الكفارة لا تجزئ لظاهر الأخبار إلا أن يقول بالقيمة.
"وأفضل المخرج التمر" مطلقا نص عليه لفعل ابن عمر رواه البخاري وقال له أبو مجلز إن الله قد أوسع والبر أفضل فقال إن أصحابي سلكوا طريقا فأنا أحب أن أسلكه رواه أحمد واحتج به ولأنه قوت وحلاوة وأقرب تناولا وأقل كلفة ولا عبرة بموزونه بل يحتاط في الثقيل ليسقط الفرض
"ثم ما هو أنفع للفقراء بعده" إذ القصد الاقتيات وحصول الإغناء به عن الطلب لكن جزم في المغني والشرح والوجيز أن الأفضل بعد التمر البر فيحتمل أن يكون مرادا هنا لأن الاعتماد في تفضيل التمر إتباع الصحابة وسلوك طريقتهم ولهذا قال أبو مجلز والبر أفضل وأقره عليه لأنه أنفع في الاقتيات وأبلغ في دفع حاجة الفقير
وقيل: الزبيب جزم به أبو الخطاب وعزاه ابن المنجا للأصحاب لمشاركته له في القوت والحلاوة وفي المحرر أفضلها التمر ثم الزبيب ثم البر ثم الشعير ثم الأقط وعنه الأقط أفضل لأهل البادية إن كان قوتهم وقيل ما كان أغلا قيمة وأكثر نفعا
"ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد" لا نعلم فيه خلافا إذا أعطى من كل صنف ثلاثة لأنه دفع الصدقة إلى مستحقها "والواحد ما يلزم الجماعة" نص عليه لأنها صدقة لغير معين فجاز صرفها إلى واحد كالزكاة والأفضل ألا(2/361)
-----------------------------------------------
ينقص الواحد عن مدبر أو نصف صاع من غيره
وعنه: الأفضل تفرقة الصاع جزم به جماعة للخروج من الخلاف
وعنه: الأفضل أن لا ينقص الواحد عن صاع للمشقة ويصرف في أصناف الزكاة لا في غيرهم وفي الفنون عن بعض أصحابنا تدفع إلى من لا يجد ما يلزمه وقال الشيخ تقي الدين لا تدفع إلا لمن يستحق الكفارة وهو من يأخذ لحاجته لا في المؤلفة والرقاب وغير ذلك
فرع: إذا دفعها إلى مستحقها فردها إليه عن نفسه أو جمعت عند الإمام فقسمها على أهل السهمان فعاد إلى إنسان ذلك جاز أشبه ما لو عادت إليه بميراث
وقال أبو بكر مذهب أحمد أنه لا يحل له أخذها لأنها طهرة فلم يجز له أخذها لسواها لحديث عمر رضي الله عنه.(2/362)
باب إخراج الزكاة
لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها مع إمكانه
-----------------------------------------------
باب إخراج الزكاة
"لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها مع إمكانه" أي مع القدرة نص عليه لقوله تعالى {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: من الآية141] والمراد الزكاة والأمر المطلق للفور بدليل أن المدخر مستحق العقاب ولو جاز التأخير لكان إما إلى غاية وهو مناف للوجوب وإما إلى غيرها ولا دليل عليه بل ربما يفضي إلى سقوطها إما بموته أو تلف المال ليتضرر الفقير فيختل المقصود من شرعها ولأنها للفور بطلب الساعي فكدين بطلب الله تعالى كعين مغصوبة
وفي المغني والشرح لو لم يكن الأمر للفور لقلنا به هنا ولأنها عبادة(2/362)
إلا لضرر مثل أن يخشى رجوع الساعي عليه ونحو ذلك فإن جحد وجوبها جهلا عرف ذلك فإن أصر كفر وأخذت منه واستتيب ثلاثا.
----------------------------------------------
تكرر فلم يجز تأخيرها إلى دخول وقت مثلها كالصلاة.
وقيل: لا يلزمه على الفور لإطلاق الأمر كالكفارة وعلى الأول تضمن إذا تلف المال أو بعضه لتعديه وظاهره أنه إذا لم يمكنه الإخراج كمن منع من التصرف من ماله أو لم يجد المستحق أو كان ماله غائبا ونحوه فيجوز له التأخير وكلامه مشعر بجواز تأخيرها عن غير وقت وجوبها وهو كذلك بلا نزاع
"إلا لضرر" فيجوز له تأخيرها نص عليه "مثل أن يخشى رجوع الساعي عليه" إذا أخرجها هو بنفسه "ونحو ذلك" كما إذا خاف على نفسه أو ماله لما في ذلك من الضرر وإذا جاز تأخير دين الآدمي فهي أولى ويجوز تأخيرها لحاجة المالك إليها نص عليه ولمن حاجته أشد نقله يعقوب وقيدها جماعة بزمن يسير للحاجة وإلا لم يجز ترك واجب لمندوب وظاهر كلام جماعة المنع وكذا يجوز تأخيرها لقريب في الأشهر وجار ولم يذكره الأكثر
وعنه: له أن يعطى قريبه كل شهر شيئا وحمله أبو بكر على تعجيلها قال المجد هو خلاف الظاهر وينبغي أن يقيد الكل ما لم يشتد ضرر الحاضر.
فرع: يجوز للإمام والساعي تأخيرها عند ربها لعذر قحط ونحوه احتج أحمد بفعل عمر.
"فإن جحد وجوبها جهلا" به ومثله يجهله لقريب العهد بالإسلام والناشئ ببادية بعيدة يخفى عليه "عرف ذلك" أي عرف وجوبها ليرجع عن الخطأ ولم يحكم بكفره لأنه معذور "فإن أصر" أو كان عالما به "كفر" إجماعا لأنه مكذب لله ولرسوله وظاهره ولو أخرجها "وأخذت منه" لوجوبها قبل كفره فلم تسقط به كالدين
قال في الفروع إن كان وجبت ولا تحتاج إليه لأنها مفروضة فيه "واستتيب ثلاثا" كالمرتد(2/363)
فإن لم يتب قتل ومن منعها بخلا بها أخذت منه وعزر فإن غيب ماله أو كتمه أو قاتل دونها وأمكن أخذها أخذت من غير زيادة وقال أبو بكر: يأخذها وشطر ماله.
---------------------------------------------
"فإن لم يتب قتل" لقوله عليه السلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" وقال أبو بكر لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة متفق عليهما
"ومن منعها بخلا بها" أو تهاونا "أخذت منه" قهرا كدين الآدمي وكما يؤخذ منه العشر ولأن للإمام طلبه به فهو كالخراج بخلاف الاستنابة في الحج والتكفير بالمال وظاهره أنه لا يحبس حتى يؤدي لعدم النية في العبادة من الممتنع "وعزر" لتركه الواجب عليه ولأنها معصية لا حد فيها ولا كفارة والمراد إذا كان عالما بتحريم ذلك وقيل إن كان ماله باطنا عزره إمام أو محتسب
وذكر القاضي وابن عقيل إن فعله لفسق الإمام لكونه لا يضعها موضعها لم يعزره وجزم به جماعة.
"فإن غيب ماله أو كتمه" أي غله "أو قاتل دونها وأمكن أخذها" فإن كان في قبضة الإمام "أخذت" الزكاة "من غير زيادة" عليها وهو قول أكثر العلماء لأن الصديق مع الصحابة لما منعته العرب الزكاة لم ينقل أنه أخذ منهم زكاة عليها ولأنه لا يزاد على أخذ الحقوق من الظالم وكسائر الحقوق
وعنه: تؤخذ منه ومثلها ذكرها ابن عقيل وقاله في زاد المسافر تغليظا عليه.
"وقال أبو بكر يأخذها وشطر ماله" أي مع نظير ماله الزكوي وهذا رواية وقدمها الحلواني لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا "في كل إبل سائمة في كل أربعين بنت لبون لا تفرق إبل عن حسابها من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر إبله عزمة من(2/364)
فإن لم يمكن أخذها استتيب ثلاثا فإن تاب وأخرج وإلا قتل وأخذ من تركته وقال بعض أصحابنا: إن قاتل عليها كفر.
-----------------------------------------------
عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء" رواه أحمد والنسائي وأبو داود وقال شطر ماله وهو ثابت إلى بهز وقد وثقه الأكثر
وجوابه: بأنه كان في بدء الإسلام حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ لأن ظاهره إيجاب بنت لبون من كل أربعين مطلقا والمستقر عليه في النصب والأسنان حديث الصديق وفيه ومن سئل فوق ذلك فلا يعطه قال في الشرح وانعقد الإجماع على ترك العمل به في المانع غير الغال وليس كذلك
"فإن لم يمكن أخذها" بالتعذيب أو غيره "استتيب ثلاثا" لأنها من مباني الإسلام فيستتاب تاركها كالصلاة "فإن تاب وأخرج وإلا قتل" إذا لم يتب لاتفاق الصحابة على قتال مانعها "وأخذت من تركته" من غير زيادة لأن القتل لا يسقط دين الآدمي فكذا الزكاة
وإذا قتل فيكون حدا على الأصح لظاهر الكتاب والسنة 0 ولأنه لا تسبى لهم ذرية لأن الجناية من غيرهم
وظاهره: أنه لا يكفر بمقاتلة الإمام له في ظاهر المذهب لأن الصحابة لم يعتقدوا كفرهم حين امتنعوا.
"وقال بعض أصحابنا إن قاتل عليها كفر" لقوله تعالى {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة: من الآية5] ولأن أبا بكر لما قاتلهم قالوا نؤديها قال لا أقبلها حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ولم ينقل عن أحد من الصحابة إنكاره فدل على كفرهم
قال ابن مسعود وما تارك الزكاة بمسلم وجوابه بأنه يحتمل أنهم جحدوا وجوبها ويحتمل غير ذلك فلا يجوز الحكم به في محل النزاع ولا يلزم من الحكم بالنار الحكم بالكفر بدليل العصاة من هذه الأمة وقال القاضي الصحيح(2/365)
وإن ادعى ما يمنع الوجوب من نقصان الحول أو النصاب أو انتقاله عنه في بعض الحول – قبل قوله بغير يمين نص عليه. والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما.
----------------------------------------
من المذهب أنه لا يكفر بترك شيء من العبادات سوى الصلاة لتعذر النيابة فيها والمقصود الأعظم من الزكاة دفع حاجة الفقير وهو حاصل بأدائها مع القتال
"وإن" طولب بالزكاة فادعى أداءها أو "ادعى ما يمنع الوجوب من نقصان الحول أو النصاب أو انتقاله عنه في بعض الحول" بأن قال بعته ثم اشتريته "قبل قوله" لأن الأصل براءة ذمته "بغير يمين نص عليه" وظاهره لا يشرع نقل حنبل لا نسأل المتصدق عن شيء ولا نبحث إنما نأخذ ما أصابه مجتمعا ولأنها عبادة مؤتمن عليها فلا يستحلف كالصلاة والكفارة بخلاف الوصية للفقراء بمال وقال ابن حامد يستحلف في ذلك كله وفي الفروع يتوجه احتمال إن اتهم وفي الأحكام السلطانية إن رأى العامل أن يستحلفه فعل وإن نكل لم يقض عليه بنكوله وقيل بلى وكذا الحكم إن مر بعاشر وادعى أنه عشره آخر.
فرع: إذا أقر بقدر زكاته ولم يذكر قدر ماله صدق ويجري الخلاف السابق في اليمين "والصبي والمجنون" تجب الزكاة في مال كل منهما إذا كان حرا مسلما تام الملك وقوم لما روى الدارقطني مرفوعا "من ولي مال يتيم فليتجر به ولا يتركه حتى تأكله الصدقة" وروي موقوفا على عمر فدل على وجوبها لأن الولي ليس له أن يتبرع بمال اليتيم ولأن من وجب العشر من رزعه وجب ربع العشر في رزقه كالبالغ العاقل والصلاة والصوم مختصة بالبدن فإن نية الصبي ضعيفة والمجنون لا تتحقق منه نيتها بخلاف الزكاة فإنها تتعلق بالمال لنفقة الزوجات والأقارب وأرش الجنايات.
فعلى هذا "يخرج عنهما وليهما" من مالهما لأنه حق واجب عليهما ,(2/366)
ويستحب للإنسان تفرقة زكاته بنفسه وله دفعها إلى الساعي وعنه يستحب أن يدفع إليه العشر.
---------------------------------------------
فوجب على الولي أداؤه عنهما كنفقة قريبه وتعتبر النية منه في الإخراج كرب المال "ويستحب للإنسان تفرقة زكاته بنفسه" إن كان أمينا وهو أفضل من دفعها إلى الإمام نص عليه لقوله تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية271] وكالدين ولأن القابض من سيد قبض ما يستحقه وليكون على ثقة من إيصالها إلى مستحقها وظاهره لا فرق بين الأموال الظاهرة والباطنة وقيل يجب دفع زكاة المال الظاهر إلى الإمام
"وله دفعها إلى الساعي" لما روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت لي مال وأريد إخراج زكاته فما تأمرني فقال ادفعها إليهم فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد فقالوا مثل ذلك رواه سعيد ولأنه نائب عن مستحقها فجاز الدفع إليه كولي اليتيم وظهر أن له دفعها إلى الإمام ولو كان فاسقا قال أحمد الصحابة يأمرون بدفعها وقد علموا فيما ينفقونها وفي الأحكام السلطانية يحرم إن وضعها في غير أهلها ويجب كتمها إذن وبالجملة فيجزئ مطلقا لما روى أحمد عن أنس مرفوعا "إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله فلك أجرها وإثمها على من بدلها"
وللإمام طلبها من الأموال مطلقا إذا وضعها في أهلها وقيل يجب دفعها إذن وقيل لا يجب دفع الباطنة ذكره بعضهم وجها واحدا وعلى الأول ولو من بلد غلب عليه الخوارج فلم يؤد أهله الزكاة ثم غلب عليهم الإمام لأنهم وقت الوجوب ليسوا تحت حمايته.
"وعنه يستحب أن يدفع إليه العشر" لاختلافهم فيه فذهب قوم إلى أنه(2/367)
ويتولى تفريق الباقي وعند أبي الخطاب: دفعها إلى الإمام العادل أفضل. ولا يجوز إخراجها إلا بنية.
-------------------------------------------------
يتولاه الإمام أو نائبه وعنه يدفع إلى السلطان صدقة الفطر وعنه دفع الظاهر أفضل
"ويتولى" المالك "تفريق الباقي" كالمواشي ونحوهما فيضعها موضعها "وعند أبي الخطاب دفعها إلى الإمام العادل أفضل" واختاره ابن أبي موسى للخروج من الخلاف وزوال التهمة.
تنبيه: للإمام طلب نذر وكفارة في وجه نص عليه في كفارة الظهار وما أخذه البغاة والخوارج من الزكاة فإنها تجزئ عن مالكها وحمله القاضي على أنهم خرجوا بتأويل وفي موضع آخر أنهم إذا نصبوا إماما وفي الأحكام السلطانية لا يجزئ الدفع إليهم اختيارا وعنه الوقف فيما أخذه الخوارج من الزكاة
"ولا يجوز" أي لا يجزئ "إخراجها إلا بنية" لقوله "إنما الأعمال بالنية" ولأنها عبادة فافتقرت إليها كالصلاة ومصرف المال إلى الفقير له جهات فلا يتعين إلا بتعيين فينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة أو صدقة المال أو الفطر
فلو نوى صدقة مطلقة لم يجزئه ولو تصدق بجميع ماله كصدقته بغير النصاب من جنسه ولا تعتبر نية الفرض ولا المال المزكى عنه.
وفي تعليق القاضي وجه تعتبر نية التعيين إذا اختلف المال كشاة عن خمس من الإبل وأجزأ عن أربعين من الغنم فعلى الأول إن نوى زكاة ماله الغائب فإن كان تالفا فعن الحاضر أجزأ عنه إن كان الغائب تالفا بخلاف الصلاة لاعتبار التعيين فيها وإن أدى قدر زكاة أحدهما جعله لأيهما شاء لتعيينه ابتداء وإن لم يعينه أجزأ عن أحدهما ولو نوى عن الغائب فبان تالفا لم يكن له صرفه إلى غيره كعتق في كفارة معينة فلم تكن وإن نوى عن الغائب إن كان سالما أو نوى وإلا فنفل أجزأ لأنه حكم الإطلاق فلم(2/368)
إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا وقال أبو الخطاب: لا تجزئه أيضا من غير نية. فإن دفعها إلى وكيله اعتبرت النية في الموكل.
----------------------------------------------
يضر التقييد وقال أبو بكر لا يجزئه لأنه لم يخلص النية للفرض والأولى مقارنتها للدفع وله تقديمها بزمن يسير كالصلاة وفي الروضة تعتبر عند الدفع ولو حركها لم تكف النية
"إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا" قاله الخرقي وجزم به في الوجيز فإنها تجزئ بغير نية رب المال في الظاهر بلا تردد بمعنى أنه لا يؤمر بأدائها ثانيا وظاهره أنها تجزئ في الباطن وهو أحد الوجوه لأن له ولاية على الممتنع فقامت نيته مقام نية المالك كولي الصبي ونحوه والثاني، وقاله القاضي أنها تجزئ إذا أخذها طوعا أو كرها لأن أخذه كالقسمة بين الشركاء.
"وقال أبو الخطاب" وابن عقيل وهو ظاهر المحرر واختاره حفيده "لا تجزئه أيضا من غير نية" لأن الإمام إما وكيله أو وكيل الفقراء أو وكيلهما فتعتبر نية رب المال وكالصلاة فعلى هذا يقع نفلا من الطائع ويطالب بها ويجزئ للمكره ظاهرا لا باطنا كالمصلي مكرها. وأجيب بأنه دال على المال ولا يصح إلحاق الزكاة بالقسمة لأنها ليست عبادة ولا تعتبر لها نية بخلاف الزكاة وقال القاضي في موضع لا يحتاج الإمام إذنه منه ولا من رب المال فرع: لو غاب المالك أو تعذر إذنه لحبس ونحوه فأخذ الساعي من ماله أجزأ مطلقا لأنه له ولاية أخذها إذن ونية المالك متعذرة بما تعذر عليه كصرف الولي زكاة موليه "فإن دفعها إلى وكيله" المسلم الثقة نص عليه وقال القاضي يجوز أن يكون كافرا على خلاف فيه كما لو استناب ذميا في ذبح أضحية وجزم في منتهى الغاية بجوازه كالمسلم وفي مميز وجهان ومقتضاه صحة التوكيل في إخراجها اتفاقا "اعتبرت النية في الموكل" لأنها(2/369)
دون نية الوكيل ويستحب أن يقول عند دفعها: اللهم اجعلها مغنما، ولا تجعلها مغرما. ويقول الآخذ: آجرك الله فيما أعطيت ، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورا.
--------------------------------------------
واجبة عليه فاعتبرت من جهته وظاهره الإجزاء ولو تطاول زمن الإخراج اختاره أبو الخطاب "دون نية الوكيل" كما لو تقارب الدفع وقيده القاضي وابن عقيل وصاحب الشرح والوجيز بالزمن اليسير فعلى هذا لو تطاول فلا بد من نية الوكيل أيضا لئلا يخلو الأداء إلى المستحق عن نية مقارنة مقاربة ويستثنى منه ما لو دفعها إلى الإمام ناويا ولم ينو الإمام حال الدفع جاز وإن طال الزمن لأنه وكيل الفقراء وظاهره أنه إذا نوى الوكيل أنه لا يجزئ لأنه نيته لم يؤذن له فيها فتقع نفلا ولو أجازها وكذا من أخرج من ماله زكاة عن حي بلا إذنه لم يجزئه ولو أجازها لأنها ملك المتصدق فوقعت عنه
"ويستحب أن يقول عند دفعها اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما" لخبر أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما" رواه ابن ماجه من رواية البختري بن عبيد وهو ضعيف ومعناه الدعاء كأنه قال اللهم اجعلها مثمرة لا منقصة له لأن التثمير كالغنيمة والتنقيص كالغرامة ويحمد الله على توفيقه لأدائها.
"ويقول الآخذ: آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهورا" لأنه مأمور به في قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: من الآية103] أي ادع لهم قال عبد الله بن أبي أوفى كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال "اللهم صل على آل فلان" فأتاه أبي بصدقته فقال "اللهم صل على آل أبي أوفى" متفق عليه وهو محمول على الندب ولهذا لم يأمر سعاته بالدعاء وذهبت الظاهرية إلى وجوبه لأن "على" للإيجاب
ويستحب إظهارها في الأصح وقيل إن منعها أهل بلدة استحب وإلا(2/370)
ولا يجوز نقلها إلى بلد تقصر إليه الصلاة. فإن فعل ، فهل تجزئه ؟ على روايتين. إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه ، فيفرقها في أقرب البلاد إليه.
---------------------------------------.
فلا. فإن علمه أهلا لها كره إعلامه بها نص عليه وفي الروضة لا بد من إعلامه وإن علمه أهلا ويعلم من عادته لا يأخذ زكاة وإن أعطاه ولم يعلمه لم يجزئه في قياس المذهب.
"ولا يجوز نقلها إلى بلد تقصر إليه الصلاة" نص عليه وجزم به الأكثر لقوله عليه السلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن "أخبرهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" متفق عليه وقال سعيد حدثنا سفيان عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال كان في كتاب معاذ "من أخرج من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره ترد إلى مخلافه" وذكر القاضي في تعليقه وابن البنا يكره وعنه يجوز نقلها إلى الثغر وعنه وغيره والأول المذهب وعليه لا فرق بين أن يكون لرحم وشدة حاجة أولا.
والساعي وغيره سواء نص على ذلك وعلم منه أنه يجوز نقل الكفارة والنذر والوصية المطلقة في الأصح ونقلها إلى قصر نص عليه لأنه في حكم بلد واحد بدليل أحكام رخص السفر.
"فإن فعل فهل يجزئه على روايتين" إحداهما لا يجزئ اختاره الخرقي وابن حامد والقاضي وجماعة كصرفها في غير الأصناف والثانية واختارها أبو الخطاب والمؤلف وصاحب الوجيز الإجزاء للعمومات ولأنه دفع الحق إلى مستحقه فبرئ كالدين "إلا أن يكون في بلد لا فقراء فيه" بالكلية أو كانوا وفضل عنهم لأن معاذا بعث إلى عمر صدقة من اليمن فأنكر عمر ذلك وقال لم أبعثك جابيا ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها في فقرائهم فقال معاذ ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني رواه أبو عبيد فينقلها نص عليه ومؤنة نقلها على المالك كالكيل ونحوه "فيفرقها في أقرب البلاد إليه" لأنهم أولى وحكم أهل البادية كذلك ولو عبر بموضع لكان أشمل ويستثنى من الأول ما لو كان نصاب من السائمة(2/371)
وإذا كان في بلد وماله في آخر ، أخرج زكاة المال في بلده ، وفطرته في البلد الذي هو فيه. وإذا حصل عند الإمام ماشية استحب له وسم الإبل في أفخاذها والغنم في آذانها ، فإن كانت زكاة كتب " لله " أو " زكاة " ، وإن كانت جزية كتب: " صغار " أو : " جزية ".
---------------------------------------
متفرقا في بلدين فإنه يجوز أن يخرج في أحدهما لئلا يفضي إلى التشقيص في ظاهر كلام أحمد والثاني يلزمه في كل بلد بقدر ما فيه من المال لئلا ينقلها.
"وإذا كان في بلد وماله في آخر أخرج زكاة المال في بلده" أي بلد المال نص عليه لئلا ينقل الصدقة عنه ولأن المال سبب الزكاة فوجب إخراجها حيث وجد السبب وإن كان متفرقا زكى كل مال حيث هو.
فرع: السفار بالمال يزكي من موضع أكثر إقامة المال فيه نقله الأكثر لتعلق الأطماع به غالبا ونقل محمد بن الحكم تفرقته في البلدان التي كان بها في الحول وقال القاضي يفرق زكاته حيث حال حوله لئلا يفضي إلى تأخير.
"و" إخراج "فطرته في البلد الذي هو فيه" لأنه سببها فوجب إخراجها حيث وجد السبب "وإذا حصل عند الإمام ماشية استحب له وسم الإبل" والبقر "في أفخاذها والغنم في آذانها" لما روى أنس قال غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه فوافيته في يده الميسم يسم إبل الصدقة متفق عليه ولأحمد وابن ماجه وهو يسم غنما في آذانها وإسناده صحيح ولأن الحاجة تدعو إليه ليتميز عن الضوال ولترد إلى مواضعها إذا شردت وخص الموضعان لخفة الشعر فيهما ولقلة ألم الوسم ويتوجه يحرم في الوجه
"فإن كانت زكاة كتب "لله" أو "زكاة" وإن كانت جزية كتب "صغار" "أو جزية" لأنه أقل ما يتميز به وذكر أبو المعالي أن الوسم بحناء أو قير أفضل وفيه شيء.
تنبيه: إذا أخرج زكاته فتلفت قبل أن يقبضها الفقير لزمه عوضها كما قبل(2/372)
فصل:
ويجوز تعجيل الزكاة عن الحول إذا كمل النصاب ، ولا يجوز قبل ذلك ، وفي تعجيلها لأكثر من حول روايتان.
--------------------------------
العزل لعدم تعيينها لأنه يجوز العود فيها إلى غيرها ولم يملكها المستحق كمال معزول لو قارب الدين بخلاف الأمانة والتالف إن كان من مال الزكاة سقط قدر زكاته إن قلنا بالسقوط بالتلف وفي سقوطها عن الباقي إن نقص عن نصاب الخلاف ويشترط لملك الفقير لها وإجزائها قبضه ولا يصح تصرفه قبله نص عليه ولو قال الفقير اشتر لي بها ثوبا ولم يقبضه لم يجز ولو اشتراه كان له ولو تلف فمن ضمانه.
فصل:
"ويجوز تعجيل الزكاة عن الحول إذا كمل النصاب" جزم به الأصحاب لما روى علي بن أبي طالب أن العباس سأل النبي صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك رواه أحمد وأبو داود وقد تكلم في إسناده وذكر أبو داود أنه روي عن الحسن بن مسلم مرسلا وأنه أصح ولأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله كالدين ونقل جماعة لا بأس به قال الأثرم هو مثل الكفارة قبل الحنث فيصير من تقديم الحكم بعد وجود سببه وقبل وجود شرطه وفي كلام القاضي والمجد أنهما سببان فقدم على أحدهما وفي كلام المؤلف شرطان وظاهر كلامهم أن ترك التعجيل أفضل وفي الفروع ويتوجه احتمال تعتبر المصلحة ولا خلاف عندنا أنه يجوز تقديمها بعام واحد ويستثنى منه ولي رب المال فإنه ليس له تعجيلها في وجه.
"ولا يجوز قبل ذلك" أي قبل كمال النصاب بغير خلاف نعلمه قاله في المغني لأنه سببها فلم يجز تقديمها عليه كالتكفير قبل الحلف "وفي تعجيلها لأكثر من حول روايتان" أطلقهما تبعا لأبي الخطاب إحداهما لا يجوز جزم به في الوجيز لأن النص لم يرد بتعجيلها لأكثر من حول ,(2/373)
وإن عجلها عن النصاب وما يستفيده ، أجزأ عن النصاب دون الزيادة.
------------------------------------
فاقتصر عليه والثانية يجوز قدمه في الفروع لأن في حديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أما العباس فهي علي ومثلها معها" متفق عليه وكتقديم الكفارة قبل الحنث بأعوام لكن قيدها ابن الزاغوني والمجد بعامين ونص أحمد ويرد عليه نقل الأولى لا يجوز لثلاثة أعوام فأكثر قال ابن عقيل لا تختلف الرواية فيه اقتصارا على ما ورد وعنه يجوز لما سبق.
وإذا قلنا تعجل لعامين فعجل عن أربعين شاة شاتين في غيرها جاز وفيهما لا يجوز عنهما وينقطع الحول وإن عجل واحدة منها وأخرى من غيرها جاز جزم به في منتهى الغاية وقال المؤلف يجزئ واحدة عن الحول الأول.
"وإن" ملك نصابا ثم "عجلها عن النصاب وما يستفيده أجزأ عن النصاب" لما تقدم "دون الزيادة" نص عليه لأنه عجل زكاة ما ليس في ملكه فلم يوجد السبب كما في النصاب الأول وعنه يجزئ عنها لوجود سبب الزكاة في الجملة وفي الفروع يتوجه منها احتمال تخريج يضمه إلى الأصل من حول الوجوب فكذا من التعجيل واختار في الانتصار يجزئ عن المستفاد من النصاب فقط وقيل به إن لم يبلغ المستفاد نصابا لأنه يتبعه في الوجوب والحول كموجود وإذا بلغه استقل بالوجوب في الجملة لو لم يوجد الأصل.
ولو عجل عن خمس عشرة وعن نتاجها بنت مخاض فنتجت مثلها فالأشهر لا تجزئه وتلزمه بنت مخاض وهل له أن يرتجع العجلة على وجهين فإن جاز فأخذها ثم دفعها إلى الفقير جاز وإن اعتد بها قبل أخذها فلا لأنها على ملك الغير.
ولو عجل مسنة عن ثلاثين بقرة ونتاجها فالأشهر لا تجزئه عن الجميع بل عن ثلاثين وليس له ارتجاعها ويخرج للعشر ربع مسنة وعلى قول ابن حامد يخير بين ذلك وبين ارتجاع المسنة ويخرجها أو غيرها عن الجميع ولو عجل عن(2/374)
وإن عجل عشر الثمرة قبل طلوع الطلع والحصرم ، لم تجزئه. وإن عجل زكاة النصاب وتم الحول ، وهو ناقص قدر ما عجله ، جاز. وإن عجل زكاة المائتين فنتجت عند الحول سخلة ، لزمه شاة ثالثة.
--------------------------------------
أربعين شاة شاة ثم أبدلها مثلها أو نتجت أربعين سخلة ثم ماتت الإناث أجزأ العجل عن البدل وعن السخال لأنها تجزئ مع بنات الأمات عن الكل فعن أحدهما أولى وذكر أبو الفرج وجها لا تجزئ لأن التعجيل كان لغيرها.
"وإن عجل عشر الثمرة قبل طلوع الطلع والحصرم لم تجزئه" لأنه تقديم لها قبل وجود سببها وظاهره أنه إذا عجلها بعد الطلوع أنها تجزئ واختاره أبو الخطاب وقدمه في الفروع لأن وجود ذلك كالنصاب والإدراك كالحول وحكم الزرع كذلك.
وقيل يجوز بعد ملك الشجر ووضع البذر في الأرض لأنه لم يبق للوجوب إلا مضي الوقت عادة كالنصاب الحولي
واختار في الانتصار ومنتهى الغاية أنه لا يجوز حتى يشتد الحب ويبدو صلاح الثمرة لأنه السبب.
"وإن عجل زكاة النصاب وتم الحول وهو ناقص قدر ما عجله جاز" لأن ما عجله حكمه حكم الوجود في ملكه حقيقة أو تقديرا ولهذا يتم به النصاب ويجزئه عن ماله.
وقال أبو حكيم لا يجزئه ويكون نفلا ويكون كتالف فعلى الأول لو ملك مائة وعشرين شاة ثم نتجت قبل الحول واحدة لزمه شاة أخرى وعلى الثاني لا.
وظاهره: أنه إذا نقص أكثر مما عجله أنه يخرج بذلك عن كونه سببا للزكاة فإذا زاد بعد ذلك إما بنتاج أو شراء ما يتم به النصاب استؤنف الحول من حين كمل النصاب ولم يجزئه ما عجله ذكره في الشرح.
"وإن عجل زكاة المائتين فنتجت عند الحول سخلة لزمه شاة ثالثة" لما(2/375)
وإن عجلها فدفعها إلى مستحقها فمات أو ارتد أو استغنى أجزأت عنه. وإن دفعها إلى غني فافتقر عند الوجوب ، لم تجزئه. وإن عجلها ثم هلك المال قبل الحول ، لم يرجع على المسكين.
-------------------------------
ذكر من أن المعجل حكمه كالموجود فيكون ملكه مائتين وواحدة وفرض ذلك ثلاث شياه فإذا أدى اثنتين بقي عليه واحدة فلو نتج المال ما يغير الفرض كتبيع عن ثلاثين بقرة فنتجت عشرا فقيل لا يجزئه المعجل لشيء ليتبين أن الواجب غيره وهل له ارتجاعه فيه وجهان وقيل يجزئه عما جعله عنه ويلزمه للنتاج ربع مسنة لئلا يمتنع المالك من التعجيل غالبا.
"وإن عجلها فدفعها إلى مستحقها فمات" قابضها "أو ارتد أو استغنى" من غيرها قبل الحول "أجزأت عنه" في الأصح كما لو استغنى منها أو عدمت عند الحول لأنه يعتبر وقت القبض ولئلا يمتنع التعجيل وفهم منه أنه إذا بقي على صفة الاستحقاق عند تمام الحول الإجزاء من باب أولى
"وإن دفعها إلى غني فافتقر عند الوجوب لم يجزئه" لأنه لم يدفعها إلى مستحقها أشبه ما لو لم يفتقر "وإن عجلها ثم هلك المال" أي النصاب أو بعضه أو مات المالك أو ارتد "قبل الحول" فقد بان أن المخرج ليس بزكاة لانقطاع الوجوب بذلك فإذا أراد الوارث الاحتساب بها عن زكاة حوله لم يجز وذكر القاضي وجها يجوز بناء على ما لو عجل عن عامين والفرق أن التعجيل وجد من نفسه مع حول ملكه وهنا أخرجها غيره عن نفسه بلا ولاية ولا نيابة فلم يجز
"ولم يرجع على المسكين" في رواية ذكرها أبو الحسين واختارها أبو بكر وغيره قال القاضي وهي المذهب وجزم بها في الوجيز لأنها وقعت إلى مستحقها فلم يملك استرجاعها لوقوعها نفلا بدليل ملك الفقير لها وظاهره لا فرق بين إعلام الآخذ أنها معجلة أولا والثانية: يملك الرجوع فيه اختارها ابن حامد وابن شهاب وأبو الخطاب ,(2/376)
وقال ابن حامد : إن كان الدافع الساعي ، أو أعلمه أنها زكاة معجلة ، رجع عليه
---------------------------------
كما لو عجل الأجرة ثم تلف المأجور وكعتقه عن كفارة لم تجب فلم تجب كما لو كانت بيد الساعي عند التلف
وبنى جماعة عليها إن كان الدافع ولي رب المال رجع مطلقا وإن كان رب المال ودفع إلى الساعي مطلقا رجع فيها ما لم يدفعها إلى الفقير وإن كان دفعها إليه فهو كما لو دفعها إليه رب المال
"وقال ابن حامد إن كان الدافع الساعي" رجع مطلقا لقوله "أو أعلمه أنها زكاة معجلة رجع عليه" لأنه دفعها عما يستحقه القابض من الحال الثاني وإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق وجب رده كما لو كفر عن القتل بعد الجرح فاندمل ولم يمت المجروح فيحتمل أن الضمير عائد إلى رب المال وهي الذي في الشرح فيصير التقدير لو أعلم رب المال الساعي بالتعجيل ودفع إلى الفقير رجع عليه أعلم الساعي أولا وجزم به جماعة عن ابن حامد ويحتمل أن يعود الضمير إلى الدافع فعلى هذا تقديره إذا أعلم الدافع الفقير بأنها معجلة رجع عليه وإلا فلا وهذا قول في المذهب ومتى كان رب المال صادقا فله الرجوع باطنا أعلمه بالتعجيل أولا لا ظاهرا مع الإطلاق لأنه خلاف الظاهر.
وعلى القول بالرجوع إن كانت العين باقية أخذها بزيادتها المتصلة فقط وقيل يرجع بالمنفصل:ة كرجوع بائع المفلس المسترد عين ماله بها وإن كانت ناقصة ضمن نقصها في الأصح كجملتها وإن تلفت ضمن مثلها أو قيمتها يوم التعجيل والمراد ما قاله المجد يوم التلف على صفتها يوم التعجيل.
فرع: إذا اختلفا في ذكر التعجيل صدق الآخذ عملا بالأصل ويحلف في الأصح ولو مات وادعى علم وارثه ففي يمينه على نفي العلم الخلاف.(2/377)
باب ذكر أهل الزكاة
وهم ثمانية أصناف : الفقراء ، وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم. الثاني: المساكين وهم الذين يجدون معظم الكفاية.
------------------------------------
باب ذكر أهل الزكاة
وأهلها هم الذين جعلهم الشرع محلا لدفعها إليهم
"وهم ثمانية أصناف" الذين سماهم الله تعالى في قوله {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ} [التوبة: من الآية60] قال أحمد إنما هي لمن سمى الله قال الأصحاب "إِنَّمَا" تفيد الحصر أي تثبت المذكور وتنفي ما عداه لقوله تعالى {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ} [النساء: من الآية171] قال في منتهى الغاية وكذلك تعريف الصدقات بالألف واللام فلو صار صرف شيء منها الثمانية لكان لهم بعضها لا كلها وهذا إجماع
"الفقراء" بدأ بهم اتباعا للنص ولشدة حاجتهم وهم غير المساكين لأنهما إذا اجتمعا افترقا وبالعكس "وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم" فالفقير الذي لا يجد شيئا أصلا أو لا يجد نصف كفايته كدرهمين من عشرة ومثله الخرقي وتبعه في الشرح بالزمن والأعمى لأنهما غالبا لا قدرة لهما على اكتساب ما يقع موقعا من كفايتهم أو لا قدرة لهما على شيء بالكلية لقوله تعالى {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية273]
"الثاني المساكين وهم الذين يجدون معظم الكفاية" أو نصفها لقوله تعالى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: من الآية79] فسماهم مساكين ولهم سفينة وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم المسكنة واستعاذ من الفقر فقال "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" رواه الترمذي ولا يجوز أن يسأل شدة الحاجة ويستعيذ من حالة(2/378)
ومن ملك من غير الأثمان مالا يقوم بكفايته فليس بغني وإن كثرت قيمته وإن كان من الأثمان فكذلك في إحدى الروايتين.
-------------------------------------------
أصلح منها فدل على أن المسكين أحسن حالا من الفقير لكونه يجد ما ذكرنا وعنه أنه فقير والأول مسكين وأن المسكين أشد حاجة من الفقير وقاله الفراء وابن قتيبة وثعلب من أصحابنا لقوله تعالى {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] وهو المطروح على التراب لشدة حاجته.
وأجيب بأنه عن الفقير بالمسكين مطلقا وأن هذا النعت لا يستحقه بإطلاق اسم المسكنة "ومن ملك من غير الأثمان ما لا يقوم بكفايته فليس بغني وإن كثرت قيمته" لقوله عليه السلام في حديث قبيصة "فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش" رواه مسلم والسداد الكفاية.
ولا فرق في ذلك بين ما لا تجب الزكاة فيه كالعقار ونحوه.
قال أحمد في رواية محمد بن الحكم إذا كان له عقار يستغله أو ضيعة يستغلها عشرة آلاف أو أكثر لا تقيمه يعني لا تكفيه يأخذ من الزكاة وهو فقير يعطى من الصدقة قال نعم وبين ما تجب فيه كالمواشي والحبوب.
نقل الميموني عن أحمد فقلت الرجل تكون عنده الإبل والغنم تجب فيه الزكاة وهو فقير يعطى من الصدقة قال نعم ولأنه يملك ما لا يغنيه ولا يقدر على كسب ما يكفيه فجاز له الأخذ منها كغيره ويأخذ تمام كفايته سنة وعنه يأخذ نماءها دائما بمتجر وآلة صنعة ولا يأخذ ما يصير به غنيا وظاهره أنه إذا كان يقوم بكفايته كمن له مكسب أو أجرة عقار أو غيره فإنه غني ويمنع من أخذها.
"وإن كان من الأثمان" وهو لا يقوم بكفايته قال في الوجيز وكفاية عياله "فكذلك في إحدى الروايتين" نقله مهنا وهو المذهب لأنه عليه السلام جعل عدم الكفاية غاية حل المسألة: ولم يوجد.(2/379)
والأخرى: إذا ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب فهو غني الثالث: العاملون عليها وهم الجباة لها والحافظون ويشترط كون العامل أمينا مسلما من غير ذوي القربى.
-------------------------------------------------
"والأخرى: إذا ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب فهو غني" نقلها واختارها الأكثر لما روى عبد الله بن مسعود مرفوعا: "من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه" قالوا يا رسول الله وما غناه؟ قال: "خمسون درهما أو حسابها من الذهب" .رواه الخمسة.
وأجيب: بضعف الخبر فإنه يرويه حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عنه وشعبة لا يروي عن حكيم مع أنه قد ضعفه جماعة ولو سلم فهو محمول على المسألة: فتحرم المسألة: ولا يحرم الأخذ قاله في المغني والشرح وحمله المجد على أنه عليه السلام قاله في وقت كانت الكفاية الغالبة فيه بخمسين ولذلك جاء التقدير عنه بأربعين وبخمس أواق وهي مائتان ويعتبر الذهب بقيمة الوقت لأن الشرع لم يحده وظاهره أنه ليس المانع من أخذها ملكه نصابا أو قيمته فاضلا عما يحتاجه فقط أو ملكه كفايته.
فرع: عياله مثله فيأخذ لكل واحد منهم خمسين أو قدر كفايته على الخلاف
"الثالث: العاملون عليها" للنص "وهم الجباة لها والحافظون" كالكاتب والقائم ونحوهما لدخولهم في مسمى العامل"ويشترط كون العامل" مكلفا "أمينا" وفي الفروع ومرادهم بها العدالة وفيه نظر "مسلما" في رواية وهي المذهب لقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: من الآية118] ولأنها ولاية ولاشتراط الأمانة أشبه الشهادة وهي تفتقر إلى العلم بالنصب ومقادير الزكاة وقبول قولهم من المأخوذ منه والكافر ليس أهلا لذلك قال عمر لا تأمنوهم وقد خونهم الله ويجوز أن يكون حاملها وراعيها ونحوهما كافرا من غير ذوي القربي هذا وجه وفي ابن المنجا أنه(2/380)
ولا يشترط حريته وفقره وقال القاضي لا يشترط إسلامه ولا كونه من غير ذوي القربى وإن انتقلت الزكاة في يده من غير تفريط أعطي أجرته من بيت المال.
-----------------------------------
المذهب وجزم به في الوجيز لأن الفضل بن عباس والمطلب بن ربيعة سألا النبي صلى الله عليه وسلم العمالة على الصدقات فقال "إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد" وهو نص في التحريم فلا يجوز مخالفته إلا أن يدفع إليه أجرته من غير الزكاة قاله في المغني والشرح
"ولا يشترط حريته" لأنه يحصل منه المقصود كالحر وفيه وجه يشترط لكماله وقيل يشترط في عمالة تفويض لا تنفيذ "وفقره" إجماعا لأنه عليه السلام أرسل عمر عاملا وكان غنيا ولأن ما يأخذه أجرة.
"وقال القاضي لا يشترط إسلامه" في رواية واختارها الأكثر لأنه يأخذه بحق جبايته ولهذا قال ابن عقيل وأبو يعلى الصغير يصح أن يوكله الوصي في مال اليتيم بيعا وابتياعا وليس بظاهر وفي الأحكام السلطانية يجوز أن يكون كافرا في زكاة خاصة عرف قدرها.
"ولا كونه من غير ذوي القربى" في أشهر الوجهين قال المجد هو ظاهر المذهب كقرابة رب المال من والد وولد وكجباية الخراج والحديث محمول على التنزيه قال ابن منجا وفيه نظر وقيل إن منعوا الخمس.
وظاهره: انه لا يشترط ذكوريته قال في الفروع وهذا متوجه وفيه نظر من جهة أنه لم يرد ما يدل عليه ومن تعليلهم بالولاية ولا فقهه واشترط في الأحكام السلطانية إن كان من عمال التفويض وإن كان منفذا فلا لأن الإمام عين له ما يأخذه وأطلق جماعة أنه لا يشترط إذا كتب له ما يأخذه كسعاة النبي صلى الله عليه وسلم.
"وإن تلفت الزكاة في يده من غير تفريط" فلا ضمان عليه لأنه أمين "أعطي أجرته من بيت المال" لأنه من مصالح المسلمين وهذا منها وقيل لا يعطى(2/381)
الرابع: المؤلفة قلوبهم وهم السادة المطاعون في عشائرهم ممن يرجى إسلامه
-------------------------------------
شيئا قال ابن تميم واختاره صاحب المحرر وظاهره أنها إذا لم تتلف أعطي أجرته منها وإن جاوز الثمن لأن ما يأخذه العامل أجرة في المنصوص وعنه له الثمن مما يجتنيه قال المجد فعليها إن جاوزت أجرته الثمن أعطيه من المصالح ويقدم بأجرته على غيره وله الأخذ وإن تطوع بعمله للخبر والأصح أنه إذا جعل له جعل على عمل لم يستحق شيئا قبل تعميله وإن عقد له إجارة وعين له أجرة مما يأخذه فلا شيء له عند تلف ما أخذه وإن لم يعين أو بعثه الإمام ولم يسم له شيئا أعطي من بيت المال.
تنبيه: إذا ادعى المالك دفعها إلى العامل فأنكر صدق المالك بلا يمين وصله العامل وبرئ ويقبل قول العامل في الدفع إلى الفقير وكذا إقراره بقبضها ولو عزل ولا يلزمه رفع نجاسة ما تولاه إذا طلب منه جزم به ابن تميم وقيل بلى وقيل مع تهمته وتقبل شهادة أرباب الأموال عليه في موضعها لا في أحدها منهم وإن شهد به بعضهم لبعض قبل التخاصم قبل غرم العامل وإلا فلا وإن شهد أهل السهمان عليه أوله لم يقبل وإن عمل إمام أو نائبه عليها لم يستحق منها شيئا.
"الرابع المؤلفة قلوبهم" للنص والمذهب بقاء حكمهم لأنه عليه السلام أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين "وهو السادة" الرؤساء "المطاعون في عشائرهم" ولا يقبل قوله "إنه مطاع" إلا ببينة وهم ضربان: كفار ومسلمون والكفار على ضربين: أحدهما: "ممن يرجى إسلامه" فيعطى منها لتقوى بنيته في الإسلام وتميل نفسه إليه فيسلم لأنه عليه السلام أعطى صفوان بن أمية يوم فتح مكة الأمان واستنظر أربعة أشهر لينظر في أمره وخرج معه إلى حنين فلما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم العطايا قال صفوان مالي فأشار إلى واد فيه إبل محملة فقال هذا لك فقال صفوان هذا عطاء من لا يخشى الفقر وأجيب بأنه كان من مال الفيء لا الزكاة(2/382)
أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه أو إسلام نظيره أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها أو الدفع عن المسلمين وعنه أن حكمهم انقطع.
-------------------------------------
الثاني: من يرجى بعطيته كف شره وشر غيره فقال : "أو يخشى شره" لما روى ابن عباس أن قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فإن أعطاهم مدحوا الإسلام وإن منعهم ذموا وعابوا والمسلمون على أربعة أضرب.
1- "أو يرجى بعطيته قوة إيمانه" ومناصحته في الجهاد لأنه عليه السلام لما بعث إليه علي بذهيبة في تربتها وقسمها بين أربعة نفر الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر وعلقمة بن علاثة ثم أحد بني كلاب وزيد الخير الطائي ثم أحد بني نبهان قال فغضبت قريش وقالوا يعطي صناديد نجد ويدعنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما فعلت ذلك لأتالفهم" متفق عليه من حديث أبي سعيد ويقبل قوله في ضعف إسلامه بلا بينة.
2- "أو إسلام نظيره" أي أنهم سادات من المسلمين لهم نظراء من المشركين إذا أعطوا المسلمين رغب نظراؤهم في الإسلام لأن أبا بكر أعطى عدي ابن حاتم والزبرقان بن بدر مع إسلامهما وحسن نياتهما.
3- "أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها" إلا أن يخاف.
4- "أو الدفع عن المسلمين" كمن هو في طرف بلاد الإسلام إذا أعطوا دفعوا عمن يليهم من المسلمين.
فهؤلاء يعطون من الزكاة لدخولهم في مسمى المؤلفة "وعنه: أن حكمهم انقطع" نقلها حنبل عنه لأن الصحابة لم يعطوا شيئا من ذلك ولأن الله تعالى قد أظهر الإسلام وأعلا كلمة الإيمان فلم يحتج إليهم والحكم يزول بزوال علته وعنه ينقطع مع كفرهم لقول عمر وقد جاءه مشرك يلتمس منه مالا فلم يعطه وقال من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر أي يستمر على كفره وعليهما يرد سهمهم على بقية الأصناف أو يصرف في مصالح المسلمين نص عليه وظاهر كلام جماعة يرد على بقية الأصناف فقط.(2/383)
الخامس: الرقاب وهم المكاتبون ويجوز أن يفدي بها أسيرا مسلما نص عليه وهل يجوز أن يشتري منها رقبة يعتقها على روايتين.
---------------------------------
"الخامس: الرقاب" للنص "وهم المكاتبون" واحده مكاتب ولا يختلف المذهب أنهم من الرقاب بدليل قوله اعتقت رقابي فإنه يشملهم وفي قوله تعالى {فَكَاتِبُوهُمْ} الآية إشعار به ولأنه يملك المال على سيده ويصرف إليه أرش جنايته فكان له الأخذ منها إن لم يجد وفاء كالغريم فإن عتق بأداء أو إبراء فما فضل معه فهل هو له كما لو فضل معه شيء من صدقة التطوع أو للمعطي فيه وجهان ويعطى قبل حلولها لئلا يؤدي إلى فسخها ولو مع القوة والكسب نص عليه وقيل إذا حل نجم قال جماعة وكذا من علق عتقه لمجيء المال ويستثنى منه المكاتب كتابة فاسدة والكافر لأنه ليس من مصرف الزكاة.
فرع: لا يدفع إلى المكاتب بحكم الفقر شيء لأنه عبد.
"ويجوز أن يفدي بها أسيرا مسلما نص عليه" اختاره جماعة لأنه فك رقبة من الأسر أشبه المكاتب والحاجة داعية إليه لأنه يخاف عليه القتل أو الردة لحبسه في أيدي العدو فهو أشد من حبس القن في الرق وعنه لا واحد وهو قول أكثر العلماء وقال أبو المعالي وكذا لو دفع إلى فقير مسلم غرمه السلطان مالا ليدفع جوره
"وهل يجوز أن يشتري منها رقبة يعتقها على روايتين" إحداهما يجوز جزم به في الوجيز وغيره لظاهر الآية فإن الرقبة إذا أطلقت تنصرف إليه فجاز صرفها فيه كالمكاتب وشرطها أن يكون ممن لا يعتق عليه بالملك وكلامه مشعر بذلك.
والثانية: لا يجوز قال في رواية أبي طالب كنت أقول يعتق من زكاة ماله ولكن أهابه لأنه نجز الولاء ولأن ظاهر الآية ينتفي الدفع إلى الرقاب لقوله(2/384)
السادس: الغارمون وهم المدينون وهم ضربان ضرب غرم لإصلاح ذات البين وضرب غرم لإصلاح نفسه في مباح.
--------------------------------
تعالى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} المراد بها الدفع إلى الغزاة والدفع إلى العبد لا يلزم منه فك الرقبة
وبالغ ابن عقيل فادعى أن أحمد رجع عن الأولى لظاهر هذه الرواية وليس هو كذلك بل على سبيل الورع لأن ما رجع من الولاء رد في مثله فلا ينتفع إذا بإعتاقه من الزكاة.
وعنه: الرقاب عبيد يشترون من الزكاة ويعتقون خاصة وعنه لا يعتق منها رقبة كاملة بل يعين في ثمنها فإن جاز فأعتق عبده أو مكاتبه عن زكاته ففي الجواز وجهان ولو علق العتق بشرط ثم نواه من الزكاة عند الشرط لم تجزئه.
فرع: يجوز الدفع إلى سيد المكاتب بلا إذنه قال الأصحاب وهو الأولى كما يجوز ذلك للإمام فإن رق لعجزه أخذت من سيده ولو تلفت الزكاة بيد المكاتب أجزأت ولم يغرمها عتق أورد رقيقا.
"السادس: الغارمون" للنص "وهم المدينون" كذا فسره الجوهري "وهو ضربان ضرب غرم لإصلاح ذات البين" لقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [لأنفال: من الآية1] أي وصلكم والبين الوصل والمعنى كونوا مجتمعين على أمر أبرم والمراد أن تقع بينهم عداوة وضغائن يتلف بها نفس أو مال فيتحمل إنسان حمالة بفتح الحاء لإطفاء الفتنة وسكون النار التي كانت بينهم ثم يخرج في القبائل فيسأل حتى يؤديها فورد الشرع بإباحة المسألة: فيها وجعل لهم نصيبا من الصدقة وحديث قبيصة شاهد بذلك وظاهره أن الغارم يأخذ وإن لم يحل دينه وإن كانوا كفارا وفي العمدة وابن تميم والرعاية الكبرى من المسلمين "وضرب غرم لإصلاح نفسه في مباح" كمن استدان في نفقة نفسه وعياله(2/385)
السابع: في سبيل الله ، وهم الغزاة.
--------------------------------------
أو كسوتهم وقيده بالمباح ليخرج ما استدان وصرفه في معصية كشرب الخمر والزنا ودخل فيه ما إذا اشترى نفسه من الكفار فيعطى قدره مع فقره وظاهره ولو كان في ذوي القربى وذكر المؤلف احتمالا بالمنع وكما لا يدفع إلى الغارم الكافر ذكره في الشرح وكذا لا يقضى منها دين ميت غرمه لمصلحة نفسه أو غيره لعدم أهلية لقبولها كما لو كفنه منها وحكى الشيخ تقي الدين رواية بالجواز لأن الغارم لا يشترط تمليكه لأنه تعالى قال {وَالْغَارِمِينَ} ولم يقل للغارمين وفيه نظر ومن تحمل بسبب إتلاف مال أو نهب أحد من الزكاة وكذا إن ضمن عن غيره مالا وهما معسران جاز الدفع إلى كل منهما.
مسائل
منها: إذا اجتمع الغرم والفقر أعطي بهما فإن أعطى للفقر فله صرفه في الدين وإن أعطي للغرم لم يصرفه في غيره قاله بعضهم.
ومنها: إذا دفع المالك إلى الغريم بلا إذن الفقير فعنه يصح كدفعها للفقير وعنه لا لأن الدين على الغارم فلا يصح قضاؤه إلا بتوكيله ذكره في المغني والشرح وهذا خلاف المذهب فإن كان الإمام دافعها لم يفتقر إلى وكالة لولايته عليه في إيفائه ولهذا يجبره عليه إذا امتنع.
ومنها: إذا أبرأ رب المال غريمه من دينه بنية الزكاة لم تسقط نص عليه سواء كان المخرج عينا أو دينا ويتوجه تخريج لقول الحسن وعطاء في أنها تسقط بناء على أنه هل هو تمليك أم لا وقيل تجزئه من زكاة دينه لأنها مواساة ولا يكفي الحوالة بها جزم به ابن تميم بناء على أن الحوالة وفاء وذكر المؤلف أنها بمنزلة القبض وإلا كان بيع دين بدين.
"السابع: في سبيل الله" للنص "وهم الغزاة" لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو لقوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية190](2/386)
الذين ى ديوان لهم ولا يعطى منها في الحج وعنه يعطى الفقير ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه.
------------------------------------
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف: من الآية4] إلى غير ذلك من النصوص ولا خلاف في استحقاقهم وبقاء حكمهم بشرط أن يكونوا متطوعة وهذا مراده بقوله "الذين لا ديوان لهم" أي لا حق لهم في الديوان لأن من له رزق راتب يكفيه فهو مستغن به فيدفع إليهم كفاية غزوهم وعودهم ولا يجوز أن يشتري من الزكاة فرسا يصير حبيسا في الجهاد ولا دارا وضيعة للرباط أو يقفها على الغزاة ولا غزوه على فرس أخرجه من زكاته نص عليه لا إذا اشترى الإمام بزكاة رجل فرسا فله دفعها إليه يغزو عليها كما له أن يرد عليه زكاته لفقره.
"ولا يعطى منها في الحج" في رواية اختارها في المغني وصححها في الشرح وقاله أكثر العلماء لأن سبيل الله حيث أطلق ينصرف إلى الجهاد غالبا والزكاة لا تصرف إلا لمحتاج إليها كالفقير أو من يحتاجه المسلمون كالعامل والحج لا نفع فيه للمسلمين ولا حاجة بهم إليه والفقير لا فرض في ذمته فيسقطه وإن أراد به التطوع فتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة أو صرفها في مصالح المسلمين أولى
"وعنه: يعطى الفقير" فهو من السبيل نص عليه وهو المذهب روي عن ابن عباس وابن عمر لما روى أبو داود أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "اركبيها فإن الحج في سبيل الله"
ويشترط له الفقر ومعناه أن يكون ليس له ما يحج به سواها وقيل لا وهو ظاهر الوجيز فيجوز للغني كوصيته بثلثه في السبيل ذكره أبو المعالي.
"قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه" جزم به غير واحد لأنه يحتاج إلى إسقاط الفرض والتطوع له عنه مندوحة ولكن ذكر القاضي جوازه في النفل كالفرض وهو ظاهر كلام أحمد والخرقي وصححه بعضهم لأن كلا في(2/387)
الثامن : ابن السبيل ، وهو المسافر المنقطع به دون المنشئ للسفر من بلده فيعطى قدر ما يصل به بلده.
-------------------------------
سبيل الله والفقير لا فرض عليه فهو منه كالتطوع فعلى هذا يدفع إليه ما يحج به حجة كاملة وما يعينه في حجه وعلم منه أنه لا يجوز أن يحج من زكاة نفسه كما لا يجوز أن يغزو بها.
فرع: العمرة في ذلك كالحج نقل جعفر العمرة في سبيل الله.
الثامن ابن السبيل للنص والسبيل الطريق وسمي المسافر ابنا له لملازمته كما يقال ولد الليل إذا كان يكثر الخروج فيه.
"وهو المسافر" سفرا مباحا وفي سفر النزهة خلاف وعلله جماعة بأنه ليس بمعصية فدل على أنه يعطى في سفر مكروه قال في الفروع هو نظير إباحة الرخص فيه لا سفر معصية وقيل يشترط أن يكون سفر طاعة جزم به في الرعاية الصغرى وهو بعيد.
"المنقطع به" أي ليس له ما يرجع به إلى بلده "دون المنشئ للسفر من بلده" لأن الاسم لا يتناوله حقيقة وإنما يصير ابن سبيل في ثاني الحال فلا يكون مرادا وعنه بلى لأنه يريد السفر لغير معصية أشبه الأول ويصدق في إرادة السفر بلا يمين
"فيعطى" هذا تفريع على ما ذكره "قدر ما يصل به إلى بلده" لأن المجوز لأحدهما هو التوصل إلى بلده فلم يجز أن يدفع إليه أكثر من ذلك كالفقير وظاهره أنه يعطى ولو كان ذا يسار في بلده فإن كان يريد غير بلده فظاهره أنه لا يعطى وذكره المجد ظاهر رواية صالح وغيره وظاهر كلام أبي الخطاب لأن الشرع جوز الدفع إليه للرجوع إلى بلده لأنه أمر مهم لا غناء له عنه فلا يجوز إلحاق غيره به وعنه واختاره الأصحاب يدفع إليه ما يكفيه لمنتهى قصده وعوده إلى بلده لأن فيه إعانة على بلوغ الغرض الصحيح وظاهر كلام الأصحاب أنه يعطى ولو وجد من يقرضه ذكره(2/388)
ويعطى الفقير والمسكين ما يغنيه والعامل قدر أجرته والمؤلف ما يحصل به التأليف والغارم والمكاتب ما يقضيان به دينهما والغازي ما يحتاج إليه لغزوه وإن كثر ولا يزاد أحد منهم على ذلك ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم ولا يعطى أحد منهم مع الغنى إلا أربعة العامل والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين والغازي.
---------------------------------------
صاحب الشرح خلافا للمجد.
"ويعطى الفقير والمسكين ما يغنيه" أي كل واحد منهما لأن الدفع للحاجة فتقدر بقدرها وهو مبني على ما سبق وشرط الخرقي أن يكون المدفوع إليه إلى الغنى لأن الغنى لو سبق الدفع لم يجز فكذا إذا قارب كالجمع بين الأختين.
"والعامل قدر أجرته" لأن الذي يأخذه بسبب العمل يوجب أن يكون بمقداره "والمؤلف ما يحصل به التأليف" لأنه المقصود "والغارم والمكاتب ما يقضيان به دينهما" لأن حاجتهما إنما تندفع بذلك "والغازي ما يحتاج إليه لغزوه" من سلاح وفرس إن كان فارسا وحمولته وجميع ما يحتاجه له ولغزوه وإن كثر لأنه إنما يحصل بذلك ونبه عليه المؤلف لئلا يتوهم أنه لا يجوز أن يكون قدر نصاب لأن سبب الدفع الحاجة "ولا يزاد أحد منهم على ذلك" لأن الدفع للحاجة فيتقيد بها.
"ومن كان ذا عيال أخذ ما يكفيهم" لأن الحاجة داعية إلى ذلك كالأخذ لنفسه "ولا يعطى أحد منهم مع الغنى" لقوله عليه السلام "لا تحل الصدقة لغني ولا ذي مرة سوي" رواه أبو داود والترمذي من حديث عمرو بن العاص.
فائد: المرة القوة والشدة والسوي المستوي الخلق التام الأعضاء
"إلا أربعة: العامل" بغير خلاف نعلمه "والمؤلف" لأن إعطاءهم لمعنى يعم نفعه كالغازي "والغارم لإصلاح ذات البين" ما لم يكن دفعها من ماله "والغازي" لما روى أبو سعيد مرفوعا "لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في(2/389)
وإن فضل مع الغارم والمكاتب والغازي وابن السبيل شيء بعد حاجتهم لزمهم رده والباقون يأخذون أخذا مستقرا فلا يردون شيئا وظاهر كلام الخرقي في المكاتب أنه يأخذ أخذا مستقرا وإذا ادعى الفقر من عرف بالغنى.
------------------------------------
سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم" رواه أبو داود ولأنه يقال جعل الفقراء والمساكين صنفين وعد بعدهما بقية الأصناف ولم يشرط فيهم الفقر ندل على جواز الأخذ مع فلهذا عدا ابن عقيل في الغارم والمذهب ما ذكره المؤلف وظاهره أن الباقين يشترط فيهم الحاجة وابن السبيل وإن كان له مال في بلده فهو الآن كالمعدوم
"وإن فضل مع الغارم والمكاتب" حتى لو سقط ما عليهما ببراءة أو غيرها "والغازي وابن السبيل شيء بعد حاجتهم لزمهم رده" لان السبب زال فيجب رد العامل لزوال الحاجة فهؤلاء أخذهم مراعى وعلم منه أنهم إذا لم يصرفوه في والباقون يأخذون أخذا مستقرا فلا يردون شيئا وظاهر كلام الخرقي في المكاتب أنه يأخذ أخذا مستقرا وإذا ادعى الفقر من عرف بالغنى أو ادعى أنه مكاتب أو غارم أو ابن سبيل لم يقبل حاجتهم أنه يسترجع منهم بكليته لبطلان وجود الاستحقاق وإن تلف في أيديهم بغير تفريط فلا رجوع عليهم وعنه لا يسترد منهم وتبقى لهم كسائر أموالهم لاستحقاقهم وقت الأخذ فملكوها كالبواقي قال في المحرر إلا في عجز المكاتب فإنها تكون لسيده انتهى وسيأتي.
"والباقون يأخذون أخذا مستقرا فلا يردون شيئا" لأنهم ملكوها ملكا مستقرا والفرق أن هؤلاء حصل المقصود يأخذهم وهو غنى الفقير والمسكين مثلا بخلاف ما سبق
"وظاهر كلام الخرقي في المكاتب أنه يأخذ أخذا مستقرا" أي فلا يرد ما فضل لأنه إذا عجز ورد في الرق فما في يده لسيده نص عليه لأنه مستحق ثم أخذها فلم يجب ردها كما لو استغنى الفقير وعنه يرده في المكاتبين وقيل للمعطي قال أبو بكر والقاضي ولو كان دفعها إلى سيده استرجعه المعطي وقيل لا كما لو قبضها منه ثم أعتقه.
"وإذا ادعى الفقر من عرف بالغنى" لم يقبل إلا ببينة لقوله عليه السلام في(2/390)
أو ادعى أنه مكاتب أو غارم أو ابن سبيل لم يقبل إلا ببينة وإن صدق المكاتب سيده أو الغارم غريمه فعلى وجهين وإن ادعى الفقر من لم يعرف بالغنى قبل قوله وإن رآه جلدا وذكر أن لا كسب له أعطاه من غير يمين بعد أن يخبره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب
----------------------------------------
خبر قبيصة قال "لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة رجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة: حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش" رواه مسلم ولأن الأصل بقاء الغنى ونص أحمد أنه لا يقبل فيه إلا ثلاثة وجزم به في الوجيز وقال جماعة يقبل اثنان لدين الآدمي وأجاب المؤلف وغيره عن خبر قبيصة أنه في حل المسألة فيقتصر عليه
" أو ادعى إنسان أنه مكاتب أو غارم أو ابن سبيل لم يقبل إلا ببينة" لأن الأصل عدم ما يدعيه وبراءة الذمة وفي قوله إنه ابن سبيل وجه يقبل قوله
"وإن صدق المكاتب سيده أو الغارم غريمه فعلى وجهين" أصحهما يقبل لأن الحق في العبد للسيد فإذا أقر بانتقال حقه عنه قبل والغريم في معناه والثاني لا يقبل إلا ببينة لجواز تواطئهما على أخذ المال وقدم في الفروع في المكاتب أنه لا يقبل إلا ببينة وهو غريب
"وإن ادعى الفقر من لم يعرف بالغنى قبل قوله" لأن الأصل استصحاب الحال السابقة والظاهر صدقه ولو كان متجملا ذكره في الشرح ويخبره بأنها زكاة.
"وإن رآه جلدا" أي شديدا قويا "وذكر أن لا كسب له أعطاه من غير يمين" وفاقا لأنه عليه السلام لن يحلف على ذلك "بعد أن يخبره" على سبيل الإيجاب "أنه لاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" لما روى عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه شيئا فصعد فيهما النظر فرآهما جلدين فقال "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي(2/391)
وإن ادعى أن له عيالا قبل وأعطي ويحتمل أن لا يقبل إلا بينة إلا ببينة العيال ومن غرم أو سافر في معصية لم يدفع إليه فإن تاب فعلى وجهين ويستحب صرفها في الأصناف كلها
---------------
مكتسب" رواه أبو داود لكن إذا تفرغ للعلم وتعذر الجمع لا إن تفرغ للعبادة فإن رآه ظاهر المسكنة أعطاه منها ولم يبين له قاله أحمد.
فرع: إذا سأله من ظاهره الفقر أن يعطيه شيئا فأعطاه قيل يقبل قول الدافع في كونها فرضا لسؤاله بقدر العشرة دراهم وقيل لا يقبل لقوله شيئا أني فقير قاله أو المعالي
"وإن ادعى أن له عيالا قلد وأعطي" قاله الأكثر لأن الظاهر صدقه ويسن إقامة البينة لاسيما على الغريب وكما يقلد في حاجة نفسه ويحتمل أن لا يقبل إلا بينة وقاله ابن عقيل لأن الأصل عدم العيال بخلاف ما إذا ادعى أنه لا كسب له لموافقته الأصل
"ومن غرم" أي في معصية كشراء خمر ونحوه "أو سافر في معصية" كقطع طريق ل"م يدفع إليه" أي قبل التوبة لأنه إعانة على المعصية
"فإن تاب فعلى وجهين" أصحهما: أنه يدفع إليه لأن تفريغ الذمة من الدين واجب والإعانة عليه قربة أشبه ما لو تلف ماله في المعصية حتى افتقر فإنه يصرف إليه من سهم الفقراء بشرطه وعود ابن السبيل إلى بلده ليس بمعصية بل ربما كان إقلاعا عنها كالعاق يريد الرجوع إلى أبويه.
والثاني: لا لكونه استدامة للمعصية فلم تدفع إليه كما لو لم يتب ولأنه متهم في إظهار التوبة لأجل قضاء دينه ثم يعود وكذا لو سافر في مكروه أو نزهة.
"ويستحب صرفها في الأصناف كلها" أي الثمانية لكل صنف منها إن وجد حيث وجب الإخراج أو فيمن أمكن منهم لأن في ذلك خروجا من الخلاف وتحصيلا للإجزاء يقينا.(2/392)
وإن اقتصر على إنسان واحد أجزأه وعنه لا يجزئه إلا ثلاثة من كل صنف إلا العامل فإنه يجوز أن يكون واحدا
-----------------------------------------
"وإن اقتصر على إنسان واحد" من الأصناف "أجزأه" في قول جماهير العلماء ونص عليه واختاره الأصحاب لقوله تعالى {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: من الآية271] ولحديث معاذ وقوله لقبيصة "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" وأمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر ولو وجب الاستيعاب لم يجز صرفها إلى واحد ولأنه لا يجب إذا فرقها الساعي فكذا المالك ولما فيه من الكسر وهو منفي شرعا والآية إنما سيقت لبيان من تصرف إليه لا لتعميمهم وكالوصية لجماعة لا يمكن حصرهم وشرطه إذا لم يوصله إلى الغنى ذكره الخرقي فظاهره لا بد أن ينقص منه ونص أحمد وأكثر الأصحاب على خلافه لكن لا يزيد عليه ونص المؤلف على جواز الدفع إلى واحد دليل على جوازه إلى الصنف من باب أولى.
"وعنه: يجب الاستيعاب" اختاره أبو بكر وأبو الخطاب لأن الله تعالى أضافها إليهم بلام التمليك وشرك بينهم فلم يجز الاقتصار على بعضهم إلا لضرورة كأهل الخمس وعليها لا يجب التسوية بين الأصناف كالصنف الواحد وكالوصية للفقراء بخلاف المعين فعلى هذه "لا يجزئه أقل من ثلاثة من كل صنف" لأنهم أقل الجمع فعلى هذا إن دفع إلى اثنين ضمن نصيب الثالث وهل يضمنه بالثلث لأنه القدر المستحق أو بأقل جزء منه لأنه المجزئ فيه وجهان كالأضحية إذا أكلها وعنه يجزئ واحد اختاره في الانتصار وصاحب المحرر لأنه لما تعذر الاستغراق حمل على الجنس كقوله لا تزوجت النساء.
"إلا العامل فإنه يجوز أن يكون واحدا" وفاقا مع أنه ذكر بلفظ الجمع لأن ما يأخذه أجرة ويسقط سهمه إن فرقها رب المال بنفسه فتبقى سبعة.
فرع: من كان فيه سببان أخذ بهما على الروايتين كالميراث ولا يجوز أن(2/393)
ويستحب صرفها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم ويفرقها فيهم على قدر حاجتهم ويجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه وإلى غريمه.
----------------------------------------
يعطى بأحدهما لا بعينه لاختلاف أحكامهما في الاستقرار وإن أعطى بهما وعين لكل سبب قدر وإلا كان بينهما نصفين وتظهر فائدته لو وجد ما يوجد الرد
"ويستحب" للمالك "صرفها إلى أقاربه الذين لا تلزمه مؤنتهم" لقوله عليه السلام "صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة" رواه الترمذي والنسائي ولأنه لا يرثه بفرض أو تعصيب ولا تلزمه نفقته
وإذا أحضر رب المال إلى العامل من أهله من لا تلزمه نفقته ليدفع إليهم زكاته دفعها قبل خلطها بغيرها وبعده هم كغيرهم ولا يخرجهم منها لأن فيها ما هم به أخص ذكره القاضي.
"ويفرقها فيهم على قدر حاجتهم" لأنها مراعاة ويقدم الأقرب والأحوج فإن كان الأجنبي أحوج أعطى الكل ولم يحاب بها قريبه والجار أولى من غيره والقريب أولى منه نص عليه والعالم والدين يقدمان على ضدهما
"ويجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه" نص عليه لأنه معه كالأجنبي من حرمان أكثر ما بينهما ولأن الدفع تمليك وهو من أهله فإذا رده إلى سيده بحكم الوفاء جاز كوفاء الغريم وقيده في الوجيز وغيره بأن لا يكون حيلة
ونقل حنبل عن أحمد أنه قال قال سفيان لا تعط مكاتبا لك من الزكاة وأنا أرى مثله واختاره القاضي قال المجد وهو أقيس لأن تعلق حقه بماله أشد من تعلق حق الوالد بمال الولد.
"وإلى غريمه" لأنه من جملة الغارمين وسواء دفعها إليه ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع إليه ليقضي به دين المقرض نص على ذلك وقال إن كان حيلة فلا يعجبني ونقل عنه ابن القاسم إن أراد الحيلة لم يصح ولا يجوز وبه جزم في الوجيز وذكر القاضي وغيره أن المراد بالحيلة أن يعطيه بشرط أن يردها عليه من ذمته فلا يجزئه لأن من شرطها تمليكا صحيحا وهو منتف(2/394)
فصل:
ولا يجوز دفعها إلى كافر ولا عبد ولا فقير لها زوج غني
---------------------------------------------
مع الشرط.
وفي المغني والشرح أنه حصل من كلام أحمد إذا قصد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز لأن الزكاة حق الله فلا يجوز صرفها إلى نفعه.
فصل:
"ولا يجوز دفعها إلى كافر" إجماعا وحديث معاذ نص فيه ولأنها مواساة تجب على المسلم فلم تجب للكافر كالنفقة ويستثنى منه إذا كان مؤلفا أو عاملا على رواية زاد في المستوعب أو غارما لذات البين أو غازيا "ولا عبد" أي كامل الرق لأن نفقته واجبة على سيده فهو غني بغناه وما يدفع إليه لا يملكه وإنما يملكه سيده فكأنه دفع إليه ويستثنى منه ما إذا كان عاملا وظاهره لا يدفع إليه وإن كان سيده فقيرا.
وذكر القاضي في تعليقه في العبد بين اثنين فكاتبه أحدهما يجوز
وما قبضه من الصدقات فنصفه يلاقي نصفه المكاتب وما يلاقي نصف السيد الآخر إن كان فقيرا جاز في حصته وإن كان غنيا لم يجز قال المجد ومثله إذا كاتب بعض عبده وكلامه شامل للمدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة فإن كان بعضه حرا أخذ بقدره بنسبته من خمسين أو من كفايته على الخلاف
"ولا فقيرة لها زوج غني" لغناها بذمتها عليه وكوالد صغير فقير أبوه موسر بل أولى للمعاوضة وثبوتها في الذمة وكما لا يجوز دفعها إلى غني بنفقة لازمة اختاره الأكثر وأطلق قي الترغيب وجهين وجوزه في الكافي لأن استحقاقه للنفقة مشروط بفقره فيلزم من وجوبها له وجود الفقر بخلاف الزوجة ويستثنى منه ما إذا تعذرت النفقة منه لغيبة أو(2/395)
ولا إلى الوالدين وإن علوا ولا إلى الولد وإن سفل ولا إلى الزوجة ولا لبني هاشم ولا مواليهم.
-----------------------------------------
امتناع فإنه يجوز لها الأخذ نص عليه كمن غصب ماله أو تعطلت منفعة عقاره
"ولا إلى الوالدين وإن علوا ولا إلى الولد وإن سفل" لاتصال منافع الملك بينهما عادة فيكون صارفا لنفسه بدليل عدم قبول شهادة أحدهما للآخر وظاهره لا فرق بين الوارث وغيره حتى ولد البنت نص عليه وعلل في الشرح ما يقتضي اقتصاره بوجوب النفقة وأطلق في الواضح في جد وابن ابن محجوبين وجهين وظاهره أنه لا يعطي عمودي نسبه لغرم لنفسه أو كتابة نص عليه وقيل يجوز اختاره الشيخ تقي الدين وذكر جده في ابن سبيل كذلك وسبق كونه عاملا
ولا إلى الزوجة إجماعا لأنها مستغنية بنفقتها عليه فلم يجز كما لو دفعها إليها على سبيل الإنفاق عليها وظاهره ولو كانت ناشزة ذكره في الانتصار والرعاية وقيل بل مطلقا
"ولا لبني هاشم" نص عليه كالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله "إنا لا تحل لنا الصدقة" رواه أحمد ومسلم وله أيضا مرفوعا "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" وسواء أعطوا من خمس الخمس أو لا لعموم النصوص ولأن منعهم لشرفهم وهو باق وقيل يجوز إن منعوا الخمس اختاره القاضي يعقوب والآجري والشيخ تقي الدين لأنه محل حاجة وضرورة ويستثنى منه ما لم يكونوا غزاة أو مؤلفة أو غارمين لذات البين وسبق كونه عاملا.
أصل: بنو هاشم من كان من سلالته ذكره القاضي وأصحابه وجزم في الرعاية بقول بعضهم هم آل عباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث بن عبد المطلب.
"ولا مواليهم" جمع مولى وهو من أعتقه هاشمي نص عليه لحديث أبي(2/396)
ويجوز لبني هاشم الأخذ من صدقة التطوع ووصايا الفقراء والنذر وفي الكفارة وجهان.
---------------------------------------------
رافع مرفوعا "إن الصدقة لا تحل لنا وإن مولى القوم من أنفسهم" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ولأنه بمنزلة النسب في الإرث والعقل والنفقة فغلب الحظر وأومأ أحمد في رواية يعقوب إلى الجواز وحكاه في الشرح عن أكثر العلماء لأنهم ليسوا من آل محمد وكموالي مواليهم.
فرع: لا تحرم الزكاة على أزواجه عليه السلام في ظاهر كلام أحمد والأصحاب كمواليهن للأخبار وفي المغني والشرح أن خالد بن سعيد بن العاص أرسل إلى عائشة بسفرة من الصدقة فردتها وقالت إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة رواه الخلال فهذا يدل على تحريمها عليهن ولم يذكرا ما يخالفه مع أنهم لم يذكروا هذا في الوصية والوقف وهذا يدل على أنهن من أهل بيته في تحريم الزكاة وذكر الشيخ تقي الدين أنه يحرم عليهن الصدقة وأنهن من أهل بيته في أصح الروايتين ورده الجد رحمه الله.
"ويجوز لبني هاشم الأخذ من صدقة التطوع" نص عليه وجزم به الأكثر لقوله عليه السلام "كل معروف صدقة" ولأن محمد بن علي كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة ويقول إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة ولا خلاف في جواز اصطناع المعروف إليهم والمراد به الاستحباب إجماعا فلا وجه لقول ابن حمدان قلت يستحب وإنما عبروا بالجواز لأنه أصل لما اختلف في تحريمه ونقل الميموني عنه لا لعموم ما سبق وأجيب بأن المراد به الصدقة المفروضة لأن الطلب كان لها فاللام فيه للعهد.
"ووصايا الفقراء" نص عليه "والنذر" لأنه لا يقع عليهما اسم الزكاة والطهرة والوجوب في الآدمي أشبه الهبة ويؤخذ من نقل الميموني المنع وجزم في الروضة بتحريم النفل على بني هاشم ومواليهم "وفي الكفارة" وجهان المذهب أنه لا يجوز لوجوبها بالشروع كالزكاة والثاني بلى لأنها ليست أوساخ الناس أشبهت صدقة التطوع.(2/397)
وهل يجوز دفعها إلى سائر من يلزمه مؤنته من أقاربه أو إلى الزوج أو بني المطلب على روايتين.
------------------------------------
تنبيه: كل من حرم دفع الزكاة إليه جاز دفع التطوع له وله أخذها حتى كافر وغني نص عليه وأما النبي صلى الله عليه وسلم فيحرم عليه وإن لم يحرم التطوع على بني هاشم وإن حرم عليهم فهو أولى لأن اجتنابها كان من دلائل النبوة فلم يكن لبخل به ونقل جماعة لا تحرم عليه واختاره القاضي كاصطناع أنواع المعروف إليه عليه السلام.
"وهل يجوز دفعها إلى سائر من يلزمه مؤنته من أقاربه أو إلى الزوج أو بني المطلب على روايتين" وفيه مسائل.
الأولى: ظاهر المذهب وقدمه في الفروع أنه يجوز دفعها إلى غير عمودي نسبه ممن يرثه بفرض أو تعصيب كالأخت أو الأخ لقوله عليه السلام "والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة" فلم يفرق بين الوارث وغيره ولأنه مقبول الشهادة له كالأجنبي وكما لو تعذرت النفقة وحكم الإرث بالولاء كذلك وإذا قبل زكاة دفعها إليه قريبه ولا نفقة وإن لم يقبل وطالب بنفقته الواجبة أجبر ولا يجزئه في هذه الحال جعلها زكاة والثانية المنع اختارها الخرقي وصاحب التلخيص والقاضي وذكر أنها الأشهر لغناه بوجوب النفقة ولأن نفعها يعود إلى الدافع لكونه يسقط النفقة عنه كعبده وظاهره أن القريب إذا لم تلزمه نفقته أنه يجوز دفعها إليه بلا ريب لأنه لا ميراث بينهما أشبه الأجنبي فلو ورث أحدهما الآخر كعمة وابن أخيها وعتيق ومعتقه وأخوين لأحدهما ابن فالوارث منهما تلزمه النفقة على الأصح وفي دفع الزكاة إليه الخلاف وعكسه الآخر
فأما ذوو الأرحام فالأصح أنه يدفع إليهم وإن ورثوا لضعف قرابتهم وفي الإرث بالرد الخلاف وعلى المنع يعطى قريبه لعمالة وتأليف وغزو وغرم لذات البين وظاهر ما سبق لو تبرع بنفقة قريب أو يتيم وضمه إلى عياله جاز الدفع إليه واختاره الأكثر لوجود المقتضي.(2/398)
--------------------------------------
ونقل جماعة واختاره في التنبيه: والإرشاد لا روي عن ابن عباس ولأنه يذم على تركه فيكون قد وقى بها ماله وعرضه ولهذا لو دفع إليه شيئا في غير مؤنته التي عوده إياها تبرعا جاز نص عليه.
الثانية: يجوز دفع الزكاة إلى الزوج في رواية اختارها القاضي وأصحابه والمؤلف وجزم بها في الوجيز لحديث زينب امرأة ابن مسعود لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام في حجري فقال "لك أجران" رواه البخاري
والثانية: واختارها الخرقي وأبو بكر والمجد وحكاه عن أبي الخطاب لا يجوز قياسا لأحد الزوجين على الآخر ولأن النفع يعود إليها لتمكنها من أخذ نفقة الموسرين منه أو من أصل النفقة مع العجز الكلي وحديث زينب تأوله أحمد في رواية ابن مسيس على غير الزكاة وجوابه بأن الاعتبار بعموم اللفظ ولم يستثن جماعة شيئا وقيل يجوز في الزوجين كغرم لنفسه وكتابة لأنه لا يدفع عنه نفقة واجب كعمودي نسبه.
الثالثة: يجوز دفعها إلى بني المطلب في رواية اختارها الخرقي والشيخان وغيرهم لعموم آية الصدقات خرج منه بنو هاشم بالنص فيبقى ما عداهم على الأصل ولأن بني المطلب في درجة بني أمية وهو لا يحرم الزكاة عليهم فكذا هم وأقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إليه بنو هاشم ومشاركة بني المطلب لهم في خمس الخمس ما استحقوه مجرد القرابة بل بالنصرة أو بهما جميعا بدليل منع بني عبد شمس ونوفل من خمس الخمس مع مساواتهم لهم في القرابة والثانية نقلها عبد الله واختارها القاضي وأصحابه وجزم بها في الوجيز وصححها ابن المنجا المنع لما روى جبير بن مطعم مرفوعا قال "بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد" رواه البخاري ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فمنعوا كبني هاشم وظاهره ولو منعوا من الخمس ولا يبعد أن يتأتى الخلاف هنا بل هو أولى بالجواز ولم يتعرض المؤلف(2/399)
وإن دفعها إلى من لا يستحقها وهو لا يعلم ثم علم لم يجزئه إلا لغني إذا ظنه فقيرا في إحدى الروايتين.
----------------------------------------------
لمواليهم قال القاضي لا تعرف فيه رواية ولا يمتنع أن حكمهم كموالي بني هاشم وهو ظاهر الخبر والقياس وجزم في الوجيز بالمنع وسئل في رواية الميموني عن مولى قريش يأخذ الصدقة قال ما يعجبني قيل له فإن كان مولى مولى قال هذا أبعد فيحتمل التحريم.
"وإن دفعها إلى من لا يستحقها" كبني هاشم والعبيد "وهو لا يعلم" أي جاهلا بحاله "ثم علم-لم يجزئه" رواية واحدة قاله في الشرح وفي الفروع في الأشهر لأنه ليس بمستحق ولا يخفى حاله غالبا فلم يعذر يجهالته كدين الآدمي وجزم به بعضهم في الكفر لتقصيره لظهوره غالبا فعلى ذلك يسترد بزيادته مطلقا ذكره أبو المعالي وشمل ما لو كان المدفوع إليه قريبا قاله أصحابنا وأطلق فيها في الرعاية وفي مسألة: الغني روايتين ونص أحمد يجزئه اختاره المجد لخروجها عن ملكه بخلاف ما إذا صرفها وكيل المالك إليه وهو فقير فلم يعلما لا تجزئ لعدم خروجها عن ملكه.
"إلا لغني إذا ظنه فقيرا" فإنه يجزئه "في إحدى الروايتين" اختاره أكثر الأصحاب وجزم به في الوجيز للمشقة لخفاء ذلك عادة فلا يملكها الآخذ والثانية واختارها الآجري والمجد وغيرهما لا يجرئه كما لو بان كافرا ولحق الآدمي فيرجع على الغني بها أو بقيمتها إن تلف يوم تلفها إذا علم أنها زكاة رواية واحدة ومن ملك الرجوع فمات قام وارثه مقامه وظاهر ما سبق أنه إذا دفع صدقة التطوع إلى فقير فبان غنيا أنه يجزئه قاله ابن شهاب لأن المقصود في الزكاة إبراء الذمة ولم تحصل فملك الرجوع وفي التطوع الثواب ولم يفت.
فرع: إذا دفع الإمام أو الساعي الزكاة إلى من ظنه أهلا فبان غيره فروايات ثالثها لا يضمن إذا بان غنيا ويضمن غيره قال في الفروع وهو أشهر.(2/400)
فصل:
وصدقة التطوع مستحبة وهي أفضل في شهر رمضان وأوقات الحاجة.
-------------------------------------------------
وجزم المجد لا يضمن مع الغنى وفي غيره روايتان.
تنبيه: يشترط تمليك المعطى لكن للإمام قضاء دين مديون حي والذكر والأنثى فيها سواء والصغير كالكبير وعنه إن أكل الطعام وإلا لم يجز فعلى المذهب يصرف ذلك في أجرة رضاعه وكسوته وما لا بد منه ويقبل ويقبض له من يلي ماله وكذا الهبة والكفارة
قال ابن منصور قلت لأحمد قال سفيان لا يقبض للصبي إلا الأب أو وصي أو قاض قال أحمد جيد وذكر المؤلف احتمالا أنه يصح قبض من يليه من أم أو قريب وغيرهما عند عدم الولي لأن حفظه عن الضياع والهلاك أولى من مراعاة الولاية وقد نص عليه في رواية جماعة.
فصل:
"وصدقة التطوع مستحبة" في كل وقت إجماعا لأنه تعالى أمر بها وحث عليها ورغب فيها فقال {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: من الآية245] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إليه إلا طيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها حتى تكون مثل الجبل" متفق عليه من حديث أبي هريرة وأفضلها أن تكون سرا بطيب نفس في الصحة للأخبار "وهي أفضل في شهر رمضان" لحديث أنس مرفوعا أي الصدقة أفضل قال "صدقة رمضان" رواه الترمذي وغربه ولمضاعفة الحسنات وفيه إعانة على أداء الصوم المفروض وكذا كل زمان أو مكان فاضل كالعشر والحرمين
"وأوقات الحاجة" لقوله تعالى {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} الآية ,(2/401)
والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة وتستحب الصدقة بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه وإن تصدق بما من تلزمه مؤنته أثم.
-----------------------------------------------
وروى أبو سعيد مرفوعا قال "من أطعم مؤمنا جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمنا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة" ويبدأ بمن هو أشد حاجة "والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة" لقوله عليه السلام "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة" رواه أحمد والترمذي وحسنه من حديث سلمان لاسيما مع عداوته لقوله "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" رواه أحمد والجار مثله وهي عليهم أفضل من العتق نقله حرب والعتق أفضل من الصدقة على الأجانب إلا زمن الغلاء والحاجة نقله بكر بن محمد واختلف هل حج التطوع أفضل من الصدقة مع الحاجة أم معها على القريب أم على القريب مطلقا فيه روايات أربع وذكر الشيخ تقي الدين أن الحج أفضل وأنه مذهب أحمد.
"وتستحب الصدقة بالفاضل عن كفايته وكفاية من يمونه" لقوله تعالى {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: من الآية219] قال المفسرون هو الفاضل عن حاجته وحاجة عياله ولأن النفس تطيب به ولقوله عليه السلام "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول" رواه البخاري من حديث أبي هريرة وأطلق المؤلف الكفاية تبعا لغيره والمراد دائما كما ذكره في الشرح وغيره بمتجر أو غلة ملك أو وقف أو صنعة وذكر بعضهم أنه لا يكفي في الأخيرين.
"وإن تصدق بما ينقص مؤنته من تلزمه مؤنته أثم" لقوله عليه السلام "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول" رواه أحمد وأبو داود ولمسلم معناه من حديث عبد الله بن عمرو وإثمه لتركه الواجب قال الأصحاب وكذا إن أضر بنفسه أو بغريمه أو بكفالته وظاهر كلام جماعة إن لم يضر فالأصل الاستحباب وجزم في الرعاية وغيرها أنه يكره التصدق قبل الوفاء والإنفاق(2/402)
ومن أراد الصدقة بماله كله وهو يعلم من نفسه حسن التوكل والصبر عن المسألة: فله ذلك وإن لم يثق من نفسه لم يجز له ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة.
-------------------------------------------------
الواجب.
"ومن أراد الصدقة بماله كله" وكان منفردا "وهو يعلم من نفسه حسن التوكل" وهو عبارة عن الثقة بما عند الله واليأس عما في أيدي الناس "والصبر عن المسألة فله ذلك" وحكاه عياض عن جمهور العلماء وأئمة الأمصار لقوله تعالى
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: من الآية9] وجاء أبو بكر بجميع ما عنده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "ما أبقيت لأهلك" فقال الله ورسوله فكان هذا فضيلة في حق الصديق لقوة يقينه وكمال إيمانه وهذا يقتضي الاستحباب وعن عمر رد جميع صدقته ومذهب أهل الشام ينفذ في الثلث وعن مكحول في النصف
"وإن لم يثق من نفسه لم يجز له" ذكره أبو الخطاب وجزم به في الوجيز لما روى جابر مرفوعا قال "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" رواه أبو داود فيمنع من ذلك ويحجر عليه وفي المغني والشرح أنه يكره فإن كان له عائلة ولهم كفاية أو يكفيهم بكسبه جاز لقصة الصديق
"ويكره لمن لا صبر له على الضيق" ولا عادة له به "أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة" نص عليه لأن التقتير والتضييق مع القدرة شح وبخل نهى الله عنه وتعوذ النبي صلى الله عليه وسلم منه وفيه سوء الظن بالله تعالى وظهر مما سبق أن الفقير لا يقترض ولا يتصدق لكن نص أحمد في فقير لقريبه وليمة يستقرض ويهدي له وهو محمول إذا ظن وفاء.
مسألة: يحرم المن بالصدقة وغيرها وهو كبيرة نص أحمد فيها ويبطل الثواب بذلك وللأصحاب فيه خلاف وفي بطلان طاعة بمعصية واختار الشيخ(2/403)
-------------------------------------------------
تقي الدين الإحباط لمعنى الموازنة وانه قول أكثر السلف وإذا أخرج شيئا يتصدق به أو وكل في ذلك ثم بدا له استحب أن يمضيه ولا يجب وعنه أنه حبيس وقد صح عن عمرو بن العاص أنه كان إذا أخرج طعاما لسائل فلم يجده عزله حتى يجيء آخر وقاله الحسن ومن سأل فأعطى فسخطه لم يعط لغيره في ظاهر كلام العلماء.(2/404)
كتاب الصوم
باب الصيام
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصوم
يجب صوم شهر رمضان برؤية الهلال
-------------------------------------------------
كتاب الصيام
هو والصوم مصدرا صام وفي اللغة عبارة عن الإمساك ومنه {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم: من الآية26] وقول الشاعر
خيل صيام وخيل غير صائمه. ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما.
لإمساكها عن الصهيل في موضعه ويقال صامت الريح إذا أمسكت عن الهبوب.
وفي الشرع إمساك جميع النهار عن المفطرات من إنسان مخصوص مع النية.
"يجب صوم شهر رمضان" لقوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: من الآية183] إلى قوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: من الآية185] وقوله عليه السلام "بني الإسلام على خمس" فذكر منها "صوم رمضان" والإجماع منعقد على وجوبه.
وفرض في السنة الثانية من الهجرة فصام عليه السلام تسعا والمستحب قول شهر رمضان كما صرح به تبعا للنص ولا يكره بإسقاط شهر في قول أكثر العلماء وذكر المؤلف أنه يكره إلا مع قرنه الشهر وذكر الشيخ تقي الدين وجها يكره وفي المنتخب لا يجوز لخبر وقد ضعف وقال ابن الجوزي هو موضوع.(2/405)
فإن لم ير مع الصحو أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا وإن حال دون منظره غيم أو قتر ليلة الثلاثين وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب.
-------------------------------------
وسمي رمضان لحر جوف الصائم فيه ورمضه والرمضاء شدة الحر
وقيل: لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة فوافق شدة الحر.
وقيل: لأنه يحرق الذنوب
وقيل: موضوع لغير معنى كبقية الشهور
وقيل: فيها معان أيضا.
"برؤية الهلال" لقوله عليه السلام "صوموا لرؤيته"
"فإن لم ير مع الصحو أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا" بغير خلاف وصلوا التراويح كما لو رأوه ويستحب تراءي الهلال احتياطا للصوم وحذارا من الاختلاف وقد روت عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحفظ في شعبان ما لا يتحفظ في غيره ثم يصوم لرؤية رمضان رواه الدارقطني بإسناد صحيح.
"وإن حال دون منظره" أي مطلعه "غيم أو قتر ليلة الثلاثين وجب صيامه بنية رمضان في ظاهر المذهب" اختاره الخرقي وأكثر شيوخ أصحابنا ونصوص أحمد عليه وهو مذهب عمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر وقاله جمع من التابعين لما روى ابن عمر مرفوعا قال " إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له" متفق عليه
ومعنى "فاقدروا له" أي ضيقوا لقوله تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: من الآية7] أي ضيق وهو أن يجعل شعبان تسعا وعشرين يوما ويجوز أن يكون معناه اقدروا زمانا يطلع في مثله الهلال وهذا الزمان يصح وجوده فيه أو(2/406)
وعنه لا يجب
-------------------------------------------------
يكون معناه فاعلموا من طريق الحكم أنه تحت الغيم لقوله تعالى {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} [النمل: من الآية57] الحجر أي علمناها مع أن بعض المحققين قالوا إن الشهر أصله تسع وعشرون.
يؤيده ما رواه أحمد عن إسماعيل عن أيوب عن نافع قال كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يوما بعث من ينظر له فإن رآه فذاك وإن لم يره ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما.
ولا شك أنه راوي الخبر وأعلم بمعناه فيتعين المصير إليه كما رجع إليه في تفسير خيار المتبايعين يؤكده قول علي وأبي هريرة وعائشة لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ولأنه يحتاط له ويجب بخبر الواحد فعلى هذا يصومه حكما ظنيا بوجوبه احتياطا ويجزئه إذا بان منه.
قيل للقاضي لا يصح إلا بنية ومع الشك فيها لا يجزم بها فقال لا يمنع التردد فيها للحاجة كالأسير وصلاة من خمس.
وفي الانتصار يجزئه إن لم يعتبر نية التعيين وإلا فلا وظاهره أنها لا تصلي التراويح ليلتئذ واختاره التميميون اقتصارا على النص واختار جماعة عكسه قال المجد هو أشبه بكلام أحمد القيام قبل الصيام وعنه ينويه حكما جازما بوجوبه
وقاله بعض أصحابنا وجزم به في الوجيز فعليه يصلي التراويح إذن ولا تثبت بقية الأحكام من حلول الآجال ووقوع المعلقات وانقضاء العدة وغير ذلك وذكر القاضي احتمالا يثبت كما يثبت الصوم وتوابعه من النية وتعيينها ووجوب الكفارة بالوطء فيه ونحو ذلك.
"وعنه لا يجب" صومه قبل رؤية هلاله أو إكمال شعبان اختاره في التبصرة والشيخ في تقي الدين وقال هو مذهب أحمد المنصوص الصريح(2/407)
وعنه الناس تبع للإمام فإن صام صاموا.
-------------------------------------------
عنه وقاله أكثر العلماء لما روى أبو هريرة مرفوعا "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما" متفق عليه ولفظه العالمين ولأنه يوم شك وهو منهي عن صومه والأصل بقاء الشهر فلا ينتقل عنه بالشك وأجيب بأن خبر أبي هريرة يرويه محمد بن زياد وقد خالفه سعيد بن المسيب فرواه عن أبي هريرة "فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين" وروايته أولى لإمامته واشتهار ثقته وعدالته وعنه الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإذا رئي الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة وموافقته لرأي أبي هريرة.
وقال الاسماعيلي ذكر شعبان فيه من تفسير ابن ابي اياس وليس هو بيوم شك كما يأتي "وعنه الناس تبع للإمام فإن صام صاموا" وإن فطر أفطروا وجوبا وهو قول الحسن وابن سيرين لقوله عليه السلام "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون" رواه الترمذي وقال حسن غريب من حديث أبي هريرة فمعناه أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس واجب.
وقال أحمد: السلطان في هذا أحوط وأنظر للمسلمين وأشد تفقدا ويد الله على الجماعة فيتحرى في كثرة كمال الشهور قبله ونقصها واختاره بمن لا يكتفي به وغير ذلك من القرائن.
وقال ابن عقيل يعمل بعادة غالبة لمضي شهرين كاملين والثالث ناقص وهو معنى التقدير وعنه صومه منهي عنه اختاره أبو القاسم بن مندة وأبو الخطاب وابن عقيل لأنه يوم شك وفيه نظر.
فقيل يكره وقيل يحرم وإذا لم يجب صومه وجب أداء الشهادة بالرؤية وإن لم يسأل عنها.
فرع: إذا نواه احتياطا بلا مستند شرعي فبان منه لم يجزئه في رواية وعنه بلى وعنه يجزئه ولو اعتبرت نية التعيين ولا يحكم بطلوع الهلال بنجوم أو نجاسة ولو الغرماء إصابتهما.(2/408)
وإذا رئي الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة وإن رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم.
---------------------------
"وإذا رئى الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة" هذا هو المشهور وقاله أكثر العلماء لما روى أبو وائل قال جاءنا كتاب عمر أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا أو يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس عشية رواه الدارقطني.
فعلى هذا لا يجب به صوم ولا يباح به فطر ورؤيته نهارا ممكنة لعارض يعرض في الجو يقل به ضوء الشمس أو يكون قوي النظر وعنه بعد الزوال للمقبلة وقبله للماضية اختاره أبو بكر والقاضي وقدمه في المحرر للقرب من كل واحدة منهما.
وعنه: بعد الزوال آخر الشهر للمقبلة احتياطا وعنه آخر الشهر للمقبلة مطلقا.
فائد: يقال من الصباح إلى الزوال رأيت الليلة وبعده يقال رأيت البارحة قاله ثعلب هذا باعتبار الحقيقة ومنع ذلك مطلقا لا وجه له.
"وإن رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم" للعموم ولأن الشهر في الحقيقة ما بين الهلالين وقد ثبت أن هذا اليوم منه في جميع الأحكام فكذا الصوم وظاهره لا فرق بين قرب المكان أو بعده وأنه يجب ولو اختلفت المطالع نص عليه.
وذكر الشيخ تقي الدين أنها تختلف باتفاق أهل المعرفة لكن قال أحمد الزوال في الدنيا واحد واختار في الرعاية البعد مسافة قصر ولا يلزم الصوم.
وعن كريب قال قدمت الشام واستهل علي هلال رمضان وأنا بالشام فرأيناه ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس فأخبرته فقال لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى يكمل ثلاثين أو نراه فقلت ألا يكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال لا هكذا أمرنا رسول(2/409)
ويقبل في هلال رمضان قول عدل.
----------------------------
الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم فدل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وخبره ونحن نقول به وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول وليس هو في الحديث والفطر إنما هو إذا صيم بشهادته ليكون فطرهم مبنيا على صومهم بشهادته وهنا ليس كذلك.
فعلى المذهب واختاره في الرعاية لو سافر من بلد الرؤية ليلة الجمعة إلى بلد الرؤية ليلة السبت فبعد وتم شهره ولم يروا الهلال صام معهم وعلى المذهب يفطر خفية قاله المجد وإن شهد به وقبل قوله أفطروا معه على المذهب وإن سافر إلى بلد الرؤية ليلة الجمعة من بلد الرؤية ليلة السبت وبعد أفطر معهم وقضى يوما على المذهب ولم يفطر على الثاني.
"ويقبل في هلال رمضان قول عدل واحد" نص عليه وحكاه الترمذي عن أكثر العلماء لأنه عليه السلام صوم الناس بقول ابن عمر رواه أبو داود والحاكم وقال على شرط مسلم ولقبوله خبر الأعرابي به رواه أبو داود والترمذي من حديث ابن عباس.
ولأنه خبر ديني وهو أحوط ولا تهمة فيه بخلاف آخر الشهر ولاختلاف حال الرائي والمرئي ولهذا لو حكم حاكم بشهادة واحد وجب العمل بها وظاهره لا فرق بين الغيم والصحو ولا بين المصر وخارجه
وقال أبو بكر إن جاء من خارج المصر أو رآه فيه لا في جماعة قبل واحد وشذ في الرعاية فقال وقيل يقبل قول واحد حتى مع غيم أو قتر وعنه يعتبر عدلان كبقية الشهور.
فعلى المذهب هو خبر فتقبل المرأة والعبد ولا يختص بحاكم فيلزمه الصوم من سمعه من عدل زاد بعضهم ولو رد الحاكم قوله.
ولا يعتبر لفظ الشهادة وقيل بلى فتنعكس الأحكام وفي المستور والمميز الخلاف وفي المستوعب لا يقبل صبي وإذا ثبت بقول الواحد ثبتت بقية.(2/410)
ولا يقبل في سائر الشهور إلا عدلان وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما فلم يروا الهلال أفطروا وإن صاموا بشهادة واحد فعلى وجهين وإن صاموا لأجل الغيم لم يفطروا.
---------------------------------
الأحكام.
"ولا يقبل في سائر الشهور إلا عدلان" حكاه الترمذي إجماعا أي رجلان لقول ابن عمر وابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين ولأنه ليس بمال ولا يقصد به المال ولا احتياط فيه أشبه الحدود وعنه يقبل فيه واحد كأبي ثور وكأوله.
وقيدها في الرعاية بوضع ليس فيه غيره وظاهره لا يقبل رجل وامرأتان ولا النساء المفردات لأنه مما يطلع عليه الرجال ولا يعتبر التواتر في العيدين مع الغيم.
"وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما فلم يروا الهلال أفطروا" وجها واحدا قاله في الشرح لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" رواه النسائي.
وقيل لا مع صحو اختاره أبو محمد الجوزي لأن عدم الهلال يقين فيقدم على الظن وهي الشهادة.
"وإن صاموا بشهادة واحد فعلى وجهين" وقيل هما روايتان إحداهما لا يفطر قدمه في المحرر لأنه فطر لم يجز أن يستند إلى واحد كما لو شهد بشوال
والثاني وجزم به في الوجيز أنهم يفطرون لثبوته تبعا كالنسب لا يثبت بشهادة النساء ويثبت بها الولادة وقيل لا فطر مع الغيم
"وإن صاموا لأجل الغيم لم يفطروا" وجها واحدا قاله في الشرح لأن الصوم إنما كان احتياطا فمع موافقته للأصل- وهو بقاء رمضان- أولى.(2/411)
ومن رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته لزمه الصوم وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر.
-----------------------------
وقيل بلى قال في الرعاية إن صاموا جزما مع الغيم أفطروا وإلا فلا فعلى الأول إن غم هلال شعبان ورمضان فقد يصوم اثنين وثلاثين يوما حيث نقصنا رجبا وشعبان وكانا كاملين وكذا الزيادة إن غم هلال رمضان وشوال وأكملنا شعبان ورمضان وكانا ناقصين ونقل النووي عن العلماء أنه لا يقع النقص متواليا في أكثر من أربعة أشهر.
فرع: إذا صاموا ثمانية وعشرين يوما ثم رأوا هلال شوال قضوا يوما فقط نقله حنبل واحتج بقول علي ولبعد الغلط بيومين قال في الفروع ويتوجه تخريج.
"ومن رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته" لمانع "لزمه الصوم" وحكمه للعموم وكعلم فاسق بنجاسة ماء أو دين على موروثه ولأنه يتيقن أنه من رمضان فلزمه صومه كما تلزم الأحكام التي هي من خصائص الرمضانية بخلاف غيره من الناس.
ونقل حنبل: لا يلزمه الصوم واختاره الشيخ تقي الدين وروي عن الحسن وابن سيرين لأنه محكوم أنه من شعبان أشبه التاسع والعشرين وكذا قال لا يلزمه شيء من أحكامه وعلى الأول هل يفطر يوم الثلاثين من صيام الناس فيه وجهان ويتوجه عليهما وقوع طلاقه وحل دينه المعلقين بت
"وإن رأى هلال شوال وحده لم يفطر" نقله الجماعة للخبر السابق وقاله عمر وعائشة ولاحتمال خطئه وتهمته فوجب الاحتياط وكما لا يعرف ولا يضحي وحده قاله الشيخ تقي الدين قال والنزاع مبني على أصل وهو أن الهلال هل هو اسم لما يطلع في السماء وإن لم يشتهر ولم يظهر أو أنه لا يسمى هلالا إلا بالظهور والاشتهار فيه قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد
وقال أبو حكيم: يتخرج أن يفطر اختاره أبو بكر قال ابن عقيل يجب أن(2/412)
وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام فإن وافق الشهر أو بعده أجزأه وإن وافق قبله لم يجزئه.
------------------------------
يفطر سرا لأنه يتيقنه يوم العيد.
تنبيه: إذا رآه عدلان ولم يشهدا عند الحاكم أو شهد أفردهما لجهله بحالهما لم يجز لأحدهما ولا لمن عرف عدالتهما الفطر بقولهما في قياس المذهب لأن ردهما ليس بحكم وإنما هو توقف لعدم علمه وفي المغني والشرح الجواز لقوله "فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" رواه النسائي.
"وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير" والمطمور ومن بمغارة ونحوهم "تحرى" وهو أن يجتهد في معرفة شهر رمضان لأنه أمكنه تأدية فرضه بالاجتهاد فلزمه كاستقبال القبلة "وصام فإن وافق الشهر أو بعده أجزأه" كالصلاة وكما لو لم ينكشف له الحال لتأدية فرضه بالاجتهاد ولا يضر التردد في النية لمكان الضرورة فلو وافق رمضان السنة القابلة فقال المجد قياس المذهب لا يجزئه عن واحد منهما إن اعتبرنا نية التعيين وإلا وقع عن الثاني وقضى الأول. ويعتبر أن يكون ما صامه بقدر أيام شهره الذي فاته سواء وافق ما بين الهلالين أو لا ذكره في المغنى والشرح وظاهر الخرقي أنه متى وافق شهرا بعده أجزأه وإن كان ناقصا ورمضان تاما قاله القاضي وصاحب التلخيص وأورده المجد مذهبا كالنذر وفرق في الشرح بأن النذر مطلق فيحمل على ما تناوله الاسم والقضاء يجب أن يكون بعذر المتروك.
"وإن وافق قبله لم يجزئه" نص عليه لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها فلم يجزئه كالصلاة فلو وافق بعضه رمضان فما وافقه أو بعده أجزأه دون ما قبله ولو صام شعبان ثلاث سنين متوالية ثم علم صام ثلاثة أشهر شهرا بعد شهر كالصلاة إذا فاتته نقله مهنا وإن ظن أن الشهر لم يدخل فصام لم يجزئه.(2/413)
ولا يجب الصوم إلا على المسلم البالغ العاقل القادر على الصوم ولا يجب على كافر ولا مجنون ولا صبي لكن يؤمر به إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده وإذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار لزمهم الإمساك والقضاء
-----------------------
"ولا يجب الصوم إلا على المسلم البالغ العاقل القادر على الصوم" إجماعا "ولا يجب على كافر" مطلقا لأنه عبادة محضة تفتقر إلى النية فكان من شرطها الإسلام كالصلاة "ولا مجنون ولا صبي" لعدم تكليفهما ورفع القلم عنهما "لكن يؤمر به إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده" كذا قاله الأكثر أي يجب على الولي ذلك ذكره جماعة.
عنه: يجب عليه إذا أطاقه اختاره أبو بكر وابن أبي موسى وقاله عطاء والأوزاعي والمراد به المميز وحد ابن أبي موسى طاقته بصيام ثلاثة أيام متوالية ضرر لقوله عليه السلام "إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام رمضان" رواه ابن جريج عن محمد بن عبد الرحمن ولأنها عبادة بدنية أشبهت الصلاة
وعنه: يلزم من بلغ عشر سنين وأطاقه قال الخرقي يؤخذ به إذن والمذهب الأول قال القاضي هو عندي رواية واحدة وحمل ما روي عن أحمد على الاستحباب وكالحج وحديثهم مرسل ويحمل على الندب وسماه واجبا تأكيدا وفيه جمع بين الأدلة وأما كون القدرة من شروطه فلأن العاجز عن الشيء لا يكلف به للنص.
"وإذا قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار لزمهم الإمساك" لتعذر إمساك الجميع فوجب أن يأتوا بما يقدرون عليه وكما لو تعمدوا الأكل في يوم آخر منه "والقضاء" فلثبوته من رمضان ولم يأتوا فيه بصوم صحيح فلزمهم قضاؤه للنص وذكر أبو الخطاب رواية لا يلزم الإمساك كالمسافر إذا قدم وغلط المؤلف بأقلها وخرج في المغني على قول عطاء من ظن أن(2/414)
وإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي فكذلك وعنه لا يلزمهم شيء وإن بلغ الصبي صائما ولا قضاء عليه عند القاضي وعند أبي الخطاب عليه القضاء.
----------------------------------
الفجر لم يطلع وقد طلع وقال الشيخ تقي الدين يمسك ولا يقضي وكما لو لم يعلم بالرؤية إلا بعد الغروب.
"وإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي فكذلك" أي إذا صار في أثناء يوم منه أهلا للوجوب لزمه إمساك ذلك اليوم وقضاؤه في ظاهر المذهب وجزم به في الوجيز لأمره عليه السلام بإمساك يوم عاشوراء ولحرمة الوقت ولقيام البينة فيه بالرؤية ولإدراكه جزءا من وقته كالصلاة.
"وعنه: لا يلزمهم شيء" أي لا إمساك لقول ابن مسعود من أكل أول النهار فليأكل آخره ولأنه أبيح لهم فطر أوله ظاهرا وباطنا فكان لهم الاستدامة كما لو دام العذر ولا قضاء لعدم إدراكهم من الوقت ما يسع العبادة أشبه ما لو زال عذرهم بعد خروج الوقت.
وإن قلنا يجب على الصبي عصى بالفطر وأمسك وقضى كالبالغ وعلم أنهم يستقبلون من الشهر ما عدا اليوم وأنه لا يلزمهم قضاء ما مضى "وإن بلغ الصبي" بالسن أو الاحتلام "صائما" بأن نواه من الليل "أتم" صومه بغير خلاف "ولا قضاء عليه عند القاضي" لأنه نواه من الليل فأجزأه كالبالغ ولا يمتنع أن يكون أوله نفلا وباقيه فرضا كنذره إتمام النفل "وعند أبي الخطاب" وهو ظاهر الوجيز "عليه القضاء" أي قضاء ذلك اليوم لقيام البينة يوم الثلاثين وهو في نفل معتاد وكبلوغه في صلاة أو حج ولأن ما مضى منه نفل فلم يجز عن الفرض كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان فقدم والناذر صائم فإنه يلزمه القضاء والخلاف مبني على وجوب القضاء عليه إذا بلغ مفطرا وأما إذا لم يجب فلا قضاء هنا وجها واحدا.(2/415)
وإن طهرت حائض أو نفساء أو قدم المسافر مفطرا فعليهم القضاء وفي الإمساك روايتان ومن عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا.
-------------------------------
"وإن طهرت حائض أو نفساء أو قدم المسافر" أو أقام "مفطرا فعليهم القضاء" إجماعا وكمريض إذا صح في أثناء النهار مفطرا "وفي الإمساك روايتان" كذا أطلقهما جماعة والأصح لزومه وكمقيم تعمد الفطر سافر أو حاضت المرأة أو لا نقله ابن القاسم وحنبل ويعايا بها.
والثانية: لا إمساك عليهم لقول ابن مسعود لأن كل من ذكر يباح له الأكل أول النهار ظاهرا وباطنا ويتوجه لا إمساك مع حيض ومع السفر الخلاف وإذا لم يجب الإمساك فقدم مسافر مفطرا فوجد امرأته طهرت من حيضها له أن يطأها ولو علم مسافر أنه يقدم غدا لزمه الصوم كمن نذر صوم يوم يقدم فلان وعلم قدومه في غد بخلاف الصبي يعلم أنه يبلغ في غد لأنه غير مكلف.
مسألة: إذا برئ مريض أو قدم مسافر أو أقام صائما لزمه الإتمام وأجزأ كمقيم صائم مرض ثم لم يفطر حتى عوفي ولو وطئا فيه كفرا نص عليه كمقيم وطئ ثم سافر ذكره في الفروع.
"ومن عجز عن الصوم لكبر" وهو الهم والهمة "أو مرض لا يرجى برؤه أفطر" أي له ذلك إجماعا "وأطعم عن كل يوم مسكينا" لقول ابن عباس في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم يطعمان مكان كل يوم مسكينا رواه البخاري ومعناه عن ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يدركه رواه أحمد والمراد بالإطعام ما يجزئ في الكفارة فلو كان الكبير مسافرا ومريضا فأفطر فلا فدية عليه ذكره في الخلاف ولا قضاء للعجز عنه ويعايا بها وإن أطعم ثم قدر على القضاء فكمعضوب حج عنه ثم عوفي ذكره.(2/416)
والمريض إذا خاف الضرر والمسافر استحب لهما الفطر وإن صاما أجزأهما ولا يجوز أن يصوما في رمضان عن غيره.
---------------------------------
المجد وظاهره أنه لا يجب القضاء بل يتعين الإطعام.
"والمريض إذا خاف الضرر والمسافر" وهو من له القصر "استحب لهما الفطر" لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فأفطر وقد روى الترمذي مرفوعا "إن الله وضع عن المسافر الصوم" وقال حديث حسن ولأن فيه قبول الرخصة مع التلبس بالأخف لقوله عليه السلام "ما خيرت بين أمرين إلا اخترت أيسرهما" ويشترط له أن يخاف زيادة المرض أو بطء برئه فإن لم يتضرر به لم يفطر.
وجزم به في الرعاية في وجع رأس وحمى ثم قال إلا أن ينضر قيل لأحمد متى يفطر المريض قال إذا لم يستطع قيل مثل الحمى قال وأي مرض أشد من الحمى.
فلو خاف تلفا بصومه كره وجزم جماعة بأنه يحرم ولم يذكروا خلافا في الإجزاء "وإن صاما أجزأهما" نقله الجماعة ونقل حنبل في المسافر لا يعجبني واحتج بقوله عليه السلام "ليس من البر الصوم في السفر" وعمر وأبو هريرة يأمرانه بالإعادة والسنة الصحيحة ترد هذا القول وحملها على رواية الجماعة أولى من عدم الإجزاء وظاهره أنه يجزئ من غير كراهة.
وقد سأله إسحاق بن إبراهيم عن الصوم فيه لمن قوي فقال لا يصوم وحكاه المجد عن الأصحاب قال وعندي لا يكره لمن قوي واختاره الآجري وليس الصوم فيه أفضل وفرق بينه وبين رخصة القصر أنها مجمع عليها تبرأ بها الذمة ورد بصوم المريض.
"ولا يجوز أن يصوما في رمضان عن غيره" من قضاء وفدية وغيرهما لأن الفطر أبيح تخفيفا ورخصة فإذا لم يرده لزمه الإتيان بالأصل كالجمعة وكالمقيم(2/417)
ومن نوى الصوم في سفره فله الفطر وإن نوى الحاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر وعنه لا يجوز
----------------------------------
الصحيح ولأنه لو قبل صوما من المعذور لقبله من غيره كسائر الزمان المتضيق للعبادة فلو نوى صوما غير رمضان فهل يقع باطلا أم يقع ما نواه هي مسألة تعيين النية.
تنبيه: إذا خاف من به شبق تشقق أنثييه أو به مرض ينتفع فيه بوطء ساغ له الوطء وقضى بلا كفارة نقله الشالنجي إن لم تندفع شهوته بغيره وإلا لم يجز وكذا إن أمكنه أن لا يفسد صوم زوجته لم يجز وإلا جاز للضرورة فوطء صائمة أولى من حائض وقيل يتخير وإن تعذر قضاؤه لدوام شبقه فككبير عجز عنه.
"ومن نوى الصوم في سفره فله الفطر" لفطره عليه السلام كما روي في الأخبار الصحيحة وظاهره ولو بالجماع لأن من له الأكل له الجماع كمن لم ينو وذكر جماعة أنه يفطر بنية الفطر فيقع الجماع بعده وعنه لا يجوز بالجماع لأنه لا يقوى على السفر فعليها إن جامع كفر والمذهب لا.
قال في الفروع وهو أظهر "وإن نوى الحاضر صوم يوم ثم سافر في أثنائه فله الفطر" لظاهر الآية والأخبار الصريحة منها ما روى عبيد بن جبير قال ركبت مع أبي بصرة الغفاري من الفسطاط في شهر رمضان ثم قرب غداءه فقال اقترب قلت الست ترى البيوت قال أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل رواه أبو داود.
ولأن السفر يبيح الفطر فأباحه في أثناء النهار كالمرض الطارئ ولو بفعله والصلاة لا يشق إتمامها وهي آكد لأنها متى وجب إتمامها لم يقصر بحال وترك الفطر أفضل سواء سافر طوعا أو كرها ذكره جماعة فيعايا بها
وليس له الفطر قبل خروجه لأنه ليس مسافرا.
"وعنه: لا لايباح" وقاله أكثر العلماء لأن الصوم عبادة تختلف بالسفر(2/418)
والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكينا.
------------------------
والحضر فإذا اجتمعا غلب حكم الحضر كالصلاة وعنه لا يجوز بجماع لآكديته فعلى المنع يكفر من وطئ وجعلها بعضهم كمن نوى الصوم في سفره ثم جامع.
"والحامل والمرضع إذا خافتا" الضرر "على أنفسهما" كره لهما الصوم ويجزئ فإن "أفطرتا وقضتا" بغير خلاف نعلمه كالمريض إذا خاف على نفسه ولقدرتهما عليه بخلاف الكبير قال أحمد: أقول بقول أبي هريرة لا بقول ابن عمر وابن عباس في منع القضاء وظاهره أنه لا إطعام معه لأنه فطر أبيح لعذر فلم يجب به كفارة كالمريض.
وذكر بعضهم رواية "وإن خافتا على ولديهما أفطرتا" لأن خوفهما خوف على آدمي أشبه خوفهما على أنفسهما "وقضتا" لعموم قوله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وكسائر المرضى "وأطعمتا لكل يوم مسكينا" ما يجزئ في الكفارة لظاهر قوله {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} الآية وهو قول ابن عمر وابن عباس ولا يعرف لهم مخالف.
ولأنه إفطار بسبب نفس عاجزة عن الصوم من طريق الخلقة كالشيخ الهم ويلحق بهذا الظئر التي ترضع ولد غيرها ذكره الأصحاب لأن السبب المبيح يستوي فيه كالسفر لحاجته وحاجة غيره وفي الرعاية قول لا تفطر الظئر إذا خافت على رضيعها والإطعام على الأم جزم به في الوجيز لأنه تبع لها ولهذا وجب كفارة واحدة ويحتمل أنه بينها وبين من تلزمه نفقته من قريب أو من ماله لأن الإرفاق لهما والمذهب أن الإطعام على من يمونه ويصرف إلى مسكين واحد جملة واحدة وظاهره أنه على الفور لوجوبه وهو أقيس وذكر المجد أنه إن أتى به مع القضاء جاز لأنه كالتكملة له.(2/419)
ومن نوى قبل الفجر ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وإن أفاق جزءا منه صح صومه وإن نام جميع النهار صح صومه ويلزم المغمى عليه القضاء دون المجنون.
-----------------------------
تنبيه: لا يسقط الإطعام بالعجز ذكره في المستوعب وهو ظاهر كلام أحمد اختاره المجد كالدين وذكر ابن عقيل والمؤلف أنه يسقط وذكر القاضي وجماعة أنها تسقط في الحامل والمرضع ككفارة الوطء بل أولى للعذر هنا ولا يسقط عن الكبير والمأيوس لأنها بدل عن نفس الصوم الواجب الذي لا يسقط بالعجز فكذا بدله وكذا إطعام من أخر قضاء رمضان وغيره غير كفارة الجماع.
"ومن نوى قبل الفجر ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه" لأن الصوم عبارة عن الإمساك مع النية فلم يوجد الإمساك المضاف إليه دل عليه قوله "إنه ترك طعامه وشرابه من أجلي" فلم تعتبر النية منفردة عنه "وإن أفاق" أي المغمى عليه "جزءا منه صح صومه" لقصده الإمساك في جزء من النهار فأجزأ كما لو نام بقية يومه وظاهره أنه لا يتعين جزء للإدراك ولا يفسد قليل الإغماء الصوم والجنون كالإغماء وقيل يفسد الصوم بقليله كالحيض بل أولى لعدم تكليفه.
وأجيب بأنه زوال عقل من بعض اليوم فلم يمنع صحته كالإغماء ويفارق الحيض فإنه لا يمنع الوجوب وإنما يمنع صحته ويحرم فعله.
"وإن نام جميع النهار صح صومه" لأنه معتاد ولا يزيل الإحساس بالكلية وخالف فيه الاصطخري وهو شاذ.
"ويلزم المغمى عليه" إذا لم يصح صومه "القضاء" في الأصح لأنه مرض وهو مغط على العقل غير رافع للتكليف ولا تطول مدته ولا تثبت الولاية على صاحبه ويدخل على الأنبياء عليهم السلام وعنه لا يقضي كالجنون "دون المجنون" فلا يلزمه قضاء لعدم تكليفه سواء فات.(2/420)
فصل
ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل.
-------------------------
بالجنون الشهر أو بعضه.
وعنه يقضي لأنه معنى يزيل العقل فلم يمنع وجوب الصوم كالإغماء وعنه إن أفاق في الشهر قضى ما مضى وإن أفاق بعده فلا كما لو جن في أثنائه وكما لو أفاق في جزء من اليوم لكن إذا جن في صوم قضاء وكفارة فإنه يقضيه بالوجوب السابق.
فصل:
"ولا يصح صوم واجب إلا أن ينويه من الليل" لما روى ابن عمر عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة قال الترمذي والخطابي رفعه عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه وعمرو من الثقات ووافقه على رفعه ابن جريج عن الزهري رواه النسائي ولم يثبت أحمد رفعه وصحح الترمذي أنه موقوف على ابن عمر.
وعن عائشة مرفوعا "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" رواه الدارقطني وفي لفظ للزهري "من م يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" لا يقال قد ورد في صوم عاشوراء بنية من النهار لأن وجوبه كان نهارا لمن صام تطوعا ثم نذره على أن جماعة ذكروا أنه ليس بواجب ولأن النية عند ابتداء العبادة كالصلاة.
وظاهره: أنه في أي وقت من الليل نوى أجزأه لإطلاق الخبر وسواء وجد بعدها ما يبطل الصوم كالجماع والأكل أو لا نص عليه فلو بطلت فات محلها وقال ابن حامد تبطل إذا أتى بالمنافي كما لو فسخ النية أو نسيها أو أغمى عليه حتى طلع الفجر وإن نوت الحائض صوم الغد وقد عرفت الطهر(2/421)
معينا وعنه لا يجب تعيين النية لرمضان ولا يحتاج إلى نية الفرضية.
--------------------------
ليلا فوجهان.
وظاهره أنه لا يصح في نهار يوم كصوم غد وكنيته من الليل صوم بعد غد وعنه يصح ما لم يفسخها وحملها القاضي على أنه استصحبها إلى الليل وهو ظاهر ويعتبر لكل يوم نية مفردة لأنها عبادات بدليل أنه لا يفسد يوم بفساد آخر وكالقضاء.
وعنه: بجزئ في أول رمضان نية واحدة لكله نصرها أبو يعلى الصغير وعلى قياسه النذر المعين ونحوه فلو أفطر يوما بعذر أو غيره لم يصح صيام الباقي بتلك النية جزم به في المستوعب وغيره وقيل يصح مع بقاء التتابع قدمه في الرعاية.
"معينا" أي لا بد أن يعتقد أنه يصوم من رمضان أو من قضائه أو نذره أو كفارته نص عليه واختاره الأصحاب لقوله "إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى" وكالقضاء والكفارة ولأن التعيين مقصود في نفسه فلو خطر بقلبه ليلا أنه صائم غدا فقد برئ قال بعض أصحابنا الأكل والشرب بنية الصوم عندنا نية قال الشيخ تقي الدين هو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم بدليل ليلة العيد من غيرها.
"وعنه: لا يجب تعيين النية لرمضان" لأن التعيين يراد للتمييز وهذا الزمان يتعين وكالحج فعليها يصح بنية مطلقة لتعذر صرفه رمضان واختار حفيده يصح مطلقا مع الجهل فإن كان عالما فلا كمن دفع وديعة رجل إليه على طريق التبرع ثم تبين أنه كان حقه فإنه لا يحتاج إلى إعطاء ثان.
"ولا يحتاج" مع التعيين "إلى نية الفرضية" لأن الواجب لا يكون إلا فرضا فأجزأ التعيين عنه.(2/422)
وقال ابن حامد يجب ذلك ولو نوى إن كان غدا من رمضان فهو فرضي وإلا فهو نفل لم يجزئه ومن نوى الإفطار أفطر.
----------------------------
"وقال ابن حامد يجب ذلك" كالصلاة "ولو نوى إن كان غدا من رمضان فهو فرضي" أي الذي فرضه الله علي "وإلا فهو العربي لم يجزئه" على المشهور في المذهب لأنه لم يعين الصوم من رمضان جزما وعلى الثانية يجزئه.
ونقل صالح أنه يصح بالنية المترددة والمطلقة مع الغيم دون الصحو لوجوب صومه فلو نوى إن كان غدا من رمضان فصومي عنه وإلا فهو عن واجب عينه بنيته لم يجزئه عن ذلك الواجب وفي إجزائه عن رمضان الروايتان إذا بان منه وإن قال وإلا فأنا مفطر لم يصح وإن نوى الرمضانية بلا مستند شرعي فعلى الخلاف إذا بان منه وإن كان عن مستند شرعي أجزأه كالمجتهد في الوقت.
فرع: إذا قال أنا صائم غدا إن شاء الله تعالى فإن قصد بالمشيئة الشك والتردد في العزم والقصد فسدت نيته وإلا لم تفسد ذكره في التعليق و الفنون لأنه إنما قصد أن فعله للصوم بمشيئة الله وتوفيقه وتيسيره كما لا يفسد الإيمان به غير متردد في الحال وطرده القاضي في سائر العبادات بأنها لا تفسد بذكر المشيئة في نيتها.
"ومن نوى الإفطار أفطر" نص عليه وفي الشرح هو ظاهر المذهب لأنه عبادة من شرطه النية ففسد بنية الخروج كالصلاة ولأن الأصل اعتبار النية في جميع أجزاء العبادة لكن لما شق اعتبار حقيقتها اعتبر بناء حكمها وهو أن لا ينوي قطعها فإذا نواه زالت حقيقة وحكما.
وقال ابن حامد لا تبطل كالحج مع بطلان الصلاة عنده وأجيب بأن الحج يصح بنية مطلقة -ومبهمة وقوله أفطر أي صار كمن لم ينو لا كمن أكل فلو كان في نفل يقطعه ثم نواه جاز نص عليه.(2/423)
ويصح صوم النفل بنية من النهار وقبل الزوال وبعده وقال القاضي: لا يجزئ بعد الزوال.
---------------------------------------
وكذا لو كان في نذر أو كفارة أو قضاء فقطع بنيته ثم نوى نفلا جاز ولو قلت نية نذر وقضاء إلى النفل فكمن انتقل من فرض صلاة إلى نفلها وعلى المذهب لو تردد في الفطر أو نوى أنه سيفطر ساعة أخرى أو إن وجدت طعاما أكلت وإلا أتممت فكالخلاف في الصلاة.
"ويصح صوم النفل بنية من النهار وقبل الزوال وبعده" نص عليه واختاره أكثر الأصحاب منهم القاضي في أكثر تصانيفه لما روت عائشة قالت دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال "هل عندكم شيء" قلنا لا قال "فإني إذا صائم" رواه مسلم.
ويدل عليه حديث عاشوراء ولأن الصلاة خفف نفلها عن فرضها فكذا الصوم ولما فيه من تكثيره لكونه يعن له من النهار فعفي عنه.
"وقال القاضي" في ابن عقيل "لا يجزئ بعد الزوال" لأن فعله عليه السلام إنما هو في الغداء وهو قبل الزوال ولأن النية لم تصحب العبادة في معظمها أشبه ما لو نوى مع الغروب وأجيب بأنه نوى في جزء منه يصح كأوله وجميع الليل وقت لنية الفرض فكذا النهار. وشرطه أن لا يكون فعل ما يفطره قبل النية فإن فعل فلا يجزئه الصوم بغير خلاف نعلمه قاله في الشرح وخالف فيه أبو زيد الشافعي ويحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في الأظهر وفي المجرد والهداية من أول النهار وقاله حماد وإسحاق إن نواه قبل الزوال فعلى الأول تطوع حائض طهرت وكافر أسلم في يوم ولم يأكلا يصوم بقية اليوم.
وعلى الثاني: لا لامتناع تبعيض صوم اليوم قال في الفروع ويتوجه يحتمل أن لا يصح عليهما لأنه لا يصح منهما صوم.(2/424)
باب مايفسد الصوم
...
باب ما يفسد الصوم
ويوجب الكفارة
ومن أكل أوشرب أو استعط أو احتقن أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه أو اكتحل بما يصل إلى حلقه.
----------------------------------
باب ما يفسد الصوم
المفسد للصوم كل ما ينافيه من أكل أو شرب ونحوهما "ويوجب الكفارة ومن أكل أوشرب" فقد أفطر لقوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} الآية فأباحهما إلى غاية وهي تبين الفجر ثم أمر بالإمساك عنهما إلى الليل لأن حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها وقول النبي صلى الله عليه وسلم "كل عمل ابن ادم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك طعامه وشرابه من أجلي" متفق عليه وظاهره لا فرق بين مغذ وغيره ولا بين القليل والكثير
"أو استعط" في أنفه بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه أو دماغه قال في الكافي أو خياشيمه لنهيه عليه السلام الصائم عن المبالغة في الاستنشاق
"أو احتقن" في دبره لأنه يصل إلى الجوف ولأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل ولأنه أبلغ وأولى من الاستعاط.
"أو داوي الجائفة بما يصل إلى جوفه" لأنه أوصل إلى جوفه شيئا باختياره أشبه ما لو أكل "أو اكتحل" بكحل أو صبر أو ذرور أو إثمد مطيب "بما يصل إلى حلقه" نص عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال "ليتقه الصائم" رواه أبو داود والبخاري في تاريخه من حديث عبد الرحمن بن النعمان بن سعيد ابن هوذة عن أبيه عن جده.
قال ابن معين حديث منكر وعبد الرحمن ضعيف وقال أبو حاتم:(2/425)
أو داوى المأمومة أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو استقاء.
-----------------------------
صدوق ووثقه ابن حبان واختار الشيخ تقي الدين لا يفطر لأنها ليست منفذا فلم يفطر به كما لو دهن رأسه وأجيب بأن العين منفذ لكنه ليس بمعتاد وكالواصل من الأنف
"أو داوى المأمومة أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه" لأن الدماغ أحد الجوفين فالواصل إليه يغذيه فأفسد الصوم كالآخر.
"أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان" وهو من عطف العام على الخاص وهو شامل إذا طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه بشيء في جوفه فغاب هو أو بعضه فيه أو ابتلع خيطا ويعتبر العلم بالواصل وجزم في منتهى الغاية بأنه يكفي الظن واختار الشيخ تقي الدين لا يفطر بمداواة جائفة ومأمومة ولا بحقنة.
"أو استقاء" أي استدعى القيء فقاء لخبر أبي هريرة المرفوع "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض" روا ه الخمسة وقال الترمذي حسن غريب ورواه الدارقطني وقال إسناده كلهم ثقات وظاهره لا فرق بين القليل والكثير.
قال المؤلف هو ظاهر المذهب وذكر المجد أنه أصح الروايات كسائر المفطرات وعنه يفطر بملء الفم اختاره ابن عقيل ويقدر بما لا يمكنه الكلام معه وعنه أو نصفه كنقض الوضوء وعنه إن فحش وقاله القاضي وذكر ابن هبيرة أنه الأشهر.
وبالغ ابن عقيل فقال إذا قاء بنظره إلى ما يقيئه فإنه يفطر كالنظر والفكر وفيه احتمال لا يفطر مطلقا وذكره البخاري عن أبي هريرة ويروى عن ابن مسعود وابن عباس وخبر أبي هريرة السابق ضعفه أحمد والبخاري.(2/426)
أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى أو مذى أو كرر النظر فأنزل
---------------------------------------
"أو استمنى" أي استدعى خروج المني لأنه إذا فسد بالقبلة المقترنة بالإنزال فلأن يفسد به بطريق أولى لكن لو استمنى بيده ولم ينزل فقد أتى محرما ولا يفسد به فأما إن أنزل لغير شهوة فلا كالبول.
"أو قبل أو لمس فأمنى" لما روى أبو داود عن عمر أنه قال هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله إني فعلت أمرا عظيما فقبلت وأنا صائم قال "أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم" قلت لا بأس به قال "فمه" فشبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الفطر فإن المضمضة إذا كان معها نزول أفطر وإلا فلا ذكره في المغني والشرح وفيه نظر لأن غايته أنما قد تكون وسيلة وذريعة إلى الجماع وفيه احتمال لا يفطر وقاله داود وضعف الخبر السابق وقال هو ريح.
"أو مذى" نص عليه لأنه إنزال بمباشرة أشبه المني واختار الآجري وأبو محمد تقي الدين لا يفطر قال في الفروع وهو أظهر عملا بالأصل وقياسه على المني لا يصح لظهور الفرق. وقيل يبطل بالمباشرة دون الفرج فقط وإن استمنى فأمنى أو مذى فكذلك على الخلاف وقوله فأمنى أو مذى راجع إلى الاستمناء وما بعده وعلم منه أنه لا فطر بدون الإنزال لقول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم وكان أملككم لإربه رواه البخاري روي بتحريك الراء وسكونها ومعناه حاجة النفس ووطرها وقيل بالتسكين العضو وبالتحريك الحاجة.
"أو كرر النظر فأنزل" أي منيا لأنه إنزال بفعل يلتذ به ويمكن التحرز منه أشبه الإنزال باللمس وقال الآجري لا يفطر كالإنزال بالفكر فلو أنزل مذيا لم يفطر على المذهب لأنه لا نص فيه والقياس لا يصح وقيل يفطر به.
قال في الفروع وهو أقيس على المذهب كاللمس وكلام المؤلف(2/427)
أو حجم أو احتجم.
---------------------------------------
يحتمله كالخرقي لأنه خارج بسبب الشهوة كالمني ولأن الضعيف إذا تكرر قوي كتكرار الضرب بصغير في القود لكن في الكافي وسواء في هذا كله إنزال المني أو المذي إلا في تكرار النظر فلا يفطر إلا بإنزال المني.
وظاهره لا فطر بعدم الإنزال بغير خلاف و لا إذا لم يكرر النظر لعدم إمكان التحرز منه وقيل يفطر ونص أحمد أنه يفطر بالمني لا المذي ويلحق به ما ذكره في الإرشاد احتمالا فيمن هاجت شهوته فأمنى أو مذى أنه يفطر.
فرع: يفطر بالموت فيطعم من تركته في نذر وكفارة وبالردة لأن الصوم عبادة محضة فنافاها الكفر كالصلاة.
"أو حجم أو احتجم" نص عليه وقاله الأصحاب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه أحمد والترمذي من حديث رافع بن خديج ورواه أحمد أيضا من حديث ثوبان وشداد بن أوس وعائشة وأسامة بن زيد وأبى هريرة ومعقل بن سنان وهو لأبي داوود من حديث ثوبان.
ولابن ماجه من حديث شداد وأبي هريرة وهذا يزيد على رتبة المستفيض قال ابن خزيمة ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال أحمد فيه غير حديث ثابت وأصحها حديث رافع
وقال ابن المديني أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان وشداد وصححهما أحمد والبخاري وعنه إن علما النهي وقد كان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا ورخص فيها أبو سعيد الخدري وابن مسعود وقاله أكثر العلماء لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم رواه البخاري.
ولأنه دم خارج من البدن أشبه الفصد وجوابه أن أحمد ضعف رواية ابن عباس من رواية الأثرم لأن الأنصاري ذهبت كتبه في فتنة فكان يحدث من(2/428)
عامدا ذاكرا لصومه فسد صومه وإن كان مكرها أوناسيا لم يفسد.
----------------------------------
كتب غلامه أبي حكيم ثم لو صح فيجوز أن يكون صومه تطوعا ويحتمل أن يكون لعذر ويعضده ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس قال "احتجم النبي صلى الله عليه وسلم من شيء كان وجده" فهذه تسقط الاستدلال.
ولو سلم التساوي فأحاديثنا أكثر واعتضدت بعمل الصحابة ولو سلم فحديثهم فعل وتلك قول وهو مقدم لعدم عموم الفعل واحتمال أنه خاص به ونسخ حديثهم أولى لأنه موافق لحكم الأصل فنسخه يلزم منه مخالفة الأصل مرة واحدة بخلاف نسخ حديثنا لأنه يلزم مخالفة الأصل مرتين.
وذكر الخرقي احتجم ولم يذكر حجم والمذهب التسوية للخبر ولعل مراده أنه يفطر الحاجم إن مص القارورة.
والحجم في الساق كالحجم في القفا نص عليه وظاهر كلام أحمد ومعظم الأصحاب لا فطر إن لم يظهر دم واختار ابن عقيل وجمع أنه يفطر.
ولو جرح نفسه لا للتداوي بدل الحجامة لم يفطر وظاهره لا يفطر بالفصد لأن القياس لا يقتضيه والثاني بلى وصححه الشيخ تقي الدين فعلى هذا في الشرط احتمالان ولا فطر بغير ذلك.
واختار الشيخ تقي الدين أنه يفطر إذا أخرج دمه برعاف وغيره وقاله الأوزاعي في الرعاف.
"عامدا" أي قاصدا للفعل لأن من لم يقصد فهو غافل غير مكلف وإلا يلزم تكليف ما لا يطاق "ذاكرا" أي غير ناس "لصومه فسد صومه" في الصور السابقة كلها ويجب القضاء إن كان واجبا "وإن كان مكرها أو ناسيا لم يفسد" صومه وأجزأه لقوله عليه السلام "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولحديث أبي هريرة مرفوعا "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب ,(2/429)
وإن طار إلى حلقه ذباب أوغبار أو قطر في إحليله أو فكر فأنزل
--------------------------------------
فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" متفق عليه وللدار قطني معناه وزاد "ولا قضاء" وللحاكم وقال على شرط مسلم "من أكل في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة" .
وظاهره: أنه لا فرق بين الوعيد والإلجاء نص عليه كالناسي بل أولى بدليل الإتلاف ويدخل فيه النائم إذا فعل به شيء بل هو كالناسي لعدم قصده.
وقال ابن عقيل يحتمل عندي أنه يفطر بالوعيد لأنه فعل دفعا للضرر عن نفسه فيه كالمريض ولو أوجر المغمى عليه معالجة لم يفطر وقيل بلى لرضاه ظاهرا فكأنه قصده وكالجاهل بالتحريم نص عليه في الحجامة وكالجهل بالوقت والنسيان يكثر.
وفي الهداية والتبصرة لا فطر لعدم تعمده المفسد كالناسي وجمع بينهما في الكافي بعدم التأثيم.
فرع: من أراد الفطر فيه بأكل أو شرب وهو ناس أو جاهل فهل يجب إعلامه فيه وجهان قال في الفروع ويتوجه ثالث إعلام جاهل لا ناس وفيه شيء.
"وإن طار إلى حلقه ذباب" لم يفطر خلافا للحسن بن صالح "أو غبار" من طريق أو دقيق أو دخان فكالنائم وقيل في حق الماشي وقيل في حق النخال والوقاد "أو قطر في إحليله" هنا نص عليه لعدم المنفذ وإنما يخرج البول رشحا لمداواة جرح عميق لم ينفذ إلى الجوف وقيل بينهما منفذ كمن وضع في فيه ما لم يتحقق نزوله في حلقه.
وقيل يفطر إن وصل مثانة وهي العضو الذي يجتمع فيه البول
"أو فكر" فأنزل لقوله عليه السلام "عفي لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به" ولأنه لا نص فيه ولا إجماع.(2/430)
أوذرعه القيء أو أصبح وفي فيه طعام فلفظه أو اغتسل.
-------------------------------------
وقياسه على تكرار النظر لا يصح لأنه دونه في استدعاء الشهوة وإفضائه إلى الإنزال وسواء أنزل منيا أو مذيا واختار أبو حفص العكبري وابن عقيل أنه يفسد لأن الفكرة تستحضر فيدخل تحت الاختيار أما لو خطر بقلبه صورة في مباشرته نهارا لم يفطر وظاهره ولو وطئ قرب الفجر ويشبهه من اكتحل إذن.
"أو ذرعه القيء" للخبر ولخروجه بغير اختيار أشبه المكره ولو عاد إلى جوفه بغير اختياره ولو أعاد عمدا ولم يملأ الفم أو قاء ما لا يفطر به ثم أعاده أفطر كتلفه بعد انفصاله عن الفم.
"أو أصبح وفي فيه طعام فلفظه" أي رماه لعدم إمكان التحرز منه ولا يخلو منه صائم غالبا فإن شق رميه فبلعه مع ريقه بغير قصد أو جرى ريقه ببقية طعام تعذر رميه أو بلع ريقه عادة لم يفطر وإن أمكنه لفظه بأن تميز عن ريقه فبلعه عمدا أفطر ولو دون الحمصة.
"أو اغتسل" لأنه عليه السلام كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم متفق عليه من حديث عائشة وأم سلمة ولأن الله أباح الجماع وغيره إلى طلوع الفجر فيلزم جواز الإصباح جنبا احتج به ربيعة والشافعي لكن يسن له أن يغتسل قبل الفجر وعليه يحمل نهيه عليه السلام أو أنه منسوخ ولهذا لما أخبر بقول عائشة وأم سلمة فقال هما أعلم بذلك إنما حدثنيه الفضل بن عباس متفق عليه.
قال سعيد بن المسيب رجع أبو هريرة عن فتياه.
فإن أخره يوما صح وأثم والحائض كالجنب إذا انقطع دمها ليلا ونوته ونقل صالح في الحائض تؤخره بعد الفجر قال تقضي وهو قريب من قول عروة وطاووس في الجنب
فائد: لا يكره للصائم أن يغتسل قال المجد لأن فيه إزالة الضجر من(2/431)
أو تمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفسد صومه وإن زاد على الثلاث أو بالغ فيهما فعلى وجهين ومن أكل شاكا في طلوع الفجر فلا قضاء عليه وإن أكل شاكا في غروب الشمس فعليه القضاء
---------------------------------
العبادة كالجلوس في الظل البارد وغوصه في الماء كصبه عليه ونقل حنبل لا بأس به إذا لم يخف أن يدخل الماء حلقه أو مسامعه.
"أو تمضمض أو استنشق" في الوضوء ف"دخل الماء حلقه" لأنه واصل بغير قصد أشبه الذباب فإن كان لنجاسة فكالوضوء "لم يفسد صومه" لما ذكرنا "وإن زاد على الثلاث" في أحدهما "أوبالغ فيهما" فدخل الماء حلقه "فعلى وجهين" كذا في الكافي والمحرر والفروع أحدهما: لا يفطر جزم به في الوجيز لأنه واصل بغير اختياره.
والثاني: بلى لأنه فعل مكروها تعرض به إلى إيصال الماء إلى حلقه أشبه الإنزال بالمباشرة واختار المجد يبطل بالمبالغة للنهي الخاص وعدم ندرة الوصول فيها بخلاف المجاوزة وأنه ظاهر كلام أحمد في المجاوزة يعجبني أن يعيد فإن تمضمض أو استنشق عبثا أو لحر أو عطش كره نص عليه.
وفي الفطر به الخلاف في الزائد على الثلاث وكذا إن غاص في الماء من غير غسل مشروع أو إسراف أو كان عابثا حكمه حكم الداخل من الحلق من المبالغة والمجاوزة وقال المجد إن فعله لغرض صحيح فكالمضمضة المشروعة وإن كان عبثا فكالمجاوزة.
"ومن أكل شاكا في طلوع الفجر" ولم يتبين له الحال "فلا قضاء عليه" لظاهر الآية ولأن الأصل بقاء الليل فيكون زمان الشك منه وله الأكل حتى يتيقن طلوع الفجر نص عليه فلو أكل يظن طلوع الفجر فبان ليلا ولم يجدد نية صومه الواجب قضى جزم به بعضهم
"وإن أكل شاكا في غروب الشمس" ودام شكه أو أكل فظن بقاء النهار "فعليه القضاء" لأن الأصل بقاء النهار فإن بان ليلا لم يقض وكذا إن أكل(2/432)
وإن أكل معتقدا أنه ليل فبان نهارا فعليه القضاء.
فصل:
وإذا جامع في نهار رمضان في الفرج قبلا كان أو دبرا فعليه القضاء والكفارة عامدا كان أو ساهيا
---------------------------------
فظن الغروب ثم شك بعد الأكل ولم يتبين لأنه لم يوجد يقين أزال الظن الذي بني عليه كالصلاة.
"وإن أكل معتقدا" أو ظانا "أنه ليل فبان نهارا" في أوله أو آخره كمن يعتقد أن الشمس غابت ولم تغب أو أن الفجر لم يطلع وقد طلع "فعليه القضاء" وفاقا لأن الله تعالى أمر بإتمام الصوم ولم يتمه وقالت أسماء أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام بن عروة وهو راوي الحديث أمروا بالقضاء قال لا بد من قضاء رواه أحمد والبخاري ولأنه جهل وقت الصوم كالجهل بأول رمضان وعنه لا قضاء على من جامع جاهلا بالوقت واختاره الشيخ تقي الدين وقال هو قياس أصول أحمد وغيره فيتوجه هنا مثله.
فرع: إذا أكل ناسيا وظن أنه قد أفطر فأكل عمدا فيتوجه أنها مسألة: الجاهل بالحكم فيه الخلاف السابق فلو جامع بعده نسيانا واعتقد الفطر به فكالناسي والمخطئ إلا أن يعتقد وجوب الإمساك فيكفر في الأشهر.
فصل:
"وإذا جامع في نهار رمضان في الفرج قبلا كان أو دبرا فعليه القضاء والكفارة عامدا كان أو ساهيا" وفيه أمور.
الأولى: أن الجماع في نهار رمضان بلا عذر مفسد له لقوله تعالى {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية فدلت أن الصيام المأمور بإتمامه ترك الوطء والأكل فإذا وجد فيه الجماع لم يتم فيكون باطلا.(2/433)
وعنه لا كفارة عليه مع الإكراه والنسيان.
---------------------------------
والمكره كالمختار في ظاهر المذهب.
وشرطه أن يكون بذكر أصلي في فرج أصلي قبلا كان أو دبرا من ذكر أو أنثى حر أو ميت أنزل أو لا لأنه في مظنة الإنزال أو لأنه باطن كالدبر فلو أولج خنثى مشكل ذكره في قبل خنثى مشكل أو قبل امرأة أو أولج رجل ذكره في قبل خنثى مشكل لم يفسد صوم واحد منهما إلا أن ينزل كالغسل وكذا إذا أنزل مجبوب أو امرأتان بمساحقة
الثانية: أنه يجب عليه القضاء عن كل يوم مثله في قول أكثر العلماء لقوله عليه السلام للمجامع "وصم يوما مكانه" رواه أبو داود والأثرم وكما لو أفسده بالأكل.
الثالثة: عليه الكفارة لحديث الأعرابي وقال النخعي وغيره لا كفارة عليه لأنها عبادة لا تجب الكفارة بإفساد قضائها فلم تجب بإفساد أدائها كالصلاة.
وجوابه بأن الأداء يتعلق بزمن مخصوص يتعين به والقضاء محله الذمة والصلاة لا يدخل في جبرانها المال بخلافه هنا.
الرابعة: الساهي كالعامد في وجوب ذلك نقله الجماعة وهو اختيار أكثر الأصحاب لأنه عليه السلام لم يستفصل الأعرابي بين أن يكون ساهيا أو عامدا ولو اختلف الحكم لاستفصله وبذلك استدل أحمد ولأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والسؤال معاد في الجواب كأنه قال إذا واقعت في صوم رمضان فكفر ولأنه عبادة يحرم الوطء فيها فاستوى عمده وسهوه كالحج.
"وعنه: لا كفارة عليه مع الإكراه والنسيان" اختاره ابن بطه للخبر في العفو عن ذلك ولأن الكفارة لرفع الإثم وهي منحطة عنهما وعنه ولا يقضي اختاره الآجري وأبو محمد الجوزي والشيخ تقي الدين وحكاه في شرح مسلم(2/434)
ولا يلزم المرأة كفارة مع العذر وهل يلزمها مع عدمه؟ على روايتين.
---------------------------
قول جمهور العلماء كالأكل.
تنبيه: إذا جامع يعتقده ليلا فبان نهارا فجزم الأكثر بوجوب القضاء وعنه عكسه اختاره الشيخ تقي الدين ويأتي رواية ابن القاسم واختار الأصحاب أنه يكفر قال المجد وأنه قياس من أوجبها على الناسي وأولى.
والثانية: لا يكفر وقالها أكثر العلماء وعليها إن علم في الجماع أنه نهار ودام عالما بالتحريم لزمته الكفارة فلو جامع ليلا وطلع عليه الفجر وهو مجامع واستدام فعليه القضاء والكفارة وإن نزع في الحال مع أول طلوعه وكذلك اختاره ابن حامد والقاضي لأن النزع جماع يلتذ به كالجماع واختار أبو حفص عكسه.
وقال ابن أبي موسى يقضي قولا واحدا وفي الكفارة خلاف.
"ولا يلزم المرأة كفارة مع العذر" كالإكراه والنسيان لأنها معذورة ولعموم ما سبق وذكر القاضي وغيره أنها إذا جامعت ناسية أن حكمها حكم الرجل وعنه أنها تكفر وخرجها القاضي من الحج.
وعنه: يرجع بها على الزوج لأنه الملجئ لها إلى ذلك وعلم منه أنه يفسد صومها ويجب عليها القضاء قال في الشرح بغير خلاف نعلمه من المذهب لأنه نوع من المفطرات فاستوى فيه الرجل والمرأة كالأكل نص عليه في المكرهة.
وعنه: لا وقيل يفسد إن فعلت إلا المقهورة والنائمة وأفسد ابن أبي موسى صوم غير النائمة لحصول مقصود الوطء لها قال في الفروع ويتخرج أن لا يفسد صومها مع النسيان وإن فسد صومه وكذا الجاهلة ونحوها.
"وهل يلزمها مع عدمه على روايتين" كذا في المحرر إحداهما: يلزمها الكفارة اختارها أبو بكر وقدمها في الفروع وهي أصح لأنها هتكت صوم رمضان بالجماع فلزمتها الكفارة كالرجل والثانية: لا وجزم بها في الوجيز ,(2/435)
وعنه كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا كفارة وهذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة مع الإكراه والنسيان وإن جامع دون الفرج فأنزل.
---------------------------
لأن الشارع لم يأمرها بها وكفطرها بتغييب بعض الحشفة بعد سبق جماعها المعتبر.
وأجيب بأن في لفظ الدارقطني "هلكت وأهلكت" فيدل على أنها كانت مكرهة وبأن ذلك البعض ليس له حكم الباطن والخوف وعنه كفارة واحدة خرجها أبو الخطاب من الحج وضعفه جماعة بأن الأصل عدم التداخل فلو كانت من أهل العتق وهو من أهل الإطعام وقلنا بالتحمل خير بينهما وقيل يطعم عن نفسه ويبقى العتق في ذمته حتى يقدر عليه فيعتق عنها.
فرع: إذا أكرهها على الوطء فيه دفعته بالأسهل فالأسهل ولو أفضى إلى نفسه كالمار بين يدي المصلي ذكره ابن عقيل.
"وعنه: كل أمر غلب عليه الصائم" كما لو غصبها نفسها فجامعها أو انتشر ذكره وهو نائم فاستدخلته "فليس عليه قضاء ولا كفارة" نقلها ابن القاسم عنه لأنه لم يوجد منه فعل فلم يجبا كما لو صب في حلقه ماء أو طار إلى حلقه ذباب.
"و" قال المؤلف والأصحاب "هذا يدل على إسقاط القضاء والكفارة مع الإكراه والنسيان" قال ابن عقيل في مفرداته الصحيح في الأكل و الوطء إذا غلب عليهما لا يفسدان فأنا أخرج من الوطء رواية من الأكل وعكسه.
"وقيل: يقضي من فعل لا من فعل به من نائم وغيره وقيل لا قضاء مع النوم فقط لعدم حصول مقصوده.
"وإن جامع دون الفرج" كمن وطئ امرأته في فخذها أو صرتها عامدا وقيل أو ناسيا اختاره الأكثر "فأنزل" وفي الفروع فأمنى وهى أولى فسد صومه لأنه إذا فسد باللمس مع الإنزال ففي المجامعة بطريق الأولى ,(2/436)
أو وطئ بهيمة في الفرج أفطر وفي الكفارة وجهان وإن جامع في يوم رأى الهلال في ليلته وردت شهادته فعليه القضاء والكفارة وإن جامع في يومين ولم يكفر فهل تلزمه كفارة أو كفارتان على وجهين.
-----------------------------
وظاهره أنه إذا لم ينزل لا يفسد كاللمس "أو وطئ بهيمة في الفرج أفطر" لأنه وطئ في فرج أشبه وطء الآدمية في فرجها ولم يقيده بالإنزال لإقامة المظنة مقام الحقيقة.
"وفي الكفارة وجهان" ذكرهما أبو الخطاب في وطء البهيمة بناء على الحد وقال ابن شهاب لا يجب بمجرد الإيلاج فيه غسل ولا فطر ولا كفارة.
أحدهما: يجب اختاره الخرقي وأبو بكر والأكثر كالوطء في الفرج والفرق واضح والناسي كالعامد صرح به جماعة وفي المغني والشرح والروضة عامدا وظاهره لا فرق بين الميتة والحية في الأشهر.
والثاني: لا كفارة عليه اختاره صاحب النصيحة والمغني والشرح والفروع لأنه فطر بغير جماع تام أشبه القبلة.
"وإن جامع في يوم رأى الهلال في ليلته وردت شهادته فعليه القضاء والكفارة" لأنه أفطر يوما من رمضان بجماع فلزمته كما لو قبلت شهادته.
"وإن جامع في ويومين و لم يكفر فهل تلزمه كفارة أو كفارتان على وجهين".
أحدهما: تجزئه واحدة وهو ظاهر الخرقي واختاره أبو بكر وابن أبي موسى كما لو كانا في يوم واحد كالحدود.
والثاني: تعدد الكفارة بتعدد الأيام اختاره الأكثر وهو المذهب وحكاه ابن عبد البر عن أحمد لأن كل يوم عبادة وكيومين من رمضانين وكالحجتين وظاهره أنه إذا كفر عن الأول كفر عن الثاني وذكره ابن عبد البر إجماعا قال المجد فعلى قولنا بالتداخل لو كفر بالعتق في اليوم الأول عنه ثم في اليوم الثاني(2/437)
وإن جامع ثم كفر ثم جامع فعليه كفارة ثانية نص عليه وكذلك كل من لزمه الإمساك إذا جامع.
------------------------------
عنه ثم استحقت الرقبة الأولى لم يلزمه بدلها وأجزأته الثانية عنهما.
ولو استحقت الثانية وحدها لزمه بدلها ولو استحقتا جميعا أجزأه بدلها رقبة واحدة لأن محل التداخل وجود السبب الثاني قبل أداء موجب الأول ونية التعيين لا تعتبر فتلغو وتصير كنية مطلقة هذا قياس مذهبنا.
"وإن جامع ثم كفر ثم جامع" في يومه "فعليه كفارة ثانية نص عليه" في رواية حنبل والميموني لأنه وطء محرم وقد تكرر فتكرر هي كالحج بخلاف الوطء ليلا فإنه مباح لا يقال الوطء الأول تضمن هتك الصوم وهو مؤثر في الإيجاب فلا يصح القياس لأنه ملغى بمن طلع عليه الفجر وهو مجامع فاستدام فإنها تلزمه مع عدم الهتك له وذكر الحلواني رواية لا كفارة.
وخرجه ابن عقيل من أن الشهر عبادة واحدة وعلم منه أنه إذا لم يكفر عن الأول فإنه تكفيه واحدة بغير خلاف قاله في المغني والشرح وفي الفروع على الأصح فعلى الأول تعدد الواجب وتداخل موجبه ذكره صاحب الفصول وغيره وعلى الثاني لم يجب بغير الوطء الأول شيء.
"وكذلك كل من لزمه الإمساك إذا جامع" أي كذا حكم كل مفطر يلزمه الإمساك كمن لم يعلم برؤية الهلال إلا بعد طلوع الفجر أو نسي النية أو أكل عامدا ثم جامع فتجب عليه الكفارة لهتكه حرمة الزمن به ولأنها تجب على المستديم للوطء ولا صوم هناك فكذا هنا. فمراده بالتشبيه وجوب الكفارة لا التكرار لكن نص أحمد في مسافر قدم مفطرا ثم جامع لا كفارة عليه وحمله القاضي وأبو الخطاب على رواية لا يلزمه الإمساك وحمله المجد على ظاهره وهو وجه لضعف هذا الإمساك لأنه سنة عند أكثر العلماء وفي تعليق القاضي وجه فيمن ترك النية وجامع لا(2/438)
ولو جامع وهو صحيح ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط عنه وإن نوى الصوم في سفره ثم جامع لا كفارة عليه وعنه عليه الكفارة ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان
---------------------------------
كفارة عليه وإن أكل ناسيا واعتقد الفطر به ثم جامع فكالناسي والمخطئ إلا أن يعتقد وجوب الإمساك فيكفر في الأشهر.
"ولو جامع وهو صحيح ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط عنه" نص عليه فيما إذا مرض لأمره عليه السلام الأعرابي بالكفارة ولم يسأله ولأنه أفسد صوما واجبا من رمضان بجماع تام فاستقرت عليه الكفارة كما لو لم يطرأ العذر.
لا يقال تبينا أن الصوم غير مستحق عند الجماع لأن الصادق لو أخبره أنه سيمرض أو يموت لم يجز الفطر والصوم لا تتحرى صحته بل لزومه كصائم صح أو أقام وحكم المرأة كذلك إذا حاضت أو نفست وفي الانتصار وجه يسقط بهما لمنعهما الصحة ومثلهما موت وكذا جنون إن منع طريانه الصحة.
"وإن نوى الصوم في سفره" فله الفطر بما شاء لفطره عليه السلام في الأخبار الصحيحة ولأن من له الأكل له الجماع كمن لم ينو "ثم جامع لا كفارة عليه" اختاره القاضي وأكثر أصحابه والمؤلف لأنه صوم لا يلزم المضي فيه فلم يجب كالتطوع لكن ذكر المؤلف وغيره أنه يفطر بنيته الفطر فيقع الجماع بعده.
"وعنه: عليه الكفارة" جزم بها بعضهم لأنه أفطر بجماع فلزمته كالحاظر وعنه لا يجوز له الفطر بالجماع لأنه لا يقوى على السفر وفي الكفارة روايتان لكن له الجماع بعد فطره بغيره كفطره بسبب مباح ونقل مهنا في المريض يفطر بأكل فقلت يجامع قال لا أدري. "ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان" لأنه لم يرد به نص ,(2/439)
والكفارة عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا
---------------------------
وغيره لا يساويه وحكى في الرعاية قولا في قضائه إذا أفسده لأنها عبادة تجب الكفارة في أدائها فوجبت في قضائها كالحج وجوابه بأنه جامع في غير رمضان فلم يلزمه كالكفارة والقضاء يفارق الأداء لأنه متعين بزمان محترم فالجماع فيه هتك له.
وقيل: تجب الكفارة على من أكل أو شرب عمدا كالجماع وعنه في المحتجم إذا كان عالما بالنهي عليه الكفارة وهل هي كفارة الوطء أو مرضع فيه روايتان.
وفي القبلة وتكرار النظر إذا أنزل رواية أنها تجب الكفارة واختارها القاضي في تعليقه وحكم الاستمناء كالقبلة قاله في التلخيص واللمس كالوطء دون الفرج.
"والكفارة عتق رقبة" ويأتي سلامتها وكونها مؤمنة.
"فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا" هذا هو المذهب لما روى أبو هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت يا رسول الله قال "ما أهلكك" قال وقعت على امرأتي في رمضان قال "هل تجد ما تعتق رقبة؟" قال لا قال "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال لا قال "فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟" قال لا ثم جلس فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال "تصدق بهذا" فقال على أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه فقال "اذهب فأطعمه أهلك" متفق عليه ولفظه لمسلم.
وهو ظاهر في الترتيب ولم يأمره بالانتقال إلا عند العجز وككفارة الظهار لكن لا يحرم هنا الوطء قبل التكفير ولا في ليالي صوم الكفارة ,(2/440)
فإن لم يجد سقطت عنه وعنه لا تسقط وعنه : أن الكفارة على التخيير فبأيها كفر أجزأ
--------------------------------
ذكره في الرعاية والتلخيص ككفارة القتل وحرمه ابن الحنبلي عقوبة.
وإن قدر على العتق وهو في الصيام لم يلزمه الانتقال عنه نص عليه "فإن لم يجد" شيئا "سقطت" الكفارة "عنه" نص عليه وقاله الأوزاعي لأنه عليه السلام لم يأمر الأعرابي بها أخيرا ولم يذكر له بقاءها في ذمته كصدقة الفطر زاد بعضهم "بالمال".
وقيل والصوم "وعنه: لا تسقط" وهو قول النووي والزهري لأنه عليه السلام أمر بها الأعرابي لما جاء العرق بعد ما أخبره بعسرته ولأنها واجبة فلم تسقط بالعجز عنها كسائر الكفارات قال في الفروع ولعل هذه الرواية أظهر قال بعضهم فلو كفر عنه غيره بإذنه وقيل أو دونها فله أخذها على الأصح وأطلق ابن أبي موسى هل يجوز له أكلها أم كان خاصا بالأعرابي على روايتين.
ويتوجه أنه عليه السلام رخص للأعرابي لحاجته ولم تكن كفارة وظاهره أن كفارة الظهار واليمين وكفارات الحج لا تسقط بالعجز عنها نص عليه لعموم الأدلة ولأنه القياس خولف في رمضان للأخبار وعنه تسقط كرمضان.
"وعنه: أن الكفارة على التخيير" بين العتق والصيام والإطعام "فبأيها كفر أجزأه" لما في الصحيحين من رواية مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رجلا أفطر يوما من رمضان فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو بصوم شهرين أو يطعم ستين مسكينا.
وفيهما من حديث ابن جريح عن الزهري نحوه وتابعهما أكثر من عشرة وفطره كان بجماع ولأنها تجب بالمخالفة فكانت على التخيير ككفارة اليمين والأولى أصح فرواه معمر ويونس والأوزاعي والليث وموسى بن عقبة(2/441)
--------------------------------
وغيرهم قريب من ثلاثين رجلا رووه عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "هل تجد رقبة تعتقها؟" قال لا قال "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟" قال لا قال "فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟" قال لا.
ذكر سائره وهذا لفظ الترتيب فالأخذ به أولى لأنها زيادة واحتمال الغلط منهما أكثر من احتماله في سائر أصحابه مع أن حديثنا لفظه عليه السلام وحديثهم لفظ الراوي فلعله توهم أن لا فرق بين اللفظين فرواه ب "أو".(2/442)
باب مايكره للصائم فعله وما يحتسب
...
باب ما يكره للصائم فعله وما يستحب
وحكم القضاء
يكره للصائم أن يجمع ريقه فيبلعه وأن يبلع النخامة وهل يفطر بهما على روايتين.
--------------------------------
باب ما يكره للصائم فعله وما يستحب
وحكم القضاء
"يكره للصائم أن يجمع ريقه فيبلعه" لأنه اختلف في الفطر به وأقل أحواله أن يكون مكروها وظاهره ولو قصدا وبأنه إذا ابتلعه من غير جمع أنه لا يكره بغير خلاف لأنه لا يمكن التحرز منه كغبار الطريق
"و" يكره "أن يبلع النخامة" إذا حصلت في فيه للاختلاف في الفطر بها "وهل يفطر بهما؟" أي بكل من الريق المجموع و النخامة على روايتين لأنه غير واصل من خارج أشبه إذا لم يجمعه والثاني يفطر لأنه يمكن التحرز منه كغبار الدقيق فعليها يحرم فعله كما لو خرج إلى بين أصابعه أو شفتيه وفي منتهى الغاية ظاهر شفتيه ثم عاد فابتلعه فإنه يفطر كبلع ريق غيره.
لا يقال روى أبو داوود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها لضعف إسناده بل قال أبو داوود ليس بصحيح ويجوز أن(2/442)
ويكره ذوق الطعام وإن وجد طعمه في حلقه أفطر ويكره مضغ العلك الذي لا يتحلل منه أجزاء
----------------------------------
يكون مصه في غير حالة الصوم ولو سلم فيحمل على عدم ابتلاع ما عليه فلو أخرج من فيه حصاة أو درهما أو خيطا ثم أعاده فإن كثر ما عليه أفطر وإلا فلا في الأصح لعدم تحقق انفصاله ودخوله إلى حلقه كالمضمضة.
ولو أخرج لسانه ثم أعاده لم يفطر لان الريق لم ينفصل: عن محله واختار ابن عقيل خلافه "وأما النخامة" فكثير من أصحابنا أطلق الخلاف والمذهب أنه يفطر بها سواء كانت من جوفه أو صدره أو دماغه إذا وصلت إلى فيه وصرح في الفروع بالفطر بالتي من جوفه لأنها من غير الفم كالقيء والثانية لا يفطر نقلها المروذي لاعتيادها في الفم كالريق وعليهما ينبني التحريم.
فرع: إذا تجنس فمه بدم أو قيء ونحوه فبلعه أفطر نص عليه وإن قل لإمكان التحرز منه ولأن الفم في حكم الظاهر يقتضي حصر الفطر بكل واصل إليه لكن عفي عن الريق للمشقة وإن بصقه وبقي فمه نجسا فابتلع ريقه فإن كان معه جزء من النجس أفطر به وإلا فلا.
"ويكره ذوق الطعام" لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه فيفطره وظاهره لا فرق بين أن يكون لحاجة أو غيرها قال أحمد أحب أن يجتنب ذوق الطعام فإن فعل فلا بأس والمنصوص عنه أنه لا بأس به لحاجة أو مصلحة وحكاه هو والبخاري عن ابن عباس
"إن وجد طعمه في حلقه أفطر" لأن وجود طعمه في حلقه دليل على وصول شيء من أجزائه وعلى المنصوص عليه أن يستقصي بالبصق ثم إن وجد طعمه في حلقه لم يفطر كالمضمضة وإلا فيفطر لتفريطه.
"ويكره مضغ العلك" القوي الذي كلما مضغته صلب وقوي الذي لا يتحلل منه أجزاء نص عليه لأنه يحلب الفم ويجمع الريق ويورث العطش قال في الفروع ويتوجه احتمال لأنه روي عن عائشة وعطاء وكوضع الحصاة(2/443)
ولا يجوز مضغ ما يتحلل منه أجزاء إلا أن لا يبلع ريقه ومتى وجد طعمه في حلقه أفطر وتكره القبلة إلا أن يكون ممن لا تحرك شهوته على إحدى الروايتين.
------------------------------
في فيه وهو أظهر
قال أحمد من وضع في فيه درهما أو دينارا لابأس به ما لم يجد طعمه في حلقه وإلا فلا يعجبني وقال عبد الله سألت أبي عن الصائم يفتل الخيط يعجبني أن يبزق.
"ولا يجوز مضغ ما يتحلل منه أجزاء" مطلقا إجماعا لأنه يكون قاصدا لإيصال شيء من خارج إلى جوفه مع الصوم وهو حرام "إلا أن لا يبلع ريقه" ذكره في المغني والشرح وهو ظاهر الوجيز لأن المحرم إدخال ذلك إلى جوفه ولم يوجد "ومتى وجد طعمه في حلقه أفطر" لأنه أوصله إلى جوفه أشبه ما لو تعمد أكله وهذا وجه.
والثاني: لا يفطر لأنه لم ينزل منه شيء ومجرد الطعم لا يفطر كمن لطخ باطن قدمه بحنظل بخلاف الكحل فإن أجزاءه تصل إلى الحلق وقيل في تحريم ما لا يتحلل غالبا وفطره بوصوله أو طعمه إلى حلقه وجهان وقيل يكره بلا حاجة.
"وتكره القبلة" لمن تحرك شهوته فقط لقول عائشة كان النبي صلي الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه متفق عليه ولفظه لمسلم وإذا منع الوطء منع دواعيه كالإحرام وعنه يحرم جزم به في المستوعب وغيره كما لو ظن الإنزال معها لفرط شهوته ذكره المجد بغير خلاف واقتصر عليه في الشرح أيضا فإن خرج منه شيء فقد سبق وإن لم يخرج منه شيء لم يفسد صومه إجماعا.
"إلا أن يكون ممن لا تحرك شهوته" كالشيخ الكبير فإنه لا يكره "على إحدى الروايتين" لأنها مباشرة لغير شهوة أشبهت لمس اليد لحاجة.(2/444)
ويجب عليه اجتناب الكذب والغيبة والشتم.
----------------------------
والثانية: تكره لاحتمال حدوث الشهوة وكالإحرام وألحق في الكافي بالقبلة اللمس وتكرار النظر لأنهما في معناها وظاهره إن لمسها لغير شهوة لا يكره وفاقا كما إذا لمس يدها ليعرف موضعها ونحوه وكحالة الإحرام أشبه لمس ثوبها.
فرع: يكره أن يدع بقية طعام بين أسنانه وشم ما لا يأمن أن يجذبه نفسه إلى حلقه كسحيق مسك وكافور ودهن ونحوه وقاله في المستوعب وغيره.
"يجب عليه اجتناب الكذب" وهو الإخبار بما لا يطابق المخبر عنه بخلاف الصدق "والغيبة" وهو ذكر الإنسان بما يكره بهذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رواه مسلم "والشتم" وهو السب وما في معنى ذلك من النميمة والفحش إجماعا وفي رمضان ومكان فاضل آكد لقوله عليه السلام "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري من حديث أبي هريرة ومعناه الزجر والتحذير. وظاهره: أنه لا يفطر بذلك.
قال أحمد: لو كانت الغيبة تفطر ما كان لنا صوم.
وذكره المؤلف إجماعا وذكر الشيخ تقي الدين وجها يفطر بغيبة ونميمة ونحوهما قال في الفروع فيتوجه منه احتمال يفطر بكل محرم.
وقال أنس إذا اغتاب الصائم أفطر.
وعن إبراهيم قال كانوا يقولون الكذب يفطر الصائم.
وعن الأوزاعي أن من شاتم فسد صومه لظاهر النهي.
وذكر بعض أصحابنا رواية يفطر بسماع الغيبة وأسقط أبو الفرج ثوابه بالغيبة ومراد المؤلف بالاجتناب عما يحرم من ذلك فإنهم نصوا على إباحة(2/445)
فإن شتم استحب أن يقول إني صائم.
فصل:
ويستحب تعجيل الإفطار.
--------------------------------
الكذب لغرض صحيح شرعي في مواضع وعلى إباحة الغيبة كالتظلم والاستفتاء والاستعانة على تغيير منكر والتحذير والتعريف والجرح.
وبالجملة فينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه ولا يماري به لأنهم كانوا إذا صاموا جلسوا في المساجد وقالوا نحفظ صومنا ولا نغتاب أحدا ولا نعمل عملا يجرح به صومه قاله أحمد.
ويسن له تلاوة القرآن وكان مالك يترك أصحاب الحديث في شهر رمضان ويقبل على تلاوة القرآن.
وكان الشافعي يقرأ ستين ختمة.
والذكر قال إبراهيم تسبيحة في رمضان خير من ألف تسبيحة فيما سواه والصدقة للأخبار الواردة فيها.
"فإن شتم استحب أن يقول إني صائم" لما في الصحيح "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم" متفق عليه من حديث أبي هريرة.
وظاهره: أنه يجهر بذلك واختاره الشيخ تقي الدين لأن القول المطلق باللسان وفي الرعاية يقوله مع نفسه ولا يطلع الناس عليه للرياء واختاره المجد إن كان في غير رمضان وإلا جهر به للأمن من الرياء وفيه زجر عن مشاتمته لأجل حرمة الوقت.
فصل:
"ويستحب تعجيل الإفطار" لما روى سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(2/446)
وتأخير السحور.
--------------------------------
"لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه والمراد إذا تحقق غروب الشمس إجماعا والمذهب أن له الفطر بغلبة الظن لأنهم أفطروا في عهده عليه السلام ثم طلعت الشمس. ولأن ما عليه أمارة يدخله الاجتهاد ويقبل فيه قول واحد كالقبلة خلافا لصاحب التلخيص فلم يجوزه إلا باليقين بخلاف أوله وإذا غاب حاجب الشمس الأعلى أفطر حكما وإن لم يطعم وفي الخبر ما يدل على أنه يفطر شرعا فلا يثاب على الوصال ويحتمل أنه يجوز له الفطر وهو قبل الصلاة أفضل لفعله عليه السلام.
"وتأخير السحور" ما لم يخش طلوع الفجر الثاني قاله الأصحاب لأخبار منها:.
ما روى زيد بن ثابت قال تسحرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم كان بينهما قال قدر خمسين آية متفق عليه.
ولأنه أقوى على الصوم والتحفظ من الخطأ والخروج من الخلاف وظاهره أنه يستحب ولو شك في الفجر ونقله أبو داوود عن الإمام أنه يأكل حتى يستيقن طلوعه وجزم به ابن الجوزي يؤيده ما قال الآجري لو قال لعالمين ارقبا الفجر فقال أحدهما طلع وقال الآخر لا أكل حتى يتفقا وقاله جمع من الصحابة وغيرهم.
وتحصل الفضيلة بأكل أو شرب لحديث أبي سعيد "ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء" رواه أحمد وفيه ضعف وكمال فضيلته بالأكل لقوله عليه السلام "بيننا وبينهم أكلة السحر" رواه مسلم من حديث عمرو بن العاص.
وظاهر ما سبق: أنه لا يجب إمساك جزء من الليل من أوله وآخره وهو ظاهر كلام جماعة وذكر ابن الجوزي أنه أصح الوجهين وقطع آخرون بوجوبه لأنه(2/447)
وأن يفطر على تمر فإن لم يجد فعلى الماء وأن يقول عند فطره اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت سبحانك وبحمدك اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم.
---------------------------------
مما لا يتم الواجب إلا به.
ولا يستحب تأخير الجماع وفاقا لأنه لا يتقوى به بل يكره مع الشك بخلاف الأكل والشرب نص على ذلك.
فائد: السحور بفتح السين ما يؤكل في السحر وبالضم اسم الفعل على الأشهر وقيل بالفتح والمراد في كلامه الفعل فيكون بالضم على الأصح.
"و" يستحب "أن يفطر على تمر فإن لم يجد فعلى الماء" لما روى سلمان بن عامر مرفوعا "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فعلى ماء فإنه طهور" رواه أبو داوود والترمذي.
والمذهب أنه يقدم عليهما الرطب لحديث أنس المرفوع رواه الترمذي وقال حسن غريب واعتذر عنه ابن المنجا فقال إن الرطب لا يوجد في بلاد الشام.
وفي الوجيز أنه مخير بينها من غير تقديم لبعضها على بعض.
"وأن يقول عند فطره اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت سبحانك وبحمدك اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم" اقتصر عليه جماعة رواه الدار قطني من حديث أنس وابن عباس وفيهما تقبل منا وذكره أبو الخطاب وهو أولى.
وذكر بعضهم قول ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أفطر "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى" رواه أبو داوود والدار قطني وحسن إسناده والحاكم وقال على شرط البخاري والعمل بهذا الخبر أولى ويدعو بما أحب لما روى أبو هريرة "ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل ,(2/448)
ويستحب التتابع في قضاء رمضان ولا يجب
--------------------------
والصائم حين يفطر ودعوة المظلوم" رواه الترمذي وحسنه وابن ماجه.
وله من حديث عبد الله بن عمر "وللصائم عند فطره دعوة ما ترد" .
"ويستحب التتابع في قضاء رمضان" وفاقا لأن القضاء يحكي الأداء وفيه خروج من الخلاف وأنجز لبراءة الذمة وظاهره لا فرق بين أن يكون أفطر بسبب محرم أو لا ويجب العزم على الفعل في قول الجمهور وفي الفروع يتوجه الخلاف كالصلاة.
"ولا يجب" في قول الأكثر قال البخاري قال ابن عباس لا بأس أن يفرق لقول الله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
وعن ابن عمر مرفوعا "قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء تابع" رواه الدار قطني وقال لم يسنده غير سفيان بن بشر قال المجد لا نعلم أحدا طعن فيه والزيادة من الثقة مقبولة ولأنه لا يتعلق بزمان معين فلم يجب فيه التتابع كالنذر المطلق.
ويستثنى منه ما إذا لم يبق من شعبان إلا بقدره فيتعين ويقضي من فاته رمضان تاما أو ناقصا لعذر أو غيره عدد أيامه مطلقا في اختيار الأكثر كأعداد الصلوات.
وقال القاضي إن قضى شهرا هلاليا أجزأه مطلقا وإلا تمم ثلاثين يوما وهو ظاهر كلام أحمد ورده في المغني بأن القضاء يجب أن يكون بعدة ما فاته كالمريض والمسافر فعلى الأول من صام من أول شهر كامل أومن أثناء شهر تسعة وعشرين يوما وكان رمضان الفائت ناقصا أجزأه اعتبارا بعدد الأيام وعلى الثاني يقضي يوما تكميلا للشهر بالهلال أو العدد ثلاثين.(2/449)
فصل:
ولا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر لغير عذر فإن فعل فعليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم وإن أخره لعذر فلا شيء عليه.
------------------------------
فصل:
"ولا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر لغير عذر" نص عليه واحتج بقول عائشة كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متفق عليه وكما لا يؤخر الصلاة الأولى إلى الثانية فلا يجوز التطوع قبله ولا يصح وعنه بلى إن اتسع الوقت.
"فإن فعل" أي أخره بلا عذر حرم عليه لأن مقتضاه وجوب القضاء على الفور كالصلاة خولف في المعذور فيبقى ما عداه على الأصل.
وحينئذ "فعليه القضاء وإطعام مسكين" ما يجزئ في الكفارة "لكل يوم" رواه سعيد بإسناد جيد عن ابن عباس والدارقطني بإسناد صحيح عن أبي هريرة ورواه مرفوعا بإسناد ضعيف قال في الفروع ويتوجه احتمال لا يلزمه إطعام لظاهر قوله تعالى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} وكتأخير أداء رمضان عن وقته عمدا.
وذكر الطحاوي عن ابن عمر بإسناد فيه ضعف أنه يطعم بلا قضاء
وعلى الأول يجوز قبل القضاء ومعه وبعده لقول ابن عباس وقال المجد الأفضل عندنا تقديمه مسارعة إلى الخير وتخلصا من آفات التأخير وإذا تكرر رمضان لا يلزمه أكثر من فدية واحدة لأن كثرة التأخير لا يزاد بها الواجب كما لو أخر الحج الواجب سنين لم يكن عليه أكثر من فعله.
"وإن أخره" أي القضاء "لعذر" من مرض أو سفر أو عجز عنه "فلا شيء عليه" نص عليه وهو فول أكثر العلماء لأنه حق لله تعالى وجب(2/450)
وإن مات وإن أخره لغير عذر فمات قبل أن أدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين وإن مات بعد أن أدركه رمضان آخر فهل يطعم عنه لكل يوم مسكين أو اثنان على وجهين.
------------------------------
بالشرع فسقط بموت من يجب عليه قبل إمكان فعله إلى غير بدل كالحج.
وفي التلخيص رواية يطعم عنه كالشيخ الكبير وقاله طاووس وقتادة.
والفرق أنه يجوز ابتداء الوجوب عليه بخلاف الميت وقال في الانتصار يحتمل أن يجب الصوم عنه أو التكفير كمن نذر صوما.
"وإن مات" أبي إذا أخر القضاء لعذر ثم مات كمن أخر القضاء لعذر وهو حي أنه لا يجب عليه شيء لكن الميت يسقط عنه القضاء والكفارة والحي تسقط عنه الكفارة دون القضاء لإمكانه.
فلو دام عذره بين الرمضانين فلم يقض ثم زال صام الشهر الذي أدركه ثم قضى ما فاته من غير إطعام نص عليه.
"وإن أخره لغير عذر فمات قبل أن أدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين" قاله أكثرهم رواه الترمذي عن ابن عمر مرفوعا بإسناد ضعيف والصحيح وقفه عليه.
وسئلت عائشة عن القضاء فقالت لا بل يطعم رواه سعيد بإسناد جيد ولأنه لا يدخله النيابة في الحياة فكذا بعد الموت كالصلاة.
"وإن مات بعد أن أدركه رمضان آخر" فأكثر "فهل يطعم عنه لكل يوم مسكين أو اثنان على وجهين" أحدهما: وهو المذهب نص عليه في رواية أبي داوود وجزم به في الوجيز أنه يطعم عنه بكل يوم مسكين لأنه بإخراج كفارة واحدة زال تفريطه بالتأخير أشبه ما لو مات من غير تفريط.
والثاني - وهو لأبي الخطاب- يطعم عنه لكل يوم فقيران لاجتماع التأخير والموت بعد التفريط.(2/451)
ومن مات وعليه صوم أو حج أو اعتكاف منذور فعله عنه وليه.
-----------------------------
تنبيه: الإطعام من رأس المال أوصى به أولا وفي القضاء عن كل يوم يوم.
وقال الشيخ تقي الدين لا يقضي متعمد بلا عذر صوما ولا صلاة وليس في الأدلة ما يخالفه وفيه نظر.
وإذا مات وعليه صوم شهر كفارة أطعم عنه وكذا لو مات وعليه صوم المتعة نص عليه لأن هذا الصوم وجب بأصل الشرع كقضاء رمضان فلو صام عن كفارة ميت لم يجزئه وإن أوصى به نص عليه.
وإن كان موته بعد قدرته عليه وقلنا الاعتبار بحالة الوجوب أطعم عنه ثلاثة مساكين لكل يوم مسكين ذكره القاضي.
"ومن مات وعليه صوم أو حج أو اعتكاف منذور" هو راجع إلى الكل ولو قال بنذر ك الوجيز لكان أظهر "فعله عنه وليه" وفيه أمور:.
الأولى: صوم النذر عن الميت هو كقضاء رمضان لما في الصحيحين أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها قال "نعم"
ولأن النيابة تدخل في العبادة بحسب خفتها وهو أخف حكما من الواجب بأصل الشرع لإيجابه من نفسه.
ويفعله الولي نص عليه وعليه الأصحاب فإن صام غيره جاز مطلقا جزم به الأكثر لأنه تبرع وقد شبهه عليه السلام بالدين وظاهر نصه في رواية حرب أنه لا يصح إلا بإذنه لأنه خلاف القياس فيقتصر على النص.
وإن صام عنه جماعة في يوم فنقل أبو طالب يصوم واحد فمنع الاشتراك كالحجة المنذورة وعن الحسن وطاووس جوازه وهو أظهر وكما لو أوصى بثلاث حجج جاز صرفها إلى ثلاثة في عام يحجون عنه وجزم ابن عقيل بمنعه لأن(2/452)
----------------------------
نائبه مثله وظاهر كلامهم أنه يستحب للولي فعله لتفريغ ذمته.
وليس بواجب كالدين لا يلزمه إذا لم يخلف تركة ويفعله أقرب الناس إليه كابنه فإن خلف تركة فإن شاء صام وإن شاء دفع إلى من يصوم عنه عن كل يوم مسكينا.
وذكر المؤلف أن صوم النذر لا إطعام فيه بعد الموت بخلاف رمضان ولا كفارة مع الصوم عنه أو الإطعام وهذا كله فيمن أمكنه صوم نذره فلم يصمه فلو أمكنه صوم بعضه قضى عنه ما أمكنه صومه فقط ذكره القاضي وغيره لأن رمضان يعتبر فيه إمكان الأداء والنذر يحمل على أصله في الفرض.
الثانية: إذا مات وعليه حج منذور فعل عنه نص عليه لما روى ابن عباس أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها قال "نعم حجي عنها" رواه البخاري ولأنه منذور فكان للولي فعله كالصوم.
وعليه: لا يعتبر تمكنه منه قبل موته لظاهر الخبر وكنذر الصدقة والعتق وقيل يعتبر كحجة الإسلام وهل لغيره فعله بإذنه أو مطلقا على الخلاف.
فرع: العمرة في ذلك كالحج.
الثالثة: إذا مات وعليه اعتكاف منذور فعل عنه نقله الجماعة لقول سعد ابن عبادة إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "اقضه عنها" رواه أبو داوود وغيره بإسناد صحيح من حديث ابن عباس ومعناه متفق عليه وروي عن عائشة وابن عمر وابن عباس ولم يعرف لهم مخالف في الصحابة وكالصوم.
وقيل: لا تصح فيهما ذكره في الرعاية فيخرج عنه كفارة يمين ويحتمل أن يطعم عنه لكل يوم مسكين ولو لم يوص به ولا يكون من ثلثه.(2/453)
وإن مات وعليه صلاة منذورة فعلى روايتين.
-------------------------------
وعلى الأول إن لم يمكنه فعله حتى مات فالخلاف كالصوم قيل يقضي وقيل لا.
"وإن مات وعليه صلاة منذورة فعلى روايتين" كذا في المحرر و المستوعب إحداهما: ونقلها الجماعة وصححها ابن المنجا وقدمها في الفروع أنها لا تفعل عنه لأنها عبادة بدنية محضة لا يخلفها مال ولا تجب بإفساده.
والثانية: نقلها حرب واختارها الأكثر وصححها القاضي وجزم بها في الوجيز أنها تفعل عنه كالصوم وعلى هذا تصح وصيته بها وحيث جاز فعل الصوم فلا كفارة مع فعله لظاهر النصوص وإلا أخرج عنه كفارة يمين لترك النذر
قال المجد إن كان قد فرط وإلا ففيها الروايتان فيمن نذر صوم شهر بعينه فلم يصمه لأن فوات أيام الحياة فيما إذا أطلق كفوات الوقت المعين إذا عين فلو نذر الطواف فقال في الفروع ظاهر كلامهم أنه كالصلاة وظاهره أن صلاة الفرض لا تفعل وذكره القاضي عياض إجماعا أنه لا يصلى عنه فائتة.(2/454)
باب صوم التطوع
وأفضله صيام داوود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما.
-------------------------------
باب صوم التطوع
وفيه فضل عظيم وفي الحديث الصحيح "كل من عمل ابن ادم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف فيقول الله تعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وهذه الإضافة للتشريف والتعظيم.
"وأفضله صيام داوود كان يصوم يوما ويفطر يوما" لأمره عليه السلام(2/454)
ويستحب صيام أيام البيض وصوم الاثنين والخميس ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر.
----------------------------
عبد الله بن عمرو قال "هو أفضل الصيام" قال فإني أطيق أفضل من ذلك فقال "لا أفضل من ذلك" متفق عليه وشرطه أن لا يضعف البدن حتى يعجز عما هو أفضل من القيام بحقوق الله تعالى وحقوق عباده اللازمة فإن أضعف عن شيء من ذلك كان تركه أفضل ولهذا أشار الصادق في حق داوود عليهما السلام "ولا يفر إذا لاقى" فمن حق النفس اللطف بها حتى توصل صاحبها إلى المنزل.
"ويستحب صيام" ثلاثة أيام من كل شهر بغير خلاف نعلمه والأفضل أن يجعلها "أيام البيض" نص عليه لما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له "إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" رواه الترمذي وحسنه سميت بيضا لابيضاض ليلها كله بالقمر وقيل لأن الله تعالى تاب على آدم وبيض فيها صحيفته وحكى الماوردي الثاني عشر بدل الخامس عشر.
وقيل: هي أول الشهر وعاشره و عشرونه ولم يتعرض أصحابنا باستحباب السود وهي الثامن والعشرون وتالياه وصرح الماوردي باستحبابه.
"وصوم الاثنين والخميس" نص عليه لما روى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "هما يومان تعرض الأعمال فيهما على رب العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم" رواه أحمد والنسائي وسميا به لأن الأول ثاني الأسبوع والآخر خامسه.
"ومن صام رمضان واتبعه بست من شوال" كذا في النسخ بغير تاء والمراد الأيام لأن العرب تغلب في التاريخ الليالي على الأيام كان "كصيام الدهر" كذا أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري مرفوعا من رواية سعد بن سعيد ضعفه أحمد وقواه آخرون.(2/455)
وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة
--------------------------
وقال ابن عيينة وإليه مال أحمد إنه موقوف ورواه أحمد من حديث جابر مرفوعا وكذا من حديث ثوبان وفيه "ستة أيام بعد الفطر" ولا شك أن الفضل حصل به بخلاف يوم الشك لا يقال لا دلالة في الخبر على فضيلتها لكونه شبه صيامها بصيام الدهر وهو مكروه لأنه إنما كره صومه لما فيه من الضعف والتشبه بالتبتل ولولا ذلك لكان من أعظم الطاعات لاستغراقه الزمن بالعبادة.
والمراد بالخبر التشبيه في حصول العبادة به على وجه لا مشقة فيه كما في أيام البيض وتحصل فضيلتها بالتتابع والتفرق عند أحمد وظاهر الخرقي وغيره استحباب تتابعهما وبعضهم استحبها عقب العيد واستحبها جماعة وهو أظهر قال في الفروع ولعله مراد أحمد والأصحاب لما فيه من المسارعة إلى الخير.
وروى الطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعا "من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة" وفي الفروع احتمال أن الفضيلة تحصل بصومها في غير شوال وذكره القرطبي قال لأن فضيلتها كون الحسنة بعشر أمثالها ويكون تقييده بشوال لسهولة الصوم فيه لاعتياده وفيه نظر.
وظاهره: أنه لا يستحب صيامها إلا لمن صام رمضان وقاله أحمد والأصحاب لكن ذكر في الفروع أن فضيلتها تحصل لمن صامها وقضاء رمضان وقد أفطر لعذر ولعله مراد الأصحاب وفيه شيء.
"وصيام يوم عاشوراء" بالمد في الأشهر وهو اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية قاله ابن دريد وهو اليوم العاشر من المحرم في قول أكثر العلماء ورواه الترمذي مرفوعا وصححه وقال ابن عباس هو التاسع.
"كفارة سنة" ماضية للخبر ويستحب معه صوم التاسع لما روى الخلال بإسناد جيد عن ابن عباس مرفوعا "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع(2/456)
ويوم عرفة كفارة سنتين ولا يستحب لمن كان بعرفة.
---------------------------
والعاشر" واحتج به أحمد وقال إن اشتبه عليه أول الشهر صام ثلاثة أيام ليتيقن صومهما. وظاهره: أنه لا يكره إفراد العاشر بالصوم وهو المذهب وقال الشيخ تقي الدين مقتضى كلام أحمد الكراهة وهي قول ابن عباس ولم يجب صومه في وقول أصحابنا وعنه وجب ثم نسخ اختاره الشيخ تقي الدين ومال إليه المؤلف وقاله الأصوليون.
فائد: ينبغي فيه التوسعة على العيال سأل ابن منصور أحمد عنه قال نعم رواه سفيان بن عيينة عن جعفر الأحمر عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر وكان من أفضل زمانه أنه بلغه أن من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته قال ابن عيينة قد جربنا منذ خمسين سنة أو ستين فما رأينا إلا خيرا.
"ويوم عرفة" وهو التاسع من ذي الحجة سمي به للوقوف بعرفة وتعارفهم فيها وقيل لأن جبريل عرف إبراهيم الحج وقيل للرؤيا التي رآها وقيل لتعارف آدم وحواء بها.
"كفارة سنتين" لما روى أبو قتادة مرفوعا قال "صيام عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" وقال في صيام عاشوراء "إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" رواه مسلم ولعل مضاعفة التكفير على عاشوراء لأن نبينا عليه السلام أعطيه.
والمراد به تكفير الصغائر حكاه في شرح مسلم عن العلماء فإن لم يكن له صغائر رجي التخفيف من الكبائر فإن لم يكن رفعت له درجات.
"ولا يستحب" صومه "لمن كان بعرفة" لما روت أم الفضل أنها أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه متفق عليه وأخبر ابن عمر(2/457)
ويستحب صوم عشر ذي الحجة
وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم ويكره إفراد رجب بالصوم.
-----------------------------
أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فلم يصمه أحد منهم ولأنه يضعف عن الدعاء فكان تركه أفضل.
وقيل: لأنهم أضياف الله وزواره وكرهه جماعة للنهي عنه في حديث أبي هريرة رواه أحمد وابن ماجه واختار الآجري أنه يستحب إلا أن يضعفه عن الدعاء وحكاه الخطابي عن إمامنا نحوه.
قال المجد: وهذا المتمتع والقارن إذا عدما الهدي وسيأتي.
"ويستحب صوم عشر ذي الحجة" لما روى ابن عباس مرفوعا قال "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه" لأيام العشرة قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء" رواه البخاري والمراد به تسعة وإطلاق العشر عليها تغليبا وآكده التاسع ثم الثامن ووهم بعضهم فعكس وظاهر المحرر أنهما سواء.
"وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم" رواه مسلم من حديث أبي هريرة وأضافه إلى الله تعالى تفخيما وتعظيما ك {نَاقَة اللَّه} ولم يكثر عليه السلام الصوم فيه إما لعذر أو لم يعلم فضله إلا أخيرا.
والمراد أفضل شهر تطوع به كاملا بعد رمضان شهر الله المحرم لأن بعض التطوع قد يكون أفضل من أيامه كعرفة وعشر ذي الحجة فالتطوع المطلق أفضله المحرم كما أن أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل وآكده عاشوراء ثم تاسوعاء ثم العشر الأول وهو أفضل الأشهر قاله الحسن ورجحه بعض الفقهاء.
"ويكره إفراد رجب بالصوم" لما روى ابن ماجه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيامه وفيه داوود بن عطاء وقد ضعفه أحمد وغيره ولأن فيه(2/458)
وإفراد يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الشك
------------------------------
إحياء لشعار الجاهلية بتعظيمه ولهذا صح عن عمر أنه كان يضرب فيه ويقول كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية فلو أفطر منه أو صام معه غيره زالت الكراهة
وظاهره: أنه لا يكره إفراد شهر غيره اتفاقا لأنه عليه السلام كان يصوم شعبان ورمضان والمراد أحيانا ولم يداوم كاملا على غير رمضان فدل أنه لا يستحب صوم رجب وشعبان في قول الأكثر واستحبه في الإرشاد.
"وإفراد يوم الجمعة" نص عليه لحديث أبي هريرة "لا تصوموا يوم الجمعة وإلا وقبله يوم وبعده يوم" متفق عليه ولمسلم "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"
قال الداوودي لم يبلغ مالكا الحديث ويحمل ما روي من صومه والترغيب فيه على صومه مع غيره فلا تعارض.
"ويوم السبت" ذكره أصحابنا لحديث عبد الله ابن بشر عن أخته الصماء "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" رواه أحمد حدثنا أبو عاصم حدثنا ثور عن خالد بن معدان عن عبد الله فذكره وإسناده جيد والحاكم وقال على شرط البخاري ولأنه يوم تعظمه اليهود ففي إفراده تشبه بهم.
واختار الشيخ تقي الدين وهو ظاهر كلام الآجري أنه لا يكره وهو قول أكثر العلماء وحملوا الحديث على الشذوذ أو أنه منسوخ.
"ويوم الشك" لقول عمار من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم رواه أبو داوود و الترمذي وصححه وهو للبخاري تعليقا وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم يكن في السماء علة ولم يتراء الناس الهلال
وقال القاضي و الأكثر أو شهد به من ردت شهادته قال أو كان في(2/459)
ويوم النيروز والمهرجان إلا أن يوافق عادة ولا يجوز صوم يومي العيدين عن فرض ولا تطوع
---------------------
السماء علة وقلنا لا يجب صومه وقيل يحرم صومه ولا يصح اختاره ابن البنا وأبو الخطاب والمجد وغيرهم للنهي وحكى الخطابي عن أحمد لا يكره حملا للنهي على صومه من رمضان ولا يكره مع عادة أوصلته بما قبل النصف وفاقا وبعده الخلاف السابق.
ولا عن واجب لجواز النفل المعتاد فيه همام كغيره وعنه يكره صومه قضاء جزم به جماعة فيتوجه طرده في كل واجب للشك في براءة الذمة.
"و"يكره "يوم النيروز والمهرجان" هما عيدان للكفار قال الزمخشري النيروز اليوم الرابع من شهر الربيع والمهرجان اليوم التاسع عشر من الخريف لما فيه من موافقة الكفار من تعظيمهما واختار المجد عدمها لأنهم لا يعظمونه بالصوم كالأحد وعلى الأول يكره صوم كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم ذكره الشيخان.
"إلا أن يوافق عادة" هو راجع إلى صوم يوم الجمعة لأن العادة لها أثر في ذلك لقوله عليه السلام "لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلا كان يصوم صوما فليصمه" متفق عليه.
مسألة: يكره الوصال وهو أن لا يفطر بين اليومين أو الأيام في قول أكثر العلماء إلا من النبي صلى الله عليه وسلم فمباح له ولا يكره إلى السحر نص عليه وتركه أولى.
"ولا يجوز صوم يومي العيدين" إجماعا للنهي المتفق عليه من حديث عمر وأبي هريرة "عن فرض ولا تطوع" لما ذكرنا لأنه ظاهر في التحريم وعنه يصح مع التحريم لأنه إنما نهى عنه لأنهم أضياف الله وقد دعاهم فالصوم ترك إجابة الداعي ومثله لا يمنع الصحة بخلاف النفل لأن الغرض به الثواب فنافته المعصية .(2/460)
وإن قصد صيامهما كان عاصيا ولم يجزئه عن فرض ولا يجوز صيام أيام التشريق تطوعا وفي وصومها عن فرض روايتان.
--------------------------
ولهذا لم يصح النفل في غصب وفي الواضح رواية يصح عن نذره المعين والأول أصح لما روى مسلم من حديث أبي سعيد "لا يصلح الصيام في يومين" .
"وإن قصد صيامهما كان عاصيا" لأنه تعمد فعل الحرام وظاهره أنه لا يعصي حيث فقد القصد لأنه لم يتعمد المخالفة فلم يوصف به "ولم يجزئه عن فرض" لأن النهي يقتضي الفساد وهو لا يجامع إلا الإجزاء وحكم التطوع كذلك.
"ولا يجوز صيام أيام التشريق تطوعا" لما روى مسلم عن نبيشة الهذلي مرفوعا "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله" ولأحمد النهي عن صومها من حديث أبي هريرة وسعد بإسنادين ضعيفين.
ومن صامها أو رخص فيه فلم يبلغه النهي قال المجد أو تأوله على إفرادها كيوم الشك. "وفي وصومها عن فرض روايتان" إحداهما لا يصح اختارها الخرقي وابن أبي موسى والقاضي وجزم بها في الوجيز للعموم.
والثانية: يصح قدمها في المحرر لقول ابن عمر وعائشة لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي رواه البخاري والباقي في معناه فيلحق به.
وأجاب القاضي: بأنه خاص مختلف فيه والأول عام متفق عليه فيقدم على المختلف فيه وعنه يجوز صومها عن دم المتعة خاصة ذكرها الترمذي وهو ظاهر كلام ابن عقيل والعمدة واختاره المجد.
تنبيه: لا يجوز ولا يصح نفل الصوم ممن عليه فرضه لما روى أحمد من(2/461)
ومن دخل في صوم أو صلاة تطوعا استحب له إتمامه ولم يجب وإن أفسده فلا قضاء عليه.
-----------------------------
رواية ابن لهيعة من حديث أبي هريرة "من صام تطوعا وعليه من رمضان شيء لم يصمه لم يتقبل منه حتى يصومه" ولأنه عبادة جاز تأخيرها تخفيفا فإذا لم يؤده لزمه الأصل وكالحج. وعنه: يجوز للعموم وكذا يخرج في التطوع بالصلاة ممن عليه القضاء اختار جماعة منهم الشيخان أنه لا يصح لوجوبها على الفور والمذهب أنه يبدأ بفرض الصوم قبل نذر لا يخاف فوته.
وعنه: بالنذر ويحمل على أنه كان معينا بوقت يخاف فوته فعلى الأول لا يكره قضاء رمضان في عشر ذي الحجة بل يستحب إذا لم يكن قضاه قبله وعلى الجواز يكره في رواية روي عن علي ولا يصح لينال فضيلتهما ولا يكره في أخرى روي عن عمر للآية وكعشر المحرم.
"ومن دخل في صوم أو صلاة تطوعا استحب له إتمامه" لأن به تكمل العبادة وذلك مطلوب "ولم يجب" لقول عائشة يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال "أرينيه فلقد أصبحت صائما" فأكل رواه مسلم والخمسة وزاد النسائي بإسناد جيد "إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها" ولقوله عليه السلام "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر" رواه أحمد وصححه من حديث أم هانيء وضعفه البخاري.
وغيره من التطوعات كهو وكالوضوء "وإن أفسده فلا قضاء عليه" لأن القضاء يتبع المقضي عنه فإذا لم يكن واجبا لم يكن قضاء واجبا بل يستحب
وقوله "تطوعا" يحترز به عما إذا دخل في واجب كقضاء رمضان والمكتوبة في أول وقتها وكنذر معين أو مطلق أو كفارة.
إن قلنا: يجوز تأخيرهما فإنه يحرم خروجه منه بلا عذر ولأن الخروج من(2/462)
-------------------------------
عهدة الواجب متعين ودخلت التوسعة في وقته رفقا ومظنة للحاجة فإذا شرع تعينت المصلحة في إتمامها
وعنه يجب إتمام الصوم فإن أفسده وجب القضاء ذكره ابن البنا والمؤلف في الكافي لقوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ولقوله عليه السلام لعائشة وحفصة وقد أفطرتا "لا عليكما صوما يوما مكانه" رواه أبو داوود وكالحج.
وأجيب بأنهم ضعفوه ثم هو للاستحباب لقوله "لا عليكما" وبأن نفل الحج كفرضه في الكفارة وتقرير المهر بالخلوة معه بخلاف الصوم.
ونقل حنبل إن أوجبه على نفسه فأفطر بلا عذر أعاد قال القاضي أي نذره وخالفه ابن عقيل وعلى المذهب لا يكره خروجه منه لعذر وإلا كره في الأصح.
وهل يفطر لضيفه يتوجه كصائم دعي.
وعنه: تلزم الصلاة بخلاف الصوم ومال إليه أبو إسحاق الجوزجاني لأنها ذات إحرام وإحلال كالحج وإذا شرع فيها قائما لم يلزمه إتمامها قائما بغير خلاف في المذهب واقتصر المؤلف على ذكرهما كأكثر الأصحاب.
وقيل الاعتكاف كالصوم على الخلاف يعني إذا دخل فيه وقد نواه مدة لزمته ويقضيها ذكره ابن عبد البر إجماعا لا بالنية وإن لم يدخل خلافا لبعض العلماء.
وفي الكافي سائر التطوعات من الصلاة والاعتكاف وغيرهما كالصوم وذكر القاضي أن الطواف كالصلاة إلا ما خصه الدليل قال عبد الرزاق رأيت سفيان إذا كثر عليه أصحاب الحديث تركهم ودخل في الطواف فطاف شوطا أو شوطين ثم يخرج ويدعهم علم منه أنه لا يلزم الصدقة والقراءة والأذكار بالشروع وفاقا وأما الحج والعمرة فيلزم إتمامهما ,(2/463)
وتطلب ليلة القدر
------------------------------
لانعقاد الإحرام لازما فإن أفسدهما أو فسدا لزمه القضاء
وعنه لا يلزم القضاء حكاها في الهداية والانتصار وقال المجد لا أحسبها إلا سهوا.
فرع: إذا قطع الصوم ونحوه فهل انعقد الجزء المؤدى وحصل به قربة أم لا وعلى الأول هل يبطل حكما أو لا يبطل اختلف كلام أبي الخطاب وقطع جماعة ببطلانه وعدم الصحة وفي كلام الشيخ تقي الدين أن الإبطال في الآية هو بطلان الثواب قال ولا نسلم بطلان جميعه بل قد يثاب على ما فعله فلا يكون مبطلا لعمله.
"وتطلب ليلة القدر" لشرفها وعظمها وبركتها وسورتها مكية نقله الماوردي عن الأكثرين وقيل مدنية نقله الثعالبي عن الأكثرين وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة.
قال المفسرون في قوله تعالى {خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي قيامها والعمل فيها خير من العمل في ألف شهر خالية منها.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" زاد أحمد "وما تأخر" وسميت به لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة لقوله تعالى {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وما روى عن عكرمة أنها ليلة النصف من شعبان ضعيف وقال ابن عباس يقضي الله الأقضية ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر وقيل سميت به لعظم قدرها عند الله وقيل لضيق الأرض عن الملائكة التي تنزل فيها.
وقيل لأن للطاعات فيها قدرا عظيما وهي أفضل الليالي ذكرها الخطابي إجماعا وذكر ابن عقيل رواية أن ليلة الجمعة أفضل لأنها تكرر وبأنها تابعة لما هو أفضل واختاره جماعة وقال الحسن التميمي ليلة القدر التي أنزل فيها(2/464)
في العشر الأخير من رمضان وليالي الوتر آكدها وأرجاها ليلة سبع وعشرين
------------------------------------
القران أفضل من ليلة الجمعة فأما أمثالها من ليالي القدر فليلة الجمعة أفضل
وظاهره: أنها باقية وأنها لم ترفع للأخبار في طلبها وقيامها خلافا لبعضهم في رفعها.
"في العشر الأخير من رمضان" عند أحمد وأكثر العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" متفق عليه من حديث عائشة وفي المغني والكافي تطلب في جميع رمضان.
وقال ابن مسعود هي في كل السنة.
"وليالي الوتر آكدها" لقوله عليه الصلاة السلام "اطلبوها في العشر الأواخر في ثلاث بقين أو سبع بقين أو تسع بقين" .
وروى سالم عن أبيه مرفوعا "أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها" متفق عليه واختار المجد كل العشر سواء وللعلماء فيها أقوال كثيرة والمذهب أنها لا تختص بل ليالي الوتر أبلغ من ليالي الشفع. وقال الشيخ تقي الدين الوتر يكون باعتبار الماضي فتطلب ليلة القدر ليلة إحدى وثلاث إلى أخره ويكون باعتبار الباقي فإذا كان تاما كان ذلك ليالي الإشفاع فليلة الثانية تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى وإن كان ناقصا كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي.
"وأرجأها ليلة سبع وعشرين" نص عليه وهو قول أبي بن كعب وكان يحلف على ذلك ولا يستثني وابن عباس وزر بن حبيش.
قال أبي بن كعب والله لقد علم ابن مسعود أنها في رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا رواه الترمذي وصححه.(2/465)
ويدعو فيها بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله إن وافقتها فبم أدعو قال "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"
----------------------------------
وعن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين" رواه أبو داود ويرجحه قول ابن عباس سورة القدر ثلاثون كلمة السابعة والعشرون منها هي.
وقد استنبط بعض المتأخرين بأن الله تعالى كرر ليلة القدر في سورتها ثلاث مرات وحروفها تسع والناشيء من ضرب أحدهما في الآخر سبع وعشرون.
وحكي عن مالك والشافعي وأحمد أنها تنتقل في العشر الأخير وظاهر ما نقله حنبل أنها ليلة متعينة فعلى هذا لو قال أنت طالق ليلة القدر قبل مضي ليلة العشر وقع في الليلة الأخيرة ومع مضي ليلة منه تقع في السنة الثانية ليلة قوله فيها.
وحكم العتق واليمين كالطلاق ذكره المجد تخريجا.
ومن نذر قيام ليلة القدر قام العشر ونذره في أثنائه كطلاق ذكره القاضي.
فائد: الحكمة في إخفائها ليجتهدوا في طلبها ويجدوا في العبادة طمعا في إدراكها كما أخفى ساعة الإجابة يوم الجمعة واسمه الأعظم من أسمائه ورضاه في الحسنات إلى غير ذلك "ويدعو فيها" فإن الدعاء مستجاب فيها قاله في المستوعب وغيره "بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله إن وافقتها فيم أدعو قال "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" رواه أحمد وابن ماجه وللترمذي معناه وصححه.
ومعنى العفو الترك ويكون بمعنى الستر والتغطية فمعنى اللهم إنك عفو(2/466)
--------------------------------
تحب العفو فاعف عني أي اترك مؤاخذتي بجرمي واستر على ذنبي وأذهب عني عذابك واصرف عني عقابك.
وللنسائي من حديث أبي هريرة مرفوعا "سلوا الله العفو والعافية والمعافاة فما أوتي أحد بعد يقين خيرا من معافاة" فالشر الماضي يزول بالعفو والحاضر بالعافية والمستقبل بالمعافاة لتضمنها دوام العافية.
تم بحمد الله تعالى الجزء الثاني من المبدع ويليه الجزء الثالث.
وأوله
كتاب الاعتكاف(2/467)
المجلد الثالث
كتاب الاعتكاف
كتاب الإعتكاف
...
كتاب الاعتكاف
هو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى وهو سنة إلا أن ينذره فيجب
-----------------------------------
كتاب الاعتكاف
"هو" لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه خيرا كان أو شرا ومنه قوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] يقال عكف يعكف بضم الكاف وكسرها وقرئ يهما.
وشرعا: لزوم المسجد لطاعة الله تعالى على صفة مخصوصة من مسلم عاقل ولو مميزا طاهر مما يوجب غسلا ولو ساعة فلا يصح من كافر ومجنون وطفل كالصلاة بغير خلاف نعلمه.
ولا يبطل بالإغماء جزم به في "الرعاية" ولا شك أنه قربة وطاعة لقوله تعالى :{طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: 125] ولما روى ابن عباس مرفوعا قال في المعتكف: "وهو يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها" رواه ابن ماجه وفيه فرقد السبخي قال أبو داود سألت أحمد تعرف في فضل الاعتكاف شيئا قال: لا إلا أن شيئا ضعيفا
"وهو سنة" كل وقت إجماعا لمداومته عليه السلام فعله وإنما لم يجب لأنه لم يأمر به أصحابه بل في الصحيحين: "من أحب أن يعتكف فليعتكف" وآكده في رمضان والعشر الأخيرة آكد لطلب ليلة القدر إلا أن ينذره فيجب الوفاء به إجماعا لقوله عليه السلام "من نذر أن يطيع الله فليطعه" رواه البخاري ولمسلم من حديث ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: "فأوف بنذرك" وللبخاري "فاعتكف ليلة" وظاهر الأمر للوجوب.
فإن علقه بشرط فله شرط نحو لله علي أن أعتكف شهر رمضان إن(3/5)
ويصح بغير صوم وعنه لا يصح فعلى هذا لا يصح في ليلة مفردة ولا في بعض يوم.
ـــــــ
كنت مقيما أو معافي فصادفه مريضا أو مسافرا فلا شيء عليه.
وهل يلزم بالشروع أو بالنية؟ وقاله مالك مع الدخول فيه فإن قطعه فعليه قضاؤه وقال ابن عبد البر لا يختلف في ذلك الفقهاء ورده في "المغني" و"الشرح" بأنه لا يعرف هذا القول عن أحد سواه ولم يقع الإجماع على لزوم نافلة بالشروع فيها سوى الحج والعمرة.
ولا يصح إلا بالنية ويجب تعيين المندوب بالنية ليتميز فإن نوى الخروج منه فقيل يبطل لأنه يخرج منه بالفساد وقيل لا لتعلقه بمكان كالحج.
ويصح بغير صوم في ظاهر المذهب لحديث عمر ولأنه عبادة تصح في الليل فلم يشترط له الصوم كالصلاة
فعلى هذا فله ما يسمى به معتكفا لابثا فظاهره ولو للحظة وجزم جماعة بأن أقله ساعة ولا يكفي عبوره ويصح الاعتكاف في أيام النهي التي لا يصح صومها ولو صام ثم أفطر عمدا لم يبطل اعتكافه
وعنه لا يصح بغير صوم في قول ابن عمر وابن عباس لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا اعتكاف إلا بصوم" ولأنه لبث في مسجد فلم يكن بمجرده قربه كالوقوف بعرفة.
وأجيب عنه: بأنه موقوف عليها ومن رفعه فقد وهم ثم لو صح فيحمل على نفي الكمال جمعا بين الأدلة ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه نص ولا إجماع وقياسهم يرد عليهم بأنه لبث في مكان مخصوص فلم يشترط له الصوم كالوقوف.
"فعلى هذا لا يصح في ليلة مفردة ولا في بعض يوم" لعدم وجود الصوم المشترط وظاهره لا فرق بين أن يصوم اليوم الذي اعتكف بعضه أم لا.
وقطع المجد وغيره بصحته لوجود اللبث بشرطه وأطلق في "منتهى الغاية"(3/6)
ولا يجوز الاعتكاف من المرأة بغير إذن زوجها، ولا من العبد بغير إذن سيده، فإن شرعا فيه بغير إذن فلهما تحليلهما.
ـــــــ
و "الفروع" الخلاف والمذهب البطلان نظرا إلى أن الصوم لم يقصد له ولا يصح في أيام النهي التي لا يصح صومها واعتكافها نذرا أو نفلا كصومها نذرا أو نفلا.
فإذا كان الاعتكاف متتابعا فأتى في أثنائه يوم عيد فإن قلنا بجواز اعتكافه فالأولى أن يثبت مكانه ويجوز خروجه إلى العيد ولا يفسد اعتكافه وإن قلنا لا يجوز خرج إلى المصلى إن شاء وإلى أهله وعليه حرمة العكوف ثم يعود قبل غروب الشمس في يومه لتمام أيامه قاله المجد.
تنبيه: لا يشترط أن يصوم للاعتكاف ما لم ينذر له الصوم لظاهر الآية والخبر وكما يصح أن يعتكف في رمضان تطوعا أو ينذر عنه به وإذا قال لله علي أن أعتكف صائما أو بصوم لزماه معا فلو فرقهما أو اعتكف وصام فرض رمضان و نحوه لم يجزئه لأن الصوم صفة مقصودة فيه كالتتابع.
وقيل يلزمه الجميع لا الجمع فله فعل كل منهما منفردا وإن نذر أن يصوم معتكفا فالخلاف كما لو نذر أن يعتكف مصليا ولا يلزمه أن يصلي جميع الزمان وإن نذر أن يصلي صلاة ويقرأ فيها سورة بعينها لزمه الجمع فلو قرأها خارج الصلاة لم يجزئه ذكره في "الانتصار".
"ولا يجوز الاعتكاف من المرأة بغير إذن زوجها" وفاقا "ولا من العبد بغير إذن سيده" لتفويت منافعها المملوكة لغيرهما "فإن شرعا فيه بغير إذن" وإن كان فرضا قاله في "الشرح" وغيره "فلهما تحليلهما" لحديث أبي هريرة: "لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوما من غير رمضان إلا بإذنه" رواه الخمسة وحسنه الترمذي ولأنه شروع غير جائز متضمن لفوات حقهما فملكا تحليلهما منه ليعود حقهما إلي ما كان.
وخرج في "منتهى الغاية" لا يمنعان من المنذور كرواية في المرأة في صوم(3/7)
وإن كان بإذن فلهما تحليلهما، إن كان تطوعا، وإلا فلا، وللمكاتب أن يعتكف ويحج بغير إذن.
ـــــــ
وحج منذورين وفي ثالث منعهما وتحليلهما من نذر مطلق فقط لأنه على التراخي كوجه لأصحابنا في صوم وحج منذورين وفي رابع منعهما وتحليلهما إلا من منذور معين قبل النكاح والملك كوجه لأصحابنا في سقوط نفقتها.
قال في الفروع ويتوجه إن لزم بالشروع فيه كالمنذور فعلى الأول إن لم يحللاها صح وأجزأ وجزم في المستوعب واختاره ابن البنا يقع باطلا كصلاة في مغصوب ونص عليه في العبد.
"وإن كان بإذن فلهما تحليلهما إن كان تطوعا" لأنه عليه السلام أذن لعائشة وحفصة وزينب ثم منعهن بعد أن دخلن فيه ولأن حقهما واجب والتطوع لا يلزم بالشروع ولهما المنع ابتداء فكذا دواما كالعارية بخلاف الحج " وإلا فلا" أي إذا كان منذورا لم يكن لهما تحليلهما منه لأنه يتعين بالشروع فيه ويجب إتمامه كالحج.
وظاهره لا فرق أن يكون متعينا أو مطلقا واختار المجد في النذر المطلق الذي يجوز تفريقه كنذر عشرة أيام متفرقة أو متتابعة إذا اختار فعله متتابعا وأذن لهما في ذلك يجوز تحليلهما منه عند منتهى كل يوم لجواز الخروج منه كالتطوع وظاهر كلامهم المنع كغيره
فرع: الإذن في عقد النذر إذن في فعله إن نذر زمنا معينا بالإذن وإلا فلا لأن زمن الشروع لم يقتضه الإذن السابق وقدم المؤلف منع تحليلهما أيضا كالإذن في الشروع.
"وللمكاتب أن يعتكف ويحج بغير إذن" نص عليه لأن السيد لا يستحق منافعه ولا يملك إجباره على الكسب فهو مالك لمنافعه كحر مدين بخلاف أم الولد والمدبر وظاهره لا فرق فيه بين الواجب وغيره وسواء حل نجم أو لا وقال جماعة ما لم يحل نجم ونقل الميموني له الحج من المال الذي جمعه ما لم يأت نجمه وحمله القاضي وغيره على إذنه له ومقتضاه أنه لا يجوز بإذنه(3/8)
ومن بعضه حر إن كان بينهما مهايأة، فله أن يعتكف ويحج في نوبته وإلا فلا. ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه، إلا المرأة ؛ لها الاعتكاف في كل مسجد إلا مسجد بيتها.
ـــــــ
نص عليه والمراد ما لم يحل نجم وعنه المنع مطلقا.
"ومن بعضه حر إن كان بينهما مهايأة" وهو أن يتفق هو ومالك بعضه أن يكون له مدة ولمالك بعضه أخرى "فله أن يعتكف ويحج في نوبته" لأن مملوكة لسيده بل هي كالحر "وإلا فلا" أي لسيده منعه إذا لم يكن بينهما مهايأة لأن له ملكا في منافعه في جميع الأوقات فتجويزه يتضمن إبطال حق غيره وليس بجائز.
"ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد" لا نعلم فيه خلافا لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فلو صح في غيرها لم يختص بتحريم المباشرة إذ في الاعتكاف مطلقا ولأنه كان عليه السلام يدخل رأسه إلى عائشة وهو معتكف فترجله متفق عليه وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة.
"يجمع فيه" أي تقام فيه صلاة الجماعة ولو من معتكفين حذارا إما من ترك الجماعة الواجبة أو تكرر الخروج المنافي له مع إمكان التحرز منه فإذا قيل بأنها سنة فلا ويستثنى منه المعذور والصبي ومن هو في قرية لا يصلي فيها غيره ومن اعتكافه في مدة غير وقت الصلاة ويحتمل أن لا يسقط عن المعذور لأنه من أهل الجماعة وقد التزمه.
"إلا المرأة لها الاعتكاف في كل مسجد" للآية والجماعة لا تلزمها وفي الانتصار في مسجد تقام فيه الجماعة وهي ظاهر رواية ابن منصور والخرقي لما روى حرب بإسناد جيد عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد بيتها فقال بدعة وأبغض الأعمال إلى الله البدع فلا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة
"إلا مسجد بيتها" وهو ما اتخذته لصلاتها ولو جاز لفعلته أمهات المؤمنين ولو(3/9)
والأفضل الاعتكاف في الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله، ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد، فله فعله في غيره.
ـــــــ
مرة تبيينا للجواز وهذا ليس بمسجد حقيقة ولا حكما وظاهر "المحرر" صحته فيه قال وإنما كره في مسجد الجماعة حيث لم يحتفظ بخباء نقل أبو داود يعتكفن في المساجد ويضربن لهن فيها الخيم. قلت ولا بأس أن يستتر الرجل كهي ذكره في "المغني" و"الشرح" لأنه أخفي لعمله ونقل ابن إبراهيم لا إلا لبرد شديد.
مسألة: رحبة المسجد ليست منه في رواية وهي ظاهر "الخرقي" وعنه بلى جزم به جماعة منهم القاضي كظهره وجمع بينهما في موضع فقال إن كان عليها حائط وباب فهي منه وإلا فلا ومنارته إن كانت فيه أو بابها فيه فهي منه بدليل منع الجنب وإن كانت خارجة عنه قال بعضهم وهي قريبة فخرج للأذان بطل اعتكافه واختار ابن البنا والمجد خلافه.
"والأفضل الاعتكاف في الجامع إذا كانت الجمعة تتخلله" لئلا يحتاج إلى الخروج إليها فيترك الاعتكاف ومع إمكان التحرز منه ولا يلزم ذلك وقاله أكثر العلماء ولأنه خرج لما لا بد منه فكأنه استثنى الجمعة بلفظه ولا يتكرر بخلاف الجماعة وفي "الانتصار" وجه يلزم فإن اعتكف في غيره بطل بخروجه إليها لأنه أمكنه التحرز منه لكن إن عين بنذره المسجد الجامع تعين موضع الجمعة فلو اعتكف فيما تقام فيه الجمعة فقط لم يصح إن وجبت الجماعة وظاهره أن الجمعة إذا لم يتخلل اعتكافه لم يكن الجامع أفضل من غيره لأنه لا يحتاج إلى الخروج ولو اعتكف من لا تلزمه الجمعة في مسجد لا يصلى فيه بطل خروجه إليها إلا أن يشترطه كعيادة المريض.
"ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعله في غيره" لأن الله تعالى لم يعين لعبادته موضعا فلم يتعين بالنذر ويبطل ببقاع الحج وفيه نظر ولو تعين احتاج إلى شد رحل ذكره الأصحاب ولعل مرادهم إلا مسجد قباء.(3/10)
إلا المساجد الثلاثة. وأفضلها المسجد الحرام، ثم مسجد المدينة.
ـــــــ
لأنه عليه السلام كان يأتيه كل سبت راكبا أو ماشيا ويصلي فيه ركعتين وكان ابن عمر يفعله متفق عليه .
فإن لم يحتج إلى شد رحال فظاهر "الانتصار" و"المغني" و"الشرح" يلزم وذكر أبو الحسين احتمالا في تعيين المسجد العتيق للصلاة لأنه أفضل.
قال المجد ونذر الاعتكاف مثله فعلى المذهب يعتكف في غير المسجد الذي عينه وظاهره لا كفارة وجزم به في "الشرح" وظاهر كلام جماعة يصلي في غير مسجد وإن أراد الذهاب إلى ما عينه واحتاج إلى شد رحل فجزم بعضهم بإباحته واختاره المؤلف في القصر ومنع منه ابن عقيل والشيخ تقي الدين وخيره القاضي وغيره وأما ما لم يحتج إلى شد رحل فالمذهب يخير وفي "الواضح" الأفضل الوفاء قال في "الفروع" وهذا أظهر.
"إلا المساجد الثلاثة" فإنها تتعين لفضل العبادة فيها على غيرها لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي" هذا متفق عليه. ولمسلم في رواية: "إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد". "وأفضل ها المسجد الحرام" لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه" رواه ابن ماجه من رواية أبي الخطاب الدمشقي وهو مجهول وفي رواية لأحمد: "وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي بمائة صلاة".
"ثم مسجد المدينة" لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" متفق عليه وقال عمر بن الخطاب وجمع المدينة أفضل فدل أن مسجدها أفضل وقال في رواية ابن أشهب إن معنى الحديث أن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من سائر المساجد بألف صلاة إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجد الرسول أفضل من الصلاة فيه بدون الألف وجوابه رواية أحمد(3/11)
ثم الأقصى، فإذا نذره في الأفضل، لم يجزئه في غيره. وإن نذره في غيره، فله فعله فيه وإن نذر اعتكاف شهر بعينه، لزمه الشروع فيه قبل دخول ليلته.
ـــــــ
السابقة ويستثنى منه موضع قبره عليه الصلاة والسلام فإنه أفضل بقاع الأرض "ثم الأقصى" لما روى أبو الدرداء مرفوعا قال: "صلاة في المسجد الأقصى بخمسمئة صلاة". وفي حديث أبي المهاجر نحوه.
"فإذا نذره في الأفضل" كالمسجد الحرام "لم يجزئه" في "غيره" لأنه أفضل ها احتج به الإمام والأصحاب "وإن نذره في غيره، فله فعله فيه" أي إذا نذره في مسجد الرسول أو الأقصى فله فعله في المسجد الحرام ل أفضل يته وإن نذره في مسجد الرسول لم يجزئه غيره إلا المسجد الحرام وإذا عين الأقصى أجزأه المسجدان فقط نص عليه ل أفضل يتهما عليه ويستثنى منه ما إذا نذر الاعتكاف في هذه المساجد فدخل فيه ثم انهدم معتكفه والعياذ بالله تعالى ولم يمكنه المقام فيه أتمه في غيره لزوما ولم يبطل اعتكافه ذكره في "الشرح".
"وإن نذر اعتكاف شهر بعينه" تعين عليه و"لزمه الشروع فيه قبل دخول ليلته" أي قبل غروب الشمس نص عليه إذ الشهر يدخل بدخول الليلة بدليل ترتب الأحكام المعلقة به من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق المعلقين به وما لا يتم الواجب إلا به واجب.
وعنه يدخل قبل فجرها الثاني روي عن الليث واستدل له بقول عائشة كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه متفق عليه ولأن الصوم شرط فيه فلم يجب ابتداؤه قبل شرطه وليس بظاهر لأنه عليه السلام لم يدخل إلا بعد الصبح وهم يوجبون الدخول قبل ذلك مع أن اعتكافه كان تطوعا والتطوع متى شاء شرع على أن ابن عبد البر قال لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بهذا الحديث وفيه نظر لأنه قول الأوزاعي والليث وإسحاق ورواية عن أحمد فيما إذا أراد أن يعتكف العشر الأخير تطوعا فإنه يدخل بعد(3/12)
إلى انقضائه. وإن نذر شهرا مطلقا، لزمه شهر متتابع. وإن نذر أياما معدودة، فله تفريقها، إلا عند القاضي.
ـــــــ
صلاة الفجر أول يوم منه وحمل على الجواز وقال القاضي يحتمل أنه كان يفعل يوم العشرين ليستظهر ببياض يوم زيادة.
والمنصوص أنه يدخل قبل ليلته الأولى إلى "انقضائه" لدخوله في مسمى نذره وفيه إشارة أنه لا يلزمه سوى الشهر وإن كان ناقصا لأن ذلك مقتضى نذره لكن إذا اعتكف رمضان أو العشر الأخير استحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه ويخرج منه إلى المصلى نص عليه ليصل طاعة بطاعة.
"وإن نذر شهرا مطلقا لزمه شهر متتابع" نص عليه وذكره القاضي وجها واحدا لأنه معنى يصح ليلا ونهارا فإذا أطلقه لزمه التتابع وكقوله لا كلمت زيدا شهرا وكمدة العدة والإيلاء وصرح به في الكفارة تأكيدا وعنه لا اختارها الآجري وصححها ابن شهاب وغيره لصحة إطلاقه على ذلك ولهذا لا يصح تقييده بالتتابع بخلاف اليمين ويدخل معتكفه قبل الغروب من أول ليلة منه على الأصح ولا يخرج إلا بعد غروب الشمس آخر أيامه ويكفيه شهر هلالي ناقص بلياليه أو ثلاثين يوما بلياليهن وثلاثين ليلة فإن ابتدأه في أثناء النهار تممه إلى مثل تلك الساعة في اليوم الحادي والثلاثين وكذلك إن ابتدأه في أثناء الليل تممه إلى ما ذكرنا إن لم يعتبر الصوم وإن اعتبر فثلاثين ليلة صحاحا بأيامها الكاملة.
"ومن نذر أياما معدودة" كقوله لله علي أن أعتكف عشرين يوما "فله تفريقها" ولم يلزمه التتابع إلا أن ينويه لأن الأيام المطلقة تؤخذ بدون التتابع فلم يلزمه كنذر صومها واحتجاج ابن عباس في قضاء رمضان ب الآية يدل عليه "إلا عند القاضي" فيلزمه التتابع كلفظ الشهر فعلى هذا تلزمه الليالي الداخلة في الأيام المنذورة وعلى الأول لا إلا أن ينوي التتابع أو يشرطه وقيل يلزمه إلا في ثلاثين يوما للقرينة لأن العبادة فيه لفظ الشهر وهو ظاهر.(3/13)
وإن نذر أياما أو ليالي متتابعة، لزمه ما يتخللها من ليل أو نهار.
فصل:
ولا يجوز للمعتكف الخروج إلا لما لا بد منه كحاجة الإنسان,
ـــــــ
"وإن نذر أياما أو ليالي متتابعة" بشرطه أو نيته "لزمه ما يتخللها من ليل" إذا نذر الأيام "أو نهار" إذا نذر الليالي نص عليه لأن اليوم اسم لبياض النهار. والليلة اسم لسواد الليل والتثنية والجمع تكرار الواحد وإنما يدخل ما تخلله للزوم التتابع ضمنا وخرج ابن عقيل لا يلزمه واختاره أبو حكيم لعدم تناول اللفظ له وفي ثالث لا يلزمه الليل فإن نذر اعتكاف يومين لزمه يومان وليلة بينهما.
تنبيه إذا نذر اعتكاف يوم معينا أو مطلقا دخل معتكفه قبل فجره الثاني وخرج بعد غروب شمسه لأنه اسم لليوم ولا تلزمه الليلة التي قبله لأنها ليست من اليوم وإذا نذر ليلة لزمته فقط فيدخل قبل الغروب ويخرج بعد فجرها الثاني وإن اعتبرنا الصوم لم يلزمه شيء وإذا نذر اعتكاف يوم لم يجز تفريقه بساعات من أيام لأنه يفهم منه التتابع أشبه ما لو قيده به وإذا قال في وسط النهار لله علي أن أعتكف يوما من وقتي تعين منه إلى مثله وفي دخول الليل الخلاف وإذا نذر شهرا متفرقا فله تتابعه قال المجد لأنه أفضل كاعتكافه في المسجد الحرام إذا نذر غيره وإذا نذر اعتكاف يوم يقدم زيد فقدم ليلا لم يلزمه شيء وإن قدم في بعض النهار لزمه اعتكاف الباقي ولم يلزمه قضاء ما مضى منه.
فصل
"ولا يجوز للمعتكف الخروج" فيما إذا عين مدة أو شرط التتابع في عدد "إلا لما لا بد منه" لما روت عائشة أنها قالت السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لا بد منه رواه أبو داود "كحاجة الإنسان" كالبول والغائط إجماعا وسنده قول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان متفق عليه.(3/14)
والطهارة والجمعة
ـــــــ
ولو بطل بالخروج إليهما لم يصح لأحد اعتكاف وكنى بها عنهما لأن كل إنسان يحتاج إلى فعلهما ويلحق بهما قيء بغتة وغسل متنجس يحتاجه وله المشي على عادته وقصد منزله إن لم يجد مكانا يليق به من غير ضرر عليه فيه ولا منه كسقاية لا يحتشم مثله منها ولا نقص عليه قالوا ولا مخالفة لعادته وفيه نظر قاله في الفروع ويلزمه قصد أقرب منزليه لدفع حاجته وإن بذل له صديقه أو غيره منزله القريب لقضاء حاجته لم يلزمه للمشقة بترك المروءة والاحتشام فلو بال في المسجد حرم لقوله عليه السلام "إن المساجد لم تبن لهذا" وفيه احتمال لفعل أبي وائل ويحتمل أن يجوز لكبر ومرض وكذا يخرج لفصد وحجامة وفيهما احتمال يجوز في إناء كالمستحاضه والفرق أن لا يمكنها التحرز إلا بترك الاعتكاف وقيل الجواز لضرورة فإن بال خارجا وجسده فيه لا ذكر كره وعنه يحرم.
تنبيه الحاجة إلى المأكول والمشروب إذا لم يكن له من يأتيه به في معنى ما سبق نص عليه ولا يجوز خروجه لهما في بيته في ظاهر كلامه واختاره الشيخان لعدم الحاجة لإباحته ولا نقص فيه وذكر القاضي أنه يتوجه الجواز واختاره أبو حكيم لما فيه ترك المروءة ويستحيي أن يأكل وحده ويريد أن يخفي جنس قوته وجوز ابن حامد اليسير كلقمة ولقمتين لا كل أكله وله غسل يده في إناء من وسخ وزفر ونحوهما.
والطهارة كغسل جنابة ووضوء لحدث نص عليه وقدما على الاعتكاف لأن الجنب يحرم عليه اللبث فيه والمحدث لا تصح صلاته بدون وضوء فإن قلنا لا يكره وضوؤه فيه فعله بلا ضرر وكذا غسل كم إن وجب وإلا لم يجز كتجديد الوضوء
"والجمعة" لأنه خروج لواجب فلم يبطل اعتكافه كالمعتدة وله التبكير إليها نص عليه وفي "منتهى الغاية" احتمال فهو أفضل وهو ظاهر كلام أبي(3/15)
والنفير المتعين والشهادة الواجبة والخوف من فتنة أو مرض والحيض والنفاس.
ـــــــ
الخطاب وله إطالة المقام بعدها ولا يكره لصلاحية الموضع له ويستحب عكسه في ظاهر كلام أحمد ونقل أبو داود التبكير أرجو وأنه يرجع بعدها عادته ولا يلزمه سلوك الطريق الأقرب وظاهر ما سبق كقضاء الحاجة قال بعض أصحابنا الأفضل خروجه لذلك وعوده في أقصر طريق لاسيما في النذور والأفضل سلوك الأبعد إن خرج لجمعة وعيادة وغيرها.
"والنفير المتعين" لأنه واجب كالجمعة وكذا إن تعين خروجه لإطفاء حريق أو إنقاذ غريق ونحوه
"والشهادة الواجبة" لظاهر الآيات وظاهره ولو لم يتعين عليه التحمل واختار بن حمدان إن تعين عليه تحملها وأداؤها خرج لها وإلا فلا وإذا لم يتعين عليه أداؤها لم يجز الخروج.
"والخوف" على نفسه أو حرمته أو ماله "من فتنة" لأنه عذر من ترك الواجب بأصل الشرع كالجمعة فها هنا أولى
"أو مرض" يتعذر معه المقام فيه كالقيام المتدارك أو لا يمكنه إلا بمشقة شديدة بأن يحتاج إلى خدمة وفراش وإن كان خفيفا كالصداع ووجع الضرس لم يجز إلا أن يباح به الفطر فيفطر فإنه يخرج إن قيل باشتراط الصوم وإلا فلا
"والحيض والنفاس" لأن اللبث معهما في المسجد حرام فإن لم يكن له رحبة رجعت إلى بيتها فإذا طهرت عادت إلى المسجد وإن كان له رحبة يمكنها ضرب خباء فيها بلا ضرر فعلت ذلك استحبابا في قول الأكثر فيشترط الأمن على نفسها ولهذا قيل مع سلامة الزمان فإذا طهرت دخلته فأتت بما بقي منه واختار ابن حمدان يسن جلوسها في الرحبة غير المحوطة وإن خافت تلويثه فأين شاءت(3/16)
وعدة الوفاة ونحوه، ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه، فيجوز.
ـــــــ
وعدة الوفاة في منزلها لوجوبها شرعا كالجمعة وهو حق لله ولآدمي لا يستدرك إذا ترك بخلاف الاعتكاف ولا يبطل به.
"ونحوه" كما إذا تعينت عليه صلاة جنازة خارجة ودفن ميت ونحوه وكذا لو أكرهه سلطان أو غيره على الخروج فهو باق على اعتكافه كمن خاف من سلطان أن يأخذه ظلما وإن أخرجه لاستيفاء حق عليه فإن أمكنه الخروج منه بلا عذر بطل وإلا فلا لأنه خروج لواجب وإن خرج ناسيا لم يبطل كالصوم وفي "الخلاف" و"الفصول" تبطل لمنافاته الاعتكاف كالجماع.
فرع: إذا زال العذر رجع وقت إمكانه فإن أخره بطل ما مضى ولا يبطل بخروجه تحت سقف خلافا لقوم
"ولا يعود مريضا ولا يشهد جنازة"، نص عليه واختاره الأصحاب لقول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرج للسؤال عن المريض رواه أبو داود وفي معناهما كل قربة لا تتعين كتحمل الشهادة وأدائها ولأنه خروج منه بد فلم يجز ترك فريضة لفضيلة.
"إلا أن يشترطه فيجوز" نص عليه وهو قول جماعه من الصحابة ومن بعدهم ولأن الاشتراط يصيره كالمستثني وذكر الترمذي وابن المنذر عن أحمد المنع لما سبق ولا فرق في الاشتراط بين ما كان قربة كزيارة أهله وعالم وبين ما كان مباحا ويحتاجه كالعشاء في بيته والمبيت فيه جزم به في "المغني" و"الشرح" وهو رواية لأنه يجب بعقده كالوقف ولتأكد الحاجة إليهما وامتناع النيابة فيهما.
وعنه المنع جزم به القاضي وابن عقيل واختاره المجد لمنافاته الاعتكاف بخلاف القربة فإن شرط الخروج للبيع والشراء والتكسب بالصنعة لم يجز.(3/17)
وعنه: له ذلك من غير شرط، وله السؤال عن المريض في طريقه ما لم يعرج والدخول إلى مسجد آخر يتم اعتكافه فيه. فإن خرج لما لا بد له خروجا معتادا كحاجة الإنسان والطهارة فلا شيء فيه، وإن خرج لغير المعتاد
ـــــــ
فلو قال متى مرضت أو عرض لي عارض خرجت فله شرطه ك الإحرام وجعل المجد فائدة الشرط هنا سقوط القضاء في المدة المعينة
"وعنه له ذلك من غير شرط" نقلها عنه الأثرم ومحمد بن الحكم لما روى أحمد عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عاصم ابن ضمرة عن علي قال المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة والجمعة وليأت أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم وقول ابن المنجا إنه ليس بثابت فيه نظر فإن إسناده صحيح قال أحمد عاصم عندي حجة وهو محمول على التطوع جمعا بينهما وهذا الخلاف فيه إذا كان واجبا فأما إن كان تطوعا فله تركه رأسا لكن الأفضل مقامه على اعتكافه لفعله عليه السلام.
"وله السؤال عن المريض في طريقه مالم يعرج"، لقول عائشة قالت كنت أدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة متفق عليه وليس له الوقوف لأن فيه تركا للاعتكاف "و"له "الدخول إلى مسجد آخر يتم اعتكافه فيه"، لأنه محل للاعتكاف والمكان لا يتعين بالنذر والتعيين فمع عدمه أولى ومحله إذا كان أقرب إلى مكان حاجته من الأول فإن كان أبعد أو خرج إليه ابتداء بلا عذر بطل لتركه لبثا مستحقا
"فإن خرج لما لا بد منه خروجا معتادا كحاجة الإنسان والطهارة" عن حدث و الطعام والشراب والجمعة وكذا للحيض وللنفاس "فلا شيء فيه" أي لا قضاء لأن الخروج له كالمستثنى لكونه معتادا ولا كفارة إذ لو وجب فيه شيء لامتنع معظم الناس منه بل هو باق على اعتكافه ولم تنقض به مدته
"وإن خرج لغير المعتاد" كالنفير المتعين التعين والشهادة الواجبة ونحوهما فله(3/18)
في المتتابع وتطاول, خير بين استئنافه وإتمامه مع كفارة يمين. وإن فعله في متعين قضى وفي الكفارة وجهان.
ـــــــ
أحوال أحدها الخروج "في" الاعتكاف المنذور "المتتابع" غير المعين كعشرة أيام متتابعة "وتطاول" أي زمنه "خير" إذا زال عذره "بين استئنافه" ولا كفارة عليه لأنه أتى بالمنذور على وجهه فلم يلزمه كما لو نذر صوم شهر غير معين فشرع ثم أفطر لعذر "وإتمامه" أي يبني ويقضي "مع كفارة يمين" لأنها تجبر ما حصل من فوات التتابع.
وقد نبه الخرقي على هذا في النذر وذكر أبو الخطاب رواية أنه إذا ترك الصيام المنذور لعذر أنه لا كفارة كما لو أفطر في رمضان لعذر واختار في المجرد أن كل خروج لواجب كشهادة وجهاد متعينين لا كفارة فيه فمقتضاه أن ما كان مباحا كخوف من فتنة ونحوه أنها تجب لأنه خرج لحاجة نفسه خروجا غير معتاد.
وفي "المغني" تجب الكفارة إلا لعذر حيض أو نفاس لأنه معتاد كحاجة الإنسان وضعفهما المجد بأنا سوينا قي نذر الصوم بين الأعذار وبأن زمن الحيض يجب قضاؤه لا زمن حاجة الإنسان وفيه نظر وظاهر "المغني": لا يقضي وهو أظهر وظاهره أنه إذا لم يتطاول أنه باق على اعتكافه وأنه لا يقضي صرح به في "المغني" و"الشرح" كحاجة الإنسان وظاهر "الخرقي" وغيره أنه يقضي واختاره المجد كما لو طالت والفرق ظاهر.
وقد أشار إلى الحال الثاني بقوله: "وإن فعله في متعين" كشهر رمضان ونحوه "قضى" ما ترك ليأتي بالواجب "وفي الكفارة وجهان" أحدهما يكفر ونص عليها أحمد في الخروج لفتنه وذكره الخرقي فيها والخروج لنفير وعدة لتركه المنذور في وقته إذا النذر كاليمين والثاني لا كفارة عليه وهو رواية وظاهر "الوجيز" لأنه خروج لا يبطل الاعتكاف أشبه الخروج(3/19)
وإن خرج لما له منه بد في المتتابع، لزمه استئنافه. وإن فعله في متعين فعليه كفارة، وفي الاستئناف وجهان. وإن وطئ المعتكف في الفرج فسد اعتكافه.
ـــــــ
لحاجة الإنسان وكرمضان والفرق أن فطره لا كفارة فيه لعذر أو غيره
الحالة الثالثة إذا نذر أياما مطلقة فإن قلنا يجب التتابع على قول القاضي فكالأولى وإن قلنا لا يجب وهو المذهب تمم ما بقي منها ولا شيء عليه لإتيانه بالمنذور على وجهه لكنه يبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله ليكون متتابعا وقال المجد: قياس المذهب يخير بين ذلك وبين البناء على بعض اليوم ويكفر وهو ظاهر.
"وإن خرج لما له منه بد في المتتابع" المنذور "لزمه استئنافه" لأنه لا يمكنه فعل المنذور على وجهه إلا به أشبه حالة الابتداء وظاهره أنه يبطل بالخروج وإن قل كالجماع فإن كان مختارا عامدا فلا إشكال وإن كان مكرها أو ناسيا فقد سبق فلو أخرج بعض جسده لم يبطل وإن كان عمدا في المنصوص لحديث عائشة المتفق عليه.
فرع إذا خرج في متتابع متعين كنذره شعبان متتابعا استأنف كالقسم قبله ويكفر "وإن فعله في متعين" ولم يقيده بالتتابع كنذره اعتكاف رجب لزمته "الكفارة" رواية واحدة لتركه المنذور في وقته المعين بلا عذر. "وفي الاستئناف وجهان" أحدهما يلزمه ذكر المجد أنه أصح في المذهب وأنه قياس قول الخرقي لتضمن نذره التتابع ولأنه أولى من المدة المطلقة والثاني يبنى لأن التتابع هنا حصل ضرورة التعين فسقط بفواته كقضاء رمضان وأصلها من نذر صوم شهر بعينه فأفطر في بعضه.
فرع إذا نذر اعتكاف أيام متتابعة بصوم فأفطر يوما أفسد تتابعه ولزمه الاستئناف لتركه الإتيان بما نذره على صفته ذكره في "الشرح".
"وإن وطئ المعتكف في الفرج" فهو حرام للنص "فسد اعتكافه" لقول ابن(3/20)
ولا كفارة عليه إلا لترك نذره، فقال أبو بكر: عليه كفارة يمين. وقال القاضي: عليه كفارة ظهار. وإن باشر دون الفرج فأنزل، فسد اعتكافه، وإلا فلا.
ـــــــ
عباس إذا جاء المعتكف بطل اعتكافه رواه حرب بإسناد صحيح وكالحج والصوم وإطلاق المؤلف يشمل العمد وغيره صحيح لأن ما حرم استوى عمده وسهوه وكالحج وخرج المجد في الصوم عدم البطلان مع عدم النسيان وقال الصحيح عندي أنه يبني
"ولا كفارة عليه" لأجل الوطء في ظاهر المذهب إذ الوجوب من الشرع ولم يرد وكالصلاة. والثانية واختارها القاضي والشريف و أبو الخطاب في خلافيهما وجوب الكفارة كرمضان وكالحج والفرق ظاهر "إلا لترك نذره" كذا خص القاضي وجماعة الوجوب وفي "الفصول" يجب في التطوع في أصح الروايتين وبعدها المجد واختلفوا في موجبها "فقال أبو بكر" والشريف أبو جعفر "عليه كفارة يمين" لأنها كفارة نذر وهي كفارة يمين ولكونه أفسد المنذور بالوطء قاله الشيخان وغيرهما "وقال القاضي" في "الخلاف" وهو ظاهر كلام أحمد "عليه كفارة ظهار" لأنها كفارة وطء أشبه المظاهر وذكر بعضهم أن هذا الخلاف في نذر وقيل معين فلهذا تجب فيه الكفارتان كما لو نذر أن يحج في عام بعينه فأحرم ثم أفسد حجه بالوطء يلزمه كفارة للوطء وكفارة يمين للنذر
"وإن باشر دون الفرج فأنزل فسد اعتكافه" على المذهب المجزوم به عند الأكثر وفيه احتمال لابن عبدوس "وإلا فلا" كالصوم فإذا فسد خرج في الكفارة الخلاف ذكره ابن عقيل وقال المجد يتخرج وجه ثالث تجب بالإنزال عن وطء لا عن لمس وقبلة والناسي كالعامد في إطلاق أصحابنا واختار المجد لا يبطل كالصوم ولا تحرم المباشرة في غير الفرج بلا شهوة كتغسيل رأسه وذكر القاضي احتمالا تحرم كشهوة في المنصوص
مسألة يسن أن يصان المسجد عن الجماع فيه أو فوقه ذكره في "الرعاية".(3/21)
ويستحب للمعتكف التشاغل بفعل القرب واجتناب مالا يعنيه ولا يستحب له إقراء القرآن والعلم والمناظرة فيه إلا عند أبي الخطاب إذا قصد به الطاعة.
ـــــــ
وقال ابن تميم يكره الجماع فوقه والتمسح بحائطه والبول عليه نص عليه وفي "الفروع" وجزم به في "عيون المسائل" أنه يحرم، وهو ظاهر.
فرع إذا سكر في اعتكافه فسد ولو سكر ليلا لخروجه عن كونه من أهل المسجد كالحيض ولا يبنى معذور وإن ارتد فيه فسد كالصوم
"ويستحب للمعتكف التشاغل بفعل القرب" كالصلاة وتلاوة القرآن وذكر الله تعالى "واجتناب مالا يعنيه" من الجدال والمراء وكثرة الكلام والسباب والفحش لقوله عليه السلام "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه"، ولأنه مكروه في غير الاعتكاف ففيه أولى.
وليس الصمت من شريعة الإسلام وظاهر الأخبار تحريمه جزم به في "الكافي"، وقال ابن عقيل يكره الصمت إلى الليل فإن نذره لم يف به.
ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلا من الكلام ذكره الأكثر لأنه استعمال له في غير ما هو له كتوسد المصحف وجزم به في "التلخيص" و"الرعاية" بالكراهة وذكر الشيخ تقي الدين إن قال عند ما أهمه: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86]، فحسن.
"ولا يستحب له إقراء القرآن والعلم والمناظرة فيه" نص عليه لفعله عليه السلام فإنه كان يحتجب فيه واعتكف في قبة وكالطواف قال أبو بكر لا يقرأ ولا يكتب الحديث ولا يجالس العلماء "إلا عند أبي الخطاب" واختاره المجد فإنه يستحب "إذا قصد به الطاعة" لا المباهاة لظاهر الأدلة وكالصلاة والذكر ولأن الطواف لا يتسع لمقصود الإقراء بخلاف الاعتكاف فعلى الأول فعل ذلك أفضل من الاعتكاف جزم به في "الوجيز" و"الفروع" لتعدي نفعه.(3/22)
ـــــــ
قال المجد ويتخرج في كراهة القضاء وجهان بناء على الإقراء فإنه في معناه
مسائل:
الأولى: لا بأس أن تزوره زوجته في المسجد وتتحدث معه وتصلح شأنه مالم يلتذ بشيء منها ويتحدث مع من يأتيه ما لم يكثر ولا بأس أن يأمر بما يريد خفيفا بحيث لا يشغله نص عليه.
الثانية: لا بأس أن يتزوج ويشهد النكاح لنفسه ولغيره ويصلح بين القوم ويعود المريض ويصلي على الجنازة ويهنئ ويعزي ويؤذن ويقيم كل ذلك في المسجد ويستحب له ترك لبس رفيع الثياب وأن لا ينام إلا عن غلبة ولو مع قرب الماء وأن ينام متربعا مستندا ولا يكره شيء من ذلك خلافا لابن الجوزي في رفيع الثياب ولا بأس بأخذ شعره وأظفاره في قياس المذهب وترجيل شعره وكره ابن عقيل ذلك في المسجد صيانة له وذكر غيره يسن ويكره له أن يتطيب ونقل ابن تميم عكسه كالتنظيف قال في "الفروع" وهو أظهر.
الثالثة: ينبغي لمن قصد المسجد للصلاة وغيرها أن ينوي الاعتكاف مدة مقامه فيه لا سيما إذا كان صائما ذكره ابن الجوزي في "المنهاج"، ومعناه في "الغنية" خلافا للشيخ تقي الدين.
تنبيه لا يجوز البيع والشراء في المسجد للمعتكف وغيره نص عليه في رواية حنبل وجزم به الأكثر وفي "الفصول" و"المستوعب" يكره فإن حرم ففي صحته وجهان ويكره إحضار السلعة فيه على القول بالثاني ويكره للمعتكف فيه اليسير كالكثير لكن نقل حنبل أنه يجوز له بيع وشراء ما لا بد له منه طعام وغيره فأما التجارة والأخذ والعطاء، فلا.
ولا يجوز أن يتكسب بالصنعة فيه كالخياطة ونحوها والقليل والكثير والمحتاج وغيره سواء قاله القاضي وغيره ونقل حرب التوقف في اشتراطه فقيل له يشترط أن يخيط قال لا ادري وفي "الروضة" لا يجوز له(3/23)
ـــــــ
فعل غيرما هو فيه من العبادة فإن احتاج للبسه خياطة لا للتكسب فقال ابن البنا لا يجوز واختار في "المغني" و"منتهي الغاية" يجوز وهو ظاهر "الخرقي"، كلف عمامته والتنظيف ولا يعمل الصنعة للتكسب ولا بالبيع لأنه إنما ينافي حرمة المسجد بدليل إباحته في ممره.(3/24)
كتاب المناسك
كتاب المناسك
...
كتاب المناسك
يجب الحج والعمرة
ـــــــ
كتاب المناسك:
واحدها منسك بفتح السين وكسرها فبالفتح مصدر وبالكسر اسم لموضع العبادة وهي في الأصل من النسيكة وهي الذبيحة المتقرب بها ثم اتسع فيه فصار اسما للعبادة والطاعة ومنه قيل للعابد ناسك وقد غلب إطلاقها على أفعال الحج لكثرة أنواعها وأخر الحج عن الصلاة والزكاة والصوم لأن الصلاة عماد الدين لشدة الحاجة إليها لتكررها كل يوم خمس مرات ثم الزكاة لكونها قرينة لها في أكثر المواضع ولشمولها المكلف وغيره ثم الصوم لتكرره كل سنة لكن البخاري قدم رواية الحج على الصوم للتغليظات الواردة فيه نحو: { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ونحو: "فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا"، ولعدم سقوطه بالبدل، بل يجب الإتيان به إما بنفسه وإما بغيره، بخلاف الصوم
"يجب الحج والعمرة" الحج: بفتح الحاء لا بكسرها في الأشهر وعكسه شهر الحجة وهو لغة القصد إلى من نعظمه وشرعا: قصد مكة للنسك والعمرة لغة الزيارة يقال اعتمره إذا زاره في العمر مرة واحدة وشرعا زيارة البيت على وجه مخصوص والإجماع على وجوبه وسنده: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 79]، والسنة مستفيضة بذلك وما ذكره من وجوب العمرة هو نص أحمد وقول جمهور الأصحاب واحتج أحمد وغيره بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وظاهره: لا فرق بين المكي وغيره لقول عائشة يا رسول الله هل على النساء من جهاد قال: "نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة" رواه أحمد وابن ماجه ورواته ثقات. وعن أبي رزين العقيلى أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن؟ قال: "حج عن أبيك واعتمر" رواه الخمسة، وصححه(3/25)
في العمر مرة واحدة بخمسة شروط: الإسلام و العقل فلا يجب على كافر ولا مجنون، ولا يصح منهما.
ـــــــ
الترمذي ولأنها تشتمل على إحرام وطواف وسعي فكانت واجبة كالحج.
وعنه هي سنة اختاره الشيخ تقي الدين لأن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: زعم رسولك أن علينا الصلاة والزكاة والصوم والحج فقال: "صدق" رواه مسلم فلم يذكر العمرة وأجيب بأن اسم الحج يتناولها وفي ثالثة تجب على غير المكي وهي المنصورة في "المغني" إذ ركن العمرة ومعظمها هو الطواف. قال أحمد كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ويقول يا أهل مكة ليس عليكم عمره إنما عمرتكم الطواف بالبيت وهو من رواية إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف.
"في العمر مرة واحدة" لما روى أبو هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: أكل عام فسكت حتى قالها ثلاثا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم" رواه مسلم، ولأنها عبادة مؤقته بالعمر، أشبه الصلاة في وقتها وهو فرض كفاية كل عام.
"بخمسة شروط: الإسلام والعقل" هما شرطان للصحة والوجوب "فلا يجب على كافر" أصلي لأنه ممنوع من دخول الحرم وهو مناف له "ولا مجنون" للخبر ولعدم صحته وقصد الفعل شرط "ولا يصح منهما" لأن كلا من الحج والعمرة عبادة من شرطها النية وهي لا تصح منهما لكن الكافر يعاقب عليه وعلى سائر فروع الإسلام كالتوحيد إجماعا وعنه لا وهو الأشهر للحنفية وعنه يعاقب على النواهي فقط والمرتد مثله وهل يلزمه الحج باستطاعته في ردته إذا أسلم بناء على أنه التزم حكم الإسلام أولايلزمه كالأصلي؟ فيه روايتان.
فلو حج ثم ارتد ثم أسلم وهو مستطيع فهل يلزمه حج ثان فيه روايتان.(3/26)
والبلوغ والحرية، فلا يجب على صبي ولا عبد، ولا يصح منهما، ولا يجزئهما إلا أن يبلغ ويعتق في الحج قبل الخروج من عرفة، وفي العمرة قبل طوافها فيجزئهما.
ـــــــ
ويبطل إحرامه ويخرج منه بردته فيه كالصوم ولا تبطل الاستطاعة بالجنون ولا فرق بين أن يعقده بنفسه أو يعقده له وليه وقيل يصح في الثانية اختاره أبو بكر. ويبطل الإحرام بالجنون لأنه لم يبق من أهل العبادة وقيل لا كالموت فيصير كالمغمى عليه والمعروف لا يبطل به كالسكر.
"والبلوغ والحرية" هما شرطان للوجوب والإجزاء "فلا يجب على صبي" للخبر ولأنه غير مكلف "ولا عبد" لأن مدتهما تطول فلم يجبا عليه لما فيه من إ بطال حق السيد كالجهاد وفيه نظر لأن القصد منه الشهادة "ويصح منهما" لما روى ابن عباس أن امرأة رفعت إليه صبيا فقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر" رواه مسلم والعبد من أهل العبادة فصحا منه كالحر
"ولا يجزئهما" عن حجة الإسلام بعد زوال المانع وعليهما الحج والعمرة بعد البلوغ والعتق لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى" رواه الشافعي والبيهقي. قال بعض الحفاظ لم يرفعه إلا يزيد بن زريع عن شعبة وهو ثقة ولأنهما فعلا ذلك قبل الوجوب عليهما فلم يجزئهما إذا صارا من أهله كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت وهذا قول عامة العلماء إلا شذوذا بل حكاه ابن عبد البر إجماعا.
تنبيه: المكاتب والمدبر وأم الولد والمعتق بعضه كالقن
"إلا أن يبلغ" الصبي "ويعتق" العبد "في الحج قبل الخروج من عرفة وفي العمرة قبل طوافها فيجزئهما" لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما كما لو وجد قبل الإحرام واستدل أحمد بأن ابن عباس قال إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته وإن أعتق بجمع لم يجزئ عنه لكن لو زال المانع(3/27)
ويحرم الصبي المميز بإذن وليه، وغير المميز يحرم عنه وليه,
ـــــــ
بعد الخروج من عرفة والوقت باق ولو أقل جزء عاد فوقف بها أجزأه نص عليه وكما أحرم إذن قال المؤلف وغيره إنما يعتد بإحرام ووقوف موجودين إذن وما قبله تطوع لا ينقلب فرضا وقال المجد وآخرون ينعقد إحرامه موقوفا فإذا تغير حاله تتبين فريضته كزكاة معجلة وعنه لا يجزئه وقاله ابن المنذر وظاهر كلامه لا فرق في وجود ذلك قبل السعي أو بعده وقلنا بعدم ركنيته أو سعى وقلنا بركنيته ثم زال العذر وهو أحد الوجهين لحصول الركن الأعظم وهو الوقوف وتبعية غيره له.
والثاني لا يجزئه اختاره ابن عقيل والمجد وفي المجرد هو قياس المذهب لوقوع الركن في غير وقت الوجوب أشبه ما لو كبر للإحرام ثم بلغ. فعلى هذا لا يجزئه وإن أعاد السعي ذكره المجد لأنه لا تشرع مجاوزة عدده ولا تكراره واستدامة الوقوف مشروع ولا قدر له محدود وما ذكرناه هو جار في طواف العمرة وظاهره أنه إذا زال المانع في أثناء طوافها لا يجزئه ولا أثر لإعادته وحيث قيل بالإجزاء فلا دم لنقصهما في ابتداء الإحرام كاستمراره.
تنبيه: إذا زال المانع قبل الوقوف أو في وقته وأمكن الإتيان لزمه الحج على الفور ولا يجوز تأخيره مع الإمكان كالبالغ الحر.
"ويحرم الصبي المميز" بنفسه "بإذن وليه" فلو أحرم بغير إذنه لم يصح لأنه يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد بنفسه كالبيع وقيل يصح اختاره المجد كصوم وصلاة. فعلى هذا يحلله منه إن رآه ضررا في الأصح كعبد والولي من يلي ماله وظاهر رواية حنبل يصح من الأم أيضا اختاره جماعة وفي عصبته كالعم وابنه وجهان وظاهره أن الولي لا يحرم عن المميز لعدم الدليل.
"وغير المميز يحرم عنه وليه" أي يعقد له الإحرام ويقع لازما وحكمه كالمكلف نص عليه لما روى جابر قال حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء(3/28)
ويفعل عنه ما يعجز عنه من عمله.
ـــــــ
والصبيان فأحرمنا عن الصبيان رواه سعيد ولأنه يصح وضوؤه كالبالغ بخلاف المجنون فصح عقده له كالنكاح."ويفعل عنه ما يعجز عنه من عمله" لما روى جابر قال لبينا عن الصبيان ورمينا عنهم رواه أحمد وابن ماجه وروي عن ابن عمر في الرمي وعن أبي بكر أنه طاف بابن الزبير في خرقة رواهما الأثرم فدل أن ما أمكن الصبي فعله من وقوف ومبيت لزمه لأن النيابة إنما تجوز مع العجز وذلك منتف ولكن لا يجوز أن يرمي عنه إلا من رمى عن نفسه كالنيابة في الحج فإن قلنا بالإجزاء هناك فكذا هنا وإلا وقع الرمي عن نفسه إن كان محرما بفرضه وإن كان حلالا لم يعتد به وإن قلنا يقع الإحرام باطلا هناك فكذا الرمي هنا.
وإن أمكن الصبي أن يناول النائب الحصا ناوله وإلا استحب أن توضع الحصاة في كفه ثم تؤخذ منه ويرمى عنه فلو جعل كف الصبي كالآلة ورمى بها عنه فحسن.
ثم إن عجز عن الطواف طيف به محمولا أو راكبا وتعتبر النية من الطائف به وكونه ممن يصح أن يعقد له الإحرام فإن نواه عن نفسه وعن الصبي وقع عن الصبي كالكبير يطاف به محمولا لعذر ولا فرق في حامله أن يكون حلالا أو حراما أسقط فرض نفسه أو لا لوجود الطواف من الصبي فهو كمحمول مريض.
تنبيه: يجتنب في حجه ما يجتنبه الكبير من المخطورات والوجوب متعلق بالولي لأن الصغير لا يخاطب بخطاب تكليفي وعن عائشة أنها كانت تجرد الصبيان إذا دنوا من الحرم وقال عطاء يفعل به كما يفعل الكبير ويشهد المناسك كلها إلا أنه لا يصلى عنه فإن وطئ فيه فسد حجه ولزمه المضي فيه وعليه قضاؤه ولا يصح إلا بعد البلوغ نص عليه كالمجنون إذا احتلم وقيل يصح قبل بلوغه كالبالغ وقيل لا قضاء عليه لاستلزامه وجوب عبادة بدنية على غير المكلف وعلى الأول إذا قضى بدأ بحجة(3/29)
ونفقة الحج وكفاراته في مال الولي. وعنه: في مال الصبي. وليس للعبد الإحرام إلا بإذن سيده، ولا للمرأة الإحرام نفلا إلا بإذن زوجها. فإن فعلا
ـــــــ
الإسلام فإن أحرم به قبلها انصرف إليها وهل يجزئه عن القضاء ينظر فإن كان أدرك في الفاسدة جزءا من الوقوف بعد بلوغه أجزأ عنهما جمعيا وإلا فلا.
"ونفقة الحج وكفاراته في مال الولي" هذا هو المذهب عند الجمهور لأنه السبب فيه وكما لو أتلف مال غيره بأمره قاله ابن عقيل "وعنه: في مال الصبي" اختاره جماعة لأنه من مصلحته ليألف الحج ويتمرن عليه وكأجرة الطبيب وحامله لشهود الجمعة وغيرها ومحل الخلاف يختص بما زاد على نفقة الحضر في قول الأكثر خلافا للقاضي فإنه أوجبها على الصغير مطلقا واختار في موضع آخر الأول زاد المجد وماله كثير يحتمل ذلك فأما سفره معه لخدمة أو تجارة أو إلى مكة لغرض صحيح فهي على الصبي رواية واحدة وقدم في الفروع أن النفقة على الولي وفي الكفارة روايتان والمؤلف سوى بينهما كغيره ويختص الخلاف ما فعله الصبي ويلزم البالغ كفارته مع خطأ ونسيان قال المجد أو فعله الولي لمصلحته كتغطية رأسه لبرد أو تطبيبه لمرض وإن فعله به الولي لا لعذر فالفدية عليه وما لا يلزم البالغ كفارته مع خطأ ونسيان لا يلزم الصبي لأن عمده خطأ فإذا وجبت على الولي ودخل فيها الصوم صام عنه لوجوبها عليه ابتداء كصومها عن نفسه.
"وليس للعبد الإحرام إلا بإذن سيده" لما فيه من تفويت حقه الواجب عليه "ولا للمرأة الإحرام نفلا إلا بإذن زوجها" لتفويت حقه وقيده بالنفل منها دون العبد لأنه لا يجب عليه حج بحال بخلافها قال ابن المنجا وفيه نظر فإنهم صرحوا بأن العبد لو نذره لزمه بغير خلاف نعلمه لأنه مكلف وصح نذره كالحر لكن لسيده منعه إذا لم يكن نذره بإذنه في رواية وفي أخرى لا لوجوبه عليه كالصلاة وقيل إن كان على الفور لم يمنعه.
"فإن فعلا" انعقد إحرامهما لأنه عبادة بدنية فصحت بغير إذن كالصوم.(3/30)
فلهما تحليلهما، ويكونان كالمحصر. وإن أحرما بإذنه لم يجز تحليلهما.
ـــــــ
وقال ابن عقيل يتخرج بطلان إحرامه لغصبه نفسه فيكون قد حج في بدن غصب فهو آكد من الحج بمال غصب قال في "الفروع" وهذا متوجه ليس بينهما فرق مؤثر فيكون هو المذهب وصرح به جماعة في الاعتكاف.
"فلهما تحليلهما" في ظاهر المذهب لأن حقهما لازم فملكا إخراجهما منه كالاعتكاف وفي "المغني" و"الشرح": في العبد كالصوم المضر ببدنه ولا يفوت به حق. والثانية ونقلها واختارها الأكثر أنه ليس لهما تحليلهما وعلى الأول لو حللها فلم تقبل أثمت وله مباشرتها.
"ويكونان كالمحصر" لأنهما في معناه "وإن أحرما بإذنه لم يجز تحليلهما" لأنه قد لزم بالشروع وكنكاح وإعارة كرهن وعنه له تحليل العبد لأنه ملكه منافع نفسه فملك الرجوع فيها كالمعير وله الرجوع قبل إحرام وكذا لو أحرما بنذر أذن فيه لهما أو لم يأذن فيه للمرأة وإن علم العبد برجوع سيده عن إذنه فكما لو لم يأذن وإلا فالخلاف في عزل الوكيل قبل علمه وإن باعه فمشتريه كبائعه في تحليله وله الفسخ إن لم يعلم إلا أن يملك بائعه تحليله فيحلله.
تنبيه: إذا أفسد العبد حجه بالوطء لزمه المضي فيه كالحر وعليه القضاء ويصح في رقه للزومه له كالنذر بخلاف حجة الإسلام وليس لسيده منعه منه إن كان شروعه فيما أفسده بإذنه لأن إذنه فيه إذن في موجبه ومن موجبه قضاء ما أفسده على الفور وإن لم يكن بإذنه ففي منعه من القضاء وجهان كالنذر وفي لزوم القضاء لفوات أو إحصار الخلاف كالحر وإن عتق قبل أن يأتي بما لزمه من ذلك لزمه أن يبدأ بحجة الإسلام فإن خالف فكالحر فإن عتق في الحجة الفاسدة في حال يدرك به حجة الفرض مضى فيها وأجزأه عن الفرض والقضاء خلافا لابن عقيل ويلزمه حكم حياته كحر معسر وإن تحلل بحصر أو حلله سيده لم يتحلل قبل الصوم وليس لسيده منعه منه نص عليه وإن مات العبد ولم يصم فلسيده أن يطعم عنه ذكره في "الفصول". وحكم الصبي(3/31)
وليس للزوج منع امرأته من حج الفرض، ولا تحليلها إن أحرمت به.
ـــــــ
في القضاء لفوات أو إحصار وصحته منه وهو في القضاء بعد بلوغه إجزاؤه عنه وعن حجة الإسلام كالعبد.
"وليس للزوج منع امرأته من حج الفرض" إذا كملت الشروط "ولا تحليلها إن أحرمت به"، لأنه واجب بأصل الشرع أشبه الصوم والصلاة أول الوقت وظاهره ولو أحرمت قبل الميقات ونفقتها عليه قدر نفقة الحضر ويستحب لها أن تستأذنه نص عليه فإن كان غائبا كتبت إليه فإن أذن وإلا حجت بمحرم وعنه له تحليلها فيتوجه منه منعها وظاهره أن له منعها من الخروج إلا حجة الإسلام و الإحرام إن لم تكمل الشروط وصرح به الأصحاب لكن لو أحرمت إذن بلا إذنه لم يملك تحليلها في الأصح كالمريض.
مسألة إذا أحرمت بواجب فحلف زوجها بالطلاق الثلاث لا تحجج العام فليس لها أن تحل لأن الطلاق مباح فليس لها ترك الفريضة لأجله ونقل مهنا أنه سئل عن هذه المسألة فقال عطاء الطلاق هلاك هي بمنزلة المحصر.
فصل: لا يجوز لوالد منع ولده من حج واجب ولا تحليله إن أحرم به وليس للولد طاعته في تركه فإن كان تطوعا فله منعه كالجهاد فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله لوجوبه بشروعه فيه فصار كالواجب ابتداء وكذا ليس لولي سفيه منعه من حج الفرض ولا تحليله منه ويدفع نفقته إلى سفيه ينفق عليه من طريقه فإن أحرم بنفل وزادت نفقته على نفقة الحضر ولم يكتسبها فالأصح له منعه وتحليله بصوم وإلا فلا فإن منعه وأحرم فهو كمن ضاعت نفقته.
فرع حكم العمرة الواجبة كالحج المفروض في قول الأكثر وهل يلحق المنذور به فلا يملك منعها أو لا كالتطوع فيه روايتان حكاهما أبو الحسين وقيل يفرق بين المعين وغيره.(3/32)
فصل
الشرط الخامس: الاستطاعة وهو أن يملك زادا وراحلة
ـــــــ
فصل
"الشرط الخامس الاستطاعة" لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [ آل عمران: 97] ولأن الخطاب إنما هو للمستطيع لأن "من" بدل من "الناس" فتقديره ولله على المستطيع لانتفاء تكليف مالا يطاق شرعا وعقلا.
"وهو أن يملك زادا وراحلة" نص عليه لما روى ابن عمر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما يوجب الحج؟ قال: "الزاد والراحلة" رواه الترمذي وقال العمل عليه عند أهل العلم.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السبيل؟ فقال: "الزاد والراحلة" وكذا رواه جابر وعبد الله بن عمر وعائشة عنه رواه الدارقطني.
ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فكان ذلك شرطا كالجهاد وليس هو شرطا في الصحة والإجزاء فإن خلقا من الصحابة حجوا ولا شيء لهم ولم يؤمر أحد منهم بالإعادة ولأن الاستطاعة إنما شرطت للوصول فإذا وصل وفعل أجزأه كالمريض وظاهره أنه إذا لم يستطع وأمكنه المشي والتكسب بالصنعة أنه لا يلزمه واعتبر ابن الجوزي الزاد والراحلة لمن يحتاجهما وفي "الرعاية": وقيل من قدر أن يمشي عن مكة مسافة القصر لزمه الحج والعمرة لأنه مستطيع فإن كان عادته السؤال والعادة إعطاؤه فللمالكية قولان وعندنا يكره لمن حرفته السؤال قال أحمد فيمن يدخل البادية بلا زاد ولا راحلة لا أحب له ذلك يتوكل على أزواد الناس ويعتبر الزاد مطلقا إن احتاج إليه وكونه ملكه فلو وجده في المنازل لم يلزمه حمله وإلا لزمه سواء وجده بثمن مثله أو بزيادة كماء الوضوء والقدرة على وعاء الزاد لأنه لا بد منه.(3/33)
صالحة لمثله بآلتها الصالحة لمثله أو ما يقدر به على تحصيل ذلك، فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وقضاء دينه ومؤنته ومؤنة عياله
ـــــــ
وأما الراحلة فلا تشترط إلا مع البعد وهو من بينه وبين مكة مسافة القصر فقط إلا مع عجز كشيخ كبير لا يمكنه المشي.
"صالحة لمثله بآلتها الصالحة لمثله" عادة لأنه يتعلق به أمر شرعي فاعتبر فيه الصلاحية كالنفقة والسكنى في حق الزوجة فيعتبر في الزاد أن يكون من الخاص إن كان من أولاد التجار والأمراء أو من الخاصة إن لم يكن كذلك.و في الراحلة وآلتها أن يكون الجمل جيدا بمحارة إن كان كالأول وإلا فلا تشترط المحارة إذا أمكنه الركوب على القتب ولا كون الجمل جيدا قاله ابن المنجا وفيه شيء فإن ظاهر كلامهم في الزاد يلزمه مطلقا لظاهر الدليل ولئلا يفضي إلى ترك الحج بخلاف الراحلة فإن لم يقدر على خدمة نفسه اعتبر من يخدمه لأنه من سبيله ذكره في "المغني" و"الشرح" فظاهره لو أمكنه لزمه عملا بالظاهر وكلام غيرهما يقتضي أنه كالراحلة لعدم الفرق.
"أو" يملك "ما يقدر به على تحصيل ذلك" أي الزاد والراحلة لأن ملك الثمن كملك المثمن بدليل أن القدرة على ما تحصل به الرقبة في الكفارة كملكها
ويعتبر الزاد والراحلة لذهابه وعوده "فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم" لأنهما من الحوائج الأصلية لأن المفلس يقوم بهما على غرمائه فهنا أولى ويشتريهما بنقد بيده فإن فضل منه ما يحج به لزمه فإن كان المسكن واسعا يفضل عن حاجته وأمكنه بيعه وشراء ما يكفيه ويفضل ما يحج به لزمه. قال في "الفروع": ويتوجه مثله في الخادم والكتب التي يحتاجها كهما فإن استغنى بإحدى نسختي كتاب باع الأخرى. "وقضاء دينه" لأن ذمته مشغولة به وهو محتاج إلى براءتها وظاهره لا فرق بين أن يكون حالا أو مؤجلا لله تعالى أو لآدمي. "ومؤنته" لقوله: "ابدأ بنفسك" "ومؤنة عياله" الذين تلزمه مؤنتهم لأن ذلك مقدم على الدين فلأن يقدم على الحج بطريق الأولى ولتأكد حقهم بدليل قوله عليه السلام: "كفي بالمرء إثما أن(3/34)
على الدوام. ولا يصير مستطيعا ببذل غيره بحال. فمن كملت له هذه الشروط وجب عليه الحج على الفور.
ـــــــ
يضيع من يقوت رواه أبو داود. "على الدوام" وهو معنى ما في "المحرر": وكفاية دائمة له ولأهله فظاهره أنه قصد النفقة عليه وعلى عياله إلى أن يعود ويبقى له إذا رجع ما يقوم بكفايته وكفاية عائلته على الدوام من عقار أو بضاعة أو صناعة جزم به في "الهداية" و"منتهى الغاية"، وقدمه في "الفروع"، لتضرره بذلك وكالمفلس وفي "الكافي" و"الروضة": إلى أن يعود وقدمه في "الرعاية"، فيتوجه أن المفلس مثله وأولى. ولم يتعرض في "الشرح" إلى هذا وهو غريب منه.
فرع إذا خاف العنت قدم النكاح عليه لوجوبه إذن ولحاجته إليه وقيل يقدم الحج كما لو لم يخفه ولأنه أهم الواجبين ويمكن تحصيل مصالحه بعد إحراز الحج.
"ولا يصير مستطيعا ببذل غيره بحال" لما سبق في الاستطاعة وكالبذل في الزكاة ولا يلزمه قبول ما بذل له سواء كان الزاد والراحلة أو المال لما فيه من المنة كبذل الرقبة في الكفارة قال في "الفروع": لا يملك ولا يجب بخلاف الحج ولا فرق في الباذل أن يكون أجنبيا أو قريبا حتى الابن.
"فمن كملت له هذه الشروط، وجب عليه الحج" ولم يجز له تأخيره ويأتي به "على الفور" نص عليه لحديث ابن عباس تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة وحديث الفضل من أراد الحج فليتعجل رواهما أحمد وعن علي مرفوعا: "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلي بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" رواه الترمذي وقال لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال ولأنه أحد أركان الإسلام فكان واجبا على الفور كالصيام إذ لو مات مات عاصيا وهو الأصح للشافعية وقيل لا وقيل لا في الشاب وكذا الخلاف لهم في صحيح لم يحج حتى زمن وذكر ابن أبي موسى وجها وذكره ابن حامد رواية أنه يجب موسعا وله تأخيره زاد(3/35)
فإن عجز عن السعي إليه لكبر أو مرض لا يرجى برؤه، لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر
ـــــــ
المجد مع العزم على فعله في الجملة لأنه عليه السلام أمر أبا بكر على الحج. وتخلف بالمدينة غير محارب ولا مشغول بشيء وتخلف أكثر المسلمين مع قدرتهم عليه ولأنه لو أخره لم يسم قضاء والأول هو المنصور لأن وجوبه بصفة الموسع يخرجه عن رتبة الواجبات لتأخيره إلى غير غاية ويسمى قضاء فيه وفي الزكاة وذكره في "الرعاية" وجها ثم بطل بما إذا غلب على ظنه أنه لا يعيش إلى سنة أخرى لا يجوز له تأخيره وإذا لا يسمى قضاء وقيل إنه عليه السلام لم يؤخره لأنه فرض سنة عشر والأشهر سنة تسع فقيل أخره لعدم الاستطاعة وفيه نظر وقيل لرؤية المشركين حول البيت عراة وقيل بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار الزمان فيها كهيئته وتتعلم منه أمته المناسك التي استقر أمره عليها ويصادف وقفة الجمعة ويكمل الله دينه ويقال اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين ولم تجتمع قبله ولا بعده.
"فإن عجز عن السعي إليه" أي إلى الحج "لكبر أو مرض لا يرجى برؤه" كزمانة ونحوها "لزمه" على الفور "أن يقيم من يحج عنه ويعتمر" لقول ابن عباس إن امرأة من خثعم قالت يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله الحج شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة أفأحج عنه قال "حجي عنه" متفق عليه زاد في "المغني" و"الشرح": لو كان نضو الخلق لا يقدر على الثبوت على الراحلة إلا بمشقة غير محتملة يؤيده قول أحمد في المرأة إذا كانت ثقيلة لا يقدر مثلها يركب إلا بمشقة شديدة وأطلق أبو الخطاب وجماعة عدم القدرة ويسمى المعضوب لأنه عبادة تجب الكفارة بإفسادها فجاز أن يقوم غيره فيه كالصوم وشرطه الاستطاعة وسواء وجب عليه حال العجز أو قبله وظاهره أنه لا يشترط اتحاد النوع بل تنوب امرأة عن رجل وعكسه ولا كراهية في نيابتها عنه. وفيه احتمال لفوات رمل وحلق ورفع(3/36)
من بلده، وقد أجزأ عنه وإن عوفي. ومن أمكنه السعي إليه، لزمه ذلك إذا كان في وقت المسير ووجد طريقا آمنا غالبه السلامة
ـــــــ
صوته بالتلبية وأضعف منه قول النخعي وابن أبي ذئب لا يحج أحد عن أحد
"من بلده" أو من الموضع الذي أيسر فيه كالاستنابة عن الميت لأنه وجب على المستنيب كذلك فكذا النائم كقضاء الصوم ويعتبر أن يجد مالا فاضلا عن حاجته المعتبرة وافيا بنفقة راكب فإن وجد نفقة راجل لم يلزمه في الأصح وإن وجد مالا ولم يجد نائبا فعلى الخلاف في إمكان المسير هل هو شرط للوجوب أو للزوم الأداء فقياس المذهب أنه يسقط وعلى الثاني يثبت الحج في ذمته فإن لم يجد مالا يستنيب به فلا حج عليه بغير خلاف
"وقد أجزأ عنه" أي عن المعضوب "وإن عوفي" نص عليه لأنه أتي بما أمر به فخرج عن العهدة كما لو لم يبرأ وسواء عوفي بعد فراغ النائب أو قبل فراغه في الأصح فيه كالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي والثاني لا يجزئه وهو الأظهر عند الشيخ تقي الدين كالمتيمم إذا وجد الماء في الصلاة أما إذا حصل البرء قبل إحرام النائب فإنه لا يجزئه اتفاقا للقدرة على المبدل قبل الشروع في البدل كالمتيمم وظاهره أن المريض المرجو برؤه ليس له أن يستنيب كالمحبوس
"ومن أمكنه السعي إليه" أي إلى الواجب من الحج والعمرة "لزمه ذلك" لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب كالسعي إلى الجمعة "إذا كان في وقت المسير" أي يكون الوقت متسعا للخروج إليه بحيث يمكنه المسير بما جرت به العادة فلو أمكنه أن يسير سيرا يجاوز العادة لم يلزمه.
"ووجد طريقا آمنا"، لأن في الملزوم بدونه ضررا وهو منفي شرعا وسواء كان قريبا أو بعيدا ولوغير الطريق المعتاد برا كان أو بحرا.
"غالبه السلامة" لحديث عبد الله بن عمر: "ولا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله". رواه أبو داود وفيه مقال ولأنه يجوز سلوكه(3/37)
لا خفارة فيه، ويوجد فيه الماء والعلف على المعتاد، وعنه: أن إمكان المسير وتخلية الطريق من شرائط الوجوب. وقال ابن حامد: إن كانت الخفارة لا تجحف بماله، لزمه بذلها و من وجب عليه الحج فتوفي قبله
ـــــــ
بأموال اليتامى أشبه البر فإن لم يكن له غالب فخلاف وخرجه في "منتهى الغاية" على الخلاف فيما إذا استوى الحرير والكتان أما إذا غلب الهلاك لم يلزمه سلوكه وذكره المجد إجماعا في البحر "لا خفارة فيه" وظاهره ولو كانت يسيرة ذكره الجمهور لأنها رشوة فلم يلزم بذلها في العبادة.
"ويوجد فيه" أي في الطريق "الماء والعلف على المعتاد" أي يجد ذلك في المنازل التي ينزلها لأنه لو كلف حمل مائة وعلف بهائمه من موضعه إلى مكة لأدى إلى مشقة عظيمة ولأنه متعذر الإمكان بخلاف زاد نفسه فإنه يمكن حمله فعلى هذا يجب حمل الماء من منهل إلى منهل وحمل الكلأ من موضع إلى موضع
"وعنه أن إمكان المسير وتخلية الطريق" من عذر، "من شرائط الوجوب"، وقاله جماعة لأنه غير مستطيع ولتعذر فعل الحج معه لعدم الزاد والراحلة وظهر أن المذهب أن أمن الطريق وسعة الوقت من شرائط لزوم الأداء اختاره أكثر أصحابنا لأنه عليه السلام فسر السبيل بالزاد والراحلة ولأن إمكان الأداء ليس شرطا في وجوب العبادة بدليل ما لو زال المانع ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن الأداء فيه ولأنه يتعذر الأداء دون القضاء كالمرض المرجو برؤه وعدم الزاد والراحلة يتعذر معه الجميع فعلى هذا هل يأثم إن لم يعزم على الفعل يتوجه الخلاف في الصلاة
"وقال ابن حامد إن كانت الخفارة لا تجحف بماله لزمه بذلها" لأنها غرامة يقف إمكان الحج على بذلها فلم يمنع الوجوب مع إمكان بذلها كثمن الماء وقيده في "المحرر" عنه باليسيرة، وجوزها الشيخ تقي الدين عند الحاجة إليها في الدفع عن المخفر ولا يجوز مع عدمها كما يأخذه السلطان من الرعايا.
"ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله" وجب قضاؤه "وأخرج عنه من جميع(3/38)
أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة. فإن ضاق ماله عن ذلك أو كان عليه دين أخذ للحج بحصته وحج به من حيث يبلغ.
ـــــــ
ماله حجة وعمرة" وإن لم يوص به لما روى ابن عباس أن امرأة قالت يا رسول الله إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: "نعم، حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ أقضوا الله، فالله أحق بالوفاء" رواه البخاري.
ولأنه حق استقر عليه فلم يسقط بموته كالدين ويكون من جميع ماله لأنه عليه السلام شبهه بالدين فوجب مساواته له وسواء فرط بالتأخير أو لا وظاهره لا فرق بين الواجب وأصل الشرع أو بإيجاب نفسه ويخرج عنه من حيث وجب نص عليه لأن القضاء بصفة الأداء كالصلاة ويستناب من أقرب وطنه ليتخير المنوب عنه فإن لزمه بخراسان فمات ببغداد أو بالعكس فقال أحمد يحج عنه من حيث وجب عليه لا من حيث موته ويحتمل أن يحج عنه من أقرب المكانين ويجزئ دون الواجب إذا كان القصر لأنه كحاضر وإلا لم يجزئه لأنه لم يكمل الواجب وقيل يجزئه كمن أحرم دون ميقات وقيل يجزئ يحج عنه من ميقاته لا من حيث وجب وعلى كل حال يقع الحج عن المحجوج عنه فإن مات هو أو نائبه في الطريق حج عنه من حيث مات فيما بقي نص عليه مسافة وفعلا وقولا وإن صد فعل ما بقي لأنه أسقط بعض الواجب
"فإن ضاق ماله عن ذلك" بأن لم يخلف ما يكفي الحج من بلده "أو كان عليه دين" وتزاحموا "أخذ الحج بحصته" كما لو خلف مائة وعليه مثلها والحج يكفيه مائة فيطلع له خمسون "وحج به من حيث يبلغ" نص عليه لقدرته على بعض المأمور به وعنه يسقط الحج عين فاعله أم لا وعنه يقدم الدين لتأكده
مسألة إذا أوصى بحج نفل أو أطلق جاز من الميقات نص عليه ما لم تمنع منه قرينة وقيل من محل وصيته كحج واجب فإن لم يف له بالحج من بلده حج من حيث يبلغ أو يعان به في الحج نص عليه وقال المتطوع ما(3/39)
فصل:
ويشترط لوجوب الحج على المرأة وجود محرمها.
ـــــــ
يبالي من أين كان
أصل يلزم الأعمى أن يحج بنفسه بالشروط السابقة لقدرته عليه كالبصير بخلاف الجهاد ويعتبر له قائد كبصير يجهل الطريق، وهو كالمحرم. وفي "الواضح": يشترط للأداء قائد يلائمه أي يوافقه ويلزمه أجره مثله وقيل وزيادة يسيرة فلو تبرع لم يلزمه قبوله للمنة
فصل
"ويشترط لوجوب الحج على المرأة وجود محرمها" نقله الجماعة وهو المذهب لما روى ابن عباس مرفوعا: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم" فقال رجل: يا رسول الله إني أريد أن أخرج في جيش كذا وامرأتي تريد الحج فقال: "اخرج معها" رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن أبي هريرة مرفوعا: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة" رواه البخاري ولمسلم: "ذو محرم منها" ، وله أيضا: "ثلاثا" وهذا مع ظاهر الآية بينهما عموم وخصوص وخبر ابن عباس خاص.
ولأنها أنشأت سفرا في دار الإسلام فلم يجز بغير محرم كحج التطوع والزيارة والتجارة وظاهره لا فرق بين العجوز والشابة لكن شرطه أن يكون لعورتها حكم وهى بنت سبع.
ونقل أحمد بن إبراهيم لا يحل سفرها إلا لمحرم قال إذا صار لها سبع سنين أو تسع قلت هو الظاهر لقول عائشة إذا بلغت الجارية تسعا فهي امرأة.(3/40)
وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح.
ـــــــ
وعنه لا يشترط في الحج الواجب كسفر الهجرة ولأنها تخرج مع كل من أمنته وعنه لا يشترط في القواعد من النساء اللاتي لا يخشى منهن ولا عليهن فتنة وعنه لا يعتبر إلا في مسافة القصر كما لا يعتبر في أطراف البلد مع عدم الخوف.
واختار الشيخ تقي الدين تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم وقال هذا متوجه في كل سفر طاعة.
والظاهر أن اختلاف الروايات لاختلاف السائلين وسؤالهم فخرجت جوابا وظاهر كلامهم اعتبار المحرم لإماء المرأة وعتقائها لكن قال الشيخ تقي الدين إماء المرأة يسافرن معها ولا يفتقرن إلى محرم لأنه لا محرم لهن في العادة الغالبة وأما عتقاؤها فيحتمل أنهن كالإماء إن لم يكن لهن محرم ويحتمل عكسه لانقطاع التبعية وملكن أنفسهن بالعتق.
"وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد" لما روى أبو سعيد مرفوعا لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبو ها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها رواه مسلم. وأطلق على الزوج محرما لأن المقصود من سفر المحرم معها صيانتها وحفظها مع الخلوة والنظر وهو موجود فيه.
"بنسب أو سبب مباح" كرضاع ومصاهرة ووطء مباح بنكاح أو غيره ودخل فيه رابها وهو زوج أمها وربيبها وهو ابن زوجها نص عليهما.
وخرج منه الزاني والواطئ بشبهة فليس بمحرم لأم الموطوءة وابنتها لأن السبب غير مباح قال في "المغني" و"الشرح" كالتحريم باللعان وفي "الفروع": المحرمية نعمة فاعتبر إباحة سببها كسائر الرخص وعنه بلى واختاره في "الفصول" في وطء الشبهة لا الزنا لكن يستثنى ومرادهم بالشبهة الوطء الحرام مع الشبهة ذكره جماعة كالجارية المشتركة.(3/41)
إذا كان بالغا عاقلا. وعنه أن المحرم من شرائط لزوم الأداء.
ـــــــ
وظاهر كلامهم أن وطء الشبهة لا يوصف بالتحريم فيرد على إطلاقه الملاعنة فيزاد فيه سبب مباح لحرمتها وذكره صاحب "الوجيز" و الآدمي فإن تحريمها عليه عقوبة وتغليظ لا لحرمتها وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين في التحريم دون المحرمية ولا يحتاج إلى استثنائهن لانقطاع حكمهن.
وظهر أن زوج الأخت ليس بمحرم لأختها لأن تحريمها ليس على التأبيد والعبد ليس بمحرم لسيدته لأنها لا تحرم أيدا ولا يؤمن عليها كالأجنبي ولا يلزم من النظر المحرمية وعنه هو محرم وذكر في "شرح المذهب" أنه المذهب لأنه يباح له النظر إليها كذي محرمها وهو منقوض بالقواعد من النساء وبغير أولى الإربة
"إذا كان بالغا عاقلا" لأن الصبي والمجنون لا يقاومان بأنفسهما فكيف يخرجان مع غيرهما ولأن المقصود بالمحرم حفظ المرأة ولا يحصل ذلك منهما ولا وجه لقوله في "الفروع": ذكرا.
ويشترط إسلامه نص عليه لأن الكافر لا يؤمن عليها كالحضانة وكالمجوس لاعتقاده حلها قال في "الفروع": ويتوجه أن مثله مسلم لا يؤمن وأنه لا يعتبر إسلامه إن أمن عليها.
وكونه باذلا للخروج معها ولو عبدا ونفقته عليها نص عليه فيعتبر أن يملك زادا وراحلة لهما ولو بذلت النفقة لم يلزمه السفر معها وكانت كمن لا محرم لها إلا العبد إذا قلنا بأنه محرم فيلزمه السفر معها وعنه يلزمه لأمره عليه السلام الزوج بالسفر معها. وأجيب بأنه أمر بعد حظر أو أمر تخيير فإن أراد أجرة فظاهر كلامهم لا يلزمها ويتوجه كنفقته كما ذكروه في التغريب فدل على أنه لو تبرع لم يلزمها للمنة.
"وعنه أن المحرم من شرائط لزوم الأداء" كإمكان المسير وتخلية الطريق ولوجود السبب فهو كسلامتها من مرض فعلى هذا يحج عنها كموت أو(3/42)
وإن مات المحرم في الطريق مضت في حجها ولم تصر محصرة. ولا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره, ولا نذر، ولا نافلة، فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام.
ـــــــ
مرض لا يرجى برؤه ويلزمها أن توصي به وظاهر "الخرقي" أن المحرم شرط للوجوب دون أمن الطريق وسعة الوقت وقدمه المؤلف وغيره وشرطها في "الهداية" للوجوب قال المجد والتفرقة على كلا الطريقين مشكلة والصحيح التسوية بين هذه الشروط إما نفيا وأما إثباتا.
فرع: إذا حجت بغير محرم حرم وأجزأ كما لو ترك حقا يلزمه من دين أو غيره لتعلقه بذمته ويصح من معضوب وأجير رحمة بأجرة أو لا وتاجر ولا إثم نص على ذلك.
"وإن مات المحرم في الطريق مضت في حجها" لأنها لا تستفيد بالرجوع لكونه بغير محرم ومحله إذا تباعدت فإن كان تطوعا وأمكنها الإقامة ببلد فهو أولى من السفر بغير محرم وإن مات وهى المساجد رجعت لتقضى العدة في منزلها لأنها في حكم المقيم ذكره في "الشرح". "ولم تصر محصرة" لأنها لا تستفيد بالتحلل زوال ما بها كالمريض.
"ولا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره" في الصحيح لحديث عبدة بن سليمان عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال: "حججت عن نفسك" قال: لا قال: "حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" احتج به أحمد في رواية صالح وإسناده جيد وصححه البيهقى ولأنه حج عن غيره قبل حجه عن نفسه فلم يجز كما لو كان حيا
"ولا نذر ولا نافلة" أي لا يجوز أن يحرم بنذر ولا نافلة من عليه حجة الإسلام "فإن فعل انصرف إلى حجة الإسلام" في الصور كلها في اختيار الأكثر لما روى الدارقطني بإسناد ضعيف: "هذه عنك وحج عن شبرمة".(3/43)
وعنه: يقع ما نواه. وهل يجوز لمن تعذر عليه الحج بنفسه أن يستنيب في حج التطوع؟ على روايتين.
ـــــــ
وقوله أولا: " حج عن نفسك" أي استدمه كقولك للمؤمن آمن ولأن نية التعيين ملغاة فيصير كما لو أحرم مطلقا وقال أبو حفص العكبري ينعقد عن المحجوج عنه ثم يقلبه الحاج عن نفسه لقوله: عليه السلام: "اجعل هذه عن نفسك" رواه ابن ماجه. وأجاب القاضي بأنه أراد التلبية لقوله: "هذه عنك" ولم يجز فسخ حج إلى حج وعنه يقع باطلا اختاره أبو بكر في "الخلاف" لأنه لم ينو نفسه فلا يحصل له وغيره ممنوع من الإحرام عنه فلا يصح لارتكابه النهي
"وعنه" يجوز عن غيره و "يقع ما نواه" قال القاضي هو ظاهر نقل محمد بن ماهان فيمن عليه دين لا مال له أيحج عن غيره حتى يقضى دينه قال نعم لأن الحج يدخله النيابة فجاز أن يؤديه من لم يسقط فرض نفسه كالزكاة. وفي "الانتصار" رواية: يقع عما نواه بشرط عجزه عن حجة لنفسه. فعلى المذهب لا ينوب من لم يسقط فرض نفسه قال في "الفروع": ويتوجه ما قيل ينوب في نفل عبد وصبى ويحرم وجزم به في "الرعاية". ومتى وقع الحج للحاج لم يأخذ شيئا وفي "الفصول": احتمال.
فرع: إذا استناب عن المغضوب أو عن الميت واحدا في فرضه وآخر في نذره في سنة جاز وزعم ابن عقيل أنه أفضل من التأخير لوجوبه على الفور ولكن يحرم بحجة الإسلام أو لا أيهما أحرم أو لا فعن حجة الإسلام ثم الأخرى عن النذر ولو لم ينو في ظاهر كلامهم. "وهل يجوز لمن تعذر عليه الحج بنفسه أن يستنيب في حج التطوع على روايتين":
إحداهما يجوز جزم به في "الوجيز"، وصححه في "الفروع" لأنها حجة لا تلزمه بنفسه فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب. والثانية لا لأنه قادر على الحج بنفسه فلم يجز له الاستنابة كالفرض ومحلهما إذا أدى حجة الإسلام وهو قادر على الاستنابة عليها بنفسه. أما لو كان قادرا ولم(3/44)
ـــــــ
يؤد الفرض لم يصح أن يستنيب في التطوع لأنه ممنوع بنفسه فنائبه أولى وإذا أدى فرضه ثم عجز جازت الاستنابة فيه لأنه إذا جاز في الفرض فالنفل أولى ذكره في "المغني" و"الشرح" ويكفي النائب أن ينوي المستنيب ولا يشترط تسميته لفظا نص عليه وأن جهل اسمه أو نسيه لبى عمن سلم إليه المال ليحج به عنه.
فصل
في مخالفة النائب إذا أمره بحج فاعتمر لنفسه ثم حج.
فقال القاضي لا يقع عن الآمر ويرد كل النفقة لأنه لم يؤمر به ونص أحمد واختاره المؤلف وغيره إن أحرم من ميقات فلا ومن مكة يرد من النفقة ما بينهما ويلزمه دم لترك ميقات ومن أمر بإفراد فقرن لم يضمن لأنه زاد كبيع بأكثر مما سمى وقيل هدر وكذا إن تمتع إلا أن يكون على العين وقد أمره بتأخير العمرة فيرد حصتها ومن أمر بتمتع فقرن لم يضمن وقال القاضي يرد نصف النفقة لفوات فضيلة التمتع.
وعمرة مفردة كإفراده ولو اعتمر لأنه أخل بها من الميقات ومن أمر بقران فتمتع أو أفرد فللآمر ويرد نفقة قدر ما تركه من إحرام النسك المتروك من الميقات ذكره في "المغني" و"الشرح" وفي "الفصول" وغيرها: يرد نصف النفقة وأن من تمتع لا يضمن لأنه زاد خيرا وإن استنابه رجل في حج وآخر في عمرة وأذنا في القران جاز لأنه نسك مشروع وإن لم يأذنا صحا له وضمن الجميع كمن أمر بحج فاعتمر أو عكسه ذكره القاضي وغيره وفي "المغني" و"الشرح" يقع عنهما فإن أدى أحدهما رد على غير الآمر نصف نفقته وحده لأن المخالفة في صفته وإن أمر بحج فحج ثم اعتمر لنفسه أو بالعكس صح ولم يضمن شيئا لأنه أتى بما أمر به وعليه نفقة نفسه مدة مقامه لنفسه فإن أرادوا إقامة تمنع القصر فظاهره يخالف ما(3/45)
ـــــــ
سبق وإن أمر ب الإحرام من ميقات فأحرم قبله أو من غيره أو بلده فأحرم من ميقات أو في عام أو في شهر فخالف جاز ذكره في "المغني" و"الشرح" لإذنه فيه في الجملة. وقال ابن عقيل أساء لمخالفته وفي "الانتصار" لو نواه بخلاف ما أمره به وجب رد ما أخذه.
مسألة: يستحب أن يحج عن أبويه قيده بعضهم إن لم يحجا وقيل وغيرهما وتقدم أمه لأنها أحق بالإكرام ويقدم واجب أبيه على نفلها نص عليهما نقل أبو طالب يقدم دين أبيه على نفله لنفسه فأمه أولى ولكل منهما منع ولده من نفل لا تحليله للزومه بالشروع ويلزمه طاعتهما في غير معصية ويحرم فيها(3/46)
باب المواقيت
وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام ومصر و الغرب من الجحفة، وأهل اليمن يلملم، وأهل نجد
ـــــــ
باب المواقيت
هي جمع ميقات ومعناه لغة الحد والمراد به ها هنا زمن العبادة ومكانها.
"وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة" بضم الحاء وفتح اللام بينها وبين المدينة ستة أميال أو سبعة وبينها وبين مكة مسيرة عشرة أيام. "وأهل الشام ومصر والغرب من الجحفة" بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وهى قرية جامعة على طريق المدينة وكان أسمها "مهيعة" فجحف السيل بأهلها وهى على ستة أميال من البحر وثمان مراحل من المدينة وثلاث من مكة. "وأهل اليمن يلملم" وهو جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة والياء بدل من الهمزة لأن أصله "ألملم" وليست بمزيدة "وأهل نجد" هو بفتح النون وسكون الجيم قال صاحب "المطالع": هو ما بين جرش إلى سواد الكوفة وكلها من عمل اليمامة وقال الجوهري هو خلاف الغور والغور هو تهامة كلها وكل ما ارتفع من أرض العراق فنجد انتهى فنجد اليمن ونجد الحجاز(3/46)
قرن، وأهل المشرق ذات عرق. وهذه المواقيت لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم. ومن منزله دون الميقات فميقاته من موضعه, وأهل مكة
ـــــــ
والطائف "قرن" بسكون الراء فقط ويقال له قرن المنازل وقرن الثعالب وهو تلقاء مكة على يوم وليلة منها "وأهل المشرق ذات عرق" هو منزل معروف سمي به لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير وقيل العرق الأرض السبخة تنبت الطرفاء.
وأصله ما روى ابن عباس قال وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة ومن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها وعن ابن عمر نحوه .
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق رواه أبو داود والنسائي وعن جابر مرفوعا نحوه رواه مسلم. فدل أن هذه المواقيت ثبتت بالنص وقال بعض العلماء منهم الشافعي في "الأم": إن ذات عرق باجتهاد عمر ففي "البخاري" عن ابن عمر قال لما فتح هذان المصران أتوا عمر بن الخطاب فحد لهم ذات عرق والظاهر أنه خفي النص فوافقه برأيه فانه موفق للصواب وليس الأفضل للعراقي أن يحرم من العقيق وهو واد وراء ذات عرق بمرحلة أو مرحلتين يلي الشرق. وما رواه أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو شيعي مختلف فيه وقال ابن معين و أبو زرعة لا يحتج به وقال ابن عبد البر ذات عرق ميقاتهم بإجماع.
"وهذه المواقيت لأهلها" كما سلف "ولمن مر عليها من غيرهم" كالشامي يمر بذي الحليفة فإنه يحرم منها نص عليه قيل له يهل من ميقاته من الجحفة قال سبحان الله واحتج بالخبر وحكاه النووي إجماعا وفيه نظر فإن المالكية وعطاء وأبا ثور قالوا يحرم من الجحفة ويتوجه إلى مثله قاله في "الفروع".
"ومن منزله دون الميقات فميقاته من موضعه" للخبر السابق ولو كان في قرية يسكنها جاز له الإحرام من أي جوانبها شاء والأولى الأبعد "وأهل مكة(3/47)
إذا أرادوا العمرة فمن الحل. ولو أرادوا الحج فمن مكة.
ـــــــ
إذا أرادوا العمرة فمن الحل" لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبى بكر أن يعمر عائشة من التنعيم متفق عليه ولأن أفعال العمرة كلها في الحرم فلم يكن بد من الحل ليجمع في إحرامه بين الحل والحرم بخلاف الحج فإنه يخرج إلى عرفة فيحصل الجمع وظاهره من أي الحل أحرم جاز لكن قال أحمد كلما تباعد فهو أعظم للأجر قيل التنعيم أفضل لأنه أقرب الحل إلى مكة وفي "التلخيص" و"المستوعب" الجعرانة لاعتمار عليه السلام منها ثم منه ثم من الحديبية وذكر ابن أبى موسى أن من بمكة من غير أهلها إذا أراد عمرة واجبة فمن الميقات وإلا لزمه دم لمن جاوز الميقات وأحرم دونه وإن أراد نفلا فمن أدنى الحل فلو خالف فأحرم بها من مكة صح ولزمه دم لمخالفة الميقات ويجزئه إن خرج إلى الحل قبل طوافها وكذا بعده كإحرامه دون ميقات الحج وقيل لا لأنه نسك فاعتبر فيه الجمع بينهما كالحج فعليه لا يعتد بأفعاله وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها وإن أتى محظورا فدى وبالوطء يلزمه المضي في فاسده وقضاها بعمرة من الحل ويجزئه عنها ولا يسقط دم المجاوزة.
فرع: حكم من كان بالحرم حكم من بمكة فيما ذكرنا.
"ولو أرادوا الحج فمن مكة" لقول جابر أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم من الأبطح رواه مسلم وظاهره لا ترجيح لموضع ونقل حرب عنه في المسجد ولم أجد عنه خلافه ولم يذكره الأصحاب إلا في "الإيضاح" قال يحرم به من الميزاب وعنه فيمن اعتمر في أشهر الحج زاد غير واحد من أهل مكة يهل بالحج من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم وهي ضعيفة عند الأصحاب وأولها بعضهم بسقوط دم المتعة عن الآفاقي بخروجه إلى الميقات.
وعنه إذا أحرم من الميقات عن غيره ودخل مكة فقضى نسكه ثم أراد أن يحرم عن نفسه واجبا أو نفلا أو أحرم عن نفسه ثم أراد عن غيره أو عن إنسان ثم عن آخر يخرج يحرم من الميقات وإلا لزمه دم اختاره جماعة. وفي(3/48)
ومن لم يكن طريقه على ميقات, فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم, ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات بغير إحرام
ـــــــ
"الترغيب": لا خلاف فيه وفيه نظر والأشهر أنه لا يلزمه الخروج إليه كما ذكره المؤلف وهو ظاهر "الخرقي" عملا بإطلاق الحديث. والمذهب أنه يجوز من الحل والحرم ونصره القاضي وأصحابه كما لو خرج إلى الميقات الشرعي وكالعمرة ومنعوا وجوب إحرامه من الحرم ومكة.
"ومن لم يكن طريقه على ميقات" كعنداب فإنها في طرف المغرب "فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم" لقول عمر انظروا حذوها من قديد رواه البخاري ولأنه يعرف بالاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة وهذا فيمن علم فإن لم يعلم حذو الميقات أحرم من بعد إذ الإحرام قبله جائز وتأخيره عنه حرام فإن تساوى ميقاتان في القرب إليه أحرم من أبعدهما عن مكة فإن لم يحاذ ميقاتا ففي "الرعاية": أحرم عن مكة بقدر مرحلتين وهو متجه إن تعذر معرفة المحاذاة.
"ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات بغير إحرام" نص عليه لأنه عليه السلام وقت المواقيت ولم ينقل عنه ولا عن أحد من أصحابه أنهم تجاوزوه بغير إحرام إلا فيما نذكره وعن ابن عباس مرفوعا: "لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام" فيه ضعف. وعنه: لا يلزمه إلا أن يريد نسكا ذكرها جماعة وصححها ابن عقيل قال في "الفروع": وهي ظاهرة وينبني على إلا لقتال مباح أو حاجة مكررة كالحطاب ونحوه ثم إن بدا له النسك أحرم من موضعه عموم المفهوم والأصل عدم الوجوب وحكم من أراد دخول الحرم كمكة فإن لم يرد دخوله لم يلزمه بغير خلاف لأنه عليه السلام وأصحابه أتوا بدرا مرتين وكانوا يسافرون للجهاد فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام.
وظاهر كلامه أنه إذا أرادها لتجارة أو زيارة أنه يلزمه نص عليه واختاره الأكثر لأنه من أهل فرض الحج ولعدم تكرر حاجته والثانية وهي ظاهر "الخرقي" لا يلزمه وحكاه أحمد عن ابن عمر فعلى الأولى إذا دخل طاف وسعى وحلق نص عليه وليس المراد به كل داخل وإنما هو الحر(3/49)
إلا لقتال مباح أو حاجة مكررة كالحطاب ونحوه. ثم إن بدا له النسك أحرم من موضعه.ومن جاوزه مريدا للنسك رجع فأحرم منه. فإن أحرم من موضعه، فعليه دم
ـــــــ
المسلم المكلف فلو كان ممن لا تجب عليه كالعبد والصبي والكافر لم يلزمهم الإحرام منه فلو زال المانع بعد مجاوزته لميقاتهم فمن موضعهم ولا دم عليه. وعنه: بلى لمن وجبت عليه وعنه يلزم من أسلم نصره القاضي وأصحابه لأنه حر بالغ عاقل كالمسلم وهو متمكن من زوال المانع.
"إلا لقتال مباح" لدخوله عليه السلام يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر ولم ينقل أنه هو ولا أحد من أصحابه، أحرم.
وحكم الخوف كذلك "أو حاجة مكررة كالحطاب ونحوه" كالحشاش لما روى حرب عن ابن عباس لا يدخلن إنسان مكة إلا محرما إلا الحمالين والحطابين وأصحاب منافعها. احتج به أحمد وحكم المكي إذا تردد إلى قريته بالحل كذلك إذ لو وجب لأدى إلى ضرر ومشقة وهو منفي شرعا قال ابن عقيل وكتحية المسجد في حق قيمه للمشقة.
"ثم إن بدا له" أي من لا تلزمه أو لم يرد الحرم "النسك أحرم من موضعه" لأنه حصل دون الميقات على وجه مباح فكان له الإحرام منه كأهل ذلك المكان ولأن من منزله دون الميقات لو خرج إليه ثم عاد لم يلزمه وعنه يلزمه كمن جاوزه مريدا للنسك.
"ومن جاوزه مريدا للنسك رجع" إلى الميقات "فأحرم منه" لأن الإحرام من الميقات واجب ومن قدر على الواجب لزمه فعله سواء تجاوزه عالما أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله وشرط الرجوع ما لم يخف فوت الحج أو غيره وأطلق في "الرعاية" وجهين.
"فإن أحرم من موضعه" صح إحرامه "وعليه دم" لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك نسكا، فعليه دم" ولتركه الواجب.(3/50)
وإن رجع إلى الميقات والاختيار أن يحرم قبل ميقاته المكاني ولا يحرم بالحج قبل أشهره فإن فعل فهو محرم.
ـــــــ
"وإن رجع إلى الميقات" بعد إحرامه لم يسقط الدم عنه نص عليه لأنه وجب لترك إحرامه من ميقاته فلم يسقط كما لو لم يرجع وعنه يسقط لإتيانه بالواجب.
فرع إذا أفسد نسكه هذا لم يسقط دم المجاوزة نص عليه وعليه الأصحاب كدم محظور ولأنه الأصل ونقل مهنا تسقط لأن القضاء واجب. "والاختيار" أي الأفضل "أن لا يحرم قبل ميقاته" المكاني لفعله عليه السلام ولا يعدل عن الأفضل والجواز حصل بقوله ونقل صالح إن نوى على ذلك فلا بأس واحتج المجيز بما روت أم سلمة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" أو: "وجبت له الجنة" شك عبد الله بن عبد الرحمن أيتهما قال رواه أبو داود قال بعضهم وإسناده جيد. وجوابه بأنه يرويه ابن أبي فديك قال ابن سعد ليس بحجة وفيه نظر فإنه ثقة محتج به في الكتب الستة وقوله في "الشرح": وفيه ابن إسحاق مردود. وجوابه: بأن معنى أهل أي قصد من المسجد الأقصى ويكون إحرامه من الميقات قاله القاضي وأجاب في "المغني" و"الشرح" بأنه يحتمل أن يكون خاصا ببيت المقدس ليجمع بين الصلاتين من المسجدين في إحرام واحد بدليل أن ابن عمر أحرم منه ولم يكن يحرم في غيره إلا من الميقات.
"ولا يحرم بالحج قبل أشهره" لقول ابن عباس من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج رواه البخاري ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها فلم يكن مختارا لميقات المكان.
"فإن فعل" أي أحرم قبل ميقات المكان والزمان "فهو محرم" حكى ابن المنذر الصحة في تقدمه على ميقات المكان إجماعا لأنه فعل جماعة من الصحابة والتابعين ولم يقل أحد قبل داود إنه لا يصح ولكنه مكروه وجزم به(3/51)
وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
ـــــــ
المعظم لأنه عليه السلام لم يحرم من دويرة أهله وكذا عامة أصحابه وأنكره عمر على عمران بن حصين حين أحرم من مصر وعثمان على عبد الله بن عامر حين أحرم من خراسان رواهما سعيد قال البخاري كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ولأنه أحرم قبل الميقات فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره ولعدم أمنه من محظور وفيه مشقة عظيمة والوصال وكيف يتصور الأمن مع احتمال ما لا يمكن دفعه والمذهب المنصور صحة الحج قبل أشهره كما ذكره المؤلف كالأول نقل طالب وسندي يلزمه الحج إلا أن يريد فسخه بعمرة فله ذلك بناء على أصله وعنه ينعقد عمرة اختاره الآجري وابن حامد ونقل ابن منصور يكره وذكر ابن شهاب العكبري رواية لا يجوز.
وجه الأول قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وكلها مواقيت للناس فكذا للحج وقوله: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي: معظمه في أشهر كقوله: "الحج عرفة". أو أراد حج المتمتع وإن أضمر الإحرام أضمرنا الفضيلة والخصم يضمر الجواز والمضمر لا يعم وقول ابن عباس محمول على الاستحباب.
"وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة" رواه ابن عمر مرفوعا وقاله جمع من الصحابة ويوم النحر منه وهو يوم الحج الأكبر نص عليه لأن العشر بإطلاقه للأيام كالعدة وقال القاضي والمؤلف العرب تغلب التأنيث في العدد خاصة لسبق الليالي فنقول سرنا عشرا وإنما فات الحج بفجر يوم النحر لخروج وقت الوقوف فقط والجمع يطلق على اثنين وعلى اثنتين وبعض آخر كعدة ذات القروء وعلم منه أن العمرة لا يفسد فيها توقيت بل يفعل في كل سنة وهي في رمضان أفضل لما في الصحيحين عن ابن عباس مرفوعا: "عمرة في رمضان تقضي حجة" أو قال: "حجة معي" ونقل عنه ابن إبراهيم هي في رمضان أفضل وفي غير أشهر الحج(3/52)
.
ـــــــ
أفضل ولا يكره الإحرام بها يوم عرفة والنحر والتشريق كالطواف المجرد إذ الأصل عدم الكراهة ولا دليل وعنه يكره رواه النجاد عن عائشة وخصها بعضهم بأيام التشريق.(3/53)
باب الإحرام
يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويلبس ثوبين أبيضين نظيفين إزارا ورداء.
ـــــــ
باب الإحرام
قال ابن فارس هو نية الدخول في التحريم كأنه يحرم على نفسه النكاح والطيب وأشياء من اللباس كما يقال أشتى إذا دخل في الشتاء وأربع إذا دخل في الربيع. وشرعا هو نية النسك لا بنية ليحج أو يعتمر.
"يستحب لمن أراد الإحرام أن يغتسل" ولو حائضا ونفساء ويتيمم لعدم ولا يضر حدثه بعد غسله قبل إحرامه "ويتنظف" بأخذ شعره وظفره وقطع رائحة لقول إبراهيم كانوا يستحبون ذلك ثم يلبسون أحسن ثيابهم رواه سعيد ولأن الإحرام عبادة فسن فيه ذلك كالجمعة ولأن مدته تطول "ويتطيب" لقول عائشة كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم رواه البخاري ومراده في بدنه وهو الذي ذكره أكثر المشايخ و أو رده ابن حمدان مذهبا والمذهب يكره تطيب ثوبه وحرمه الآجري فيه وعلى المذهب لا فرق فيه بين أن تبقى عينه كالمسك أو أثره كالبخور فإن استدامه فلا كفارة لخبر يعلى بن أمية وأجيب بأنه عام حنين سنة ثمان وما سبق في حجة الوداع وامرأة كرجل فإن نقله من بدنه من مكان إلى آخر أو نقله عنه ثم رده أو نزعه ثم لبسه فدى بخلاف ما لو سال بعرق أو شمس
"ويلبس ثوبين أبيضين نظيفين إزارا ورداء" ونعلين لما روى أحمد عن ابن(3/53)
ويتجرد عن المخيط ويصلى ركعتين ويحرم عقيبهما وينوي الإحرام بنسك معين ولا ينعقد إلا بالنية.
ـــــــ
عمر مرفوعا: "ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" قال ابن المنذر: ثبت ذلك ولا فرق فيه بين الجديد وغيره وفي "تبصرة الحلواني": إخراج كتفه الأيمن من الرداء أولى وظاهره أنه يجوز إحرامه في ثوب واحد وفي "التبصرة": بعضه على عاتقه.
"ويتجرد" الرجل "عن المخيط" وهو كل ما يخاط كالقميص والسراويل لأنه عليه السلام تجرد لإهلاله رواه الترمذي وكان ينبغي تقديمه على اللبس لكن الو أو لا تقتضي الترتيب "ويصلي ركعتين ويحرم عقيبهما" لحديث ابن عباس قال إني لأعلم الناس بذلك خرج حاجا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتين أهل بالحج حين فرغ منهما رواه أحمد و أبو داود.
وما ذكره من استحباب الركعتين قبله هو قول أكثر العلماء ولا يركعهما وقت نهي ولا من عدم الماء والتراب والمذهب أنه يحرم عقيب صلاة فرضا كانت أو نفلا نص عليه وحكاه ابن بطال عن جمهور العلماء لأنه عليه السلام أهل في دبر صلاة رواه النسائي.
وعنه عقبها وظاهره أنه إذا ركب وإذا سار سواء واختار الشيخ تقي الدين عقب فرض إن كان وقته وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه وقال في "الفروع": ويتوجه إن كان بالميقات مسجد استحب صلاة الركعتين فيه ويستحب استقبال القبلة عند إحرامه صح عن ابن عمر
"وينوي الإحرام بنسك معين" لفعله عليه السلام وفعل من معه في حجة الوداع ولأن أحكام ذلك يختلف فاستحب تعينه ليترتب عليه مقتضاه وفي عبارته تسامح لأن الإحرام هو نية النسك فكيف ينوي النية وحمله ابن المنجا على أن معناه ينوي بنيته نسكا معينا ثم قال والأشبه أنه شرط كما ذهب إليه بعض أصحابنا لأنه كنية الوضوء.
"ولا ينعقد النسك إلا بالنية" لقوله: "إنما الأعمال بالنيات" ، ولأنه عمل(3/54)
ويشترط فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسر لي وتقبله مني وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني.
ـــــــ
وعبادة محضة فافتقر إليها كالصلاة ونية النسك كافية نص عليه.
وفي "الانتصار" رواية مع تلبية أو سوق هدي اختاره الشيخ تقي الدين وجه الأول أنه عبادة بدنية ليس في آخرها نطق واجب فكذا أو لها كالصوم بخلاف الصلاة وأما الهدي فإيجاب مال كالنذر ورفع الصوت بها لا يجب فكذا تابعه ولو سلم فهو للندب وفي "الفروع": يتوجه احتمال تجب التلبية.
فرع إذا نطق بغير ما نواه فالعبرة بالمنوي لا بما سبق لسانه حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه.
"و" يستحب أن "يشترط" لقوله عليه السلام لضباعة بنت الزبير حين قالت له إني أريد الحج وأجدني وجعة فقال: "حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني" متفق عليه. واستحبه الشيخ تقي الدين للخائف خاصة جمعا بين الأدلة.
"فيقول" هذا راجع إلى تعيين النسك وعبارة المحرر أولى "اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني" ولم يذكروا مثل هذا في الصلاة لقصر مدتها وتيسيرها عادة " وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" لقول عائشة لعروة قل اللهم إني أريد الحج فإن تيسر وإلا فعمرة ويستفيد به أنه متى حبس بمرض أو عذر أو خطأ في طريق وغيره حل ولا شيء عليه نص عليه لكن قال في "المستوعب" وغيره: إلا أن يكون معه هدي فيلزمه نحره فلو قال فلي أن أحل خير ولو شرط أن يحل متى شاء أو إن أفسده لم يقضه لم يصح ذكره القاضي وغيره لأنه لا عذر له في ذلك وقيل يصح اشتراطه بقلبه لأنه تابع للإحرام وينعقد بالنية فكذا هو.
فرع يبطل إحرامه ويخرج منه بردته لا بجنون وإغماء وسكر كموت.(3/55)
وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران و أفضل ها التمتع.
ـــــــ
ولا ينعقد مع وجود أحدها.
"وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران" ذكره جماعة إجماعا لقول عائشة خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل" ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت وأهل بالحج وأهل به ناس معه وأهل معه ناس بالعمرة والحج وأهل ناس بالعمرة وكنت فيمن أهل بعمرة متفق عليه. وذهب طائفة من السلف والخلف أنه لا يجوز إلا التمتع وقاله ابن عباس وعند طائفة من بني أمية ومن تبعهم النهي عن التمتع وعاقبوا من تمتع وكره التمتع عمر و عثمان ومعاوية وابن الزبير وبعضهم والقران وروى الشافعي عن ابن مسعود أنه كان يكرهه.
"وأفضلها التمتع" في قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وجمع نص عليه في رواية صالح وعبد الله وقال لأنه آخر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعمل بكل واحد منهما على حدة قال إسحاق بن إبراهيم كان اختيار أبي عبد الله الدخول بعمرة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم" وفي الصحيحين أنه عليه السلام أمر أصحابة لما طافوا وسعوا أن يجعلوها عمرة إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه لسوقه الهدي وتأسف ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل ولا يتأسف إلا عليه لا يقال أمرهم بالفسخ ليس لفضل التمتع وإنما هو لاعتقادهم عدم جواز العمرة في أشهر الحج لأنهم لم يعتقدوه ثم لو كان لم يخص به من لم يسق الهدي لأنهم سواء في الاعتقاد ثم لو كان لم يتأسف لاعتقاده جوازها فيها وجعل العلة فيه سوق الهدي ولأن التمتع منصوص عليه في كتاب الله ولإتيانه بأفعالهما كاملة على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك وهو الدم قال في رواية أبي طالب إذا دخل بعمرة يكون قد جمع الله له عمرة وحجة ودما لا يقال لو كان دم نسك لم يدخله كالهدي والأضحية ولا(3/56)
ثم الإفراد وعنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل. ثم التمتع.
ـــــــ
يستوي فيه جميع المناسك لأن دخول الصوم لا يخرجه عن كونه نسكا لأنه بدل والقرب يدخلها الإبدال كالقران وإنما اختص به لوجود سببه وهو الرفه بأحد السفرين.
فإن اعترض بأن النسك الذي لا دم فيه أفضل كإفراد لا دم فيه رد تمتع المكي وغيره سواء عندك وإنما كان إفراد لا دم فيه أفضل لأن ما يجب فيه دم جنابة وإفراد فيه دم تطوع أفضل.
"ثم الإفراد" لما في الصحيحين عن ابن عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أهلوا بالحج وفي "مسلم" عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وقال عمر وعثمان وجابر هو أفضل الأنساك لما ذكرنا ولإتيانه بالحج تاما من غير احتياج إلى خبر فكان أولى وشرط أفضل يته عند الشافعي أن يعتمر تلك السنة فلو أخرها عن سنته فالتمتع والقران أفضل منه لكراهة تأخيره العمرة عن سنة الحج وأجاب أصحابنا عن الخبر أنه أفرد عمل الحج عن عمل العمرة أو أهل بالحج فيما بعد مع أن أكثر الروايات عن جابر ذكر أصحابه فقط. وأجاب أحمد في رواية أبي طالب بأن هذا كان في أول الأمر بالمدينة أحرم بالحج فلما دخل مكة فسخ على أصحابه وتأسف على التمتع لأجل سوق الهدي فكان المتأخر أولى.
"وعنه إن ساق الهدي فالقران أفضل ثم التمتع" لما في الصحيحين عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا". وعن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما جميعا: "لبيك عمرة وحجا" ، اختاره الشيخ تقي الدين ولأن فيه مسارعة إلى فعل العبادتين مع زيادة نسك وهو الدم فكان أولى.
وأجيب بأنه يحتمل أن أنسا سمعه يلقن قارنا تلبيته فظن أنه يلبي بهما عن نفسه أو سمعه في وقتين أو وقت واحد لما أدخل الحج على العمرة أو فرق(3/57)
وصفة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها،
ـــــــ
بينهما أي فعل الحج بعدها ويسمى قرانا لغة.
وحاصله أن التمتع أفضل لكثرة الأخبار به وصحتها وصراحتها مع أنه قوله وهو مقدم على فعله لاحتمال اختصاصه به. وقد روي عنه عليه السلام أنه كان متمتعا فروى سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمتع في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه. وعن عروة عن عائشة مثله وأمر ابن عباس بها وقال سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم متفق عليهن لكن قال أحمد لا أشك أنه كان قارنا والمتعة أحب إلي وفيه أحاديث قال الشيخ تقي الدين وعليه متقدمو الصحابة وهو باتفاق علماء الحديث وفيه نظر.
"وصفة التمتع: أن يحرم بالعمرة" كذا أطلقه جماعة منهم في "المحرر" و"الوجيز" وأحرم آخرون من الميقات أي ميقات بلده "في أشهر الحج" نص عليه لأن العمرة عنده في الشهر الذي يهل بها فيه وروي معناه بإسناد جيد عن جابر لا الشهر الذي يحل منها فيه لأنها لو لم يحرم بها في أشهر الحج لم يجمع بين النسكين فيه ولم يكن متمتعا كالمفرد.
"ويفرغ منها" قاله معظم الأصحاب ومعناه يتحلل منها قاله في "المستوعب" لأنه لو أحرم بالحج قبل التحلل من العمرة لكان قارنا واجتماع النسكين ممتنع وفيه نظر ولم يذكر الفراغ منها في "المحرر" و"المغني" وذكر أن صفتها أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم يحج من عامه لقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] أي: فمن تمتع بالعمرة توصلا بها إلى الحج فعلى قوله هنا المراد به التمتع الموجب للدم ومن هنا قلنا إن تمتع حاضري المسجد الحرام صحيح على المذهب. وقال ابن أبي موسى لا متعة لهم وحكى رواية ومعناه ليس عليهم دم متعة لأن المتعة له لا عليه. قال الزركشي وقد يقال إن هذا من الإمام بناء على أن العمرة لا تجب عليهم فلا متعة عليهم أي الحث كافيهم.(3/58)
ثم يحرم بالحج من مكة أو من قريب منها في عامه والإفراد أن يحرم بالحج منفردا والقران أن يحرم بهما جميعا أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج وإن أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يصح إحرامه بها.
ـــــــ
"ثم يحرم بالحج من مكة أو من قريب منها" نقله حرب و أبو داود لما روي عن عمر أنه قال إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع وإن خرج ورجع فليس بمتمتع وعن ابن عمر نحوه.
"في عامه" اتفاقا لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} ، [البقرة:196] فظاهره يقتضي المولاة بينهما ولأنه لو أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج ثم حج من عامه لا يكون متمتعا فلأن لا يكون متمتعا إذا لم يحج من عامه الأولى وظاهره أنه لا يشترط لها غير ذلك وشرط القاضي و أبو الخطاب أن ينوي التمتع في ابتداء العمرة أو أثنائها لأنه جمع بين العبادتين فافتقر إلى النية كالصلاة وظاهر الآية يشهد للأول لأن التمتع هو الرفه بأحد السفرين وهو موجود بدونها
"والإفراد أن يحرم بالحج مفردا" ثم يعتمر ذكره جماعة. قال جماعة يحرم به من الميقات ثم يحرم بها من أدنى الحل زاد بعضهم وعنه بل من الميقات وفي "المحرر": أن لا يأتي في أشهر الحج بغيره قال الزركشي وهو أجود وفيه نظر.
"والقران أن يحرم بهما جميعا" لفعله عليه السلام قال جماعة من الميقات، "أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج" من مكة أو قربها قاله جماعة لما روت عائشة قالت أهللنا بالعمرة ثم أدخلنا عليها الحج وفي "الصحيحين" أن ابن عمر فعله وقال هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي "الصحيح" أنه أمر عائشة بذلك وشرطه أن لا يكون شرع في طوافها فإن شرع فيه لم يصح الإدخال كما لو سعى إلا لمن معه هدي فيصح ويصير قارنا بناء على المذهب أنه لا يجوز له التحلل حتى يبلغ الهدي محله ولا يعتبر لصحة إدخاله الإحرام به في أشهره على المذهب.
"وإن أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يصح إحرامه بها" لأنه لم يرد(3/59)
ويجب على المتمتع والقارن دم نسك
ـــــــ
به أثر ولم يستفد به فائدة بخلاف ما سبق فعلى هذا لا يصير قارنا بناء على أنه لا يلزمه ب الإحرام الثاني شيء وفيه خلاف والمذهب أن عمل القارن كالمفرد في الإجزاء نقله الجماعة ويسقط ترتيب العمرة ويصير الترتيب للحج كما يتأخر الحلاق إلى يوم النحر فوطؤه قبل طوافه لا يفسد عمرته لقول عائشة وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا متفق عليه وعن ابن عمر نحوه رواه أحمد وكعمرة المتمتع.
وعنه على القارن طوافان وسعيان رواه سعيد والأثرم عن علي وفي صحته نظر مع أنه لا يرى إدخال العمرة على الحج فعليها يقدم القارن فعل العمرة على فعل الحج كالمتمتع إذا ساق هديا فلو وقف بعرفة قبل طوافه وسعيه لها فقيل تنقض عمرته ويصير مفردا بالحج يتمه ثم يعتمر وقيل لا ينتقض فإذا رمى الجمرة طاف لها ثم سعى ثم طاف ثم سعى وعنه على القارن عمرة مفردة اختاره أبو بكر و أبو حفص لعدم طوافها ولاعتمار عائشة.
"ويجب على المتمتع والقارن دم نسك" أما دم التمتع فلازم إجماعا وقد سبق في أفضل يته وأما دم القران فلازم نص عليه واحتج له جماعة ب الآية ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين كالمتمتع ونقل بكر عليه هدي وليس كالمتمتع لأن الله أوجب على المتمتع هديا في كتابه والقارن إنما يروي عن سعيد عن أبي معشر عن إبراهيم عن عمر وهو منقطع.
وعنه لا يلزمه لقول داود وتبع المؤلف أكثر الأصحاب في كونه دم نسك. وفي "المبهج" "وعيون المسائل": أنه دم جبران وظاهره وجوبه ولو أفسد النسك نص عليه لأن ما وجب الإتيان به في الصحيح وجب في الفاسد كالطواف وعنه يسقط لعدم ترفهه بسقوط أحد السفرين والأصح أنه لا يسقط دمهما بفواته فلو قضى القارن قارنا لزمه دمان لقرانه الأول والثاني وقال المؤلف دم لقرانه ودم لفواته ولو قضى مفردا لم يلزمه شيء لأنه أفضل وجزم جماعة أنه يلزمه دم لقرانه الأول لأن القضاء كالأداء.(3/60)
إذا لم يكونا من حاضري المسجد الحرام وهم أهل مكة ومن كان منها دون مسافة القصر
ـــــــ
ولم يتعرض المؤلف لوقت لزومه والمذهب أنه يلزمه بطلوع فجر يوم النحر لظاهر قوله تعالى:{ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ} [البقرة: 196] الآية. وعنه: بإحرام الحج لأنه غاية فكفي أو له كأمره بإتمام الصوم إلى الليل وعنه بوقوفه بعرفة اختاره القاضي وعنه بإحرام العمرة لنيته التمتع إذن وينبني على الخلاف إذا مات بعد سبب الوجوب يخرج عنه من تركته وقال بعض أصحابنا فائدته إذا تعذر الدم وأراد الانتقال إلى الصوم فمتى ثبت المتعذر فيه الروايات.
ولا يجوز ذبحه قبل وقت وجوبه جزم به الأكثر فدل أنه يجوز إذا وجب وإنما يجب بشروط نبه المؤلف على بعضها، فقال: "إذا لم يكونا من حاضري المسجد الحرام وهم أهل مكة" لقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ثبت ذلك في التمتع والقران مثله لترفهه بأحد السفرين، "ومن كان منها دون مسافة القصر" نص عليه لأن حاضر الشيء من حل فيه أو قرب منه وج أو ره بدليل رخص السفر وعنه أنهم أهل الحرم ومن كان منه دون مسافة القصر جزم به في "المحرر"، وقدمه في "الفروع"، وهذا الشرط لوجوب الدم عليه ليس لكونه متمتعا فإن متعة المكي صحيحة والخلاف فيه سبق. فلو دخل الآفاقي مكة متمتعا ن أو يا للإقامة بعد فراغ نسكه فعليه دم وفيه وجه وإن استوطن أفقي مكة فحاضر وإن استوطن مكي الشام ثم عاد مقيما متمتعا فعليه الدم وفي "المحرر" و"الفصول" خلافه
فرع إذا كان له منزلان قريب وبعيد فلا دم عليه لأن بعض أهله من حاضري المسجد الحرام فلم يوجد الشرط وله أن يحرم من القريب واعتبر في "المحرر" و"الفصول" إقامته أكثر بنفسه ثم بماله ثم بنيته ثم بالذي أحرم منه.(3/61)
ومن كان قارنا أو مفردا أحببنا له
ـــــــ
الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج وسبق كلام أحمد ولأن الإحرام نسك معتبر للعمرة أو في أعمالها فاعتبر في أشهر الحج كالطواف
الثالث: أن يحج من عامه لما سبق
الرابع: أن لا يسافر بين الحج والعمرة فإن سافر مسافة قصر فأكثر فإن فعل فأحرم فلا دم عليه نص عليه وتقدم قول عمر ولأنه مسافر لم يترفه بترك أحد السفرين لمحل الوفاة.
الخامس: أن يحل من إحرام العمرة قبل إحرامه بالحج تحلل أو لا فإن أحرم به قبل حله صار قارنا
السادس: أن يحرم بالعمرة من الميقات ذكره جماعة وذكر القاضي وابن عقيل وجزم به في "المستوعب" و"الرعاية" إن بقي بينه وبين مكة دون مسافة قصر فأحرم منه فلا دم عليه لأنه من حاضري المسجد الحرام بل دم المجاوزة واختار المؤلف وغيره إذا أحرم منه لزمه الدمان لأنه لم يقم ولم ينوها به وليس بساكن
السابع: نية التمتع في ابتداء العمرة أو أثنائها ذكره القاضي والأكثر وجزم المؤلف بخلافه ولا يعتبر وقوع النسكين عن واحد.
وهذه الشروط تعتبر لكونه متمتعا وجزم به في "الرعاية" إلا الشرط السادس فإن المتعة للمكي كغيره نقله الجماعة وقدم في "الفروع" أنها لا تعتبر وظاهره أن المفرد لا دم عليه لأن عمرته في غير أشهره وذكر جماعة إن أحرم به من الميقات فلا دم عليه نص عليه وحمله القاضي على أن بينه وبين مكة مسافة قصر وفي الترغيب إن سافر إليه فأحرم منه فوجهان
"ومن كان قارنا أو مفردا أحببنا له" وكذا جزم في "المستوعب" و"الرعاية"(3/62)
أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك
ـــــــ
بالاستحباب وعبر القاضي وأصحابه والمجد بالجواز وقال الأكثر لا يجوز لأن الحج أحد النسكين فلم يجز فسخه كالعمرة " أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك" لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي متفق عليه وقال سلمة بن شبيب لأحمد كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة فقال وما هي قال تقول يفسخ الحج قال كنت أرى أن لك عقلا عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا جيادا كلها في فسخ الحج أتركها لقولك ولأنه قلب للحج إلى العمرة فاستحب لمن لحقه الفوات. وفي "الانتصار" و"عيون المسائل": لو ادعى مدع وجوب الفسخ لم يبعد مع أنه قول ابن عباس وجماعة،
واختاره ابن حزم وجوابه أنه عليه السلام لما قدم لأربع مضين من ذي الحجة فصلى الصبح بالبطحاء ثم قال: "من شاء منكم أن يجعلها عمرة فليجعلها"
واحتج المخالف بقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ورد بأن الفسخ نقله إلى غيره لا إبطاله من أصله ولو سلم فهو محمول مسألتنا قاله القاضي ومحله إذا اعتقد فعل الحج من عامه نقل ابن منصور لا بد أن يهل بالحج من عامه ليستفيد فضيلة التمتع ولأنه على الفور فلا يؤخره لو لم يحرم فكيف وقد أحرم وشرطه كما ذكره المؤلف وصاحب الوجيز إذا طافا وسعيا ونقله أبو طالب يجعلها عمرة إذا طاف وسعى ولا يجعلها وهو في الطريق لما في "الصحيحين" أنه قال لأبي موسى: "طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل". فعلى هذا ينويان بإحرامها ذلك عمرة مفردة فإذا فرغا منها وحلا منها أحرما بالحج ليصيرا متمين ولأنه لو فسخ قبله واستأنف عمرة لعري الإحرام الأول عن نسك، قاله(3/63)
إلا أن يكون قد ساق معه هديا فيكون على إحرامه ولو ساق المتمتع هديا لم يكن له أن يحل والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج أحرمت بالحج وصارت قارنة.
ـــــــ
القاضي وظاهر كلامهم يجوز فينوي إحرامه بالحج عمرة وخبر أبي موسى أراد أن الحل يترتب عليهما وليس فيه المنع من قلب النية وكلام ابن المنجا يوافقه لأن "إذا" ظرف فيكون المراد أحببنا أن يفسخ وقت طوافه أي وقت جوازه وصريح كلام ابن عقيل يعضده وهذا ما لم يقف بعرفة فإن من وقف بها أتى بمعظم العبادة وأمن فوتها بخلاف غيره وتركه المؤلف لوضوحه.
"إلا أن يكون قد ساق معه هديا فيكون على إحرامه" للنص وللأخبار وكامتناعه في زمنه عليه السلام " ولو ساق المتمتع هديا لم يكن له أن يحل" لقول ابن عمر تمتع الناس مع النبي صلى الله عليه بالعمرة إلى الحج فقال: "من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم عليه حتى يقضي حجه" فعلى هذا يحرم بالحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل تحلله بالحلق فإذا ذبحه يوم النحر حل منهما جميعا نص عليه ولأنه عليه السلام دخل في العشر ولم يحل ونقل أبو طالب فيمن يعتمر قارنا أو متمتعا ومعه هدي له أن يقص من شعر رأسه خاصة لقول معاوية قصرت من شعر رأس النبي صلى الله عليه وسلم عند المروة بمقص متفق عليه وفي "المغني" و"الشرح": عن مالك له التحلل وينحر هديه عند المروة ويحتمله كلام الخرقي والأول أصح لأن التمتع أحد نوعي الجمع بين الإحرام ين كالقران.
فائدة حيث صح الفسخ لزمه دم نص عليه وذكر المؤلف عن القاضي لا لعدم النية في ابتدائها أو أثنائها ورد بأنه دعوى لا دليل عليها.
"والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت" قبل طواف العمرة "فخشيت فوات الحج" أو خافه غيرها "أحرمت بالحج وصارت قارنة"، نص عليه لما روى مسلم أن عائشة كانت متمتعة فحاضت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أهلي بالحج" ولأن إدخال الحج على العمرة يجوز من غير خشية الفوات فمعها أولى ؛(3/64)
وإن أحرم مطلقا صح وله صرفه إلى ما شاء وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان انعقد إحرامه بمثله
ـــــــ
لكونها ممنوعة من دخول المسجد فعلى هذا لا تقضي طواف القدوم لكن روى عروة عن عائشة أنها أهلت بعمرة وحاضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة". وجوابه أن الأئمة الأثبات رووه عنها بغيرها وهو مخالف للأصول لأنه لا يجوز رفض نسك يمكن بقاؤه ويحتمل دعي العمرة وأهلي معها بالحج ودعي أفعالها
"وإن أحرم مطلقا" بأن نوى نفس الإحرام ولم يعين نسكا "صح" نص عليه كإحرامه عند إحرام فلان وحيث صح مع الإبهام صح مع الإطلاق وله صرفه إلى ما شاء نص عليه بالنية لا باللفظ لأن له أن يبتدئ الإحرام بأيها شاء فكان له صرف المطلق إلى ذلك فعلى علة تعيينه قبل الطواف فإن طاف قبله لم يجزئه لوجوده لا في حج ولا عمرة والأولى أن يصرفه إلى العمرة لأنه إن كان في غير أشهر الحج فهو مكروه أو ممتنع وإن كان فيها فالعمرة أولى لأن التمتع أفضل وقال أحمد يجعلها عمرة كإحرامه بمثل إحرام فلان
"وإن أحرم بمثل ما أحرم به فلان انعقد إحرامه بمثله" لما روى جابر أن عليا قدم من اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " بم أهللت؟" قال بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأهد وأمكث حراما" ، وعن أبي موسى نحوه متفق عليهما.
فإن علم انعقد بمثله لأنه جعل نفسه تبعا وإن كان مطلقا فحكمه سبق وظاهره لا يلزمه صرفه إلى ما يصرف إليه ولا إلى ما كان صرفه إليه وأطلق بعض أصحابنا احتمالين وظاهر كلامه يعمل بقوله لا بما وقع في نفسه وإن جهله فكالمنسي وإن شك هل أحرم أم لا فالأشهر كما لو لم يحرم فيكون إحرامه مطلقا ويستثنى من ذلك ما إذا كان إحرامه فاسدا قيتوجه لنا خلاف فيما إذا نذر عبادة فاسدة هل ينعقد بصحيحة؟.
فرع لو قال إن أحرم زيد فأنا محرم قال في "الفروع": فيتوجه خلاف.(3/65)
وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بإحداهما وإن أحرم بنسك ونسيه جعله عمرة وقال القاضي له صرفه إلى ما شاء وإن أحرم عن اثنين وقع عن نفسه.
ـــــــ
"وإن أحرم بحجتين أو عمرتين انعقد بإحداهما" لأن الزمان يصلح لأداء واحدة فيصح به كتفريق الصفقة فدل على خلاف هنا كأصله وأنه لا ينعقد بهما كبقية أفعالهما وكنذرهما في عام واحد تجب إحداهما دون الأخرى لأن الوقت لا يصلح لهما وكنية صومين في يوم ولو أفسد حجه أو عمرته لم يلزمه إلا قضاؤها
"وإن أحرم بنسك ونسيه جعله عمرة" نقله أبو داود لأنها اليقين وله صرف الحج والقران إليها مع العلم بمنع الإبهام أو لا والمراد أن له جعله عمرة لا أنها تتعين "وقال القاضي" وقطع به جماعة "له صرفه إلى ما شاء" لأنه إن صادف ما احرم به فقد أصاب وإن صرفه إلى عمرة وكان إحرامه بغيرها جاز لجواز الفسخ إليها ويلزمه دم المتعة وإن صرفه إلى قران وكان المنسي عمرة فقد أدخل الحج على العمرة وهو جائز وإن كان مفردا فقد أدخل العمرة على الحج وهو لغو لا يقدح في صحة حجه وإن صرفه إلى الإفراد وكان متمتعا فقد أدخل الحج على العمرة وصار قارنا ولا تبطل العمرة بترك نيتها إذ الشرط وجودها ابتداء لا دواما وإن كان قارنا فكذلك هنا إذا كان قبل الطواف فإن كان نسكه بعده تعين جعله عمرة لامتناع إدخال الحج إذن لمن لا هدي معه فإذا سعى أو حلق فمع بقاء وقت الوقوف يحرم بالحج ويتمه ويجزئه ويلزمه دم للحلق في غير وقته إن كان حاجا وإلا فدم المتعة وإن جعله حجا أو قرانا تحلل بفعل الحج ولم يجزئه واحد منهما للشك لأنه يحتمل أن المنسي عمرة فلا يصح إدخاله عليها بعد طوافها ويحتمل أنه حج فلا يصح إدخالها عليه ولا دم ولا قضاء للشك في سببهما
"وإن أحرم عن اثنين وقع عن نفسه" لأنه لا يمكن عنهما لأن العبادة الواحدة لا تجزئ عن اثنين كالصلاة ولا أولوية وكإحرامه عن زيد ونفسه,(3/66)
وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه وقع عن نفسه وقال أبو الخطاب له صرفه إلى أيهم شاء وإذا استوى على راحلته لبى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"
ـــــــ
وسبق إحرامه بحجه عن أبويه "وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه وقع عن نفسه" لما تقدم "وقال أبو الخطاب" والقاضي "له صرفه إلى أيهما شاء" لصحته بمجهول فصح عنه وقال الحنفية هو الاستحسان لأن الإحرام وسيلة إلى مقصود والمبهم يصلح وسيلة بواسطة التعيين فاكتفي به شرطا فعلى هذا لو لم يفعل حتى طاف شوطا أو سعى أو وقف بعرفة قبل جعله تعين عن نفسه لأنه يلحقه فسخ ولا يقع عن غير معين وعنه يبطل إحرامه حكاها في "الرعاية" وهو غريب.
تنبيه إذا استنابه اثنان في نسك في عام فأحرم عن واحد معين ثم نسيه وتعذر معرفته فإن فرط أعاد الحج عنهما وإن فرط الموصي إليه بذلك غرم وإلا فمن تركة الموصيين إن كان النائب غير مستأجر لذلك وإلا لزماه وإن لم ينسه صح فلو أحرم للآخر بعده لم يصح نص عليه قال ويضمن ويؤدب من أخذ من اثنين حجتين ليحج عنهما في عام لأنه فعل محرما
"وإذا استوى على راحلته لبى" لحديث ابن عمر وهو في "الصحيحين"، ولفظ البخاري عن جابر وأنس: "أهل" أي رفع صوته بالتلبية من قولهم استهل الصبي: إذا صاح. وقدم في "المحرر" و"الفروع": أنها تستحب عقب إحرامه ونقل حرب يلبي متى شاء ساعة يسلم وإن شاء بعد "تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم" رواه ابن عمر، متفق عليه: "لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" قال الطحاوي والقرطبي أجمع العلماء على هذه التلبية وهي مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال أنا مقيم على طاعتك وكرره لأنهم أرادوا إقامة بعد إقامة ولم يريدوا حقيقة التلبية وإنما هو التكبير كـ"حنانيك" والحنان الرحمة.(3/67)
والتلبية سنة ويستحب رفع الصوت بها والإكثار منها
ـــــــ
وقيل معناه إجابة دعوة إبراهيم حين نادى بالحج وقيل محمد والأشهر أنه الله تعالى وكسر همزة "إن" أولى عند الجماهير وحكي الفتح عن آخرين. قال ثعلب من كسر فقد عم يعني حمد الله على كل حال ومن فتح فقد خص أي لأن الحمد لك.
وظاهره أنه لا تستحب الزيادة عليها ولا تكره نص عليه لقول ابن عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد على ذلك وفي "الإفصاح": تكره الزيادة وقيل له الزيادة بعدها لا فيها فإن كان أخرس أو مريضا استحب أن يلبي عنهما نقله ابن إبراهيم قال جماعة ويلبي عن مجنون ومغمى عليه زاد بعضهم ونائم وليس بظاهر.
"والتلبية سنة"، لفعله عليه السلام ولأنها ذكر فيه فلم تجب كسائر الأذكار.
"ويستحب رفع الصوت بها"، لخبر السائب بن خلاد مرفوعا: "أتاني جبريل يأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" رواه الخمسة وصححه الترمذي وعن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل قال: "العج والثج" وفيه عبد الرحمن بن يربوع وهو مختلف فيه فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج إسالة الدماء بالنحر ويستثني منه مساجد الحل وأمصاره وطواف القدوم والسعي بعده فلا يستحب إظهاره والمنقول عن أحمد إذا أحرم في مصره لا يعجبني أن يلبي حتى يبرز لقول ابن عباس واحتج القاضي وأصحابه أن إخفاء التطوع أولى خوف الرياء على من لا يشاركه في تلك العبادة بخلاف البراري وعرفات ومكة والحرم.
"والإكثار منها" لخبر سهل بن سعد: "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وعن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ها هنا وها هنا" رواه ابن ماجه وفيه إسماعيل بن عياش عن المدنيين وهو ضعيف عندهم وهو للترمذي(3/68)
والدعاء بعدها ويلبي إذا علا نشزا أو هبط واديا وفي دبر الصلوات المكتوبات وإقبال الليل والنهار وإذا التقت الرفاق ولا ترفع المرأة صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها
ـــــــ
بإسناد جيد ويسن ذكر نسكه فيها وذكر العمرة قبل الحج للقارن نص عليه وفيه وجه لا يسن وعلى الأول لا يسن تكرارها في حالة واحدة قاله أحمد واستحبه في "الخلاف" لتلبسه بالعبادة وقال المؤلف حسن فإن الله وتر يحب الوتر،
"والدعاء بعدها" لما روى خزيمة بن ثابت مرفوعا أنه كان يسأل الله رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار رواه الشافعي بإسناد ضعيف ولأنه مظنة إجابة الدعاء
"ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها" لقول القاسم بن محمد كان يستحب ذلك فيه صالح بن محمد بن زائدة قواه أحمد وضعفه غيره ولأنه يشرع فيه ذكر الله كصلاة وأذان.
"ويلبي" أي: يتأكد في مواضع "إذا علا نشزا" وهو المكان المرتفع بفتح الشين وسكونها "أو هبط واديا وفي دبر الصلوات المكتوبات" أي عند الفراغ منها "وإقبال الليل والنهار" أي: بأولهما "وإذا التقت الرفاق"، لقول جابر كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبي كذلك وقال النخعي كانوا يستحبون التلبية دبر الصلوات المكتوبة وإذا هبط واديا أو علا نشزا أو لقى راكبا أو استوت به راحلته.
وتستحب إذا أتى محظورا ناسيا أو ركب زاد في "الرعاية": أو نزل وفي "المستوعب": يستحب عند تنقل الأحوال به وزاد وإذا رأى البيت.
"ولا ترفع المرأة صوتها بها، إلا بقدر ما تسمع رفيقتها" وقاله في "المحرر" و"الوجيز" وغيرهما لأن صوتها عورة فلم يشرع لها الرفع إلا بما ذكر والمراد به المزاملة لها لكن السنة أنها لا ترفع صوتها بها وحكاه ابن عبد(3/69)
ـــــــ
البر إجماعا.
ويكره جهرها أكثر من قدر سماع رفيقتها خوف الفتنة وظاهر كلام بعض أصحابنا تقتصر على إسماع نفسها. قال في "الفروع": وهو متجه.
فائدة لا تشرع التلبية إلا بالعربية إن قدر كأذان ولم يجوز أبو المعالي الأذان بغير العربية إلا لنفسه مع العجز(3/70)
باب محظورات الإحرام
وهي تسعة: حلق الشعر وتقليم الأظفار فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم.
ـــــــ
باب محظورات الإحرام
أي: الممنوع فعلهن في الإحرام، "وهي تسعة: حلق الشعر" إجماعا لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] نص على حلق الرأس وعدي إلى سائر شعر البدن لأنه في معناه إذ حلقه مؤذن بالرفاهية وهو ينافي الإحرام لكون أن المحرم أشعث أغبر وليس الحكم خاصا بالحلق بل قطعه ونتفه كذلك وعبر في "الفروع" بتركه إزالة الشعر وهو أولى لكن المؤلف تبع النص ولكونه هو الأغلب.
"وتقليم الأظافر"، لأنه تحصل به الرفاهية أشبه الحلق، "فمن حلق أو قلم ثلاثة فعليه دم" أما في حلق شعر الرأس فلقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الآية، ولحديث كعب قال: حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي قال: "ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى، تجد شاه" قال لا قال: "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع" متفق عليه.
والمذهب: أنها تجب في إزالة ثلاث شعرات فما فوقها قاله القاضي(3/70)
وعنه لا يجب إلا في أربع فصاعدا وفيما دون ذلك في كل واحد مد من طعام وعنه قبضة وعنه درهم وإن حلق رأسه بإذنه فالفدية عليه
ـــــــ
وأصحابه لأن الثلاث جمع واعتبرت في مواضع كمحل الوفاق بخلاف ربع الرأس وما يماط به الأذى وظاهره يقتضي وجوب الدم عينا وليس كذلك بل هو مخير فيه كما يأتي ولعله وكل التفصيل إلى بابه وحكم الأظافر كالشعر لأن المنع للترفه وظاهره لا فرق في ذلك بين المعذور وغيره في ظاهر المذهب لأن النص دل على وجوبها على المعذور فغيره من باب أولى وإنما الفرق بينهما في جواز الإقدام وعدمه.
"وعنه: لا يجب إلا في أربع فصاعدا"، نقلها جماعة واختارها الخرقي لأن الأربع كثير ولأن الثالث آخر أجزاء العلة وآخر الشيء منه فلم يجب فيه كالشعرتين وذكر ابن أبي موسى رواية في خمس اختارها أبو بكر في "التنبيه" قال في "الشرح" و"الفروع": ولا وجه لها ولعله قيد الحكم بأطراف اليد كاملة، "وفيما دون ذلك" أي: العدد المعتبر على الخلاف "في كل واحد مد من طعام" أي: إطعام مسكين نص عليه وهو المذهب لأنه أقل ما وجب شرعا فدية "وعنه قبضه وقاله عطاء لأنه لا تقدير فيه ولأنها اليقين". "وعنه: درهم" لأنه قال في الشعرتين درهمان ولأنه لما امتنع إيجاب جزء من الحيوان وجب المصير إلى القيمة وهو أقل ما يطلق عليه في الوحدة وعنه درهم أو نصفه ذكرها جماعة وخرجها القاضي من ليالي منى
فرع إزالة بعض الشعرة كهي وكذا في الظفر لأنه غير مقدر بمساحة وهو يجب فيهما سواء طالا أو قصرا بل كالموضحة يجب في كبيرها وصغيرها وخرج ابن عقيل وجها يجب بحساب المتلف كالأصبع في أنملتها ثلث ديتها
"وإن حلق رأسه بإذنه فالفدية عليه" أي: على المحلوق رأسه لأن ذلك بإذنه أشبه ما لو باشره ولأنه تعالى أوجب الفدية عليه مع علمه أن غيره(3/71)
وإن كان مكرها أو نائما فالفدية على الحالق وإن حلق محرم رأس حلال فلا فدية عليه وقطع الشعر ونتفه كحلقه وشعر الرأس والبدن واحد وعنه لكل واحد حكم مفرد وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينيه فقصه أو انكسر ظفره فقصه.
ـــــــ
يحلقه وظاهره أنه لا شيء على الحالق سواء كان محرما أو حلالا وفي "الفصول" احتمال أنه يجب عليه كشعر الصيد وفيه بعد فإن سكت ولم ينهه فقيل على الحالق كإتلافه ماله وهو ساكت وقيل على المحلوق رأسه لأنه أمانة عنده كوديعة.
"وإن كان مكرها أو نائما فالفدية على الحالق" نص عليه لأنه أزال ما منع من إزالته كحلق محرم رأس نفسه وقيل على المحلوق رأسه وفي "الإرشاد" وجه: القرار على الحالق قال في "الفروع": ويتوجه احتمال: لا فدية على أحد لأنه لا دليل وفيه شيء.
"وإن حلق محرم رأس حلال فلا فدية عليه" أي: هدر نص عليه لأنه شعر مباح الإتلاف فلم يجب بإتلافه جزءا كبهيمة الأنعام وفي الفصول احتمال لأن الإحرام للآدمي كالحرم للصيد.
"وقطع الشعر ونتفه، كحلقه" وكذا الظفر بغير خلاف نعلمه لاشتراك الكل في حصول الرفاهية "وشعر الرأس والبدن واحد" على المذهب لأنه جنس واحد لم يختلف إلا موضعه وكلبسه سراويل وقميصا.
"وعنه: لكل واحد حكم مفرد"، لأنهما كجنسين لتعلق النسك بحق الرأس فقط فهو كحلق ولبس وذكر جماعة إن تطيب أو لبس في رأسه وبدنه فالروايتان ونص أحمد فدية واحدة وجزم به القاضي وابن عقيل و أبو الخطاب لأن الحلق إتلاف فهو آكد والنسك يختص بالرأس فعلى الأولى لو قطع من بدنه شعرتين وفي رأسه واحدة وجبت الفدية وعلى الثانية يجب في كل واحدة ما تقدم.
"وإن خرج في عينه شعر فقلعه، أو نزل شعر فغطى عينيه فقصه" فلا شيء(3/72)
أو قلع جلدا عليه شعر فلا فدية عليه
ـــــــ
عليه لأن الشعر آذاه فكان له إزالته من غير فدية كقتل الصيد الصائل بخلاف ما إذا حلق شعره لقمل أو صداع وشدة حر فإنها تجب الفدية لأن الإيذاء من غير الشعر
"أو انكسر ظفره فقصه" فكذلك لأنه يؤذيه بقاؤه وكذا إن وقع بظفره مرض فأزاله له أو قلع أصبعا بظفر فهدر أو قلع جلدا عليه شعر فلا فدية عليه ومعنى قوله: "فقصه" أي قص ما احتاجه فقط وقال الآجري إن انكسر فآذاه قطعه وفدى وإن لم يمكن مداواة قرحه إلا بقصه قصه وفدى.
"أو قلع جلدا عليه شعر، فلا فدية"، عليه لأن الشعر زال تابعا لغيره، والتابع لا يضمن كما لو قلع أشفار عين فإنه لا يضمن الهدب وفي "المبهج": إذا زال شعر الأنف أنه لا يلزمه دم لعدم الترفه وفيه نظر إذ لا فرق.
فوائد للمحرم تخليل لحيته ولا فدية بقطعه بلا تعمد والمذهب إن شعر أنه انفصل من مشط أو تخليل فدى قال أحمد إن خللها فسقط إن كان شعرا ميتا فلا شيء عليه وجزم به في "الشرح"، لأن الأصل نفي الضمان لكن يستحب وله غسل رأسه وبدنه برفق نص عليه ما لم يقطعه وقيل غير الجنب وله غسله في حمام وغيره بلا تسريح فإن غسله بسدر أو نحوه جاز قاله القاضي وجمع وجزم آخرون بالكراهة لتعرضه لقطع الشعر وعنه يحرم ويفدي وله أن يحتجم وكره الخرقي للخبر زاد في المحرر وغيره ما لم يقطع شعرا قال الشيخ تقي الدين فيمن احتاج وقطعه لحجامة أو غسل لم يضر.(3/73)
فصل:
الثالث: تغطية الرأس فمتى غطاه بعمامة أو خرقة أو قرطاس فيه دواء أو غيره أو عصبه أو طينه بطين أو حناء أو غيره فعليه الفدية وإن استظل بالمحمل ففيه روايتان
.
ـــــــ
فصل
"الثالث: تغطية الرأس" إجماعا لأنه عليه السلام نهى عن لبس العمائم وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته: " ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" متفق عليهما وكان ابن عمر يقول إحرام الرجل في رأسه وذكره القاضي مرفوعا والأذنان منه في قول الجماهير وعنه عضوان مستقلان ذكرها ابن عقيل وعلى الأول يدخل فيه البياض الذي فوقهما دون الشعر بدليل الموضحة وهي لا تكون إلا في رأس ووجه وليس في الوجه فتعين الأول وقيل ليس منه وذكره بعضهم إجماعا ويدخل فيه النزعتان والشعر الذي بينهما وفي الصدغ والتحذيف خلاف.
"فمتى غطاه بعمامة أو خرقة أو قرطاس فيه دواء أو غيره أو عصبه أو طينه بطين أو حناء أو غيره" جمع في ذكرها بين تغطية بمعتاد أو غيره قال أحمد وشد سير فيه. "فعليه الفدية" لأنه فعل محرما في الإحرام يقصد به الرفه أشبه حلق الرأس وظاهره لا فرق بين أن يكون لعذر أو غيره.
"وإن استظل بالمحمل" ضبطه الجوهري كالمجلس وعكس ابن مالك "ففيه روايتان" أشهرهما: أنه يحرم ويلزمه الفداء لأن ابن عمر رأى على رجل محرم عودا يستره من الشمس فنهاه عن ذلك رواه الأثرم واحتج به أحمد ولأنه قصده بما يقصد به الرفه كتغطيته وعنه لا فدية إن طال زمنه وعنه يكره قال المؤلف وهو الظاهر وعن الأول لو استظل بثوب راكبا ونازلا لزمته الفدية والثانية يجوز بلا فداء جزم بها في(3/74)
وإن حمل على رأسه شيئا أو نصب حياله ثوبا أو استظل بخيمة أو شجرة أو بيت فلا شيء عليه وفي تغطية الوجه روايتان
ـــــــ
"الوجيز" لأن غاية ما سبق أنه قول ابن عمر وهو لا يرى ذلك حراما ولأنه يجوز بثوب كما سيأتي.
"وإن حمل على رأسه شيئا" وكستره بيده ولا أثر للقصد وعدمه فيما فيه فدية وقال ابن عقيل إن قصد به الستر فدى كجلوسه عند عطار لقصد شم الطيب فلو لبده بغسل أو صمغ ونحوه لئلا يدخله غبار ولا دبيب جاز للخبر.
"أو نصب حياله ثوبا"، لما روت أم الحصين قالت حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت بلالا وأسامة واحدهما آخذ بخطام ناقته والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة رواه مسلم وأجاب أحمد وعليه اعتمد القاضي وغيره بأنه يسير لا يراد للاستدامة بخلاف الاستظلال بالمحمل زاد ابن عقيل أو كان بعد رمي جمرة العقبة أو به عذر وفدى أو لم يعمل النبي صلى الله عليه وسلم به.
"أو استظل بخيمة أو شجرة أو بيت فلا شيء عليه" ل ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربت له قبة بنمرة فنزلها رواه مسلم لأنه لا يقصد به الرفه في البدن عادة بل جمع الرحل وحفظه وفيه شيء.
"وفي تغطية الوجه روايتان": إحداهما: تجوز واختارها الأكثر روي عن عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس وابن الزبير وغيرهم ولأنه يقصد به سنة التقصير من النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتعلق به حرمة التخمير كسائر بدنه والثانية ونقلها الأكثر لا يجوز لقوله عليه السلام: " ولا تخمروا وجهه" رواه مسلم فيكون كالرأس.(3/75)
فصل:
الرابع: لبس المخيط والخفين إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا يقطعهما.
ـــــــ
فصل
"الرابع: لبس المخيط" في بدنه أو بعضه بما عمل على قدره إجماعا "والخفين"، لما روى ابن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: "لا يلبس القميص، ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه زعفران أو ورس ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما أسفل من الكعبين" متفق عليه فتنصيصه على القميص يلحق به ما في معناه من الجبة والدراعة والعمامة يلحق بها كل ساتر ملاصق أو ساتر معتاد والسراويل يلحق به التبان وما في معناه وسواء كان مخيطا أو درعا منسوجا أو لبدا معقودا وظاهره لا فرق بين قليل اللبس وكثيره لظاهر الخبر ولأنه استمتاع فاعتبر فيه مجرد الفعل كالوطء في الفرج لكن من به شيء لا يحب أن يطلع عليه فإنه يلبس ويفدي نص عليه
"إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين" لقول ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول: "السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين" متفق عليه، ورواه الأثبات. وليس فيه "بعرفات" وقال مسلم: انفرد بها شعبة وقال البخاري تابعه ابن عيينة عن عمر ولأنه جعله بدلا وهو يقوم مقام المبدل لكن متى وجد الإزار خلع السراويل وفي "الانتصار" احتمال: يلبس سراويل للعورة فقط.
"ولا يقطعهما" أي: لا يلزمه قطع خفه في المنصوص والمختار عملا بإطلاق حديثي ابن عباس وجابر فإنه لم يأمر فيهما بقطع ولو وجب لبينه يؤيده أن جماعة من الصحابة عملوا على ذلك وقال أحمد قطعهما فساد واحتج(3/76)
ولا فدية عليه،
ـــــــ
المؤلف وغيره بالنهي عن إضاعة المال ولأنه ملبوس أبيح لعدم غيره أشبه السراويل ولأن قطعه لا يخرجه عن حالة الحظر فإن لبس المقطوع مع القدرة على النعلين كلبس الصحيح وعنه إن لم يقطعهما دون كعبيه فدى وهي قول أكثر العلماء لخبر ابن عمر
قال في "المغني" و"الشرح": وهي الأولى عملا بالحديث الصحيح وخروجا من الاختلاف وأخذا بالاحتياط وأجيب بأن زيادة القطع لم يذكرها جماعة وروي أنها من قول ابن عمر ولو سلم صحة رفعها فهي بالمدينة وخبر ابن عباس بعرفات فلو كان القطع واجبا لبينه للجمع العظيم الذي لم يحضر كثير منهم كلامه في المسجد في موضع البيان ووقت الحاجة فلزم أن يكون الإطلاق ناسخا للتقييد دفعا لمحذور تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وحكى في "المغني" عن الخطابي أنه قال العجب من أحمد في هذا أي في قوله بعدم القطع قال فإنه لا يخالف سنة تبلغه وقل سنة لم تبلغه وفيه شيء فإن أحمد لم يخالف السنة ولم تخف عليه قال المرزوي احتججت على أبي عبد الله بحديث ابن عمر وقلت هو زيادة في الخبر فقال هذا حديث وذاك حديث فقد اطلع رضي الله عنه على السنة وإنما نظر نظر المتبحرين الذين أمدهم الله بعونه مع أن خبرنا فيه زيادة حكم وهو جواز اللبس بلا قطع لأن هذا الحكم لم يشرع بالسنة قاله الشيخ تقي الدين وهو أحسن من إدعاء النسخ
"ولا فدية عليه"، لظاهر ما تقدم ولو وجبت لبينها لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
فرع: الخنثى المشكل إن لبس المخيط أو غطى وجهه وجسده من غير لبس فلا فدية عليه لأن الأصل عدم الوجوب وإن غطى وجهه ورأسه أو غطى وجهه ولبس المخيط فدى وذكر أبو بكر يغطي رأسه ويفدي وذكره أحمد(3/77)
ولا يعقد عليه منطقة ولا رداء ولا غيره إلا إزاره وهميانه الذي فيه نفقته إذا لم يثبت إلا بالعقد.
ـــــــ
عن ابن المبارك ولم يخالفه. وجزم به في "الرعاية".
"ولا يعقد عليه منطقة ولا رداء ولا غيره" لقول ابن عمر لمحرم ولا تعقد عليه شيئا رواه الشافعي وروى هو ومالك أنه كان يكره لبس المنطقة للمحرم ولأنه يترفه بذلك أشبه اللباس وظاهره لا فرق في ذلك بين ربطه بالعقد أو بشوكة أو إبرة أو غير ذلك فإن فعل أثم من غير حاجة وفدى وكذا إن كان معها كوجع ظهر ونحوه نص عليه لكن إن كان فيها بعضه فحكمها كالهميان وعنه أنها كهميان واختاره الآجري وابن أبي موسى وغيرهما وذكر المؤلف أن الفرق بينهما النفقة وعدمها وإلا فهما سواء
فرع لا بأس أن يتشح بالقميص ويرتدي به وبرداء ولا يعقده لأن المنهي عنه المخيط على قدر العضو،
"إلا إزاره" فيجوز له عقده لأنه يحتاجه لستر عورته فأبيح كاللباس للمرأة فدل انه لو شد وسطه بمنديل ونحوه جاز ما لم يعقده قال أحمد في محرم حزم عمامة على وسطه لا يعقدها ويدخل بعضها في بعض قال طاووس فعله ابن عمر وقيل لا بأس بشد وسطه بحبل ونحوه لحاجة ولا يسن شق أسفل إزاره نصفين بعقد كل نصف على ساق لأنه يشبه السراويل
"وهميانه الذي فيه نفقته" فيباح قال ابن عبد البر: أجازه فقهاء الأمصار "إذا لم يثبت إلا بالعقد" لقول عائشة: أوثق عليك نفقتك وروي عن ابن عباس وابن عمر معناه بل رفعه بعضهم ولأن الحاجة تدعو إلى عقده فجاز كعقد الإزار قال ابن تميم كانوا يرخصون في عقده لا في عقد غيره وظاهره أنه إذا ثبت بغير العقد كما لو أدخل السيور بعضها في بعض لم يجز عقده لعدم الحاجة وكما لو لم يكن فيه نفقة وفي الروضة لا يعقد سيوره وقيل لا بأس احتياطا للنفقة.
مسألة له حمل جرابه وقربة الماء ولا يدخله في صدره نص عليهما(3/78)
وإن طرح على كتفيه قباء فعليه الفدية وقال الخرقي لا فدية عليه إلا أن يدخل يديه في كمية ويتقلد بالسيف عند الضرورة
فصل:
الخامس: الطيب
ـــــــ
"وإن طرح على كتفيه قباء فعليه الفدية" مطلقا نص عليه اختاره الأكثر لما روى ابن المنذر مرفوعا أنه نهى عن لبس الأقبية للمحرم ورواه النجاد عن علي ولأنه مخيط وهو عادة لبسه كالقميص. "وقال الخرقي لا فدية عليه إلا أن يدخل يديه في كميه"، هذا رواية واختارها في الترغيب ورجحها في "المغني" وغيره لأنه إذا لم يدخل يديه فيهما لم يشتمل على جميع بدنه فهو كالقميص إذا ارتدى به
وظاهره أنه إذا أدخل إحدى يديه لا فدية عليه وفي "الواضح": بلى "ويتقلد بالسيف عند الضرورة" لما روى البراء بن عازب قال لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية صالحهم أن لا يدخلها إلا بجلبان السلاح القراب بما فيه متفق عليه وهذا ظاهر في إباحته عند الحاجة لأنهم لم يكونوا يأمنون أهل مكة أن ينقضوا العهد وظاهره أنه لا يجوز عند عدمها لقول ابن عمر لا يحمل المحرم السلاح في الحرم قال المؤلف والقياس يقتضي إباحته لأنه ليس في معنى اللبس كما لو حمل قربة في عنقه وعنه يجوز أن يتقلد بالسيف بلا حاجة اختاره ابن الزاغوني قال في "الفروع": ويتوجه أن المراد غير مكة لأن حمل السلاح بها لا يجوز إلا لحاجة نقل الأثرم لا يتقلد بمكة إلا لخوف روى مسلم عن جابر مرفوعا: " لا يحل أن يحمل السلاح بمكة". وإنما منع أحمد من تقليد السيف لأنه في معنى اللبس
فصل
"الخامس: الطيب" فيحرم إجماعا لأمره عليه السلام يعلى بن أمية(3/79)
فيحرم عليه تطييب بدنه وثيابه وشم الأدهان المطيبة والأدهان بها وشم المسك والكافور والعنبر والزعفران والورس وأكل ما فيه طيب يظهر طعمه أو ريحه وإن مس من الطيب ما لا يعلق بيده فلا فدية عليه وله شم العود والفواكه:
ـــــــ
بغسله وقال في المحرم الذي وقصته راحلته "ولا تحنطوه" متفق عليهما ولمسلم: "ولا تمسوه بطيب" وإذا منع المحرم الميت من الطيب مع استحبابه له فالمحرم الحي أولى "فيحرم عليه تطييب بدنه" أو شيئا منه نص عليه "وثيابه"، لحديث ابن عمر ولأنه يعد مطيبا لكل واحد منهما "وشم الأدهان المطيبة" كدهن الورد والبنفسج ونحوهما، "والادهان بها"، لأنها تقصد رائحتها وتتخذ للطيب أشبه ماء الورد "وشم المسك والكافور والعنبر والزعفران والورس" لأنها هكذا تستعمل وكذا التبخر بالعود والند لأنه استعمله على وجه التطيب "وأكل ما فيه طيب" كمسك ونحوه "يظهر طعمه" لأن الطعم يستلزم الرائحة وقيل لا فدية لبقاء لونه ولو لم تمسه النار "أو ريحه" لأنها المقصود منه وظاهره ولو طبخ أو مسه نار لبقاء المقصود منه وليس هذا خاصا بالمأكول بل المشروب كذلك لأنه يحرم تناول الطيب كالاكتحال ونحوه لأنه استعمال للطيب أشبه شمه ومتى فعل شيئا من ذلك لزمه الفدية لأنه فعل ما حرمه الإحرام كاللباس.
مسألة: للمشتري حمله وتقليبه إن لم يمسه ذكره جماعة لو ظهر ريحه لأنه لم يقصد للتطيب ولا يمكن الاحتراز منه قال في "الفروع": ويتوجه: ولو علق بيده لعدم القصد ولحاجة التجارة وقال ابن عقيل إن حمله مع ظهور ريحه لم يجز وإلا جاز.
"وإن مس من الطيب ما لا يعلق بيده" المسحوق وقطع الكافور والعنبر "فلا فدية عليه"، لأنه غير مستعمل للطيب وشمه سبق وظاهره أنه إذا علق بيده كالغالية والمسك والمسحوق عليه الفدية لأنه مستعمل للطيب.
"وله شم العود" لأن المقصود منه التبخير "والفواكه" كلها كالأترج والتفاح(3/80)
والشيح والخزامي وفي شم الريحان والنرجس والورد والبنفسج والبرم ونحوها والادهان غير مطيب في رأسه روايتان
ـــــــ
والسفرجل ونحوه "والشيح والخزامي" من نبات الصحراء وكذا ما ينبته آدمي لغير قصد الطيب كحناء وعصفر لأنه ليس بطيب ولا يتخذ منه طيب ولا يسمى متطيبا عادة وكذا له شم قرنفل ودار صيني ونحوهما.
"وفي شم الريحان" هذا شروع في بيان حكم ما ينبته الآدمي لقصد شمه ولا يتخذ منه طيب كريحان فارسي ومحل الخلاف فيه وهو معروف بالشام ومكة والعراق وأما عند العرب فالريحان هو الآس ولا فدية في شمه قطعا "والنرجس" وهو أعجمي معرب "والبنفسج" وهو معرب أيضا "والورد والبرم" بفتح الباء والراء هو العضاه الواحد برمة "ونحوها"، كنمام ومرزجوش وفي ذلك روايتان إحداهما يباح اختاره أكثر الأصحاب وهو قول عثمان وابن عباس لأنه إذ يبس ذهبت رائحته أشبه نبت البرمة فعليها لا فدية فيه لإباحته والثانية يحرم لقول جابر لا يشمه رواه الشافعي وكرهه ابن عمر قاله أحمد لأنه يتخذ للطيب كالورد فحينئذ تجب الفدية ولكن ما ينبته الآدمي تارة يتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين وهو الذي يتخذ منه الزئبق فالأشهر يحرم ويفدي اختاره القاضي والمؤلف وغيرهما كماء الورد وتارة لا يتخذ منه طيب كالريحان فاختار الأكثر إباحته وماء الريحان كهو. وفي "الفصول": احتمال بالمنع كماء ورد وقيل عكسه.
"والأدهان بدهن غير مطيب" كزيت وسيرج "في رأسه روايتان" أنصهما: له فعله قدمه في "المحرر" و"الفروع" لأنه عليه السلام فعله رواه أحمد والترمذي وغيرهما من حديث ابن عمر من رواية فرقد السبخي وهو ضعيف عندهم وذكره البخاري عن ابن عباس لعدم الدليل والثانية المنع ويفدي ذكر القاضي أنها اختيار الخرقي كالمطيب ولأنهما أصل الادهان ولم يكتسب الدهن إلا الرائحة ولا أثر لها منفردة ومنع القاضي ذلك وهو(3/81)
وإن جلس عند العطار أو في موضع ليشم الطيب فشمه فعليه الفدية وإلا فلا
فصل:
السادس: قتل صيد البر
ـــــــ
واضح، ولأنه يزيل الشعث ويسكن الشعر وظاهره أنه لا يمنع من الأدهان به في بقية بدنه صرح به في "المغني" وقال في "الشرح": لا نعلم عن أحمد فيه منعا وحكى ابن المنذر أن عوام أهل العلم أجمعوا على أن للمحرم أن يدهن بدنه بشحم وزيت وسمن وإنما خص الرأس لأنه محل الشعر فالوجه كذلك فلهذا قال بعض أصحابنا هما في دهن شعره وذكر القاضي في "تعليقه" وأبو الخطاب وصاحب "التلخيص" و"الكافي" فيه أن الخلاف جار في دهن بدنه كرأسه لأنه مثله.
تنبيه: يقدم غسل طيب على نجاسة يتيمم لها ولا يحرم دلالة على طيب ولباس ذكره القاضي وابن شهاب لعدم ضمانه بالسبب ولا يتعلق بهما حكم مختص بخلاف الدلالة على الصيد فإنه يتعلق به حكم مختص وهو تحريم الأكل والإثم.
"وإن جلس عند العطار أو في موضع" كقصد الكعبة حال تجميرها أو حمل معه عقدة فيها مسك ليجد ريحها "ليشم الطبب فشمه فعليه الفدية" نص عليه لأنه شمه قاصدا فحرم كما لو باشره وقال ابن حامد يباح والأول أشهر "وإلا فلا" أي لا شيء عليه إذا جلس عند العطار لحاجته أو دخل الكعبة للتبرك بها وإذا اشتراه كما سبق لأنه لا يمكن الاحتراز منه.
فصل
"السادس: قتل صيد البر" إجماعا وسنده قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(3/82)
واصطياده وهو ما كان وحشيا مأكولا أو متولدا منه ومن غيره فمن أتلف أو تلف في يده أو أتلف جزءا منه فعليه جزاؤه.
ـــــــ
لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] "واصطياده" لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] "وهو" أي الصيد المحرم على المحرم ما جمع ثلاثة أشياء "ما كان وحشيا"، لأن ما ليس بوحشي لا يحرم كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج إجماعا والاعتبار في ذلك الأصل فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء وعكسه لو توحش الأهلي لم يجب ونص عليه في بقرة صارت وحشية لأن الأصل فيها الإنسية وحمام وبط وحشي.
"مأكولا" لأن ما ليس بمأكول كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات والطير يباح قتله لقوله عليه السلام: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور" متفق عليه. ويقاس عليه مالم يقم دليل على تحريم قتله فأما ما اختلف فيه كالثعلب والسنور الوحشي والهدهد والصرد ففيه روايتان والأشهر أنه يجب في الثعلب واختار القاضي أنه لا شيء في السنور الوحشي لأنه سبع والصحيح أنه لا شي في الأهلي لأنه ليس بوحشي ولا مأكول وقال بعض أصحابنا يفدي أم حبين بجدي وهي دابة منتفخة البطن وهذا خلاف القياس لأنها مستخبثة عند العرب لا تؤكل حكي أن رجلا قال كل ما دب ودرج إلا أم حبين.
"أو متولدا منه ومن غيره" كالمتولد من الوحشي والأهلي والمتولد من المأكول وغيره كالسمع ففيه الجزاء في قول أكثر العلماء تغليبا لتحريم قتله كما غلبوا التحريم في أكله وقيل لا يجب فيما تولد من مأكول وغيره قدمه في "الرعاية" لأن الله إنما حرم صيد البر وهذا يحرم أكله.
"فمن أتلفه، أو تلف في يده، أو أتلف جزءا منه، فعليه جزاؤه" فيه مسائل:(3/83)
ويضمن ما دل عليه أو أشار إليه أو أعان على ذبحه أو كان له أثر في ذبحه مثل أن يعيره سكينا
ـــــــ
الأولى: إذا أتلفه فعليه جزاؤه إجماعا وسنده قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95].
الثانية إذا تلف في يده فعليه جزاؤه لأنه تلف تحت يد عادية أشبه ما لو أتلفه إذ الواجب إما إرساله أو رده على مالكه.
الثالثة إذا أتلف جزءا منه لأن جملته مضمونة فيضمن أبعاضه ك الآدمي والمال ويأتي حكم الخطأ والعمد لكن لو نصب شبكة ثم أحرم أو أحرم ثم حفر بئرا بحق فتلف به صيد لم يضمنه وإلا ضمن ك الآدمي فيهما والمراد إذا لم يتحيل
"ويضمن" مع التحريم "ما دل عليه" نقله ابن منصور و أبو الحارث سواء كان المدلول عليه ظاهرا أو خفيا لا يعلمه إلا بدلالته عليه وقال أبو الفرج في "المبهج": إن كانت الدلالة ملجئة لزم المحرم الجزاء كقوله دخل في هذه المغارة وإلا لم يلزمه كقوله ذهب في هذه البرية لأنه لا يضمن بالسبب مع المباشرة إذا لم يكن ملجئا لوجوب الضمان على العامل والدافع دون الممسك والحافر.
وأجاب القاضي بأن الممسك غير ملجئ ويضمن بها المودع ويستثني منه ما لو دله فكذبه فلا ضمان عليه فلو دل حلال حلالا على صيد في الحرم فكدلالة محرم محرما عليه.
"أو أشار إليه" نقله عبد الله لكن لو رأى الصيد قبل الدلالة والإشارة فلا شيء على دال ومشير لأنها ليست سببا في تلفه كما لو وجد من المحرم عند رؤية الصيد ضحك أو استشراف ففطن له غيره فصاده.
"أو أعان على ذبحه" نقله أبو طالب بمن أولته سلاحه أو سوطه أو أمره باصطياده وقال القاضي وغيره أو بدفعه إليه فرسا لا يقدر عليه إلا به "أو كان له أثر في ذبحه مثل أن يعيره سكينا" أو نحوها ليقتله به سواء كان(3/84)
إلا أن يكون القاتل محرما فيكون جزاؤه بينهما
ـــــــ
معه ما يقتله به أو لا لما روى أبو قتادة أنه لما صاد الحمار الوحشي وأصحابه محرمون قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل أشار إليه إنسان منكم أو أمره بشيء؟" قالوا لا وفيه أبصروا حمارا وحشيا فلم يؤذنوني وأحبوا لو أني أبصرته فالتفت فأبصرته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني فقالوا والله لا نعينك عليه بشيء إنا محرمون فتن أولته فأخذته ثم أتيت الحمار من ورائه فعقرته فأتيت به أصحابي فقال بعضهم كلوا وقال بعضهم لا تأكلوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: "كلوه هو حلال" متفق عليه ولفظه للبخاري. ولأنه وسيلة إلى الحرام فكان حراما كسائر الحيوانات.
"إلا أن يكون القاتل محرما فيكون جزاؤه بينهما" هذا هو المجزوم به عند الأكثر لأنهما اشتركا في التحريم فكذا في الجزاء ولأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه ويحتمل التبعيض فكان واحدا كقيم العبيد وعنه على كل واحد جزاء اختاره أبو بكر ككفارة قتل الآدمي وعنه جزاء واحد إلا أن يكون صوما فعلى كل واحد صوم تام.
ومن أهدي فبحصته وعلى الآخر صوم تام نقله الجماعة لأن الجزاء بدل لا كفارة لأن الله عطف عليه الكفارة والصوم كفارته ككفارة قتل الآدمي وقيل لا جزاء على محرم ممسك مع محرم قاتل ولا يلزم متسببا مع مباشر وقيل القرار عليه لأنه هو الذي جعل فعل الممسك علة وظاهره أنه إذا كان القاتل حلالا لا شيء عليه لحله له ما لم يكن الاشتراك في الحرم فيشتركان فيه كالأول.
فلو كان الدال والشريك لا ضمان عليه كالمحل في الحل فالجزاء جميعه على المحرم في الأشهر وأطلق أحمد القول فيحتمل ما قلنا ويحتمل يلزمه بحصته لأنه اجتمع موجب وسقط فغلب الإيجاب كمتولد بين مأكول وغيره وكذا الخلاف إن كان الشريك سبعا فإن سبق حلال وسبع بجرحه(3/85)
ويحرم عليه الأكل من ذلك كله وأكل ما صيد لأجله ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك وإن أتلف بيض صيد أو نقله إلى موضع آخر ففسد فعليه ضمانه
ـــــــ
فعلى المحرم جزاؤه مجروحا وإن سبق هو فعليه أرش جرحه فلو كانا محرمين ضمن الجارح نقصه والقاتل تتمة الجزاء
"ويحرم عليه الأكل من ذلك كله" لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليه أو أشار إليه؟" قالوا: لا قال: "كلوا ما بقي من لحمها". متفق عليه "وأكل" ما ذبحه و "ما صيد لأجله" نقله الجماعة لما في "الصحيحين" من حديث الصعب بن جثامة أنه أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم". وروى الشافعي وأحمد من حديث جابر مرفوعا: "لحم الصيد للمرء حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم" فيه المطلب بن حنطب قال الترمذي: لا يعرف له سماع من جابر.
وعن عثمان أنه أتي بلحم صيد فقال لأصحابه كلوا فقالوا ألا تأكل أنت فقال إني لست كهيئتكم إنما صيد لأجلي رواه مالك والشافعي وفي "الانتصار" احتمال بجوازه وظاهره أن ما حرم على المحرم لكونه دل عليه أو أشار إليه أو صيد من أجله لا يحرم على الحلال أكله صرح به غير واحد لحديث الصعب ولا يحرم على محرم آخر في الأشهر.
"ولا يحرم عليه الأكل من غير ذلك" نص عليه لحديث أبي قتادة : "كلوه هو حلال". وأفتى به أبو هريرة وقال عمر له لو أفتيتهم بغيره لأوجعتك. رواه مالك وعن علي وابن عباس يحرم لخبر الصعب وكما لو دل عليه والفرق ظاهر وما سبق أخص والجمع أولى لأنه عليه السلام إنما ترك الأكل في حديث الصعب لعلمه أو ظنه أنه صيد من أجله.
"وإن أتلف بيض صيد أو نقله إلى موضع آخر ففسد فعليه ضمانه" لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في بيض النعام ثمنه" رواه ابن ماجه، ولأنه(3/86)
بقيمته. ولا يملك الصيد بغير الإرث وقيل لا يملكه به أيضا.
ـــــــ
تسبب إلى إتلافه بالنقل فوجب ضمانه كالمباشرة وظاهره أنه إذا صح وخرج لا ضمان فيه لكن لو باض على فراشه فنقله برفق ففسد فوجهان بناء على الجراد إذا انفرش في طريقه وظاهره وجوب الضمان. "بقيمته" نص عليه فكأنه لقول ابن عباس في بيض النعام قيمته ولأنه إذا وجب في بيض النعام قيمته مع أنه من ذوات الأمثال فغيره أولى لأن البيض لا مثل له فتجب فيه القيمة كصغار الطير وإطلاق الثمن في الخبر يدل على ذلك إذ غالب الأشياء تعدل ثمنها وهذا إذا كان له قيمة فإن كان هدرا فلا شيء فيه قال الأصحاب إلا بيض النعام فإن لقشره قيمة.
وصحح في "المغني" و"الشرح" أنه لا شيء فيه إذا لم يكن فيه حيوان حالا أو مآلا لأنه بمنزلة سائر الأحجار ويستثنى منه ما لو كسرها بعد أن ثبتت وخرج منها دم أو خرج منها فرخ حي فلا شيء عليه وقال ابن عقيل يحتمل أن يضمنه إلا أن يحفظه إلى أن ينهض ويطير ويحتمل عدمه لأنه لم يجعله غير ممتنع كما لو أمسك طائرا أعرج ثم تركه وإن مات بعد خروجه ففيه ما في صغار أولاد المتلف بيضه.
"ولا يملك الصيد" ابتداء "بغير الإرث" وفاقا لخبر الصعب السابق فليس محلا للتمليك لأن الله حرمه عليه كالخمر فلو قبضه مشتر ثم تلف فعليه جزاؤه وقيمته لمالكه وفي "الرعاية" لا شيء لواهب وإن قبضه رضا فعليه جزاؤه فقط وعليه رده وإن أرسله ضمنه لمالكه ولا جزاء ويرد المبيع وقيل يرسله لئلا يثبت مدة المشاهدة عليه ومثله متهبه وصريحه أنه يملكه بالإرث وهو المذهب لأنه أقوى من غيره ولا فعل منه بدليل أنه يدخل في ملك الصبي والمجنون ويملك به الكافر فجرى مجرى الاستدامة.
"وقيل: لا يملكه به أيضا" لما قلناه فهو كغيره فعلى هذا هو أحق به فيملكه إذا حل وفي "الرعاية": يملكه بشراء واتهاب.(3/87)
وإن أمسك صيدا حتى تحلل ثم تلف أو ذبحه ضمنه وكان ميتة وقال أبو الخطاب له أكله وإن أحرم وفي يده صيد أو دخل الحرم بصيد لزمه إزالة يده المشاهدة عنه دون الحكمية وإن لم يفعل فتلف فعليه ضمانه.
ـــــــ
"وإن أمسك صيدا حتى تحلل ثم تلف أو ذبحه ضمنه" لأنه تلف بسبب كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله ولم يتكرر الضمان بأكله إذا ذبحه نص عليه لأنه وجب لقتله لا لأكله لكونه مضمونا بالجزاء فلا يتكرر كإتلافه بغير أكله ولهذا لا يضمنه محرم آخر "وكان ميتة" نص عليه لأنه صيد يلزمه ضمانه فلم يبح بذبحه كحالة الإحرام.
"وقال أبو الخطاب له أكله"، وعليه ضمانه لأنه ذبحه وهو من أهله أشبه ما لو صاده بعد حله فأبيح له كغيره وفيه نظر لأن هذا يلزمه ضمانه بخلاف المقيس عليه.
"وإن أحرم وفي يده" أي ملكه "صيد أو دخل الحرم بصيد لزمه إزالة يده المشاهدة عنه" كما لو كان في رحله أو خيمته أو قفصه ويلزمه إرساله لأن في عدم إزالة يده المشاهدة إمساكا للصيد فلم يجز كحالة الابتداء بدليل اليمين وملكه باق عليه فيرده من أخذه ويضمنه من قتله ولا يصح نقل الملك فيه.
"دون الحكمية" كما لو كان في بيته أو في يد نائب له في غير مكانه لأنه لا يلزم إمساك الصيد فلم يلزم بإزالتها كما لو لم يكن محرما فعلى هذا لا يضمنه وله نقل الملك فيه بكل نوع ومن غصبه لزمه رده.
"فإن لم يفعل" أي لم يزل يده المشاهدة "فتلف فعليه ضمانه" لأنه تلف تحت يده العادية فلزمه الضمان كمال الآدمي وجزم المؤلف وقدمه في الفصول إن أمكنه وإلا فلا لعدم تفريطه.(3/88)
وإن أرسله إنسان من يده قهرا فلا ضمان على المرسل وإن قتل صيدا صائلا عليه دفعا عن نفسه أو بتخليصه من سبع أو شبكة ليطلقه لم يضمنه وقيل يضمنه فيهما.
ـــــــ
"وإن أرسله إنسان من يده قهرا فلا ضمان على المرسل" ذكره الأصحاب لأنه فعل ما يتعين على المحرم فعله في هذه العين خاصة كالمغصوب ولأن اليد قد زال حكمها وحرمتها فلو أمسكه حتى تحلل فملكه باق عليه واعتبره في "المغني" و"الشرح" بعصير تخمر ثم تخلل قبل إراقته وفي "الكافي" وجزم به في الرعاية يرسله بعد حله كما لو صاده.
تنبيه: إذا ملك صيدا في الحل وأدخله الحرم لزمه رفع يده وإرساله فإن أتلفه أو تلف في يده ضمنه كصيد الحل في حق المحرم ذكره الأصحاب قال في "الفروع": ويتوجه لا يلزمه إرساله وله ذبحه ونقل الملك فيه لأن الشارع إنما نهى عن تنفير صيد مكة ولم يبين فعل هذا الحكم الخفي مع كثرة وقوعه والصحابة مختلفون وقياسه على الإحرام فيه نظر لأنه آكد وكذا إن امسك صيد حرم وخرج به إلى الحل فإنه يلزمه إرساله ولو تلف ضمنه كالمحرم إذا أمسكه حتى تحلل.
"وإن قتل صيدا صائلا عليه دفعا عن نفسه" لم يضمنه في ظاهر كلام أحمد وقاله الأصحاب لأنه قتله لدفع شره فلم يضمنه كآدمي وكجمل صائل مع أن الشارع أذن في قتل الفواسق لدفع أذى متوهم فالمتحقق أولى وسواء خشي منه تلفا أو مضرة أو على بعض ماله "أو بتخليصه من سبع أو شبكة" أو أخذه ليخلص من رجله خيطا ونحوه "ليطلقه" فتلف قبل إرساله "لم يضمنه" على الأشهر لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمنه كمداواة الولي موليه.
"وقيل يضمنه فيهما" أما أولا فهو قول أبي بكر لأنه قتله لحاجة نفسه فهو كقتله لحاجة أكله في الأصح خلافا للأوزاعي والفرق ظاهر وأما ثانيا فلعموم الآية وغايته أنه عدم فيه القصد أشبه قتل الخطأ.(3/89)
ولا تأثير للحرم ولا للإحرام في تحريم حيوان إنسي ولا محرم الأكل إلا القمل في رواية وأي شيء تصدق به كان خيرا منه.
ـــــــ
مسألة: إذا أخذه ليداويه فوديعة فلو تأكلت يده فله إزالتها وإن أزمنه فجزاؤه ولأنه كتالف وكجرح تيقن به موته وقيل ما نقص.
"ولا تأثير للمحرم ولا للإحرام في تحريم حيوان إنسي" أي أهلي مباح إجماعا كبهيمة الأنعام لأنه ليس بصيد والمحرم إنما هو الصيد بدليل أنه عليه السلام كان يتقرب إلى الله بذبح ذلك في إحرامه ولهذا قال: "أفضل الحج العج والثج". "ولا محرم الأكل" إلا المتولد كالخمس الفواسق التي أباح الشارع قتلها مطلقا. وصرح في "المستوعب" وغيره بأنه يستحب قتل كل مؤذ من حيوان وطير وهو مراد من أباحه والمراد بالغراب غراب البين لأنه محرم الأكل ويعدو على أموال الناس وظاهر "المستوعب": لا، فإنه مثل بالغراب الأبقع فقط للخبر الخاص فيه ورد بأن غيره أكثر وأصح ويدخل في الإباحة البازي والصقر والذباب والبعوض والبق ذكره جماعة فأما ما لا يؤذي بطبعه كالرخم فكذلك ولإحرامه ويجوز قتله وقيل يكره وجزم به في "المحرر" وغيره وقيل يحرم ولأصحابنا في النمل وجهان نقل حنبل لا بأس بقتل الذر ونقل مهنا يقتل النملة إذا عضته قال ابن عقيل فيها لقمة أو تمرة إذا لم تؤذه قال في "الشرح": ويتخرج في النحلة كذلك ولا شيء في ضفدع وجعل فيه ابن أبي موسى حكومة ولكن يستثنى منه ما أباحه الشارع فإنه يحرم قتله كما أن الأسود البهيم مباح قتله ذكره الأصحاب.
"إلا القمل" على المحرم "في رواية" فإنه يحرم قتله وهو ظاهر "الخرقي" لأنه يترفه بإزالته فحرم كقطع الشعر. "وأي شيء تصدق به كان خيرا منه" لأنه لم يرد به أثر وعنه لا شيء فيه لخبر كعب ولأنه لا قيمة له كسائر المحرم المؤذي والثانية لا يحرم قتله لأنه يحرم أكله ويؤذي أشبه البراغيث وظهر(3/90)
ولا يحرم صيد البحر على المحرم وفي إباحته في الحرم روايتان ويضمن الجراد بقيمته فإن انفرش في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان.
ـــــــ
منه أنه يباح في الحرم لغير المحرم قتله وهو بغير خلاف لأنه إنما حرم في حق المحرم لما فيه من الترفه فأبيح فيه لغيره.
تكملة: الصئبان كالقمل لأنه بيضه ولا فرق بين قتله ورميه لحصول الرفه به وقال القاضي وابن عقيل الروايتان فيما أزاله من شعره وبدنه وباطن ثوبه ويجوز في ظاهره. وفي "المغني" و"الشرح": أنهما فيما أزاله من شعره وذكر جماعة أن البراغيث كالقمل وله قتل القراد عن بعيره روي عن ابن عمر وابن عباس كسائر المؤذي.
"ولا يحرم صيد البحر على المحرم" إجماعا لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] والبحر الملح والعذب والأنهار والعيون سواء وصيده ما يعيش فيه كالسمك فإن كان يعيش فيهما كسلحفاة وسرطان فكذلك نقل عبد الله فيه الجزاء قال في "الفروع": ولعل المراد ما يعيش في البر له حكمه وما يعيش في البحر له حكمه كالبقر أهلي ووحشي فأما طير الماء فبري لأنه يفرخ ويبيض فيه.
"وفي إباحته في الحرم" كصيده من آبار الحرم "روايتان" إحداهما: المنع، صححه في "الشرح" وغيره لأنه حرمي أشبه صيد الحرم ولأن حرمة الصيد للمكان فلا فرق والثانية وهي ظاهر "الوجيز"، وقدمها في "المحرر" يحل لإطلاق حله في الآية ولأن الإحرام لا يحرمه كحيوان أهلي وسبع.
"ويضمن الجراد" في قول أكثر العلماء لأنه طير في البر يتلفه الماء كالعصافير "بقيمته" لأنه متلف غير مثلي وعنه يتصدق بتمرة عن جرادة روي عن ابن عمر. "فان انفرش في طريقه فقتله" أو اتلف وعثمان طير "بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان" أحدهما فيه الجزاء وهو ظاهر "الوجيز" لأنه أتلفه لمنفعته أشبه ما لو اضطر إلى أكله والثاني لا لأنه اضطره إلى(3/91)
وعنه لا ضمان في الجراد ومن اضطر إلى أكل الصيد أو احتاج إلى شيء من هذه المحظورات فله فعله وعليه الفدية.
فصل:
السابع: عقد النكاح لا يصح منه.
ـــــــ
إتلافه كصائل. "وعنه لا ضمان في الجراد" روي عن أبي سعيد لأن كعبا أفتى بأخذه وأكله فقال له عمر ما حملك أن تفتيهم به قال هو من صيد البحر قال وما يدريك قال والذي نفسي بيده إن هو إلا نثرة حوت تنثر في كل عام مرتين رواه مالك وقال ابن المنذر قال ابن عباس هو من صيد البحر ورواه أبو داود من رواية أبي هريرة مرفوعا ومن طريق أخرى وقال الحديثان وهم.
"ومن اضطر إلى أكل الصيد" أبيح له بغير خلاف نعلمه وسنده قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] فإذا ذبحه كان ميتة ذكره القاضي واحتج بقول أحمد كل ما صاده المحرم أو قتله فإنما هو قتل قتله قال في "الفروع": ويتوجه حله لحل فعله. "أو احتاج إلى شيء من هذه المحظورات فله فعله وعليه الفدية" لأن كعبا لما احتاج إلى الحلق أباحه الشارع له و أوجب عليه الفدية والباقي في معناه ولأن أكل الصيد إتلاف فوجب ضمانه كما لو اضطر إلى طعام غيره
فصل
"السابع: عقد النكاح"، فإنه محظور إلا في حق النبي صلى الله عليه وسلم "لا يصح منه"، لما روى مسلم عن عثمان مرفوعا: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب". وعن ابن عمر أنه كان يقول لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب على نفسه ولا على غيره رواه الشافعي ورفعه الدارقطني وظاهره لا فرق بين أن يتزوج أو يزوج محرمة أو يكون وكيلا أووليا، نقله الجماعة وسواء تعمد أو لا. وأجازه ابن(3/92)
ـــــــ
عباس لروايته أنه عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم متفق عليه ولأحمد والنسائي وهما محرمان ولأنه عقد ملك به الاستمتاع فلم يحرمه الإحرام كشراء الإماء وجوابه ما روى يزيد بن الأصم عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا وبنى بها حلالا وماتت بسرف إسناده جيد رواه أحمد وقال الترمذي غريب ولمسلم عن يزيد بن الأصم عن ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال وكانت خالتي وخالة ابن عباس وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سليمان بن يسار عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا وبنى بها حلالا وكنت الرسول بينهما إسناده جيد رواه أحمد والترمذي وحسنه وقال ابن المسيب وهل ابن عباس وفي رواية وهم رواهما الشافعي.
وبالجملة فقصة ميمونة مختلفة ورواية الحل أكثر وفيها صاحب القصة والسفير فيها ولا مطعن فيها مع موافقتها لما تقدم وفيها زيادة مع صغر ابن عباس إذن ويمكن حمل قوله وهو محرم أي في الشهر الحرام أو البلد الحرام كقولهم قتل عثمان محرما أو تزوجها حلالا وظهر تزويجها وهو محرم ثم لو وقع التعارض فحديثنا أولى لأنه قول النبي صلى الله عليه وسلم وذلك فعله ويحتمل أن يكون خاصا به وعليه عمل الخلفاء وعقد النكاح يخالف شراء الأمة لأنه يحرم بالعدة والردة واختلاف الدين وكون المنكوحة أختا له من الرضاع والنكاح يراد به الوطء غالبا بخلاف شراء الأمة، فافترقا.
وعنه إن زوج المحرم غيره صح لأنه سبب لإباحة محظور لحلال فلم يمنعه الإحرام كحلقه رأس حلال وروي عنه أنه قال لم أفسخه وهو محمول على أنه مختلف فيه وعلى المذهب الاعتبار بحالة العقد فلو وكل محرم حلالا فيه فعقده بعد حله صح في الأشهر وعكسه بعكسه ولو وكل ثم أحرم لم ينعزل وكيله في الأصح وله عقده إذا حل فلو وكل حلال مثله فعقده فأحرم الموكل واختلفا فقالت عقد بعد الإحرام وقال هو قبله قبل قوله وكذا في عكسه لأنه يملك فسخ العقد فملك الإقرار به لكن يلزمه نصف الصداق.(3/93)
وفي الرجعة روايتان. ولا فدية في شيء منهما.
ـــــــ
ويصح مع جهلهما وقوعه لأن الظاهر صحته.
تتمة: دخل في كلامه ما لو أحرم الإمام الأعظم فإنه يمنع من التزويج لنفسه وسائر أقاربه وهل يمنع أن يزوج بالولاية العامة فيه احتمالان ذكرهما ابن عقيل واختار الجواز لحله حال ولايته والاستدامة أقوى لأن الإمامة لا تبطل بفسق طرأ.
وفي "التعليق": لم يجز أن يزوج ويزوج خلفاؤه وصرح به في "الوجيز" لأنه يجوز بولاية الحكم ما لا يجوز بولاية النسب بدليل تزويج الكافرة وإن أحرم نائبه فكهو قاله بعض أصحابنا.
"وفي الرجعة روايتان" كذا في "الفروع" إحداهما: المنع نقله الجماعة ونصره القاضي وأصحابه لأنه عقد وضع لإباحة البضع أشبه النكاح والثانية الإباحة اختارها الخرقي وجزم بها في "الوجيز"، وصححها في "المغني" و"الشرح" لأنها إمساك ولأنها مباحة قبل الرجعة فلا إحلال ولو قلنا بأنها محرمة لم يكن ذلك مانعا من رجعتها كالتكفير للمظاهر وتعقبه القاضي.
"ولا فدية عليه في شيء منهما" لأنه عقد فسد لأجل الإحرام فلم يجب به فدية كشراء الصيد ولا فرق فيه بين الإحرام الصحيح والفاسد قاله في "الشرح".
مسألة: يكره للمحرم الخطبة كخطبة العقد وشهوده وحرمها ابن عقيل كتحريم دواعي الجماع وتكره شهادته فيه وحرمها ابن عقيل وقدمها القاضي واحتج بنقل حنبل لا يخطب قال معناه لا يشهد النكاح وما روي فيه "ولا تشهد" فلا يصح.(3/94)
فصل:
الثامن: الجماع في الفرج قبلا أو دبرا، من آدمي أو غيره فمتى فعل ذلك قبل التحلل الأول, فسد نسكه، عامدا كان أو ساهيا,
ـــــــ
فصل
"الثامن: الجماع في الفرج" لقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ} [البقرة: 197]، قال ابن عباس هو الجماع بدليل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] يعني الجماع وقد حكاه ابن المنذر إجماع العلماء أنه يفسد النسك به وفي "الموطأ": بلغني أن عمر وعليا وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم فقالوا ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج من قابل والهدي ولم يعرف لهم مخالف والمراد به إذا كان أصليا وصرح به في "الوجيز".
"قبلا كان أو دبرا من آدمي أو غيره" لوجوب الحد والغسل وخرج بعضهم لا يفسد بوطء بهيمة من عدم الحد أشبه الوطء دون الفرج وأطلق الحلواني وجهين أحدهما لا يفسد وعليه شاة.
"فمتى فعل ذلك قبل التحلل الأول، فسد نسكه" لما قلنا وظاهره ولو بعد الوقوف بعرفة ونقله الجماعة ولأنه قول من سمينا من الصحابة وهو مطلق ولأنه جماع صادف إحراما تاما كقبل الوقوف. وقوله: "الحج عرفة" أي معظمه ولا يلزم من أمن الفوات أمن الفساد بدليل العمرة وإدراك ركعة من الجمعة. "عامدا كان أو ساهيا" نقله الجماعة لأن بعض الصحابة قضوا بفساد الحج ولم يستفصلوا ولو اختلف الحال لوجب البيان ولأنه سبب يتعلق به وجوب القضاء فاستويا كالفوات وفيه نظر لأنه ترك ركن فأفسد والوطء فعل منهي عنه والجاهل بالتحريم والمكره كالناسي وفي(3/95)
وعليهما المضي في فاسده. والقضاء على الفور من حيث أحرما أولا.
ـــــــ
"الفصول" رواية لا يفسد اختاره الشيخ تقي الدين وأنه لا شيء عليه وهو متجه قاله في "الفروع". والمذهب أن المرأة المطاوعة كالرجل لوجود الجماع منهما بدليل الحد وعنه يجزئهما هدي واحد لأنه جماع واحد وعنه لا فدية عليها لأنه لا وطء منها ذكر جماعة كالصوم والأشهر أنه لا فدية على مكرهة نص عليه كالصوم.
"وعليهما المضي في فاسده" ولا يخرج منه روي عن عمر وعلي وأبي هريرة وابن عباس وحكمه كإحرام صحيح نقله الجمهور وذكره القاضي وغيره عن جماعة الفقهاء لقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وقد روي مرفوعا أنه أمر المجامع بذلك ولأنه معنى يجب به القضاء فلم يخرج به منه كالفوات ونقل ابن إبراهيم عن أحمد أنه يعتمر من التنعيم ومقتضاه أنه يجعل الحج عمرة. "و" يلزمهما "القضاء" بغير خلاف نعلمه لما روى ابن وهب بإسناده عن سعيد بن المسيب أن رجلا جامع امرأته وهما محرمان فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: "أتما حجكما ثم ارجعا وعليكما حجة أخرى قابل حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتها فأحرما وتفرقا ولا يؤاكل واحد منكما صاحبه ثم أتما مناسكما واهديا" ورواية ابن وهب عن ابن لهيعة صحيحة عند جماعة وهذا منها وروى سعيد والأثرم عن عمر وابن عباس معناه ولا فرق في الذي أفسدها أن تكون فرضا بأصل الشرع أو النذر أو قضاء لكن إذا أفسده فإنه يقضي الواجب لا القضاء كالصوم والصلاة ويلزمه قضاء النفل نص عليه وإليه ذهب الأصحاب لأنه لزم بالدخول فيه وعنه لا قضاء فيه.
وعلى المذهب هو "على الفور" لتعينه بالدخول فيه "من حيث أحرما أولا" أي يلزم الإحرام بالقضاء من أبعد الموضعين الميقات أو إحرامه الأول نص عليه لأنه إن كان الميقات أبعد لم يجز له تجاوزه بغير إحرام وإن كان موضع إحرامه أبعد لزمه منه لأن القضاء يحكي الأداء وإلا لزمهما من(3/96)
ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت، وإن كانت مكرهة فعلى الزوج. ويتفرقان من الموضع الذي أصابها فيه إلى أن يحلا. وهل هو واجب أو مستحب؟ على وجهين.
ـــــــ
الميقات، نصا
"ونفقة المرأة في القضاء عليها إن طاوعت" لقول ابن عمر واهديا هديا أضاف الفعل إليهما وقول ابن عباس أهد ناقة ولتهد ناقة ولأنها بمطاوعتها أفسدت نسكها فكانت النفقة عليها كالرجل. "وإن كانت مكرهة فعلى الزوج"، لأنه المفسد لنسكها فكانت عليه نفقتها كنفقة نسكه. "ويتفرقان" في القضاء "من الموضع الذي أصابها فيه" في ظاهر المذهب لما سلف وعنه من حيث يحرمان لقول ابن عباس ويتفرقان من حيث يحرمان ولا يجتمعان حتى يقضيا حجهما. "إلى أن يحلا" لأن التفريق خوف المحظور فجميع الإحرام سواء ومراده بالتفريق أن لا يركب معها في محمل ولا ينزل معها في فسطاط نص عليه لكن ذكر المؤلف أنه يكون بقربها يراعي حالها لأنه محرمها فظاهره أنه محرمها وهو ظاهر كلامهم ونقل ابن الحكم يعتبر أن يكون معها محرم غيره.
"وهل هو واجب أو مستحب على وجهين": المذهب أنه مستحب لأنه ربما ذكر إذا بلغ الموضع فسوق نفسه فواقع المحذور وهذا وهم لا يقتضي الوجوب ولم يتفرقا في قضاء رمضان إذا أفسداه لأن الحج أبلغ في منع الداعي لمنعه مقدمات الجماع والطيب بخلاف الصوم والثاني يجب لأن ابن عباس ذكره حكما للمجامع فكان واجبا كالقضاء.
تنبيه العمرة كالحج لأنها أحد النسكين كالآخر فإن كان مكيا أو مجاورا بها أحرم للقضاء من الحل لأنه ميقاتها سواء أحرم بها منه أو من الحرم وإن أفسد المتمتع عمرته ومضى فيها فأتمها قال أحمد يخرج من الميقات فيحرم منه بعمرة فإن خاف فوت الحج أحرم به من مكة وعليه دم لتركه الميقات فإذا فرغ منه أحرم من الميقات بعمرة مكان التي أفسدها، وعليه(3/97)
وإن جامع بعد التحلل الأول لم يفسد حجه. ويمضي إلى التنعيم فيحرم ليطوف
ـــــــ
دم إذا قدم مكة لما أفسد من عمرته.
"وإن جامع بعد التحلل الأول" أي: بعد زمن جمرة العقبة، "لم يفسد حجه" في قول أكثر العلماء لقوله عليه السلام: "الحج عرفة" ولقول ابن عباس في رجل أصاب أهله قبل أن يفيض يوم النحر ينحران جزورا بينهما وليس عليه الحج من قابل رواه مالك ولا يعرف له في الصحابة مخالف.
ولأنها عبادة لها تحللان فوجود المفسد بعد أولهما لا يفسدها كما بعد التسليمة الأولى من الصلاة ويتوجه أنه يفسد كالأول إن بقى إحرامه وفسد بوطئه وقوله في "التنبيه": من وطئ في الحج قبل الطواف فسد حجه محمول على ما قبل التحلل فإن طاف للزيارة ولم يرم فذكر في "الشرح" وقدمه غيره أنه لا شيء عليه مطلقا لأن الحج قد تمت أركانه كلها وظاهر كلام جماعة خلافه لوجوده قبل ما يتم به التحلل.
"ويمضي إلى التنعيم" وهو من الحل بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وسمي به لأن جبلا عن يمينه اسمه نعيم وآخر عن شماله اسمه ناعم والوادي نعمان بفتح النون. "فيحرم ليطوف"، لأن إحرامه قد فسد بالوطء فلزمه الإحرام من الحل ليقع طواف الزيارة في إحرام صحيح وليس الإحرام من التنعيم شرطا فيه وإنما المراد أن يحرم من الحل ليجمع بين الحل والحرام ولكن المؤلف تبع الخرقي وهو للإمام لأنه أقرب الحل إلى مكة.
وظاهره: أنه لا يلزمه غير الطواف إذا كان قد سعى فإن لم يكن سعى طاف للزيارة وسعى وتحلل لأن الإحرام إنما وجب ليأتي بما بقى من الحج هذا ظاهر كلام جماعة منهم الخرقي فقول أحمد ومن وافقه من الأئمة إنه يعتمر يحتمل أنهم أرادوا هذا وسموه عمرة لأن هذه أفعالها وصححه في "المغني" و"الشرح" ويحتمل أنهم أرادوا عمرة حقيقية فيلزمه سعي ويقصر،(3/98)
وهو محرم. وهل يلزمه بدنة أو شاة على روايتين.
ـــــــ
وعلى هذا نصوص أحمد وجزم به القاضي وابن عقيل وابن الجوزي لما سبق عن ابن عباس ولأنه إحرام مستأنف فكان فيه طواف وسعي وتقصير كالعمرة تجري مجرى الحج بدليل القران بينهما.
"وهو محرم" أي أنه بعد التحلل الأول محرم وذكره الخرقي والقاضي وغيرهما لبقاء تحريم الوطء المنافي وجوده صحة الإحرام وفي "فنون ابن عقيل": يبطل إحرامه على احتمال وذكر المؤلف في مسألة ما يباح بالتحلل الأول ينفي أنه محرم وإنما بقي عليه بعض الإحرام ونقل ابن منصور والميموني من وطئ بعد الرمي ينتقض إحرامه ويعتمر من التنعيم فيكون إحرام مكان إحرام فهذا المذهب أنه يفسد الإحرام بالوطء بعد رمي جمرة العقبة والمراد به فساد ما بقي منه لا ما مضى إذ لو فسد كله لوقع الوقوف في غير إحرام
"وهل يلزمه بدنة أو شاة؟ على روايتين" كذا في "المحرر" و"الفروع": إحداهما يلزمه شاة وهي ظاهر "الخرقي" وقدمها في "المغني" و"الشرح" لعدم إفساده للحج كوطء دون الفرج بلا إنزال ولخفة الجناية فيه والثانية يلزمه بدنة روي عن ابن عباس واختارها في "الوجيز" لأنه وطئ في الحج فأوجبها كما قبل الرمي
فرع القارن كالمفرد لأن الترتيب للحج لا للعمرة بدليل تأخير الحلق إلى يوم النحر.
تنبيه العمرة كالحج فيما تقدم فإن وطئ من الطواف فسدت وكذا قبل سعيها إن قلنا هو ركن أو واجب وفي "الترغيب": إن وطئ قبله خرج على الروايتين في كونه ركنا أو غيره ولا تفسد قبل الحلق إن لم يجب وكذا إن وجب ويلزمه دم وقدم في "الترغيب" تفسد ويجب بإفسادها شاة نقله أبو طالب وعليه الأصحاب لنقصها عن الحج وفي "الموجز"(3/99)
فصل
التاسع: المباشرة فيما دون الفرج لشهوة فإن فعل فأنزل فعليه بدنة وهل يفسد نسكه على روايتين وإن لم ينزل لم يفسد.
ـــــــ
للحلواني: الأشبه بدنة، كالحج.
فصل
"التاسع المباشرة" أي: الوطء "فيما دون الفرج لشهوة" وكذا إن قبل أو لمس بها وإنما كان ذلك من محظوراته لأنه وسيلة إلى الوطء وهو محرم فكان حراما. "فإن فعل فأنزل، فعليه بدنة" نقله الجماعة وقاله الأصحاب لأنها مباشرة أقرن بها الإنزال فأوجبتها كالجماع في الفرج وعنه شاة ذكرها القاضي إن لم تفسد وأطلقها الحلواني كما لو لم ينزل وفي القياسين نظر. "وهل يفسد نسكه؟ على روايتين" كذا أطلقهما في "المحرر" و"الفروع": إحداهما يفسد نصرها القاضي وأصحابه واختارها الخرقي وأبو بكر في الوطء دونه وأنزل لأنه عبادة يفسدها الإنزال فأفسدها الإنزال عن مباشرة كالصوم
والثانية: لا يفسد صححها في "المغني" و"الشرح"، وجزم بها في "الوجيز" لعدم الدليل ولأنه استمتاع لم يجب بنوعه الحد فلم يفسده كما لو لم ينزل وفيه شيء والأولى أن الصوم يفسده كل واحد من محظوراته والحج بالجماع فقط والرفث مختلف فيه فلم نقل بجميعه مع أنه يلزم القول به في الفسوق والجدال.
وعنه ثالثة: إن أمنى بالمباشرة فسد وإلا فلا
"وإن لم ينزل لم يفسد" بغير خلاف نعلمه لأنها مباشرة عريت عن إنزال فلم يفسد به كاللمس وظاهر كلام الحلواني أن لنا فيه خلافا وما روي عن ابن عباس أنه قال لرجل قبل زوجته أفسدت حجك ونحوه عن سعيد بن جبير(3/100)
وإن كرر النظر فأمنى لم يفسد.
فصل
والمرأة إحرامها في وجهها ويحرم عليها ما يحرم على الرجل إلا في اللباس وتظليل المحمل.
ـــــــ
محمول على الإنزال "وإن كرر النظر فأمنى لم يفسد" لعدم الدليل وكالإنزال بالفكر وعليه بدنة في المنصوص وسيأتي.
فصل
"والمرأة إحرامها في وجهها" فيحرم عليها تغطيته ببرقع أو نقاب أو غيره لما روى ابن عمر مرفوعا: "لا تتنقب المرأة، ولا تلبس القفازين" رواه البخاري. وقال ابن عمر إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه رواه الدارقطني بإسناد جيد ويجب عليها تغطية رأسها كله ولا يمكنها إلا بجزء من الوجه ولا يمكنها كشف جميع الوجه إلا بجزء من الرأس والمحافظة على ستر الرأس أولى لأنه آكد لوجوب ستره مطلقا وألحق أبو الفرج به الكفين، وحكاه في "المبهج" رواية.
فإن احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها جاز أن تسدل الثوب فوق رأسها على وجهها لفعل عائشة رواه أحمد و أبو داود وغيرهما وشرط القاضي في الساتر أن لا يصيب بشرتها فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها وإلا فدت لاستدامة الستر ورده المؤلف بأن هذا الشرط ليس عن أحمد ولا هو من الخبر بل الظاهر منه خلافه فإنه لا يكاد يسلم المسدول من إصابة البشرة فلو كان شرطا لبين.
"ويحرم عليها ما يحرم على الرجال" من قطع الشعر وتقليم الأظفار إلا في اللباس وتظليل المحمل قتل الصيد ونحوها.
"إلا في اللباس وتظليل المحمل" لحاجتها إلى الستر وحكاه ابن المنذر إجماعا وكعقد الإزار للرجل ولأبي داود بإسناد جيد عن عائشة قالت: كنا(3/101)
ولا تلبس القفازين ولا الخلخال ونحوه ولا تكتحل بالإثمد
ـــــــ
نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضمد جباهنا السك والمطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره عليها وإنما كره في الجمعة خوف الفتنة لقربها من الرجال ولهذا لا يلزمها بخلاف الحج .
"ولا تلبس" أي: يحرم عليها لبس "القفازين"، نص عليه لخبر ابن عمر السابق وكالرجل وهما شيء يعمل لليدين كما يعمل للبزاة وفي لبسهما الفدية كالنقاب ولا يلزم من تغطيتهما بكمها لمشقة التحرز جوازه بهما بدليل تغطية الرجل قدميه بإزاره لا بخف وإنما جاز تغطية قدميها بكل شيء لأنها عورة في الصلاة وقال القاضي ومثلهما إن لفت على يديها خرقة أو خرقا وشدتها على حناء أو لا كشده على جسده شيئا وذكره في الفصول عن أحمد فظاهر كلام الأكثر لا يحرم وإن لفتها بلا شد فلا لأن المحرم اللبس لا التغطية كبدن الرجل.
"ولا الخلخال ونحوه" هذا رواية عن أحمد وهو ظاهر "الخرقي"، وحملها في "المغني" و"الشرح" على الكراهة لأنه في الزينة كالكحل ولا فدية فيه بخلاف القفازين وظاهر المذهب أن لها لبس الحلي كالسوار والدملج نقله الجماعة قال نافع كن نساء ابن عمر يلبسن الحلي والمعصفر وهن محرمات رواه الشافعي وفي خبر ابن عمر وتلبس بعد ذلك ما أحبت ولا دليل للمنع ولا يحرم لباس زينة وفي "الرعاية": يكره قال أحمد: المحرمة والمتوفي عنها زوجها يتركان الطيب والزينة ولهما سوى ذلك وفي "التبصرة": يحرم ويتوجه احتمال كحلي.
"ولا تكتحل بالإثمد" نقل ابن منصور لا تكتحل والأسود لقول عائشة لامرأة اشتكت عينها وهي محرمة إكتحلي بأي كحل الإثمد والأسود ولأنه يراد للزينة ويجب الفدية به قال ابن الزاغوني هو كاللباس والطيب والمذهب أنه يجوز إلا لزينة فيكره نص عليه ورواه الشافعي عن ابن عمر والأصل عدم الكراهة ولا فرق فيه بين الرجل والمرأة لكن إنما(3/102)
ويجوز لبس المعصفر والكحلي والخضاب بالحناء
ـــــــ
خصت المرأة بالذكر لأنها محل الزينة والكراهة في حقها أكثر وتقييدهم بالإثمد والأسود لأنه هو الذي تحصل به الزينة فدل على أن ما ليس بزينة لا يمنع منه ليث يتد أو ى به ما لم يكن فيه طيب ولهذا كان إبراهيم لا يرى بالدرور الأحمر بأسا.
"ويجوز لبس المعصفر والكحلي"، لقوله عليه السلام في حديث ابن عمر في حق المحرمة: "ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من معصفر أو خز أو حلي" رواه أبو داود وعن عائشة وأسماء أنهما كانا يحرمان في المعصفرات ولأنه ليس بطيب فلم يكره المصبوغ به كالسواد فإن كان مصبوغا بورس أو زعفران فلا لأنه طيب وأما المصبوغ بالرياحين فهو مبني عليها في نفسها لكن يكره للرجل لبس المعصفر لكراهته له في غير الإحرام.
"والخضاب بالحناء" لما روى عكرمة قال: كانت عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يختضبن بالحناء وهن حرم رواه ابن المنذر وهو مكروه لأنه من الزينة كالكحل بالإثمد فإذا اختضبت وشدت يديها بخرقة فدت وإلا فلا لأنه يقصد لونه لا ريحه عادة كخضاب بسواد ولا بأس به للرجل فيما لا يتشبه فيه بالنساء ذكره في "المغني" و"الشرح"، لأن الأصل الإباحة ولا دليل للمنع وظاهر ما نقله القاضي أنه كالمرأة في الحناء وأطلق في "المستوعب": له الخضاب بالحناء وقال في موضع آخر كرهه أحمد لأنه من الزينة وقال الشيخ تقي الدين هو بلا حاجة مختص بالنساء واحتج بلعن المتشبهين والمتشبهات فأما خضابها به عند الإحرام فمستحب لقول ابن عمر ولأنه من الزينة فاستحب عند الإحرام كالطيب.
فائدة: يستحب للمزوجة أن تختضب بالحناء لما فيه من الزينة والتحبب للزوج كالطيب ويكره للأيم لعدم الحاجة مع خوف الفتنة وفي "المستوعب": لا يستحب. لها وقد روى أبو موسى المديني عن جابر مرفوعا: "يا معاشر النساء اختضبن فإن المرأة تختضب لزوجها وإن الأيم تختضب(3/103)
والنظر في المرآة لهما جميعاً.
ـــــــ
تعرض للرزق من الله عز وجل".
"والنظر في المرآة لهما جميعا"، روي عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا ينظران في المرآة وهما محرمان ولأنه لم يرد فيه ما يقتضي المنع منه ثم إن كان القصد منه إزالة شعث أو تسوية شعر أو شيء من الزينة كره ذكره الخرقي وهو ظاهر ما نقل عن أحمد ولا فدية فيه لأن ذلك أدب وفي قول يحرم وقوله: "لهما" يحتمل أنه متعلق بالنظر لقربه ويحتمل أنه متعلق بـ"يجوز" وهو الظاهر.
تنبيه: يجوز للمحرم أن يتجر ويصنع الصنائع بغير خلاف نعلمه ما لم يشغله عن واجب أو مستحب وقال الآجري وابن الزاغوني ويلبس الخاتم لكن يكره إن كان لزينة كحلي ونظر في مرآة.(3/104)
باب الفدية:
وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: ما هو على التخيير، وهو نوعان: أحدهما: يخير بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة.
ـــــــ
باب الفدية
قال الجوهري: فداه وفاداه: إذا أعطى فداءه وفداه بنفسه وفداه إذا قال له جعلت فداك انتهى. وهي ما تجب بسبب نسك أو حرم "وهي على ثلاثة أضرب" منها ما ورد النص بالتخيير فيه ومنها ما ورد بالترتيب ومنها ما لم يرد فيه تخيير ولا ترتيب كفدية الفوات "أحدها: ما هو على التخيير، وهو نوعان"، لأنه تارة يكون فدية الأذى ونحوه وتارة جزاء صيد فأشار إلى الأول بقوله: "أحدهما: يخير بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين مد بر أو نصف صاع تمر أو شعير أو ذبح شاة"، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} الآية [البقرة: 184]، ولحديث كعب السابق،(3/104)
وهي فدية حلق الرأس وتقليم الظافر وتغطية الرأس واللبس والطيب وعنه: يجب الدم إلا أن يفعله لعذر فيخير. الثاني: جزاء الصيد يخير فيه
ـــــــ
وفي لفظ: "احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو أنسك شاة" متفق عليه، فقد دلا على وجواب الفدية على صفة التخيير من الصيام والصدقة والذبح في حلق الرأس لأن "أو" للتخيير وليس في الآية ذكر الحلق لأنه محذوف وتقديره فحلق ففدية، كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي: فأفطر.
"وهي فدية حلق الرأس" المنصوص عليه وقسنا الباقي عليه، "و"هو "تقليم الأظافر وتغطية الرأس واللبس الطيب"، لاستواء الكل في كونه حرم في الإحرام لأجل الترفه فالصوم ثلاثة أيام عند أحمد وأصحابه واختار الآجري: يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع وما ذكره من الإطعام ورد في بعض الألفاظ وهو أشهر لأنه أنفع من غيره ككفارة اليمين وعنه نصف صاع همام لأنه ليس بمنصوص عليه فيعتبر بالتمر والزبيب المنصوص كالشعير وظاهره المعذور مثله في التخيير في ظاهر المذهب لأنه تبع للمعذور والتبع لا يخالف أصله ولأن كل كفارة ثبت للتخيير فيها مع العذر ثبت مع عدمه كجزاء الصيد والشرط لجواز الحلق لا التخيير.
"وعنه: يجب الدم" عينا فإن عدمه أطعم فإن تعذر صام "إلا أن يفعله لعذر، فيخير" جزم به القاضي وأصحابه في كتب الخلاف لأنه دم يتعلق بمحظور يختص الإحرام كدم يجب بترك رمي ومجاوزة ميقات
"الثاني جزاء الصيد، يخير فيه" نص عليه وقاله الأصحاب لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95] فعطف هذه الخصال بعضها على بعض بـ"أو" المقتضية للتخيير كفدية الأذى واليمين بخلاف كفارة القتل وهدي المتعة لأنها كفارة إتلاف منع منه(3/105)
بين المثل أو يقومه بدراهم فيشتري بها طعاما فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما وإن كان مما لا مثل له خير بين الإطعام والصيام
ـــــــ
للإحرام أو فيها أجناس كالحلق ولأن الله ذكر الطعام فيها للمساكين فكان من خصالها كغيرها.
فعلى هذا يخير فيه "بين المثل" وسيأتي فإن اختاره ذبحه وتصدق به على المساكين وله ذبحه متى شاء ولا يتصدق به حيا "أو يقومه" أي: المثل "بدراهم فيشتري بها طعاما" نص عليه وقاله الأصحاب لأن كل متلف وجب مثله إذا قوم وجب قيمة مثله كالمثلي في مال الآدمي فعلى هذا يقوم بالموضع الذي أتلفه فيه وبقربه وجزم به القاضي وغيره وجزم آخرون يقوم بالحرم لأنه محل ذبحه وعنه ويقوم مكان إتلافه أو بقربة لا المثل عما لا مثل له والفرق واضح وعنه يجوز له الصدقة بالدراهم ولا يتعين أن يشتري بها طعاما والقيمة ليست مما خير الله فيه والطعام المخرج هو الذي يخرج في فدية الأذى والفطرة والكفارة وقيل بجزيء كل ما يسمى طعاما وجزم به في "الخلاف" وذكره في "المغني" و"الشرح" احتمالا لإطلاق لفظه.
"فيطعم كل مسكين مدا" أي من البر ومن غيره مدان نص عليه والمؤلف أطلق العبارة كالخرقي "أو يصوم عن كل مد يوما" ذكره الخرقي وحكاه في "المغني" رواية لأنها كفارة دخلها الصوم والإطعام مكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار وعنه يصوم عن كل نصف صاع يوما وحمل القاضي الأولى على الحنطة والثانية على التمر والشعير إذ الصيام مقابل الإطعام في كفارة الظهار وغيرها فكذا هنا.
وبالجملة فيعتبر كل مذهب على أصله فعندنا من البر مد ومن غيره مدان فرع إذا بقي من الطعام ما لا يعدل يوما صام يوما نص عليه لأنه لا يتبعض ولا يجوز أن يصوم عن بعض الجزاء ويطعم عن بعضه كبقية الكفارات.
"وإن كان مما لا مثل له خير بين الإطعام والصيام" لأن النص بالتخيير بين الثلاثة فإذا عدم أحدها بقي التخيير ثابتا بين التاليين فإذا اختار الإطعام يوم(3/106)
وعنه أن جزاء الصيد على الترتيب فيجب المثل فإن لم يجده لزمه الإطعام فإن لم يجده صام فصل: الضرب الثاني على الترتيب وهو ثلاثة أنواع أحدها دم المتعة والقران فيجب الهدي فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة.
ـــــــ
الصيد لأنه متلف غير مثلي فلزمته قيمته كمال الآدمي فيشتري بها طعاما فيطعمه المساكن وإذا اختار الصيام فعلى ما سبق وظاهره أنه لا يجوز إخراج القيمة في ظاهر نقل حنبل وروى عن ابن عباس ليث له مثل وقيل بلى روى عن عمر وعطاء.
"وعنه: أن جزاء الصيد على الترتيب" نقلها محمد بن عبد الحكم وروي عن ابن عباس وابن سيرين والثوري كالمتعة وهذا أولى منها لأنه يجب بفعل محظور، "فيجب المثل فإن لم يجده لزمه الإطعام فإن لم يجده صام"، كما ذكرنا والصحيح الأول لأن ذلك الترتيب قياس مع وجود النص ونقل الأثرم لا إطعام فيها وإنما ذكره في الآية ليعدل به الصيام لأن من قدر على الإطعام قدر على الذبح وكذا قاله ابن عباس.
فصل
"الضرب الثاني على الترتيب وهو ثلاثة أنواع أحدها دم المتعة والقران فيجب الهدي" في المتعة بقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [ البقرة: 196] وفي القران قياسا عليه
"فإن لم يجد الهدي في موضعه" ولو وجده ببلده أو وجد من يقرضه نص عليه لأن وجوبه مؤقت فاعتبرت له القدرة في موضعه كماء الوضوء بخلاف رقبة الكفارة "فصيام ثلاثة أيام في الحج" لما سبق، "والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة"، هذا هو الأشهر عنه وعليه أصحابنا ليكون إثباتها أو بعضها بعد إحرامه بالحج واستحبا صوم عرفة لموضع الحاجة وفيه نظر وأجاب القاضي بأن عدم(3/107)
وسبعة إذا رجع إلى أهله فإن صامها قبل ذلك أجزأ وإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى وعنه لا يصومها ويصوم بعد ذلك عشرة أيام وعليه دم
ـــــــ
استحباب صومه يختص بالنقل وعليه يستحب له تقديم الإحرام بالحج قبل يوم التروية ليصومها في الحج وعنه الأفضل أن يكون آخرها يوم التروية وفي "المجرد": أنه المذهب روي عن ابن عمر وعائشة لأن صوم يوم عرفة غير مستحب له ولعله أظهر من الأول لأنه يلزم نفسه المخالفة من وجهين ووقت جوازها إذا أحرم بالعمرة نص عليه كالنصاب والحول وعنه بالحل منها وعنه وقبل إحرامها وأنكرها جماعة والمراد في أشهر الحج ونقله الأثرم لأنه أحد نسكي التمتع فجاز تقديمها عليه كالحج وأما وقت وجوبها فوقت وجوب الهدي لأنه بدل كسائر الأبدال.
"وسبعة إذا رجع إلى أهله"، الآية ولأنه ظاهر في الرجوع إلى الأهل وحديث ابن عمر المرفوع: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله" متفق عليه شاهد بذلك وللخروج من الخلاف. " فإن صامها قبل ذلك أجزأ" لأن كل صوم واجب جاز في وطن فاعله جاز في غيره كسائر الفروض فعلى هذا يجوز بعد أيام التشريق نص عليه ومحله إذا كان طاف للزيارة قاله القاضي فيكون المراد من الآية إذا رجعتم من عمل الحج لأنه المذكور ومعتبر لجواز الصوم وتأخيرها إنما كان رخصة وتخفيفا كتأخير رمضان لسفر ومرض ولأنه وجد سببه.
"وإن لم يصم" الثلاثة "قبل يوم النحر صام أيام منى وعنه لا يصومها" والترجيح مختلف قاله في "الفروع". والسبعة لا يجوز صومها في أيام التشريق نص عليه وعليه الأصحاب لبقاء أعمال من الحج.
"ويصوم بعد ذلك عشرة أيام" لوجوب قضائها بفواته كرمضان وسواء قلنا بعدم جواز صومها أو بجوازه ولم يصمها. "وعليه دم" لأنه أخر الواجب عن وقته فلزمه كرمي الجمار فعلى هذا لا فرق بين المؤخر للعذر أو لغيره(3/108)
وعنه إن ترك الصوم لعذر لم يلزمه إلا قضاؤه وإن تركه لغير عذر فعليه مع فعله دم وقال أبو الخطاب إن أخر الهدي والصوم لعذر لم يلزمه إلا قضاؤه وإن أخر الهدي لغير عذر فهل يلزمه دم آخر على روايتين قال وعندي أنه لا يلزمه مع الصوم دم بحال ولا يجب التتابع في الصيام
ـــــــ
وعنه: لا يلزمه وعلله في "الخلاف" بأنه نسك أخره في وقت جواز فعله كالوقوف إلى الليل. وفيه شيء.
"وعنه: إن ترك الصوم لعذر لم يلزمه إلا قضاؤه" لأن الدم الذي هو المبدل لو أخره لعذر لم يكن عليه دم لتأخيره والبدل أولى.
"وإن تركه لغير عذر فعليه مع فعله دم" فعلى أنه إن صام أيام التشريق على القول بجوازه أنه لا دم عليه جزم به جماعة قال في "الفروع" ولعله مراد القاضي وأصحابه والمستوعب بتأخير الصوم عن أيام الحج.
"وقال أبو الخطاب: إن أخر الهدي" الواجب لعذر مثل أن ضاعت نفقته "أو الصوم لعذر لم يلزمه إلا قضاؤه" كسائر الهدايا الواجبة وإن "أخر الهدي لغير عذر فهل يلزمه دم آخر؟ على روايتين": إحداهما لا يلزمه شيء زائد كالهدايا الواجبة والثانية يلزمه دم روي عن ابن عباس قال أحمد من تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين لأن الدم في المتعة نسك مؤقت فلزم الدم بتأخيره عن وقته كتأخير رمي الجمار عن أيام التشريق.
"قال: وعندي أنه لا يلزمه مع الصوم دم بحال" هذا رواية عن أحمد لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته فلم يجب بفواته دم كصوم رمضان.
"ولا يجب التتابع" ولا التفريق "في الصيام" لا في الثلاثة ولا السبعة نص عليه وفاقا لإطلاق الأمر وذلك لا يقتضي جمعا ولا تفريقا ويشمل ما إذا قضاهما فإنه لا يجب التفريق كسائر الصوم و أوجبه بعض الشافعية وتبعه في "المغني" و"الشرح" بأن وجوب التفريق في الأداء إذا صام أيام منى وأتبعها(3/109)
ومتى وجل عليه الصوم فشرع فيه ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه وإن وجب ولم يشرع فيه فهل يلزمه الانتقال على روايتين النوع الثاني المحصر يلزمه الهدي فإن لم يجده صام عشرة أيام ثم حل.
ـــــــ
السبعة ثم إنما كان من حيث الوقت فسقط بفواته كالتفريق بين الصلاتين بخلاف أفعال الصلاة من ركوع وسجود فإنه من حيث الفعل فلم يسقط.
فرع إذا مات ولم يصم فكصوم رمضان نص عليه تمكن منه أم لا
"ومتى وجب عليه الصوم فشرع فيه ثم قدر على الهدي لم يلزمه الانتقال إليه"، وأجزأه الصوم كما لو وجد الرقبة بعد الشروع في صوم الكفارة وظاهرة أن له الانتقال إلى الهدي لأنه أكمل وفي الفصول تخريج يلزمه الانتقال اعتبارا بالأغلظ في الكفارة والفرق ظاهر لأن المظاهر ارتكب محرما فناسبه المعاقبة بخلاف الحاج فإنه في طاعة فناسبه التخفيف وقيل إن قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه وإن وجده بعد أن مضت أيام النحر أجزأه الصيام لكونه قدر على المبدل في وقت وجوبه فلم يجزئه البدل كما لو لم يصم وعلى المذهب ففرق بينه وبين المتيمم يجد الماء في الصلاة إن قلنا تبطل لأن ظهور المبدل هناك يبطل حكم البدل من أصله ويبطل ما مضى منها وهنا صومه صحيح يثاب عليه.
"وإن وجب ولم يشرع فيه فهل يلزمه الانتقال؟ على روايتين": أحداهما لا يلزمه نقلها المروذي لأن الصوم استقر في ذمته حال وجود السبب المتصل بشرطه وهو عدم الهدي والثانية بلى نقلها يعقوب وهى ظاهر "الوجيز" كالمتيمم يجد الماء.
"النوع الثانى المحصر يلزمه الهدي" إجماعا وسنده قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] "فإن لم يجده صام عشرة أيام: لأنه دم واجب فكان ذلك بدله كدم المتعة " ثم حل" نقله الجماعة وظاهره أنه لا يحل قبل ذلك وفيه خلاف يذكر وأنه لا إطعام فيه وهو الأشهر.(3/110)
الثالث فدية الوطء يجب به بدنة فإن لم يجدها صام عشرة أيام ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع كدم المتعة لقضاء الصحابة به وقال القاضي إن لم يجد البدنة أخرج بقرة فإن لم يجد فسبعا من الغنم فغن لم يجد أخرج بقيمتها طعاما فإن لم يجد صام عن كل مد يوما وظاهر كلام الخرقي أنه مخير بين هذه الخمسة فبأيها كفر أجزأه
ـــــــ
وعنه بلى قال الآجري إن عدم الهدي مكانه قومه طعاما وصام عن كل مد يوما وحل.
"الثالث: فدية الوطء يجب به بدنة"، نص عليه لقول الصحابة وكسائر المحظورات. "فإن لم يجدها صام عشر أيام ثلاثة في الحج وسبعة أذا رجع كدم المتعة لقضاء الصحابة به" وقد تقدم وروى الأثرم أن العبادلة أفتوا به. "وقال القاضي: إن لم يجد البدنة أخرج بقرة"، لأنها تشاركه في الهدي والأضاحي وقد روى أبو الزبير عن جابر قال كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له والبقرة فقال وهل هي إلا من البدن. "فان لم يجد فسبعا من الغنم"، لقيامها مقامها في الأضاحي "فان لم يجد أخرج بقيمتها" أي: قيمة البدنة "طعاما، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما" كجزاء الصيد في أنه لا ينتقل إلى الإطعام مع وجود المثل ولا إلى الصيام مع القدرة على الإطعام وهذا رواية والمذهب خلافها وما تقدم صريح في الترتيب وأنه لا ينتقل إلى خصلة ألا عند تعذر التي قبلها.
"وظاهر كلام الخرقى أنه مخير بين هذه الخمسة، فبأيها كفر أجزأه"، لأنها كفارة تجب بفعل محظور فكان مخيرا فيها كفدية الأذى وعلله ابن المنجا فقال بعضها قريب من بعض وذكر في "النهاية" أن منشأ الخلاف بين الخرقى والقاضي أن الوطء هل هو من قبيل الاستمتاعات أو الاستهلاكات فإن كان الأول فهي على التخيير كالطيب وأن كان الثاني فهي على الترتيب كقتل الصيد فإن كفارته على الترتيب على الصحيح وفيه شيء وقد عورض المؤلف فيما نقله عن الخرقى فإنه لم يصرح في "مختصره" إلا بإجزاء سبع من(3/111)
ويجب بالوطء في الفرج بدنة إن كان في الحج وشاة إن كان في العمرة ويجب على المرأة مثل ذلك إن كانت مطاوعة وإن كانت مكرهة فلا فدية عليها وقيل يلزمها
ـــــــ
الغنم مع وجود البدنة واعتذر عنه في "الشرح" بأن يكون بعض الأصحاب نقله عنه في غير كتابه وفيه بحث
تنبيه ما ذكره المؤلف من الانتقال إلى الصوم إذا عدم البدنة هو الصحيح من المذهب واعترضه ابن المنجا وقال لم يجده قولا لأحمد ولا لأحد من الأصحاب، وأورد عليه ما ذكره في "المغني" في المحرم إذا جامع فإنه يفسد حجهما وعليه بدنة وعلى المجامع أخرى روى عن ابن عباس فإن لم يجد فشاة وبان المروى عن العبادلة إنما هو إذا عدم الهدي لأنه لا يقال لمن عدم البدنة عدم الهدي لأنه قد يجد بقرة أو شاة وفيه نظر لأنه نص على البدنة تبعا للمروى عن بعض الصحابة وبان البقرة قائمة مقامها والسبع من الغنم كذلك.
"ويجب بالوطء في الفرج بدنة إن كان في الحج"، لقول ابن عباس "وشاة إن كان في العمرة"، لأنها أحد النسكين فوجب أن يجب بالوطء فيها شيء كالآخر وإنما كان شاة لأن حكم العمرة أخف.
"ويجب على المرأة مثل ذلك" أي مثل ما على الرجل "إن كانت مطاوعة" نقله الجماعة وروي عن ابن عباس وجمع لوجود الجماع منهما بدليل الحد ولأنهما اشتركا في السبب الموجب كما لو قتلا رجلا وكنفقة القضاء ولأنه آكد من الصوم وعنه يجزئهما هدي واحد لأنه جماع واحد وعنه لا فدية عليها ذكرها وصححها جماعة لأنه لا وطء منها وكالصوم.
"وإن كانت مكرهة فلا فدية عليها" نص عليه لقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"، ولأنه لا يضاف إليه الفعل وكالصوم وعنه: يلزمها، كالمطاوعة. "وقيل" هذا رواية عن أحمد: "يلزمها(3/112)
كفارة يتحملها الزوج عنها
ـــــــ
كفارة" لحصول الوطء "يتحملها الزوج عنها" لأن الإفساد منه فوجب أن يلزمه كإفساد حجه وكنفقة القضاء نقل الأثرم على الزوج حملها ولو طلقت وتزوجت بغيره ويخير الزوج الثاني على أن يدعها وأغرب في الروضة فقال المكرهة يفسد صومها ولا يلزمها كفارة ولا يفسد حجها وعليها بدنة(3/113)
فصل
الضرب الثالث الدماء الواجبة للفوات أو لترك واجب أو المباشرة في غير الفرج فما أوجب منه بدنة فحكمها حكم البدنة الواجبة بالوطء في الفرج وما عداه فقال القاضي ما وجب لترك واجب ملحق بدم المتعة وما وجب للمباشرة ملحق بفدية الأذى
ـــــــ
فصل
"الضرب الثالث الدماء الواجبة للفوات" أي: فوات الحج وتجب به بدنة في الأصح "أو لترك واجب" كالإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل ونحوها "أو المباشرة في غير الفرج" كما يأتي.
والحاصل: أن الهدي الواجب بغير النذر ينقسم قسمين منصوص عليه وهو فدية الأذى وجزاء الصيد ودم الإحصار والمتعة والبدنة الواجبة بالوطء في الفرج لقضاء الصحابة وما سوى ذلك مقيس فأشار المؤلف إلى ذلك فقال فما أوجب منه بدنة كالبدنة الواجبة بالمباشرة فيما دون الفرج "فحكمها حكم البدنة الواجبة بالوطء في الفرج" أي هي مقيسة عليها لأنها بدنة وجبت بسبب في إحرامه أشبهت البدنة الواجبة بالوطء فعلى هذا يجب فان لم يجدها انتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع وعلى قول القاضي يجب البدنة ثم بقرة ثم سبع من الغنم ثم قيمة البدنة طعاما ثم بصوم عن كل مد يوما وعلى قول الخرقى يخير فيها.
"وما عداه فقال القاضي ما وجب لترك واجب" كالمبيت بمنى ومزدلفة وطواف الوداع "ملحق بدم المتعة" لأن دم المتعة وجب لترفهه بأحد السفرين فيقاس عليه كل دم واجب لترك واجب.
"وما وجب للمباشرة" كالقبلة واللمس والوطء من العمرة وفي الحج بعد رمي جمرة العقبة "ملحق بفدية الأذى" لأنه في معناه فيقاس عليه وأما الشاة الواجبة(3/114)
ومتى أنزل بالمباشرة دون الفرج فعليه بدنة وإن لم ينزل فعليه شاة وعنه بدنة وإن كرر النظر فأنزل أو استمنى فعليه دم وهل هو بدنة أو شاة على روايتين وإن فدى بذلك فعليه شاة.
ـــــــ
فيخير فيها كما يخير في فدية الأذى للترفه.
"ومتى أنزل بالمباشرة دون الفرج فعليه بدنة" وقد تقدم. "وان لم ينزل فعليه شاة" جزم به في "الخرقى" و"الوجيز" واختاره جمع منهم المؤلف لأنه هتك إحرامه بالفعل المذكور كالطيب "وعنه: بدنه" نصره القاضي وأصحابه كالوطء والأول أصح وسواء مذى أو لم يمذ واللمس لشهوة كالقبلة فيما ذكرنا لكونه استمتاعا يلتذ به
"وإن كرر النظر فانزل" أي: أمنى "أو استمنى فعليه دم" لأنه هتك إحرامه بذلك أشبه ما لو أنزل بالمباشرة "وهل هو بدنة؟" قدمه في "المحرر" ونص عليه فيما أذا أمنى بتكرار النظر واختاره الخرقى ونصره القاضي وأصحابه لأنه من دواعى الجماع كالقبلة "أو شاة؟" جزم به في "الوجيز" لأنه أنزال بفعل محظور فوجبت كالإنزال باللمس "على روايتين" هما قولان لابن عباس وإن مذى بذلك أي بتكرار النظر أو الاستمناء "فعليه شاة" ذكره أبو الخطاب وجزم به في "الشرح" و"المحرر" وقدمه في "الفروع" لأنه جزء من المنى لكونه خارجا بسبب الشهوة ولأنه حصل به لذة فهو كاللمس.
وفي "الروضة" و"المستوعب" أو مذى بنظرة فكذلك وظاهر كلام الأكثر خلافه وفي "الكافي": لا فدية بمذي بتكرار نظر وجزم به في "الوجيز" قال في "الفروع" فيتوجه منه تخريج ولا هدي بغيره وجزم به الآدمى إن مذى باستمتاعه وذكر القاضي رواية يفدى بمجرد النظر أنزل أو لا ومراده إن كرره وأخذها من نقل الأثرم فيمن جرد امرأته ولم يكن التجريد عليه شاة وحمله في "المغني" و"الشرح" على أنه لمس فإن التجريد لا يخلو عن لمس ظاهر أو أنه أمنى أو أمذى إذ مجرده لا شيء فيه لأنه عليه السلام كان(3/115)
وإن فكر فأنزل فلا فدية عليه.
فصل
ومن كرر محظورا من جنس مثل أن حلق ثم حلق أو وطئ ثم وطئ قبل التكفير عن الأول فكفارة واحدة وإن كفر عن الأول لزمه للثاني كفارة.
ـــــــ
ينظر إلى نسائه وهو محرم، وكذلك أصحابه.
"وإن فكر فأنزل فلا فدية عليه"، لقوله عليه السلام: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل به" متفق عليه، ولأنه يعرض للمرء أرادة ولا اختيار لأنه دون النظر وقال أبو حفص البرمكي وابن عقيل حكمه حكم تكرار النظر إذا اقترن به الإنزال لقدرته وفيه شيء.
تنبيه: لم يتعرض المؤلف هنا لذكر النسيان وذكره في مفسدات الصوم والمذهب لا فرق بين العامد والناسي وقيل لا لأن الوطء لا يتطرق إليه نسيان غالبا ويفسد العبادة أي الصوم بمجرده والجاهل والمكره كالناسي والمرأة كالرجل مع سهوه
فصل
"ومن كرر محظورا من جنس مثل أن حلق ثم حلق أو وطئ ثم وطئ قبل التكفير عن الأول فكفارة واحدة" نص عليه وقاله الأصحاب سواء تابعه وإن كفر عن الأول لزمه للثاني كفارة أو فرق أو وطئها أو غيرها فظاهره لو قلم خمسة أظفار في خمسة روينا لزمه دم قاله القاضي وعلله بأنه لما بنيت الجملة فيه على الجملة في تداخل الفدية كذا الواحد على الواحد في تكميل الدم ولأن ما تداخل متتابعا تداخل متفرقا كالأحداث والحدود ولأنه تعالى أوجب في حلق الرأس فدية ولم يفرق.
"وإن كفر عن الأول لزمه للثاني كفارة"، لأنه صادف إحراما فوجبت كالأول ويعتبر بالحدود والأيمان وعنه لكل وطء كفارة لأنه سبب لها كالأول فيطرد في(3/116)
وإن قتل صيدا بعد صيد فعليه جزاؤهما وعنه عليه جزاء واحد وإن فعل محظورا من أجناس فعليه لكل واحد فداء وعنه عليه فدية واحدة.
ـــــــ
غيره عنه وإن تعدد سبب المحظور فلبس للحر ثم للبرد ثم للمرض فكفارات وإلا فواحدة وقال ابن أبي موسى إذا لبس وغطى رأسه متفرقا فكفارتان وإن كان في وقت واحد فروايتان.
"وإن قتل صيدا بعد صيد فعليه جزاؤهما" نقله الجماعة وهو المذهب لأن الآية تدل على أن من قتل صيدا لزمه مثله ومن قتل أكثر لزمه مثل ذلك ولأنه لو قتل صيودا معا تعدد الجزاء فكذا متفرقا بل أولى ولأنها كفارة قتل كقتل الآدمي أو بدل متلف كبدل مال الآدمي.
"وعنه: عليه جزاء واحد" لقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ولم يوجب جزاء ثانيا ولأنه محظور أشبه غيره ونقل حنبل لا تتعدد إن لم يكفر عن الأول ونقل أيضا إن تعمد قتله ثانيا فلا جزاء وقاله جمع من السلف والصحيح الأول لأن ذكر العقوبة في الثاني لا يمنع الوجوب لقوله: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] وللعامد ما سلف وأمره إلى الله بل وقياسه على غيره لا يصح لأن جزاء الصيد مقدر به ويختلف بكبره وصغره بخلاف غيره.
"وإن فعل محظورا من أجناس" كحلق ولبس وطيب، "فعليه لكل واحد فداء" نص عليه وهو المشهور لأنها مختلفة فلم تداخل كالحدود المختلفة وسواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا "وعنه: عليه فدية واحدة" لأنه فعل محظور فلم يتعدد كالجنس الواحد وفيه نظر وعنه إن كانت في وقت واحد وإلا فلكل واحد كفارة وقاله إسحاق واختاره أبو بكر قال القاضي وابن عقيل لأنها أفعال مختلفة وموجباتها مختلفة كالحدود المختلفة وقيل إن قرب الوقت لم يتعدد الفداء وإلا تعدد ومحل الخلاف فيما إذا كانت المحظورات تتحد كفارتها فإن تعددت فلا تداخل(3/117)
وإن حلق أو قلم أو وطئ أو قتل صيدا عامدا أو مخطئا فعليه الكفارة وعنه في الصيد لا كفارة إلا في العمد ويتخرج في الحلق مثله وإن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسيا فلا كفارة فيه.
ـــــــ
"وإن حلق أو قلم أو وطئ أو قتل صيدا عامدا أو مخطئا، فعليه الكفارة" نص عليه وعليه الأصحاب لأنه إتلاف فاستوى عمده وسهوه كإتلاف مال الآدمي ولأن الله أوجب الفدية على من حلق لأذى به وهو معذور فدل على وجوبها على معذور بنوع آخر وقال الزهري تجب الفدية على من قتل الصيد متعمدا بالكتاب ومخطئا بالسنة قال الشافعي أنبأنا سعيد عن ابن جريج قلت لعطاء فمن قتله خطأ أيغرم قال نعم يعظم بذلك حرمات الله ومضت به السنن وقال عمر ليحكم عليه في الخطأ والعمد رواه النجاد.
"وعنه في الصيد: لا كفارة إلا في العمد" وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير واختاره أبو محمد الجوزي لظاهر الآية ولأن الأصل براءة الذمة فلا يشغلها إلا بدليل وجوابه أنه عليه السلام أوجب فيه الجزاء وفي بيضه ولم يفرق وأجاب القاضي عن الآية بأنها حجة لنا من وجه لأنها تقتضي أن من نسي الإحرام فقتل الصيد متعمدا لزمه الجزاء وعندهم لا يلزمه وخص العمد بالذكر لأجل الوعيد في آخرها ولأن ما سبق أخص والقياس يقتضيه وحكي عن مجاهد والحسن يجب الجزاء في الخطأ والنسيان دون العمد وهو غريب
"ويتخرج في الحلق مثله" هذا وجه وهو رواية مخرجة من قتل الصيد أي لا تجب الكفارة إلا في العمد لعموم "إن الله تجاوز"، ولأنه محرم بسبب في إحرامه أشبه الصيد وقصر المؤلف التخريج في الحلق وحده وليس كذلك بل الثاني مثله
فرع المكره عندنا كالمخطئ وذكر المؤلف أنه لا يلزمه وإنما هي على المكره وجزم به ابن الجوزي.
"وإن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسيا أو جاهلا أو مكرها فلا كفارة فيه" نقله الجماعة وهو ظاهر المذهب لما روى ابن ماجه بإسناد جيد عن ابن عباس(3/118)
وعنه: عليه الكفارة ومن رفض إحرامه ثم فعل محظورا فعليه فداؤه ومن تطيب قبل إحرامه في بدنه فله استدامة ذلك في إحرامه
ـــــــ
مرفوعا: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" قال عبد الحق الاشبيلي رويته بالإسناد المتصل إلى ابن عباس وذكره وعن يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه جبة وهو متضمخ بالخلوق فأمره بخلعها وغسله ولم يأمره بفدية ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة .
"وعنه: عليه الكفارة" نصرها القاضي وأصحابه لأنه فعل جريمة الإحرام فاستوى عمده وسهوه كقتل الصيد والحلق والفرق بأن الحالق وما في معناه لا يمكن تلافي ما فعله بخلاف اللابس والمتطيب والمغطي رأسه فإنه يمكنه ذلك بإزالته وفيه نظر لأن ما مضى لا يمكن تلافيه وظاهره أن العمد محل وفاق لكن عمد الصبي ومن زال عقله بعد إحرامه خطأ وأنه لا فرق بين القليل والكثير.
"ومن رفض إحرامه" أي: قطع منه النسك "ثم فعل محظورا فعليه فداؤه" لأن حكم الإحرام باق لأنه لا يفسد بالرفض وفاقا لكون أن الحج عبادة لا يخرج منه بالفساد بخلاف سائر العبادات فعلى هذا يجب عليه كفارة ما فعله في المحظور لأنه صادف الإحرام كفعله على غير وجه الرفض وعنه كفارة واحدة ذكرها في "المستوعب"، وظاهره أنه لا شيء عليه لرفضه وقطع به في "المغني" و"الشرح" لأنه مجرد نية لم تفد شيئا وفي "الترغيب" وقدمه في "الفروع": يلزمه دم لرفضه وعلم منه أنه لا يفسد الإحرام بالجنون والإغماء وذكر ابن عقيل وجهين وفي "مفرداته": مبناه على التوسعة وسرعة الحصول فلهذا لو أحرم مجامعا انعقد وحكمه كالصحيح.
"ومن تطيب قبل إحرامه في بدنه فله استدامة ذلك في إحرامه"، لحديث عائشة وظاهره أنه إذا كان في يده لم يكن له استدامته لكن في "المغني" و"الشرح": إن طيب ثوبه له لبسه ما لم ينزعه عنه لأن الإحرام يمنع من ابتداء الطيب دون استدامته وفيه نظر لأنه لم يرد في الشرع ما يقتضي جواز استدامة لبس المطيب.(3/119)
وليس له لبس ثوب مطيب وإن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه فإن استدام لبسه فعليه الفدية وإن لبس ثوبا كان مطيبا وانقطع ريح الطيب منه وكان بحيث إذا رش فيه ماء هاج ريح الطيب منه فعليه الفدية.
ـــــــ
"وليس له لبس ثوب مطيب" أي: بعد إحرامه لقوله: "لا تلبسوا شيئا من الثياب مسه ورس أو زعفران". "وإن أحرم وعليه قميص" أو سراويل أوجبة ولو عبر بـ"المخيط" لعم "خلعه ولم يشقه" لحديث يعلى ولو وجب شقها أو وجب عليه فدية لأمره بها لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولما في الشق من إضاعة المال المنهي عنه شرعا.
"فإن استدام لبسه فعليه الفدية"، لأن خلعه واجب للأمر به فوجبت الفدية كما لو حلق رأسه ولأن استدامة اللبس تسمى لبسا لقولهم لبست شهرا لا يقال قد أمره بغسل الطيب لأنه قد ورد ما يقتضي استدامة الطيب دون لبسه لأن حديث عائشة راجح على حديث صاحب الجبة من وجهين أحدهما: أن في بعض ألفاظه: "عليه جبة بها أثر الخلوق" وفي بعضها: "وهو متضمخ بالخلوق" وفي بعضها: "عليه ردع من زعفران"، فيدل على أن الطيب كان من زعفران وهو منهي عنه في غير الإحرام ففيه أولى لنهيه عليه السلام عنه الثاني أنه كان سنة ثمان عام الجعرانة وحديث عائشة سنة عشر فهو متأخر والحكم له.
"وإن لبس ثوبا كان مطيبا وانقطع ريح الطيب منه وكان بحيث إذا رش فيه ماء هاج ريح الطيب منه، فعليه الفدية" لأنه مطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء ظاهرا لا رائحة له أشبه ما لو ظهر بنفسه ومقتضاه أنه لا فدية عليه إذا لم يظهر ريحه لأنه ليس بطيب الآن أشبه الذي لم يتطيب أصلا.
تنبيه القارن كغيره نص عليه وقاله الأكثر لظاهر الكتاب والسنة لأنهما حرمتان كحرمة الحرم وحرمة الإحرام واختار القاضي أنه إحرامان وهو ظاهر كلام أحمد لأنه شبهه بحرمة الحرم وحرمة الإحرام لأن نية النسك ونية الحج غير نية العمرة واختار جمع أنه إحرام واحد كبيع دار وعبد صفقة واحدة وعنه يلزمه بفعل المحظور جزاءان ذكرها في "الواضح". وذكر القاضي تخريجا:(3/120)
فصل:
وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم إلا فدية الأذى واللبس ونحوها إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها.
ـــــــ
إن لزمه طوافان وسعيان وخصها ابن عقيل بالصيد كما لو أفرد كل واحد بإحرام والفرق ظاهر وكما لو وطئ وهو محرم صائم
فصل:
"وكل هدي أو إطعام" متعلق بالحرم أو الإحرام "فهو لمساكين الحرم إن قدر على إيصاله إليهم"، لقوله تعالى: { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وقوله: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ويجب نحره بالحرم ويجزئ جميعه قال أحمد مكة ومنى واحد واحتج الأصحاب بما رواه أحمد وغيره في رواية أسامة بن زيد التي عن جابر مرفوعا: "كل فجاج مكة طريق ومنحر" . وفي "الفروع": توجيه: لا ينحر في الحج إلا بمنى ولا في العمرة إلا بمكة ويجب تفرقة لحمه بالحرم أو إطلاقه لمساكينه لأنه مقصود كالذبح والتوسعة عليهم مقصودة فلو سلمه للفقراء سليما فذبحوه أجزأ وإلا استرده ونحره فإن أبى أو عجز ضمنه والطعام كالهدي لقول ابن عباس الهدي والإطعام بمكة ولأنه نسك يتعدى نفعه إلى المساكين فاختص بهم كالهدي.
ومساكين الحرم من له أخذ الزكاة مقيما كان أو مجتازا من الحاج وغيرهم فإن بان بعد الدفع غناه فكالزكاة وما جاز تفريقه لم يجز دفعه إلى فقراء الذمة كالحربي وهل يجوز أن يغدي المساكين أو يعشيهم إن جاز في كفارة اليمين فيه احتمالان فإن تعذر إيصاله إلى فقراء الحرم فالأظهر أنه يجوز ذبحه وتفريقه في غيره لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
"إلا فدية الأذى واللبس ونحوها" كالتقليم والطيب "إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها" لأنه عليه السلام أمر كعبا بها بالحديبية وهي في(3/121)
ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر وأما الصيام فيجزئه بكل مكان وكل دم ذكرناه يجزئ فيه شاة أو سبع بدنة
ـــــــ
الحل واشتكى الحسين بن علي رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا رواه مالك وعن أحمد في الحرم وقاله الخرقي في غير الحلق لأنه الأصل خولف فيه لما سبق واعتبر في "المجرد" و"الفصول" العذر في المحظور وإلا فغير المعذور كسائر الهدي وعنه في جزاء الصيد حيث قتله كحلق الرأس وهي ضعيفة لمخالفة الكتاب.
فرع: وقت ذبحه حين فعله وله الذبح قبله لعذر ككفارة قتل الآدمي.
"ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر" من حل أو حرم نص عليه لأنه عليه السلام لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية نحروا هديهم وحلوا ولأنه موضع تحلله فكان موضع ذبحه كالحرم لكن إن كان قادرا على أطراف الحرم فوجهان وعنه ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه إلى الحرم ويواطئ رجلا على نحره في وقت تحلله روي عن ابن مسعود لأنه أمكنه النحر في الحرم أشبه ما لو حصر فيه وحمله في "المغني" على ما إذا كان حصره خاصا وأما الحصر العام فلا وقوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] في حق غير المحصر ولا يمكن قياسه عليه لأن تحلل المحصر من الحل وتحلل غيره من الحرم فكل ينحر في موضع تحلله.
"وأما الصيام" والحلق وهدي تطوع ذكره القاضي وغيره وما سمي نسكا "فيجزئه بكل مكان" لا نعلم فيه خلافا لقول ابن عباس الصوم حيث شاء لعدم تعدي نفعه ولا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي.
"وكل دم ذكرناه يجزئ فيه شاة أو سبع بدنة"، لقوله تعالى: { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] البقرة قال ابن عباس شاة أو شرك في دم وفسر عليه السلام النسك في خبر كعب بذبح شاة والباقي مقيس فإن اختار ذبح بدنة أو بقرة فهو أفضل لأنه أوفر لحما وأنفع للفقراء ويلزمه كلها اختاره ابن عقيل كما لو اختار(3/122)
ومن وجبت عليه بدنة أجزأته بقرة
ـــــــ
الأعلى من خصال الكفارة وقيل سبعها والباقي له أكله والتصرف فيه كذبح سبع شياه وهو كالأضحية نص عليه فلا يجزئ ما لا يضحى به.
"ومن وجبت عليه بدنة أجزأته بقرة"، لقول جابر كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له والبقرة فقال وهل هي إلا من البدن رواه مسلم وبعكسها وظاهره ولو كانت منذورة ونصره جماعة وقال القاضي وأصحابه يلزمه ما نواه وإن أطلق فروايتان إحداهما يجزئه بقرة والثانية يجزئه مع عدم البدنة لأنها بدل قال المؤلف والأول أولى فإن كانت جزاء صيد أجزأت أيضا وقيل لا لأنها لا تشبه النعامة ويجزئ عنها سبع شياه ذكره الأصحاب لأنها معدولة بسبع بدنة وهي دم كامل وأطيب لحما وعنه عند عدمها لأنها بدل وعنه لا يجزئ إلا عشر شياه لقول رافع كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل في قسم الغنم عشرا من الشياه ببعير رواه النسائي بإسناد جيد قال الخلال والعمل على الأول ومن لزمه سبع شياه أجزأه بدنة أو بقرة ذكره في "الكافي"، لإجزائهما عن سبعة وذكر جماعة إلا في جزاء الصيد وفي "المغني": أنه الظاهر لأن الغنم أطيب والبقرة كالبدنة في إجزاء سبع شياه عنها.(3/123)
باب جزاء الصيد
ـــــــ
باب جزاء الصيد
وهو واجب لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآية [المائدة: 95] فـ"جزاء": مبتدأ خبره محذوف أي فعليه جزاء ومن نون "جزاء" وقرئ به في السبعة فـ"مثل" صفة و"من النعم" صفة أخرى له. ويجوز أن يكون "مثل" بدلا. وقرئ شاذا بنصب "مثل" أي: يخرج مثل لأن الجزاء يتعدى بحرف الجر وقرئ بإضافة الجزاء إلى "مثل" فيكون في حكم الزائد كقولهم مثلك لا يبخل ويجوز أن يتعلق "من النعم" بقوله: "فجزاء" إن نصبت(3/123)
وهو ضربان أحدهما ماله مثل من النعم فيجب فيه مثله وهو نوعان أحدهما قضت به الصحابة ففيه ما قضت ففي النعامة بدنة وفي حمار الوحش وبقرته والإيل والثيتل والوعل بقرة
ـــــــ
"مثلا" لعمله فيهما لأنهما من صلته لا إن رفعته لأن ما يتعلق به من صلته ولا يفصل بين الصلة والموصول بصفة أو بدل ويجوز تعلقه به إن أضفته ويجوز جعله حالا من الضمير في "قتل"، لأن المقتول يكون من النعم و"يحكم به" صفة لـ"جزاء" إذا نونته وإذا أضفته ففي موضع حال عاملها معنى الاستقرار المقدر في الخبر المحذوف.
"وهو ضربان أحدهما ماله مثل من النعم" ليس المراد به حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين الأنعام والصيد وإنما أريد بها من حيث الصورة "فيجب فيه مثله" نص عليه "وهو نوعان: أحدهما: قضت به الصحابة" ليس المراد به كلهم "ففيه ما قضت" لقوله عليه السلام "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" ولقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ" رواه أحمد والترمذي وصححه وعن حذيفة مرفوعا: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" رواه الترمذي وحسنه. ولأنهم أقرب إلى الصواب وأعرف بمواقع الخطاب فكان حكمهم حجة على غيرهم كالعالم مع العامي.
"ففي النعامة بدنة" حكم به عمر وعثمان وعلي وزيد وأكثر العلماء لأنها تشبه البعير في خلقه فكان مثلا لها فيدخل في عموم النص وجعلها الخرقي من أقسام الطير لأن لها جناحين فيعايا بها فيقال طائر تجب فيه بدنة.
"وفي حمار الوحش" بقرة قضى به عمر وقاله عروة ومجاهد لأنها شبيه به وعنه بدنة وقاله أبو عبيدة وابن عباس "وبقرته" أي: في بقرة الوحش "بقرة"، قضى به ابن مسعود وقاله عطاء وقتادة وعنه لا جزاء لبقرة وحش كجاموس "والإيل" بكسر الهمزة وفتح الياء مشددة الذكر من الأوعال فيه بقرة لقول ابن عباس "والثيتل" هو الوعل المسن "والوعل" هو تيس الجبل وجمعه وعول "بقرة" قال الأصحاب كالإيل وعنه في كل منها بدنة ذكرها في "الواضح"، وفي(3/124)
وفي الضبع كبش وفي الغزال والثعلب عنز وفي الوبر والضب جدي وفي اليربوع جفرة لها أربعة أشهر وفي الأرنب عناق
ـــــــ
"صحاح الجوهري": والوعل: هي الأروى وعن ابن عمر فيها بقرة وهو من أولاد البقر ما بلغ أن يقبض على قرنه ولم يبلغ أن يكون ثورا.
"وفي الضبع كبش"، لما روى أبو داود بإسناده عن جابر قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع؟ فقال: "هو صيد وفيه كبش إذا صاده المحرم" . وروى ابن ماجه والدارقطني عن جابر ونحوه مرفوعا وقضى به عمر وابن عباس وقال الأوزاعي كان العلماء بالشام يعدونها من السباع ويكرهون أكلها قال في "المغني" و"الشرح": وهو القياس إلا أن اتباع السنة والآثار أولى.
"وفي الغزال" عنز قضى به عمر وابن عباس وروي عن علي وقاله عطاء قال ابن المنذر ولا يحفظ عن غيرهم خلافه لأن فيه شبها بالعنز لأنه أجرد الشعر متقلص الذنب "والثعلب عنز" لأنه كالغزال وسبق أن الأشهر يجب فيه الجزاء وإن حرمنا أكله تغليبا للتحريم كما وجب الجزاء في المتولد من المأكول وغيره وعنه فيه شاة لأنه أعظم من الغزال إذا قلنا بإباحته وإلا فلا شيء فيه على المذهب
"وفي الوبر" بسكون الباء دويبة أصغر من السنور طحلاء ولا ذنب لها "والضب" حيوان صغير له ذنب شبيه بالحرذون "جدي" قضى به عمر وعبد الرحمن بن عوف في الضب وعنه شاة وقاله جابر وعطاء والأول أولى لأن الجدي أقرب إليه من الشاة وأما الوبر فبالقياس على الضب. وفي "المغني": فيه شاة وحكاه عن مجاهد وعطاء وقال القاضي فيه جفرة لأنه ليس بأكبر منها.
"وفي اليربوع" قال أبو السعادات هو الحيوان المعروف وقيل هو نوع من الفأر "جفرة" قضى به عمر وابن مسعود وجابر وهي من أولاد المعز "لها أربعة أشهر" قال أبو الزبير هي التي فطمت ورعت
"وفي الأرنب عناق" قضى به عمر ورواه مالك بإسناده عن جابر عنه وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة" رواه الدارقطني.(3/125)
وفي الحمام وهو كل ما عب وهدر شاة وقال الكسائي كل مطوق حمام النوع الثاني ما لم تقض فيه الصحابة فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة ويجوز أن يكون القاتل أحدهما.
ـــــــ
والعناق: الأنثى من ولد المعز أصغر من الجفرة.
"وفي الحمام وهو كل ما عب وهدر شاة" حكم به عمر وابنه وعثمان وابن عباس قال الأصحاب هو إجماع الصحابة وليس ذلك على وجه القيمة لما سبق ولاختلاف القيمة بالزمان والمكان والسعر وصفة المتلف ولم يوصف ولم يسألوا عنه مع أن مالكا وافق في حمام الحرم دون الإحرام والقياس يقتضي القيمة في كل طير تركناه في حمام الحرم لما تقدم فيبقى ما عداه على الأصل قلنا وقد روي عن ابن عباس أنه قضى في حمامة حال الإحرام بشاة لأنها حمامة مضمونة لحق الله فضمنت بشاة كحمامة الحرم وقوله كل ما عب بالعين المهملة أي وضع منقاره في الماء فيكرع كما تكرع الشاة ولا يأخذ قطرة قطرة كالدجاج والعصافير وهدر أي صوت وإنما أوجبوا فيه شاة لشبهه في كرع الماء ولا يشرب كبقية الطيور ومن هنا قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي كل طير يعب الماء كالحمام فيه شاة فيدخل فيه الفواخت والقمري والقطا ونحوها لأن العرب تسميها حماما.
"وقال الكسائي: كل مطوق حمام" فعلى هذا: يكون الحجل من الحمام لأنه مطوق
"النوع الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة" بشيء "فيرجع فيه إلى قول عدلين"، لقوله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] وظاهره لا يكفي واحد "من أهل الخبرة"، لأنه لا يتمكن من الحكم بالمثل إلا بها ولاعتبارها بكل ما يحكم به فيعتبران الشبه خلقة لا قيمة لفعل الصحابة وظاهره أنه لا يشترط بقيمته لأنه زيادة على النص.
"ويجوز أن يكون القاتل أحدهما" نص عليه، لظاهر الآية وروي أن عمر أمر(3/126)
ويجب في كل واحد من الكبير والصغير والصحيح والمعيب مثله إلا الماخض تفدى بقيمة مثلها وقال أبو الخطاب: يجب فيها مثلها
ـــــــ
كعب الأحبار أن يحكم على نفسه في الجرادتين اللتين صادهما وهو محرم ولأنه حق يتعلق به حق آدمي كتقويمه عرض التجارة لإخراجها وكذا يجوز أن يكونا القاتلين وقيده ابن عقيل بما إذا قتله خطأ لأن العمد ينافي العدالة أو جاهلا بتحريمه لعدم فسقه قال في الشرح وعلى قياسه قتله لحاجة أكله
"ويجب في كل واحد من الكبير والصغير والصحيح والمعيب" والذكر والأنثى والحائل "مثله"، للآية ولأن ما ضمن باليد والجناية يختلف ضمانه بذلك كالبهيمة وقياس قول أبي بكر في الزكاة يضمن معيبا بصحيح ذكره الحلواني وخرجه في "الفصول" احتمالا من الرواية هناك وفيها يتعين الكبير أيضا فمثله هنا وجوابه أن الهدي في الآية مقيد بالمثل وقد أجمع الصحابة على إيجاب مالا يصلح هديا كالجفرة والعناق ولا يجري مجرى الضمان بدليل أنها لا تتبعض في أبعاضه لكن إن فدى المعيب بصحيح فهو أفضل بلا نزاع.
"إلا الماخض" أي: الحامل التي دنا وقتها وليس بمراد بل العبرة بالحمل "تفدى بقيمة مثلها" قاله القاضي، وجزم به في "الوجيز" لأن قيمتها أكثر من قيمة لحمها "وقال أبو الخطاب: يجب فيها مثلها" هذا هو المذهب للآية ولأن إيجاب القيمة عدول عن المثل مع إمكانه وذلك خلاف المنصوص وقيل يفدي بحائل لأن هذه الصفة لا تزيد في لحمها كلونها.
تنبيه: إذا جنى على ماخض فألقت جنينها ميتا ضمن نقص الأم فقط كما لو جرحها لأن الحمل من البهائم زيادة وفي "المبهج": إذا صاد حاملا فإن تلف حملها ضمنه وفي "الفصول": يضمنه إن تهيأ لنفخ الروح لأن الظاهر أنه يصير حيوانا كما يضمن جنين امرأة بغرة وإن خرج حيا ثم مات وجب جزاؤه قال في "الشرح": ومثله يعيش وقيل يضمنه مالم يحفظه إلى أن يطير لأنه مضمون وليس بممتنع.(3/127)
ويجوز فداء أعور من عين بأعور من أخرى وفداء الذكر بالأنثى وفي فدائها به وجهان فصل الضرب الثاني ما لا مثل له وهو سائر الطير ففيه قيمته إلا ما كان أكبر من الحمام فهل تجب فيه قيمته أو شاة على وجهين وإن أتلف جزءا من صيد فعليه ما نقص من قيمته أو قيمة مثله إن كان مثليا.
ـــــــ
"ويجوز فداء أعور من عين بأعور من أخرى"، لأنه اختلاف يسير ونوع العيب واحد وإنما اختلف محله ومثله أعرج من قائمة بأعرج من أخرى وظاهره أنه لا يجوز فداء أعور بأعرج وعكسه لعدم المماثلة. "وفداء الذكر بالأنثى" لأن لحمها أطيب وأرطب قال جماعة بل هو أفضل. "وفي فدائها به وجهان" كذا في "الشرح" و"الفروع": أحدهما: يجوز وهو ظاهر "الوجيز" لأن لحمه أوفر وهي أطيب فيتساويان والثاني المنع لأن زيادته ليست من جنس زيادتها أشبه فداء المعيب من نوع آخر وكالزكاة.
فصل
"الضرب الثاني: ما لا مثل له وهو سائر الطير" إذا كان دون الحمام ففيه قيمته لما روى النجاد عن ابن عباس قال ما أصيب من الطير دون الحمام ففيه الدية أي يضمنه بقيمته في موضعه الذي أتلفه فيه كمال الآدمي. "إلا ما كان أكبر من الحمام" كالكركي والإوز والحبارى "فهل تجب فيه قيمته أو شاة على وجهين" كذا في "الشرح" و"الفروع": أحدهما يضمنه بقيمته وهو ظاهر "الوجيز" لأنه القياس تركناه في الحمام لقضاء الصحابة ولا يجوز إخراج القيمة بل طعاما وقيل بلى والثاني يجب شاة روي عن ابن عباس وعطاء وكالحمام بطريق الأولى.
"وإن أتلف جزءا من صيد" أو تلف في يده، "فعليه ما نقص من قيمته" إن لم يكن مثليا لأن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالآدمي فيقوم الصيد سليما ثم مجنيا عليه فيجب ما بينهما بأن كانت قيمته أولاعشرة وثانيا ثمانية فالواجب درهمان. "أو قيمة مثله إن كان مثليا"، هذا هو المجزوم به عند الأكثر لأن الجزء يشق(3/128)
وإن نفر صيدا فتلف بشيء ضمنه وإن جرحه فغاب ولم يعلم خبره فعليه ما نقصه وكذلك إن وجده ميتا ولم يعلم موته بجنايته.
ـــــــ
إخراجه فيمتنع إيجابه ولهذا عدل الشارع في خمس من الإبل إلى الشاة فيقوم المثل سليما بعشرة مثلا ومعيبا بستة فيكون الواجب ستة وظهر بذلك الفرق بين التقويمين لأن المثل قد ينقص شيئا لا ينقص الصيد بقدره وتحقيقه أنه لو جنى على نعامة قيمتها صحيحة عشرون ومقطوعة يدها عشر فالنقصان الربع وإذا نظرت إلى مثلها وهي البدنة فقيمتها مثلا سليمة مائة ومقطوعة يدها خمسون فالنقصان النصف فلو اعتبر نفس الصيد كان الواجب خمسة ولو اعتبر المثل كان الواجب خمسين والوجه الثاني أنه يضمن بمثله لأن ما وجب ضمان جملته بالمثل وجب في بعض مثله كالمكيلات و الأول أولى لأن المشقة هنا غير ثابتة لوجود الخيرة له في العدول عن المثل إلى عدله من الطعام أو الصيام فينتفي المانع.
"وإن نفر صيدا فتلف بشيء ضمنه" لأن عمر دخل دار الندوة فعلق رداءه فوقع عليه حمام فخرجت حية فقتلته فسأل من معه فحكم عليه عثمان بشاة رواه الشافعي وكذا إن جرحه فتحامل فوقع في شيء تلف به لأنه تلف بسببه أما إن نفره إلى مكان فسكن به ثم تلف فلا ضمان في الأشهر.
"وإن جرحه فغاب ولم يعلم خبره فعليه ما نقصه" إذا كان الجرح غير موح لأنا لا نعلم حصول التلف بفعله فنقومه صحيحا وجريحا جراحة غير مندملة فيجب ما بينهما فإن كان سدسه وهو مثلي فقيل يجب سدس مثله وقيل قيمة سدس مثله وقيل يضمن كله فلو كان موحيا وغاب غير مندمل فعليه جزاؤه كقتله وذكر القاضي وأصحابه في كتب الخلاف إذا جرحه وغاب وجهل خبره فعليه جزاؤه لأنه سبب للموت.
"وكذلك إن وجده ميتا ولم يعلم موته بجنايته"، لما ذكرنا وقيل يضمن كله إحالة للحكم على السبب المعلوم كما لو وقع في الماء نجاسة فوجده متغيرا بها وهذا أقيس كنظائره.(3/129)
وإن اندمل غير ممتنع فعليه جزاء جميعه وإن نتف ريشه فعاد فلا شيء عليه وقيل عليه قيمة الريش وكلما قتل صيدا حكم عليه وإن اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد
ـــــــ
"وإن اندمل" أي: صلح "غير ممتنع فعليه جزاء جميعه" لأنه عطله فصار كتالف وكجرح تيقن به موته وقيل يضمن ما نقص لئلا يجب جزاءان لو قتله محرم آخر فلو جرحه جرحا غير موح فوقع في ماء أو تردى فمات ضمنه كله لتلفه بسببه وعلم منه أن الصيد يضمن مما يضمن به الآدمي من مباشرة أو سبب
"وإن نتف ريشه" أو شعره أو وبره "فعاد" بأن حفظه وأطعمه وسقاه "فلا شيء عليه"، لأن النقص زال أشبه ما لو اندمل الجرح. "وقيل: عليه قيمة الريش"، لأن الثاني غير الأول فإن صار غير ممتنع بنتف الريش فهو كالجرح وإن غاب ففيه ما نقص لا كل الجزاء
"وكلما قتل صيدا حكم عليه" بجزائه لأنه إتلاف فوجب أن يتعدد عليه الحكم بالضمان بتعدد الإتلاف كمال الآدمي والأولى حمل كلامه هنا على ما إذا تعدد قتل الصيد وكان الجزاء مختلفا كالبدنة والبقرة والكبش لأنه لا يمكن تداخله كالحدود وخوفا له من التكرار لأنه سبق ذكر الخلاف فيه
فرع: يجوز إخراج جزاء الصيد بعد جرحه وقبل موته نص عليه لأنها كفارة قتل فجاز تقديمها ككفارة قتل الآدمي.
"وإن اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد" هذا هو الصحيح لأنه تعالى أوجب المثل بقتله فلا يجب غيره وهو ظاهر في الواحد والجماعة والقتل هو الفعل المؤدي إلى خروج الروح وهو فعل الجماعة لا كل واحد كقوله من جاء بعبدي فله درهم فجاء به جماعة ولأنه عليه السلام جعل في الضبع كبشا ولم يفرق وهذا قول عمر وابنه وابن عباس ولم يعرف لهم مخالف ولأنه جزاء عن مقتول يختلف باختلافه ويحتمل التبعيض فكان واحدا كقيم المتلفات. وكذا(3/130)
وعنه على كل واحد جزاء وعنه إن كفروا بالمال فكفارة واحدة وإن كفروا بالصيام فعلى كل واحد كفارة.
ـــــــ
الدية لا كفارة القتل على الأصح فيهما ومتى ثبت إتحاد الجزاء في الهدي ثبت في الصوم للنص. "وعنه: على كل واحد جزاء" اختاره أبو بكر أشبه كفارة قتل الآدمي. "وعنه: إن كفروا بالمال، فكفارة واحدة" لأن المال ليس بكفارة وإنما هو بدل متلف فلم يكمل كالدية. "وإن كفروا بالصيام فعلى كل واحد كفارة" نقلها الجماعة ونصرها القاضي وأصحابه وذكرها الحلواني عن الأكثر لأن الصوم كفارة فوجب أن يكمل في حق الفاعل ككفارة قتل الآدمي بدليل أنه تعالى عطف على البدل الكفارة وقيل لا جزاء على محرم ممسك مع محرم قاتل فيلزم منه عدم لزوم المتسبب مع المباشر وقيل القرار عليه لأنه هو الذي جعل فعل الممسك علة قال في "الفروع": وهذا متوجه وجزم به ابن شهاب أنه على الممسك لتأكده وإن عكسه المال وفيه نظر(3/131)
باب صيد الحرم ونباته.
وهو حرام على الحلال والمحرم فمن أتلف من صيده شيئا فعليه ما على المحرم في مثله.
ـــــــ
باب صيد الحرم ونباته
"وهو حرام على الحلال والمحرم" إجماعا، وسنده ما روى ابن عباس مرفوعا أنه قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلا من عرفها" فقال العباس إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال: "إلا الإذخر" متفق عليه ويحرم على دال لا يتعلق به ضمان وعلم منه أن مكة كانت حراما قبل إبراهيم وعليه أكثر العلماء وقيل إنما حرمت بسؤال إبراهيم وفي الصحيحين من غير وجه أن إبراهيم حرمها أي أظهر تحريمها وبينه
"فمن أتلف من صيده شيئا فعليه ما على المحرم في مثله" نص عليه لأنه(3/131)
وإن رمى الحلال من الحل صيدا في الحرم أو أرسل كلبه عليه أو قتل صيدا على غصن في الحرم أصله في الحل أو أمسك طائرا فيه فهلك فراخه في الحرم ضمن في أصح الروايتين وإن قتل من الحرم صيدا في الحل بسهمه أو كلبه أو صيدا على غصن في الحل أصله في الحرم أو أمسك حمامة في الحرم فهلك فراخها في الحل لم يضمن في أصح الروايتين
ـــــــ
كصيد الإحرام ولاستوائهما في التحريم فوجب أن يستويا في الجزاء فعلى هذا إن كان الصيد مثليا ضمنه بمثله وإلا بقيمته ودل على أن كل ما يضمن من الإحرام يضمن في الحرم إلا القمل فإنه مباح في الحرم بغير خلاف نعلمه لأنه حرم في حق المحرم لأجل الرفه وهو مباح في الحرم كالطيب ونحوه ولا يجوز تملكه نقله الأثرم ذكره القاضي ولا يلزم المحرم جزاءان نص عليه وقيل بلى
فرع: إذا دل محل حلالا على صيد في الحرم فقتله ضمناه بجزاء واحد نقله الأثرم.
"وإن رمى الحلال من الحل صيدا في الحرم أو أرسل كلبه عليه أو قتل صيدا على غصن في الحرم أصله في الحل أو أمسك طائرا فيه فهلك فراخه في الحرم ضمن في أصح الروايتين" وهو قول الأكثر لعموم قوله: "لا ينفر صيدها" وقد أجمعوا على تحريم صيد الحرم وهذا من صيده ولأنه أتلفه صيدا حرميا فضمنه كما لو كان في الحرم ولأن صيده معصوم محله بحرمة الحرم فلا يختص من في الحرم وحينئذ يضمن الفراخ دون أمها لأنها من صيد الحل والثانية لا ضمان في ذلك لأن الأصل براءة الذمة إذ القاتل حلال من الحل
"وإن قتل من الحرم صيدا في الحل بسهمه أو كلبه أو صيدا على غصن في الحل أصله في الحرم أو أمسك حمامة في الحرم فهلك فراخها في الحل لم يضمن في أصح الروايتين"، للعموم ولأن الأصل الإباحة وليس من صيد الحرم فليس بمعصوم والثانية يضمنه اختارها أبو بكر والقاضي وغيرهما اعتبارا بالقاتل ولأنه قريب من الحرم والغصن تابع للأصل فوجب الجزاء احتياطا وقدم في(3/132)
وإن أرسل كلبه من الحل على صيد في الحل فقتل صيدا في الحرم فعلى وجهين وإن فعل ذلك بسهمه ضمنه
فصل: ويحرم قطع شجر الحرم وحشيشه
ـــــــ
"المستوعب": يجب ضمان الفرخ لأنه سبب تلفه وإن فرخ في مكان يحتاج إلى نقله عنه بالخلاف
تنبيه: إذا وقف صيد بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم حرم تغليبا وعنه لا لأن الأصل الإباحة ولم يثبت أنه من صيد الحرم وإن كان رأسه فقط فيه فخرجه القاضي على روايتين.
"وإن أرسل كلبه من الحل على صيد في الحل فقتل صيدا في الحرم فعلى وجهين": أحدهما وهو المنصوص عن أحمد أنه لا يضمن لأنه لم يرسله على صيد في الحرم بل دخل باختياره أشبه ما لو استرسل بنفسه.
والثاني وهو قول أبي بكر عليه الجزاء لأنه قتل صيدا حرميا بإرسال طير عليه أشبه ما لو قتله بسهم وحكى صالح عن أحمد إن كان الصيد قريبا من الحرم ضمنه لتفريطه اختاره ابن أبي موسى وابن عقيل وجزم به في "الوجيز". فعلى هذا لا يضمن صيدا غيره لأنه لم يرسله عليه كاسترساله وعنه بلى لتفريطه.
"وإن فعل ذلك بسهمه ضمنه" لأنه قتل صيدا حرميا أشبه ما لو رمى حجرا فأصاب صيدا إذ العمد والخطأ واحد في وجوب الضمان وهذا لا يخرج عن واحد منهما وبه فارق الكلب لأن له اختيارا وقصدا وفي "الفروع" إن قتل السهم الذي قصده فكالكلب وقيل يضمنه الرامي
فصل.
"ويحرم قطع شجر الحرم" البري إجماعا وسنده: "ولا يعضد شجرها" فدخل ما فيه مضرة كالشوك والعوسج قاله المؤلف وغيره وقال أكثر أصحابنا لا يحرم لأنه مؤذ بطبعه كالسباع "وحشيشه" لقوله: "لا يختلى خلاها" قال أحمد للفضل(3/133)
إلا اليابس والإذخر وما زرعه الآدمي وفي جواز الرعي وجهان
ـــــــ
ابن زياد لا يحتش من حشيش الحرم ويعم الأراك والورق "إلا اليابس"، لأنه بمنزلة الميت وفيه احتمال لظاهر الخبر وكذا ما انكسر ولم يبن فإنه كظفر منكسر ولا بأس بالانتفاع بما زال بغير فعل آدمي نص عليه لأن الخبر في القطع.
"والإذخر"، لقوله عليه السلام للعباس: "إلا الإذخر" ويلحق به الكمأة والثمرة "وما زرعه الآدمي"، لأن في تحريمه ضررا على من زرعه وهو منفي شرعا فيحتمل اختصاصه بالزرع من البقل والرياحين والزرع قال ابن المنجا وهو ظاهر كلامه لأنه المفهوم من إطلاق الزرع وفيه شيء لأنه يلزم منه المنع فيما أنبته الآدمي من الشجر وهو خلاف الراجح وهذا إجماع على إباحته فعلى هذا لا يباح ما أنبته الآدمي من الأشجار وجزم ابن البنا في خصاله بالجزاء للنهي عن قطع شجرها وكما لو نبت بنفسه.
وقال القاضي: إن أنبته في الحرم أولا ففيه الجزاء وإن أنبته في الحل ثم غرسه في الحرم فلا.
وفي "المغني" و"الشرح": أن ما أنبته من جنس شجرهم لا يحرم كجوز ونخل كالزرع والآهل من الحيوان فإنا إنما أخرجنا من الصيد ما كان أصله إنسيا دون ما تأنس من الوحش كذا هنا وفيه نظر ويحتمل العموم في كل ما أنبته الآدمي فيعم الأشجار وهذا هو الذي نقله المروذي و أبو طالب وغيرهما وجزم به القاضي وأصحابه في كتب الخلاف لأنه أنبته آدمي ولأنه مملوك الأصل كالأنعام والجواب عن النهي بأن شجر الحرم هو ما أضيف إليه ولا يملكه أحد وهذا مضاف إلى مالكه فلا يعمه الخبر.
"وفي جواز الرعي" أي: رعي حشيشه "وجهان" وذكر أبو الحسين وجماعة أنهما روايتان المنع نصره القاضي وابنه وجزم به أبو الخطاب وابن البنا في كتب الخلاف لأن ما حرم إتلافه بنفسه حرم أن يرسل عليه ما يتلفه كالصيد وعكسه الإذخر والثانية الجواز اختاره أبو حفص العكبري لأن الهدايا كان(3/134)
ومن قلعه ضمن الشجرة الكبيرة ببقرة والحشيش بقيمته والغصن بما نقص فإن استخلف سقط الضمان في أحد الوجهين
ـــــــ
تدخل الحرم فتكثر فيه فلم ينقل شد أفواهها وللحاجة إليه كالإذخر وفي "تعليق القاضي": الخلاف إن أدخلها للرعي فإن أدخلها لحاجته فلا ضمان وفي "المستوعب": إن احتشه لها فكرعيه.
"ومن قلعه" أي: شجر الحرم وحشيشه، "ضمن" نقله الجماعة وقاله الأكثر "الشجرة الكبيرة ببقرة" جزم به جماعة لما روي عن ابن عباس في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة وقاله عطاء والدوحة الشجرة العظيمة والجزلة الصغيرة وكالمتوسطة وعنه في الكبيرة بدنة. "والحشيش" والورق "بقيمته" نص عليه لأن الأصل وجوب القيمة ترك فيما تقدم لقضاء الصحابة فيبقى ما عداه على مقتضى الأصل.
"والغصن ما نقص" كأعضاء الحيوان ولأنه نقص بفعله فوجب فيه ما نقصه كما لو جنى على مال آدمي فنقص وعنه في الغصن الكبير شاة وعنه يضمن الجميع بقيمته جزم به في "المحرر".
فعلى هذا: إذا لم يجد المثل قومه ثم صام نقله ابن القاسم وفي الوجيز يخير بينها وبين تقويمها ويفعل بثمنها كجزاء صيد وفي الفصول من لم يجد قوم الجزاء طعاما كصيد.
"فإن استخلف سقط الضمان في أحد الوجهين" هو المذهب كما لو قطع شعر آدمي ثم نبت والثاني لا يسقط لأن الثاني غير الأول فهو كما لو حلق المحرم شعرا ثم عاد ولا يجوز الانتفاع بالمقطوع نص عليه كالصيد وقيل ينتفع به غير قاطعه لأنه لا فعل له فيه فهو كقلع الريح له.
تنبيه إذا قلع شجرة من الحرم فغرسها فيه فنبتت فلا ضمان لأنه لم يتلفها ولم يزل حرمتها فإن نقصت ضمن نقصها أو يبست ضمنها لأنه أتلفها وإن غرسها في الحل فنبتت ردها لإزالة حرمتها فإن تعذر أو يبست ضمنها.(3/135)
ومن قطع غصنا في الحل أصله في الحرم ضمنه وإن قطعه في الحرم وأصله في الحل لم يضمنه في أحد الوجهين
ـــــــ
وإن قلعها غيره في الحل فقال القاضي يضمنه وحده لأنه أتلفها بخلاف من نفر صيدا فخرج من الحرم ضمنه المنفر لا قاتله لتفويته حرمته بإخراجه ويحتمل فيمن قلعه أنه كدال مع قاتل فظهر منه أنه لو رد إلى الحرم لم يضمنه وأنه يلزمه رده وإلا ضمنه.
"ومن قطع غصنا في الحل أصله في الحرم ضمنه" لأنه تابع لأصله وكذا لو كان بعض الأصل من الحرم تغليبا للحرمة، كالصيد. "وإن قطعه في الحرم وأصله في الحل لم يضمنه في أحد الوجهين" اختاره القاضي وجزم به في "الوجيز" لأنه تابع لأصله.
والثاني: يضمنه اختاره ابن أبي موسى لأنه في الحرم. وأطلقهما في "المحرر" و"الفروع".
فائدة: لم يذكر المؤلف حد الحرم وهو من طريق المدينة ثلاثة أميال عن بيوت السقيا ومن اليمن سبعة أميال عند إضاءة لين ومن العراق كذلك على ثنية زحل جبل بالمنقطع ومن الطائف وعرفات وبطن نمرة كذلك عند طرف عرنة ومن الجعرانة تسعة أميال ومن جدة عشرة أميال عند منقطع الأعشاش، ومن بطن عرنة أحد عشر ميلا.
مسألة: قال أحمد لا يخرج من تراب الحرم ولا يدخل من الحل كذلك قال ابن عمر وابن عباس ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل والخروج أشد واقتصر في "الشرح" على الكراهة وقال بعض أصحابنا يكره إخراجه إلى الحل وفي إدخاله في الحرم روايتان وفي "الفصول": لا يجوز في تراب الحل والحرم نص عليه وفيها يكره أيضا في تراب المسجد كتراب الحرم وظاهر كلام جماعة يحرم لأن في تراب المسجد انتفاعا بالموقوف في غير جهته ولهذا قال أحمد فإن أراد أن يستشفي بطيب الكعبة لم يأخذ منه شيئا ويلزق عليها طيبا من عنده ثم يأخذه.
منه.
"ومن قطع غصنا في الحل أصله في الحرم ضمنه" لأنه تابع لأصله وكذا لو كان بعض الأصل من الحرم تغليبا للحرمة، كالصيد. "وإن قطعه في الحرم وأصله في الحل لم يضمنه في أحد الوجهين" اختاره القاضي وجزم به في "الوجيز" لأنه تابع لأصله.
والثاني: يضمنه اختاره ابن أبي موسى لأنه في الحرم. وأطلقهما في "المحرر" و"الفروع".
فائدة: لم يذكر المؤلف حد الحرم وهو من طريق المدينة ثلاثة أميال عن بيوت السقيا ومن اليمن سبعة أميال عند إضاءة لين ومن العراق كذلك على ثنية زحل جبل بالمنقطع ومن الطائف وعرفات وبطن نمرة كذلك عند طرف عرنة ومن الجعرانة تسعة أميال ومن جدة عشرة أميال عند منقطع الأعشاش، ومن بطن عرنة أحد عشر ميلا.
مسألة: قال أحمد لا يخرج من تراب الحرم ولا يدخل من الحل كذلك قال ابن عمر وابن عباس ولا يخرج من حجارة مكة إلى الحل والخروج أشد واقتصر في "الشرح" على الكراهة وقال بعض أصحابنا يكره إخراجه إلى الحل وفي إدخاله في الحرم روايتان وفي "الفصول": لا يجوز في تراب الحل والحرم نص عليه وفيها يكره أيضا في تراب المسجد كتراب الحرم وظاهر كلام جماعة يحرم لأن في تراب المسجد انتفاعا بالموقوف في غير جهته ولهذا قال أحمد فإن أراد أن يستشفي بطيب الكعبة لم يأخذ منه شيئا ويلزق عليها طيبا من عنده ثم يأخذه.(3/136)
فصل:
ويحرم صيد المدينة وشجرها وحشيشها إلا ما تدعو الحاجة إليه من شجرها للرحل والعارضة والقائمة ومن حشيشها للعلف.
ـــــــ
فأما ماء زمزم فلا يكره إخراجه قال أحمد أخرجه كعب وروي عن عائشة أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله رواه الترمذي وقال حسن غريب ولأنه يستخلف كالثمرة.
فصل:
"ويحرم صيد المدينة" نقله الجماعة، "وشجرها وحشيشها"، لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها" متفق عليه ولمسلم: " لا يختلي خلاها فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وعن سعد مرفوعا: "إني أحرم ما بين لا بتي المدينة أن يقطع عضاهما أو يقتل صيدها" رواه مسلم.
وقال القاضي: تحريم صيدها يدل على أنه لا تصح ذكاته وإن قلنا يصح فلعدم تأثير هذه الحرمة في زوال ملك الصيد نص عليه مع أنه ذكر في الصحة احتمالين
"إلا ما تدعو الحاجة إليه من شجرها للرحل" أي: رحل البعير وهو أصغر من القتب "والعارضة" أي: ما يسقف به المحمل "والقائمة" إحدى قائمتي الرحل اللتين في مقدمه ومؤخره لقول جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرم المدينة قالوا يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا فرخص لنا فقال: "القائمتان والوسادة والعارضة والمسد، فأما غير ذلك فلا يعضد" رواه أحمد.
المسد هو عود البكرة فاستثنى الشارع ذلك وجعله مباحا كاستثناء الإذخر بمكة.
"ومن حشيشها للعلف"، لقوله عليه السلام: "ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة إلا أن يعلف رجل بعيره" رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد من حديث علي. ولأن(3/137)
ومن أدخل إليها صيدا فله إمساكه وذبحه ولا جزاء في صيد المدينة وعنه جزاؤه سلب القاتل لمن أخذه وحد حرمها ما بين ثور إلى عير وجعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة اثني عشر ميلا حمى.
ـــــــ
ذلك بقربها فالمنع منه ضرر بخلاف مكة
"ومن أدخل إليها صيدا فله إمساكه وذبحه" نص عليه لقول أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبو عمير قال أحسبه فطيما وكان إذا جاء قال: "يا أبا عمير، ما فعل النغير" لنغر كان يلعب به متفق عليه وفي "المستوعب" وغيره: حكم حرم المدينة حكم حرم مكة فيما سبق إلا في هاتين المسألتين.
"ولا جزاء في صيد المدينة" قال أحمد في رواية بكر بن محمد لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من أصحابه حكموا فيه بجزاء وهو قول أكثر العلماء واختاره جمع لأنه يجوز دخولها بغير إحرام ولا يصلح لأداء النسك أو لذبح الهدايا وكسائر المواضع وكصيد وج وشجره. ولا يلزم من الحرمة الضمان، ولا من عدمها عدمه.
"وعنه: جزاؤه سلب القاتل لمن أخذه" نقلها الأثرم والميموني وهي المنصورة عند الأصحاب من كتب الخلاف لما سبق من تحريمها كمكة وعن عامر بن سعد أن سعدا ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم فقال معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى أن يرده عليهم رواه مسلم ولأنه يحرم لحرمة ذلك كحرم مكة و الإحرام وسلبه ثيابه قال جماعة والسراويل زاد جماعة وزينة كمنطقة وسوار وخاتم وآلة اصطياد لأنها آلة لفعل المحظور وليست الدابة منه بخلاف قاتل الكافر فإنه يأخذها على الأشهر لئلا يستعين بها على الحرب فعليها إن لم يسلبه أحد لزمه التوبة فقط.
"وحد حرمها: ما بين لابتيها" لما روى أبو هريرة مرفوعا: " ما بين لابتيها حرام"(3/138)
ـــــــ
متفق عليه اللابة الحرة وهي أرض بها حجارة سود قال أحمد ما بين لابتيها حرام بريد في بريد وكذا فسره مالك بن أنس وهذا حدها من جهتي المشرق والمغرب. ومن روى: "اللهم إني أحرم ما بين جبليها " فالمراد به: من جهتي الجنوب والشمال والمؤلف نفسه يقول ما بين ثور إلى عير لما روى علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرم المدينة ما بين ثور إلى عير" متفق عليه.
قال عياض: أكثر رواة البخاري ذكروا عيرا فأما ثور فمنهم من كنى عنه بكذا ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور خطأ قال أبو عبيد أصل الحديث من عير إلى أحد وذكر بعضهم أن الرواية صحيحة وهي محمولة على أنه أراد حرم المدينة قدر ما بين ثور وعير من مكة وليس بظاهر ومنع مصعب الزبيري وجودهما بالمدينة وليس كذلك فإن عيرا جبل معروف بها وكذا ثور وهو جبل خلف أحد كما أخبر به الثقات يؤيده الخبر الصحيح: "وجعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة اثني عشر ميلا حمى" ، رواه مسلم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
تذنيب: مكة أفضل من المدينة نصره القاضي وأصحابه لما روى الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سوق مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه ولمضاعفة الصلاة وعنه المدينة أفضل اختاره ابن حامد وغيره قال في رواية أبي داود وسئل عن المقام بمكة أحب إليك أم بالمدينة فقال بالمدينة لمن قوي عليه لأنها مهاجر المسلمين وعن رافع مرفوعا: "المدينة خير من مكة". ورد بأنه لا يعرف وحمله القاضي على وقت كون مكة دار حرب أو على الوقت الذي كان فيها والشرع يؤخذ منه وكذا لا يعرف: " اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك" قال قاضي: معناه بعد مكة وما روي فهو دال على تفضيلها لا أفضليتها وكونه عليه السلام خلق منها وهو خير البشر فتربته خير الترب(3/139)
ـــــــ
و أجاب القاضي بأن فضل الخلقة لا يدل على فضل التربة لأن أحد الخلفاء الأربعة أفضل من غيره ولم يدل أن تربته أفضل قال ابن عقيل الكعبة أفضل من الحجرة فأما من هو فيها فلا والله ولا العرش وحملته والجنة لأن بالحجرة جسدا لو وزن به لرجح صلى الله عليه وسلم وجزم بعض أصحابنا بأن مكة أفضل والمجاورة بالمدينة أفضل وتضاعف الحسنات والسيئات بمكان أو زمان فاضل ذكره جماعة وذكر الآجري أن الحسنات تضاعف ولم يذكر السيئات(3/140)
باب ذكر دخول مكة
يستحب أن يدخل مكة من أعلاها من ثنية كداء ثم يدخل المسجد من باب بني شيبة.
ـــــــ
باب ذكر دخول مكة
وهي علم على جميع البلدة المعظمة المحجوجة غير منصرفة وسميت به لقلة مائها وقيل لأنها تمك من ظلم فيها أي تهلكه ويزاد فيها بكة في قول الضحاك وقيل بالباء اسم لبقعة البيت وبالميم ما حوله وقيل بكة اسم للمسجد والبيت ومكة للحرم كله ولها أسماء.
"يستحب" للمحرم "أن يدخل مكة من أعلاها، من ثنية كداء"، لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى وعن عائشة نحوه متفق عليهما وظاهره ليلا أو نهارا واقتصر عليه في "الشرح"، لأنه عليه السلام دخلها ليلا ونهارا أخرجه النسائي وقدم في "الفروع" نهارا وإنما كرهه من السراق ولم يتعرض لخروجه منها ويستحب من الثنية السفلى كدى بضم الكاف وتشديد الياء والأول بفتح الكاف والدال ممدود مهموز متصرف وغير متصرف والثنية في الأصل الطريق بين الجبلين.
"ثم يدخل المسجد من باب بني شيبة"، لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة ارتفاع الضحى وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ثم دخل رواه مسلم. ويقول حين(3/140)
فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة و برا وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا والحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله والحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا والحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.
ـــــــ
دخوله بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله اللهم افتح لي أبواب فضلك. ذكره في "أسباب الهداية".
"فإذا رأى البيت رفع يديه" نص عليه وهو قول الأكثر لما روى الشافعي عن ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وما روي عن جابر لا يمنع منه وكبر وذكره في "المحرر" و"الوجيز"، لأنه روي عنه عليه السلام أنه فعله ولم يذكره آخرون وحكاه في "الفروع" قولا، كالتهليل.
"وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام"، لأن عمر كان يقول ذلك رواه الشافعي ومعنى السلام الأول اسم الله تعالى والثاني من أكرمته بالسلام فقد سلم والثالث سلمنا بتحيتك إيانا من جميع الآفات ذكره الأزهري "اللهم زد هذا البيت تعظيما" أي: تبجيلا "وتشريفا" أي: رفعة وإعلاء "وتكريما" أي تفضيلا "ومهابة" أي: توقيرا وإجلالا "وبرا" بكسر الباء وهو اسم جامع للخير.
"وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا" رواه الشافعي بإسناده عن ابن جريج "والحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله والحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا والحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام" سمي به لأن حرمته انتشرت وأريد بتحريم البيت سائر الحرم قاله العلماء.
"وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" ذكره الأثرم وإبراهيم الحربي وفي "المحرر" و"الوجيز" كـ"المقنع"، وفي(3/141)
يرفع بذلك صوته ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرا أو طواف القدوم إن كان مفردا أو قارنا ويضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر
ـــــــ
"الفروع": ودعا وقال ومنه ولم يذكر الأخير ومهما زاد من الدعاء فحسن.
"يرفع بذلك صوته" جزم به في "المحرر" و"الوجيز" وغيرهما، لأنه ذكر مشروع فاستحب رفع الصوت به، كالتلبية وحكاه في "الفروع" قولا.
"ثم يبتدئ" بالطواف لقول عائشة إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت متفق عليه ولحديث جابر رواه مسلم وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم ولأنه تحية فاستحب كتحية غيره بالركعتين ومحله ما لم يذكر صلاة فرض أو فائتة أو تقام المكتوبة فإنه يقدمها عليه وكذا إن خاف فوت ركعتي الفجر أو الوتر أو حضرت جنازة.
"بطواف العمرة إن كان معتمرا"، لأن الذي أمرهم عليه السلام بفسخ نسكهم إليها أمرهم أن يطوفوا للعمرة بدليل أنه أمرهم بالحل ولم يحتج إلى طواف قدوم لأن المقصود التحية وقد حصلت بفعله.
"أو طواف القدوم" ويسمى الورود "إن كان مفردا أو قارنا" لفعل الصحابة الذين كانوا كذلك لكن ذكر في "الفصول" و"الترغيب" و"المستوعب" أن ذلك بعد تحية المسجد والمذهب ما ذكره المؤلف نقل حنبل يرى لمن قدم مكة أن يطوف لأنه صلاة والطواف أفضل من الصلاة وهي بعده وقال ابن عباس وعطاء الطواف لأهل العراق والصلاة لأهل مكة وذكره القرافي اتفاقا بخلاف السلام على النبي صلى الله عليه وسلم لتقديم حق الله على حق الأنبياء وهو ظاهر كلام أصحابنا.
"ويضطبع بردائه في جميع طوافه" نص عليه، لما روى يعلى بن أمية أ ن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا رواه أبو داود وابن ماجه وهو قول عمر وكثير من العلماء وفي "الترغيب" رواية: في رمله. "فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر" لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة، فرملوا(3/142)
ثم يبتدئ من الحجر الأسود فيحاذيه بجميع بدنه ثم يستلمه ويقبله وإن شاء استلمه وقبل يده وإن شاء أشار إليه
ـــــــ
بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى رواه أبو داود فإذا فرغ منه سوى رداءه لأن الاضطباع غير مستحب في الصلاة وقال الأثرم يزيله إذا فرغ من الرمل.
"ثم يبتدئ" أي: بالطواف "من الحجر الأسود" لأنه عليه السلام بدأ به "فيحاذيه بجميع بدنه" ليستوعب جميع البيت بالطواف فظاهره أنه إذا حاذاه ببعضه أنه لا يجزئه لأن ما لزم استقباله لزمه بجميع البدن كالقبلة واختار جماعة الإجزاء لأنه حكم متعلق بالبدن فأجزأ بعضه كالحد فعلى الأول لا يحتسب له بذلك الشوط ويصير الثاني أوله.
"ثم يستلمه" أي: يمسحه بيده اليمنى لأن الاستلام افتعال من السلام وهو التحية ولذلك يسميه أهل اليمن المحيا لأن الناس يحيونه "ويقبله" لما روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر ووضع شفتيه عليه يبكي طويلا فقال يا عمر ها هنا تسكب العبرات رواه ابن ماجه وفي الصحيحين أن أسلم قال رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك نقل الأثرم يسجد عليه وفعله ابن عمر وابن عباس.
"وإن شاء استلمه وقبل يده" لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه وقبل يده رواه مسلم ونقل ابن منصور لا بأس بتقبيل اليد فظاهره لا يستحب قاله القاضي. وفي "الروضة": هل له أن يقبل يده فيه اختلاف بين أصحابنا.
"وإن شاء أشار إليه" لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره فلما أتى الركن أشار إليه وكبر ر واه البخاري والإشارة أعم من أن تكون باليد أو غيرها وظاهره استواء الأحوال الثلاثة وليس كذلك بل المستحب أولا تقبيله فإن شق استلمه بشيء وقبله فإن لم يمكنه أشار إليه وجزم به في "الوجيز" و"المغني" و"الشرح": وزادا مع استقباله بوجهه قال الشيخ تقي الدين هو السنة ويكبر(3/143)
ويقول باسم الله والله أكبر إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك كلما استلمه ثم يأخذ على يمينه ويجعل البيت عن يساره فإذا أتى على الركن اليماني استلمه وقبل يده
ـــــــ
ويهلل قطع به الأكثر وقد روى أحمد أ ن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: "إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر" وظاهره أنه لا يستقبله بوجهه وهو كذلك في وجه.
فائدة: قول الخرقي ثم أتى الحجر الأسود إن كان لأن في زمنه أخذته القرامطة واستمر بأيديهم مدة ثم فتح الله بعوده فلو قدر والعياذ بالله عدمه في محله وقف مقابلا لمكانه واستلم الركن قال الأصحاب لا ينتقل النسك معه كما في القران.
"ويقول: باسم الله والله أكبر إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك كلما استلمه" لحديث عبد الله بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك عند استلامه "ثم يأخذ على يمينه ويجعل البيت عن يساره"، لأنه عليه السلام طاف كذلك وقال: "خذوا عني مناسككم" ويقرب جانبه الأيسر إليه قال الشيخ تقي الدين لأن الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى فلما كان الإكرام في ذلك للخارج جعل لليمنى فأول ركن يمر به يسمى الشامي والعراقي وهو جهة الشام ثم يليه الركن الغربي والشامي وهو جهة المغرب ثم اليماني جهة اليمن وهو آخر ما يمر عليه من الأركان لأنه يبتدئ بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان.
"فإذا أتى على الركن اليماني استلمه" نص عليه لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني قال ابن عمر ما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة ولا رخاء رواه مسلم ولأنه مبني على قواعد إبراهيم فسن استلامه كالركن الأسود.
"وقبل يده" ذكره في "المحرر" و"الفروع" قولا كما يفعل في الحجر الأسود وظاهره أنه لا يقبله وجزم الخرقي وصاحب "الإرشاد" بخلافه لما روى مجاهد(3/144)
ويطوف سبعا يرمل في الثلاثة الأول منها وهو إسراع المشي مع تقارب الخطا ولا يثب وثبا ويمشي أربعا وكلما حاذى الحجر والركن اليماني استلمهما أو أشار إليهما
ـــــــ
عن ابن عباس قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا استلمه قبله ووضع خده الأيمن عليه قال ابن عبد البر هذا لا يعرف وإنما التقبيل في الحجر الأسود وظاهره أنه لا يستلم الركنين الآخرين نص عليه لأنهما لم يتما على قواعد إبراهيم.
"ويطوف سبعا يرمل في الثلاثة الأول منها" لا نعلم خلافا في سنيته لأنه عليه السلام طاف سبعا رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا رواه جابر وابنا عباس وعمر متفق عليهما وهذا كان لسبب زال وبقي المسبب ويكون الرمل من الحجر إلى الحجر في قول الأكثر.
"وهو إسراع المشي مع تقارب الخطا ولا يثب وثبا" لأن ذلك ليس بمشي فإذا فعله لم يكن إتيانا بالرمل المشروع فإن تمكن منه في حاشية الناس للازدحام كان أولى من الدنو من البيت وإن كان لا يتمكن منه أو يختلط بالنساء فالدنو أولى من التأخير. وفي "الفصول": لا ينتظر للرمل كما لا يترك الصف الأول لتعذر التجافي في الصلاة وبالجملة يطوف كيفما أمكنه ما لم يخرج من المسجد وسواء حال بينه وبين البيت قبة أو غيرها فإن ترك الرمل لم يقضه ولا بعضه في غيرها بل إن تركه في شوط أتى به في الاثنين الباقيين وفي اثنين أتى به في الثالث لأنه هيئة فات محلها فسقط كالجهر في الصلاة.
"ويمشي أربعا" لما سبق "وكلما حاذى الحجر" ونص عليه في المحرر في رمله كبر وذكر جماعة وهلل ونقل الأثرم ورفع يديه. "والركن اليماني استلمهما" لما روى ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة رواه أبو داود وقال نافع كان ابن عمر يفعله. "أو أشار إليهما"، لقول ابن عباس المتقدم وظاهره أنه مخير بينهما والمذهب أنه إذا شق عليه استلامهما أشار إليهما صرح به في "الشرح" وغيره.(3/145)
ويقول كلما حاذى الحجر لا إله إلا الله والله أكبر وبين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وفي سائر الطواف اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم و تجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم.
ويدعو بما أحب وليس على النساء ولا أهل مكة رمل ولا اضطباع.
ـــــــ
"ويقول كلما حاذى الحجر" الأسود: "لا إله إلا الله والله أكبر" لحديث بن عباس ولقوله في حديث عمر: "ألا فاستقبل وهلل وكبر". "وبين الركنين" أي: اليماني والأسود: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} لما روى عبد الله بن السائب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك رواه أحمد وعن أبي هريرة مرفوعا: "إن الله وكل بالركن اليماني سبعين ألف ملك لمن قال اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا: آمين". "وفي سائر الطواف اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم و تجاوز عما تعلم وأنت الأعز الأكرم"، لأنه لائق بالمحل فاستحب ذكره كسائر الأدعية اللائقة بمحالها المنصوص عليها وفي "الفروع": رب اغفر وارحم واهدني السبيل الأقوم وذكر أحمد أنه يقوله في سعيه وظاهره أنه لا يرفع يديه خلافا لـ"المستوعب" وغيره. وفيه: يقف في كل طوفة عند الميزاب والملتزم وكل ركن.
"ويدعو بما أحب" من الحوائج لأنه موضع يستجاب فيه الدعاء وعن عبد الرحمن بن عوف أنه كان يقول رب قني شح نفسي وظاهره أنه لا يقرأ وهو رواية لتغليطه المصلين والمذهب له القراءة فيستحب قاله الآجري وسوى بينهما في رواية أبي داود واستحبها الشيخ تقي الدين بلا جهر قال القاضي وغيره لأنه صلاة وفيها قراءة ودعاء فيجب كونها مثلها.
"وليس على النساء ولا أهل مكة" ولا حامل معذور نص عليه رمل ولا اضطباع حكاه ابن المنذر إجماعا في النساء لأن ذلك شرع لإظهار الجلد وليس مطلوبا منهن بل إنما يقصد فيهن الستر وكذا أهل مكة لا رمل عليهم(3/146)
وليس في غير هذا الطواف رمل ولا اضطباع ومن طاف راكبا أو محمولا أجزأه وعنه لا يجزئه إلا لعذر.
ـــــــ
في قول الأكثر لأن إظهار الجلد معدوم في حقهم وحكم من أحرم منها حكم أهلها ولو كان متمتعا ولو عبر بقوله ولا محرم في مكة لعم ولأن من لا يشرع له الرمل لا يشرع له الاضطباع وكذا إن طاف راكبا أو محمولا لعذر فلا رمل فيه وذكر الآجري: يرمل بالمحمول.
"وليس في غير هذا الطواف رمل ولا اضطباع" لأنه عليه السلام وأصحابه إنما فعلوا ذلك في الطواف الأول وذكر القاضي وصاحب "التلخيص": إذا تركهما به أو لم يسع عقب طواف القدوم أتى بهما في طواف الزيارة أو غيره وذكر ابن الزاغوني أن الرمل والاضطباع في طواف الزيارة ونفاهما في طواف الوداع.
"ومن طاف راكبا أو محمولا أجزأه وعنه لا يجزئه إلا لعذر" أما مع العذر فيجزئ بغير خلاف لقول ابن عباس طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير يستلم الركن بمحجن وعن أم سلمة قالت شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي قال: "طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" متفق عليه. وإن كان لغير عذر أجزأ في رواية قدمها المؤلف وجزم بها ابن حامد و أبو بكر من الراكب لأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقا ولطوافه عليه السلام راكبا لكن شرط صحته في المحمول بنيته وعلم منه أن الطواف راجلا أفضل بغير خلاف.
والثانية: عدم الإجزاء وهي الأشهر واختارها القاضي أخيرا والشريف لأنه عليه السلام شبه الطواف بالصلاة وهي لا تفعل كذلك إلا لعذر فكذا هو وأجابوا عن فعله عليه السلام بأنه كان لعذر كما هو مصرح به في رواية أبي داود أو ليراه الناس قاله أحمد أو ليشرف ليسألوه فإن الناس غشوه وأخذ جماعة أنه لا بأس للإمام الأعظم ليراه الجهال. وعنه يجبره بدم حكاها المؤلف قال الزركشي ولم أرها لغيره.(3/147)
ولا يجزئ عن الحامل وإن طاف منكسا أو على جدار الحجر أو شاذروان الكعبة أو ترك شيئا من الطواف وإن قل أو لم ينوه لم يجزئه.
ـــــــ
"ولا يجزئ عن الحامل" لأن الطواف عبادة أدي به فرض غيره فلم يقع عن فرضه كالصلاة ولأن الحامل آلة للمحمول فكان كالراكب بخلاف حمله بعرفة لأن المقصود الكون فيها وهو حاصل لهما وله أحوال منها أن ينويا جميعا عن المحمول أو ينوي هو دون الحامل فيجزئ عن المحمول لا الحامل بغير خلاف ومنها أن ينويا جميعا عن الحامل أو ينوي هو فقط فيصح له وحده ومنها أن ينوي كل واحد عن نفسه فيصح المحمول دون حامله جعلا له كالآلة وحسن المؤلف صحته لهما لأن كلا منهما طائف بنية صحيحة كالعمل بعرفات وذكر ابن الزاغوني ذلك احتمالا. وفي "الفروع" قولا وقال أبو حفص: لا يجزئ عن واحد منهما لأنه لا أولوية والفعل الواحد لا يقع عن اثنين ومنها لم ينو واحد منهما أو نوى كل واحد منهما أو نوى كل واحد صاحبه فلا يصح لواحد منهما
مسألة: إذا سعى راكبا أو محمولا أجزأه جزم به في "المغني" و"الشرح"، لأن المعنى الذي منع الطواف غير موجود وقال أحمد في رواية لا بأس به على الدواب لضرورة وظاهر كلام أحمد واختاره الخرقي وصاحب "التلخيص": حكمه كالطواف.
"وإن طاف منكسا" يجوز فيه كسر الكاف وفتحها فعليه يكون صفة لمصدر محذوف أي طاف طوافا منكسا وعلى الأول يكون حالا من فاعل "طاف" والمراد به جعل البيت على يمينه، "أو على جدار الحجر" وهو مكان معروف وإلى جانب البيت وهو بكسر الحاء وسكون الجيم لا غير "أو شاذروان الكعبة" هو القدر الخارج عن عرض الجدار مرتفعا عن الأرض قدر ثلثي ذراع "أو ترك شيئا من الطواف وإن قل أو لم ينوه لم يجزئه" أما أولا فلأن فعله عليه السلام وقع بيانا لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29]، الحج ومثله يتعين ولقوله: "خذوا عني مناسككم" ، ولأنه عبادة تتعلق بالبيت فكان واجبا كالصلاة(3/148)
وإن طاف محدثا أو نجسا أو عريانا لم يجزئه وعنه يجزئه ويجبره بدم.
ـــــــ
وأما ثانيا فلأن ذلك من البيت لقول عائشة إني نذرت أن أصلي في البيت؟ قال: "صل في الحجر، فإن الحجر من البيت" رواه الترمذي وصححه فإذا لم يطف به لم يطف بكل البيت والحال أن الطواف بجميعه واجب لنص القرآن وطاف عليه السلام بجميعه وقال: "خذوا عني مناسككم". وقال الشيخ تقي الدين الشاذروان ليس هو منه وإنما جعل عمادا للبيت.
وأما ثالثا فلأنه لم يأت بالعدد المعتبر المستفاد من فعله عليه السلام.
وأما رابعا فلقوله: "إنما الأعمال بالنيات" ولا عمل إلا بنية والطواف بالبيت صلاة ولأنه عبادة محضة تتعلق بالبيت فاشترط له النية كالصلاة ونوه كلامه أنه إذا طاف في المسجد من وراء حائل أنه يصح وصرح بعضهم بخلافه وإن طاف على سطحه توجه الإجزاء لصلاته إليها وكذا إن قصد في طوافه غريما وقصد معه طوافا بنية حقيقية لا حكمية. قال في "الفروع": ويتوجه احتمال كعاطس قصد بحمده قراءة وفي الإجزاء عن فرض القراءة وجهان.
"وإن طاف محدثا أو نجسا أو عريانا، لم يجزئه" في ظاهر المذهب لما تقدم ولقوله عليه السلام لأبي بكر حين بعثه في الحجة التي أمره فيها: "ولا يطوف بالبيت عريان" ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فكانت الطهارة والسترة شرطا فيها كالصلاة بخلاف الوقوف قال القاضي وغيره الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة النطق.
"وعنه: يجزئه" لأن الطواف عبادة لا يشترط فيها الاستقبال فلم يشترط فيها ذلك كالسعي. "ويجبره بدم"، لأنه إذا لم يكن شرطا فهو واجب وتركه يوجبه وظاهره سواء أمكنه الطواف بعد طوافه على الصفة المتقدمة أم لا وعنه إن لم يكن بمكة وعنه يصح من ناس ومعذور فقط وعنه يجبره دم وظاهره صحته من حائض بدم وهو ظاهر كلام جماعة واختاره الشيخ تقي الدين وأنه لا دم(3/149)
وإن أحدث في بعض طوافه أو قطعه بفصل طويل ابتدأه وإن كان يسيرا أو أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة صلى وبنى ويتخرج أن الموالاة سنة.
ـــــــ
لعذر ويلزم الناس في الأصح انتظارها لأجله إن أمكن
فرع: إذا طاف فيما لا يجوز لبسه صح وفدى ذكره الآجري.
"وإن أحدث في بعض طوافه أو قطعه بفصل طويل ابتدأ" أما أولا فلأن الطهارة شرط فأبطله الحدث كالصلاة وهذا ظاهر في العمد فإن سبقه الحدث تطهر وابتدأ في رواية وجزم بها المؤلف وغيره وفيه روايات الصلاة ذكره ابن عقيل ومحله كما صرح به الخرقي وصاحب "الشرح" في طواف الفرض فأما النفل فلا تجب إعادته كالصلاة وأما ثانيا فلأنه عليه السلام والى بين طوافه وقال: "خذوا عني مناسككم" ، فعلم أن الموالاة شرط فيه فمتى قطعه بفصل طويل ابتدأه سواء كان عمدا أو سهوا مثل أن يترك شوطا منه يظن أنه قد أتم والمرجع في طول الفصل وقصره إلى العرف كالحرز والقبض.
"وإن كان يسيرا" بنى، لأنه يتسامح بمثله لما في الاتصال من المشقة فعفي عنه "أو أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة صلى" في قول أكثر العلماء لعموم قوله: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" والطواف صلاة، وروي عن ابن عمر وسالم وعطاء ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم ولأن الجنازة صلاة تفوت بالتشاغل بالطواف وهي أولى من قطعه لها بالمكتوبة لعدم فواتها به "وبنى" قال ابن المنذر لا نعلم أحدا خالف فيه إلا الحسن فإنه قال يستأنف والأول أصح لأن هذا فعل مشروع فلم يقطعه كاليسير فعلى هذا يكون ابتداؤه من الحجر قاله أحمد.
"ويتخرج أن الموالاة سنة" لأن الحسن غشي عليه فلما أفاق أتمه وعن أحمد ليس بشرط مع العذر وهو ظاهر.
تنبيه: إذا شك في عدده بنى على اليقين نص عليه وذكر أبو بكر يعمل(3/150)
ثم يصلي ركعتين والأفضل أن يكون خلف المقام يقرأ فيهما: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
ـــــــ
بظنه ويأخذ بقول عدلين نص عليه وينبغي تقييده بما لم يتيقن صواب نفسه وفي "المغني" و"الشرح": يكفي ثقة فإن شك في الطهارة وهو فيه بطل لا بعد الفراغ منه.
فرع: إذا فرغ المتمتع ثم علم أنه كان على غير طهارة في أحد طوافيه وجهله لزمه الأشد وهو من الحج فيلزمه طوافه وسعيه ودم وإن كان وطئ بعد حله من عمرته لم يصحا لأنه أدخل حجا على عمرة فاسدة وتحلل بطوافه الذي نواه لحجه من عمرته الفاسدة وعليه دم للحلق ودم للوطء في عمرته.
"ثم يصلي ركعتين" بعد فراغه من الطواف لأنه عليه السلام ركعهما وفي "أسباب الهداية" أنه يأتي الملتزم قبلهما.
"والأفضل أن يكون خلف المقام"، لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]، البقرة وظاهره أنه لا يشرع تقبيل المقام ولا مسحه إجماعا فسائر المقامات أولى ونقل الفضل عنه كراهة مسه وفي "منسك ابن الزاغوني": فإذا بلغ مقام إبراهيم فليمس الصخرة بيده وليمكن منها كفه ويدعو "يقرأ فيهما" بعد الفاتحة {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين قرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وظاهره جواز فعلهما في غير ذلك الموضع ويقرأ تلك القراءة لأن عمر ركعهما بذي طوى رواه البخاري وقراءة غير الفاتحة لا يتعين في الفرض فالنفل أولى ولا شك أنهما سنة مؤكدة للنصوص وعنه وجوبهما وهي أظهر فلو صلى الفريضة بعده أجزأه عنهما كركعتي الإحرام وعنه أنه يصليهما بعد المكتوبة قال أبو بكر عبد العزيز وهو أقيس كركعتي الفجر.
تنبيه: له جمع أسابيع ثم يصلي لكل أسبوع ركعتين نص عليه لفصله بين(3/151)
ثم يعود إلى الركن فيستلمه ثم يخرج إلى الصفا من بابه ويسعى سبعا يبدأ بالصفا فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويكبر ثلاثا ويقول الحمد لله على ما هدانا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ثم يلبي.
ـــــــ
الفرض والسنة بخلاف تكبير تشريق عن فرض وسجدة تلاوة فإنه يكره لئلا يؤدي إلى إسقاطه ذكره القاضي وعنه يكره قطعه على شفع فيكره الجمع إذن ولأنه عليه السلام لم يفعله ويلزم منه الاخلال بالموالاة بينهما وفيه نظر وله تأخير السعي عن الطواف بطواف وغيره نص عليه.
"ثم يعود إلى الركن" وهو الحجر الأسود "فيستلمه" نص عليه لفعله عليه السلام ولا نعلم فيه خلافا. "ثم يخرج إلى الصفا" بالقصر، وهي في الأصل: الحجارة الصلبة والآن ثم مكان معروف عند باب المسجد "من بابه، ويسعى سبعا، يبدأ بالصفا فيرقى عليه" وليس بواجب لأنه لو تركه فلا شيء عليه "حتى يرى البيت فيستقبله ويكبر ثلاثا ويقول: الحمد لله على ما هدانا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" اقتصر عليه في "الفروع"، وليس فيه: "يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير" وزاد ويقول ذلك ثلاثا لفعله عليه السلام فإنه رقى على الصفا وقرأ: { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] "نبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا. والأحزاب هم الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهم قريش وغطفان واليهود. "لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون"، لأن ابن عمر كان يزيده على ما سبق رواه إسماعيل عن أيوب عن نافع عنه "ثم يلبي"،(3/152)
ويدعو بما أحب ثم ينزل من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم فيسعى سعيا شديدا إلى العلم ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل عليها مثل ما فعل على الصفا ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه يفعل ذلك سبعا يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية.
ـــــــ
لأنه عليه السلام لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة وظاهره أنه لا يلبي على الصفا لعدم فعله وما ذكره محمول على غير المتمتع لأنه يقطعها إذا استلم الحجر كما يأتي. "ويدعو بما أحب"، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه أتى الصفا فعلا عليه حتى نظر إلى البيت ورفع يديه فجعل يحمد الله ويدعو بما شاء أن يدعو رواه مسلم ولأنه موضع ترجى فيه الإجابة وظاهره أنه لا يرفع يديه والظاهر بلى للخبر.
"ثم ينزل من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم" وهو الميل الأخضر في ركن المسجد قال في "الشرح" وغيره: إذا كان منه نحو ستة أذرع قال في "الفروع": وهو أظهر. "فيسعى سعيا شديدا إلى العلم" وهو الميل الأخضر بفناء المسجد حذاء دار العباس وظاهره أنه لا يرمل بينهما وقاله جماعة كالمؤلف وهو أظهر وقيل بلى لوروده في الخبر.
"ثم يمشي حتى يأتي المروة" وهي في الأصل الحجارة البيض البراقة التي يقدح منها النار والآن هو المكان المعروف بطرف السعي. "فيفعل عليها مثل ما فعل على الصفا" من الاستقبال والتكبير والتهليل والدعاء.
"ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه يفعل ذلك سبعا يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية" لفعله عليه السلام كذلك رواه مسلم من حديث جابر ويكثر الدعاء والذكر من ذلك قال أحمد كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وقد روى الترمذي وصححه مرفوعا: "إنما جعل السعي بينهما لإقامة ذكر الله تعالى". ويجب استيعاب ما بينهما فيلصق عقبه بأصلهما فلو ترك بينهما شيئا ولو ذراعا لم يجزئه حتى يأتي به. والأولى أن(3/153)
يفتتح بالصفا ويختم بالمروة فإن بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط ويستحب أن يسعى طاهرا مستترا متواليا وعنه أن ذلك من شرائطه والمرأة لا ترقاه ولا ترمل وإذا فرغ من السعي فإن كان معتمرا قصر من شعره وتحلل.
ـــــــ
يرقى كما مر.
"يفتتح بالصفا"، لقوله: "نبدأ بما بدأ الله به" وعن ابن عباس أنه قرأ الآية وقال نبدأ بالصفا اتبعوا القرآن فما بدأ به القرآن فابدؤوا به "ويختم بالمروة"، لقول جابر: فلما كان آخر طوافه قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة" . ولأنه يلزم من البداءة به الختم بها.
"فإن بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط"، لمخالفة فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فعلى هذا إذا صار إلى الصفا اعتد بما يأتي بعده.
"ويستحب أن يسعى طاهرا" من الحدث والنجاسة كبقية المناسك في قول الأكثر ولأنه عبادة لا تتعلق بالبيت كالوقوف بعرفة "مستترا"، لأنه إذا لم يشترط الطهارة مع آكديتها فغيرها أولى "متواليا" في ظاهر كلام أحمد وهو الأصح لأنه لا تعلق له بالبيت فلم يشترط له الموالاة كالرمي والحلق. "وعنه: أن ذلك من شرائطه"، وقاله القاضي في الموالاة لأن السعي أحد الطوافين فاشترط فيه ذلك كالطواف بالبيت قال في "الشرح": ولا عمل عليه.
تنبيه: ظاهره أن السعي بعد الطواف فلو عكس لم يجزئه نص عليه وعنه بلى سهوا وجهلا وعنه مطلقا وعنه مع دم وفي شرط النية قاله في المذهب "والمحرر" وزاد وأن لا يقدمه على أشهر الحج وظاهر كلام الأكثر خلافهما وصرح به أبو الخطاب في الأخيرة أنه لا يعرف منعه عن أحمد.
"والمرأة لا ترقاه" لئلا تزاحم الرجال ولأنه أستر لها "ولا ترمل" حكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه لأنه يقصد لها الستر وفيما ذكر انكشاف لها وكذا لا تسعى سعيا شديدا بين العلمين ولا يسن فيه اضطباع نص عليه.
"وإذا فرغ من السعي فإن كان معتمرا قصر من شعره وتحلل"، لأنه عليه(3/154)
إلا أن يكون المتمتع قد ساق هديا فلا يحل حتى يحج ومن كان متمتعا قطع التلبية إذا دخل البيت
ـــــــ
السلام اعتمر ثلاث عمر سوى عمرته التي مع حجه وكان يحل إذا سعى وظاهره أن التقصير له أفضل من الحلق نص عليه للأمر به في حديث جابر وليتوفر الحلق للحج. وفي "المستوعب" و"الترغيب": حلقه. وفي كلامه إشعار بالمبادرة إلى ذلك ولاشك في استحبابه فلو أحرم بالحج قبل التقصير وقلنا هو نسك صار قارنا فإن تركهما فعليه دم إن قلنا هما نسك. فإن وطئ قبله فعليه دم وعمرته صحيحة.
"إلا أن يكون المتمتع قد ساق هديا فلا يحل حتى يحج" بل يقيم على إحرامه ويدخل عليها الحج بعد طوافه وسعيه لها ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا يوم النحر نص عليه لحديث ابن عمر وعائشة متفق عليهما وعنه من لبد رأسه أو صفره جزم به في "الكافي" هو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة وقيل يحل كمن لم يهد وهو ظاهر ما نقله يوسف بن موسى وعنه إن قدم في العشر لم ينحر الهدي حتى ينحره يوم النحر وإن قدم قبل العشر نحر الهدي فدل على أن المتمتع إذا قدم قبل العشر حل وإن كان معه هدي وإن كان فيه لم يحل واستثناء المتمتع دليل عمومه.
"ومن كان متمتعا قطع التلبية إذا دخل البيت" والمراد: إذا استلم الحجر الأسود نص عليه لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحج رواه الترمذي وصححه أي شرع في الطواف ولأن التلبية إجابة إلى العبادة وشعار الإقامة عليها والأخذ في التحلل ينافيها وهو يحصل بالطواف والسعي فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل فيقطعها كما يقطع الحاج التلبية إذا شرع في رمي جمرة بالعقبة لحصول التحلل به. وظاهره اختصاص القطع بالمتمتع كـ"الخرقي" و"الوجيز" وليس كذلك لأن الحكم يستوي فيه المتمتع وغيره من المعتمرين.(3/155)
باب صفة الحج
يستحب للمتمتع الذي حل وغيره من المحلين بمكة الإحرام بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة من مكة
ـــــــ
باب صفة الحج
أصله حديث جابر رواه مسلم. "يستحب للمتمتع الذي حل" من عمرته "وغيره من المحلين بمكة" سواء كان مقيما بها من أهلها أو من غيرهم "الإحرام بالحج يوم التروية" نص عليه لحديث جابر قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح حتى إذا كان يوم التروية جعلنا مكة بظهر وأهللنا بالحج . رواه مسلم.
وعنه: المكي يهل إذا رأى الهلال لقول عمر لأهل مكة إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج فعلى الأول لو جاوز يوم التروية بغير إحرام لزمه دم الإساءة مع دم التمتع على الأصح قاله في "الترغيب".
وفي "الرعاية": يحرم يوم تروية أو عرفة فإن غيره فدم. ولا يطوف بعده قبل خروجه نقله الأثرم واختاره الأكثر.
ونقل ابن منصور وغيره لا يخرج حتى يودعه وطوافه بعد رجوعه من منى للحج جزم به في "الواضح" و"الكافي". فعلى الأول: لو أتى به وسعى بعده لم يجزئه.
"وهو الثامن من ذي الحجة" سمي به لأن الناس كانوا يتروون فيه الماء لما بعده وقيل لأن إبراهيم أصبح يتروى في أمر الرؤيا وقيل غير ذلك.
"من مكة" لقوله عليه السلام: "حتى أهل مكة يهلون منها"، وكان عطاء يستلم الركن ثم ينطلق مهلا بالحج والأفضل فيه أن يكون من المسجد. وفي "المبهج" و"الإيضاح": من تحت الميزاب. ويستحب له أن يفعل في إحرامه ما(3/156)
ومن حيث أحرم جاز ثم يخرج إلى منى فيصلي بها الظهر ويبيت بها فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة وأقام بنمرة حتى تزول الشمس ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة ثم ينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين.
ـــــــ
يفعله في إحرامه من الميقات من غسل وغيره ويطوف سبعا ويصلي ركعتين. "ومن حيث أحرم من الحرم، جاز" لحديث جابر لأن الأبطح خارج من البلد داخل في الحرم ولأن المقصود حاصل به كجمعه في نسكه بين الحل والحرم. "ثم يخرج إلى منى" قبل الزوال "فيصلي بها الظهر" مع الإمام إن أمكنه وبقية الصلوات إلى الفجر نص عليه "ويبيت بها" لقول جابر فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأحلوا بالحج فركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر وظاهره أن المبيت بها ليس بواجب لأنه عطفه على المستحبات فلو صادف يوم التروية يوم الجمعة وجب عليه فعلها كمن يجب عليه. "وأقام حتى زالت الشمس" وإلا لم تجب "فإذا طلعت الشمس سار إلى عرفة" هي اسم لموضع الوقوف "وأقام بنمرة" هي موضع بعرفة وظاهر "المحرر" وغيره: أنها ليست منه قال الأزرقي هو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت عن مأزمي عرفة. "حتى تزول الشمس" لحديث جابر وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا أتى على عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له. "ثم يخطب الإمام خطبة" لقول جابر ثم أتى بطن الوادي فخطب الناس. "يفتتحها بالتكبير" قاله في "المستوعب" و"الترغيب" وغيرهما ويسن تقصيرها "يعلمهم فيها الوقوف ووقته والدفع منه والمبيت بمزدلفة" يتذكر العالم ويتعلم الجاهل وظاهره أنه لا يخطب في اليوم السابع بعد صلاة الظهر بمكة واختار الآجري بلى يعلمهم ما يفعلونه يوم التروية.
"ثم ينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين"، لقول جابر ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر لم يصل بينهما(3/157)
ثم يروح إلى الموقف وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة وهو من الجبل المشرف على عرنة من الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة راكبا
ـــــــ
شيئا وقال أبو ثور يؤذن إذا صعد الإمام المنبر فإذا فرغ قام فخطب وقيل يؤذن في آخر خطبة الإمام قال في "الشرح": وكيفما فعل فحسن فإن لم يؤذن فلا بأس قاله أحمد والخرقي لأن كلا منهما روي عنه عليه السلام.
وظاهره يشمل كل واقف بعرفة من مكي وغيره لأنه عليه السلام جمع بينهما وكذلك كل من صلى معه ولم يأمرهم بترك الجمع كما أمرهم بترك القصر فقال: "أتموا فإنا سفر" ولو حرم لبينه لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وبأن عثمان كان يتم الصلاة لأنه اتخذ بمكة أهلا ولم يترك الجمع ولم يبلغنا عن أحد من المتقدمين خلافه وشرط القاضي وأصحابه أنه يختص بمن يجوز له الجمع لأن سببه السفر الطويل فلا يجوز إلا حيث وجد سببه لأن الجمع كالقصر والقصر مختص بمن ذكرنا فكذا الجمع وقال القاسم وسالم يجوز لهم القصر كالجمع وعلى الأول يسن أن يعجل فإن فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله نص عليه
"ثم يروح إلى الموقف" لقول جابر ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف
"وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة"، لقوله عليه السلام: "كل عرفة موقف وارفعوا عن بطن عرنة" رواه ابن ماجه ولأنه لم يقف بعرفة فلم تجزئه كما لو وقف بمزدلفة وحكاه ابن المنذر إجماع الفقهاء.
"وهو" أي: حد عرفة "من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة لها إلى ما يلي حوائط بني عامر" لقوله عليه السلام: "كونوا على مشاعركم فإنكم اليوم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم".
"ويستحب أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة" واسمه "إلال" على وزن "هلال" "راكبا" مستقبل القبلة لقول جابر إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة ولأن الركوب أعون له(3/158)
وقيل: الراجل أفضل ويكثر من الدعاء ومن قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت وهو على كل شيء قدير
ـــــــ
على الدعاء. ولا يشرع صعوده إجماعا قاله الشيخ تقي الدين وقيل: الراجل أفضل اختاره ابن عقيل و أبو يعلى الصغير وهو ظاهر كلام ابن الجوزي روى ابن ماجه عن ابن عباس أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يدخلون الحرم مشاة ويطوفون بالبيت ويقضون المناسك مشاة وروي أن آدم حج أربعين مرة من الهند على رجليه ذكره ابن الجوزي وعن ابن عباس مرفوعا: "من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم" قيل له: وما حسنات الحرم قال: "بكل حسنة مائة ألف حسنة". ولأنه أخف على الراحلة وكسائر المناسك والعبادات وركوبه عليه السلام ليعلمهم المناسك ويروه فإنها عبادة وقيل سواء وقال الغزالي والشيخ ابن تيمية يختلف ذلك بحسب الناس
"ويكثر من الدعاء رافعا يديه" نص عليه لأنه يوم ترجى فيه الإجابة "و" يكثر "من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير" لما روى علي مرفوعا: "أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية عرفة: لا إله إلا الله" وذكره إلا قوله: "بيده الخير"
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير" رواه الترمذي. وسئل سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير قيل له هذا ثناء وليس بدعاء فقال أما سمعت قول الشاعر:
أأذكر حاجتي قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء(3/159)
اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا ويسر لي أمري ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر فمن حصل بعرفة في شيء من هذا الوقت ولو لحظة وهو مسلم بالغ عاقل فقد تم حجه.
ـــــــ
" اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا ويسر لي أمري" روي ذلك عنه عليه السلام وفي "المحرر" كـ"المقنع" وفي "الفروع" الاقتصار على حديث عمرو بن شعيب وفي "الوجيز": يدعو بما ورد.
فمنه ما روي عنه عليه السلام أنه دعا فقال: "اللهم إنك ترى مكاني وتسمع كلامي وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفي عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير من خشعت لك رقبته وذل لك جسده وفاضت لك عينه ورغم لك أنفه".
"ووقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر"، لما روى عروة بن مضرس الطائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الخمسة وصححه الترمذي ولفظه له ورواه الحاكم وقال هذا حديث صحيح على شرط كافة أئمة الحديث ولأن ما قبل الزوال من يوم عرفة فكان وقتا للوقوف كما بعد الزوال وترك الوقوف فيه لا يمنع كونه وقتا كما بعد العشاء وإنما ذلك وقت الفضيلة وقال ابن بطة وأبو حفص العكبري وهو رواية أوله من الزوال يوم عرفة وحكاه ابن المنذر والقرطبي إجماعا وفيه نظر.
"فمن حصل بعرفة في شيء من هذا الوقت ولو لحظة وهو مسلم بالغ عاقل فقد تم حجه" سواء كان جالسا أو قائما راكبا أو راجلا ولو نائما صححه صاحب "التلخيص" وجزم به المؤلف أو مارا مجتازا ولم يعلم أنها عرفة في الأصح فلا يصح من سكران ومغمى عليه في المنصوص بخلاف إحرام وطواف ويتوجه(3/160)
ومن فاته ذلك فاته الحج ومن وقف بها نهارا ودفع قبل غروب الشمس فعليه دم وإن وافاها ليلا فوقف بها فلا دم عليه ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة.
ـــــــ
في سعي مثله ولا مجنون بخلاف رمي جمار ومبيت
"ومن فاته ذلك فاته الحج" بغير خلاف نعلمه وسنده قوله عليه السلام الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه رواه أبو داود ولأنه ركن للعبادة فلم يتم بدونه كسائر العبادات.
فرع: إذا كان بينه وبين الموقف مقدار صلاة صلاها صلاة خائف في الأظهر اختاره الشيخ تقي الدين وقيل يقدم الصلاة وقيل عكسه.
"ومن وقف بها" أي بعرفة نهارا "ووقع قبل غروب الشمس فعليه دم" أي: يجب عليه الوقوف بها إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بها حتى غربت الشمس رواه مسلم من حديث جابر وقال: "خذوا عني مناسككم" وظاهره صحة حجه في قول الجماهير إلا مالك فإنه قال لا حج له قال ابن عبد البر لا نعلم أحدا من العلماء قال بقوله وممن أوجب الدم أكثر العلماء لقول ابن عباس من ترك نسكا فعليه دم ويجزئه شاة ومحله إذا لم يعد قبل الغروب إليها وفي "الإيضاح": قبل الفجر. وقيل إن عاد مطلقا. وفي "الواضح": ولا عذر وعنه لا يلزمه دم لواقف ليلا وعنه يلزم من دفع قبل الإمام لفعل الصحابة.
"وإن وافاها ليلا فوقف بها فلا دم عليه وحجه تام" بغير خلاف نعلمه لقوله عليه السلام: "من أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحج"، ولأنه لم يدرك جزءا من النهار فلم يلزمه شيء كمن منزله دون الميقات وأحرم منه.
"ثم يدفع بعد غروب الشمس إلى مزدلفة" سميت به من الزلف وهو التقرب لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي تقربوا ومضوا إليها وتسمى جمعا لاجتماع الناس بها.(3/161)
وعليه السكينة فإذا وجد فجوة أسرع فإذا وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال فإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة وأجزأه ومن فاتته الصلاة مع الإمام بمزدلفة أو بعرفة جمع وحده.
ـــــــ
"وعليه السكينة" قال أبو حكيم مستغفرا وقال الخرقي يكون في طريقه ملبيا ويذكر الله تعالى لقوله عليه السلام في حديث جابر وقد شنق للقصواء بالزمام ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة"، وفيه أردف الفضل ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة
"فإذا وجد فجوة أسرع"، لقول أسامة ك ان النبي صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص أي أسرع قال هشام النص فوق العنق متفق عليه.
"فإذا وصل إلى مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال" قال ابن المنذر لا اختلاف بين العلماء أن السنة أن يجمع بينهما لفعله عليه السلام رواه جابر وابن عمر وأسامة وظاهره أنه بغير أذان وإنما هو بإقامتين فقط فإن اقتصر على إقامة للأولى فلا بأس لحديث ابن عمر أنه عليه السلام جمع بينهما بإقامة واحدة رواه مسلم.
وإن أذن للأولى وأقام للثانية فحسن قاله في "المغني" و"الشرح" فإنه مروي عن جابر وهو متضمن لزيادة وكسائر الفوائت والمجموعات قال في "الشرح": واختار الخرقي الأول وفيه شيء قال ابن المنذر وهو آخر قولي أحمد لأن أسامة أعلم بحاله لأنه كان رديفه وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها بخلاف المجموعتين بعرفة والسنة أن لا يتطوع بينهما بغير خلاف.
"فإن صلى المغرب في الطريق ترك السنة" المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم "وأجزأه" لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز التفريق كالظهر والعصر بعرفة. "ومن فاتته الصلاة مع الإمام بمزدلفة أو بعرفة جمع وحده" لفعل ابن عمر وهو في الأولى إجماع لأن الثانية منهما تصلى في وقتها ولأن كل جمع جاز مع الإمام جاز منفردا كالجمع في السفر.(3/162)
ثم يبيت بها فإن دفع قبل نصف الليل فعليه دم وإن دفع بعده فلا شيء عليه فإن وافاه بعد نصف الليل فلا شيء عليه وإن جاء بعد الفجر فعليه دم وحد المزدلفة ما بين المأزمين ووادي محسر فإذا أصبح صلى الصبح بغلس.
ـــــــ
"ثم يبيت بها" وهو واجب لأنه عليه السلام بات بها وقال: "خذوا عني مناسككم" وسماها موقفا. "فإن دفع قبل نصف الليل فعليه دم" لأن مبيت كل الليل أو أكثره بها واجب ولم يوجد واحد منهما فيكون تاركا للواجب فيجب الدم إذا لم يعد ليلا نص عليه
وعنه: لا يجب كرعاة وسقاة قاله في "المستوعب" وغيره وعلى المذهب لا فرق بين العامد والساهي والعالم والجاهل لتركه النسك
"وإن دفع بعده فلا شيء عليه" لقول عائشة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فأفاضت رواه أبو داود ولأنه بات معظم الليل والمعظم كالكل فلم يكن تاركا للواجب.
"وإن وافاها بعد نصف الليل فلا شيء عليه" لأنه لم يدرك جزءا من النصف الأول فلم يتعلق به حكم كمن أدرك عرفات ليلا. "وإن جاء بعد الفجر" أي: طلوعه "فعليه دم" لتركه الواجب وهو المبيت بها ولا بأس بتقديم الضعفة والنساء لقول ابن عباس كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى متفق عليه لما فيه من الرفق بهم ودفع المشقة عنهم.
"وحد المزدلفة: ما بين المأزمين" أي: مأزمي عرفة وهما جبلان "ووادي محسر" وما على يمين ذلك وشماله من الشعاب ونبه المؤلف على ذلك ليعلمك أن أي موضع وقف منها أجزأه لأنه عليه السلام وقف بجمع وقال: "ارفعوا عن بطن محسر".
"فإذا أصبح صلى الصبح" بأذان وإقامة "بغلس" لقول جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بها حين تبين له الصبح بأذان وإقامة وليتتبع وقت الوقوف عند(3/163)
ثم يأتي المشعر الحرام فيرقى عليه أو يقف عنده و يحمد الله ويكبر ويدعو فيقول اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك: { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. إلى أن يسفر ثم يدفع قبيل طلوع الشمس فإذا بلغ محسرا أسرع قدر رمية حجر.
ـــــــ
المشعر الحرام.
"ثم يأتي المشعر الحرام" سمي به لأنه من علامات الحج، "فيرقى عليه" إن أمكنه "أو يقف عنده ويحمد الله ويكبره"، لقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} الآية [البقرة: 198]، وفي حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام فرقى عليه فحمد الله وهلله وكبره. "ويدعو فيقول: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق : {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198 : 199] ويكرر ذلك "إلى أن يسفر" لحديث جابر : فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا "ثم يدفع" من مزدلفة "قبيل طلوع الشمس" ولا خلاف في استحبابه لفعله عليه السلام وقال عمر كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفهم فأفاض قبل طلوع الشمس رواه البخاري.
"فإذا بلغ محسرا" وهو واد بين مزدلفة ومنى وسمي به لأنه يحسر سالكه "أسرع" إن كان راجلا أو حرك مركوبه إن كان راكبا لقول جابر فلما أتى بطن محسر حرك قليلا قال الشافعي في "الإملاء": لعله فعل ذلك لسعة الموضع وقيل لأنه مأوى الشياطين "قدر رمية حجر". قال الأصحاب وعليه السكينة(3/164)
ثم يأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة ومن حيث أخذه جاز ويكون أكبر من الحمص ودون البندق وعدده سبعون حصاة فإذا وصل إلى منى وحدها من وادي محسر إلى العقبة بدأ بجمرة العقبة فرماها بسبع حصيات واحدة بعد واحدة يكبر مع كل حصاة
ـــــــ
والوقار ويلبي مع ذلك
"ويأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة" لئلا يشتغل عند قدومه إلى منى بغير الرمي فإنه تحية منى كما أن الطواف تحية البيت وكان ابن عمر يأخذه من جمع وفعله سعيد بن جبير ولأنه إذا أخذه من غير منى كان ابعد من أن يكون قد رمي به. "ومن حيث أخذه جاز" قاله أحمد، ولا خلاف في الإجزاء لقوله عليه السلام لابن عباس غداة العقبة وهو على ناقته: "القط لي حصا" فلقطت له سبع حصيات من حصا الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: "مثل هذا فارموا" رواه ابن ماجه ويكره من الحرم وتكسيره وكذا من الحش قاله في "الفصول".
"ويكون أكبر من الحمص ودون البندق" كحصى الخذف لقول جابر كل حصاة منها مثل حصى الخذف.
"وعدده سبعون حصاة" لأنه يرمي جمرة العقبة يوم النحر بسبع وباقيها في أيام منى كل يوم بإحدى وعشرين كل جمرة بسبع فيكون المجموع ما ذكره. "فإذا وصل إلى منى" سميت به لأنه قدر فيها موت الهدايا والضحايا "وحدها من وادي محسر إلى العقبة" فدل على أنهما ليسا من منى لأن الحد غير المحدود.
ويستحب سلوك الطريق الوسطى التي يخرج على الجمرة الكبرى لفعله عليه السلام "بدأ بجمرة العقبة" هي آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة وهي عند العقبة وبها سميت فصار علما بالغلبة لأنه عليه السلام بدأ بها ولأنها تحية فلم يتقدمها شيء كالطواف بالبيت "فرماها بسبع حصيات" راكبا إن كان والأكثر ماشيا نص عليه "واحدة بعد واحدة يكبر مع كل حصاة" لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة(3/165)
ويرفع يده حتى يرى بياض إبطه ولا يقف عندها ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي
ـــــــ
رواه مسلم ونقل حرب يرمي ثم يكبر ويقول اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا لأن ابن مسعود وابن عمر كانا يقولان ذلك وظاهره أنه إذا وضعها من غير رمي لا يجزئه لعدم الرمي بل لو طرحها أجزأت.
وظاهر "الفصول": لا لأنه لم يرم فلو رماها دفعة واحدة لم تجزئه عنهما ويؤدب نقله الأثرم فيجزئه عن واحدة ويكمل السبع وظاهره أنه لا يستحب غسلها واستحبه الخرقي في رواية لأنه يروي عن ابن عمر وفي حجر كبير وجهان.
ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة ويرمي على حاجبه الأيمن لفعل عبد الله قال الترمذي حديث صحيح وله الرمي من فوقها لفعل عمر والأول أفضل.
"ويرفع يده" قال جماعة: يمناه "حتى يرى بياض إبطه" لأنه أعون على الرمي وأمكن ويشترط علم حصولها في المرمى فلو رماها فوقعت في غير المرمى فتدحرجت حصاة بسببها فوقعت فيه أو التقطها طائر بعد رميها قبل وصولها لم يجزئه فلو وقعت في مكان صلب ثم تدحرجت إليه أو وقعت على ثوب إنسان فنفضها من وقعت عليه أجزأه نص عليه وقال ابن عقيل لا يجزئه قال في "الفروع": وهو أظهر لأن فعل الأول انقطع فلو رماها وشك في وقوعها فيه لم يسقط وعنه بلى ذكره ابن البنا وقيل يكفي الظن بوقوعها فيه
فرع: إذا عجز عن الرمي جاز أن يستنيب فيه فإذا رمى ثم ترك لم يلزمه إعادته لأن الواجب سقط عنه.
"ولا" يسن "أن يقف عندها" لما روى ابن عمر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يقف رواه ابن ماجه وروى البخاري معناه في حديث ابن عمر ولضيق المكان.
"ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي" في قول الجمهور لما روى الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة أخرجاه في الصحيحين ولأنه كان(3/166)
فإن رمى بذهب أو فضة أو غير الحصى أو حجر رمي به مرة لم يجزئه ويرمي بعد طلوع الشمس فإن رمى بعد نصف الليل أجزأه.
ـــــــ
رديفه فهو أعلم بحاله وفي لفظ قطع عند أول حصاة رواه حنبل في "المناسك" ولأنه يتحلل به فشرع قطعها في ابتدائه كالمعتمر يقطعها بالشروع في الطواف.
"فلو رمى بذهب أو فضة لم يجزئه" لأنه عليه السلام لم يرم إلا بالحصى وهو تعبدي وعنه بلى فإن رمى بخاتم فصه حصاة فوجهان.
"أو غير الحصى" الظاهر أنه أراد به نحو الكحل والرخام وصرح به أبو الخطاب لأن شرطه الحجرية وهذا ليس منه ويلحق به الجواهر المنطبعة والزبردج والزبرجد والياقوت على المشهور وعنه تجزئ مع الكراهة وعنه تجزئ مع الجهل لا القصد لكن الرخام والكدان صرح في "المغني" و"الشرح" بالإجزاء فيه فدل أنه ملحق بالأحجار وعلى الأول لا ويحتمل أنه أراد الحجر الكبير وفيه روايتان والمذهب أنه لا يجزئ ونقل الزركشي: أنه يجزئه على المشهور لوجود الحجرية وكذا القولان في الصغير قاله في "المغني".
"أو حجر رمي به مرة لم يجزئه" في المنصوص لأنه استعمل في عبادة فلم يستعمل ثانيا كماء الوضوء ولأخذه عليه السلام إياه من غير المرمي ولأنه لو جاز لما احتيج إلى أخذه من غير مكانه.
"ويرمي بعد طلوع الشمس" هذا هو الأفضل وحكاه ابن عبد البر إجماعا لقول جابر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة ضحى يوم النحر رواه مسلم وذكر جماعة يسن بعد الزوال.
"فإن رمى بعد نصف الليل" أي: ليلة الأضحى "أجزأه" لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة ليلة النحر فرمت جمرة العقبة قبل الفجر ثم مضت وأفاضت رواه أبو داود.
وعنه يجزئ بعد الفجر قبل طلوع الشمس وقال ابن عقيل نصه للرعاء خاصة الرمي ليلا نقله ابن منصور والأول أولى لأنه وقت للدفع من مزدلفة فكان وقتا(3/167)
ثم ينحر هديا إن كان معه.
ويحلق أو يقصر من جميع شعره وعنه يجزئه بعضه كالمسح.
ـــــــ
للرمي كبعد طلوع الشمس والأخبار محمولة على الاستحباب فإن أخره إلى آخر النهار جاز فإن غربت قبله فمن غد بعد الزوال.
"ثم ينحر هديا" واجبا كان أو تطوعا "إن كان معه" لحديث جابر أنه عليه السلام رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر أي بقى وأشركه في هديه فإن لم يكن معه هدي وعليه هدي واجب اشتراه ونحره وإلا فإن أحب الأضحية اشترى ما يضحي به.
قوله: "ثم ينحر" هو مختص بالإبل وأما غيره فيذبح وكأنه أشار أن الأولى في الهدي أن يكون من الإبل اقتداء به عليه السلام ولا إشكال في مسنونيته وسوقه ووقوفه بعرفة ليجمع فيه بين الحل والحرم وسيأتي.
"ويحلق" بعد النحر فالواو بمعنى "ثم" لأنه عليه السلام رمى جمرة العقبة يوم النحر ثم عاد إلى منى فدعا بذبح فذبح ثم دعا بالحلاق فأخذ شقه الأيمن فحلقه فجعل يقسمه بين من يليه ثم حلق شق رأسه الأيسر رواه أبو داود فمن ثم تستحب البداءة بأيمنه ويستحب أن يبلغ العظم الذي عند منقطع الصدغ من الوجه ويستقبل القبلة وذكر جماعة ويدعو وفي "المغني" و"الشرح": يكبر وقت الحلق لأنه نسك قال أبو حكيم ولا يشارطه على أجرة ثم يصلي ركعتين "أو يقصر من جميع شعره" نص عليه لدعائه عليه السلام للمحلقين وللمقصرين وظاهره التخيير بينهما في قول الجمهور لأن بعضهم حلق وبعضهم قصر ولم ينكره ولكن الحلق أفضل بلا تردد لأنه أبلغ في العبادة وأدل على صدق النية ويكون التقصير من جميع الشعر لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} ولأنه بدل عن الحلق فاقتضى التعميم للأمر بالتأسي قال الشيخ تقي الدين لا من كل شعرة بعينها قال جماعة ويكون مقدار الأنملة لأنه من السنة.
"وعنه: يجزئه بعضه كالمسح" قاله ابن حامد لأنه في معناه قال في(3/168)
والمرأة تقصر من شعرها قدر الأنملة ثم قد حل له كل شيء إلا النساء.
ـــــــ
"الفروع": فيجزئ ما نزل عن رأسه لأنه من شعره بخلاف المسح لأنه ليس رأسا ذكره في "الفصول" و"الخلاف" قال: ولا يجزئ شعر الأذن على أنه إنما لم يجزئ لأنه يجب تقصير جميعه.
فائدة: ظاهر كلام المؤلف والأكثر أن من لبد أو ضفر أو عقص فكغيره ونقل ابن منصور من فعل ذلك فليحلق أي وجب عليه قال في "الخلاف" وغيره لأنه لا يمكنه التقصير من كله لاجتماعه فإن لم يكن على رأسه شعر فظاهر كلامه في رواية المروذي أنه يجب إمرار الموسى على رأسه وحمله القاضي على الندب وقدمه في "الفروع"، وهو قول الأكثر.
ويستحب أن يأخذ من أظفاره وشاربه لأنه عليه السلام قلم أظفاره بعد حلق رأسه وكان ابن عمر يأخذ من شاربه وقال ابن عقيل وغيره ولحيته فإن عدم ذلك استحب أن يمر الموسى وقاله أبو إسحاق في ختان.
"والمرأة تقصر من شعرها قدر الأنملة" لما روى ابن عباس مرفوعا: "ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير" رواه أبو داود. ولأن الحلق في حقهن مثلة فعلى هذا تقصر من كل قرن قدر الأنملة ونقل أبو داود تجمع شعرها إلى مقدم رأسها ثم تأخذ من أطرافه قدرها وفي "منسك ابن الزاغوني": يجب أنملة والأشهر يجزئ أقل منها.
ولم يتعرض المؤلف لحكم العبد وقد صرح في "الوجيز" بأن حكمه كالمرأة وأنه يقصر ولا يحلق إلا بإذن سيده لأنه تنقص قيمته.
"ثم قد حل له" بعد الرمي والنحر والحلق أو التقصير "كل شيء إلا النساء" لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رمى جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء" رواه الأثرم، ولأحمد عن ابن عباس مرفوعا معناه فعلى هذا لا يباح له ما كان حراما عليه منهن من القبلة واللمس لشهوة قال القاضي وابنه وابن الزاغوني واقتصر عليه في "المغني" و"الشرح" وعقد النكاح.(3/169)
وعنه: إلا الوطء في الفرج. والحلق والتقصير نسك إن أخره عن أيام منى فهل يلزمه دم على روايتين وعنه: أنه إطلاق من محظور
ـــــــ
وظاهر كلام جماعة حله قاله الشيخ تقي الدين وذكره عن أحمد. "وعنه:" يحل له كل شيء "إلا الوطء في الفرج" لأن تحريم المرأة ظاهر في وطئها ولأنه أغلظ المحرمات ويفسد النسك بخلاف غيره ونقل الميموني في المتمتع إذا دخل الحرم حل له بدخوله كل شيء إلا النساء والطيب قبل أن يحلق أو يقصر رواه مالك عن عمر ولأنه من دواعي الوطء أشبه القبلة.
"والحلق والتقصير نسك" من الحج والعمرة في ظاهر المذهب لقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] فوصفهم وامتن عليهم بذلك فدل أنه من العبادة مع قوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] قيل: المراد به الحلق وقيل بقايا أفعال الحج من الرمي ونحوه ولأمره عليه السلام بقوله: "فليقصر أو ليحلق" ولو لم يكن نسكا لم يتوقف الحل عليه ولأنه عليه السلام دعا للمحلقين وللمقصرين وفاضل بينهم فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء ولما وقع التفاضل فيه إذ لا مفاضلة في المباح.
فعلى هذا: يثاب على فعله ويذم بتركه "إن أخره عن أيام منى فهل يلزمه دم على روايتين": إحداهما: لا دم عليه قدمه جماعة وجزم به في "الوجيز" لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فبين أول وقته ولم يبين آخره فمتى أتى به أجزأ كالطواف والثانية عليه دم قدمه في "الفروع" لأنه ترك النسك في وقته أشبه تأخير الرمي وظاهره أن له تأخيره إلى آخر أيام النحر وصرح به في "المغني" و"الشرح" لأنه إذا جاز تأخير النحر المقدم عليه فتأخيره أولى ولكن عبارة "الشرح" أخص.
"وعنه أنه إطلاق من محظور" لقوله عليه السلام لأبي موسى حين قال أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم "طف بالبيت وبالصفا والمروة ثم حل" متفق(3/170)
لا شيء في تركه ويحصل التحلل بالرمي وحده فإن قدم الحلق على الرمي أو النحر جاهلا أو ناسيا فلا شيء عليه.
ـــــــ
عليه وفي حديث جابر معناه رواه مسلم فأمر بالحل من غير حلق ولا تقصير ولو كان نسكا لما أمر به إلا بعده فهو كاللباس والطيب "لاشيء في تركه" ويحصل التحلل بدونه وهو مخير بين فعله في أيام منى وبين تأخيره وتركه والأخذ من بعضه دون بعض لأنه ليس بواجب كغيره.
"ويحصل التحلل بالرمي وحده" يحتمل أن هذا تكملة الرواية فيكون معطوفا على قوله: "لاشيء في تركه" ويحتمل أنه مستأنف والأول أظهر واختلفت الرواية فيما يحصل به التحلل.
فالأكثر على أنه لا يحصل إلا بالرمي والحلق أو التقصير لأمره عليه السلام من لم يكن معه هدي أن يطوف ويقصر ثم يحل.
وعنه: أنه يحصل بالرمي وحده صححها في "المغني" لقوله: "إذا رميتم الجمرة حل لكم كل شيء إلا النساء".
وتحقيقه أن يقال: هل الأنساك ثلاثة أم اثنان فيه روايتان إحداهما أنه ثلاثة رمي وحلق وطواف والثانية هما نسكان رمي وطواف فعلى الأول يحصل التحلل الأول باثنين اختاره الأكثر ويحصل الثاني بفعل الثالث وعلى الثانية يحصل الأول بواحد منهما والثاني بالثاني فعليها الحلق إطلاق من محظور وفي التعليق نسك كالمبيت بمزدلفة ورمي يوم الثاني والثالث واختار المؤلف أنه نسك ويحل قبله وهو رواية.
والسنة يوم النحر أن يرمي ثم ينحر ثم يحلق ثم يطوف يرتبها كذلك رواه أبو داود من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله.
"وإن قدم الحلق على الرمي أو النحر جاهلا أو ناسيا فلا شيء عليه" في قول الأكثر لما روى ابن عمر أن رجلا قال يا رسول الله حلقت قبل أن أذبح؟ قال: "اذبح ولا حرج" وقال آخر: ذبحت قبل أن ارمي قال: "ارم ولا حرج" وعن ابن(3/171)
وإن فعله عالما فهل يلزمه دم على روايتين ثم يخطب الإمام خطبة يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي ثم يفيض إلى مكة ويطوف للزيارة
ـــــــ
عباس مرفوعا معناه متفق عليهما وإذا ثبت ذلك في الجاهل فالناسي مثله وكذا إذا زار أو نحر قبل رميه فلا دم عليه نص عليه.
"وإن فعله عالما" عامدا، "فهل يلزمه دم؟ على روايتين": أظهرهما أنه لا دم عليه روي عن عطاء وإسحاق لإطلاق ما تقدم والثانية نقلها أبو طالب وغيره يلزمه دم واختارها أبو بكر لأنه عليه السلام رتبها وأمر باتباعه ويستثنى منه حالة الجهل و النسيان بدليل قوله: "لم أشعر" فيبقى ما عداه على مقتضى الأصل.
وظاهر نقل الميموني: يلزمه صدقة قال في "الشرح": لا نعلم خلافا أن الإخلال بالترتيب لا يخرج هذه الأفعال عن الإجزاء وإنما الخلاف في وجوب الدم.
"ثم يخطب الإمام خطبة بها يوم النحر" نص عليه لقول ابن عباس خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس يوم النحر رواه البخاري قال جماعة بعد صلاة الظهر وفيه نظر لما روى رافع بن عمرو المزني قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء وعلي يعبر عنه والناس بين قائم وقاعد.
"ويفتتحها بالتكبير" قاله في "الرعاية" "يعلمهم فيها النحر والإفاضة والرمي" لقول عبد الرحمن بن معاذ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار رواه أبو داود ولأن الحاجة تدعو إليه وعنه لا يخطب يومئذ نصره القاضي وأصحابه لأنها تسن في اليوم قبله فلا يسن فيه.
"ثم يفيض إلى مكة" لقول عائشة: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأفضنا يوم النحر فحاضت صفية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم منها ما يريد الرجل من أهله فقلت يا رسول الله إنها أفاضت يوم النحر قال: "أخرجوا" متفق عليه.
"ويطوف للزيارة" هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم سمي به لأنه يأتي من منى فيزور البيت ولا يقيم بمكة بل يعود إلى منى ويسمى طواف الإفاضة لأنه يأتي به عند(3/172)
ويعينه بالنية وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر
ـــــــ
إفاضته من منى إلى مكة ويسمى طواف الصدر لأنه يصدر إليه من منى وقيل طواف الصدر هو طواف الوداع قال المنذري وهو المشهور إذ الصدر رجوع المسافر من مقصده. "ويعينه بالنية" لخبر: "الأعمال بالنيات" ولأن الطواف بالبيت صلاة وهي لا تصح إلا بنية معينة. "وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج إجماعا" قاله ابن عبد البر لقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [لحج: 29]، وقوله: "أحابستنا؟" فدل أن هذا الطواف لابد منه وأنه حابس لمن لم يأت به ووصفه بالتمام فإنه لم يبق من أركان الحج سواه فإذا أتى به حصل تمام الحج.
لا يقال: النص الوارد في عرفة لم يذكر فيه الطواف وأن الحج يتم بالوقوف بها لأنه من وقف بعرفة لم يبق حجه متعرضا للفوات والطواف ركن فيه ليس له وقت معين يفوت بفواته وليس فيه ما يمنع فرضيته.
وظاهره أن المتمتع لا يطوف للقدوم والمنصوص أن المتمتع يطوف للقدوم كعمرته بلا رمل ثم للزيارة لأن طواف القدوم كتحية المسجد عند دخوله قبل شروعه في الصلاة.
وعنه: يجوز قبل فعله الرجوع فيفعله عقب الإحرام ومنع في المغني مسنونية هذا الطواف وقال لم أعلم أن أحدا وافق أبا عبد الله على هذا الطواف بل المشروع طواف واحد للزيارة لمن دخل المسجد وأقيمت المكتوبة فإنه يكتفي بها مع أنه لم ينقل بالكلية وحديث عائشة دليل عليه فإنها قالت طافوا طوافا واحدا وهذا هو طواف الزيارة ولو كان المذكور طواف القدوم لأخلت بذكر الفرض الذي هو ركن الحج وحكم المكي إذا أحرم منها والمنفرد والقارن إذا لم يأتيا مكة قبل يوم النحر كالمتمتع
"وأول وقته: بعد نصف الليل من ليلة النحر" لأن أم سلمة رمت ثم طافت ثم(3/173)
والأفضل فعله يوم النحر فإن أخره عنه وعن أيام منى جاز ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو لم يكن سعى مع طواف القدوم وإن كان قد سعى لم يسع ثم قد حل له كل شيء.
ـــــــ
رجعت فوافت النبي صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة وبينها وبين مكة فرسخان وعنه أول وقته طلوع فجر يوم النحر وهما مبنيان على أول وقت الرمي.
"والأفضل فعله يوم النحر بعد الرمي والنحر والحلق" لقول جابر: ثم أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر إلى البيت فصلى بمكة الظهر وقد سبق حديث عائشة وابن عمر "فإن أخره" أي: طواف الزيارة "عنه" أي: يوم النحر "وعن أيام منى، جاز" لأنه يقال أمر بالطواف مطلقا فمتى أتى به صح بغير خلاف ذكره في "الشرح" وظاهره أنه لا دم عليه بتأخيره عن يوم النحر واختار في الواضح وجوبه بلا عذر ولا عن أيام منى كالسعي وصرح القاضي وغيره رواية من الحلق قال في "الفروع": ويتوجه مثله في سعي.
"ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا" لأن السعي أولا لعمرته فيشرع أن يسعى للحج "أو لم يكن سعى مع طواف القدوم" وهو المفرد والقارن فيسعى لأنه إما ركن أو واجب أو سنة ولم يأت به لأنه لا يكون إلا بعد طواف لفعله وأمره عليه السلام بمتابعته "وإن كان قد سعى" مع طواف القدوم "لم يسع" لقول جابر لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول ولأنه لا يستحب التطوع بالسعي كسائر الأنساك بغير خلاف نعلمه بخلاف الطواف فإنه صلاة.
"ثم قد حل له كل شيء" لقول عمر: لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه وتم هديه يوم النحر فأفاض بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وعن عائشة نحوه متفق عليهما وظاهره أن الحل متوقف على السعي نص عليه في رواية أبي طالب وهو ظاهر على القول بركنيته وكذا إن قيل بوجوبه واختاره القاضي في "المجرد" وصاحب "المغني"، وحكاه في "التلخيص" رواية. وإن قلنا بسنيته ففي حله قبله وجهان وفي "المغني" احتمالان: أحدهما: نعم وهو ظاهر(3/174)
ثم يأتي زمزم فيشرب منها لما أحب ويتضلع منه ويقول بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك
فصل:
ثم يرجع إلى منى ولا يبيت بمكة ليالي منى ويرمي الجمرات بها في أيام التشريق بعد الزوال
ـــــــ
كلام المجد لأنه لم يبق عليه شيء من الواجبات والثاني لا وقطع به في "التلخيص" لأنه من أفعال الحج فيأتي به في إحرامه بالحج.
"ثم يأتي زمزم فيشرب منها" لقول جابر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بنى عبد المطلب وهم يسقون فناولوه فشرب منه وفي "التبصرة": ويرش على بدنه وثوبه "لما أحب" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له" رواه ابن ماجه وقوله عليه السلام لأبي ذر: "إنها طعام طعم " أي: تشبع شاربها كالطعام. "ويتضلع منه" لقول ابن عباس لرجل تضلع منها فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم" رواه ابن ماجه. ويستحب له استقبال الكعبة لقول ابن عباس إذا شربت منها فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله. "ويقول: بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك" لأنه لائق به وهو شامل لخير الدنيا والآخرة فيرجى له حصوله وقد ورد عن ابن عباس أنه كان إذا شرب منه يقول اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء قال الحاكم صحيح الإسناد إن سلم من الجارودي.
فصل.
"ثم يرجع إلى منى" فيصلي بها الظهر يوم النحر نقله أبو طالب لقول ابن عمر: أفاض النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى متفق عليه. "ولا يبيت بمكة ليالي منى" بل يبيت بمنى ثلاث ليال "ويرمي الجمرات بها في أيام التشريق بعد الزوال" نص عليه ويسن قبل الصلاة وجوزه ابن الجوزي قبل(3/175)
كل جمرة بسبع حصيات فيبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعدهن من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويرميها بسبع حصيات ثم يتقدم قليلا فيقف يدعو الله تعالى ويطيل ثم يأتي الوسطى فيجعلها عن يمينه ويرميها بسبع ويقف عندها فيدعو ثم يرمي جمرة العقبة بسبع ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها ويستقبل القبلة في الجمرات كلها والترتيب شرط في الرمي
ـــــــ
الزوال. وفي "الواضح": بطلوع الشمس إلا ثالث يوم. "كل جمرة بسبع حصيات فيبدأ بالجمرة الأولى وهي أبعدهن من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره ويرميها بسبع حصيات ثم يتقدم قليلا" إلى مكان لا يصيبه الحصى "فيقف يدعو الله تعالى ويطيل ثم يأتي الوسطى فيجعلها عن يمينه ويرميها بسبع ويقف عندها فيدعو" وقيدهما في "المحرر" قدر سورة البقرة "ثم يرمي جمرة العقبة بسبع ويجعلها عن يمينه ويستبطن الوادي ولا يقف عندها ويستقبل القبلة في الجمرات كلها" لقول عائشة: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية فيطيل المقام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها رواه أبو داود وروى البخاري عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة ثم يتقدم فيسهل ويقوم قياما طويلا ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم ويستقبل القبلة قياما طويلا ثم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف ويقول هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله فلو ترك الوقوف عندها والدعاء بعد ترك السنة ولاشيء عليه وقال النووي يطعم شيئا وإن أراق دما كان أحب إلي وروي عن أحمد معناه.
"والترتيب شرط في الرمي" يعني: يبدأ بالجمرة الأولى ثم بالتي تليها لأنه نسك يتكرر فكان الترتيب شرطا فيه كالسعي فلو نكس فبدأ بجمرة العقبة ثم(3/176)
وفي عدد الحصى روايتان إحداهما سبع والأخرى يجزئه خمس فإن أخل بحصاة واجبة من الأولى لم يصح رمي الثانية فإن لم يعلم من أي الجمرات تركها بنى على اليقين وإن أخر الرمي كله فرماه في آخر أيام التشريق أجزأه ويرتبه بنيته وإن أخره عن أيام التشريق أو ترك المبيت بمنى من لياليها فعليه دم
ـــــــ
الثانية ثم الأولى أو بدأ بالوسطى لم يجزئه إلا الأولى وأعاد الوسطى والقصوى نص عليه.
"وفي عدد الحصى روايتان: إحداهما: سبع" وهي المذهب لفعله عليه السلام في حديث ابن عمر وابن مسعود وعائشة وفعله خرج بيانا لصفة الرمي المشروع. "والأخرى: يجزئه خمس"، إذ الأكثر يعطى حكم الكل وقد ثبت عن الصحابة التساهل في البعض وعنه ست لما روى سعد قال رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول رميت بست وبعض يقول رميت بسبع فلم يعب بعضنا على بعض رواه الأثرم وعن ابن عمر معناه.
"فإن أخل بحصاة واجبة من الأولى لم يصح رمي الثانية" لإخلاله بالترتيب المشترط فلو كانت غير واجبة لم يؤثر. "فإن لم يعلم من أي الجمرات تركها بنى على اليقين"، ليتيقن براءة ذمته كما لو شك هل صلى ثلاثا أم أربعا.
"وإن أخر الرمي كله" ومن جملته رمي يوم النحر "فرماه في آخر أيام التشريق، أجزأه" لأنه وقت الرمي فإذا أخره إلى آخر وقته لم يلزمه شيء كما لو أخر الوقوف بعرفة إلى آخر وقته لكنه ترك السنة ويكون أداء لأنه وقت واحد وقيل قضاء وحمله القاضي على الفعل لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] فلو أخر رمي يوم إلى الغد رمى رميين نص عليه "ويرتبه بنيته" ومعناه أن ينوى الأول فالأول لأن الرمي في أيام التشريق عبادات يجب الترتيب فيها مع فعلها في أيامها فوجب ترتيبها كالمجموعتين والفوات في الصلوات.
"وإن أخره عن أيام التشريق فعليه دم"، لقول ابن عباس ولأنه ترك نسكا(3/177)
وفي حصاة أو ليلة واحدة ما في حلق شعرة وليس على أهل سقاية الحاج والرعاء مبيت بمنى فإن غربت الشمس وهم بمنى لزم الرعاء المبيت
ـــــــ
واجبا كما لو أخر الإحرام عن الميقات ولا يأتي به كالبيتوتة بمنى. "أو ترك المبيت بمنى من لياليها فعليه دم" اختاره الأكثر لوجوبه ولقول ابن عباس لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته رواه ابن ماجه وعنه لا يجب اختاره أبو بكر لقول ابن عباس إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت ولأنه قد حل من حجه فلم يجب عليه المبيت بموضع معين وعنه يتصدق بشيء نقله الجماعة قاله القاضي.
"وفي حصاة أو" مبيت "ليلة ما في حلق شعرة" على الخلاف أما أولا فظاهر نقل الأثرم يتصدق بشيء قاله القاضي وعنه عمدا وعنه عليه دم قطع به في "المحرر"، وهو خلاف نقل الجماعة والأصحاب وعنه في ثنتين كثلاث في المنصوص وعنه واحدة هدر وعنه وثنتان وأما ثانيا فذكر جماعة أنه يلزمه دم وعنه كشعرة لأنها ليست نسكا بمفردها بخلاف مزدلفة قاله القاضي وعنه لا يجب شيء.
"وليس على أهل سقاية الحاج والرعاء مبيت بمنى" لما روى ابن عمر أن العباس استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته متفق عليه وروى أبو البداح بن عاصم عن أبيه قال رخص النبي صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمونه في أحدهما رواه الترمذي وقال حسن صحيح ولأنهما يشتغلون باستقاء الماء والرعي فرخص لهم في ذلك فعلى هذا لهم الرمي بليل أو نهار.
فائدة: أهل السقاية هم الذين يسقون على زمزم والرعاء بضم بضم الراء وهاء في آخره وبكسر الراء ممدودا بلا هاء وهي لغة القرآن.
"فإن غربت الشمس وهم بمنى لزم الرعاء المبيت" لأن ترك المبيت بها إنما كان للحاجة فإذا غربت زالت حاجة الرعاء لأن وقته النهار وصار كالمريض الذي(3/178)
دون أهل السقاية. ويخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق خطبة يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم. فمن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل غروب الشمس، فإن غربت وهو بها لزمه المبيت والرمي من الغد.
ـــــــ
سقط عنه حضور الجمعة لمرضه فإذا حضرها تعينت عليه دون أهل السقاية لأنهم يسقون ليلا ونهارا.
فرع: من له مال يخاف ضياعه أو موت مريض قال المؤلف: وكذا عذر خوف أو مرض كالرعاء في ترك البيتوتة للمعنى.
"ويخطب الإمام في اليوم الثاني من أيام التشريق خطبة" لما روى أبو داود عن رجلين من بني بكر قالا رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته. "يعلمهم فيها حكم التعجيل والتأخير وتوديعهم"، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ليذكر العالم ويعلم الجاهل نقل الأثرم من الناس من يقول يزور البيت كل يوم من أيام منى ومنهم من يختار الإقامة بمنى واحتج أحمد بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة.
"فمن أحب أن يتعجل في يومين" أي يعجل في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو النفر الأول "خرج قبل غروب الشمس"، لقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، والتخيير هنا لجواز الأمرين وإن كان التأخير أفضل وظاهره يشمل مريد الإقامة بمكة وغيره وهو قول أكثر العلماء وعنه لا يعجبني لمن نفر الأول أن يقيم بمكة لقول عمر وحمله في "المغني" على الاستحباب محافظة على العموم فلو عاد فلا يضر رجوعه لحصول الرخصة وليس عليه رمي اليوم الثالث قاله أحمد ويدفن بقية الحصا في الأشهر زاد بعضهم: في المرمى. وفي "منسك ابن الزاغوني": يرمي بهن كفعله في اللواتي قبله.
"فإن غربت وهو بها لزمه المبيت والرمي من الغد"، لأن الشرع جوز التعجيل في اليوم وهو اسم لتأخر النهار فإذا غربت الشمس خرج من أن يكون في اليوم فهو(3/179)
فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف إذا فرغ من جميع أموره فإن ودع ثم اشتغل في تجارة أو أقام أعاد الوداع.
ـــــــ
ممن تأخر وعن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول من غربت له الشمس في أوسط أيام التشريق وهو بمنى فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد رواه مالك ويكون الرمي بعد الزوال نص عليه وقول الزركشي إنها رواية مرجوحة فيه بعد وعنه أو قبله وهو النفر الثاني لكن ليس للإمام المقيم للمناسك التعجيل لأجل من يتأخر قاله الأصحاب
فائدة يستحب لمن نفر أن يأتي المحصب وهو الأبطح وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة فيصلي به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويهجع يسيرا ثم يدخل مكة وكان ابن عمر يري التحصيب سنة وقال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر وعمر وعثمان ينزلون بالأبطح قال الترمذي حسن غريب ولا خلاف في عدم وجوبه.
"فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف إذا فرغ من جميع أموره" لما روى ابن عباس قال أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه قال القاضي وأصحابه إنما يستحق عليه عند العزم على الخروج وإنه لو أراد المقام بمكة ولا وداع عليه سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده ومن منزله في الحرم فهو كالمكي وذكر في "التعليق" واختاره الشيخ تقي الدين أن طواف الوداع ليس من الحج ولا يتعلق به فيمن وطئ بعد التحلل ثم يصلي ركعتين ويقبل الحجر قاله في "المستوعب" كلما دخل.
"فإن ودع ثم اشتغل في تجارة" قال ابن عقيل وابن الجوزي أو شراء حاجة بطريقه "أو أقام" بعد الوداع لغير شد رحل نص عليه "أعاد الوداع" للخبر السابق قيل له في رواية أبي داود ودع ثم نفر يشتري طعاما يأكله قال لا يقولون حتى يجعل الردم وراء ظهره ونص في رواية أبي طالب لا يلتفت فإن التفت ودع قدمه في "التعليق" وغيره.
وحمله جماعة على الندب وذكر ابن الزاغوني وابن عقيل لا يولي ظهره حتى(3/180)
ومن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأه عن طواف الوداع فإن خرج قبل الوداع رجع إليه فإن لم يمكنه فعليه دم إلا الحائض والنفساء لا وداع عليهما.
ـــــــ
يغيب قال الشيخ تقي الدين هذا بدعة مكروهة وقطع في "المغني" و"الشرح" أنه إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده لأن ذلك ليس بإقامة.
"ومن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج أجزأه عن طواف الوداع" في ظاهر المذهب لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعله ولأن ما شرع لتحية المسجد يجزئ عنه الواجب من حقه كتحية المسجد وركعتي الطواف و الإحرام تجزئ عنهما المفروضة والثانية لا لاختلافهما كالصلاتين الواجبتين وكما لو نوى بطوافه الوداع عن طواف الزيارة ويصير حكمه حكم من تركه لأنه ركن لا يتم الحج إلا به فإذا تركه ورجع إلى بلده رجع حراما عن النساء إن كان قد رمى جمرة العقبة وإلا فحراما عن كل شيء.
"فإن خرج قبل الوداع، رجع إليه" مع إمكانه لقرب المسافة أو بعدها وليس هناك خوف على نفس ولا مال ولا فوات رفقة لأنه أمكنه الإتيان بالواجب مشقة تلحقه فإن رجع القريب لم يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به كرجوعه لطواف الزيارة والبعيد يحرم بعمرة ويأتي بها ثم يطوف لوداعه ولا يجاوز الميقات إن كان إلا محرما لأنه ليس من أهل الأعذار وفي سقوط الدم عنه خلاف.
"فإن لم يمكنه" الرجوع "فعليه دم" لتركه الواجب في الحج وظاهره أنه لا يلزمه الرجوع لما فيه من المشقة أشبه ما لو وصل إلى بلدة. "إلا الحائض والنفساء لا وداع عليهما" ولا فدية لذلك في قول عامة العلماء للنص السابق في الحائض والنفساء مثلها فيما يجب ويسقط لكن يسن أن تقف عند باب المسجد فتدعو فإن طهرت قبل مفارقة البنيان اغتسلت وودعت لأنها في حكم الإقامة فإن لم يمكنها الإقامة فمضت أو مضت لغير عذر فعليها دم وإن كان بعده لم يلزمها الرجوع(3/181)
فصل:
وإذا فرغ من الوداع وقف في الملتزم بين الركن والباب فقال اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك لي بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد
ـــــــ
لخروجها عن حكم الحضر
فرع: إذا ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة جاز وإن خرج غير حاج فظاهر كلام الشيخ تقي الدين لا يودع
فصل :
يستحب دخول البيت فيكبر في نواحيه ويصلي فيه ركعتين ويدعو الله تعالى لفعله عليه السلام والحجر منه متجردا من الخف والنعل والسلاح نص على ذلك والنظر إليه عبادة وإذا نزعت ثيابها تصدق بها قاله أحمد.
"وإذا فرغ من الوداع وقف في الملتزم" وذرعه أربعة أذرع "بين الركن" وهو الحجر الأسود "والباب" أي باب الكعبة فيلتزمه ويلصق به صدره ووجهه وجميعه لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه قال طفت مع عبد الله فلما جاء دبر الكعبة قلت ألا تتعوذ قال نعوذ بالله من النار ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطا وقال هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل رواه أبو داود وذكر أحمد أنه يأتي الحطيم وهو تحت الميزاب فيدعو وذكر الشيخ تقي الدين أنه يأتي زمزم فيشرب منها ويستلم الحجر الأسود وينصرف رواه منصور عن مجاهد.
"فقال" في التزامه "اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد(3/182)
علي رضى وإلا فمن الآن قبل أن ينأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم فاصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني وأجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير ويدعو بما على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المرأة إذا كانت حائضا لم تدخل المسجد ووقفت عند بابه ودعت وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
علي رضى وإلا فمن الآن" الوجه فيه ضم الميم وتشديد النون على أنه صيغة أمر من "من يمن" ويجوز فيه كسر الميم وفتح النون على أنها حرف جر لابتداء الغاية والآن الوقت الحاضر وهو مبني على الفتح "قبل أن ينأى" أي: يبعد "عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير" وهكذا في المحرر وحكاه في "الشرح" عن بعض الأصحاب لأنه لائق بالمحل "ويدعو بما أحب" وأي شي دعا به فحسن "ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم"، لأن الدعاء لا يرد حيث اقترن بها.
"إلا أن المرأة إذا كانت حائضا لم تدخل المسجد" لأنها ممنوعة من دخوله "ووقفت عند بابه ودعت" بذلك أو بغيره إذ لا محذور من ذلك ولمساواتها الرجل فيه.
"وإذا فرغ من الحج استحب له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم" لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" رواه الدارقطني من طرق، وروى أيضا عن ابن عمر مرفوعا: "من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي" وفي رواية: "وصحبني". فظاهره أنه بعد الرجوع مطلقا لكن نقل أبو طالب إذا حج للفرض لم يمر بالمدينة لأنه إن حدث به حدث الموت كان في سبيل الحج(3/183)
وزيارة قبر صاحبيه رضي الله عنهما.
ـــــــ
وإن كان تطوعا بدأ بالمدينة فيسلم عليه لما روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام". وظاهره أن هذه الفضيلة تحصل لكل مسلم قريبا كان أو بعيدا لكن قال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة مرفوعا: "ما من أحد يسلم علي عند قبري" فهذه الزيادة مقتضاها التخصيص.
وروي عن العتبي قال كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 64] وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشد يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ...
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فنمت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عتبى الحق الأعرابي وبشره أن الله قد غفر له.
ويكون في سلامه مستقبلا له لا للقبلة ثم يستقبلها ويجعل الحجرة عن يساره ويدعو وفي "المستوعب" وغيره: أنه يستقبله ويدعو وظاهره قرب من الحجرة أو بعد منها ولا يستحب تمسحه بحائط القبر نقل أبو الحاررث يدنو منه ولا يتمسح به يقوم حذاءه فيسلم لفعل ابن عمر وعنه بلي ورخص في المنبر لأنه كان يرتقي عليه.
"وزيارة قبر صاحبيه" أبي بكر وعمر "رضي الله عنهما" بعد الفراغ من السلام على سيد البشر يتقدم قليلا فيقول السلام عليك يا أبا بكر الصديق السلام عليك يا عمر الفاروق السلام عليكما يا صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعيه ووزيريه ورحمة الله وبركاته اللهم اجزهما عن نبيهما وعن الإسلام خيرا سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار اللهم لا تجعله آخر العهد من قبر نبيك صلى الله عليه وسلم ومن مسجدك يا(3/184)
ـــــــ
أرحم الراحمين
أصل: لا ترفع الأصوات عند حجرته عليه السلام كما لا يرفع فوق صوته لأنه في التوقير والحرمة كحياته وظاهر كلام جماعة أن هذا وضوء مستحب وليس بواجب خلافا لبعض العلماء.(3/185)
فصل في صفة العمرة
من كان في الحرم خرج إلى الحل فاحرم منه والأفضل أن يحرم من التنعيم فإن احرم بها من الحرم لم يجز وينعقد وعليه دم ثم يطوف ويسعى ثم يحلق أو يقصر وقد حل
ـــــــ
فصل
"في صفة العمرة من كان في الحرم خرج إلى الحل فأحرم منه" وكان ميقاتا له بغير خلاف نعلمه ولا فرق فيه بين المكي وغيره وعن أحمد أن المكي كلما تباعد فيها فهو أعظم للأجر. "والأفضل أن يحرم من التنعيم" لأنه عليه السلام أمر عبد الرحمن أن يعمر عائشة منه قال ابن سيرين بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل مكة التنعيم وهو أدنى الحل ولأنه يجب الجمع في النسك بين الحل والحرم وأفعال العمرة كلها في الحرم فلم يكن بد من الجمع بينهما بخلاف الحج لافتقاره إلى الوقوف بعرفة وهي من الحل ثم الجعرانة ثم الحديبية.
"فإن أحرم بها من الحرم لم يجز" لمخالفة أمره عليه السلام "وينعقد إحرامه" كما لو أحرم بعد أن جاوز الميقات "وعليه دم" لتركه الواجب فلو خرج إلى الحل قبل الطواف ثم عاد أجزأه لأنه قد جمع بين الحل والحرم وعمرته صحيحة وإن لم يخرج لأنه قد أتى بأركانها وإنما أخل بالإحرام من ميقاتها وقد جبره. "ثم يطوف ويسعى ثم يحلق أو يقصر وقد حل"، لأن العمرة أحد النسكين فيحل بفعل ما ذكر كحله من الحج بأفعاله.(3/185)
وهل يحل قبل الحلق والتقصير على روايتين.
وتجزئ عمرة القارن والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام في أصح الروايتين.
ـــــــ
"وهل يحل" منها بالطواف والسعي "قبل الحلق والتقصير على روايتين" أصلهما هل الحلاق أو التقصير نسك في العمرة كالحج أم لا فيه روايتان فإن قلنا هو نسك لم يحل قبله كالطواف وإن قلنا ليس بنسك وإنما هو إطلاق من محظور حل قبله كالطيب.
فصل
لا يكره الاعتمار في السنة أكثر من مرة ويكره الإكثار والموالاة بينهما باتفاق السلف قال أحمد إن شاء كل شهر وقال لا بد يحلق أو يقصر وفي عشرة أيام يمكن واستحبه جماعة ويستحب تكرارها في رمضان لأنها تعدل حجة وكره الشيخ تقي الدين الخروج من مكة لعمرة تطوع وإنه بدعة لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابي على عهده سوى عائشة لا في رمضان ولا في غيره اتفاقا وفيه نظر.
"وتجزئ عمرة القارن والعمرة من التنعيم عن عمرة الإسلام في أصح الروايتين" أما عمرة المتمتع فتجزئ عنها بغير خلاف نعلمه وأما عمرة القارن وهو الذي جمع الحج والعمرة أوأحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج لا تجزئ عن عمرة الإسلام في رواية اختارها أبو بكر لقوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وإتمامهما: الإتيان بأفعالهما على وجه الكمال ولم يوجد ولأمره عليه السلام عائشة أن تعتمر من التنعيم ولو كانت عمرتها في قرانها أجزأتها لما أعمرها بعدها ولأنها ليست كاملة إذ لا طواف فيها.
والثانية وهي الأصح أنها تجزئ عنها لقوله عليه السلام لعائشة لما قرنت وطافت: "قد حللت من حجتك وعمرتك" رواه مسلم. ولأن الواجب عمرة واحدة وقد أتى بها صحيحة فأجزأت كعمرة المتمتع ولأن عمرة القارن(3/186)
فصل
أركان الحج الوقوف بعرفة وطواف الزيارة وعنه أنها أربعة: الوقوف والإحرام والطواف.
ـــــــ
أحد النسكين للقارن فأجزأت كالحج.
وأما عمرة عائشة من التنعيم فإنما كانت لتطييب قلبها وإجابة مسألتها ولو كانت واجبة لأمرها هو بها قبل سؤالها والأصح أن العمرة المفردة من التنعيم تجزئ عن عمرة الإسلام لحديث عائشة ولأن الحج يجزئ من مكة فالعمرة من أدنى الحل في حق المفرد أولى.
والثانية: لا لأنه عليه السلام أحرم في عمرة القضاء من ذي الحليفة وروي من الجعرانة وصححه صاحب "النهاية" في غير سنة القضاء وجوابه أنه مر بها أو لأن القضاء يحكي الأداء.
فصل
"أركان الحج: الوقوف بعرفة" لما روي أن رجلا قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد فقالوا يا رسول الله كيف الحج قال: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر فقد تم حجه" رواه أبو داود وابن ماجه قال محمد بن يحيى ما أرى للثوري حديثا أشرف منه.
"وطواف الزيارة" لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ولما روت عائشة في شأن صفية وأن الطواف حابس لمن لم يأت به ولو تركه رجع معتمرا نقله جماعة.
"وعنه: أنها أربعة: الوقوف والطواف" وقد تقدما "والإحرام" لحديث الأعمال ولأنه عبارة عن نية الدخول في الحج فلم يتم إلا به كنية الصلاة واختلفت الرواية فيه هل هو ركن وجزم به في "الوجيز" و"المحرر" أو شرط قال ابن المنجا لا نعرف أحدا من الأصحاب قال به وفي كلام جماعة ما(3/187)
والسعي وعنه أنها ثلاثة وأن السعي سنة واختار القاضي أنه واجب وليس بركن وواجباته سبعة الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل.
ـــــــ
ظاهره رواية بجواز تركه وفي الإرشاد سنة وفيه بعد.
"والسعي" هذا هو المشهور لقوله عليه السلام في حديث حبيية بنت أبي تجراة أحد نساء بني عبد الدار: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" رواه أحمد ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركنا فيهما كالطواف.
"وعنه: أنها ثلاثة وأن السعي سنة" روي عن ابن عباس وابن الزبير لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ونفي الحرج عن فاعله دليل عدم وجوبه وفي مصحف أبي وابن مسعود: "فلا جناح عليهما أن لا يطوف بهما" وهذا وإن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن رتبة الخبر ولأنه نسك ذو عدد لا يتعلق بالبيت فلم يكن ركنا كالرمي.
"واختار القاضي أنه واجب وليس بركن" هذا رواية وجزم بها في "الوجيز" لأنها من أفعال الحج فكان واجبا كطواف الوداع.
فعلى هذا: إن تركه جبره بدم وهو قول الحسن والثوري قال في المغني قول القاضي أقرب إلى الحق إن شاء الله تعالى وفي "الشرح": وهو أولى لأن دليل من أوجبه دل على مطلق الوجوب لا على أنه لا يتم الحج إلا به وحديث حبيبة يرويه عبد الله بن المؤمل وفيه كلام ثم هو يدل على أنه مكتوب والواجب كذلك و الآية نزلت لأن ناسا تحرجوا من السعي لأجل صنمين كانا بين الصفا والمروة كذلك قالت عائشة.
"وواجباته سبعة: الإحرام من الميقات" المعتبر له لأنه عليه السلام ذكر المواقيت وقال: "هن لهن ولمن مر عليهن".
"والوقوف بعرفة إلى الليل" لأنه من أدركها نهارا يجب عليه أن يجمع بين جزء من النهار وجزء من الليل ولو غلبه نوم بعرفة نقله المروذي.(3/188)
والمبيت بمزدلفة إلى بعد نصف الليل والمبيت بمنى والرمي والحلاق وطواف الوداع وما عدا هذا سنن وأركان العمرة الطواف وفي الإحرام والسعي روايتان وواجبها الحلاق في إحدى الروايتين فمن ترك ركنا لم يتم نسكه إلا به ومن ترك واجبا فعليه دم.
ـــــــ
"والمبيت بمزدلفة" على الأصح "إلى بعد نصف الليل" لأن من أدرك مزدلفة أول الليل يجب عليه المبيت بها معظم الليلة "والمبيت بمنى" لفعله وأمره عليه السلام وفي "الواضح" في مبيت بمزدلفة ومنى ولا عذر إلى بعد نصف الليل "والرمي والحلاق" على ما تقدم "وطواف الوداع" في الأصح وهو الصدر لقوله عليه السلام: "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت" رواه مسلم وظاهره ولو لم يكن بمكة قال الآجري يطوفه متى أراد الخروج من مكة أو منى أو من نفر آخر قال في "المستوعب": لا يجب على غير الحاج وكذا الترتيب واجب على الأصح "وما عدا هذا سنن" كالاغتسال، وطواف القدوم والدفع مع الإمام وفيهما رواية والمبيت بمنى ليلة عرفة قطع به الأكثر لأنها استراحة وفي "الرعاية": واجب وفي "عيون المسائل": يجب الرمل والاضطباع ونقل حنبل إذا نسي الرمل فلا شيء عليه وقاله الخرقي وغيره واستلام الركنين وتقبيل الحجر والأذكار والأدعية والصعود على الصفا والمروة.
"وأركان العمرة الطواف" كالحج، "وفي الإحرام" بها وإحرامها من ميقاتها "والسعي روايتان" جزم في "المحرر" و"الوجيز" بأن الإحرام بها ركن وفي "الفصول": السعي فيها ركن بخلاف الحج لأنها أحد النسكين فلا يتم إلا بركنين كالحج.
"وواجبها: الحلاق في إحدى الروايتين" بناء على الخلاف في الحج وسننها الغسل والذكر والدعاء.
"فمن ترك ركنا" أو النية "لم يتم نسكه" أي لم يصح نسكه "ومن ترك واجبا" ولو سهوا "فعليه دم" فإن عدمه فكصوم المتعة والإطعام عنه وفي الخلاف وغيره الحلاق والتقصير لا ينوب عنه ولا يحلل إلا به على الأصح.(3/189)
ومن ترك سنة فلا شيء عليه
ـــــــ
"ومن ترك سنة فلا شيء عليه" أي هدر لأنها ليست واجبة فلم يجب جبرها كسنن سائر العبادات قاله في "الشرح"، وذكر في "الفصول" وغيره ولم يشرع الدم عنها لأن جبران الصلاة أدخل فيتعدى إلى صلاته من صلاة غيره.
فصل
يعتبر في أمير الحاج كونه مطاعا ذا رأي وشجاعة وهداية وعليه جمعهم وترتيبهم وحراستهم في المسير والنزول والرفق بهم والنصح لهم ويلزمهم طاعته في ذلك ويصلح بين الخصمين ولا يحكم إلا أن يفوض إليه فيعتبر كونه من أهله وقال الآجري يلزمه علم خطب الحج والعمل بها وقال الشيخ تقي الدين من جرد معهم وجمع له من المقطعين ما يعينه على كلفة الطريق أبيح له ولا ينقص أجره وله أجر الجهاد والحج وهذا كأخذ بعض الإقطاع ليصرفه في المصالح وليس في هذا خلاف ويلزم المعطي بذل ما أمر به وشهر السلاح عند تبوك بدعة وليس من تمام الحج ضرب الجمالين خلافا للأعمش وحمله ابن حزم على الفسقة.(3/190)
باب اللفوات والإحصار
...
باب الفوات والإحصار
ومن طلع عليه الفجر يوم النحر ولم يقف بعرفة.
ـــــــ
باب الفوات والاحصار
الفوات: مصدر فات يفوت فوتا وفواتا إذا سبق ولم يدرك والإحصار مصدر أحصره مرضا كان أو عدوا وحصره أيضا حكاهما جماعة من أهل اللغة وأصل الحصر المنع يقال حصره فهو محصور واحصره المرض فهو محصر قال بعضهم هو المشهور.
"ومن طلع عليه الفجر يوم النحر ولم يقف بعرفة" لعذر حصر أو غيره(3/190)
فقد فاته الحج ويتحلل بطواف وسعي وعنه ينقلب إحرامه لعمرة ولا قضاء عليه إلا أن يكون فرضا.
ـــــــ
"فقد فاته الحج" لا خلاف أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر وأن الحج يفوت بفواته لقول جابر لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع قال أبو الزبير فقلت له أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال نعم رواه الأثرم. "ويتحلل بطواف وسعي" صححه في "الشرح" زاد: وحلق وهو قول جماعة من الصحابة واختاره ابن حامد وظاهره أنه ليس عمرة لأن إحرامه انعقد بأحد النسكين فلم ينقلب إلى الآخر كما لو أحرم بالعمرة وحكى ابن أبي موسى رواية أنه يمضي في حج فاسد ويقضيه فيلزمه جميع أفعال الحج لأن سقوط ما فات وقته لا يمنع وجوب ما لم يفت.
"وعنه: ينقلب إحرامه لعمرة"، قدمه في الفروع واختاره الأكثر وهو المذهب لقول عمر لأبي أيوب لما فاته الحج اصنع ما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإن أدركت الحج قابلا فحج واهد ما استيسر من الهدي رواه الشافعي وروى النجاد بإسناده عن عطاء مرفوعا نحوه ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمعه أولى.
وهذا أن لم يختر البقاء على إحرامه ليحج من قابل وظاهره أن القارن وغيره سواء لأن عمرته لا تلزمه أفعالها ولا تجزئه عن عمرة الإسلام في المنصوص لوجوبها كمنذورة وعنه لا ينقلب ويتحلل بعمرة جزم به في المحرر والوجيز وذكر القاضي أنه اختيار ابن حامد فيدخل إحرام الحج على الأولة فقط وقال أبو الخطاب وعلى الثانية يدخل إحرام العمرة ويصير قارنا.
"ولا قضاء عليه" إذا كان نفلا لأن الأحاديث الواردة دالة على أن الحج مرة واحدة فلو وجب قضاء النافلة كان الحج أكثر من مرة ولأنها تطوع فلم يلزمه قضاؤها كسائر التطوعات. "إلا أن يكون فرضا" فيجب قضاؤه بغير خلاف لأنه فرض ولم يأت به على وجهه فلم يكن بد من الإتيان به ليخرج عن عهدته وتسميته قضاء باعتبار الظاهر.(3/191)
وعنه: عليه القضاء وهل يلزمه هدي على روايتين إحداهما عليه هدي يذبحه في حجة القضاء إن قلنا عليه قضاء وإلا ذبحه في عامه.
ـــــــ
"وعنه: عليه القضاء" اختاره الخرقي وجزم به في "الوجيز" قال في "الفروع": والمذهب لزوم قضاء النفل كالإفساد وهو قول جماعة من الصحابة ولأنه يلزم بالشروع فيصير كالمنذور بخلاف غيره من التطوعات وأما كون الحج مرة فذاك الواجب بأصل الشرع.
"وهل يلزمه هدي على روايتين إحداهما عليه هدي" صححها في "الشرح"، وقدمها في "المحرر"، وذكر ابن المنجا أنها المذهب لحديث عطاء: "من فاته الحج فعليه دم" قيل: مع القضاء وقيل يلزمه في عامه ولكن يلزمه أن "يذبحه في حجة القضاء إن قلنا عليه قضاء"، لما روى الأثرم أن هبار بن الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر فقال له عمر انطلق إلى البيت فطف به سبعا وإن كان معك هدي فانحره ثم إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت.
فعلى هذا: يذبحه بعد تحلله من القضاء كدم التمتع محله ما لم يشترط أولا فإن اشترط فلا جزم به في "الوجيز"، وصححه في "الفروع".
"وإلا ذبحه في عامه" إن لم يجب عليه قضاؤه إذ لا معنى لتاخيره وسواء كان ساق هديا أم لا نص عليه والهدي ما استيسر كهدي المتعة وفي "الوجيز": بدنة ويستثنى منه العبد فإنه عاجز عنه لأنه لا مال له فهو كالمعسر ويجب الصوم فإن ملكه سيده هديا وأذن له في ذبحه خرج على الخلاف.
والثانية: لا هدي عليه لأنه لو لزمه ذلك لزمه هديان هدي للإحصار وهدي للفوات وفيه شيء لأن المحصر لو كان قارنا وحل بما قلنا كان عليه فعل ما أهل به من قابل نص عليه وفيه وجه يجزئه ما فعله عن عمرة الإسلام فلا يلزمه إلا قضاء الحج فقط ويلزمه هديان لقرانه وفواته وقيل يلزمه هدي ثالث للقضاء وفيه(3/192)
وإن أخطا الناس فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم وإن أخطا بعضهم فقد فاته الحج ومن أحرم فحصره عدو ولم يكن له طريق إلى الحج ذبح هديا في موضعه وحل
ـــــــ
نظر لأن القضاء لا يجب له شيء وإنما هو للفوات بدليل أن الصحابة لم يأمروه بأكثر من هدي واحد.
"وإن أخطأ الناس فوقفوا في غير يوم عرفة" كالثامن والعاشر "أجزأهم" نص عليه لما روى الدارقطني بإسناده عن عبد العزيز بن عبد الله بن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه" وذكر الشيخ تقي الدين خلافا في مذهب أحمد هل هو يوم عرفة باطنا بناء على أن الهلال اسم لما يطلع في السماء أو لما يراه الناس ويعلمونه والثاني الصواب ويدل عليه لو أخطؤوا لغلط في العدد أو في الطريق ونحوه فوقفوا العاشر لم يجزئهم إجماعا وذكر أن الوقوف مرتين بدعة لم يفعله السلف. فلو رآه طائفة قليلة لم ينفردوا بالوقوف بل الوقوف مع الجمهور واختار في "الفروع": يقف مرتين إن وقف بعضهم لا سيما من رآه.
"وإن أخطا بعضهم فقد فاته الحج" وفي الانتصار عدد يسير وفي "التعليق": الواحد والاثنان وفي "الكافي" و"المحرر": نفر قال ابن قتيبة: يقال إن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة لقول عمر لهبار ما حبسك قال وحسبت أن اليوم يوم عرفة فلم يعذره بذلك.
"ومن أحرم فحصره عدو ولم يكن له طريق إلى الحج ذبح هديا في موضعه وحل" بغير خلاف نعلمه وسنده: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] قال في "المغني" و"الشرح": قال الشافعي: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية.
وعن المسور بن مخرمة ومروان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صلح الحديبية لما فرغ من قضية الكتاب لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" رواه البخاري. ولأن الحاجة(3/193)
ـــــــ
داعية إلى الحل لما في تركه من المشقة العظيمة وهي منتفية شرعا ولا فرق في الإحصار بين الحج والعمرة أو بهما صرح به جماعة منهم صاحب "الشرح" لأن الصحابة حلوا في الحديبية وكانت عمرة وفي كلامه إشعار بأنه محمول على غير العمرة وصرح به في "الإرشاد" و"المبهج" و"الفصول" لأنها لا تفوت.
وفي بعض النسخ: "ولم يكن له طريق إلى الحل" فلا إشكال. وظاهره لا فرق بين الحج الصحيح والفاسد ولا قبل الوقوف أو بعده نص عليه وذكر المؤلف بل يكون قبل تحلله الأول وقد نبه على ما يشترط للتحلل:
فمنها: أن لا يجد طريقا آخر آمنا فإن وجده لزمه سلوكه وإن بعد وخاف الفوات لأنه أمكنه الوصول أشبه من لم يحصره أحد
ومنها: أن يحصره ظلما فيشمل ما إذا أحاط به العدو من جميع الجوانب قال في "التلخيص": وعندي أنه ليس له التحلل لأنه لا يتخلص منه فهو كالمرض
وشمل الحصر العام والخاص كما لو حصر منفردا بأن أخذته اللصوص أو حبس وحده فلو حبس بحق يلزمه ويمكنه أداؤه لم يكن له التحلل وشمل العدو الكافر والمسلم والتحلل مباح لحاجته في الدفع إلى قتال أو بذل مال كثير فإن كان يسيرا والعدو مسلم ففي وجوب البذل وجهان وقياس المذهب وجوب بذله كالزيادة في ثمن الماء للوضوء ذكره في الشرح ومع كفر العدو يستحب قتاله إن قوي المسلمون وإلا فتركه أولى.
ومنها: أن ينحر هديا في موضعه إن أمكنه أو بدله إن عجز عنه وهو الصيام لأنه عليه السلام هكذا فعل وأمر به أصحابه فينحره بنية التحلل به وجوبا فكأنه كالحلق يجوز له فقط في الحل قاله في الانتصار وذكر غيره يجوز له ولغيره في الحل.
وعنه: ينحره في الحرم فيواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه روي عن ابن مسعود وحمله في المغني على من حصره خاص أما في العام فلا لأنه يفضي(3/194)
فإن لم يجد هديا صام عشرة أيام ثم حل ولو نوى التحلل قبل ذلك لم يحل وفي وجوب القضاء على المحصر روايتان.
ـــــــ
إلى تعذر الحل بتعذر وصول الهدي إلى محله.
وعنه: لا يجزئه الذبح إلا يوم النحر لأن هذا وقت ذبحه وقيدها في "الكافي" ما إذا ساق هديا وفي "الفروع": بالمفرد والقارن وظاهره أنه لا يجب الحلق وهو رواية لعدم ذكره في الآية ولأنه مباح ليس بنسك خارج الحرم لأنه من توابع الإحرام كالرمي وعنه بلى اختارها في "التعليق". وبناهما في "الكافي" على أنه نسك أو إطلاق من محظور.
واشترطت النية هنا دون ما تقدم لأن من أتى بأفعال النسك فقد أتى بما عليه فيحل منها بإكمالها فلم يحتج إلى نية بخلاف المحصر فإنه يريد الخروج من العبادة قبل إتمامها فافتقر إليها فإن الذبح قد يكون لغير التحلل فلم يتخصص إلا بقصده بخلاف الرمي.
"فإن لم يجد هديا" أي: لم يكن معه ولا يقدر عليه "صام عشرة أيام" بالنية، كالهدي ولأنه دم واجب للإحرام فكان له بدل ينتقل إليه كدم المتعة "ثم حل" نقله الجماعة فعلم أنه لا يحل إلا بعد الصيام كما لا يحل إلا بعد نحر الهدي وظاهره أنه لا إطعام فيه وهو المذهب وعنه بلى وقال الآجري إن عدم الهدي مكانه قومه طعاما وصام عن كل مد يوما.
"ولو نوى التحلل قبل ذلك" أي: قبل الذبح أو الصوم "لم يحل" وهو باق على إحرامه حتى يفعل أحدهما لأنهما أقيما مقام أفعال الحج فلم يحل قبلهما كما لا يتحلل القادر عليها قبلها ويلزمه دم لتحلله وفي "المغني" و"الشرح" لا لعدم تأثيره في العبادة لكن إن فعل شيئا من المحظورات لزمه فدية.
"وفي وجوب القضاء" أي: قضاء النفل "على المحصر روايتان" نقل الجماعة أنه لا قضاء عليه صححه في "الشرح" وجزم به في "الوجيز" وقدمه في "الفروع" لأن الذين صدوا كانوا ألفا وأربعمائة والذين اعتمروا معه من قابل كانوا يسيرا ولم(3/195)
فإن صد عن عرفة دون البيت تحلل بعمرة ولا شيء عليه ومن أحصر بمرض أو ذهاب نفقة لم يكن له التحلل وإن فاته الحج تحلل بعمرة.
ـــــــ
ينقل أنه أمر الباقين بالقضاء ولأنه تطوع جاز التحلل منه مع صلاح الزمان له فلم يجب قضاؤه كالصوم.
والثانية: نقلها أبو الحارث و أبو طالب يجب لأنه عليه السلام لما تحلل زمن الحديبية قضى من قابل وسميت عمرة القضية ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه القضاء كما لو فاته الحج.
والأول أولى، وتسميتها عمرة القضية إنما المراد بها القضية التي اصطلحوا عليها ولو أرادوا غير ذلك لقالوا عمرة القضاء وتفارق الفوات لأنه مفرط بخلاف مسألتنا.
فلو جن أو أغمى عليه فعلى الخلاف قاله في "الانتصار"، وخرج منها في "الواضح" مثله في منذورة. وفي كتاب "الهدي": لا يلزم المحصر هدي ولا قضاء لعدم أمر الشارع بهما وفيه نظر.
"فإن صد عن عرفة دون البيت تحلل بعمرة"، لأن له فسخ نية الحج إلى العمرة حصر فمعه أولى ولأنه يمكنه أن يأتي بعمل العمرة فعلى هذا يتحلل بطواف وسعي وحلق "ولا شيء عليه"، لأنه في معنى الفسخ وعنه حكمه كمن منع البيت وعنه يبقى محرما إلى أن يفوته الحج فيتحلل بعمرة إذن
"ومن حصر بمرض أو ذهاب نفقة لم يكن له التحلل" في ظاهر المذهب وهو المختار للأصحاب لقول ابن عباس لا حصر إلا حصر العدو رواه الشافعي وعن ابن عمر نحوه رواه مالك ولو كان المرض يبيح التحلل لم يأمر عليه السلام ضباعة بالاشتراط ولأنه لا يستفيد به الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به بخلاف حصر العدو فعلى هذا يبقى محرما حتى يقدر على البيت.
"وإن فاته الحج تحلل بعمرة" نقله الجماعة لأنه في معناه وكغير المريض ثم إن كان معه هدي بعث به ليذبح بالحرم نص على التفرقة بينه وبين المحصر لكونه(3/196)
ويحتمل أنه يجوز له التحلل كمن حصره العدو ومن شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني فله التحلل بجميع ذلك ولا شيء عليه
ـــــــ
يذبحه في موضعه.
"ويحتمل أن يجوز له التحلل" هذا رواية واختارها الشيخ تقي الدين قال الزركشي ولعلها أظهر لظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] ولما روى الحجاج بن عمرو الأنصاري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" قال عكرمة: فسمعته يقول ذلك فسألت ابن عباس وأبا هريرة عما قال فصدقاه رواه الخمسة وحسنة الترمذي ولفظ الإحصار إنما هو للمرض يقال أحصره المرض إحصارا فهو محصور وزعم الأزهري أنه كلام العرب واستفيد حصر العدو بطريق التنبيه فيكون حكمه.
"كمن حصره العدو" على ما مضى ينحر الهدي أو يصوم إن لم يجده ثم يحل والأول أولى لأن الحديث متروك الظاهر لأنه لا يحل بمجرد ذلك وأجيب بأنه مجاز سائغ لأن من أبيح له التحلل فقد حل ويقضي عبد كحر وصغير كبالغ.
مسألة: مثله حائض تعذر مقامها وحرم طوافها أو رجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة أو لعجزها عنه أو لذهاب الرفقة وكذا من ضل الطريق ذكره في "المستوعب" وفي "التعليق": لا يتحلل.
"ومن شرط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني فله التحلل بجميع ذلك"، لحديث ضباعة ولأن للشرط تأثيرا في العبادة بدليل قوله إن شفي الله مريضي صمت شهرا فيلزم بوجوده ويعدم بعدمه "ولا شيء عليه" لا هدي ولا قضاء لأنه صار بمنزلة من أكمل أفعال الحج
فصل
إذا تحلل المحصر من الحج ثم أمكنه الحج لزمه إن كان واجبا أو قلنا يجب القضاء على الفور فإن كان القضاء على الفور فإن كان فاسدا وتحلل منه قضاه في عامه إن أمكنه قال في(3/197)
ـــــــ
الشرح وغيره ولا يتصور في غيرها.
وقيل للقاضي: لو صار طوافه في النصف الأخير يصح إذن حجتين في عام ولا يجوز إجماعا لأنه يرمي ويطوف ويسعى فيه ثم يحرم بحجة أخرى ويقف بعرفة قبل الفجر ويمضي فيها ويلزمكم أن تقولوا به إذا تحلل من إحرامه فلا معنى لمنعه منه؟.
فقال القاضي: لا يجوز ونص الشافعي على أن المقيم بمنى للرمي لا ينعقد إحرامه بعمرة لاشتغاله بالرمي فيؤخذ منه امتناع حجتين في عام واحد .(3/198)
باب الهدي والأضاحي
والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم.
ـــــــ
باب الهدي والأضاحي
الهدي: ما أهدي إلى الحرم من النعم وغيرها وقال ابن المنجا هو ما يذبح بمنى سمي بذلك لأنه يهدى إلى الله تعالى والأضاحي جمع أضحية بضم الهمزة وكسرها والضحايا جمع ضحية والأضاحي جمع أضحاة، كأرطاة.
وقد أجمع المسلمون على مشروعيتها وسنده قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قال جماعة من المفسرين: المراد به الأضحية بعد صلاة العيد وقد ثبت أنه عليه السلام ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وذكر ووضع رجله على صفاحهما متفق عليه الأملح هو الأبيض النقي قاله ابن الأعرابي أو الذي فيه سواد وبياض وبياضه أكثر قاله الكسائي وأبو زيد
"والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم" لحديث أبي هريرة السابق في الرواح إلى الجمعة لأنه عليه السلام رتبها على قدر لفضيلة وروي أن امرأة سألت ابن عباس أي النسك أفضل قال إن شئت فناقة أو بقرة قالت: أي(3/198)
والذكر والأنثى سواء ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن وهو ما له ستة أشهر والثني مما سواه وثني الإبل ما كمل له خمس سنين ومن البقر ما له سنتان ومن المعز ما له سنة.
ـــــــ
ذلك أفضل قال: أنحري ناقة ولأن البدنة أكثر لحما وثمنا وأنفع للفقراء فكانت أفضل من غيرها ثم كذلك في البقر والغنم ولا شك أنها جائزة بكل منها وهو في الغنم إجماعا والإبل والبقر وفاقا لا من غيره فلو كان أحد أبويه وحشيا لم يجز وظاهره أنه لا يجزئ بطائر وهو وفاق.
"والذكر والأنثى سواء" للعموم ولأن المقصود هنا اللحم ولحم الذكر أوفر ولحم الأنثى أرطب فيتساويان بخلاف الزكاة وقيل هو أفضل وقدم في "الفصول": هي والأسمن ثم الأغلى ثمنا ثم الأملح ثم الأصفر ثم الأسود قال أحمد يعجبني البياض ونقل حنبل وذكر المؤلف أن الكبش من الأضحية أفضل الغنم وجذع الضان أفضل من ثنى المعز لأنه أطيب لحما وذكر المؤلف احتمالا عكسه وكل منهما أفضل من سبع بدنة أو بقرة وسبع شياه أفضل من بدنة أو بقرة.
"ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن" لما روت أم بلال بنت هلال عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه قال: "يجزئ الجذع من الضأن أضحية" رواه ابن ماجه والهدي مثله. "وهو ماله ستة أشهر" قاله الجوهري وغيره قال الخرقي سمعت أبي يقول سألت بعض أهل البادية كيف يعرفون الضأن إذا أجذع قالوا لا تزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملا فإذا نامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع وقيل هو الذي له ثمانية أشهر ذكره ابن أبي موسى. "والثني مما سواه" لأنه عليه السلام وأصحابه كانوا يذبحون لهما. "وثني الإبل: ما كمل له خمس سنين ودخل في السادسة" قاله الأصمعي والجوهري وغيرهما سمي بذلك لأنه حينئذ يلقي ثنيته وقال ابن أبي موسى ما كمل له ست "ومن البقر: ما له سنتان" قاله الجوهري وقال ابن أبي موسى ما كمل له ثلاث سنين. "ومن المعز ما له سنة" وقد سبق في الزكاة فلو كان أعلى سنا(3/199)
وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة سواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم والباقون اللحم ولا يجزئ فيهما العوراء البين عورها وهي التي انخسفت عينها ولا العجفاء التي لا تنقي وهي الهزيلة التي لا مخ فيها.
ـــــــ
أجزأ بغير خلاف ونقل أبو طالب يجزئ جذع إبل وبقر عن واحد اختاره الخلال وسأله حرب أيجزئ عن ثلاثة قال يروى عن الحسن وكأنه سهل فيه
"وتجزئ الشاة عن واحد" لحصول الوفاء به والخروج عن عهدة الأمر المطلق والمنصوص وعن أهل بيته وعياله لقول أبي أيوب "والبدنة والبقرة عن سبعة" في قول أكثر العلماء لما روى جابر قال نحرنا بالحديبية مع النبي صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وفي لفظ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في واحد منها وفي لفظ فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها رواه مسلم وحينئذ يعتبر ذبحها عنهم نص عليه.
"سواء أراد جميعهم القربة أو بعضهم والباقون اللحم" نص عليه لأن الجزء المجزئ لا ينقص بإرادة الشريك غير القربة فجاز كما لو اختلفت جهات القرب فأراد بعضهم المتعة والآخر القران.
ولأن القسمة أيضا إفراز نص عليه وعلى الآخر بيع فيمتنع وعلى الأول يجوز ولو كان بعضهم ذميا في قياس قوله قاله القاضي فلو كانوا بعد الذبح ثمانية ذبحوا شاة وأجزأهم نقله ابن القاسم ونقل مهنا يجزئ سبعة ويرضون الثامن ويضحي.
فرع: زيادة العدد في جنس أفضل كالعتق وقيل المغالاة في الثمن وقيل سواء وسأله ابن منصور بدنتان سمينتان بتسعة وبدنة بعشرة قال بدنتان أعجب إلي.
"ولا يجزئ فيهما" أي في الهدي والأضاحي "العوراء البين عورها وهي التي انخسفت عينها ولا العجفاء التي لا تنقى وهي الهزيلة التي لا مخ فيها،(3/200)
والعرجاء البين ظلعها فلا تقدر على المشي مع الغنم والمريضة البين مرضها والعضباء
ـــــــ
والعرجاء البين ظلعها فلا تقدر على المشي مع الغنم والمريضة البين مرضها"، لما روى البراء بن عازب قال قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ظلعها والكسيرة التي لا تنقي" رواه لخمسة وصححه الترمذي.
وما فسر به العوراء هو قول الأصحاب إذ العين عضو مستطاب فدل على أنها إذا كانت قائمة أو بها بياض لا يمنع النظر تجزئ وكذا إن أذهبه على الأشهر والعجفاء التي لا تنقي وهي التي لا مخ في عظامها لهزالها والعرجاء البين ظلعها بفتح اللام وسكونها أي بها عرج فاحش يمنعها مما ذكر لأنه ينقص لحمها بسبب ذلك.
فلو كان عرجها لا يمنعها منه أجزأت وقال أبو بكر والقاضي في "الجامع الصغير": هي التي لا تطيق أن تبلغ النسك وعلم منه أن الكسيرة لا تجزئ وذكره في "الروضة". والمريضة البين مرضها لأن ذلك يفسد اللحم وينقصه فدل على أنه إذا لم يكن بينا أنها تجزئ لأنها قريبة من الصحيحة وقال الخرقي هي التي لا يرجى برؤها لأن ذلك ينقص قيمتها ولحمها وقال القاضي و أبو الخطاب وابن البنا هي الجرباء لأنه يفسد اللحم.
والحق في ذلك: يناط الحكم بفساد اللحم لأنه أضبط ولعل القاضي ومن وافقه ذكروا ذلك على سبيل المثال لا الحصر وعلم منه أن العمياء لا تجزئ لأنها أولى بالمنع من العوراء لمنعها مع المشي مع جنسها ومشاركتها لهن في المرعى وفي قائمة العينين روايتان وكذا جافه الضرع وعلله أحمد بنقص الخلق.
"و"لا تجزئ "العضباء" لما روى علي قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحى بأعضب الأذن والقرن قال قتادة فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: العضب النصف أو أكثر من ذلك رواه الخمسة وصححه الترمذي وظاهره التحريم والفساد وبه(3/201)
وهي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها وتكره المعيبة الأذن بخرق أو شق أو قطع لأقل من النصف وتجزئ الجماء والبتراء والخصي.
ـــــــ
يتخصص مفهوم ما سبق إن سلم المفهوم وأن له عموما.
"وهي التي ذهب أكثر أذنها أو قرنها" نقله حنبل وغيره لأن الأكثر يقوم مقام الكل بخلاف اليسير فإنه في حكم المعدوم ونقل أبو طالب النصف فأكثر ذكر الخلال أنهم اتفقوا على ذلك للخبر وعنه المانع الثلث فأكثر اختارها أبو بكر لأنه كبير وقيل يختص بما فوق الثلث واختار في "الفروع": الإجزاء مطلقا لأن في صحة الخبر نظرا فإنه من رواية ابن كليب وهو مجهول قال أبو حاتم لا يحتج به ولأن القرن لا يؤكل والأذن لا يقصد أكلها غالبا ثم هي كقطع الذنب و أولى بالإجزاء.
"وتكره المعيبة الأذن بخرق أو شق أو قطع لأقل من النصف" لقول علي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرفاء رواه أبو داود وحمل على الكراهة لأنه لا ينقص لحمها ولا يوجد سالم منها وفي "الإرشاد": لا يجزئ والأول أولى للمشقة والقرن كالأذن.
تنبيه: يفهم منه أن ما عدا ذلك يجزئ ويحتمل عدمه فمنها الهتماء وهي التي ذهبت ثنياها من أصلها قاله جماعة وفي "التلخيص": هو قياس المذهب وقال الشيخ تقي الدين هي التي سقط بعض أسنانها تجزئ في أصح الوجهين.
وكذا لا تجزئ عصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها قاله في "المستوعب" و"التلخيص". ونقل جعفر في الذي يقطع من أليته دون الثلث لا بأس به "وتجزئ الجماء" وهي التي لم يخلق لها قرن لعدم النهي ولأنه لا يخل بالمقصود بخلاف التي ذهب أكثر أذنها والبتراء التي لا ذنب لها ونقل حنبل لا يضحى بها وقطع به في "التلخيص". فلو كان وقطع فوجهان وفي "المغني" و"الشرح": أن الذي قطع منها عضو كالألية لا تجزئ والخصي بلا جب ذكره في "الوجيز" و"الفروع " لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين موجوءين(3/202)
وقال أبو حامد لا تجزئ الجماء والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر وتذبح البقر والغنم ويقول عند ذلك بسم الله والله أكبر
ـــــــ
وعن عائشة نحوه رواه أحمد والموجوء المرضوض الخصيتان سواء قطعتا أو سلتا ولأنه إذهاب عضو غير مستطاب بل يطيب اللحم بزوا له ويسمن بخلاف شحمة العين وفسر ابن البنا الخصي بمن قطع ذكره ولم يوافق عليه ونصه لا يجزئ خصي مجبوب.
"وقال ابن حامد: لا تجزئ الجماء" كالتي أكثر قرنها والفرق واضح
"والسنة نحر الإبل"، للنص ولفعله عليه السلام "قائمة معقولة يدها اليسرى" قاله الأصحاب لأن ابن عمر مر على رجل قد أناخ بدنة لينحرها فقال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم متفق عليه وقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] دال عليه، مع ما حكاه بعض المفسرين في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] أي قياما لكن قال أحمد إذا خشي عليها أناخها ونقل حنبل كيف شاء باركة وقائمة. "فيطعنها بالحربة في الوهدة" بسكون الهاء وهو المطمئن "التي بين أصل العنق والصدر" ولأن عنق البعير طويلة فلو طعن بالقرب من رأسه لحصل له تعذيب عند خروج روحه. "وتذبح البقر"، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 66] "والغنم" لأنه عليه السلام ذبح كبشين وظاهره لو نحر ما يذبح أو عكس جاز لقوله عليه السلام: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل". وعنه أنه يوقف في أكل البعير إذا ذبح ولم ينحر.
"ويقول" بعد توجيه الذبيحة إلى القبلة على جنبها الأيسر "عند ذلك" قال أحمد حين يحرك يده بالذبح "بسم الله والله أكبر" قال ابن المنذر ثبت أنه عليه السلام كان يقول ذلك واختير التكبير هنا اقتداء بأبينا إبراهيم حين أتى بفداء إسماعيل(3/203)
اللهم هذا منك ولك ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم فإن ذبحها بيده كان أفضل فإن لم يفعل استحب له أن يشهدها ووقت الذبح يوم العيد بعد الصلاة أو قدرها
ـــــــ
"اللهم هذا منك ولك"، لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح يوم العيد كبشين ثم قال حين وجههما: "بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك" رواه أبو داود ولا بأس أن يقول اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك أو من فلان نص عليه واختاره الشيخ تقي الدين أنه يقرأ وقت الذبح: "وجهت وجهي..." إلى قوله: {وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} قال الخرقي وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن لأن النية تجزئ قال في "الشرح": بغير خلاف.
ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم لأنها قربة وطاعة فلا يليها غير أهل القرب وظاهره أنه لو ذبحها غيره ممن يباح ذبحه جاز في الأصح لأنه يجوز له ذبح غير الأضحية فكذا هي كالمسلم يؤيده أن الكافر يجوز أن يتولى ما هو قربة للمسلم كبناء المساجد.
وعنه المنع لحديث ابن عباس المرفوع: "ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر" ولتحريم الشحوم علينا في رواية فكان بمنزلة إتلافه وعنه في الإبل خاصة وجزم به الشيرازي وصاحب "الوجيز"، قال الزركشي: ومحل الخلاف على القول بحل الشحوم فإن قلنا بتحريمها فلا يلي الكتابي بلا نزاع وأجاب في "المغني" و"الشرح": بأنا لا نسلم تحريم الشحوم علينا بذبحهم وحديث المنع محمول على كراهة التنزيه فعلى المذهب تعتبر نية المسلم إذن فإن كانت معينة لم يشترط نظرا للتعيين لا تسمية المضحى عنه.
"فإن ذبحها بيده كان أفضل" لأنه عليه السلام نحر هديه ثلاثا وستين بدنة وضحى بكبشين ذبحهما بي ده لأن فعل القرب أولى من الاستنابة فيها "فإن لم يفعل، استحب أن يشهدها" نص عليهما لقوله عليه السلام لفاطمة: "احضري أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها". وعن ابن عباس نحوه.
"و"أول "وقت الذبح: يوم العيد بعد الصلاة" أي: صلاة العيد "أو قدرها" في(3/204)
ـــــــ
حق من لم يصل وجزم به أكثرهم فظاهره أنه إذا مضى أحد الأمرين دخل وقت الذبح إذا مضى قدر الصلاة الثانية.
وظاهره: ولو سبقت صلاة الإمام ولا فرق فيه بين أهل الأمصار والقرى ممن يصلي العيد وغيرهم لأنها عبادة يتعلق أجرها بالوقت فتعلق أولها به كالصوم فعلى هذا إذا ذبح بعد الصلاة قبل الخطبة أو بعد قدر الصلاة وقيل قدر الخطبة أجزأه لعدم اشتراط مضي الخطبة أو قدرها لأنها سنة.
وظاهر كلام أحمد أن من كان في المصر لا يضحي حتى يصلي وقاله الأكثر منهم القاضي وعامة أصحابه لما روى جندب بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى" فظاهره: اعتبار نفس الصلاة خلافا لـ"لشرح"، لأنه عليه السلام علق المنع على فعل الصلاة.
وعنه: يعتبر معها الفراغ من الخطبة وهي اختياره في "الكافي" وفي "المغني" و"الشرح": أنها ظاهر كلامه لأنها كالجزء من الصلاة.
وعنه: يعتبر مع ذلك ذبح الإمام لأمره عليه السلام من كان نحر قبله أن يعيد ينحر آخر رواه أحمد من حديث جابر واعتبر الخرقي أن يمضي منه مقدار صلاة العيد وخطبته وحكاه بعضهم رواية لأن الصلاة تتقدم وتتأخر وقد يفعل وقد لا يفعل فأنيط الحكم به وأما المقيم بموضع لا يلزمه قدر ذلك فعلى الخلاف وفي "الترغيب": هو كغيره في الأصح. واعتبر في "المغني" أن يكون قدر صلاة وخطبة بآيتين وذكر الزركشي احتمالا أنه يعتبر ذلك بمتوسطي الناس هذا كله في اليوم الأول وأما الآخران فيجوز في أولهما لدخول الوقت وإذا اعتبر كصلاة الإمام فإذا صلى في المصلى واستخلف من صلى بهم في المسجد فالعبرة بالأسبق فإن فات العيد بالزوال ضحى إذن وقال ابن عقيل يتبع الصلاة قضاء كما يتبعه أداء ما لم يؤخر عن أيام الذبح فيتبع الوقت ضرورة.
فرع: إذا ذبح قبل وقته صنع به ما شاء وقيل حكمه كأضحية.(3/205)
إلى آخر يومين من أيام التشريق ولا تجزئ في ليلتهما في قول الخرقي وقال غيره يجزئ فإن فات الوقت ذبح الواجب قضاء
ـــــــ
"إلى آخر يومين من أيام التشريق" قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من الصحابة لأنه عليه السلام نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ويستحيل أن يباح ذبحها إلى وقت يحرم أكلها فيه ونسخ أحد الحلين لا يلزم منه رفع الآخر.
وفي "الإيضاح"، واختاره الشيخ تقي الدين آخره آخر أيام التشريق لقوله عليه السلام: "أيام منى كلها منحر". وأفضله أول يوم ثم ما يليه وخصها ابن سيرين يوم النحر خاصة لأنها وظيفة عيد وقاله سعيد بن المسيب وجابر بن زيد في أهل الأمصار.
وأغرب منه ما روى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار: أنها تجوز إلى المحرم.
"ولا تجزئ في ليلتهما في قول الخرقي"، هو رواية عن أحمد اختارها الخلال وجزم بها في الوجيز لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] وقد روي عنه عليه السلام نهى عن الذبح ليلا رواه أبو داود في "مراسيله" عن عطاء بن يسار لكن فيه مبشر بن عبيد وهو متروك "وقال غيره" منهم أبو بكر والقاضي وأصحابه وصاحب "التلخيص": "تجزئ" نص عليه قال في "الشرح" اختاره أصحابنا المتأخرون لأن الليل يصح به الرمي وداخل في مدة الذبح فجاز فيه كالأيام فعلى الأول إن ذبح ليلا لم يجزئه لكن في الواجب يلزمه البدل وفي التطوع ما سبق وعلى الثاني يجزئ مع الكراهة لأن الليل يتعذر فيه تفرقة اللحم فتذهب طراوته فيفوت بعض المقصود.
"فإن فات الوقت ذبح الواجب قضاء" وصنع به ما يصنع بالمذبوح في وقته لأن حكم القضاء كالأداء ولا يسقط بفواته لأن الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كما لو ذبحها ولم يفرقها حتى خرج الوقت.(3/206)
وسقط التطوع. ويتعين الهدي بقوله: هذا هدي أو تقليده أو إشعاره مع النية. والأضحية بقوله: هذه أضحية. ولو نوى حال الشراء، لم يتعين بذلك. وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها.
ـــــــ
"وسقط التطوع"، لأن المحصل للفضيلة الزمان وقد فات فلو ذبحه وتصدق به كان لحما تصدق به لا أضحية في الأصح قاله في "التبصرة".
"ويتعين الهدي بقوله: هذا هدي"، لأنه لفظ يقتضي الإيجاب فوجب أن يترتب عليه مقتضاه "أو تقليده أو إشعاره مع النية" وبه قال النووي وإسحاق لأن الفعل مع النية كاللفظ إذا كان الفعل دالا على المقصود كمن بنى مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه.
ولم يذكر في "الكافي" النية قال في "الفروع": وهو أظهر وقدم في "المستوعب" و"الرعاية" أنه لا يتعين إلا بالقول.
"والأضحية بقوله: هذه أضحية" كالهدي وكالعتق وكذا يتعين بقوله هذا لله فيهما لأنه دال عليه "ولو نوى حال الشراء لم يتعين بذلك"، لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف وقال المجد ظاهر كلام أحمد أنها تصير أضحية إذا اشتراها بنيتها كما يتعين الهدي بالإشعار.
فرع: إذا قال لله علي ذبح هذه الشاة ثم أتلفها ضمنها لبقاء المستحق لها وإن قال لله علي أن أعتق هذا العبد ثم أتلفه لم يضمنه لأن القصد من العتق تكميل الأحكام وهو حق للعبد وقد هلك.
"وإذا تعينت لم يجز بيعها ولا هبتها" لأنه عليه السلام نهى أن يعطى الجازر شيئا منها فلأن يمنع من بيعها من باب أولى ولأنه جعل ذلك لله تعالى أشبه العتق والوقف والمذهب كما نقله الجماعة أنه يجوز نقل الملك فيه وشراء خير منها وذكر ابن الجوزي أنه المذهب لأنه عليه السلام أشرك عليا في هديه،(3/207)
إلا أن يبدلها بخير منها وقال أبو الخطاب لا يجوز أيضا.
ـــــــ
وهو نوع منهما.
ولأنه يجوز الإبدال فكذا البيع والمذهب عند جماعة ما ذكره المؤلف هنا وأجابوا بأنها تعين ذبحها فلم يجز بيعها كما لو نذر أن يذبحها بعينها ولأنه يجوز إبدال المصحف دون بيعه وعن الحديث بأنه يحتمل أنه أشركه فيه قبل إيجابه أنه جاء ببدن فاشتركا في الجميع أو أشركه في ثوابها.
"إلا أن يبدلها بخير منها" نص عليه اختاره الخرقي والمؤلف وصاحب "المنتخب" نظرا لمصلحة الفقراء ولأنه بلا ريب عدل عن المعين إلى خير منه في حقه فجاز كما لو أخرج حقة عن بنت لبون وظاهره أنه لا يجوز بدونها لما فيه من تفويت حرمتها ولا بمثلها واختاره الخرقي وغيره لعدم الفائدة والثاني يجوز لأن الواجب لم ينقص.
وحيث جاز بيعها فهل ذلك لمن يضحي كما قاله الشيرازي وصاحب "التلخيص". أو مطلقا كما هو ظاهر كلام القاضي فيه قولان وعليهما يشتري خيرا منها قاله أبو بكر وحكى المؤلف عن القاضي أنه يجوز شراء مثلها.
"وقال أبو الخطاب: لا يجوز أيضا"، لما روى ابن عمر قال أهدي عمر نجيبا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أهديت نجيبا فأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال: "لا، انحرها" رواه أحمد والبخاري في "تاريخه". ولأنه نوع تصرف فلم يجز كالبيع
والخلاف مبني على أصل وهو أنه إذا أوجب أضحية لم يزل ملكه عنها نص عليه وهو قول الأكثر وقال أبو الخطاب يزول فعلى هذا لو عينه ثم علم عيبه لم يملك الرد ويملكه على الأول وعليهما إن أخذ أرشه فهل هو له أو لزائد على القيمة فيه وجهان ولو بان مستحقا بعد تعيينه لزمه بدله نقله علي بن سعيد قال في "الفروع" ويتوجه فيه كأرش.
فرع: إذا عينها ثم مات وعليه دين لم يجز بيعها فيه مطلقا خلافا للأوزاعي(3/208)
وله ركوبها عند الحاجة ما لم يضربها فإن ولدت ذبح ولدها معها ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ويجز صوفها ووبرها ويتصدق به إن كان أنفع لها.
ـــــــ
"وله ركوبها"، لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال: "اركبها" قال: إنها بدنة فقال: "اركبهاط في الثانية أو الثالثة متفق عليه. "عند الحاجة" إلى ظهرها لأن في بعض الروايات: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" رواه مسلم. وقال أحمد: لا يركبها إلا عند الضرورة وعنه يجوز مطلقا قطع به في "المستوعب" وغيره، "ما لم يضر بها"، لما في ذلك من ضرر الفقراء وهو غير جائز فإن نقصها الركوب ضمن النقص وظاهر كلام جماعة إن ركبها بعد الضرورة ونقص ضمن.
"فإن ولدت" المعينة "ذبح ولدها معها" سواء عينها حاملا أو حدث بعده لما روي عن علي أن رجلا سأله فقال يا أمير المؤمنين إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها وإنها وضعت هذا العجل فقال لا تحلبها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم الأضحي فاذبحها وولدها عن سبعة رواه سعيد والأثرم ولأنه صار أضحية على وجه التبع لأمه فلم يتقدم به ولم يتأخر كأمه وعلم منه أن الحمل لا يمنع الإجزاء.
مسألة: إذا كان هديا وتعذر حمله وسوقه فكهدي عطب.
"ولا يشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها"، لما ذكرنا ولأن شرب الفاضل لا يضر بها ولا بولدها فكان كالركوب بخلاف شرب غير الفاضل فإنه يحرم للضرر ويتعذر به فإن شربه ضمنه لتعديه بأخذه. "ويجز صوفها ووبرها ويتصدق به إن كان أنفع لها" مثل كونه في زمن الربيع فإنه تخف بجزه وتسمن لأنه لمصلحتها ويتصدق به كما بعد الذبح زاد في "المستوعب": ندبا وفي "الروضة": يتصدق به إن كانت نذرا وظاهره إذا كان بقاؤه أنفع لها لكونه يقيها البرد أو الحر أو كان لا يضر بهما لقرب مدة الذبح لم يجز كأخذ بعض أعضائها(3/209)
ولا يعطي الجازر بأجرته شيئا منها وله أن ينتفع بجلدها وجلها ولا يبيعه ولا شيئا منها وإن ذبحها فسرقت فلا شيء عليه
ـــــــ
"ولا يعطى الجازر بأجرته شيئا منها" قاله الأصحاب لقول علي أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ولا أعطي الجازر شيئا منها وقال: "نحن نعطيه من عندنا" متفق عليه ولأن ذلك بمنزلة المعاوضة وهي غير جائزة فيها وظاهره أنه إذا دفع إليه منها لا على سبيل الأجرة كالهدية جاز لأنه يساوي غيره وزاد عليه بمباشرته لها وتتوق نفسه إليها قال الزركشي وبهذا المعنى يتخصص عموم الحديث ولو قيل بعمومه سدا للذريعة كان حسنا. وفيه شيء.
"وله أن ينتفع بجلدها" بغير خلاف، لأنه جزء من الأضحية كلحمها وقد روي عن علقمة ومسروق أنهما كانا يدبغان جلد أضحيتهما ويصليان عليه "وجلها"، لأنه إذا جاز الانتفاع بالجلد فهو أولى أو يتصدق بهما لقوله: "ولا يبيعه ولا شيئا منها" هذا هو المعروف من المذهب لقوله عليه السلام في حديث قتادة بن النعمان: "ولا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي وتصدقوا واستمتعوا بجلودها" قال أحمد: سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى وسواء كانت واجبة أو تطوعا لأنها تعينت بالذبح وعنه يجوز بيع الجلد والتصدق بثمنه روي عن ابن عمر وعن أحمد ويشتري أضحية وعنه يكره وعنه يجوز ويشتري به آلة البيت كالغربال ونحوه لا مأكولا وعنه يحرم بيع جلد شاة فقط اختاره الخلال ولعله اعتمد على أثر ونقل جماعة لا ينتفع بما كان واجبا قال في "الفروع": ويتوجه أنه المذهب فيتصدق به ونقل الأثرم وحنبل بثمنه واستثنى جماعة الجل.
"وإن ذبحها فسرقت فلا شيء عليه" ما لم يفرط نص عليه لأنها أمانة في يده فلم تضمن بالسرقة كالوديعة وإن فرط ضمن القيمة يوم التلف يصرف في مثله كما يأتي.(3/210)
وإن ذبحها ذابح في وقتها بغير إذن أجزأت ولا ضمان على ذابحها وإن أتلفها أجنبي فعليه قيمتها وإن أتلفها صاحبها ضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها فإن ضمنها بمثلها وأخرج فضل القيمة جاز ويشتري به شاة أو سبع بدنة فإن لم يبلغ اشترى به لحما وتصدق به
ـــــــ
"وإن ذبحها ذابح في وقتها بغير إذن أجزأت" لأن الذبح لا يفتقر إلى نية فإذا فعله الآخر أجزأ كغسل النجاسة وسواء نوى عن الناذر أو أطلق وإن نواها عن نفسه مع علمه أنها أضحية الغير لم يجزئه وإلا أجزأت إن لم يفرق الذابح لحمها.
"ولا ضمان على ذابحها" لأنها وقعت موقعها كما لو أذن صاحبها ولإذنه عرفا أو إذن الشرع وإلا فروايتان في الإجزاء وعدمه فإن لم تجزئ ضمن الذابح ما بين كونها حية إلى مذبوحة ذكره في "عيون المسائل" بخلاف من ثبت في ذمته فذبح عنه من غنمه لا تجزئ وعلى عدم الإجزاء يعود ملكا وقيل يعتبر على رواية الإجزاء أن يلي ربها تفرقتها وإلا ضمن الأجنبي قيمة لحم.
"وإن أتلفها أجنبي، فعليه قيمتها"، لأنها من المتقومات وتعتبر القيمة يوم التلف. "وإن أتلفها صاحبها ضمنها بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها" هذا قول أبي الخطاب وأكثر أصحاب القاضي لأنه حق تعلق به حق الله في ذبحها فوجب عليه أكثر القيمتين من الإيجاب إلى التلف فلو كانت قيمتها يوم التلف خمسة فغلت الغنم فلم يحصل مثلها إلا بأكثر من ذلك لزمه مثلها ولو كانت قيمتها عشرة رخصت بحيث يحصل بدونه لزمته العشرة والوجه إسقاط همزة "أو" فإن صح ثبوتها كانت بمعنى الواو وفي "التبصرة": يلزمه أكثر القيمتين من الإيجاب إلى النحر وقيل من التلف إلى وجوب النحر جزم به الحلواني والمذهب أنه يلزمه القيمة يوم التلف تصرف في مثله كالأجنبي وكسائر المضمونات.
فعلى ما ذكره المؤلف: "فإن ضمنها بمثلها وأخرج فضل القيمة جاز ويشتري به شاة" إن أمكن "أو سبع بدنة" لأن الذبح مقصود في الأضحية فإذا أمكنه الإتيان به لزمه. "فإن لم يبلغ اشترى به لحما وتصدق به" هذا وجه لأن الذبح وتفرقة(3/211)
أو يتصدق بالفضل فإن تلفت بغير تفريطه لم يضمنها وإن عطب الهدي في الطريق نحره في موضعه وصبغ نعله التي في عنقه في دمه وضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء فيأخذوه ولا يأكل منه هو ولا أحد من رفقته
ـــــــ
اللحم مقصودان فإذا تعذر أحدهما تعين الآخر، "أو يتصدق بالفضل" قدمه في "الفروع" وهو أرجح لأنه إذا لم يحصل له التقرب بالإراقة كان اللحم وعنه سواء وظاهر كلام المؤلف أنه مخير بين الأمرين لأن كلا منهما محصل للمقصود. "فإن تلفت بغير تفريطه لم يضمنها" صاحبها لما تقدم من كونها أمانة في يده كالوديعة.
فرع: اثنان ضحى كل منهما عن نفسه بأضحية الآخر غلطا أجزأتهما ولا ضمان استحسانا. والقياس ضدهما، ذكره القاضي وغيره.
"وإن عطب الهدي في الطريق" قال جماعة أو خاف عطبه لزمه "نحره في موضعه و" يستحب "صبغ نعله التي في عنقه في دمه وضرب بها صفحته" أي: صفحة سنامها، "ليعرفه الفقراء فيأخذوه ولا يأكل منه هو ولا أحد من رفقته" لما روى ابن عباس أن أبا قبيصة حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول: "إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت و لا أحد من أهل رفقتك" رواه مسلم. وإنما منع السائق ورفقته من أكلها لئلا يقصر في حفظها فيعطبها ليتناول هو ورفقته منها زاد في "الروضة": ولا يدل عليه وظاهره ولو مع نفره وأباحه له جماعة وهو ظاهر وأباحه مالك لرفقته ولسائر الناس لحديث ناجية بن كعب صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثل حديث ابن عباس وفيه: "ثم خل بينه وبين الناس" فدل على تسوية الرفقة بالأجانب قال ابن عبد البر هذا أصح من حديث ابن عباس وعليه العمل عند الفقهاء وفيه نظر لأن حديث ابن عباس في "صحيح مسلم" وهو متضمن لمعنى خاص يجب تقديمه على عموم ما يخالفه والتسوية غير معتبرة لأن الإنسان يشفق على رفقته ويحب التوسعة عليهم حتى يوسع عليهم من مؤنته والشافعي وأحمد قد خالفا في ذلك.(3/212)
وإن تعيبت ذبحها وأجزأته إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين كالفدية والمنذور في الذمة فإن عليه بدلها و هل له استرجاع هذا العاطب والمعيب على روايتين.
ـــــــ
وعلى الأول لو أكل منها أو أطعم غنيا أو رفقته ضمنه بمثله لحما بخلاف ما لو أمره بالأكل منها أو أطعم منها فقيرا
فرع: هدي التطوع دون محله إن دامت نيته فيه قبل ذبحه فكذلك وإن فسخها قبل ذبحه صنع به ما شاء كبقية ماله.
"وإن" أوجب أضحية سليمة ثم "تعيبت" عنده "ذبحها، وأجزأته" نص عليه فيمن جر بقرة إلى المنحر بقرنها فانقلع كتعيينه معيبا فبرأ لما روى أبو سعيد قال ابتعنا كبشا نضحي به فأصابه الذئب من أليته فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نضحي به رواه ابن ماجه ولأنه عيب حدث بها فلم يمنع الإجزاء كالعيب الحادث بمعالجة الذبح فلو تعيبت بفعله لزمه بدلها.
"إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين كالفدية" من الدماء الواجبة في النسك بترك واجب أو فعل محظور "والمنذور في الذمة" فشمل قسمين ما وجب بغيره وما وجب بالنذر "فإن عليه بدلها" لأن عليه دما سليما ولم يوجد ذلك فلم يجزئه وكما لو كان لرجل عليه دين فاشترى منه مكيلا فتلف قبل قبضه انفسخ البيع عاد الدين إلى ذمته ويلزمه أفضل مما في الذمة إن كان تلفه بتفريطه فلو ولدت فهل يتبعها الولد كما تبعها ابتداء فيبطل التعيين فيه أو لا لأن البطلان في الأم لمعنى اختص بها فيه وجهان.
"وهل له استرجاع هذا العاطب والمعيب؟ على روايتين" كذا في "المحرر": أصحهما ليس له استرجاع ذلك إلى ملكه لأنه تعلق به حق الفقراء بتعيينه فلزمه ذبحه كما لو عينه بنذره ابتداء والثانية له استرجاعه إلى ملكه فيصنع به ما شاء وهو ظاهر الخرقي وجزم به في "الوجيز"، لأنه إنما عينه عما في ذمته فإذا لم يقع عنه عاد إلى صاحبه كمن أخرج زكاة فبان أنها غير واجبة(3/213)
وكذلك إن ضلت فذبح بدلها ثم وجدها.
فصل:
سوق الهدي مسنون لا يجب إلا بالنذر.
ـــــــ
"وكذلك إن ضلت فذبح بدلها ثم وجدها" أي فيها الخلاف السابق للمساواة والمذهب ذبحه مع ذبح الواجب روي عن عمر وابنه وابن عباس لأن عائشة أهدت هديين وأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما ثم عاد الضالان فنحرتهما وقالت: هذه سنة الهدي رواه الدارقطني.
تنبيه: إذا ذبحه عما في ذمته فسرق سقط الواجب نقله ابن منصور لأن التفرقة لا تلزمه بدليل تخليته بينه وبين الفقراء وإذا عطبت شاة فذبحها عما في ذمته لم تجزئه وإن رضي مالكها سواء عوضه عنها أو لم يعوضه.
مسألة: لا يبرأ في الهدي إلا بذبحه أو نحره فإن لم يفعل وكل فإن ذبحه إنسان بغير إذنه ففيه خلاف سبق فلو دفعه إلى الفقراء سليما فذبحوه جاز لحصول المقصود فإن لم ينحروه استرده منهم ونحره فإن تعذر ضمنه لأنه فوته بتفريطه فإن ذبحه ولم يدفعه للفقراء جاز لهم الأخذ منه إما بالإذن نطقا كقوله من اقتطعه أو بدلالة الحال كالتخلية بينهم وبينه.
فصل
"سوق الهدي مسنون"، لما روى ابن عمر قال تمتع صلى الله عليه إلى الحج فساق الهدي من ذي الحليفة متفق عليه "لا يجب إلا بالنذر" لقوله عليه السلام "من نذر أن يطيع الله فليطعه" ، ولأنه سنة وطاعة فوجب به كسائر نذر الطاعات ويصير للحرم وكذا إن نذر سوق أضحية إلى مكة أو لله علي أن أذبح بها وإن جعل دراهم فللحرم نقله المروذي وإن عين شيئا لغير الحرم ولا معصية فيه تعين به ذبحا وتفريقا لفقرائه.(3/214)
ويستحب أن يقفه بعرفة ويجمع فيه بين الحل والحرم ولا يجب ذلك ويسن إشعار البدنة وهو أن يشق صفحة سنامها حتى يسيل الدم ويقلدها أو يقلد الغنم النعل وآذان القرب والعرى وإن نذر هديا مطلقا فأقل ما يجزئه شاة أو سبع بدنة وإن نذر بدنة أجزأته بقرة
ـــــــ
"ويستحب أن يقفه بعرفة ويجمع فيه بين الحل والحرم"، لفعله عليه السلام "ولا يجب ذلك" لأن المقصود الإراقة وهو حاصل بدون ذلك وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ونحوه عن سعيد بن جبير.
"ويسن إشعار البدنة وهو أن يشق صفحة سنامها حتى يسيل الدم ويقلدها" هذا قول أكثر العلماء لما روت عائشة قالت: فتلت قلائد هدي النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشعرها وقلدها متفق عليه ويشعر البقر لأنها من البدن ولأنه لغرض صحيح فهو كالكي. وفائدته: أنها تعرف عند الاختلاط ويتوقاها اللص بخلاف التقليد فإنه ينقل أو عروة فينحل ويذهب والمراد بصفحة السنام اليمنى على المذهب أو محله إن لم يكن وعنه اليسرى روي عن ابن عمر وعنه يخير والأول أولى لحديث ابن عباس وظاهره أنه لا يشعر غير السنام وفي "الفصول": عن أحمد خلافه ونقل حنبل لا ينبغي أن يسوق حتى يشعره ويجلله بثوب أبيض.
"ويقلد الغنم النعل وآذان القرب والعرى" لقول عائشة رواه البخاري ولأنها هدي فسن تقليدها كالإبل بل أولى إذ ليس لها ما يعرف به وظاهره أنها لا تشعر لعدم نقله ولأنها ضعيفة والشعر يستر موضعه قال أحمد البدن تشعر والغنم تقلد.
"وإن نذر هديا مطلقا" كقوله: لله تعالى على هدي "فأقل ما يجزئه شاة أو سبع بدنة" لأن المطلق في النذر يجب حمله على المعهود الشرعي والهدي الواجب في الشرع من النعم ما ذكره لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}. "وإن نذر بدنة أجزأته بقرة"، لإجزاء كل منهما عن سبعة ولموافقتها لها اشتقاقا وفعلا.(3/215)
فإن عين بنذره أجزأه ما عينه صغيرا كان أو كبيرا من الحيوان و غيره وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم إلا أن يعينه بموضع سواه ويستحب أن ياكل من هديه
ـــــــ
"فإن عين بنذره" بأن قال هذا لله علي "أجزأه ما عينه صغيرا كان أو كبيرا" سليما كان أو مريضا لأن لفظه لم يتناول غيره فيبرأ بصرفه إلى مستحقه "من الحيوان" سواء كان من بهيمة الأنعام أو من غيرها فلو نذر جذعة وأخرج ثنية فقد أحسن "وغيره" سواء كان منقولا أو غيره لقوله عليه السلام "من راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة".
"وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم" لأنه سماه هديا فيحمل على المشروع لقوله تعالى: { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ولا فرق بين المعين والمطلق وهو ظاهر في المنقول نقل المروذي فيمن جعل دراهم هديا فللحرم وفي "التعليق" و"المفردات" وهو ظاهر "الرعاية" له يبعث عن المنقول وقال ابن عقيل أو يقومه ويبعث القيمة وأما غير المنقول كالعقار ونحوه باعه وبعث بثمنه إليهم لتعذر إهدائه بعينه فانصرف إلى بدله يؤيده ما روي عن ابن عمر أن رجلا سأله عن امرأة نذرت أن تهدي دارا فقال تبيعها وتصدق بثمنها على فقراء الحرم.
"إلا أن يعينه بموضع سواه" إذا لم يكن معصية لما روى أبو داود أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني نذرت أن أذبح بالأبواء قال "بها صنم؟" قال لا قال: "أوف بندرك". ولأنه قصد نفع أهله فكان عليه إيصاله إليهم كأهل مكة فعلى هذا يتعين به ذبحا وتفرقة لفقرائه.
"ويستحب أن يأكل من هديه" التطوع، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 36]، ولأنه عليه السلام أكل من بدنه وفي "المغني" و"الشرح": لا فرق في الهدي بين ما أوجبه بالتعيين من غير أن يكون واجبا في ذمته وبين ما ذبحه تطوعا لاشتراك الكل في أصل التطوع فإن أكلها كلها ضمن المشروع(3/216)
ولا يأكل من واجب إلا من دم المتعة والقران
ـــــــ
للصدقة كالأضحية وذكر ابن عقيل أن في الأكل والتفرقة كالأضحية وإن لم يأكل منها فحسن وأوجب بعض العلماء الأكل منه لظاهر الأمر.
"ولا يأكل من واجب" لأنه وجب بفعل محظور أشبه جزاء الصيد لكن اختار أبو بكر والقاضي والمؤلف الأكل من أضحية النذر كالأضحية على رواية وجوبها في الأصح، "إلا من دم المتعة والقران" نص عليه واختاره الأكثر لما صح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تمتعن معه في حجة الوداع وأدخلت عائشة الحج على العمرة حين حاضت فصارت قارنة ثم ذبح عنهن البقر فأكلن من لحمها وقد ثبت أنه عليه السلام أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل هو وعلي من لحمها وشربا من مرقها رواه مسلم
ولأنهما دم نسك أشبها التطوع وظاهر "الخرقي": لا يأكل من قران واعتذر عنه الزركشي بأنه استغنى بذكر التمتع عنه وليس بظاهر وقال الأجري ولا من دم متعة وقدمه في "الروضة". وعنه: يأكل إلا من نذر أو جزاء صيد لأنه جعله لله وجزاء الصيد بدل متلف وزاد ابن أبي موسى وكفارة.
فرع: ما ملك أكله فله هديه وإلا ضمنه بمثله كبيعه وإتلافه ويضمنه أجنبي بقيمته وإن منع الفقراء منه حتى أنتن ففي "الفصول": عليه قيمته كإتلافه وفي "الفروع": يتوجه: يضمن نقصه.
فائدة: ذكر الشيخ تقي الدين أن كل ما ذبح بمكة سمي هديا وما ذبح بمنى وقد سيق من الحل إلى الحرم هدي وأضحية وما اشتراه بعرفات وساقه إلى منى فهو هدي باتفاق العلماء وكذا ما اشتراه من الحرم وذهب به إلى التنعيم وإن اشتراه بمنى وذبحه بها نص ابن عمر ليس بهدي وعن عائشة وما ذبح يوم النحر بالحل أضحية لا هدي.(3/217)
فصل:
والأضحية سنة مؤكدة ولا تجب إلا بالنذر وذبحها هي والعقيقة أفضل من الصدقة بثمنها والسنة أن يأكل ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها.
ـــــــ
فصل
"والأضحية سنة مؤكدة" في قول أكثر العلماء لأنه عليه السلام فعلها وحث عليها وعن ابن عباس مرفوعا: "ثلاث كتبن علي وهن لكم تطوع: الوتر والنحر وركعتا الفجر" رواه الدارقطني. ولقوله عليه السلام: "من أراد أن يضحي" فعلقه على الإرادة والواجب لا يعلق عليها وفيه شيء لقوله: "من أراد الجمعة فليغتسل" ولم يدل على عدم الوجوب. ولأنها ذبيحة لم يجب تفريق لحمها فلم تكن واجبة كالعقيقة.
وعنه: واجبة اختارها أبو بكر لقوله عليه السلام: "من كان له سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا". وعنه يجب على حاضر وعنه في المقيم يضحي وعنه وليه إذا كان موسرا فأخذ منها أبو الخطاب الوجوب وليس كذلك لأن هذا على سبيل التوسعة لا الإيجاب.
أصل: المضحي مسلم تام ملكه ولو مكاتبا بإذن سيده وفيه وجه بمنعه لأنه تبرع وهو ممنوع منه ومن نصفه حر إن ملكها بجزئه الحر فله أن يضحي مطلقا إلا النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عليه واجبة.
"ولا تجب إلا بالنذر" كالهدي وله الأكل منها جزم به جماعة وظاهر كلام أحمد منعه منه كالهدي المنذور والفرق واضح. "وذبحها هي والعقيقة أفضل من الصدقة بثمنها"، لأنه عليه السلام والخلفاء بعده واظبوا عليها وعدلو عن الصدقة بثمنها وهم لا يواظبون إلا على الأفضل وهي عن ميت أفضل ويعمل بها كأضحية الحي.
"والسنة: أن يأكل ثلثها ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها" نص عليه لقول ابن(3/218)
فإن أكل أكثر جاز وإن أكلها كلها ضمن اقل ما يجزئ الصدقة منها ومن أراد أن يضحي ودخل العشر فلا يأخذ من شعره وبشرته شيئا وهل ذلك حرام على وجهين.
ـــــــ
عمر: الهدايا والضحايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين وهو قول ابن مسعود ولم يعرف لهما مخالف في الصحابة لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ} [الحج: 36] والمعتر الحج فالقانع السائل والمعتر الذي يعتر بك أي يتعرض لك لتطعمه ولا يسأل وقال إبراهيم وقتادة القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسأل والمعتر السائل وفاقا لأبي حنيفة فيقسم أثلاثا و أوجبه أبو بكر والمشروع أن يأكل الثلث ولو قيل بوجوبها وأن يهدي الثلث ولو لكافر إن كانت تطوعا وأن يتصدق بثلثها ما لم يكن ليتيم ومكاتب.
"فإن أكل أكثر جاز" حتى لو لم يبق منها إلا أوقية لأن الأمر بالأكل والإطعام مطلق فيخرج عن العهدة بصدقة الأقل. "وإن أكلها كلها ضمن أقل ما يجزئ من الصدقة منها" للأمر بالإطعام منها فعلى هذا يضمنه بمثله لحما وهو الأوقية وقيل العادة وقيل الثلث وحكاه أبو الخطاب منصوص أحمد ويتوجه لا يكفي التصدق بالجلد والقرن.
فرع: يعتبر تمليك الفقير فلا يكفي إطعامه ويجوز ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث في قول الأكثر وتحريمه منسوخ نص عليه وفي الفروع ويتوجه احتمال لا في مجاعة لأنه سبب تحريم الادخار.
"ومن أراد أن يضحي" أو يضحى عنه "ودخل العشر فلا يأخذ من شعره وبشرته" وظفره "شيئا" لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره وبشرته شيئا حتى يضحي" وفي لفظ: "ولا من أظفاره" ، رواهما مسلم "وهل ذلك حرام على وجهين": أحدهما يحرم وهو ظاهر ما نقله الأثرم وقدمه في "الفروع" وجزم به في "الوجيز" وقاله سعيد بن المسيب وإسحاق لأن ظاهر النهي التحريم وللتشبه بالمحرم وفيه نظر لأنه لا يعتزل النساء ولا يترك الطيب واللباس والأولى فيه أن يبقى كامل(3/219)
فصل:
والعقيقة سنة مؤكدة.
ـــــــ
الأجزاء ليعتق من النار والثاني يكره وهو قول القاضي وغيره وقدمه في المحرر لقول عائشة كنت أفتل... الخبر. وكما لو لم يرد أن يضحي والأول أولى إذ لا حكم للقياس معه وحديثنا خاص فيقدم ولعلها إما أرادت ما يتكرر كاللباس وهو قول يتقدم عن الفعل لاحتمال أن يكون خاصا به فعلى المذهب إن فعل استغفر الله تعالى ولا فدية عليه مطلقا ويستحب الحلق بعد الذبح وظاهره ولو كان له ذبائح قال أحمد على ما فعل ابن عمر تعظيما لذلك اليوم ولأنه كان ممنوعا قبله فاستحب له ذلك كالمحرم وعنه لا اختاره الشيخ تقي الدين.
فصل:
"والعقيقة" في الأصل شعر كل مولود من الناس والبهائم الذي يولد وهو عليه قاله الجوهري ونقل الأزهري عن أبي عبيد أن الأصمعي قال هي الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد وسميت الشاة المذبوحة عقيقة على عادتهم من تسمية الشيء باسم سببه ثم اشتهر ذلك فلا يفهم منها عند الإطلاق غيرها.
وأنكر أحمد هذا التفسير قاله ابن عبد البر وفسرها إمامنا بأنها الذبح نفسه لأن أصل العق القطع ومنه عق والديه أي قطعهما والذبح قطع الحلقوم والمريء.
وهو "سنة مؤكدة" في قول الجمهور قال أحمد العقيقة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عق عن الحسن والحسين ونقله أصحابه لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق" فكأنه كره الاسم وقال: "من ولد له مولود فأحب أن ينسك عنه فليفعل" رواه مالك.
وعنه: واجبة اختاره أبو بكر و أبو إسحاق البرمكي و أبو الوفاء وقاله الحسن(3/220)
والمشروع أن يذبح عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة يوم سابعه ويحلق رأسه.
ـــــــ
وداود لما روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه" رواه الخمسة وصححه الترمذي وقال أحمد والنسائي: لم يسمع الحسن منه.
والجواب: بأنه يحمل على تأكد الاستحباب بدليل الأمر بالتسمية والحلق وهي سنة على الأب غنيا كان الولد أو فقيرا.
"والمشروع أن يذبح عن الغلام شاتين"، لما روت أم كرز قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة" رواه أبو داود متكافئتان متقاربتان في السن والشبه نص عليه فإن عدم فواحدة وعليه يحمل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين شاة شاة رواه أبو داود أو لتبيين الجواز.
"وعن الجارية شاة" لحديث أم كرز ولأنها على النصف من أحكام الذكر فإن عدم اقترض قال الشيخ تقي الدين إذا كان له وفاء. "يوم سابعه" قال في "الروضة": في ميلاد الولد. وفي "المستوعب" وغيره: ضحوة وينويها عقيقة وظاهره أن جميع العقيقة تذبح يوم السابع وقال ابن البنا يذبح إحدى الشاتين يوم ولادته والأخرى يوم السابع والأول هو المعروف ويسمى فيه. وفي "الشرح": وإن سماه قبله فحسن وذكر ابن حزم أن المولود إذا مضت له سبع ليال فقد استحق التسمية فقوم قالوا حينئذ وقوم قالوا: حال ولادته.
"ويحلق رأسه" أي: رأس الغلام قال في "النهاية": ورأسها والظاهر أنه مختص بالذكر ويكره لطخه بدم ونقل حنبل سنة لأن في حديث سمرة: "تذبح عنه يوم السابع ويدمى" والأول أولى. قال أحمد: قال ابن أبي عروبة يسمى وقال همام: "يدمى" ما أراه إلا خطأ، وقيل: هو تصحيف من الراوي يعضده أن مهنا ذكر لأحمد حديث يزيد المزني عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يعق عن الغلام ولا يمس رأسه بدم" فقال: ما أظرفه ولأنه يتنجس فلا يستحب لطخه بغيره من النجاسات.(3/221)
ويتصدق بوزنه فضة
ـــــــ
"ويتصدق بوزنه فضة" لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة لما ولدت الحسن: "احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره فضة على المساكين" رواه أحمد قال في "الروضة": ليس في حلق رأسه ووزن شعره سنة وكيدة وإن فعل فحسن والعقيقة هي السنة.
فرع: يؤذن في أذنه حين يولد لأنه عليه السلام أذن في أذن الحسين حين ولد بالصلاة صححه أبو داود وفي "الرعاية": ويقيم في اليسرى ويحنكه بتمر وهو أن يمضغه ويدلك به حنكه للخبر فإن لم يكن تمر فشيء حلو.
فصل
"أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن" ، قاله النبي صلى الله عليه وسلم رواه مسلم.
ويستحب أن يحسن اسمه لقوله عليه السلام: " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم" رواه أبو داود. قال ابن عبد البر قال ابن القاسم: سمعت مالكا، يقول: سمعت أهل مكة يقولون ما من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا ورزق خيرا ولا يكره بأسماء الأنبياء وعن سعيد بن المسبب أنه أحب الأسماء إلى الله تعالى ولا يكره بجبريل وياسين ويكره حرب ومرة وبرة ونافع ويسار وأفلح ونجيح وبركة ويعلى ومقبل ورافع ورباح قال القاضي وكل اسم فيه تفخيم وتعظيم كالملك بخلاف حاكم الحكام وقاضي القضاة لعدم التوقيف وبخلاف الأوحد فإنه يكون في الخير والشر ولأن الملك هو المستحق للملك وحقيقته إما التصرف التام أو التصرف الدائم ولا يصحان إلا لله تعالى ولأحمد اشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الأملاك لا ملك إلا الله.
وأفتى أبو عبد الله الضيمري الحنفي، وأبو الطيب الطبري الشافعي و أبو الحسن التميمي الحنبلي: بالجواز، والماوردي بعدمه وجزم به في "شرح مسلم". ويحرم عبد(3/222)
فإن فات ففي أربع عشرة فإن فات ففي أحد وعشرين.
ـــــــ
العزى وعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبهه حكاه ابن حزم اتفاقا وصح أن النبي صلى الله عليه الاسم إلى آخر فسمى حربا سلما والمضطجع المنبعث وشهابا هشاما وأما اللقب كـ"كمال الدين وشرف الدين" فله تأويل صحيح: أن الدين أكمله وشرفه لا العكس قاله ابن هبيرة.
وبالجملة: من لقب بما يصدقه فعله جاز ويحرم ما لم يقع على مخرج صحيح ويجوز التكني وأن الغرماء الإنسان بأكبر أولاده ويكره بأبي عيسى احتج به أحمد.
وفي "المستوعب" وغيره وبأبي يحيي وهل يكره بأبي القاسم أم لا؟ أم يكره لمن اسمه محمد فقط فيه روايات ولا يحرم ونقل حنبل لا يكنى به واحتج بالنهي فظاهره يحرم ويجوز تكنيته أبا فلان وأبا فلانة وتكنيتها أم فلان وأم فلانة وتكنية الصغير وذكره بعضهم إجماعا.
ولم يذكروا المرخم والمصغر وهو في الأخبار ولقوله عليه السلام "يا عائش" ، "يا فاطم" ولقول أم سليم: يا رسول الله خويدمك أنيس أدع الله له قال في "الفروع": فيتوجه الجواز لكن مع عدم الأولى والغلام والجارية والفتى والفتاة يطلق على الحر والمملوك ولا تقل عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وإماء الله ولا يقل العبد لسيده ربي وفي "مسلم": ولا مولاي فإن مولاكم الله وظاهره التحريم وجزم جماعة بأنه يكره.
"فإن فات" أي الذبح في السابع "ففي أربع عشرة فإن فات ففي إحدى وعشرين" نقله صالح وهو قول إسحاق وروي عن عائشة والظاهر أنها لا تقوله إلا عن توقيف فلو ذبح قبل ذلك أو بعده أجزأ لحصول المقصود لكن ما ذكره هو السنة فإن تجاوز إحدى وعشرين فوجهان:
أحدهما: يستحب في كل سابع فيذبح في ثمان وعشرين ثم في خمس وثلاثين ثم كذلك(3/224)
وينزعها أعضاء ولا يكسر عظمها وحكمها حكم الأضحية
ـــــــ
والثاني وهو الأشهر أنه لا تعتبر الأسابيع بعد الثلاث بل يفعل في كل وقت لأن هذا قضاء فلم يتوقف كالأضحية.
وعنه: يختص بالصغر فإن لم يعق عنه أصلا حتى بلغ وكسب فقال أحمد: ذلك على الوالد يعني لا يعق عن نفسه لأن السنة في حق غيره وذكر في "المستوعب" و"الرعاية" و"الروضة": أنه يعق عن نفسه كما يشرع له فكاك نفسه.
"وينزعها أعضاء" أي: يقطع كل عضو من مفصله تفاؤلا بسلامة أعضاء المولود "ولا يكسر عظمها" لما روى أبو داود في "مراسيله" عن جعفر عن أبيه عن النبي صل الله عليه وسلم قال في العقيقة عن الحسن والحسين: "ابعثوا إلى أهل بيت القابلة برجل وكلوا وأطعموا ولا تكسروا منها عظما". وفي "التنبيه": تعطى القابلة منها فخذا وطبخها أفضل نص عليه فيدعو إليها إخوانه فيأكلوا وفي "المستوعب": ومنه طبخ حلو تفاؤلا.
"وحكمها حكم الأضحية" في سنها وما يجزئ منها وما لا يجزئ وما يستحب فيها من الصفة وما يكره وفي الأكل والهدية والصدقة لأنها نسيكة مشروعة غير واجبة أشبهت الأضحية والمذهب أنه لا يجزئ فيها شرك في دم ولا يجزئ إلا بدنة أو بقرة كاملة نص عليه قال في "النهاية": أفضله شاة وفي "الفروع": يتوجه مثله أضحية وفي إجزاء الأضحية عنها.
وظاهره أنه لا يباع منها شيء ونص أحمد على بيع الجلد والرأس والسواقط والصدقة بثمنه خلاف نصه في الأضحية قال في "الشرح": وهو أقيس بمذهبه لأن الأضحية أدخل منها في التعبد وقال أبو الخطاب يحتمل نقل حكم كل واحدة إلى الأخرى فيكون في كل منهما روايتان قال في "الشرح" وغيره: والفرق بينهما أن الأضحية ذبيحة شرعت يوم النحر أشبهت الهدي والعقيقة شرعت لأجل سرور حادث وتجدد نعمة أشبه الذبح في الوليمة ولأنها لم تخرج عن ملكه فكان له البيع منها والصدقة بثمنه إذ الفضيلة حاصلة بكل منهما.(3/225)
كتاب الجهاد
كتاب الجهاد
...
كتاب الجهاد:
وهو فرض كفاية
ـــــــ
كتاب الجهاد
وهو مصدر: جاهد جهادا ومجاهدة ومجاهد اسم فاعل من أجهد: في قتل عدوه حسب الطاقة والوسع.
وشرعا: عبارة عن قتل الكفار خاصة والأصل فيه قبل الإجماع قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41]. والسنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق " رواه مسلم، وغيره من الأحاديث الصحيحة.
"وهو فرض كفاية" في قول جمهور العلماء لقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} الآية [النساء: 95] فدل على أن القاعد بلا ضرر غير آثم مع جهاد غيره ولقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ومعناه أنه إذا قام به من يكفي سقط عن الكل فيجعل فعل البعض كافيا في السقوط وإن لم يقم به من يكفي أثم الكل كفرض الأعيان فيشتركان في كونه مخاطبا ويفترقان فيما ذكرنا.
وقال سعيد بن المسيب: فرض عين لعموم الآيات والقاعدون كانوا حراسا للمدينة وهو نوع جهاد.
وجوابه ما قلناه مع أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إلى النواحي ويقيم هو وأصحابه وعليه تحمل الأوامر المطلقة والفرض في ذلك موقوف على غلبة الظن فإذا غلب على الظن أن الغير يقوم به كجند لهم ديوان وفيهم كفاية أو قوم أعدوا أنفسهم لذلك وفيهم منعة سقط عن الباقين.(3/226)
ولا يجب إلا على ذكر حر مكلف مستطيع وهو الصحيح الواجد لزاده
ـــــــ
فرع: إذا قام بفرض الكفاية طائفة بعد أخرى فهل توصف الثانية بالفرضية فيه وجهان وكلام ابن عقيل يقتضي أن فرضيته محل وفاق وكلام أحمد محتمل
"ولا يجب إلا على ذكر" لما روته عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: "جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة" رواه البخاري ولأن المرأة ليست من أهل القتال لضعفها وخوفها ولذلك لا يسهم لها والخنثى المشكل كهي لأنه لا يعلم حاله فلا يجب مع الشك في شرطه.
"حر"، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد والعبد على الإسلام دون الجهاد ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد وفرض الكفاية لا يلزم رقيقا وظاهره ولو مبعضا ومكاتبا رعاية لحق السيد وسواء أذن له سيده أم لا.
"مكلف"، لأن الصبي والمجنون لا يتأتى منهما والكافر غير مأمون على الجهاد.
"مستطيع بنفسه"، لأن غير المستطيع عاجز والعجز ينفي الوجوب ثم فسره بقوله: "وهو الصحيح في بدنه" من المرض والعمى والعرج لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح: 17]، ولأن هذه الأعذار تمنعه من الجهاد ففي العمى ظاهر وأما العرج فالمانع منه الفاحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب فإن كان يسيرا لا يمنعه المشي فصرح في "الشرح" بأنه لا يمنع الوجوب وذكره في "المذهب" قولا، وفي "البلغة": يلزم أعرج يسيرا وكذا حكم المرض لكن إن كان خفيفا كوجع الضرس والصداع فلا كالعور وعنه يلزم عاجزا ببدنه في ماله اختاره الآجري والشيخ تقي الدين كحج معضوب وأولى.
"الواجد لزاده" أي القادر على النفقة لقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]، ولأنه لا يمكن إلا بآلة فاعتبرت القدرة عليها وسواء وجد ذلك أو ببذل من الإمام قاله المجد.(3/227)
وما يحمله إذا كان بعيدا وأقل ما يفعل مرة في كل عام إلا أن تدعو حاجة إلى تأخيره ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد أو حصر العدو بلده تعين عليه.
ـــــــ
"وما يحمله إذا كان بعيدا" أي: يعتبر مع البعد وهو مسافة القصر مركوب لقوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} الآية [التوبة: 92]، فدل على أنه لا يعتبر ذلك مع قرب المسافة وإنما المشترط أن يجد الزاد ونفقة عياله في مدة غيبته وسلاح يقاتل به فاضلا عن قضاء دينه وأجرة مسكنه على ما مر في الحج.
"وأقل ما يفعل مرة في كل عام"، لأن الجزية تجب على أهل الذمة مرة في العام وهي بدل عن النصرة فكذا مبدلها فإن مست الحاجة إلى أكثر من مرة وجب قاله الأصحاب. "إلا أن تدعو حاجة إلى تأخيره" كضعف المسلمين من عدد أو عدة أو ينتظر الإمام عددا يستعين بهم أو يكون في الطريق إليهم مانع أو رجاء إسلامهم فيجوز تأخيره في رواية لأنه صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عشر سنين وأخر قتالهم حتى نقضوا العهد وأخر قتال قبائل العرب بغير هدنة وظاهره بهدنة وبغيرها والمذهب أنه لا يؤخر مع القوة والاستظهار لمصلحة رجاء إسلام العدو وهذا رواية ذكرها في "المحرر" و"الفروع". ولا يعتبر امن الطريق فإن وضعه على الخوف.
"ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد أو حصر العدو بلده تعين عليه" وكذا في "الكافي" و"البلغة". فالحاصل: أنه يصير فرض عين في هذين الموضعين أحدهما إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان لقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} الآية [الأنفال: 45] الثاني: إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم كحاضري الصف ولعموم قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} الآية [التوبة: 41] زاد في "الوجيز" و"الفروع": ثالثا، وهو: إذا استنفره من له استنفاره تعين عليه لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] وعن ابن عباس مرفوعا: "وإذا استنفرتم فانفروا" متفق عليه. ولو كان عبدا.(3/228)
أفضل ما يتطوع به الجهاد وغزو البحر أفضل من غزو البر.
ـــــــ
واستثنى في "البلغة" من الموضعين السابقين إلا لأحد رجلين من تدعو الحاجة إلى تخلفه لحفظ الأهل والمال والمكان والآخر من يمنعه الإمام من الخروج ومحل ما ذكره المؤلف ما لم يحدث له مرض أو عمى ونحوهما فإنه يجوز له الانصراف لأنه لا يمكنه القتال ذكره في "المغني" و"الشرح".
فرع: إذا نودي بالصلاة والنفير صلى ثم نفر مع البعد ومع قرب العدو ينفر ويصلي راكبا أفضل ولا ينفر في خطية الجمعة ولا بعد إقامة نص على ذلك.
"وأفضل ما يتطوع به الجهاد" قال أحمد لا أعلم شيئا بعد الفرائض أفضل من الجهاد والأحاديث متضافرة في ذلك فمنها حديث ابن مسعود وحديث أبي هريرة وروى ابن مسعود قال قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: "مؤمن مجاهد في سبيل الله بنفسه وماله" متفق عليه.
"وغزو البحر أفضل من غزو البر"، لحديث أم حرام أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها ثم استيقظ وهو يضحك فقلت ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة" أو: "مثل الملوك على الأسرة" متفق عليه، من حديث أنس.
وعن أبي أمامة الباهلي مرفوعا: "شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وإن الله تعالى وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإن الله تعالى يتولى قبض أرواحهم وشهيد البر يغفر له كل شيء إلا الدين وشهيد البحر يغفر له كل شيء والدين" رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف ولأنه أعظم خطرا ومشقة لكونه بين خطر العدو والغرق إلا مع أصحابه فكان أفضل من غيره.
تنبيه: تكفر الشهادة كل الذنوب غير الدين قال الشيخ تقي الدين وغير مظالم العباد وقال الآجري بعد أن ذكر خبر أبي أمامة هذا في حق من تهاون بقضائه أما إذا لم يمكنه قضاؤه وكان أنفقه في وجهه فإن الله يقضيه عنه مات أو قتل وكذا(3/229)
ويغزو مع كل بر وفاجر ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو وتمام الرباط أربعون يوما وهو لزوم الثغر للجهاد ولا يستحب نقل أهله إليه.
ـــــــ
الأعمال الصغار فقط قال الشيخ تقي الدين وكذا حج لأن الصلاة ورمضان أعظم منه ونقل المروذي بر الوالدين يكفر الصغائر.
"ويغزو مع كل بر وفاجر"، لما روى أبو هريرة مرفوعا: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا" رواه أبو داود، ولأن تركه مع الفاجر يفضي إلى قطعه وظهور الكفار على المسلمين واستئصالهم وإعلاء كلمة الكفر وشرطه أن يحفظ المسلمين لا مخذل ونحوه وفي الصحيح مرفوعا: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". ويقدم القوي منهما. نص عليه.
"ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو" أي: يتعين جهاد المجاور نص عليه لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} الآية [التوبة: 123]، ولأن الأقرب أعظم ضررا إلا لحاجة مثل كون الأبعد أخوف والأقرب مهادنا ومع التساوي فجهاد أهل الكتاب أفضل لأنهم يقاتلون على دين قاله ابن المبارك واستبعده أحمد وحمل على أنه كان متبرعا بالجهاد والكفاية حاصلة بغيره.
"وتمام الرباط أربعون يوما" قاله أحمد وروي عن ابن عمر وأبي هريرة لما روى أبو الشيخ الأصبهاني مرفوعا: " تمام الرباط أربعون يوما" ، وعن أبي هريرة مرفوعا: "من رابط أربعين يوما فقد استكمل الرباط" رواه سعيد. وإن زاد فله أجره وأما أقله فقال المجد والآجري ساعة ونص أحمد على استحبابه وقال أيضا يوم رباط وليلة رباط وهو أفضل من المقام بمكة ذكره الشيخ تقي الدين إجماعا والصلاة بها أفضل نص عليه وقال إذا اختلف في شيء فانظر ما عليه أهل الثغر فإن الحق معهم وهل الجهاد أفضل من الرباط أم لا؟ فيه وجهان.
"وهو لزوم الثغر" وكل مكان يخاف أهله من العدو مأخوذ من رباط الخيل "للجهاد" وأفضله أشده خوفا لأنهم أحوج ومقامهم به أنفع. "ولا يستحب نقل أهله" أي: الأبناء والذرية "إليه"، لأنه مخوف ولا يؤمن من ظفر العدو بمن فيه(3/230)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب.
ـــــــ
واستيلاؤهم على الأهل فتحصل به مفسدة عظيمة، "وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل" رواه أحمد و أبو داود والنسائي من حديث عثمان رضي الله عنه ولأحمد عنه مرفوعا: "جزء من ليلة في سبيل الله أفضل من ألفه ليلة يقام ليلها ويصام نهارها".
تنبيه: تقدم أن أفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفا قيل لأحمد أين أحب إليك أن ينزل الرجل بأهله قال مدينة تكون معقلا للمسلمين كأنطاكية والرملة ودمشق وقال أحمد رضي الله عنه الشام أرض المحشر ودمشق موضع يجتمع إليه الناس إذا غلبت الروم قلت له فالأحاديث: "إن الله تعالى تكفل لي بالشام" فقال: ما أكثر ما جاء فيه قيل له إن هذا في الثغور فأنكره، وقال: "لا يزال أهل المغرب ظاهرين على الحق" هم أهل الشام. ويسمى الشام مغربا باعتبار العراق كما يسمى العراق مشرقا وفيه حديث مالك بن عامر عن معاذ رواه البخاري وعن أبي الدرداء مرفوعا قال: "فسطاط المسلمين يوم الملحمة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام" رواه أبو داود.
"وتجب الهجرة على من يعجز عن إظهار دينه في دار الحرب" وهي ما يغلب فيها حكم الكفر لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآيات [النساء: 97]، ولقوله صلى الله عليه وسلم " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله ولم قال: "لا تراءى ناراهما" رواه أبو داود والترمذي ومعناه لا يكون بموضع يرى نارهم ويرون ناره إذا أوقدت ولأن القيام بأمر الدين واجب على القادر والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وشرطه أن يطيق ذلك صرح به في "المغني" و"الفروع"، لقوله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} الآية [النساء: 98]، وألحق بعضهم بدار الحرب دار البغاة والبدعة كرفض واعتزال لا فرق بين الرجال والنساء ولو في العدة بلا راحلة ولا محرم وفي "عيون المسائل": إن أمنت على نفسها(3/231)
وتستحب لمن قدر عليه ولا يجاهد من عليه دين لا وفاء له ولا من أحد أبويه مسلم
ـــــــ
من الفتنة في دينها لم تهاجر إلا بمحرم كالحج ومعناه في "منتهى الغاية" وزاد: إن أمكنها إظهار دينها وفي كلام المؤلف إشعار ببقاء حكم الهجرة وهو قول الجماهير إذ حكمها مستمر إلى يوم القيامة للأحاديث الواردة فيه وأما قوله: "لا هجرة بعد الفتح"، "وقد انقطعت الهجرة" أي: لا هجرة من مكة بعد فتحها لأن الهجرة إليه لا منه.
"وتستحب لمن قدر عليه" أي: على إظهار دينه ليتمكن من جهادهم ويكثر المسلمين ويعينهم ويتخلص من تكثير عدوهم والاختلاط بهم وقضية نعيم شاهدة بذلك وذكر أبو الفرج تجب وأطلق في "المستوعب": لا يسن لامرأة بلا رفقة من صلى لزمته الهجرة وأما العاجز عنها فلا توصف باستحباب قاله في "المغني" و"الشرح".
فرع: لا تجب الهجرة من بين أهل المعاصي لكن روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56]: أن المعنى: إذا عمل بالمعاصي في أرض فأخرجوا منها قاله عطاء ويرده ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" الحديث.
"ولا يجاهد من عليه دين" لآدمي لا وفاء له وظاهره لا فرق بين الدين الحال والمؤجل لأن الجهاد يقصد منه الشهادة وبها تفوت النفس فيفوت الحق بفواتها وفي "الرعاية" وجه: لا يستأذن مع تأجيله لأنه له لا يتوجه إليه الطلب إلا بعد حلوله وظاهره أنه إذا كان له وفاء فله أن يجاهد بغير إذن نص عليه لأن عبد الله بن حرام والد جابر خرج إلى أحد وعليه ديون كثيرة فاستشهد وقضى عنه ابنه مع علمه صلى الله عليه وسلم من غير نكير وفي معناه إقامة الكفيل أو توثقه برهن لعدم ضياع حق الغريم بتقدير قتله.
"ولا من أحد أبويه مسلم" في قول أكثر العلماء لما روى عبد الله بن عمرو بن(3/232)
إلا بإذن غريمه وأبيه إلا أن يتعين عليه الجهاد فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة.
ـــــــ
العاص قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أجاهد فقال: "لك أبوان؟" قال نعم قال: "ففيهما فجاهد". وروى البخاري معناه من حديث ابن عمر وروى أبو داود عن أبي سعيد أن رجلا هاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لك أبوان؟" قال نعم قال: "ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما". ولأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية والأول مقدم.
وظاهره: لا تشترط حرية الآذن وهو وجه وظاهر "الخرقي" و"المذهب": اشتراطه ولا فرق بين الأب والأم قال أحمد فيمن له أم أتظن سرورها فإذا أذنت من غير أن يكون في قلبها وإلا فلا تغز وعلم منه أنهما إذا كانا كافرين أنه لا اعتبار لإذنهما كالمجونين ولأن أبا بكر وغيره كانوا يجاهدون بدون إذن آبائهم ويخرج منه الجد والجدة قاله الأصحاب وليس فيه نص صريح إلا في التبعية وفي "الفروع": ويتوجه احتمال في الجد لأب فلو أذنا له فيه وشرطا عليه عدم القتال وحضره تعين عليه القتال وسقط حكم الشرط.
"إلا بإذن غريمه" كرضاه بإسقاط حقه ويتوجه لو استناب بمن يقضي دينه من مال حاضر. "وأبيه" خص الأب وحده فيحتمل أنه لم يذكر الأم اكتفاء بذكر الأب ويحتمل اختصاصه به وهو كلام الأكثر.
"إلا أن يتعين عليه الجهاد" فإنه يصير فرض عين وتركه معصية لكن يستحب للمدين أن لا يتعرض لمظان القتل من المبارزة والوقوف في أول المقاتلة لأن فيه تغريرا بفوات الحق قاله في "الشرح".
"فإنه لا طاعة لهما في ترك فريضة"، لأن الجهاد عبادة متعينة فلم يعتبر إذن أحد كفروض الأعيان.
وأما السفر لطلب العلم فقال أحمد: يجب عليه أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه قيل له فكل العلم يقوم به دينه قال الفرض الذي يجب عليه في نفسه صلاته وصيامه ونحو ذلك وهذا خاصة يطلبه بلا إذن وفي "الرعاية": من لزمه(3/233)
ولا يحل للمسلمين الفرار من ضعفهم إلا متحرفين إلى القتال أو متحيزين إلى فئة وإن زاد الكفار فلهم الفرار
ـــــــ
التعلم وقيل أو كان فرض كفاية وقيل أو نفلا ولا يحصل ببلده فله السفر لطلبه بلا إذن أبويه
"ولا يحل للمسلمين" ولو ظنوا التلف "الفرار"، لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15]، ولأنه صلى الله عليه وسلم عد الفرار من الكبائر وشرطه أن لا يزيد عدد الكفار على مثلي المسلمين وهو المراد بقوله: "من ضعفهم"، لقوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 66]. قال ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فما فر.
وفي "المنتخب": لا يلزم ثبات واحد لاثنين. وكلام الأكثر بخلافه. ونقل الأثرم وأبو طالب: "إلا متحرفين إلى قتال أو متحيزين إلى فئة"، لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] ومعنى التحرف للقتال: أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن كمن كان في وجه الشمس والريح أو في مكان ينكشف فيه فينحرف واحدة ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب قال عمر: "يا سارية الجبل" فانحازوا إليه وانتصروا على عدوهم ومعنى التحيز إلى فئة هو أن يصير إلى قوم من المسلمين ليكون معهم فيقوى بهم على العدو وظاهره ولو بعدت المسافة كخراسان والحجاز لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني فئة لكم" وكانوا بمكان بعيد منه وقال عمر أنا فئة لكل مسلم وكان بالمدينة وجيوشه بالشام والعراق وخراسان رواهما سعيد.
"وإن زاد الكفار" على مثليهم "فلهم الفرار" قال ابن عباس لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] شق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء التخفيف فقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} الآية [الأنفال: 66] فلما خف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد رواه أبو داود وظاهره أنه(3/234)
إلا أن يغلب على ظنهم الظفر وإن ألقي في مركبهم نار فعلوا ما يرون السلامة فيه وإن شكوا فعلوا ما شاؤوا من المقام أو إلقاء نفوسهم في الماء وعنه يلزمهم المقام
ـــــــ
يجوز لهم الفرار من أدنى زيادة وهو أولى مع ظن التلف بتركه وأطلق ابن عقيل استحباب الثبات للزائد لما في ذلك من المصلحة.
"إلا أن يغلب على ظنهم" أي: ظن المسلمين "الظفر" فيلزمهم المقام ولا يحل لهم الفرار لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونوا أفضل من المولين وما ذكره المؤلف وهو قول في المذهب والأشهر أن ذلك هو الأولى وليس بواجب صرح به في "المغني" و"الشرح". وحمل ابن المنجا كلامه هنا على الأولى جمعا بين نقله وموافقة الأصحاب وكأنه لم يقف على الخلاف فيه.
وظاهره أنه إذا غلب على ظنهم الهلاك فالأولى الثبات والقتال وعنه لزوما قال أحمد ما يعجبني أن يستأسر وقال فليقاتل أحب إلي إلا لأمر شديد وقال عمار من استأسر برئت منه الذمة فلهذا قال الآجري يأثم ولأنه قول أحمد وإن استأسروا جاز قاله في "البلغة".
تنبيه: إذا نزل العدو ببلد فلأهله التحصن منهم وإن كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد وقوة ولا يكون توليا ولا فرارا.
"وإن ألقي في مركبهم نار واشتعل بهم، فعلوا ما يرون السلامة فيه"، لأن حفظ الروح واجب وغلبة الظن كاليقين في أكثر الأحكام فهنا كذلك. "وإن شكوا فعلوا ما شاؤوا من المقام أو إلقاء نفوسهم في الماء" هذا هو المذهب لأنهم ابتلوا بأمرين ولا مزية لأحدهما على الآخر وكظن السلامة في المقام والوقوع في الماء ظنا متساويا لكن قال أحمد كيف يصنع قال الأوزاعي هما مرتبتان فاختر أيسرهما.
"وعنه: يلزمهم المقام" نصرهما القاضي أصحابه لأنهم إذا ألقوا أنفسهم في الماء كان موتهم بفعلهم وإن أقاموا فموتهم بفعل غيرهم وعنه يحرم ذكرها ابن عقيل(3/235)
فصل:
ويجوز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق وقطع المياه عنهم وهدم حصونهم ولا يجوز إحراق نحل ولا تفريقه،
ـــــــ
وصححها وصحح في "النهاية" الأولى، قال لأنهم ملجؤون إلى الإلقاء فلا ينسب إليهم الفعل بوجه ولعل الله يخلصهم.
فصل
"ويجوز تبييت الكفار"، لما روى الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن ديار المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم فقال: "هم منهم" متفق عليه. ومعنى تبيتهم كبسهم ليلا وقتلهم وهو غارون وظاهره ولو قتل من لا يجوز قتله إذا لم يقصده.
"ورميهم بالمنجنيق" نص عليه لأنه صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف رواه الترمذي مرسلا ونصبه عمرو بن العاص على الإسكندرية ولأن الرمي به معتاد كالسهام وظاهره مع الحاجة وعدمها وفي "المغني": هو ظاهر كلام الإمام.
"وقطع المياه عنهم" وكذا السابلة "وهدم حصونهم" وفي "المحرر" و"الوجيز" و"الفروع": هدم عامرهم وهو أعم لأن القصد إضعافهم وإرهابهم ليجيبوا داعي الله وقيل فيه روايتان قال أحمد لا يعجبني يلقى في نهرهم سم لعله يشرب منه مسلم.
"ولا يجوز إحراق نحل" بالمهملة "ولا تغريقه" في قول عامة العلماء لما روى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا هريرة بأشياء قال: "إذا غزوت فلا تحرق نحلا ولا تغرقه" ، وروى مالك أن أبا بكر قال ليزيد بن أبي سفيان نحوه ولأن قتله فساد فيدخل في عموم قوله تعالى: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} الآية [البقرة: 205] ولأنه حيوان ذو روح فلا يجوز إهلاكه لغيظهم كنسائهم.
ومقتضاه أنه يجوز أخذ العسل لأنه مباح وفي أخذ كل شهده بحيث لا يترك(3/236)
ولا عقر دابة ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه وفي إحراق شجرهم وزرعهم وقطعه روايتان: إحداهما: يجوز
ـــــــ
للنحل شيء روايتان. "ولا عقر دابة ولا شاة إلا لأكل يحتاج إليه" أما عقر دوابهم لغير الأكل، فلا يخلو:
إما أن يكون في الحرب أو في غيرها فإن كان في الأول فلا خلاف في جوازه لأن الحاجة تدعو إلى ذلك إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم وهو المطلوب وإن كان الثاني لم يجز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيوان صبرا واختار في "المغني" جواز ذلك أو مما يستعين به على الكفار في القتال كالخيل وذكره في "المستوعب" بشرط عجز المسلمين عن سياقه وأخذه لأنه يحرم إيصاله إلى الكفار للبيع فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم وعكسه أشهر وفي "البلغة": يجوز قتل ما قاتلوا عليه في تلك الحال.
وأما عقرها للأكل فإن لم يكن بد من ذلك فيباح بغير خلاف لأن الحاجة تبيح مال المعصوم فغيره أولى وإن لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك فإن كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج وسائر الطير فحكمه كالطعام في قول الجميع.
وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل لم يبح ذبحه للأكل في قول الجميع لكن قال المؤلف أختار عقرها لغير الأكل بشرطه وإن ذلك كالبقر والغنم لم يبح في قول الجماعة وقال القاضي ظاهر كلام أحمد إباحته حاجة كالطعام واستثنى في "المغني" من قول الخرقي إذا أذن الإمام في ذلك وصرح به في "الشرح".
فرع: إذا تعذر حمل متاع فترك ولم يشتر فللإمام أخذه لنفسه وإحراقه نص عليهما وإلا حرم إذا جاز اغتنامه حرم إتلافه وإلا جاز إتلاف غير الحيوان وإذا قال الأمير عند العجز عن نقله من أخذ شيئا فهو له أخذه وكذا إن لم يقل في أكثر الروايات ويجب إتلاف كتبهم المبدلة ذكره في "البلغة".
"وفي إحراق شجرهم وزرعهم وقطعه روايتان: إحداهما: يجوز" قدمه في(3/237)
إن لم يضر بالمسلمين والأخرى لا يجوز إلا أن لا يقدر عليهم إلا به أو يكونوا يفعلونه بنا وكذلك رميهم بالنار وفتح الماء ليغرقهم.
ـــــــ
"المحرر" و"الفروع" وجزم به في "الوجيز"، قال الزركشي: وهو أظهر لقوله تعالى : {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} الآية [الحشر: 5]، ولما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فانزل الله تعالى الآية وفيه يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي
... حريق بالبويرة مستطير
متفق عليه.
"إن لم يضر بالمسلمين" وكذا في "المحرر" و"الفروع" وزاد ولا نفع فدل على أن ما يتضرر المسلمون بقطعه لكونه ينتفعون به ببقائه لعلوفهم أو يستظلون به أو يأكلون من ثمره لم يجز لما فيه من الإضرار بالمسلمين وهو منفي شرعا.
"والأخرى: لا يجوز" لحديث أبي بكر وغيره ولأن فيه إتلافا محضا فلم يجز كعقر الحيوان. "إلا أن لا يقدر عليهم إلا به" كالذي يقرب من حصونهم ويمنع من قتالهم ويستترون به من المسلمين وزاد في "المغني" و"الشرح": أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة الطريق أو يمكن من قتال أو سد شق أو ستارة منجنيق. "أو يكونوا يفعلونه بنا" فنفعله بهم. قال أحمد: لأنهم يكافؤون على فعلهم وهذا مما لا خلاف فيه ذكره في "المغني" و"الشرح".
"وكذلك رميهم بالنار، وفتح الماء ليغرقهم" أي: فيه روايتان إحداهما يجوز جزم به في "الوجيز"، لأن القصد مكافأتهم وإقامة كلمة الحق فإذا كان ذلك وسيلة إليه جاز كالقتل لكنه إن قدر عليهم بغيره لم يجز تحريقهم بالنار بغير خلاف وعند العجز يجوز في قول أكثر العلماء وكذلك القول في فتح الثقوب لتغريقهم.
والثانية: المنع: أما النار فلا يعذب بها إلا الله تعالى وأما الماء فلأن الإتلاف به يعم النساء والذرية مع أن عنه وجها لكن لو لم يقدر عليهم إلا به أو كانوا يفعلونه بنا جاز(3/238)
وإذا ظفر بهم لم يقتل صبي ولا امرأة ولا راهب ولا شيخ فان ولا زمن ولا أعمى.
ـــــــ
"وإذا ظفر بهم لم يقتل صبي" لم يبلغ بغير خلاف لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان متفق عليه ولأنه يصير رقيقا بنفس السبي ففي قتله إتلاف المال فإن شك في بلوغه عول على شعر عانته قاله في "البلغة".
"ولا امرأة"، لما ذكرنا والخنثى كهي "ولا راهب" في صومعته قال جماعة ولا يخالط الناس لقول عمر ستمرون على قوم في صوامع لهم احتبسوا أنفسهم فيها فدعوهم حتى يميتهم الله على ضلالتهم.
"ولا شيخ فان"، فإنه روي عن ابن عباس في قوله: {وَلا تَعْتَدُوا} لا تقتلوا النساء الكبير وجوزه ابن المنذر لأمره صلى الله عليه وسلم به قال ابن المنذر لا أعرف حجة في ترك قتل الشيوخ يستثنى بها عموم قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، ولأنه كافر لا نفع فيه، فيقتل كالشاب.
وجوابه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله رواه أبو داود ولأنه ليس من أهل القتال أشبه المرأة ويحمل ما روي عن قتل المقاتلة الذين فيهم قوة مع أنه عام وخبرنا خاص بالهرم فيقدم.
"ولا زمن ولا أعمى" كالشيخ الفاني لاشتراكهم في عدم النكاية زاد في "المغني" "والشرح": وعبد وفلاح وفي "الإرشاد": وحبر. لا رأي لهم فمن كان من هؤلاء ذا رأي وخصه في "الشرح" بالرجال وفيه شيء جاز لأن دريد بن الصمة قتل يوم حنين وهو شيخ لا قتال منه لأجل استعانتهم برأيه فلم ينكر صلى الله عليه وسلم قتله ولأن الرأي من أعظم المعونة على الحرب وربما كان أبلغ في القتال قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
...
هو أول وهي المحل الثاني.
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان.(3/239)
إلا أن يقاتلوا فإن تترسوا بهم جاز رميهم ويقصد المقاتلة وإن تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم إلا أن يخاف على المسلمين فيرميهم ويقصد الكفار.
ـــــــ
"إلا أن يقاتلوا" فيجوز قتلهم بغير خلاف لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على محمود بن سلمة وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة مقتولة يوم الخندق فقال "من قتل هذه؟" فقال رجل أنا نازعتني قائم سيفي فسكت ولأنه لو لم يجز لأدى إلى تلف قاتله زاد في "الفروع" وغيره أو يحرضوا عليه وذكر في "المغني" و"الشرح": أن المرأة إذا انكشفت للمسلمين وشتمتهم رميت قصدا وظاهر نص الإمام والأصحاب خلافه ويتوجه أن حكم غيرها ممن منعنا قتله كهي.
"فإن تترسوا بهم" أي: بمن لا يجوز قتله "جاز رميهم"، لأنه صلى الله عليه وسلم رماهم بالمنجنيق وفيهم النساء والصبيان ولأن كف المسلمين عنهم حينئذ يفضي إلى تعطيل الجهاد وسواء كانت الحرب قائمة أو لا.
"ويقصد المقاتلة"، لأنه هو المقصود.
"وإن تترسوا بالمسلمين لم يجز رميهم" كأن تكون قائمة أو لإمكان القدرة عليهم بدونه أو للأمن من شرهم.
"إلا أن يخاف على المسلمين" مثل كون الحرب قائمة أو لم يقدر عليهم إلا بالرمي "فيرميهم" نص عليه للضرورة.
"ويقصد الكفار" بالرمي، لأنهم هم المقصود بالذات فلو لم يخف على المسلمين لكن لا يقدر عليهم إلا بالرمي فظاهر كلامه هذا لا يجوز رميهم وقاله الأوزاعي والليث لقوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} الآية [الفتح: 25]، قال الليث: ترك فتح حصن يقدر على فتحه أفضل من قتل مسلم بغير حق وجوزه القاضي حال قيام الحرب لأن تركه يفضي إلى تعطيل الجهاد فعلى هذا لو قتل مسلما فعليه الكفارة وفي وجوب الدية على العاقلة روايتان وفي "عيون المسائل": يجب الرمي ويكفر ولا دية.(3/240)
ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله حتى يأتي به الإمام إلا أن يمتنع من الميسر معه ولا يمكنه إكراهه ويخير الأمير في الأسرى بين القتل والاسترقاق
ـــــــ
فرع: إذا نازل المسلمون العدو فقالوا ارحلوا عنا وإلا قتلنا أسراكم قال أحمد فيرحلوا عنهم.
"ومن أسر أسيرا لم يجز له قتله" على الأصح، "حتى يأت به الإمام" فيرى فيه رأيه لأن الخيرة في أمر الأسير إليه والثانية يجوز كما لو قتله "إلا أن يمتنع من المسير معه" فله إكراهه بالضرب وغيره فإن لم يمكنه وهو المراد بقوله: "ولا يمكنه إكراهه" فإنه حينئذ له قتله فإن امتنع من الانقياد معه لجرح أو مرض فله قتله.
وعن الوقف في المريض فيه وجهان أصحهما الجواز لأن تركه حيا ضرر على المسلمين ونقل أبو طالب لا يخليه ولا يقتله ويحرم قتل أسير غيره ولا شيء عليه نص عليه واختار الآجري جواز قتله لمصلحة كقتل بلال أمية بن خلف أسير عبد الرحمن بن عوف وأعانه عليه الأنصار.
فعلى المذهب: لو خالف وفعل فإن كان المقتول رجلا فلا شيء عليه فإن كان امرأة أو صبيا عاقبه الأمير وغرم ثمنه غنيمة لأنه صار رقيقا بنفس السبي
"ويخير الأمير في الأسرى بين القتل"، لعموم قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، ولأنه صلى الله عليه وسلم قتل رجال قريظة وهم بين الستمائة والسبعمائة وقتل يوم بدر عقبة ابن أبي معيط والنضر بن الحارث وفيه تقول أخته:
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته ما قتلته".
"والاسترقاق"، لقول أبي هريرة لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هم أشد أمتي على الدجال" وجاءت صدقاتهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه صدقات قومنا" قال: وكانت سبية عند عائشة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعتقيها، فإنها من ولد إسماعيل" متفق عليه ولأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية فبالرق أولى لأنه أبلغ في صغارهم.(3/241)
والمن والفداء بمسلم أو مال وعنه لا يجوز بمال
ـــــــ
فرع: لا يبطل الاسترقاق حقا لمسلم قاله ابن عقيل وفي "الانتصار": لا يسقط حق قود له وعليه وفي سقوط دين في ذمته لضعفها برقه كذمة مريض احتمالان.
وفي "البلغة": يتبع به بعد عتقه إلا أن يغنم بعد إرقاقه فيقضي منه دينه فيكون رقه كموته وعليه يخرج حلوله برقه وإن غنما معا فهما للغانم ودينه في ذمته.
"والمن"، لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]، ولما روى أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقهم فانزل الله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية [الفتح: 24]، رواه مسلم وعن جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: "لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له" رواه البخاري. وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم من على أبي عروة الشاعر وعلى أبي العاص بن الربيع وعلى ثمامة ابن أثال.
والثانية: لا يجوز المن بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه.
"والفداء"، للآية ولما روى عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل رواه أحمد والترمذي وصححه وهو جائز "بمسلم" بلا نزاع لحديث عمران وغيره "أو بمال" في ظاهر المذهب لأنه صلى الله عليه وسلم فادى أهل بدر بالمال بلا ريب.
"وعنه: لا يجوز بالمال"، وحكاه أبو الخطاب في "الهداية" وجها، لأن الله تعالى نبه على ذلك وأنزل:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} إلى قوله: { عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] ولأنه لا يجوز بيعهم السلاح لما فيه من تقويتهم على المسلمين فبيع أنفسهم أولى وهذا التخيير إنما هو في المقاتلة الأحرار ذكره الأصحاب فإن كانوا أرقاء فيخير الإمام بين قتلهم وتركهم غنيمة كالبهائم وأما النساء والذرية فيصيرون أرقاء بنفس السبي لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتلهم وكان يسترقهم إذا سباهم.(3/242)
إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان ولا يجوز أن يختار إلا الأصلح للمسلمين.
ـــــــ
ومن يحرم قتله كالزمن والشيخ الفاني والأعمى ففي "المغني" و"الشرح": أنه لا يجوز سبيهم لتحريم قتلهم وعدم النفع في اقتنائهم لكن صرح في "المغني": يجوز استرقاق الشيخ والزمن ونقله ابن المنجا عن بعض الأصحاب فقال كل من لا يقتل كأعمى وغيره يرق بنفس السبي وتوسط المجد فجعل من فيه نفع من هؤلاء حكمه حكم النساء والصبيان قال الزركشي وهو أعدل الأقوال إذ الزمن يمكن أن يكون ناطورا والأعمى ينفخ في كير الحداد إلا أن يراد به النفع المطلق.
تنبيه: إذا أسلم الكافر قبل أسره لخوف أو غيره فلا تخيير لأنه لا يد له عليه وظاهر كلامهم أنه كمسلم أصلي في قود ودية لكن لا قود مع شبهة التأويل وفي الدية الخلاف كباغ.
والتخيير السابق ثابت في أهل الكتاب ومن يقر بالجزية فأما غيره فقال فيه "إلا غير الكتابي ففي استرقاقه روايتان" كذا في "المحرر" و"الفروع".
إحداهما: يجوز وإليها ميل المؤلف وهي ظاهر "الوجيز" كغيرهم.
والثانية: لا اختارها الشريف وابن عقيل وصححها في "البلغة". قال الخرقي: لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وفي "الواضح": يدل هذا على مفادات ومن لأنه كافر لا يقر بالجزية فلم يسترق كالمرتد والمؤلف تبع أبا الخطاب في حكاية الخلاف في غير أهل الكتاب والمجد جعل مناط الحكم فيمن لا يقر بالجزية فعلى قوله نصارى بني تغلب يجري فيهم الخلاف لعدم أخذها منهم وظاهر ما سبق أن الكافر إذا كان مولى مسلم لا يجوز استرقاقه لأن في استرقاقه تفويت ولاء المسلم المعصوم بخلاف ولده الحربي لبقاء نسبه والمذهب الأول كما لو كان عليه ولاء لذمي لا يجوز قتله فجاز استرقاقه كغيره.
"ولا يجوز أن يختار إلا الأصلح للمسلمين"، لأن هذا تخيير مصلحة واجتهاد لا تشهي فمتى رأى مصلحة في خصلة لزمه فعلها وفي "الروضة": يندب. ولأنه يتصرف لهم على سبيل النظر لهم فلم يجز ترك ما فيه الأصلح كولي اليتيم.(3/243)
فإن أسلموا رقوا في الحال ومن سبي من أطفالهم منفردا أو مع أحد أبويه فهو مسلم وإن سبي مع أبويه فهو على دينهما.
ـــــــ
ولأن المصلحة تختلف باختلاف الأسرى فالقوي قتله أصلح ولا يمثل به وعنه بلى إن فعلوه.
والضعيف الذي له مال فداؤه أصلح ومن له رأي حسن يرجى إسلامه فالمن عليه أصلح ومن ينتفع بخدمته فاسترقاقه أصلح وإن تردد نظره فقتله أولى واختار الشيخ تقي الدين للإمام عمل المصلحة في مال وغيره لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة
فرع: من استرق أو فودي بمال كان للغانمين بغير خلاف نعلمه.
"فإن أسلموا رقوا في الحال" نص عليه وحرم قتله لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وهذا مسلم. ولأنه أسير يحرم قتله فصار رقيقا كالمرأة وقيل يحرم قتله ويتخير فيه بين الخصال الثلاث جزم به في "الكافي"، وصححه في "الشرح"، لأنه إذا جاز ذلك حال كفرهم ففي حال إسلامهم أولى وعلى الأول يزول حكم التخيير ولا يجوز رده إلى الكفار وزاد في "المغني" و"الشرح": إلا أن تمنعه عشيرة ونحوها.
"ومن سبي من أطفالهم" ولو مميزا "منفردا أو مع أحد أبويه فهو مسلم"، لأن التبعية انقطعت فيصير تابعا لسابيه في دينه وعنه كافر كما لو سبي مع أبويه أو مع أحد المسلمين على الأصح لما روى أبو هريرة مرفوعا: "ما من مولود يولد إلى على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" متفق عليه. فجعل التبعية لأبويه،
فإذا لم يكن كذلك انقطعت التبعية ووجب بقاؤه على حكم الفطرة وعنه يتبع أبويه قاله أبو الخطاب لأنه يتبعه في النسب فكذا في الدين وعنه يتبع المسبي معه منهما اختاره الآجري
"وإن سبي مع أبويه فهو على دينهما" على الأصح لأن التبعية باقية وعنه لا لأنه خرج من دارهما إلى دار الإسلام فتبع سابيه المسلم.(3/244)
ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين وإن سبيت المرأة وحدها انفسخ نكاحها وحلت لسابيها وهل يجوز بيع من استرق منهم للمشركين على روايتين.
ـــــــ
فرع: يتبع الطفل سابيا ذميا كمسلم وقيل إن سبي مفردا فمسلم ونقل عبد الله والفضل يتبع مالكا مسلما كسبي اختاره الشيخ تقي الدين.
"ولا ينفسخ النكاح باسترقاق الزوجين" وبسبيهما معا لأن الاسترقاق معنى لا يمنع ابتداء النكاح فلم يقطع استدامته كالعتق وعنه ينفسخ لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24]، والمراد بالمحصنات المزوجات، {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}: بالسبي وهذا إذا تعدد سابيها قاله المؤلف وظاهره لا فرق بين أن يسبيها رجل أو رجلان وهو ظاهر كلام الأصحاب.
"وإن سبيت المرأة وحدها انفسخ نكاحها" بغير خلاف علمناه قاله في "الشرح". وعنه لا ينفسخ قدمها في "التبصرة"، كزوجة ذمي وعلى الأول "وحلت لسابيها"، للآية ولما روى أبو سعيد الخدري قال أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج في قومهن فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} الآية [النساء: 24] رواه الترمذي وحسنه وظاهره أن الزوج إذا سبي منفردا أنه لا ينفسخ نكاحه لأنه لا نص عليه فيه ولا يقتضيه القياس وقال أبو الخطاب إذا سبي أحد الزوجين انفسخ النكاح ولم يفرق.
"وهل يجوز بيع من استرق منهم للمشركين على روايتين":
أظهرهما لا يصح قال أحمد ليس لأهل الذمة أن يشتروا مما سبى المسلمون لأنه يروي أن عمر كتب ينهى أمراء الأمصار عن ذلك ولأن فيه تفويتا للإسلام فلا يجوز ردهم إلى الكفر كما لو أسلموا.
والثانية: يجوز لأنه صلى الله عليه وسلم باع سبي بني قريظة لأهل الحرب ولأنه لا يمنع من إثبات يده عليه فلا يمنع من ابتدائه كالمسلم وعنه يجوز في البالغ دون الصغار.(3/245)
ولا يفرق في البيع بين ذوي رحم محرم إلا بعد البلوغ في إحدى الروايتين وإذا حصر الإمام حصنا لزمه مصابرته إذا رأى المصلحة فيه
ـــــــ
وعنه: يجوز في غير النساء وكذا الخلاف بمفاداته بمال.
"ولا يفرق في البيع" ولا في القسمة "بين ذوي رحم محرم" قبل البلوغ: أما في الوالدة وولدها فلحديث أبي أيوب رضي الله عنه "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبابه يوم القيامة" رواه الترمذي وقال حسن غريب وظاهره ولو رضيت الأم نص عليه لأنها قد ترضى بما فيه ضررها ثم يتغير قلبها فتندم وحكم الأب مع ولده كالأم والجد والجدة كهما لقيامهما في استحقاق الميراث والنفقة والحضانة فقاما مقامهما في تحريم التفريق.
وكذا يحرم بين الإخوة لحديث علي رواه الترمذي وحسنه وعموم كلامه يقتضي تحريم التفريق بين كل ذي رحم محرم كالعمة وابن أخيها جزم به في "الوجيز" وقاله الأكثر قال في "الشرح": والأولى جواز التفريق لأن الأصل حل البيع والتفريق ولا يصح إلحاقهم بمن سبق. "إلا بعد البلوغ في إحدى الروايتين" هي ظاهر "الوجيز" وغيره لما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: "لا يفرق بين الوالدة وولدها" قيل: إلى متى؟ قال: "حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية". ولأن الأحرار يتفرقون بالتزويج بعد البلوغ فالعبيد أولى. والثانية: المنع لعموم ما ذكرنا وهو ظاهر "الخرقي" في الولد لأن الوالدة تتضرر بمفارقة ولدها ولهذا حرم عليه الجهاد إلا بإذنهما وعلى المنع فيستثنى التفريق بالعتق وافتداء الأسرى وسيأتي في البيع إذا ملك أختين.
"وإذا حصر الإمام حصنا، لزم مصابرته" مهما أمكن "إذا رأى المصلحة فيها"، لأن عليه فعل ما فيه مصلحة للمسلمين وظاهره أنه إذا رأى المصلحة في الانصراف جاز صرح به في "المغني" وغيره، لانصرافه صلى الله عليه وسلم عن حصن الطائف قبل فتحه وبه يزول اللزوم وبالإسلام ويبذل المال على الموادعة سواء أعطوه جملة أو جعلوه خراجا يؤخذ منهم كل عام وبالفتح وبالنزول على الحكم الشرعي وبالهدنة بشرطها.(3/246)
فإن أسلموا أو من أسلم منهم أحرز دمه وماله و أولاده الصغار وإن سألوه الموادعة بمال أو غيره جاز إن كانت المصلحة فيه وإن نزلوا على حكم حاكم جاز إذا كان حرا مسلما بالغا عاقلا من أهل الاجتهاد،
ـــــــ
"فإن أسلموا" أي أهل الحصن "أو من أسلم منهم" فكمسلم قبل القدرة عليه "أحرز دمه وماله"، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس..." الخبر والمراد بالمال حيث كان ومنفعة إجارة لأنها مال "وأولاده الصغار"، لأنهم تبع لهم في الإسلام ولو كانوا في دار الحرب وحمل امرأته مع كونه حرا مسلما والمجنون كصغير وظاهره أنه لا يعصم أولاده الكبار لأنهم لا يتبعونه ولا زوجته كذلك.
"وإن سألوه الموادعة" وهي المصالحة والمسالمة "بمال أو غيره جاز إن كانت المصلحة فيه"، لأن الغرض إعلاء كلمة الإسلام وصغار الكفرة وهو حاصل بالموادعة فيجب كالمن عليهم وشرط بعض أصحابنا في عقدها بغير مال عجز المسلمين واستضرارهم بالمقام ليكون ذلك عذرا في الانصراف.
"وإن نزلوا على حكم حاكم جاز"، لأنه صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم إلى ذلك متفق عليه من حديث أبي سعيد وقد علم أنهم إذا نزلوا لزمه أن ينزلهم وخير كأسرى.
والكلام في مقامين في صفة الحاكم فقال: "إذا كان حرا مسلما بالغا عاقلا من أهل الاجتهاد"، لأنه حاكم أشبه ولاية القضاء وظاهره انه لا يشترط فيه أن يكون بصيرا صرح به في "البلغة" و"الوجيز"، بخلاف القضاء ليعرف المدعي من المدعى عليه والشاهد من المشهود عليه ولا مجتهدا في جميع الأحكام التي لا تعلق لها في الجهاد وصرح به في "المحرر" و"الفروع" وغيرهما وترك قيد الذكورية والعدالة لوضوحهما.
تنبيه" لو نزلوا على حكم رجلين فأكثر جاز والحكم ما اجتمعوا عليه فلو جعلوا الحكم على رجل يعينه الإمام صح فإن نزلوا على حكم رجل منهم أو جعلوا التعيين إليهم لم يجز لأنهم ربما اختاروا غير الأصلح ذكره في الشرح وغيره.(3/247)
ولا يحكم إلا بما فيه الأحظ للمسلمين من القتل والسبي والفداء فإن حكم بالمن لزم قبوله في أحد الوجهين وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا عصموا دماءهم وفي استرقاقهم وجهان.
ـــــــ
الثاني في صفة الحكم فقال: "ولا يحكم إلا بما فيه الأحظ للمسلمين"، لأنه نائب الإمام فقام مقامه في اختيار الأحظ في الأسرى وحينئذ يلزمه ذلك وحكمه لازم "من القتل والسبي"، لأن سعدا حكم في بني قريظة بقتلهم وسبى ذراريهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة". "والفداء". لما سبق في الإمام وظاهره ولو حكم عليهم بإعطاء الجزية لم يلزم حكمه لأن عقد الذمة عقد معاوضة واشترط فيه التراضي وكذلك لا يملك الإمام إجبار الأسير على إعطاء الجزية.
"فإن حكم بالمن لزمه قبوله في أحد الوجهين" قاله القاضي وقدمه في "المحرر" وجزم به في "الوجيز"، لأنه نائب الإمام فكان له المن كهو وظاهره ولو أباه الإمام.
والثاني: المنع قاله أبو الخطاب لأنه لاحظ فيه ومحله إذا لم يره الإمام قاله في "الكافي" و"المحرر" و"الخلاصة". وقيل: في المقاتلة دون النساء والذرية لأنهما غنيمة فليس للحاكم تركها مجانا. وفي "الكافي" و"البلغة": لو حكم بأسر لم يجز للإمام أن يمن بإطلاقهم إلا برضى الغانمين.
"وإن حكم بقتل أو سبي فأسلموا" بعد الحكم "عصموا دماءهم"، لأن قتل المسلم حرام وظاهره أنهم لا يعصمون أموالهم لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم وكذا سبيهم قاله في "المحرر". "وفي استرقاقهم وجهان" كذا في "البلغة" وفي "الكافي" و"المحرر". وغيرهما: روايتان إحداهما لا يجوز قدمه في "الشرح"، لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم
والثانية: يجوز ذكره أبو الخطاب احتمالا لأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم ووجوب قتلهم كالأسير إذا أسلم بعد اختيار الأمام قتله فعلى هذا يكون المال(3/248)
ـــــــ
على ما حكم فيه فإن حكم بأنه للمسلمين كان غنيمة لأنهم أخذوه بالقهر.
تنبيه: ليس للإمام تغيير ما حكم به الحاكم مما ينفذ حكمه فيه فلا يقتل من حكم برقه لأنه أشد من الرق وفيه إتلاف الغنيمة بغير رضى الغانمين ولا رق من حكم بقتله لأنه قد يدخل الضر على المسلمين ببقائهم ولا رق ولا قتل من حكم بفدائه لأنهما أشد من الفداء لأنه نقض للحكم بعد لزومه وله المن إلا أنه أخف مما حكم به الحاكم فإذا رآه الإمام جاز لأنه أتم نظرا وكالابتداء وقبول الفداء ممن حكم بقتله أو رقه لأنه نقض للحكم برضى المحكوم عليه ولأنه حقه فإذا رضي بشركه جاز ذكره المجد وغيره.(3/249)
باب ما يلزم الإمام والجيش
يلزم الإمام عند مسير الجيش تعاهد الخيل والرجال فما لا يصلح للحرب يمنعه من الدخول،
ـــــــ
باب ما يلزم الإمام والجيش
يلزم كل واحد إخلاص النية لله تعالى في الطاعات ويجتهد في ذلك ويستحب أن يدعو سرا بحضور قلب قال أبو داود باب ما يدعى عند اللقاء ثم روى بإسناد جيد عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: "اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل". وكان جماعة منهم الشيخ تقي الدين يقوله عند قصد مجلس علم.
"يلزم الإمام" وقيل: يستحب "عند مسير الجيش تعاهد الخيل والرجال" لأن ذلك من مصالح الجيش فلزمه فعله كبقية المصالح فيختار من الرجال ما فيه غنى ومنفعة للحرب ومناصحة ومن الخيل ما فيه قوة وصبر على الحرب ويمكن الانتفاع به في الركوب وحمل الأثقال.
"فما لا يصلح للحرب" كالفرس إذا كان حطما وهو الكسير أو قحما وهو الكبير أو ضرعا وهو الصغير أو هزيلا وكالرجل إذا كان زمنا أو أشل أو مريضا "يمنعه من الدخول"، لئلا ينقطع في دار الحرب ولأنه يكون كلا على الجيش ومضيقا(3/249)
ويمنع المخذل والمرجف والنساء إلا طاعنة في السن لسقي الماء ومعالجة الجرحى ولا يستعين بمشرك.
ـــــــ
عليهم وربما كان سببا للهزيمة.
"ويمنع المحذل" وهو الذي يفند الناس عن الغزو ويزهدهم في الخروج إليه "والمرجف" وهو الذي يحدث بقوة الكفار وضعفنا لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ} الآية [التوبة: 46، 47].
وكذا يمنع مكاتب بإخبارنا ورام بيننا بالفتن ومعروف بنفاق وزندقة لأن هؤلاء مضرة على المسلمين فلزم الإمام منعهم إزالة للضرر وظاهر كلامهم ولو دعت الضرورة إليهم في الأصح وكذا يمنع صبي وعبارة "المغني" و"الكافي" و"البلغة" طفل. وفي "الشرح": يجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لأن فيهم منفعة ومعونة
"والنساء" للافتتان بهن مع أنهن لسن من أهل القتال لاستيلاء الخوف والجبن عليهن ولأنه لا يؤمن ظفر العدو بهن فيحلون منهن ما حرم الله تعالى واستثنى بعضهم امرأة أمير الجيش لفعله صلى الله عليه وسلم. "إلا طاعنة في السن" أي: عجوزا "لسقي الماء ومعالجة الجرحى" أي: للمصلحة لقول الربيع بنت معوذ كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم نستقي الماء ونخدمهم ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة رواه البخاري.
وعن أنس معناه رواه مسلم لأن الرجال يشتغلون بالحرب عن ذلك فيكون معونة للمسلمين وتوفيرا للمقاتلة ونهي النساء عن ذلك للتحريم كما هو ظاهر "الخرقي" و"المحرر"، وصرح في "المغني" و"الشرح" بالكراهة.
"ولا يستعين بمشرك" لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فقال له "تؤمن بالله ورسوله؟" قال لا قال: "فارجع فلن استعين بمشرك" متفق عليه ولأن الكافر لا يؤمن مكره وغائلته لخبث طويته والحرب تقتضي المناصحة والكافر ليس من أهلها.(3/250)
إلا عند الحاجة إليه ويرفق بهم في المسير ويعد لهم الزاد ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر،
ـــــــ
"إلا عند الحاجة إليه" كذا ذكره جماعة لما روى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من المشركين في حربه رواه سعيد ويروى أيضا أن صفوان بن أمية شهد حنينا مع النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا حصل التوفيق بين الأدلة وقدم في "المحرر" و"الفروع": أنه لا يستعان بهم إلا لضرورة مثل كون الكفار أكثر عددا ويخاف منهم.
وعنه: يجوز مع حسن رأي في المسلين جزم به في "الشرح". وزاد آخرون وقوته بهم بالعدد وفي "الواضح": روايتان: الجواز وعدمه بلا ضرورة وبناهما على الإسهام له ورده في "الفروع"، واختار أنه يكره الاستعانة بهم إلا للضرورة وأطلق أبو الحسن وغيره أن الرواية لا تختلف أنه لا يستعان بهم ولا يعاونون وأخذ القاضي من تحريم الاستعانة تحريمها في العمالة والكتابة قال الشيخ تقي الدين من تولى منهم ديوانا للمسلمين انتقض عهده وفي "الرعاية": يكره إلا لضرورة.
فرع: تحرم الاستعانة بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين لأنهم أعظم ضررا لكونهم دعاة بخلاف اليهود والنصارى نص على ذلك.
"ويرفق بهم في المسير" فيسير بهم سير أضعفهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمير القوم أقطفهم" أي: أقلهم سيرا ولئلا ينقطع منهم أحد عليهم فإن دعت الحاجة إلى الجد فيه جاز نقل ابن منصور أكره السير الشديد إلا لأمر يحدث لأنه صلى الله عليه وسلم جد حين بلغه قول عبد الله بن أبي: {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] ليشغل الناس عن الخوض فيه.
"ويعد لهم الزاد"، لأنه لابد لهم منه وبه قوامهم وربما طال سفرهم فيهلكون حيث لا زاد لهم.
"ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب النصر" فيقول أنتم أكثر عددا وأشد أبدانا وأقوى قلوبا ونحو ذلك لأنه مما تستعين به النفوس على المصابرة ويبعثها على القتال لطمعها في العدو.(3/251)
ويعرف عليهم العرفاء ويعقد لهم الألوية ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به عند الحرب ويتخير لهم المنازل ويتبع مكامنها فيحفظها ويبث العيون على العدو حتى لا يخفى عليه أمرهم
ـــــــ
"ويعرف عليهم العرفاء"، لأنه صلى الله عليه وسلم عرف عام خيبر على كل عشرة عريفا ولأنه ينظر في حالهم ويتفقدهم وهو أقرب أيضا لجمعهم وقد ورد: "العرافة حق"، لأن فيها مصلحة الناس وأما قوله: "العرفاء في النار" فتحذير للتعرض للرياسة لما فيه من الفتنة ولأنه إذا لم يقم بحقها استحق العقوبة.
"ويعقد لهم الألوية" وهي المطارف البيض وقال صاحب "المطالع": اللواء راية لا يحملها إلا صاحب جيش العرب أو صاحب دعوة الجيش وهي أعلام مربعة لقوله صلى الله عليه وسلم للعباس حين أسلم أبو سفيان: "احتبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها" قال: فحسبته حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها ولأن الملائكة إذا نزلت بالنصر نزلت مسومة بها نقله حنبل.
وظاهره أنها تكون بأي لون شاء وصرح به في "المحرر"، لاختلاف الروايات وفي "الفروع": يستحب ألوية بيض وفي "الشرح" كـ"المحرر"، وزاد يغاير ألوانها ليعرف كل قوم رايتهم.
"ويجعل لكل طائفة شعارا يتداعون به عند الحرب" لما روى سلمة قال غزونا مع أبي بكر زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شعارنا: "أمت أمت". رواه أحمد وقد ورد أيضا "حم لا ينصرون". ولأن الإنسان ربما احتاج إلى نصرة صاحبه وربما يهتدي بها إذا ضل قاله في "الشرح"، أو لئلا يقع بعضهم على بعض.
"وليتخير لهم المنازل" أي: أصلحها كالخصبة لأنها أرفق بهم وهو من مصلحتهم "ويتتبع مكامنها" وهي جمع مكمن وهو المكان الذي يختفي به العدو "فيحفظها" ليأمن هجوم العدو عليهم، "ويبث العيون على العدو"، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث الزبير يوم الأحزاب وحذيفة بن اليمان في غزاة الخندق و دحية الكلبي في أخرى وقد أشار المؤلف إلى العلة بقوله: "حتى لا يخفي عليه أمرهم" فيتحرز منهم ويتمكن من الفرصة فيهم.(3/252)
ويمنع جيشه من الفساد والمعاصي ويعد ذا الصبر بالأجر والنفل ويشاور ذوي الرأي ويصف جيشه ويجعل في كل جنبة كفؤا ولا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره ويجوز له أن يبذل جعلا لمن يدله على طريق أو قلعة أو ماء،
ـــــــ
"ويمنع جيشه من الفساد والمعاصي"، لأن فعلها سبب الخذلان وتركها داع للنصر وسبب الظفر وكذا يمنعهم من التجارة المانعة لهم من القتال "ويعد ذا الصبر بالأجر والنفل"، لأن ذلك وسيلة إلى بذل جهده وزيادة صبره. "ويشاور ذوي الرأي"، لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]، وكان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه ولأن في ذلك تطييبا لقلوبهم ولأن فيها اجتماع الرأي في تحصيل المصلحة ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه لئلا يعلم به العدو وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها.
"ويصف جيشه"، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف: 4] قال الواقدي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوي الصفوف يوم بدر ولأن فيه ربط الجيش بعضه ببعض وسد الثغور فيصيرون كالشيء الواحد ويتراصون لقوله: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
"ويجعل في كل جنبة كفأ"، لما روى أبو هريرة قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجعل خالدا على إحدى الجنبتين والزبير على الأخرى وأبا عبيدة على الساقة ولأنه أحوط للحرب وأبلغ في إرهاب العدو.
"ولا يميل مع قريبه وذي مذهبه على غيره"، لئلا ينكسر قلب من يميل عنه فيخذله عند الحاجة ولأنه يفسد القلوب ويشتت الكلمة.
فرع: إذا وجد رجل آخر أصيب فرسه ومعه فضل استحب له حمله ولا يجب نص عليه فإن خاف تلفه فقال القاضي يجب كما يلزمه بدل فضل طعامه للمضطر إليه وتخليصه من عدو ذكره في "الشرح".
"ويجوز له" أي: للإمام أو نائبه "أن يبذل جعلا لمن يدله على طريق أو قلعة" يفتحها "أو ماء" في مفازة أو مال يأخذه أو ثغرة يدخل منها لأنه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر(3/253)
ويجب أن يكون معلوما إلا أن يكون من مال الكفار فيجوز أن يكون مجهولا فإن جعل له جارية منهم فإن ماتت قبل الفتح فلا شيء له وإن أسلمت قبل الفتح فله قيمتها وإن أسلمت بعد الفتح أو قبله سلمت إليه إلا أن يكون كافرا فله قيمتها وإن فتحت صلحا ولم يشترطوا الجارية فله قيمتها.
ـــــــ
استأجرا في الهجرة من يدلهم على الطريق ولأنه من المصالح أشبه أجرة الوكيل.
ويستحق الجعل بفعل ما جعل فيه سواء له كان مسلما أو كافرا من الجيش أو غيره بشرط أن لا يجاوز ثلث الغنيمة بعد الخمس نص عليه وله إعطاء دال ولو بغير شرط.
"ويجب أن يكون معلوما" إذا كان من مال المسلمين لأنه جعل فوجب أن يكون معلوما كالجعل في المسابقة ورد الضالة "إلا أن يكون من مال الكفار فيجوز أن يكون مجهولا"، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل للسرية الثلث والربع مما غنموا وسلب المقتول وهو مجهول لأن الغنيمة كلها مجهولة ولأنه مما تدعو إليه الحاجة.
"فإن جعل له جارية منهم" نحو أن يشترط بنت فلان من أهل القلعة لم يستحق شيئا حتى تفتح القلعة فإن فتحت عنوة سلمت إليه. "فإن ماتت قبل الفتح" أو بعده، "فلا شيء له"، لأن حقه متعلق بعين فيسقط بتلفه من غير تفريط كالوديعة. "وإن أسلمت قبل الفتح" وهي حرة "فله قيمتها"، لأنها عصمت نفسها بإسلامها فتعذر دفعها إليه. "وإن أسلمت بعد الفتح" أو قبله وهي أمة "سلمت إليه" إذا كان مسلما لأنه أمكن الوفاء بما شرط فكان واجبا لأن الإسلام بعد الأسر فكانت رقيقة "إلا أن يكون" المشترط "كافرا فله قيمتها" لأن الكافر لا يجوز أن يبتدئ الملك على مسلم ثم إن أسلم ففي أخذها احتمالان.
"فإن فتحت صلحا ولم يشترطوا الجارية فله قيمتها" أي: إن رضي بها لأن رد عينها متعذر لكونها دخلت تحت الصلح وحينئذ تعين رد قيمتها لأنها بدلها.(3/254)
فإن أبى إلا الجارية وامتنعوا من بذلها فسخ الصلح ويحتمل أن لا يكون له إلا قيمتها وله أن ينفل في البداءة الربع بعد الخمس وفي الرجعة الثلث بعده.
ـــــــ
وظاهره أنه لو شرط في الصلح تسليم عينها لزم لما فيه من الوفاء بالشرط.
"فإن أبى إلا الجارية وامتنعوا من بذلها، فسخ الصلح"، لأنه قد تعذر إمضاؤه لأن حق صاحب الجعل سابق ولا يمكن الجمع بينهما فعلى هذا لصاحب القلعة أن يحصلها مثل ما كانت من غير زيادة وظاهر ما نقله ابن هانئ أنها له لسبق حقه ولرب الحصن القيمة.
"ويحتمل ألا يكون له إلا قيمتها" ويمضي الصلح حكاه في "المحرر" قولا وصححه لأنه تعذر تسليمها مع بقائها فبقيت القيمة كما لو أسلمت قبل الفتح وإن بذلوها مجانا أو بالقيمة لوازم أخذها ودفعها إليه قاله الأصحاب لأنه أمكن إيصال حقه إليه ضرورة وقال المجد وعندي يختص ذلك بالأمة فأما حرة الأصل فلا يحل أخذها ودفعها إليه بجعل لأن الأمة مال ويأخذها كما لو شرطها دابة أو متاعا فأما حرة الأصل فهي غير مملوكة لأن الصلح جرى عليها فلا تملك كالذمية ولم يجز تسليمها كالمسلمة وفيه نظر لأن الجارية لولا عقد الصلح جرى عليها لكانت أمة وجاز تسليمها له فإذا رضي أهل الحصن بإخراجها من الصلح وتسلميها إليه فتكون غنيمة للمسلمين وتصير رقيقة.
فرع: حيث أوجبنا القيمة ولم يحصل شيء من الغنيمة أعطي من بيت المال لأنه من المصالح.
"وله أن ينفل" النفل الزيادة على السهم المستحق ومنه نفل الصلاة "في البداءة" أي ابتداء دخول دار الحرب "الربع" فأقل "بعد الخمس، وفي الرجعة الثلث" فأقل "بعده"، لما روى حبيب بن سلمة الفهري قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البداءة والثلث في الرجعة رواه أبو داود وعن عبادة بن الصامت مرفوعا نحوه رواه الترمذي وقال حسن غريب وإنما يزيد في الرجعة على(3/255)
وذلك إذا دخل الجيش بعث سرية تغير وإذا رجع بعث أخرى فما أتت به أخرج خمسه وأعطى السرية ما جعل لها وقسم الباقي بين السرية والجيش معا
فصل:
ويلزم الجيش طاعة الأمير.
ـــــــ
البداءة لمشقة الرجعة لأن الجيش في البداءة ردء عن السرية بخلاف الرجعة وقال أحمد لأنهم يشتاقون إلى أهليهم فهذا أكثر مشقة.
وظاهره أن ذلك مفوض إلى رأيه فإن شاء فعله وإن شاء تركه وإنه يجوز بلا شرط وهو ظاهر وعنه لا يجوز إلا به جزم به في "المغني"، وقدمه في "الفروع".
"وذلك إذا دخل الجيش بعث سرية تغير وإذا رجع بعث أخرى فما أتت به أخرج خمسه"، لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41]، ولما روى حبيب بن سلمة الفهري فيخمس كالجيش. "وأعطى السرية ما جعل لها" ولا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث بعد الخمس نص عليه. "وقسم الباقي بين السرية والجيش معا"، لأن الجيش يشارك سراياه فيما غنمت ونص أحمد في السرية إذا نفلت أنها ترد على من معها قاله الخرقي إذ بقوتهم صار إليه.
فصل:
"ويلزم الجيش طاعة الأمير" لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني" رواه النسائي فلو أمرهم بالصلاة جماعة وقت لقاء العدو فأبوا عصوا قال الآجري لا نعلم فيه خلافا قال أحمد لو قال من عنده من رقيق الروم فليأت به السبي ينبغي أن ينتهوا إلى ما أمرهم قال ابن مسعود الخلاف شر ذكره ابن عبد البر وقال كان(3/256)
والنصح له والصبر معه ولا يجوز لأحد أن يعتلف ولا يحتطب ولا يبارز ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا إلا بإذنه فإن دعا كافر إلى البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الأمير.
ـــــــ
يقال: لا خير مع الخلاف ولا شر مع الائتلاف ونقل المروذي إذا خالفوه تشعث أمرهم فلو قال سيروا وقت كذا دفعوا معه نص عليه وقال الساقة يضاعف لهم الأجر إنما يخرج فيهم أهل قوة وثبات.
"والنصح له" لأن نصحه نصح المسلمين ولأنه يدفع عنهم فإذا نصحوه كثر دفعه وفي الأثر: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ومعناه: يكف.
"والصبر معه"، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران: 200]، ولأنه من النصر والظفر.
"ولا يجوز لأحد أن يتعلف" وهو تحصيل العلف للدواب "ولا يحتطب" وهو تحصيل الحطب "ولا يبارز" علجا، ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا إلا بإذنه"، لأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ومكامنهم وقوتهم فإذا خرج إنسان أو بارز بغير إذنه لم يأمن أن يصادفه كمين للعدو فيأخذوه أو يرحل المسلمون ويتركوه فيهلك أو يكون ضعيفا لا يقوى على المبارزة فيظفر به العدو فتنكسر قلوب المسلمين بخلاف ما إذا أذن فإنها لا تكون إلا مع انتفاء المفاسد وقد ورد في النص ما يدل عليه فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] لكن نص إذا كان موضعا مخوفا لا ينبغي أن يأذن لهم.
وظاهره: أن المبادرة بغير إذنه حرام وفي "المغني" و"الشرح": الكراهة وحكاه الخطابي عن أحمد وغيره ومحله ما لم يفجأهم العدو قاله في "الوجيز".
"فإن دعا كافر" وفي "البلغة": مطلقا "إلى البراز" بكسر الباء عبارة عن مخاصمة العدو وبفتحها اسم للفضاء الواسع "استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته بإذن الأمير"، لمبارزة الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن(3/257)
فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه فله شرطه فإن انهزم المسلم أو أثخن بالجراح جاز الدفع عنه وإن قتله المسلم فله سلبه وكل من قتل قتيلا فله سلبه
ـــــــ
بعده قال قيس بن عبادة سمعت أبا ذر يقسم قسما في قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]: أنها نزلت في الذين بارزوا يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة متفق عليه قال علي نزلت هذه الآية في مبارزتنا يوم بدر رواه البخاري وكان ذلك بإذنه صلى الله عليه وسلم.
وبارز البراء بن مالك مرزبان الدارة فقتله وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا ولأن في الإجابة إليها إظهارا لقوة المسلمين وجلدهم على الحرب وظاهره إذا لم يثق من نفسه فيكره لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا ولو طلبها الشجاع ابتداء فاحتمالان في "الفصول".
"فإن شرط الكافر أن لا يقاتله غير الخارج إليه" أو كان هو العادة "فله شرطه"، لقوله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون على شروطهم" والعادة بمنزلة الشرط ويجوز رميه وقتله قبل المبارزة لأنه كافر لا عهد له ولا أمان فأبيح قتله كغيره إلا أن تكون العادة جارية بينهم أن من خرج يطلب المبارزة لا يتعرض له فيعمل بها. "فإن انهزم المسلم" تاركا للقتال "أو أثخن بالجراح، جاز" لكل مسلم "الدفع عنه" ويقتل الكافر لأن المسلم إذا صار إلى هذه الحال فقد انقضى قتاله والأمان زال بزوال القتال لأن حمزة وعليا أعانا عبيدة في قتل شيبة حين أثخن عبيدة وإن أعان الكفار صاحبهم فعلى المسلمين أن يعينوا صاحبهم ويقاتلوا من أعان عليه إلا المبارزة لأنه ليس بسبب من جهته.
فائدة: كره أحمد التلثم في القتال وعلى أنفه وله لبس علامة كريش نعام وعنه يستحب للشجاع ويكره لغيره جزم به في "الفصول".
"وإن قتله المسلم، فله سلبه" بغير خلاف نعلمه لأن القاتل له سلب المقتول "وكل من قتل قتيلا، فله سلبه"، لما روى أنس وسمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل(3/258)
غير مخموس. إذا قتله حال الحرب منهمكا على القتال
ـــــــ
قتيلا فله سلبه" فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم رواه أبو داود وظاهره أن السلب لكل قاتل سواء كان يستحق سهما أو رضخا كالصبي والمرأة والمشرك وهو وجه وخصه في "الوجيز" بالقاتل المسلم.
والثاني: لا لأن السهم آكد منه للإجماع عليه وهو لا يستحقه فالسلب أولى وفي "الإرشاد": أن من بارز بغير إذن الإمام فلا يستحق السلب وقطع في "المغني" و"الشرح" بأن العبد إذا بارز بغير إذن السيد لا يستحق السلب لأنه عاص وكذا كل عاص كمن دخل بغير إذن الأمير.
وعنه: فيمن دخل بغير إذنه أنه يؤخذ منه الخمس وباقيه له كالغنيمة ويخرج في العبد مثله وفيه شيء وأنه يفرق بينهما بأن تعلق الحق بالغنيمة آكد للإجماع بخلاف السلب فإن بعضهم جعله كالنفل لا يستحق إلا بالشرط أما لو كان القاتل ممن لا حق له في الغنيمة كالمرجف فلا حق له في السلب لأنه ليس من أهل الجهاد.
"غير مخموس"، لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب رواه أبو داود ولم ينقل عنه أنه احتسب من خمس الخمس ولأن سببه لا يفتقر إلى اجتهاد الإمام فلم يكن من خمس الخمس كسهم الفارس "إذا قتله حال الحرب" فلو قتله بعد انقضائها فلا سلب له لأن عبد الله بن مسعود وقف على أبي جهل وقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح لأنه أثبته.
فإن كانت الحرب قائمة فانهزم أحدهم فقتله إنسان فله سلبه لأنها كر وفر ولأن سلمة بن الأكوع قتل طليعة الكفار وهو منهزم فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه له أجمع رواه أبو داود.
ولو أثخنه بالجراح استحق سلبه لأنه في حكم المقتول "منهمكا على القتال" أي: مقبلا في القتال فإن كان منهزما فلا سلب له نص عليه لأنه لم يغرر بنفسه في(3/259)
غير مثخن وغرر بنفسه في قتله وعنه لا يستحق إلا من شرط له فإن قطع أربعته وقتله آخر فسلبه للقاطع.
ـــــــ
قتله. وفي "الترغيب" و"البلغة": إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة.
قال أحمد: إنما سمعنا له سلبه في المبارزة وإذا التقى الزحفان.
وظاهره: لو كان المقتول صبيا أو امرأة وقطع به في "المغني" و"الشرح" لجواز قتلهم إذا وفي الآخر لا يستحق سلبه سدا للذريعة وأطلقها في "المحرر".
أما إذا لم يكن من المقاتلة كالشيخ الفاني والصبي ونحوه ممن نهي عن قتله لم يستحق قاتله سلبه بغير خلاف.
"غير مثخن" أي لا بد أن يكون المقتول فيه منعة فلو كان مثخنا بالجراح وقتله آخر فلا يستحق سلبه لما تقدم من حديث ابن مسعود ولعدم التغرير.
"وغرر بنفسه في قتله" أي بان يقتله حال المبارزة والحرب قائمة فلو رماه بسهم من جانب أو أغرى به كلبا عقورا فقتل فلا سلب ويكون غنيمة وظاهره أن كل واحد منهما شرط وقوى الزركشي أن كلها ترجع إلى التغرير وأن القاتل يستحق السلب قال ذلك الإمام أو لم يقله وصرح به الخرقي وهو قول أكثر العلماء ونص عليه لعموم الأدلة.
"وعنه: لا يستحقه إلا من شرط له" اختارها أبو بكر في "الانتصار" و"الطريق الأقرب"، وأخذها القاضي من قول أحمد ليس له ذلك إلا أن يناله بإذن الإمام وفيه نظر فإن عوفا قال لخالد أما تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل قال بلى رواه مسلم فدل على أن هذا من قضايا النبي صلى الله عليه وسلم العامة المشهورة وأنه حكم مستمر لكل قاتل.
"فإن قطع أربعته وقتله آخر فسلبه للقاطع" وحده، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى معاذ بن عمرو بن الجموح سلب أبي جهل ولم يعطه ابن مسعود مع أنه تمم قتله لأن القاطع هو الذي كفي المسلمين شره.(3/260)
وإن قتله اثنان فسلبه غنيمة وقال القاضي هو لهما وإن أسره فقتله الإمام فسلبه غنيمة وقال القاضي هو لمن أسره وإن قطع يده ورجله وقتله آخر فسلبه غنيمة وقيل هو للقاتل
ـــــــ
"وإن قتله اثنان فسلبه غنيمة" في ظاهر كلامه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشرك بين اثنين في سلب ولأنه إنما يستحق بالتغرير في قتله ولا يحصل بالاشتراك فوجب كونه غنيمة كما لو قتله جماعة.
"وقال القاضي" والآجري: "هو لهما" أي: يشتركان في سلبه لعموم من قتل قتيلا فله سلبه ولأنهما اشتركا في السبب فيشتركان في السلب فلو اشتركا في ضربه وكان أحدهما أبلغ في قتله من الآخر فله سلبه.
"وإن أسره فقتله الإمام" أو غيره "فسلبه غنيمة"، لأن الذي أسره لم يقتله والغير لم يغرر بنفسه في قتله وكذا لو استحياه الإمام فرقيته إن رق وفداؤه إن فدي غنيمة لأنه قد أسر المسلمون يوم بدر أسرى فقتل النبي صلى الله عليه وسلم منهم واستبقى ولم ينقل أنه أعطى أحدا ممن أسرهم سلبا ولا فداء.
"وقال القاضي: هو لمن أسره"، لأن الأسر أصعب من القتل فإذا استحق السلب به كان تنبيها على استحقاقه بالأسر.
"وإن قطع يده ورجله وقتله آخر فسلبه غنيمة" على المذهب لأنه لم ينفرد أحدهما بقتله ولم يستحقه القاتل لأنه مثخن بالجراح. "وقيل: هو للقاتل"، لعموم الخبر وقيل هو للقاطع لأنه عطله كقتله فلو قطع يديه أو رجليه فالحكم على ما سبق ذكره في "الشرح" وغيره.
فرع: إذا قطع منه يدا أو رجلا ثم قتله آخر فسلبه للقاتل كما لو عانقه فقتله أو كان الكافر مقبلا على مسلم فقتله آخر من ورائه وقيل غنيمة لعدم الانفراد بقتله.
تنبيه: لا تقبل دعوى القتل إلا ببينة وقال الأوزاعي يعطى السلب لمن قال أنا(3/261)
والسلب: ما كان عليه من ثياب وحلي وسلاح والدابة بآلتها وعنه أن الدابة ليست من السلب ونفقته وخيمته ورحله غنيمة.
ـــــــ
قتلته بغير بينة لأنه عليه السلام قبل قول أبي قتادة وجوابه الخبر الآخر وبأن خصمه أقر له، فاكتفى بقوله.
وقال جماعة من أهل الحديث: يقبل شاهد ويمين كغيره من الأموال وحكى في "الشرح" احتمالا: يقبل فيه شاهد بغير يمين لأنه عليه السلام قبل قول الذي شهد لأبي قتادة من غير يمين وجوابه أن الشارع اعتبر البينة وإطلاقها ينصرف إلى شاهدين وكقتل العمد.
"والسلب: ما كان عليه من ثياب" وعمامة وقلنسوة ودرع "وحلي" كسوار ومنطقة ذهب وران وتاج "وسلاح" كسيف ورمح وقوس ولت ونحوها لأنه يستعين بها في حربه فهو أولى بالأخذ من الثياب.
وعنه في السيف: لا أدري.
"والدابة بآلتها" أي: من السلب لحديث عوف بن مالك رواه الأثرم ولأن الدابة يستعان بها في الحرب كالسلاح وآلتها كلجام وسرج ولو كثرت قيمته لأنه تابع لها وظاهره أن ما كان محمولا عليها من دراهم ونحوه، لا يدخل.
"وعنه: أن الدابة ليست من السلب" اختارها أبو بكر لأن السلب ما كان على بدنه وهي ليست كذلك وذكر أحمد خبر عمرو بن معدي كرب فأخذ سواريه ومنطقته ولم يذكر الدابة فعلى هذا هي وما عليها غنيمة وعلى المذهب شرطه أن يكون قاتل عليها راكبا فلو صد عنها ثم قتله بعد نزوله عنها فهي من السلب فإن كانت في منزله أو مع غيره فلا كسلاحه الذي ليس معه وإن كان ممسكا بعنانها فالخلاف.
"ونفقته" على الأصح، "وخيمته ورحله" وجنيبه الذي في يده "غنيمة"، لأن ذلك ليس من الملبوس ولا مما يستعان به في الحرب أشبه بقية أموال الكفار.(3/262)
فصل:
ولا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير إلا أن يفجأهم عدو يخافون كلبه فإن دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذنه فغنموا فغنيمتهم فيء وعنه هي لهم بعد الخمس.
ـــــــ
لكن يشكل عليه الجنيب وجوابه أنه لا يمكنه ركوبهما معا ألحق في التبصرة حلية الدابة بذلك وفيه شيء.
فصل:
يجوز سلب القتلى وتركهم عراة وكرهه الثوري وغيره لما فيه من كشف عوراتهم ويكره نقل رؤوسهم من بلد إلى آخر والمثلة بقتلاهم ويكره رميها بمنجنيق نص عليه و أول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير قال أحمد ولا ينبغي أن يعذبوه وعنه إن مثلوا مثل بهم ذكره أبو بكر قال الشيخ تقي الدين المثلة حق لهم فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر ولهم تركها والصبر أفضل.
"ولا يجوز الغزو إلا بإذن الأمير"، لأنه أعرف بالحرب وأمره موكول إليه ولأنه إذا لم تجز المبارزة إلا بإذنه فالغزو أولى. "إلا أن يفجأهم" أي يطلع عليهم بغتة "عدو يخافون كلبه" بفتح الكاف واللام أي شره وأذاه لأن الحاجة تدعو إليه لما في التأخير من الضرر وحينئذ لا يجوز التخلف إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ المكان والأهل والمال ومن لا قوة له على الخروج ومن يمنعه الإمام.
"فإن دخل قوم لا منعة لهم" هو بفتح الأحرف الثلاثة وقد تسكن النون والمراد بها القوة والدفع "دار الحرب بغير إذنه" أي إذن المعتبر إذنه وهو إمام المتغلب "فغنموا فغنيمتهم فيء" على المذهب لأنهم عصاة بفعلهم وافتئاتهم على الإمام لطلب الغنيمة فناسب حرمانهم كقتل المورث.
"وعنه: هي لهم بعد الخمس" وهي قول أكثر العلماء واختارها القاضي(3/263)
وعنه: هي لهم لا خمس فيها ومن أخذ من دار الحرب طعاما أو علفا فله أكله وعلف دابته بغير إذن.
ـــــــ
وأصحابه. وفي "المغني" و"الشرح": هي الأولى، لعموم قوله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} [البقرة: 249]. "وعنه: هي لهم لا خمس فيها"، لأنه اكتساب مباح من غير جهاد أشبه الاحتطاب أو يقال أخذوه لا بقوة أشبه ما لو سرقوه.
فرع: حكم الواحد ولو عبدا إذا دخل الحرب وغنم الخلاف وكذا ما سرق منها أو اختلس ذكره في "البلغة"، ومعناه في "الروضة".
"ومن أخذ من دار الحرب طعاما أو علفا" لا غيرها من ثياب وحنوط، "فله أكله وعلف دابته" أو دوابه "بغير إذن" في قول جماعة العلماء لما روى ابن عمر قال كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه رواه البخاري وعنه أن جيشا غنموا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما وعسلا فلم يؤخذ منهم الخمس رواه أبو داود ولأن الحاجة تدعو إليه إذ الحمل فيه مشقة فأبيح توسعة على الناس.
وله إطعام سبي اشتراه بخلاف فهد وكلب صيد لأن هذا يراد للتفرج ولا حاجة إليه في الغزو.
ومحل ذلك كما ذكره الشيخان ما لم يحزه الأمام ويوكل به من يحفظه فلا يجوز إلا لضرورة نص عليه لأنها صارت غنيمة للمسلمين وتم ملكهم عليها واختاره القاضي في "المجرد" ما داموا في أرض الحرب لأن الغنيمة لا يتم الملك عليها إلا بإحرازها في دار الإسلام.
تنبيهات:
الأول: حكم السكر والمعاجين ونحوها كالطعام وفي العقاقير وجهان.
الثاني: يدخل في كلامه الدهن لأنه طعام كالبر وله لحاجة دهن بدنه ودابته وشرب شراب ونقل أبو داود دهنه بزيت للتزين لا يعجبني.(3/264)
وليس له بيعه فإن باعه رد ثمنه في المغنم وإن فضل معه منه شيء فأدخله البلد رده في الغنيمة إلا أن يكون يسيرا فله أكله في إحدى الروايتين.
ـــــــ
الثالث: ليس له غسل ثوبه بالصابون لأنه ليس بطعام فإن فعل رد قيمته في المغنم.
"وليس له بيعه"، لأنه لم ينقل لعدم الحاجة إليه بخلاف المأكل. "فإن باعه رد ثمنه في المغنم" قاله أكثر الأصحاب لما روى سعيد أن صاحب جيش الشام كتب إليه عمر من باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله وسهام المسلمين وظاهره أن البيع صحيح لأن المنع منه إنما كان لأجل حق الغانمين وفي رد الثمن تحصيل لذلك ولأن له فيه حقا فصح بيعه كما لو تحجر مواتا وفرق القاضي والمؤلف في "الكافي": إن باعه لغير غاز فهو باطل كبيعه الغنيمة بغير إذن فيرد المبيع إن كان باقيا أو قيمته أو ثمنه إن كان تالفا وإن باعه لغاز فلا يخلو إما أن يبيعه بما يباح له الانتفاع به أو بغيره فإن كان الأول فليس بيعا في الحقيقة إنما دفع إليه مباحا وأخذ بمثله ويبقى أحق به لثبوت يده عليه ولا يمن عليه ويتعين رده إليه وظاهر المتن أنه لا يلزمه سوى رد الثمن فقط وعنه يلزمه أيضا قيمة أكله.
"وإن فضل معه منه شيء فأدخله البلد" ولم يقيده به الأكثر "رده في الغنيمة" أي: إذا كان كثيرا لأنه إنما أبيح له ما يحتاج إليه فما بقي تبينا أنه أخذ أكثر مما يحتاجه فيبقى على أصل التحريم "إلا أن يكون يسيرا فله أكله في إحدى الروايتين" نص عليه في رواية أبي طالب في الطبخة والطبختين من اللحم والعليفة والعليفتين من الشعير لا بأس به لأن اليسير مما تجري فيه المسامحة قال الأوزاعي أدركت الناس يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم لبعض ولا ينكره أحد.
والثانية: يجب رده نص عليه في رواية ابن إبراهيم واختارها الخلال وصاحبه،(3/265)
ومن أخذ سلاحا فله أن يقاتل به حتى تنقضي الحرب ثم يرده وليس له ركوب الفرس في إحدى الروايتين.
ـــــــ
والقاضي و أبو الخطاب في "خلافهما"، وقدمها في "المحرر" و"الفروع"، لقوله عليه السلام: "أدوا الخيط والمخيط" ، ولأنه من الغنيمة ولم يقسم فلم يبح في دار الإسلام كالكبير.
"ومن أخذ سلاحا لهم فله أن يقاتل به حتى تنقضي الحرب"، لقول ابن مسعود انتهيت إلى أبي جهل فوقع سيفه من يده فأخذته فضربته به حتى برد رواه الأثرم ولأن الحاجة إليه أعظم من الطعام وضرر استعماله أقل من ضرر أكل الطعام لعدم زوال عينه بالاستعمال "ثم يرده بعد الحرب" لزوال الحاجة.
"وليس له ركوب الفرس" في الجهاد "في إحدى الروايتين" جزم بها في "الوجيز"، ورجحها ابن المنجا لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري مرفوعا قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده" رواه سعيد. ولأنها تتعرض للعطب غالبا وقيمته كبيرة بخلاف السلاح والثانية يجوز قدمها في "المحرر"، كالسلاح ونقل المروذي لا بأس أن يركب الدابة من الفيء ولا يعجفها وفي "الفروع": وفي قتاله بفرس وثوب روايتان ونقل إبراهيم بن الحارث لا يركبه إلا لضرورة أو خوف على نفسه.(3/266)
باب قسمة الغنائم
ـــــــ
باب قسمة الغنائم
الغنائم: جمع غنيمة ويرادفها المغنم يقال غنم فلان الغنيمة يغنمها واشتقاقها من الغنم وأصلها الربح والفضل.
والأصل فيها: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}(3/266)
الغنيمة: كل مال أخذ من المشركين قهرا بالقتال وإن أخذ منهم مال مسلم فأدركه صاحبه قبل قسمه فهو أحق به وإن أدركه مقسوما فهو أحق به بثمنه.
ـــــــ
[الأنفال: 41] وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال: 69] وقد اشتهر وصح أنه عليه السلام قسم الغنائم ولم تكن تحل لمن مضى وكانت في أول الإسلام خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} الآية [الأنفال: 1] ثم صارت أربعة أخماسها للغانمين، وخمسها لغيرهم.
"الغنيمة: كل مال أخذ من المشركين قهرا بالقتال" قوله: "كل مال" يدخل فيه ما يتمول كالصليب ويكسر ويقتل الخنزير قاله أحمد ونقل أبو داود يصب الخمر ولا يكسر الإناء وأما الكلب فلا يدخل في الغنيمة ويخص الإمام به من شاء قوله: "من المشركين" أي: المحاربين وقوله: "قهرا بالقتال" هذا فصل يخرج به الفيء.
"وإن أخذ منهم مال مسلم" بأن أخذ الكفار مال مسلم ثم أخذ المسلمون ذلك منهم قهرا "فأدركه صاحبه" وهو المسلم "قبل قسمه، فهو أحق به" بغير شيء في قول عامة العلماء لما روى ابن عمر أن غلاما له أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليه وذهب فرس له فأخذه المسلمون فرده عليه خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم رواه البخاري وقال الزهري وعمرو بن دينار لا يرد إليه وهو للجيش لأن الكفار ملكوه باستيلائهم فصار غنيمة كسائر أموالهم وجوابه ما تقدم وكذا حكم ما إذا أخذ مال معاهد وقلنا يملكون أموالنا فإن كان أم ولد لزم السيد أخذها لكن بعد القسمة بالثمن ويخير في الباقي.
"وإن أدركه" صاحبه "مقسوما، فهو أحق به بثمنه" جزم به في "الوجيز" وغيره لما روى ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له وكان المشركون أصابوه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أصبته قبل القسمة فهو لك. وإن أصبته بعد ما قسم أخذته بالقيمة" . وإنما امتنع أخذه له بغير شيء لئلا يفضي إلى حرمان أخذه من الغنيمة ولو لم يأخذه لأدى إلى ضياع حقه فالرجوع في عين ماله بثمنه جمع بين الحقين.(3/267)
وعنه لا حق له فيه وإن أخذه منهم بعض الرعية بثمن فصاحبه أحق به بثمنه وإن أخذ بغير عوض فهو أحق به بغير شيء.
ـــــــ
"وعنه: لا حق له فيه" نص عليه في رواية أبي داود وضعف الأول وقال هو عن مجاهد لما روى ابن عمر مرفوعا: "إن أدركه بعد ما قسم فليس له فيه شيء" وكتب عمر إلى السائب: "أيما رجل أصاب رقيقه أو متاعه بعينه فهو أحق به وإن أصابه في أيدي التجار أي بعدما قسم فلا سبيل إليه"، وعن سلمان بن ربيعة نحوه رواهما سعيد.
وكما لو وجده في أيدي المستولي عليه وقد جاءنا بأمان أو أسلم.
ولم يقل أحد: إنه لصاحبه بعد القسمة بغير شيء لمخالفة الإجماع فإن أهل العصر إذا أجمعوا على قولين في حكم لم يجز إحداث ثالث قاله في "الشرح". وفيه شيء فإنهم صرحوا بأن صاحبه إذا وجد فهو أحق به ولو بعد القسمة إذا قلنا إنهم لا يملكونها.
"وإن أخذه منهم بعض الرعية بثمن فصاحبه أحق به بثمنه" كما لو أخذه واحد من المغنم بحقه والثمن ها هنا كالقيمة هناك.
"وإن أخذ بغير عوض" كهبة أو سرقة ونحوها، "فهو أحق به بغير شيء"، لما روى عمران بن حصين أن قوما أغاروا على سرح النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أياما ثم خرجت فركبت الناقة ونذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها فلما قدمت المدينة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بنذرها فقال: "سبحان الله بئسما جزيتها لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ولا فيما لا يملك العبد" رواه مسلم. ولأنه لم يحصل في يده بعوض أشبه ما لو أدركه من الغنيمة قبل القسمة.
وقال القاضي: ما حصل في يده بهبة أو شراء فهو كما لو وجده صاحبه بعد القسمة على الخلاف وجزم به في الكافي فلو تصرف فيه أحد منهم صح تصرفه.(3/268)
ويملك الكفار أموال المسلمين بالقهر ذكره القاضي وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنهم لا يملكونها.
ـــــــ
"ويملك الكفار أموال المسلمين بالقهر ذكره القاضي" جزم به في "الوجيز"، وقدمه في "الفروع"، لأن الاستيلاء سبب يملك به المسلم مال الكافر فكذا عكسه كالبيع ولا يملكه بعضهم من بعض وسواء اعتقدوا تحريمه أولا ذكره في "الانتصار". ومحله في غير حبس ووقف قاله في "المحرر" و"الفروع"، لعدم تصور الملك فيهما فلم يملكا بالاستيلاء كالحر وفي أم الولد روايتان الأصح ثم ابن عقيل أنها كوقف.
وعنه: يملكونه إن حازوه بدارهم نص عليه فيما بلغ به قبرس رد إلى أصحابه ليس غنيمة ولا يؤكل منه لأنهم لم يحوزوه إلى بلادهم ولا إلى أرض هم أغلب عليها والأول أولى لأن ما كان سببا للملك أثبته حيث وجده كالبيع ونحوه.
"وقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أنهم لا يملكونها" حيث قال إذا أدركه صاحبه قبل القسمة فهو أحق به واختاره الآجري و أبو محمد الجوزي ونصره ابن شهاب وغيره، لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ولأنهم لا يملكون رقيقا برضانا بالبيع فهذا أولى وكأخذ مستأمن له بدارنا بعقد فاسد أو غصب.
واستدل له بحديث القصواء قال ابن المنجا: ولا دلالة فيه لأن غايته أنه عليه السلام أخذ ناقته والمسلم له أخذ ذلك سواء قبل تملك الكفار أموال المسلمين أو لا ولأنه مقسومة ولا مشتراة.
فعلى هذا: لصاحبه أخذه بغير شيء وإن كان مقسوما وفي العدو إذا أسلم ولو أحرزه بدارهم وإن جهل ربه وقف كاللقطة.
وفي "التبصرة": أنه أحق بما لم يملكوه بعد القسمة بثمنه لئلا ينتقض حكم القاسم.
تذنيب: لا يملك الكفار ذميا كالحر المسلم ويلزم فداؤه ويرجع المشتري في(3/269)
وما أخذ من دار الحرب من ركاز أو مباح له قيمة فهو غنيمة.
ـــــــ
المنصوص بثمنه بنية الرجوع.
وفي "المحرر": ما لم ينو التبرع. فإن اختلفا في قدر ثمنه فوجهان واختار الآجري لا يرجع إلا أن يكون عادة الأسرى وأهل الثغر ذلك فيشتريهم ليخلصهم ويأخذ ما وزن لا زيادة فإنه يرجع.
فوائد: منها: إذا استولوا على مال مسلم ثم عاد بعد حول أو أحوال فعلى الأول لا زكاة لما مضى قولا واحدا وعلى الثاني فيه روايتان بناء على المال المغصوب ونحوه.
ومنها: إذا كان لمسلم أختان أمتان وأبقت إحداها إلى دار الحرب واستولوا عليها فله وطء الثانية على الأول لأن ملكه قد زال عن أختها وقياس قول أبي الخطاب لا يجوز حتى تحرم الآبقة بعتق أو نحوه.
ومنها: إذا أعتق المسلم عبده الذي استولى عليه الكفار لم يصح على الأولى بخلاف الثانية.
ومنها: إذا سبى الكفار أمة مزوجة لمسلم فإن قلنا يملكونها فالقياس أنه ينفسخ النكاح لأنهم يملكون رقبتها ومنافعها فيدخل فيه منفعه بضعها فينفسخ نكاح الكافرة المسبية ومنع أبو الخطاب من انفساخ النكاح بالسبي مطلقا فأما الحرة فلا ينفسخ نكاحها بالسبي لعدم ملكهم لها به فلا يملكون بضعها.
ومنها: أنهم يملكون ما أبق أو شرد إليهم وعلى الثاني لصاحبه أخذه مجانا.
"وما أخذ من دار الحرب من ركاز أو مباح له قيمة فهو غنيمة"، لأنه مال حصل الاستيلاء عليه قهرا فكان غنيمة كسائر أموالهم.
ومحله: ما إذا قدر على الركاز بجماعة المسلمين لأنه حصل بقوتهم بخلاف ما إذا قدر عليه بنفسه فهو له بعد الخمس صرح به في "المغني" و"الشرح". وقوله: مباح له قيمة في أرض الحرب كالصيود والخشب فإن احتاج إلى أكله والانتفاع به،(3/270)
ويملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دارالحرب
ـــــــ
فله ذلك كطعامهم ولا يرده فإن كان المباح لا قيمة له في أرضهم كالمسن والأقلام فله أخذه وهو أحق به وإن صار له قيمة بعد ذلك.
فرع: إذا وجد لقطة في دارهم فإن كانت للمسلمين فهو كما لو وجدها في دار الإسلام وإن كانت للمشركين فهي غنيمة وإن احتمل الأمربن عرفها حولا في بلد المسلمين ثم جعلها في الغنيمة نص عليه.
"ويملك الغنيمة بالاستيلاء عليها في دار الحرب"، لأنها مال مباح فملكت بالاستيلاء عليها كسائر المباحات يؤيده أنه لا ينفذ عتقهم في رقيقهم الذي حصلوا في الغنيمة ولا يصح تصرفهم فيه ولأنه لو أسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرا.
وفي "الانتصار" و"عيون المسائل": باستيلاء تام لا في فور الهزيمة للبس الأمر هل هو حيلة أو ضعف وفي "البلغة" كذلك وأنه ظاهر كلامه.
والمنصوص عن أحمد وعليه أكثر الأصحاب أن مجرد الاستيلاء وإزالة أيدي الكفار عنها كاف وقال القاضي في "خلافه": لا يملك بدون اختيار التمليك وتردد في الملك قبل القسمة هل هو باق للكفار أو أنه انقطع؟ وله فوائد:
منها: جريانه في حول الزكاة فإن كانت الغنيمة أجناسا لم ينعقد عليها حول بدون الغنيمة وإن كانت جنسا واحدا فوجهان.
ومنها: لو اعتق أحد الغانمين رقيقا من المغنم بعد ثبوت رقه أو كان فيهم من يعتق عليه بالملك عتق إن كان بقدر حقه وإن كان دونه فكمن أعتق شقصا في عبد.
ومنها: لو أسقط الغانم حقه منها قبل القسمة فبعضهم بناه على الخلاف فإن قلنا تملكوها لم يسقط وإلا سقط.
وجزم جماعة منهم صاحب "الترغيب" و"المحرر": أنه يسقط مطلقا لضعف(3/271)
ويجوز قسمها فيها وهي لمن شهد الوقعة من أهل القتال قاتل أو لم يقاتل من تجار العسكر وأجرائهم الذين يستعدون للقتال.
ـــــــ
الملك. زاد في "الفروع": ولو مفلسا وفي سفيه وجهان ويرد على من بقي وإن أسقط الكل حقهم صارت فيئا.
ومنها: لو شهد أحد الغانمين بشيء من المغنم قبل القسمة فإن قلنا ملكوه لم تقبل وإلا قبلت ذكره القاضي وقال الشيخ تقي الدين في قبولها نظر وإن قلنا لم يملكوا لأنها شهادة تجر نفعا.
"ويجوز قسمها فيها" في المنصوص وهو قول أكثر العلماء لما روى أبو إسحاق قال قلت للأوزاعي هل قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من الغنائم في المدينة قال لا أعلمه وقسم عليه السلام غنائم بني المصطلق على مياههم وغنائم حنين بأوطاس ولأنهم تملكوها بالاستيلاء فجاز قسمها فيها لأن الاستيلاء التام هو إحرازها بدار الإسلام.
فرع: إذا وكل الأمير في شراء شيء منها لنفسه فإن جهل وكيله صح وإلا حرم نص عليه واحتج أن عمر رد ما اشتراه ابن عمر في قصة جلولاء للمحاباة.
"وهي لمن شهد لوقعة"، لما روى الشافعي: ثنا الثقة عن يحيي بن سعيد القطان عن شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر قال الغنيمة لمن شهد الوقعة قال الخطيب قال علي بن الحسين العكلي الرجل الذي لم يسمه الشافعي أحمد بن حنبل ورواه سعيد بن منصور أيضا.
"من أهل القتال" حتى من منع منه لريبة أو منعه الأب ومن بعثه الأمير لمصلحة كرسول وجاسوس ومن خلفه الأمير في بلاد العدو ولو لمرض وغزا ولم يمر بهم فرجعوا نص عليه.
"قاتل أو لم يقاتل من تجار العسكر" ويدخل فيه الخياط والخباز والبيطار ونحوهم "وأجرائهم الذين يستعدون للقتال" ومعهم السلاح ولأنه ردء للمقاتل باستعداده أشبه المقاتل وظاهره أنهم إذا لم يكونوا مستعدين للقتال أنه لا يسهم(3/272)
فأما المريض العاجز عن القتال والمخذل والمرجف والفرس الضعيف العجيف فلا حق له وإذا لحق مدد أو هرب أسير فأدركوا الحرب قبل تقضيها أسهم لهم وإن جاؤوا بعد إحراز الغنيمة فلا شيء لهم.
ـــــــ
لهم إذ لا نفع في حضورهم كالمخذل.
وعلم منه أنه يسهم لأمير الخدمة على الأصح وقيده القاضي وغيره إذا قصد الجهاد وحمل المجد إسهام النبي صلى الله عليه وسلم لسلمة وكان أجيرا لطلحة رواه مسلم على أجير قصد مع الخدمة الجهاد.
وفي "الموجز": هل يسهم لتجار عسكر وأهل سوقه ومستأجر مع جندي كركابي وسائس أم يرضخ فيه روايتان.
"فأما المريض العاجز عن القتال" أي: لا حق له فيها لأنه ليس من أهل الجهاد كالعبد وظاهره أن المرض إذا لم يمنع من القتال كالحمى والصداع أنه لا يسقط سهمه لأنه من أهل الجهاد ويعين برأيه وتكثيره ودعائه.
"والمخذل والمرجف" ولو قاتلا لأن ضررهما أكثر من نفعهما "والفرس الضعيف العجيف فلا حق له"، لأنه لا نفع فيه وظاهره ولو شهد عليه الوقعة ولأن الإمام يملك منعه فلم يسهم له كالمخذل وفيه وجه يسهم له كالمريض والفرق واضح وحكم الكافر والعبد إذا لم يؤذن لهما ومنهي عن حضوره كذلك والأصح أو بلا إذنه ولا يرضخ لهم لأنهم عصاة وكذا من هرب من اثنين ذكره في "الروضة" بخلاف غريم.
"وإذا لحق مدد" هو ما أمددت به قوما في الحرب "أو هرب أسير" أو أسلم كافر أو بلغ صبي أو عتق عبد "فأدركوا الحرب قبل تقضيها أسهم لهم"، لقول عمر ولأنهم شاركوا الغانمين في السبب فشاركوهم في الاستحقاق كما لو كان ذلك قبل الحرب وكذا إذا صار رجل فارسا وعكسه وظاهره أنه يسهم لهم وإن لم يقاتلوا.
"وإن جاؤوا بعد إحراز الغنيمة فلا شيء لهم" قال الخرقي: لأن به يحصل تمام(3/273)
وإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها ثم اخرج أجرة الذين جمعوا الغنيمة وحملوها وحفظوها ثم يخمس الباقي فيقسم خمسه على خمسة أسهم:
ـــــــ
الاستيلاء وقال القاضي يملك الغنيمة بانقضاء الحرب وإن لم يحرز وجزم به في "المحرر"، وقدمه في "الفروع"، لما روى أبو هريرة أن أبان بن سعيد بن العاص وأصحابه قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد أن فتحها فقال أبان اقسم لنا يا رسول الله فقال: "اجلس يا أبان" ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود ولأنهم لم يشهدوا الوقعة كما لو أدركوا قبل القسمة فلو لحقهم عدو وقاتل المدد معهم حتى سلموا الغنيمة فلا شيء لهم لأنهم إنما قاتلوا عن أصحابها لأن الغنيمة في أيديهم وحازوها نقله الميموني.
"وإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب فدفعها إلى أهلها"، لأن القاتل يستحقها غير مخموسة فإن كان فيها مال لمسلم أو ذمي دفع إليه لأن صاحبه متعين "ثم أخرج" من الباقي "أجرة الذين جمعوا الغنيمة وحملوها وحفظوها" قاله جماعة لأنه من مصلحة الغنيمة وإعطاء جعل من دله على مصلحة كطريق ونحوه.
"ثم يخمس الباقي" هذه طريقة الأكثر لأنه استحق بحضور الوقعة أشبه سهام الغانمين وقيل يقدم الرضخ عليه. "فيقسم خمسه على خمسة أسهم" نص عليه لقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41] ومقتضاها: أن يقسم على ستة أسهم.
وجوابه: أن سهم الله تعالى ورسوله كالشيء الواحد لقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وأن الجهة جهة مصلحة "سهم لله تعالى" وذكر اسمه للتبرك لأن الدنيا والآخرة له "ولرسوله صلى الله عليه وسلم يصرف مصرف الفيء"، لقوله عليه السلام: "ليس لي من الفيء إلا الخمس وهو مردود عليكم" رواه سعيد ولا يكون مردودا علينا إلا إذا صرف في مصالحنا.
وفي "الانتصار": هو لمن يلي الخلافة بعده وقاله طائفة من العلماء لما روى أبو(3/274)
سهم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم يصرف مصرف الفيء وسهم لذوي القربى وهم بنو هاشم وبنو المطلب
ـــــــ
الطفيل قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر تطلب ميراثها من النبي صلى الله عليه وسلم قال فقال أبو بكر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله إذا أطعم نبيا طعمة فهي للذي يقوم من بعده" وإني رأيت أن أرده على المسلمين رواه أبو داود.
وعنه: يصرف في أهل الديوان لأنه عليه السلام استحقه لحصول النصرة فيكون لمن يقوم مقامه فيها وعنه يصرف في الخيل والسلاح روي عن أبي بكر وعمر.
وعنه: سقط بموته عليه السلام ويرد على الأنصباء الباقية من الخمس لأنهم شركاؤه وقيل يرد على الغانمين كالتركة إذا أخرج منها وصية ثم بطلت فإنها ترد إلى التركة.
والصحيح أنه باق يصرف في مصالح المسلمين وكان عليه السلام يصنع بهذا السهم ما شاء ذكره في "المغني".
فائدة: كان له عليه السلام من المغنم الصفي وهو شيء يختاره منها قبل القسمة كجارية وعبد وثوب وسيف ونحوه وانقطع ذلك بموته بغير خلاف نعلمه إلا أبا ثور فإنه زعم أنه باق للأئمة بعده ويجعله مجعل سهمه عليه السلام.
"وسهم لذوي القربى"، للآية ولأنه عليه السلام جعل سهمهم في بني هاشم وبني المطلب رواه أبو داود بإسناد صحيح وهو ثابت بعد موته عليه السلام لم ينقطع لأنه لم يأت ناسخ ولا مغير.
"وهم بنو هاشم وبنو المطلب" ابنا عبد مناف لما روى جبير بن مطعم قال قسم النبي صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب وقال: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد" وفي رواية: "لم يفارقوا في جاهلية ولا إسلام" رواه أحمد والبخاري بمعناه فرعى لهم نصرتهم وموافقتهم لبني هاشم.(3/275)
حيث كانوا للذكر مثل حظ الأنثيين غنيهم وفقيرهم فيه سواء وسهم لليتامى الفقراء وسهم للمساكين،
ـــــــ
ولا يستحق من كانت أمه منهم و أبوه من غيرهم لأنه عليه السلام لم يدفع إلى أقارب أمه من بني زهرة ولا إلى بني عماته كالزبير.
ويفرق عليهم "حيث كانوا"، لأنه مستحق بالقرابة فوجب كونه لهم حيث كانوا حسب الإمكان كالتركة.
"للذكر مثل حظ الأنثيين" هذا رواية عن أحمد وهي اختيار الخرقي وجزم بها في "الوجيز" لأنه مال استحق بقرابة الأب ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث.
وعنه: يساوي بينهما قاله طائفة من العلماء لأنهم أعطوا باسم القرابة فاستووا فيه كما لو وقف على قرابة فلان وأطلق في "المحرر" و"الفروع" الخلاف. ويسوي بين الصغير والكبير بلا خلاف.
"غنيهم وفقيرهم فيه سواء"، لأنه عليه السلام لم يخص فقراء قرابته بل أعطى الغني كالعباس وغيره مع أن شرط الفقر ينافي ظاهر الآية ولأنه يؤخذ بالقرابة فاستويا فيه كالميراث وقال أبو إسحاق بن شاقلا يختص بفقرائهم كبقية السهام. قال في "الشرح": ولعل النبي صلى الله عليه وسلم منع عثمان وجبيرا لما سألاه سهمهما بيسارهما وانتفاء فقرهما فإن لم يأخذوه صرف في الكراع والسلاح لفعل أبي بكر وعمر وظاهره لا شيء لمواليهم وصرح به في "المحرر" و"الفروع"، لأنهم ليسوا منهم.
"وسهم لليتامى" وهم من لا أب له ولم يبلغ الحلم لقوله: "لا يتم بعد احتلام" "الفقراء" هذا هو الأشهر لأن اسم اليتم في العرف للرحمة ومن أعطي لذلك اعتبرت فيه الحاجة بخلاف القرابة مع أن المؤلف قال لا أعلم هذا نصا عن أحمد وقيل والغني أيضا لعموم الآية.
"وسهم للمساكين" وهم أهل الحاجة ويدخل فيهم الفقراء لأنهما صنف واحد في غير الزكاة.(3/276)
وسهم لأبناء السبيل من المسلمين ثم يعطي النفل بعد ذلك ويرضخ لمن لا سهم له وهم العبيد والنساء
ـــــــ
"وسهم لأبناء السبيل من المسلمين" قيد في الكل لأن الخمس عطية من الله فلم يكن لكافر فيها حق كالزكاة ويعطى هؤلاء بما تقدم في الزكاة وفي الواضح يعطى كل واحد خمسين درهما أو خمسة دنانير.
وظاهره: أنه يعم بسهام من ذكر جميع البلاد فيبعث الإمام عماله في الأقاليم وصحح في "المغني" أنه لا يجب التعميم لأنه متعذر فعلى هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده وفي "الانتصار": يكفي واحد من الأصناف الثلاثة وذوي القربى إن لم يمكنه واختار الشيخ تقي الدين إعطاء الإمام من شاء منهم للمصلحة كزكاة وأن الخمس والفيء واحد يصرف في المصالح.
"ثم يعطي النفل" وهو الزيادة على السهم للمصلحة لأنه حق ينفرد به بعض الغانمين فقدم على القسمة كالأسلاب "بعد ذلك" أي: بعد الخمس لما روى معن بن زائدة مرفوعا: "لا نفل إلا بعد الخمس" رواه أبو داود. ولأنه مال استحق بالتحريض على القتال فكان من أربعة أخماس الغنيمة.
"ويرضخ لمن لا سهم له"، لأنه استحق بحضور الوقعة فكان بعد الخمس كسهام الغانمين وفيه وجه أنه من أصل الغنيمة لأنه استحق للمعاونة في تحصيل الغنيمة أشبه أجرة الحمل وقيل من سهم المصالح "وهم العبيد" لما روى عمير مولى آبي اللحم قال شهدت خيبر مع سادتي فكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في فأخبر أني مملوك فأمر لي بشيء من المتاع رواه أحمد واحتج به ولأنهم ليسوا من أهل وجوب القتال كالصبي.
فرع: المدبر والمكاتب كالقن ومن بعضه حر فبحسابه.
"والنساء"، لما روى ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ولم يضرب لهن بسهم رواه مسلم وما روي أنه أسهم للمرأة فيحتمل أن الراوي سمى الرضخ سهما ويحتمل أنه أسهم لها في شيء خاص(3/277)
والصبيان وفي الكافر روايتان إحداهما يرضخ له والأخرى يسهم له ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل ولا للفارس سهم فارس فإن تغير حالهم قبل تقضى الحرب أسهم لهم وإذا غزا العبد على فرس لسيده قسم للفرس ورضخ للعبد
ـــــــ
لا مطلقا والخنثى كامرأة ويحتمل أن يقسم له نصف سهم ونصف رضخ كالميراث قاله في "المغني" و"الشرح".
"والصبيان" لما روى سعيد بن المسيب قال يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو والمراد إذا كان مميزا جزم به في "المحرر"، وقدمه في "الفروع"، ولأنه ليس من أهل القتال كالعبد وقيل مراهقا.
"وفي الكافر روايتان إحداهما يرضخ له"، قدمها في "المحرر"، وجزم بها في "الوجيز"، لأنه ليس من أهل الجهاد فرضخ له كالعبد. "والأخرى: يسهم له" كمسلم اختارها الخلال والخرقي والقاضي وقدمها في "الفروع"، ونصرها في "المغني" و"الشرح".
"ولا يبلغ بالرضخ للراجل سهم راجل ولا للفارس سهم فارس"، لأن السهم أكمل من الرضخ فلم يبلغ به إليه كما لا يبلغ بالتعزير الحد ولا بالحكومة دية العضو ويقسم الإمام الرضخ على ما يراه من المصلحة من تفضيل وتسوية ولا تجب التسوية فيه كأهل السهمان لأن السهم منصوص موكول إلى الجهاد فلم يختلف كالحدود بخلاف الرضخ.
"فإن تغير حالهم قبل تقضي الحرب" بأن بلغ الصبي أو عتق العبد أو أسلم الكافر "أسهم لهم"، لقول عمر، ولأنهم شهدوا الوقعة وهم من أهل القتال فأسهم لهم كغيرهم.
"وإن غزا العبد على فرس لسيده قسم للفرس" سهمان، كفرس الحر لأنه فرس حضر الوقعة وقوتل عليه فأسهم له كما لو كان السيد راكبه وهذا إن لم يكن مع سيده فرسان.
"ورضخ للعبد" نص عليه وهما لمالكهما ويعايا بها فيقال: يستحق السهم(3/278)
ثم يقسم باقي الغنيمة للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه إلا أن يكون فرسه هجينا أو برذونا فيكون له سهم.
ـــــــ
والرضخ وإن لم يحضر القتال فظاهره أن الصبي إذا غزا على فرس أو المرأة أو الكافر وقلنا لا سهم له لم يسهم للفرس بل يرضخ له ولفرسه ما لا يبلغ سهم الفارس بخلاف المخذل والمرجف إذا غزا على فرس فلا شيء له ولا لفرسه.
"ثم يقسم باقي الغنيمة"، لأنه يقال لما جعل لنفسه الخمس فهم منه أن أربعة الأخماس للغانمين لأنه أضافها إليهم كقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فهم منه أن الباقي للأب.
وينبغي أن تقدم أربعة الأخماس على قسم الخمس لأنهم حاضروه ولأن رجوع الغانمين إلى أوطانهم يقف على الغنيمة وأهل الخمس في أوطانهم.
"للراجل سهم" بغير خلاف ولأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه الفارس من الكلفة.
"وللفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه" في قول جماعة من العلماء لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم سهمان لفرسه وسهم له متفق عليه وقال خالد الحذاء لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وللراجل سهما.
"إلا أن تكون فرسه هجينا" وهو ما أبو ه عربي وأمه غير عربية وعكسه المقرف "أو برذونا" ويسمى العتيق قاله في "الفروع"، وهو ما أبواه نبطيان عكس العربي "فيكون له سهم" قال الخلال تواترت الرواية عن أبي عبد الله بذلك واختاره الأكثر لما روى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الفرس العربي سهمين وأعطى للهجين سهما رواه سعيد وأبو داود في "المراسيل". وروي موصولا عن مكحول عن زياد بن جارية عن حبيب بن سلمة مرفوعا قال عبد الحق والمرسل أصح ولأن نفع العراب وأثره في الحرب أفضل فيكون سهمه أرجح كتفاضل من يرضخ له.(3/279)
وعنه: له سهمان كالعربي ولا يسهم لأكثر من فرسين ولا يسهم لغير الخيل وقال الخرقي من غزا على بعير لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان.
ـــــــ
"وعنه له سهمان، كالعربي" اختاره الخلال لأنه عليه السلام أسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهما وهو عام في كل فرس ولأنه حيوان ذو سهم فاستوى فيه العربي وغيره كالآدمي.
وعنه: إن أدركت إدراك العراب أسهم لها كالعربي وإلا فلا اختاره الآجري وعنه لا يسهم لها حكاها القاضي وقاله مالك بن عبد الله الخثعمي لأنه لا عمل لها على العراب أشبهت البغال والأول أصح لأنها وإن دخلت في مسمى الخيل فهي تتفاضل في أنفسها فكذا في سهمانها.
وقوله: "أسهم للفرس سهمين" قضية عين لا عموم لها مع أنه يحتمل أنه كان ليس فيها برذون وهو الظاهر لقلتها عند العرب.
"ولا يسهم لأكثر من فرسين" نص عليه لما روى الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس ولأن به حاجة إلى الثاني بخلاف الثالث فإنه مستغنى عنه وفي "التبصرة": يسهم لثلاثة
"ولا يسهم لغير الخيل" من البغال والفيل ونحوها لأن غير الخيل لا يلحق بها في التأثير في الحرب ولا تصلح للكر والفر فلم يلحق بها في السهم.
"وقال الخرقي من غزا على بعير لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان" نقله الميموني واختاره ابن البنا وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع إمكان الغزو على فرس ولكن نص في رواية مهنا أنه يسهم للبعير مطلقا واختاره القاضي وأكثر أصحابه لقوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6]، ولأنه حيوان سابق عليه بعوض فجاز أن يسهم له كالخيل فعلى هذا يسهم له سهم واحد وهو قول الجمهور لأنه لا يساوي(3/280)
ومن دخل دار الحرب راجلا ثم ملك فرسا أو استعاره أو استأجره وشهد به الوقعة فله سهم فارس وإن دخل فارسا فنفق فرسه أو شرد حتى تقضى الحرب فله سهم راجل ومن غصب فرسا فقاتل عليه
ـــــــ
الخيل قطعا فاقتضى أن ينقص عنها.
وظاهر كلام بعضهم أنه يسهم له كفرس وبه قطع في "الأحكام السلطانية"، وشرطه أن يكون مما يمكن القتال عليه فإن كان ثقيلا لا يصلح إلا للحمل لم يستحق شيئا وفي "الأحكام السلطانية": للفيل سهم الهجين على اختلاف الرواية في قدره وغلطه الزركشي والصحيح الأول وحكاه ابن المنذر إجماعا لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لغير الخيل مع أنه كان في غزوة بدر سبعون بعيرا ولم تخل غزوة منها ولو أسهم لها لنقل.
فرع: إذا غزوا على فرس لهما هذا عقبة وهذا عقبة والسهم لهما فلا بأس نص عليه ولو غزا على فرس حبيس استحق سهمه.
"ومن دخل دار الحرب راجلا ثم ملك فرسا أو استعاره أو استأجره وشهد به الوقعة فله سهم فارس"، لأن العبرة باستحقاق سهم الفرس أن يشهد به الوقعة لا حالة دخول دار الحرب ولأن الفرس حيوان يسهم له فاعتبر وجوده حالة القتال كالآدمي ولقول عمر وظاهره أنه لا يشترط ملك الفرس بل يكفي في ذلك ملك منفعتها لأن السهم لنفع الفرس لا لذاتها بدليل أنه لا يسهم للضعيف والزمن ونحوه وسهم الفرس في الإجارة للمستأجر بغير خلاف نعلمه لأنه مستحق لنفعه استحقاقا لازما أشبه المالك وكذا هو للمستعير.
وعنه: هو لمالكه لأنه من نمائه أشبه ولده فإن كان المستأجر والمستعير ممن لا يسهم له إما لكونه لا شيء له كالمخذل أو ممن يرضخ له كالصبي فحكمه حكم فرسه ذكره في "المغني" و"الشرح".
"وإن دخل فارسا فنفق فرسه" أي: مات ولا يقال ذلك لغيرها "أو شرد حتى تقضى الحرب فله سهم راجل" كما ذكرنا. "ومن غصب فرسا فقاتل عليه،(3/281)
فسهم الفرس لمالكه وإذا قال الإمام من أخذ شيئا فهو له أو فضل بعض الغانمين على بعض لم يجز في إحدى الروايتين ويجوز في الأخرى ومن استؤجر للجهاد ممن لا يلزمه من العبيد والكفار فليس له إلا الأجرة.
ـــــــ
فسهم الفرس لمالكه" نص عليه لأن استحقاق سهم الفرس مرتب على نفعه وهو لمالكه فإن كان الغاصب ممن لا سهم له إما مطلقا كالمرجف أو يرضخ له كالعبد احتمل أن يكون حكم الفرس حكمه لأن الفرس يتبع الفارس في حكمه فيتبعه إذا كان مغصوبا واحتمل أن يكون سهم الفرس لمالكه لأن الجناية من راكبه فيختص المنع به ذكره في "الشرح".
"وإذا قال الإمام من أخذ شيئا فهو له أو فضل بعض الغانمين على بعض لم يجز في إحدى الروايتين" جزم به في "الوجيز"، وصححه ابن المنجا في الأولى لأنه عليه السلام والخلفاء من بعده كانوا يقسمون الغنائم ولأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال وظفر العدو بهم ولأن الغزاة اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية فيجب كسائر الشركاء وحينئذ لا يستحقه من أخذه.
"ويجوز في الأخرى": أما أولا فلقوله عليه السلام في بدر "من أخذ شيئا فهو له". ورد بأن قضية بدر لما اختلفوا فيها نسخت بقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1] الآية. وأما ثانيا وهي الأصح إذا كان التفضيل لمعنى فيه فلأنه يجوز للإمام أن ينفل ويعطي السلب فجاز له التفضيل قياسا عليهما.
"ومن استؤجر للجهاد ممن لا يلزمه من العبيد والكفار، فليس له إلا الأجرة" وهو قول القاضي لأن غزوه بعوض فكأنه واقع من غيره فلا يستحق غير ما ذكر.
وظاهره صحة إجارتهم وهو رواية لأنه لا يتعين عليهم بحضورهم لأنهم ليسوا من أهله فصحت كغيره من العمل.
والأشهر أنها لا تصح كالصلاة ومقتضاه أن من يلزمه كالرجل الحر لا يصح استئجاره عليه كالحج ونص في رواية جماعة على صحتها مطلقا وهو قول الخرقي لما روى جبير بن نفير مرفوعا قال: "مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون(3/282)
ومن مات بعد انقضاء الحرب فسهمه لوارثه ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم.
ـــــــ
الجعل يتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجره" رواه سعيد.
ولأنه لا يختص فاعله أن يكون من أهل القرب بدليل صحته من الكافر فصح الاستئجار عليه كبناء المسجد.
ومقتضى اختيار الشيخين صحة الاستئجار وإن لزمه إلا أن يتعين عليه فلا يصح وعليه حمل المؤلف كلام الخرقي فإن قلنا لا يصح فهي كالمعدومة فيستحق الأجير السهم وإن قلنا بصحتها فهل يسهم له وفيه روايتان إحداهما وهي اختيار الخرقي لا سهم له لقوله عليه السلام لأجير يعلى بن أمية ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى رواه أبو داود والثانية وهي اختيار الخلال وصاحبه أنه يسهم له لأنه حضر الوقعة وهو من أهل القتال فيسهم له كغيره.
تنبيه: إذا استؤجر بعد أن غنموا على حفظها فله الأجرة مع سهمه ولا يركب منها دابة إلا بشرط ومثله الغزاة الذين يدفع إليهم من الفيء أي لهم السهم لأن ذلك حق جعله الله لهم لا أنه عوض عن الغزو فكذا من يعطي له من صدقة لأنه يعطاه معونة لا عوضا أو دفع إليه ما يعينه به فلزمه الثواب.
"ومن مات" أو ذهب "بعد انقضاء الحرب فسهمه لوارثه" على المذهب، لأن الغنيمة ملكت بالاستيلاء عليها فكان سهمه لوارثه لقوله عليه السلام: "من ترك حقا فلورثته" وتقدم قول إنها لا تملك إلا بالحيازة فلو مات قبلها فلا شيء له لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين وظاهر ما سبق أنه إذا حصل التغيير قبل تقضي الحرب أنه لا شيء له وهو كذلك بغير خلاف في المذهب.
"ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت ويشاركونه فيما غنم" أيهما غنم شارك الآخر نص عليه وهو قول أكثر العلماء لأنه عليه السلام لما غزا هوازن بعث سرية من الجيش قبل أوطاس فغنمت فشارك بينها وبين الجيش.(3/283)
وإذا قسمت الغنيمة في أرض الحرب فتبايعوها ثم غلب عليها العدو فهي من مال المشتري في إحدى الروايتين اختارها الخلال وصاحبه والأخرى من مال البائع اختارها الخرقي ومن وطئ جارية من المغنم ممن له فيها حق أو لولده أدب ولم يبلغ به الحد وعليه مهرها
ـــــــ
ولأن الجميع جيش واحد وكل منهما ردء لصاحبه فلم يختص بعضهم بالغنيمة كأحد جانبي الجيش وهذه الشركة بعد النفل فلو كان الأمير مقيما ببلد الإسلام وبعث سرية أو جيشا انفردت بغنيمتها لانفرادها بالغزو والمقيم ببلد الإسلام ليس بمجاهد.
"وإذا قسمت الغنيمة في أرض الحرب فتبايعوها ثم غلب عليها العدو فهي من مال المشتري في إحدى الروايتين" نقله الجماعة "اختارها الخلال وصاحبه" وجزم بها في "الوجيز"، وهي الأصح لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه التصرف فيه فكان من ضمانه كما لو اشتراه وأحرزه بدار الإسلام. "والأخرى من مال البائع اختارها الخرقي"، لأنه لم يكمل قبضه لكونه في خطر قهر العدو كالثمرة المبيعة على رؤوس النخل إذا بلغت قبل الجذاذ فعليها ينفسخ البيع ويرد الثمن إلى المشتري من الغنيمة إن باعه الإمام أو من مال البائع.
وإن كان الثمن لم يؤخذ من المشتري سقط عنه ومحله إذا لم يفرط المشتري فإن كان لتفريط حصل منه كخروجه من العسكر ونحوه فضمانه عليه كما لو أتلفه وعلم منه أن لكل واحد من الغانمين بيع ما حصل له بعد القسمة والتصرف فيه كيف شاء لأن ملكه ثابت فيه على المنصوص. وفي "البلغة" رواية: لا تصح قسمتها وأما الأمير فيجوز له البيع قبل القسمة للغانمين ولغيرهم إذا رأى المصلحة فيه لأن الولاية ثابتة له عليها.
"ومن وطئ جارية من المغنم ممن له فيها حق أو لولده أدب"، لأنه وطء حرام لكونه في ملك مشترك "ولم يبلغ به الحد"، لأن له في الغنيمة ملكا أو شبهة ملك فيدرأ عنه الحد للشبهة "وعليه مهرها"، لأنها ليست مملوكة له أشبه(3/284)
إلا أن تلد منه فيكون عليه قيمتها وتصير أم ولد له والولد حر ثابت النسب ومن أعتق منهم عبدا عتق عليه قدر حقه وقوم عليه باقيه إن كان موسرا وكذلك إن كان فيهم من يعتق عليه وكذلك إن كان فيهم من يعتق عليه.
ـــــــ
وطء أمة الغير وحينئذ فيطرح في المغنم وقال القاضي يسقط عنه من المهر قدر حصته كالجارية المشتركة ورد بأنه لما كان مقدار حقه يعسر العلم به ولا ضرر عليه بوضع المهر من الغنيمة فيعود إليه حقه لم يعتبر الإسقاط. "إلا أن تلد منه فيكون عليه قيمتها"، لأنه فوتها على الغانمين فلزمه قيمتها كما لو أتلفها وحينئذ تطرح في الغنيمة فإن كان معسرا كانت في ذمته وقال القاضي يحتسب قدر حصته من الغنيمة وتصير أم ولد وباقيها رقيق للغانمين لأنه إنما ثبت بالسراية إلى ملك غيره فلم يسر في حق المعسر كالإعتاق.
ورد: بأنه استيلاد صير بعضها أم ولد كذلك كاستيلاد جارية ابنه وهو أقوى من العتق لكونه فعلا وينفذ من المجنون.
وظاهره: أنه لا يلزمه قيمة الولد لأنه ملكها حين علقت فلم يثبت للغانمين فيه ملك وعنه يلزمه قيمته حين وضعه تطرح في الغنيمة لأنه فوت رقه أشبه ولد المغرور وقال القاضي إذا صار نصفها أم ولد يكون الولد كله حرا وعليه قيمة نصفه.
"وتصير أم ولد له في الحال"، لأنه وطء يلحق به النسب لشبهة الملك كجارية ابنه. "والولد الحر"، لأنه من وطء في ملك أو شبهة "ثابت النسب"، لأنه وطء سقط فيه الحد لشبهة الملك فيلحق فيه النسب وظاهره أنه لا مهر عليه حينئذ في رواية وهو مبني على أن المهر هل يجب بمجرد الإيلاج أو بالنزع وهو تمامه لأنه إنما تم وهي ملك له قاله الزركشي.
"ومن أعتق منهم عبدا وعتق عليه قدر حقه وقوم عليه باقيه إن كان موسرا وكذلك إن كان فيهم من يعتق عليه" وجملته: أن الغانم إذا أعتق رقيقا من المغنم أو كان فيهم من يعتق عليه وعتق كله لأن ملكه ثبت عليه في شركة الغانمين باستيلائهم(3/285)
والغال من الغنيمة يحرق رحله كله
ـــــــ
عليه، أشبه المملوك بالإرث فيعتق جميعه إن كان حقه منها لا ينقص أو بقدر حقه إن نقص.
ثم الزائد على حقه إن كان موسرا عتق عليه وضمنه وإلا بقي رقيقا بحاله، على المنصوص.
وقال القاضي وابن أبي موسى: لا يعتق لأن ملكه لا يتعين فيه لجواز أن يحصل له بالقسمة غيره.
وفي "المحرر": وعندي إن كانت جنسا واحدا فكالمنصوص وإن كانت أجناسا فكقول القاضي لأن المعتق في الجنس الواحد يصير كالحر المشاع وفي الأجناس لم يتعين حقه في شيء بعيد وفيه نظر لأنها قبل القسمة حق كل واحد من الغانمين مشاع في كل جنس فالعتق يصادفه فيعتق عليه والباقي بالسراية. وفي "البلغة": فيمن يعتق عليه روايات الثالثة موقوف إن تعين سهمه في الرقيق عتق وإلا فلا.
وظاهره: لا فرق في المعتق أن يكون رجلا أو امرأة أو صبيا وصرح في "المغني" و"الشرح" بأن الغانم إذا أعتق رجلا منها لا يعتق لأنه لا يصير رقيقا بنفس السبي كالنساء والصبيان.
"والغال من الغنيمة" وهو من كتم ما غنمه أو بعضه فيجب أن "يحرق رحله كله" قاله الحسن وجماعة، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال رواه أبو داود ولحديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك رواه سعيد والأثرم واختار جماعة أن ذلك من باب التعزير لا الحد الواجب فيجتهد الإمام بحسب المصلحة قال في "الفروع": وهو أظهر.
فعلى ما ذكره: يختص التحريق بالمتاع الذي غل وهو معه فلو استحدث متاعا أو رجع إلى بلده وله فيه متاع لم يحرق وكما لو انتقل عنه ببيع أو هبة في الأشهر وهذا إذا كان حيا حرا مكلفا ملتزما جزم به صاحب "الوجيز" والآدمي البغداديان ولو أنثى أو ذميا.(3/286)
إلا السلاح والمصحف والحيوان وما أخذ من الفدية أو أهداه الكفار لأمير الجيش أو بعض قواده فهو غنيمة.
ـــــــ
وظاهره أنه لا ينفي نص عليه بل يضرب للخبر وفي السارق لا يحرق متاعه وقيل بلى جزم به في "التبصرة".
"إلا السلاح"، لأنه يحتاج إليه في القتال "والمصحف"، لحرمته وشمل الجلد والكيس وما هو تابع له وقيل يباع ويتصدق بثمنه لقول سالم: بعه وتصدق بثمنه والأصح وكتب العلم لأنه ليس القصد الإضرار به في دينه بل في بعض دنياه "والحيوان" لنهيه عليه السلام أن يعذب بالنار إلا ربها وعدم دخوله في مسمى المتاع المأمور بإحراقه وكذا آلتها نص عليه لأنه يحتاج إليها وكذا نفقته لأنه لا يحرق عادة وكسهمه وثيابه التي عليه لئلا يترك عريانا وقيل ساتر عورته جزم به في "الوجيز".
وظاهره: أنه لا يحرق سهمه لعدم ذكره في أكثر الروايات وعنه بلى اختاره الآجري ولم يستثن إلا المصحف والدابة وأنه قول أحمد.
فرع: ما أبقت النار من حديد ونحوه فهو له فإذا تاب قبل القسمة رد ما أخذه في الغنيمة وبعدها يعطي الإمام خمسه ويتصدق بالباقي وقال الشافعي لا أعرف للصدقة وجها قال الآجري يأتي به الإمام فيقسمه في مصالح المسلمين ومن ستر على الغال وأخذ ما أهدي له منها أو باعه إمام أو حاباه فهو غال.
"وما أخذ من الفدية" أي: من فدية الأسارى فهو غنيمة بغير خلاف نعلمه لأنه عليه السلام قسم فداء أسارى بدر بين الغانمين ولأنه مال حصل بقوة الجيش أشبه السلاح "أو أهداه الكفار" أو واحد منهم "لأمير الجيش أو بعض قواده" جمع قائد، وهو نائبه "فهو غنيمة" أي للجيش نص عليه لأنه فعل ذلك خوفا من الجيش فيكون غنيمة كما لو أخذه بغيرها.
وشرطه: أن يكون ذلك في دار الحرب وعنه هو للمهدى له وقيل فيء لأنه(3/287)
ـــــــ
مال لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فلو كانت بدارنا فهي لمن أهديت إليه لأنه عليه السلام قبل هدية المقوقس واختص بها وقيل فيء واقتضى ذلك أن الهدية لأحد الرعية في دارهم يختص بها كما لو أهدي إليه إلى دار الإسلام وقال القاضي هو غنيمة. وفي "الشرح" احتمال: إن كان بينهما مهاداة قبل ذلك فهي له وإلا فهي للمسلمين كهدية القاضي والله أعلم.(3/288)
باب حكم الأرضين المغنومة
وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: ما فتح عنوة وهي ما أجلى عنها أهلها بالسيف فيخير الإمام بين قسمها ووقفها على المسلمين،
ـــــــ
باب حكم الأرضين المغنومة.
"وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: ما فتح عنوة" أي: قهرا وغلبة وهو عنا يعنو إذا ذل وخضع وشرعا: "هي ما أجلي عنها أهلها بالسيف" وهو نوعان أحدهما ما استأنف المسلمون فتحه عنوة "فيخير الإمام بين قسمها" على الغانمين كالمنقول "ووقفها على المسلمين" أي: على جميعهم لأن كلا ورد فيه خبر فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم نصف خيبر ووقف نصفها لنوائبه رواه أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة ووقف عمر الشام ومصر والعراق وسائر ما فتحه وأقره الصحابة ومن بعدهم على ذلك.
وعن عمر قال: أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس ببانا لا شيء لهم ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها رواه البخاري فيلزم الإمام فعل الأصلح كالتخيير في الأسارى فإن قسمها لم يحتج إلى لفظ ولم يضرب عليها خراجا لأنها ملك أربابها وتصير أرض عشر وإن وقفها اعتبر بلفظه به.
وفي "المغني" و"الشرح": لا يحتاج إلى النطق به بل لو تركها للمسلمين صار كالقسمة.(3/288)
ويضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ ممن هي في يده يكون أجره لها وعنه: تصير وقفا بنفس الاستيلاء. وعنه: تقسم بين الغانمين. الثاني: ما جلا عنها أهلها خوفا، فتصير وقفا بنفس الظهور عليها.
ـــــــ
"و" حينئذ "يضرب عليها خراجا مستمرا يؤخذ" في كل عام لقول عمر "ممن هي في يده يكون أجره لها" أي: ممن تقر معه من مسلم أو ذمي كالأجرة ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم لأنه بمنزلة أجرتها وفي "المجرد": أو يملكها لأهلها أو غيرهم بخراج فدل كلامهم أنه لو ملكها بغير خراج كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ملكه لم يجز وقاله أبو عبيد لأنها مسجد لجماعة المسلمين وهي مناخ من سبق بخلاف بقية البلدان.
"وعنه: تصير وقفا بنفس الاستيلاء"، لما روى أبو عبيد في "كتاب الأموال" عن الماجشون قال بلال لعمر بن الخطاب في القرى التي افتتحوها عنوة اقسمها بيننا وخذ خمسها ففال عمر لا ولكني أحبسها فتجري عليهم وعلى المسلمين فقال بلال وأصحابه اقسمها فقال عمر اللهم اكفني بلالا وذويه فما حال الحول وفيهم عين تطرف".
قال القاضي: ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الخلفاء أنه قسم أرضا أخذت عنوة إلا خيبر ولأنه أنفع للمسلمين وتكون أرض عشر.
"وعنه: تقسم بين الغانمين"، لأنه عليه السلام فعله وفعله أولى من فعل غيره يؤيده عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41] فأضاف الغنيمة إليهم من غير تعيين جنس المال فدل على التسوية بالمنقول.
تنبيه: ما فعله الإمام من وقف وقسمة فليس لأحد نقضه ذكره في "المغني" و"الشرح". ويأتي حكم البيع.
"الثاني: ما جلا عنها خوفا" وفزعا منا "فتصير وقفا بنفس الظهور عليها"، لأنها(3/289)
وعنه: حكمها حكم العنوة الثالث: ما صولحوا عليه وهو ضربان أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لنا ونقرها معهم بالخراج فهذه تصير وقفا أيضا الثاني أن نصالحهم على أنها لهم ولنا الخراج عليها فهذه ملك لهم خراجها كالجزية إن أسلموا سقط عنهم وإن انتقلت إلى مسلم فلا خراج عليه،
ـــــــ
ليست غنيمة فتقسم فيكون حكمها حكم الفيء أي للمسلمين كلهم. "وعنه: حكمها حكم العنوة"، لأنه مال ظهر عليه المسلمون بقوتهم فلا يكون وقفا بنفس الاستيلاء كالمنقول فعلى هذه الرواية تجري فيها الروايات السابقة قاله ابن المنجا لكن لا تصير وقفا إلا بوقف الإمام لها صرح به الجماعة لأن الوقف لا يثبت بنفسه فعلى هذا حكمها قبل وقف الإمام كالمنقول يجوز بيعها والمعاوضة بها وعلى الأولى يمتنع.
"الثالث: ما صولحوا عليه وهو ضربان أحدهما أن يصالحهم على أن الأرض لنا ونقرها معهم بالخراج فهذه تصير وقفا أيضا"، لأنه عليه السلام فتح خيبر وصالح أهلها أن يعمروا أرضها ولهم نصف ثمرتها فكانت للمسلمين دونهم قاله في "الشرح"، وهو شبيه بفعل عمر في أرض السواد فيكون حكم هذه كالتي قبلها وهل تصير وقفا بنفس الصلح أم بوقف الإمام مع الفوائد وهما دارا إسلام يجب على ساكنهما من أهل الذمة الجزية ونحوها.
"الثاني: أن نصالحهم على أنها لهم، ولنا الخراج عليها" فهو صلح صحيح لا مفسدة فيه فهذه ملك لهم أي لأربابها وتصير دار عهد "خراجها كالجزية" التي تؤخذ على رؤوسهم ما دامت بأيديهم "إن أسلموا سقط عنهم"، لأن الخراج الذي ضرب عليها إنما كان لأجل كفرهم فيسقط بالإسلام كالجزية وتبقى الأرض ملكا لهم بغير خراج يتصرفون فيها كيف شاءوا.
"وإن انتقلت إلى مسلم، فلا خراج عليه"، لأنه قصد بوضعه الصغار فوجب سقوطه بالإسلام كالجزية فإن صارت لذمي فوجهان: أحدهما، وهو ظاهر كلامهم لا يسقط لأنه بالشراء رضي بدخوله فيما دخل عليه البائع فكأنه(3/290)
ويقرون فيها بغير جزية لأنهم في غير دار الإسلام بخلاف التي قبلها والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان على قدر الطاقة وعنه يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله عنه لا يزاد ولا ينقص وعنه تجوز الزيادة دون النقص.
ـــــــ
التزمه. والثاني: يسقط لعدم التزامه به.
وعنه: لا يسقط خراجها بإسلام ولا غيره لأنه حق على رقبة الأرض فهو كالخراج الذي ضربه عمر وكذا في "الترغيب"، وذكر فيما صالحناهم على أنه لنا ونقره معهم بخراج لا يسقط خراجه بإسلام وعنه بلى كجزية.
"ويقرون فيها" أي: في الأرض التي صولحوا على أنها لهم "بغير جزية، لأنهم في غير دار الإسلام بخلاف التي قبلها" أي: لا يقرون في الأرض التي صولحوا على أنها لنا إلا بجزية لأن الدار دار إسلام فلا بد فيها من التزام الجزية.
"والمرجع في الخراج والجزية إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان" قال الخلال: رواه الجماعة وعليه مشايخنا لأنه مصروف في المصالح فكان مفوضا إلى اجتهاد الإمام "على قدر الطاقة" فيضرب على كل أرض وإنسان ما يطيقه ويحتمله لأن ذلك يختلف.
"وعنه: يرجع إلى ما ضربه عمر رضي الله عنه لا يزاد ولا ينقص"، لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره كيف ولم ينكره أحد من الصحابة مع شهرته فكان كالإجماع.
"وعنه: تجوز الزيادة" في الخراج "دون النقص"، لما روى عمرو بن ميمون أنه سمع عمر يقول لحذيفة وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقال عثمان والله لو زدت عليهم لأجهدتهم فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم ولأنه ناظر في مصالح المسلمين كافة فجاز فيه دون النقصان.
وعنه: جوازها في الخراج دون الجزية اختارها الخرقي والقاضي وقال: نقله الجماعة وصححه في المحرر لأن الخراج في معنى الأجرة بخلاف الجزية فإن(3/291)
قال أحمد وأبو عبيد: أصح وأعلا حديث في حديث عمرو بن ميمون يعني أن عمر وضع على كل جريب درهما وقفيزا وقدر القفيز ثمانية أرطال بالمكي فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي والجريب عشر قصبات في عشر قصبات،
ـــــــ
المقصود منها الإذلال فهي في معنى العقوبة فلم تتغير كالحدود.
وعنه: جوازها فيهما إلا جزية أهل اليمن لا يخرج عن الدينار فيها اختاره أبو بكر لأنه عليه السلام قررها عليهم كذلك.
"قال أحمد و أبو عبيد" القاسم بن سلام: "أصح وأعلا حديث في أرض السواد حديث عمرو بن ميمون يعني أن عمر وضع على كل جريب درهما و قفيزا" أي: على جريب الزرع درهما وقفيزا من طعامه وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب الرطبة ستة دراهم هذا هو الذي وظفه عمر في أصح الروايات عنه وروى عنه أبو عبيد أنه بعث عثمان بن حنيف لمساحة أرض السواد فضرب على جريب الزيتون اثني عشر درهما وعلى جريب الكرم عشرة دراهم وعلى جريب النخل ثمانية دراهم وعلى جريب الرطبة ستة دراهم وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشعير درهمين والروايات مختلفة في ذلك فالأخذ بالأعلى والأصح أولى.
"وقدر القفيز: ثمانية أرطال بالمكي" نص عليه واختاره القاضي لأن الرطل العراقي لم يكن وإنما كان المكي وهو رطلان، "فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي". وقال أبو بكر قد قيل قدره ثلاثون رطلا. وقدم في "المحرر" أن القفيز ثمانية أرطال صاع عمر فغيره الحجاج نص عليه وذلك ثمانية أرطال بالعراقي لأنه هو القفيز الذي كان معروفا بالعراق وهو المسمى بالقفيز الحجاجي وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض حنطة أو شعيرا ذكره في "الكافي" و"الشرح".
"والجريب: عشر قصبات في عشر قصبات" أي: مائة قصبة مكسرة ومعنى الكسر ضرب أحد العددين في الآخر فيصير أحدهما كسرا للآخر والقصبة: هي(3/292)
والقصبة ستة أذرع وهو ذراع وسط وقبضة وإبهام قائمة وما لا يناله الماء مما لا يمكن زرعه فلا خراج عليه فإن أمكن زرعه عاما بعد عام وجب نصب خراجه في كل عام والخراج على المالك دون المستأجر،
ـــــــ
المقدار المعلوم الذي يمسح به المزارع كالذراع للبز واختير القصب على غيره لأنه لا يطول ولا يقصر وهو أخف من الخشب.
"والقصبة ستة أذرع" بالذراع العمرية أي بذراع عمر وهو ذراع وسط والمعروف بالذراع الهاشمية سماه المنصور به، "وهو ذراع وسط" أي: بيد الرجل المتوسط الطول "وقبضة وإبهام قائمة" وهو معروف بين الناس.
"وما لا يناله الماء" أي: ماء السقي "مما لا يمكن زرعه فلا خراج عليه"، لأن الخراج أجرة الأرض وما لا منفعة فيه لا أجر له.
وعنه: يجب على ما أمكن رزعه بماء السماء لأن المطر يربي زرعها في العادة قال ابن عقيل وكذا إذا أمكن سقيها بالدواليب وإن أمكن إحياؤه فلم يفعل وقيل أو زرع ما لا ماء له فروايتان وفي "الواضح": روايتان فيما لا ينتفع به مطلقا والمذهب أن الخراج لا يجب إلا على ما يسقى، وإن لم يزرع "فإن أمكن رزعه عاما بعد عام وجب نصفه خراجه في كل عام"، لأن نفع الأرض على النصف فكذا الخراج في مقابلة النفع وهو معنى كلامه في "المحرر": ما زرع عاما وأريح آخر عادة. وفي "الترغيب" كـ"المحرر" وفيه: يؤخذ خراج ما لم يزرع عن أقل ما يزرع وإن البياض بين النخل ليس فيه إلا خراجها فإن ظلم في خراجه لم يحتسبه من العشر لأنه ظلم وعنه بلى لأن الآخذ لهما واحد اختاره أبو بكر.
فرع: إذا يبس الكرم بجراد أو غيره سقط من الخراج حسبما تعطل من النفع وإذا لم يمكن النفع به ببيع أو إجارة أو غيرها لم تجز المطالبة ذكره الشيخ تقي الدين.
"والخراج" يجب "على المالك دون المستأجر"، لأنه على الرقبة وهي للمالك كفطرة العبد.(3/293)
وهو كالدين يحبس به الموسر وينظر به المعسر ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها ويجوز له أن يرشو العامل ويهدي له ليدفع عنه الظلم في خراجه ولا يجوز ذلك ليدع له منه شيئا وإن رأى الإمام المصلحة في إسقاط الخراج عن إنسان جاز.
ـــــــ
وعنه: على المستأجر كالعشر "وهو كالدين" قال أحمد: يؤديه ثم يزكي ما بقي يحبس به الموسر لأنه حق عليه أشبه أجرة الساكن "وينظر به المعسر"، للنص، "ومن عجز عن عمارة أرضه أجبر على إجارتها أو رفع يده عنها" فيدفعها إلى من يعمرها ويقوم بخراجها لأن الأرض للمسلمين فلا يجوز تعطيلها عليهم ولأن كل واحد منهما محصل للغرض فلا معنى للتعيين وعلم منه أنه إذا كانت في يده أرض خراجية فهو أحق بها بالخراج كالمستأجر وتنقل إلى وارثه كذلك فلو آثر بها أحدا صار الباني أحق بها.
وظاهره: أنه لا خراج على المساكن وجزم به أكثر الأصحاب وإنما يجب على المزارع وإنما كان أحمد يمسح داره ويخرج عنها لأن أرض بغداد حين فتحت كانت مزارع.
تنبيه: إذا كان بأرض الخراج يوم وقفها شجر فثمره المستقبل لمن يقر في يده وفيه عشر الزكاة كالمتجدد فيها وقيل هو للمساكين بلا عشر جزم به في "الترغيب". ولعله مبني على أن الشجر لا يتبع الأرض في البيع وكذا هنا فيبقى ملك المسلمين بلا عشر لأنه لا يجب على بيت المال.
"ويجوز له" أي: لصاحب الأرض "أن يرشو العامل ويهدي له ليدفع عنه الظلم في خراجه"، لأنه يتوصل بذلك إلى كف اليد العادية عنه فالرشوة ما أعطاه بعد طلبه والهدية ابتداء قاله في "الترغيب". "ولا يجوز له ذلك ليدع له منه شيئا"، لما فيه من إبطال الحق فحرم على الآخذ والمعطي كرشوة الحاكم.
"وإن رأى الإمام المصلحة في إسقاط الخراج عن إنسان جاز"، لأنه يتصرف بالمصلحة أشبه المن على العدو. وفي "المحرر" و"الفروع": للإمام وضعه عمن له دفعه(3/294)
ـــــــ
إليه وظاهره أن غير الإمام ليس له ذلك قال أحمد لا يدع خراجا ولو تركه أمير المؤمنين كان هذا فأما من دونه فلا.
فرع: مصرف الخراج كفيء وما تركه من العشر أو تركه الخارص تصدق بقدره.(3/295)
باب القيء
...
باب الفيء
وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال كالجزية والخراج والعشر وما تركوه فزعا وخمس خمس الغنيمة ومال من مات لا وارث له فيصرف في المصالح،
ـــــــ
باب الفيء
أصله من الرجوع يقال فاء الظل إذا رجع نحو المشرق وسمي المال الحاصل على ما يذكره فيئا لأنه رجع من المشركين إليهم والأصل فيه قوله تعالى: { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} الآيتين [الحشر: 6]
"وهو ما أخذ من مال المشركين بغير قتال" يحترز به عن الغنيمة "كالجزية والخراج والعشر وما تركوه فزعا" من المسلمين "وخمس خمس الغنيمة ومال من مات لا وارث له" من أهل الذمة ويلحق به المرتد إذا هلك "فيصرف في المصالح" أي: مصالح المسلمين للآيتين ولهذا لما قرأ عمر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية [الحشر: 8] قال: هذه استوعبت المسلمين وقال أيضا ما من أحد من المسلمين إلا له في هذا المال نصيب إلا العبيد وذكر أحمد الفيء فقال فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير ولأن المصالح نفعها عام والحاجة داعية إلى فعلها تحصيلا لها.
واختار أبو حكيم والشيخ تقي الدين لا حق فيه لرافضة وذكره في "الهدي" عن مالك وأحمد وقيل يختص بالمقاتلة لأنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته لحصول النصرة فلما مات صارت بالجند ومن يحتاج إليه المسلمون.(3/295)
ويبدأ بالأهم فالأهم من سد الثغور وكفاية أهلها وما يحتاج إليه من يدفع عن المسلمين ثم الأهم فالأهم من سد البثوق وكري الأنهار وعمل القناطر وأرزاق القضاة وغير ذلك ولا يخمس وقال الخرقي يخمس فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه للمصالح.
ـــــــ
"ويبدأ بالأهم فالأهم" من المصالح العامة لأهل الدار التي بها حفظ المسلمين وأمنهم من العدو "من سد الثغور" بأهل القوة من الرجال والسلاح "وكفاية أهلها" أي القيام بكفايتهم "وما يحتاج إليه" من غير أهل الثغور "من يدفع عن المسلمين"، لأن الحاجة داعية إلى ذلك ودفع الكفار هو المقصود فلذلك قدم على غيره "ثم الأهم فالأهم من سد البثوق" جمع بثق وهو المكان المنفتح في جانبي النهر "وكري الأنهار" أي: تعزيلها "وعمل القناطر" وهي الجسور "وأرزاق القضاة" العلماء "وغير ذلك" كالفقهاء والأئمة والمؤذنين ونحوهم مما للمسلمين فيه نفع ولأن ذلك من المصالح العامة أشبه الأول.
"ولا يخمس" في ظاهر المذهب وقاله الأكثر لأن الله تعالى أضافه إلى أهل الخمس كما أضاف خمس الغنيمة فإيجاب الخمس فيه لأهله دون باقيه منع لما جعله الله تعالى لهم بغير دليل ولو أريد الخمس منه لذكره الله تعالى كما ذكره في خمس الغنيمة فلما لم يذكره ظهر إرادة الاستيعاب.
"وقال الخرقي: يخمس" هذا رواية واختاره أبو محمد يوسف الجوزي لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية [الحشر: 7]، لأنها اقتضت أن يكون جميعه هؤلاء الأصناف ولا شك أنهم أهل الخمس والآية السابقة وما ورد عن عمر وغيره يدل على اشتراك جميع المسلمين فيه فوجب الجمع بينهما للتناقض والتعارض وفي إيجاب الخمس فيه جمع بين الأدلة فإن خمسه لمن ذكر وسائره لجميع المسلمين ولأنه مال مظهور عليه فوجب تخميسه كالغنيمة.
"فيصرف خمسه إلى أهل الخمس وباقيه للمصالح"، لما ذكرنا لكن قال القاضي لم أجد لما قال الخرقي نصا فأحكيه وإنما نص على أنه غير مخموس(3/296)
وإن فضل منه فضل قسم بين المسلمين ويبدأ بالمهاجرين ثم الأنصار ثم سائر المسلمين. وهل يفاضل بينهم على روايتين.
ـــــــ
قال ابن المنذر: ولا يحفظ عن أحد قبل الشافعي واختاره الآجري لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسمه خمسة وعشرين سهما فله أربعة أخماس ثم خمس الخمس أحد وعشرون سهما في المصالح وبقية خمس الخمس لأهل الخمس وذكر ابن الجوزي في "مسند عمر": كان ما لم يوجف عليه ملكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة واختاره أبو بكر.
"وإن فضل منه فضل قسم بين المسلمين"، للآية ولأنه مال فضل عن حاجتهم فقسم بينهم لذلك وظاهره أن الغني كالفقير على المذهب لأنه مال استحقوه بمعنى مشترك فاستووا فيه كالميراث وعنه يقدم المحتاج قال الشيخ تقي الدين هي أصح عنه لقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ}، ولأن المصلحة في حقه أعظم منها في حق غيره لأنه لا يتمكن من حفظ نفسه من العدو بالعدة ولا بالهرب لفقره بخلاف الغني ويستثنى منه العبيد فإنه لا شيء لهم منه نص عليه لأنه مال فلا حظ لهم فيه كالبهائم وأعطى الصديق العبيد ذكره الخطابي.
فرع: ليس لولاة الفيء أن يستأثروا منه فوق الحاجة كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه أو إلى من يهوونه ذكره الشيخ تقي الدين.
"و" يستحب أن "يبدأ بالمهاجرين" جمع مهاجر اسم فاعل من هاجر بمعنى هجر ثم غلب على الخروج من أرض إلى أخرى وتطلق الهجرة بأن يترك الرجل أهله وماله وينقطع بنفسه إلى مهاجره ولا يرجع من ذلك بشيء وهجرة الأعراب وهو أن يدع البادية ويغزو مع المسلمين وهي دون الأول في الأجر والمراد هنا أولاد المهاجرين الذين هجروا أوطانهم وخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جماعة مخصوصون "ثم الأنصار" وهم الحيان الأوس والخزرج وقدموا على غيرهم لسابقتهم وآثارهم الجميلة "ثم سائر المسلمين"، ليحصل التعميم بالدفع وصرح في الشرح بأن العرب تقدم على العجم والموالي.
"وهل يفاضل بينهم" بالسابقة؟ "على روايتين" كذا في "المحرر" و"الفروع":(3/297)
ومن مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه ومن مات من أجناد المسلمين دفع إلى امرأته و أولاده الصغار كفايتهم فإذا بلغ ذكورهم فاختاروا أن يكونوا في المقاتلة فرض لهم وإن لم يختاروا تركوا.
ـــــــ
إحداهما: يسوي بينهم وجزم بها في "الوجيز"، وهي مذهب أبي بكر علي رضي الله عنهما لأن الغنائم تقسم بين من حضر بالسوية فكذا الفيء لكن أبو بكر أعطى العبيد ومنعهم علي والثانية يجوز التفاضل بينهم وهي مذهب عمر وعثمان رضي الله عنهما قال عمر لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه ولأنه عليه السلام قسم النفل بين أهله متفاضلا على قدر غنائمهم وهذا معناه بكذا في "المغني" و"الشرح" أن ذلك مفوض إلى اجتهاد الإمام بحسب المصلحة وقد فرض عمر لكل واحد من المهاجرين من أهل بدر خمسة آلاف ومن الأنصار أربعة آلاف والعطاء الواجب لا يكون إلا لبالغ عاقل حر بصير صحيح يطيق القتال فإن حدث به مرجو الزوال كزمانة ونحوها فلا حق له في الأصح.
"ومن مات بعد حلول وقت العطاء دفع إلى ورثته حقه"، لأنه مات بعد الاستحقاق وانتقل حقه إلى ورثته كسائر الموروثات.
"ومن مات من أجناد المسلمين دفع إلى امرأته و أولاده الصغار كفايتهم"، لما فيه من تطييب قلوب المجاهدين لأنهم إذا علموا أن عيالهم يكفون المؤونة بعد موتهم توفروا على الجهاد بخلاف عكسه فإن تزوجت المرأة أو واحدة من البنات سقط فرضها لأنها خرجت عن عيال الميت. "فإذا بلغ ذكورهم" وكانوا أهلا للقتال "فاختاروا أن يكونوا في المقابلة فرض لهم"، لأنهم أهل لذلك ففرض لهم كآبائهم وفي "الأحكام السلطانية": مع الحاجة إليهم. "وإن لم يختاروا تركوا"، لأن البالغ لا يجبر على خلاف مراده إلا لواجب عليه ولا شك أن دخولهم في ديوان المقاتلة ليس بواجب.
تنبيه: بيت المال ملك للمسلمين فيضمنه متلفه ويحرم التصرف فيه إلا بإذن الإمام ذكره في "عيون المسائل" و"الانتصار" وذكر القاضي وابنه أن المالك غير(3/298)
ـــــــ
معين وفي "المغني" كالأول. وللإمام تعيين مصارفه وترتيبها فافتقر إلى إذنه.(3/299)
باب الأمان
يصح أمان المسلم المكلف ذكرا كان أو أنثى حرا أو عبدا مطلقا أو أسيرا.
ـــــــ
باب الأمان
الأمان: ضد الخوف وهو مصدر أمن أمنا وأمانا والأصل فيه قوله تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، وقوله عليه السلام: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم" متفق عليه من حديث علي وإذا أعطوا الأمان حرم قتلهم وأخذ مالهم والتعرض إليهم.
"يصح أمان المسلم المكلف" أي: البالغ العاقل فلا يصح من كافر وإن كان ذميا للخبر ولأنه متهم على الإسلام وأهله فلم يصح منه كالحربي ولا من طفل ومجنون لأن كلامه غير معتبر فلا يثبت به حكم ومن زال عقله بنوم أو سكر أو إغماء هو كالمجنون لأنه لا يعرف المصلحة من غيرها. "ذكرا كان أو أنثى" نص عليه، ولقوله عليه السلام: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" رواه البخاري وأجارت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص بن الربيع فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم. "حرا" اتفاقا "أو عبدا" في قول أكثر العلماء لقول عمر العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه رواه سعيد ولقوله عليه السلام: "يسعى بها أدناهم". فإن كان كذلك فصح أمانه بالحديث وإن كان غيره أدنى منه فيصح من باب أولى.
ولأنه مسلم مكلف فصح منه كالحر "مطلقا" سواء كان مأذونا له في القتال أو لا، "أو أسيرا" نص على ذلك وللعموم وبعضهم شرط فيه أن يكون مختارا ولا حاجة إليه لأن المسلم الحر المطلق لو أكره على اختلفا لم يصح فلا حاجة لاختصاص الأسير به.(3/299)
وفي أمان الصبي المميز روايتان ويصح أمان الإمام لجميع المشركين وأمان الأمير لمن جعل بإزائه وأمان أحد الرعية للواحد والعشرة والقافلة ومن قال لكافر أنت آمن.
ـــــــ
"وفي أمان الصبي المميز روايتان": إحداهما: لا يصح لعدم تكليفه كالمجنون والثانية تصح وهي المذهب قال أبو بكر رواية واحدة وحمل الأول على غير المميز لعموم الخبر ولأنه عاقل فصح منه كالبالغ بخلاف المجنون وظاهره أنه يصح منجزا ومعلقا بشرط.
ومن شرط صحته أن يكون مختارا ولم يصرح به للعلم به وعدم الضرر علينا وأن لا تزيد مدته على عشر سنين قاله في "الترغيب". وفي جواز إقامتهم بدارنا هذه المدة بلا جزية وجهان وشرط في "عيون المسائل" لصحته معرفة المصلحة فيه وذكر جماعة الإجماع في المرأة بدون هذا الشرط.
"ويصح أمان الإمام لجميع المشركين"، لأن ولايته عامة، "وأمان الأمير لمن جعل بإزائه" أي: بحذائه لأن له الولاية عليهم فقط فدل على أنه كآحاد المسلمين في حق غيرهم، "وأمان أحد الرعية" قال الجوهري الرعية العامة "للواحد والعشرة والقافلة"، كذا ذكره معظمهم لعموم الخبر فقيل لقافلة صغيرة وحصن صغير وجزم به في "الشرح"، لأن عمر أجاز أمان العبد لأهل الحصن.
فعلى هذا لا يصح لأهل بلدة كبيرة لا رستاق وجمع كبير لأنه يفضي إلى تعطيل الجهاد والافتئات على الإمام وأطلق في "الروضة": كحصن أو بلد وأنه يستحب أن لا يجار على الأمير إلا بإذنه وقيل لمائة.
فرع: يصح أمان غير الإمام للأسير بعد الاستيلاء عليه فيعصمه من القتل نص عليه لقصة زينب في أمانها لزوجها وقال القاضي في "المجرد": لا يصح إلا من الإمام لأن أمر الأسير إليه فلا يجوز الافتئات عليه.
"ومن قال لكافر: أنت آمن"، فقد أمنه لقوله عليه السلام يوم فتح مكة "من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن" كقوله: لا خوف عليك ولا تذهل وكما لو(3/300)
أو: لا بأس عليك أو أجرتك أو قف أو ألق سلاحك أو مترس فقد أمنه ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه فأنكره فالقول قوله
ـــــــ
أمن يده أو بعضه، "أو: لا بأس عليك"، لأن عمر لما قال للهرمزان لا بأس عليك قالت له الصحابة قد أمنته لا سبيل لك عليه رواه سعيد. "أو: أجرتك" لقوله عليه السلام: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" "أو: قف" كـ:قم، "أو: ألق سلاحك" لأن الكافر يعتقده أمانا أشبه ما لو سلم عليه "أو: مترس" ومعناه لا تخف وهو بفتح الميم والتاء وسكون الراء وآخره سين مهملة ويجوز سكون التاء وفتح الراء وهي كلمة أعجمية "فقد أمنه"، لقول ابن مسعود: إن الله يعلم كل لسان فمن كان منكم أعجميا فقال مترس فقد أمنه والإشارة كالقول.
قال عمر: لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك فنزل إليه فقتله لقتلته رواه سعيد وقال أحمد إذا أشير إليه بشيء غير الأمان فظنه أمانا فهو أمان وكل شيء يرى العلج أنه أمان فهو أمان وقال إذا اشتراه ليقتله فلا يقتله لأنه إذا اشتراه فقد أمنه.
فإن قلت: كيف يصح الأمان بالإشارة مع القدرة على النطق بخلاف البيع والطلاق قلت تغليبا لحقن الدم مع أن الحاجة داعية إلى الإشارة لأن الغالب فيهم عدم فهم كلام المسلمين، كالعكس.
وشرط انعقاد الأمان أن لا يرده الكافر لأنه إيجاب حق فلم يصح مع الرد كالبيع وإن قبله ثم رده انتقض لأنه حق له فسقط بإسقاطه كالرق.
فرع: يقبل قول عدل إني أمنته في الأصح كإخبارهما أنهما أمناه لأنهما غير مهتمين كالمرضعة على فعلها وإذا أمنه سرى إلى ما معه من أهل ومال إلا أن يقول أمنتك نفسك فقط.
"ومن جاء بمشرك فادعى أنه أمنه فأنكره، فالقول قوله" أي: قول المنكر المسلم هذا هو المجزوم به لأن الأصل إباحة دم الحربي وعدم الأمان. "وعنه: قول الأسير" اختاره أبو بكر، لأن صدقه محتمل فيكون قوله شبهة في حقن(3/301)
وعنه: قول الأسير وعنه قول من يدل الحال على صدقه ومن أعطي أمانا ليفتح حصنا ففتحه واشتبه علينا حرم قتلهم واسترقاقهم وقال أبو بكر يخرج واحد بالقرعة ويسترق الباقون.
ـــــــ
دمه. "وعنه: قول من يدل الحال على صدقه"، لأن ظاهر الحال قرينة تدل على الصدق فعلى هذا إن كان الكافر ذا قوة ومعه سلاحه فالظاهر صدقة وإن كان ضعيفا مسلوبا سلاحه فالظاهر كذبه فلا يلتفت إليه لأنه قد تنازع الحكم أصلان:
أحدها: مخالفة الأصل للدعوى الموجبة.
والثاني: احتمال الصدق في الدعوى المانعة فوجب الترجيح بالقرينة قال في "الفروع": ويتوجه مثله أعلاج استقبلوا سرية دخلت بلد الروم فقالوا جئنا مستأمنين قال في رواية أبي داود إن استدل عليهم بشيء قلت إن هم وقفوا فلم يبرحوا ولم يجردوا سلاحا فرأى لهم الأمان.
فرع: إذا طلب الكافر الأمان ليسمع كلام الله ويعرف شرائع الإسلام لزم إجابته ثم يرد إلى مأمنه بغير خلاف نعلمه للنص قال الأوزاعي هي إلى يوم القيامة.
"ومن أعطي أمانا ليفتح حصنا ففتحه" أو أسلم واحد منهم "واشتبه علينا، حرم قتلهم"، نص عليه لأن كل واحد منهم يحتمل صدقه واشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه فوجب تغليب التحريم كما لو اشتبه زان محصن بمعصومين. "واسترقاقهم"، لأن استرقاق من لا يحل استرقاقه محرم.
وعلم منه أن المسلمين إذا حاصروا حصنا فطلب واحد منهم الأمان ليفتحه لهم جاز أن يعطوه أمانا لقول الأشعث بن قيس. "وقال أبو بكر" وصاحب "التبصرة": "يخرج واحد بالقرعة"، لأن الحق واحد منهم غير معين ويخرج صاحب الأمان بها، "ويسترق الباقون"، كما لو أعتق عبدا من عبيده ثم أشكل بخلاف القتل فإنه يدرأ بها بالشبهة قال في "الفروع": ويتوجه مثله. لو نسي أو(3/302)
ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن ويقيمون مدة الهدنة بغير جزية وقال أبو الخطاب لا يقيمون سنة إلا بجزية ومن دخل دار الإسلام بغير أمان فادعى أنه رسول أو تاجر ومعه متاع يبيعه قبل منه.
ـــــــ
اشتبه من لزمه قود فلا قود وفي الدية بقرعة الخلاف.
"ويجوز عقد الأمان للرسول والمستأمن"، لأنه عليه السلام كان يؤمن رسل المشركين ولما جاءه رسل مسيلمة قال: "لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم" ، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك إذ لو قتل لفاتت مصلحة المراسلة وظاهره جواز عقد الأمان لكل منها مطلقا ومقيدا بمدة قصيرة وطويلة بخلاف الهدنة فإنها لا تجوز إلا مقيدة لأن في جوازها مطلقا تركا للجهاد.
"ويقيمون مدة الهدنة" أي: الأمان "بغير جزية"، نص عليه وقاله القاضي وجزم به في "الوجيز"، لأنه كافر أبيح له الإقامة في دارنا من غير التزام جزية فلم يلزمه كالنساء. "وقال أبو الخطاب: لا يقيمون سنة إلا بجزية"، واختاره الشيخ تقي الدين لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] وأجيب بأن معناه أي يلتزمونها ولم يرد حقيقة الإعطاء ولأنها تخصصت بما دون الحول اتفاقا فيقاس على المحل المخصوص.
"ومن دخل دار الإسلام بغير أمان فادعى أنه رسول أو تاجر ومعه متاع يبيعه قبل منه" لأن ما ادعاه ممكن فيكون شبهة في درء القتل ولأنه يتعذر إقامة البينة على ذلك وفيه دلالة على أنه لا يتعرض إليه وصرح به الأصحاب أما الرسول فلما سبق وأما التاجر فلأنه إذا جاء بماله ولا سلاح معه دل على قصده الأمان ولم يشترط المؤلف هنا أن تكون العادة جارية به والمذهب اشترطه لأن العادة جارية مجرى الشرط فإذا انتفت ودخل بغير أمان وجب بقاؤه على ما كان عليه من عدم العصمة وظاهره أنه إذا لم يكن معه تجارة لا يقبل منه إذا قال جئت مستأمنا لأنه غير صادق.(3/303)
وإن كان جاسوسا خير الإمام فيه كالأسير وإن كان ممن ضل الطريق، أو حملته الريح في مركب إلينا فهو لمن أخذه وعنه يكون فيئا للمسلمين.
وإذا أودع المستأمن ماله مسلما أو أقرضه إياه ثم عاد إلى دار الحرب بقي الأمان في ماله،
ـــــــ
"وإن كان جاسوسا" وهو صاحب سر الشر وعكسه الناموس "خير الإمام فيه، كالأسير" وهو قول الأوزاعي لأنه كافر قصد نكاية المسلمين فخير الإمام فيه بعد القدرة عليه. "وإن كان ممن ضل الطريق أو حملته الريح في مركب إلينا فهو لمن أخذه" على المذهب، لأنه مباح ظهر عليه بغير قتال في دار الإسلام فكان لآخذه كالصيد وكذا لو شرد إلينا دابة من دوابهم أو أبق رقيق.
وظاهره أنه لآخذه غير مخموس، وصرح به في "المحرر". "وعنه: يكون فيئا للمسلمين"، لأنه مال مشرك ظهر عليه بغير قتال أشبه ما لو تركوه فزعا وعنه إن دخل قرية وأخذوه فهو لأهلها لأنه إنما تمكن بأخذه بقوتهم.
تنبيه: يحرم دخوله إلينا بلا إذن وعنه يجوز رسولا وتاجرا اختاره أبو بكر وفي "الترغيب": دخوله لسفارة أو لسماع قرآن أمن بلا عقد لا لتجارة على الأصح فيها بلا عادة فإذا دخل إلينا بأمان فجار انتقض أمانه لأن ذلك غدر ولا يصلح في ديننا ولو دخل دار الحرب رسول أو تاجر بأمانهم فخيانتهم محرمة عليه وإن لم يذكر لأن المعنى يدل.
"وإذا أودع المستأمن ماله مسلما أو أقرضه إياه ثم عاد إلى دار الحرب" مقيما أو نقض ذمي عهده ولحق بدار الحرب أو لم يلحق "بقي الأمان في ماله" هذا هو المشهور لأنه لما دخل دار الإسلام بأمان ثبت لماله فإذا بطل في نفسه بدخوله إليها بقي في ماله الذي لم يدخل الاختصاص المبطل بنفسه لا يقال إذا بطل في المتبوع فالتابع كذلك لأنه لم يثبت فيه تبعا وإنما ثبت فيهما جميعا فإذا بطل في إحداهما بقي الآخر ولو سلم فيجوز بقاء حكم التبع وإن(3/304)
ويبعث إليه إن طلبه فإن مات فهو لوارثه فإن لم يكن له وارث فهو فيء وإن أسر الكفار مسلما فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة لزمه الوفاء لهم.
ـــــــ
زال في المتبوع لأن أم الولد ثبت لولدها حكم الاستيلاد تبعا لها ويبقى حكمه له بعد موتها.
وقيل ينتقض فيه ويصير فيئا قدمه في "المحرر"، لأنه مال حربي قدر عليه بغير حرب فيكون فيئا كمال من لا وارث له منهم وظاهر كلام أحمد أنه ينتقض في مال الذمي دون الحربي وصححه في "المحرر"، لأن الأمان ثبت في مال الحربي بدخوله معه فالأمان ثابت فيه على وجه الأصالة كما لو بعثه مع وكيل أو مضارب بخلاف مال الذمي فإنه يثبت له تبعا لأنه مكتسب بعد عقد ذمة وقولنا: "مقيما" يخرج به ما لو خرج إليها لتجارة أو رسالة فإن أمانه باق لأنه لم يخرج به عن نية الإقامة بدار الإسلام.
"و" على الأول "يبعث إليه إن طلبه" لأنه ملكه فلو تصرف فيه صح. "فإن مات" بدار الحرب، "فهو لوارثه"، لأن الأمان لم يبطل فيه وينتقل إليه على صفته من تأجيل ورهن فكذا هنا. "فإن لم يكن له وارث، فهو فيء"، لأنه مال كافر لا مستحق له فصار فيئا كما لو مات في دارنا وذكر القاضي أنه إذا كان له وارث في دار الإسلام لم يرثه لاختلاف الدارين فلو لم يمت حتى أسر واسترق فقيل يصير فيئا اختاره المجد والأشهر أنه يوقف فإن عتق أخذه لأنه مال لمالك لم يوجد فيه سبب الانتقال فيتوقف حتى يتحقق السبب وإن مات قنا ففيء لأن الرقيق لا يورث وقيل لوارثه لأن بموته على الرق تبينا بطلان ملكه من حين استرقاقه فيكون لورثته.
"وإن أسر الكفار مسلما فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة" أو أبدا قاله في "المحرر" و"الفروع" "لزمه الوفاء لهم" نص عليه لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91]، ولقوله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم". فعليه ليس له أن يهرب وقيل بلى.(3/305)
وإن لم يشرطوا شيئا أو شرطوا كونه رقيقا فله أن يقتل ويسرق ويهرب وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالا وإن عجز عنه عاد إليهم لزمه الوفاء لهم إلا أن يكون امرأة فلا ترجع إليهم وقال الخرقي لا يرجع الرجل أيضا.
ـــــــ
"وإن" أطلقوه و"لم يشرطوا شيئا أو شرطوا كونه رقيقا" ولم يؤمنوه "له أن يقتل ويسرق ويهرب" نص عليه لأنه لم يصدر منه ما يثبت به الأمان لأن الإطلاق من الوثاق لا يكون أمانا ومع الرق ينتفي الأمان لكن قال أحمد إذا أطلقوه فقد أمنوه فلو أحلفوه مكرها لم ينعقد وفي "الشرح": احتمال لا يلزمه الإقامة فإن أطلقوه وأمنوه فله الهرب لا الخيانة ويرد ما أخذ منهم لأنهم صاروا بأمانة في أمان منه فإذا خالف فهو غادر.
"وإن أطلقوه بشرط أن يبعث إليهم مالا" باختياره لزمه إنفاذ المال إليهم إذا قدر عليه لأنه عاهدهم على أداء مال فلزمه الوفاء به كثمن البيع. "وإن عجز عنه عاد إليهم لزمه الوفاء لهم" نص عليهما ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى وفي الغدر مفسدة في حقهم لكونهم لا يأمنون بعده والحاجة داعية إليه "إلا أن يكون امرأة فلا يرجع إليهم" لقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، ولأن في رجوعها تسليطا لهم على وطئها حراما.
"وقال الخرقي: لا يرجع الرجل أيضا"، وهو رواية عن أحمد وقاله الحسن والنخعي والثوري لأن الرجوع إليهم والبقاء في أيديهم معصية فلم يلزم بالشرط كالمرأة وكما لو شرط قتل مسلم والأول المذهب لأنه عليه السلام لما عاهد قريشا على رد من جاء مسلما فرد أبا جندل إلى أبيه سهيل ولم يأت أحد من الرجال في تلك المدة إلا رد ه فإن تعارض فداء عالم وجاهل بدئ بالجاهل للخوف عليه وقيل بالعالم لشرفه وحاجتنا إليه وكثرة الضرر بفتنته ولو جاء العلج بأسير على أن يفادى بنفسه فلم يجد قال أحمد يفديه المسلمون إن لم يفد من بيت المال ولا يرد.
مسألة: إذا اشتراه مسلم بإذنه لزمه ما اشتراه به لأنه كنائبه في شراء نفسه.(3/306)
ـــــــ
وكذا إن كان بغير إذنه والمراد ما لم ينو التبرع فلو اختلفا في قدر الثمن قدم قول الأسير بالأصل ويجب فداء أسارى المسلمين مع الإمكان لقوله: "وفكوا العاني". وكذا شراء أسرى أهل الذمة وقاله الخرقي لأنا قد التزمنا حفظهم بأخذ جزيتهم فلزمنا الدفع من ورائهم وقال القاضي لا يجب إلا إذا استعان بهم الإمام في قتالهم فيبدأ بفداء أسارى المسلمين قبلهم لحرمتهم.(3/307)
باب الهدنة
ولا يصح عقد الهدنة والذمة إلا من الإمام أو نائبه.
ـــــــ
باب الهدنة
وأصلها: السكون وشرعا هي عقد إمام أو نائبه على ترك القتال مدة معلومة لازمة ويسمى مهادنة وموادعة ومعاهدة ومسالمة والأصل فيها قوله تعالى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] والسنة ما روى مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشا على وضع القتال عشر سنين والمعنى لأنه قد يكون بالمسلمين ضعف فيهادنهم حتى يقووا.
"ولا يصح عقد الهدنة والذمة إلا من الإمام"، لفعله عليه السلام أو نائبه لأنه نائب عنه ومنزل منزلته وهو يتعلق بنظر واجتهاد وليس غيرهما محلا لذلك لعدم ولايتهم ولو جوز ذلك للآحاد لزم تعطيل الجهاد وفي "الترغيب": لآحاد الولاة عقده مع أهل قرية فعلى الأول لو هادنهم غير الإمام أو نائبه لم يصح فلو دخل بعضهم بهذا الصلح دار الإسلام كان آمنا لاعتقاده ولا يقر في دار الإسلام بل يرد إلى دار الحرب ولو مات الإمام أو نائبه بعد العقد أو عزل لم ينتقض عهده وعلى الثاني يلزمه إمضاؤه لئلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد ويستمر ما لم ينقضه الكفار بقتال أو غيره.(3/307)
فمتى رأى المصلحة في عقد الهدنة جاز له عقدها مدة معلومة وإن طالت وعنه لا يجوز في أكثر من عشر سنين فإن زاد على العشر بطل في الزيادة وفي العشر روايتان.
ـــــــ
"فمتى رأى المصلحة في عقد الهدنة" إما لضعف المسلمين عن القتال وإما بإعطاء مال منا ضرورة لأنه مصلحة للمسلمين ليتقوا به على عهودهم "جاز له عقدها"، لأنه عليه السلام هادن قريشا "مدة معلومة وإن طالت"، لأن ما وجب تقديره وجب أن يكون معلوما كخيار الشرط وفيه وجه كالخيار إذ لا محذور فيه وظاهره أنه يجوز في الطويلة كالقصيرة على المذهب لأنها تجوز في أقل من عشر فجازت في أكثر منها كمدة الإجارة ولأنه إنما جاز عقدها للمصلحة فحيث وجدت جازت تحصيلا للمصلحة.
"وعنه: لا يجوز في أكثر من عشر سنين" قال القاضي هو ظاهر كلام أحمد واختاره أبو بكر لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية [التوبة: 5] خص منه العشر لفعله عليه السلام فيبقى ما عداه على مقتضى العموم. "فإن زاد على العشر بطل في الزيادة"، لأنه ممنوع منها، "وفي العشر روايتان" مبنيتان على تفريق الصفقة والأصح عدم البطلان وظاهره أنه إذا عقدها مجانا مع قوة المسلمين واستظهارهم لا يجوز لعدم المصلحة إلا أن يكون لمصلحة رجاء إسلامهم فيجوز في رواية لأنه عليه السلام صالح أهل الحديبية على غير مال بل لمصلحة ترك قتالهم في الحرم تعظيما لشعائر الله والثانية المنع لأنه ترك للقتال من غير حاجة ولا بدل. وفي "الإرشاد" و"المبهج" و"المحرر": على المنع: يجوز أربعة أشهر لقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] وفيما فوقها ودون الحول وجهان فأما الحول فلا يجوز قال بعضهم وجها واحدا.
تنبيه: لا يجوز عقدها بمال منا إلا لضرورة شديدة مثل أن يحاط بطائفة من المسلمين وفي "الفنون": لضعفنا مع المصلحة وقال أبو يعلى الصغير لحاجة وكذا قاله أبو يعلى في "الخلاف": في المؤلفة واحتج لعزمه عليه السلام على بذل شطر نخل المدينة.(3/308)
وإن هادنهم مطلقا لم يصح وإن شرط شرطا فاسدا كنقضها متى شاء أو رد النساء إليهم أو صداقهن أو سلاحهم
ـــــــ
"وإن هادنهم مطلقا، لم يصح"، لأن إطلاق ذلك يقتضي التأبيد وذلك يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وهو غير جائز.
"وإن شرط شرطا فاسدا، كنقضها متى شاء"، لأنه ينافي مقتضى العقد إذ هو عقد مؤقت فكان تعليقه على المشيئة باطلا كالإجارة وكذا إن قال هادنتكم ما شئنا أو شاء فلان لم يصح في الأصح لقوله: "نقركم ما أقركم الله". واختار الشيخ تقي الدين صحته وهي جائزة ويعمل بالمصلحة وأخذ صاحب "الهدي" من قوله: "نقركم ما أقركم الله" جواز إجلاء أهل الذمة من دار الإسلام إذا استغنى عنهم وقد أجلاهم عمر وهو قول ابن جرير.
"أو رد النساء" المسلمات "إليهم"، لقوله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ولقوله عليه السلام: "إن الله قد منع الصلح في النساء" ، ولأنه لا يؤمن أن تفتن في دينها ولا يمكنها أن تغزو وكذا شرط رد صبي مسلم عاقل لأنه بمنزلتها في ضعف العقل والعجز عن التخلص والهرب بخلاف الكفل الذي لا يصح إسلامه فيجوز شرط ردنا.
"أو صداقهن" على الأصح لأن بضع المرأة لا يدخل في الأمان والثانية يصح لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10]، ولأنه عليه السلام رد المهر وأجيب بأنه شرط رد النساء وكان شرطا صحيحا ثم نسخ فوجب رد البدل لصحة الشرط بخلاف حكم من بعهده فإن رد النساء نسخ فلم يبقى صحيحا ونصر في "المبهج" الأولى كما لو لم يشترط وفي لزوم مسلم تزوجها رد مهرها الذي كان دفعه إليها زوج كافر إليه روايتان وقدم في "الانتصار" رد المهر مطلقا إن جاء بعد العدة وإلا ردت إليه ثم ادعى نسخه وأن نص أحمد لا يرده.
"أو" رد "سلاحهم" وكذا إعطاؤهم شيئا من سلاحنا أو من آلات الحرب،(3/309)
أو إدخالهم الحرم بطل الشرط وفي العقد وجهان وإن شرط رد من جاء من الرجال مسلما جاز ولا يمنعهم أخذه ولا يجبره على ذلك وله أن يأمره بقتالهم والفرار منهم وعلى الإمام حماية من هادنه من المسلمين دون غيرهم
ـــــــ
"أو إدخالهم الحرم"، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] "بطل الشرط" في الكل. "وفي العقد وجهان" مبنيان على الشروط الفاسدة في البيع. لكن في "المغني" و"الشرح": إذا شرط أن لكل واحد نقضها متى شاء فإنه ينبغي أن لا يصح وجها واحدا لأن طائفة الكفار يبنون على هذا الشرط فلا يحصل إلا من الجهتين فيفوت معنى الهدنة.
"وإن شرط" هذا شروع في الشرط الصحيح وقدم الفاسد عليها لأنها أقرب إلى العدم "رد من جاء من الرجال مسلما، جاز"، لأنه عليه السلام فعل ذلك وظاهره وإن لم يكن له عشيرة تحميه ومحله عند الحاجة صرح به الجماعة فأما مع استظهار المسلمين وقوتهم فلا. "ولا يمنعهم أخذه"، لأن أبا بصير جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فجاءوا في طلبه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا لا يصلح في ديننا الغدر وقد علمت ما عاهدناهم عليه ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا" فرجع مع الرجلين فقتل أحدهما ورجع فلم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم. "ولا يجبره على ذلك"، لأنه عليه السلام لم يجبر أبا بصير ولأن في إجباره على المضي معهم إجبارا له على ما لا يجوز "وله أن يأمره" سرا "بقتالهم والفرار منهم"، لأنه رجوع إلى باطل فكان له الأمر بعدمه كالمرأة إذا سمعت طلاقها وفي "الترغيب": يعرض له أن لا يرجع.
"وعلى الإمام حماية من هادنه من المسلمين"، لأنه أمنه ممن هو في قبضته وتحت يده وكذا يلزمه حماية أهل الذمة من أهل الذمة صرح به أكثر الأصحاب وتركه المؤلف لظهوره لأنه إذا وجبت حمايتهم من المسلمين فلأن يجب من أهل الذمة بطريق الأولى فعلى هذا لو أتلف من المسلمين أو من أهل الذمة عليهم شيئا فعليه ضمانه. "دون غيرهم" أي: ليس عليهم حمايتهم من أهل الحرب ولا حماية بعضهم بعضا لأن الهدنة التزام الكف عنهم فقط.(3/310)
وإن سباهم كفار آخرون لم يجز لنا شراؤهم وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم.
ـــــــ
"وإن سباهم كفار آخرون" بأن أغاروا عليهم أو سبى بعضهم بعضا "لم يجز لنا شراؤهم" في الأصح لأن الأمان يقتضي رفع الأذى عنهم وفي استرقاقهم أذى لهم بالإذلال بالرق فلم يجز كسبهم والواحد كالكل.
وظاهره: أنه لا يلزم الإمام استنقاذهم وذكر الشيخ تقي الدين رواية منصوصة لنا شراؤهم من سابيهم وذكره في "الشرح" احتمالا، لأنه لا يجب عليه الدفع عنهم فلا يحرم استرقاقهم بخلاف أهل الذمة وينبني عليهما لو ظهر المسلمون على الذين أسروهم وأخذوا مالهم واستنفذوا ذلك منهم لم يلزمه رد على الثاني لا الأول ويجوز لنا شراء ولدهم وأهلهم منه إذا باعه كحربي وعنه يحرم كذمة ولأنهم في أمان منا وكما لو سبى بعضهم بعضا فباعه منا بخلاف ما إذا سبى بعضهم ولد بعض وباعه فإنه يصح.
"وإن خاف نقض العهد منهم نبذ إليهم عهدهم" بخلاف أهل الذمة فيقول لهم قد نبذت عهدكم وعدتم حربا لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 85] يعني: أعلمهم بنقض العهد حتى تصير أنت وهم سواء في العلم ويجب إعلامهم قبل الإغارة وفي "الترغيب": إن صدر منهم خيانة فإن علموا أنها خيانة أغظناهم وإلا فوجهان فلو نقضه وفي دارنا منهم أحد وجب رده إلى مأمنه لأنهم دخلوا بأمان وإن كان عليهم حق استوفي وينتقض عهد نساء وذرية تبعا لهم وفي جواز قتل رهائنهم بقتلهم رهائننا روايتان.(3/311)
باب عقد الذمة
ـــــــ
باب عقد الذمة
قال أبو عبيد: الذمة: الأمان، لقوله صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم". والذمة: الضمان والعهد من أذمه يذمه إذا جعل له عهدا ومعنى عقد الذمة: إقرار(3/311)
لا يجوز عقدها إلا لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل كالسامرة والفرنج
ـــــــ
بعض الكفار على كفره بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة.
"لا يجوز عقدها إلا" من الإمام أو نائبه في الأشهر وحينئذ يجب عقدها إذا اجتمعت شروطها ما لم يخف غائلة منهم.
وصفة عقدها: أقررتكم بجزية أو يبذلونها فيقول أقررتكم على ذلك والجزية مال يؤخذ منهم على وجه الصغار كل عام بدلا عن قتلهم وإقامتهم بدارنا.
"لأهل الكتاب، وهم اليهود" واحدهم يهودي حذفوا ياء النسبة في الجمع كزنج وزنجي وفي تسميتهم بذلك لأنهم هادوا عن عبادة العجل أي تابوا أو لأنهم مالوا عن دين الإسلام أو أنهم يهودون عند قراءة التوراة أي يتحركون أو لنسبهم إلى يهوذا بن يعقوب بالمعجمة ثم عربت بالمهملة.
"والنصارى" واحدهم نصراني والأنثى نصرانية نسبة إلى قرية بالشام يقال لها نصران وناصرة. "ومن يوافقهم في التدين بالتوراة والإنجيل كالسامرة" وهي قبيلة من بني إسرائيل نسب إليهم السامري ويقال لهم في زمننا سمرة بوزن سحرة وهم طائفة من اليهود يتشددون في دينهم ويخالفونهم في بعض الفروع.
"والفرنج" وهم الروم ويقال لهم بنو الأصفر والأشبه أنها مولدة نسبة إلى فرنجة بفتح أوله وثانيه وسكون ثالثه وهي جزيرة من جزائر البحر والنسبة إليها فرنجي ثم حذفت.
والأصل فيه قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقول المغيرة بن شعبة لعامل كسرى أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية رواه أحمد والبخاري والإجماع على قبول الجزية ممن بذلها من أهل الكتاب، ومن(3/312)
ومن له شبهة كتاب كالمجوس وعنه يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب فأما الصابئ فينظر فيه فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله وإلا فلا
ـــــــ
يلحق بهم وإقرارهم بذلك في دار الإسلام.
"ومن له شبهة كتاب، كالمجوس" لأن عمر لم يأخذها منهم حتى شهد عنده عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر رواه البخاري وفي رواية أنه عليه السلام قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه الشافعي.
وإنما قيل لهم شبهة كتاب لأنه روي أنه كان لهم كتاب فرفع فصار لهم بذلك شبهة أوجبت حقن دمائهم وأخذ الجزية منهم ولم ينتهض في إباحة نسائهم وحل ذبائحهم.
"وعنه: يجوز عقدها لجميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب"، لما روى الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان من العرب.
وفي "الفنون": لم أجد أصحابنا ذكروا أن الوثني يقر بجزية ثم ذكر أنه وجد رواية بخط أبي سعد البرداني أن عبدة الأوثان يقرون بجزية فيعطي هذا أنهم يقرون بجزية على عمل أصنام يعبدونها في بيوتهم ولم يسمع بذلك في سيرة من سير السلف وبعدها.
واختار الشيخ تقي الدين أخذها من الكل ومقتضى ما ذكره أن عبدة الأوثان من العرب لا تقبل منهم لكونهم من رهط النبي صلى الله عليه وسلم وشرفوا به فلا يقرون دينه وغيرهم يقر بالجزية لأنه يرق بالاسترقاق كالمجوس.
"فأما الصابئ فينظر فيه فإن انتسب إلى أحد الكتابين فهو من أهله" وقاله جمع لأنه قد صار مشاركا لأهله في ذلك الكتاب وإن سموا باسم آخر لأن الموافقة في الدين توجب الموافقة في الحكم والمذهب أنهم جنس من النصارى وروي عن أحمد أنه قال إنهم يسبتون وهو قول عمر وقال مجاهد هم بين اليهود والنصارى.
"وإلا فلا" أي: إن لم ينسب إلى ذلك فليس من أهل الكتاب لأنه روي أنهم(3/313)
ومن تهود أو تنصر بعد بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو ولد بين أبوين لا تقبل الجزية من أحدهما فعلى وجهين ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب
ـــــــ
يقولون إن الفلك حي ناطق وإن الكواكب السبعة آلهة وحينئذ فهم كعبدة الأوثان.
"ومن تهود أو تنصر" أو تمجس "بعد بعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم" فالمذهب أنه يقر عليه ويكون كالأصلي في قبول الجزية لأنه عليه السلام كان يقبلها منهم من غير سؤال ولو اختلف الحكم لسأل عنه، ولو وقع لنقل.
وعنه: لا تقبل منه إلا الإسلام أو القتل لأنه بتركه الدين الأول هو مقر ببطلانه فلا يقر على دين باطل غيره.
وعنه: يقر على غير المجوسية لأن التمجس لم يرد به نص فيبقى على الأصل وعلم منه أن الانتقال إليها قبل البعثة يكون من أهلها لأن الإسلام أتى وهو على أصل الدين.
وفي "المذهب" و"الترغيب" و"المستوعب" وذكره أبو الخطاب قبل البعثة بعد التبديل كبعد البعثة وقدم في "التبصرة": ولو قبل التبديل.
"أو ولد بين أبو ين لا تقبل الجزية من أحدهما" كولد الوثني من كتابية "فعلى وجهين":
أصحهما: أنها تقبل منه الجزية إذا اختار دين الآخر لعموم النص فيهم ولأنه اختار أفضل الدينين وأقلهما كفرا.
والثاني: لا يقبل منه سوى الإسلام لأنه تعارض فيه القبول وعدمه فرجع إلى الأصل ومحل ذلك إذا اختار من تقبل منه الجزية.
"ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب" بن وائل من العرب من ولد ربيعة بن نزار فإنهم انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا وقالوا نحن عرب خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة فقال عمر:(3/314)
وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي ما تؤخذ من المسلمين ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ومصرفه مصرف الجزية وقال الخرقي مصرف الزكاة
ـــــــ
لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة وهم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوك بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر في طلبهم فردهم.
"وتؤخذ الزكاة من أموالهم مثلي ما تؤخذ من المسلمين"، لأن تمام حديث عمر أنه ضعف عليهم من الإبل في كل خمس شاتان وفي كل ثلاثين بقرة تبيعان وفي كل عشرين دينارا دينار وفي مئتي درهم عشرة دراهم وفيما سقت السماء الخمس وفيما سقي بنضح أو دولاب العشر واستقر ذلك من قوله ولم ينكر فكان كالإجماع وفي عبارته تسامح والأولى أن يقال وتؤخذ عوض الجزية منهم مثلا زكاة المسلمين.
"ويؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم" وكذا مكافيفهم وشيوخهم لأن اعتبارها بالأنفس سقط وانتقل إلى الأموال بتقريرهم فيؤخذ من كل مال زكوي سواء كان صاحبه من أهل الجزية أو لم يكن ولأن نساءهم وصبيانهم صينوا عن السبي بهذا الصلح ودخلوا في حكمه فجاز أن يدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء.
فعلى هذا: من كان فقيرا أو له مال غير زكوي فلا شيء عليه كما لا يجب على أهل الزكاة من المسلمين وحينئذ يتقيد بالنصاب.
"ومصرفه مصرف الجزية" في الأشهر لأنه مأخوذ من مشرك فكان جزية وغايته أنه جزية مسماة بالصدقة ولذلك قال عمر هؤلاء حمقى رضوا بالمعنى و أبوا الاسم.
"وقال الخرقي: مصرف الزكاة" هذا رواية واختارها جمع لأنه مسمى بالصدقة فكان مصرفه مصرفها. والأول أقيس لأن المعنى أخص من الاسم، ولو(3/315)
ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم وقال القاضي تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم ولا جزية على صبي ولا امرأة
ـــــــ
كان صدقة على الحقيقة لجاز دفعها إلى فقراء من أخذت منهم كصدقة المسلمين.
"ولا يؤخذ ذلك من كتابي غيرهم" نص عليه لقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ولقوله عليه السلام لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "خذ من كل حالم دينارا" وهم عرب، قال الزهري أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى وأخذها من أكيدر دومة وهو عربي وحكمها ثابت في كل كتابي عربيا كان أو غيره إلا ما خص به بنو تغلب لمصالحة عمر إياهم فيبقى ما عداهم على مقتضى العموم ولا يصح قياس غيرهم عليهم لأوجه.
"وقال القاضي: تؤخذ من نصارى العرب ويهودهم"، لأنهم من العرب أشبهوا بني تغلب وذكر هو و أبو الخطاب أن حكم من تنصر من تنوخ وتهود من كنانة وتمجس من تميم حكم بني تغلب سواء وقيل لا واختارها المؤلف وحكاه نص أحمد.
فرع: للإمام مصالحة مثلهم من العرب إذا خشي ضرره بقوة شوكة وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة نص عليه.
"ولا جزية على صبي"، لأن مثلهم ممتنع لأنهم ليسوا من أهل القتال لقوله تعالى: {قَاتِلُوا...} [التوبة: 29] والمقاتلة إنما تكون من اثنين وكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية ولا تضربوها على النساء والصبيان رواه سعيد.
"ولا امرأة" لما ذكرنا فإن بذلتها أخبرت بأنها لا يجب عليها فإن تبرعت بها قبلت وتكون هبة تلزم بالقبض فإن شرطته على نفسها ثم رجعت فلها ذلك فإن بذلتها لدخول دارنا مكثت بغير شيء لكن يشترط أن تلتزم أحكام الإسلام وتعقد لها الذمة.
وفي الخنثى المشكل وجهان جزم في "الشرح" بأنها تجب لأنه لا يعلم كونه رجلا فإن بان رجلا فللمستقبل ويتوجه وللماضي.(3/316)
ولا مجنون ولا زمن ولا أعمى ولا عبد ولا فقير يعجز عنها و من بلغ أو أفاق أو استغنى فهو من أهلها
ـــــــ
"ولا مجنون"، لأنه في معنى الصبي، "ولا زمن ولا أعمى" ولا شيخ فان ولا من هو في معناهم كمن به داء لا يستطيع القتال معه ولا يرجى زواله لأن الجزية لحقن الدم وهؤلاء دماؤهم محقونة بدونها، كالنساء.
"ولا عبد"، لقوله عليه السلام: "لا جزية على عبد" وعن ابن عمر مثله ولأنه مال فلم تجب عليه كسائر الحيوانات ولا فرق بين أن يكون لمسلم لأن إيجابها عليه يؤدي إلى إيجابها على المسلم لكونه يؤدي عنه أو لكافر نص عليه وهو قول أكثر العلماء وعنه تلزمه وتسقط بإسلام أحدهما وظاهره ولو كان مكاتبا قال أحمد المكاتب عبد.
فرع: إذا أعتق العبد لزمته الجزية لما يستقبل سواء كان معتقه مسلما أو كافرا وعنه يقر بغير جزية وضعفها الخلال وعنه لا جزية عليه إن كان معتقه مسلما لولايته عليه كالرق فإن كان معتقا بعضه فيلزمه بقدر جزيته كالإرث في قياس المذهب.
"ولا فقير"، لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولأنها مال يجب بحلول الحول فلم يلزم الفقير كالزكاة يعجز عنها لأن الجزية خراج الرؤوس وإنما يؤخذ الخراج بقدر الغلة وإذا لم يكن له غلة لم يجب كالأرض التي لا تنبت شيئا وظاهره أنه لو كان لا يعجز عنها وجبت لأنه في حكم الأغنياء وفي الفقير العاجز عنها احتمال بالوجوب كالفقير المعتمل على الأصح.
تنبيه: لا تلزم راهبا بصومعة ولم يقيده في "المحرر" و"الوجيز" بها. وفيه وجه تجب لأن عمر بن عبد العزيز فرضها على الرهبان على كل راهب دينارا قال الشيخ تقي الدين لا يبقى في يده من المال إلا بلغته وفي اتجاره أو زراعته وهو مخالط لهم فيلزمه إجماعا.
"ومن بلغ أو أفاق أو استغنى" أو عتق، "فهو من أهلها" أي: من أهل الجزية(3/317)
بالعقد الأول تؤخذ منه في آخر الحول بقدر ما أدرك ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته فإذا بلغت حولا أخذت منه ويحتمل أن تؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه وتقسم الجزية بينهم فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهما وعلى المتوسط أربعة وعشرون وعلى الفقير أثنا عشر
ـــــــ
"بالعقد الأول" ولا يحتاج إلى استئناف عقد له لأنه لم ينقل تجديده لمن ذكره لكون أن العقد يقع مع سادتهم فيدخل فيه سائرهم وقال القاضي يخير بين التزام العقد وبين أن يرد إلى مأمنه فيجاب إلى ما يختار فعلى الأول: "تؤخذ منه في آخر الحول"، لأن الجزية للسنة "بقدر ما أدرك"، فعليه: إن صار أهلا من أول السنة أخذت منه في آخره وإن كان في نصفه فنصفها على هذا الحساب ولا يترك حتى يتم حولا من حين وجد سببه لأنه يحتاج إلى إفراده بحول وضبط كل إنسان ويتعذر.
"ومن كان يجن ويفيق لفقت إفاقته"، لأنه أمكن من غير مشقة "فإذا بلغت" إفاقته "حولا، أخذت منه" لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ.
"ويحتمل" هذا قول في المذهب "أن تؤخذ منه في آخر كل حول بقدر إفاقته منه"، لأنها تؤخذ في كل حول فوجب الأخذ بحسابه كالمعتق بعضه وقيل يعتبر الغالب لأن الأكثر له حكم الكل وقيل فيمن لا ينضبط أمره خاصة لأن مراعاة ذلك غير ممكن.
"وتقسم الجزية بينهم" أي بين أهل الكتاب ومن في معناهم "فيجعل على الغني ثمانية وأربعون درهما" وهي أربعة دنانير "وعلى المتوسط أربعة وعشرون" وهي ديناران "وعلى الفقير اثنا عشر" وهي دينار لفعل عمر ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر وكان كالإجماع.
ويجاب عن قوله عليه السلام لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارا": بأن الفقر كان في أهل اليمن أغلب ولذلك قيل لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من أجل اليسار وبأن الجزية يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام وليس التقدير واجبا لأنها وجبت صغارا وعقوبة، واختلفت(3/318)
والغني منهم من عده الناس غنيا في ظاهر المذهب ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله وحرم قتالهم ومن أسلم بعد الحول سقطت عنه الجزية وإن مات أخذت من تركته وقال القاضي تسقط
ـــــــ
باختلافهم وليست عوضا عن سكنى الدار وإلا لوجبت على النساء ومن في معناهن.
فرع: يجوز أخذ القيمة نص عليه لقوله عليه السلام: "أو عدله معافر"، ولتغليب حق الآدمي فيها ويجوز أخذ ثمن الخمر والخنزير منهم لأنه من أموالهم التي نقرهم على اقتنائهم كثيابهم.
"والغني منهم: من عده الناس غنيا في ظاهر المذهب"، لأن المقادير توقيفية ولا توقيف هنا فوجب رده إلى العرف كالقبض والحرز وقيل من ملك نصابا وحكي رواية فهو غني كالمسلم وعنه من ملك عشره آلاف دينار فهو غني.
"ومتى بذلوا الواجب عليهم لزم قبوله"، لقوله عليه السلام لمعاذ: "ادعهم إلى الجزية فإن أجابوك فاقبل بهم، وكف عنهم"، "وحرم قتالهم"، لأن الله تعالى جعل إعطاء الجزية غاية لقتالهم ويحرم التعرض إليهم بأخذ المال.
"ومن أسلم بعد الحول، سقطت عنه الجزية"، لعموم قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقوله عليه السلام: "الإسلام يجب ما قبله" ، وعن ابن عباس مرفوعا: "ليس على المسلم جزية" رواه أبو داود والترمذي.
ولأنها عقوبة سببها الكفر فسقطت بالإسلام وفي "الإيضاح": لا تسقط به كسائر الديون وظاهره أنه إذا أسلم قبل الوجوب لا تؤخذ منه بطريق الأولى وقيل تجب بقسطه.
"وإن مات أخذت من تركته" على المذهب لأنها دين فلم يسقط به كدين الآدمي وكما لو طرأ مانع في الأصح. "وقال القاضي: تسقط"، لأنها عقوبة(3/319)
وإن اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها وتؤخذ الجزية في آخر الحول ويمتهنون عند أخذها ويطال قيامهم وتجر أيديهم ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين وتبين أيام الضيافة وقدر الطعام و الإدام والعلف وعدد من يضاف
ـــــــ
فسقطت به كالحد وجوابه بأنه إنما سقط الحد لفوات محله بالموت وتعذر استيفائه.
"وإن اجتمعت عليه جزية سنين استوفيت كلها" ولم يتداخل، كدين الآدمي ولأنها حق مال يجب في آخر كل حول فلم يتداخل كالدية.
"وتؤخذ الجزية في آخر الحول"، لأنها مال يتكرر بتكرر الحول فلم تؤخذ قبله كالزكاة ولا يصح شرط تعجيله ولا يقتضيه الإطلاق قال الأصحاب لأنا لا نأمن نقض أمانة فيسقط حقه من العوض وعند أبي الخطاب يصح ويقتضيه الإطلاق.
"ويمتهنون عند أخذها" منهم "ويطال قيامهم وتجر أيديهم"، لقوله تعالى: { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وظاهره أن هذه الصفة مستحقة فلا يقبل إرسالها لزوال الصغار كما لا يجوز تفرقتها بنفسه ولا يصح ضمانها وقيل مستحبة فتنعكس الأحكام قال في "الشرح": وقيل الصغار التزام الجزية وجريان أحكامنا عليهم وظاهره أنهم لا يعذبون في أخذها ولا يشتط عليهم صرح به في "الشرح" وغيره.
"ويجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين"، لما روي أنه عليه السلام ضرب على نصارى أيله ثلاثمائة دينار وكانوا ثلاثمائة نفس وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين وعن عمر أنه قضى عليهم ضيافة ثلاثة أيام وعلف دوابهم وما يصلحهم ولأن في هذا ضربا من المصلحة.
"وتبين أيام الضيافة وقدر الطعام والإدام والعلف وعدد من يضاف" كذا في "المحرر" وقاله القاضي واقتصر في "الوجيز" على الأول ين لأن الضيافة حق وجب فعله فوجب بيانه كالجزية.(3/320)
ولا تجب من غير شرط وقيل تجب فإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم أقرهم عليه وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فإن بان له كذبهم رجع عليهم
ـــــــ
فلو شرط الضيافة وأطلق جاز ذكره في "الكافي" و"الشرح"، لأن عمر لم يقدر ذلك وقال أطعموهم مما تأكلون وقال أبو بكر الواجب يوم وليلة كالمسلمين ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لكن قال القاضي لا يلزمهم الشعير مع الإطلاق والظاهر بلى للخيل لأن العادة جارية به فهو كالخبز للرجل.
مسألة: تقسم الضيافة بينهم على قدر جزيتهم فإن جعل الضيافة مكان الجزية جاز ويشترط أن يبلغ قدرها أصل الجزية إذا قلنا هي مقدرة لئلا ينقص خراجه عن أقلها.
"ولا تجب" الضيافة "من غير شرط" ذكره القاضي لأنها أداء مال فلا يلزمهم بغير رضاهم كالجزية وقيل تجب بغير شرط لوجوبها على المسلمين كالكافر فعلى هذا تجب ليوم وليلة صرح به في "المحرر". وإن شرطها عليهم فامتنعوا من قبولها لم تعقد لهم الذمة فلو قبلوا وامتنع البعض من القيام بالواجب أجبر عليه كما لو امتنع الجميع فإن لم يمكن إلا بالقتال قوتلوا فإن قاتلوا انتقض عهدهم.
"فإذا تولى إمام فعرف قدر جزيتهم وما شرط عليهم أقرهم عليه"، لأن الخلفاء أقروهم على ذلك ولم يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا ولأنه عقد لازم كالإجارة وعقد بالاجتهاد فلا ينقض قوله "فعرف": إما بمباشرته من قبل أو قامت به بينة أو ظهر واعتبر في "المستوعب" ثبوته.
"وإن لم يعرف" ذلك "رجع إلى قولهم" في وجه لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم والظاهر صدقهم فإن اتهمهم فله تحليفهم لزوال التهمة. "فإن بان" أو ظهر "له كذبهم" ببينة أو إقرار "رجع عليهم" بالنقص، لوجوبه عليهم بالعقد الأول فكان للإمام المتجدد أخذه كالأول.(3/321)
وعند أبي الخطاب أنه يستأنف العقد معهم وإذا عقد الذمة كتب أسماءهم وأسماء آبائهم وحلاهم ودينهم وجعل لكل طائفة عريفا يكشف حال من بلغ أو استغنى أو أسلم أو سافر أو نقض العهد أو خرق شيئا من أحكام الذمة
ـــــــ
"وعند أبي الخطاب: أنه يستأنف العقد معهم"، لأنه لا سبيل إلى معرفته إلا من جهتهم وليسوا بمأمونين ولا من جهة غيرهم لعدم العلم به فوجب استئناف العقد باجتهاده كما لو لم يكن عقد سابق وأطلق الخلاف في "المحرر" و"الفروع".
"وإذا عقد الذمة كتب أسماءهم وأسماء آبائهم" فيقول: فلان ابن فلان "وحلاهم" جمع حلية والمراد بها الحلية التي لا تختلف من طول وقصر وسمرة وبياض أدعج العين أقنى الأنف مقرون الحاجبين ونحوها "ودينهم" أي يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا "وجعل لكل طائفة عريفا" وهو القيم بأمور القبيلة أو الجماعة "يكشف حال من بلغ"، لأن الجزية تجدد به "أو استغنى أو أسلم"، لأنها تسقط به "أو سافر" لتعذر أخذها مع السفر أو نقض العهد أي الذمة المعقودة له أو خرق شيئا من أحكام الذمة ليفعل فيه الإمام ما يجب فعله والحاجة داعية إلى معرفة ذلك كله.
خاتمة: ليس للإمام تغيير عقد الذمة لأنه عقد مؤبد وقد عقده عمر معهم كذلك واختار ابن عقيل جوازه لاختلاف المصلحة باختلاف الأزمنة وجعله جماعة كتغيير خراج وجزية وكلام المؤلف يقتضي الفرق وسبق ما يدل عليه.
فائدة: من أخذت منه الجزية كتبت له براءة لتكون حجة له إذا احتاج إليها.(3/322)
باب أحكام الذمة
ـــــــ
باب أحكام الذمة
وأحكامهم: ما يجب عليهم أو يجب لهم بعد عقد الذمة مما يقتضيه عقدها لهم.(3/322)
يلزم الإمام أن يأخذهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس والمال والعرض وإقامة الحدود عليهم فيما دون ما يعتقدون حله ويلزمهم التميز عن المسلمين في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفراق وكناهم فلا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم وأبي عبد الله
ـــــــ
"يلزم الإمام أن يأخذهم بأحكام المسلمين في ضمان النفس" فلو قتل أو قطع طرفا أخذ به كالمسلم "والمال" فلو أتلف مالا لغيره ضمنه "والعرض" وسيأتي لأن الإسلام نسخ كل حكم يخالفه "و" يلزمه "إقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه" كالسرقة والقذف، لما في الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل وامرأة من اليهود زنيا فرجمهما.
ولأنه محرم في دينهم وقد التزموا حكم الإسلام فثبت في حقهم كالمسلم وعنه إن شاء لم يقم حد زنى بعضهم من بعض اختاره ابن حامد ومثله قطع سرقة بعضهم من بعض.
"دون ما يعتقدون حله" كشرب الخمر وأكل الخنزير ونكاح ذوات المحارم للمجوس لأنهم يقرون عليه لأنه يقال أقرهم على ذلك بإعطاء الجزية ولأنهم يقرون على كفرهم وهو أعظم إثما من ذلك فلأن يقروا على ما ذكرنا بالطريق الأولى إلا أنهم يمنعون من إظهاره بين المسلمين لأنهم يتأذون به.
"ويلزمهم التميز عن المسلمين" في أمور منها: "في شعورهم بحذف مقادم رؤوسهم وترك الفراق" أي: يحلقون مقادم رؤوسهم ولا يفرقون شعر الرأس فرقتين كما يفعله الأشراف "وكناهم فلا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم"، فإنها كنية النبي صلى الله عليه وسلم، "وأبي عبد الله"، فإنها كنية كثير من علماء المسلمين وأئمتهم وكذا ما في معناهما كأبي بكر وأبي الحسن مما هو في الغالب في المسلمين ودل على أنهم لا يمنعون من التكني مطلقا قال أحمد لطبيب نصراني يا أبا إسحاق واحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل عمر ونقل أبو طالب لا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأسقف نجران: "يا أبا الحارث أسلم تسلم" وعمر قال: يا أبا حسان. وفي "الفروع": يتوجه احتمال يجوز للمصلحة.(3/323)
وركوبهم بترك الركوب على السروج وركوبهم عرضا على الأكف ولباسهم فيلبسون ثوبا يخالف ثيابهم كالعسلي والأدكن وشد الخرق في قلانسهم وعمائمهم ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم ويجعل في رقابهم خواتيم الرصاص أو جلجل يدخل معهم الحمام
ـــــــ
وقاله بعض العلماء ويحمل ما روي عليه.
فرع: يمنعون من اللقب كعز الدين ونحوه قاله الشيخ تقي الدين.
"وركوبهم" فلا يركبون الخيل لأنها عز وهي من آله الحرب و أفضل المراكب ولهم ركوب غيرها. "بترك الركوب على السروج" وظاهره: ولو على حمار "وركوبهم عرضا" رجلاه إلى جانب وظهره إلى آخر "على الأكف" جمع إكاف وهي البرادع لما روى الخلال أن عمر أمرهم بذلك وظاهره قربت المسافة أو بعدت "لباسهم فيلبسون ثوبا يخالف" سائر "ثيابهم كالعسلي" لليهود "والأدكن" هو لباس يضرب لونه إلى السواد كالفاختي للنصارى "وشد الخرق في قلانسهم وعمائمهم" وتكون الخرقة مخالفة لهما ليتميز مع الثوب المخالف.
"ويؤمر النصارى بشد الزنار فوق ثيابهم"، لأنهم إذا شدوه من داخل لم ير فلم يكن له فائدة لكن المرأة تشده فوق ثيابها تحت الإزار لأنه لو شد فوقه لم يثبت وغيارها في الخفين باختلاف لونهما فإن أبوا الغيار لم يجبروا ونغيره نحن.
"ويجعل في رقابهم خواتيم الرصاص أو جلجل" وهو الجرس الصغير "يدخل معهم الحمام"، ليحصل الفرق وظاهره جواز دخولها الحمام مع المسلمات وسيأتي.
واقتضى ذلك أن لهم لبس الطيالسة وهو المذهب لأنهم لا يمنعون من فاخر الثياب والتمييز حصل بالغيار والزنار وعنه المنع اختاره أبو الخطاب لأن المقصود ليس ما فيه الذلة والانكسار لا ضده.
أصل: يلزم تمييز قبورهم المسلمين تمييزا ظاهرا كالحياة و أولى ذكره الشيخ تقي(3/324)
ولا يجوز تصديرهم في المجالس ولا بداءتهم بالسلام وإن سلم أحدهم قيل له وعليكم وفي تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان
ـــــــ
الدين.
"ولا يجوز تصديرهم في المجالس" لأن فيه تعظيما لهم وفي معناه القيام لهم "ولا بداءتهم بالسلام"، لما روى أبو هريرة مرفوعا: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها" متفق عليه. وقد عزاه في "الشرحين" إلى الترمذي فقط وفي الحاجة احتمال ومثله كيف أنت أو كيف أصبحت أو كيف حالك نص عليه وجوزه الشيخ تقي الدين ويتوجه بالنية كما قال له إبراهيم الحربي نقول له أكرمك الله قال نعم يعني بالإسلام فإن سلم ثم علم أنه ذمي استحب قوله له رد علي سلامي.
"وإن سلم أحدهم قيل له وعليكم"، لما روى أنس مرفوعا: "إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم" متفق عليه ولأحمد بغير واو وهو مخير بين إثباتها وحذفها واختلف الأصحاب في الأولى.
وعند الشيخ تقي الدين ترد تحيته وأنه يجوز أهلا وسهلا فإن عطس لم يشمته وقال القاضي يكره وهو ظاهر كلام أحمد وابن عقيل فإن شمته كافر أجابه.
"وفي" جواز "تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان" كذا في "المحرر"، والأشهر وجزم به في "الوجيز"، وقدمه في "الفروع": أنه يحرم لأن ذلك يحصل الموالاة وتثبت المودة وهو منهي عنه للنص ولما فيه من التعظيم.
والثانية: الجواز لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد يهوديا وعرض عليه الإسلام فأسلم فخرج وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" رواه البخاري. ولأنه من مكارم الأخلاق.
والثالثة: يجوز لمصلحة راجحة كرجاء إسلامه اختاره الشيخ تقي الدين.(3/325)
ويمنعون تعلية البنيان على المسلمين وفي مساواتهم وجهان وإن ملكوا دارا عالية من مسلم لم يجب نقضها
ـــــــ
ومعناه اختيار الآجرى وأنه قول العلماء يعاد ويعرض عليه الإسلام وعلى الجواز يدعى له بالبقاء وكثرة المال والولد زاد جماعة قاصدا كثرة الجزية لأنه لا يجوز أن يقصد تكثير أعداء المسلمين.
فائدة: كره أحمد الدعاء لكل أحد بالبقاء ونحوه لأنه شيء فرغ منه واختاره الشيخ تقي الدين ويستعمله ابن عقيل وغيره وذكره بعض أصحابنا هنا وقد صح أنه عليه السلام دعا لأنس بطول العمر وقد روى أحمد وغيره من حديث ثوبان: "لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر" إسناده ثقات.
"ويمنعون تعلية البنيان على المسلمين"، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ولأن فيه ترفعا عليهم فمنعوا منه كالتصدير في المجالس والمنع منه إنما هو على المجاور له لأن الضرر يلحق به سواء لاصقه أو لا وظاهره ولو رضي الجار لأنه حق لله تعالى زاد ابن الزاغوني يدوم على دوام الأوقات ورضاه يسقط حق من يأتي بعده قال الشيخ تقي الدين ولو كان البناء لمسلم وذمي لأن ما لا يتم اجتناب المحرم إلا باجتنابه محرم فلو كانت داره في طرف البلد حيث لا جار أو كان لهم محلة مفردة فلا معنى للمطاولة ولا يمنع من التعلية قاله في "البلغة" وغيرها.
"وفي مساواتهم وجهان"، كذا في "المحرر" و"الفروع":
أحدهما: يجوز جزم به في "الوجيز"، لأنه لا يفضي إلى علو الكفر ولا إلى اطلاعهم إلى عوراتنا.
والثاني: المنع لأنه لا يجوز مس أو اتهم للمسلمين في اللباس فكذا في البنيان.
"وإن ملكوا دارا عالية من مسلم" بشراء أو غيره "لم يجب نقضها" لأنهم ملكوها بهذه الصفة ولم يعل شيئا وفيه وجه لقوله: "ولا يطلع عليهم في منازلهم". وظاهره أنها إذا ملكت من كافر أنه يجب نقضها لما ذكرنا فلو كان للذمي دار عالية فملك المسلم دارا إلى جانبها أو بنى المسلم إلى جنب داره دارا دونها لم(3/326)
ويمنعون من إحداث الكنائس والبيع ولا يمنعون رم شعثها
ـــــــ
يلزمه هدمها في الأصح.
فرع: إذا انهدمت العالية لم تعد عالية جزم به في "الوجيز"، زاد في "المحرر" و"الفروع": إلا إذا قلنا تعاد البيعة لأنه ليس بإحداث والمنهدم منها ظلما كهدمه بنفسه ذكره القاضي وقيل تعاد واختاره المجد قال في "الفروع": وهو أولى فلو سقط هذا البناء الذي تجب إزالته على شيء أتلفه فيتوجه الضمان وأنه مقتضى ما ذكروه.
"ويمنعون من إحداث الكنائس" واحدها كنيسة وهى معبد النصارى "والبيع" قال الجوهري: هي للنصارى فهما حينئذ يترادفان وقيل الكنائس لليهود والبيع للنصارى فهما متباينان وهو الأصل أي يمنعون من إحداثهما في دار الإسلام إجماعا لحديث عبد الرحمن بن غنم ولقول ابن عباس أيما مصر مصرته العرب فليس لهم أن يبنوا فيه بيعة رواه أحمد واحتج به زاد في "المحرر" و"الفروع": إلا فيما شرطوه فيما فتح صلحا على أنه لنا نص عليه لأنه فعل استحقوه بالشرط فجاز لهم فعله كسائر الشروط.
وبالجملة: فأمصار المسلمين ثلاثة:
أحدها: ما مصره المسلمون كالبصرة وبغداد وواسط فلا يجوز إحداث شيء من ذلك ولو صولحوا عليه.
الثاني: ما فتحه المسلمون عنوة فكذلك لأنها صارت للمسلمين وفي وجوب هدم الموجود وجهان والمجزوم به ثم الأكثر إقرارهم عليها وهما في "الترغيب": إن لم يقر به أحد بجزية وإلا لم تلزم.
الثالث: ما فتحوه صلحا وهو نوعان أحدها أن يصالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج عنها فلهم إحداث ما شاءوا والثاني أن نصالحهم على أن الدار للمسلمين فالحكم فيها على ما يقع عليه الصلح.
"ولا يمنعون رم شعثها"، لأنهم يقرون على بقائها والمنع في ذلك يفضى إلى(3/327)
وفي بناء ما استهدم منها روايتان ويمنعون إظهار المنكر وضرب الناقوس والجهر بكتابهم وإن صولحوا في بلادهم على إعطاء الجزية لم يمنعوا شيئا من ذلك ويمنعون دخول الحرم
ـــــــ
خرابها بالكلية، إذ البناء لا مقام له على الدوام فجرى مجرى هدمها أشبه تطيين أسطحتها. "وفي بناء ما استهدم منها روايتان": إحداهما المنع لأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنعوا منه كابتداء بنائها والثانية تجوز لأنه كرم الشعث وقدم في "المحرر" جواز رم شعثها دون بنائها وهو ظاهر "الوجيز" و"الفروع". وعنه منعهما اختاره الأكثر قاله ابن هبيرة كمنع الزيادة قال الشيخ تقي الدين ولو في الكيفية لا أعلى ولا أوسع اتفاقا وقيل إن جاز بناؤها جاز بناء بيعه منهدمة ببلد فتحناه والمذهب أن الإمام إذا فتح بلدا فيه بيعه خراب لم يجز بناؤها لأنه إحداث لها في حكم الإسلام.
"ويمنعون" وجوبا "إظهار المنكر" كالخمر والخنزير فإن فعلوا أتلفناهما نص عليه وإظهار عيد وصليب ونكاح محرم "وضرب الناقوس" ونص أحمد أنهم لا يضربون بناقوس ومراده إظهاره لأن في الشروط أن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا. "والجهر بكتابهم" أي: بالتوراة والإنجيل وظاهرة ولو في الكنائس وكذا رفع أصواتهم على موتاهم وقال الشيخ تقي الدين ومثله إظهار أكل في رمضان لما فيه من المفاسد وظهر أنه ليس لهم إظهار شيء من شعائر دينهم في دار الإسلام لا وقت الاستسقاء ولا لقاء الملوك ذلك وقاله الشيخ تقي الدين.
"وإن صولحوا في بلادهم على إعطاء" الجزية أو "الخراج لم يمنعوا شيئا من ذلك"، لأن بلدهم ليس ببلد إسلام لعدم ملك المسلمين فلا يمنعون من إظهار دينهم فيه كمنازلهم بخلاف أهل الذمة فإنهم في دار الإسلام فمنعوا منه. "ويمنعون دخول الحرم" نص عليه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] والمراد: حرم مكة بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} يريد: ضررا بتأخير الجلب عن(3/328)
فإن قدم رسول لا بد له من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له فإن دخل عزر وهدد فإن مرض بالحرم أو مات أخرج وإن دفن نبش إلا أن يكون قد بلي ويمنعون من الإقامة بالحجاز كالمدينة.
ـــــــ
الحرم، دون المسجد يؤيده قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأسراء: 1] أي: من الحرم لأنه أسري به من بيت أم هانئ لا من نفس المسجد وإنما منع منه دون الحجاز لأنه أفضل أماكن العبادات للمسلمين وأعظمها لأنه محل النسك فوجب أن يمتنع منه من لا يؤمن به وظاهرة مطلقا أي سواء أذن له أو لا لإقامة أو غيرها وقيل يجوز لضرورة وقيل لهم دخوله أو ما إليه في رواية الأثرم كحرم المدينة في الأشهر قال في "الفروع": ويتوجه احتمال يمنع من المسجد الحرام لا الحرم لظاهر الآية وعلى الأول إذا أراد دخوله ليسلم فيه أو لتجارة معه لبيعها منع منه.
"فإن قدم رسول لا بد له من لقاء الإمام خرج إليه"، لأن الكافر ممنوع من دخول الحرم فتعين ذلك لأجل الاجتماع "ولم يأذن له في دخوله"، لأن الإمام ليس له أن يأذن في الممنوع منه وإن لم يكن بد من لقائه بعث إليه من يسمع كلامه، "فان دخل عزر" لهتكه الحرم بدخوله ومحله ما إذا كان عالما بالمنع فان كان جاهلا، "وهدد" وأخرج. "فان مرض بالحرم أو مات أخرج"، لأنه لم يجز إقراره في حياته ففي مرضه ومماته أولى لأن حرمة الحرم أعظم منه "وإن دفن نبش"، لأنه وسيلة إلى إخراج الميت الكافر من الحرم أشبه ما لو لم يدفن، "إلا أن يكون قد بلي"، لأنه مع ذلك يتعذر نقله لأن جيفته حصلت بأرض الحجاز فترك للمشقة ولم يستثن في "الترغيب".
فرع: إذا صالحهم الإمام بعوض على الدخول إليه لم يصح فإن استوفاه أو بعضه ملكه وقيل يرده عليهم لأن ما استوفوه لا قيمة له والعقد لم يوجب العوض لبطلانه.
"ويمنعون من الإقامة بالحجاز" قيل: هو ما بين اليمامة والعروض وبين اليمن ونجد وسمي به لأنه حجز بين تهامة ونجد "كالمدينة" وقيل: نصفها تهامي ونصفها(3/329)
واليمامة وخيبر فإن دخلوا لتجارة لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام وإن مرض لم يخرج حتى يبرأ وإن مات دفن به لا يمنعون من تيماء وفيد ونحوهما وهل لهم دخول المساجد بإذن مسلم على روايتين
ـــــــ
حجازي "واليمامة" وسمي العروض وكان اسمها حجرا فسميت اليمامة باسم امرأة وقال ابن الأثير اليمامة الصقع المعروف شرقي الحجاز وهذا يقتضي أن لا يكون من الحجاز وفيه تكلف "وخيبر" شرقي المدينة لما روى أبو عبيدة بن الجراح أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أخرجوا اليهود من الحجاز" رواه أحمد قال عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح والمراد الحجاز بدليل أنه ليس أحد من الخلفاء أخرج أحدا من اليمن وتيماء قال أحمد جزيرة العرب المدينة وما والاها وكذا الينبع وفدك ومخاليفها معروف باليمن تسمى بها القرى المجتمعة كالرستاق في غيرها وقال الشيخ تقي الدين تبوك ونحوها وما دون المنحنى وهو عقبة الصوان من الشام كمعان ولهم دخوله والأصح بإذن إمام لتجارة.
"فإن دخلوا لتجارة لم يقيموا في موضع واحد أكثر من أربعة أيام" قاله القاضي لأن الزائد على الأربعة حد يتم به المسافر فصار كالمقيم والمذهب أنهم لا يقيمون فوق ثلاثة أيام لأن عمر أذن لمن دخل تاجرا إقامة ثلاثة أيام فدل على المنع في الزائد فإن كان له دين حال أجبر غريمه على وفائه فإن تعذر جازت الإقامة لذلك فإن كان مؤجلا، لم يمكن ويوكل.
"وإن مرض، لم يخرج حتى يبرأ"، لأن على المريض فهو يقيم ضرورة وان مات دفن به لأنه موضع حاجة وفيه وجه كالحرم.
"ولا يمنعون من تيماء وفيد" بفتح الفاء وياء مثناة بعدها دال وهى من بلاد طيء "ونحوهما"، لما مر أن أحدا من الخلفاء لم يخرج أحدا من ذلك.
"وهل لهم دخول المساجد" أي: مساجد الحل "بإذن مسلم؟ على روايتين":(3/330)
فصل
وإن اتجر ذمي بلده ثم عاد فعليه نصف العشر
ـــــــ
إحداهما وهى المذهب المنع لأن عليا بصر بمجوسى وهو على المنبر في المسجد فنزل وضربه وأخرجه وهو قول عمر ولأن حدث الجنابة والحيض يمنع فالشرك أولى والثانية يجوز بإذن مسلم صححها في "الكافي" و"الشرح"، وجزم به في "الوجيز"، لما روى أحمد بإسناد جيد عن الحسن عن عثمان بن أبى العاص أن وفد ثقيف قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلهم المسجد قبل إسلامهم ليكون أرق لقلوبهم وكاستئجاره لبنائه ولا سيما لمصلحة وظاهر كلام القاضي يجوز ليسمعوا الذكر فترق قلوبهم ويرجى إسلامهم وقال أبو المعالي إن شرط المنع في عقد ذمتهم منعوا وإن كان جنبا فوجهان فلو قصدوها بأكل ونوم منعوا ذكره في "الأحكام السلطانية". وقد روى ما يدل على التفرقة بين الكتابي وغيره.
تذنيب: يجوز عمارة كل مسجد وكسوته وإشعاله بمال كل كافر وأن يبنيه بيده ذكره في "الرعاية" وغيرها، وهو ظاهر كلامهم في وقفه عليه ووصيته له فتكون على هذا العمارة في الآية دخوله وجلوسه فيه يدل عليه خبر أبي سعيد مرفوعا: "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان"، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية [التوبة: 18] رواه أحمد وغيره وفي "الفنون": واردة على سبب وهي عمارة المسجد الحرام فظاهره المنع فيه فقط لشرفه وذكر ابن الجوزي في "تفسيره" أنه يمنع من بنائه وإصلاحه ولم يخص مسجدا بل أطلق وقاله طائفة من العلماء.
فصل
"وإن اتجر ذمي إلى غيره بلده" لبيع أو شراء "ثم عاد، فعليه" في تجارته "نصف العشر" على المذهب لما روى أنس قال أمرني عمر أن آخذ من ا لمسلم ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر رواه أحمد وروى أبو عبيد أن عمر بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل(3/331)
وإن اتجر حربي إلينا أخذ منه العشر ولا يؤخذ من أقل من عشرة دنانير
ـــــــ
عشرين درهما, درهما وهذا كان بالعراق واشتهر وعمل به ولم ينكر فكان كالإجماع وعنه يلزمهم العشر جزم به في "الواضع" وظاهره ولو كانت امرأة وهو أحد الوجهين قدمه في "المحرر"، لأنه حق واجب فاستويا فيه كالزكاة وقال القاضي لا عشر عليها لأنها محقونة الدم لها المقام في دار الإسلام بغير جزية فلم يعشر تجارتها كالمسلم إلا أن تكون تجارتها بالحجاز فتعشر كالرجل ورده المؤلف بأن هذا لا يعرف عن أحمد ولا يقتضيه مذهبه وعنه يلزم التغلبي جزم به في "الترغيب"، وتؤخد منه ضعف ما تؤخذ من أهل الذمة وقدم في "المحرر": لا شيء عليه لأن نصف العشر وجب في أموالهم بالشرط فلا تؤخذ مرة أخرى كسائر أهل الذمة وظاهره أنه لا شيء عليه في غير مال التجارة فلو مر بالعاشر منهم منتقل معه أمواله وسائمته فلا شيء عليه نص إلا أن تكون الماشية للتجارة فتؤخذ منها.
"وإن اتجر حربي إلينا أخذ منه العشر"، لأن عمر أخذ من أهل الحرب العشر واشتهر ولم ينكر وعمل به الخلفاء بعده وقيل نصفه وكذا حكم المستأمن إذا اتجر إلى بلد الإسلام. "ولا يؤخذ منه أقل من عشرة دنانير" نص عليه وهو اختيار المعظم لأنه مال يجب فيه حق بالشرع فاعتبر له النصاب كزكاة الزرع ثم بين مقداره وهو عشرة لأن ذلك مال يبلغ واجبه نصف دينار فوجب كالعشر في حق المسلم وعنه نصابه عشرون دينارا لأن الزكاة لا تجب في أقل منها فلم يجب على الذمي شيء كاليسير وقيل يؤخذ منه وإن قل ونقل صالح العشرين الذمي والعشرة للحربي لأنه:
أولا: أقل مال له نصف عشر صحيح،
وثانيا: أقل مال له عشر صحيح فوجب أن لا ينقص عنهما كالجزية وقال أبو الحسين يعتبر للذمي عشرة وللحربي خمسة.
فرع: يمنع الدين أخذه كالزكاة إن ثبت ببينة وفي تصديقه بجارية مر بها(3/332)
فصل في نقض العهد
وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية أو التزام
ـــــــ
فصل في نقض العهد
"وإذا امتنع الذمي من بذل الجزية" أو الصغار قاله الشيخ تقي الدين "أو التزام(3/332)
كتاب البيع
كتاب البيع
...
كتاب البيع
ـــــــ
كتاب البيع
والأصل فيه قبل الإجماع قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] أي: في مواسم الحج. قاله ابن عباس.
ومن السنة ما رواه رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال: "يا معشر التجار!" فرفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والمعنى يقتضيه لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه ولا يبذله بغير عوض غالبا ففي تجويز البيع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته.
وهو مصدر: باع يبيع بمعنى ملك وبمعنى اشترى وكذا شرى يكون للمعنيين وقال الزجاج وغيره باع وأباع بمعنى واشتقاقه من الباع في قول الأكثر منهم صاحب "المغني" و"الشرح"، لأن كل واحد يمد باعه للأخذ والإعطاء ورد بأنه مصدر وهي غير مشتقه على الصحيح فإن أجيب بالتزام مذهب الكوفي بأنه مشتق من الفعل رد بأنه الفعل الذي منه المصدر لا فعل مصدر آخر وبأن "الباع" عينه واو بخلاف "البيع" فإن عينه ياء وشرط الاشتقاق موافقة الأصل والفرع.
ويجاب عنه بأن هذا من الاشتقاق الأكبر الذي يلحظ فيه المعنى فقط مع أن بعض المحققين لم يشترطه لقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] من الاشتقاق الأكبر لأن قال من "القول" والقالين من "القلى" فالحروف لم(3/341)
وهو مبادلة المال بالمال لغرض التملك وله صورتان إحداهما الإيجاب والقبول فيقول البائع بعتك أو ملكتك ونحوهما ويقول المشتري ابتعت أو قبلت وما في معناهما.
ـــــــ
تتفق والمعنى لم يتحد.
ومن جهة المعنى بالبيع في الذمة لانتفاء مد الباع فيه.
"وهو" في اللغة: أخذ شيء وإعطاء شيء قاله ابن هبيرة.
وهو في الشرع: "مبادلة المال بالمال لغرض التملك" فدخل فيه المعاطاة والقرض لأنه وإن قصد فيه التملك لكن المقصود الأعظم فيه الإرفاق ويخرج منه الإجارة وليس بمانع لدخول الربا.
وقال القاضي وابن الزاغوني: هو عبارة عن الإيجاب والقبول إذا تضمن عينين للتملك وأبدل السامري عينين بمالين ليحترز عما ليس بمال وليس بجامع لخروج بيع المعاطاة منه ولا مانع لدخول الربا فيه.
والأولى فيه: تمليك عين مالية أو منفعة مباحة على التأبيد بعوض مالي غير ربا ولا قرض.
ثم لبيع العين أقسام ولصحته ثلاثة أركان العاقد وصيغة العقد والمعقود عليه.
"وله صورتان" أي ينعقد بكل منهما "إحداهما: الإيجاب" وهو الصادر من قبل البائع، "والقبول" بفتح القاف وحكى في اللباب الضم وهو الصادر من قبل المشتري "فيقول البائع: بعتك أو ملكتك ونحوهما" كوليتك أو أشركتك أو أعطيتك "ويقول المشتري: ابتعت أو قبلت وما في معناهما" كأخذته أو اشتريته أو تملكته لأن الإيجاب والقبول صريحان فيه فانعقد بهما كسائر الصرائح.
وعنه: يتعين بعت واشتريت فقط لصراحتهما كالنكاح وفهم منه(3/342)
فإن تقدم القبول الإيجاب جاز في إحدى الروايتين وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه وإلا فلا والثانية المعاطاة.
ـــــــ
أن القبول يعقب الإيجاب "فإن تقدم القبول الإيجاب جاز في إحدى الروايتين" جزم به في "الوجيز" لأن المعنى حاصل به فجاز كما لو تأخر وهذا إذا وجد ما يدل على البيع فلو قال قبلت ابتداء ثم قال بعتك لم ينعقد.
والثانية: لا يصح. اختاره الأكثر لأن رتبته التأخر وكنكاح نص عليه وذكره في "المحرر" رواية واحدة وذكر ابن عقيل فيه رواية وعلى الأولى فيه تفصيل ذكره في "المغني" و"الشرح" و"الفروع" إذا تقدم بلفظ الماضي كابتعت منك فيصح على الأصح أو الطلب كبعني بكذا فيقول بعتك فالأشهر الصحة.
وعنه: لا ينعقد كما لو تقدم بلفظ الاستفهام وفاقا لأنه ليس بقبول ولا استدعاء وهذه الصورة ليست بداخلة في كلام المؤلف لأنه لا يسمى قبولا،
"وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه" عرفا، لأن حالة المجلس كحالة العقد بدليل أنه يكتفي بالقبض فيه لما يشترط قبضه، "وإلا فلا" يصح فيما إذا تراخى عن الإيجاب حتى انقضى المجلس لأن العقد إنما يتم بالقبول فلم يتم مع تباعده عنه كالاستثناء وكذا إذا تشاغلا بما يقطعه لأنهما صارا معرضين عن البيع أشبه ما لو صرح بالرد.
"والثانية: المعاطاة" نص عليه وجزم به أكثر الأصحاب لعموم الأدلة ولأن البيع موجود قبل الشرع وإنما علق الشرع عليه أحكاما ولم يعين له لفظا فوجب رده إلى العرف كالقبض، والحرز".
ولم يزل المسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه استعمال إيجاب وقبول في بيعهم ولو استعمل لنقل نقلا شائعا ولبينه النبي صلى الله عليه وسلم لعموم البلوى به ولم يخف حكمه،(3/343)
مثل أن يقول أعطني بهذا الدينار خبزا فيعطيه ما يرضيه أو يقول البائع خذ هذا بدرهم فيأخذه وقال القاضي لا يصح هذا إلا في الشيء اليسير
ـــــــ
"مثل أن يقول: أعطنى بهذا الدينار خبزا فيعطيه ما يرضيه أو يقول البائع خذ هذا بدرهم فيأخذه"، لأن الإيجاب والقبول إنما يرادان للدلالة على التراضي فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والمعاطاة قام مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه.
والثانية: لا يصح لأن الرضى أمر خفي فأنيط بالصيغة وكالنكاح ولكن يستثنى منه البيع الضمين كما إذا قال أعتق عبدك على كذا.
"وقال القاضي: لا يصح هذا إلا في الشيء اليسير"، أي في المحقرات خاصة وهو رواية واختارها ابن الجوزي لأن اعتبار ذلك في اليسير يشق فيسقط دفعا للمشقة وأصل ذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29].
هل المعتبر حقيقة الرضى فلا بد من صريح القول أو ما يدل عليه فيكتفى بما يدل على ذلك فيه قولان للعلماء.
قال في "الفروع": ومثله وضع ثمنه عادة وأخذه وظاهره ولو لم يكن المالك حاضرا.
أصل: حكم الهبة والهدية والصدقة كذلك فتجهيز بنته بجهاز إلى زوج تمليك في الأصح.
فائدة: لا بأس بذوقه حال الشراء نص عليه وقاله إبراهيم النخعي وقال سفيان العفة أحب نقل حرب لا أدري إلا أن يستأذنه(3/344)
فصل
ولا يصح إلا بشروط سبعة أحدها التراضي به وهو أن يأتيا به اختيارا فإن كان أحدهما مكرها لم يصح إلا أن يكره بحق ليث يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه.
ـــــــ
فصل:
"ولا يصح إلا بشروط سبعة أحدها التراضي به" للآية ولقوله عليه السلام: "إنما البيع عن تراض" رواه ابن حبان "وهو أن يأتيا به اختيارا"، لأن حق كل واحد منهما يتعلق بماله فلم يجز إزالة ملكه عنه بغير رضاه لقوله عليه السلام: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه".
ويستثنى منه ما لم يكن بيع تلجئة وأمانة أو من هازل، "فإن كان أحدهما مكرها لم يصح"، لفوات شرطه، "إلا أن يكره بحق كالذي يكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه" فيصح، لأنه قول حمل عليه بحق فصح منه كإسلام المرتد.
والمشتري كالبائع فإن أكره على وزن مال فباع ملكه كره الشراء وصح نص عليه لعدم الإكراه فيه، وهو بيع المضطر.
وعنه: لا يصح، لقول علي: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر" رواه أبو داود من رواية صالح بن عامر عن شيخ من تميم وهما لا يعرفان.
وفسره أحمد في رواية بأن يجيئك محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين.(3/345)
فصل:
الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف وهو المكلف الرشيد إلا الصبي المميز والسفيه فإنه يصح تصرفهما بإذن وليهما في إحدى الروايتين ولا يصح بغير إذنه إلا في الشيء اليسير.
ـــــــ
فصل.
"الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف" لأن البيع يشترط له الرضى فاشترط في عاقده جواز التصرف كالإقرار "وهو المكلف الرشيد" والمراد به: البالغ العاقل الرشيد فلا يصح بيع طفل ولا مجنون ولا سكران ولا نائم ولا مبرسم ولا شراؤه لعدم المقتضي لذلك سواء أذن له وليه أم لا "إلا الصبي المميز والسفيه، فإنه يصح تصرفهما بإذن وليهما في إحدى الروايتين" هذا هو الأصح لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] أي: اختبروهم وإنما يتحقق بتفويض البيع والشراء إليه فصح تصرفه بإذن وليه وإن كان محجورا عليه كالعبد والسفيه مثله ولأنه إذا صح في الصبي بما ذكرنا فالسفيه أولى بالصحة إلا في عدم وقفه وقد تضمن ذلك جواز الإذن له في التصرف لمصلحة.
والثانية: لا يصح منه حتى يبلغ لأنه غير مكلف أشبه غير المميز ولأنه مما يخفى فضبطه الشارع بحد وهو البلوغ والسفيه محجور عليه لسوء تصرفه وتبذيره فإذا أذن له وليه فقد أذن فيما لا مصلحة فيه، "ولا يصح بغير إذنه" لما ذكرنا "إلا في الشيء اليسير"، لأن الحكمة في الحجر عليهما خوف ضياع مالهما بتصرفهما وذلك مفقود في اليسير يؤيده أن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفورا وأطلقه ذكره ابن أبي موسى.
وفي طريقة بعض أصحابنا في صحة تصرف مميز ونفوذه بلا إذن وليه وإبرائه وإعتاقه وطلاقه روايتان وفي قبولهم هبة ووصية بلا إذن أوجه ثالثها:(3/346)
فصل:
الثالث: أن يكون المبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة فيجوز بيع البغل والحمار ودود القز وبزره والنحل منفردا.
ـــــــ
يجوز من عبد. نص عليه.
وعنه: صحة تصرف مميز ويقف على إجازة وليه نقل حنبل إن تزوج الصغير فبلغ أباه فأجازه جاز قال جماعة بعد رشده لم يجز وعنه لا يقف ذكرها الفخر.
فصل
"الثالث: أن يكون المبيع مالا"، لأنه يقابل بالمال إذ هو مبادلة المال بالمال "وهو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة" أخرج بالأول ما لا نفع فيه كالحشرات وبالثاني ما فيه منفعة محرمة كالخمر وبالثالث ما فيه منفعة مباحة للضرورة كالكلب، ولو عبر "بغير حاجة" كـ"الوجيز" و"الفروع" لكان أولى لأن اقتناء الكلب يحتاج إليه ولا يضطر إليه قاله ابن المنجا.
وفي "الشرح": يحترز بقوله لغير ضرورة من الميتة والمحرمات التي تباح في حال المخمصة والخمر تباح لدفع لقمة غص بها، "فيجوز بيع" العقار "والبغل والحمار"، لأن الناس يتبايعون ذلك في كل عصر من غير نكير فكان كالإجماع.
قال في "الهداية": لا إن نجسا والمذهب خلافه. "ودود القز"، لأنه حيوان طاهر يجوز اقتناؤه لغرض التملك لما يخرج منه أشبه البهائم وحرمه في "الانتصار" كالحشرات، وفيه نظر. "وبزره" لأنه ينتفع به في المآل أشبه ولد الفرس وفيه وجه وجزم به في "عيون المسائل" كبيض مالا يؤكل وعلى الأول لا فرق في بيعه مفردا أو مع الدود.
"والنحل منفردا" لأنه حيوان طاهر يخرج من بطونه شراب فيه منافع للناس،(3/347)
وفي كواراته ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد في إحدى الروايتين إلا الكلب اختارها الخرقي والأخرى لا يجوز اختارها أبو بكر.
ـــــــ
فجاز بيعه كبهيمة الأنعام "وفي كواراته" لإمكان مشاهدته بفتح رأسها وقال القاضي لا يجوز بيعها فيها لأن بعضها غير مرئي وهو أميرها وأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعا وهو مجهول والأول المذهب لأن خفاء البعض لا يمنع الصحة كالصبرة وكما لو كان المبيع في وعاء لا يشاهد إلا ظاهره والعسل يدخل تبعا كأساسات الحيطان فإن لم تمكن مشاهدة النحل لكونه مستورا بالأقراص ولم يعرف لم يجز بيعه لجهالته ذكره في "المغني والشرح".
"ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد" كالفهد والصقر ونحوهما في "إحدى الروايتين" لما في الصحيح أن امرأة دخلت النار في هرة لها حبستها والأصل في اللام الملك ولأنه حيوان مباح نفعه واقتناؤه مطلقا أشبه البغل والباقي بالقياس عليه ولأنه لا وعيد في جنسه فجاز بيعه وعلى هذا في جواز بيع فرخه وبيضه وجهان.
قوله: يصلح للصيد يحتمل حالا أي تكون معلمة وبه صرح الخرقي فظاهره لا يصح بيعها قبل التعليم ويحتمل مآلا أي يقبله كالجحش الصغير فإن لم يقبل الفيل التعليم لم يجز كأسد وذئب ودب "إلا الكلب" لا يجوز بيعه رواية واحدة وكذا آلة لهو وخمر ولو كانا ذميين ذكره الأزجي عن الأصحاب "اختارها الخرقي" والمؤلف وجزم بها في "الوجيز" "والأخرى: لا يجوز، اختارها أبو بكر" وابن أبي موسى.
أما الهر فلما روى جابر أنه سئل عن ثمنه فقال زجر النبي صلى الله عليه وسلم عنه. رواه مسلم وعنه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن السنور رواه أبو داود ويمكن حمله المملوك منها أو على مالا نفع فيه أو على المتوحش أو كان ذلك في الابتداء لما كان محكوما بنجاستها ثم لما حكم بطهارة سؤره حل ثمنه.
قال الزركشي وكلها محامل ودعوى لا دليل عليها وأما الفيل وسباع(3/348)
ويجوز بيع العبد المرتد والمريض وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ولبن الآدميات وجهان.
ـــــــ
البهائم فلأنها نجسة كالكلب وأجيب بالفرق بأنه يجوز اقتناؤها مطلقا بخلاف الكلب فإن جوازه مختص بأحد أمور ثلاثة مع أن اقتناءه للحاجة بخلاف ما ذكر وأطلقهما في "الفروع" كـ "المحرر".
"ويجوز بيع العبد المرتد" لحصول النفع به إلى وقت قتله وربما رجع إلى الإسلام فيحصل كمال النفع ولأنه يمكنه إزالة المانع بخلاف الجاني "والمريض" بغير خلاف نعلمه قاله في "الشرح" وقيل غير مأيوس والمعتبر الأول لأن خشية الهلاك لا تمنع الصحة كالمرتد. "وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ولبن الآدميات وجهان": أصحهما وهو المنصوص يجوز بيع العبد الجاني لأنه حق ثبت بغير رضى سيده فلم يمنع بيعه كالدين والثاني لا يصح لأنه تعلق برقبته حق آدمي فمنع جواز بيعه كالرهن والأول أولى لأنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداءه من غيره فلم يمنع البيع كالزكاة وفارق الرهن من حيث إنه حق متعين فيه لا يملك سيده إبداله ثبت الحق فيه برضاه وثيقة للدين.
فعلى هذا لا فرق بين أن تكون الجناية عمدا أو خطأ على النفس أو ما دونها وظاهره أن الخلاف جار فيه ولو اشتراه المجني عليه.
الثانية: القاتل في المحاربة فإن تاب قبل القدرة عليه فهو كالحربي وإن لم يتب حتى قدر عليه وهو المراد بقولهم وفي المتحتم قتله وجهان كذا في "المحرر" و"الفروع" أحدهما وهو قول أبي الخطاب وصححه في "المغني" و"الشرح"، وجزم به في "الوجيز" أنه يجوز بيعه لأنه ينتفع به إلى حين قتله ويعتقه فيجر ولاء ولده فجاز كالمريض والثاني وهو قول القاضي لا لأنه لا نفع فيه لكونه متحتم القتل أشبه الميتات والفرق ظاهر لأنه لا ينتفع بها أصلا بخلافه لأنه يمكن زوال ما ثبت من الرجوع عن الإقرار أو الرجوع من الشهود.(3/349)
وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله روايتان
ـــــــ
الثالثة ظاهر كلام الخرقي واختاره ابن حامد وصححه في "الشرح" وغيره وجزم به في "الوجيز" أنه يصح بيع لبن الآدمية المنفصل منها لأنه طاهر منتفع به كلبن الشاة ولأنه يجوز أخذ العوض عنه في إجارة الظئر أشبه المنافع.
والثاني لا يجوز قدمه في "المحرر" لأنه مائع خرج من آدمية كالعرق أو لأنه من الآدمي فلم يجز بيعه كسائر أجزائه وجوابه أن العرق لا نفع فيه بدليل أنه لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها وحرم بيع العضو المقطوع لأنه لا نفع فيه وقيل يجوز من الأمة لأن بيعها جائز فكذا لبنها كسائر أجزائها دون الحرة.
لكن قال أحمد: أكره للمرأة بيع لبنها واحتج ابن شهاب وغيره بأن الصحابة قضوا فيمن غر بأمة بضمان الأولاد ولو كان للبن قيمة لذكروه.
فرع: المنذور عتقه قال ابن نصر الله نذر تبرر الأشهر لا يصح بيعه لأن عتقه وجب بالنذر فلا يجوز إبطاله ببيعه كالهدية المعينة.
"وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله روايتان" أشهرهما أنه لا يجوز بيعه.
قال أحمد: لا نعلم في بيع المصحف رخصة وجزم به في "الوجيز".
قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيعها ولأن تعظيمه واجب وفي بيعه ابتذال له وترك لتعظيمه فلم يجز.
والثانية يجوز روي عن الحسن والحكم لأنه ينتفع به أشبه كتب العلم.
وفي ثالثة يكره لأن ابن عمر وابن عباس وأبا موسى كرهوا بيعه ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان كالإجماع وعلى الأول يقطع بسرقته ولا يباع في دين.(3/350)
ولا يجوز بيع الحشرات
ـــــــ
ولو وصي ببيعه نص عليه ويلزم بذله لحاجة في الأشهر ويكره شراؤه وإبداله في رواية لأنه وسيلة إلى البيع المتضمن إذلال المصحف ولا يكره في أخرى قدمها في "المحرر" وجزم بها في "الوجيز" لأنه استنقاذ له كاستنقاذ الأسير المسلم وفارق البيع لأنه إخراج له عن ملكه.
وفي "النهاية": لا يصح بيع المصحف ولا شراؤه ولا إبداله لأن جميع ذلك إذلال والمصحف محترم فتنافيا وفارق الشراء هنا شراء الأسير لأن شراءه تدعو الحاجة إليه بخلاف المصحف وظهر منه أنه لا يصح بيعه لكافر لأنه إذا نهي عن المسافرة به إلى أرضهم مخافة أن تناله أيديهم فهذا أولى.
وحكم إجارته كبيعه لأنها بيع منفعته ويجوز وقفه وهبته والوصية به ذكره القاضي واحتج بنصوص أحمد وظاهره جواز بيع كتب العلم ونقل أبو طالب لا تباع.
مسائل: الأولى: يجوز نسخه بأجرة واحتج بقول ابن عباس ففيه لمحدث بلا حمل ولا مس روايتان وكذا كافر قال أبو بكر لا يختلف قول أبي عبد الله أن المصاحف تكتبها النصارى على ما روي عن ابن عباس ويأخذ الأجرة من كتبها من المسلمين. وفي "النهاية": يمنع وهو ظاهر.
الثانية: يصح شراء كتب زندقة ونحوها ليتلفها لا خمر ليريقها لأن في الكتب مالية الورق.
قال ابن عقيل: يبطل بآلة اللهو وسقط حكم مالية الخشب.
الثالثة: يجوز بيع طير لقصد صوته في قول جماعة زاد الشيخ تقي الدين إن جاز حبسه وفيه احتمالان لابن عقيل وفي "الموجز": لا تصح إجارة ما قصد صوته كديك وقمري.
"ولا يجوز بيع الحشرات" لأنه لا منفعة فيها ويستثنى منه علق لمص دم،(3/351)
والميتة ولا شيء منهما ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد ولا الكلب ولا السرجين النجس ولا الأدهان النجسة.
ـــــــ
وديدان لصيد سمك وما يصاد عليه كبومة شباشا في الأشهر.
"والميتة" لقول جابر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يقول: "إن الله حرم بيع الميتة والخمر والأصنام" متفق عليه.
ويستثنى منها الحوت والجراد ولا شيء منها لأن ما لا يجوز بيع كله لا يجوز بيع بعضه كالخمر ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد كالأسد والذئب لأنه لا نفع فيها كالحشرات ولا الكلب لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب متفق عليه وفي لفظ قال: "ثمن الكلب خبيث" رواه مسلم.
وقد روى البيهقي بإسناد جيد عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يحل ثمن الكلب" ولأنه حيوان نهي عن اقتنائه في غير حال الحاجة إليه أو نجس العين كالخنزير وظاهره ولو كان معلما صرح به الخرقي وإنما نص عليه ثانيا لأن بعض العلماء أجاز بيعه ومال إليه بعض أصحابنا لأن في رواية أبي هريرة: "إلا كلب صيد"، وأجيب بضعفه، قاله البيهقي وغيره.
"ولا السرجين النجس" لأنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة وفيه تخريج من دهن نجس.
قال مهنا: سألت أحمد عن السلف في البعر والسرجين قال لا بأس وأطلق ابن رزين في بيع نجاسة قولين وظاهره أنه يجوز بيع الطاهر منها.
"ولا الأدهان النجسة" أي المتنجسة في ظاهر كلام أحمد للأمر بإراقته ولقوله عليه السلام: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه" ولأنها نجسة، فلم يجز بيعها كشحم الميتة وعلى قول أبي الخطاب يجوز بيع ما يطهر منها كمال كالثوب النجس وجوابه بأن القصد من الدهن غالبا هو الأكل وقد زال وتعظم المشقة بتطهيره بخلاف الثوب النجس فإنه يجوز لبسه في(3/352)
وعنه: يجوز بيعها لكافر يعلم نجاستها وفي جواز الاستصباح بها روايتان ويخرج على ذلك جواز بيعها.
ـــــــ
غير الصلاة ولا تعظم المشقة بتطهيره والأولى أن فيه نهيا خاصا فهو غير مقدور على تسليمه شرعا.
"وعنه: يجوز بيعها لكافر يعلم نجاستها" لأنه يعتقد حل ذلك ويستبيح أكله قال ابن المنجا واشترط الكفر لأجل الاعتقاد المجوز والعلم بنجاستها المراد به اعتقاد الطهارة لأن نفس العلم بالنجاسة ليس شرطا في بيع الثوب النجس فكذا هنا، وفيه شيء.
وفي "المغني": يجوز أن تدفع إلى كافر في فكاك مسلم ويعلم بنجاسته لأنه ليس ببيع في الحقيقة وإنما هو استنقاذ المسلم به.
"وفي جواز الاستصباح بها روايتان"، كذا في "المحرر" و"الفروع" إحداهما: لا وجزم بها في "الوجيز" لأنه عليه السلام نهى عن قربانه فيدخل فيه الاستصباح وغيره ولأنه دهن نجس فلم يجز الاستصباح به كشحم الميتة.
والثانية: يباح روي عن ابن عمر واختاره الخرقي لأنه أمكن الانتفاع به من غير ضرر أشبه الانتفاع بالجلد اليابس فعلى هذا ينتفع به على وجه لا يمسه بيده ولعل المراد في غير المساجد لأنه يؤدي إلى تنجيسها لا نجس العين كالكلب والخنزير.
"ويخرج على ذلك جواز بيعها" كذا ذكره أبو الخطاب لأنه يصير منتفعا به كالبغل والحمار.
فرع: لا يجوز بيع سم قاتل سواء كان من الأفاعي أو النبات وقيل يقتل به مسلما.(3/353)
فصل:
الرابع: أن يكون مملوكا له أو مأذونا له في بيعه فإن باع ملك غيره بغير إذنه أو اشترى بعين ماله شيئا بغير إذنه لم يصح وعنه يصح ويقف على إجازة المالك.
ـــــــ
فصل:
"الرابع: أن يكون مملوكا له" حتى الأسير ولا بد من تقييده بالتام ليخرج بيع المبيع قبل قبضه فإنه لا يصح وسيأتي.
"أو مأذونا له في بيعه" وقت إيجابه وقبوله لقوله عليه السلام لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" رواه ابن ماجه والترمذي وصححه فهذا يدل على اشتراط كون المبيع مملوكا لبائعه ترك العمل به في المأذون لقيامه مقام مالكه لأنه نزله منزلة نفسه والحاجة داعية إلى التوكيل لكون الموكل غائبا أو محبوسا يتعذر معه حضور المشتري معه وما أشبهه فلو لم يقم مقامه لأدى إلى الحرج والمشقة وهما منتفيان شرعا لا يقال لا تبع ما ليس عندك ليس فيه ذكر الملك لأنه ذكره جوابا حين سأله أنه يبيع الشيء ويمضي ويشتريه ويسلمه.
"فإن باع ملك غيره بغير إذنه، أو اشترى بعين ماله شيئا بغير إذنه" أو طلق زوجة غيره أو نحوه من التصرفات "لم يصح". اختاره الأكثر لعدم وجود شرطه والشيء يفوت بفوات شرطه.
"وعنه: يصح، ويقف على إجازة المالك" لما روى عروة بن الجعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به شاة فاشترى له شاتين فباع إحداهما بدينار ثم جاءه بالدينار والشاة فدعي له بالبركة في بيعه رواه أحمد والبخاري.
ولأنه عقد له مجيز في حال وقوعه فوقف على إجازته كالوصية لأجنبي(3/354)
وإن اشترى له في ذمته بغير إذنه صح فإن أجازه من اشترى له ملكه وإلا لزم من اشتراه.
ـــــــ
بزيادة على الثلث واشترطت إجازة المالك دفعا للضرر اللاحق به قال بعضهم ولو لم يكن له مجيز في الحال.
وعنه: صحة تصرف غاصب والأول المذهب لأن حديث عروة محمول على أنه وكيل مطلق بدليل أنه سلم وتسلم وليس ذلك لغير المالك والوكيل المطلق باتفاق.
فرع: إذا بيع ملكه وهو ساكت فهو كما لو باعه بغير إذنه خلافا لابن أبي ليلى لأن سكوته إقرار يدل على الرضى كالبكر في النكاح وأجيب بالفرق فإن سكوتها دليل على الحياء المانع من الكلام في حقها بخلافه هنا.
"وإن اشترى له في ذمته بغير إذنه، صح" على الأصح لأنه متصرف في ذمته وهي قابلة للتصرف وظاهره سواء سماه في العقد أو لا والأشهر أنه يصح إذا لم يسمه.
"فإن أجازه من اشترى له، ملكه" لأنه اشترى لأجله ونزل المشتري نفسه منزلة الوكيل فملكه من اشترى له كما لو أذن له والأصح أنه يملكه من حين العقد وقبل الإجازة "وإلا لزم من اشتراه" أي: إذا لم يجزه لأنه لم يأذن فيه فتعين كونه للمشتري كما لو لم ينو غيره وفي "الرعاية": إن سماه فأجازه لزمه وإلا بطل ويحتمل إذن يلزم المشتري وقدمه في "التلخيص" إلغاء للإضافة.
وإن قال: بعته من زيد فقال اشتريته له بطل ويحتمل يلزم إن أجازه وإن حكم بصحته بعد إجازته صح في الحكم ذكره القاضي ويتوجه كالإجازة قاله في "الفروع".
تنبيه: لا يصح شراؤه بعين ماله ما يملكه غيره ذكره القاضي واختار المؤلف وقوفه على الإجازة.(3/355)
ولا يصح بيع ما لا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه ولا يصح بيع ما فتح عنوة ولم يقسم كأرض الشام والعراق ومصر ونحوها إلا المساكن.
ـــــــ
ومثله شراؤه لنفسه بمال غيره وإن باع ما يظنه لغيره فبان وارثا أو وكيلا فروايتان وفي "المحرر" وجهان وبناهما في شرحه على عزل الوكيل قبل علمه.
"ولا يجوز" أي: لا يصح "بيع ما لا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه" بغير خلاف نعلمه لحديث حكيم ولأنه غير قادر على تسليمه أشبه الطير في الهواء بل موصوف غير معين بشرط قبضه أو قبض ثمنه في مجلس العقد، كسلم.
"ولا يصح بيع ما فتح عنوة ولم يقسم كأرض الشام ومصر والعراق ونحوها" في ظاهر المذهب وهو قول عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن عمر.
قال الأوزاعي: لم يزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية ويكرهه علماؤهم.
قال الشعبي: اشترى عتبة بن فرقد أرضا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قصبا فقال له عمر ممن اشتريتها قال من أربابها فلما اجتمع المهاجرون والأنصار فقال هؤلاء أربابها قال ارددها على من اشتريتها منه وخذ مالك فقاله بمحضر سادة الصحابة وأئمتهم ولم ينكر فكان كالإجماع ولا سبيل إلى وجود إجماع أقوى منه لتعذره.
فإن قيل: قد خالفه ابن مسعود فإنه اشترى من دهقان أرضا على أن يكفيه جزيتها قلنا: لا نسلم المخالفة واشترى بمعنى اكترى قاله أبو عبيد بدليل على أن يكفيه جزيتها ولا يكون مشتريا لها وجزيتها على غيره.
"إلا المساكن" لأن الصحابة اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر وبنوها مساكن وتبايعوها من غير نكير فكان كالإجماع.(3/356)
وأرضا من العراق فتحت صلحا وهي الحيرة وأليس وبانقيا وأرض بني صلوبا لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين.
ـــــــ
وظاهره ولو كانت آلتها من أرض العنوة ولو كانت موجودة حال الفتح وقدم في "الفروع" أنه يجوز بيع بناء ليس منها وغرس محدث فيها.
ونقل المروذي ويعقوب المنع لأنه تبع وهو ذريعة وجوز ابن عقيل بيع الغرس وفي البناء روايتان.
"وأرضا من العراق" سمي عراقا لامتداد أرضه وخلوها من جبال مرتفعة وأو دية منخفضة قاله السامري.
"فتحت صلحا وهي الحيرة" مدينة بقرب الكوفة بكسر الحاء والنسبة إليها حيري وحاري على غير قياس قاله الجوهري.
"وأليس" بضم الهمزة وتشديد اللام بعدها ياء ساكنة وبعدها سين مهملة مدينة بالجزيرة "وبانقيا" بزيادة ألف بين الباء والنون وهي مكسورة بعدها قاف ساكنة تليها ياء مثناة من تحت ناحية بالنجف دون الكوفة قال ثعلب سميت بذلك لأن إبراهيم ولوطا نزلاها وكانت تزلزل فلم تزلزل تلك الليلة فاشتراها بغنيمات يقال لها نقيا وكان شراؤها من أهل بانقيا.
"وأرض بني صلوبا" بفتح الصاد المهملة وضم اللام بعدها واو ساكنة تليها باء موحدة فهذه الأماكن فتحت صلحا لا عنوة فجاز بيعها.
ومثل ذلك الأرض التي أسلم أهلها عليها كأرض المدينة فإنها ملك أربابها قاله في "المغني" و"الشرح".
ثم بين علة المنع فقال: "لأن عمر رضي الله عنه وقفها على المسلمين" لتكون مادة لهم لقتالهم في سبيل الله إلى يوم القيامة وشهرة ذلك تغني عن نقله ولأنها لو قسمت لكانت للذين افتتحوها ثم لورثتهم أو لمن انتقلت إليه عنهم ولم تكن مشتركة بين المسلمين ولو جاز تخصيص أحدهما لكان من افتتحها(3/357)
وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام ولم تقدر مدتها لعموم المصلحة فيها وتجوز إجارتها وعن أحمد أنه كره بيعها وأجاز شراءها.
ـــــــ
أحق بها.
"وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في كل عام" عن الأرض "ولم تقدر مدتها لعموم المصلحة فيها" هذا جواب عن سؤال مقدر تقديره إن المأخوذ منهم أجرة فيجب تقدير مدتها كسائر الإجارات فأجاب بالفرق من حيث إن عموم المصلحة موجود هنا بخلاف ما إذا أجر ملكه لإنسان أو يقال إنها لا تصح مجهولة في أملاك المسلمين فأما في أملاك الكفار أو في حكم أملاكهم فجائز.
ألا ترى أن الأمير لو قال من دلنا على القلعة الفلانية فله منها جارية صح وإن كانت بجعل مجهول فإن قيل لو كانت أجرة لم تؤخذ عن النخل والكرم لعدم صحة إجارة ذلك والجواب أن المأخوذ هناك عن الأرض إلا أن الأجرة اختلفت لاختلاف المنفعة فالمنفعة بالأرض التي فيها النخل أكثر وإنما كره أحمد الدخول فيها لما شاهده في وقته لأن السلطان كان يأخذ زيادة على ما وظفه عمر ويضرب ويحبس ويصرفه إلى غير مستحقه.
وعنه: يصح بيعها ذكره الحلواني واختاره الشيخ تقي الدين وقال جوز أحمد إصداقها وقاله المجد وتأوله القاضي على نفعها.
"وتجوز إجارتها" لأنها مؤجرة في أيدي أربابها وإجارة المؤجر جائزة وعنه لا ذكرها القاضي وغيره كالبيع.
"وعن أحمد: أنه كره بيعها" للاختلاف فيه ونقل أبو داود يبيع منه ويحج قال لا أدري فدل على التوقف.
"وأجاز شراءها" لأنه في معنى الاستنقاذ وعنه لحاجته وعياله ونقل حنبل أمقت السواد والمقام فيه كالمضطر يأكل من الميتة مالا بد منه وعلى(3/358)
ولا يجوز بيع رباع مكة ولا إجارتها وعنه يجوز ذلك
ـــــــ
الصحة فإنها تكون في يد المشتري على ما كانت في يد البائع يؤدي خراجها ويكون الشراء بمعنى نقل العين من يد إلى أخرى بعوض إلا ما كان قبل سنة مائة أو من إقطاع عمر رضي الله عنه.
أصل: إذا أعطى الإمام هذه الأرض أو وقفها فقيل يصح وفي "النوادر": لا واحتج بنقل حنبل مثل السواد كمن وقف أرضا على رجل أو على ولده لا يحل منها شيء إلا على ما وقف وفي "المغني" و"الشرح": إن حكم بصحة البيع حاكم صح لأنه مختلف فيه كبقية المختلفات مع أنهما ذكرا أن للإمام البيع لمصلحة لأن فعله كحكم الحاكم.
"ولا يجوز بيع رباع مكة" بكسر الراء جمع ربع وهو المنزل ودار الإقامة لقوله عليه السلام: "إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنما أحلت لي ساعة من نهار" متفق عليه. وفي الصحيح: " قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".
"ولا إجارتها" لما روى سعيد بن منصور عن مجاهد مرفوعا: "مكة حرام بيعها حرام إجارتها" وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: أنه قال: "مكة لا تباع رباعها، ولا تكرى بيوتها" رواه الأثرم ولأنها فتحت عنوة بدليل أنه عليه السلام أمر بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ومقيس بن صبابة ولو فتحت صلحا لم يجز قتل أهلها ولم تقسم بين الغانمين فصارت وقفا على المسلم فيحرمان كبقاع المناسك.
"وعنه يجوز ذلك" اختاره المؤلف بناء على أنها فتحت صلحا لقوله عليه السلام: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن" وإذا فتحت صلحا كانت ملكا لأهلها فجاز ذلك كسائر الأملاك.
واختاره الشيخ تقي الدين في البيع واختاره صاحب "الهدي" فيه لأن عمر اشترى من صفوان بن أمية دارا بأربعة آلاف درهم واشترى معاوية من حكيم ابن(3/359)
و لا يجوز بيع كل ماء عد كمياه العيون ونقع البئر ولا ما في المعادن الجارية كالقار والملح والنفط ولا ما نبت في أرضه من الكلأ والشوك ومن أخذ منه شيئا ملكه
ـــــــ
حزام دارين بمكة إحداهما بستين ألفا والأخرى بأربعين ألفا،
وجوابه: أن ذلك كان على سبيل الاستنقاذ مع أن عمر اشترى ذلك لمصلحة وجعله سجنا يؤيده فعله ذلك في أرض السواد وعلى المنع إن سكن بأجرة معينة لا يأثم بدفعها جزم به في "المغني". وعنه بلى قال الشيخ تقي الدين هي ساقطة يحرم بذلها وروي أن سفيان سكن بعض رباع مكة وهرب ولم يعطهم أجرة فأدركوه فأخذوها منه وذكر ذلك لأحمد فتبسم فظاهره أنه أعجبه.
مسألة: الحرم كمكة نص عليه ولا خراج على مزارعها لأنه جزية الأرض.
"ولا يجوز بيع كل ماء عد" بكسر العين وتشديد الدال وهو الذي له مادة لا تنقطع "كمياه العيون ونقع البئر" على المذهب لأنه عليه السلام نهى أن يباع الماء رواه الأثرم من حديث جابر ولأن الماء لا يملك على الصحيح لقوله عليه السلام: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء، والكلأ، والنار" رواه أبو داود وابن ماجه.
ولأنه لو كان مملوكا لم يجز للمستأجر إتلافه إذ الإجارة لا يستحق بها إتلاف الأعيان بل مشتر أحق به من غيره لكونه في ملكه.
وعنه: يملكه ويجوز اختاره أبو بكر لأنه متولد من أرضه كالنتاج.
قوله: ونقع البئر أي الماء المنتقع فيها "ولا ما في المعادن الجارية كالملح والقار والنفط" على الأصح، لأن نفعه يعم فلم يجز بيعه كالماء "ولا ما نبت في أرضه من الكلأ والشوك" لما ذكرنا "ومن أخذ منه شيئا ملكه" نص عليه لأنه من المباح فيملكه آخذه كما لو أخذه من أرض مباحة.(3/360)
إلا أنه لا يجوز دخول ملك غيره بغير إذنه وعنه يجوز بيع ذلك
فصل
الخامس أن يكون مقدورا على تسليمه فلا يجوز بيع الآبق ولا الشارد.
ـــــــ
واختار ابن عقيل عدمه وخرجه رواية من أن النهي يمنع التمليك وجوابه أن تعديه لا يمنع تملكه كما لو عشش في أرضه طائر أو دخل فيها صيد أو نضب الماء عن سمك فدخل إليه وأخذه.
"إلا أنه لا يجوز له دخول ملك غيره بغير إذنه" جزم به في "الوجيز" وغيره لأنه متصرف في ملك الغير بغير إذنه كما لو دخل لغير ذلك.
ونقل ابن منصور له الدخول لرعي كلأ وأخذه ونحوه ما لم يحط عليها بلا ضرر.
قال: لأنه ليس لأحد منعه ونقل المروذي له ذلك مطلقا وكرهه في "التعليق" و"الوسيلة" و"التبصرة".
"وعنه: يجوز بيع ذلك" لأنه خارج من ملكه فجاز بيعه كسائر الخارج منها وعلى الأول المنع منه قبل حيازته فأما بعدها فلا ريب أنه ملكه بذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه رواه أبو عبيد في "الأموال" وعلى ذلك مضت العادة في الأمصار ببيع الماء في الروايا والحطب والكلأ المحازين من غير نكير وليس لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذن مالكه.
فصل
"الخامس: أن يكون مقدورا على تسليمه" لأن مالا يقدر على تسليمه شبيه بالمعدوم والمعدوم لا يصح بيعه فكذا ما أشبهه "فلا يجوز بيع الآبق، ولا الشارد" لما روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا أنه نهى عن بيع الغرر،(3/361)
ولا الطير في الهواء ولا السمك في الماء ولا المغصوب إلا من غاصبه أو من يقدر على أخذه.
ـــــــ
وفسره القاضي وجماعة ما تردد بين أمرين ليس أحدهما أظهر والآبق كذلك لأنه متردد بين الحصول وعدمه مع أن فيه نهيا خاصا رواه أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد وهو آبق .
وظاهره: لا فرق بين أن يعلم خبره أم لا.
"ولا الطير في الهواء" لأنه بيع غرر وظاهره ولو كان يألف الرجوع لأنه غير مقدور عليه فلم يجز لفوات شرطه.
وقيل يجوز واختاره في "الفنون" وأنه قول الجماعة وأنكره من لم يحقق فإن أمكن أخذه وبابه مغلق جاز ذكره في "المغني" و"الشرح" إناطة بالقدرة على التسليم وشرط القاضي مع ذلك أخذه بسهولة فإن لم يمكن إلا بتعب ومشقة لم يجز لعجزه في الحال والجهل بوقت تسليمه ويرد عليه الغائب البعيد الذي لا يمكن إحضاره إلا بمشقة فإنه يجوز ويفرق بينهما بأن البعيد تعلم الكلفة التي يحتاج إليها في إحضاره بالعادة وتأخير تسليمه مدته معلومة.
"ولا السمك في الماء" لما روى أحمد عن ابن مسعود مرفوعا: "لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر" قال البيهقي فيه انقطاع والمراد به إذا كان في الآجام فلو كان في بركة معدا للصيد وعرف برؤية لصفاء الماء فيها وأمكن اصطياده صح بيعه لأنه معلوم ممكن تسليمه أشبه الموضوع في طست.
نعم إن كان في أخذه كلفة ومشقة خرج فيه الخلاف السابق مع أنه ذكر في "المغني" و"الشرح": أن البركة إذا كانت كبيرة وتطاولت المدة في أخذه أنه لا يجوز بيعه للجهل بوقت إمكان التسليم.
"ولا المغصوب" لأنه لا يقدر على تسليمه "إلا من غاصبه" لأن المانع منه معدوم هنا وعلى الأصح "أو من يقدر على أخذه" لعدم الغرر ولإمكان قبضه.
وعنه: يصح بيع آبق لقادر على تحصيله ذكره في "المغني" و"الشرح"،(3/362)
فصل
السادس: أن يكون معلوما برؤية أو صفة تحصل بها معرفته.
ـــــــ
وحكاه القاضي في موضع والأشهر المنع فإن عجز عن استنقاذه فله الفسخ لأنه إنما صح لظن القدرة على التحصيل.
فصل:
"السادس: أن يكون معلوما" ثم المتعاقدين لأن جهالة المبيع غرر فيكون منهيا عنه فلا يصح لذلك.
ومعرفة المبيع تحصل "برؤية" مقارنة له أو لبعضه إن دلت على بقيته نص عليه.
فرؤية أحد وجهي ثوب خام يكفي لا منقوش ولأن الرؤية متفق عليها لأنها تحصل العلم بحقيقة المبيع ويلحق بذلك ما عرف بلمسه أو شمه أو ذوقه ذكره القاضي وغيره.
وعنه: ويعرف صفة المبيع تقريبا فلا يصح شراء غير جوهري جوهرة.
"أو صفة تحصل بها معرفته" على الأصح كالصفة التي تكفي في السلم لأنها تقوم مقام الرؤية والبيع يتميز بما يصفه العاقد والشرع قاض بالاعتماد على قوله بدليل قبول قوله إنه ملكه ولأنه مبيع معلوم للمتعاقدين مقدور على تسليمه فصح كالحاضر وظاهره أن البيع بالصفة مخصوص بما يجوز السلم فيه لا غيره صرح به في "المحرر" و"الشرح" و"الوجيز" فعلى هذا يصح بيع أعمى وشراؤه كتوكيله.
فرع: لا يصح بيع الأنموذج بأن يريه صاعا ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه وقيل ضبط الأنموذج كذكر الصفات نقل جعفر فيمن يفتح جرابا ويقول الباقي بصفته إذا جاءه على صفته ليس له رده،(3/363)
فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له أو رآه ولم يعلم ما هو أو ذكر له من صفته مالا يكفي في السلم لم يصح البيع وعنه يصح وللمشتري خيار الرؤية وإن ذكر له من صفته ما يكفي في السلم.
ـــــــ
"فإن اشترى ما لم يره ولم يوصف له أو رآه ولم يعلم ما هو أو ذكر له من صفته مالا يكفي في السلم لم يصح البيع"، في قول الجمهور لعدم العلم بالمبيع.
"وعنه: يصح" اختاره الشيخ تقي الدين لعموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ولأن عثمان وطلحة تبايعا داريهما بالكوفة والمدينة فتحاكما إلى جبير فجعل الخيار لطلحة.
وهذا اتفاق منهم على صحة العقد ولأنه عقد معاوضة يصح بغير رؤية ولا صفة كالنكاح وهذا إذا ذكر جنسه وإلا لم يصح رواية واحدة قاله القاضي وغيره وعليها "للمشتري خيار الرؤية" على الأصح لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى مالم يره فهو بالخيار إذا رآه" والخيار لا يكون إلا في بيع صحيح وهو على الفور للخبر.
وقيل: يتقيد بالمجلس كخياره وللمشتري فسخ العقد قبل الرؤية وقال ابن الجوزي لا كما لو اختار إمضاء العقد والمذهب الأول لأن الخبر من رواية عمر بن إبراهيم الكردي وهو متروك الحديث ويحتمل أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه ويمكن حمله على ما إذا اشتراه بالصفة ثم وجده متغيرا ولأنه باع مالم يره ولم يوصف له فلم يصح كبيع النوى في التمر و الآية مخصوصة بما ذكرناه.
فرع: لا يبطل العقد بموت أو جنون.
"وإن ذكر له من صفته ما يكفي في السلم" صح البيع في ظاهر المذهب لما قلنا والثانية لا يصح إلا بالرؤية لأن الصفة لا تحصل العلم من كل وجه فلم يصح البيع بها كالدين لا يصح السلم فيه.(3/364)
أو رآه ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا يتغير فيه ظاهرا صح في أصح الروايتين ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له وإن وجده متغيرا فله الفسخ والقول في ذلك قول المشتري مع يمينه.
ـــــــ
"أو رآه ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا يتغير فيه ظاهرا صح في أصح الروايتين" وهي قول الأكثر لأن المبيع معلوم عندهما أشبه ما لو شاهداه حال العقد إذ الرؤية السابقة كالمقارنة.
والثانية: لا يصح حتى يراها حالة العقد إذ الرؤية السابقة كالمقارنة والثانية لا يصح حتى يراها حالة العقد روي عن الحكم وحماد لأن ما كان شرطا اعتبر وجوده حالة العقد كالشهادة في النكاح وجوابه أنها تراد لتحمل العقد والاستيثاق عليه بدليل ما لو وقفا في بيت من الدار أو طرف الأرض المبيعة صح بلا خلاف مع عدم مشاهدة الكل.
وظاهره: أنه إذا كان الزمن يتغير فيه المبيع أنه لا يصح صرح به في "المغني" "والشرح" لأنه غير معلوم فإن كان يحتملهما وليس الظاهر تغيره صح بيعه لأن الأصل السلام "ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له" ولزمه البيع وقاله ابن سيرين وإسحاق لأنه تسلم المعقود عليه بصفاته فلم يكن له خيار كالسلم "وإن وجده متغيرا فله الفسخ" لأنه بمنزلة العيب وهو على التراخي إلا بما يدل على الرضى من سوم ونحوه لا بركوبه الدابة في طريق الرد.
وعنه: على الفور وإن أسقط حقه من الرد فلا أرش في الأصح "والقول في ذلك" أي: في التغير والصفة "قول المشتري مع يمينه" لأن الأصل براءة الذمة من الثمن فلا يلزمه ما لم يثبت عليه وفي "الرعاية": وفيه نظر.
وقال المجد: قد ذكر القاضي وابن عقيل و أبو الخطاب بعموم كلامه إذا اختلفا في صفة المبيع هل يتحالفان أو قول البائع فيه روايتان
تنبيه البيع بالصفة نوعان بيع عين معينة كبعتك عبدي التركي ويذكر صفاته فينفسخ العقد برده على البائع وتلفه قبل قبضه لكونه معينا وبيع موصوف غير معين كبعتك عبدا تركيا ويستقصي صفات السلم فيصح(3/365)
ولا يجوز بيع الحمل في البطن واللبن في الضرع والمسك في الفأر.
ـــــــ
البيع في وجه اعتبارا بلفظه وفي آخر لا وحكاه الشيخ تقي الدين عن أحمد كالسلم الحال وفي ثالث يصح إن كان ملكه فعلى الأول حكمه حكم السلم يعتبر قبضه أو ثمنه في المجلس في وجه.
وقال القاضي: يجوز التفرق فيه قبل القبض لأنه بيع حال أشبه بيع المعين فظاهره لا يعتبر تعيين ثمنه وظاهر "المستوعب" وغيره يعتبر وهو أولى ليخرج عن بيع دين بدين.
وجوز الشيخ تقي الدين بيع الصفة والسلم حالا إن كان في ملكه.
"ولا يجوز بيع الحمل في البطن" لما روى سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا أنه نهى عن بيع المضامين والملاقيح قال أبو عبيد المضامين ما في أصلاب الفحول والملاقيح ما في البطون وهي الأجنة ولأنه مجهول لا تعلم صفته ولا حياته فلم يصح كالمعدوم وهو غير مقدور على تسليمه بخلاف الغائب فإن بيع مع أمه دخل تبعا كأس الحائط وعلم منه أن بيع حبل الحبلة غير صحيح من باب أولى.
"واللبن في الضرع" لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع لبن في ضرع رواه ابن ماجه والدارقطني ولأنه مجهول الصفة والمقدار أشبه الحمل ولأنه بيع عين لم تخلق فلم يصح كبيع ما تحمل هذه الناقة والعادة فيه تختلف وأما لبن الظئر فإنما جاز للحاجة.
وقال الشيخ تقي الدين: إن باعه لبنا موصوفا في الذمة واشترط كونه من هذه الشاة أو البقرة جاز كما لو قال أسلمت إليك في عشرة أوسق من تمر هذا الحائط.
"والمسك في الفأر" وهو الوعاء الذي يكون فيه ولأنه مجهول فلم يصح بيعه مستورا كالدر في الصدف قال في "الفروع": ويتوجه تخريج يجوز لأنه وعاء له يصونه ويحفظه واختاره في "الهدي" وعلى الأول إن فتح وشاهد ما(3/366)
والنوى في التمر ولا الصوف على الظهر وعنه يجوز بشرط جزه في الحال ولا يجوز بيع الملامسة وهو أن يقول بعتك ثوبي هذا على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا أو يقول أي ثوب لمسته فهو لك بكذا ولا بيع المنابذة وهو أن يقول أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا.
ـــــــ
فيه، جاز بيعه وإلا لم يصح للجهالة.
"والنوى في التمر" لعدم العلم به ومثله البيض في الدجاج قال في "الشرح" لا نعلم فيهما اختلافا للجهالة وكالفجل قبل القلع نص عليه.
"ولا الصوف على الظهر" لحديث ابن عباس السابق نهى أن يباع صوف على ظهر أو سمن في لبن ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالعقد كأعضائه.
"وعنه: يجوز بشرط جزه في الحال" لأنه مشاهد يمكن تسليمه أشبه الرطبة في الأرض وفارق الأعضاء لأنه لا يمكن تسليمها مع سلامة الحيوان فعليها لو اشتراه بشرط الجز ثم تركه حتى طال فحكم الرطبة على ما يأتي.
مسألة: لا يجوز بيع عسب الفحل للنهي عنه من حديث ابن عمر رواه البخاري وهو ضرابه وكذا إجارته ولابن عقيل احتمال بجوازها لأنها منفعة مقصودة والغالب حصول النزو فيكون مقدورا عليه ومنع أحمد أن يعطى شيئا على سبيل الهدية وحمله المؤلف على الورع وجوز دفع الأجرة دون أخذها وكذا الدفع على سبيل الهدية.
"ولا يجوز" أي: لا يصح "بيع الملامسة" لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الملامسة والمنابذة متفق عليه "وهو أن يقول: بعتك ثوبي هذا، على أنك متى لمسته فهو عليك بكذا". أو يقول أي ثوب لمسته فهو لك بكذا كذا فسره المؤلف وهو ظاهر كلام أحمد ولأن المبيع مجهول لا يعلم.
"ولا بيع المنابذة" للخبر، "وهو أن يقول: أي ثوب نبذته" أي طرحته إلي "فهو علي بكذا" لما في الصحيح عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن(3/367)
ولا بيع الحصاة وهو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا أو يقول بعتك من هذه الأرض قدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا ولا يجوز أن يبيع عبدا من عبيد ولا شاة من قطيع ولا شجرة من بستان ولا هؤلاء العبيد إلا واحدا غير معين ولا هذا القطيع إلا شاة.
ـــــــ
الملامسة والمنابذة في البيع والملامسة لمس الرجل ثوب الآخر بيده ولا يقلبه والمنابذة أن ينبذ كل رجل منهما ثوبه إلى الآخر ويكون ذلك بيعهما من غير نظر ولا تقليب.
فتفسير أبي سعيد للمنابذة نظرا إلى اللفظ ولذلك جعل النبذ من الطرفين وفي رواية أخرى المنابذة طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه ولأنه مجهول لا يعلم وفي بعضها يجتمع مفسدان الجهالة والتعليق على شرط فلو قال بعتك ما قلته أو ما أنبذه إليك لم يصح لأنه غير معين ولا موصوف.
"ولا بيع الحصاة" لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة وهل هو في الأرض أو الثياب وقد ذكرهما المؤلف "وهو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا أو يقول بعتك من هذه الأرض قدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا" وكلاهما باطل لما فيه من الغرر والجهالة.
فرع: لا يجوز بيع المعدن وحجارته والسلف فيه نص عليه.
"ولا يجوز أن يبيع عبدا" غير معين لأنه غرر فيدخل في عموم النهي وللجهالة ولا عبدا "من عبيد" لما ذكرنا ولأنه يختلف فيفضي إلى التنازع وسواء قلوا أو كثروا وظاهر كلام الشريف وأبي الخطاب يصح إن تساوت القيمة وفي "مفردات" أبي الوفاء يصح عبد من ثلاثة بشرط الخيار.
"ولا شاة من قطيع ولا شجرة من بستان" للجهالة، "ولا هؤلاء العبيد إلا واحدا غير معين ولا هذا القطيع إلا شاة" نص عليه وهو قول أكثر العلماء،(3/368)
وإن استثنى معينا من ذلك جاز وإن باعه قفيزا من هذه الصبرة صح وإن باعه الصبرة إلا قفيزا أو ثمرة الشجرة إلا صاعا لم يصح وعنه يصح.
ـــــــ
لأن ذلك غرر ويفضي إلى التنازع وكما لو قال بعتك شاة من القطيع تختارها وضابطه أن كل مالا يصح بيعه مفردا لا يصح استثناؤه ويستثنى منه بيع السواقط للأثر.
"وإن استثنى معينا من ذلك" كقوله إلا هذا العبد أو إلا فلانا وهما يعرفانه "جاز"، لأنه عليه السلام نهى عن الثنيا إلا أن تعلم قال الترمذي حديث صحيح.
ولأن المبيع معلوم بالمشاهدة لكون المستثنى معلوما فينتفي المفسد.
"وإن باعه قفيزا من هذه الصبرة صح" وكذا في "الفروع" وزاد: إن علما زيادتها عليه وهو مراد لأنه مبيع مقدر معلوم من جملة فصح بيعها أشبه ما لو باع منها جزءا مشاعا وشرط في "المحرر" و"الوجيز" إن كانت متساوية الأجزاء يحترز به من صبرة بقال القرية فإنه لا يصح لكونها مختلفة وقيل بلى فلو تلفت الصبرة إلا قفيزا فهو المبيع ولو فرق القفزان فباعه أحدهما مبهما فاحتمالان.
فائدة: قال الأزهري الصبرة الكومة المجموعة من الطعام سميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض ومنه قيل للسحاب فوق السحاب صبير ويقال صبرت المتاع إذا جمعته وضممت بعضه على بعض.
"وإن باعه الصبرة إلا قفيزا، أو ثمرة الشجرة إلا صاعا" أو ثمرة البستان إلا صاعا "لم يصح" في ظاهر المذهب لأن المبيع مجهول لأن ما كان معلوما بالمشاهدة يخرج عن كونه معلوما بالاستثناء ودليله الخبر.
"وعنه: يصح" لأنه عليه السلام نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه معلومة وذكره أبو الوفاء المذهب في رطل من اللحم وجزم به أبو محمد الجوزي في آصع(3/369)
وإن باعه أرضا إلا جريبا أو جريبا من أرض يعلمان جربانها صح وكان مشاعا فيها وإلا لم يصح وإن باعه حيوانا مأكولا إلا رأسه وجلده و أطرافه صح.
ـــــــ
من بستان كاستثناء جزء مشاع ولو فوق ثلثها وكمبيع صبرة بألف إلا بقدر ربعه، لا ما يساويه لجهالته.
فرع إذا استثنى من الحائط شجرة معينة صح في الأصح لأنه معلوم.
"وإن باعه أرضا إلا جريبا أو" باعه "جريبا من أرض يعلمان جربانها صح" فيهما لأن الأرض إذا كانت عشرة أجربة ففي صورة الاستثناء كأنه قال بعتك تسعة أعشار هذه الأرض وهو معلوم بالمشاهدة.
وفي الثانية كأنه قال بعتك عشرها "وكان مشاعا فيها" لإشاعة الجزء المباع "وإلا" إذا لم يعلما جربان الأرض و"لم يصح" في الأصح لأن أجزاء الأرض تختلف فإذا لم تتعين لم يصح لجهالته.
وذكره بعضهم اتفاق الأئمة لأنه لا معينا ولا مشاعا وفي بيع خشبة من سقف وفص من خاتم الخلاف.
فرع حكم الثوب كالأرض فيما ذكرنا وقال القاضي إن نقصه القطع فلا لأنه غير قادر على التسليم إلا بضرر كما لو باعه نصفا معينا من الحيوان وجوابه أنه قادر على تسليمه مع الرضى بخلاف ما سبق.
مسألة: إذا قال بعتك من الأرض من هنا إلى هنا جاز لأنه معلوم فلو قال بعتك عشرة أذرع منها وعين الابتداء ولم يعين الانتهاء لم يصح نص عليه.
ومثله بعتك نصف هذه الدار التي تليني قاله المجد وإن قال بعتك نصيبي أو سهمي من هذه الدار وهما يعلمانه صح وإلا فلا.
"وإن باعه حيوانا مأكولا إلا رأسه وجلده و أطرافه صح" في المنصوص،(3/370)
وإن استثنى حمله أو شحمه لم يصح.
ـــــــ
لأنه عليه السلام لما خرج من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة فمروا براعي غنم فاشتريا منه شاة وشرطا له سلبها رواه أبو الخطاب ولأن المستثنى والمستنثى منه معلومان فصح كما لو باع حائطا واستثنى منه نخلة معينة وكونه لا يجوز إفراده بالبيع لا يمنع صحة استثنائه كالثمرة قبل تأبيرها فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر ويلزمه قيمته على التقريب نص عليه ومحله إذا لم يشترط الذبح فإن اشترطه لزمه ودفع المستثنى لأنه إنما دخل على ذلك والتسليم عليه مستحق.
وللمشتري الفسخ بعيب يختص بهذا المستثنى ذكره في "الفنون" قال في "الفروع": ويتوجه لا فسخ له وإنه إن لم يذبحه للمشتري الفسخ وإلا فقيمته كما روي عن علي ولعله مرادهم.
"وإن استثنى حمله" سواء كان من أمه أو حيوان "أو شحمه لم يصح" لأن ذلك مجهول وقد نهي عن الثنيا إلا أن تعلم ولأنه لا يصح إفراده بالبيع فلم يصح استثناؤه كيدها.
ونقل ابن القاسم وسندي صحته في الحمل لما روى نافع عن ابن عمر أنه باع جارية واستثنى ما في بطنها ولأنه يصح استثناؤه في العتق فكذا هنا وجوابه بأن الصحيح من الرواية أنه أعتق جارية واستثنى حملها مع أنه لا يلزم من الصحة في العتق الصحة في البيع لأن العتق لا يمنعه الجهالة ولا العجز عن التسليم.
فرع: إذا باع أمة حاملة بحر فقال القاضي لا يصح لأنه يدخل في البيع مستثنى والمذهب صحته لأن المبيع معلوم وجهالة الحمل لا تضر لأنه قد يستثنى بالشرع مالا يصح استثناؤه باللفظ كما لو باع أمة مزوجة فإنه يصح ومنفعة البضع مستثناة بالشرع،
مسألة: يصح بيع حيوان مذبوح أو لحمه أو جلده وفي "التلخيص" لا(3/371)
ويصح بيع ما مأكوله في جوفه وبيع الباقلاء والجوز واللوز في قشرته و الحب المشتد في سنبله.
فصل:
السابع: أن يكون الثمن معلوما فإن باعه السلعة برقمها أو بألف ذهبا وفضة
ـــــــ
يصح بيع لحم في جلد أو معه اكتفاء برؤية الجلد بل مع رؤوس وسموط.
قال الشيخ تقي الدين في حيوان مذبوح يجوز بيعه مع جلده كما قبل الذبح في قول جمهور العلماء وجوز بيع كل منهما منفردا.
مسألة: باع سمسما واستثنى الكسب أو الشيرج لم يصح.
"ويصح بيع ما مأكوله في جوفه" كالرمان والبيض بغير خلاف نعلمه لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ولكونه من مصلحته ويفسد بإزالته.
"وبيع الباقلاء والجوز واللوز" والفستق "في قشرته" لأنه عليه السلام نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحه فدل على الجواز بعد بدو الصلاح سواء كانت مستورة بغيرها أو لم تكن ولأنه لم يزل يباع في أسواق المسلمين من غير نكير فكان كالإجماع ولأنه مستور بحائل من أصل الخلقة أشبه الرمان "و" يصح بيع "الحب المشتد في سنبله" لأنه عليه السلام جعل الاشتداد غاية للبيع وما بعد الغاية يخالف ما قبلها فوجب زوال المنع.
فصل:
"السابع أن يكون الثمن معلوما" لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالمبيع وكرأس مال السلم ولأن المبيع يحتمل رده بعيب ونحوه فلو لم يكن الثمن معلوما لتعذر الرجوع به "فإن باعه السلعة برقمها" هو بمعنى المرقوم أي المكتوب عليها وهما يجهلانه أو أحدهما لم يصح للجهالة. "أو بألف درهم ذهبا وفضة" لأن مقدار كل واحد من الألف مجهول أشبه ما لو(3/372)
أو بما ينقطع به السعر أو بما باع به فلان أو بدينار مطلق وفي البلد نقود لم يصح فإذا كان فيه نقد واحد انصرف إليه وإن قال بعتك بعشرة صحاحا أو إحدى عشرة مكسرة أو بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة لم يصح.
ـــــــ
قال: بمائة بعضها ذهب وبناه القاضي وغيره على إسلام ثمن في جنسين وصحح ابن عقيل إقراره بذلك مناصفة قال في "الفروع" ويتوجه هنا مثله ويجاب عنه بأنه لو أقر بمائة ذهبا وفضة كان القول قوله في قدر كل منهما.
"أو بما ينقطع به السعر" أي بما يقف عليه من غير زيادة "أو بما باع به فلان" هو كناية عن اسم المحدث عنه وهذا هو الأصح فيهن وقيل يصح وصححه الشيخ تقي الدين بثمن المثل كنكاح "أو بدينار مطلق، وفي البلد نقود لم يصح" لأن الثمن غير معلوم حال العقد والعلم به شرط وهذا إذا لم يكن فيه نقد غالب فإن كان انصرف إليه وصح على الأصح.
وعنه: يصح مطلقا وله الوسط وعنه الأدنى.
"فإن كان فيه نقد واحد انصرف إليه" لأنه تعين بانفراده وعدم مشاركة غيره كالإقرار والوصية.
فرع: يصح بوزن صنجة لا يعلمان وزنها وبصبرة ثمنا في الأصح ومثله ما يسع هذا الكيل ونصه يصح بموضع فيه كيل معروف وبنفقة عبده شهرا، ذكره القاضي.
فلو فسخ العقد رجع بقيمة المبيع عند تعذر معرفة الثمن "وإن قال: بعتك بعشرة صحاحا أو إحدى عشرة مكسرة أو بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة لم يصح" في المنصوص لما روى أبو هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه.
وما فسره المؤلف هو قول أكثر العلماء وقد جاء مفسرا في حديث ابن مسعود ولأن الثمن غير معلوم فلم يصح كما لو قال بعتك أحد(3/373)
ويحتمل أن يصح وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم والقطيع كل شاة بدرهم والثوب كل ذراع بدرهم صح وإن باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح.
ـــــــ
هذين ومحله مالم يفترقا على أحدهما ذكره في "الوجيز" و"الفروع".
"ويحتمل أن يصح" هذا تخريج لأبي الخطاب من رواية إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم فيلحق به البيع فيكون وجها في الصحة وتردد المؤلف فيه وفرق بأن العقد ثم يمكن صحته لكونه جعالة يحتمل فيها الجهالة وأن العمل الذي يستحق به الأجرة لا بد وأن يقع على إحدى الصفتين فتعين الأجرة المسماة عوضا له فلا يفضي إلى التنازع.
قال الزركشي: وفيهما نظر لأن العلم بالعوض في الجعالة شرط كما في الإجارة والبيع والقبول أيضا في البيع إلا على إحدى الصفتين فيعين ما سمي لها وفيه شيء إذ العلم به في الجعالة ليس شرطا مطلقا بدليل ما لو قال من دلني على قلعة كذا فله منها جارية.
"وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم والقطيع كل شاة بدرهم والثوب كل ذراع بدرهم، صح" في الأصح لأن المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق بالمتعاقدين وهو الكيل والعدد والذرع وظاهره وإن لم يعلما قدر الصبرة والقطيع والثوب كما لو باع ما رأس ماله اثنان وسبعون مرابحة لكل ثلاثة عشر درهم فإنه لا يعلم في الحال وإنما يعرف بالحساب والثاني لا يصح للجهالة في الحال.
"وإن باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم" وكذا معطوفيه "لم يصح" في الأصح لأن "من" التبعيض، "وكل" للعدد فيكون مجهولا بخلاف ما سبق لأن المبيع الكل لا البعض فانتفت الجهالة.
والثاني: يصح قال ابن عقيل هو الأشبه كما إذا أجره كل شهر(3/374)
ـــــــ
بدرهم، وفي "عيون المسائل": إذا باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم صح لتساوي أجزائها بخلاف من الدار كل ذراع بدرهم لاختلاف أجزائها ثم ذكر أنه إذا باعه من هذه الصبرة كل قفيز بدرهم لم يصح لأنه لم يبعه كلها ولا قدرا معلوما بخلاف أجرتك داري كل شهر بدرهم يصح في الشهر الأول فقط للعلم به وبقسطه من الأجرة.
مسألة: إذا قال بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم على أن أزيدك قفيزا أو أنقصكه لم يصح فإن قال على أن أزيدك قفيزا من هذه الصبرة ووصفه بصفة يعلم بها صح كأنه قال بعتك هذه الصبرة وقفيزا من الأخرى بعشرة فإن علما جملة الصبرة صح فإن قال بعتك هذه الصبرة على أن أنقصك منها قفيزا صح.
وقال أبو بكر: يصح في المسائل كلها على قياس قول أحمد ويجوز بيع الصبرة جزافا مع جهل المتبايعين بقدرها نص عليه.
ولا يشترط معرفة رؤية باطنها بخلاف الثوب وقال أبو بكر يصح بيعها إذا تساوى موضعها فإن اختلفت لم يجز إلا أن يكون يسيرا يتغابن بمثله والأكثرون لا يشترطون ذلك بل إن ظهر تحتها ربوة أو فيها حجر مما لا يتغابن بمثله في مثلها ولم يعلم به المشتري فله الخيار كما لو وجد باطنها رديئا نص عليه.
ولابن عقيل احتمال يرجع بمثل ما فات إذا أمكن فإن بان باطنها خيرا من ظاهرها فلا خيار للمشتري بخلاف البائع إذا لم يعلم وإذا علم البائع قدرها لم يجز بيعها جزافا على الأصح.
فرع: يصح بيع دهن ونحوه في ظرف معه موازنة كل رطل بكذا مع علمها بمبلغه وإلا فوجهان وصححه المجد إن علما زنة الظرف وإن باعه كل رطل بكذا على أن يزن الظرف فيحسب بوزنه على المشتري وليس مبيعا فيصح إن علما مبلغه وإلا فلا لجهالة الثمن.(3/375)
وإن باعه بمائة درهم إلا دينارا لم يصح ذكره القاضي ويجيء على قول الخرقي أنه يصح
ـــــــ
وإن باعه جزافا بظرفه أو دونه صح أو باعه في ظرفه كل رطل بكذا على أن يطرح منه وزن الظرف صح بغير خلاف نعلمه.
فرع اشترى سمنا أو زيتا في ظرف فوجد فيه ربا صح في الباقي بقسطه من الثمن وله الخيار ولم يلزمه بدل الرب وألزمه شريح بقدره سمنا.
"وإن باعه بمائة درهم إلا دينارا لم يصح ذكره القاضي" ومثله بدينار إلا درهما نقله أبو طالب لأن قيمة المستثنى مجهولة ويلزم من الجهل بها الجهل بالثمن والعلم به شرط.
"ويجيء على قول الخرقي" من الإقرار إذا استثنى عينا من ورق أو بالعكس "أنه يصح" في البيع كسائر الاستثناءات الصحيحة فعلى هذا تحذف قيمة المستثنى وصححه ابن عقيل بالمستثنى منه كله فلو قال بعتك بمائة درهم إلا قفيز حنطة لم يصح وجها واحدا لأنه استثناء من غير الجنس.
واستشكل ابن المنجا تخريج صحة البيع من الإقرار قال لأن الأصحاب اختلفوا في العلة فقيل باتحاد النقدين وكونهما قيم الأشياء وأروش الجنايات وقيل لأن قيمة الذهب يعلمها كثير من الناس فإذا استثنى أحدهما من الآخر لم يؤد الجهالة غالبا وعلى كليهما لا يجيء صحة البيع لأن المفسد له الجهل في حال العقد.
ألا ترى أنه إذا باعه السلعة برقمها أنه لا يصح للجهالة حال العقد وإن علم بعده بالثمن بخلاف الإقرار فإنه يصح بالمجهول وفيه شيء.
فرع: إذا أسرا ثمنا بلا عقد ثم عقداه بآخر فالأول هو الثمن ولو عقداه سرا بثمن وعلانية بأكثر فكنكاح ذكره جماعة.(3/376)
فصل:
في تفريق الصفقة
وهو أن يجمع بين ما يجوز بيعه ومالا يجوز وله ثلاث صور أحدها باع معلوما ومجهولا فلا يصح.
الثانية: باع مشاعا بينه وبين غيره كعبد مشترك بينهما أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كقفيزين متساويين لهما فيصح في نصيبه بقسطه
ـــــــ
فصل:
في تفريق الصفقة
الصفقة: المرة من صفق له بالبيعة والبيع ضرب بيده على يده وهي عقد البيع لأن المتبايعين يفعلان ذلك ومعنى تفريقها أي تفريق ما اشتراه في عقد واحد "وهو أن يجمع بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز وله ثلاث صور أحدها باع معلوما ومجهولا" يتعذر علمه "فلا يصح" بغير خلاف نعلمه لأن ما بعضه مجهولا يكون كله كذلك إذ الثمن ينقسم على المبيع بالقيمة والمجهول لا يمكن تقويمه فلا طريق إلى معرفة ثمن المعلوم".
فلو قال كل منهما بكذا فوجهان بناء على أن علة المنع اتحاد الصفقة أو جهالة الثمن في الحال.
قلت: وكذا إذا باعه بمائة ورطل خمر فسد لأن الخمر لا قيمة لها في حقنا اتفاقا وما لا قيمة له لا ينقسم عليه البدل بل يبقى العقد بالمائة ويبقى الرطل شرطا فاسدا وفي الانتصار يتخرج صحة العقد فقط على رواية.
"الثانية: باع مشاعا بينه وبين غيره كعبد مشترك بينهما أو ما ينقسم عليه الثمن بالأجزاء كقفيزين متساويين لهما فيصح في نصيبه بقسطه" من الثمن(3/377)
في الصحيح من المذهب وللمشتري الخيار إن لم يكن عالما.
الثالثة: باع عبده وعبد غيره بغير إذنه أو عبدا وحرا، أو خلا وخمرا ففيه روايتان أولاهما لا يصح والأخرى يصح في عبده وفي الخل
ـــــــ
لأنه لا يلزم منه جهالة في الثمن لانقسامه هنا على الأجزاء "في الصحيح من المذهب" وهو قول الأكثر لكون الثمن معلوما وبه يظهر الفرق بينها وبين الصورة الأولى.
والثانية لا تصح لأن الصفقة جمعت حراما وحلالا فغلب الحرام ولأنه إذا لم يمكن تصحيحهما في جميع العقود بطلت في الكل كالجمع بين الأختين وجوابه أن كل واحد منهما له حكم عند الانفراد فكذا عند الاجتماع وفي "الشرح": هما وجهان بناء على نص أحمد فيمن تزوج حرة وأمة في عقد واحد هل يفسد فيهما أو يصح في الحرة وليس كذلك بل هما منصوصتان عن أحمد هنا كما نقله المعظم.
"وللمشتري الخيار" بين الفسخ والإمساك "إذا لم يكن عالما" لأن الشركة عيب ولهذا تثبت الشفعة في المبيع خوفا من سوء المشاركة وفي "المغني": له الأرش إن لم يكن عالما وأمسك فيما ينقص بالتفريق وظاهره أنه إذا كان عالما لا خيار له لأن إقدامه عليه مع العلم به دليل على الرضى ولا للبائع أيضا مطلقا لأنه رضي بزوال ملكه عما يجوز بيعه بقسطه.
"الثالثة: باع عبده وعبد غيره بغير إذنه أو عبدا وحرا أو خلا وخمرا ففيه روايتان" وكذا في "الكافي" "أولاهما: لا تصح"، جزم به في "الوجيز" وصححه في "المغني" و"الشرح" لأن الصفقة جمعت حلالا وحراما فغلب ولأن الثمن مجهول لكونه إنما يعلم بالتقسيط على القيمة وهو مجهول في الحال فلم يصح كالرقم المجهول.
"والأخرى: يصح في عبده وفي الخل" في ظاهر المذهب لأن كل واحد(3/378)
بقسطه وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد فهل يصح على وجهين وإن جمع بين بيع وإجارة أو بيع وصرف صح فيهما ويقسط العوض عليهما في أحد الوجهين.
ـــــــ
منهما له حكم مفرد فإذا اجتمعا بقيا على حكمهما كما لو باع شقصا وسيفا "بقسطه" لأن ذلك هو الذي يقابله وقيل يصح بالثمن والأشهر الأول والخمر قيل تقدر خلا كالحر عبدا وقيل تعتبر قيمتها عند من لها قيمة عنده وعند صاحب "الترغيب" وغيره: إن علما بالخمر لم يصح وعلى الأول لمشتر الخيار.
"وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد فهل يصح على وجهين" أحدهما: لا يصح جزم به في "الوجيز" لأن كل واحد منهما مبيع بقسطه من الثمن وهو مجهول بخلاف ما إذا كانا لرجل واحد فإن جملة المبيع تقابل جملة الثمن من غير تقسيط والعبد المشترك ينقسم عليه الثمن بالأجزاء فلا جهالة.
والثاني: يصح وهو المنصوص وهو المذهب وقدمه في "المحرر" و"الفروع" لأن جملة الثمن معلومة فصح كما لو كانا لواحد فعليه يقسط على قدر القيمة.
ومثله بيع عبديه لاثنين بثمن واحد لكل منهما عبدا واشتراهما منهما وفيها في "المنتخب" وجه على عددهما فيتوجه في غيرها ومثلها في الإجارة ذكره في "الفروع".
"وإن جمع" بعوض واحد "بين بيع وإجارة أو بيع وصرف صح فيهما" نص عليه وهو المذهب لأنهما عينان يجوز أخذ العوض عنهما منفردين فجاز أخذه عنهما مجتمعين كالعبدين واختلاف حكمهما لا يمنع الصحة كما لو جمع بين ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه.
"ويقسط العوض عليهما في أحد الوجهين" لما ذكرنا والثاني لا يصح،(3/379)
وإن جمع بين كتابة وبيع فكاتب عبده وباعه شيئا صفقة واحدة بطل البيع وفي الكتابة وجهان.
فصل
ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها.
ـــــــ
لأن حكمهما مختلف وليس أحدهما أولى من الآخر فيبطل فيهما فإن المبيع فيه خيار ولا يشترط فيه التقابض في المجلس ولا ينفسخ العقد بتلف البيع والصرف بخلافه فلو جمع بين بيع وخلع صح نص عليه وكذا إذا جمع بين نكاح وبيع فيصح النكاح في الأصح لأنه لا يفسد بفساد العوض وفي البيع وجهان.
"وإن جمع بين كتابة وبيع فكاتب عبده وباعه شيئا صفقة واحدة بطل البيع" في الأصح وذكره في "الشرح" وجها واحدا لأنه باع ماله لعبده القن فلم يصح كما لو باعه من غير كتابة.
"وفي الكتابة وجهان" كذا في "المحرر" و"الفروع" أحدهما: يبطل جزم به في "الوجيز" لأنه بطل في بعضه فبطل في كله كما تقدم والثاني يصح لأن البطلان وجد في البيع فاختص به وقيل نصه صحة البيع والكتابة ويقسط العوض على قيمتهما.
فصل:
"ولا يصح البيع" والشراء "ممن تلزمه الجمعة" ولو كان أحد المتعاقدين أو وجد القبول "بعد ندائها" لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فنهى عن البيع بعد النداء وهو ظاهر في التحريم لأنه يشغل عن الصلاة ويكون ذريعة إلى فواتها أو فوات بعضها وكلاهما محرم وحينئذ لم ينعقد لأنه عقد نهي عنه لأجل عبادة فكان غير صحيح كالنكاح المحرم والمراد به الذي بين(3/380)
ويصح النكاح وسائر العقود في أصح الوجهين ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمرا.
ـــــــ
يدي المنبر لأنه كان على عهده عليه السلام فتعلق الحكم به وعنه بالأول وهو الذي زاده عثمان وهو الأول وعنه أو الوقت قدمه في "المنتخب" وفي "عيون المسائل" و"الترغيب" بالوقت.
وكلامه شامل لكل أنواعه حتى الإقالة إن قيل هي بيع وكذا الإجارة قاله ابن عقيل وإنه يعم القليل حتى شرب الماء ويستثنى منه ما إذا كان لحاجة كمضطر إلى طعام أو شراب وعريان يجد سترة وكفن ميت وتجهيزه إذا خيف عليه الفساد وشراء أبيه ليعتق عليه بشرطه ومركوب لعاجز أو ضرير لا يجد قائدا على احتمال لابن عقيل فيه.
وقوله: ممن تلزمه يحترز به عن المسافر والمقيم في قرية لا جمعة عليهم لأن غير المخاطب بالسعي لا يتناوله النهي وذكر ابن أبي موسى رواية بلى لعموم النهي وظاهره أنه يصح بعد نداء غيرها وهو المذهب وقيل لا كهي.
وإن تضيق وقتها فوجهان وقيل يصح في الكل لأن النهي لمعنى في غيره لا فيه ويحرم ارتكابه كمساومة ومفاداة بعد ندائها.
"ويصح النكاح وسائر العقود" كالإجارة والصلح واختيار إمضاء البيع "في أصح الوجهين"، لأن ذلك يقل وقوعه فلا تكون إباحته ذريعة إلى ما ذكر في البيع.
والثاني: لا يصح لأنه عقد معاوضة أشبه البيع والأول أولى لأن النهي مختص بالبيع وغيره لا يساويه فلم يصح الإلحاق.
"ولا يصح بيع العصير لمن يتخذه خمرا" قطعا لقوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وهذا معونة على الإثم فيكون محرما ولا يصح لأنه عقد على عين يقصد بها المعصية أشبه إجارة(3/381)
ولا بيع السلاح في الفتنة ولا لأهل الحرب ويحتمل أن يصح مع التحريم ولا يصح بيع العبد المسلم لكافر إلا أن يكون ممن يعتق عليه فيصح في إحدى الروايتين.
ـــــــ
الأمة للزنى أو للغناء والمذهب إذا علم أي تحقق وقيل أو ظن اختاره الشيخ تقي الدين وعلم منه أن بيع الخمر وشراءه باطل إجماعا ولو من وكيل لخبر ابن عباس رواه الترمذي.
"ولا بيع سلاح في الفتنة" أي بين المسلمين لأنه عليه السلام نهى عنه قاله أحمد.
قال: وقد يقتل به ولا يقتل به وإنما هو ذريعة له "ولا لأهل الحرب" أو لقطاع الطريق لما فيه من الإعانة على المعصية.
"ويحتمل أن يصح" في الجميع "مع التحريم" كما لو دلس العيب وقاسه ابن المنجا على الصلاة في الدار المغصوبة إذ قيل بصحتها.
فرع: لا يصح بيع مأكول ومشموم لمن يشرب عليهما المسكر وأقداح لمن يشرب بها وجوز وبيض لقمار وأمة وأمرد لوطء دبر أو غناء.
قال أحمد في رجل مات، وخلف جارية مغنية وصغيرا وقد احتاج إلى بيعها فقال يبيعها على أنها ساذجة ولا عبرة بنقص قيمتها.
"ولا يصح بيع العبد المسلم لكافر" نص عليه لأنه ممنوع من استدامة ملكه عليه لأن فيه صغارا فمنع ابتداؤه كالنكاح والاسترقاق وعنه يؤمر ببيعه أو كتابته فإن وكله مسلم فظاهره المنع وهو وجه والآخر يجوز لأنه واسطة وفي ثالث إن سمي الموكل في العقد صح.
وفي "الواضح": إن كفر بعتق وكل من يشتريه له ويعتقه "إلا أن يكون ممن يعتق عليه" بالشراء "فيصح في إحدى الروايتين" جزم به في "الوجيز" وغيره، لأن ملكه لا يستقر عليه ولأنه وسيلة إلى تحصيل حرية المسلم والأخرى لا يصح لأنه ثبوت ملك لكافر على مسلم فلم يصح كما لو لم يعتق عليه،(3/382)
وإن أسلم عبد الذمي أجبر على إزالة ملكه عنه وليس له كتابته وقال القاضي له ذلك ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة ولا شراؤه على شراء أخيه.
ـــــــ
وأطلقهما في "المحرر" و"الفروع" وعبارته شاملة لمن علق عتقه بشرائه وفي شمولها لمن اشتراه بشرط العتق نظر.
"وإن أسلم عبد الذمي" سواء كان بيده أو بيد مشتريه فرده عليه بعيب "أجبر على إزالة ملكه عنه" ببيع، أو هبة أو عتق لقوله تعالى: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]، ولأن في إبقائه في ملكه صغارا للمسلم.
"وليس له كتابته" على المذهب لأن الكتابة لا تزيل ملك السيد عنه بل يبقى إلى الأداء وهو غير جائز "وقال القاضي" وجزم به في "الوجيز" وصححه في "الرعاية" "له ذلك" لأنه سبب لعتقه ولأنه يزيل يده عنه أشبه إعتاقه له.
تنبيه: إذا قال لآخر اشترني من فلان فإني عبده فاشتراه فبان حرا لم يلزمه العهدة حضر البائع أو غاب كقوله اشتر منه عبده هذا ويؤدب هو وبائعه لكن ما أخذه المقر غرمه نص عليهما وسأله ابن الحكم عن رجل يقر بالعبودية حتى يباع قال يؤخذ البائع والمقر بالثمن فإن مات أحدهما أو غاب أخذ الآخر بالثمن واختاره الشيخ تقي الدين فإن كان الغار أنثى حدت ولا مهر نص عليه ويلحقه الولد قال في "الفروع": فلو أقر أنه عبده فرهنه فيتوجه كبيع.
"ولا يجوز بيع الرجل على بيع أخيه" لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه، إلا أن يأذن له" متفق عليه ولما فيه من الإضرار بالمسلم وإفساد بيعه فحرم كشتمه.
"وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة" هذا تفسير للبيع على بيع أخيه "ولا" يجوز "شراؤه على شراء أخيه" لأنه في معنى المنهي(3/383)
وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة عندي فيها عشرة ليفسخ البيع ويعقد معه فان فعل فهل يصح البيع على وجهين وفي البيع الحاضر للبادي روايتان.
ـــــــ
عنه وهو أيضا في معنى الخاطب والبيع يقع على الشراء ويسمى البائع والمشتري بيعين "وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة عندي فيها عشرة" هذا تفسير للشراء على شراء أخيه "ليفسخ البيع، ويعقد معه" وظاهره أن ذلك قبل لزوم العقد أي في مدة الخيارين.
فإذا انبرم فلا "فإن فعل" ما نهي عنه "فهل يصح البيع" الثاني؟ "على وجهين" كذا في "المحرر" وفي "البلغة" روايتان إحداهما لا يصح وجزم به في "الوجيز" وصححه في "الفروع" لما روى سمرة مرفوعا قال: "أيما رجل باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما" رواه الخمسة. وهو عام في مدة الخيار وبعده والآخر يصح لأن النهي لمعنى في غير البيع أشبه بيع النجش وإن رده أو بذل لمشتر بأكثر مما اشتراها فوجهان.
وقال الشيخ تقي الدين: للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة وأخذ الزيادة أو عوضها.
فائدة: يحرم سومه على سوم أخيه لخبر أبي هريرة مع الرضى صريحا وقيل أو ظاهرا وقيل أو تساوى الأمران وقيل لا يصح وفي "عيون المسائل": السوم كالخطبة على خطبة أخيه وكذا سوم إجارة ذكره في "الانتصار" وغيره وأما استئجاره على إجارة أخيه فكذلك قاله الشيخ تقي الدين.
"وفي بيع الحاضر" وهو المقيم في المدن والقرى "للبادي" وهو المقيم في البادية والمراد هنا من يدخل البلد من غير أهلها سواء كان بدويا أو قرويا قاله في "المغني" و"الشرح" "روايتان" كذا في "المحرر" و"البلغة" لا ريب أنه بيع منهي عنه لقوله عليه السلام: "لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" رواه مسلم وعن أنس قال: نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه لأبيه(3/384)
إحداهما يصح والأخرى لا يصح بشروط خمسة أن يحضر البادي لبيع سلعته بسعر يومها جاهلا بسعرها ويقصده الحاضر ويكون بالناس حاجة إليها.
ـــــــ
وأمه. متفق عليه والمعنى فيه أنه لو ترك القادم يبيع سلعته اشتراها الناس منه برخص فإذا تولى الحاضر بيعها فلا يبيعها إلا بغلاء فيحصل الضرر على أهل المدن.
"إحداهما: يصح" لأن النهي كان في أول الإسلام فوجب زواله أو لأن النهي لمعنى في غير المنهي عنه فلم يبطل به
"والأخرى: لا يصح بخمسة شروط" جزم به في "الوجيز" وعليه الأصحاب لعموم النهي ولأن ما ثبت في حق الصحابة ثبت في حقنا ما لم يقم دليل على اختصاصهم به وحينئذ فالخلاف مبني على زوال النهي أو بقائه ورده الزركشي بأنهما مستمران على القول بالبقاء.
"أن يحضر البادي" لأنه متى لم يقدم إلى موضع آخر لم يكن باديا "لبيع سلعته" لأنه إذا حضر لخزنها فقصده الحاضر وحضه على بيعها كان ذلك توسعة لا تضييقا "بسعر يومها" لأنه إذا قصد بيعها بسعر معلوم كان المنع من جهته لا من جهة الحاضر زاد بعضهم أي يقصد بيعها بسعر يومها حالا لا نسيئة "جاهلا بسعرها" لأنه إذا عرفه لم يزده الحاضر على ما عنده "ويقصده الحاضر" لأنه إذا قصده البادي لم يكن للحاضر أثر في عدم التوسعة "ويكون بالناس" وفي ابن المنجا بالمسلمين "حاجة إليها"، لم يذكر أحمد هذا الشرط لأنهم إذا لم يكونوا محتاجين لم يوجد المعنى الذي نهى الشرع لأجله.
وظاهره: أنه لا يصح ولو رضوا به وصرح به في "الفروع" في ظاهر المذهب وأبطله الخرقي بثلاثة شروط أن يكون الحاضر قصد البادي وقد جلب السلعة للبيع فيعرفه السعر وزاد القاضي الشرطين الأخيرين وتبعه جل(3/385)
فإن اختل شرط من ذلك صح البيع وأما شراؤه له فيصح رواية واحدة
ـــــــ
الأصحاب.
وحكى ابن أبي موسى رواية بالبطلان وإن عرف البادي السعر وعنه أو جهله الحاضر وعنه إن قصده الحاضر أو وجه به إليه ليبيعه ونقل المروذي أخاف أن يكون منه جزم بها الخلال.
"فإن اختل شرط من ذلك" أي: من الخمسة "صح البيع" وزال النهي لأن الموقوف على شروط يزول بزوال أحدها.
فرع: إذا أشار حاضر على باد ولم يتول له بيعا لم يكره ويتوجه إن استشاره وهو جاهل بالسعر لزمه بيانه لوجوب النصح وإن لم يستشره ففي وجوب إعلامه إن اعتقد جهله به نظر بناء على أنه هل يتوقف وجوب النصح على استنصاحه ويتوجه وجوبه وكلام الأصحاب لا يخالفه ذكره في "الفروع".
"وأما شراؤه له، فيصح رواية واحدة" لأن النهي إنما ورد عن البيع لمعنى يختص به وهو الرفق بأهل الحضر وهذا غير موجود في الشراء للبادي إذ الخلق في نظر الشارع سواء ونقل ابن هانئ لا يشتري له كالبيع وكرهه طائفة من السلف منهم الليث.
مسائل
الأولى: يحرم التسعير على الناس بل يبيعون أموالهم على ما يختارون لحديث أنس ويكره الشراء به وإن هدد من خالفه حرم وبطل في الأصح ويحرم بع كالناس في الأشهر و أوجب الشيخ تقي الدين إلزامهم المعاوضة بثمن المثل وأنه لا نزاع فيه.
الثانية: يحرم الاحتكار وهو شراء الطعام محتكرا له للتجارة مع حاجة الناس إليه فيضيق عليهم نص عليه في قوت آدمي وعنه وما يأكله الناس وعنه أو يضرهم ادخاره بشرائه في ضيق قال في "المغني": من بلده(3/386)
ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقدا.
ـــــــ
لا جالبا والأول نقله القاضي وغيره.
ويصح شراء محتكر وفي "الترغيب" احتمال ويجبر المحتكر على بيعه كما يبيع الناس فإن أبى وخيف التلف فرقه الإمام ويردون مثله وقيل قيمته وكذا سلاح لحاجة قاله الشيخ تقي الدين وقال ومن ضمن مكانا ليبيع ويشتري وحده كره الشراء منه بلا حاجة ويحرم عليه أخذ زيادة بلا حق قال أحمد استغن عن الناس لم أر مثله الغني من العافية.
الثالثة لا يكره ادخار قوت أهله ودوابه نص عليه ونقل جعفر سنة أو سنتين ولا ينوي التجارة فأرجو أن لا يضيق.
"ومن باع سلعة بنسيئة" أو بثمن لم يقبضه ذكره الأكثر "لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها نقدا" وهو قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم لما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية قالت دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم على عائشة فقالت أم ولد زيد بن أرقم إني بعت غلاما من زيد بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم نقدا فقالت لها بئسما اشتريت وبئسما شريت أبلغي زيدا أن جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطل إلا أن يتوب رواه أحمد وسعيد.
ولا تقول مثل ذلك إلا توقيفا ولأنه ذريعة إلى الربا ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل والذرائع معتبرة في الشرع بدليل منع القاتل من الإرث ولأنه تعالى عتب على بني إسرائيل التحيل في ارتكاب ما نهوا عنه.
وظاهره: ولو بعد حل أجله نقله ابن القاسم وسندي وقيد الشراء بالنقد تبعا لأبي الخطاب فدل على أنه إذا اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض فاشتراها بنقد جاز بغير خلاف نعلمه لأنه لا ربا بين الأثمان والعروض.
وظاهره: أنه لا يجوز إذا اختلف النقد صححه المؤلف لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثمنية وقال الأصحاب يجوز وهو المذهب لأنهما(3/387)
إلا أن تكون قد تغيرت صفتها وإن اشتراها أبو ه أو ابنه جاز وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة لم يجز.
ـــــــ
جنسان لا يحرم التفاضل بينهما وكذا لو اشتراها مشتريه وظاهره المنع كتوكيله وسميت عينة لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها عينا أي نقدا حاضرا من فوره وروي أن التبايع بها من أشراط الساعة.
"إلا أن تكون قد تغيرت صفتها" كعبد مرض أو ثوب انقطع لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا وتوقف في رواية مثنى فيما إذا نقص من نفسه وحمله في "الخلاف" على أن نقصه أقل من النقص الذي اشتراه به فتكون علة المنع باقية وكذا يجوز بعد قبض ثمنه صرح به في "الوجيز" و"الفروع".
"وإن اشتراها أبوه أو ابنه" أو غلامه ونحوه، "جاز" لأن كل واحد منهم كالأجنبي بالنسبة إلى الشراء ما لم يكن حيلة.
فرع: إذا باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فهي عكس العينة وهي مثلها نقله حرب إلا أن تتغير صفتها ونقل أبو داود يجوز بلا حيلة فلو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بثمانين فلا بأس نص عليه وهي مثل التورق وعنه يكره وحرمه الشيخ تقي الدين نقل أبو داود إن كان لا يريد بيع المتاع الذي يشتري منك هو أهون فإن كان يريد بيعه فهي العينة وإن باعه منه لم يجز وهي العينة نصر عليه.
"وإن باع ما يجري فيه الربا نسيئة" كالمكيل والموزون والمطعوم "ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه" كما لو باعه غرارة قمح بمائة درهم فلما حل اشترى بها غرارة قمح "أو مالا يجوز بيعه به نسيئة" كما لو اشترى بثمن القمح غرارة شعير "لم يجز" روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس لأن بيع ذلك ذريعة إلى بيع الربوي بالربوي نسيئة ويكون الثمن المعوض عنه بينهما كالمعدوم لأنه لا أثر له وعلله أحمد بأنه بيع دين(3/388)
ـــــــ
بدين، وجوزه الشيخ تقي الدين لحاجة.
قال في "المغني": والذي يقوى عندي جوازه إذا لم يفعله حيلة ولا قصد ذلك في ابتداء العقد لقول علي بن الحسين وكما لو كان المبيع الأول حيوانا أو ثيابا.
وظاهره: أنه إذا اشترى من المشتري طعاما بدراهم وسلمها إليه ثم أخذها منه وفاء أولم يسلم إليه لكن قاصه جاز صرح به في "المغني". "والشرح".
مسألة: يستحب الإشهاد في قول الجمهور إذ الأمر فيه محمول عليه وقال قوم وروي عن ابن عباس هو واجب لظاهر الآية وكالنكاح وجوابه قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] قال أبو سعيد صار إلى الأمانة وفعله عليه السلام يفسره.(3/389)
باب الشروط في البيع
وهي ضربان: صحيح، وهو ثلاثة أنواع: أحدها شرط مقتضى البيع كالتقابض وحلول الثمن ونحوه.
ـــــــ
باب الشروط في البيع
وهي جمع شرط وفسره ابن المنجا هنا بما ليس في محله والأولى هو إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة.
"وهي ضربان: صحيح" وهو ما يوافق مقتضى العقد وفاسد وهو ما ينافيه وقدم الكلام على الشروط الصحيحة لسلامة العقد وإن كان ذاك أقرب إلى العدم.
"وهو" أي: الصحيح "ثلاثة أنواع: أحدها شرط مقتضى البيع" أي: مطلوبه "كالتقابض وحلول الثمن" فلا يؤثر فيه لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد فوجوده كعدمه "ونحوه" مثل أن يشترط أن يتصرف أو يسقي الثمرة إلى الجداد قاله في "البلغة".(3/389)
الثاني شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين به أو صفة في المبيع نحو كون العبد كاتبا أو خصيا أو صانعا أو مسلما والأمة بكرا والدابة هملاجة والفهد صيودا فيصح فإن وفي به وإلا فلصاحبه الفسخ وإن شرطها ثيبا كافرة فبانت بكرا مسلمة فلا فسخ له.
ـــــــ
"الثاني شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كتأجيله" أو بعضه قاله أحمد ولا بد أن يكون إلى مدة معلومة كالخيار "أو الرهن، أو الضمين به" والمراد إذا كانا معينين وليس له طلبهما بعد العقد لمصلحة ويلزم بتسليم رهن المعين إن قيل بلزوم بالعقد "أو صفة في المبيع" مقصودة "نحو كون العبد كاتبا أو خصيا أو صانعا" أو فحلا قاله في "الوجيز" و"الفروع" "أو مسلما والأمة بكرا" أو حائضا نص عليه فإن لم تحض فقال ابن شهاب إن كانت صغيرة فليس بعيب لأنه يرجى زواله بخلاف الكبيرة لأنها إن لم تحض طبعا ففقده يمنع النسل وإن كان لكبر فعيب لأنه ينقص الثمن.
"والدابة هملاجة" أي: ماشية إذ الهملجة مشية معروفة وهو فارسي معرب، "والفهد صيودا" والأرض خراجها كذا ذكره القاضي "فيصح" اشتراط ذلك لأن الرغبات تختلف باختلاف ذلك فلو لم يصح اشتراط ذلك لفاتت الحكمة التي شرع لأجلها البيع يؤيده قوله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم" فعلى هذا يلزم لقوله: "فإن وفي به، وإلا فلصاحبه" وهو المشتري "الفسخ"، لأنه شرط وصفا مرغوبا فيه فصار مستحقا كما لو ظهر المبيع معيبا فإذا يرجع بالثمن وظاهره أنه لا أرش له مع الإمساك وهو ظاهر "الخرقي" والقاضي، والأكثر إلحاقا له بالتدليس.
وذكر المجد في "محرره" و"الفروع": أنه إذا أمسك فله أرش فقد الصفة إلحاقا له بالعيب وقيل مع تعذر الرد وفي "المنتخب": هل يبطل بيع ببطلان رهن فيه كجهالة الثمن أم لا كمهر في نكاح فيه احتمالان.
"وإن شرطها ثيبا كافرة فبانت بكرا مسلمة فلا فسخ له" لأنه زاده خيرا،(3/390)
ويحتمل أن له الفسخ لأن له فيه قصدا و إن شرط الطائر مصوتا أو أنه يجيء من مسافة معلومة صح وقال القاضي لا يصح.
ـــــــ
كما لو شرط الغلام كاتبا فإذا هو أيضا عالم وليس المراد اجتماع الوصفين بل متى شرط أحدهما فبان بخلافه كفى "ويحتمل" هذا قول في المذهب "أن له الفسخ، لأن له فيه قصدا" صحيحا إذ المشتري قد لا يطيق وطء البكر وطالب الكافرة أكثر لصلاحيتها للمسلمين وغيرهم وليستريح من تكليفها بالعبادات.
وقال أبو بكر: إذا شرطه كافرا فلم يكن فلا فسخ كاشتراط الحمق ونحوه فلو كانت مقصودة كما لو شرط في الأمة سبطة فبانت جعدة أو جاهلة فبانت عالمة فلا خيار له لأنه زاده خيرا فدل على أنه إذا شرطها جعدة فبانت سبطة أن له الخيار وقاله في "عيون المسائل" لأنه عيب.
تنبيه: يصح شرط كون الشاة لبونا أو غزيرة اللبن لا أنها تحلب كل يوم قدرا معينا لأنه يختلف وكذا يصح شرطها حاملا لأنه يمكن الوفاء به كالصناعة وقال القاضي قياس المذهب لا يصح فلو شرطها حائلا فبانت بخلافه فسخ في الأمة لأنه عيب لا في غيرها لأنه زيادة وقيل ويفسخ في غيرها لأنه قد يريدها لسفر أو لحمل شيء لا يتمكن منه مع الحمل فلو شرط أنها لا تحمل فهو فاسد.
"وإن شرط الطائر مصوتا" أو يبيض أو الديك يوقظه للصلاة "أو أنه يجيء من مسافة معلومة" كمصر، والشام، "صح" جزم به في "الوجيز" لأن في تصويته قصدا صحيحا، وهو عادة فيه كالهملاجة.
وكذا مجيئه لنقل الأخبار وحمل الكتب "وقال القاضي: لا يصح" لأنه غير معلوم فصار كالأجل المجهول ولأنه تعذيب له أشبه ما لو شرط الكبش مناطحا وأطلق الخلاف في "الفروع" وجزم في "المحرر" بعدم الصحة في الطائر إذا شرطه مصوتا. وفي "الشرح": لا يصح اشتراط كون الديك يوقظه للصلاة لأنه لا يمكن الوفاء به.(3/391)
الثالث: أن يشترط البائع نفعا معلوما في المبيع كسكنى الدار شهرا أو حملان البعير إلى موضع معلوم أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب وتكسيره وخياطة الثوب وتفصيله.
ـــــــ
فرع: لو أخبره البائع بالصفة وصدقه بلا شرط فلا خيار له ذكره أبو الخطاب في المصراة ويتوجه عكسه قاله في "الفروع".
"الثالث: أن يشترط البائع نفعا معلوما في المبيع". على الأصح ويستثنى منه الوطء فإنه لا يصح اشتراطه بلا خلاف ويأتي وطء المكاتبة.
"كسكنى الدار شهرا أو حملان البعير إلى موضع معلوم" لما روى جابر: أنه كان يسير على جمل قد أعيا فضربه النبي صلى الله عليه وسلم فسار سيرا لم يسر مثله فقال: "بعنيه" فبعته، واستثنيت حملانه إلى أهلي متفق عليه يؤيده أنه عليه السلام نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه معلومة وأكثر ما فيه بتأخر التسليم فيه مدة معلومة فصح كما لو باعه أمة مزوجة أو دارا مؤجرة ونحوهما وقيل يلزم تسليمه ثم يرده لبائعه ليستوفي المنفعة ذكره الشيخ تقي الدين واحتج في "التعليق" و"الانتصار" وغيرهما بشراء عثمان من صهيب أرضا وشرط وقفها عليه وعلى عقبه وكحبسه على ثمنه.
والثانية: لا يصح لأنه عليه السلام نهى عن بيع وشرط ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد وهو التسليم فلم يصح كما لو شرط أن لا يسمله وجوابه بأن أحمد أنكر الخبر وقال لا نعرفه مرويا في مسند فعلى الأولى لا ينتفع بها المشتري على الأشهر وللبائع إجارة ما استثناه وإعارته كعين مؤجرة ثم إن تلفت العين بفعل المشتري أو تفريطه كما اختاره في "المغني" و"الشرح" ضمنها بأجرة مثله وقال القاضي عليه ضمانه مطلقا وأخذه من كلام أحمد إذا تلفت العين رجع البائع على المبتاع بأجره المثل ولو باعها المشتري صح كالمؤجرة ويثبت الخيار للمشتري إذا لم يكن عالما.
"أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب وتكسيره وخياطة الثوب وتفصيله" بشرط أن يكون معلوما لأن محمد بن مسلمة(3/392)
وذكر الخرقي في جز الرطبة إن شرطه على البائع لم يصح فيخرج ها هنا مثله، وإن جمع بين شرطين لم يصح.
ـــــــ
اشترى من نبطي جرزة حطب وشرط عليه حملها وغايته أنه جمع بيعا وإجارة وهو صحيح والمراد أحدهما لا هما صرح به في "الوجيز" فتكون الواو بمعنى "أو".
فرع: إذا تراضيا بعوض النفع جاز في الأشهر وهو كأجير مشترك فإن مات أو تلف أو استحق فللمشتري عوض ذلك نص عليه.
"وذكر الخرقي في جز الرطبة إن شرطه على البائع لم يصح" البيع وأورده ابن أبي موسى مذهبا لأنه اشترط العمل في المبيع قبل ملكه أشبه ما لو استأجره ليخيط له ثوب زيد إذا ملكه "فيخرج هاهنا مثله" كذا خرجه أبو الخطاب وجماعة لأن الشرط هنا مثله فيعطى حكمه وكذا قاله المجد تبعا لصاحب "التلخيص" وذكراه رواية وقال القاضي لم أجد بما قال الخرقي رواية في المذهب وتردد في "المغني" في التخريج، فقال: يحتمل أن يقاس عليه ما أشبهه من اشتراط نفع البائع في المبيع ويحتمل أن يختص البطلان بما ذكره لإفضائه إلى التنازع لأن البائع يريد قطعها من أعلاها ليبقى له منها بقية والمشتري يريد استقصاءها ليزيد له ما يأخذه وهو أولى لقوله والبيع لا يبطله شرط واحد وليوافق المذهب.
"وإن جمع بين شرطين، لم يصح" على الأصح لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع" رواه أبو داود والترمذي وصححه وظاهره كما قال القاضي في "المجرد" سواء كانا صحيحين أو فاسدين زاعما أنه ظاهر كلام أحمد ومعتمدا على إطلاق الخبر وبعد في "الشرح" كلامه والأشهر عن أحمد أنه فسرهما بشرطين صحيحين ليسا من مصلحة العقد بأن يشتري حزمة حطب ويشترط على البائع حملها وتكسيرها لا ما كان من مصلحته كالرهن والضمين فإن اشتراط مثل ذلك لا يؤثر ولا ما كان من مقتضاه ولا الشرطين الفاسدين،(3/393)
فصل
الضرب الثاني فاسد وهو ثلاثة أنواع أحدها أن يشترط أحدهما على صاحبه عقدا آخر كسلف أو بيع أو قرض أو إجارة أو صرف للثمن أو غيره فهذا يبطل البيع ويحتمل أن يبطل الشرط وحده.
ـــــــ
إذ الواحد كاف في بطلانه وهذا اختيار الشيخين وصاحب "التلخيص" و"الشرح" تبعا للقاضي في شرحه.
وفي "المغني" و"الشرح" و"الفروع" إن ما كان من مقتضى العقد فلا يؤثر فيه بلا خلاف وعنه أنه فسرهما بشرطين فاسدين وقاله بعض الأصحاب وضعفه صاحب "التلخيص" فإن الواحد مؤثر فلا حاجة إلى التعدد.
وجوابه: بأنه مختلف فيه بخلاف الشرطين.
فصل
"الضرب الثاني فاسد" يحرم اشتراطه "وهو ثلاثة أنواع أحدها: أن يشترط أحدهما على صاحبه عقدا آخر كسلف أو بيع أو قرض أو إجارة أو صرف للثمن أو غيره فهذا" الشرط "يبطل البيع" على المذهب للنهي عنه وهو يقتضي الفساد قال أحمد هذا بيعتان في بيعة وكما لو شرط أن لا يسلم إليه المبيع نقل أبو داود إذا اشتراه بكذا إلى شهر كل جمعة درهمان قال هذا بيعتان في بيعة ولأنه شرط عقدا في آخر فلم يصح كنكاح الشغار وحكمته إذا فسد الشرط وجب رد ما في مقابلته من الثمن وهو مجهول فيصير الثمن مجهولا.
"ويحتمل أن يبطل الشرط وحده" هذا رواية لأن عائشة أرادت أن تشتري بريرة للعتق فاشترط أهلها ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق" متفق عليه. فصحح الشراء مع إبطال الشرط وأطلق في "المحرر" الروايتين.(3/394)
الثاني شرط ما ينافي مقتضى البيع نحو أن يشترط أن لا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده أو أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق أو إن أعتق فالولاء له أو يشرط أن يفعل ذلك فهذا باطل في نفسه وهل يبطل البيع على روايتين.
ـــــــ
"الثاني شرط ما ينافي مقتضى البيع نحو أن يشرط أن لا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده أو أن لا يبيع ولا يهب ولا يعتق أو إن أعتق فالولاء له أو يشرط أن يفعل ذلك فهذا" شرط "باطل في نفسه" لقوله عليه السلام: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" متفق عليه، ولأن إطلاق البيع يقتضي تصرف المشتري في المبيع على اختياره لأنه إنما بذل الثمن في مقابلة الملك والملك يقتضي إطلاق التصرف فالمنع منه يؤدي إلى تفويت الغرض فيكون الشرط باطلا، "وهل يبطل البيع؟ على روايتين" كذا في "المحرر" و"البلغة" أنصهما: لا يبطل وهو ظاهر واختاره في "المغني" ونصره في "الشرح"، وجزم به في "الوجيز"، وقدمه في "الفروع" لحديث بريرة.
قال ابن المنذر: هو ثابت ولا نعلم شيئا يعارضه والقول به يجب لا يقال المراد بقوله: "اشترطي لهم الولاء" أي: عليهم لأنه ثابت لها بالإعتاق فلا حاجة إلى اشتراطه ولأنهم امتنعوا من البيع إلا أن يشترط لهم الولاء فكيف يأمرها بما علم أنهم لا يقبلونه منها وصيغة الأمر هنا للتسوية نحو: { فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] ولعود الشرط على غير العاقد نحو بعتك على أن لا ينتفع به فلان يعني غير المشتري ذكره ابن عقيل وغيره.
والثانية: يبطل نصره القاضي وأصحابه لما تقدم ولأنه شرط فاسد فأفسد العقد كما لو شرط عقدا آخر وكجهالة الثمن فلو أسقط الفاسد بعد العقد لم يؤثر وعلى الصحة للفائت غرضه وقيل للجاهل فساد الشرط الفسخ أو أرش نقص الثمن بإلغائه وقيل لا أرش وذكره الشيخ(3/395)
إلا إذا شرط العتق ففي صحته روايتان إحداهما يصح ويجبر عليه إن أباه وعنه فيمن باع جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن أن البيع جائز ومعناه والله أعلم أنه جائز مع فساد الشروط.
ـــــــ
تقي الدين ظاهر المذهب "إلا إذا شرط العتق، ففي صحته" أي صحة الشرط "روايتان" كذا في "الفروع" "إحداهما: يصح" صححه في "البلغة" وقدمه في "المحرر" "والفروع" وهي المذهب، لحديث بريرة "ويجبر عليه إن أباه" لأنه عتق مستحق لله لكونه قربة التزمه المشتري فأجبر عليه كالنذر وقيل هو حق للبائع فيفسخ فإن أمضى فلا أرش في الأصح وهل له المطالبة به وإسقاطه فيه خلاف والوجه الثاني لا يجبر لأن الشرط لا يوجب فعل المشروط كما لو شرط الرهن أو الضمين فعليه يثبت للبائع خيار الفسخ لأنه لم يف له بشرطه.
والثانية لا يصح لأنه شرط ينافي مقتضى العقد أشبه ما لو شرط أن لا يبيعه وقيل شرط الوقف كالعتق.
"وعنه فيمن باع جارية وشرط على المشتري إن باعها فهو أحق بها بالثمن أن البيع جائز ومعناه والله أعلم أنه جائز مع فساد الشروط" روى المروذي عن أحمد أنه قال هو معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا شرطان في بيع" يعني: أنه فاسد لأنه شرط أن يبيعه إياه وشرط أن يبيعه بالثمن الأول فهما شرطان في بيع ولأنه ينافي مقتضى العقد لكن نقل علي بن سعيد عنه جواز البيع والشرطين وأطلق ابن عقيل وغيره في صحة هذا الشرط ولزومه روايتين.
قال الشيخ تقي الدين: عنه نحو عشرين نصا على صحة هذا الشرط وأنه يحرم الوطء لنقص الملك وسأله أبو طالب عمن اشترى أمة بشرط أن يتسرى بها لا للخدمة قال لا بأس به وحمل القاضي قول أحمد لا يقربها على الكراهة قال ابن عقيل وعندي أنه إنما منع منه لمكان الخلاف في العقد.(3/396)
وإن شرط رهنا فاسدا ونحوه فهل يبطل البيع على وجهين.
الثالث أن يشترط شرطا يعلق البيع كقوله بعتك إن جئتني بكذا أو إن رضي فلان أو يقول للمرتهن إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك فلا يصح البيع ولا الشرط في الرهن إلا بيع العربون وهو أن يشتري شيئا ويعطي البائع درهما ويقول إن أخذته وإلا فالدرهم لك فقال أحمد رضي الله عنه يصح لأن عمر فعله.
ـــــــ
"وإن شرط رهنا فاسدا" كالخمر فسد لأن الرهن وثيقة بالحق ليرجع إليه عند الاستيفاء إذا لم يمكن من غيره وهو ممنوع من بيعه فلا يمكن الاستيفاء منه "ونحوه" كخيار أو أجل مجهولين "فهل يبطل البيع؟ على وجهين" كذا في "المحرر" والمنصوص صحته كما تقدم.
"الثالث: أن يشترط شرطا يعلق البيع، كقوله: بعتك إن جئتني بكذا أو إن رضي فلان" فالمذهب أنهما لا يصحان لأن مقتضى البيع نقل الملك حال التبايع والشرط هنا يمنعه وعنه صحة عقده لما تقدم وعنه صحتهما اختاره الشيخ تقي الدين في كل العقود التي لم تخالف الشرع لأن إطلاق الاسم يتناول المنجز والمعلق والصريح والكناية كالنذر ويستثنى على الأول بعت أو قبلت إن شاء الله "أو يقول للمرتهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك فلا يصح البيع ولا الشرط في الرهن" لقوله عليه السلام: "لا يغلق الرهن من صاحبه" رواه الأثرم وفسره أحمد بذلك وحكاه ابن المنذر عن جماعة من العلماء ولأنه علقه على شرط مستقبل كالأولى وفيه الخلاف المتقدم.
"إلا بيع العربون وهو أن يشتري شيئا" بثمن معلوم "ويعطي البائع درهما" أو أكثر "ويقول: إن أخذته" احتسب به من الثمن "وإلا" أي: وإن لم آخذه "فالدرهم لك، فقال أحمد: يصح، لأن عمر فعله" لما روى نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان فإن رضي عمر وإلا له(3/397)
وعند أبي الخطاب لا يصح وإن قال بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث وإلا فلا بيع بيننا فالبيع صحيح نص عليه.
ـــــــ
كذا وكذا.
فلو دفع إليه درهما قبل البيع وقال لا تبعه لغيري وإن لم اشترها منك فهو لك ثم عقد وحسب من الثمن جاز وحمل في "الشرح" فعل عمر عليه جمعا بين فعله والخبر وموافقة القياس.
"وعند أبي الخطاب لا يصح" لنهيه عليه السلام عن بيعه رواه ابن ماجة ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول وفي "المغني" هذا هو القياس.
مسائل
الأولى: حكم إجارته كالبيع ذكره في "الوجيز" و"الفروع".
الثانية: تعتبر مقارنة الشرط ذكره في "الانتصار" ويأتي في النكاح.
الثالثة: يصح تعليق فسخ بشرط واختار أبو الخطاب والمؤلف لا قال في "الرعاية" فيما إذا آجره كل شهر بدرهم إذا مضى شهر فقد فسختها أنه يصح كتعليق الخلع وهو فسخ على الأصح.
الرابعة: إذا صححنا العقد دون الشرط فلمن فات غرضه منهما وقيل للجاهل فساد الشرط الفسخ لأنه لم يسلم له ما عقد عليه أو أرش نقص الثمن بإلغائه كالمعيب وقيل لا أرش وذكره الشيخ تقي الدين ظاهر المذهب.
"وإن قال: بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث" زاد في "الشرح": أو مدة معلومة، "وإلا فلا بيع بيننا فالبيع صحيح نص عليه" وهو قول عمر، واختاره جمع وخصه بالثلاث لأنه علق رفع العقد بأمر يحدث في مدة(3/398)
وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ وعنه يبرأ إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه.
فصل:
وإن باعه دارا على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر فالبيع باطل.
ـــــــ
الخيار. فجاز كما لو شرط الخيار ولأنه نوع بيع فجاز أن يفسخ بتأخر القبض كالصرف فإذا لم ينعقد في المدة انفسخ العقد، وقيل يبطل بفواته.
"وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب" أو من عيب كذا إن كان به "لم يبرأ" في ظاهر المذهب لأنه خيار يثبت بعد العقد فلا يسقط قبله كالشفعة ذكره أبو الخطاب وجمع أو لأنه شرط يرتفق به أحد العاقدين فلا يصح شرطه كالأجل المجهول.
"وعنه: يبرأ إلا أن يكون البائع علم العيب فكتمه" ومعناه أنه يبرأ مع الجهل لا العلم به لأن عبد الله بن عمر باع عبدا من زيد بن ثابت بثمانمائة درهم بشرط البراءة فأصاب به زيد عيبا فأراد رده على ابن عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب فقال لا فرده عليه ثم باعه ابن عمر بألف درهم رواه أحمد.
وهذه قضية اشتهرت ولم تنكر فكانت كالإجماع ونقل ابن هانئ إن عينه صح ومعناه نقل ابن القاسم وغيره لا يبرأ إلا أن يخبره بالعيوب كلها لأنه مرفق في البيع كالخيار وعنه يبرأ مطلقا قال في "الانتصار": وهو الأشبه بأصولنا كبراءة من مجهول وحيث قيل بفساد الشرط فالعقد صحيح على المذهب وفيه رواية فإن سمي العيب وأبرأه منه صح.
فصل:
"وإن باعه دارا" وفي "المحرر" و"الفروع" أرضا وهو أحسن أو ثوبا "على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر فالبيع باطل" جزم به ابن عقيل لأنه لا يمكن(3/399)
وعنه أنه صحيح والزيادة للبائع ولكل واحد منهما الفسخ و إن اتفقا على إمضائه جاز وإن بانت تسعة فالبيع باطل وعنه أنه صحيح والنقص على البائع وللمشتري الخيار بين الفسخ وأخذ المبيع بقسطه من الثمن وإن اتفقا على تعويضه عنه جاز.
ـــــــ
إجبار البائع على تسليم الزيادة لأنه إنما باعه عشرة أذرع ولا المشتري على أخذ البعض لأنه إنما اشترى الكل وعليه ضرر في الشركة "وعنه: أنه صحيح" قدمه في المحرر وجزم به في "الوجيز" لأن ذلك نقص على المشتري فلم يمنع صحة البيع كالرد بالعيب وأطلقهما في "الفروع" "والزيادة للبائع" لأنه لم يبعها "ولكل واحد منهما الفسخ" دفعا لضرر المشاركة ما لم يعطه الزائد مجانا ذكره في "المغني" و"الشرح" و"الفروع" لأنه زاده خيرا وإن أبى ثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والأخذ بجميع الثمن وقسط الزائد.
فإن رضي بالأخذ والبائع شريك له بالزائد فهل للبائع خيار الفسخ على وجهين أحدهما وهو ظاهر المتن أن له الفسخ لأن عليه ضررا في المشاركة.
والثاني: لا لأنه رضي ببيع الجميع بهذا الثمن فإذا وصل إليه مع بقاء جزء له فيه كان زيادة.
"وإن اتفقا على إمضائه جاز" لأن الحق لهما لا يعدوهما كحالة الابتداء.
"وإن بانت تسعة فالبيع باطل وعنه: أنه صحيح" وقد ذكرناه "والنقص على البائع" لأنه التزمه بالبيع ولا خيار له إذ لا ضرر عليه فيه "وللمشتري الخيار بين الفسخ" لنقصه "وأخذ المبيع بقسطه من الثمن" لأنه يقسط على كل جزء من أجزاء المبيع فإذا فات جزء استحق ما قبله من الثمن فإن أخذه بقسطه فللبائع الخيار بين الرضى والفسخ فإن بذل المشتري كل الثمن لم يملك الفسخ أشبه المبيع إذا كان معيبا فرضيه بجميع الثمن "وإن اتفقا على تعويضه عنه جاز" لأنه لا(3/400)
ـــــــ
يجبر أحدهما على المعاوضة إذ المعاوضة يعتبر فيها التراضي منها.
فرع: إذا باعه صبرة على أنها خمسة أقفزة فبانت ستة رد الزائد ولا خيار للمشتري إذ لا ضرر عليه في رد الزائد وإن بانت أقل أخذها بقسطها من الثمن ولا خيار له لأن نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من المكيل وقيل بلى لنقصانها وكغيرها والله أعلم.(3/401)
باب الخيار في البيع
وهو على سبعة أقسام: أحدها خيار المجلس ويثبت في البيع
ـــــــ
باب الخيار في البيع
الخيار: اسم مصدر من اختار يختار اختيارا وهو طلب خير الأمرين من إمضائه أو الفسخ.
"وهو على سبعة أقسام" وسيأتي "أحدها: خيار المجلس" وهو بكسر اللام موضع الجلوس والمراد به مكان التبايع "ويثبت في البيع" في قول أكثر العلماء لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" متفق عليه.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه وقد أنكر كثير من العلماء على مالك مخالفته للحديث مع روايته له عن نافع عن ابن عمر قال الشافعي لا أدري هل مالك اتهم نفسه أو نافعا وأعظم أن أقول عبد الله بن عمر انتهى.
واعتراض المالكي بعمل أهل المدينة مدفوع بمخالفة سعيد بن المسيب والزهري وابن أبي ذئب فإن قيل هو خبر آحاد فيما تعم به البلوى.(3/401)
والصلح بمعناه والإجارة ويثبت في الصرف والسلم
ـــــــ
فالجواب: بأنه مستفيض فإنه روي من حديث حكيم بن حزام وأبي هريرة وأبي برزة الأسلمي وجابر فإن قيل قد روي عن عمر أنه قال البيع صفقة أو خيار ولأنه عقد معاوضة فيلزم بمجرده كالنكاح وبأن المراد بالتفرق في الخبر التفرق بالأقوال لقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] ولقوله عليه السلام: "ستفترق أمتي" الخبر فالجواب بأن معنى ما روي عن عمر أن البيع ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار وبيع لم يشرط فيه وسماه صفقة لقصر مدة الخيار مع أن الجوزجاني روى عنه الأول ولو سلم فقد خالفه جمع من الصحابة مع أنه لا تأثير له مع وجود النص.
والقياس مدفوع فإن النكاح لا يقع إلا بعد ترو ونظر ولما فيه من إذهاب حرمة المرأة وردها وإلحاقها بالسلع المبيعة وليس بين المتبايعين تفرق بقول ولا اعتقاد ولأنه تبطل فائدة الحديث ولأنه جعل لهما الخيار بعد تبايعهما وفسره ابن عمر بأنه كان يمشي خطوات ليلزم البيع وهو شامل لجميع أنواعه والهبة بعوض إذ المغلب فيها حكم البيع على الأشهر والقسمة إن قيل هي بيع ويستثنى منه الكتابة وما تولاه واحد كالأب على الأصح ولا في شراء من يعتق عليه في الأشهر كما لو باشر عتقه.
وفي طريقة بعض أصحابنا رواية لا يثبت خيار مجلس في بيع وعقد معاوضة.
"والصلح بمعناه" أي: بمعنى البيع كما إذا أقر له بدين أو عين ثم صالحه عنه بعوض لأنه بيع فيدخل في العموم.
"والإجارة" لأنها عقد معاوضة فيثبت فيها كالبيع وقيل لا تلي مدتها العقد "ويثبت في الصرف والسلم" على الأصح لأنه يشترط لصحته القبض وهو بيع في الحقيقة.(3/402)
وعنه: لا يثبت فيهما ولا يثبت في سائر العقود إلا في المساقاة والحوالة والسبق في أحد الوجهين ولكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما.
ـــــــ
"وعنه: لا يثبت فيهما" كخيار الشرط ولأنه يفتقر إلى القبض في الحال وذلك يقتضي عدم العلقة بينهما وهو ينافيه "ولا يثبت في سائر" أي: باقي "العقود" سواء كان لازما من الطرفين كالنكاح والخلع لأنه يقصد منه الفرقة كالطلاق وكذا القرض والوقف والضمان والهبة الخالية عن عوض لأن فاعل ذلك دخل فيه على أن الحظ لغيره أو من أحد الطرفين كالرهن لأنه لو جاز فيه لبقي الحق بلا رهن فيضر بالمرتهن أو جائزا من الطرفين كالوكالة والشركة والجعالة.
وأما المتردد بين الجواز واللزوم فقال: "إلا في المساقاة والحوالة والسبق في أحد الوجهين" إذ المساقاة والسبق إجارة في وجه والحوالة بيع والمذهب أنه لا يثبت في ذلك لأن المساقاة عقد جائز والحوالة إما إسقاط أو عقد مستقل والسبق جعالة وكذا الخلاف في المزارعة والأخذ بالشفعة.
"ولكل واحد من المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما" عرفا ولو طال المجلس بنوم أو تساوقا بالمشي أو في سفينة.
ولهذا لو أقبضه في الصرف وقال أمشي معك حتى أعطيك ولم يفترقا جاز نقله حرب وهو شامل إذا حصلت الفرقة بهرب كفعل ابن عمر والأصح أنه تحرم الفرقة خشية الاستقالة لظاهر خبر عمرو بن شعيب قاله أحمد أو من غير قصد أو جهل وكذا بإكراه في وجه إذ الرضى في الفرقة غير معتبر كما لا يعتبر الرضى في الفسخ واختار القاضي و أورده صاحب "التلخيص" مذهبا: أنه لا ينقطع خيار المكره فيكون الخيار في المجلس الذي زال عنه الإكراه وقيل إن كان يقدر على كلام يقطع به خياره انقطع وإلا فلا.(3/403)
وإلا أن يتبايعا على أن لا خيار بينهما أو يسقطا الخيار بعده فيسقط في إحدى الروايتين.
ـــــــ
وخص في "المغني" "والشرح" الخلاف بما إذا أكره أحدهما فلو أكرها زال خيارهما وقال ابن عقيل يبقى خيارهما وجعل منهما ما إذا رأيا سبعا أو ظالما يؤذيهما وهو ظاهر.
ويبطل خيارهما بموت أحدهما لأنها أعظم الفرقتين لا الجنون وهو على خياره إذا أفاق وفي "الشرح": إن خرس ولم تفهم إشارته أو جن أو أغمي عليه قام وليه مقامه.
بيان: المرجع في التفرق إلى العرف لعدم بيانه في الشرع فإن كانا في فضاء واسع مشى أحدهما مستدبرا لصاحبه خطوات قطع به ابن عقيل وقدمه في "المغني" و"الشرح" وقيل: يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه المعتاد وجزم به في "الكافي".
وإن كانا في دار واسعة فمن بيت إلى آخر أو مجلس أو صفة بحيث يعد مفارقا وفي صغيرة يصعد أحدهما السطح أو يخرج منها كسفينة صغيرة وأما الكبيرة فيصعد أحدهما أعلاها وينزل الآخر أسفلها.
فائدة: قال الأزهري سئل ثعلب عن الفرق بين التفرق والافتراق فقال أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال يقال فرقت يبن الكلامين مخففا فافترقا وفرقت بين اثنين مشددا فتفرقا فجعل الافتراق في الأقوال والتفرق في الأبدان.
"وإلا أن يتبايعا على أن لا خيار بينهما أو يسقطا الخيار بعده" أي: بعد البيع "فيسقط في إحدى الروايتين" اختارها ابن أبي موسى وجزم بها في "الوجيز" وقدمها في "المحرر" و"الفروع" وصححها في المغني والشرح لقوله عليه السلام: "فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع" أي لزم ولقوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع عن(3/404)
وإن أسقطه أحدهما بقي خيار صاحبه.
فصل
الثاني: خيار الشرط وهو أن يشترطا في العقد خيار مدة معلومة فيثبت فيها وإن طالت.
ـــــــ
خيار فإن كان البيع عن خيار، فقد وجب البيع".
والثانية: لا يسقط فيهما، وهي ظاهر "الخرقي" واختيار القاضي في تعليقه وأبي الخطاب في خلافه الصغير وابن عقيل لأن أكثر الأحاديث: "البيعان بالخيار" من غير زيادة وقول الأكثر ذوي الضبط مقدم على رواية المنفرد.
وجوابه: أن الأخذ بما تضمنته الزيادة أولى "وإن أسقطه أحدهما بقي خيار صاحبه" لأنه خيار في البيع فلم يبطل حق من لم يسقطه كخيار الشرط والأصح أنه يبطل خيار القائل لظاهر الخبر.
فصل
"الثاني: خيار الشرط وهو أن يشترطا في العقد" وظاهره لو اتفقا قبله لم يلزم الوفاء به وفي "المحرر" وبعده في زمن الخيارين "خيار مدة معلومة، فيثبت فيها وإن طالت" وقاله جمع من العلماء لقوله تعالى: {آمَنُوا أَوْفُوا} [المائدة: 1] ولقوله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" ولأنه حق مقدر يعتمد الشرط فيرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل أو مدة ملحقة بالعقد فجاز ما اتفقا عليه كالأجل وما روي عن محمد بن يحيى بن حبان بفتح الحاء والباء الموحدة أن جده كان يغبن في البيوع فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا بايعت فقل لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال" رواه البخاري في "تاريخه" وأصله في الصحيحين، ولفظ البخاري: "لا خلابة" ومسلم: "لا خيانة" قيل: هو تصحيف.(3/405)
ولا يجوز مجهولا في ظاهر المذهب وعنه يجوز وهما على خيارهما إلى أن يقطعاه أو تنتهي مدته ولا يثبت إلا في البيع والصلح بمعناه والإجارة في الذمة أو على مدة لا تلي العقد.
ـــــــ
وهو ينافي مقتضى العقد لأنه يمنع الملك واللزوم وإطلاق التصرف فجاز في الثلاثة للحاجة فإنه خاص بحبان لأنه كان أصابه آمة في رأسه فكسرت لسانه وكان يغبن ويرد السلع على التجار ويقول الرسول جعل لي الخيار ثلاثا وعاش إلى زمن عثمان وتقديرها بالحاجة لا يصح لأنه لا يمكن ضبط الحكم بها لخفائها.
وكلامه شامل لو كان المبيع لا يبقى إلى مضيها كطعام رطب ونحوه فإنه يباع ويحفظ ثمنه إلى المدة صرح به القاضي وهو قياس ما ذكر في الرهن وهذا ما لم يكن حيلة فإن فعله حيلة ليربح فيما أقرضه لم يجز نص عليه.
"ولا يجوز مجهولا" كقدوم زيد أو مجيء المطر أو الأبد "في ظاهر المذهب" لأنها مدة ملحقة بالعقد فلم تجز مع الجهالة مع أن شرط الأبد يقتضي المنع من التصرف فيه وهو مناف لمقتضى العقد.
"وعنه: يجوز" وقاله ابن شبرمة للخبر فعلى هذه هما على خيارهما إلى أن يقطعاه أو تنتهي مدته إن كانت معلقة بما تنتهي به.
"ولا يثبت إلا في البيع" لما مر ويستثنى منه ما يشترط فيه القبض لصحته كالصرف والسلم "والصلح بمعناه" لأنه بيع بلفظ الصلح وقسمة قاله في "الفروع" قال ابن عقيل وإن كان رد وأنه يحتمل دخوله في سلم رواية واحدة لعدم اعتبار قبضهما "والإجارة في الذمة" كقوله: استأجرتك لتخيط لي هذا الثوب ونحوه فيثبت فيه خيار الشرط لأنه استدراك للغبن فوجب ثبوته كخيار المجلس "أو على مدة لا تلي العقد" كما لو أجره سنة خمس في سنة أربع فدل على أنها إذا كانت تلي العقد لا يثبت فيها خيار الشرط على(3/406)
وإن شرطاه إلى الغد لم يدخل في المدة وعنه يدخل وإن شرطاه مدة فابتداؤها من حين العقد ويحتمل أن يكون من حين التفرق.
ـــــــ
المذهب لأنه يفضي إلى فوات بعض المنافع المعقود عليها أو إلى استيفائها في مدة الخيار وكلاهما غير جائز.
وفيه وجه: أنه يصح ويتصرف المستأجر فإن فسخ العقد رجع بقيمة المنافع المستوفاة وظاهره أنه لا يثبت في غير ما ذكر وقال ابن حامد يثبت في ضمان وكفالة وقال ابن الجوزي ونصر بن علي صاحب "الروضة": يثبت كخيار المجلس وقال الشيخ تقي الدين يجوز في كل العقود.
"وإن شرطاه إلى الغد، لم تدخل في المدة" لأن "إلى" لانتهاء الغاية وما بعدها يخالف ما قبلها لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وكنظائره في الطلاق، والإقرار.
"وعنه: تدخل" لأنها قد تكون بمعنى "مع" فعليها لا يسقط الخيار إلا بآخر الغد وجوابه بأن ما تقدم هو الأصل فيها وحملها على المعية إما لدليل أو لتعذر حملها على موضوعها الأصلي وإلى الظهر إلى الزوال كالغد والعشي والعشية من الزوال وذكرهما الجوهري من الغروب إلى العتمة كالعشاء وإن قوما زعموا أن العشاء من الزوال إلى طلوع الفجر والمساء والغبوق من الغروب والغدوة والغداة من الفجر إلى طلوع الشمس كالصبوح والآصال من العصر إلى الغروب.
فائدة: يقال من الفجر إلى الزوال أصبح عندك فلان ومن الزوال إلى آخر النهار أمسى عندك والصباح خلاف المساء والإصباح نقيض الإمساء.
"وإن شرطاه مدة فابتداؤها من حين العقد" على المذهب لأنها مدة ملحقة بالعقد فكان ابتداؤها من حين العقد كالأجل، "ويحتمل أن يكون من حين التفرق" وهو وجه لأن الخيار ثابت في المجلس حكما فلا معنى لإثباته(3/407)
وإن شرط الخيار لغيره جاز وكان توكيلا له فيه وإن شرطا الخيار لأحدهما دون صاحبه جاز.
ـــــــ
بالشرط ولأن حالة المجلس كحالة العقد لأن لهما نية الزيادة والنقصان وصحح في "المغني" و"الشرح" الأول لأن الاشتراط سبب ثبوت الخيار فوجب أن يتعقبه حكمه كالملك في البيع مع أنها لو جعلت من التفرق لأدى إلى جهالتها وثبوت الحكم بشيئين غير ممتنع كالوطء يحرم بالصيام و الإحرام.
فرع: إذا شرطاه سنة في أثناء شهر استوفي شهر بالعدد وباقيها بالأهلة وعنه يستوفي الكل بالعدد كما يأتي فيما إذا علق بالأشهر من إجارة وعدة وصوم كفارة وإن شرطاه شهرا يوما يثبت ويوما لا فثالثها كابن عقيل يصح في اليوم الأول لإمكانه ويبطل فيما بعده لأنه إذا لزم في اليوم الثاني لم يعد إلى الجواز.
"وإن شرط الخيار لغيره" وله "جاز، وكان توكيلا له" فيه لأن تصحيح الاشتراط ممكن فوجب حمله عليه صيانة لكلام المكلف عن الإلغاء وصار بمنزلة ما لو قال أعتق عبدك عني.
وإن شرطه لزيد وأطلق فوجهان وإن قال له دوني لم يصح لأن الخيار شرع لتحصيل الحظ لكل من المتعاقدين بنظره فلا يكون لمن لا حظ له وظاهره أنه يصح واختاره في "المغني" و"الشرح" ويكون توكيلا لأنه أمكن تصحيحه فعليه لأحدهما الفسخ وقيل للموكل إن شرطه لنفسه وجعله وكيلا.
"وإن شرط الخيار لأحدهما" أي: أحد المتعاقدين "دون صاحبه جاز"، لأنه إذا جاز اشتراطه لهما فلأن يجوز لأحدهما بطريق الأولى فدل على أنه إذا شرط لأحدهما لا بعينه أنه غير جائز لجهالته كما لو اشترى أحد عبديه وكما لو جعل الخيار في إحدى السلعتين لا بعينها بخلاف ما لو اشترى شيئين وشرط الخيار في أحدهما بعينه دون الآخر فإنه يصح ويكون كل منهما مبيعا بقسطه ويظهر أثره عند الرد.(3/408)
ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه وإن مضت المدة ولم يفسخا بطل خيارهما وينتقل الملك إلى المشتري بنفس العقد في أظهر الروايتين.
ـــــــ
"ولمن له الخيار الفسخ" في قول الأكثر "من غير حضور صاحبه، ولا رضاه" لأنه عقد جعل إليه فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه كالطلاق ونقل أبو طالب يرد الثمن اختاره الشيخ تقي الدين كالشفيع ولعله مراد من أطلق لإزالة الضرر وفي "الفروع" يتخرج من عزل الوكيل لا فسخ في غيبته حتى يبلغه في المدة "وإن مضت المدة ولم يفسخا بطل خيارهما" ولزم العقد، هذا هو الأصح لأنها مدة ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها كالأجل وقال القاضي لا يلزم لأنه حق له لا عليه فلم يلزم بمرور الزمان كمضي الأجل في حق المولى وجوابه أن الحكم ببقائها يفضي إلى بقاء الخيار أكثر من مدته المشترطة وهو لا يثبت إلا بالشرط إذ البيع سبب اللزوم لكن تخلف موجبه بالشرط فإذا زالت مدته لزم العقد بموجبه لخلوه عن المعارض.
قوله: ولم يفسخا ليس قيدا فيه بل لو لم يفسخ أحدهما بطل الخيار صرح به في "المغني" و"الشرح" إذ فسخ أحدهما لا يصدق عليه أنهما فسخا ولم يحترز عنه لظهور المراد.
"وينتقل الملك" مدة الخيارين "إلى المشتري بنفس العقد في أظهر الروايتين" هي المذهب لقوله عليه السلام: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" ووجه أنه جعل المال للمبتاع باشتراطه وهو عام في كل بيع فيدخل فيه بيع الخيار.
والثانية: لا ينتقل الملك إلا بانقضاء مدة الخيار لأنه عقد قاصر لا يفيد التصرف ولا يلزم أشبه الهبة قبل القبض والأولى أصح لأنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه كما لو لم يشترطه ولأن البيع تمليك بدليل أنه يصح بقوله ملكتك فيثبت فيه كالمطلق ودعوى القصور فيه ممنوعة،(3/409)
فما حصل من كسب أو نماء منفصل فهو له أمضيا العقد أو فسخاه وليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار إلا بما يحصل به تجربة المبيع.
ـــــــ
وجواز فسخه لا يوجب قصوره ولا يمنع نقل الملك فيه كالمعيب وامتناع التصرف لأجل حق الغير لا يمنع ثبوت الملك كالمرهون.
فعلى هذا يعتق عليه قريبه وينفسخ نكاحه ويخرج فطرته قال أبو الخطاب وغيره ويأخذ بالشفعة ولا فرق بين أن يكون الخيار لهما أو لأحدهما صرح به في "المغني" و"الشرح".
"فما حصل من كسب أو نماء منفصل فهو له أمضيا العقد أو فسخاه" لأنه نماء ملكه الداخل في ضمانه بقوله: "الخراج بالضمان" قال الترمذي: حديث صحيح.
واحترز بالمنفصل عن النماء المتصل كالسمن ونحوه فإنه يتبع العين مع الفسخ لتعذر انفصاله قال ابن المنجا ولا بد أن يلحظ في كون النماء المنفصل للمشتري وأنه مبني على القول بأن الملك ينتقل إليه بنفس العقد لا على الرواية الثانية فإنه للبائع وفيه نظر فإنه مفرع على الصحيح.
وعنه إن فسخ أحدهما فالنماء المنفصل وعنه وكسبه للبائع كرواية الملك له.
فرع: الحمل وقت العقد مبيع وعنه نماء فترد الأم بعيب بالثمن كله ذكره في "الوسيلة" فعلى الأول هل هو كأحد عينين أو تبع للأم لا حكم له فيه روايتان.
"وليس لواحد منهما التصرف في المبيع في مدة الخيار" لأنه ليس بملك للبائع فيتصرف فيه ولا انقطعت عنه علقة فيتصرف فيه المشتري وكذا يمنع من التصرف في العوض صرح به في "الوجيز" و"الرعاية" و"الزركشي" حذارا من إبطال حق الآخر "إلا بما يحصل به تجربة المبيع" كركوب الدابة،(3/410)
وإن تصرفا ببيع أو هبة ونحوهما لم ينفذ تصرفهما ويكون تصرف البائع فسخا للبيع وتصرف المشتري إسقاطا لخياره في أحد الوجهين وفي الآخر البيع والخيار بحالهما.
ـــــــ
لينظر سيرها وحلب الشاة ليعلم قدر لبنها لأن ذلك المقصود من الخيار وهو اختبار المبيع.
"فإن تصرفا" أو أحدهما "ببيع أو هبة ونحوهما" مما ينقل الملك أو يثبت النقل في العقود كالإجارة والرهن فهو حرام "ولم ينفذ تصرفهما" كذا أطلقه جماعة لأنه تصرف لم يصادف محله لأن البائع لا يملكه والمشتري يقتضي تصرفه إلى إسقاط حق البائع من الخيار واسترجاع المبيع وقيل ينفذ تصرف البائع إذا قلنا الملك له والخيار له وفي "المغني" أولهما وعنه ينفذ تصرف المشتري كما لو كان الخيار له على الأصح وعنه موقوف.
"ويكون تصرف البائع فسخا للبيع وتصرف المشتري إسقاطا لخياره" أي: رضي به "في أحد الوجهين" جزم به في "الوجيز" لأن ذلك يحصل بالتصريح فحصل بالدلالة عليه كالمعتقة فإن خيارها يسقط بتمكينها الزوج من وطئها والمذهب أن تصرف المشتري وسومه ووطأه ولمسه بشهوة إمضاء قال أحمد وجب عليه حين عرضه.
"وفي الأخر البيع والخيار لحالهما" أي: ليس تصرف البائع فسخا للبيع نص عليه واختاره ابن أبي موسى وهو الأصح لأن الملك انتقل عنه فلم يكن تصرفه فسخا واسترجاعا كما لو وجد ماله عند مفلس وكما لو أنكر شرط الخيار قاله في "الترغيب" وغيره.
وأما المشتري فلا ينفذ تصرفه إلا بالعتق وسيأتي ولا يبطل خياره إلا بالتصريح فالتصرف غير صحيح فوجوده كعدمه وفي طريقة بعض أصحابنا له التصرف ويكون رضى بلزومه وإن سلم فلأنه منع نفسه منه قال وإذا قلنا بالملك له قلنا بانتقال الثمن إلى البائع وقاله غيره، فإن(3/411)
وإن استخدم المبيع لم يبطل خياره في أصح الروايتين وكذلك إن قبلته الجارية ويحتمل أن يبطل إن لم يمنعها وإن اعتقه المشتري نفذ عتقه.
ـــــــ
تصرف مع البائع فروايتان بناء على دلالة التصرف على الرضى.
فرع: إذا تصرف أحدهما بإذن الآخر أو تصرف وكيلهما فهو نافذ في الأصح فيهما وانقطع الخيار لأنه يدل على تراضيهما بإمضاء البيع كما لو تخايرا.
"وإن استخدم المبيع لم يبطل خياره في أصح الروايتين" لأن الخدمة لا تختص الملك فلم تبطل به كالنظر وظاهره مطلقا وقيده في الوجيز بأنه إذا كان للاستعلام و أومأ إليه في "الشرح".
والثانية تبطل لأن الخدمة إحدى المنفعتين فأبطلت الخيار كالوطء أطلقهما في "المحرر" و"الفروع".
"وكذلك إن قبلته الجارية" ولم يمنعها، نص عليه لأنه لم يوجد منه ما يدل على إبطال ولأن الخيار له لا لها فلو ألزمناه بفعلها لألزمناه بغير رضاه بخلاف ما إذا قبلها فإنه يدل على الرضى.
"ويحتمل أن يبطل إن لم يمنعها" لأن سكوته استمتاع بها ودليل على رضاه أشبه المعتقة تحت عبد إذا وطئها وهي ساكتة قال ابن المنجا ولا بد أن يقيد الخلاف بالشهوة لأنه إذا كان لغير شهوة لا يبطل بغير خلاف لأن التقبيل لغير شهوة ليس باستمتاع بوجه وليس كذلك بل ما ذكره هو قول في المذهب وظاهر كلامهم خلافه.
"وإن أعتقه المشتري نفذ عتقه" على المذهب، لأنه عتق من مالك جائز التصرف تام الملك فنفذ كما لو كان بعد مدة الخيار وقوله عليه السلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" دال على نفوذه في الملك وملك البائع الفسخ لا يمنع صحته كما لو وهب ابنه عبدا فأعتقه فإنه ينفذ مع ملك الأب استرجاعه وظاهره أن عتق البائع لا ينفذ وهو ظاهر المذهب.(3/412)
وبطل خيارهما وكذلك إن تلف المبيع وعنه لا يبطل خيار البائع وله الفسخ والرجوع بالقيمة وحكم الوقف حكم البيع في أحد الوجهين وفي الآخر حكمه حكم العتق وإن وطئ المشتري الجارية
ـــــــ
"وبطل خيارهما" لأن المشتري تصرف بما يقتضي اللزوم وهو العتق وكذلك إن تلف المبيع أي بعد قبضه فهو من ضمان المشتري ويبطل خياره وهي اختيار الخرقي وأبي بكر لأن التالف لا يتأتى عليه الفسخ ولأنه خيار فسخ فبطل بتلف المبيع كالرد بالعيب إذا تلف المبيع وحينئذ يلزمه الثمن للبائع.
"وعنه: لا يبطل خيار البائع" أما في العتق فلأنه لم يوجد منه ما يدل على الرضى وتعذر الرجوع لا يمنع الفسخ لأنه قد يكون فيه مصلحة لكونه باعه بأقل من ثمن مثله فإذا فسخ ملك الرجوع في قيمته.
وأما في التلف فقيل هي أنصهما واختارها الشريف وابن عقيل وحكاه في موضع عن الأصحاب لعموم: "البيعان بالخيار" ولأنه خيار فسخ فلم يبطل بتلف المبيع كما لو اشترى ثوبا بآخر فتلف أحدهما ووجد بالآخر عيبا فإنه يرده ويرجع بقيمة ثوبه فكذا هنا قال الزركشي وكان محل التردد هل النظر إلى حال العقد أو إلى الحالة الراهنة؟ "و" عليها "له الفسخ" لأن خياره لم يبطل "والرجوع بالقيمة" لأنها بدل مالا مثل له أو بمثله إن كان مثليا.
"وحكم الوقف حكم البيع في أحد الوجهين" وهو الأصح، ومعناه: أنه لا ينفذ لأنه يتضمن إبطال حق غيره أشبه وقف المرهون "وفي الآخر حكمه حكم العتق" لأنه تصرف يبطل الشفعة فنفذ كالعتق.
وأجاب في "المغني" و"الشرح": بالفرق بأن العتق مبني على التغليب والسراية ويصح في الرهن بخلاف الوقف ولا نسلم أن الوقف يبطل الشفعة "وإن وطئ المشتري الجارية" زمن الخيارين فهو حرام سواء كان الخيار لهما أو للبائع لتعلق حق البائع بها كالمرهونة قال في "الشرح": لا نعلم فيه(3/413)
فأحبلها صارت أم ولده وولده حر ثابت النسب وإن وطئها البائع فكذلك إن قلنا البيع ينفسخ بوطئه وإن قلنا لا ينفسخ فعليه المهر وولده رقيق إلا إذا قلنا الملك له ولا حد عليه على كل حال وقال أصحابنا عليه الحد إذا علم زوال ملكه وأن البيع لا ينفسخ بالوطء وهو المنصوص.
ـــــــ
خلافا ولا حد عليه لأنه يدرأ اليسرى الملك فحقيقته أولى ولا مهر لها لأنها مملوكته فإن علقت منه وهو المراد بقوله: "فأحبلها صارت أم ولده" لأنه صادف محله أشبه ما لو أحبلها بعد انقضاء مدة الخيار.
"وولده حر ثابت النسب" لأنه من مملوكته وظاهره أنه لا تلزمه قيمته لأنه حدث في ملكه فإن فسخ البائع رجع بقيمتها لأنه تعذر الفسخ فيها.
وعلى الثانية عليه المهر وقيمة الولد وإن كان عالما بالتحريم وإن ملكه غير ثابت فولده رقيق قاله في "الشرح".
"وإن وطئها البائع فكذلك إن قلنا البيع ينفسخ بوطئه" أي: فهو كالمشتري "وإن قلنا: لا ينفسخ فعليه المهر وولده رقيق" لأنه وطء في ملك الغير "إلا إذا قلنا: الملك له" على رواية فلا يترتب ما ذكره وحينئذ ولده حر ثابت النسب ولا يلزمه قيمته ولا مهر ولا تصير أم ولده لكن قال أصحابنا إن علم التحريم فولده رقيق لا يلحقه نسبه وإن لم يعلم لحقه نسبه وولده حر وعليه قيمته يوم الولادة وعليه المهر ولا تصير أم ولد له لأنه وطئها في غير ملكه ذكره في "الشرح".
"ولا حد عليه على كل حال" اختاره ابن عقيل وصححه في "المغني" ونصره في "الشرح" لأن وطأه إما أن يصادف ملكا أو شبهة فإن العلماء اختلفوا في ثبوت ملكه وإباحة وطئه.
"وقال أصحابنا" وعزاه في "الشرح" إلى بعضهم: "عليه الحد إذا علم زوال ملكه وأن البيع لا ينفسخ بالوطء وهو المنصوص" عن أحمد، لأنه لم يصادف(3/414)
ومن مات منهما بطل خياره ولم يورث ويتخرج ويورث كالأجل.
فصل
الثالث: خيار الغبن ويثبت في ثلاث صور إحداها إذا تلقى الركبان.
ـــــــ
ملكا، ولا شبهة ملك.
"ومن مات منهما، بطل خياره، ولم يورث" على المذهب قاله ابن المنجا لأنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة وظاهره مطلقا والمذهب أنه يبطل إلا أن يطالب به الميت نص عليه لأن معنى الخيار تخيره بين فسخ وإمضاء وهو صفة ذاتية كالاختيار فلم يورث كعلمه، وقدرته.
"ويتخرج" أن لا يبطل "ويورث كالأجل" حكاه في "الفروع" قولا، وفي "عيون المسائل" رواية لأنه حق فسخ فينتقل إلى الورثة كالفسخ بالتحالف وكخيار قبول الوصية له.
تنبيه: إذا علق عتق عبده ببيع فباعه ولو بشرط الخيار عتق نص عليه كالتدبير ولم ينقل الملك وتردد فيه الشيخ تقي الدين قال وعلى قياس المسألة تعليق طلاق أو عتق لسبب يزيل ملكه عن الزوجية وقيل يعتق في موضع يحكم له بالملك وهو ظاهر وقيل يعتق إلا إذا نفيا الخيار في العقد وصححنا نفيه فإنه لا يعتق.
فصل:
"الثالث: خيار الغبن" وهو بسكون الباء مصدر غبنه بفتح الباء يغبنه بكسرها إذا نقصه ويقال غبن رأيه بكسرها أي ضعف غبنا بالتحريك.
"ويثبت في ثلاث صور أحدها: إذا تلقى الركبان" جمع راكب وهو في الأصل راكب البعير ثم اتسع فيه فأطلق على كل راكب والمراد هنا القادمون(3/415)
فاشترى منهم وباع لهم فلهم الخيار إذا هبطوا السوق وعلموا أنهم غبنوا غبنا يخرج عن العادة.
ـــــــ
من السفر، وإن كانوا مشاة "فاشترى منهم" اقتصر عليه في "الخرقي" و"المحرر" فيحتمل قصر الحكم عليه، والمذهب عندنا: لا فرق، كما ذكره المؤلف.
"وباع لهم، فلهم الخيار إذا هبطوا السوق، وعلموا أنهم غبنوا غبنا يخرج عن العادة" هذا بيع مكروه صحيح في قول الجماهير لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار" رواه مسلم.
وثبوت الخيار لا يكون إلا في صحيح والنهي لا يرجع لمعنى البيع وإنما يعود لضرب من الخديعة يمكن استدراكه بالخيار أشبه المصراة وقوة كلام كثير من الأصحاب يقتضي الحكم بقصد التلقي فلو خرج بغير قصد فوافاهم واشترى منهم لم يحرم ذلك وهو احتمال في "المغني" و"الشرح"، وقال القاضي لا فرق بين القصد وعدمه وذكره في "الفروع" المنصوص، وذكر في "التلخيص" و"الفروع" أنه لا فرق بين البائع والمشتري في ذلك ولكن النص عن أحمد إنما هو في البائع لظاهر الأخبار فعليه يثبت الخيار مع الغبن لأنه إنما ثبت لدفع الضرر عن البائع ولا ضرر مع الغبن.
وعنه: يثبت لهم الخيار مع عدمه وهو ظاهر الخبر وقدره بما يخرج عن العادة لأن الشرع لم يرد بتحديده فيرجع فيه إلى العرف كالقبض وظاهر "الخرقي": يثبت فيه وإن قل قاله في "الشرح": وفيه شيء لأن مثل ذلك يتسامح به عادة.
وقال أبو بكر وابن أبي موسى: يقدر بالثلث لأنه كثير وقيل بالسدس لأن الخيار لو ثبت بأقل من ذلك لأدى إلى بطلان كثير من العقود.
فائدة: مقتضى النهي عن تلقي الركبان إما أن يكذب في سعر البلد فيكون غارا غاشا أو يسكت فيكون مدلسا خادعا فلو صدق في السعر فهل يثبت للركبان الخيار لعموم النهي أو لا لانتفاء الخديعة فيه احتمالان.(3/416)
والثانية: في النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشتري فله الخيار إذا غبن والثالثة المسترسل إذا غبن الغبن المذكور.
ـــــــ
"والثانية: في النجش" وهو بيع منهي عنه ثم فسره بقوله: "وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشتري" قال ابن أبي أوفي: هو خداع حرام وظاهره يقتضي أنه لا بد من حذق الذي زاد فيها لأن تغرير المشتري لا يحصل إلا بذلك وأن يكون المشتري جاهلا فلو كان عارفا واغتر بذلك فلا خيار له لعجلته وعدم تأمله "فله الخيار" على المذهب لأن النهي يعود إلى الناجش لا إلى العاقد فلم يؤثر في البيع ولأن النهي لحق آدمي معين يمكن تداركه كبيع المدلس وتلقي الركبان وظاهره يثبت سواء كان مواطأة من البائع أو لم يكن.
وقيل: لا يثبت، إلا إذا كان مواطأة من البائع.
وعنه: يقع لازما فلا فسخ من غير رضى ذكرها في "الانتصار" ولو أخبر بأكثر من الثمن فصدقه المشتري ثم بان كاذبا ثبت الخيار وفي "الإيضاح": يبطل مع علمه "إذا غبن" كالمسألة قبلها إذ أصل النجش الاستتار والاستخراج ومنه سمي الصائد ناجشا لاستخراجه الصيد من مكانه فالزائد فيها استخرج من المستام من ثمن السلعة مالا يريد أن يخرجه.
وقيل: أصله مدح الشيء وإطراؤه فالناجش يغر المشتري بمدحه ليزيد في الثمن.
"الثالثة: المسترسل" وهو اسم فاعل من استرسل إذا اطمأن واستأنس لغة وفسره الإمام أحمد بأنه لا يحسن يماكس وذكر الشيخان والجد هو الجاهل بقيمة المبيع زاد في "المغني" و"الشرح": ولا يحسن المبايعة.
"إذا غبن الغبن المذكور" على الأصح لأنه حصل لجهله بالبيع فثبت له الخيار كما سبق وقيل يقع لازما لأن النقصان لا يمنع لزوم العقد كالغبن اليسير وظاهره أن غير المسترسل لا خيار له لأنه دخل على بصيرة بالغبن كالعالم بالعيب وكالمستعجل وفي المذهب يثبت إذا جهلها وعنه:(3/417)
وعنه: أن النجش وتلقي الركبان باطلان.
ـــــــ
ولمسترسل مع البائع لم يماكسه اختاره الشيخ تقي الدين وذكره المذهب.
قال أحمد: اشتر وماكس قال: والمساومة أسهل من المرابحة لأنه أمانة ولا يأمن الهوى.
فرع: حكم الإجارة كالبيع ذكره في شرح "الهداية" عن القاضي فإن فسخ في أثنائها رجع عليه بالقسط من أجرة المثل لا من المسمى وذكر الشيخ تقي الدين أنه إذا دلس مستأجر على مؤجر وغره حتى استأجره بدون القيمة فله أجرة المثل.
قال: ويحرم تغرير مشتر بأن يسومه كثيرا ليبذل قريبه.
مسألة: خيار الغبن فيه وجهان في الفورية وعدمها هما مبنيان على الروايتين في خيار العيب وهل للإمام جعل علامة تنفي الغبن عمن يغبن كثيرا فيه احتمالان.
ومن قال عند العقد: لا خلابة فله الخيار إذا خلب وقال المؤلف لا.
"وعنه: أن النجش وتلقي الركبان باطلان" أما الأول فلما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش وعن أبي هريرة مرفوعا: " لا تناجشوا" متفق عليهما وهو خديعة وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخديعة في النار" وإذا كان منهيا عنه كان باطلا تغليبا لحق الله تعالى في النهي.
وفي "المغني" "والشرح": أنه اختيار أبي بكر وصرح في "التنبيه" بأنه لا يجوز وقيل إن نجش البائع أو واطأ على ذلك بطل قدمه في المحرر وصححه ابن حمدان وخرجه صاحب "التلخيص" من قول أبي بكر في إبطال البيع بتدليس العيب ولأن البائع أحد ركني العقد فارتكابه النهي يفسد البيع بخلاف الأجنبي.
وأما ثانيا، فاختاره أبو بكر، لما روى ابن عباس قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان ولا يبيع حاضر لباد متفق عليه لأن النهي يدل على الفساد،(3/418)
فصل:
الرابع: خيار التدليس ما يزيد به الثمن كتصرية اللبن في الضرع وتحمير وجه الجارية وتسويد شعرها وتجعيده وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها فهذا يثبت للمشتري خيار الرد.
ـــــــ
كبيع الحاضر، وجوابه بأن بيع الحاضر للبادي لا يمكن استدراكه لأن الضرر ليس عليه إنما هو على المسلمين بخلاف التلقي فإن الضرر عليهم فأمكن تداركه بثبوت الخيار لهم فلا حاجة إلى الإبطال.
فصل:
"الرابع: خيار التدليس" قال الجوهري هو كتمان العيب في السلعة عن المشتري والمراد هنا "ما يزيد به الثمن" وإن لم يكن عيبا "كتصرية اللبن في الضرع" التصرية مصدر: صري يصرى كعلي يعلى وصرى يصري كرمى يرمي وأصلها عند الفقهاء أن يجمع اللبن في الضرع اليومين والثلاثة حتى يعظم فيظن المشتري أن ذلك لكثرة اللبن وإذن هي المصراة والمحفلة.
قال البخاري: أصل التصرية حبس الماء يقال صريت الماء واختلف في معناها لغة فقال الشافعي هي أن يربط أخلاف الناقة والشاة اليومين والثلاثة فيزيده المشتري في ثمنها وقال أبو عبيد هي الناقة أو البقرة أو الشاة يصرى اللبن في ضرعها أي يجمع ويحبس.
قال: ولو كانت من الربط لقيل فيها مصرورة وإنما جاءت مصراة قال الخطابي هو حسن وقول الشافعي صحيح.
"وتحمير وجه الجارية، وتسويد شعرها وتجعيده" يقال: شعر جعد أي بين الجعودة وهو ضد السبط، "وجمع ماء الرحى وإرساله عند عرضها فهذا يثبت للمشتري خيار الرد" أو الإمساك في قول أكثر العلماء لما روي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين(3/419)
ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعا من تمر فإن لم يجد التمر فقيمته في موضعه سواء كانت ناقة أو بقرة أو شاة.
ـــــــ
بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر" متفق عليه.
ولأنه تدليس غر المشتري فكان له الخيار كالنجش والأصح ولو حصل بغير قصد.
وظاهره: إن دلسه بما لا يختلف به الثمن كتبييض الشعر وتسبيطه وتسويد كف عبد أو ثوبه وعلف شاة لا خيار للمشتري لأنه لا ضرر عليه وقيل كالأول وظاهره أنه لا أرش مع الإمساك وهو المذهب لأن الشارع لم يجعل له فيها أرشا بل خيره بين الإمساك والرد مع صاع تمر.
وفي "التنبيه" و"المبهج" و"الترغيب" ومال إليه صاحب "الروضة": له الإمساك مع الأرش ونقله ابن هانئ وغيره كالعيب.
"ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعا من تمر" سليم ولو زادت قيمته نص عليه وقيل أو قمح لوروده في بعض الألفاظ وهذا إن حلبها فلو علم أنها مصراة قبل الحلب ببينة أو إقرار فلا لأنه لا وجود للبدل مع وجود المبدل.
"فإن لم يجد التمر فقيمته" أي: التمر لأن من وجب عليه شيء فعجز عنه رجع إلى بدله وبدل المثل عند إعوازه هو القيمة "في موضعه" أي: موضع العقد لأنه بمنزلة عين أتلفها فتجب عليه قيمتها قاله في "المغني" و"الشرح" "سواء كانت" المصراة "ناقة أو بقرة أو شاة" لعموم قوله عليه السلام: "من اشترى مصراة فهو بالخيار" رواه البخاري.
وقال داود: لا تثبت في مصراة البقر لحديث أبي هريرة وجوابه بأن الحكم ثبت فيها بطريق التنبيه لأن لبنها أغزر وأكثر.
فرع: لو اشترى مصراتين أو أكثر في عقد فردهن رد مع كل مصراة صاعا من تمر وقاله الشافعي وقيل لا يتعدد بل في الجميع صاع.(3/420)
فإن كان اللبن بحالة لم يتغير رده وأجزأه ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر ومتى علم التصرية فله الرد وقال القاضي ليس له ردها إلا بعد ثلاث.
ـــــــ
"فإن كان اللبن بحاله لم يتغير رده وأجزأه اختاره" القاضي وجزم به في "الوجيز" وقدمه في "الفروع" لأن التمر إنما وجب عوضا عن اللبن فإذا رد الأصل وجب أن يجزئ كسائر الأصول مع إبدالها وكما لو ردها به قبل الحلب "ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر" قدمه في "المحرر" لأن إطلاق الخبر يدل عليه ولأن اللبن في الضرع أحفظ له أما إذا تغير فلا يجزئه وجها واحدا لأنه نقص في يده بالحموضة فهو كما لو أتلفه وقيل يجزئه وإن تغير ولا شيء عليه نظرا إلى أن البدل إيجابه منوط بعدم المبدل والمبدل موجود وإن حصل نقص فتدليس من البائع وصرح في الكافي بأن الخلاف مع التغير.
فرع: إذا رضي بها فأمسكها ثم اطلع على عيب ردها به لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد بعيب آخر.
"ومتى علم التصرية فله الرد" وقاله أبو الخطاب لأنه علم بسبب الرد فكان له حينئذ أشبه ما لو علم بالعيب "وقال القاضي: ليس له ردها إلا بعد ثلاث" أي ثلاثة أيام وهذا ظاهر كلام أحمد وجزم به في "الوجيز" لأن اللبن يختلف باختلاف المكان وتغير العلف فإذا مضت الثلاثة بانت التصرية وثبت الخيار على الفور فعلى هذا ليس له ردها قبل مضيها ولا إمساكها بعدها.
وقيل: يخير مطلقا ما لم يرض كبقية التدليس وقدره ابن أبي موسى والمجد يروي بثلاثة أيام لرواية مسلم "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة" أيام فعلى هذا له الخيار في الثلاثة أيام إلى انقضائها عكس ما قاله القاضي وابتداء المدة بتبين التصرية وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى وكلامه في "الكافي" موهم أن ابتداءها على قول ابن أبي موسى من حين البيع وليس كذلك بل على قول القاضي.(3/421)
وإن صار لبنها عادة لم يكن له الرد في قياس قوله وإذا اشترى أمة متزوجة فطلقها الزوج لم يملك الرد و إن كانت التصرية بهيمة الأنعام فلا رد له في أحد الوجهين وفي الآخر له الرد ولا يلزمه بدل اللبن ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها فإن فعل فالبيع صحيح وقال أبو بكر إن دلس العيب فالبيع باطل.
ـــــــ
"وإن صار لبنها عادة" أو زال العيب "لم يكن له الرد" لأن الخيار حصل لدفع الضرر بالعيب وقد زال الحكم بزوال علته "في قياس قوله" أي: قول الإمام "وإذا اشترى أمة مزوجة وطلقها الزوج لم يملك" المشتري "الرد" لما ذكرناه قال في "الفصول" لا رجعيا وإن في طلاق بائن فيه عدة احتمالين "وإن كانت التصرية بهيمة الأنعام" كالأمة والأتان "فلا رد له في أحد الوجهين" لأن ذلك لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد قصد لبن بهيمة الأنعام "وفي الآخر له الرد" اختاره ابن عقيل وقدمه في "المحرر" وصححه في "الفروع" لعموم ما سبق ولأن الثمن يختلف بذلك لأن لبن المرأة يراد للارتضاع ويرغب فيها ظئرا وكذلك لو اشترط كثرة لبنها ملك الفسخ إذا بانت بخلافه ولبن الأتان يراد لولدها.
"ولا يلزمه بدل اللبن" على كل حال لأنه لا يباع ولا يعتاض عنه عادة "ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها" ذكره الترمذي عن العلماء لقوله عليه السلام: "من غشنا فليس منا" ونهى عن التصرية، وقوله: "المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا إلا بينه" وقال: "من باع عيبا لم يبينه لم يزل في مقت من الله ولم تزل الملائكة تلعنه" رواهما ابن ماجه وفي "الصحيح": "فإن صدقا وبينا بورك لهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما" وذكر أبو الخطاب يكره كتمان العيب وحكاه في "التبصرة" نصا وعلى الأول "فإن فعل فالبيع صحيح" على المذهب لحديث المصراة فإنه عليه السلام صححه مع نهيه عنه.
"وقال أبو بكر: إن دلس العيب فالبيع باطل" ونقله حنبل عن الإمام لأنه(3/422)
قيل له: فما تقول في التصرية فلم يذكر جوابا.
ـــــــ
منهي عنه والنهي يقتضي الفساد وكذا لو أعلمه به ولم يعلما قدر غشه ذكره الشيخ تقي الدين وأنه يجوز عقابه بإتلافه والتصدق به وقال أفتى به طائفة من أصحابنا.
"قيل له" أي لأبي بكر: "فما تقول في التصرية فلم يذكر جوابا" لأن التصرية إلزام صحيح ليس عنه جواب فدل على رجوعه قاله في "الشرح".
فائدة: لم يقل أبو حنيفة بحديث المصراة وروي عن مالك لأنه حديث مخالف لقياس الأصول المعلومة إذ الأصل أن ضمان المثليات بالمثل والمتقومات بالقيمة والتمر ليس بمثل ولا قيمة للبن وأن يكون المضمون بقدر الضمان بقيمة التالف.
وذلك يختلف وهنا قدر بالصاع مطلقا ولأن اللبن إن كان موجودا عند العقد فقد ذهب جزء المعقود عليه من أصل الخلقة وذلك مانع من الرد وإن حدث بعد الشراء فقد حدث على ملك المشتري فلا يضمنه وإن كان مختلطا فما كان موجودا عند العقد منع الرد.
وما كان حادثا لم يجب ضمانه ولأنه يلزم من القول بظاهره الجمع بين الثمن والمثمن للبائع إذا كانت قيمة الشاة صاعا من تمر.
وجواب الأول: أن الضمان لا ينحصر فيما ذكرتموه فإن الحر يضمن بالإبل وليست بمثل ولا قيمة والجنين بالغرة وعن الثاني بأن الضمان لا يتقدر بذلك كالموضحة فإن أرشها مقدر مع اختلافها بالكبر والصغر وعن الثالث أن النقص حصل لاستعلام العيب فلا يمنع وعن الرابع بأنه ورد على العادة والعادة لا تباع شاة بصاع والأولى أن التمر بدل اللبن لا الشاة فلا يلزم الجمع بين العوض والمعوض.(3/423)
فصل
الخامس خيار العيب وهو النقص كالمرض وذهاب جارحة أو سن أو زيادتها ونحو ذلك وعيوب الرقيق من فعله كالزنى والسرقة والإباق والبول في الفراش إذا كان من مميز.
ـــــــ
فصل:
"الخامس: خيار العيب وهو النقص" أي ما نقص ذات المبيع أو قيمته عادة وفي "الترغيب" وغيره: نقيصة يقتضي العرف بسلامة المبيع عنها غائبا.
ثم شرع في تعداد ما ينقص الثمن وليس من فعل العبد "كالمرض" على جميع حالاته "وذهاب جارحة أو سن أو زيادتها ونحو ذلك وعيوب الرقيق من فعله كالزنا والسرقة والإباق والبول في الفراش إذا كان من مميز" وجزم به في "المحرر" "والوجيز" لأن الزنا ينقص قيمته ويقلل الرغبة فيه وقولهم وتعرضه لإقامة الحد ليس بجيد وشرب الخمر ونحوه كالزنا نص عليه.
والباقي عيوب فيمن جاوز العشر فكذا ما دونها وقدم في "الفروع" أن ذلك مختص بمن بلغ عشرا نص عليه.
وظاهره: سواء تكرر منه أو لا وصرح جماعة: لا يكون عيبا إلا إذا تكرر، وقيل بول كبير إذا تكرر، وفي "الواضح": بالغ، وعلم منه أن ذلك ليس بعيب في الصغير لأن وجودها يدل على نقصان عقله وضعف بنيته بخلاف الكبير فإنه يدل على خبث طويته والبول على داء في بطنه.
أصل: العيوب منها ما هو من أصل الخلقة ومنها ما هو من غيرها فالأول كالجنون والجذام والبرص والعمى والعور والعرج والقرع والصمم والطرش والخرس والبخر والحول والتخنث وكونه خنثى والخصي والتزويج في الأمة وتحريم عام كالمجوسية وحمل الأمة دون البهيمة وعدم ختان في كبير للخوف عليه.(3/424)
فمن اشترى معيبا لم يعلم عيبه فله الخيار بين الرد والإمساك مع الأرش.
ـــــــ
وفي "المغني" و"الشرح": ليس من بلد الكفر لأن العادة أنهم لا يختتنون وحمق نص عليه وهو من الكبير ارتكاب الجهل على بصيرة وفي "المغني" و"الشرح": وحمق شديد واستطالة على الناس.
وليس عجمة اللسان وفأفاء وتمتام وقرابة وارث وألثغ وعدم حيض في المنصوص فيه عيبا ومثله عقيم وفي الثيوبة ومعرفة الغناء والكفر وجهان وقيل وفسق باعتقاد أو فعل وتغفيل.
والثاني: كون الدار ينزلها الجند قاله في "الترغيب" وغيره وعبارة القاضي قد نزلها الجند قالا أو اشترى قرية وجد فيها سبعا أو حية عظيمة تنقص الثمن وظاهر كلامهم وبق غير معتاد وفزع شديد من كبير وكونه أعسر والمراد لا يعمل باليمين عملها المعتاد وإلا فزيادة خير.
وفي "المغني" و"الشرح": ليس بعيب لعمله بإحدى يديه وكان شريح يرد به قال الشيخ تقي الدين والجار السوء عيب وهو ظاهر.
"فمن اشترى معيبا لم يعلم عيبه" ثم علم "فله الخيار بين الرد" وأخذ الثمن "والإمساك مع الأرش" هذا هو المذهب المشهور مع أنه في "المغني" و"الشرح" لم يذكرا خلافا أما الرد فلا نزاع فيه إذ مطلق العقد يقتضي السلامة بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى مملوكا فكتب: "هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا خبثة ولا غائلة بيع المسلم المسلم".
وإذا يثبت له الخيار بظهور المبيع معيبا استداركا لما فاته وإزالة لما يلحقه من الضرر في بقائه في ملكه ناقصا عن حقه وأما الإمساك مع الأرش فلأن المتبايعين تراضيا على أن العوض في مقابلة المعوض فكل جزء من العوض يقابله جزء من المعوض ومع العيب فات جزء منه فيرجع ببدله وهو الأرش وعنه لا أرش لممسك له الرد اختاره الشيخ تقي الدين حذارا من أن يلزم البائع مالم(3/425)
وهو قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن.
ـــــــ
يرض به فإنه لم يرض بإخراج ملكه إلا بهذا العوض فإلزامه بالأرش إلزام له بشيء لم يلزمه يحققه حديث المصراة.
وجوابه: أن المصراة ليس فيها عيب قاله في "المغني" و"الشرح" وإنما ملك الخيار فيها بالتدليس لا لفوات جزء فلذلك لا يستحق أرشا بخلاف المعيب فإنه يستحقه عند تعذر الرد فلم يصح الإلحاق وهل يأخذ الأرش من عين الثمن أو حيث شاء البائع فيه احتمالان وظاهره لا فرق بين العيب اليسير وغيره، وقاله في "الروضة" وغيرها.
وفي "الانتصار" و"مفردات" أبي يعلى الصغير لا فسخ بعيب يسير كصداع وحمى يسيرة وآيات في المصحف للعادة كغبن يسير ولو من ولي وكذا قاله أبو الوفاء والقاضي في "جامعه".
قال: لأنه لا يسلم عادة من ذلك كيسير التراب والعقد في البر ومحل ذلك ما لم يفض إلى الربا لشراء فضة بزنتها دراهم ونحوها معيبة أو قفيزا مما يجري فيه الربا بمثله فله الرد أو الإمساك مجانا.
وظاهره: أنه إذا كان عالما به لا خيار له بغير خلاف نعلمه لأنه دخل على بصيرة أشبه ما لو صرح به وفي "الانتصار": إذا كان عالما به ولم يرض ثبت له الخيار.
"وهو" أي: الأرش "قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن" نص عليه وذكره عن الحسن البصري فقال يرجع بقيمة المعيب من الثمن يوم اشتراه قال أحمد هذا أحسن ما سمعت فعلى هذا يقوم المبيع صحيحا ثم معيبا فيؤخذ قسط ما بينهما من الثمن كما إذا قوم صحيحا بعشرة ومعيبا بثمانية والثمن خمسة عشر مثلا فقد نقصه العيب خمسه فيرجع بخمس الثمن وهو ثلاثة لأن المبيع مضمون على المشتري بثمنه ففوات جزء منه يسقط عنه ضمان ما قابله من الثمن ولأنا لو ضمناه نقص القيمة(3/426)
وما كسب فهو للمشتري وكذلك نماؤه المنفصل وعنه لا يرده إلا مع نمائه.
ـــــــ
لأفضى إلى اجتماع الثمن والمثمن للمشتري في صورة ما إذا اشترى شيئا بعشرة وقيمته عشرون فوجد به عيبا ينقصه النصف فأخذها وهذا لا سبيل إليه.
"وما كسب فهو للمشتري وكذلك نماؤه المنفصل" وحاصله أنه إذا أراد رد المعيب فلا يخلو إما أن يكون بحاله أو يزيد أو ينقص فإن كان الأول فظاهره أنه يرده ويأخذ الثمن وإن كان الثاني فهو قسمان أحدهما أن تكون الزيادة متصلة كالسمن وتعلم صنعة والحمل والثمرة قبل ظهورها فيردها بنمائها لأنه يتبع في العقود والفسوخ ولعدم تصور ردها بدونه وظاهره أنه لا يلزم البائع قيمتها في قول أكثر الأصحاب لئلا يلزمه معاوضة لم يلتزمها وقال ابن عقيل القياس أن للمشتري القيمة لحدوثها في ملكه وكالصداق وهو رواية وفي القياس نظر.
والثاني: أن تكون منفصلة وهي نوعان أحدهما أن يكون في غير المبيع كالكسب والأجرة وما يوهب له أو يوصى له به فهذا للمشتري في مقابلة ضمانه لأنه لو هلك كان من مال المشتري وحكاه في "المغني" و"الشرح" بغير خلاف نعلمه وفيه رواية ذكرها في "الكافي" و"الفروع".
والثاني: أن يكون من المبيع كالولد والثمرة المجذوذة واللبن المحلوب فالمذهب المعمول به أنه للمشتري أيضا ويرد الأصل بدونها لقوله: "الخراج بالضمان".
"وعنه: لا يرده إلا مع نمائه" المنفصل حكاها القاضي والشيخان جعلا للنماء كالجزء من الأصل أو نظرا إلى أن الفسخ رفع للعقد من أصله حكما ويرد عليه الكسب ونحوه وقد يفرق بينهما وناقش الشيخ تقي الدين القاضي وغيره في هذه الرواية فإنهم أخذوها من رواية ابن منصور وفي الأخذ نظر فلو حدث العقد وهي حامل فولدت عنده ثم ردها رد ولدها معها صرح به في "المغني" و"الشرح" لأنه من جملة المبيع والولادة هنا نماء متصل(3/427)
ووطء الثيب لا يمنع الرد وعنه يمنع وإن وطئ البكر أو تعيبت عنده فله الأرش.
ـــــــ
بالمبيع وهذا ظاهر كلام أحمد واختاره الشيخان لأنه يحرم التفريق بينهما فمرادهم بالولد هنا ولد البهيمة لا الأمة فإن تلف الولد فهو كتعيب المبيع عنده.
وقال القاضي، والشريف وأبو الخطاب له إمساك الولد ورد الأم لأنه موضع حاجة كما لو ولدت حرا فباعها دونه وفيه نظر لأن الجمع ممكن بأخذ الأرش أو ردهما معا وأما النقص فسيأتي.
"ووطء الثيب" إذا اطلع على عيب بها "لا يمنع الرد" على الأصح لأنه لم يحصل نقص جزء ولا صفة ولم يتضمن الرضى بالعيب فلم يمنع الرد كالاستخدام وكما لو كانت مزوجة فوطئها الزوج فعلى هذا يردها مجانا ولهذا له بيعها مرابحة بلا إجبار قاله في "الانتصار".
وعنه: يرد معها مهر مثلها وقاله ابن أبي موسى روي عن عمر لأنه إذا فسخ صار واطئا في ملك الغير بناء على أن الفسخ رفع للعقد من أصله.
"وعنه: يمنع" روي عن علي وغيره لأن الوطء كالجناية لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال فوجب أن يمنع الرد كالبكر.
"وإن وطئ البكر، أو تعيبت عنده" كقطع الثوب "فله الأرش" اختاره أبو بكر وأبو الخطاب وابن أبي موسى وذكر أنه الصحيح عن أحمد وقدمه في "المحرر" وجزم به في "الوجيز" لأن العقد اقتضى السلامة فإذا فات منه شيء وجب الرجوع فيما قابله من الثمن فعلى هذا لا يملك الرد لأنه شرع لإزالة الضرر وفي الرد ضرر على البائع والضرر لا يزال بالضرر إذ ضرر المشتري يخير بالأرش فتعين ولأن وطأها يعيبها عرفا وينقصها حسا لكونه يذهب جزءا منها.(3/428)
وعنه أنه مخير بين الأرش وبين رده وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن قال الخرقي إلا أن يكون البائع قد دلس العيب فيلزمه رد الثمن كاملا.
ـــــــ
"وعنه: أنه مخير بين الأرش وبين رده وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ الثمن" وهذا اختيار الخرقي والقاضي أبي الحسين والمؤلف قال في "التلخيص": وهي المشهورة وعليها الأصحاب لحديث المصراة فإنه جعل للمشتري الرد مع ذهاب جزء من المبيع وهو اللبن وجعل التمر بدلا له.
وقد روى الخلال بإسناده عن ابن سيرين أن عثمان قال في رجل اشترى ثوبا ولبسه ثم اطلع على عيب فرده وما نقص فأجاز الرد مع النقصان وعليه اعتمد أحمد ولأنه عيب حدث عند أحد المتعاقدين فلم يمنع الخيار المذكور كالعيب الحادث عند البائع قبل القبض.
وظاهره: ولو أمكن عوده وفيه رواية كزواله قبل رده وإن زال بعده ففي رجوع مشتر على بائع بما دفعه إليه احتمالان فعليها إن أمسك وأخذ أرش العيب الموجود قبل البيع فظاهر وإن رده رد أرش العيب الحادث عنده لأن التلف حصل في يده وكان ضمانه عليه كالآخر فإذا كانت بكرا قيمتها مائة وثيبا ثمانين رد معها عشرين لأنه بفسخ العقد يصير مضمونا عليه بقيمته بخلاف أرش العيب الذي يأخذه المشتري وعنه الواجب في وطء البكر المهر مع أرش البكارة.
"قال الخرقي: إلا أن يكون البائع قد دلس العيب فيلزمه رد الثمن كاملا" أي إذا دلس البائع العيب أي كتمه وأخفاه فإن المشتري يرد بلا أرش ويلزم البائع رد الثمن بكماله وهذا هو المنصوص وبالغ ابن أبي موسى فقال له الرد قولا واحدا ولا عقد عليه لأنه قد ورط المشتري وغره فصار كالغار بحرية أمة الضمان عليه ولا فرق في العيب الحادث سواء كان بفعل المشتري كوطء البكر أو أجنبي كما لو جنى عليه أو بفعل العبد كالإباق والسرقة أو بفعل الله تعالى كالمرض وسواء كان ناقصا للمبيع أو مذهبا(3/429)
قال القاضي ولو تلف المبيع عنده ثم علم أن البائع دلس العيب رجع بالثمن كله نص عليه في رواية حنبل ويحتمل أن يلزمه عوض العين إذا تلفت وأرش البكر إذا وطئها لقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان" وكما يجب عوض لبن المصراة على المشتري.
ـــــــ
لجميعه، ثم أكد ذلك بقوله:
"قال القاضي: ولو تلف المبيع عنده ثم علم أن البائع دلس العيب رجع بالثمن كله نص عليه في رواية حنبل" وابن القاسم قال الإمام أحمد في رجل اشترى عبدا فأبق من يده وأقام بينة أن إباقه كان موجودا في يد البائع يرجع على البائع بجميع الثمن الذي أخذه منه لأنه غره ويتبع البائع عبده حيث كان ويحكى عن الحكم ومالك.
"ويحتمل أن يلزمه عوض العين إذا تلفت وأرش البكر إذا وطئها" حكاه المجد رواية وذكر في "المغني": أنه مذهب أكثر العلماء لقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان" رواه الخمسة وحسنه الترمذي وصححه ابن القطان من حديث عائشة ورواه الشافعي والحاكم وقال صحيح الإسناد وفيه نظر فإنه من رواية مخلد بن خفاف ومسلم بن خالد الزنجي وقد اختلف فيهما.
"وكما يجب عوض لبن المصراة على المشتري" مع كونه قد نهي عنها وإنما أوجب على المشتري عوض اللبن لأنه مبيع تعيب في يد المشتري بعد تمام ملكه فكان من ضمانه كما لو لم يدلسه ولأن وجوب الضمان على البائع لا يثبت إلا بدليل.
قال في "المغني" و"الشرح": ولا نعلم له أصلا ولا يشبه التغرير بحرية أمة لأنه يرجع على من غره وإن لم يكن سيدها وهاهنا لو كان التدليس من وكيل البائع لم يرجع عليه بشيء.
تنبيه: قد شمل ما ذكرنا كل مبيع كان معيبا لم يعلم به ثم حدث به(3/430)