المجلد الأول
كتاب الطهارة
باب أحكام المياه
...
كتاب الطهارة
باب أحكام المياه
خلق الماء طهورا يطهر من الأحداث والنجاسات ولا تحصل الطهارة بمائع
ـــــــ
العدة شرح العمدة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذي الفضل والنعم والجود والكرم {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وأطلعه على غوامض الحكم, أحمده على ما علم وألهم وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مبرأة من التهم,وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المحترم أرسله إلى العرب والعجم, وجعل أمته خير الأمم وهدى به إلى الطريق الأقوم صلى الله عليه وعلى آله وشرف وعظم وكرم, وبعد فهذا شرح كتاب العمدة لشيخنا الإمام أبي محمد عبد الله بن أحمد المقدسي رحمه الله رتبته مختصرا ليكون عدة لي في الحياة وذخيرة بعد الوفاة, وإلى سبحانه الرغبة أن يجعله لوجهه خالصا وإليه مقربا إنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.
كتاب الطهار
باب أحكام المياه
مسألة: "خلق الماء طهورا يطهر من الأحداث والنجاسات" لقوله سبحانه: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِِهْ} 1, وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد" . متفق عليه2. والطهور: هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره وهو الذي نزل من السماء أو نبع من الأرض وبقي على أصل خلقته فهذا يرفع الأحداث ويزيل الأنجاس للآية.
مسألة: " ولا تحصل الطهارة بمائع غيره " أما طهارة الحدث فلقوله سبحانه وتعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 3. نقلنا سبحانه وتعالى عند عدم الماء إلى التراب,
ـــــــ
1 - آية 11 الأنفال
2 - رواه البخاري في: كتاب الأذان: 89- باب ما يقول بعد التكبير: حديث رقم 744. ومسلم في: 5- كتاب المساجد ومواضع الصلاة: 27- باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة: حديث رقم 147.
3 - آية 43 سورة النساء.(1/11)
غيره, فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جاريا لم ينجسه شيء, إلا ما غير لونه أو طعمه أو
ـــــــ
فلو كان ثم مائع يجوز الوضوء به لنقلنا إليه, فلما نقلنا عنه إلى التراب دل على أنه لا تصح الطهارة للحدث إلا به. وأما الطهارة من النجاسات فلا تجوز إلا بالماء, لقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء في دم الحيضة: "حتيه1 ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء"2 . أمر, والأمر يقتضي الوجوب. وخص الماء بالذكر فيدل على أنه لا يجوز بمائع غيره, ولأنها طهارة فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث.
مسألة: "فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جاريا لم ينجسه شيء" أما إذا بلغ قلتين لم ينجسه شيء فلقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شئ" . أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن ولفظه: "لم يحمل الخبث" . وأخرجه الإمام أحمد في المسند.3 وأما إذا كان جاريا فلا ينجسه شيء وإن قل لقوله عليه السلام لما سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من الحيض ولحوم الكلاب والنتن: "إن الماء طهور لا ينجسه شئ" .4 قال أحمد رحمه الله: حديث بئر بضاعة صحيح.5 وهو عام في القليل والكثير فإن قيل يعارضه حديث القلتين قلنا عنه ثلاثة أجوبة:
أحدهما: أن حديث بئر بضاعة أصح فلا يعارضه, ولأن حديث القلتين ضعيف من حيث الاستدلال به فإن القلال تختلف وتقديرهما بخمس قرب من أين ذلك؟ وتقدير القربة بمائة رطل يحتاج إلى دليل فإن التقدير إنما يصار إليه بالنص ولا نص, وحديث ابن جريج: رأيت قلال هجر تسع القلة قربتين أو قربتين أو شيئا غير مقبول.
ـــــــ
1- قوله: حتيه , ثم اقرصيه الحت: الحك , والمراد بذلك إزالة عينه. زهر الربى1/155, وقارن بـ سبل السلام 1/55. والقرص: الدلك بأطراف الأصابع والأظفار, مع صب الماء عليه حتى يذهب أثره. "النهاية في غريب الحديث" 4/40.
2-رواه البخاري في: كتاب الوضوء: 63- باب غسل الدم: حديث رقم 227. مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 33- باب نجاسة الدم وكيفية غسله: حديث رقم 110.
3- رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 32- باب ما ينجس الماء: حديث رقم 65. والترمذي في: 1- أبواب الطهارة: 50- باب منه آخر: حديث صحيح, رقم 67. وقال الشيخ شاكر في " شرح سنن الترمذي" 1/98 عقب هذا الحديث: حديث صحيح, وليس الاختلاف فيه مما يؤثر في صحته. اهـ. وأحمد في "المسند" 2/23و 27و 107.
4 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 33- باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء: حديث رقم66. والترمذي في: 1- أبواب الطهارة: 94- باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء: حديث رقم 66. وقال: هذا حديث حسن. والنسائي في: 2- كتاب المياه: 1- باب ذكر بئر بضاعة: حديث رقم 2,1. وأحمد في "المسند" 3/15 و 31 و86.
5- وقال الحافظ في "التلخيص" 3/4 بعد أن ذكر تصحيح الإمام أحمد: "وصححه يحيى بن معين , وأبو محمد بن حزم". اهـ.(1/12)
ريحه وما سوى ذلك ينجس بمخالطة النجاسة, والقلتان ما قارب مائة وثمانية أرطال
ـــــــ
الثاني: أن دلالته على تنجيس اليسير إنما هو بالمفهوم, وحديث بئر بضاعة يدل على طهارته بالمنطوق فكان مقدما.
الثالث: أن حديث القلتين محمول على الماء الواقف, فإنا قد أجمعنا على أن ما قبل النجاسة في الماء الجاري لا يتنجس لأنه لم يصل إليها وما بعدها كذلك لأنها لن تصل إليه بخلاف الواقف, فإن قيل حديث بئر بضاعة دخله التخصيص بالقليل الواقف فإنا قد أجمعنا على أن ينجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير فنقيس عليه القليل الجاري قلنا: لا يصح ذلك, وبيانه من وجهين: أحدهما: أن الجاري له قوة ليست للواقف فإنه يدفع التغير عن نفسه لأنه يدفع بعضه بعضا وليس كذلك الواقف. والثاني: أن الجاري لو ورد على النجاسة طهرها فكذا إذا وردت عليه قياسا لأحد الواردين على الآخر, وليس هذا للواقف فإن صب الواقف على النجاسة صار جاريا. والله تعالى أعلم وأحكم.
مسألة: "إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" يعني أن الماء إذا تغيرت إحدى صفاته بالنجاسة ينجس على كل حال قلتين أو أكثر أو أقل وهذا أمر مجمع عليه, قال الإمام أحمد رضي الله عنه: ليس فيه حديث, ولكن الله سبحانه حرم الميتة فإذا تغير بها فكذلك طعم الميتة وريحها فلا يحل له. وقول أحمد: ليس فيه حديث يعني ليس فيه حديث صحيح.1
مسألة: "وما سوى ذلك ينجس بمخالطة النجاسة" يعني أن ما دون القلتين يتنجس بمخالطة النجاسة وإن لم يتغير, لأن تحديده بالقلتين يدل على أن ما دونهما يتنجس, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا2 ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات" . متفق عليه.3 فدل على نجاسته من غير تغير. وفي رواية: "طهور إناء أحدكم" . وعنه أنه طاهر لقوله عليه السلام: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء"4 . قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح, ولأنه لم يتغير بالنجاسة أشبه الكثير.
مسألة: "والقلتان ما قارب مائة وثمانية أرطال بالدمشقي" سميت قلة لأنها تقل
ـــــــ
1- بل حديث ضعيف رواه بن ماجه في: 1- كتاب الطهارة وسننها: 76- باب الحياض: حديث رقم 521. ولفظه: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء, إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه". وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/214, وعزاه إلى الطبراني في "الأوسط" و"الكبير".
2- قوله: "إذا ولغ" قال الإمام النووي في "المنهاج" 3/184. "قال أهل اللغة: يقال: ولغ الكلب في الإناء , يَلَغُ: بفتح اللام فيهما, ولوغا: إذا شرب بطرف لسانه". اهـ.
3- رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 33- باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان: حديث رقم 172. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 27- باب حكم ولوغ الكلب: حديث رقم 89, 90, 91, 92.
1- سبق تخريجه.(1/13)
بالدمشقي, وإن طبخ في الماء ما ليس بطهور وكذلك ما خالطه فغلب على اسمه أو استعمل في رفع حدث سلب طهوريته, وإذا شك في طهارة الماء أو غيره ونجاسته بني على اليقين وإن خفي موضع النجاسة من الثوب أو غيره غسل ما يتيقن به غسلها, وإن اشتبه ماء طاهر بنجس ولم يجد غيرهما تيمم وتركهما, وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من كل واحد منهما, وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة. وتغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعا إحداهن
ـــــــ
بالأيدي وهما خمسمائة رطل بالعراقي. وعنه أربعمائة رطل لأنه يروى عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئا. فالاحتياط أن يجعل الشيء نصفا فيكونان خمس قرب كل قربة مائة رطل وهو تقريب لا تحديد في الأصح, لأن القربة إنما جعلت مائة رطل تقريبا والشيء إنما جعل نصفا احتياطا, فإنه يستعمل بما دون النصف وهذا لا تحديد فيه. وفيه قول آخر أنه تحديد لأن ما وجب بالاحتياط صار فرضا كغسل جزء من الرأس. وفائدة هذا إذا نقص الرطل أو الرطلان إذا قلنا أنه تقريب لا ينجس الماء, وإن قلنا إنه تحديد نجس.
مسألة: "وإن طبخ في الماء ما ليس بطهور" سلب طهوريته إجماعا. "وكذلك ما خالطه فغلب على اسمه" فصار حبرا أو صبغا "أو استعمل في رفع حدث سلب طهوريته" أيضا لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء أشبه ما لو تغير بزعفران. وعنه لا يسلب طهوريته لأنه استعمال لم يغير الماء أشبه ما لو تبرد بت.
مسألة: "وإذا شك في طهارة الماء أو غيره ونجاسته بنا على اليقين" لأنه الأصل.
مسألة: "وإن خفي موضع النجاسة من الثوب أو غيره غسل ما يتيقن به غسلها" يعني يغسل حتى يتيقن أن الغسل قد أتى على النجاسة كمن تنجست إحدى كميه لا يعلم أيهما غسل الكمين أو تيقن أن الثوب قد وقعت عليه نجاسة لا يعلم موضعها غسل جميع الثوب لتحصل الطهارة بيقين.
مسألة: "وإن اشتبه ماء طاهر بنجس ولم يجد غيرهما تيمم وتركهما" .
مسألة: "وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من كل واحد منهما" وصلى صلاة واحدة لأنه إذا فعل ذلك حصلت له الطهارة بيقين.
مسألة: "وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة" لأنه أمكنه تأدية فرضه بيقين من غير مشقة تلزمه كما لو اشتبه المطلق بالمستعمل.
مسألة: "وتغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعا إحداهن بالتراب" لقوله عليه السلام:(1/14)
بالتراب ويجزئ في سائر النجاسات ثلاث منقية وإن كانت النجاسة على الأرض فصبة واحدة تذهب بعينها لقوله صلى الله عليه وسلم: "صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء" . ويجزئ في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام النضح وكذلك المذي ويعفى عن يسيره
ـــــــ
"إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب". متفق عليه.1 فنقيس عليه نجاسة الخنزير
مسألة: "ويجزئ في سائر النجاسات ثلاث منقية" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده" 2. علل بوهم النجاسة ولا يزيل وهم النجاسة إلا ما يزيل حقيقتها وقال عليه السلام: "إنما يجزئ أحدكم إذا ذهب إلى الغائط ثلاثة أحجار منقية" 3. فإذا أجزأت ثلاثة أحجار في الاستجمار فالماء أولى لأنه أبلغ في الانقاء, وعنه سبع مرات في غير نجاسة الكلب والخنزير قياسا عليها وعنه مرة قياسا على النجاسة على الأرض.
مسألة: "وإن كانت النجاسة على الأرض فصبة واحدة تذهب بعينها لقوله صلى الله عليه وسلم: "صبوا على بول الأعرابي4 ذنوبا5 من ماء" , وفي رواية: "سجلا6 من ماء" 7.
مسألة: "ويجزئ في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام النضح" وهو أن يغمره بالماء وإن لم يزل عينه لما روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه في حجره فبال على ثوبه: فدعا بماء فنضحه ولم يغسله. متفق عليه8.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 26- باب الاستجمار وترا: حديث رقم: 162. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 26 – باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا: حديث رقم 87, 88.
3 - رواه الدارمي بنحوه في: - كتاب الوضوء: 10- باب الاستطابة: حديث رقم 1.
4 - قوله: الأعرابي قال: ابن الأثير في النهاية 3/202: الأعراب: ساكنوا البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار, ولا يدخلونها إلا لحاجة. اهـ.
5 - قوله: ذنوبا قال الحافظ في فتح الباري 1/387: قال الخليل: الدلو ملأى ماء. وقال ابن فارس: الدلو العظيمة. وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من المليء , ولايقال لها وهي فارغة ذنوب. اهـ.
6 - قوله: سجلا قال ابن الأثير في النهاية 2/344: السجل: الدلو الملأى ماء. ويجمع على سجال.
7 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 8- باب صب الماء على البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد: حديث رقم: 98, 99, 100.
8 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 59- باب بول الصبيان: حديث رقم 223. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 31_ باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله: حديث رقم 104.(1/15)
ويسير الدم وما تولد منه من القيح والصديد ونحوه, وحد اليسير هو ما لا يفحش في النفس ومني الآدمي وبول ما يؤكل لحمه طاهر.
ـــــــ
مسألة: "وكذلك المذي" وفي كيفية تطهيره روايتان:
إحداهما يجزئ نضحه لما روى سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء فقلت: يا رسول الله فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ قال: "يكفيك أن تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه". قال الترمذي: حديث صحيح1. والثانية: يجب غسله لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بغسل الذكر منه2 ولأنه نجاسة من كبير أشبه البول. وعنه أنه كالمني لأنه خارج بسبب الشهوة أشبه المني ويعفى عن يسيره لأنه يشق التحرز منه لكونه يخرج من غير اختيار.
مسألة: "ويعفى عن يسير الدم" في غير المائعات "وما تولد منه من القيح والصديد" لأنه لا يمكن التحرز منه فإن الغالب أن الإنسان لا يخلو من حكة أو بثرة. وروي عن جماعة من الصحابة الصلاة مع الدم ولم يعرف لهم مخالف. "وحد اليسير هو ما لا يفحش في النفس" لقول ابن عباس: قال الخلال: الذي استقر عليه قوله: إن الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه.
مسألة: "ومني الآدمي" طاهر لأن عائشة رضي الله عنها كانت تفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. متفق عليه3. ولأنه بدء خلق الآدمي أشبه الطين. وعنه أنه نجس ويعفى عن يسيره كالدم لأن عائشة رضي الله عنها كانت تغسله من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح4. وعنه لا يعفى عن يسيره لأنه يمكن التحرز منه.
مسألة: "وبول ما يؤكل لحمه طاهر" لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال
ـــــــ
1 - رواه البخاري في أبواب الطهارة: 84- باب ما جاء في المذي يصيب الثوب: حديث رقم 115. وأبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 82- باب المذي: حديث رقم 210. وابن ماجه في: 1- كتاب الطهارة: 70- باب الوضوء من المذي: حديث رقم 507. وأحمد في المسند 3/485.
2 - رواه البخاري في: 5- كتاب الغسل: 13- باب غسل المذي والوضوء منه: حديث رقم 269. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 4- باب المذي: حديث رقم 17.
3 - رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة 32-باب حكم المني: حديث حديث رقم 106,105. وأبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 85- باب ما جاء في المني يصيب الثوب: حديث رقم 116. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
4 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 64- باب غسل المني وفركه: حديث رقم 229. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 32- باب حكم المني: حديث رقم 108.(1/16)
باب الآنية
لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا غيرها, لما روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" . وحكم المضبب بهما حكمهما إلا أن تكون الضبة يسيرة.
ـــــــ
إبل الصدقة وألبانها ولو كان نجسا ما أمرهم به متفق عليه1. وقال عليه السلام: "صلوا في مرابض الغنم" ولا تخلو من أبعارها ولم يكن لهم مصليات فدل على طهارته. قال الترمذي: حديث حسن2 فإن قيل: إنما أذن في شرب أبوال الإبل للتداوي قلنا: لا يصح ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء" . ورواه أحمد في كتاب الأشربة وفي لفظ رواه ابن أبي الدنيا في ذم المسكر: "إن الله لم يجعل في حرام شفاء" وعنه أنه نجس لأنه رجيع من حيوان أشبه بول ما لا يؤكل لحمه, وحكم الروث والمني حكم البول قياسا عليه.
باب الآنيية
مسألة: "لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا غيرها لما روى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة3" . وقال عليه السلام: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر4 في بطنه نار جهنم" . متفق عليهما5. توعد عليه بالنار فدل على تحريمه, ولأن
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: - كتاب الوضوء: 66- باب أبوال الإبل والدواب: حديث رقم 97. ومسلم في: 28- كتاب القسامة: 2- باب حكم المحاربين المرتدين: حديث رقم 9, 10, 11.
2 - رواه مسلم في: 3- كتاب الحيض: 25- باب الوضوء من لحوم الإبل: حديث رقم 184. والترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 142- باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم: حديث رقم 384. وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه في: 4- كتاب المساجد والجماعات: 12- باب: الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم: حديث رقم 768, 769.
3 - رواه البخاري في: 74- كتاب الأشربة: 28- باب آنية الفضة: حديث رقم 4.
4 - قوله: يجرجر, قال الحافظ في فتح الباري 10/99: بضم التحتانية, وفتح الجيم, وسكون الراء, ثم جيم مكسورة, ثم راء: من الجرجرة, وهو صوت يردده البعير في حنجرته إذا هاج, نحو صوت اللجام في فك الفرس. اهـ.
5 - رواه البخاري في: 74- كتاب الأشربة: 28- باب آنية الفضة: حديث رقم 5634. ومسلم في: 37- كتاب اللباس والزينة: 1- باب تحريم استعمال أواني الذهب والفضة: رقم 2,1.(1/17)
من الفضة ويجوز استعمال سائر الآنية الطاهرة واتخاذها واستعمال أواني أهل
ـــــــ
فيه سرفا وخيلاء وكسر قلوب الفقراء.
مسألة: "وحكم المضبب بهما حكمهما" لأنه إذا استعمله فقد استعملهما "إلا أن تكون الضبة يسيرة من الفضة", كتشعب القدح فلا بأس بها إذا لم يباشرها بالاستعمال لما روي أن قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة. رواه البخاري.1 واشترط أبو الخطاب أن يكون لحاجة لأن الرخصة وردت في شعب القدح وهو لحاجة, وقال القاضي: يباح من غير حاجة لأنه يسير.
مسألة: "ويجوز استعمال سائر الآنية الطاهرة واتخاذها" ولو كانت ثمينة مثل الياقوت والبلور والعقيق, وغير ثمينة كالخزف والخشب والصفر والجلود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من تور من صفر2 وتور من حجارة3 ومن قربة4 وإداوة5 واغتسل من جفنة -روى البخاري من تور الصفر- وإنما جاز استعمال الثمين لأنه ليس فيه كسر قلوب الفقراء لأنه لا يعرفه إلا خواص الناس.
مسألة: "ويجوز استعمال أواني أهل الكتاب وثيابهم ما لم تعلم نجاستها" .
وهم قسمان: من لا يستحل الميتة كاليهود فأوانيهم طاهرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة. أخرجه الإمام أحمد رحمه الله في الزهد وتوضأ عمر رضي الله عنه من جرة نصرانية. والثاني: من يستحل الميتات كعباد الأصنام والمجوس وبعض النصارى فما لم يستعملوه من آنيتهم فهو طاهر, وما استعملوه فهو نجس لما روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: "لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها" 6. متفق عليه. وما شك في استعماله فهو
ـــــــ
1 -رواه البخاري في: 74- كتاب الأشربة: 30- باب الشرب من قدح النبي وآنيته: حديث رقم 5638.
2 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 45- باب الغسل والوضوء في صلاة الليل وقيامه: حديث رقم 197.
3 - رواه أحمد في المسند 6/379.
4 - رواه مسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين وقصرها: 26- باب الدعاء في صلاة وقيامه: حديث رقم 192.
5 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 48- باب المسح على الخفين: حديث رقم 203.
6 - رواه البخاري في: 72- كتاب الذبائح والصيد بالكلاب المعلمة: حديث رقم 8.(1/18)
الكتاب وثيابهم ما لم تعلم نجاستها, وصوف الميتة وشعرها طاهر وكل جلد ميتة
ـــــــ
طاهر؛ لأن الأصل طهارته. وذكر أبو الخطاب أن أواني الكفار طاهرة كذلك وفي كراهية استعمالها روايتان إحداهما: يكره لهذا الحديث. والثانية: لا يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل فيها فأما ثيابهم فما لم يلبسوا أو علا من ثيابهم كالعمامة والطيلسان فهو طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون ثيابا من نسج الكفار, وما لاقى عوراتهم فقال الإمام أحمد رضي الله عنه: أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيها, فيحتمل وجوب الإعادة وهو قول القاضي لأنهم يتعبدون بالنجاسة، ويحتمل أن لا يجب وهو قول أبي الخطاب لأن الأصل الطهارة فلا تزول عنها بالشك. وعنه أن من لا تحل ذبيحتهم لا يستعمل ما استعملوه من آنيتهم إلا بعد غسلها لحديث أبي ثعلبة؛ لأنه يدل على غسل آنية من لا تحل ذبيحته لكونه أمر بغسل آنية أهل الكتاب وإن كانت ذبائحهم حلالا.
مسألة: "وصوف الميتة وشعرها طاهر" لأنه لا روح فيه ولا يحله الموت فلا ينجس بالموت كالبيض إذا كان في الدجاجة ودليل أنه لا روح فيه أنه لا يحس ولا يألم ولأنه لو انفصل حال الحياة كان طاهرا ولو كانت فيه حياة لتنجس بذلك لقوله عليه السلام: " ما أبين من حي فهو ميت" . رواه الترمذي بمعناه وقال: حديث حسن غريب1. والنمو لا يدل على الحياة بدليل الحشيش والبيض.
مسألة: "وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس" لما روى أحمد في مسنده بإسناده عن عبد الله بن عكيم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى جهينة: "كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا أتاكم كتابي هذا فلا تنتفعوا منها بإهاب ولا عصب" . قال الإمام أحمد إسناده جيد يرويه يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى2, قال الترمذي: سمعت أحمد بن الحسن يقول: كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر فيه قبل وفاته بشهرين وكان يقول: هذا آخر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ترك أحمد هذا الحديث لما اضطربوا في إسناده حيث روى بعضهم فقال: عن عبد الله بن عكيم عن أشياخ من جهينة. ولأنه جزء من الميتة فلم يطهر بالدباغ كاللحم. وعنه يطهر منها جلد ما كان طاهرا حال الحياة لأن النبي صلى الله عليه وسلم وجد شاة ميتة فقال: "هلا انتفعتم بجلدها" قالوا: إنها ميتة. قال: "إنما حرم أكلها" . وفي لفظ: "ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به" . رواه مسلم3. وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"4.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي: 16- كتاب الصيد: 12- باب ما قطع من الحي فهو ميت: حديث رقم 1480.
2 - رواه أحمد في: المسند 4/310 و 311.
3 - رواه مسلم في: 3- كتاب الحيض: باب طهارة جلود الميتة بالدباغ: حديث رقم 105.
4 - رواه مسلم في: 3- كتاب الحيض: 27- باب طهارة جلود الميتة بالدباغ: حديث رقم 105.(1/19)
دبغ أو لم يدبغ فهو نجس وكذلك عظامها وكل ميتة نجسة إلا الآدمي, وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هوالطهور ماؤه الحل ميتته" . وما لا نفس له سائله إذا لم يكن متولدا من النجاسات.
ـــــــ
مسألة: "وكذلك عظامها" لأن ذلك من أجزائها فيدخل في عموم قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} .
مسألة: "وكل ميتة نجسة" لقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} 1 "إلا الآدمي" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس" . متفق عليه2. ولم يفرق بين الحياة والموت ولأنه لو نجس بالموت لم يجب غسله لأنه يكون تكثيرا للنجاسة, وعنه ما يدل على نجاسته بالموت لأنه حيوان له نفس سائلة أشبه سائر الحيوانات.
مسألة: "وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه" طاهر إذا مات حلال الأكل لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". قال الترمذي: حديث حسن صحيح3. وقال الله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} 4. وحل الأكل يدل على الطهارة لأن النجس لا يحل أكله.
مسألة: "وما لا نفس له سائله" إذا مات فهو طاهر "إذا لم يكن متولدا من النجاسات" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله -أي يغمسه- ثلاث مرات ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء وأنه يتقي بالذي فيه الداء" 5. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ولولا أنه طاهر بعد موته لما أمر بمقله ثلاثا: لأن الظاهر أنه يموت بذلك فيتنجس الطعام فيكون أمرا بإفساده ولأنه لا نفس له سائلة أشبه دود الخل فإنه لا ينجس المائع الذي تولد منه إجماعا, وأما ما تولد من النجاسات فينجس لأن أصله نجس.
ـــــــ
1 - آية 3 سورة المائدة.
2 - رواه البخاري في: 5- كتاب الغسل: 23- باب عرق الجنب: حديث رقم 283. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 29- باب الدليل على أن المسلم لا ينجس: حديث رقم 117,116.
3 -رواه الترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 52- باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور: حديث رقم 69.
4 - آية 96 سورة المائدة.
5 - رواه البخاري في: 76- كتاب الطب: 58- إذا وقع الذباب في الإناء: حديث رقم 5782.(1/20)
باب قضاء الحاجة.
يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول: بسم الله أعوذ بالله من الخبث
ـــــــ
باب قضاء الحاجة
مسألة: "يستحب لمن أراد دخول الخلاء أن يقول: بسم الله" لما روي عن علي رضي الله(1/20)
والخبائث, ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم. وإذا خرج قال: "غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج, ولا يدخله بشئ فيه ذكر الله تعالى إلا من حاجة, ويعتمد في جلوسه على
ـــــــ
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله" . رواه ابن ماجه1, ويقول أيضا ما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" . متفق عليه2, ويقول ما روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يعجز أحدكم أن يقول إذا دخل مرفقه: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم" . رواه ابن ماجه3. قال أبو عبيد: الخبث بسكون الباء: الشر, والخبائث وقيل: الخبث بضم الباء والخبائث: ذكور الشياطين وإناثهم.
مسألة: "وإذا خرج قال: غفرانك الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك". رواه أبو داود والترمذي4, ولما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يقول ذلك إذا خرج, أخرجه ابن ماجه5.
مسألة: "ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج" لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه
مسألة: "ولا يدخله بشيء فيه اسم الله تعالى إلا من حاجة" تنزيها له وقد روى أنس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه" . رواه أبو داود وقال: هذا حديث منكر6. وقيل إنما وضع خاتمه لأن فيه: محمد رسول الله فإن أدار في فصه إلى باطن كفه فلا بأس, فإن احتاج إلى ذلك دخل به وستره لأنها حالة ضرورة.
مسألة: "ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى" لأنه أسهل لخروج الخارج وروى
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: 1- كتاب الطهارة: 9- باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء: حديث رقم 297.
2 - رواه البخاري في: كتاب الوضوء: 9- كتاب ما يقول عند الخلاء: حديث رقم 122.
3 - رواه ابن ماجه في: 1- كتاب الطهارة: 9- باب ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء: حديث رقم: 299, قال في الزوائد: إسناده ضعيف. وقال ابن حبان: موضوع.
4 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 17- باب ما يقول الرجل إذا خرج من الخلاء: حديث رقم 30. والترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 5- باب ما يقول إذا خرج من الخلاء: حديث رقم 7. وقال حسن غريب.
5 - رواه ابن ماجه في: 1- باب ما يقول إذا خرج من الخلاء: حديث رقم 300.
6 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 10 باب الخاتم يكون فيه ذكر الله يدخل به الخلاء: حديث رقم 19.(1/21)
رجله اليسرى وإن كان في الفضاء أبعد واستتر ويرتاد لبوله موضعا رخوا ولا يبول في ثقب ولا شق ولا طريق ولا ظل نافع ولا تحت شجرة مثمرة ولا يستقبل
ـــــــ
سراقة بن مالك قال: علمنا رسول صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى. رواه الطبراني في معجمه1.
مسألة: "وإن كان في الفضاء أبعد واستتر" لما روى المغيرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب أبعد رواه أبو داود2. وعن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد الخلاء - يعني البراز - انطلق حتى لا يراه أحد رواه أبو داود3 وفي مسلم عن المغيرة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأتى حاجته فأبعد في المذهب حتى توارى عني4 ويستتر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره" , وفي حديث: خرج ومعه درقة فاستتر بها ثم بال رواهما أبو داود5.
مسألة: "ويرتاد لبوله موضعا رخوا" لكيلا يترشش عليه منه. قال أبو موسى: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يبول فأتى دمثا6 في أصل جدار فبال ثم قال: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله" رواه أبو داود7.
مسألة: "ولا يبول في ثقب ولا شق" لما روى أبو داود عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الجحر قيل لقتادة: وما يكره من البول في الجحر؟ قال: يقال إنها مساكن الجن8 ولا يؤمن أن يخرج منه حيوان فيلسعه, أو يكون مسكنا للجن فيؤذيهم بذلك فيؤذونه.
مسألة: "ولا يبول في طريق ولا ظل نافع ولا تحت شجرة مثمرة" لأنه يؤذي الناس بذلك وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا اللاعنين", قالوا: وما اللاعنان؟ قال: "الذي يتخلى في
ـــــــ
1 -أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/206, وعزاه إلى الطبراني في الكبير, وقال: فيه رجل لم يسم. اهـ.
2 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 1- باب التخلي عند قضاء الحاجة: حديث رقم 1.
3 - المصدر عاليه: حديث رقم2.
4 - رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة 22- باب المسح على الخفين: حديث رقم 77.
5 -رواهما أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 18- باب الاستتار في الخلاء: حديث رقم 35. والثاني في: 11-باب الاستبراء من البول: حديث رقم 22.
6 - قوله: دمثا قال في النهاية 2/132: أصله من الدمث, وهو الأرض السهلة الرخوة, والرمل الذي ليس بمتبلد, يقال: دَمِث المكان دِمَثا: إذا لان وسهل. فهو دَمِث, ودَمْث. اهـ.
7 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 2- باب الرجل يتبوأ لبوله: حديث رقم 3.
8 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 16- باب النهي عن البول في الحجر: حديث رقم 29.(1/22)
شمسا ولا قمرا, ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها" ويجوز ذلك في البنيان وإذا انقطع البول مسح
ـــــــ
طريق الناس أو في ظلهم" أخرجه مسلم1.
مسألة: "ولا يستقبل شمسا ولا قمرا" تكريما لهما, "ولا يستقبل القبلة" في الفضاء؛ لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره شرقوا أو غربوا" . قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا فيها مراحيض قد بنيت نحو القبلة فننحرف عنها ونستغفر الله عز وجل متفق عليه2. ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلس أحدكم إلى حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها3" .
مسألة: وفي استدبارها في الفضاء روايتان: إحداهما لا يجوز للخبر والأخرى يجوز لما روى ابن عمر قال: رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة متفق عليه4.
مسألة: وفي استقبالها في البنيان روايتان: إحداهما لا يجوز لعموم النهي والأخرى يجوز لما روى عراك عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم قال: "أقد فعلوها؟ استقبلوا بمقعدي القبلة". قال الإمام أحمد: أحسن ما روي في الرخصة حديث عائشة وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن وسماه مرسلا؛ لأن عراكا لم يسمع من عائشة. وعن مروان الأصغر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس فبال إليها. فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: إنما نهي عنه في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس. رواه أبو داود5.
مسألة: "واذا انقطع البول مسح من أصل ذكره إلى رأسه ثم ينتره ثلاثا" ليخرج ما قرب من رأس الذكر ولا يخرج بعد الاستنجاء.
مسألة: "ولا يمس ذكره بيمينه ولا يستجمر بها" لما روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 20- باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال: حديث رقم 68.
2 - رواه البخاري في: 8- كتاب الصلاة: 29- باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام: حديث رقم 394. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 17- باب الاستطابة: حديث رقم 59.
3 -رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 17- باب الاستطابة: حديث رقم 60.
4 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 14- باب التبرز في البيوت: حديث رقم 148. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة 17- باب الاستطابة: حديث رقم 61, 62.
5 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 4- باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة: حديث رقم 11.(1/23)
من أصل ذكره إلى رأسه ثم ينتره ثلاثا ولا يمس ذكره بيمينه ولا يستجمر بها ثم يستجمر وترا ثم يستنجي بالماء فإن اقتصر على الاستجمار أجزأه, وإنما يجزئ
ـــــــ
قال: "لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه ولا يتمسح من الخلاء بيمينه" متفق عليه1. وقالت عائشة: كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى للخلاء وما سواه من أذى أخرجه أبو داود2.
مسألة: "ثم يستجمر وترا" لقوله عليه السلام: "من استجمر فليوتر" متفق عليه3. ولأبي داود: "من استجمر فليوتر" من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج4.
مسألة: "ثم يستنجي بالماء" لأن عائشة قالت: مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول فإني أستحيهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله. قال الترمذي: حديث صحيح5.
مسألة: "فإن اقتصر على الاستجمار أجزأه" إذا أنقى وأكمل العدد لقوله عليه السلام: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه" رواه أبو داود6.
مسألة: "وإنما يجزئ الاستجمار إذا لم يتعد الخارج موضع الحاجة" مثل أن يتعدى إلى الصفحتين ومعظم الحشفة فلا يجزئ إلا الماء لأن ذلك نادر فلم يجزئ فيه المسح كيده.
مسألة: "ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات منقية" إما بحجر ذي شعب ثلاث أو بثلاثه أحجار لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بثلاثة أحجار وقال: "فإنها تجزئ عنه" أخرجه أبو داود7 وقال: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار" رواه مسلم8. فإن لم ينق بثلاث مسحات زاد حتى ينقي والإنقاء أن يخرج الأخير ليس عليه بلة.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 4- كتاب الطهارة: 18- باب النهي عن الاستنجاء باليمين: حديث رقم 153. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 18- باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار: حديث رقم 22.
2 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 17- باب كراهية مس الذكر باليمين في الاستبراء: حديث رقم 33.
3 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 25- باب الاستنثار في الوضوء: حديث رقم 161. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 8- باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار: حديث رقم 22.
4 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 18- باب الاستتار في الخلاء: حديث رقم 35.
5 - رواه الترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 15- باب ما جاء في الاستنجاء بالماء: حديث رقم 19.
6 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 20- باب الاستنجاء بالحجارة: حديث رقم 40.
7 - انظر تخريج الحديث عاليه.
8 - رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 17- باب الاستطابة: حديث رقم 57.(1/24)
الاستجمار إذا لم يتعد الخارج موضع الحاجة ولا يجزئ أقل من ثلاث محات منقية ويجوز الاستجمار بكل طاهر ويكون منقيا إلا الروث والعظام وما له حرمة.
ـــــــ
مسألة: "ويجوز الاستجمار بكل طاهر" لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألقى الروثة وقال: "إنها ركس" رواه البخاري1.
مسألة: "ويكون منقيا" لأنه المقصود من الاستجمار فلا يجزئ الزجاج والفحم الرخو لأنه لا ينقي
مسألة: "إلا الروث والعظام" لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن" رواه الترمذي2.
مسألة: "وما له حرمة" يعني لا يستنجي بما له حرمة كالطعام لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاستجمار بالروث والرمة وعلل ذلك بكونه زاد إخواننا من الجن أن لا نفسده عليهم فزادنا أولى أن لا يجوز الاستجمار به فإن حرمة بني آدم أعظم فحرمة زادهم أكثر, وكذلك الورق المكتوب وما يتصل بحيوان كيده وذنبه وصوفه المتصل به لأن له حرمة أشبه الطعام
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 21- باب لا يستنجي بروث: حديث رقم 156.
2 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 19- باب ما ينهى عنه أن يستنجى به: حديث رقم 39. والترمذي في: 1- أبواب الطهارة: 14- باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به: حديث رقم 18.(1/25)
باب الوضوء.
لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ثم يقول: بسم الله
ـــــــ
باب الوضوء
مسألة: "لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا أن ينويه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" . متفق عليه من حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه1.
مسألة: "ثم يقول: بسم الله" وهي سنة وليست واجبة لما روى سعيد في سننه عن مكحول أنه قال: إذا تطهر الرجل وذكر اسم الله تعالى طهر جسده كله وإذا لم يذكر اسم الله
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 1- كتاب بدء الوحي: 1- باب كيف كان بدء الوحي: حديث رقم 1. ومسلم في: 33- كتاب الإمارة: 45- باب قوله صلى الله عليه: "إنما الأعمال بالنية": حديث رقم 155.(1/25)
يغسل كفيه ثلاثا ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا يجمع بينها بغرفة واحدة أو ثلاث ثم
ـــــــ
حين يتوضأ لم يطهر فيه إلا مكان الوضوء ونحوه عن الحسن بن عمار ولأن الوضوء عبادة فلا تجب فيه التسمية كسائر العبادات أو طهارة فلا تجب فيها التسمية كالطهارة من النجاسة, وعنه أنها واجبة مع الذكر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" . رواه أبو داود والترمذي1 إلا أن الإمام أحمد رضي الله عنه قال: ليس يثبت في هذا حديث ولا أعلم فيه حديثا له إسناد جيد.
مسألة: "ويغسل كفيه ثلاثا" وذلك سنة لأن عثمان وصف وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات" متفق عليه2. ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء.
مسألة: "ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا يجمع بينها بغرفة واحدة أو ثلاث" لما روى عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات. متفق عليه3. وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات. متفق عليه وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنثر ثلاثا ثلاثا من غرفة واحدة4, وإن أفرد لك عضو ثلاث غرفات جاز لأن الكيفية في الغسل غير واجبة.
والمضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين الصغرى والكبرى؛ لأن غسل الوجه فيهما واجب بغير خلاف وهما من الوجه ظاهرا يفطر الصائم بوصول القيء إليهما إذا استدعاه ولا يفطر بوضع الطعام فيهما ولا يحد بوضع الخمر فيهما, ولا تنشر حرمة الرضاع بوصول اللبن إليهما ويجب غسلهما من النجاسة وهذه أحكام الظاهر ولو كانا باطنين لانعكست هذه الأحكام.
وعنه أن الاستنشاق وحده واجب لأن فيه أحاديث صحاحا تخصه منها قوله عليه السلام: "من توضأ فليستنثر" وفي رواية لأبي داود: "فليجعل في أنفه ماء ثم ليستنثر" متفق
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في 1- كتاب الطهارة: 47- باب التسمية عند الوضوء: حديث رقم 101, 102. والترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 20- باب ما جاء في التسمية عند الوضوء: حديث رقم 101, 102. والترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 20- باب ما جاء في التسمية عند الوضوء: حديث رقم 25, 26. وقال الشيخ شاكر في شرح سنن الترمذي 1/38: إسناده جيد. اهـ.
2 -رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء ثلاثا ثلاثا: حديث رقم 159. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 3- باب صفة الوضوء وكماله: حديث رقم 3, 4.
3 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 39- باب غسل الرجلين إلى الكعبين: حديث رقم 186. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 7- باب في وضوء النبي: حديث رقم 18.
4 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 41- باب من مضمض واستنشق من غرفة واحدة: حديث رقم 191.(1/26)
يغسل وجهه ثلاثا من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ويخلل لحيته إن كانت كثيفة وإن كانت تصف البشرة لزمه
ـــــــ
عليهما1 ولمسلم: "من توضأ فليستنشق" 2 وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا" 3 وهذا أمر يقتضي الوجوب.
وعنه أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى لأن الكبرى يجب فيها غسل كل ما أمكن غسله من الجسد كبواطن الشعور الكثيفة ولم يمسح فيها على الحوائل فوجبا فيها بخلاف الصغرى.
مسألة: "ثم يغسل وجهه ثلاثا من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا" لما روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا قال الترمذي: حديث علي أحسن شئ في هذا الباب وأصح4 وفي رواية ابن ماجه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا وضوء الأنبياء من قبلي" 5. وفي حديث عثمان أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام وركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم في ذنبه" رواه مسلم6. وقوله من منابت شعر الرأس أي في حق غالب الناس ولا يعتبر كل أحد في نفسه بل لو كان أصلع غسل إلى حد منابت الشعر في الغالب والأقرع الذي ينزل شعره في وجهه يغسل منه الذي ينزل عن حد الغالب.
مسألة: "ويخلل لحيته" كالشوارب "إن كانت كثيفة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته "وإن كانت تصف البشرة لزمه غسلها" لأنها إذا كانت تصف البشرة حصلت المواجهة بالبشرة فوجب غسلها وغسل الشعر الذي فيها تبعا لها, وإن كانت لا تصف البشرة حصلت المواجهة بها فأجزأ غسلها عن غسل البشرة.
مسألة: "ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ويدخل المرفقين في الغسل" لقوله
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 25- باب الاستنثار في الوضوء: رقم 161. و: 26- باب الاستجمار وترا: حديث رقم 162. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 8- باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار: حديث رقم 20. وأبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 54- باب في الاستنثار: حديث رقم 140.
2 - رواه مسلم في المصدر عاليه: رقم 21.
3 - ورواه أبو داود في: المصدر السابق: حديث رقم 141.
4 - رواه البخاري في: 1- كتاب الطهارة: 34- باب ما جاء في الوضوء ثلاثا ثلاثا: حديث رقم 44.
5 - رواه ابن ماجه في: 1- كتاب الطهارة وسننها: 47- باب ما جاء في الوضوء: حديث رقم 420. قال في الزوائد: في إسناده زيد, هو العمي، هو ضعيف. وكذا الراوي عنه.
6 - رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 3- باب صفة الوضوء وكماله: حديث رقم 3.(1/27)
غسلها ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ويدخلهما في الغسل ثم يمسح رأسه مع الأذنين يبدأ بيديه من مقدمه ثم يمرهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه, ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ويدخلهما في الغسل ويخلل أصابعهما ثم يرفع نظره إلى
ـــــــ
سبحانه: {وأيديكم إلى المرافق} , ويجب غسل المرفقين لأن جابرا قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه وهذا يصلح بيانا للآية.
مسألة: "ثم يمسح رأسه مع الأذنين" لقوله سبحانه: {وامسحوا برؤوسكم} ,1 وروى عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه" متفق عليه2 والباء في قوله: {برؤوسكم} , للإلصاق فكأنه قال: وامسحوا رءوسكم كقوله: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} . قال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وقوله: "مع الأذنين" أي أنهما من الرأس يمسحان معه لقوله صلى الله عليه وسلم: "والأذنان من الرأس" 3 رواه أبو داود وروت الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه و صدغيه وأذنيه مسحة واحدة رواه الترمذي وصححه4.
مسألة: "ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا" لقوله سبحانه: {وأرجلكم إلى الكعبين} وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم فغسل رجليه متفق عليه5, وفعله مفسر لمجمل الآية ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواما يتوضؤن وأعقابهم تلوح فقال: "ويل للأعقاب من النار" . رواه مسلم6.
مسألة: "ويخلل أصابعهما" لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: "أسبغ الوضوء وخلل الأصابع" وهو حديث صحيح7.
مسألة: "ثم يرفع نظره إلى السماء" إذا فرغ من وضوئه ثم يقول ما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتح الله له أبواب الجنة
ـــــــ
1 - آية 6 سورة المائدة.
2 - سبق تخرجه.
3 -رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 49- باب صفة وضوء النبي: رقم 134.
4 - رواه الترمذي في: 1- أبواب الطهارة: 26- باب ما جاء أن مسح الرأس مرة: حديث رقم 34. وقال: حديث حسن صحيح.
5 -سبق تخريجه في حديث عبد الله بن زيد.
6 -رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 9- باب وجوب غسل الرجلين بكاملهما: حديث رقم 25.
7 - رواه أبو داود في: كتاب الطهارة: 54- باب في الاستنثار: حديث رقم 142.(1/28)
السماء فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والواجب من ذلك النية والغسل مرة مرة ما خلا الكفين ومسح الرأس كله وترتيب الوضوء على ما ذكرنا
ـــــــ
الثمانية يدخل من أيها شاء" رواه مسلم1.
مسألة: "والواجب من ذلك النية" وهي شرط لطهارة الأحداث كلها لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" متفق عليه2. ولأنها عبادة فلا تصح بغير نية كالصلاة ولأنها طهارة للصلاة فاعتبرت لها النية كالتيمم.
مسألة: "والغسل مرة مرة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء من لم يتوضأ به لم يقبل الله منه صلاة" ثم توضأ مرتين مرتين وقال: "هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر" ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي" 3. أخرجه ابن ماجه وقوله: "ما خلا الكفين" يعني أن غسلهما غير واجب وقد ذكرنا ذلك في السنن.
مسألة: "ومسح الرأس كله" لحديث عبد الله بن زيد وقد سبق وعنه يجزئ مسح بعضه ونقل عن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه وابن عمر مسح اليافوخ ودليله ما روى المغير بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وكمل المسح على عمامته4؛ ولأن من مسح بعض رأسه يقال مسح برأسه كما يقال مسح برأس اليتيم وقيل رأسه واختلف أصحابنا في قدر البعض المجزئ قال القاضي: قدر الناصية لحديث المغيرة وحكى أبو الخطاب عن أحمد لا يجزئ إلا مسح أكثره لأن الأكثر يطلق عليه اسم الشيء الكامل.
مسألة: "وترتيب الوضوء على ما ذكرنا" لأن الله سبحانه أمر بغسل الأعضاء وذكر فيها أي الأعضاء ما يدل على الترتيب فإنه أدخل ممسوحا بين مغسولين والعرب لا تقطع النظير عن نظيره إلا لفائدة والفائدة ها هنا الترتيب وسيقت الآية لبيان الواجب فيكون واجبا ولهذا لم يذكر فيها شيئا من السنن ولأنه متى اقتضى اللفظ الترتيب كان مأمورا به.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 6- باب الذكر المستحب عقب الوضوء: حديث رقم 17.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه مسلم في: 2- باب المسح على الناصية والعمامة: حديث رقم 81, 83.(1/29)
ولا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. والمسنون التسمية, وغسل الكفين والمبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائما وتخليل اللحية والأصابع,
ـــــــ
والأمر يقتضي الوجوب وكل من حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم حكاه مرتبا وهو مفسر لما في كتاب الله تعالى وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به1" أي بمثله.
مسألة: "ولا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله" وذلك هو الموالاة وفيها روايتان: إحداهما ليست واجبة لأن المأمور به الغسل وقد أتى به والثانية هي واجبة لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى أن رجلا ترك موضع ظفر من قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ارجع فأحسن وضوءك" فرجع ثم صلى رواه ومسلم2. وروى أبو داود والأثرم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة3, وقال الأثرم: ذكر أبو عبد الله إسناد هذا الحديث قلت له: إسناده جيد؟ قال: نعم ولو لم تجب الموالاة أجزأه غسلها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم والى بين الغسل وقوله: ولا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. يعني في الزمان المعتدل, قال ابن عقيل: التفريق المبطل ما يفحش في العادة لأنه لم يحد في الشرع فيرجع فيه إلى العادة كالتفريق والإحراز.
مسألة: "والمسنون التسمية" وقد سبق بيانه "وغسل الكفين" وقد سبق أيضا "والمبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائما" وصفة المبالغة اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف وفي المضمضة وهي إدارة الماء في أقصى الفم وهو مستحب إلا أن يكون صائما لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح4.
مسألة: "وتخليل اللحية والأصابع" وقد سبق "ومسح الأذنين" مستحب أيضا لما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما, قال الترمذي: حديث صحيح5.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 -رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 10- باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة: حديث رقم 31.
3 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 66- باب تفريق الوضوء: حديث رقم 175.
4 -سبق تخريجه.
5 - رواه الترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 28- باب ما جاء في مسح الأذنين: حديث رقم 36.(1/30)
ومسح الأذنين, وغسل الميامن قبل المياسر, والغسل ثلاثا ثلاثا. وتكره الزيادة عليها والإسراف في الماء ويسن السواك عند تغير الفم وعند القيام من النوم
ـــــــ
مسألة: "وغسل الميامن قبل المياسر" لقول عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله. متفق عليه1. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم" رواه أبو داود و ابن ماجه2, وحكى علي وعثمان رضي الله عنهما وضوء النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ باليمنى قبل اليسرى رواهما أبو داود3.
مسألة: "والغسل ثلاثا ثلاثا" لأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال: "هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي" . أخرجه ابن ماجه4.
مسألة: "وتكره الزيادة عليها" لما في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال: "هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم" أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه5.
مسألة: "ويكره الإسراف في الماء" لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر على سعد وهو يتوضأ فقال: "لا تسرف" قال: يا رسول الله أفي الماء إسراف؟ قال: "نعم وإن كنت على نهر جار" رواه ابن ماجه6.
مسألة: "ويسن السواك" في جميع الأوقات لأن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا دخل بيته بدأ بالسواك" . رواه مسلم7. وروى أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" رواه البخاري عن عائشة تعليقا8. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان كثيرا ما يولع بالسواك.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 31- باب التيمن في الوضوء والغسل: حديث رقم 168. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 19- باب التيمن في الطهور وغيره: حديث رقم 67.
2 -رواه أبو داود في: 41- كتاب اللباس: 42- باب في الانتعال: حديث رقم 4141. وابن ماجه في: 1- كتاب الطهارة: 42- باب التيمن في الوضوء: حديث رقم 402.
3 - رواهما أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 49- باب صفة وضوء النبي: حديث رقم 106, 108, 111.
4 - سبق تخريجه.
5 -رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 50-باب الوضوء ثلاثا ثلاثا: حديث رقم 135. والنسائي في: 1- كتاب الطهارة: 106- باب الاعتداء في الوضوء: حديث رقم 1. وابن ماجه في: 1- كتاب الطهارة: 48- باب ما جاء في القصد في الوضوء: حديث رقم 422.
6 - رواه ابن ماجه في: المصدر عاليه: حديث رقم 425. وقال في الزوائد: إسناده ضعيف.
7 -رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 15- باب السواك: حديث رقم 44.
8 - رواه البخاري في: 30- كتاب الصوم: 27- باب سواك الرطب واليابس للصائم.(1/31)
وعند الصلاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" ويستحب في سائر الأوقات إلا للصائم بعد الزوال.
ـــــــ
مسألة: ويتأكد استحبابه في ثلاثة مواضع: "عند تغير الفم" لأن الأصل استحبابه لإزالة الرائحة. "وعند القيام من النوم" لما روى حذيفة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك متفق عليه1. يعني يغسله يقال: شاصه وماصه إذا غسله وعند الصلاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" متفق عليه2.
مسألة: "ويستحب في سائر الأوقات" لما سبق "إلا للصائم بعد الزوال" فلا يستحب قال ابن عقيل: لا يختلف المذهب أنه لا يستحب للصائم السواك بعد الزوال وهل يكره؟ على روايتين: إحداهما: يكره لأنه يزيل خلوف فم الصائم وهو أطيب عند الله من ريح المسك ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعا فكرهت إزالته كدم الشهيد والثانية: لا يكره لأن عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم قال الترمذي: حديث حسن3.
ـــــــ
1 -رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 73- باب السواك: حديث رقم 245. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 73- باب السواك: حديث رقم 245. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 15- باب السواك: حديث رقم 46.
2 - رواه البخاري في: 11- كتاب الجمعة: 8- باب السواك يوم الجمعة: حديث رقم 887. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 15- باب السواك: حديث رقم 42.
3 - رواه الترمذي في: 6- كتاب الصوم: 29- باب ما جاء في السواك للصائم: حديث رقم 725. رواه البخاري في: 8- كتاب الصلاة: 25- باب الصلاة في الخفاف: حديث رقم 387. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 22- باب المسح على الخفين: حديث رقم 72.(1/32)
باب مسح الخفين
يجوز المسح على الخفين وما أشبههما من الجوارب الصفيقة التي
ـــــــ
باب المسح على الخفين
مسألة: "يجوز المسح على الخفين" من غير خلاف لما روى جرير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه متفق عليه قال إبراهيم: كان يعجبي هذا لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
مسألة: "ويجوز المسح على الجوارب والجراميق" لما روى المغيرة أن رسول الله(1/32)
تثبت في القدمين, والجراميق التي تجاوز الكعبين في الطهارة الصغرى -يوما وليلة للمقيم وثلاثا للمسافر من الحدث إلى مثله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المسافر
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم مسح على الجوربين والنعلين" أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح1. قال أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والجرموق في معنى الخف لأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه أشبه الخف.
مسألة: ويشترط للجورب "أن يكون صفيقا يستر القدم" لأنه إذا كان خفيفا يصف القدم لم يجز المسح عليه لأنه غير ساتر فلم يجز المسح عليه كالخف المخرق.
مسألة: ويشترط "أن يثبت في القدم" بنفسه من غير شد فإن كان يسقط من القدم لسعته أو ثقله لم يجز المسح عليه لأن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يثبت بنفسه, ولأن الأصل في المسح هو الخف وغيره مقيس عليه والخف يثبت بنفسه فما لا يثبت بنفسه لا يلحق به.
مسألة: ويشترط في الجرموق "أن يجاوز الكعبين" لأنهما من محل الفرض فيشترط سترهما كبقية القدم
مسألة: ويختص المسح "بالطهارة الصغرى" دون الكبرى لما روى صفوان بن عسال المرادي قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين -أو سفرا- أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن من غائط وبول ونوم, حديث صحيح2. إلا الجبيرة فإنه يمسح عليها في الكبرى أيضا إلى أن يحلها لحديث صاحب الشجة وسيأتي إن شاء الله.
مسألة: ويمسح المقيم "يوما وليلة وثلاثا للمسافر" لما روى عوف بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم3. قال أحمد: هذا أجود حديث في المسح لأنه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخر فعله. وعن علي رضي الله عنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن. رواه مسلم4.
مسألة: وابتداء مدة المسح من الحدث بعد اللبس إلى مثله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في: 1- أبواب الطهارة: 74- باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين: حديث رقم 99.
2 -رواه الترمذي في: 1- باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم: حديث رقم 96.
3 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 1/259, وعزاه إلى البزار والطبراني في الأوسط, وقال: رجاله رجال الصحيح. اهـ.
4 - رواه مسلم في: 2- كتاب الطهارة: 24- باب التوقيت في المسح على الخفين: حديث رقم 85.(1/33)
ثلاثة أيام ولياليهن والمقيم يوما وليلة ومتى مسح ثم انقضت المدة - أو خلع قبلها - بطلت طهارته ومن مسح مسافرا ثم أقام - أو مقيما ثم سافر - أتم مسح مقيم ويجوز المسح على العمامة إذا كانت ذات ذؤابة ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه ومن شرط المسح على جميع ذلك أن يلبسه على طهارة كاملة
ـــــــ
"يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن والمقيم يوما وليلة" وقوله: يمسح المسافر يعني يستبيح المسح وإنما يستبيحه من حين الحدث ولأنها عبادة موقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة وعنه من المسح بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح ثلاثة أيام فاقتضى أن تكون الثلاثة كلها يمسح فيها.
مسألة: "ومتى مسح ثم انقضت المدة أو خلع قبلها بطلت طهارته" لأن المسح أقيم مقام الغسل فإذا زال بطلت الطهارة في القدمين فبطلت في جميعها؛ لأنها لا تتبعض وعنه يجزيه مسح رأسه وغسل قدميه في ذلك كله لأنه زال بدل غسلهما فأجزأه المبدل كالمتيمم يجد الماء.
مسألة: "ومن مسح مسافرا ثم أقام أتم مسح مقيم " لأنها عبادة يختلف حكمها في الحضر والسفر فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكم الحضر كالصلاة".
مسألة: "وإن مسح مقيما ثم سافر أتم مسح مقيم" كذلك وعنه يتم مسح مسافر لقوله عليه السلام: "يمسح المسافر ثلاثة أيام" وهذا مسافر واختار هذه الرواية أبو بكر عبد العزيز الخلال وقال: رجع أحمد عن قول الأول إلى هذا.
مسألة: "ويجوز المسح على العمامة إذا كانت ذات ذؤابة" لما روى المغيرة قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على الخفين والعمامة, حديث صحيح. وعن عمرو بن أمية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على عمامته وخفيه1 رواهما البخاري ويشترط أن يكون لها ذؤابة أو محنكة لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة, وقد نهي عن التشبه بهم فلم تستبح بها الرخصة كالخف المغصوب وإن كانت ذات حنك ولم يكن لها ذؤابة جاز المسح عليها لأنها تفارق عمائم أهل الذمة.
مسألة: "ويشترط أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه" عفي عنه للحرج
مسألة: "ومن شرط المسح على جميع ذلك أن يلبسه على طهارة كاملة" لما روى المغيرة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأهويت لأنزع خفيه قال: "دعهما فإني
ـــــــ
1 - الأول سبق تخريجه. والثاني رواه البخاري في: كتاب الوضوء: 48- باب المسح على الخفين: حديث رقم 204, 205.(1/34)
ويجوز المسح على الجبيرة إذا لم يتعد بشدها موضع الحاجة إلى أن يحلها والرجل والمرأة في ذلك سواء إلا أن المرأة لا تمسح على العمامة.
ـــــــ
أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما" متفق عليه1.
مسألة: "ويجوز المسح على الجبيرة" لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذي أصابه حجر في رأسه فشجه: "إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعمر -أو يعصب- على جرحه خرقة ويمسح عليها ويغسل سائر جسده". رواه أبو داود2 وعن علي رضي الله عنه قال: انكسرت إحدى زندي فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمسح عليها رواه ابن ماجه3؛ ولأنه ملبوس يشق نزعه أشبه الخف.
مسألة: وفي اشتراط تقدم الطهارة لها روايتان: إحداهما يشترط كالخف فإن لبسها على غير طهارة أو جاوز بها موضع الحاجة وخاف الضرر بنزعها تيمم لها كالجريح, والثانية لا يشترط لأنه مسح أجيز للضرورة فلم يشترط تقدم الطهارة له كالتيمم.
مسألة: "ويشترط أن لا يتجاوز بالشد موضع الحاجة" لأن المسح عليها إنما جاز للضرورة فوجب أن يتقيد الجواز بموضع الضرورة ويمسح عليها "إلى أن يحلها" لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
مسألة: "والرجل والمرأة في ذلك سواء" لأن ذلك ثبت رخصة وما ثبت رخصة استوى فيه الرجل والمرأة كسائر الرخص وهذا في الخف وما في معناه والجبيرة فأما العمامة فلا يجوز المسح عليها للمرأة لأنها إن لبستها لغير حاجة فهي محرمة عليها لتشبهها بالرجال والرخص لا تستباح بالمعصية. وإن احتاجت إلى لبسها فهو نادر لا يفرد بحكم. والله اعلم.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 49- باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان: حديث رقم 206. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 22- باب المسح على الخفين: حديث رقم 79.
2 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 125- باب في المجروح يتيمم: حديث رقم 79.
3 - رواه ابن ماجه في: 1- كتاب الطهارة وسننها: 134- باب المسح على الجبائر: حديث رقم 657. قال في الزوائد: في إسناده عمر ابن خالد, كذبه الإمام أحمد وابن معين. وقال وكيع وأبو زرعة: يضع الحديث.(1/35)
باب نواقض الوضوء
وهي سبعة: الخارج من السبيلين.
والخارج النجس من سائر البدن إذا فحش.
ـــــــ
باب نواقض الوضوء
"وهي سبعة: أحدها: الخارج من السبيلين" قليلا كان أو كثيرا وهو نوعان: معتاد(1/35)
وزوال العقل إلا النوم اليسير جالسا أو قائما
ـــــــ
كالبول والغائط فينقض بغير خلاف قاله ابن عبد البر قال الله سبحانه: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} 1, والثاني: نادر كالدود والشعر والحصى فينقض لقول النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة: "توضئ لكل صلاة" رواه أبو داود2. ودمها غير معتاد ولأنه خارج من السبيلين أشبه المعتاد.
الثاني: خروج النجاسات "من سائر البدن" وذلك نوعان: غائط وبول فينقض قليله وكثيره لدخوله في عموم النص المذكور. والثاني: دم وقيح فينقض كثيره لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "إنه دم عرق فتوضئي لكل صلاة" رواه الترمذي3. علل بكونه دم عرق وهذا كذلك ولأنها نجاسة خارجة من البدن أشبهت الخارج من السبيل ولا ينقض يسيره لقول ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشا فعليه الإعادة. قال أحمد: عدة من الصحابة تكلموا فيه: ابن عمر عصر بثرة فخرج دم فصلى ولم يتوضأ, وابن أبي أوفى عصر دملا وابن عباس قال: إذا كان فاحشا وابن المسيب أدخل أصابعه العشر أنفه فأخرجها ملطخة بالدم وهو في الصلاة ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعا.
الثالث: "زوال العقل" وهو نوعان: أحدهما النوم لقوله عليه السلام: "العينان وكاء 4 السه فمن نام فليتوضأ" 5: لكن من بول وغائط ونوم6, ولأن النوم هو مظنة الحدث فقام مقامه كسائر المظنات ولا يخلو من أربعة أحوال: أحدهما أن يكون مضطجعا على شقه أو متكئا أو مستلقيا أو معتمدا على شيء فينقض قليله للخبر,وعنه في المسند: والمحتبي إذا كثر, فمفهومه أنه لا ينقض اليسير ذكرها القاضي في الوجهين. والثاني: أن يكون جالسا غير معتمد على شيء فلا ينقض قليله لما روى أنس بن مالك: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون العشاء فينامون قعودا ثم يصلون ولا يتوضأون رواه
ـــــــ
1 - آية 6 سورة المائدة.
2 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 111- باب من قال تغتسل من طهر إلى طهر: حديث رقم 297, 298.
3 - رواه الترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 93- باب ما جاء في المستحاضة: حديث رقم 125. وقال: حديث حسن صحيح.
4 - قوله: وكاء السه, الوكاء: هو ما تشد به رأس القربة ونحوها. والسه: من أسماء الدبر.
5 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 79- باب الوضوء من النوم: حديث رقم 203. وابن ماجه في: 1- كتاب الطهارة: 62- باب الوضوء من النوم: حديث رقم 477.
6 - سبق تخريجه.(1/36)
ولمس الذكر بيده
ـــــــ
مسلم1. ولأنه يشق التحرز منه وأكثر وجوده في منتظري الصلاة فعفي عنه, وإن كثر نقض لأنه لا يعلم بالخارج مع استثقاله ويمكن التحرز منه. الثالث القائم فيه روايتان: أولاهما إلحاقه بحالة الجلوس لأنه في معناه والثانية: ينقض يسيره لأنه لا يتحفظ تحفظ الجالس. الرابع: الراكع والساجد فيه روايتان: أولاهما أنه كالمضطجع. والثانية: أنه كالجالس لأنه على حال من أحوال الصلاة أشبه الجالس والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف والعادة. النوع الثاني: زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر فينقض الوضوء لأنه لما نص على النقض بالنوم نبه على نقضه بهذه الأشياء لأنها أبلغ في إزالة العقل ولا فرق بين الجالس وغيره والقليل والكثير لأن صاحب هذه الأمور لا يحس بحال بخلاف النائم فإنه إذا نبه انتبه.
الرابع: "لمس الذكر بيده " وفيه ثلاث روايات إحداهن لا ينقض لما روى قيس بن طلق عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس فرجه وهو في الصلاة قال: "وهل هو إلا بضعة منك". رواه أبو داود2 وصححه الطحاوي وغيره وضعفه الشافعي وأحمد, قال أبو زرعة: قيس لا تقوم به روايته حجة وقيل منسوخ. والثانية: ينقض لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مس ذكره فليتوضأ" . قال أحمد: هو حديث صحيح3, وروى أبو هريرة نحوه وهو متأخر عن حديث طلق لأن في حديث طلق أنه قدم وهم يؤسسون المسجد وأبو هريرة قدم حين فتحت خيبر فيكون ناسخا له, وسواء مسه ببطن الكف أو بظهره ولأن أبا هريرة روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما ستر فليتوضأ" رواه أحمد في مسنده 4332 واليد المطلقة تتناول اليد إلى الكوع لأنه لما قال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4 في حق السارق تناول ذلك لا غير.
مسألة: ولا ينقض اللمس بالذراع لأنه ليس من اليد الرواية الثالثة إن قصد إلى مسه نقض ولا ينقض من غير قصد لأنه لمس فلم ينقض من غير قصد كلمس النساء.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: 3- كتاب الحيض: 33- باب الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء: حديث رقم 125.
2 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 70- باب الرخصة في ذلك: حديث رقم 182.
3 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 69- باب الوضوء من مس الذكر: حديث رقم 181. والترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 61- باب الوضوء من مس الذكر: حديث رقم 82. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأحمد في المسند 2/223, 5/194, 6/406 و407.
4 - آية 38 سورة المائدة.(1/37)
وأن تمس بشرته بشرة أنثى لشهوة والردة عن الإسلام وأكل لحم الجزور لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم توضئوا منها". قيل: أفنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ" . ومن تيقن الطهارة
ـــــــ
الخامس: أن تمس بشرته بشرة أنثى" وفيه ثلاث روايات: إحداهن ينقض بكل حال لقوله سبحانه: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} والثانية: لا ينقض بحال روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل عائشة ثم صلى ولم يتوضأ رواه أبو داود وقال هو مرسل؛ لأنه يرويه إبراهيم النخعي عن عائشة ولم يسمع منها1. وقالت عائشة: فقدت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلت أطلبه فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد رواه مسلم2. ولو بطل وضوؤه لفسدت صلاته. والرواية الثالثة: وهي ظاهر المذهب أنه ينقض إذا كان "لشهوة" ولا ينقض لغير شهوة جمعا بين الآية والخبر ولأن اللمس ليس بحدث إنما هو داع إلى الحدث فاعتبرت الحالة التي يدعو فيها إلى الحدث كالنوم ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة وذات المحرم وغيرها لعموم الدليل فيه.
السادس: "الردة عن الإسلام" وهو أن ينطق بكلمة الكفر أو يعتقدها أو يشك شكا يخرجه عن الإسلام فينتقض وضوؤه لقول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} 3, والطهارة عمل ولأن الردة حدث لقول ابن عباس: الحدث حدثان وأشدهما حدث اللسان فيدخل في عموم قوله عليه السلام: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ". متفق عليه4. ولأنها طهارة عن حدث فأبطلتها الردة كالتيمم.
السابع: "أكل لحم الجزور" لما روى جابر بن سمرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ" قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم توضأ من لحوم الإبل" 5 رواه مسلم. قال أحمد: حديثان صحيحان عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث البراء بن عازب وحديث جابر بن سمرة.
مسألة: "ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 68- باب الوضوء من القبلة: حديث رقم 178.
2 - رواه مسلم في: 4- كتاب الصلاة: 42- باب ما يقال في الركوع والسجود: حديث رقم 221, 222.
3 - آية 65 سورة الزمر.
4 - رواه البخاري في: 4- باب وجوب الطهارة للصلاة بغير طهور: حديث رقم 135. ومسلم في: كتاب الطهارة: 2- باب وجوب الطهارة للصلاة: حديث رقم 2.
5 - رواه مسلم في: 3- كتاب الحيض: 25- باب الوضوء من لحوم الإبل: حديث رقم 97.(1/38)
وشك في الحدث أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو على ما تيقن منهما.
ـــــــ
على ما تيقن منهما" لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه هل خرج منه شيء أم لم يخرج فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" . متفق عليه1؛ ولأن اليقين لا يزول بالشك.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 4- باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن: حديث رقم 137. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 26- باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك: حديث رقم 98, 99.(1/39)
باب الغسل من الجنابة
والموجب له خروج المني وهو الماء الدافق والتقاء الختانين والواجب فيه النية
ـــــــ
باب الغسل من الجنابة
مسألة: "والموجب له خروج المني الدافق" بلذة لأن أم سليم قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إذا رأت الماء" متفق عليه1.
مسألة: "والتقاء الختانين" وهو تغييب الحشفة في الفرج وإن عرى عن الإنزال لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان وجب الغسل". رواه مسلم2. وختان الرجل الجلدة التي تبقى بعد القطع وختان المرأة جلدة في أعلى الفرج يقطع منها في الختان فإذا غابت الحشفة في الفرج تحاذي ختاناهما فيقال التقيا وإن لم يتماسا وغير ذلك مقيس عليه لأنه فرج أشبه قبل المرأة.
مسألة: "والواجب فيه النية وتعميم بدنه بالغسل مع المضمضة والاستنشاق" واعلم أن الغسل ضربان: كمال وإجزاء فالكمال أن يتوضأ للصلاة ثم يغتسل, وقد دل عليه حديث عائشة وميمونة فروت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثلاثا وتوضأ وضوءه للصلاة ثم يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات ثم غسل سائر جسده, وقالت ميمونة: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوء الجنابة فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 3- كتاب العلم: 50- باب الحياء في العلم: حديث رقم 130. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 7- باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها: حديث رقم 32.
2 - رواه مسلم في: 3- كتاب الحيض: 22- باب نسخ الماء من الماء: حديث رقم 88.(1/39)
وتعميم بدنه بالغسل مع المضمضة والاستنشاق وتسن التسمية ويدلك بدنه بيده ويفعل كما روت ميمونة قالت: سترت النبي صلى الله عليه وسلم فاغتسل من الجنابة فبدأ فغسل يديه ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه وما أصابه, ثم ضرب بيده على الحائط والأرض ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء على بدنه, ثم تنحى فغسل رجليه ولا يجب نقض الشعر في غسل الجنابة إذا روى أصوله وإذا نوى بغسله
ـــــــ
شماله فغسل مذاكيره ثم ضرب يده بالأرض -أو الحائط- مرتين أو ثلاثا ثم تمضمض واستنثق وغسل وجهه وذراعيه ثم أفاض الماء على رأسه, ثم غسل سائر جسده فأتيته بالمنديل فلم يردها وجعل ينفض الماء بيديه. متفق عليهما1.
مسألة: وأما صفة الإجزاء فهو أن يعم بدنه بالماء في الغسل وينوي به الغسل والوضوء ويتمضمض ويستنشق لأن ذلك هو المأمور به بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} 2, وقوله: {حَتىَّ تَغْتَسِلُوا} .
مسألة: "وتسن التسمية" لما سبق في الوضوء: "وأن يدلك بدنه بيده" ليصل الماء إلى جميع بدنه
مسألة: "ولا يجب نقض الشعر" لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتىَّ تَغْتَسِلُوا} 3 أوجب الغسل ولم يذكر نقض الشعر ولو كان واجبا لذكره لكن يجب غسله وتروية أصوله لقوله عليه السلام: "تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة" 4.
مسألة: "وإذا نوى بغسله الطهارتين أجزأ عنهما" لأنهما عبادتان من جنس فتدخل الصغرى في الكبرى كالعمرة مع الحج وهو صفة الإجزاء لما سبق وعنه لا يجزئ الغسل عن الوضوء لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك, ولأن الجنابة والحدث وجدا منه فوجبت لهما الطهارتان كما لو كانا متفرقين
ـــــــ
1 - الأول: رواه البخاري في: 1- كتاب الغسل: 15- باب تخليل الشعر: حديث رقم 272. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 9- باب صفة غسل الجنابة: حديث رقم 35. والثاني: رواه البخاري في: 5- كتاب الغسل: 16- باب من توضأ في الجنابة: حديث رقم 274. ومسلم في: المصدر عاليه: حديث رقم 37.
2 - آية 6 سورة المائدة.
3 - سورة النساء.
4 - رواه أبو داود في: كتاب الطهارة: 97- باب الغسل من الجنابة: حديث رقم 248. وقال: فيه الحارث بن وجيه, حديثه منكر وهو ضعيف. والترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 78- باب ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة: حديث رقم 106. وقال: حديث الحارث حديث غريب, وهو شيخ ليس بذاك.(1/40)
الطهارتين أجزأ عنهما وكذلك لو تيمم للحدثين والنجاسة على بدنه أجزأ عن جميعها وإن نوى بعضها فليس له إلا ما نوى بهما وجهه وكفيه.
ـــــــ
مسألة: "وكذلك لو تيمم للحدثين والنجاسة على بدنه أجزأ عن جميعها" لما سبق "وإن نوى بعضها فليس له إلا ما نوى" لقوله عليه السلام: "ليس للمرء من عمله إلا ما نوى" .(1/41)
باب التيمم
وصفته أن يضرب بيديه على الصعيد الطيب ضربة واحدة فيمسح بهما وجهه وكفيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: "إنما كان يكفيك هكذا" وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه, وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جاز وله شروط أربعة:
ـــــــ
باب التيمم
وصفته أن يضرب بيديه على الصعيد الطيب ضربة واحدة فيمسح بهما وجهه وكفيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: "إنما كان يكفيك هكذا" وضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه" متفق عليه1. وقال القاضي: المسنون ضربتان يمسح بإحداهما وجهه وبالأخرى يديه إلى المرفقين. لما روى ابن الصمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" ولنا ما سبق, وأما حديث ابن الصمة ففي الصحيح: "سح وجهه ويديه" فيكون حجة لنا لأن اليد عند إطلاق الشرع تتناول اليد إلى الكوع بدليل قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً} 2, وذكر الضربتين فيه فلم يصح قال أحمد: من قال ضربتين فإنما هو شئ زاده.
مسألة: "وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جاز" لحديث ابن الصمة فإنه دل على جواز التيمم بضربتين وحديث عمار يدل على الإجزاء بضربة ولا تنافي بينهما ولأن الله سبحانه قال: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} , ولم يذكر عددا ومن ضرب ضربتين أو مسح أكثر من اليد فقد وفى بموجب النص.
مسأله: "وله شروط أربعة:
أحدهما: العجز عن استعمال الماء إما لعدمه" لقوله سبحانه: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} , "أو لخوف الضرر من استعماله لمرض أو برد شديد" أو جرح لقوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} , ولحديث عمرو: احتلمت في ليلة باردة فخشيت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت وصليت
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 7- كتاب التيمم: 4- باب المتيمم هل ينفخ فيهما: حديث رقم 338. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 28- باب التيمم: حديث رقم 112.
2 - آية 43 سورة النساء.(1/41)
أحدها: العجز عن استعمال الماء إما لهدمه أو لخوف الضرر من استعماله لمرض أو برد شديد أو لخوف العطش على نفسه أو رفيقه أو بهيمته أو خوف على نفسه أو ماله في طلبه أو تعذر إلا بثمن كثير فإن أمكنه استعماله في بعض بدنه أو وجد ماء لا يكفيه لطهارته استعمله وتيمم للباقي.
والثاني: دخول الوقت فلا يتيمم
ـــــــ
بأصحابي وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم يأمره بالإعادة رواه أبو داود1.
مسألة: "أو لخوف العطش على نفسه" حكاه ابن المنذر إجماعا "أو لخوفه على رفيقه أو بهيمته أو خوف على نفسه أو ماله في طلبه" لأنه خائف الضرر باستعماله فجاز له التيمم لقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" 2.
مسألة: "أو تعذر إلا بثمن كثير" يزيد على ثمن المثل أو لمن يعجز عن أدائه كذلك.
مسألة: "فإن أمكنه استعماله في بعض بدنه" ولم يمكن في بعضه كالمجروح استعمله وتيمم للباقي لأنه خائف على نفسه أشبه المريض.
مسألة: "وإن وجد ماء لا يكفي لزمه استعماله وتيمم للباقي" لقوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" 3. هذا إن كان جنبا وإن كان محدثا فعلى وجهين: أحدهما يلزمه استعماله كالجنب. والثاني: لا يلزمه وهذا مبني على وجوب الموالاة وفيها روايتان فإن قلنا بوجوبها لم يلزمه استعماله لأنه لا يفيد, وإن قلنا إنها غير واجبة لزمه لأنها تفيد رفع الحدث عن بعض بدنه, وأما الجنابة فليس فيها موالاة لأن الأصل عدم الموالاة في الطهارتين؛ لأن الله أمر بالغسل فيها وإنما وجبت في الوضوء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي رأى في قدمه لمعة لم يصبها الماء بإعادة الوضوء والصلاة أخرجه أبو داود4. فبقي غسل الجنابة على.الأصل
الشرط الثاني: "دخول الوقت فلا يجوز التيمم لفرض قبل دخول وقته ولا لنافلة في وقت النهي عنها" لأنه قبل الوقت مستغن عن التيمم فلم يجز تيممه كما لو تيمم وهو واجد
ـــــــ
1- رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 124- باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم: حديث رقم 334.
2- رواه مالك في: 36- كتاب الأقضية: 26- باب القضاء في المرفق: حديث رقم 31. وإسناده منقطع. وابن ماجه في: 13- كتاب الأحكام: 17- باب من بنا في حقه ما يضر بجاره: حديث رقم 2340, 2341. وفيهما ضعف. وأحمد في: المسند 5/327.
3 - رواه البخاري في: 96- كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: 2- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث رقم 7288. ومسلم في: 43- كتاب الفضائل: 37- باب توقيره صلى الله عليه وسلم: حديث رقم 130.
4 - سبق تخريجه.(1/42)
لفريضة قبل وقتها ولا لنافلة في وقت النهي عنها.
الثالث: النية. فإن تيمم لنافلة لم يصل بها فرضا وإن تيمم لفريضة فله فعلها وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها.
الرابع: التراب فلا يتيمم إلا بتراب طاهر له غبار ويبطل التيمم ما يبطل طهارة الماء وخروج الوقت والقدرة على استعمال الماء وإن كان في الصلاة
ـــــــ
الماء ولأن التيمم إنما جاز للحاجة إلى الصلاة وقبل الوقت هو غير محتاج إلى الصلاة وكذلك وقت النهي
الشرط الثالث: "النية" لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات"1 .
مسألة: "فإن تيمم لنافلة لم يصل به فرضا" لأن التيمم لا يرفع الحدث فلا يباح الفرض حتى ينويه لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات"2 .
مسألة: "وإن تيمم لفريضة فله فعلها" لأنه نواها "وله فعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها" لأنها طهارة أباحت فرضا فأباحت سائر ما ذكرناه أشبه الوضوء.
الشرط الرابع: "التراب فلا يتيمم إلا بتراب طاهر" لأن الله سبحانه قال: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} . قال ابن عباس: الصعيد تراب الحرث والطيب: الطاهر ويشترط أن يكون "له غبار" لقوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} . ومن للتبعيض وما لا غبار له لا يمسح بشيء منه.
مسألة: "ويبطل التيمم ما يبطل طهارة الماء" لأنه بدل عنه.
مسألة: "ويبطل بخروج الوقت" لأنها طهارة ضرورة فتقدر بقدر الضرورة, وقدر الضرورة الوقت فتفيد به لأنه وقت الحاجة.
مسألة: "ويبطل بالقدرة على استعمال الماء" : لقوله عليه السلام: "التراب كافيك ما لم تجد الماء فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك" أخرجه أبو داود3.
مسألة: وتبطل طهارته "وإن كان في الصلاة" لأنه لو كان خارج الصلاة لبطلت فكذلك في الصلاة
ـــــــ
1-2- سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 123- باب الجنب يتيمم: حديث رقم 333.(1/43)
باب الحيض
ويمنع عشرة أشياء: فعل الصلاة ووجوبها
ـــــــ
باب الحيض
"ويمنع" الحيض "عشرة أشياء: فعل الصلاة ووجوبها" . لقوله عليه السلام: "إذا(1/43)
وفعل الصيام والطواف وقراءة القرآن ومس المصحف واللبث في المسجد والوطء في الفرج
ـــــــ
أقبلت الحيضة فدعي الصلاة". متفق عليه1. وقالت عائشة رضي الله عنها: كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. متفق عليه2. ولو كانت واجبة لأمر بقضائها.
مسألة: "وفعل الصيام" ولا يسقط وجوبه لحديث عائشة رضي الله عنها وقال صلى الله عليه وسلم: "أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل قلن بلى". رواه البخاري3.
مسألة: "والطواف" بالبيت لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إذا حضت فافعلى ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري" . متفق عليه4.
مسألة: "وقراءة القرآن" لقوله عليه السلام: "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن" . رواه أبو داود5
مسألة: "ومس المصحف" لقوله سبحانه: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} 6.
مسألة: "واللبث في المسجد" لقوله عليه السلام: "لا أحل المسجد لحائض" رواه أبو داود7.
مسألة: "والوطء في الفرج" لقوله سبحانه: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} 8, ولقوله عليه السلام: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" . رواه أبو داود9
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 4- كتاب الوضوء: 63- باب غسل الدم: حديث رقم 228, و: 6- كتاب الحيض: 8- باب الاستحاضة: حديث رقم 306. و: 19- باب إقبال المحيض وإدباره: حديث رقم 320. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 14- باب المستحاضة وغسلها وصلاتها: حديث رقم 62.
2 - رواه البخاري في: 6- كتاب الحيض: 20- باب لا تقضي الحائض الصلاة: حديث رقم 321. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 15- باب وجوب قضاء الصوم على الحائض: حديث رقم 67, 68, 69.
3 - رواه البخاري في: 6- كتاب الحيض: 6- باب ترك الحائض الصوم: حديث رقم 304.
4 - رواه البخاري في: 6- كتاب الحيض: 7- باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت: حديث رقم 305.
5 - رواه الترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 98- باب ما جاء في الجنب والحائض أنهما لا يقرآن شيئا من القرآن: حديث رقم 131.
6 - آية 79 سورة الواقعة.
7 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 92- باب في الجنب يدخل المسجد: حديث رقم 232.
8 - آية 222 سورة البقرة.
9 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 102- في مؤاكلة الحائض ومجامعتها: حديث رقم 258.(1/44)
وسنة الطلاق والاعتداد بالأشهر ويوجب الغسل والبلوغ والاعتداد به فإذا انقطع الدم أبيح فعل الصوم والطلاق ولم يبح سائرها حتى تغتسل ويجوز
ـــــــ
مسألة: "وسنة الطلاق" لأن ابن عمر لما طلق امرأته وهي حائض أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجعة حتى تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك. رواه البخاري.
مسألة: "والاعتداد بالأشهر" لأنها إذا صارت ممن تحيض اعتدت بالحيض لقوله سبحانه: َ { تَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 1.
مسألة: "ويوجب الغسل" لقوله عليه السلام: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" متفق عليه2.
مسألة: "والبلوغ" يعني يثبت به البلوغ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار3" أوجب عليها السترة بوجود الحيض فدل على أن التكليف حصل به. وإنما يحصل ذلك بالبلوغ
مسألة: "والاعتداد به" يعني إذا وجد اعتدت به لقوله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} , وقبل أن تحيض كانت تعتد بالشهور لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} 4.
مسألة: "فإذا انقطع الدم أبيح فعل الصوم" للحائض كما يباح للجنب.
مسألة: "ويباح الطلاق" إذا انقطع الدم لأنه إنما حرم طلاق الحائض وهذه طاهر.
مسألة: "ولا يباح سائرها حتى تغتسل" أما الصلاة فلا تباح لها لقيام الحدث بها وكذا الطواف لأنه صلاة ولا يباح لها قراءة القرآن ولا مس المصحف ولا اللبث في المسجد لقيام الحدث الأكبر بها ولما سبق في أول الباب. ولا يباح الوطء في الفرج لأن الله سبحانه أباحه بشرطين انقطاع الدم والغسل بقوله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} , معناه حين ينقطع دمهن ثم قال: {فإذا تطهرن} , معناه اغتسلن {فَأْتُوهُنَّ} .
ـــــــ
1 - آية 228 سورة البقرة.
2 - رواه البخاري في: 6- كتاب الحيض: 8- باب الاستحاضة: حديث رقم 306. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 14- باب المستحاضة وغسلها وصلاتها: حديث رقم 65, 66.
3 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 83- باب المرأة تصلي بغير خمار: حديث رقم 641. والترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 160- باب ما جاء: لا يقبل الله صلاة المرأة إلا بخمار: حديث رقم 377. وقال: حديث حسن. وأحمد في: المسند 1/96 و150 و 218.
4 - آية 4 سورة الطلاق.(1/45)
الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء غير النكاح" .
وأقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما ولا حد لأكثره وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين وأكثره ستون.
ـــــــ
مسألة: و أما منع الاعتداد بالأشهر فباق لأنها صارت ممن تحيض فعدتها الحيض.
مسألة: "ويجوز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج" كالقبلة ونحوها لما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض متفق عليه1. و قال عليه السلام: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" 2.
مسألة: "وأقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما" لأن الشارع علق على الحيض أحكاما ولم يبين أقله وأكثره فعلم أنه رد ذلك إلى العرف والعرف شاهد بذلك قال عطاء: رأينا من تحيض يوما ورأينا من تحيض خمسة عشر يوما وحكي ذلك عن غيره.
مسألة: "وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما" لما روى عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر فقال لشريح: قل فيها. قال: إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدون أنها حاضت في شهر ثلاث مرات تترك الصلاة فيها وإلا فهي كاذبة. فقال علي: قالون يعني جيد بلسان الروم وهذا اتفاق منهما على إمكان ثلاث حيضات في شهر ولا يمكن إلا بما ذكرنا من أقل الطهر ويكون أقل الحيض يوما وليلة وعنه أقله خمسة عشر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي" 3.
مسألة: "وليس لأكثره حد" لأنه لا نص فيه ولا نعلم له دليلا.
مسألة: "وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين" فإذا رأت قبل ذلك دما فليس بحيض ولا تتعلق به أحكامه؛ لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك, وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
مسألة: "وأكثره ستون" سنة لأنها إذا بلغت ذلك يئست من الحيض لأنه لم يوجد بمثلها حيض معتاد فإن رأت دما فهو دم فساد.
مسألة: وعنه أن أكثره خمسون سنة فإن رأت دما بعد الخمسين ففيه روايتان: إحداهما هو دم فساد أيضا لأن عائشة قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 6- كتاب الحيض: 5- باب مباشرة الحائض: حديث رقم 302. ومسلم في: 3-كتاب الحيض: 1- باب مباشرة الحائض فوق الإزار: حديث رقم1.
2- سبق تخريجه.
3 - رواه الدارمي في: 1- كتاب الوضوء: 103- باب الحائض تسمع السجدة فلا تسجد: رقم 6.(1/46)
والمبتدئة إذا رأت الدم لوقت تحيض في مثله جلست فإن انقطع لأقل من يوم وليلة فليس بحيض وإن جاوز ذلك ولم يعبر أكثر الحيض فهو حيض, فإذا تكرر ثلاثة أشهر بمعنى واحد صار عادة وإن عبر أكثر الحيض فالزائد استحاضة وعليها أن تغتسل عند آخر الحيض وتغسل فرجها وتعصبه ثم تتوضأ لوقت كل صلاة
ـــــــ
الحيض, والثانية إن تكرر بها الدم فهو حيض وهذه أصح لأن ذلك قد وجد فروي أن هندا بنت أبي عبيدة ابن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي رضي الله عنه ولها ستون سنة ذكره الزبير بن بكار في كتاب النسب. وقال: لا تلد لخمسين إلا عربية ولا تلد لستين إلا قرشية, وعنه أن نساء العجم ييئسن في خمسين سنة ونساء العرب إلى ستين لأنهن أقوى جبلة.
مسألة: "والمبتدأة إذا رأت الدم لوقت تحيض لمثله جلست" يعني تركت الصلاة.
مسألة: "فإن انقطع لأقل من يوم وليلة فليس بحيض" ويكون دم فساد "وإن جاوز ذلك ولم يعبر أكثر الحيض فهو حيض" لأنه دم يصلح أن يكون حيضا فتجلسه كاليوم والليلة "فإذا تكرر ثلاثة أشهر بمعنى واحد صار عادة" لتكراره في الأشهر الثلاثة؛ لأن العادة من المعاودة وعنه إذا زاد على يوم وليلة روايات أربع: إحداهن هذه المذكورة. والثانية: تغتسل عقيب اليوم والليلة وتصلي لأن العبادة واجبة بيقين وما زاد على أقل الحيض مشكوك فيه فلا تسقطها بالشك فإن انقطع دمها ولم يعبر أكثر الحيض اغتسلت غسلا ثانيا ثم تفعل ذلك في شهر آخر, وعنه في شهرين آخرين فإن كان في الأشهر كلها مدته واحدة علمت أن ذلك حيضها فانتقلت إليه وعملت عليه, وأعادت ما صامته من الفرض لأنا تبينا أنها صامتة في حيضها. والثالثة: تجلس ستا أو سبعا لأنه غالب حيض النساء ثم تغتسل وتصلي. والرابعة: تجلس عادة نسائها لأن الغالب أنها تشبههن في ذلك.
مسألة: "وإن عبر" يعني زاد على "أكثر الحيض فالزائد استحاضة وعليها أن تغتسل عند آخر الحيض" ؛ لأن الحائض إذا طهرت وجب عليها الغسل لقوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} 1.
مسألة: والمستحاضة في حكم الطاهرات في وجوب العبادة وفعلها فإذا أرادت الصلاة غسلت فرجها وما أصابها من الدم حتى إذا استنقت عصبت فرجها واستوثقت بالشد والتلجم وهو أن تستثفر بخرقة مشقوقة الطرفين تشدهما على جنبيها ووسطها على الفرج
ـــــــ
1 - آية 222 سورة البقرة.(1/47)
وتصلي وكذا حكم من به سلس البول وما في معناه. فإذا استمر بها الدم في الشهر الآخر فإن كانت معتادة فحيضها أيام عادتها وإن لم تكن معتادة وكان لها تمييز - وهو أن يكون بعض دمها أسود ثخينا وبعضه أحمر رقيقا- فحيضها زمن الأسود
ـــــــ
وهو قوله عليه السلام في حديث أم سلمة: "لتستثفر بثوب" 1 وقال لحمنة: "تلجمي" 2. "ثم تتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي" كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحمنة بنت جحش حين شكت إليه كثرة الدم: "أنعت لك الكرسف" 3 يعني به القطن تحشي به المكان. قالت: إنه أشد من ذلك قال: "تلجمي". وفي حديث أم سلمة أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فإذا هي خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصل" . رواه أبو داود4.
و "من به سلس البول" في معنى الاستحاضة ولا فرق بينهما.
مسألة: "فإذا استمر بها الدم في الشهر الآخر فإن كانت معتادة فحيضها أيام عادتها" لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي" . متفق عليه5.
مسألة: "وإن لم تكن معتادة وكان لها تمييز - وهو أن يكون بعض دمها أسود ثخينا وبعضه أحمر رقيقا - فحيضها زمن الأسود الثخين" لما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ قال: "إن ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". متفق عليه6. يعني بإقباله سواده ونتنه وبإدباره رقته وحمرته وفي لفظ قال لها: "إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي إنما ذلك 7
ـــــــ
1, 2- رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 107- باب في المرأة تستحاض: حديث رقم 274.
2- رواه الترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 95- باب ما جاء في المستحاضة: حديث رقم 128. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
3 - انظر تخريج الحديث عاليه.
4 -انظر رواية أبي داود عاليه.
5 - سبق تخريجه.
6 - رواه البخاري في: 6- كتاب الحيض: 8- باب الاستحاضة: حديث رقم 306. ومسلم في: 3- كتاب الحيض: 14- باب المستحاضة وغسلها وصلاتها: حديث رقم 62.
7 - قوله: "ذلك عرق" أي: دم عرق, لا دم حيض.(1/48)
الثخين وإن كانت مبتدأة أو ناسية لعادتها ولا تمييز لها فحيضها من كل شهر ستة أيام أو سبعة لأنه غالب عادات النساء والحامل لا تحيض إلا أن ترى الدم قبل ولادتها بيوم أو يومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس
ـــــــ
عرق". رواه النسائي1؛ ولأنه خارج من الفرج موجب للغسل فيرجع إلى صفته عند الاشتباه كالمذي والمني
مسألة: "وإن كانت مبتدأة أو ناسية لعادتها ولا تتميز لها فحيضها من كل شهر ستة أيام أو سبعة لأنه غالب عادات النساء" وعنه تجلس عادة نسائها لأن الظاهر أنها تشبههن في ذلك وعنه أقله لأنه اليقين وعنه أكثره يصلح أن يكون حيضا.
مسألة: "والحامل لا تحيض" لقوله عليه السلام في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة" 2 فجعل وجود الحيض علما على براءة الرحم ولو كان يجتمع معه لم يكن وجوده علما على عدمه.
مسألة: "إلا أن ترى الدم قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس" لأنه دم سببه الولادة فكان نفاسا كالخارج بعد الولادة والله أعلم .
ـــــــ
1 - رواه النسائي في: 6- باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة: حديث رقم 2, 3, 4.
2 - رواه أبو داود في: 12- كتاب النكاح: 45- باب في وطء السبايا: حديث رقم 2157.(1/49)
باب النفاس
وهو الدم الخارج بسبب الولادة وحكمه حكم الحيض فيما يحل ويحرم
ـــــــ
باب النفاس
مسألة: "وهو الدم الخارج بسبب الولادة وحكمه حكم الحيض فيما يحل ويحرم ويجب ويسقط به" لأنه دم حيض مجتمع احتبس لأجل الحمل.
مسألة: "وأكثره أربعون يوما" لما روت أم سلمة قالت: كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقعد بعد نفاسها أربعين يوما أو أربعين ليلة. رواه أبو داود والترمذي1 وقال: أجمع أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك فتغتسل وتصلي2
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 119- باب ما جاء في وقت النفساء: حديث رقم 311. والترمذي في: 1- كتاب الطهارة: 105- باب ما جاء في كم تمكث النفساء: حديث رقم 139. وقال: حديث غريب.
2 - جامع الترمذي 1/258.(1/49)
ويجب ويسقط به وأكثره أربعون يوما ولا حد لأقله ومتى رأت الطهر اغتسلت وهي طاهرة وإن عاد في مدة الأربعين فهو نفاس أيضا
ـــــــ
مسألة: "وليس لأقله حد أي وقت رأت الدم لطهر فهي طاهر" تغتسل وتصلي كالحيض.
مسألة: "فإن عاد في مدة الأربعين فهو نفاس" لأنه في مدته أشبه الأول وعنه أنه مشكوك فيه تصوم وتصلي وتقضي الصوم احتياطا لأن الصوم واجب بيقين فلا يجوز تركه لعارض مشكوك فيه ويفارق الحيض المشكوك فيه وهو ما زاد على الست والسبع في حق الناسية فإنه يتكرر ويشق قضاؤه والنفاس بخلافه.(1/50)
كتاب الصلاة
مدخل
...
كتاب الصلاة
روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة, فمن حافظ عليهن كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" فالصلوات الخمس واجبة على كل مسلم عاقل بالغ إلا الحائض والنفساء
ـــــــ
كتاب الصلاة
مسألة: "الصلوات الخمس واجبة على كل مسلم عاقل بالغ" ؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} 1, وقال في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" متفق عليه2؛ ولأن الكافر لا يصح منه أداؤها ولا يلزمه قضاؤها أشبه المجنون فإنها لا تجب عليه ولا على الصبي لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق والصبي حتى يبلغ والنائم حتى يستيقظ" 3.
مسألة: "إلا الحائض والنفساء" لقول عائشة: كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. متفق عليه. والنفساء مثلها4.
ـــــــ
1 - آية 103 سورة النساء.
2 - رواه البخاري في: 24- كتاب الزكاة: 1- باب وجوب الزكاة: حديث رقم 1395. ومسلم في: 1- كتاب الإيمان: 7- باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام: حديث رقم 29, 31.
3 - رواه أبو داود في: 37- كتاب الحدود: 16- باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا: حديث رقم 4398. 4401، 4403.
4 - سبق تخريجه.(1/51)
فمن جحد وجوبها لجهله عرف ذلك وإن جحدها عنادا كفر ولا يحل تأخيرها عن وقت وجوبها
إلا لناو جمعها أو مشتغل بشرطها فإن تركها تهاونا بها استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل
ـــــــ
مسألة: "فمن جحد وجوبها لجهله عرف ذلك وإن جحدها عنادا كفر" بالإجماع وحكمه حكم المرتدين وإن كان متهاونا بها وهو مقر بوجوبها دعي إليها ويقال له: إن صليت وإلا قتلناك فإن صلى وإلا قتل بالسيف لقوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" حديث صحيح1.
مسألة: "ولا يحل تأخيرها عن وقتها" لقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة: "أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها" 2 أخرجه مسلم وهذا يدل على أنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها لأنه سماه تفريطا.
مسألة: "إلا لناو جمعها" فيجوز تأخير الأولى حتى يدخل وقت الثانية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله متفق عليه.
مسألة: "ويجوز تأخيرها للمشتغل بشرطها" لأنها لا تصح بدون شرطها المقدور عليه فمتى كان شرطا مقدورا عليه وجب عليه الاشتغال بتحصيله, ولا يأثم بتأخير الصلاة في مدة تحصيله كالمشتغل بنفس الوضوء والاغتسال.
مسألة: "فإن تركها تهاونا بها استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل" بالسيف لما سبق واختلفت الرواية في الذي يجب قتله فقال القاضي فيه روايتان: إحداهما يجب قتله إذا ترك صلاة واحدة حتى تضايق وقت الثانية؛ لأنه إذا ترك الأولى لم يعلم أنه عزم على تركها فإذا خرج وقتها علمنا أنه تركها لكن لا يجب قتله لأنها فائتة والفائتة وقتها موسع فيصبر له حتى يتضايق وقت الثانية, والرواية الثانية لا يجب قتله حتى يترك ثلاث صلوات ويتضايق وقت الرابعة عن فعلها؛ لأنه قد يترك الصلاة والصلاتين والثلاث لشبهة فإذا رأيناه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 2- كتاب الإيمان: 17- باب: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة} : حديث رقم 25. ومسلم في: 1- كتاب الإيمان: 8- باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله: حديث رقم 36.
2 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 10- باب في من نام عن الصلاة أو نسيها: حديث رقم 441. والترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 16- باب ما جاء في النوم عن الصلاة: حديث رقم 177. وقال: حديث حسن صحيح.(1/52)
ـــــــ
ترك الرابعة علمنا أنه عزم على تركها فيجب قتله لقوله عليه السلام: "من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة" 1 وهذا يدل على إباحة قتله وقال عليه السلام: "نهيت عن قتل المصلين" 2 فمفهومه أنه لم ينه عن قتل غيرهم وقال: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" 3 رواه مسلم. والكفر مبيح للقتل بدليل قوله: "لا يباح دم مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق" متفق على معناه4.
مسألة: فإذا وجب قتله لم يقتل حتى يستتاب ثلاثا ويضيق عليه ويدعى إلى فعل كل صلاة في وقتها ويقال له إن صليت وإلا قتلناك؛ لأنه قتل لترك واجب فتقدمه الاستتابة كقتل المرتد فإن تاب وإلا قتل بالسيف لقوله عليه السلام:
"إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" . رواه مسلم5.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: 36 كتاب الفتن: 23- باب الصبر على البلاء: حديث رقم 4034. وقال في الزوائد: إسناده حسن. وأحمد في: المسند 5/238, 6/421.
2 - أورده الهيثمي في مجمع الزوائد:1/296. وعزاه إلى الطبراني في الكبير, وقال: فيه عامر بن يساف وهو منكر الحديث.
3 - رواه مسلم في: 1- كتاب الإيمان: 35- باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة: حديث رقم 134.
4 - رواه البخاري في: 87- كتاب الديات: 6- باب قول الله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} : حديث رقن 6878. ومسلم في: 28- كتاب القسامة: 6- باب ما يباح به دم المسلم: حديث رقم 25, 26.
5 - رواه مسلم في: 34- كتاب الصيد: 11- باب الأمر بإحسان الذبح والقتل: حديث رقم 57.(1/53)
باب الأذان والإقامة
وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها للرجال دون النساء. والأذان خمس
ـــــــ
باب الأذان والإقامة
مسألة: "وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها" لأن المقصود منه الإعلام بوقت الصلاة المفروضة على الأعيان وهذا لا يوجد في غيرها ولأن مؤذني النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانوا يؤذنون لها دون غيرها وذلك مشروع "للرجال دون النساء" وقال الحسن وإبراهيم والشعبي وسليمان بن يسار: ليس على النساء أذان ولا إقامة رواه سعيد في سننه.
مسألة: "والأذان خمس عشرة كلمة لا ترجيع فيه والإقامة إحدى عشرة كلمة" وأصله حديث عبد الله بن زيد أنه قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس ليضرب به الناس لجمع الصلاة طاف بي -وأنا نائم- رجل يحمل ناقوسا فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال:(1/53)
عشرة كلمة لا ترجيع فيه والإقامة إحدى عشرة كلمة. وينبغي أن يكون المؤذن أمينا صيتا عالما بالأوقات ويستحب أن يؤذن قائما متطهرا على موضع عال مستقبل القبلة.
ـــــــ
وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى. فقال: تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر! أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله! حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله قال: ثم استأخر عني غير بعيد قال: ثم تقول إذا قمت للصلاة -فذكر الإقامة مفردة غير أنه يقول قد قامت الصلاة مرتين, ثم لما أصبحت أتيت صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت فقال: "إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فيؤذن به فإنه أندى صوتا منك" رواه أبو داود وصححه الترمذي1. فهذه صفة الأذان والإقامة المستحبين لأن بلالا كان يؤذن به سفرا وحضرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات والترجيع أن يذكر الشهادتين مرتين يخفض بذلك صوته, ثم يعيدهما رافعا بهما صوته وتثنية الإقامة أن يجعلها مثل الأذان فإن رجع في الأذان أو ثنى الإقامة فلا بأس, فإنه قد روي في حديث أبي محذورة كذلك وهو حديث صحيح2.
مسألة: "وينبغي أن يكون المؤذن أمينا صيتا عالما بالأوقات" لأنه يؤتمن على الأوقات؛ فإن لم يكن عادلا غرهم بأذانه في غير الوقت ويكون صيتا لأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله: "ألقه على بلال فإنه أندى صوتا منك" ويكون عالما بالأوقات ليتمكن من الأذان في أوائلها.
مسألة: "ويستحب أن يؤذن قائما" لقول النبي صلى الله عليه وسلم لبلال: "قم فأذن" . ولأنه أبلغ في الإسماع ويكون "متطهرا" لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤذن إلا متوضئ" 3. رواه الترمذي وروي موقوفا على أبي هريرة وهو أصح4.
مسألة: ويكون "على موضع عال" لأنه أبلغ في الإعلام. وقد روي أن بلالا كان يؤذن على سطح امرأة
مسألة: ويكون "مستقبل القبلة" وهذا إجماع ولأن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذنون مستقبلي القبلة.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 27- باب كيف الأذان: حديث رقم 499. والترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 25- باب ما جاء في بدء الأذان: حديث رقم 189.
2 -رواه أبو داود في: المصدر عاليه: حديث رقم 502.
3 - رواه الترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 33- باب ما جاء في كراهية الأذان بغير وضوء: حديث رقم 200.
4 - المصدر عاليه: رقم 201.(1/54)
فإذا بلغ الحيعلة التفت يمينا وشمالا ولا يزيل قدميه ويجعل إصبعيه في أذنيه ويترسل في الأذان ويحدر الإقامة, ويقول في أذان الصبح بعد الحيعلة: الصلاة خير من النوم مرتين, ولا يؤذن قبل الأوقات إلا لها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول" .
ـــــــ
مسألة: "فإذا بلغ الحيعلة التفت يمينا وشمالا ولا يزيل قدميه ويجعل إصبعيه في أذنيه" لما روى أبو جحفة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا يمينا وشمالا يقول: حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح متفق عليه. وفي لفظ: ولم يستدر وإصبعاه في أذنيه رواه الترمذي1.
مسألة: "ويترسل في الأذان ويحدر الإقامة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فأحدر" . رواه أبو داود2, ولأن الأذان إعلام الغائبين والترسل فيه أبلغ في الإعلام والإقامة إعلام الحاضرين فلم يحتج إلى الترسل فيها.
مسألة: "ويقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم مرتين" رواه النسائي "ويكون بعد الحيعلة" لما روى النسائي عن أبي محذورة قال: قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان فذكر إلى أن قال بعد قوله: حي على الفلاح فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم مرتين والله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله3.
مسألة: "ولا يؤذن قبل الوقت إلا لها" قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن من السنة أن يؤذنوا للصلاة بعد دخول وقتها إلا الفجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم" . متفق عليه4. وخص الفجر بذلك لأنه وقت النوم لينتبه الناس ويتأهبوا إلى الخروج للصلاة وليس ذلك في غيرها وقال عليه السلام: "إن بلالا يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم" رواه أبو داود5.
مسألة: "ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول" المؤذن لما روى أبو سعيد
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في: 2- باب ما جاء في إدخال الأصبع في الأذن عند الأذان: حديث رقم 197. وقال: حديث حسن صحيح.
2 - رواه الترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 29- باب ما جاء في الترسل في الأذان: حديث رقم 195. وقال: لا تعرفه إلا من هذا الوجه, وهو إسناد مجهول.
3 - رواه النسائي في: 7- كتاب الأذان: 6- باب الأذان في السفر: حديث رقم 1.
4 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 11- باب أذان الأعمى: حديث رقم 617. ومسلم في: 13- كتاب الصيام: 8- باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر: حديث رقم 36, 37, 38.
5 -رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 13- باب الأذان قبل الفجر: حديث رقم 621. ومسلم في: 13- كتاب الصيام: 8- بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر:حديث رقم 39.(1/55)
يقول: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول" .
ـــــــ
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول" . متفق عليه1. إلا في الحيعلة فإنه يقول عندها ما روي عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله فقال: أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال: حي على الصلاة فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: حي على الفلاح فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال: الله أكبر الله أكبر فقال: الله أكبر الله أكبر ثم قال: لا إله إلا الله فقال: لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة" . رواه مسلم2 قال الأثرم: هذا من الأحاديث الجياد.
ـــــــ
1 -رواه البخاري في: 10 – كتاب الأذان: 7- باب ما يقول إذا سمع المنادي: حديث رقم 611. و مسلم في: 4- كتاب الصلاة: 7- باب استحباب القول مثل ما قول المؤذن: حديث رقم 10.
2 - رواه مسلم في: 4- كتاب الصلاة: 7- باب استحباب القول مثل قول المؤذن: حديث رقم 12.(1/56)
باب شروط الصلاة
وهي ستة:
أحدها: الطهارة من الحدث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن أحدث حتى يتوضأ" .
الشرط الثاني: الوقت, ووقت الظهر من زوال الشمس إلى أن
ـــــــ
باب شروط الصلاة
"هي ستة: أحدها الطهارة من الحدث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم" في حديث أبي هريرة: "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" . متفق عليه3. وقد مضى ذكر الطهارة وحكمها.
"الثاني: الوقت, ووقت الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شئ مثله" بعد القدر الذي زالت عليه الشمس لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس والفيء مثل الشراك ثم صلى بي المرة الأخيرة حين صار ظل كل شئ مثله وقال: الوقت ما بين هذين" . قال الترمذي: حديث حسن4, ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد تناهي قصره.
مسألة: "ووقت العصر وهي الوسطى" لما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: "شغلونا عن صلاة العصر صلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم
ـــــــ
3 رواه البخاري في: 10- كتاب الوضوء: 2- باب لا تقبل صلاة بغير طهور: حديث رقم 135. ومسلم في: 2- كتاب الطهارة: 2- باب وجوب الطهارة للصلاة: حديث رقم2.
4 - رواه الترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 1- باب ما جاء في مواقيت الصلاة: حديث رقم 149. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.(1/56)
يصير ظل كل شيء مثله ووقت العصر -وهي الوسطى- من أخر وقت الظهر إلى أن تصفر الشمس ثم يذهب وقت الاختيار, ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس. ووقت المغرب إلى أن يغيب الشفق الأحمر,
ـــــــ
وقبورهم نارا" متفق عليه1. "وأول وقتها" إذا صار ظل كل شيء مثله وهو "آخر وقت الظهر" . لقوله عليه السلام في حديث جبريل: وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله". "وآخره ما لم تصفر الشمس" لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وقت العصر ما لم تصفر الشمس" . رواه مسلم2. وعنه أن آخره إذا صار ظل كل شيء مثليه لقوله عليه السلام في حديث جبريل: "وصلى بي العصر في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثليه"3.
مسألة: "ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الضرورة إلى غروب الشمس" والضرورة العذر يعني لا يباح تأخيرها إلا لعذر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته ومن أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" متفق عليه4. وفي رواية: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" متفق عليه5.
مسألة: "ووقت المغرب من الغروب إلى مغيب الشفق الأحمر" لما روى بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالا فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق ثم قال: "وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم" . رواه مسلم6, وفي لفظ رواه الترمذي: "فأخر المغرب إلى قبيل أن يغيب الشفق" 7.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 56- كتاب الجهاد والسير: 98- باب الدعاء على المشركين: حديث رقم 2931. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 35- باب التغليظ في تفويت صلاة العصر: حديث رقم 202.
2 - رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد: 31- باب أوقات الصلوات الخمس: حديث رقم 172, 173.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه البخاري في: 9- كتاب مواقيت الصلاة: 17- باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب: حديث رقم 556. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 30- باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة: حديث رقم 164.
5 - رواه البخاري في: 9- كتاب مواقيت الصلاة: 29- باب من أدرك من الصلاة ركعة: حديث رقم 580. ومسلم في: المصدر عاليه: حديث رقم 161.
6 - رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد: 31- باب أوقات الصلوات الخمس, حديث رقم 176.
7 - رواه الترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 1- باب مواقيت الصلاة. حديث رقم 152. وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح.(1/57)
ووقت العشاء من ذلك إلى نصف الليل, ثم يبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني, ووقت الفجر من ذلك إلى طلوع الشمس, ومن كبر للصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها والصلاة في أول الوقت أفضل
ـــــــ
مسألة: "ووقت العشاء من ذلك" يعني من مغيب الشفق "إلى نصف الليل" لما روى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت العشاء إلى نصف الليل" . رواه مسلم1. وعنه: "إلى ثلث الليل" لما روى بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل رواه مسلم. من حديث ابن عباس في صلاة جبريل مثله2.
مسألة: "ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الضرورة إلى طلوع الفجر الثاني" وهو البياض المعترض في المشرق ولا ظلمة بعده لحديث أبي هريرة: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " . متفق عليه3.
مسألة: "ووقت الفجر من ذلك إلى طلوع الشمس" يعني من طلوع الفجر الثاني إجماعا إلى طلوع الشمس لما روى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر بلالا فأقام الفجر حين طلع الفجر فلما كان اليوم الثاني صلى الفجر فأسفر بها ثم قال: "وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم" 4, وفي حديث أبي هريرة: "من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" 5. متفق عليه وللنسائي: "فقد أدركها" 6.
مسألة: "ومن كبر للصلاة قبل خروج وقتها فقد أدركها" كذلك وأما ما دون الركعة فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يدركها بإدراكه لأن الإدراك إذا تعلق به حكم في الصلاة استوى فيه الركعة وما دونها كإدراك المسافر صلاة المقيم والمأموم صلاة الإمام.
مسألة: "الصلاة في أول الوقت أفضل" لقوله عليه السلام: "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله" 7 وروى أبو برزة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الهجير التي تدعونها
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد: 31- باب أوقات الصلوات الخمس: حديث رقم 171, 172, 173, 174.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه البخاري في: 9- كتاب مواقيت الصلاة: 28- باب من أدرك من الفجر ركعة: حديث رقم 579. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 30- باب من أدرك ركعة من الصلاة: حديث رقم 163, 164, 165.
6 - رواه النسائي في: 6- كتاب المواقيت: 27- باب من أدرك ركعة من صلاة الصبح: حديث رقم 1, 2.
7 - رواه الترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 13- باب ما جاء في الوقت الأول من الفجر: حديث رقم 172. وقال: هذا حديث غريب.(1/58)
إلا في العشاء الآخرة وفي شدة الحر الظهر
الشرط الثالث: ستر العورة بما لا يصف البشرة وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة
ـــــــ
الأولى حين تدحض الشمس يعني: تزول1.
مسألة: "إلا في العشاء الآخرة" لقول أبى برزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر العشاء. متفق عليه2.
مسألة: "وفي شدة الحر الظهر" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أبردوا بالظهر في شدة الحر فإن شدة الحر من3 فيح جهنم" . متفق عليه4.
مسألة: "الشرط الثالث ستر العورة بما لا يصف البشرة" واجب لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" . رواه أبو داود5.
مسألة: ويجب سترها بما يستر لون البشرة من الثياب والجلود أو غيرها فإن وصف لون البشرة لم يعتد به لأنه غير ساتر.
مسألة: "وعورة الرجل والأمة ما بين السرة والركبة" لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة" . رواه أبو بكر بإسناده وعن جرهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "غط فخذك فإن الفخذ من العورة" رواه الإمام أحمد في المسند6. وعنه أنها الفرجان من الرجل لما روى أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى أني لأنظر إلى بياض فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري7.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 9- كتاب مواقيت الصلاة: 39- باب ما يكره من السمر بعد العشاء: حديث رقم 599. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 33- باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت: حديث رقم 188.
2 -رواه البخاري في: 9- كتاب مواقيت الصلاة: 13- باب وقت العصر: حديث رقم 547. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 40 باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها: حديث رقم: 235, 236, 237.
3 -قوله: من فيح جهنم أي: من سعة انتشارها وتنفسها, ومنه: مكان أفيح, أي: متسع. وهذا كناية عن شدة استعارها. فتح الباري 2/22.
4 - رواه البخاري في: 9- كتاب مواقيت الصلاة: 9- باب الإبراد بالظهر في شدة الحر: حديث رقم 180, 181, 182, 183,184.
5 - رواه أبو داود في: 2- كتاب مواقيت الصلاة: 83- باب المرأة تصلي بغير خمار: حديث رقم 641.
6 - رواه أحمد في: المسند 1/275, 5/290 و 479.
7 - رواه البخاري في: كتاب الصلاة: 12- باب ما يذكر في الفخذ: حديث رقم 371.(1/59)
والحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها, وأم الولد والمعتق بعضها كالأمة ومن صلى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصح صلاته ولبس الذهب والحرير مباح للنساء دون الرجال إلا عند الحاجة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير: "هذان
ـــــــ
مسألة: "والحرة كلها عورة إلا وجهها وكفيها" لقوله سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} 1 قال ابن عباس: وجهها وكفيها ولأنه يحرم ستر الوجه في الإحرام وستر الكفين بالقفازين ولو كانا عورة لم يجز كشفهما, وعنه في الكفين هما عورة لأن المشقة لا تلحق بسترهما فأشبها سائر بدنها وما عدا هذا عورة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" 2. وعن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: "نعم إذا كان سابغا يغطي ظهور قدميها" 3.
مسألة: "وعورة الأمة كعورة الرجل" لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة يريد الأمة" . رواه الدارقطني. ولأن من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة كالرجل.
مسألة: "وأم الولد والمعتق بعضها كالأمة" لأن الرق باق فيها إلا أنه يستحب لهما التستر لما فيها من شبه الأحرار وعنه أنهما كالحرة لذلك.
مسألة: "ومن صلى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصح صلاته" لأنه استعمل في شرط العبادة ما يحرم استعماله فلم يصح كما لو صلى في ثوب نجس, ولأن الصلاة قربة وهي منهي عنها على هذا الوجه فكيف يتقرب بما هو عاص به أو يؤمر بما هو منهي عنه؟ وعنه يصح لأن التحريم لا يعود إلى الصلاة فلم يمنع صحتها كما لو غسل ثوبه بماء مغصوب أو صلى من عليه عمامة حرير.
مسألة: "ولبس الحرير والذهب مباح للنساء دون الرجال" لما روى أبو موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حرم لبس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم" . قال الترمذي: حديث صحيح4. قال ابن عبد البر: هذا إجماع.
مسألة: "إلا عند الحاجة" كحكة أو قمل أو مرض ينفعه لبسه لأن أنسا روى أن عبد
ـــــــ
1 - آية 31 سورة النور.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 82- باب في كم تصلي المرأة: حديث رقم 640.
4 - رواه الترمذي في: 25- كتاب اللباس: 1- باب ما جاء في الحرير والذهب: حديث رقم 1720. وقال: حديث حسن صحيح.(1/60)
حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم ومن صلى من الرجال في ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه ذلك, فإن لم يجد إلا ما يستر عورته سترها فإن لم يكف جميعها ستر الفرجين فإن لم يكفهما جميعا ستر أحدهما, فإن عدم الستر بكل حال صلى جالسا يومئ بالركوع والسجود وإن صلى قائما جاز ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا أو مكانا نجسا صلى فيهما ولا إعادة عليه.
الشرط الرابع: الطهارة من النجاسة في
ـــــــ
الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شكوا القمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرخص لهما في قميص الحرير فرأيته عليهما متفق عليه1. وغير القمل الذي ينفع فيه لبس الحرير في معناه فيقاس عليه فأما لبسه للحرب فظاهر كلام أحمد رضي الله عنه إباحته مطلقا؛ لأنه سئل عن لبسه في الحرب فقال: أرجو أن لا يكون به بأس.
مسألة: "ومن صلى من الرجال في ثوب واحد بعضه على عاتقه جزأه ذلك" لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء" متفق عليه2.
مسألة: "فإن لم يجد إلا ما يستر عورته سترها" لأن سترها شرط لصحة الصلاة وقد قدر عليه فلزمه كسائر شروطها؛ ولأن ذلك واجب في غير الصلاة ففيها أولى.
مسألة: "فإن لم يكف جميعها ستر الفرجين" لأنهما أغلظ "فإن لم يكفهما جميعا ستر أيهما شاء" وستر الدبر أولى في أحد الوجهين؛ لأنه أفحش وفي الآخر القبل لأنه يستقبل به القبلة والدبر يستر بالإليتين وأيهما ستر أجزأه. "فإن عدم الستر بكل حال صلى جالسا يومئ إيماء بالسجود" ؛ لأنه يحصل به ستر أغلظ العورة وهو آكد لذلك, وعنه يصلي قائما ويركع ويسجد لأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط.
مسألة: "ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا أو مكانا نجسا صلى فيهما ولا إعادة عليه" ؛ لأن ستر العورة واجب في الصلاة وغيرها, وهو مخاطب بها مأمور بها فإذا صلى فقد أتى بما أمر به فيخرج عن العهدة وعنه يعيد إذا صلى في الثوب النجس لأنه ترك شرطا مقدورا عليه.
"الشرط الرابع الطهارة من النجاسة في بدنه وثوبه وموضع صلاته" لقوله عليه السلام:
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 56- كتاب الجهاد والسير: 91- باب الحرير في الحرب: حديث رقم 2919. ومسلم في: 37- كتاب اللباس والزينة: 3- باب إباحة لبس الحرير للرجل: حديث رقم 24, 25, 26.
2 - رواه البخاري في: 8- كتاب الصلاة: 5- باب إذا صلى في الثوب الواحد فليجعل على عاتقيه: حديث رقم 359. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 52- باب الصلاة في ثوب واحد وصفة لبسه: حديث رقم 277.(1/61)
بدنه وثوبه وموضع صلاته إلا النجاسة المعفو عنها كيسير الدم ونحوه, وإن صلى وعليه نجاسة لم يكن علم بها أو علم بها ثم نسيها فصلاته صحيحة, وإن علم بها في الصلاة أزالها وبنى على صلاته والأرض كلها مسجد تصح الصلاة فيها إلا المقبرة والحمام والحش وأعطان الإبل وقارعة الطريق
ـــــــ
لأسماء في دم الحيض: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء وصلي فيه" 1. فدل على أنها ممنوعة من الصلاة فيه قبل غسله.
مسألة: "إلا النجاسة المعفو عنها كيسير الدم" لأنه عفي عنها لمشقة التحرز على ما سبق في باب المياه
مسألة: "وإن صلى وعليه نجاسة لم يكن علم بها أو علم بها ثم نسيها" ففيها روايتان: إحداهما يعيد لأنها طهارة واجبة فلم تسقط بالجهل كالوضوء, والثانية: لا يعيد لما روى أبو سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: خلع نعليه في الصلاة فخلع الناس نعالهم قال: "ما لكم خلعتم نعالكم" . فقالوا: رأيناك خلعت نعليك فخلعنا نعالنا, فقال: "أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن فيهما قذرا" 2. رواه أبو داود. فوجه الحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عالم بالنجاسة حتى أخبر بها وبنى على صلاته ولو بطلت لاستأنفها والناسي مثله فعلى هذا "إن علم بها في الصلاة" فأمكنه إزالتها بغير عمل كثير "أزالها وبنى على صلاته" كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وإن لم يمكنه إلا بعمل كثير استأنفها كالسترة إذا وجدها وهو في الصلاة بعيدة منه.
مسألة: "والأرض كلها مسجد" "تصح الصلاة فيها" لقوله عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" 3.
مسألة: "إلا المقبرة والحمام والحش وأعطان الإبل" أما المقبرة والحمام فلما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" 4. رواه أبو داود. وأما الحش فبطريق التنبيه عليه بالنهى في هذين الموضعين لأن احتمال النجاسة فيه أكثر وأغلب.
مسألة: "وأما أعطان الإبل فلما روى جابر بن سمرة أن رجلا قال: يا رسول الله
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 87- باب الصلاة في النعل: حديث رقم 650.
3 - رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد: حديث رقم 4.
4 -رواه أبو داود في: 2- كتاب باب قي المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة: حديث رقم 492.(1/62)
الشرط الخامس: استقبال القبلة إلا في النافلة على الراحلة للمسافر فإنه يصلي حيث كان وجهه
والعاجز عن الاستقبال لخوف أو غيره فيصلي كيفما أمكنه ومن عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل الكعبة فإن كان قريبا منها لزمته الصلاة إلى
ـــــــ
أنصلى في مرابض الغنم؟ قال: "نعم". قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا". رواه مسلم1. ولأنها مظنة النجاسة فإن البعير إذا برك صار سترة للبائل بخلاف الغنم فإنها لا تستر فأقمنا المظنة مقام حقيقة النجاسة
مسألة: "الشرط الخامس استقبال القبلة" لقوله سبحانه: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . "إلا في النافلة على الراحلة للمسافر فإنه يصلي حيث كان وجهه" لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ برأسه وكان يوتر على بعيره. متفق عليه2.
مسألة: "والعاجز عن الاستقبال لخوف أو غيره" لأنه فرض عجز عنه أشبه القيام وقال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} 3. قال ابن عمر:كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مستقبل القبلة وغير مستقبلها رواه البخاري4, ولأنه عاجز عن القيام أشبه المربوط.
مسألة: "وما عداهما لا تصح صلاته إلا مستقبل القبلة" يعني ما عدا النافلة على الراحلة والعاجز لقوله سبحانه: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} 5 وهو عام خرج منه الصورتان بما ذكرناه من الدليل بقي ما عداهما على مقتضى النص.
مسألة: "فإن كان قريبا من الكعبة لزمته الصلاة إلى عينها" وهو من كان عند الكعبة يراها أو قريبا منها للآية "وإن كان بعيدا فإلى جهتها" لأنه لا يقدر على إصابة العين بخلاف القريب وقال عليه السلام: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" . قال الترمذي: حديث صحيح6.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في: 8- كتاب الصلاة: 31- باب التوجه نحو القبلة حيث كان: حديث رقم 400. ومسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: 4- باب جواز صلاة النافلة على الدابة: حديث رقم 39.
3 - آية 239 سورة البقرة.
4 - رواه البخاري في: 65- كتاب التفسير: 44- باب {فإن خفتم فرجالا أو ركبانا} : حديث رقم 4535.
5 - آية 144 سورة البقرة.
6 - رواه الترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 139- باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبلة: حديث رقم 342, 344. وقال: هذا حديث حسن صحيح.(1/63)
عينها وإن كان بعيدا فإلى جهتها وإن خفيت القبلة في الحضر سأل واستدل بمحاريب المسلمين, فإن أخطأ فعليه الإعادة, وإن خفيت في السفر اجتهد وصلى ولا إعادة عليه, وإن اختلف مجتهدان لم يتبع أحدهما صاحبه ويتبع الأعمى والعامي أوثقهما في نفسه.
الشرط الساد: النية للصلاة بعينها ويجوز تقديمها على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها
ـــــــ
مسألة: "وإن خفيت القبلة في الحضر سأل واستدل بمحاريب المسلمين" لأنها دليل عليها "فإن أخطأ فعليه الإعادة" لأن الظاهر أنه فرط في السؤال.
مسألة: "وإن خفيت القبلة في السفر اجتهد وصلى ولا إعادة عليه" وإن أخطأ لأنه أتى بالمأمور فيخرج عن عهدة الأمر, ودليل أنه أتى بما أمر به أنه اجتهد وليس عليه أكثر من الاجتهاد وهو مأمور بالصلاة إلى الجهة التي يغلب على ظنه بعد الاجتهاد أنها جهة الكعبة فيخرج عن العهدة لأنه ليس في وسعه أكثر من ذلك.
مسألة: "وإن اختلف مجتهدان لم يتبع أحدهما الآخر" كما نقول في المجتهدين في الأحكام "ويتبع الأعمى والعامي أوثقهما في نفسه" كما نقول في الأحكام.
"الشرط السادس: النية للصلاة بعينها" فلا تصح إلا بها إجماعا لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" 1 ولأنها عبادة أشبهت الصوم ويجب أن ينويها بعينها إن كانت معينة ظهرا أو عصرا لتتميز عن غيرها وإن كانت سنة معينة كالوتر لزمه تعيينها, وإن لم تكن معينة كالنافلة المطلقة أجزأه نية الصلاة لأنها غير معينة.
مسألة: "ويجوز تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير إذا لم يفسخها" لأنها عبادة يشترط لها النية فجاز تقديمها عليه كالصوم ولأن أولها من أجزائها يكفي استصحاب النية فيه كسائر أجزائها.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(1/64)
باب أداب المشي إلى الصلاة
يستحب المشي إلى الصلاة بسكينة ووقار ويقارب بين خطاه ولا يشبك
ـــــــ
باب آداب المشي إلى الصلاة
"يستحب المشي إليها بسكينة ووقار" لقوله عليه السلام: "ائتوها وعليكم السكينة والوقار" . "ويقارب بين خطاه" لتكثر الخطا فتكثر الحسنات, وفي مسند أبي حميد عن زيد بن ثابت قال: أقيمت الصلاة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى وأنا معه فقارب في الخطى فقال لي: "تدري لم فعلت هذا؟ لتكثر خطاي في طلب الصلاة" .(1/64)
أصابعه ويقول: "بسم الله: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} الآيات إلى قوله: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} " ويقول: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" , فإذا سمع الإقامة لم يسع إليها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وأنتم عليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" .
ـــــــ
مسألة: "ولا يشبك أصابعه" لما روى أبو داود عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يديه فإنما هو في صلاة" 1. ويقول: "بسم الله الرحمن الرحيم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} إلى قوله {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} ويقول
"ما روى الإمام أحمد في المسند عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: "اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وأسألك بحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تعيذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك"2. وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الصلاة وهو يقول: "اللهم اجعل في قلبي نورا وفي لساني نورا وفي بصري نورا واجعل من خلفي نورا ومن أمامي نورا واجعل من فوقي نورا ومن تحتي نورا وأعطني نورا" رواه مسلم3.
مسألة: "فإذا سمع الإقامة لم يسع إليها" لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" 4. وعن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال: "ما شأنكم"؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة! قال: "فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا"؟ متفق عليهما5. وفي رواية فاقضوا قال أحمد: ولا بأس إذا طمع أن يدرك التكبيرة الأولى أن
ـــــــ
1 - رواه أبو داود: 2- كتاب الصلاة: 48- باب ما جاء في المشي إلى الصلاة: حديث رقم 562.
2 - رواه أحمد في المسند 3/21.
3 - رواه مسلم في: 6- كتاب المسافرين: 26- باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه: حديث رقم 181.
4 - رواه البخاري في: 11- كتاب الجمعة: 18- باب المشي إلى الجمعة: حديث رقم 908. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 28- باب استحباب إتيان الصلاة بوقار: حديث رقم 151, 152.
5 - رواه البخاري في: المصدر عاليه: رقم 909. ومسلم في: المصدر عاليه: حديث رقم 155.(1/65)
وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وإذا أتى المسجد قدم رجله اليمنى في الدخول وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله, اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك, وإذا خرج قدم رجله اليسرى, وقال ذلك إلا أنه يقول: وافتح لي أبواب فضلك.
ـــــــ
يسرع شيئا ما لم تكن عجلة تقبح فقد جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يعجلون شيئا إذا تخوفوا فوات التكبيرة وطمعوا في إدراكها.
مسألة: "وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" متفق عليه1. ولأن ما يفوته مع الإمام أفضل مما يأتي به فلم يشتغل به كما لو خاف فوات الركعة. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج حين أقيمت الصلاة فرأى ناسا يصلون فقال: "صلاتان معا" روته عائشة ورواه ابن عبد البر وقال: كل هذا إنكار منه لهذا الفعل
مسألة: "وإذا أتى المسجد قدم رجله اليمنى في الدخول وقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قدم رجله اليسرى وقال مثل ذلك إلا أنه يقول وافتح لي أبواب فضلك" لما روي عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمها أن تقول ذلك إذا دخلت المسجد2. وروى مسلم عن أبي حميد -أو أبي أسيد- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل اللهم إني أسألك من فضلك" 3.
ويستحب تقديمها وهي اليمنى في الدخول وتأخيرها في الخروج لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في شأنه كله روته عائشة رضي الله عنها4.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين وقصرها: 9- باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن: حديث رقم 63, 64.
2 - رواه الترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 117- باب ما جاء ما يقول عند دخول المسجد: حديث رقم 314. وقال: حسن, وليس إسناده بمتصل.
3 - رواه مسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: 10- باب ما يقول إذا دخل المسجد: حديث رقم 68.
4 -رواه البخاري في: 8- كتاب الصلاة: 47- باب التيمن في دخول المسجد وغيره: حديث رقم 426.(1/66)
باب صفة الصلاة
وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر يجهر بها الإمام وبسائر التكبير ليسمع من
ـــــــ
باب صفة الصلاة
مسألة: "وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر" والسنة أن يقوم إليها عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة؛ لأنه دعا إلى القيام فاستحب المبادرة إليها عنده والقيام فيها ركن لقوله(1/66)
خلفه, ويخفيه غيره ويرفع يديه عند ابتداء التكبير إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه ويجعلهما تحت سرته ويجعل بصره إلى موضع سجوده ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك.
ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ولا يجهر بشيء من ذلك: لقول
ـــــــ
سبحانه: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} 1 وقال عليه السلام لعمران: صل قائما2 ثم يقول: الله أكبر وهي ركن لقوله عليه السلام: "تحريمها التكبير" . رواه أبو داود3 وكان عليه السلام يفتتح الصلاة بقوله: الله أكبر لم ينقل عنه غير ذلك حتى فارق الدنيا "يجهر بها الإمام وبسائر التكبير حتى يسمع من خلفه" ليكبروا بعد تكبيره "ويخفيه غيره" وبالقراءة بقدر ما يسمع نفسه ويجب عليه ذلك ولا يكون كلام بدون الصوت, والصوت ما يتأتي سماعه وأقرب السامعين إليه نفسه, فمتى لم يسمعها لم يعلم أنه أتى بكلام إلا أن يكون به طرش فيأتي به بحيثما يسمعه لو كان سميعا.
مسألة: "ويرفع يديه عند ابتداء التكبير إلى حذو منكبيه أو إلى فروع أذنيه" لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ولا يفعل ذلك في السجود متفق عليه4.
مسألة: "ويجعل نظره إلى موضع سجوده" لأنه أخشع للمصلي وأكف لنظره "ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" قال الإمام أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر يعني ما رواه الأسود أنه صلى خلف عمر فسمعه كبر فقال: سبحانك اللهم وبحمدك الحديث.
مسألة: "ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" لقوله سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 5 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله: قاله ابن المنذر.
مسألة: "ثم يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ولا يجهر بشيء من ذلك لما روى أنس
ـــــــ
1- آية 238 سورة البقرة.
2 - رواه البخاري في: 18- كتاب تقصير الصلاة: 19- باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب: حديث رقم 1117.
3 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 30- باب فرض الوضوء: حديث رقم 61. و: 2- كتاب الصلاة: 71- باب الإمام يحدث بعد ما يرفع رأسه: حديث رقم 618.
4 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان 38- باب رفع اليدين حذو المنكبين: حديث رقم 21, 22.
5 - آية 98 سورة النحل.(1/67)
أنس: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. ثم يقرأ الفاتحة ولا صلاة لمن لم يقرأ بها إلا المأموم فإن قراءة الإمام له قراءة, ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وفيما لا يجهر فيه, ثم يقرأ بسورة تكون في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره وفي سائر الصلوات من أوسطه.
ـــــــ
قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين فلم أسمع أحدا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. متفق عليه1.
مسألة: "ثم يقرأ الفاتحة" وهي ركن لما روى عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" . متفق عليه2.
مسألة: "ولا صلاة لمن لم يقرأ بها" الحديث.
مسألة: "إلا المأموم فإن قراءة الإمام له قراءة" لقوله سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 3 وروى الإمام محمد بن وكيع عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 4. وروى الخلال والدارقطني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر, ولأن القراءة لو كانت واجبة عليه لم تسقط عن المسبوق كبقية أركانها" .
مسألة: "ويستحب أن يقرأ في سكتات الإمام وما لا يجهر فيه" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإذا أسررت بقراءتي فاقرأوا" . رواه الدارقطني. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن للإمام سكتتان فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب: "إذا دخل في الصلاة وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} .
مسألة: "ثم يقرأ سورة تكون في الصبح من طوال المفصل وفي المغرب من قصاره, وفي سائر الأوقات من أواسطه" لما رود جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الفجر بـ "ق". رواه مسلم5, وعنه كان النبي يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} , {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} . ونحوها من السور. رواه أبو داود, وعنه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا وجبت الشمس صلى الظهر وقرأ بنحو {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} . والعصر كذلك والصلاة كلها إلا الصبح فإنه كان
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 89- باب ما يقول بعد التكبير: حديث رقم 743. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 13- باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة: حديث رقم 50.
2 -رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 95- باب وجوب القراءة للإمام والمأموم: حديث رقم 756. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 11- باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة: حديث رقم 34.
3 - آية 204 سورة الأعراف.
4 - رواه أحمد في المسند 3/339.
5 - رواه مسلم في: 4- كتاب الصلاة: 35- باب القراءة في الصبح: حديث رقم 168.(1/68)
ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء ويسر فيما عدا ذلك, ثم يكبر ويركع ويرفع يديه كرفعه الأول, ثم يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه ويمد ظهره ويجعل رأسه حياله ثم يقول: "سبحان ربي العظيم ثلاثا ثم
ـــــــ
يطيلها". رواه أبو داود1. وأما المغرب فإنه يستحب تعجيلها للخلاف في وقتها فيقرأ فيها من قصار المفصل وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالتين والزيتون.
مسألة: "ويجهر الإمام بالقراءة في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء ويسر فيما عدا ذلك" ولا خلاف في استحباب ذلك, والأصل فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم, وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السلف
مسألة: "ثم يكبر ويركع ويرفع يديه كرفعه الأول" والركوع ركن لقوله سبحانه: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} 2 ويكبر لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع, ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه يفعل ذلك في صلاته كلها. متفق عليه3. ويرفع يديه وهو مستحب في ثلاثة مواضع لما سبق في حديث ابن عمر.
مسألة: " ثم يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه ويمد ظهره ويجعل رأسه حياله" لما روى أبو حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره4,5 وفي لفظ ركع ثم اعتدل ولم يصوب رأسه ولم يقنع6. وفي حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما ووتر يديه فنحاهما عن جنبيه صحيح.
مسألة: "ثم يقول: سبحان ربي العظيم ثلاثا" وهو واجب لما روى عقبة ابن عامر أنه لما نزل {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" . فلما نزل: {سَبِّحِ
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 129- باب قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر: حديث رقم 805. رواه أبو داود في: المصدر عاليه: حديث رقم 806.
2 0- آية 77 سورة الحج.
3 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 128- باب يهوي بالتكبير حين يسجد: حديث رقم 803. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 10- باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع في الصلاة: حديث رقم 28.
4 - قوله: هصر ظهره, بفتح الهاء والصاد المهملة, أي: أماله. فتح الباري 2/322.
5 - أورده البخاري معلقا مجزوما به في: 10- كتاب الأذان: 120- باب استواء الظهر في الركوع. ورواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 115- باب افتتاح الصلاة: حديث رقم 731.
6 - رواه النسائي في: 12- باب التطبيق: 7- باب الاعتدال في الركوع: حديث رقم 1.(1/69)
يرفع رأسه قائلا سمع الله لمن حمده ويرفع يديه كرفعه الأول فإذا اعتدل قائما قال: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شئ بعد ويقتصر المأموم على قول: ربنا ولك الحمد ثم يخر ساجدا مكبرا
ـــــــ
اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم" . رواه أبو داود1. وعنه ليس بواجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها للمسيء في صلاته.
مسألة: "ثم يرفع رأسه" وهذا الرفع والاعتدال ركنان لقوله عليه السلام للمسيء في صلاته: "ثم ارفع حتى تعتدل قائما" 2.
مسألة: "ثم يقول سمع الله لمن حمده" قال أبو حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثم قال سمع الله لمن حمده ورفع يديه" 3. وفي حديث ابن عمر المتفق عليه: "وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ويقول سمع الله لمن حمده" 4.
مسألة: "ويرفع يديه كرفعه الأول" وموضع الرفع بعد اعتداله قائما ووجه حديث ابن عمر المتفق عليه5. وفي بعض ألفاظه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه وإذا ركع وبعد ما يرفع رأسه.
مسألة: "فإذا اعتدل قائما قال: "ربنا ولك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد" . لما روى أبو سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه قال ذلك. متفق عليه.
مسألة: "ويقتصر المأموم على قول ربنا ولك الحمد" لا يستحب له الزيادة على ذلك نص عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد" . ولم يأمرهم بغيره6.
مسألة: "ثم يخر ساجدا مكبرا" والسجود والطمأنينة فيه ركنان لحديث المسيء في
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 149- باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده: حديث رقم 869.
2 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 122- باب أمر النبي الذي لا يتم ركوعه بالإعادة: حديث رقم 793.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 83- باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء: حديث رقم 735. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 9- باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام: حديث رقم 25.
5 - رواه مسلم في: 4- كتاب الصلاة وتخفيفها في تمام: حديث رقم 194.
6 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 82- باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة: حديث رقم 732.(1/70)
ولا يرفع يديه ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ثم كفاه ثم جبهته وأنفه ويجافي عضديه عن جنبه وبطنه عن فخذيه ويجعل يديه حذو منكبيه ويكون على أطراف قدميه ثم يقول: سبحان ربي الأعلى ثلاثا ثم يرفع رأسه مكبرا ويجلس
ـــــــ
صلاته وينحط مكبرا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يكبر حين يسجد. متفق عليه1.
مسألة: "ولا يرفع يديه" لما سبق من حديث ابن عمر
مسألة: "ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ثم كفاه ثم جبهته وأنفه" لما روى وائل بن حجر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه رواه أبو داود2
مسألة: "ويجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه" لما روى أبو حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم جافى عضديه عن إبطيه ووصف البراء سجود النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يديه بالأرض ورفع عجيزته رواه أبو داود3.
مسألة: "ويجعل يديه حذو منكبيه" لما روى أبو حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع كفيه حذو منكبيه4
مسألة: "ويكون على أطراف قدميه" لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت بالسجود على سبعة أعظم: الجبهة واليدين والركبتين وأطراف القدمين, متفق عليه5.
مسألة: "ثم يقول: سبحان ربي الأعلى ثلاثا" لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سجد أحدكم فليقل سبحان ربي الأعلى ثلاثا وذلك أدناه6, رواه الأثرم والترمذي
مسألة: "ثم يرفع رأسه مكبرا ويجلس مفترشا" ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "ثم ارفع حتى تطمئن جالسا" 7. وهذا الجلوس والطمأنينة فيه ركنان للخبر ومعنى الافتراش أن
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 -رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 139- باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه: حديث رقم 838.
3- رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 156- باب صفة السجود: حديث رقم 896.
4- سبق تخريجه.
5 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 134- باب السجود على الأنف: حديث رقم 812. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 44- باب أعضاء السجود: حديث رقم 228.
6 - رواه البخاري في: 2- كتاب الصلاة: 194- باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود: حديث رقم 261.
7 - سبق تخريجه.(1/71)
مفترشا فيفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويثني أصابعها نحو القبلة ويقول: ربي اغفر لي ثلاثا ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى ثم يرفع رأسه مكبرا وينهض قائما فيصلي الثانية كالأولى فإذا فرغ منهما جلس للتشهد مفترشا ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ويده اليمنى على فخذه اليمنى يقبض منها الخنصر والبنصر ويحلق الإبهام مع الوسطى ويشير بالسبابة في تشهده مرارا ويقول: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
ـــــــ
"يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويثني أصابعها نحو القبلة" لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ثم اعتدل حتى رجع كل عضو في موضعه وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى وينهي عن عقبة الشيطان رواه مسلم1.
مسألة: ويقول: "رب اغفر لي ثلاثا " لما روى حذيفة أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول بين السجدتين: "رب اغفر لي" 2. رواه النسائي.
مسألة: "ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى سواء ثم يرفع رأسه مكبرا" لحديث أبي هريرة رضي الله عنه " وينهض قائما " لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهض على صدور قدميه وفي حديث وائل بن حجر: إذا نهض رفع يديه قبل ركبتي وفي لفظ: فإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه رواه أبو داود3.
مسألة: "ويصلي الثانية كالأولى" لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها" 4. إلا في تكبيرة الإحرام والاستفتاح وفي الاستعاذة روايتان
مسألة: "فإذا فرغ منهما جلس للتشهد مفترشا" لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى ونصب الأخرى وفي لفظ فافترش رجله اليسرى وأقبل بصدر اليمنى على قبلته حديث صحيح5.
مسألة: "ويتشهد" كما روى عبد الله بن مسعود قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: 4- كتاب الصلاة: 46- باب ما يجمع صفة الصلاة: حديث رقم 240.
2 - رواه النسائي في: 12- كتاب التطبيق: 87- باب الدعاء بين السجدتين: حديث رقم 1.
3 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 139- باب كيف يضع ركبتيه قبل يديه: حديث رقم 838.
4 - سبق تخريجه.
5 - سبق تخريجه.(1/72)
فهذا أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ويستحب أن يتعوذ من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك
ـــــــ
كفي بين كفيه -كما يعلمني السورة من القرآن "التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" متفق عليه1, وقال الترمذي: هذا أصح حديث روي في التشهد اختاره أحمد كذلك فإن تشهد بغيره مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كتشهد ابن عباس وغيره جاز نص عليه.
مسألة: "ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهو واجب لقوله عليه السلام في حديث كعب بن عجرة: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد متفق عليه2, أمر والأمر يقتضي الوجوب وقد روي قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد أي ذلك أجزأه
مسألة: "ويستحب أن يتعوذ" من أربع وهي ما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال. متفق عليه3.
مسألة: "ثم يسلم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك" , وهو ركن لقوله عليه السلام: "وتحليلها التسليم" . رواه أبو داود4. وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 148- باب التشهد في الآخرة. حديث رقم 831. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 16- باب التشهد في الصلاة: حديث رقم 55.
2 - رواه البخاري في: 60- كتاب أحاديث الأنبياء: 10- باب حديثنا موسى بن إسماعيل: حديث رقم 3369. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 17- باب الصلاة على النبي: حديث رقم 66.
3 - رواه البخاري في:10- كتاب الأذان: 149- باب الدعاء قبل السلام: حديث رقم 832. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 25- باب ما يستعاذ منه في الصلاة: حديث رقم 128.
4 - رواه أبو داود في: 1- كتاب الطهارة: 30- باب فرض الوضوء: حديث رقم 61.(1/73)
وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين نهض بعد التشهد الأول كنهوضه من السجود ثم يصلي ركعتين لا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئا فإذا جلس للتشهد الأخير تورك: فنصب رجله اليمنى وفرش اليسرى وأخرجهما عن يمينه ولا يتورك في صلاة
ـــــــ
يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله, وفي لفظ: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره رواه مسلم1. والتسليمة الثانية سنة لأن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم فسلم مرة واحدة تلقاء وجهه رواه ابن ماجه2. وكذلك روي عن سلمة ابن الأكوع عن النبي صلى الله عليه وسلم, ولأنه إجماع حكاه ابن المنذر عمن يحفظه من أهل العلم, وقال عمار بن أبي عمار: كان مسجد الأنصار يسلمون تسليمتين وكان مسجد المهاجرين يسلمون فيه تسليمة واحدة, ولأن التسليمة الأولى قد خرج بها من الصلاة فلم يجب ما بعدها.
مسألة: "وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين نهض بعد التشهد الأول كنهوضه من السجود, ثم يصلي ركعتين لا يقرأ فيهما بعد الفاتحة شيئا" لما روى أبو قتادة, أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخيرتين بأم الكتاب وكتب عمر إلى شريح أن اقرأ في الركعتين الأوليين بأم الكتاب وسورة وفي الأخريين بأم القرآن.
مسألة: "فإذا جلس للتشهد الأخير تورك: فنصب رجله اليمنى وفرش اليسرى وأخرجهما عن يمينه" فإن في بعض روايات أبي حميد: حتى إذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض وأخرج قدميه من ناحية واحدة رواه أبو داود3. وفي رواية جلس على إليتيه وجعل بطن قدمه اليسرى عند مأبض اليمنى ونصب قدمه اليمنى كما قال الخرقي وأيهما فعل جاز.
مسألة: "ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما" لما روى وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس للتشهد افترش رجله اليسرى ونصب رجله اليمنى4, ولم يفرق بين كونه آخرا أو وسطا, وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول
ـــــــ
1 - رواه النسائي في: 13- كتاب السهو: 66- باب كيف السلام على اليمين: حديث رقم1.
2 - رواه ابن ماجه في: 5- كتاب إقامة الصلاة. 29- باب من يسلم تسليمة واحدة: حديث رقم 965.
3 -ى رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: 179- باب من يسلم تسليمة واحدة: حديث رقم 919.
4 - رواه النسائي في: 12- كتاب التطبيق: 98- باب موضع اليدين عند الجلوس للتشهد الأول: حديث رقم1.(1/74)
فيها تشهدان في الأخير منهما, فإذا سلم استغفر ثلاثا وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" .
ـــــــ
في كل ركعتين: "التحية وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" رواه مسلم1. وأحتج به أحمد وهذان الحديثان يقتضيان كل تشهد بالافتراش إلا أنه خرج من عمومهما التشهد الثاني لحديث أبي حميد لخصوصه في التشهد الأخير والخاص يقدم على العام ففيما عداه يبقى على مقتضى العموم.
مسألة: "فإذا سلم استغفر ثالثا وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام" قال ثوبان: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال ذلك". رواه مسلم2. قال الأوزاعي: يقول استغفر الله استغفر الله.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: 4- كتاب الصلاة: 46- باب ما يجمع صفة الصلاة: حديث رقم 240.
2 - رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد: 26- باب استحباب الذكر بعد الصلاة: حديث رقم 135.(1/75)
باب أركان الصلاة وواجباتها
أركانها: اثنا عشر: القيام مع القدرة وتكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة, والركوع والرفع منه والسجود والجلوس عنه, والطمأنينة في هذه الأركان والتشهد الأخير والجلوس له والتسليمة الأولى وترتيبها على ما ذكرناه, فهذه الأركان لا تتم الصلاة إلا بها.
وواجباتها: سبعة: التكبير غير تكبيرة الإحرام
ـــــــ
باب أركان الصلاة وواجباتها
مسألة: "أركانها اثنا عشر: القيام مع القدرة وتكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة والركوع والرفع منه والسجود والجلوس عنه والطمأنينة في هذه الأركان والتشهد الأخير والجلوس له والتسليمة الأولى وترتيبها على ما ذكرناه" وقد سبق ذكر أدلته في صفة الصلاة سوى الترتيب, ودليل أنه ركن في الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها مرتبة وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 3.
مسألة: "فهذه الأركان لا تتم الصلاة إلا بها" بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "ارجع فصل فإنك لم تصل حين ترك هذه الأفعال" .
مسألة: "وواجباتها سبعة: التكبير غير تكبيرة الإحرام والتسبيح في الركوع والسجود مرة مرة والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع وقول رب اغفر لي بين
ـــــــ
3 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 18- باب الأذان للمسافرين: حديث رقم 631.(1/75)
والتسبيح في الركوع والسجود مرة مرة, والتسميع والتحميد في الرفع من الركوع وقول: ربي اغفر لي بين السجدتين والتشهد الأول والجلوس له والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فهذه إن تركها عمدا بطلت صلاته وإن تركها سهوا سجد لها.
وما عدا هذا فسنن لا تبطل الصلاة بعمدها ولا يجب السجود لسهوها
ـــــــ
السجدتين1, والتشهد الأول والجلوس له والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فهذه إن تركها عمدا بطلت صلاته وإن تركها سهوا جبرها بالسجود" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ترك التسهد الأول وقام إلى الثالثة سبحوا به فلم يرجع حتى إذا جلس للتسليم سجد سجدتين وهو جالس, ولولا أن التشهد يسقط بالسهو لرجع إليه ولما سجد جبرا لنسيانه, فدل على وجوبه ووجوب السجود له وغير التشهد من الواجبات مقيس عليه ومشبه به, ولا يمتنع أن يكون للعبادات واجبات تجبر إذا تركها وواجبات لا تجبر, فلا تصح العبادات بدونها سميت لذلك أركانا كالحج في واجباته وأركانه, وعنه أنها سنة سبق توجيهها في صفة الصلاة فعلى هذا لا تبطل الصلاة بتركها وحكمها في السجود حكم السنن على ما يأتي.
مسألة: "وما عدا هذا فسنن لا تبطل الصلاة بتركها ولا يشرع السجود لها" وهي قسمان: سنن أقوال وسنن أفعال: فأما سنن الأقوال فقد ذكر عنه في الجهر والإخفات روايتان: إحداهما لا يشرع له السجود قياسا على رفع اليدين والأخرى يشرع لقوله عليه السلام: "إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين" 2, وإذا قلنا يشرع فهو مستحب نص عليه فقال: إن شاء سجد ولأنه شرع جبرا لما ليس بواجب فأولى أن لا يكون واجبا, وفي بقيتها وجهان قياسا على الجهر والإخفات وأما سائر السنن فقال القاضي: لا يسجد لها بحال ولا نعلم أحدا خالف هذا لأنه ليس من جنسه ما شرع له السجود
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه ابن ماجه في: 5- كتاب إقامة الصلاة: 129- باب السهو في الصلاة: حديث رقم 1203.(1/76)
باب سجدتى السهو
والسهو على ثلاثة أضرب:
أحدها: زيادة فعل من جنس الصلاة كركعة أو
ـــــــ
باب سجدتي السهو
مسألة: "والسهو على ثلاثة أضرب: أحدها زيادة فعل من جنسها كركعة أو ركن فتبطل الصلاة بعمده لما سبق ويسجد لسهوه" لما روى ابن مسعود قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم فقال: "ما شأنكم" . قالوا: يا رسول الله هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: "لا". قالوا: فإنك صليت خمسا فانفتل فسجد سجدتين.(1/76)
ركن فتبطل الصلاة بعمده ويسجد لسهوه, وإن ذكر وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد, ولو فعل ما ليس من جنس الصلاة لاستوى عمده وسهوه, فإن كان كثيرا أبطلها وإن كان
ـــــــ
ثم سلم ثم قال: "إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين وفي لفظ فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين" رواه مسلم1.
مسألة: "وإن ذكر وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال" فإن لم يجلس في الحال بطلت صلاته لأنه ترك الواجب عمدا.
مسألة: "وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد" لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشاء فصلى ركعتين ثم سلم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فوضع يديه عليها كأنه غضبان, وخرجت السرعان من المسجد فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه وفي القوم رجل في يديه طول يقال له ذو اليدين فقال: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: "لم أنس ولم تقصر" . فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: "نعم". فتقدم فصلى ما ترك من صلاته ثم سلم, ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه فكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول, ثم رفع رأسه فكبر فقال: ربما سألوه ثم سلم. قال: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم. متفق عليه2.
مسألة: "ولو فعل ما ليس من جنس الصلاة لاستوى عمده وسهوه" يعني في الإبطال "فإن كان كثيرا" في العادة متواليا كالمشي والحك والتروح "يبطل" إجماعا؛ لأنه من غير جنس الصلاة ولا يشرع له سجود لذلك "وإن قل لم يبطلها" لما روى أبو قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا سجد وضعها متفق عليه3. وروي أنه فتح الباب لعائشة رضي الله عنها وهو في الصلاة والقليل ما شابه "فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتحه الباب وحمله أمامة" , والكثير ما عد في العرف كثيرا فيبطل إلا أن يفعله متفرقا بدليل حمل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامة في صلاته حيث فعله متفرقا لم يبطل وإن كان كثيرا
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: كتاب المساجد: 19- باب السهو في الصلاة: حديث رقم 93.
2 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 69- باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس: حديث رقم 714. ومسلم في: كتاب المساجد: 19- باب السهو في الصلاة: حديث رقم 97.
3 - رواه البخاري في: 8- كتاب الصلاة: 106- باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة: حديث رقم 516. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 9- باب جواز حمل الصبيان في الصلاة: حديث رقم 41, 42, 43.(1/77)
يسيرا -كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حمله أمامة وفتحه الباب لعائشة- فلا بأس.
الضرب الثاني: النقص: كنسيان واجب فإن قام عن التشهد الأول فذكر قبل أن يستتم قائما رجع فأتى بت.
وإن استتم قائما لم يرجع وإن نسي ركنا فذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى رجع فأتى به وبما بعده, وإن ذكره بعد ذلك بطلت الركعة التي تركه منها وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات فذكر في التشهد سجد في الحال فصحت له ركعة ثم يأتي بثلاث ركعات.
الضرب الثالث: الشك فمن شك في ترك ركن فهو كتركه له ومن شك في
ـــــــ
مسألة: "الضرب الثاني النقص كنسيان واجب فإن قام عن التشهد فذكر قبل أن يستتم قائما رجع فأتى به" لما روى لمغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم في الركعتين ولم يستتم قائما فليجلس فإذا استتم قائما فلا يجلس ويسجد سجدتي السهو" . رواه أبو داود1. ولأنه أخل بواجب وذكر قبل الشروع في ركن مقصود فلزمه الإتيان به كما لو لم تفارق إليتاه الأرض.
مسألة: "وإن استتم قائما لم يرجع" للخبر ولأنه تلبس بركن فلم يرجع إلى واجب.
مسالة: "وإن نسي ركنا فذكره قبل شروعه في قراءة ركعة أخرى رجع فأتى به وبما بعده" لأنه ذكره في موضعه فيأتي بت, كما لو ترك سجدة من الركعة الأخيرة فذكرها قبل السلام فإنه يأتي بها في الحال "وإن ذكره بعد ذلك بطلت الركعة التي تركه منها" وصارت الثانية أولاه, ويسجد قبل السلام بدليل المزحوم عن السجود في الجمعة إذا زال الزحام والإمام راكع في الثانية فإنه يتبعه ويسجد معه ويكون السجود من الثانية لا تتم به الأولى كذلك هنا.
مسألة: "وإن نسي أربع سجدات من أربع ركعات فذكر في التشهد سجد سجدة في الحال فصحت له ركعة ثم يأتي بثلاث ركعات" ويسجد للسهو لأنه إذا ترك السجدة من الركعة الأولى فشرع في قراءة الركعة الثانية بطلت الأولى, لما بيناه في التي قبلها وإذا ترك من الثانية سجدة ثم شرع في قراءة الركعة الثالثة بطلت الثانية, وكذلك الثالثة فإذا ترك من الرابعة سجدة وذكر في التشهد سجد سجدة وتصح له ركعة لأنه ذكره في موضعه ويأتي بثلاث ركعات ويسجد قبل السلام, ودليل ذلك مسألة المزحوم في الجمعة وعنه تبطل صلاته لأنه يفضي إلى عمل كثير غير معتد بت.
"الضرب الثالث الشك فمن شك في ترك ركن فهو كتركه له" لأن الأصل عدمه
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 199- باب من نسي أن يتشهد وهو جالس: حديث رقم 1036.(1/78)
عدد الركعات بنى على اليقين
إلا الإمام خاصة فإنه يبني على غالب ظنه, ولكل سهو سجدتان قبل السلام إلا من سلم عن نقص في صلاته والإمام إذا بنى على غالب ظنه والناسي للسجود قبل السلام فإنه يسجد سجدتين بعد سلامه ثم يتشهد
ـــــــ
"وإن شك في عدد الركعات بنى على اليقين" لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثا أو أربعا فليطرح الشك وليبن على ما تيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته وإن كان صلى أربعا كانتا ترغيما للشيطان" 1. رواه مسلم. وعنه يبني على غالب ظنه ويتم صلاته ويسجد بعد السلام لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب وليتم ما بقي عليه ثم يسجد سجدتين" . متفق عليه. وللبخاري: "بعد التسليم"2.
مسألة: "إلا الإمام خاصة فإنه يبني على غالب ظنه" لأن له من يذكره إن غلط فلا يخرج منها على شك والمنفرد يبني على اليقين لأنه لا يأمن الخطأ وليس له من يذكره فيلزمه البناء على اليقين كيلا يخرج من الصلاة شاكا, وهذا ظاهر المذهب فيحمل حديث ابن مسعود على الإمام وحديث أبي سعيد على المنفرد جمعا بين الحديثين وعنه يبني الإمام على اليقين كالمنفرد.
مسألة: "ولكل سهو سجدتان قبل السلام" لحديث أبي سعيد "إلا في موضعين: أحدهما إذا سلم عن نقص في صلاته" ناسيا فإنه إذا لم يطل الفصل يأتي بما ترك ويتشهد ويسلم لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم إحدى صلاتي العشاء فسلم من ركعتين الحديث "و" الموضع الثاني: "إذا بنى الإمام على غالب ظنه" فإنه يسجد بعد السلام لحديث ابن مسعود, وعنه أن السجود كله قبل السلام. لحديث أبي سعيد وابن بحينة وعنه ما كان من زيادة فهو بعد السلام لحديث ذي اليدين وحديث ابن مسعود3 وما كان من نقص كان قبله لحديث ابن بحينة حين ترك التشهد الأول.
مسألة: "والناسي للسجود قبل السلام فإنه يسجد سجدتين بعد السلام ثم يتشهد ويسلم" وذلك ما لم يطل الفصل أو يخرج من المسجد لما روى ابن مسعود أن النبي
ـــــــ
1 -رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد ومواضع الصلاة: 19- باب السهو في الصلاة: حديث رقم 88.
2 - رواه البخاري في: 8- كتاب الصلاة: 31- باب التوجه نحو القبلة حيث كان: حديث رقم 401. ومسلم في: 5- كتاب المساجد: 19- باب السهو في: الصلاة: حديث رقم 89.
3 - سبق تخريجه.(1/79)
ويسلم.
وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه ومن سها إمامه أو نابه أمر في صلاته فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء.
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام والكلام. رواه مسلم1. وحديث ذي اليدين وإن طال الفصل لم يسجد واختلف في المدة فقال الخرق: ما لم يخرج من المسجد وإن خرج لم يسجد نص عليه لأنه محل الصلاة وموضعها فاعتبرت المدة كخيار المجلس. وقال القاضي: إن طال الفصل لم يسجد وإن لم يطل سجد ويرجع في الطول والقصر إلى العادة لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى المسجد بعد ما خرج منه فأتم صلاته في حديث عمران بن حصين2 فالسجود أولى. وعنه يسجد وإن خرج وتباعد لأنه جبران فيأتي به بعد طول الزمان كجبرانات الحج. قال مالك: يأتي به ولو بعد شهر.
مسألة: "وليس على المأموم سجود إلا أن يسهو إمامه" لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على خلف الإمام سهو فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه" . رواه الدارقطني, ولأن المأموم تابع للإمام "فلزمه متابعته في السجود" وفي تركته لقوله: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"3.
مسألة: "ومن سها إمامه أو نابه أمر في صلاته فالتسبيح للرجال والتصفيق للنساء" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نابكم أمر فليسبح الرجال وليصفق النساء". متفق عليه4.
ـــــــ
1 -انظر تخريج الحديث قبل السابق.
2 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 193- باب السهو في السجدتين:حديث رقم 1018.
3 -رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 51- باب إنما جعل الإمام ليؤتم به: حديث رقم 688, 689. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 19- باب ائتمام المأموم بالإمام: حديث رقم 77, 82, 86.
4 - رواه البخاري في: 10- كتاب الأذان: 48- باب من دخل ليؤم الناس فجاء الأمام: حديث رقم 684. ومسلم في: 4- كتاب الصلاة: 22- باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام: حديث رقم 102.(1/80)
باب صلاة التطوع
وهي على خمسة أضرب:
ـــــــ
باب صلاة التطوع
"وهي على خمسة أضرب: أحدها السنن الراتبة وهي عشر ركعات قال ابن عمر: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل الصبح" كانت ساعة لا يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها, "وحدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر صلى ركعتين.(1/80)
أحدها: السنن الرواتب وهي التي قال ابن عمر رضي الله عنه: عشر ركعات حفظتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها, وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته وركعتين قبل الفجر وحدثتني حفصة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طلع الفجر وأذن المؤذن صلى ركعتين وهما آكدها ويستحب تخفيفهما وفعلهما في البيت أفضل وكذلك ركعتا المغرب.
الضرب الثاني: الوتر ووقته ما بين صلاة العشاء والفجر وأقله ركعة وأكثره
ـــــــ
متفق عليه1. وآكدها ركعتا الفجر" قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر, وقال: "ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها" . رواه مسلم2 وقال: "صلوها ولو طردتكم الخيل" . رواه أبو داود3.
مسألة: "ويستحب تخفيفهما" لأن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين قبل الصلاة حتى أقول هل قرأ فيهما بأم القرآن أخرجه أبو داود4.
مسألة: "وكذلك ركعتا المغرب" لأنها سنة المغرب والمغرب يستحب تخفيفها فكذلك سنتها.
الضرب الثاني: الوتر ووقتها ما بين العشاء والفجر" لما روى أبو بصرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح الوتر" . رواه أحمد5. قال عليه السلام: "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" متفق عليه6.
مسألة: "وأقله ركعة" لما روى أبو أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" . رواه أبو داود7.
مسألة: "وأكثره إحدى عشرة ركعة" لما روت عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 19- كتاب التهجد: 34- باب الركعتين قبل الظهر: حديث رقم 1180, 1181. ومسلم في: 6- كتاب المسافرين: 15- باب فضل السنن الراتبة: حديث رقم 104.
2 - رواه مسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: 14- باب استحباب ركعتي الفجر: حديث رقم 94, 96.
3 - رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 3- باب في تخفيفهما: حديث رقم 1258.
4 - المصدر عاليه: حديث رقم 1255.
5 - رواه أحمد في: المسند 2/205 و 208, 5/242, 6/7.
6 - رواه البخاري في: 14- كتاب الوتر: 1- باب ما جاء في الوتر: حديث رقم 990. ومسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: 20- باب صلاة الليل مثنى مثنى: حديث رقم 145.
7 - رواه أبو داود في: 8- كتاب الوتر: 3- باب كم الوتر: حديث رقم 1422.(1/81)
إحدى عشرة وأدنى الكمال ثلاث بتسليمتين ويقنت في الثالثة بعد الركوع
الضرب الثالث: التطوع المطلق وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار
ـــــــ
مابين العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة متفق عليه1.
مسألة: "وأدنى الكمال ثلاث بتسليمتين" لما روى عبد الله أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوتر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم" . رواه الأثرم.
مسألة: "ويقنت في الثالثة بعد الركوع" لما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع رواه مسلم2. والقنوت الدعاء وهو ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قنت فقال: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوب إليك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله ونشكرك ولا نكفرك بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار ملحق, اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك, وهاتان السورتان في مصحف أبي. وروى الحسن قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي فيما أعطيت وقني شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك, إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت" رواه الترمذي وقال: لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القنوت أحسن من هذا3. وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في آخر الوتر: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك عن عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" . رواه الطيالسي وأبو داود4.
الثالث التطوع المطلق وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار" لأن الله سبحانه: أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} 5 وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 14- كتاب الوتر: 1- باب ما جاء في الوتر: حديث رقم 994. ومسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: 17- باب صلاة الليل: حديث رقم 122.
2 - رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد: 54- باب استحباب القنوت في جميع الصلاة: حديث رقم 295.
3 - رواه البخاري في: 3- أبواب الوتر: 10- باب ما جاء في القنوت في الوتر: حديث رقم 464. وقال: هذا حديث حسن.
4 - رواه أبو داود في: 8- كتاب الوتر: 5- باب القنوت في الوتر: حديث رقم 1427.
5 - آية 1 سورة المزمل.(1/82)
والنصف الأخير أفضل من الأول, وصلاة الليل مثنى مثنى وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم.
الضرب الرابع: ما تسن له الجماعة وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: التراويح وهي عشرون ركعة بعد العشاء في رمضان.
ـــــــ
الليل" قال الترمذي حديت صحيح1.
مسألة: "والنصف الأخير من الليل أفضل من النصف الأول" لما روي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ويحيى آخره, ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام فإذا كان عند النداء الأول وثب فأفاض عليه الماء وإن لم يكن جنبا توضأ"2.
مسألة: "وصلاة الليل مثنى مثنى" لقوله عليه السلام: "صلاة الليل مثنى مثنى" . متفق عليه.
مسألة: "وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة" رواه مسلم3, وقال عليه السلام: "من صلى قائما فهو أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر صلاة القائم" . رواه البخاري4, وقالت عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان كثير من صلاته وهو جالس أخرجه مسلم5.
"الرابع ما تسن له الجماعة وهو ثلاثة أنواع: أحدها التراويح وهي عشرون ركعة بعد العشاء في رمضان" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان وأقامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" . متفق عليه6. وقام النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثلاثا تم تركها خشية أن تفرض فكان الناس يصلون لأنفسهم حتى خرج عمر رضي الله عنه وهم أوزاع7 يصلون فجمعهم على أبي بن كعب. قال السائب بن زيد: لما جمع عمر الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 2- كتاب الصلاة: 207- باب ما جاء في فضل صلاة الليل: حديث رقم 438.
2 - رواه البخاري في: 19- كتاب التهجد: 15- باب من نام أول الليل وأحيى آخره: حديث رقم 1146.
3 - رواه مسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: 16- باب جواز النافلة قائما وقاعدا: حديث رقم 20.
4 - رواه البخاري في: 18- كتاب تقصير الصلاة: 17- باب صلاة القاعد: حديث رقم 1115.
5 - رواه مسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: 16- باب جواز النافلة قائما وقاعدا: حديث رقم 16.
6 - رواه البخاري في: 32- كتاب فضائل ليلة القدر: 1- باب فضل ليلة القدر: حديث رقم 2014. ومسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين وقصرها: 25- باب الترغيب في قيام رمضان: حديث رقم 175.
7 - قوله: أوزاع أي: متفرقون. أراد أنهم كانوا يتنفلون فيه بعد صلاة العشاء متفرقين. النهاية: 5/181.(1/83)
والثاني: صلاة الكسوف فإذا كسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة.
إن أحبوا جماعة وإن أحبوا أفرادا فيكبر ويقرأ الفاتحة وسورة طويلة ثم يركع ركوعا طويلا ثم يرفع فيقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون التي قبلها, ثم يركع فيطيل دون الذي قبله ثم يرفع ثم يسجد سجدتين طويلتين ثم يقوم فيفعل مثل ذلك, فتكون أربع ركعات وأربع سجدات
ـــــــ
عشرين ركعة والسنة فعلها جماعة كذلك أخرجه البخاري1.
النوع الثاني: صلاة الكسوف فإذا انكسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة" ل ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث مناديا ينادي: الصلاة جامعة وخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. متفق عليه2. وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل يخوف بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم" . رواه البخاري عن أبي بكر3.
مسألة: "إن أحبوا جماعة وإن أحبوا فرادى" لإطلاق الأمر بها في حديث ابن مسعود والأفضل الجماعة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم بها في جماعة.
مسألة: "فيكبر ويقرأ الفاتحة وسورة طويلة" ويفعل ما روت عائشة قالت: خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المسجد فقام فكبر وصف الناس وراءه فاقترأ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة ثم كبر وركع ركوعا طويلا ثم رفع رأسه وقال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" , ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر وركع ركوعا هو أدنى من ركوعه الأول ثم قال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" , ثم سجد ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل "أربع ركعات وأربع سجدات" فانجلت الشمس. متفق عليه4. وفي رواية فرأيت أنه قرأ في الأولى سورة البقرة وفي الثانية بسورة آل عمران.
ـــــــ
1 -- أخرجه البخاري في: 31- كتاب التراويح: 1- باب فضل من قام رمضان: حديث رقم 2010, 2012.
2 - رواه البخاري في: 16- كتاب الكسوف: 19- باب الجهر بالقراءة في الكسوف: حديث رقم 1065.
3 - رواه البخاري في: 16- كتاب الكسوف: 6- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يخوف الله عباده بالكسوف": حديث رقم 1048.
4 - رواه البخاري في: 16- كتاب الكسوف: 4- باب خطبة الإمام في الكسوف: حديث رقم 1046.ومسلم في: 10- كتاب الكسوف: 1- باب صلاة الكسوف: حديث رقم 3.(1/84)
الثالث: صلاة الاستسقاء, وإذا أجدبت الأرض واحتبس القطر خرج الناس مع الإمام متخشعين متبذلين متذللين متضرعين فيصلي بهم ركعتين كصلاة العيد ثم يخطب بهم خطبة واحدة.
ويكثر فيها من الاستغفار وتلاوة الآيات التي فيها الأمر به ويحول الناس أرديتهم وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا ويؤمروا أن ينفردوا عن المسلمين.
الضرب الخامس: سجود التلاوة وهي أربع عشرة سجدة في "الحج" منها
ـــــــ
"الثالث صلاة الاستسقاء إذا أجدبت الأرض واحتبس القطر خرجوا مع الإمام" على الصفة التي خرج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستسقاء "متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا" حتى أتى المصلى فلم يخطب كخطبتكم هذه, ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير "وصلى ركعتين كما يصلي في العيدين" حديث صحيح1.
مسألة: "ثم يخطب خطبة واحدة" يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد بعد الصلاة لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خطب بنا, وهذا صريح؛ ولأنها تشبه صلاة العيد وخطبتها بعد الصلاة وعنه لا يخطب لقول ابن عباس لم يخطب كخطبتكم هذه2.
مسألة: "ويكثر فيها من الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به" مثل: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} 3 {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} 4.
مسألة: "ويحول الناس أرديتهم" وهو أن يجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك تفاؤلا أن يحول الله الجدب خصبا وروى سعيد بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة وقلب رداءه, وصلى ركعتين قال سفيان: جعل اليمين على الشمال.
مسألة: "وإن خرج أهل الذمة لم يمنعوا" لأنهم يطلبون الرزق فلا يمنعون منه "وينفردون عن المسلمين"
"الخامس سجود التلاوة وهي أربع عشرة سجدة في الحج منها اثنتان" لما روى عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة منها ثلاث في المفصل
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: 3- كتاب صلاة الاستسقاء: حديث رقم 1165.
2 - رواه البخاري في: 2- كتاب الصلاة: 43- باب ما جاء في صلاة الاستسقاء: حديث رقم 558. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
3 - آية 10 سورة نوح.
4 - آية 3- سورة هود.(1/85)
اثنتان ويسن السجود للتالي والمستمع دون السامع
ويكبر إذا سجد وإذا رفع رأسه ثم يسلم.
ـــــــ
واثنتان في الحج رواه أبو داود1. وقد روى عقبة بن عامر أنه قال: يا رسول الله في الحج سجدتان؟ قال: "نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما" . رواه أبو داود2.
مسألة: "ويسن السجود للتالي والمستمع دون السامع" لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد وسجد أصحابه معه ولا نعلم فيه خلافا وروى مسلم عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة في غير الصلاة فيسجد ونسجد معه حتى لا يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته3. فأما السامع غير القاصد للسماع فلا يستحب له لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه مر بقاص فقرأ القاص سجدة ليسجد عثمان معه فلم يسجد, وقال: إنما السجدة على من استمع. وقال عمر وابن مسعود وإنما جلسنا لها, ولا مخالف لهما في عصرهم إلا قول ابن عمر: إنما السجدة على من سمعها فيحتمل أنه أراد من سمع عن قصد فيحمل كلامه عليه جميعا بين أقوالهم.
مسألة: "ويكبر إذا سجد وإذا رفع ثم يسلم" لأن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه4 ويكبر للرفع منه؛ لأنها صلاة ذات إحرام أشبهت صلاة الجنازة ويسلم أيضا عند فراغه لذلك.
ـــــــ
1 - رواه أبوداد في: 7- كتاب السجود: حديث رقم 1401.
2 - المصدر عاليه: حديث رقم 1402.
3 - رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد:ت 20- باب سجود التلاوة: حديث رقم 103.
4 - سبق تخريجه.(1/86)
باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها.
وهي خمس: بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح, وعند قيامها حتى تزول وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب وإذا
ـــــــ
باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها.
"وهي خمس: بعد طلوع الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس وعند طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح وعند قيامها حتى تزول, وإذا تضيفت للغروب حتى تغرب" والأصل فيها أحاديث: منها ما روي عن ابن عباس قال: شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق(1/86)
تضيفت حتى تغرب فهذه الساعات التي لا يصلي فيها تطوعا إلا في إعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد وركعتي الطواف بعده والصلاة على الجنازة, وقضاء
ـــــــ
الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" . متفق عليهما1. وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب" 2. وله عن عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب3.
مسألة: "فهذه الساعات لا يجوز أن يصلي فيها تطوعا لذلك إلا إعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد" وقد كان صلى. لما روى جابر بن زيد عن أبيه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجته فصليت معه صلاة الفجر فلما قضى صلاته إذا هو برجلين في آخر القوم لم يصليا معه فقال: "ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله صلينا في رحالنا. فقال: "لا تفعلا إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة" . رواه الأثرم ورواه الترمذي ولفظه: "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام فليصل معه فإنها له نافلة" . وقال: حديث حسن صحيح4. وهذا بعمومه دليل على جواز الإعادة على الإطلاق في كل صلاة.
مسألة: "وركعتي الطواف" لما روى جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار" . رواه الترمذي وقال: حديث صحيح5. وهو عام.
مسألة: "والصلاة على الجنازة" ولا خلاف فيها. قال ابن المنذر: إنها تصلى في وقت النهي.
ـــــــ
1 -الأول رواه البخاري في: 9- كتاب مواقيت الصلاة: 30- باب الصلاة بعد الفجر ترتفع الشمس: حديث رقم 581. ومسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: 51- باب الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها: حديث رقم 286. والثاني رواه البخاري في: المصدر عاليه: 31- باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس.: حديث رقم 586. ومسلم في: المصدر عاليه: حديث رقم 288.
2 - المصدر عاليه: حديث رقم 291.
3 -المصدر عاليه: حديث رقم 293.
4 -رواه أبو داود في: 2- كتاب الصلاة: 53- باب في الجمع في المسجد مرتين: حديث رقم 575. والترمذي في: 2- كتاب الصلاة: 49- باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة: حديث رقم 219. وقال: حديث حسن صحيح.
5 رواه الترمذي في: 7- كتاب الحج: 42- باب ما جاء في الصلاة بعد العصر: حديث رقم 868.(1/87)
السنن الرواتب في وقتين منها وهما بعد الفجر وبعد العصر
ويجوز قضاء المفروضات
ـــــــ
مسألة: "وقضاء السنن الرواتب في وقتين منها وهما بعد الفجر وبعد العصر" لما روى قيس بن فهد قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فقال: "ما هاتان الركعتان يا قيس" . قلت: يا رسول الله لم أكن صليت ركعتي الفجر فهما هاتان. فسكت وسكوته دليل على الجواز؛ لأنه لا يقر على الخطأ. رواه أحمد وأبو داود1. وقال: إسناده ليس بمتصل محمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس وروى مسلم. عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عنهما ثم رأيته يصليهما. وقال: "يا بنت أبي أمية أتاني أناس من عبد القسيس بالإسلام من قومهم فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان" 2. وصح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الركعتين اللتين قبل العصر بعدها3؛ ولأن لها سببا فجازت في وقت النهي كركعتي الطواف.
مسألة: "ويجوز قضاء الفوائت المفروضات" في جميع الأوقات لقوله عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" . متفق عليه4. وفي حديث أبي قتادة: "إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها" 5. ولأنه وقت نهي فجاء فيه قضاء الفوائت كالوقتين, فإن من خالف فيها سلم في وقتين وخالف في ثلاثة وهي المذكورة في حديث عقبة بن عامر إلا عصر يومه فإنه سلم أن يصليها قبل غروب الشمس.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: 5- كتاب التطوع: 6- باب من فاتته متى يقضيها: حديث رقم 1267.
2 - رواه مسلم في: 6- كتاب صلاة المسافرين: حديث رقم 297.
3 - المصدر عاليه: حديث رقم 298.
4 - رواه البخاري في: كتاب مواقيت الصلاة: حديث رقم 597. ومسلم في: كتاب المساجد: حديث رقم 309.
5 - رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: حديث رقم 437.(1/88)
باب الإمامة
روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة
ـــــــ
باب الإمامة
روى أبو مسعود البدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن(1/88)
سواء قأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" , وقال لمالك بن الحويرث وصاحبه: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما". وكانت قراءتهما متقاربة ولا تصح الصلاة خلف من صلاته فاسدة إلا لمن لم يعلم بحدث نفسه, ولم يعلمه المأموم حتى سلم فإنه يعيد وحده ولا تصح خلف تارك ركن إلا إمام الحي إذا صلى جالسا لمرض يرجى برؤه, فإنهم يصلون وراءه جلوسا إلا أن يبتدئها قائما ثم يعتل فيجلس فإنهم يأتمون وراءه قياما
ـــــــ
كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا -أو قال سلما- ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" . رواه مسلم1. وقال لمالك ابن الحويرث وصاحبه: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكما وليأمكما أكبركما". وكانت قراءتهما متقاربة حديث صحيح2.
مسألة: "ولا تصح الصلاة خلف من صلاته فاسدة" كالمحدث الذي يعلم حدث نفسه لفوات الشرط فإن جهل هو والمأموم حتى قضوا الصلاة صحت صلاة المأموم وحده"؛ لما روي أن عمر صلى بالناس الصبح ثم خرج إلى الجرف3 فأهرق الماء فوجد في ثوبه احتلاما فأعاد الصلاة ولم يعد الناس4. وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي وابن عمر ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعا؛ ولأن هذا مما يخفى فكان المأموم معذورا في الاقتداء به.
مسألة: "ولا تصح خلف تارك ركن إلا إمام الحي إذا صلى جالسا لمرض يرجى برؤه فإنهم يصلون وراءه جلوسا" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم جالسا فصلى قوم وراءه قياما فأشار إليهم أن اجلسوا ثم قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون"5 . متفق عليه.
287 - ـ مسألة: "فإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل وجلس أتموا خلفه قياما" لأن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" , فلما دخل أبو بكر في الصلاة
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: 5- كتاب المساجد: حديث رقم 290.
2 - رواه البخاري في: كتاب الأذان: حديث رقم 631.
3 - قوله: الجرف بضم الجيم والراء, على ثلاثة أميال من المدينة من جانب الشام.
4 - رواه مالك في: كتاب الطهارة: حديث رقم 80.
5 - سبق تخريجه.(1/89)
ولا تصح إمامة المرأة بالرجال ومن به سلس البول والأمي الذي لا يحسن الفاتحة أو يخل بحرف منها إلا بمثلهم.
ويجوز ائتمام المتوضئ بالمتيمم والمفترض بالمتنفل.
ـــــــ
خرج النبي صلى الله عليه وسلم فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائم يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر متفق عليه1. فأتموا قياما لابتدائهم قياما.
مسألة: "ولا تصح إمامة المرأة بالرجال" لقوله عليه السلام: "لا تؤمن امرأة رجلا" . رواه ابن ماجه من حديث جابر2؛ ولأنها ليست من أهل الكمال أشبهت الصبي.
مسألة: "ولا تصح إمامة من به سلس البول" والمستحاضة, لأنه أخل بشرط وهي الطهارة.
مسألة: "ولا تصح إمامة الأمي الذي لا يحسن الفاتحة أو يخل بحرف منها إلا بمثله" لأنه عجز عن ركن الصلاة أشبه من عجز عن السجود.
مسألة: "ويجوز ائتمام المتوضئ بالمتيمم" لأن المتيمم العادم للماء كالمتوضئ القادر على الماء لأن عمرو بن العاص رضي الله عنه صلى بأصحابه في غزوة ذات السلاسل بالتيمم وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم ينكر عليه3.
مسألة: "ويصح ائتمام المفترض بالمتنفل" لما روى جابر: "أن معاذا كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيصلي بقومه تلك الصلاة". متفق عليه4. وروى الأثرم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة من أصحابه في الخوف ركعتين ثم سلم, ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين أيضا ثم سلم. والثانية منهما تقع نافلة وقد أم بها مفترضين؛ ولأنهما صلاتان أتفقتا في الأفعال فجاز ائتمام المصلي في إحداهما بالمصلي في الأخرى كالمتنفل خلف المفترض وعنه لا يجوز لقوله عليه السلام: "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه" . متفق عليه5. ولأن صلاة المأموم لا تتأدى بنية الإمام فأشبهت الجمعة خلف من يصلي الظهر والأولى أولى, فالمراد بقوله: "لا تختلفوا على أئمتكم" . يعني في الأفعال, ولهذا قال:
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: كتاب الأذان: حديث رقم 683. ومسلم في: كتاب الصلاة: حديث رقم 97.
2 - رواه ابن ماجه في: كتاب إقامة الصلاة: حديث رقم 1081.
3 - رواه أبو داود في كتاب الطهارة: حديث رقم 334.
4 - رواه البخاري في: كتاب الأذان: حديث رقم 700. ومسلم في: كتاب الصلاة: حديث رقم 181.
5 - سبق تخريجه.(1/90)
وإذا كان المأموم واحدا وقف عن يمين الإمام فإن وقف عن يساره أو قدامه أو وحده لم تصح,
إلا أن تكون امرأة فتقف وحدها خلفه, وإن كانوا جماعة وقفوا خلفه فإن وقفوا عن يمينه أوعن جانبيه صح فإن وقفوا قدامه أو عن يساره لم
ـــــــ
"فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا" 1. ولهذا يصح ائتمام المتنفل بالمفترض مع اختلاف نيتهما, والقياس ينتقض بالمسبوق في الجمعة يدرك أقل من ركعة ينوي الظهر خلف من يصلي الجمعة.
مسألة: "وإذا كان المأموم واحد وقف عن يمين الإمام" إن كان ذكرا لما روي عن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل فقمت فوقفت عن يساره فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه متفق عليه2. "فإن وقف عن يساره"لم تصح صلاته للحديث.
مسألة: "فإن وقف وحده خلف الصف لم يصح" لما روى أبو داود بإسناده عن وابصة بن معبد: أن رسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد. قال أحمد: حديث وابصة حسن. قال ابن المنذر: ثبت الحديث وفي حديث علي بن شيبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل فرد خلف الصف: "استقبل صلاتك ولا صلاة لفرد خلف الصف" . رواه الأثرم وهو نص.
مسألة: "إلا أن تكون امرأة فتقف وحدها خلفه" لما روى أنس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا فصلى ركعتين. متفق عليه3.
مسألة: "وإن كانوا جماعة وقفوا خلفه" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأصحابه فيقفون خلفه ولما وقف جابر وجبار عن يمينه وشماله أخرهما بيده إلى خلفه.
مسألة: "فإن وقفوا عن يمينه أوعن جانبيه صح" لما روي أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود فلما فرغوا قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل. رواه أبو داود4.
مسألة: "فإن وقفوا قدامه لم يصح" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" 5. لأنهم يرونه فيقتدون به بخلاف ما لو كانوا قدامه ولأنه أخطأ موقفه فلم
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 -رواه البخاري في: كتاب الأذان: حديث رقم 697, 699. ومسلم في: كتاب صلاة المسافرين: حديث رقم 181.
3 - رواه البخاري في: كتاب الصلاة: حديث رقم 380. ومسلم في: كتاب المساجد: حديث رقم 266.
4 - رواه أبو داود في كتاب الصلاة: حديث رقم 613.
5 - سبق تخريجه.(1/91)
تصح وإن صلت امرأة بنساء قامت معهن في الصف وسطهن وكذلك إمام الرجال العراة يقوم وسطهم, وإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء قدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء, ومن كبر قبل سلام الإمام فقد أدرك الجماعة ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة وإلا فلا
ـــــــ
تصح صلاته كما لو صلى في بيته بصلاة الإمام.
مسألة: "وإن صلت امرأة بالنساء قامت معهن في الصف وسطا" لما روى سعيد بن منصور أن أم سلمة أمت النساء فقامت وسطهن, وروي عن إبراهيم قال: تؤم المرأة النساء في رمضان وتقوم معهن في صفهن يركعن بركوعها ويسجدن بسجودها, ولأن المرأة يستحب لها التستر فلهذا يستحب لها ترك التجافي وكونها في وسط الصف أستر لها فاستحب لها ذلك كالعريان.
مسألة: "وكذلك إمام الرجال العراة يقوم وسطهم" ليكون ستر له فلا يرون عورته.
مسألة: "فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء تقدم الرجال" لأنهم أفضل "ثم الصبيان"؛ لأنهم يلونهم في الفضيلة "ثم الخناثى" لاحتمال أن يكونوا رجالا "ثم النساء" , والأصل في ذلك ما روي عن أبي مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أقام الصلاة فصف الرجال ثم صف خلفهم الغلمان ثم صلى بهم قال: هكذا1. قال عبد الأعلى لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي.
مسألة: "ومن كبر قبل سلام الإمام فقد أدرك الجماعة" ؛ لأنه أدرك جزءا من صلاة الإمام فأشبه ما لو أدرك ركعة, ولأنه إذا أدرك جزءا من الصلاة فدخل مع الإمام لزمه أن ينوي الصفة التي هو عليها وهو كونه مأموما فيدرك فضل الجماعة.
مسألة: "ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة وإلا فلا" لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أدركتم السجود فاسجدوا ولا تعدوها شيئا ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة" . رواه أبو داود2.
ـــــــ
1 - رواه أحمد في المسند 5/341, 342.
2 - رواه أبو داود في كتاب الصلاة: حديث رقم 893.(1/92)
باب صلاة المريض
والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى جالسا فإن لم يطق فعلى جنبه
ـــــــ
باب صلاة المريض
"والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى جالسا فإن لم يطق فعلى جنب لأن(1/92)
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك" فإن شق عليه فعلى ظهره فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ إيماء وعليه قضاء ما فاته من الصلوات في إغمائه, وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر وبين العشاءين في وقت إحداهما, فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند فعلها ويعتبر استمرار العذر حتى يشرع في الثانية منهما, ولا يفرق بينهما إلا بقدر الوضوء وإن أخر اعتبر استمرار العذر إلى دخول
ـــــــ
النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمران بن حصين: "صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك" . رواه البخاري1. وأجمعوا على أن فرض من لا يطيق القيام أن يصلي جالسا.
مسألة: "فإن شق عليه" يعني الصلاة على جنبه "صلى على ظهره" ووجهه ورجلاه إلى القبلة لأن ذلك أسهل عليه.
مسألة: "فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما" ؛ لأنه عاجز عنهما ويجعل سجوده أخفض من ركوعه اعتبارا بأصلهما.
مسألة: "وعليه قضاء ما فاته من الصلوات في إغمائه" كالنائم ثم يقضي ما فاته من الصلوات
مسألة: "وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما" لأن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. متفق عليه2. وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز من غير عذر فلم يبق إلا لمرض؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة, وهو نوع مرض وهو مخير في التقديم والتأخير أي ذلك فعل جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبا للأسهل فكذلك المريض.
مسألة: "فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند فعلها" لأنها نية يفتقر إليها فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر, "ويعتبر استمرار العذر حتى يشرع في الثانية منهما" لأن افتتاح الأولى موضع النية وبافتتاح الثانية يحصل الجمع فاعتبر العذر فيهما.
مسألة: "ولا يفرق بينهما إلا بقدر الوضوء" لأن معنى الجمع المتابعة والمقاربة ولا
ـــــــ
1 - رواه البخاري في كتاب تقصير الصلاة: حديث رقم 1117.
2 - رواه مسلم في: كتاب صلاة المسافرين: حديث رقم 54.(1/93)
وقت الثانية وأن ينوي الجمع في وقت الأولى قبل أن يضيق عن فعلها ويجوز الجمع للمسافر الذي له القصر ويجوز في المطر بين العشاءين
ـــــــ
يحصل ذلك مع الفرق الطويل والمرجع في طول ذلك وقصره إلى العرف وقدر الوضوء يسير في العرف فقدرناه به.
مسألة: "وإن أخر اعتبر استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية" لأنه وقت الجمع "ويعتبر أن ينوي الجمع في وقت الأولى قبل أن يضيق عن فعلها" لذلك.
مسألة: "ويجوز الجمع للمسافر الذي له القصر" لما روى أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أعجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق. متفق عليه1.
مسألة: "ويجوز في المطر بين العشاءين خاصة" لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان في يوم مطر أن يجمع بين المغرب والعشاء, وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء ولا يجمع بين الظهر والعصر2 للمطر, وأما المطر الذي لا يبل الثياب فلا يبيح الجمع لعدم المشقة فيه وكذلك الطل والثلج كالمطر.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 18- كتاب تقصير الصلاة: 15- باب يؤخر الظهر إلى العصر: حديث رقم 1111, 1112. ومسلم في: كتاب صلاة المسافرين: حديث رقم 48.
2 - رواه مالك في: كتاب قصر الصلاة في السفر: حديث رقم 5.(1/94)
مباحا فله قصر الرباعية خاصة إلا أن يأتم بمقيم.
أو لم ينو القصر أو نسي صلاة حضر فيذكرها في السفر أو صلاة سفر فيذكرها في الحضر فعليه الإتمام وللمسافر أن يتم والقصر أفضل
ـــــــ
وقاطع الطريق والتجارة في الخمر لم يقصر ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها, والشرع لا يرد بذلك. الشرط الثالث: أن القصر في الرباعية خاصة إلى ركعتين فلا يجوز قصر الفجر ولا المغرب إجماعا؛ لأن قصر الصبح يجحف بها وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترا. الشرط الرابع: شروعه في السفر بخروجه من بيوت قريته أو خيام قومه؛ لأن الله سبحانه قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} 1 ولا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج.
مسألة: "إلا أن يأتم بمقيم" فعليه الإتمام لأن ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. رواه الإمام أحمد, وهو ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه قول جماعة من الصحابة ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف من الصحابة فكان إجماعا.
مسألة: "أو لا ينوي القصر" مع نية الإحرام فإنه يلزمه الإتمام لأن الإتمام هو الأصل فإطلاق النية ينصرف إليه كما لو نوى الصلاة مطلقا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل.
مسألة: "أو نسي صلاة حضر فيذكرها في السفر أو صلاة سفر فيذكرها في الحضر فعليه الإتمام" لأن صلاة الحضر وجبت أربعا وصلاة السفر -إذا ذكرها في الحضر- وجبت أربعا؛ لأن المبيح للقصر هو السفر وقد زال فيلزمه الإتمام لأنه الأصل.
مسألة: "وللمسافر أن يتم" لقوله سبحانه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} . مفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها وعن عائشة أنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وأتممت وقصرت. فقال: "أحسنت" . رواه أبو داود الطيالسي؛ ولأنه تخفيف أبيح في السفر فجاز تركه كالمسح ثلاثا.
مسألة: "والقصر أفضل" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه داوموا عليه وعابوا من تركه. قال عبد الرحمن بن يزيد: صلى عثمان أربعا فقال عبد الله: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم انصرفت بكم الطرق ولوددت أن
ـــــــ
1 - آية 101 سورة النساء.(1/95)
ومن نوى الإقامة أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإن لم يجمع على ذلك قصر أبدا.
ـــــــ
حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتا. متفق عليه1.
مسألة: "ومن نوى الإقامة أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم فإن لم يجمع على ذلك قصر أبدا" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة فصلى إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها لأنه قدم لصبح رابعة إلى يوم التروية فصلى الصبح ثم خرج, فمن أقام مثل إقامته قصر ومن زاد أتم. قال أنس أقمنا بمكة عشرا نقصر الصلاة2 ومعناه ما ذكرناه, لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشر.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: كتاب الحج: حديث رقم 1657. ومسلم في: كتاب صلاة المسافرين: حديث رقم 19.
2 - رواه البخاري في كتاب المغازي: حديث رقم 4297.(1/96)
باب صلاة الخوف
وتجوز صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمختار منها أن يجعلهم الإمام طائفتين: طائفة تحرس والأخرى تصلي معه ركعة فإذا قام إلى الثانية نوت مفارقته وأتمت صلاتها, وذهبت تحرس وجاءت الأخرى فصلت معه الركعة الثانية فإذا جلس للتشهد قامت فأتت بركعة أخرى وينتظر حتى تتشهد ثم يسلم بها, وإن اشتد الخوف صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وإلى غيرها يومئون بالركوع
ـــــــ
باب صلاة الخوف.
"وتجوز صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم" . قال أحمد: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه أو ستة -أو قال-: ستة أو سبعة -يروى فيها كلها جائز قال شيخنا "والمختار منها هو الذي اختاره الإمام أحمد" , وهو ما روى صالح بن خوات عن من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صلت معه وطائفة وجاه العدو, فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم, ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته, ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم". متفق عليه3. ورواه سهل بن أبي حثمة أيضا قال أبو الخطاب: ويشترط لهذه الصلاة أن يكون العدو في غير جهة القبلة ونص أحمد خلافه.
مسألة: "فإن اشتد الخوف صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وإلى غيرها يومئون
ـــــــ
3 - رواه البخاري في: كتاب المغازي: حديث رقم 4129. ومسلم في: كتاب صلاة المسافرين: حديث رقم 310.(1/96)
والسجود وكذلك كل خائف على نفسه يصلي على حسب حاله ويفعل كل ما يحتاج إلى فعله من هرب أو غيره
ـــــــ
بالركوع والسجود" على قدر طاقتهم لأن الله سبحانه قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} . "وكذلك كل خائف على نفسه يصلي على حسب حاله ويفعل كل ما يحتاج إلى فعله من هرب أو غيره" لللآية.(1/97)
باب صلاة الجمعة
كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة إن كان مستوطنا ببناء وبينه وبين الجامع
ـــــــ
باب صلاة الجمعة
"كل من لزمته المكتوبة لزمته الجمعة" . فهي واجبة لقوله عليه السلام: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليطبعن الله على قلوبهم" . رواه البخاري1.
وعن جابر قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها أو جحودا لها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره" .
مسألة: "تجب الجمعة بشروط: أحدها "أن يكون مستوطنا" وهو الإقامة في قرية مبنية بحجارة أو لبن أو قصب أو ما جرت به العادة "بالبناء" لا يظعن عنها صيفا ولا شتاء. فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة عليهم؛ لأن قبائل العرب كانت حول المدينة فلم يقيموا جمعة ولا أمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم ولو أمرهم لم يخف ذلك ولم يترك نقله لكثرته وعموم البلوى به. الشرط الثاني: "أن يكون بينه وبين الجامع فرسخ فما دون" وإن كان أبعد من فرسخ فلا جمعة عليه؛ لأن عثمان رضي الله عنه صلى صلاة العيد يوم جمعة ثم قال لأهل العوالي: من أراد منكم أن ينصرف فلينصرف ومن أراد أن يقيم حتى يصلي الجمعة فليقم, وروى عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة على من سمع النداء" . رواه أبو داود2. ولا يمكن اعتبار سماع حقيقة النداء؛ لأنه قد يكون ثقيل السمع أو في مكان مستتر لا يسمع أو غير مصغ أو يكون النداء ضعيفا أو في حال هبوب الرياح, فينبغي أن يقدر بمقدار لا يختلف والموضع الذي يسمع فالنداء في الغالب إذا كان المؤذن صيتا في موضع عال والرياح ساكنة والمستمع سميعا غير ساه هو الفرسخ أو ما قاربه فيحد به.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في كتاب الجمعة: حديث رقم 40.
2 - رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: حديث رقم 1056.(1/97)
فرسخ فما دون ذلك إلا المرأة والعبد والمسافر والمعذور بمرض أو مطر أو خوف وإن حضروها أجزأتهم ولم تنعقد بهم إلا لمعذور إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به ومن شرط صحتها فعلها في وقتها في قرية وأن يحضرها من
ـــــــ
مسألة: "إلا المرأة والعبد" لما روى طارق بن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض" . رواه أبو داود, وقال: طارق أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه1.
مسألة: "والمسافر" لا تجب عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها بعرفة حيث كان مسافرا.
مسألة: "والمعذور بمطر أو مرض أو خوف" أما المعذور بمرض فلحديث طارق وقد سبق وأما المعذور لمطر فلما روي عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة المطيرة أو الباردة: "صلوا في رحالكم" . متفق عليه2. والمطر الذي يعذر به هو الذي يبل الثياب؛ لأن في الخروج فيه مشقة.
مسألة: " وأما الخوف فلما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سمع النداء فلم يمنعه من اتباعه عذر - قالوا: وما العذر يا رسول الله؟ قال: خوف أو مرض - لم يقبل الله الصلاة التي صلى رواه أبو داود3. والخوف ثلاثة أنواع: أحدهما الخوف على المال من سلطان أو لص أو يكون له خبز في تنور أو طبيخ على النار يخاف حريقه وما أشبه ذلك فهذا كله عذر عن الجمعة والجماعة لأنه خوف فيدخل في عموم الحديث الثاني الخوف على نفسه مثل أن يخاف من سلطان يأخذه أو عدو أو سبع أو سيل لذلك الثالث الخوف على ولده وأهله أن يضيعوا أو يكون ولده ضائعا ويرجو وجوده في تلك الحال فيعذر بذلك لأنه خوف
مسألة: "وإن حضروها أجزأتهم" لأن سقوطها عنهم كان رخصة فإذا تكلفوا فعلها أجزأتهم كالمريض يتكلف الصلاة قائما. "ولم تنعقد بهم" لأنهم من غير أهل الوجوب فلم تنعقد بهم كالنساء "إلا المعذور إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به" لأن سقوطها عنه كان لدفع المشقة فإذا حضر زالت المشقة فوجبت عليه وانعقدت به.
مسألة: "ومن شرط صحتها فعلها في وقتها" فلا تصح قبل وقتها ولا بعده إجماعا, وآخر وقتها آخر وقت الظهر إجماعا. فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد؛ لأن
ـــــــ
1 - المصدر عاليه: حديث رقم 1067.
2 - رواه البخاري في: كتاب الأذان: حديث رقم 632. ومسلم في: كتاب صلاة المسافرين: حديث رقم 22, 24.
3 - رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: حديث رقم 551.(1/98)
المستوطنين بها أربعون من أهل وجوبها وأن تتقدمها خطبتان في كل خطبة حمد الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وقراءة آية والموعظة
ـــــــ
أحمد رحمه الله قال في رواية عبد الله: يجوز أن تصلى الجمعة قبل الزوال. يذهب إلى أنها كصلاة العيد لحديث وكيع عن جعفر بن برقان عن عبد الله بن سيدان قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار, وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد أنتصف النهار, ثم صليتها مع عثمان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول قد زال النهار فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره وهذا نقل للإجماع. وعن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حتى تزول الشمس. أخرجه مسلم1.
مسألة: "ومن شرط صحتها أن يفعلها في قرية" يستوطنها أربعون رجلا من أهل وجوبها سكنى إقامة لا يظعنون فإذا اجتمعت هذه الشروط في قرية وجبت الجمعة على أهلها وصحت بها لأن كعبا قال: أول من جمع بنا أسعد بن زرارة في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات. قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون. رواه أبو داود2 والأثرم قال: الخطابي حرة بني بياضة قرية على ميل من المدينة.
مسألة: "وأن يحضرها من المستوطنين بها أربعون من أهل وجوبها" لأن جابرا قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة.
مسألة: "وأن تتقدمها خطبتان" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب خطبتين يقعد بينهما. متفق عليه. وقال عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 3. وقالت عائشة: إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة.
مسألة: "في كل خطبة حمد الله تعالى" لأن جابرا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول: "من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له" 4.
مسألة: "والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" ومن فروض الخطبة أربعة: الأول حمد الله وقد سبق والثاني: "الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله افتقرت
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: كتاب الجمعة: حديث رقم 29.
2 - رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: حديث رقم 1069.
3 -سبق تخريجه.
4 - رواه مسلم في: كتاب الجمعة: حديث رقم 46.(1/99)
ويستحب أن يخطب على منبر فإذا صعد أقبل على الناس فسلم عليهم ثم يجلس إلى فراغ الأذان ثم يقوم الإمام فيخطب بهم ثم يجلس ثم يخطب الخطبة
ـــــــ
إلى ذكر رسول الله كالأذان, الثالث "قراءة آية" فصاعدا لأن جابر بن سمرة قال: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قصدا وخطبته قصدا يقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس". رواه أبو داود1 ولأن الخطبة فرض في الجمعة. فوجبت فيها القراءة كالصلاة والرابع "الموعظة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظ وهي القصد من الخطبة في حديث جابر بن سمرة: يقرأ آيات ويذكر الناس2.
مسألة: "ويستحب أن يخطب على منبر" أو موضع عال لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبره ولأنه أبلغ في الإعلام.
مسألة: "فإذا صعد أقبل على الناس فسلم عليهم" لأن جابرا قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلم عليهم. رواه ابن ماجه3.
مسألة: "ثم يجلس إلى فراغ الأذان ثم يقوم الإمام فيخطب بهم ثم يجلس ثم يخطب الخطبة الثانية" لأن ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن ثم يقوم فيخطب ثم يجلس فلا يتكلم ثم يقوم فيخطب. رواه أبو داود4, ولأن جابر بن سمرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب فمن حدثك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب. رواه مسلم5.
مسألة: "ثم تقام الصلاة فينزل فيصلي بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة" إجماعا نقل الخلف عن السلف
مسألة: "ويستحب أن يقرأ في الأولى بالحمد وسورة الجمعة, وفي الثانية بالمنافقين أو بسبح والغاشية لما روى أبو هريرة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين في الجمعة وفي حديث النعمان: كان يقرأ في العيدين والجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية" . رواهما مسلم6.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: حديث رقم 1101.
2 - تخريج الحديث عاليه.
3 - رواه ابن ماجه في: كتاب إقامة الصلاة: حديث رقم 1109. قال في الزوائد: في إسناده ابن لهيعة, وهو ضعيف.
4 - رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: حديث رقم 1092.
5 - رواه مسلم في/ كتاب الجمعة: حديث رقم 35.
6 - المصدر عاليه: حديث رقم 61, 62.(1/100)
الثانية ثم تقام الصلاة فينزل فيصلي بهم ركعتين يجهر فيهما بالقراءة فمن أدرك معه منها ركعة أتمها جمعة وإلا أتمها ظهرا, وكذلك إن نقص العدد أو خرج الوقت وقد صلوا ركعة أتموها جمعة وإلا أتموها ظهرا ولا يجوز أن يصلي في المصر أكثر من جمعة إلا أن تدعو الحاجة إلى أكثر منها, ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل
ـــــــ
مسألة: "فمن أدرك معه منها ركعة أتمها جمعة" لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة" . رواه الأثرم ورواه ابن ماجه ولفظه: "فليصل إليها أخرى" 1. وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة".
مسألة: "وإن أدرك أقل من ركعة أتمها ظهرا" . قال الخرقي: إذا كان قد دخل بنية الظهر فظاهر هذا أنه لو نوى جمعة لزمه الاستئناف؛ لأنهما صلاتان لا تتأدى إحداهما بنية الأخرى فلم يجز بناؤها عليها كالظهر والعصر, وقال أبو إسحاق بن شاقلا ينوي جمعة لئلا تخالف نيته نية إمامه, ثم يبني عليها ظهرا لأنهما فرض وقت واحد ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع كالتامة مع المقصورة.
مسألة: "وكذلك إن نقص العدد" يعني عن الأربعين وقد صلوا منها ركعة أتموها جمعة لأنه شرط يختص بالجمعة فلم يعتبر في أكثر من ركعة كالجماعة, وإن نقصوا قبل ركعة أتموها ظهرا كالمسبوق بركوع الثانية.
مسألة: "وإن خرج الوقت وقد صلوا ركعة أتموها جمعة" لما سبق "وإن خرج الوقت وقد صلوا أقل من ركعة أتموها ظهرا" لذلك وقال عليه السلام: "من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة" 2. مفهومه أن من أدرك أقل لا يكون مدركا لها.
مسألة: "ولا يجوز أن يصلي في المصر أكثر من جمعة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة "إلا أن تدعو الحاجة إلى أكثر منها" فيجوز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير فكان إجماعا؛ ولأنها صلاة عيد فجاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها.
مسألة: "ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل ويلبس ثوبين نظيفين ويتطيب" لما روى سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: كتاب إقامة الصلاة: حديث رقم 1121. قال في الزوائد: في إسناده عمر بن حبيب, متفق على صعفه.
2 - سبق تخريجه.(1/101)
ويلبس ثوبين نظيفين ويتطيب ويبكر إليها فإن جاء والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما, ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا الإمام أو من كلمه الإمام
ـــــــ
تكلم الإمام إلا غفر الله له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" . رواه البخاري1 وعنه الغسل واجب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "غسل الجمعة على كل محتلم وسواك وأن يمس طيبا" . رواه مسلم2. والمذهب الأول. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت وإن اغتسل فالغسل أفضل" . قال الترمذي: حديث حسن3, والمراد بالخبر الأول تأكيد الاستحباب وكذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين "ويبكر إليها", لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها" . رواه ابن ماجه والترمذي4.
مسألة: "فإن جاء والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما" لما روى جابر قال: دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: "صليت يا فلان" ؟ قال: لا. قال: "فصل ركعتين" . متفق عليه. زاد مسلم: ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليوجز فيهما" 5.
مسألة: "ولا يجوز الكلام والإمام يخطب" لقوله عليه السلام: إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب: "أنصت فقد لغوت" . متفق عليه6. وعنه لا يحرم لما روى أنس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال: يا رسول الله هلك الكراع هلك الشاء فادع الله أن يسقينا. متفق عليه7..ويحتمل أنه في مخاطبة الإمام خاصة لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته.
مسألة: "إلا الإمام أو من كلمه الإمام" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: "صليت يا فلان" وقال وهو على المنبر: "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين" . ولحديث أنس في الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "هلك الكراع هلك الشاة" .
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 11- كتاب الجمعة: 6- باب الدهن للجمعة: حديث رقم 883.
2 - رواه مسلم في: كتاب الجمعة: حديث رقم 7.
3 - رواه الترمذي في: كتاب الجمعة: حديث رقم 497.
4 - رواه ابن ماجه في: كتاب إقامة الصلاة: رقم 1087. والترمذي في: كتاب الجمعة: حديث رقم 496.
5 - رواه البخاري في: كتاب الجمعة: حديث رقم 930. ومسلم في: كتاب الجمعة: حديث رقم 54, 59.
6 -رواه البخاري في: كتاب الجمعة: حديث رقم 934. ومسلم في: كتاب الجمعة: حديث رقم 11.
7 - رواه البخاري في: كتاب الجمعة: حديث رقم 933. ومسلم في: كتاب صلاة الاستسقاء: حديث رقم 8, 9.(1/102)
باب صلاة العيدين
وهي فرض على الكفاية إذا قام بها أربعون من أهل المصر سقطت عن سائرهم ووقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال, والسنة فعلها في المصلى وتعجيل الأضحى وتأخير الفطر والفطر في الفطر خاصة قبل الصلاة, ويسن أن يغتسل ويتنظف ويتطيب فإذا حلت الصلاة تقدم الإمام فصلى بهم ركعتين بلا أذان ولا
ـــــــ
باب صلاة العيدين
"وهي فرض على الكفاية إذا قام بها أربعون من أهل المصر سقطت عن سائرهم" بدليل قوله سبحانه: {فصل لربك وانحر} . المشهور في التفسير أن المراد به صلاة العيد وهو أمر والأمر يقتضي الوجوب, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده كانوا يداومون عليها؛ ولأنها من شعائر الإسلام الظاهر فأشبهت الجهاد.
مسألة: "وأول "وقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلها في هذا الوقت.
مسألة: "والسنة فعلها في المصلى" لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يفعلونها في الصحراء, فإن كان ثم عذر من مطر أو نحوه لم يكره فعلها في الجامع؛ لما روى أبو هريرة قال: أصابنا مطر في يوم عيد فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد. رواه أبو داود1.
مسألة: "والسنة تعجيل الأضحى وتأخير الفطر" لأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة ففي تأخيرها توسيع لوقتها ولا يجوز التضحية إلا بعد الصلاة ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية.
مسألة: "ويسن الفطر في الفطر خاصة قبل الصلاة" ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال: "كان رسول الله لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي". رواه الترمذي2.
مسألة: "ويسن أن يغتسل ويتنظف ويتطيب" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم جمعة من الجمع: "إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين فاغتسلوا" . ولأنه يوم شرع فيه الاجتماع للصلاة فسن فيه ذلك كالجمعة.
مسألة: "إذا حلت الصلاة تقدم الإمام وصلى بهم ركعتين بلا أذان ولا إقامة" ولا
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: حديث رقم 1160.
2 - رواه الترمذي في: كتاب الصلاة: حديث رقم 542.(1/103)
إقامة يكبر في الأولى سبعا بتكبيرة الإحرام وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة القيام.
ويرفع يديه مع كل تكبيرة ويحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين, ثم يقرأ الفاتحة وسورة يجهر فيهما بالقراءة فإذا سلم خطب بهم خطبتين, فإن كان فطرا حثهم على الصدقة وبين لهم حكمها وإن كان أضحى بين لهم حكم
ـــــــ
خلاف بينهم أن صلاة العيد مع الإمام ركعتان "يكبر في الأولى" بعد الاستفتاح وقبل التعوذ "ستا سوى تكبيرة الإحرام وفي الثانية" بعد القيام من السجود "خمسا" لما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفي الثانية خمس سوى تكبيرة القيام" . رواه أبو داود1.
مسألة: "ويرفع يديه مع كل تكبيرة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير, وروى الأثرم عن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنازة والعيد ولا يعرف له مخالف.
مسألة: "ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين" لما روى الأثرم في سننه عن علقمة أن علقمة وعبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوما فقال: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه, فقال عبد الله: تبدأ تكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك إلى أن قال: وتركع ثم تقوم فتقرأ أو تحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم تدعو ثم تكبر وتفعل مثل ذلك". وذكر في الحديث: فقال أبو موسى وحذيفه: صدق.
مسألة: "ثم يقرأ الفاتحة وسورة يجهر فيهما بالقراءة" لما روى النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية, وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأ بهما2, وقال ابن المنذر أكثر أهل العلم يرون الجهر بالقراءة وفي إخبار من أخبر بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم على أنه كان يجهر ولأنها صلاة عيد أشبهت الجمعة.
مسألة: "فإذا سلم خطب بهم خطبتين" يجلس بينهما لما روى ابن ماجه عن أبي الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب خطبة قائما ثم قعد قعدة ثم قام3.
ـ مسألة: "فإن كان فطرا حثهم فيها على الصدقة وبين لهم ما حكمها" فيذكر لهم قدرها
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: كتاب الصلاة: حديث رقم 1149.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه ابن ماجه في: كتاب إقامة الصلاة: حديث رقم 1289. قال في الزوائد: في إسناده سعيد بن مسلم, وقد أجمعوا على ضعفه, وأبو بحر ضعيف.(1/104)
الأضحية والتكبيرات الزوائد والخطبتان سنة.
ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها في موضعها ومن أدرك الإمام قبل سلامه أتمها على صفتها, ومن فاتته فلا قضاء عليه فإن أحب صلاها تطوعا: إن شاء ركعتين وإن شاء أربعا وإن شاء صلاها على صفتها, ويستحب التكبير في ليلتي العيدين ويكبر في الأضحى عقيب الفرائض
ـــــــ
ووجوبها ووقت إخراجها "وإن كان أضحى رغبهم في الأضحية" ووقتها وأنها سنة وما يجزئ منها, والعيوب التي تمنع منها ليعملوا بذلك "والتكبيرات الزوائد والذكر بينها سنة" وهي التي بين تكبيرات الصلاة, وقد سبق ذكرها بدليل حديث علقمة وابن مسعود؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك.
مسألة: "ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها في موضعها" إماما كان أو مأموما؛ لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها.متفق عليه1. ولا بأس بالصلاة بعد رجوعه لما روى أبو سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئا فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين رواه ابن ماجه2.
مسألة: "ومن أدرك الإمام قبل سلامه أتمها على صفتها" ؛لأنه قضاء فكان على صفته كبقية الصلوات
مسألة: "وإ فاتته فلا قضاء عليه" لأنها ليست فرض عين فلا يلزمه قضاؤها كصلاة الجنازة. وإن أحب صلاها تطوعا: إن شاء ركعتين وإن شاع أربعا وإن شاء صلاها على صفتها" لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة إليه فيه كصلاة الضحى يعني إن شاء ركعتين وإن شاء أربعا وعن عبد الله بن مسعود: من فاته صلاة العيد فليصل أربعا وإن شاء صلاها على صفتها؛لأن أنسا رضي الله عنه كان يجمع أهله ويصلي بهم ركعتين يكبر فيهما؛ولأنه قضاء فكان على صفته كبقية الصلوات.
مسألة: "ويستحب التكبير في ليلتي العيدين" لقوله سبحانه: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} . وعن ابن عباس قال: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا هذا في الفطر, وأما في الأضحى فالتكبير فيه على ضربين: مطلق ومقيد فالمطلق التكبير في جميع الأوقات من أول الشهر إلى آخر أيام التشريق؛ لقوله سبحانه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} . قيل هي أيام التشريق, وقيل أيام النحر, وقيل العشر. والتكبير من الأول العشر إلى آخر أيام التشريق يجمع الأقوال الثلاثة. وأما المقيد فهو التكبير
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: كتاب العيدين: حديث رقم 989. ومسلم في: كتاب صلاة العيدين: حديث رقم 13.
2 - رواه ابن ماجه في: كتاب إقامة الصلاة: حديث رقم 1293. قال في الزوائد: إسناده صحيح, ورجاله ثقات.(1/105)
في الجماعة من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق.
وصفة التكبير شفعا: الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله. والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
ـــــــ
"في أدبار الصلوات من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق" قيل لأحمد رحمه الله: أي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع, علي وعمر وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم.
مسألة: "وصفة التكبير شفعا: الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله. والله أكبر, الله أكبر, ولله الحمد." ؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما, وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر تكبيرتين؛ ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعا كتكبير الأذان(1/106)
كتاب الجنائز
مدخل
...
كتاب الجنائز
وإذا تيقن موته غمضت عيناه وشد لحياه وجعل على بطنه مرآة أو غيرها, فإذا أخذ في غسله سترت عورته ثم يعصر بطنه عصرا رفيقا ثم يلف على يده
ـــــــ
كتاب الجنائز
مسألة: "وإذا تيقن موته غمضت عيناه" لما روى شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر فإن البصر يتبع الروح" 1. من المسند؛ ولأنه إذا لم تغمض عيناه بقيتا مفتوحتين فيقبح منظره.
مسألة: "وشد لحياه" بعصابة عريضة تجمع لحييه, ثم يشدها إلى رأسه لئلا يفتح فاه فيقبح منظره ويدخل فيه ماء الغسل.
مسألة: "ويجعل على بطنه مرآة أو غيرها" لئلا ينتفخ بطنه.
مسألة: "فإذا أخذ في غسله ستر عورته" بثوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجى ببرد حبرة. متفق عليه2.
مسألة: "ثم يعصر بطنه عصرا رفيقا" ليخرج ما في جوفه من فضلة حتى لا يخرج بعد الغسل أو بعد التكفين فيفسد الكفن.
مسألة: "ثم يلف على يده خرقة ثم ينجيه بها" ولا يحل مس عورته؛ لأن رؤيتها محرم فمسها أولى
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: الجنائز: حديث رقم 1455. قال في الزوائد: إسناده حسن, وأحمد في: المسند 4/ 123.
2 - رواه البخاري في: اللباس: حديث رقم 5814. ومسلم في: الجنائز: حديث رقم 48.(1/107)
خرقة فينجيه بها ثم يوضئه ثم يغسل رأسه ولحيته بماء وسدر ثم شقه الأيمن ثم الأيسر ثم يغسله كذلك مرة ثانية وثالثة, يمر في كل مرة يده فإن خرج منه شيء غسله وسده بقطن فإن لم يستمسك فبطين حر ويعيد وضوءه, وإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس أو إلى سبع ثم ينشفه بثوب ويجعل الطيب في مغابنه ومواضع سجوده, وإن طيبه كله كان حسنا ويجمر أكفانه وإن كان شاربه أو أظفاره طويلة أخذ منه
ـــــــ
مسألة: "ثم يوضئه" وضوءه للصلاة لما روت أم عطية أنها قالت: لما غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" . متفق عليه1. ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل فكذلك الميت.
مسألة: "ثم يغسل مقدم رأسه ولحيته بماء وسدر" لتذهب عنه الأوساخ والأدران.
مسألة: "ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر" لقوله عليه السلام: "ابدأن بميامنها" 2. "ثم يغسله كذلك مرة ثانية وثالثة يمر في كل مرة يده" على بطنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي غسلن ابنته: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا إن رأيتن ذلك" . متفق عليه3.
مسألة: "وإن خرج منه شيء غسله وسده بقطن فإن لم يستمسك فبطين حر ويعيد وضوءه" ؛ لأنه انتقض "فإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس أو إلى سبع" للخبر.
مسألة: "ثم ينشفه بثوب" وذلك مستحب لئلا تبل أكفانه وفي حديث ابن عباس في غسل النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فجففوه بثوب" . ذكره القاضي.
مسألة: "ويجعل الطيب في مغابنه ومواضع سجوده" لأن المغابن مواضع الأوساخ وأماكن السجود تطيب لشرفها "وإن طيبه كله كان حسنا" لقوله عليه السلام: "واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور" 4.
مسألة: "ويجمر أكفانه" يعني يبخرها كما يفعل الحي "وإن كان شاربه طويلا أو أظفاره أخذ منه" لأن ذلك سنة في حياته ويترك في أكفانه لأنه من أجزائه, وكذلك كل ما يسقط منه "ولا يسرح شعره لأن عائشة رضي الله عنها قالت: علام تنضون ميتكم؟ يعني لا تسرحوا شعره بالمشط, ولأنه يقطع الشعر وينتفه.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: الجنائز حديث رقم 1256. ومسلم في الجنائز: حديث رقم 42.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 1257. ومسلم في الجنائز: حديث رقم 40.
4 - سبق تخريجه.(1/108)
ولا يسرح شعره والمرأة يضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل من ورائها, ثم يكفن في ثلاث أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة يدرج فيها إدراجا, وإن كفن في قميص وإزار ولفافة فلا بأس, والمرأة تكفن في خمسة أثواب في درع ومقنعة وإزار ولفافتين وأحق الناس بغسله والصلاة عليه ودفنه وصيه في ذلك ثم الأب ثم الجد ثم
ـــــــ
مسألة: "والمرأة يضفر شعرها ثلاثة قرون ويسدل من ورائها" لما روت أم عطية قالت: ضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها1 تعني ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة: "ثم يكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة" لقول عائشة رضي الله عنها: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة. متفق عليه2. ولأن أكمل أحوال الحي حالة الإحرام وهو لا يلبس فيها قميصا ولا عمامة فكذلك حال موته.
مسألة: "يدرج فيها إدراجا" فيؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها فتبسط على بساط ليكون الظاهر للناس أحسنها؛ لأن هذه عادة الحي ثم تبسط الثانية فوقها ثم الثالثة فوقها, ثم يحمل فيوضع عليها مستلقيا ليكون أمكن لإدراجه فيها, ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق طرف الآخر, وإنما استحب له ذلك لئلا يسقط عنه الطرف الأيمن عند وضعه في القبر ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك, ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيرده على وجهه ورجليه إلا أن يخالف انتشارها فيعقدها فإذا وضع في القبر حلها.
مسألة: "وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة فلا بأس" والأول أفضل قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس عبد الله بن أبي قميصه لما مات, فيؤزر بالمئزر ويلبس القميص ثم يلف باللفافة بعد ذلك. قال أحمد رضي الله عنه: أحب إلي أن يكون مثل قميص الحي له كمان وتحريستان وإزار.
مسألة: " تكفن المرأة في خمسة أثواب: درع وإزار ومقنعة ولفافتين" لما روى أبو داود عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت في غسل أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقاء ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة, ثم أدرجت بعد ذلك في ثوب آخر, ولأن المرأة تزيد في حياتها على الرجل في السترة لزيادة عورتها على عورته فكذلك في موتها وتلبس المخيط في إحرامها فلبسته في مماتها.
مسألة: "وأحق الناس بغسله والصلاة عليه ودفنه وصيه في ذلك" لأن أبا بكر رضي الله
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 1260.
2 - رواه البخاري في: الجنائز حديث رقم 1264. ومسلم في الجنائز: حديث رقم 45.(1/109)
الأقرب فالأقرب من العصبات وأولى الناس بغسل المرأة الأم ثم الجدة ثم الأقرب فالأقرب من نسائها, إلا أن الأمير يقدم في الصلاة على الأب ومن بعده والصلاة عليه يكبر ويقرأ الفاتحة ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
عنه أوصى أن تغسله أمرأته أسماء بنت عميس فقدمت لذلك, وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل؛ ولأنه حق للميت فقدم وصيه فيه على غيره كتفريق ثلثه؛ ولأن الصحابة أجمعوا على أن الوصي في الصلاة مقدم على غيره فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر وأوصى عمر أن يصلي عليه صهيب وابنه حاضر وأوصى ابن مسعود أن يصلي عليه الزبير وأوصى أبو بكر أن يصلي عليه أبو برزة وأوصت عائشة رضي الله عنها أن يصلي عليها أبو هريرة, ولم يعرف لهم مخالف مع كثرته وشهرته فكان إجماعا؛ ولأن الغرض من الصلاة الدعاء والشفاعة إلى الله. فالظاهر أن الميت يختار لذلك من هو أظهر صلاحا في نفسه وأقرب إلى الله وسيلة ليشفع له.
مسألة: "ثم الأب" لمكان شفقته "ثم جده" كذلك ثم ابنه وإن نزل كذلك "ثم الأقرب فالأقرب من عصباته" ثم الرجل من ذوي أرحامه ثم الأجانب.
مسألة: "وأولى الناس بغسل المرأة" الأقرب فالأقرب من نسائها "أمها ثم جدتها" ثم ابنتها "ثم الأقرب فالأقرب" ثم الأجنبيات كالرجل.
مسألة: "إلا أن الأمير يقدم في الصلاة على الأب ومن بعده" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن الرجل في سلطانه" 1. وروى الإمام أحمد بإسناده أن عمارا مولى بني هاشم قال: شهدت جنازة أم كلثوم بنت علي فصلى عليها سعيد بن العاص وكان أمير المدينة قال: وخلفه يومئذ ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن عمر والحسن والحسين وزيد بن ثابت وأبو هريرة2, ولأنها صلاة شرع لها الاجتماع فأشبهت سائر الصلاة, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنائز مع حضور أقاربها والخلفاء ولم ينقل أنهم استأذنوا ولي الميت في التقدم.
مسألة: "والصلاة عليه يكبر ويقرأ الفاتحة" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كبر على النجاشي أربعا. متفق عليه3. ويقرأ الحمد في الأولى لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب" 4.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أحمد في المسند.
3 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 1333، 1334. ومسلم في: الجنائز: حديث رقم 62, 63, 64.
4 - سبق تخريجه.(1/110)
ثم يكبر ويقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شئ قدير, اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته فتوفه عليهما, اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, وأبدله دارا خيرا من داره وجوارا خيرا من جواره وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب
ـــــــ
وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن وقال: لتعلموا أنها من السنة أو قال من تمام السنة رواه البخاري1.
مسألة: "ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم" لما روى ابن سهل عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكببرة ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات لا يقرأ في شيء منهن ثم يسلم سرا في نفسه رواه الشافعي في مسنده2.
مسألة: "ثم يكبر ويدعو" للميت في الثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صليتم على الميت أخلصوا له الدعاء" . رواه أبو داود3. ولأنه المقصود فلا يجوز الإخلال به ويدعو بما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة قال: "للهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا" . حديث صحيح4. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, وزاد فيه: "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنة ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده" . رواه أبو داود5. وعن عوف بن مالك قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه: "اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله وأوسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار" . حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. رواه مسلم6.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 1335.
2 - رواه الشافعي في: المسند ص 359: حديث رقم 2.
3 - رواه أبو داود في: الجنائز: حديث رقم 3199.
4 - رواه الترمذي في: الجنائز: حديث رقم 1024. وقال: حديث حسن صحيح.
5 - رواه أبو داود في: الجنائز: حديث رقم 3201.
6 - رواه مسلم في الجنائز: حديث رقم 85.(1/111)
النار وافسح له في قبره ونور له فيه ثم يكبر ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه, ويرفع يديه مع كل تكبيرة والواجب من ذلك التكبيرات والقراءة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأدنى دعاء الحي للميت والسلام ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر إلى شهر وإن كان الميت غائبا عن البلد صلى عليه بالنية ومن تعذر غسله لعدم الماء أو لخوف عليه من التقطع كالمجدور أو المحترق أو لكون المرأة بين رجال أو الرجل بين نساء فإنه ييمم
إلا أن لكل من الزوجين
ـــــــ
مسألة: "ثم يكبر ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "تحليلها التسليم" 1.
مسألة: "ويرفع يديه مع كل تكبيرة" لأن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه في تكبيرة الجنازة والعيد؛ ولأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود فسن لها الرفع كتكبيرة الإحرام.
مسألة: "والواجب من ذلك: التكبيرات والقراءة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأدنى دعاء للميت والسلام" وقد سبق دليل ذلك.
مسألة: "ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر" لما روي عن ابن عباس أنه مر مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه. متفق عليه2. ولا يصلي على القبر بعد شهر إلا بقليل؛ لأن أكثر ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعد ما دفنت بشهر رواه الترمذي3؛ ولأنه لم يعلم بقاؤه أكثر من شهر فيقيد به.
مسألة: "وإن كان الميت غائبا عن البلد صلى عليه بالنية" لما روى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي رحمه الله في اليوم الذي مات فيه فصف بهم في المصلى وكبر أربعا متفق عليه4.
مسألة: "ومن تعذر غسله لعدم الماء أو للخوف عليه من التقطع كالمجدور أو المحترق, أو لكون المرأة بين الرجال أو الرجل بين النساء فإنه ييمم" ؛ لأنها طهارة على البدن فيدخلها التيمم عند العجز من استعمال الماء كالجنابة.
مسألة: "إلا أن لكل واحد من الزوجين غسل صاحبه" لأن أبا بكر رضي الله عنه
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الجنائز: حديث رقم 1336. ومسلم في الجنائز: حديث رقم 68.
3 - رواه الترمذي في الجنائز: حديث رقم 1038. وهو حديث مرسل.
4 - سبق تخريجه.(1/112)
غسل صاحبه وكذلك أم الولد مع سيدها والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل ولم يصلى عليه, وينحى عنه الحديد والجلود ثم يزمل في ثيابه وإن كفن بغيرها فلا بأس, والمحرم يغسل بماء وسدر ولا يلبس مخيطا ولا يقرب طيبا ولا يغطى رأسه ولا يقطع شعره ولا ظفره.
ـــــــ
أوصى أن تغسله زوجته أسماء فقامت بذلك, وقالت عائشة لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه, رواه ابن ماجه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك" . رواه ابن ماجه1. وقد غسل علي فاطمة رضي الله عنهما ولم ينكره منكر فكان إجماعا؛ ولأنه أحد الزوجين فأشبه الآخر, "وكذلك للسيد مع أم ولده" لأنها محل استمتاعه فأشبهت الزوجة.
مسألة: "والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل ولم يصل عليه" لما روى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. رواه البخاري2. "وينحى عنه الحديد والجلود ثم يزمل في ثيابه" لما روى ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم. رواه أبو داود3.
مسألة: "وإن كفن في غيرها فلا بأس" ؛ لأن صفية أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين ليكفن حمزة فيهما فكفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحدهما وكفن في الآخر رجلا آخر. قال يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد.
مسألة: "وعنه يصلى على الميت وإن قتل في المعركة ما روى عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف. متفق عليه4.
مسألة: "والمحرم يغسل بماء وسدر ولا يلبس مخيطا ولا يغطى رأسه ولا يقرب طيبا" لما روى ابن عباس قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" . متفق عليه5.
مسألة: "ولا يقطع شعره ولا ظفره" كحال حياته.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: الجنائز: حديث 1465. قال في الزوائد: إسناد رجاله ثقات.
2 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 708.
3 - رواه أبو داود في: الجنائز.
4 - رواه البخاري في الجنائز, ومسلم في/ الجنائز.
5 - رواه الترمذي في الجنائز: حديث رقم 1265. ومسلم في الحج حديث رقم 93, 94.(1/113)
ويستحب دفن الميت في لحد وينصب عليه اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا يدخل القبر آجرا ولا خشبا ولا شيئا مسته النار, ويستحب تعزية أهل الميت والبكاء عليه غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة, ولا بأس بزيارة القبور للرجال ويقول إذا مر بها أو زارها: سلام عليكم أهل
ـــــــ
مسألة: "ويستحب دفن الميت في لحد وينصب عليه اللبن نصبا" لقول سعد بن مالك رضي الله عنه: ألحدوا لي لحدا وانصبوا على اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة: "ولا يدخل القبر آجرا ولا خشبا ولا شيئا مسته النار" لما روي عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر, وكره ما مسته النار للتفاؤل بالنار.
مسألة: "ويستحب تعزية أهل الميت" لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عزى مصابا فله مثل أجره" . حديث غريب1.
مسألة: "والبكاء عليه غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد بن عبادة فوجده في غاشية فبكى وبكى معه أصحابه, فقال: "ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه" . متفق عليه2.
مسألة: "ولا يجوز الندب ولا النياحة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية. متفق عليه3. وقال أحمد في قوله سبحانه: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} 4 هو النوح فسماه معصية.
مسألة: "ولا بأس بزيارة القبور للرجال" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الموت" . رواه مسلم5.
مسألة: "ويقول إذا مر بها أو زارها" ما رواه مسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 1073. وقال: غريب. وابن ماجه في الجنائز: حديث رقم 1602.
2 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 1304. ومسلم في الجنائز: حديث رقم 12.
3 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 688. ومسلم في الجنائز: حديث رقم 165.
4 - آية 12 سورة الممتحنة.
5 - رواه مسلم في الجنائز: حديث رقم 106.(1/114)
دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم نسأل الله لنا ولكم العافية" .
وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك.
ـــــــ
وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله العظيم لنا ولكم العافية" 1.
مسألة: "وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك" . قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} 2. وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 3. وروى أبو داود أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت أفينفعها إن قضيت عنها؟ قال: "نعم" . وقال عليه السلام للمرأة التي قالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته" ؟ قالت: نعم. قال: "فدين الله أحق بالقضاء" 4. وأما قراءة القرآن وإهداء ثوابه للميت فالإجماع واقع على فعله من غير نكير, وقد صح الحديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" 5. والله سبحانه أكرم من أن يوصل إليه العقوبة ويحجب عنه المثوبة.
ـــــــ
1 - المصدر عاليه: حديث رقم 104.
2 - آية 10 سورة الحشر.
3 - آية 55 سورة غفر.
4 - رواه البخاري في: الحج: حديث رقم 1513.
5 - رواه البخاري في: الجنائز: حديث رقم 1286.(1/115)
كتاب الزكاة
مدخل
...
كتاب الزكاة
وهي واجبة على كل مسلم حر ملك نصابا ملكا تاما, ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول إلا في الخارج من الأرض
ـــــــ
كتاب الزكاة
"هي واجبة على كل مسلم حر ملك نصابا ملكا تاما" لأنها أحد مباني الإسلام أشبهت الحج
مسألة: ولا تجب الزكاة إلا بشروط: منها الإسلام فلا تجب على كافر؛ لأنها من فروع الإسلام أشبهت الصيام. الشرط الثاني: الحرية فلا تجب على عبد لأن ما في يده لسيده فإن ملكه سيده مالا وقلنا لا يملك فزكاته على سيده؛ لأنه مالكه وإن قلنا يملك فلا زكاة فيه لأن سيده لا يملكه وملك العبد ضعيف لا يحتمل المواساة.
مسألة: ولا تجب على مكاتب كذلك.
مسألة: "ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وهو الشرط الثالث. "إلا في الخارج من الأرض" لما روى ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" . أخرجه الترمذي1. وهو عام في كل مال زكاة؛ لأن المراد به المواشي والأثمان وعروض التجارة وخرج منه الخارج من الأرض كالزرع والثمار والمعدن والفرق بينهما أن ما اعتبر فيها لحول مرصد للنماء: فالماشية للدر والنسل وعروض التجارة للربح وكذا الأثمان, فاعتبر لها الحول لأنه مظنة النماء ليكون إخراج الزكاة من الربح فإنه أسهل وأيسر ولم تعتبر حقيقة النماء لعدم ضبطه فاعتبرت مظنته, وهو الحول ولم يلتفت إلى الحقيقة كالحكم مع سببه. وأما الخارج من الأرض فإنه
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في: الزكاة: حديث رقم 613.(1/116)
ونماء النصاب من النتاج والربح فإن حولهما حول أصلهما, ولا تجب الزكاة إلا في أربعة أنواع: السائمة من بهيمة الأنعام, والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة, ولا زكاة في شيء من ذلك حتى يبلغ نصابا, وتجب فيما زاد على النصاب بحسابه إلا السائمة فلا شيء في أوقاصها.
ـــــــ
نماء في نفسه يتكمل دفعة واحدة فتؤخذ زكاته دفعة واحدة عند تكمل نمائه, ثم لا شيء فيه بعد ذلك لعدم ارصاده للنماء, إلا أن الخارج من المعدن إذا كان ذهبا أو فضة فإن الزكاة تؤخذ منه ثانيا عند تمام كل حول لكونه مظنة النماء.
مسألة: "ونماء النصاب من النتاج والربح فإن حولهما حول أصلهما" ؛ لأنهما تبع لأصلهما ومتولدان منه.
مسألة: "ولا تجب الزكاة إلا في أربعة أنواع: السائمة من بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة" , وسيأتي ذلك في موضعه ولا تجب في غير ذلك, لأن الأصل عدم الزكاة فيبقى على الأصل.
مسألة: "ولا زكاة في شيء من ذلك حتى يبلغ نصابا" وذلك ثابت بالإجماع والأخبار الصحاح, أخبار صدقات المواشي: في خمس من الإبل شاة, وفي خمس وعشرين بنت1 مخاض وفي ثلاثين من البقر تبيع2 وفي أربعين من الغنم شاة. روى ذلك البخاري3.
مسألة: "وتجب فيما زاد على النصاب بحسابه إلا في السائمة" على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ـــــــ
1 - قوله: بنت مخاض: انظر الحديث بعده.
2 - قوله: تبيع: هو ولد القرة أول سنة 1/179.
3 - انظر تخريج الحديث تعده.(1/117)
باب زكاة السائمة
وهي الراعية وهي ثلاثة أنواع:
أحدها الإبل: ولا شيء فيها حتى تبلغ خمسا فيجب فيها شاة وفي العشر
ـــــــ
باب زكاة السائمة
"هي الراعية" في أكثر الحول؛ لأنها لا تخلو من علف في بعضه فاعتباره في الحول يمنع الوجوب بالكلية فاعتبر في معظمه "وهي ثلاثة أنواع: أحدهما الإبل ولا شيء فيها(1/117)
شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه إلى خمس وعشرين وفيها بنت مخاض وهي بنت سنة, فإن لم تكن عنده فابن لبون وهو ابن سنتين إلى ست وثلاثين فيجب فيها بنت لبون إلى ست وأربعين فيجب فيها حقة لها ثلاث سنين, إلى إحدى وستين فيجب فيها جذعة لها أربع سنين إلى ست وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة
ـــــــ
حتى تبلغ خمسا فيجب فيها شاة" لما روى البخاري عن أنس أن أبا بكر كتب له حين وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين والتي أمر الله بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة "فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت 1 مخاض فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون 2 ذكر, فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى, فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة 3 طروقة الجمل, فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة 4 , فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون, فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل" . فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة, ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها, فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة5. وهذا مجمع عليه إلى أن تبلغ عشرين ومائة. قاله ابن المنذر: "فإذا زادت على عشرين ومائة واحدة ففيها ثلاث بنات لبون" ؛ لأن في حديث الصدقات الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم وكان عند آل عمر "فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون" وهو حديث حسن وبنت مخاض التي لها سنة وقد حملت أمها فهي بنت مخاض يعني بنت حامل.
ـــــــ
1 - قوله: بنت مخاض بفتح الميم المعجمة الخفيفة وآخره معجمة, هي التي أتى عليها حول, ودخلت في الثاني, وحملت أمها. والمخاض: الحامل, أي: دخل وقت حملها, وإن لم تحمل. فتح الباري: 3/374.
2 - قوله: ابن لبون: هو الذي دخل في ثالث سنة, فصارت أمه لبونا بوضع الحمل. المصدر عاليه.
3 - قوله: حقة طروقة الجمل: حقة: بكسر المهملة, وتشديد القاف والجمع: حقاق, بالكسر والتخفيف. وطروقة: بفتح أوله, وهي فعولة بمعنى مفعولة, كحلوبة بمعنى محلوبة. والمراد: أنها بلغت أن يطرقها الفحل, وهي التي أتت عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة. المصدر عاليه: ص 374, 375.
4 - قوله: جَذَعة: بفتح الجيم والمعجمة, وهي التي أتت عليها أربع, ودخلت في الخامسة. المصدر عاليه.
5 -رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1454.(1/118)
ففيها ثلاث بنات لبون ثم في كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون إلى مائتين فيجتمع فيها الفرضان فإن شاء أخرج أربع حقات وإن شاء خمس بنات لبون, ومن وجبت عليه سن فلم يجدها أخرج أدنى منها ومعها شاتان أو عشرون درهما, وإن شاء أخرج أعلى منها وأخذ شاتين أو عشرين درهما.
النوع الثاني البقر: ولا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين فيجب فيها تبيع أو تبيعة لها
ـــــــ
وبنت اللبون التي لها سنتان سميت بذلك لأن أمها ولدت غيرها فهي ذات لبن, والحقة لها ثلاث سنين سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل والجذعة لها أربع سنين.
مسألة: "في كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون إلى مائتين فيجتمع فيها الفرضان فإن شاء أخرج خمس بنات لبون" للخبر.
مسألة: "ومن وجبت عليه سن فلم يجدها أخرج أدنى منها ومعها شاتان أو عشرون درهما وإن شاء أخرج أعلى منها وأخذ شاتين أوعشرين درهما" لما روى أنس في كتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر قال: ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتاا له أو عشرين درهما, ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده حقة وعنده جذعة فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهما, ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا بنت لبون فإنها تقبل منه بنت اللبون ويعطي شاتين أوعشرين درهما, ومن بلغت عنده صدقة بنت لبون وعنده حقه فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق شاتين أوعشرين درهما, والخيرة في ذلك كله لرب المال للخبر.
"النوع الثاني: البقر. ولا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين فيجب فيها تبيع أو تبيعة لها سنة إلى أربعين ففيها مسنة لها سنتان إلى ستين ففيها تبيعان إلى سبعين ففيها تبيع ومسنة, ثم في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة" لما روى الإمام أحمد باسناده عن يحيى بن الحكم أن معاذا قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق أهل اليمن فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا ومن كل أربعين مسنة1, ومن الستين تبيعين ومن السبعين مسنة وتبيعا ومن الثمانين مسنتين ومن التسعين ثلاثة أتباع ومن المائة مسنة وتبيعين ومن العشر ومائة مسنتين وتبيعا ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع, وأمرني ألا آخذ فيما
ـــــــ
1 قوله: قال الأزهري: البقرة والشاة يقع عليها اسم المسن إذا أَثْنَيَا, وتُثْنَيَان في السنة الثالثة, وليس معنى أسنانها كبرها, كالرجل المسن, ولكن معناه طلوع سنها في السنة الثالثة, النهاية: 2/ 412.(1/119)
سنة إلى أربعين ففيها مسنة لها سنتان إلى ستين ففيها تبيعان إلى سبعين ففيها تبيع ومسنة, ثم في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة.
النوع الثالث الغنم: ولا شيء فيها حتى تبلغ أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مئتين, فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه, ثم في كل مائة شاة.
ولا يؤخذ في الصدقة تيس ولا ذات عوار ولا هرمة ولا الربى ولا الماخض
ـــــــ
بين ذلك شيئا إلا أن تبلغ مسنة أو جذعا1.
النوع الثالث: الغنم ولا شيء فيها حتى تبلغ أربعين ففيها شاة إلى عشرين ومائة, فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه, ثم في كل مائة شاة" لما روى أنس في كتاب الصدقات, وفي سائمة الغنم2 إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة, فإذا زادت واحدة على عشرين ومائة ففيها شاتان فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه, فإذا زادت على ثلاث مائة ففي كل مائة شاة, فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها3. وعن الإمام أحمد أن في ثلاث مائة وواحدة أربع شياه, ثم في كل مائة شاة اختارها أبو بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث مائة غاية فيجب تعيين الفرض بالزيادة عليها, والأول أصح؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حكمها إذا زادت على ثلاث مائة في كل مائة شاة فإيجاب أربع فيما دون الأربع مائة يخالف الخبر, وإنما جعل الثلاث مائة حدا لاستقرار الفرض.
مسألة: "ولا يؤخذ في الصدقة تيس ولا هرمة4 ولا5 ذات عوار وهي المعيبة " لقوله سبحانه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . وروى أنس في كتاب الصدقات: ولا يجزئ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس6 7
ـــــــ
1 - رواه أحمد في المسند 1/230و233 و240 و247.
2 - قوله: سائمة الغنم: السائمة من الماشية: الراعية. النهاية 2/426.
3 - رواه أبو داود في: الزكاة: حديث رقم 1568. والترمذي في: الزكاة حديث رقم 621. وقال: حديث حسن. ومالك في: الزكاة حديث رقم 23.
4 - قوله: هي الكبيرة التي سقطت أسنانها.
5 - قوله: ولا ذات عوار أي: معيبة, ويدخل في المعيب المريب, والصغير سنا بالنسبة إلى سن أكبر منه.
6- قوله: تيس هو فحل الغنم, أو مخصوص بالمعز, لأنه لا منفعة فيه لدر ولا نسل, وإنما يؤخذ في الزكاة ما فيه منفعة للنسل.
7 - سبق تخريجه.(1/120)
ولا الأكولة ولا يؤخذ شرار المال ولا كرائمه إلا أن يتبرع به أرباب المال.
ولا يخرج إلا أنثى صحيحة إلا في الثلاثين من البقر وابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها إلا أن تكون ماشية كلها ذكور أو مراض فيجزئ واحد منها, ولا يخرج إلا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز والسن المنصوص عليها إلا أن يختار رب المال إخراج سن أعلى من الواجب
ـــــــ
مسألة: "ولا تؤخذ الربي" وهي التي تربي ولدها لأجل ولدها, "ولا" الحامل التي حان ولادها وهي "الماخض, ولا الأكولة" وهي السمينة.
مسألة: "ولا يؤخذ شرار المال ولا كرائمه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لم يسألكم خيره ولا يأمركم بشره" . رواه أبو داود1 وقال عليه السلام لمعاذ: "إياك وكرائم2 أموالهم" . متفق عليه3. وقال الزهري: إذا جاء المصدق قسم الشاة ثلاثا: ثلثا خيارا, وثلثا شرارا, وثلثا وسطا, ويأخذ المصدق من الوسط.
مسألة: "إلا أن يتبرعوا به" يعني أرباب المال إذا تبرعوا بالخيار جاز أخذه؛ لأن المنع من أخذه لحقه فجاز برضاه كما لو دفع فرضين مكان فرض.
مسألة: "ولا يخرج إلا الأنثى الصحيحة إلا في ثلاثين من البقر وابن لبون مكان بنت مخاض إذا عدمها" لورود النص فيها فيما سبق ولفضيلة الأنثى بدرها ونسلها.
مسألة: "إلا أن تكون ماشية كلها ذكور فيجزىء واحد منها" ؛ لأنها الزكاة وجبت مواساة والمواساة إنما تكون بجنس المال.
مسألة: "ولا يخرج إلا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز" وهي التي لها سنة وجذع الضأن له ستة أشهر "والسن المنصوص عليها" قال سويد بن غفلة: أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أمرنا أن نأخذ الجذعة من الضأن والثنية من المعز؛ ولأن جذعة الضأن تجزئ من الأضحية بخلاف جذعة المعز بدليل قوله لأبي بردة في جذعة المعز: "تجزيك ولا تجزئ عن أحد بعدك" 4.
مسألة: "إلا أن يختار رب المال إخراج سن أعلى من الواجب" لما رود أبو داود عن
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الزكاة.
2 - قوله: كرائم أموالهم: الكرائم: جمع كريمة. يقال: ناقة كريمة, أي غزيرة اللبن. والمراد: نفائس الأموال من أي صنف كان. وقيل له: نفس؛ لأن نفس صاحبه تتعلق به. وأصل الكريمة: كثيرة الخير. ويقال للمال النفيس؛ كريم لكثرة منفعته. الفتح 3/378.
3 - رواه البخاري في: 24- كتاب الزكاة: حديث رقم 1458. ومسلم في: الإيمان: حديث رقم 29, 31.
4 - رواه البخاري في: الأضاحي: حديث رقم 5557.(1/121)
أو تكون كلها صغارا فيخرج صغيرة وإن كان فيها صحاح ومراض وذكور وإناث وصغار وكبار أخرج صحيحة كبيرة قيمتها على قيمة المالين, فإن كان فيها بخاتي وعراب وبقر وجواميس ومعز وضأن وكرام ولئام وسمان ومهازيل, أخذ من أحدهما بقدر قيمة المالين وإن اختلط جماعة في نصاب من السائمة حولا كاملا وكان
ـــــــ
أبي بن كعب أن رجلا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي فزعم أن مالي فيه بنت مخاض فعرضت عليه ناقة فتية سمينة, فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك الذي وجبت عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك" . فقال: ها هي ذه يا رسول الله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها ودعا له بالبركة1.
مسألة: "أو تكون ماشيته كلها صغارا فيخرج صغيرة" ويتصور ذلك إذا كان عنده نصاب كبار فأبدلها بصغار في أثناء الحول أو تولدت الكبار ثم ماتت وحال الحول على الصغار فيجوز إخراج الصغيرة, لقول أبي بكر رضي الله عنه: لو منعوني عناقا2 كانوا يؤدونها إلى رسول صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها3, ولا تؤدى العناق إلا عن الصغار.
مسألة: "وإن كان فيها صحاح ومراض وذكور وإناث أخرج صحيحة كبيرة على قدر المالين" ؛ لأن الزكاة وجبت مواساة فيجب أن تكون من رأس المال.
مسألة: "وإن كان فيها بخاتي وعراب وبقر وجواميس ومعز وضأن وكرام ولئام وسمان ومهازيل أخذت الفريضة من أحدهما على قدر قيمة المالين" فإن كانت قيمة الفرض من أحدهما عشرة ومن الآخر عشرين أخذ من أيهما شاء ما قيمته خمسة عشر, إلا أن يرضى رب المال بإخراج الأجود.
مسألة: "وإن اختلط جماعة في نصاب من السائمة حولا كاملا وكان مرعاها وفحلها ومبيتها ومشربها واحدا فحكم زكاتها حكم زكاة الواحد" سواء كانت خلطة أعيان بأن تكون مشاعا بينهما أو خلطة أوصاف بأن يكون مال كل واحد منهما متميزا, فخلطاه واشتركا في المراح والمسرح والمحلب والمشرب والراعي والفحل, فإن اختل شرط منها أو ثبت لهما حكم الانفراد في بعض الحول زكيا زكاة المنفردين فيه, والأصل في الخلطة ما روى أنس في حديث الصدقات: ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: الزكاة: حديث رقم 1583.
2 - قوله: عناقا: هي الأنثى من أولاد المعز والغنم, من حين الولادة إلى تمام حول, والجمع: أَعْنُق. المعجم الوجيز ص 437.
3 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1400.(1/122)
مرعاها وفحلها ومبيتها ومحلبها ومشربها واحدا فحكم زكاتها حكم زكاة الواحد.
وإذا أخرج الفرض من مال أحدهم رجع على خلطائه بحصصهم منه, ولا تؤثر الخلطة إلا في السائمة
ـــــــ
وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية1؛ ولأن المالين صارا كالمال الواحد في الكلف فكذلك في الصدقة.
مسألة: "ويعتبر للخلطة شروط أربعة: الأول أن يكون الخليطان من أهل الزكاة, فإن كان أحدهما مكاتبا أو ذميا فلا أثر لخلطته؛ لأنه لا زكاة في ماله فلم يكمل النصاب به الثاني أن يختلطا في نصاب فإن كان دونه مثل ثلاثين شاة لم تؤثر الخلطة, سواء كان لهما مال سواه أو لم يكن؛ لأن المجتمع دون النصاب. الثالث: أن تكون الخلطة في السائمة فلا تؤثر في غيرها؛ لأن النص اختص بها. الرابع: أن يختلطا في ستة أشياء لا يتميز أحدهما عن صاحبه فيها وهي: المسرح والمشرب والمحلب والمراح والراعي والفحل. لما روى الدارقطني بإسناده عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" 2. والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي, نص على هذه الثلاثة فنبه على سائرها؛ ولأنه إذا تميز كل مال بشيء مما ذكرنا لم يصيرا كمال الواحد في المؤونة. الخامس: أن يختلطا في جميع الحول فإن ثبت لهما حكم الانفراد في بعضه زكيا زكاة المنفردين فيه؛ لأن الخلطة معنى يتعلق به إيجاب الزكاة فاعتبرت في جميع الحول كالنصاب.
مسألة: "وإذا أخرج الفرض من مال أحدهم رجع على خلطائه بحصصهم منه" لقوله عليه السلام: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" . رواه أنس في حديث الصدقات3.
مسألة: "ولا تؤثر الخلطة في غير السائمة" , وعنه تؤثر في شركة الأعيان لعموم الخبر؛ ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت فيه الخلطة كالسائمة, ودليل الأولى قوله صلى الله عليه وسلم: "الخليطان ما اجتمعا على الحوض والراعي والفحل" . رواه الدارقطني, وهذا مفسر للخلطة شرعا, فيجب تقديمه؛ ولأن الخلطة في السائمة أثرت في الضرر كتأثيرها في النفع وفي غيرها لا تؤثر في النفع لعدم الوقص فيها. وقوله عليه السلام: "لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة" 4. دليل على اختصاص ذلك بالسائمة التي تقل الصدقة بجمعها لأجل الأوقاص بخلاف غيرها
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.(1/123)
باب زكاة الخارج من الأرض
وهو نوعان:
أحدهما النبات: فتجب الزكاة منه في كل حب وثمر يكال ويدخر إذا خرج من أرضه وبلغ خمسة أوسق؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في حب ولا ثمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق" . والوسق ستون صاعا والصاع رطل بالدمشقي وأوقية وخمسة أسباع أوقية, فجميع النصاب ما قارب ثلاثمائة واثنين وأربعين رطلا
ـــــــ
باب زكاة الخارج من الأرض
"وهو نوعان: أحدهما النبات فتجب الزكاة فيه في كل حب وثمر يكال ويدخر" لقوله سبحانه: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} 1. وقال صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا2 العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر" . أخرجه البخاري3.
مسألة: ولا تجب إلا بخمسة شروط: أحدها أن يكون حبا أو ثمرا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في ثمر ولا حب حتى يبلغ خمسة أوسق" 4. وهذا يدل على وجوبها في الحب والثمر وانتفائها من غيرهما. الثاني: أن يكون مكيلا لتقديره بالأوسق وهي مكاييل, فيدل ذلك على اعتبارها. الثالث: أن يكون مما يدخر لأن جميع ما اتفق على زكاته مدخر, ولأن غير المدخر لم تكمل ماليته لعدم التمكن من الانتفاع به في المال. الرابع: أن يبلغ نصابا قدره بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمار خمسة أوسق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" 5. والوسق ستون صاعا حكاه ابن المنذر إجماعا. والصاع خمسة أرطال وثلث والمجموع ثلاثمائة صاع وهي ألف وستمائة رطل بالعراقي, والرطل مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وهو بالرطل الدمشقي المقدر بستمائة درهم ثلاثمائة رطل واثنان وأربعون رطلا وستة أسباع رطل والأوساق مكيلة ونقلت إلى الوزن
ـــــــ
1 - آية 267 سورة البقرة.
2 - قوله عثريا بفتح المهملة والمثلثة, وكسر الراء, وتشديد التحتانية. قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي: زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستقنع في بركة ونحوها يصب إليه من ماء المطر في سواق تشق له. قال: واشتقاقه من العاثور, وهي الساقية التي يجري فيها الماء لأن الماشي يعثر فيها. قال: ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤنة, أو يشرب بعروقه,كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها, فيصل إليه عروق الشجر, فيستغني عن السقي. فتح الباري 3/ 408.
3 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1483.
4 - المصدر عاليه: حديث رقم 1459.
5 - سبق تخريجه.(1/124)
وستة أسباع رطل ويجب العشر فيما سقي من السماء والسيوح ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح.
وإذا بدا الصلاح في الثمار واشتد الحب وجبت الزكاة ولا يخرج الحب إلا مصفى ولا الثمر إلا يابسا ولا زكاة فيما يكتسبه من مباح الحب والثمر ولا في اللقاط, ولا يأخذه أجرة لحصاده ولا يضم صنف من الحب والثمر إلى غيره في تكميل النصاب
ـــــــ
لتحفظ وتنقل قال الإمام أحمد: وزنته -يعني الصاع- فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة, وهذا يدل على أن قدره ذلك من الحبوب الثقيلة. الشرط الخامس: أن يكون النصاب مملوكا له وقت وجوب الزكاة لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} 1 فلا تجب فيما يكتسبه اللقاط ولا ما يأخذه بحصاده ولا ما يجتنيه من المباح كالبطم والزعبل ونحوه.
مسألة: "ويجب العشر فيما سقي من السماء والسيوح ونصف العشر فيما سقي بكلفة" للخبر في أول الباب.
مسألة: "وإذا بدا الصلاح في الثمار واشتد الحب وجبت الزكاة" ؛ لأنه حينئذ يقصد للأكل والاقتيات فأشبه اليابس وقبله لا يقصد لذلك فهو كالرطبة.
مسألة: "ولا يخرج الحب إلا مصفى ولا الثمر إلا يابسا" لما روى عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص2 العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا.
رواه أبو داود3. ولأنه أوان الكمال وحال الادخار فلو أخرج الزكاة قبل الجفاف لم يجزه ولزمه الإخراج بعد التجفيف؛ لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه كما لو أخرج الصغيرة من الماشية عن الكبار.
مسألة: "ولا زكاة فيما يكسبه من مباح الحب والثمر ولا في اللقاط ولا فيما يأخذه أجرة لحصاده" ؛ لأن هذه الأشياء إنما تملك بحيازتها وأخذها, والزكاة إنما تجب في الحبوب والثمار إذا بدا صلاحها وفي تلك الحال لم تكن ملكا له فلا يتعلق به الوجوب ويصير كما لو وهب نصابا بعد بدو صلاحه أو اشتراه أو ملكه بجهة من الجهات لم تجب زكاته اتفاقا.
مسألة: "ولا يضم صنف من الحب والثمر إلى غيره في تكميل النصاب" ؛ لأنهما جنسان مختلفان فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالماشية.
ـــــــ
1 - آية 24 سورة المعارج.
2 - قوله: يخرص , خَرَص النخلة والكَرْمَة يَخْرُصُها خَرْصاً: إذا خَزَرَ ما عليها من الرطب تمراً, ومن العنب زبيباً, فهو من الخرص: الظن؛ لأن الحَزْرَ إنما هو تقدير بظن. 2/22-23.
3 - رواه أبو داود في الزكاة: حديث رقم 1603.(1/125)
فإن كان صنفا واحدا مختلف الأنواع كالتمور ففيها الزكاة, ويخرج من كل نوع زكاته وإن أخرج جيدا عن الرديء جاز وله أجره.
النوع الثاني: المعدن: فمن استخرج من معدن نصابا من الذهب أو الفضة أو ما قيمته نصابا من الجواهر أو الكحل والصفر والحديد أو غيره فعليه الزكاة.
ولا يخرج إلا بعد السبك والتصفية ولا شيء في اللؤلؤ والمرجان والعنبر والمسك ولا شيء في صيد البر والبحر وفي الركاز الخمس
ـــــــ
مسألة: "فإن كان صنفا واحدا مختلف الأنواع كالتمور ففيه الزكاة" يعني أنها يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب كما تضم أنواع الحنطة وأنواع الذهب وأنواع الفضة لا نعلم في ذلك خلافا.
مسألة: "ويخرج من كل صنف على حدته" لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فيه ولا يخرج الرديء عن الجيد لقوله سبحانه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} . "وإن أخرج الجيد عن الرديء جاز وله أجره" ولا يلزمه ذلك؛ لأن الزكاة على سبيل المواساة ولا مشقة فيما ذكرناه؛ لأنه لا يحتاج إلى تشقيص
"النوع الثاني: المعدن فمن استخرج من معدن نصابا من الذهب أو الفضة أو ما قيمته نصابا من الجواهر أو الكحل والصفر والحديد أو غيره فعليه الزكاة" في الحال ربع العشر من قيمته لقول الله سبحانه: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} . وروى الجوزجاني بإسناده عن بلال بن الحارث المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من معادن القبلية الصدقة وقدرها ربع العشر, ولأنها زكاة في الأثمان فأشبهت زكاة سائر الأثمان, أو تتعلق بالقيمة أشبهت زكاة التجارة ولا يعتبر لها حول؛ لأنه يراد لتكامل النماء وبالوجود يصل إلى النماء فلم يعتبر له حول كالعشر.
مسألة: "ولا يخرج إلا بعد السبك والتصفية" كالحب والثمرة.
مسألة: "ولا شيء في اللؤلؤ والمرجان والعنبر والسمك" لأن ابن عباس قال: لا شيء في العنبر إنما هو شيء ألقاه البحر, ولأنه كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه فلم تسبق فيه سنة وعلى قياسه اللؤلؤ والمرجان, وعنه في العنبر الزكاة لأنه معدن أشبه معدن البر والسمك صيد أشبه صيد البر. وعنه فيه الزكاة قياسا على العنبر.
مسألة: "ولا شيء في صيد البر والبحر" ؛ لأنه صيد والصيد لا زكاة فيه لأنه من المباحات فأشبه اللقاط.
مسألة: "وفي الركاز الخمس" لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في(1/126)
أي نوع كان من المال قل أو كثر ومصرفه مصرف الفيء وباقيه لواجده.
ـــــــ
الركاز 1 الخمس", متفق عليه2. ولأنه مال مظهور عليه بالإسلام فوجب فيه الخمس كالغنيمة.
مسألة: "وتجب في قليله وكثيره من أي نوع كان" من غير حول لذلك, وتجب على كل واجد له من أهل الزكاة وغيرهم لذلك.
مسألة: "ومصرفه مصرف الفيء" لذلك. ولأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه رد بعض خمس الركاز على واجده ولا يجوز ذلك في الزكاة, وعنه أنه زكاة فمصرفه مصرفها اختاره الخرقي؛ لأن عليا رضي الله عنه أمر واجد الركاز أن يتصدق به على المساكين, ولأنه حق تعلق بمستفاد من الأرض فأشبه صدقة المعدن.
مسألة: "وباقيه لواجده" إن وجده في موات أو أرض لا يعلم مالكها؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: في الركاز الخمس دلالة على أن باقيه لواجده, وإنما اشترط ذلك لأنه إذا وجده في أرض غير موات أو أرض يعلم مالكها آدميا معصوما أو كانت منتقلة إليه فيه روايتان: إحداهما أنه يملكه أيضا؛ لأنه لا يملكه بملك الأرض لأنه ليس من أجزائها إنما هو مودع فيها فجرى مجرى الصيد, والكلأ يملكه من ظفر به كالمباحات كلها.
مسألة: وإذا ادعاه مالك الأرض فهو له مع يمينه لثبوت يده على محله والرواية الأخرى هو لمالك الأرض أو لمن انتقلت عنه إن اعترف بت, فإن لم يعترف به فهو لأول مالك؛ لأنه في ملكه فكان له كحيطانه.
ـــــــ
1 - قوله الركاز بكسر الراء, وتخفيف الكاف, وآخره زاي: المال المدفون, مأخوذ من الركز: بفتح الراء. يقال: ركزه يركزه ركزا: إذا دفنه, فهو مركوز. الفتح 3/426.
2 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1499. ومسلم في: الحدود: حديث رقم 45, 46.(1/127)
باب زكاة الأثمان
وهي نوعان: ذهب وفضة ولا زكاة في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم فيجب فيها خمسة دراهم, ولا في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا فيجب فيها نصف مثقال.
ـــــــ
باب زكاة الأثمان
مسألة: "وهي نوعان ذهب وفضة ولا زكاة في الفضة حتى تبلغ مائتي درهم فيجب فيها خمسة دراهم ولا في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا فيجب فيها نصف مثقال" لما روى(1/127)
فإن كان فيهما غش فلا زكاة فيهما حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصابا, فإن شك في ذلك خير بين الإخراج وبين سبكهما ليعلم قدر ذلك, ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال والعارية ويباح للنساء كل ما جرت العادة بلبسه من الذهب والفضة, ويباح للرجال من الفضة الخاتم وحلية السيف والمنطقة ونحوها, فأما المعد للكراء أو الادخار والمحرم ففيه الزكاة
ـــــــ
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب ولا أقل من مائتي درهم صدقة". رواه أبو عبيد. والواجب ربع العشر لقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" . رواه البخاري1. وروى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عليك في ذهبك شيء حتى يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغ عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال" . والرقة الدراهم المضروبة وهي دراهم الإسلام التي وزن كل عشرة منها سبعة مثاقيل بغير خلاف.
مسألة: "فإن كان فيها غش فلا زكاة فيها حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصابا" للخبر: "فإن شك في ذلك خير بين الإخراج وبين سبكهما ليعلم قدر ذلك" أو يستظهره يخرج ليسقط الفرض بيقين.
مسألة: "ولا زكاة في الحلي المباح المعد للاستعمال والعارية" في ظاهر المذهب. لما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في الحلي زكاة" . ولأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح تجب فيه زكاة كثياب البدن, وحكى ابن أبي موسى عنه أن فيه الزكاة لعموم الأخبار.
مسألة: "ويباح للنساء كل ما جرت عادتهن بلبسه من الذهب والفضة ويباح للرجال من الفضة الخاتم وحلية السيف والمنطقة ونحوه فأما المعد للكراء أو للادخار ففيه الزكاة" إذا بلغ نصابا؛ لأنه معد للنماء فهو كالمضروب.
مسألة: "وأما المحرم" الذي يتخذه الرجل لنفسه من الطوق وخاتم الذهب "ففيه الزكاة"؛ لأنه فعل محرم فلم يخرج به عن أصله
ـــــــ
1 - رواه أحمد 1/12.(1/128)
باب حكم الدين
من كان له دين على مليء أو مال يمكن خلاصه كالمجحود الذي له به بينة
ـــــــ
باب حكم الدين
" ومن كان له دين على مليء أو مال يمكن خلاصه كالمجحود الذي له بينة والمغصوب الذي يتمكن من أخذه فعليه زكاته إذا قبضه لما مضى" لأنه(1/128)
والمغصوب الذي يتمكن من أخذه فعليه زكاته إذا قبضه لما مضى وإن كان متعذرا كالدين على مفلس أو على جاحد, ولا بينة به والمغصوب والضال الذي لا يرجى وجوده فلا زكاة فيه, وحكم الصداق حكم الدين ومن كان عليه دين يستغرق النصاب الذي معه أو ينقصه فلا زكاة فيه
ـــــــ
مال مملوك ملكا تاما بلغ نصابا فوجبت فيه الزكاة كالذي في يده.
مسألة: "وإن كان متعذرا كالدين على مفلس أو على جاحد لا بينة به والمغصوب والضال الذي لا يرجى وجوده فلا زكاة فيه" ؛ لأن ملكه فيه غير تام لأنه غير مقدور عليه.
مسألة: "وحكم الصداق حكم الدين" كذلك "ومن كان عليه دين يستغرق النصاب الذي معه فلا زكاة فيه كذلك.(1/129)
باب زكاة العروض
ولا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة وهي نصاب حولا, ثم يقومها فإذا بلغت أقل نصاب من الذهب والفضة أخرج الزكاة من قيمتها وإن كان عنده ذهب أو فضة ضمها إلى قيمة العروض في تكميل النصاب وإذا نوى بعروض
ـــــــ
باب زكاة العروض
"ولا زكاة فيها حتى ينوي بها التجارة, وهي نصاب حولا, ثم يقومها فإذا بلغت أقل نصاب من الذهب والفضة أخرج الزكاة من قيمتها" لما روى سمرة بن جندب قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع. رواه أبو داود وقال: إسناده مقارب1, ولأنه مال تام فتعلقت به الزكاة كالسائمة, وإنما اعتبر أقل نصاب من الذهب أو الفضة لأن التقويم لحظ الفقراء فيعتبر ما لهم الحظ فيه.
مسألة: وتؤخذ الزكاة من قيمتها لا من أعيانها؛ لأن نصابها معتبر بالقيمة لا بالعين وما اعتبر النصاب فيه وجبت الزكاة فيه كسائر الأموال, وقدر زكاته ربع العشر؛ لأنها تتعلق بالقيمة أشبهت زكاة الأثمان
مسألة: "وإن كان عنده ذهب أو فضة ضمها إلى قيمة العروض في تكميل النصاب" لأنه معد للنماء, والزكاة تجب في القيمة وهي إما ذهب وإما فضة فوجبت الزكاة في الجميع كما لو كان الكل للتجارة.
مسألة: "وإذا نوى بعروض التجارة القنية فلا زكاة فيها" لأن القنية الأصل "ثم إن نوى
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: الزكاة: حديث رقم 1562.(1/129)
التجارة القنية فلا زكاة فيها ثم إن نوى بها بعد ذلك التجارة استأنف له حولا.
ـــــــ
بها بعد ذلك التجارة" ففيه روايتان: إحداهما يصير للتجارة بمجرد النية اختارها أبو بكر للخبر, ولأنه يصير للقنية بمجرد النية, فكذلك للتجارة. والثانية: لا يصير للتجارة حتى يتبعه بنية التجارة؛ لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله لا يصير لها بمجرد النية كالمعلوفة إذا نوى بها الإسامة وفارق نية القنية؛ لأنها الأصل فيكفي فيها مجرد النية كالإقامة مع السفر.(1/130)
باب زكاة الفطر
وهي واجبة على كل مسلم إذا ملك فضلا عن قوته وقوت عياله ليلة العيد ويومه وقدر الفطرة صاع من البر أو الشعير أو دقيقهما أو سويقهما, أو من التمر أو الزبيب فإن لم يجده أخرج من قوته أي شيء كان صاعا ومن لزمته فطرة نفسه
ـــــــ
باب زكاة الفطر
"وهي واجبة على كل مسلم" تلزمه مؤنة نفسه "إذا فضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته" صاع لما روى ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الذكر والأنثى والحر والمملوك من المسلمين صاعا من تمر أو صاعا من شعير فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير, وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد". متفق عليه1.
مسألة: "وقدر الفطرة صاع من البر أو الشعير أو دقيقهما أو سويقهما أو من التمر أو الزبيب" لما روى أبو سعيد قال: كنا نعطيها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام أو صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من زبيب فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: إن مدا من هذا يعدل مدين قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه. متفق عليه2.
مسألة: "فإن لم يجده أخرج من قوته أي شيء كان صاعا" سواء كان حبا أو لحم حيتان أو أنعام, وهو اختيار ابن حامد؛ لأن مبناها على المواساة, وعند أبي بكر يخرج ما يقوم مقام المنصوص من كل مقتات من الحب والثمر كالذرة والدخن والأرز وأشباهه لأنه بدل عنه.
مسألة: "وإن لزمته فطرة نفسه لزمته فطرة من تلزمه مؤنته ليلة العيد إذا ملك ما يؤدي عنه" ؛ لأن الفطرة تابعة للنفقة فهذا إذا فضل عن نفقته ونفقة عياله يوم العيد وليلته ما يخرج
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الزكاة: حديث رقم 1511. ومسلم في: الزكاة: حديث رقم 12, 13, 14.
2 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1508. ومسلم في: الزكاة: حديث رقم 18.(1/130)
لزمته فطرة من تلزمه مؤنته ليلة العيد إذا ملك ما يؤدي عنه, فإن كانت مؤنته تلزم جماعة كالعبد المشترك أو المعسر القريب لجماعة ففطرته عليهم على حسب مؤنته, وإن كان بعضه حرا ففطرته عليه وعلى سيده ويستحب إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة, ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد ويجوز تقديمها عليه بيوم أو يومين.
ويجوز أن يعطي واحدا ما يلزم الجماعة والجماعة ما يلزم الواحد.
ـــــــ
عن نفسه وعمن لزمته نفقته لزمه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "أدوا عمن تمونون" . وقدمت النفقة على الفطرة؛ لأنها أهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك" . رواه مسلم1. وفي لفظ: "ابدأ بمن تعول" . رواه الترمذي2.
مسألة: "ويشترط في وجوبها دخول وقت الوجوب وهو غروب الشمس من ليلة الفطر لقول ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان3, وذلك يكون لغروب الشمس فمن أسلم أو تزوج أو ولد أو ملك عبدا أو أيسر بعد الغروب أو ماتوا قبل الغروب لم تلزمه فطرتهم, وإن غربت وهم عنده ثم ماتوا, فعليه فطرتهم؛ لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بالموت ككفارة الظهار.
مسألة: "فإن كانت مؤنته تلزم جماعة كالعبد المشترك فيه فعليهم صاع" ؛ لأن عليهم نفقته فعلى كل واحد من فطرته بقدر ما يلزمه من نفقته؛ لأنها تابعة لها فتقدر بقدرها, وعنه على كل واحد فطرة كاملة ؛لأنها طهرة فوجب تكميلها ككفارة القتل.
مسألة: "وكذلك الحكم فيمن بعضه حر" على ما ذكرنا.
مسألة: "ويستحب إخراج الفطرة يوم العيد قبل الصلاة" للخبر في أول الباب, ولأن المقصود إغناؤهم عن الطلب في يوم العيد لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" . رواه أبو سعيد وفي إخراجها قبل الصلاة إغناؤهم في اليوم كله.
مسألة: "ولا يجوز تأخيرها عن يوم العيد" فإن فعل أثم لتأخيره الحق الواجب عن وقته وعليه القضاء؛ لأنه حق مال وجب فلا يسقط بفوات وقته كالدين.
مسألة: "ويجوز تقديمها عليه بيومين" وثلاثة؛ لأن ابن عمر كان يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين؛ ولأن الظاهر أنها تبقى أو بعضها فيحصل الغنى بها فيه وإن عجلها لأكثر لم يجز؛ لأن الظاهر أنه ينفقها ولا يحصل بها الغنى المقصود يوم العيد.
مسألة: "ويجوز أن يعطي الواحد ما يلزم الجماعة" كما يجوز دفع زكاة مالهم إليه "ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد" كما يجوز تفرقة زكاة ماله إليهم,
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: الزكاة: حديث رقم 41.
2 - رواه الترمذي في: الزهد: حديث رقم 2343. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
3 - سبق تخريجه.(1/131)
باب إخراج الزكاة
لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها إذا أمكن إخراجها فإن فعل فتلف المال لم تسقط عنه الزكاة, وإن تلف قبله سقطت ويجوز تعجيلها إذا كمل النصاب ولا يجوز قبل ذلك فإن عجلها إلى غير مستحقها لم يجزئه, وإن صار عند الوجوب من أهلها وإن دفعها إلى مستحقها فمات أو استغنى أو ارتد أجزأت عنه وإن تلف.
ـــــــ
ويجوز أن يعطى الجماعة ما يلزم الواحد. ما يجوز تفرقته عليهم.
باب إخراج الزكاة
مسألة: "لا يجوز تأخير الزكاة عن وقت وجوبها مع إمكانه" ؛ لأنها عبادة مؤقتة بوقت فلا يجوز تأخيرها عنه كالصلاة, ولأن الأمر بها مطلق والأمر المطلق يدل على الفور وقد اقترن به ما يدل عليه فإنه لو جاز له التأخير لأخر بمقتضى طبعه ثقة منه بأنه لا يأثم حتى يموت فتسقط عنه عند من يسقطها أو يتلف ماله فيعجز عن الأداء فيتضرر الفقراء بذلك, ولأنها وجبت لدفع حاجة الفقراء وحاجتهم ناجزة فيكون الوجوب ناجزا.
مسألة: "فإن فعل فتلف المال لم تسقط عنه الزكاة" ؛ لأنها وجبت في ذمته فلا تسقط بتلف المال كدين الآدمي.
مسألة: "وإن تلف قبله" يعني قبل الوجوب "سقطت" ؛ لأن المال تلف قبل أن تجب عليه فلم يكن في ذمته شيء أشبه ما لو لم يملك نصابا.
مسألة: "ويجوز تعجيلها إذا كمل النصاب ولا يجوز قبل ذلك" ؛ لأن النصاب سببها فلم يجز تقديمها عليه كالتكفير قبل الحلف ويجوز بعد كمال النصاب لما روي عن علي رضي الله عنه: "أن العباس سأل رسول صلى الله عليه وسلم أن يرخص له في تعجيل الصدقة قبل أن تحل فرخص له" . رواه أبو داود1. ولأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله كالدين ودية الخطأ.
مسألة: "فإن عجلها إلى غير مستحقها لم يجزئه وإن صار عند الوجوب من أهلها" ؛ لأنه لم يؤتها لمستحقها.
مسألة: "وإن دفعها إلى مستحقها فمات أو استغنى أو ارتد أجزأت عنه" ؛ لأنه أداها إلى مستحقها فبرئ منها كما لو تلفت عند آخذها أو استغنى بها, "وإن عجلها ثم هلك المال قبل الحول لم يرجع على المساكين". لأنه دفعها إلى مستحقها فلم يملك الرجوع بها كما لو لم يعلمه.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في: الزكاة: حديث رقم 1624.(1/132)
المال لم يرجع على الآخذ ولا تنقل الصدقة إلى بلد تقصر إليه الصلاة إلا أن لا يجد من يأخذها في بلدها.
ـــــــ
مسألة: "ولا تنقل الصدقة إلى بلد تقصر إليه الصلاة" لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" 1؛ ولأن نقلها عنهم يفضي إلى ضياع فقرائهم.
مسألة: "إلا أن لا يجد من يأخذها" لما روي أن معاذا بعث إلى عمر صدقة من اليمن فأنكر عمر ذلك وقال:لم أبعثك جابيا ولا آخذ جزية, ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس وترد في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحد يأخذه مني. رواه أبو عبيد في الأموال.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: الزكاة: حديث رقم 1395.(1/133)
باب من يجوز دفع الزكاة إليه
وهم ثمانية:
الأول: الفقراء وهم الذين لا يجدون ما يقع موقعا من كفايتهم بكسب ولا غيره.
الثاني: المساكين وهم الذين يجدون ذلك ولا يجدون تمام الكفاية.
ـــــــ
باب من يجوز دفع الزكاة إليه:
مسألة: "وهم ثمانية" أصناف التي سمى الله تعالى في قوله: {إِِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} 2. ولا يجوز صرفها إلى غيرهم لأن الله سبحانه خصهم بها بقوله: {إِنَّمَا} وهي للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه.
فأما "الفقراء والمساكين" فهم صنفان وكلاهما يأخذ لحاجته لمؤنة نفسه, والفقراء أشد حاجة لأن الله سبحانه بدأ بهم, والعرب إنما تبدأ بالأهم فالأهم, ولأن الله سبحانه قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} 3. فأخبر أن لهم سفينة يعملون بها ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من الفقر وقال: "اللهم أحيني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" . رواه الترمذي4. فدل على أن الفقر أشد, فالفقير من ليس له ما يقع موقعا من كفايته من كسب ولا غيره. والمسكين الذي له ذلك فيعطى كل واحد منهم ما تتم به كفايت"
ـــــــ
2 - آية 60 سورة التوبة.
3 - آية 79 سورة الكهف.
4 - رواه البخاري في: الزهد: حديث رقم 2352. وقال: هذا حديث غريب.(1/133)
الرابع: المؤلفة قلوبهم وهم السادة المطاعون في عشائرهم الذين يرجى بعطيتهم دفع شرهم أو قوة إيمانهم أو دفعهم عن المسلمين أو إعانتهم على أخذ الزكاة ممن يمتنع من دفعها.
الخامس: الرقاب وهم المكاتبون وإعتاق الرقيق.
السادس: الغارمون وهم المدينون لإصلاح نفوسهم في مباح أو لإصلاح بين طائفتين من المسلمين
ـــــــ
الثالث: العاملون عليها وهم الجباة والحافظون لها ومن يحتاج إليه فيها" وينبغي للإمام إذا تولى القسمة أن يبدأ بالعامل فيعطيه عمالته؛ لأنه يأخذ عوضا فكان حقه آكد ممن يأخذ مواساة.
الرابع: المؤلفة قلوبهم وهم السادة المطاعون في عشائرهم ممن يرجى إسلامه أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة الإيمان منه, أو إسلام نظيره أو جباية الزكاة ممن لا يعطيها والدفع عن المسلمين", وهم ضربان: كفار ومسلمون فالكافر يعطى رجاء إسلامه أو خوف شره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه ترغيبا له في الإسلام. قال صفوان: أعطاني رسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الخلق إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إلي. رواه مسلم1. وأما المسلمون: فقوم لهم شرف ويرجى بعطيتهم إسلام نظرائهم فيعطون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى: عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر مع إسلامهم وحسن نيتهم.
"الخامس: الرقاب وهم المكاتبون" , يعطون ما يؤدونه في كتابتهم ولا يقبل قوله إنه مكاتب إلا ببينة؛ لأن الأصل عدمها.
مسألة: ويجوز أن يفك منها أسيرا مسلما كفك رقبة العبد من الرق, وهل يجوز أن يشتري منها رقبة يعتقها؟ على روايتين: إحداهما يجوز؛ لأنها من الرقاب فعلى هذا يجوز أن يعين في ثمنها وأن يشتريها كلها من زكاته ويعتقها, والأخرى لا يجوز الإعتاق منها؛ لأن الآية تقتضي دفع الزكاة إلى الرقاب كقوله سبحانه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} . يريد الدفع إلى المجاهدين والعبد لا يدفع إليه.
مسألة: "السادس: الغارمون وهم المدينون" . وهم ضربان: ضرب غرم "لمصلحة نفسه" فيعطى من الصدقة ما يقضي غرمه ولا يعطى مع الغنى لأنه يأخذ لحاجة نفسه
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: الفضائل: حديث رقم 59.(1/134)
السابع: في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم.
الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به وإن كان ذا يسار في بلده.
فهؤلاء هم أهل الزكاة لا يجوز دفعها إلى غيرهم ويجوز دفعها إلى واحد منهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بني زريق بدفع صدقتهم إلى سلمة بن صخر, وقال لقبيصة: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها, ويدفع إلى الفقير المسكين ما تتم به كفايته.
ـــــــ
فلم يدفع إليه مع الغنى كالفقير. الثاني: غرم لإصلاح ذات البين كمن يتحمل دية أو مالا لتسكين فتنة. "وإصلاح بين طائفتين" فيدفع إليه من الصدقة ما يؤدي حمالته وإن كان غنيا؛ لحديث قبيصة بن مخارق قال: تحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم أسأله فيها, فقال: "أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" . الحديث أخرجه مسلم1؛ ولأنه يأخذ لنفع المسلمين فجاز مع الغنى كالساعي.
"السابع: في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم" يعطون قدر ما يحتاجون إليه لغزوهم من نفقة طريقهم وإقامتهم, وثمن السلاح والخيل إن كانوا فرسانا ويعطون مع الغنى؛ لأنهم يأخذون لمصلحة المسلمين ولا يعطى الراتب في الديوان لأنه يأخذ قدر كفايته من الفيء.
"الثامن: ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به" دون المنشئ للسفر من بلده "وله اليسار في بلده" فيعطى من الصدقة ما يبلغه إليه لإيابه, "فهؤلاء أهل الزكاة لا يجوز دفعها إلى غيرهم" لما سبق.
مسألة: "ويجوز دفعها إلى واحد منهم" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد فى فقرائهم" . أمر بردها في صنف واحد, وقال لقبيصة لما سأله في حمالته: "أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها" . وهو صنف واحد, وأمر بني بياضة بإعطاء صدقاتهم سلمة بن صخر وهو واحد, فتبين بهذا أن المراد من الآية بيان موضع الصرف دون التعميم, وكذلك لا يجب تعميم كل صنف؛ ولأن التعميم بصدقة الواحد إذا أخذها الساعي غير واجب بخلاف الخمس.
ـ مسألة: "ويدفع إلى الفقير والمسكين ما تتم به كفايته" ؛ لأن المقصود دفع حاجته ويعطى "العامل قدر عمالته" لأنه مستحقه "ويدفع إلى المؤلفة قلوبهم ما يحصل به" التأليف ويعطى "المكاتب والغارم ما يقضي" دينهما, ويعطى "الغازي ما يحتاج إليه لغزوه" , وإن كثر لما سبق "ويعطى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده ولا يزاد أحد منهم على ذلك" لحصول المقصود.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في: الزكاة: حديث رقم 109.(1/135)
وإلى العامل قدر عمالته وإلى المؤلف ما يحصل به تأليفه وإلى المكاتب والغارم ما يقضي به دينه وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه وإلى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده, ولا يزاد واحد منهم على ذلك, وخمسة منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة وهم: الفقير والمسكين والمكاتب والغارم لنفسه وابن السبيل, وأربعة يجوز الدفع إليهم مع الغنى وهم: العامل, والمؤلف, والغازي, والغارم لإصلاح ذات البين
ـــــــ
مسألة: "وخمسة منهم لا يأخذون إلا مع الحاجة: الفقير والمسكين والمكاتب والغارم لنفسه وابن السبيل" , فإن فضل مع الغارم شيء بعد قضاء دينه أو مع المكاتب بعد أداء كتابته أو مع الغازي بعد غزوه أو مع ابن السبيل بعد قفوله استرجع منهم, وإن استغنوا عن الجميع ردوه؛ لأنهم أخذوه للحاجة وقد زالت الحاجة. والباقون يأخذون أخذا مستقرا فلا يردون شيئا وهم أربعة: الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة؛ لأن الفقراء والمساكين إنما يأخذون ما تتم به كفايتهم والعامل يأخذ أجرة والمؤلفة يأخذون مع الغنى وعدمه وكلام الخرقي يقتضي أن أخذ المكاتب أخذ مستقر ووجهه أن حاجته لا تندفع إلا بما يغنيه فأشبه الفقير, فلو لزمه رد ما أخذ بعد أداء الكتابة لبقي فقيرا محتاجا.
مسألة: "وأربعة يجوز الدفع إليهم مع الغنى: العامل والمؤلف والغازي والغارم لإصلاح ذات البين" ؛ لأنهم يأخذون لحاجتنا إليهم والحاجة توجد مع الغنى(1/136)
باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه
لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب ولا تحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم وهم بنو
ـــــــ
باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه
مسألة: "لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب" لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب" . رواه النسائي1. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" . وهو حديث حسن2.
مسألة: "وفي ضابط الغني روايتان: إحداهما أنه الكفاية على الدوام بصناعة أو بكسب أو أجرة أو نحوه, لقوله في حديث قبيصة: "ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش فوجه الحجة أنه قد أباحه المسألة إلى حصول الكفاية بقوله: حتى يصيب قواما من عيش أو سدادا من عيش ولأن الغنى
ـــــــ
1 - رواه النسائي في: الزكاة: 91- باب مسألة القوي المكتسب؛ حديث رقم1.
2 - رواه الترمذي في: الزكاة: حديث رقم 652. وقال: حديث حسن.(1/136)
هاشم ومواليهم ولا يجوز دفعها إلى الوالدين وإن علوا ولا إلى الولد وإن سفل ولا من تلزمه مؤنته ولا إلى كافر. فأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وإلى
ـــــــ
ضد الحاجة والحاجة تذهب بالكفاية وتوجد مع عدمها والرواية الثانية أنه الكفاية أو ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب؛ لأن في حديث ابن مسعود قيل: يا رسول الله ما الغنى؟ قال: "خمسون درهما أو قيمتها من الذهب" . قال الترمذي: هذا حديث حسن1, فعلى هذه إن كان له عيال فله أن يأخذ لكل واحد خمسين درهما نص عليه, إلا أن الحديث ضعيف؛ لأنه يرويه حكم بن جبير. وقال البخاري: هو ضعيف.
مسألة: "ولا تحل لآل محمد صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم ومواليهم" إلا لغزو أو حمالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما الصدقات أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد وآل محمد" . وحكم مواليهم وهم معتقوهم حكمهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رافع: "فإن موالي القوم منهم" . حديث صحيح2.
مسألة: "ولا يجوز دفعها إلى الوالدين وإن علوا ولا إلى الولد وإن سفل ولا من تلزمه مؤنته" , كالزوجة والعبد والقريب؛ لأن نفقتهم عليه واجبة وفي دفعها إليهم إغناء لهم عن نفسه فكأنه صرفها إلى نفسه.
مسألة: "ولا يجوز دفعها إلى كافر" لغير تأليف لقوله صلى الله عليه وسلم: "تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" 3؛ ولأنها مواساة تجب على المسلم فلم تجب للكافر كالنفقة.
مسألة: "فأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم" لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة, فقلت له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة, وعنه لا تحل لهم صدقة التطوع أيضا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إنا لا تحل لنا الصدقة" . والأول أظهر. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المعروف كله صدقة" متفق عليه. وقال سبحانه: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} 4. وقال تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 5. وقال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 6. ولا خلاف في صحة العفو عن الهاشمي ونظائره.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في: الزكاة في حديث رقن 650.
2 - رواه أبو دود في: الزكاة: حديث رقم 1650. والترمذي في: الزكاة: حديث رقم 657. ويقال: هذا حديث حسن صحيح.
3 - سبق تخريجه.
4 - آية 280 سورة البقرة.
5 - آية 92 سورة النساء.
6 - آية 45 سورة المائدة.(1/137)
غيرهم, ولا يجوز دفع الزكاة إلا بنية إلا أن يأخذها الإمام قهرا وإذا دفع الزكاة إلى غير مستحقها لم يجزه إلا لغني إذا ظنه فقيرا
ـــــــ
مسألة: "ولا يجوز دفع الزكاة إلا بنيه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" 1. "إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا" فتجزي بنية الإمام في الظاهر على معنى أنا لا نطالبه بها ثانيا ولا تجزي في الباطن للخبر.
مسألة: "وإذا دفع الزكاة إلى غير مستحقها" وهو لا يعلم ثم علم "لم تجزه" ؛ لأنه بان أنه غير مستحق أشبه ما لو دفع الدين إلى غير صاحبه.
مسألة: "إلا لغني إذا ظنه فقيرا" وعنه لا تجزيه كذلك, ودليل الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالظاهر؛ لقوله للرجلين: "إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني". وهذا يدل على أنه يجزئ؛ ولأن الغني يخفى فاعتبار حقيقته يشق, ولهذا قال سبحانه: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} 2.
مسألة: ومن دفعها إلى من يظنه مسلما فبان كافرا, أو حرا فبان عبدا, أو هاشميا لم يجزه, رواية واحدة؛ لأن حال هؤلاء لا تخفى, فلم يعذر الدافع لهم بخلاف الأولى.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - آية 237 سورة البقرة.(1/138)
كتاب الصيام
مدخل
...
كتاب الصيام
يجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم, ويؤمر به الصبي إذا أطاقه ويجب بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان ورؤية هلال رمضان.
ـــــــ
كتاب الصيام
"يجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم" , فشروطه أربعة: الإسلام فلا يجب على كافر أصلي ولا مرتد؛ لأنه عبادة فلا تجب على الكافر كالصلاة. والثاني: فلا يجب على مجنون. والثالث: البلوغ فلا يجب على صبي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق, وعن النائم حتى يستيقظ, وعن الصبي حتى يبلغ الحلم" 1. وقال أصحابنا: يجب على من أطاقه؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أطاق الغلام الصيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان" . ولأنه يعاقب على تركه وهذا صفة الواجب والأول المذهب للخبر.
مسألة: "ويؤمر به الصبي إذا أطاقه" ويضرب عليه ليعتاده ولا يجب عليه للخبر.
مسألة: "ويجب بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان" ثلاثين يوما إجماعا. "ورؤية هلال رمضان" لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" . متفق عليه2. "ووجود غيم أو قتر" في مطلعه "ليلة الثلاثين" من شعبان "يحول دونه" ؛ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له" . متفق عليه3. يعني ضيقوا له من قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} . أي ضيق عليه رزقه, وتضيق العدة أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوما, وكان ابن عمر إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر أصبح صائما رواه أبو داود4.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه..
2 - رواه البخاري في: الصيام حديث رقم 1909. ومسلم في: الصيام حديث رقم 4.
3 - رواه البخاري في: الصيام رقم 1906. ومسلم في الصيام: حديث رقم 3.
4 - رواه أبو داود في: الصيام: حديث رقم 2320.(1/139)
ووجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دونه وإذا رأى الهلال وحده صام فإن كان عدلا صام الناس بقوله ولا يفطر إلا بشهادة عدلين, ولا يفطر إذا رآه وحده وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما أفطروا وإن كان بغيم أو قول واحد لم يفطروا إلا
ـــــــ
وهو راوي الحديث وعمله به تفسير له وعنه لا يصوم لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يوما" . حديث صحيح1؛ ولأنه في أول الشهر شك فأشبه حال الصحو, وعنه الناس تبع للإمام فإن صام صاموا وإن أفطر أفطروا؛ لقوله عليه السلام: "صومكم يوم تصومون وأضحاكم يوم تضحون" . رواه أبو داود2.
مسألة: "وإن رأى الهلال وحده صام" لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" . "فإن كان عدلا صام الناس بقوله" ؛ لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام". رواه أبو داود3؛ ولأنه مما طريقه المشاهدة فدخل به في الفريضة فقبل من واحد كوقت الصلاة, والعبد كالحر لأنه من أهل الرؤية أشبه الحر.
مسألة: "ولا يفطر إلا بشهادة عدلين" لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا" . رواه النسائي4؛ ولأنها شهادة يدخل بها في العبادة فلم يقبل فيها الواحد كسائر الشهود.
مسألة: "ولا يفطر إذا رآه وحده" لما روي أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال وقد أصبح الناس صياما فأتيا عمر فذكرا له فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال: فما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال الآخر: أنا صائم. قال: فما حملك على هذا؟ قال:لم أكن لأفطر والناس صيام, فقال للذي أفطر لولا مكان هذا لأوجعت رأسك؛ ولأنه محكوم به من رمضان فأشبه الذي قبله.
مسألة: "وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما أفطروا" لحديث عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب.
مسألة: "وإن كان بغيم لم يفطروا" إذا لم يروا الهلال؛ لأنهم إذا صاموا في أوله احتياطا للعبادة فيجب الصوم في آخره احتياطا لها, "وإن صاموا بشهادة الواحد لم يفطروا" كما لو شهد بهلال شوال.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الصيام: حديث رقم 1909.
2 - رواه أبو داود في الصيام: حديث رقم 2324.
3 - رواه أبو داود في الصيام: حديث رقم 2342.
4 -رواه النسائي في: الصيام.(1/140)
أن يروه أن يكملوا العدة وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام, فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه وإن وافق قبله لم يجزه.
ـــــــ
مسألة: "إلا أن يروه" لقوله عليه الصلاة والسلام: "وأفطروا لرؤيته" 1, أو يكملوا العدة فيفطروا لقوله: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما" 2.
مسألة: "وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام, فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه" ؛ لأنه فعل العبادة بعد وجوبها عليه باجتهاده, فإذا وافق الإصابة أجزأته كالقبلة إذا اشتبهت عليه أو الوقت.
مسألة: "وإن وافق ما قبله لم يجزه" ؛ لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها بالتحري فلم يجزه كالصلاة والحج إذا أخطأ فيه الواحد.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.(1/141)
باب أحكام المفطرين في رمضان
ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام:
ـــــــ
باب أحكام المفطرين في رمضان
مسألة: "ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام: أحدها المريض الذي يتضرر به, والمسافر الذي له القصر فالفطر لهما أفضل وعليهما القضاء" ؛ لأن الله سبحانه قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} 3, وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 4, ولقوله عليه السلام: "ليس من البر الصوم في السفر" . متفق عليه5. وخرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فأفطر فبلغه أن ناسا صاموا فقال: "أولئك العصاة" . رواه مسلم. "وإن صاما أجزأهما" لذلك. "الثاني: الحائض والنفساء تفطران وتقضيان" إجماعا. "وإن صامتا لم يجزئهما" إجماعا. وقالت عائشة رضى الله عنها: كنا نؤمر بقضاء الصوم, ولا نؤمر بقضاء الصلاة6. تعني في الحيض والنفاس مثله. "الثالث: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا" كالمريض "وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا" . لقوله سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} 7 "الرابع: العاجز
ـــــــ
3 - آية 6 سورة البقرة.
4 - آية 184 سورة البقرة.
5 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1946. ومسلم في الصوم: حديث رقم 92.
6 -سبق تخريجه.
7 - آية 184 سورة البقرة.(1/141)
أحدها: المريض الذي يتضرر به والمسافر الذي له القصر فالفطر لهما أفضل وعليهما القضاء, وإن صاما أجزأهما.
الثاني: الحائض والنفساء تفطران وتقضيان وإن صامتا لم يجزئهما.
الثالث: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا, وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا.
الرابع: "العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكينا." وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين, فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا, فإن لم يجد سقطت عنه فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة
ـــــــ
عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عنه لكل يوم مسكينا" لقول الله سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا, والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. رواه أبو داود1.
مسألة: "وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي ويعتق رقبة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين, فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فإن لم يجد سقطت عنه" . لما روى الزهري عن حميد ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: هلكت قال: ما لك؟. قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها" ؟. قال: لا. قال: "هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ . قال: لا. قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا" ؟. قال: لا. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر, والعرق المكتل, فقال: "أين السائل" ؟. قال: أنا. قال: "خذ هذا فتصدق بت" . فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟. فوالله ما بين لا بتيها -يريد الحرتين- أهل بيت أفقر مني ومن أهل بيتي, فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه, ثم قال: "أطعمه أهلك" . متفق عليه2.
مسألة: "فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية" في يوم واحد "فكفارة واحدة" , ولا خلاف فيه بين أهل العلم, وإن كان في يومين فعلى وجهين: أحدهما تلزمه كفارة واحدة
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الصيام: حديث رقم 2318.
2 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1937. ومسلم في الصوم: حديث رقم 81.(1/142)
واحدة فإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية, وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر فليس عليه غير القضاء, وإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا, وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه, وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكينا, إلا أن يكون الصوم منذورا فإنه يصام عنه, وكذلك كل نذر طاعة
ـــــــ
لأنه جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتداخلا كالحدود, وكما لو جامع في يوم مرتين ولم يكفر. والثاني: تلزمه كفارة ثانية اختارها القاضي؛ لأنه أفسد صوم يومين فوجبت كفارتان كما لو كانا في رمضانين.
مسألة: "وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية" نص عليه؛ لأنه تكرر السبب بعد استيفاء حكم الأول فوجب أن يثبت للثاني حكمه كسائر الكفارات.
مسألة: "وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة" للخبر.
مسألة: "ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر فليس عليه غير القضاء" , لقوله سبحانه: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . "وإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا" ؛ لما روى ابن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين" 1. قال الترمذي: الصحيح عن ابن عمر موقوف2. وعن عائشة أنها قالت: يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام عنه. وعن ابن عباس أنه سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر وعليه صوم رمضان قال: أما رمضان فيطعم عنه وأما النذر فيصام عنه. رواه الأثرم في السنن.
مسألة: "وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه" ؛ لأنه حق الله تعالى وجب بالشرع ومات من يجب عليه قبل إمكان فعله فسقط إلى غير بدل كالحج.
مسألة: "وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكين" لحديث ابن عمر وعائشة وابن عباس.
مسألة: "إلا أن يكون الصوم منذورا فيصام عنه وكذلك كل نذر طاعة" ؛ لما روى البخاري عن ابن عباس قال: قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأقضيه عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها؟ قالت: نعم. قال: فصومي عن أمك" 3.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: الصوم: حديث رقم 1757.
2 - سنن الترمذي3/97.
3 -رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1953.(1/143)
باب ما يفسد الصوم
من أكل أو شرب أو استعط أو أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس أو أمذى أو حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه
ـــــــ
باب ما يفسد الصوم
"من أكل أو شرب أو استعط أو أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس أو أمذى أو حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد" , أما الأكل والشرب فيحرم على الصائم, لقوله سبحانه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} 1 بعد قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 2. فإذا أكل أو شرب مختارا ذاكرا لصومه أبطله؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم لغير عذر سواء كان غذاء أو غير غذاء كالحصاة والنواة لأنه أكل.
مسألة: "إن استعط فسد صومه لقوله للقيط بن صبرة: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما"3. وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ فيه بحيث يصل إلى خياشيمه.
مسألة: "وإن أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان" مثل إن احتقن أو داوى جائفة أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه أو أوصل إلى دماغه شيئا مثل إن قطر في أذنيه أو داوى مأمومة فوصل إلى دماغه فسد صومه؛ لأنه إذا فسد بالسعوط دل على أنه يفسد بكل, وأصل من أي موضع كان, ولأن الدماغ أحد الجوفين فأفسد الصوم بما يصل إليه كالأخرى.
مسألة: وإن استقاء عمدا فعليه القضاء. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على إبطال صوم من استقاء عامدا لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض" . حديث حسن4.
مسألة: وإن استمنى بيده فأنزل أفطر؛ لأنه أنزل عن مباشرة أشبه القبلة.
مسألة: ولو قبل أو لمس أو أمذى فسد صومه لذلك, أما إذا أمنى فإنه يفطر بغير خلاف علمناه, وإن أمذى أفطر عند إمامنا؛ لأنه خارج تخلله الشهوة فإذا انضم إلى المباشرة أفطر كالمني
ـــــــ
1 - آية 187 سورة البقرة.
2 - آية 187 سورة البقرة.
3- سبق تخريجه.
4 - رواه أبو داود في: حديث رقم 2380. والترمذي في الصوم: حديث رقم 720. وقال: حسن غريب.(1/144)
فسد وإن فعله ناسيا أو مكرها لم يفسد صومه وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء أو فكر فأنزل أو قطر في إحليله
ـــــــ
مسألة: وإن لم ينزل لم يفسد صومه؛ لما روى ابن عمر قال: قلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم. قال: "أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم" . قلت: لا بأس. قال: "فمه". رواه أبو داود1, شبه القبلة بالمضمضة لكونها من مقدمات الشهوة والمضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم تفطر كذلك القبلة.
مسألة: وإن حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد صومه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفطر الحاجم والمحجوم" . رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر نفسا. قال أحمد: حديث ثوبان وشداد صحيحان2.
مسألة: وإن فعل شيئا من هذا "ناسيا لم يفسد صومه" لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" . متفق عليه3. وفي لفظ فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله فنص على الأكل والشرب, وقسنا عليه سائر ما ذكرنا.
مسألة: "وإن فعله مكرها لم يفطر" لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء" 4. فنقيس عليه ما عداه.
مسألة: "وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار" لم يفسد صومه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه أشبه الريق.
مسألة: "وإن تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء" لم يبطل صومه؛ لأنه وصل بغير اختياره أشبه الذباب الداخل حلقه.
مسألة: "وإن فكر فأنزل لم يفسد صومه" ؛ لأنه يخرج من غير اختياره.
مسألة: "وإن قطر في إحليله شيئا لم يفسد صومه" ؛ لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف ولا منفذ بينهما.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الصيام: حديث رقم 2385.
2 - رواه البخاري في الصوم: تعليقا 32- باب الحجامة القيء للصائم. ورواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 774
3 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 982. ومسلم في الصوم: حديث رقم 121.
4 - سبق تخريجه.(1/145)
أو احتلم أو ذرعه القيء لم يفسد صومه, ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا فعليه القضاء, ومن أكل شاكا في طلوع الفجر لم يفسد صومه, وإن أكل شاكا في غروب الشمس فعليه القضاء.
ـــــــ
مسألة: "وإن احتلم لم يفسد صومه" ؛ لأنه يخرج من غير اختياره.
مسألة: "وإن ذرعه القيء لم يفسد صومه" لحديث أبي هريرة: من ذرعه القيء فليس عليه قضاء, حديث حسن1.
مسألة: "ومن أكل يظنه ليلا فبان نهارا فعليه القضاء" لما روي عن حنظلة, قال: كنا بالمدينة في رمضان فأفطر بعض الناس ثم طلعت الشمس فقال عمر: من أفطر فليقض يوما مكانه, ولأنه أكل ذاكرا مختارا فأفطر كما لو أكل يظنه من شعبان فبان من رمضان.
مسألة: "ومن أكل شاكا في طلوع الفجر لم يفسد صومه"؛ لأن الأصل بقاء الليل "وإن كان شاكا في غروب الشمس فعليه القضاء"؛ لأن الأصل بقاء النهار.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(1/146)
باب صيام التطوع
أفضل الصيام صيام داود عليه السلام: كان يصوم يوما ويفطر يوما, وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم, وما من أيام العمل الصالح
ـــــــ
باب صيام التطوع
مسألة: "أفضل الصيام صيام داود عليه السلام: كان يصوم يوما ويفطر يوما" , لأن في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صم يوما وأفطر يوما فذلك صيام داود وهو أفضل الصيام" . فقلت إني أطيق أفضل من ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أفضل من ذلك" . متفق عليه2.
مسألة: "وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي يدعونه المحرم" لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم" . رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن3, وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة" , قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد
ـــــــ
2 - رواه البخاري في الصيام حديث رقم 1979, 1978. ومسلم في الصيام حديث رقم 186, 187.
3 - رواه أبو داود في الصوم: حديث رقم 2429. والترمذي في الصوم: حديث رقم 740. وقال: حديث حسن.(1/146)
فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة.
ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله, وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة وصيام يوم عرفة كفارة سنتين, ولا يستحب لمن بعرفة أن يصومه
ـــــــ
في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك شيء" . عن حديث حسن صحيح رواه ابن عباس1, وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر" . وهذا حديث غريب أخرجه الترمذي2, وروى أبو داود بإسناده عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء3.
مسألة: "ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله" ؛ لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فكأنما صام الدهر كله" . رواه مسلم والأثرم وأبو داود والترمذي, وقال: حديث حسن4.
مسألة: "وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة وصيام يوم عرفة كفارة سنتين" , لما روى أبو قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده" 5. وقال في صيام عاشوراء: "إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" . أخرجه مسلم6.
مسألة: "ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصومه" ليتقوى على الدعاء؛ لما روي عن أم الفضل بنت الحارث: أن أناسا تماروا بين يديها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: صائم, وقال بعضهم: ليس بصائم, فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه النبي صلى الله عليه وسلم. متفق عليه. وقال ابن عمر: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه -يعني يوم
ـــــــ
1 - رواه ابن عباس في: الصوم حديث رقم 2438. والترمذي في: الصوم حديث رقم 757, وقال: حسن صحيح غريب.
2 - رواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 758. وقال: غريب. ورواه أيضا ابن ماجه في الصوم: حديث رقم 1728.
3 - رواه أبو داود في: الصوم.
4 - رواه مسلم في الصيام: حديث رقم 204. وأبو داود في الصوم: حديث رقم 2433. والترمذي في الصوم: حديث رقم 759. وقال: حسن صحيح.
5 - رواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 749. وقال: حديث حسن.
6 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1988. ومسلم في الحج: حديث رقم 110.(1/147)
ويستحب صيام أيام البيض والإثنين والخميس والصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر, ولا قضاء عليه وكذلك سائر التطوع إلا الحج والعمرة فإنه
ـــــــ
عرفة -ومع أبي بكر رضي الله عنه فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه, أخرجه الترمذي. وقال: حديث حسن1, وروى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة2؛ ولأن الصوم يضعفه ويمنعه الدعاء في هذا اليوم العظيم الذي يستجاب فيه الدعاء في ذلك الموقف الشريف الذي يقصد من كل فج عميق رجاء فضل الله فيه وإجابة دعائه فكان تركه أفضل.
مسألة: "ويستحب صيام أيام البيض" لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام3. وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر" . متفق عليه. ويستحب أن يجعل هذه الثلاثة أيام البيض لما روى أبو ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثالث عشره ورابع عشره وخامس عشره" . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن4.
مسألة: "ويستحب صيام الاثنين والخميس" ؛ لما روى أبو داود بإسناده عن أسامة بن زيد: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم الاثنين والخميس فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس -وفي لفظ- فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم5.
مسألة: "والصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر ولا قضاء عليه" ؛ لأنه مخير فيه قبل الشروع فكان مخيرا بعده قياسا لما بعد الشروع على ما قبله ولا يلزمه قضاؤه إذا أفطر لأنه غير واجب, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل على أهله فيقول: هل عندكم من شيء؟ فإن قالوا: نعم أفطر وإن قالوا لا قال: فإني صائم, رواه مسلم ولا قضاء عليه لما سبق.
مسألة: "وكذلك سائر التطوع إلا الحج والعمرة فإنه يجب إتمامهما وقضاء ما أفسد منهما" ؛ لأنهما لا يوصل إليهما إلا بكلفة شديدة وإنفاق مال كثير في الغالب فإباحة الخروج منهما يفضي إلى تضييع المال بغير فائدة بخلاف غيرهما وإلزامه قضاء ما أفسد منهما وسيلة إلى المحافظة عليهما فلا يضيع ما أنفق عليهما
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 751.
2 - رواه أبو داود في الصوم: حديث رقم 2440.
3 - رواه البخاري في الصوم: حديث رقم 1981. ومسلم في صلاة المسافرين: حديث رقم 85.
4 - رواه الترمذي في الصوم: حديث رقم 761. وقال: حديث حسن.
5 - رواه أبو داود في الصوم: حديث رقم 2436.(1/148)
يجب إتمامهما وقضاء ما أفسد منهما ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى, ونهى عن صوم أيام التشريق إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي وليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان
ـــــــ
مسألة: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يومين: يوم الفطر والأضحى" ؛ لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هذان يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها: يوم فطركم من صيامكم واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم, متفق عليه1.
مسألة: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق" وروى نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل" . رواه مسلم2
مسألة: " إلا أنه رخص في صومها للمتمتع إذا لم يجد الهدي " لما روى عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي. رواه البخاري3.
مسألة: "وليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر في كل وتر" . متفق عليه.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الصوم حديث رقم 1990. ومسلم في الصيام: حديث رقم 138.
2 - رواه مسلم في الصيام: حديث رقم 144.
3 - رواه البخاري في فضل ليلة القدر: حديث رقم 2017, 2020. ومسلم في الصيام: حديث رقم 209, 210.(1/149)
باب الاعتكاف
وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه وهو سنة إلا أن يكون نذرا فليزم
ـــــــ
باب الاعتكاف
مسألة: "وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه" ؛ لأن الاعتكاف في اللغة لزوم الشيء وحبس النفس عليه برا كان أو غيره, قال سبحانه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} , وهو في الشرع الإقامة في المسجد على صفة نذكرها "وهو سنة" لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه واعتكف معه أزواجه وهذا معنى السنة, وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه4.
"إلا أن يكون نذرا فيلزم الوفاء به" . قال ابن المنذر: اجمع أهل العلم على أن
ـــــــ
4 - رواه البخاري في: الاعتكاف: حديث رقم 2026. ومسلم في الاعتكاف حديث رقم 5.(1/149)
الوفاء به, ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره, إلا المساجد الثلاثة فإذا نذر ذلك في المسجد الحرام لزمه وإن نذر الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز له
ـــــــ
الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا فيجب عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه " 1.
مسألة: "ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها" ؛ لأن صلاة الجماعة غير واجبة عليها فلم يوجد المانع في حقها.
مسألة: "ولا يصح في الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة" , لقوله سبحانه: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} 2؛ ولأنه مسجد بني للصلاة فيه فأشبه المتفق عليه, وإنما اشترط في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأن الجماعة واجبة على الرجل فاعتكافه في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى خروجه إلى الجماعة فيتكرر ذلك معه مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف الذي هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله عز وجل فيه.
مسألة: "واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل" لئلا يحتاج إلى الخروج إليها, ولأن ثواب الجماعة في الجامع أكثر.
مسألة: "ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره" ؛ لأن المساجد كلها في الفضيلة سواء. قال عليه السلام: "جعلت لي الأرض مسجدا وترابا طهورا" 3. "إلا المساجد الثلاثة" المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا" . متفق عليه4. "فإذا نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لزمه" ولم يجز أن يعتكف في سواه لأنه أفضلها, "وإن نذر الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز أن يعتكف في المسجد الحرام"؛ لأنه أفضل منه ولم يجز له أن يعتكف في المسجد الأقصى لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه. "وإن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في أي المسجدين أحب"؛ لأنهما أفضل منه بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة في
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الأيمان: حديث رقم 6696.
2 - آية 187 سورة البقرة.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه البخاري في الصوم حديث رقم 1995. ومسلم في الحج: حديث رقم 415.(1/150)
أن يعتكف في المسجد الحرام وإن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى فعله في أيهما أحب, ويستحب للمعتكف الاشتغال بفعل القرب واجتناب ما لا يعنيه من قول وفعل, ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك ولا يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه إلا أن يشترط ولا يباشر امرأة
ـــــــ
مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" , أخرجه مسلم1.
مسألة: "ويستحب للمعتكف الاشتغال بالقرب واجتنابه ما لا يعنيه من قول وفعل" , ولا يكثر الكلام فإن كثرته لا تخلو من اللغو والسقط, وقد جاء في الحديث: "من كثر كلامه كثر سقطه" . ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففي الاعتكاف أولى.
مسألة: "ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك" ؛ لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظوره, وإنما استحب ذلك ليكون مشتغلا بما اعتكف لأجله من طاعة الله سبحانه واجتناب معاصيه فيحقق ما اعتكف لأجله.
مسألة: "ولا يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه" 2. قالت عائشة رضي الله عنها: السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لما لا بد منه, رواه أبو داود.
وقالت أيضا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان. متفق عليه3. ولا خلاف أن له الخروج لما لا بد له منه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه للمعتكف أن يخرج من معتكفه للغائط والبول, ولو كان ذلك يبطل لم يصح لأحد اعتكاف, وفي معناه الحاجة إلى الأكل والشرب إذا لم يكن له من يأتيه به يخرج إليه.
مسألة: "إلا أن يشترط" عيادة المريض وصلاة الجنازة وزيارة أهله أو رجل صالح أو قصد بعض أهل العلم أو يتعشى في أهله أو يبيت في منزله؛ لأنه يجب بعقده فكان الشرط فيه إليه كالوقف.
مسألة: "ولا يباشر امرأة" فإن وطئ فسد اعتكافه لقوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} ؛ ولأنها عبادة يحرم فيها الوطء فأفسدها كالوطء في الصوم ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الحج حديث رقم 508.
2 - رواه أبو داود في: الصوم: حديث رقم 2473.
3 - رواه البخاري في: الاعتكاف: حديث رقم 2029, ومسلم في الحيض: حديث رقم 6, 7.(1/151)
وإن سأل عن المريض في طريقه أو عن غيره ولم يعرج إليه جاز.
ـــــــ
مسألة: "والوطء محرم في الاعتكاف بالإجماع لقول الله سبحانه: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
مسألة: "وإن سأل عن المريض في طريقه أو عن غيره ولم يعرج إليه جاز" لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه.رواه أبو داود.(1/152)
كتاب الحج والعمرة
مدخل
...
كتاب الحج والعمرة
يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر إذا استطاع إليه سبيلا
ـــــــ
كتاب الحج
مسألة: "يجب الحج والعمرة مرة في العمر على المسلم العاقل البالغ الحر إذا استطاع إليه سبيلا" فيجب بخمسة شروط: الإسلام والحرية والبلوغ والعقل والاستطاعة لا نعلم في هذا كله خلافا, فأما الكافر فإنه غير مخاطب بفروع الدين, وأما العبد فلا يجب عليه؛ لأنها عبادة تطول مدتها وتتعلق بقطع مسافة فتضيع حقوق السيد المتعلقة به فلم يجب عليه كالجهاد, وأما الصبي والمجنون فغير مكلفين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل" . رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي قال: حديث حسن1. وغير المستطيع لا يجب عليه لقوله سبحانه وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} 2. وقال سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} 3, فخص المستطيع بالوجوب فيدل على نفيه عن غيره.
مسألة: "فصل" : وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام: قسم منها ما هو شرط للوجوب والصحة وهو الإسلام والعقل فلا يصح الحج من كافر ولا مجنون, ومنها ما هو شرط للوجوب والإجزاء وهو البلوغ والحرية وليس ذلك بشرط للصحة ولو حج الصبي والعبد صح حجهما ولم يجزهما عن حجة الإسلام, ومنها ما هو شرط للوجوب فقط وهو الاستطاعة فلو تجشم غير المستطيع المشقة وسار بغير زاد ولا راحلة كان حجة صحيحا مجزيا.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - آية 28 سورة البقرة.
3 - آية 97 سورة آل عمران.(1/153)
والاستطاعة أن يجد زادا وراحلة بآلتهما مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء دينه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام, ويعتبر للمرأة وجود محرمها وهو زوجها
ـــــــ
مسألة: "والاستطاعة أن يجد زادا وراحلة بآلتهما مما يصلح لمثله فاضلا عما يحتاج إليه لقضاء دينه ومؤنة نفسه وعياله على الدوام" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة". رواه الترمذي وقال: حديث حسن1, وروى الإمام أحمد لما نزلت: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} . قال رجل: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"2. ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد, وتختص الراحلة بالبعيد الذي بينه وبين البيت مسافة القصر فأما القريب الذي يمكنه المشي إليها وبينه وبينها مسافة دون القصر فيلزمه السعي إليها كالسعي إلى الجمعة
مسألة: والزاد الذي يشترط القدرة عليه هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه ويعتبر قدرته على الآلات التي يحتاج إليها من أوعية الماء والدقيق وما أشبههما مما لا يستغني عنه فهو كعلف البهائم.
مسألة: وأما الراحلة فيشترط أن يجد راحلة تصلح لمثله إما بشراء أو كراء ويجد ما يحتاج إليه من آلتها التي تصلح لمثله, وإن كان ممن لا يخدم نفسه اعتبر القدرة على خادم يخدمه لأن هذا كله من سبيله.
مسألة: ويعتبر أن يكون ذلك فاضلا عن ما يحتاج إليه لنفقة أهله والذين تلزمه نفقتهم في مضيه ورجوعه؛ لأن النفقة متعلقة بحقوق الآدميين وهم أحوج وحقهم آكد. وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت" . رواه أبو داود3.
مسألة: ويعتبر أن يكون ذلك فاضلا عما يحتاج إليه هو وأهله من مسكن وخادم, وأن يكون له إذا رجع ما يقوم بكفايته من تجارة أو صناعة أو أجرة عقار على الدوام؛ لأن ذلك من حقوق الآدميين وهو مقدم على حق الله سبحانه.
مسألة: "ويعتبر للمرأة وجود محرمها وهو زوجها ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم" . متفق عليه4.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الحج: حديث رقم 813.
2 - رواه أحمد في المسند.
3 - رواه أبو داود في الزكاة: حديث رقم 1692.
4 -رواه البخاري في تقصير الصلاة: حديث رقم 1086, 1087, 1088. ومسلم في الحج: حديث رقم 414.(1/154)
ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح, ومن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة ولا يصح الحج من كافر ولا مجنون, ويصح من الصبي والعبد ولا يجزئ عنهما ويصح من غير المستطيع والمرأة بغير محرم.
ومن حج عن
ـــــــ
مسألة: ومن فرط حتى مات أخرج عنه من ماله حجة وعمرة" ؛ لقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} أمر والأمر يدل على الوجوب, وإذا ثبت هذا فمتى لم يحج حتى توفي وجب أن يخرج من ماله ما يحج به عنه ويعتمر؛ لما روى ابن عباس أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها مات ولم يحج قال: "حجي عن أبيك" 1. ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة فلم يسقط بالموت كالدين, والعمرة كالحج في القضاء فإنها واجبة, وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين فقال: "حج عن أبيك واعتمر" . ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله؛ لأنه دين مستقر عليه فيكون من رأس ماله كدين الآدمي.
مسألة: ويستناب من يحج عنه من حيث وجبت عليه الحجة: إما من بلده أو من الموضع الذي أيسر فيه لا الموضع الذي مات فيه؛ ولأن الحج واجب على الميت من بلده فوجب أن ينوب عنه منه؛ لأن القضاء يكون على وفق الأداء كقضاء الصلاة والصيام.
مسألة: فإن خرج حاجا فمات في بعض الطريق أخرج من حيث مات؛ لأنه أسقط بعض ما وجب عليه بفعله فلم يجب ثانيا.
مسألة: "لا يصح الحج من كافر ولا مجنون" ؛ لأنهما ليسا من أهل الوجوب "ويصح من الصبي"؛ لما روى مسلم عن ابن عباس قال: رفعت امرأة صبيا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر" 2. "ويصح من العبد" أيضا لأنه من أهل العبادات "ولا يجزئ عنهما" كما لو صلى الصبي ثم بلغ في أثناء الوقت. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم إلا من شذ عنهم ممن لا يعد خلافه خلافا على أن الصبي إذا حج في حال صغره والعبد إذا حج في حال رقه ثم بلغ الصبي وأعتق العبد أن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليه سبيلا. كذلك قال ابن عباس والحسن.
مسألة: "ويصح من غير المستطيع" كما تصح الجمعة من المريض إذا حضرها "ويصح من المرأة بغير محرم" لأنها من أهل الوجوب.
مسألة: "ومن حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه أو عن نذره أو عن نفله وفعله قبل حجة الإسلام وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره" لما روى ابن عباس أن رسول
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 409, 410, 411.(1/155)
غيره ولم يكن حج عن نفسه أو عن نذره أو عن نفله وفعله قبل حجة الإسلام وقع حجه عن فرض نفسه دون غيره
ـــــــ
الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة فقال: "هل حججت قط" ؟ قال: لا. قال: "فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمه" . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وهذا لفظه1. ولأنه حج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه فلم يقع عن الغير كما لو كان صبيا.
مسألة: فإن أحرم تطوعا أو عن حجة منذورة وعليه حجة الإسلام وقع عن حجة الإسلام؛ لأنه أحرم بالحج وعليه فرضه فوجب أن يقع عن فرضه كالمطلق
ـــــــ
1 - رواه أحمد في ا لمسند. وأبو داود في الحج: حديث رقم 1811. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 2903.(1/156)
باب المواقيت
وميقات أهل المدينة ذو الحليفة وأهل الشام والمغرب ومصر الجحفة واليمن يلملم ولنجد قرن وللمشرق ذات عرق, فهذه المواقيت لأهله ولكل من يمر عليها ومن منزله دون الميقات فميقاته من منزله حتى أهل مكة يهلون منها
ـــــــ
باب المواقيت
مسألة: "وميقات أهل المدينة ذو الحليفة والشام ومصر والمغرب الجحفة, واليمن يلملم ولنجد قرن وللمشرق ذات عرق" لما روى ابن عباس قال: "وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم فهن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة, فمن كان دونهن فمهله من أهله وكذلك أهل مكة يهلون منها". متفق عليه2. وأما ميقات أهل المشرق فمن ذات عرق: لما روت عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر الجحفة ولأهل العراق ذات عرق ولأهل اليمن يلملم". رواه أبو داود مختصرا. قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق"3. وأجمع أهل العلم على أن إحرام العراقي من ذات عرق إحرام من الميقات.
مسألة: "وأهل مكة يهلون منها" لحديث ابن عباس: "ويهلون بالعمرة من أدنى الحل" لا نعلم في هذا خلافا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمر عائشة من التنعيم وكانت بمكة يومئذ4. وإنما لزم ذلك ليجمع في النسك بين الحل والحرم.
ـــــــ
2 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1524. ومسلم في الحج: حديث رقم 11.
3 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1739.
4 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1762.(1/156)
حجهم ويهلون للعمرة من أدنى الحل ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم إلا لقتال مباح وحاجة تتكرر كالحطاب ونحوه, ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه وإن جاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ولا دم عليه؛ لأنه أحرم من ميقاته فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع.
ـــــــ
بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج من الحرم إلى عرفة للوقوف فيجتمع له الحل والحرم فلذلك جاز أن يحرم به من الحرم.
مسألة: "ومن لم يكن طريقه على ميقات فميقاته حذو أقربها إليه" وذلك أن من سلك طريقا بين ميقاتين فإنه يجتهد حتى يكون إحرامه بحذو الميقات الذي هو إلى طريقه أقرب؛ لما روينا أن أهل العراق قالوا لعمر: إن قرنا جاوز عن طريقنا قال: فانظروا حذوها من طريقكم فوقت لهم ذات عرق, ولأن هذا مما يدخله الاجتهاد والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة.
مسألة: "ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم" ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات وقد قال: "خذوا عني مناسككم"1. فكان واجبا بالأمر ولا يجوز ترك الواجب.
مسألة: "إلا لقتال مباح" لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر "أو لحاجة تتكرر كالحطاب" لأنا لو ألزمناه الإحرام لأفضى إلى أنه لا يزال محرما فيشق ذلك عليه.
مسألة: "ثم إذا أراد النسك أحرم من موضعه" ؛ لأن هذا لم يكن الإحرام من الميقات عليه واجبا فكان ميقاته من حيث نوى العبادة بدليل أن المكي يحرم من مكة لقوله عليه السلام في حديث ابن عباس: "وكذلك أهل مكة يهلون منها". متفق عليه2.
مسألة: "وإن جاوزه غير محرم رجع فأحرم من الميقات ولا دم عليه؛ لأنه أحرم من الميقات فإن أحرم من دونه فعليه دم سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع" ؛ لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ترك نسكا فعليه دم" 3. روي موقوفا عليه ومرفوعا؛ ولأنه أحرم دون الميقات فوجب عليه الدم وجوبا مستقرا كما لو رجع بعد أن طاف, ولأن
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 310. وأبو داود في الحج: حديث رقم 1970.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه مالك في الحج حديث رقم 240.(1/157)
والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات فإن فعل فهو محرم وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة من ذي الحجة
ـــــــ
الدم وجب بهتك حرمة الميقات حيث أحرم من دونه وهذا لا يرتفع برجوعه وإذا أحرم منه فلم يهتكه
مسألة: "والأفضل ألا يحرم قبل الميقات فإذا فعل فهو محرم" ولا خلاف أن من أحرم قبل الميقات أنه يصير محرما تثبت في حقه أحكام المحرمين؛ لكن الأفضل الإحرام من الميقات لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات وتبعهم أهل العلم على ذلك ولا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم إلا الأفضل, وروى الأثرم أن عمران بن حصين أحرم من البصرة فبلغ ذلك عمر فغضب وقال: لا يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من البصرة, وأنكر عثمان على رجل أحرم من خراسان أو كرمان, ولأنه تغرير بالإحرام وتعرض لفعل المحظورات وفيه مشقة على النفس فكره كالمواصلة في الصيام.
مسألة: "وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة" قاله ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وابن الزبير ولا خلاف بينهم أن أول أشهر الحج شوال.(1/158)
باب الإحرام
من أراد الإحرام استحب له أن يغتسل ويتنظف ويتطيب ويتجرد عن المخيط
ـــــــ
باب الإحرام
مسألة: "من أراد الإحرام استحب له أن يغتسل" لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال وهي حائض وقد روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب1.
مسألة: "ويستحب له أن يتنظف" بإزالة الشعث وقطع الرائحة وحلق شعر العانة ونتف الإبط وتقليم الأظافر ونحو ذلك؛ لأنه أمر يسن له الاغتسال أشبه الجمعة "ويسن له الطيب"؛ لأنه مكان يجتمع الناس فيه أشبه الجمعة.
مسألة: "ويتجرد عن المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين" فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين" . قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا لم يجد إزارا لبس السراويل وإذا لم يجد نعلين فليلبس الخفين" 2.
ـــــــ
1 رواه الترمذي في الحج. حديث رقم 830.
2 - رواه البخاري في اللباس: حديث رقم 893. ومسلم في الحج: حديث رقم 4.(1/158)
ويلبس إزارا ورداء أبيضين نظيفين ثم يصلي ركعتين ويحرم عقيبهما وهو أن ينوي الإحرام ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويشترط ويقول اللهم إني أريد النسك الفلاني فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني, وهو مخير بين التمتع والإفراد
ـــــــ
مسألة: "ثم يصلي ركعتين" ويستحب له أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت مكتوبة صلاها وأحرم عقيبها, وإلا صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبها. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به ناقته؟ قال: كل قد جاء في دبر الصلاة وإذا علا البيداء أو إذا استوت به ناقته فوسع فيه كله, وقال سعيد بن جبير ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا أهل حين علا البيداء رواه أبو داود1. فأخذ به أحمد لأن فيه بيانا وفضل علم فتعين الأخذ به.
مسألة: "ويحرم عقيبهما وهو أن ينوي الإحرام" بقلبه ولا ينعقد الإحرام بغير نية لقوله عليه السلام: "إنما الأعمال بالنيات" 2. ويكون عقيب الصلاة لقول ابن مسعود: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته.
مسألة: "ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويشترط فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" ويفيد الاشتراط أنه إذا عاقه عائق من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة فله التحلل ولا دم عليه ولا صوم لما روى ابن عباس أن ضباعة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج فكيف أقول؟ قال: قولي: "لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث تحبسني فإن لك على ربك ما استثنيت" . رواه مسلم3. وروت عائشة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير وهي شاكية فقال: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني" . متفق عليه4.
مسألة: "وهو مخير بين التمتع والإفراد والقران" أي ذلك أحرم به جاز بغير خلاف بين العلماء. قالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج. متفق عليه5. وقالت عائشة: أهللت
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1770, 1774.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 104, 105, 106, 107, 108.
4 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 5089. ومسلم في الحج: حديث رقم 104, 105, 106, 107, 108.
5 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1562. ومسلم في الحج: حديث رقم 118.(1/159)
والقران وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه, والإفراد أن يحرم بالحج وحده والقران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج, ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة فإذا استوى على راحلته لبى فقال: لبيك اللهم
ـــــــ
بعمرة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل بالحج والعمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" . متفق عليه1.
مسألة: "وأفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران" عند إمامنا أحمد رحمة الله عليه, واختار المتعة جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم؛ لما روى جابر وابن عباس وأبو موسى وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه لما طافوا بالبيت أن يحلوا ويجعلوها عمرة, ونقلهم من الإفراد والقران إلى المتعة ولا ينقلهم إلا إلى الأفضل الأولى, ولم يختلف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلوا إلا من ساق هديا وثبت على إحرامه. وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة". فهذا معلوم صحته يقينا والنبي صلى الله عليه وسلم نقلهم من الحج إلى المتعة وتأسف كيف لم يمكنه ذلك, ولو كان الإفراد والقران أفضل لكان الأمر بالعكس, ولأن المتعة منصوص عليها في كتاب الله تعالى بقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} . من بين سائر الأنساك, ولأن التمتع يجتمع له الحج والعمرة في أشهر الحج كاملين غير متداخلين على وجه اليسر والسهولة مع زيادة نسك هو الدم فكان ذلك أولى.
مسألة: "والتمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه والإفراد أن يحرم بالحج وحده والقران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج" كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه.
مسألة: "ويستحب أن ينطق بما أحرم به ليزول الالتباس وتتأكد النية كما قلنا, وتشترط لما سبق من حديث عائشة وابن عباس" .
مسألة: "ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة" ؛ لأنه لم يرد بذلك أمر ولا هو في معنى ما جاء به الأثر؛ لأن إحرامه بها لا يزيد عملا على ما لزمه بالإحرام بالحج ولا يعتبر ترتيبه بخلاف إدخال الحج على العمرة
مسألة: "فإذا استوى على راحلته لبى فيقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1556. ومسلم في الحج: حديث رقم 111.(1/160)
لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك
ـــــــ
لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" والتلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها في حديث رواه البخاري وحديث جابر رواه مسلم1 وأمر برفع الصوت بها, وأقل أحوال ذلك الاستحباب وروى سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا" . رواه ابن ماجه2. ويستحب أن يبدأ بالتلبية إذا استوى على راحلته لما روى أنس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل. أخرجه البخاري.3 وقال ابن عباس: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل4. يعني لبى ومعنى الإهلال رفع الصوت من قولهم: استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه أنهم كانوا إذ رأوا الهلال صاحوا فيقال استهل الهلال, ثم قيل لكل صائح مستهل وإنما يرفع صوته بالتلبية؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" . رواه النسائي وأبو داود. وقال: حديث حسن صحيح5. وقال أنس: سمعتهم يصرخون بها صراخا. وروي عن الصديق: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الحج أفضل؟ فقال: "العج والثج" 6. وهذا حديث غريب, ومعنى العج رفع الصوت, والثج إسالة الدماء بالذبح والنحر. وقال ابن عباس: رفع الصوت زينة الحج. وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية. وعن سالم قال: كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يضمحل صوته.
مسألة: ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته. وجاء في الصحيحين عن ابن عمر أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" . رواه البخاري عن عائشة ومسلم عن جابر7. والتلبية مأخوذة من قولهم لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال: أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك ولا شارد عليك هذا وما أشبهه وكرره
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1549. ومسلم في الحج: حديث رقم 19.
2 - رواه ابن ماجه في الحج: المناسك: حديث رقم 2921.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه أبو دود في المناسك: حديث رقم 1814. والنسائي في المناسك: 55- باب رفع الصوت بالإهلال.
6 - رواه ابن ماجه في المناسك: حديث رقم 2924.
7 - سبق تخريجه.(1/161)
ويسحب الإكثار منها ورفع الصوت بها لغير النساء وهي آكد فيما إذا علا نشزا أو هبط واديا أو سمع ملبيا, أو فعل محظورا ناسيا أو لقي ركبا وفي أدبار الصلاة المكتوبة وبالأسحار وإقبال الليل والنهار.
ـــــــ
لأنه أراد إقامة بعد إقامة كما قالوا حنانيك أى رحمة بعد رحمة أو رحمة مع رحمة, ويقول: لبيك إن الحمد بكسر الألف نص عليه أحمد قال ثعلب: من قال بكسر الألف فقد عم ومن قال بفتحها فقد خص, يعني أن من فضل كسر الألف جعل الحمد على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك؛ لأن الحمد لك أي لبيك لهذا السبب.
مسألة: "ويستحب الإكثار منها" على كل حال؛ لما روى ابن ماجه عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يضحي لله ويلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كيوم ولدته أمه". "و" يستحب "رفع الصوت بها" لما سبق ولا يستحب ذلك "للنساء"؛ لأنهن عورة فالإخفاء في حقهن استر لهن.
مسألة: "وهي آكد إذا علا نشزا أو هبط واديا: أو سمع ملبيا أو فعل محظورا ناسيا أو لقي راكبا وفي أدبار الصلاة وبالأسحار" لما روى جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا وفي أدبار المكتوبة ومن آخر الليل. وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا هبط واديا وإذا علا نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته.
ـــــــ
1- رواه أبن ماجه في: الحج: حديث رقم: "2925".(1/162)
باب محظورات الإحرام
وهي تسعة: الأول والثاني: حلق الشعر وقلم الظفر ففي ثلاثة منها دم وفي كل
ـــــــ
باب محظورات الإحرام
مسألة: "وهي تسعة: حلق الرأس وقلم الظفر: ففي ثلاثة منها دم وفي كل واحد مما دونها مد طعام وهو ربع الصاع" أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع عن أخذ شعره إلا من عذر, والأصل فيه قول الله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 1 وروى البخاري ومسلم عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: "لعلك تؤذيك هوام رأسك"؟ قال: نعم يا رسول الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك شاة". 2 وهذا يدل على أن الحلق قبل ذلك محرم وشعر الرأس والجسد في ذلك سواء.
ـــــــ
1- آية 196 سورة البقرة.
2- رواه البخاري في: المحصر: حديث رقم "1814". و مسلم في: الحج: حديث رقم: "84".(1/162)
واحد مما دونه مد طعام وهو ربع الصاع وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينه أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء عليه.
الثالث: لبس المخيط إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه
ـــــــ
وأجمعوا على أن المحرم ممنوع من تقليم أظفاره إلا من عذر؛ ولأن قطع الأظفار إزالة جزء يترفه به فحرم كإزالة الشعر إلا أن ينكسر فله إزالته من غير فدية. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن للمحرم أن يزيل ظفره بنفسه إذا انكسر؛ لأنه يؤذيه ويؤلمه أشبه الشعر يطلع في عينه والصائل يصول عليه. والقدر الذي يجب به الدم أن يحلق ثلاث شعرات فصاعدا. قال القاضي: هذا المذهب لأنه شعر آدمي يقع عليه اسم الجمع المطلق فجاز أن يتعلق به الدم كالربع, وعنه أن القدر الذي يجب به الدم أربع شعرات وهو اختيار الخرقي؛ لأنها كثير فوجب بها الدم كالربع فصاعدا.
فصل: والفدية الواجبة بحلق الشعر هي المذكورة في حديث كعب بن عجرة وقد سبق وهي على التخيير لأنه ذكرها بلفظ أو وهي على التخيير.
فصل: وفي كل واحدة فما دونها مد من طعام يكون ضمانا لها يعني ما دون الثلاث؛ لأن ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد, وعنه في كل شعرة قبضة من طعام روي ذلك عن عطاء, وعنه في الشعرة درهم وفي الشعرتين درهمين والأول أولى لما سبق والأظفار كالشعر ومقيسة عليها.
مسألة: "وإن خرج في عينه شعر فقلعه أو نزل شعره فغطى عينيه أو انكسر ظفر فقصه فلا شيء عليه" لما سبق. "الثالث لبس المخيط إلا أن لا يجد إزارا فيلبس سراويل أو لا يجد نعلين فيلبس خفين ولا فدية عليه" قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من لبس القميص والسراويل والخفاف والبرانس. والأصل في هذا ما روى ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما من أسفل من الكعبين, ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس". متفق عليه1. وروى ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل المحرم". متفق عليه2. وهو ظاهر في إسقاط الفدية لأنه لم يذكرها
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1542. ومسلم في الحج: رقم 1, 2
2 - رواه مسلم في: المصدر عاليه: حديث رقم 3, 4.(1/163)
الرابع: تغطية الرأس والأذنان منه. الخامس: الطيب في بدنه وثيابه. السادس: قتل الصيد وهو ما كان وحشيا مباحا وأما الأهلي فلا يحرم وأما صيد البحر فإنه مباح. السابع: عقد النكاح حرام ولا فدية فيه. الثامن: المباشرة لشهوة فيما دون
ـــــــ
"الرابع: تغطية الرأس والأذنان منه" لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من تخمير رأسه والأصل فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس العمائم والبرانس, وقوله في المحرم الذي وقصته راحلته: "لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" 1. أخرجه البخاري. علل منع تغطية رأسه ببقائه على إحرامه فعلم أن المحرم ممنوع من ذلك وكان ابن عمر يقول: إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها, وإنه عليه السلام نهى أن يشد المحرم رأسه بالسير. وفائدة قوله: "والأذنان من الرأس". أي يحرم تغطيتهما. وقد قال عليه السلام: "الأذنان من الرأس" 2.
"الخامس: الطيب في بدنه وثيابه" أجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من الطيب, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته راحلته: "لا تحنطوه". متفق عليه3, وفي لفظ لمسلم: "لا تمسوه بطيب". فلما منع الميت الطيب لإحرامه كان الحي أولى بذلك, وعليه الفدية لذلك ومعنى الطيب كل ما يعد للشم كالمسك والكافور والعنبر والغالية والزعفران وما أشبه ذلك مما تطيب رائحته.
"السادس: قتل الصيد وهو ما كان وحشيا مباحا" لا خلاف بين أهل العلم في تحريم قتل الصيد واصطياده على المحرم وقد قال سبحانه: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} 4. وقال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} 5. "وأما الأهلي فلا يحرم"؛ لأنه ليس بصيد, وإنما حرم الصيد والحرام ليس بصيد أيضا لأنه محرم, "وأما صيد البحر فإنه مباح". قال سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ}.
"السابع: عقد النكاح حرام" لقوله عليه السلام: "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب". متفق عليه. من رواية عثمان رضي الله عنه, نهى والنهي يقتضي التحريم, وإن زوج أو تزوج فلا فدية عليه؛ لأنه عقد فسد لأجل الإحرام فلم تجب به الفدية كشراء الصيد.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه ابن ماجه في: الطهارة: حديث رقم 445. وقال في الزوائد: إسناده صعيف.
3 - سبق تخريجه.
4 - آية 95 المائدة.
5 -آية 96 سورة المائدة.(1/164)
الفرج فإن أنزل بها فعليه بدنة, وإلا ففيها شاة وحجه صحيح. التاسع: الوطء في الفرج فإن كان قبل التحلل الأول فسد الحج ووجب المضي في فاسده والحج من قابل, ويجب على المجامع بدنة وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة ويحرم من
ـــــــ
"الثامن: المباشرة لشهوة فيما دون الفرج فإن أنزل بها فعليه بدنة, وإن لم ينزل فعليه شاة وحجه صحيح" لا نعلم أحدا قال بفساد حجه؛ ولأنها مباشرة فيما دون الفرج عريت عن الإنزال فلم يفسد بها الحج, كاللمس والمباشرة لا توجب الاغتسال فأشبهت اللمس وعليه الفدية؛ لأنه هتك الإحرام بذلك الفعل كما لو تطيب أو لبس والفدية شاة؛ لأنها ملامسة لم يقترن بها الإنزال فأشبه لمس ما دون الفرج, فأما إن أنزل فعليه بدنة لأنه جماع اقترن به الإنزال فأوجب بدنة كما لو كان في الفرج وهل يفسد حجه بذلك على روايتين, إحداهما لا يفسد نص عليه أحمد؛ لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد فلا يفسد به الحج كما لو لم ينزل. الثانية: يفسد نص عليه لأنها عبادة يفسدها الوطء فأفسدها الإنزال عن مباشرة كالصائم اختارها أبو بكر والخرقي. ومن نصر الأولى قال: الأصل عدم الإفساد والجماع إنما هو الوطء في الفرج ولا يصح إلحاق غيره به فإنه أعظم, ولذلك لا يختلف الحال فيه بين الإنزال أو عدمه ويجب بنوعه الحد ويتعلق به اثنا عشر حكما فكيف يلحق به ما دونه, مع أن شرط القياس التساوي ولا يصح قياسه على الصيام فإن الصيام يخالف الحج في المفسدات. كذلك يفسد بالإنزال بتكرر النظر والمذي إذا لمس ويفسده الأكل والشرب وغيرهما, والحج لا يفسده إلا الوطء فكيف يصلح إلحاقه به ولا حجة فيه من نص ولا إجماع فلا يثبت فيه حكم الإفساد.
"والتاسع: الوطء في الفرج فإن كان قبل التحلل الأول فسد الحج ووجب المضي في فاسده والحج من قابل" أما فساد الحج في الجماع في الفرج فليس فيه خلاف. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع, والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر أن رجلا سأله فقال: إني وقعت على امرأتي ونحن محرمان. فقال: أفسدت حجك انطلق أنت وامرأتك مع الناس فاقض ما يقضون وحل إذا حلوا, فإذا كان العام المقبل فحج أنت وامرأتك وأهديا هديا فإن لم تجدا هديا فصوما ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتما, وكذلك قال ابن عباس وعبد الله بن عمرو ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم. وروى حديثهم الأثرم في سننه وزاد في حديث ابن عباس: ويفترقان من حيث يحرمان ولا يجتمعان حتى يقضيا حجهما. قال ابن المنذر: قول ابن عباس أعلى شيء روي فيمن وطئ في حجه, وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه.
مسألة: "ويجب على المجامع بدنة" روي ذلك عن ابن عباس؛ لأنه جماع صادف إحراما تاما فوجبت به البدنة كبعد الوقوف هذا إذا وطئ قبل التحلل الأول؛ لأنه يكون قد وطئ في إحرام تام, "وإن كان بعد التحلل الأول ففيه شاة ويحرم من التنعيم ليطوف(1/165)
التنعيم ليطوف محرما, وإن وطئ في العمرة أفسدها, ولا يفسد النسك بغيره والمرأة كالرجل إلا أن إحرامها في وجهها ولها لبس المخيط.
ـــــــ
محرما" ولا يفسد حجه وهو قول ابن عباس وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه", رواه أبو داود. ولأن الحج عبادة لها تحللان فوجود المفسد بعد تحللها الأول لا يفسدها كما بعد التسليمة الأولى في الصلاة والواجب شاة لأنه وطء لم يفسد الحج فلم يوجب الفدية كما لو وطئ دون الفرج إذا لم ينزل؛ ولأن حكم الإحرام خف بالتحلل الأول فينبغي أن يكون موجبه دون موجب الإحرام التام, ويحرم من التنعيم لأن إحرامه فسد بالوطء كما يفسد به قبل التحلل الأول فيجب أن يحرم ليأتي بالطواف في إحرام صحيح؛ لأن الطواف ركن فيجب أن يأتي به في إحرام صحيح كالوقوف, وإنما لزمه أن يحرم من التنعيم ليجمع فيه بين الحل والحرم ثم يطوف للزيارة ويسعى ويتحلل.
مسألة: "وإن وطئ في العمرة أفسدها ولا يفسد النسك بغيره". قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع والعمرة كالحج.
مسألة: "والمرأة كالرجل إلا أن إحرامها في وجهها ولها لبس المخيط" وذلك لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم المحرم باجتناب شيء يدخل فيه الرجال والنساء, فما ثبت في حق الرجل فمثله في حق المرأة لكن استثنى منه لبس المخيط والتظليل مبالغة في ستر المرأة؛ لأنها عورة كلها إلا وجهها فتجردها يفضي إلى انكشافها, فأبيح لها هذا ولهذا أبحنا للمحرم عقد الإزار لئلا يسقط فتنكشف العورة, ولم يبح عقد الرداء وهذا مما لا نعلم فيه خلافا. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع عنه الرجال إلا بعض اللباس, وأجمع أهل العلم على أن للمحرمة لبس القميص والدرع والسراويلات والخمر والخفاف. وفي حديث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى النساء في إحرامهن عن لبس القفازين والنقاب. وتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف وهذا صريح والمعني باللبس هاهنا المخيط من القميص والدروع والسراويلات وما يستر الرأس والخفاف ونحو ذلك, وقوله: إحرامها في وجهها يعني أن المرأة يحرم عليها في الإحرام تغطية وجهها, كما يحرم على الرجل تغطية رأسه, ولا نعلم في هذا اختلافا إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها. قال ابن المنذر ويحتمل أن يكون معنى هذا كما قالت عائشة وهو ما روى أبو داود والأثرم عن عائشة قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه. وهذا لفظ أبي داود1 ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلا يحرم علية ستره على الإطلاق كالعورة من الرجل.(1/166)
باب الفدية
وهي على ضربين:
أحدهما: على التخيير وهي فدية الأذى واللبس والطيب فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام أو طعام ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين أو ذبح شاة وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم
ـــــــ
باب الفدية
مسألة: "وهي على ضربين: أحدهما على التخيير وهي فدية الأذى واللبس والطيب فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام أو إطعامه ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين أو ذبح شاة" أما فدية الأذى فهي على التخيير لما سبق في محظورات الإحرام من الآية وحديث كعب بن عجرة المتفق عليه, وأما فدية اللبس والطيب فهي مقيسة على فدية الأذى لكونه ترفه بذلك في إحرامه فلزمته الفدية كالمترفه بحلق شعره ولا فرق بين قليل الطيب وكثيره وقليل اللبس وكثيره؛ لأنه معنى حصل به الاستمتاع بالمحظور فاعتبر مجرد الفعل كالوطء.
وكذلك الحكم في كل دم وجب لترك واجب يعني أن ذلك على التخيير لا على الترتيب.
مسألة: "وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم" أجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد, وقال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} 1. فمن قتل الصيد ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء فأما إن اضطر إلى أكله فيباح له أكله بلا خلاف نعلمه ويلزمه ضمانه؛ لأنه قتله لحاجة نفسه ودفع الأذى عنه من غير معنى حدث في الصيد يقتضي قتله فلزمه جزاؤه كحلق الرأس لدفع الأذى عنه, وإن صال عليه فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه؛ لأنه ألجأه إلى قتله فلم يجب ضمانه كالآدمي الصائل ولو خلص صيدا من سبع أو شبكة فتلف بذلك فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي فمات بذلك.
مسألة: ولا فرق بين العامد والمخطئ في وجوب الجزاء لما روى جابر قال: جعل
ـــــــ
1 - آية 95 سورة المائدة.(1/167)
إلا الطائر فإن فيه قيمته إلا الحمامة ففيها شاة والنعامة فيها بدنة ويتخير بين
ـــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضبع يصيده المحرم كبشا, وقال في بيض النعام يصيده المحرم: ثمنه ولم يفرق. رواهما ابن ماجه1. ولأنه ضمان إتلاف أشبه مال الآدمي وعنه لا كفارة في الخطأ لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} فدليل خطابه أنه لا جزاء على الخاطئ.
مسألة: والصيد ما جمع ثلاثة أشياء: أن يكون مباح الأكل لا مالك له ممتنعا قاله بعض أهل اللغة فيخرج منه ما لا يحل أكله كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات وما عليه ملك فما ليس بوحشي يباح للمحرم ذبحه وأكله كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا, والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء ولو توحش الإنسي لم يجب فيه جزاء ولهذا وجب في الحمام اعتبارا بأصله.
مسألة: والواجب في صيد البر دون صيد البحر لقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً}. إذا ثبت هذا فجزاء الصيد مثله من بهيمة الأنعام وهي الإبل والغنم؛ لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. وليس المراد حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين النعم والصيد لكن أريد المماثلة من حيث الصورة والمشابهة من وجه وكونه أقرب بهيمة الأنعام به شبها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على وجوب المثل فقال عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية: في النعامة بدنة وحكم أبو عبيدة وابن عباس في حمار الوحش بدنة, وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة وحكموا في الحمام بشاة.
مسألة: "إلا الطائر فإن فيه قيمته" في موضعه وهذا هو الأصل في الضمان بدليل سائر المضمونات من الأموال, وتعتبر القيمة في موضع الإتلاف كما لو أتلف مال آدمي قوم في موضع الإتلاف كذا هاهنا.
مسألة: "إلا الحمامة ففيها شاة والنعامة فيها بدنة" لما سبق من قضاء الصحابة رضي الله عنهم.
مسألة: "ويتخير بين إخراج المثل وتقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما", وعن أحمد أنها على الترتيب فيجب المثل أولا فإن لم يجد أطعم فإن لم يجد صام روي نحوه عن ابن عباس رضي الله عنه؛ لأن هدي المتعة على الترتيب وهذا
ـــــــ
1 - رواهما ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3085, 3086. والثاني ضعيف.(1/168)
إخراج المثل وتقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما
الضرب الثاني: على الترتيب وهو:المتمتع يلزمه شاة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع, وفدية الجماع بدنة فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع.
وكذلك الحكم في دم الفوات
ـــــــ
آكد منه فإنه يفعل محظورا وعنه لا طعام في الكفارة وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام؛ لأن من قدر على الإطعام قدر على الذبح قال: كذا قال ابن عباس ودليل الرواية الأولى قوله سبحانه: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} 1, و أو في الأمر للتخيير روي عن ابن عباس قال: كل شيء أوفهو مخير وأما ما كان فإن لم يجد فهو للأول الأول؛ ولأن هذه الفدية تجب بفعل محظور فكان مخيرا بين ثلاثتها كفدية الأذى.
مسألة: فإذا اختار المثل ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم لأن الله سبحانه قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}, وإن اختار الإطعام فإنه يقوم المثل بدراهم والدراهم بالطعام ويتصدق به على المساكين كل مسكين مد من البر كما يدفع إليهم كفارة اليمين, وإن اختار الصيام صام عن كل مد يوما لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار, وعنه يصوم عن كل نصف صاع يوما روي عن ابن عباس واحتج به أحمد رضي الله عنه.
مسألة: "الضرب الثاني:على الترتيب وهو: التمتع يلزمه شاة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع"؛ لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} 2 .
سألة: "وفدية الجماع بدنة فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع" لما سبق من إجماع الصحابة وكذلك الحكم في البدنة الواجبة بالمباشرة بالقياس على البدنة الواجبة بالوطء.
مسألة: "وكذلك الحكم في دم الفوات", لأن عمر رضي الله عنه قال لهبار بن الأسود لما فاته الحج: إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله. رواه الأثرم وعنه لا هدي عليه لأنه لو لزمه هدي لزم المحصر هديان بالفوات والإحصار والأول أصح؛ لأنه قول عمر وجماعة من الصحابة, وعنه لا قضاء عليه إن كانت نفلا فيخرج الهدي في عامه فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
ـــــــ
1 - آية 95 سورة المائدة.
2 - آية 196 سورة البقرة(1/169)
والمحصر يلزمه دم فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ومن كرر محظورا من جنس غير قتل الصيد فكفارة واحدة, فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه وإن فعل محظورا من أجناس فلكل واحدة كفارة والحلق والتقليم والوطء وقتل
ـــــــ
مسألة: "والمحصر يلزمه دم فإن لم يجد فصيام عشرة أيام" لقوله سبحانه: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}, وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا فإن لم يجد صام عشرة أيام؛ لأنه دم واجب للإحرام فكان له بدل ينتقل إليه كدم المتمتع والطيب واللباس.
مسألة: "ومن كرر محظورا من جنس غير قتل الصيد فكفارة واحدة" وذلك مثل من حلق ثم حلق أو لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب فالحكم فيه كما لو فعل ذلك دفعة واحدة, وتجزئه كفارة واحدة؛ لأنها تتداخل فهي كالحدود والأيمان. "فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه" فصار كأنه لم يفعله وثبت لما بعده حكم المنفرد وهكذا لو كرر شيئا من محظورات الإحرام اللاتي لا يزيد الواجب فيها بزيادتها ولا يتقدر بقدرها, فأما ما يتقدر الواجب بقدره وهو إتلاف للصيد فإن في كل واحد منها له جزاؤه سواء فعل مجتمعا أو متفرقا ولا يتداخل بحال ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني لما سبق وعن أحمد رحمه الله إن كرره لأسباب -مثل إن لبس للبرد ثم لبس للحر ثم لبس للمرض- فكفارات وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة.
مسألة: "وإن فعل محظورا من أجناس فلكل واحد كفارة" وذلك مثل إن حلق وقلم ولبس وتطيب ووطئ فعليه لكل واحد كفارة, وعنه إن مس طيبا ولبس وحلق فكفارة وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد ففي كل واحد دم, ودليل الأولى أنه فعل محظورات من أجناس فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة والأيمان المختلفة.
مسألة: "والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه" يعني في وجوب الضمان؛ لأنه ضمان إتلاف فاستوى عمده وخطؤه كمال الآدمي وأما الوطء؛ فلأنه وطء في عبادة فاستوى عمده وسهوه كالوطء في رمضان. "وسائر المحظورات لا شيء في سهوه". قال أحمد رحمه الله: قال سفيان: ثلاثة في الحج العمد والنسيان سواء: إذا أتى أهله وإذا أصاب صيدا وإذا حلق رأسه. قال أحمد: إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شيء لا يقدر على رده, والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده, والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء, وكل شيء من النسيان بعد الثلاثة فهو يقدر على رده مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه, وليس عليه شيء أو لبس خفا نزعه وليس عليه شيء, وعنه أن الفدية تلزم الجميع لأنه هتك حرمة الإحرام فاستوى عمده وسهوه كحلق الشعر وتقليم الأظافر, ودليل الأولى عموم قوله عليه السلام:(1/170)
الصيد يستوي عمده وسهوه وسائر المحظورات لا شيء في سهوه, وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إلا فدية الأذى فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق به وهدي المحصر ينحره في موضعه.
وأما الصيام فيجزئه بكل مكان
ـــــــ
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 1.
مسألة: "وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم"؛ لقوله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. الطعام كالهدي في اختصاصه بمساكين الحرم؛ لقول ابن عباس: الهدي والطعام بمكة والصوم حيث شاء؛ ولأنه طعام يتعلق بالإحرام فأشبه لحم الهدي.
مسألة: ومساكين الحرم من كان فيه سواء كان من أهله أو واردا إليه كالحاج وغيره, وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم.
مسألة: "إلا فدية الأذى فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق فيه" نص عليه, واحتج بحديث علي حين ذبح عن الحسين بالسقيا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كعب بن عجرة بالفدية في الحديبية ولم يأمره ببعثه إلى الحرم.
مسألة: "وهدي المحصر ينحره في موضعه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحروا هداياهم بالحديبية, وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان, وهي من الحل باتفاق أهل السير والنقل, وقد دل على ذلك قوله سبحانه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} 2, ولأنه موضع تحلله فكان موضع ذبحه كالحرم, وأما قوله سبحانه: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} 3. فمحمول على غير المحصر, وقال ابن المنذر: إن ذلك ينصرف على وجهين: أحدهما أن بلوغه محله هو الذبح والنحر وإن كان في الحل وذلك في حق المحصر اقتداء بما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية. والثاني: أن محله الذبح في الحرم وذلك في حق الآمنين لقوله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 4.
مسألة: "وأما الصيام فيجزئه بكل مكان" لا نعلم في هذا خلافا إلا في الصيام عن هدي المتعة فإن قوما اشترطوا أن يرجع إلى أهله, وقال ابن عباس: الدم والطعام بمكة والصوم حيث شاء؛ لأن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي والإطعام فإنه يتعدى نفعه إلى من يعطاه.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الطلاق: حديث رقم 2043. وفي الزوائد: إسناد ضعيف.
2 - آية 25 سورة الفتح.
3 - آية 196 سورة البقرة.
4 - آية 23 سورة الحج.(1/171)
باب دخول مكة
يستحب أن يدخل مكة من أعلاها ويدخل المسجد من باب بني شيبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل منه, فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا ثم يبتدئ
ـــــــ
باب دخول مكة
مسألة: "يستحب أن يدخل من أعلاها" لما روى ابن عمر أن رسول صلى الله عليه وسلم دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى1, وروت عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها. متفق عليه2.
مسألة: "ويدخل المسجد من باب بني شيبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل منه" وفي حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عند ارتفاع الضحى فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد.
مسألة: "فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر الله وحمده ودعا" وروي رفع اليدين عند رؤية البيت عن ابن عمر وابن عباس, وروى أبو بكر بن المنذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة وعلى الموقفين والجمرتين" 3. ولأن الدعاء يستحب عند رؤية البيت فقد أمر برفع اليدين عند الدعاء ويستحب أن يدعو فيقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام حينا ربنا بالسلام, اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا وزد من عظمته وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وتكريما ومهابة وبرا, الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكريم وجهه وعز جلاله, الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا والحمد لله على كل حال, اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت. ذكر هذا الدعاء أبو بكر الأثرم وبعضه مروي عن سعيد بن المسيب وهو يليق بالمكان فذكرناه.
مسألة: "ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرا أو بطواف القدوم إن كان مفردا أو قارنا فيضطبع بردائه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على الأيسر" وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة وهو مستحب في طواف القدوم؛ لما روى أبو دود وابن ماجه عن
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1576.
2 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1577. ومسلم في الحج: حديث رقم 224.
3 - سبق تخريجه.(1/172)
بطواف العمرة إن كان معتمرا أو بطواف القدوم إن كان مفردا أو قارنا فيضطبع برادئه فيجعل وسطه تحت عاتقه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه ويقبله ويقول: بسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن
ـــــــ
يعلى بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم وقذفوها على عواتقهم اليسرى1.
مسألة: "ويبدأ بالحجر الأسود فيستلمه" وهو أن يمسحه بيده "ويقبله" قال أسلم: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك, متفق عليه2. وروى ابن ماجه عن ابن عمر قال: استقبل النبي صلى الله عليه وسلم الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا, فإذا هو بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "يا عمر ها هنا تسكب العبرات" 3. "ويقول" عند استلامه: "بسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم".
مسألة: "ثم يأخذ عن يمينه ويجعل البيت عن يساره فيطوف سبعا يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر ويمشي في الأربعة الأخر", ومعنى الرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطى من غير وثب وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم لا نعلم في ذلك خلافا بين أهل العلم وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا ومشى أربعا. رواه جابر وابن عباس وابن عمر في أحاديث متفق عليها4, وحديث جابر من أفراد مسلم5, وسبب الرمل فيما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة فقال المشركون: إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال وكانوا يحسدونه قال: فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثا ويمشوا أربعا, رواه مسلم6 فإن قيل: أليس الحكم إذا تعلق بعلة زال
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1884.
2 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1597. ومسلم في الحج حديث رقم 248, 250, 251.
3 - رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 2945. قال في الزوائد: في إسناده محمد بن عون الخراساني ضعفه ابن معين وأبو حاتم, وغيرهما.
4 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1604. ومسلم في الحج: حديث رقم 230. 231. 233.
5 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 235, 236.
6 - المصدر عاليه: حديث رقم 237.(1/173)
يساره فيطوف سبعا يرمل في الثلاثة الأول من الحجر إلى الحجر ويمشي في الأربعة الأخر وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبر وهلل ويقول
ـــــــ
بزوالها؟ فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رمل واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح ثبت أنها سنة ثانية, وقال ابن عباس: رمل النبي صلى الله عليه وسلم في عمره كلها وفي حجه وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء من بعدهم, رواه أحمد في المسند1, وروى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر متفق عليه2. وفي مسلم عن جابر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر حتى انتهى إليه. متفيق عليه3.
مسألة: ولا يسن الرمل والاضطباع في غير الأشواط الثلاثة من طواف القدوم أو طواف العمرة إن كان معتمرا, لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا في طواف القدوم.
مسألة: "وكلما حاذى الركن اليماني والحجر استلمهما وكبر وهلل" لأن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في طوافه. قال نافع: وكان ابن عمر يفعله, وروى البخاري عن ابن عباس قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما أتى الركن أشار إليه وكبر. "ويقول بين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" ؛ لما روى الإمام أحمد في المناسك عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين ركن بني جمح والركن الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" 4, وروى ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وكل به - يعني الركن اليماني- سبعون ألف ملك فمن قال: اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين" 5. "ويدعو في سائره بما أحب" لما روي عن ابن عباس أنه كان إذا جاء إلى الركن اليماني قال: اللهم قنعني بما رزقتني واخلف لي على كل غائبة بخير ويستحب أن يقول: اللهم اجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وذنبا مغفورا رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وكان عبد الرحمن بن عوف يقول: رب قني شح نفسي وعن عروة. قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: لا إله إلا أنت وأنت تحيينا بعد ما أمتنا ويستحب الإكثار من ذلك قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الطواف
ـــــــ
1 - رواه أحمد في المسند.
2 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 233.
3 - المصدر عاليه: حديث رقم 235.
4 - رواه أحمد في المسند 3/101، 107, 208, و 209, 247 و277 و288, و 411.
5 - رواه ابن ماجه في المناسك: حديث رقم 2957.(1/174)
بين الركنين: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" . ويدعو في سائره بما أحب, ثم يصلي ركعتين خلف المقام ويعود إلى الركن فيستلمه. ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه ويكبر الله ويهلله ويدعوه ثم ينزل فيمشي إلى
ـــــــ
بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى. قال الترمذي: حديث حسن صحيح1 ورواه الأثرم وابن المنذر.
مسألة: "ثم يصلي ركعتين خلف المقام" روى جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} 2. فجعل المقام بينه وبين البيت, قال محمد بن علي: ولا أعلمه إلا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. ومهما قرأ فيهما بعد الفاتحة جاز وحيث ركعهما جاز فإن ابن عمر ركعهما بذي طوى. رواه أحمد والبخاري ولا بأس أن يصليهما إلى غير سترة فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما والطواف بين يديه ليس بينهما شيء وكذلك سائر الصلوات فى مكة لا يعتبر لها سترة.
مسألة: "ويعود إلى الركن فيستلمه" يعني إذا فرغ من ركعتي الطواف وأراد أن يخرج إلى الصفا فقال أحمد: يعود فيستلم الحجر, وكان ابن عمر يفعل ذلك ولا نعلم فيه خلافا, والأصل فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم له ذكره جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.
مسألة: "ثم يخرج إلى الصفا من بابه فيرقى عليه ويكبر الله عز وجل ويهلله ويدعوه", قال جابر: ثم خرج من الباب إلى الصفا, فلما دنا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} "أبدأ بما بدأ الله به" فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير, لا إله إلا الله وحده أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده", ثم دعا بين ذلك وقال: مثل هذا ثلاث مرات, وكان ابن عمر يقوم على الصفا فيكبر سبع مرات ثلاثا ثلاثا ثم يقول: لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون, اللهم اعصمني بدينك وطاعتك وطاعة رسولك, اللهم جنبني حدودك, اللهم اجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين, اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين, اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الآخرة والأولى
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1888.
2 - آية 12 سورة البقرة.(1/175)
العلم ثم يسعى إلى العلم الأخر ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل كفعله على الصفا ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية, يفتتح بالصفا ويختم بالمروة, ثم يقصر من شعره إن كان معتمرا وقد حل إلا المتمتع إن كان معه هدي والقارن
ـــــــ
واجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لي خطيئتي يوم الدين, اللهم إنك قلت وقولك الحق {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وإنك لا تخلف الميعاد, اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه ولا تنزعه مني حتى توفاني عليه, اللهم لا تقدمني للعذاب ولا تؤخرني لسوء الفتن, ويدعو دعاء كثيرا حتى أنه ليملنا وإنا لشباب وكان إذا أتى المسعى سعى وكبر.
مسألة: "ثم ينزل فيمشي إلى العلم ثم يسعى إلى العلم الآخر, ثم يمشي حتى يأتي المروة فيفعل كفعله على الصفا ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة" هذا وصف السعي. قال جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة, ففعل على المروة كما فعل على الصفا, فلما كان آخر طوافه على المروة قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة"1. وهذا يقتضي أنه آخر طوافه.
مسألة: يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالصفا وقال: "أبدأ بما بدأ الله به". فيقتضي الترتيب لأنه أمر فيقتضي الوجوب فلو بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط فإذا صار إلى الصفا اعتد بما يأتي به بعد ذلك. قال ابن عباس: قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّه} 2 فيبدأ بالصفا وقال: اتبعوا القرآن فما بدأ به القرآن فابدأوا بت.
مسألة: "ثم يقصر من شعره إن كان معتمرا وقد حل إلا المتمتع إن كان معه هدي والقارن والمفرد فإنه لا يحل". والمتمتع هو الذي يحرم من الميقات بعمرة مفردة فإذا فرغ من أفعالها فقد حل, وأفعالها الطواف والسعي والتقصير أو الحلق على إحدى الروايتين إذا لم يكن معه هدي؛ لما روى ابن عمر قال: تمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قال للناس: "من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت والصفا والمروة
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - آية 158 وسورة البقرة.(1/176)
والمفرد فإنه لا يحل, والمرأة كالرجل, إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي
ـــــــ
وليقصر وليحلل" . متفق عليه1. والأحاديث فيه كثيرة ولا نعلم فيه خلافا.
مسألة: وأما من كان معه هدي فإنه يقيم على إحرامه ويدخل إحرام الحج على العمرة, ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا, وفي حديث عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" 2.
مسألة: وأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن معه هدي, فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره من مكة جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر سوى العمرة التي بحجته, فكان يحل وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل فجاج مكة طريق ومنحر". رواه أبو داود وابن ماجه3.
فصل: وأما القارن والمفرد فيستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نية الحج وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعا, وإنما يجوز ذلك بشرطين: أحدهما أن لا يكون معه هدي فإن كان معه هدي بقي محرما حتى يفرغ من أفعال الحج, لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق معه هديا, رواه جابر وابن عباس وعائشة متفق عليهن4. واحتج أحمد رحمه الله بقوله عليه السلام: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" , والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحاح تقرب من التواتر والقطع وقال مسلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن إلا خلة واحدة فقال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج. فقال أحمد: قد كنت أرى أن لك قولا, عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا جيادا كلها في فسخ الحج أتركها لقولك؟ ولأنه قلب الحج إلى العمرة فجاز دليله من لحقه الفوات.
الشرط الثاني: أن لا يكون قد وقف بعرفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالفسخ قبل الوقوف, ولأنه أتى بركن الحج المختص به فلم يجز له الفسخ كما لو أتى بطواف الزيارة.
مسألة: "والمرأة كالرجل إلا أنها لا ترمل في طواف ولا سعي". قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة وليس عليهن اضطباع لأن الأصل في الرمل والاضطباع أمر الجلد ولا يقصد ذلك في النساء؛ ولأن النساء يقصد فيهن الستر وفي الرمل والاضطباع تعرض للانكشاف.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: الحج: حديث رقم 1691. ومسلم في الحج: حديث رقم 174.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في الصوم: حديث رقم 2324. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 3048.
4 - سبق تخريجه.(1/177)
باب صفة الحج
وإذا كان يوم التروية فمن كان حلالا أحرم من مكة وخرج إلى عرفات فإذا
ـــــــ
باب صفة الحج
مسألة: "وإذا كان يوم التروية فمن كان حلالا أحرم من مكة وخرج إلى عرفات" فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما, وروى جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الحديث إلى أن قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي, فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزل بها, حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس, ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا, ثم ركب حتى أتى الموقف واستقبل القبلة حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص, حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة, ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف, رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر, وأشركه في هديه, ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر وطبخت وأكلا من لحمها وشربا من مرقها, ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر, فأتى بني عبد المطلب وهم يسقون على زمزم. فقال: "انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم". فناولوه دلوا فشرب منه.
"فصل" ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة سمي بذلك لأنهم كانوا يتروون من الماء فيما يعدونه ليوم عرفة, فالمستحب لمن كان بمكة حلالا -من المتمتعين الذين حلوا من عمرتهم ومن كان مقيما بها من أهلها وغيرهم- أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى منى لما تقدم من حديث جابر.
مسألة: "وخرج إلى عرفات فإذا زالت الشمس صلى بها الظهر والعصر يجمع(1/178)
زالت الشمس يوم عرفه صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين ثم يروح إلى الموقف - وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة, ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم أو قريبا من الصخرات ويجعل حبل المشاة بين يديه ويستقبل القبلة ويكون راكبا, ويكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شئ قدير ويجتهد في الدعاء
ـــــــ
بينهما" لما سبق من حديث جابر ثم يصير إلى الموقف وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة وذلك لأن الوقوف بعرفة ركن لا يتم الحج إلا به إجماعا, وقد قال عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه". أخرجه أبو داود وابن ماجه1. وقال محمد بن يحيى ما أرى للثوري حديثا أشرف منه. وقال عليه الصلاة والسلام: "كل عرفة موقف ارتفعوا عن بطن عرنة" رواه ابن ماجه2؛ ولأنه لم يقف بعرفة فلم يجزه كما لو وقف بمزدلفة.
مسألة: "ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم عند الجبل قريبا من الصخرات" لما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه واستقبل القبلة. "ويجعل جبل المشاة بين يديه ويستقبل القبلة" لذلك.
مسألة: "ويكون راكبا" وهو أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكبا لما ذكر في حديث جابر فإن ذلك أعون له على الدعاء وقد قيل إن الراجل أفضل ويحتمل أنهما سواء.
مسألة: "ويكثر من قول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير" لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
مسألة: "ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله عز وجل إلى غروب الشمس"؛ لأنه يوم ترجى فيه الإجابة ولذلك أحببنا له الفطر ليتقوى على الدعاء مع أن صومه بعرفة يعدل سنتين, وروى ابن ماجه قال: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة فإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بكم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء" 3 ويستحب أن يدعو بالمأثور من الأدعية مثل ما روي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثر دعاء الأنبياء قبلي ودعائي عشية
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 3015.
2 - رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3012.
3- رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3014.(1/179)
والرغبة إلى الله عز وجل إلى غروب الشمس ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على
ـــــــ
عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا ويسر لي أمري". وكان ابن عمر يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله, أكبر الله أكبر ولله الحمد, لا إله إلا الله, الله أكبر, الله أكبر ولله الحمد, لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد, اللهم اهدني بالهدى وقني بالتقوى واغفر لي في الآخرة والأولى, ثم يرد يده فيسكت قدر ما كان إنسان قارئا بفاتحة الكتاب ثم يعود فيرفع يديه ويقول مثل ذلك, ولم يزل يفعل ذلك حتى أفاض وسئل سفيان بن عينية عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, فقيل له: هذا ثناء وليس بدعاء, فقال: أما سمعت قول الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
وقوله: "إلى غروب الشمس" معناه أنه يجب عليه الوقوف إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة حتى غربت الشمس, كذا في حديث جابر.
مسألة: "ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على طريق المأزمين وعليه السكينة والوقار" وذلك أنه لا ينبغي للناس أن يدفعوا حتى يدفع الإمام وهو الوالي الذي إليه أمر الحاج من قبل الإمام فالمستحب أن يقف حتى يدفع الإمام, ثم يسير نحو المزدلفة على طريق المأزمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلكه وإن سلك الطريق الآخر جاز, ويكون عليه سكينة ووقار لقوله عليه السلام حين دفع وقد شنق القصواء بالزمام حتى إن رأسها ليصيب موركة رحله ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة". ذكره في حديث جابر, وروى ابن عباس أنه دفع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فسمع صلى الله عليه وسلم وراءه زجرا شديدا وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال: "أيها الناس عليكم السكينة فإن البر ليس بإيضاع الإبل". رواه البخاري1. وقال عروة: سئل أسامة وأنا جالس كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع؟ قال: كان يسير العنق2 فإذا وجد فجوة نص. قال هشام بن عروة: والنص فوق العنق متفق عليه3.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم "1671".
2 - قوله: العَنَق بفتح المهملة والنون: هو السير بين الإبطاء والإسراع. قال في المشارق: هو سير سهل في سرعة. وقال القزاز: العنق, سير سريع. وقيل: المشي الذي يتحرك به عنق الدابة. وفي الفائق: العنق: الخطو الفسيح. فتح الباري. "3/605".
3 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1666. ومسلم في الحج حديث رقم "283".(1/180)
طريق المأزمين وعليه السكينة والوقار, ويكون ملبيا ذاكرا لله عز وجل. فإذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما ثم يبيت بها. ثم يصلي الفجر بغلس ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ويدعو ويستحب أن يكون
ـــــــ
مسألة: "ويكون ملبيا ذاكرا لله عز وجل" فإن ذكره مستحب في جميع الأوقات وهو في هذا الوقت آكد لقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} 1, ولأنه زمن الاستشعار بطاعة الله تعالى والتلبس بعبادته والسعي إلى شعائره فيستحب الإكثار فيه من ذكره ويستحب التلبية؛ لما روى الفضل بن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة. متفق عليه2. وعن عبد الرحمن بن يزيد قال: شهدت ابن مسعود يوم عرفة يلبي فقال له رجل كلمة فسمعته زاد في التلبية شيئا لم أسمعه قبل ذلك: لبيك عدد التراب.
مسألة: "فإذا وصل إلى مزدلفة صلى بها المغرب والعشاء قبل حط الرحال يجمع بينهما" السنة لمن دفع من عرفة أن لا يصلي المغرب حتى يصل إلى مزدلفة فيجمع بين المغرب والعشاء قبل حط الرحال. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم لا اختلاف بينهم أن السنة أن يجمع الحاج بجمع بين المغرب والعشاء, والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما, رواه جابر وابن عمر وأسامة وغيرهم في أحاديث صحاح ويكون ذلك قبل حط الرحال؛ لما روى مسلم عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام عشاء الآخرة فصلوا ثم حلوا.
مسألة: "ثم يبيت بها" والمبيت بمزدلفة واجب من تركه فعليه دم, وقال بعضهم من فاته جمع فاته الحج لقوله سبحانه: { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } , ولنا قوله عليه السلام: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه" 3. يعني من جاء من عرفة وما احتجوا به من الآية فإن المنطوق فيها ليس بركن إجماعا فإنه لو بات بجمع ولم يذكر الله تعالى صح حجه بغير خلاف فيحمل ذلك على مجرد الإيجاب أو الفضيلة والاستحباب.
مسألة: "ثم يصلي الفجر بغلس" السنة أن يبيت بمزدلفة حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح والسنة أن يعجلها في أول وقتها ليتسع وقت الوقوف عند المشعر الحرام وفي حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح حين تبين له الصبح وفي حديث ابن مسعود
ـــــــ
1 - آية 198 سورة البقرة.
2 - رواه البخاري في: الحج: حديث رقم 1685. ومسلم في الحج: رقم 267.
3 - سبق تخريجه.(1/181)
من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ويقف حتى يسفر جدا ثم يدفع قبل طلوع الشمس فإذا بلغ محسرا أسرع قدر رميه بحجر حتى يأتي منى فيبتدئ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف يكبر مع كل حصاة
ـــــــ
أنه صلى الفجر حين طلع الفجر وقائل يقول قد طلع وقائل يقول لم يطلع ثم قال في آخر الحديث رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله رواه البخاري بنحو هذا1.
مسألة: "ويأتي المشعر الحرام فيقف عنده ويدعو" وفي حديث جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المشعر الحرام فرقي عليه وحمد الله وهلله وكبره ووحده "ويستحب أن يكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا فيه لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ويقف حتى يسفر جدا" لما في حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا.
مسألة: "ثم يدفع قبل طلوع الشمس" لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله قال عمر: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس فيقولون: أشرق ثبير كيما نغير, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خالفهم وأفاض قبل أن تطلع الشمس, رواه البخاري2.
مسألة: "فإذا بلغ محسرا أسرع قدر رمية بحجر حتى يأتي منى" يستحب الإسراع في وادي محسر وهو ما بين جمع فإن كان ماشيا أسرع وإن كان راكبا حرك دابته. قال جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى بطن محسر حرك دابته قليلا, وروي عن عمر رضي الله عنه أنه لما أتى محسرا أسرع وقال:
إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالفا دين النصارى دينها
معترضا في بطنها جنينها
مسألة: "فيبدأ بجمرة العقبة فيرميها بسبع حصيات كحصى الخذف يكبر مع كل حصاة ويرفع يده في الرمي ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي ويستبطن الوادي ويستقبل
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1683.
2 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1684.(1/182)
ويرفع يديه في الرمي ويقطع التلبية بابتداء الرمي ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة
ـــــــ
القبلة ولا يقف عندها" وجمرة العقبة آخر الجمرات مما يلي منى وأولها مما يلي مكة عند العقبة فلذلك سميت جمرة العقبة, فيرميها بسبع حصيات مثل حصى الخذف فإن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته: "ألقط لي حصى". فلقطت له سبع حصيات هن كحصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول: "أمثال هؤلاء فارموا". رواه ابن ماجه1. وفي حديث جابر: "كل حصاة منها مثل حصى الخذف" 2. وروى سليمان بن عمر بن الأخوص: "بمثل حصى الخذف". رواه أبو داود وابن ماجه 3وفي حديث جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها4. وروى حنبل في المناسك بإسناده عن زيد بن أسلم قال: رأيت سالم بن عبد الله استبطن الوادي ورمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة: الله أكبر الله أكبر ثم قال: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وعملا مشكورا فسألته عما صنع فقال: حدتني أبي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة من هذا المكان ويقول كلما رمى حصاة مثل ما قلت.
مسألة: "ويرفع يديه في الرمي" لأن ابن عمر وابن عباس كانا يرفعان أيديهما في الدعاء إذا رميا الجمرة.
مسألة: "ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي" لأن الفضل بن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. متفق عليه. وكان رديفه يومئذ وهو أعلم بحاله من غيره ويقطعها عند أول حصاة يرميها؛ لأنه قد روي في بعض ألفاظ حديث ابن عباس: فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة قطع عند أول حصاة رواه حنبل في المناسك.
مسألة: "ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة" لما روى الترمذي قال: لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي واستقبل القبلة وجعل يرمى الجمرة على حاجبه الأيمن ثم رمى بسبع حصيات ثم قال: والله الذي لا إله غيره من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو حديث صحيح5.
مسألة: "ولا يسن الوقوف عندها" لأن ابن عمر وابن عباس رويا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3029.
2 - رواه مسلم في الحج حديث رقم 313.
3 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1966. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 3031.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه الترمذي في الحج: حديث رقم 901. والنسائي في الحج: 226- باب المكان الذي ترمى منه جمرة العقبة. وابن ماجه في الحج: حديث رقم 3030.(1/183)
ولا يقف عندها ثم ينحر هديه ثم يحلق رأسه أو يقصره ثم قد حل له كل شيء إلا النساء, ثم يفيض إلى مكة فيطوف للزيارة وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج.
ـــــــ
إذا رمى جمرة العقبة انصرف ولم يعقب رواه ابن ماجه1.
مسألة: "ثم ينحر هديه" وذلك أنه إذا فرغ من رمي الجمرة يوم النحر لم يقف وانصرف إلى منزله فأول شيء يبدأ به نحر الهدي إن كان معه هدي واجبا كان أو تطوعا وينحر الإبل ويذبح ما سواها ويستحب أن يتولى ذلك بيده وإن استناب غيره جاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بعض هديه واستناب في الباقي رواه جابر, وفي رواية أنس نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده سبع بدن قياما رواه البخاري2.
مسألة: "ثم يحلق رأسه أو يقصر" والحلق أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة3. والكل جائز.
مسألة: "ثم قد حل له كل شيء إلا النساء" لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة وحلق رأسه فقد حل له كل شيء إلا النساء". رواه الأثرم وأبو داود وقال: هو ضعيف4؛ لأن رواية الحجاج عن الزهري ولم يلقه, وليس في رواية أبي داود "وحلق رأسه" وروى ابن ماجه عن الحسن العرني عن ابن عباس قال: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء, فقال له رجل: يا ابن عباس والطيب؟ فقال: أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينضح رأسه بالمسك أفطيب ذا أم لا؟ رواه أبو بكر في الشافي ورفعه وعن عائشة قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت. متفق عليه5.
مسألة: "ثم يفيض إلى مكة فيطوف للزيارة وهو الطواف الواجب الذي به تمام الحج" ويسمى طواف الإفاضة؛ لأنه يأتي به عند إضافته من منى إلى مكة وهو ركن الحج لا يتم إلا به لا نعلم فيه خلافا؛ لأن الله سبحانه قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} 6. قال ابن عبد البر: هو من فرائض الحج لا خلاف في ذلك بين العلماء عند جميعهم قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
ـــــــ
1-رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 3032, 318.
2 -رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1712
3 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1728. ومسلم في الحج: حديث رقم 318.
4 -رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 1978.
5 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1754. ومسلم في الحج حديث رقم 38.
6 - آية 29 سورة الحج.(1/184)
ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أم ممن لم يسع مع طواف القدوم, ثم قد حل من كل شيء ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه ثم يقول: اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك وحكمتك.
ـــــــ
مسألة: "ثم يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا أو ممن لم يسع مع طواف القدوم ثم قد حل من كل شيء" وذلك أن المتمتع هو الذي ينوي عمرة مفردة ويفرغ من أفعالها ثم يحل فإذا أحرم بالحج ومضى إلى عرفات ثم رجع إلى منى ورمى يوم النحر ونحر ثم أفاض وطاف للزيارة: فإنه يسعى بين الصفا والمروة للحج, وذلك السعي كان للعمرة وهذا للحج وعند الخرقي يسن في حق الحاج طواف القدوم فإن كان قد سعى مع طواف القدوم ثم طاف للزيارة لم يحتج إلى سعي آخر بل يكفيه سعيه مع طواف القدوم, ثم قد حل له كل شيء قال ابن عمر:لم يحل النبي صلى الله عليه وسلم من شيء حرم منه حتى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض بالبيت, ثم قد حل من كل شيء حرم منه. متفق عليه. ولا نعلم خلافا في حصول الحل بطواف الزيارة وأما السعي فإن قلنا هو ركن لم يحل حتى يسعى وإن قلنا هو سنة احتمل أن يحل عقيب الطواف قبل السعي؛ لأنه لم يبق عليه واجب من الحج ويحتمل أن لا يحل حتى يأتي به لأنه من أفعال الحج فأشبه السعي في حق المعتمر لا يتحلل حتى يأتي به.
مسألة: "ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب ويتضلع منه ثم يقول: اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا وريا وشبعا وشفاء من كل داء واغسل به قلبي واملأه من خشيتك وحكمتك" وروى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ماء زمزم لما شرب له" 1. وعن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال: من أين جئت؟ قال: من زمزم, قال: فشربت منها كما ينبغي؟ قال: فكيف؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله وتنفس ثلاثا من زمزم وتضلع منها, فإذا فرغت فاحمد الله, فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن آية ما بيننا وبين المنافقين لا يتضلعون من زمزم". رواه ابن ماجه2. ويقول عند الشرب: بسم الله اللهم اجعله لنا علما نافعا ورزقا واسعا إلى آخر الدعاء.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: حديث رقم 3062 قال الحاكم: صحيح الإسناد.
2 - المصدر عاليه: حديث رقم 3961. وقال في الزوائد: هذا إسناد صحيح, رجاله موثوقون.(1/185)
باب ما يفعله بعد الحل
ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من
ـــــــ
باب ما يفعله بعد الحل
مسألة: "ثم يرجع إلى منى ولا يبيت لياليها إلا بها" وذلك أن السنة لمن أفاض يوم النحر أن يرجع إلى منى. قالت عائشة رضي الله عنها: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي التشريق. رواه أبو داود1. وروى أحمد عن عبد الرزاق عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى2 والمبيت في منى ليالي واجب وهي إحدى الروايتين عن أحمد لما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته. متفق عليه3. وتخصيص العباس بالرخصة من أجل السقاية دليل على أنه لا رخصة لغيره, وروى ابن ماجه عن ابن عباس قال: لم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم لأحد يبيت بمكة إلا العباس من أجل سقايته4, وروى الأثرم عن ابن عمر أن عمر قال: لا يبيتن أحد من الحجاج إلا بمنى, وكان يبعث رجالا لا يدعون أحدا يبيت وراء العقبة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله نسكا وقد قال: "خذوا عني مناسككم". والرواية الثانية: أن المبيت غير واجب ولا شيء على تاركه. قال ابن عباس: إذا رميت فبت حيث شئت, فعلى هذا لا شيء على تاركه. وعلى الرواية الأولى قال: يطعم شيئا من تمر أو نحوه فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه, وعنه يلزمه في الليلة درهم وفي الليلتين درهمان وفي الثلاث دم روي عن عطاء وروي في ليلة نصف درهم وروي في ليلة مد وفي ليلتين مدان وفي الثلاث دم قياسا على الشعر, ودليل الأولى أنه لا توقيت فيه؛ لأن التوقيت توقيف ولم يرد فيه نص فلا يصار فيه إلى التوقيت والله أعلم.
مسألة: "فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها كل جمرة بسبع حصيات فيبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة"؛ لأن جملة ما يرمي به الحاج سبعون حصاة: سبع منها يوم النحر بعد طلوع الشمس وسائرها في أيام التشريق بعد زوال الشمس كل يوم إحدى وعشرين حصاة لثلاث جمرات يبتدئ بالجمرة الأولى وهي أبعد الجمرات من مكة وتلي مسجد الخيف فيجعلها عن يساره
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث 1998. ومسلم في الحج: حديث رقم 335.
2 - روا أحمد في المسند 2/3.
3 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1743. ومسلم في الحج: حديث رقم 346.
4 - رواه ابن ماجه في المناسك: حديث رقم 3066.(1/186)
أيامها كل جمرة بسبع حصيات يبتدئ بالجمرة الأولى فيستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما رمى جمرة العقبة ثم يتقدم فيقف فيدعو الله ثم يأتي الوسطى فيرميها كذلك ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها, ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل الغروب فإن غربت الشمس وهو
ـــــــ
ويستقبل القبلة ويرميها بسبع حصيات كما وصفنا في جمرة العقبة "ثم يتقدم" عنها إلى موضع لا يصيبه الحصا "فيقف" طويلا "يدعو الله" عز وجل رافعا يديه "ثم يتقدم إلى الوسطى" فيجعلها عن يمينه ويستقبل القبلة "ويرميها" بسبع حصيات ويفعل من الوقوف والدعاء كما فعل في الأولى "ثم يرمي جمرة العقبة" بسبع حصيات ويستبطن الوادي ويستقبل القبلة "ولا يقف عندها" قالت عائشة رضي الله عنها: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث فيها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ويقف عند الأولى والثانية ويطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. رواه أبو داود وروى البخاري عن ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الأولى بسبع حصيات فيكبر على أثر كل حصاة, ثم يتقدم ويسهل ويقوم قياما طويلا ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ بذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبلا القبلة قياما طويلا ثم يرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وروى أبو داود أن ابن عمر كان يدعو بدعائه بعرفة ويزيد: وأصلح -أو أتم- لنا مناسكنا. وقال ابن المنذر: كان ابن عمر وابن مسعود يقولان عند الرمي: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وكان ابن عمر وابن عباس يرفعان أيديهما في الدعاء إذا رميا الجمرة ويطيلان الوقوف وروى الأثرم قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ الرجل سورة البقرة ويكون الرمي بعد الزوال لما سبق. وقال جابر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس. أخرجه مسلم. وقد قال: "خذوا عني مناسككم".
مسألة: "ثم يرمي في اليوم الثاني كذلك" يعني في وقته وصفته وهيئته لا نعلم في ذلك خلافا غير ما روي عن إسحاق.
مسألة: "فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل المغرب وإن غربت الشمس وهو بمنى لزمه المبيت بها والرمي من غد" أجمع أهل العلم أن لمن أراد الخروج من منى شاخصا عن الحرم غير مقيم بمكة أو ينفر بعد الزوال في اليوم الثاني من أيام التشريق إذا رمى فيه فأما إن أحب أن يقيم بمكة فقد قال أحمد: لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة. وكان مالك يقول: من كان له عذر من أهل مكة فله أن يتعجل في يومين وإن(1/187)
بمنى لزمه المبيت بمنى والرمي من غد فإن كان متمتعا أو قارنا فقد انقضى حجه وعمرته وإن كان مفردا خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه ثم يأتي مكة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموسى على رأسه وقد تم حجه وعمرته, وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد
لكن عليه وعلى المتمتع دم؛
ـــــــ
أراد التخفيف عن نفسه من أمر الحج فلا ويحتج من يذهب إلى هذا بقول عمر: من شاء من الناس كلهم أن ينفر في النفر الأول إلا آل خزيمة فلا ينفروا إلا في النفر الآخر. قال ابن المنذر: جعل أحمد وإسحاق معنى قول عمر: إلا آل خزيمة أي أنهم أهل حرم. وظاهر المذهب جواز النفر في النفر الأول لكل أحد وهو مقتضى كلام الخرقي وعامة العلماء لعموم قوله سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} 1. قال عطاء: هي للناس عامة, وروى أبو داود وابن ماجه عن يحيى بن معمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى". قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه سفيان, وقال وكيع: هذا الحديث أم المناسك؛ ولأن أهل مكة وغيرهم سواء في سائر المناسك فكذلك في هذا, وإذا أحب التعجيل في النفر الأول خرج قبل غروب الشمس, فإذا غربت قبل خروجه لم يجز له الخروج لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}, واليوم اسم للنهار. وقال ابن المنذر: ثبت عن عمر أنه قال: من أدركه المساء في اليوم الثاني فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس.
مسألة: "فإن كان متمتعا أو قارنا فقد انقضى حجه وعمرته وإن كان مفردا خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه ثم أتى مكة فطاف وسعى وحلق أو قصر فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموسى على رأسه وقد تم حجه وعمرته"؛ لأنه قد فعل أفعال الحج والعمرة.
مسألة: "وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد ولكن عليه وعلى المتمتع دم" المشهور عن أحمد رضي الله عنه أن القارن بين الحج والعمرة لا يلزمه من العمل أكثر مما يلزم المفرد بل فعلهما سواء ويجزيه طواف واحد أو سعي واحدا لحجه وعمرته نص عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه, وعنه أن عليه طوافين وسعيين. روي ذلك عن علي ولم يصح عنه واحتج من قال ذلك بقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} 2. وتمامهما أن يأتي بأفعالهما على الكمال ولم يفرق بين القارن وغيره قالوا وروي عن
ـــــــ
1 - الآية 203 سورة القرة.
2 - آية 196 سورة البقرة.(1/188)
لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
ـــــــ
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان" ولأنهما نسكان فلزم لهما طوافان كما لو كانا منفردين ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافا واحدا. متفق عليه1. وفي مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة لما قرنت بين الحج والعمرة: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك". وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد حتى يحل منهما جميعا". وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة وطاف لهما طوافا واحدا. رواهما الترمذي وقال في كل واحد منهما: حديث حسن2, وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطف هو وأصحابه لعمرتهم وحجهم حين قدموا إلا طوافا واحدا. رواه الأثرم وابن ماجه3. وروى الأثرم عن سلمة قال: حلف طاووس ما طاف أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم للحج والعمرة إلا طوافا واحدا, ولأنه نسك يكفيه حلق واحد ورمي واحد فكفاه طواف واحد وسعي واحد كالمفرد, ولأنهما عبادتان من جنس واحد فإذا اجتمعا دخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين, وأما الآية فإن الأفعال إذا وقعت لهما فقد تما وحديثهم لا نعلم صحته وكفى به ضعفا معارضته بما روينا من الأحاديث الصحيحة, وإن صح فيحتمل أنه أراد عليه طواف وسعي فسماهما طوافين فإن السعي بين الصفا والمروة يسمى طوافا, ويحتمل أنه أراد أن عليهم طوافين طواف الزيارة وطواف الوداع.
مسألة: "لكن عليه دم" أكثر أهل العلم على القول بوجوب الدم عليه ولا نعلم فيه اختلافا إلا ما حكي عن داود أنه قال: لا دم عليه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دما" ؛ ولأنه ترفه بسقوط أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع فإن عدم الدم فعليه صيام صيام ثلاثة أيام في الحج يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع قياسا على دم المتعة فإنه مشبه به ومقيس عليه وقال ابن عبد البر: القران نوع من المتعة؛ لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين وهو داخل في قوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}.
مسألة: "وعلى المتمتع دم لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ووقت وجوبه قال القاضي: إذا وقف بعرفة ورواه المروذي عن أحمد
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1638. ومسلم في الحج حديث رقم 181.
2 - رواهما الترمذي في الحج: حديث رقم 947, 948.
3 - رواه ابن ماجه في الحج: حديث رقم 2972. وهو حديث ضعيف بهذا الإسناد.(1/189)
......................................................................
ـــــــ
وعنه يجب إذا أحرم بالحج لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}. وهذا قد فعل ذلك ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كان كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}, ووجه الأول أن التمتع بالعمرة إلى الحج إنما يحصل بعد وجود الحج معه ولا يحصل ذلك إلا بالوقوف لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة". ولأنه قبل ذلك يعرض للفوات فلا يحصل له التمتع فيعتبر وجود ما يأمن به فواته ووقت إخراجه يوم النحر لأن ما قبله لا يجوز ذبح الأضحية فلا يجوز فيه هدي التمتع كقبل التحلل من العمرة.
مسألة: "فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام يكون آخرها يوم عرفة وسبعة إذا رجع" لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن المتمتع إذا لم يجد الهدي ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع, وقد نص الله عليه سبحانه في كتابه بقوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ}. فأما وقت الصيام فالاختيار في الثلاثة أن يصومها في ثامن الإحرام بالحج ويوم النحر لقول الله سبحانه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} 1. وكان ابن عمر وعائشة وإمامنا يقولون: يصومهن ما بين إهلاله بالحج ويوم عرفة فإن لم يحرم إلا يوم التروية صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة, وقال طاوس: يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وصوم عرفة بعرفة غير مستحب, وإنما أحببناه هاهنا لموضع الحاجة ولأنه واجب, وذكر القاضي في المجرد أنه يكون آخرها يوم التروية قال شيخنا: والمنصوص عن أحمد فيما وقفنا عليه من نصوصه أن يكون آخرها يوم عرفة, ولا خلاف في جواز ذلك وإنما الخلاف في استحبابه. وأما وقت الجواز لصيام الثلاثة فأوله إذا أحرم بالعمرة وعن ابن عمر إنما يجوز صيامهن إذا تحلل من العمرة
اختاره ابن المنذر لقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}. ولأنه صيام واجب فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه كسائر الصيام الواجب, ولنا أنه أحد إحرامي التمتع فجاز الصوم بعده وإن تخلف الوجوب كتقديم الزكاة بعد النصاب وقبل الحول والكفارة بعد اليمين قبل الحنث. فأما قوله سبحانه: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}. فقال بعض أهل العلم: معناه في أشهر الحج, وكلام أحمد يدل عليه بدليل من لم يحرم إلا يوم التروية, وأما تقديمه على وقت الوجوب فيجوز بعد السبب كتقديم التكفير قبل الحنث.
"فصل": وأما السبعة الأيام فلها وقت اختيار واستحباب وجواز أما وقت الاختيار فإذا رجع إلى أهله؛ لأنه عمل بالإجماع وأقرب إلى موافقة لفظ الاختيار. قال ابن عمر: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله".
ـــــــ
1 آية 196سورة البقرة.(1/190)
وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت بطواف عند فراغه من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده ويستحب له إذا طاف
ـــــــ
متفق عليه1. وأما وقت الجواز فظاهر كلام أحمد أنه إذا رجع من مكة ويكون معنى الآية إذا رجعتم من الحج, لأنه ذكر ذلك بعد الحج فيكون متعلقا بت, ويمكن أن يقال إن الله سبحانه جوز له تأخير الصيام حتى يرجع إلى أهله رخصة فلا يمنع ذلك الإجزاء قبله, كما جوز تأخير صوم رمضان في السفر والمرض بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 2, ثم لو صام في المرض والسفر جاز كذا هاهنا وهو الجواب عن الحديث.
"فصل" الاختيار لعموم الثلاثة -كما ذكرنا- أن يكون بعد الإهلال بالحج والاستحباب أن يحرم بالحج يوم التروية فلا يتم له الجمع بين المستحبين فماذا يصنع؟ سئل أحمد رحمه الله عن ذلك فقال: إن شاء قدم إهلاله بالحج وقال في موضع آخر كلاما يشير إلى أنه إذا لم يكن بد من ترك أحد المستحبين فأيهما ترك جاز: فإن شاء ترك الإحرام يوم التروية وقدمه عليه وإن شاء صام قبل الإحرام.
مسألة: "وإذا أراد القفول لم يخرج حتى يودع البيت بطواف عند فراغه من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت" لما روى ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه3. ولمسلم قال: كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينصرفن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت" 4.
مسألة: "فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده" وذلك أن الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت, فإن طاف الوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة أعاد طواف الوداع للحديث؛ ولأنه إذا أقام خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجز كما لو طاف قبل السفر.
مسألة: "ويستحب له إذا طاف أن يقف في الملتزم بين الركن والباب فيلتزم البيت" كما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: طفت مع عبد الله فلما جئنا دبر الكعبة قلت ألا نتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار, ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا وبسطهما بسطا وقال: هكذا رأيت
ـــــــ
1 - رواه البخاري في: 25- كتاب الحج: 104- من ساق البدن معه: حديث رقم 1691. ومسلم في: 15- كتاب الحج: 24- باب وجوب الدم على المتمتع: حديث رقم 174.
2 آية 184 سورة البقرة.
3 - رواه البخاري في: 25- كتاب الحج: 144- باب طواف الوداع: 1755. ومسلم في: 15- كتاب الحج: 76- باب وجوب طواف الوداع: حديث رقم 380.
4 - رواه مسلم في المصدر عاليه: حديث رقم 379.(1/191)
أن يقف في الملتزم بين الركن والباب فيلتزم البيت ويقول: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضى وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك, اللهم أصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير, ويدعو بما أحب ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم, فمن خرج قبل الوداع رجع إليه إن كان قريبا وإن بعد بعث بدم.
إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء
ـــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. وعن عبد الرحمن بن صفوان قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة هو وأصحابه قد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم. رواه أبو داود ورواه حنبل في المناسك قال بعض أصحابنا "ويقول" في دعائه: "اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك وأعنتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك, اللهم فأصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير, وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم", والمرأة إذا كانت حائضا على باب المسجد ودعت بذلك.
مسألة: "فمن خرج قبل الوداع رجع إن كان قريبا وإن أبعد بعث بدم" وذلك لأن طواف الوداع واجب يجب بتركه دم وليس ركنا فإذا خرج قبل فعله لزمه الرجوع إن كان قريبا؛ لأنه أمكنه الإتيان بالواجب من غير مشقة فلزمه كما لو كان بمكة, وإن كان بعيدا لم يلزمه الرجوع لأن فيه مشقة فلم يلزمه كما لو رجع إلى بلده لكن عليه دم, ولا فرق بين تركه عمدا أو سهوا أو خطأ فإن واجبات الحج لا فرق بين خطئها وعمدها, ودليل وجوبه ما سبق من حديث ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. متفق عليه.
مسألة: "إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليهما" للخبر والنفساء في معنى الحائض "ويستحب لهما الوقوف عند باب المسجد والدعاء" بما ذكرناه(1/192)
باب أركان الحج و العمرة
...
باب أركان الحج والعمرة
أركان الحج: الوقوف بعرفة وطواف الزيارة وواجباته: الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل والسعي
ـــــــ
باب أركان الحج والعمرة
مسألة: "أركان الحج: الوقوف بعرفة" فلا يتم الحج إلا به إجماعا, وروى عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة فجاءه نفر من أهل نجد فقالوا يا رسول الله كيف الحج؟ قال: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه". أخرجه أبو داود وابن ماجه1. قال محمد بن يحيى: ما أرى للثوري حديثا أشرف منه "وطواف الزيارة" ركن لا يتم الحج إلا بت, بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر له أن صفية حاضت قال: "أحابستنا هي"؟ قيل: إنها قد أفاضت يوم النحر قال: "فلتنفر إذا" 2. فدل على أن هذا الطواف لا بد منه وأنه حابس لمن لم يأت به.
مسألة: فصل "وواجباته: الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى الليل والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل والسعي والمبيت بمنى والرمي والحلق وطواف الوداع" فهي ثمانية. أما الإحرام فهو أن ينوي الدخول في العبادة. قال ابن عباس: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإحرام حين فرغ من صلاته. وفي حديث جابر: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى, وفي حديث: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهلوا بالحج إذا خرجوا إلى منى وأمرهم بالإحرام, والأمر يقتضي الوجوب ويستحب النطق بذلك كما في صلاة الفرض ويحرم من الميقات كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال: "خذوا عني مناسككم". وأما الوقوف بعرفة إلى الليل فواجب ليجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم: وقف بعرفه حتى غابت الشمس كذا في حديث عروة بن مضرس: "من شهد صلاتنا ووقف معنا حتى ندفع ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه". قال الترمذي: حديث صحيح3. فإذا تركه فعليه دم؛ لقول ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم. وأما المبيت بمزدلفة فواجب لما في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح حين تبين له الصبح4, يعني بالمزدلفة وفي حديث ابن مسعود: صلى الفجر حين طلع الفجر5, وهذا دليل على أنه بات بها. وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 6 فإن دفع قبل نصف الليل فعليه دم؛ لأنه لم يبت وإن دفع بعد نصف الليل فلا شيء عليه لأنه
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه الترمذي في الحج حديث رقم 891.
4 - سبق تخريجه.
5 - سبق تخريجه.
6 - سبق تخريجه.(1/193)
والمبيت بمنى والرمي والحلق وطواف الوداع.
ـــــــ
يكون قد بات؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس في ترك المبيت بمزدلفة لأجل سقايته1, وللرعاة من أجل رعايتهم وذلك دليل على وجوبه على غيرهم لكونه سقط عن هؤلاء رخصة, وعنه أن المبيت بها غير واجب ولا شيء على تاركه والمذهب الأول لما سبق.
"فصل": وأما السعي فعن أحمد رحمه الله أنه لا يتم الحج إلا به ولا ينوب عنه دم بوجه وهو قول عائشة وعروة, وعنه أنه مستحب ولا يجب بتركه دم. روي ذلك عن ابن عباس وأنس وعبد الله بن الزبير فإن الله تعالى قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وفي مصحف أبي وابن مسعود: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما, وهذا إن لم يكن قرآنا فلا ينحط عن درجة الخبر؛ لأنهما يرويانه عن النبي صلى الله عليه وسلم. واختار القاضي أن يكون حكمه حكم الرمي يكون واجبا ينوب عنه الدم, ووجه الأول ما روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون بين الصفا والمروة فكانت سنة, فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. وأما الآية فنزلت لما تحرج المسلمون من السعي بين الصفا والمروة كذلك قالت عائشة, وروي عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره يدور في وسطه من شدة سعيه حتى أقول إني لأرى ركبتيه, وسمعته يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي". قال شيخنا: وقول القاضي أقرب إلى الحق -إن شاء الله تعالى- فإن ما روت عائشة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه دليل على وجوبه, ولا يلزم كونه ركنا كالرمي والحلاق وغيرهما, وقول عائشة يعارضه قول غيرها. فمن مذهبه أنه ليس بواجب وحديث بنت أبي تجراة قال ابن المنذر: يرويه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا في حديثه, ثم هو يدل على أنه مكتوب وهو الواجب.
"فصل": والمبيت بمنى واجب, وعنه أنه غير واجب. قال ابن عباس رضي الله عنه: إذا رميت فبت حيث شئت, ووجه الأولى ما سبق من الترخيص للعباس في المبيت بمزدلفة.
"فصل": والرمي واجب قالت عائشة: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس, رواه أبو داود2. وقال جابر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة ضحى يوم النحر ورمى بعد ذلك بعد زوال الشمس. أخرجه مسلم3. وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 4.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في الحج.
3 - رواه مسلم في الحج.
4 - سبق تخريجه.(1/194)
وأركان العمرة: الطواف وواجباتها: الإحرام والسعي والحلق فمن ترك ركنا لم يتم نسكه إلا بت, ومن ترك واجبا جبره بدم ومن ترك سنة فلا شيء عليه, ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج فيتحلل بطواف وسعي
ـــــــ
"فصل": والحلق واجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله. قال أنس: إن النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر, ثم رجع إلى منزله فدعا بذبح, ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه فجعل يقسم بينه وبين من يليه الشعرة والشعرتين, ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه, ثم قال: "هاهنا أبو طلحة؟" فدفعه إلى أبي طلحة. رواه أبو داود1. وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 2, وأمر بالتقصير. وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يكن له هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل". وهو أمر والأمر يقتضي الوجوب.
"فصل": وطواف الوداع واجب بدليل ما سبق من حديث ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض3.
مسألة: "وأركان العمرة: الطواف" لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بت, فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يكن معه هدي فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل" 4. وأمره يقتضي الوجوب. متفق عليه, ولأنه طواف في عبادة كان ركنا فيها كالحج.
مسألة: "وواجباتها الإحرام والسعي والحلق" كما في الحج, وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وقد قال: "خذوا عني مناسككم" 5. وقد أمر بالحلق في حديث ابن عمر بقوله: فليقصر وليحلل والتقصير مقام الحلق.
مسألة: "فمن ترك ركنا لم يتم نسكه إلا به" لما سبق "ومن ترك واجبا جبره بدم" لما سبق "ومن ترك سنة فلا شيء عليه" لأنه ترك سنة في عبادة فلم يلزمه لها جبران كالصلاة.
مسألة: "ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج فيتحلل بطواف وسعي وينحر هديا إن كان معه وعليه القضاء" في هذه المسألة أربعة فصول: الأول أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر, فمن لم يدرك الوقوف حتى طلع الفجر فاته الحج لا نعلم في ذلك خلافا. قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع. قال أبو الزبير فقلت له: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعم. رواه الأثرم. الثاني: أن يتحلل بطواف وسعي وحلاق. هذا الصحيح من المذهب, روي ذلك عن عمر وابن عمر وزيد وابن عباس وابن الزبير ولم يعرف لهم مخالف, فكان إجماعا وروى الأثرم بإسناده أن هبار بن
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.
5 -سبق تخريجه.(1/195)
وينحر هديا إن كان معه وعليه القضاء وإن أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحج ويستحب لمن حج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما
ـــــــ
الأسود حج من الشام فقدم يوم النحر فقال له عمر: ما حبسك؟. قال: حسبت أن اليوم عرفة. قال: فانطلق إلى البيت فطاف به سبعا, وإن كانت معك هدية فانحرها, ثم إذا كان عام قابل فاحجج وإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت, وروى البخاري عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فاته الحج فعليه دم وليجعلها عمرة وليحج من قابل". ولأنه يجوز فسخ الحج إلى العمرة من غير فوات فمع الفوات أولى. إذا ثبت هذا فإنه يجعلها عمرة لحديث عطاء وهو قول من ذكرناه من الصحابة. الثالث: أنه يلزمه القضاء من قابل سواء كان الفائت واجبا أو تطوعا, روي ذلك عن جماعة من الصحابة, وعن أحمد أنه لا قضاء عليه بل إن كانت فرضا فعلها بالوجوب السابق وإن كانت نفلا سقطت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الحج أكثر من مرة؟ قال: "بل مرة واحدة". ولو أوجبنا القضاء كان أكثر من مرة, ولأنها عبادة تطوع بها فإذا فاتت لم يلزمه قضاؤها كسائر التطوعات, وعلى هذا يحمل قول الصحابة عن من كان حجه مفروضا, والرواية الأولى أولى لما ذكرنا من الحديث وإجماع الصحابة؛ لأن الحج يلزم بالشروع فيصير كالمنذور بخلاف سائر التطوعات, وأما الحديث فإنه أراد الواجب بأصل الشرع حجة واحدة, وهذا إنما تجب بإيجابه لها بالشروع فيها فتصير كالمندورة أو إذا قضى أجزأه القضاء عن الحجة الواجبة لا نعلم فيه خلافا. الرابع: أن الهدي يلزم من فاته الحج في أصح الروايتين وهو قول من سمينا من الصحابة في الفصل الثاني. والرواية الأخرى لا هدي عليه؛ لأنه لو كان الفوات سببا لوجوب الهدي للزم المحصر هديان للفوات والاحصار ولنا قول الصحابة وحديث عطاء, ولأنه تحلل من إحرامه قبل إتمامه فلزمه الهدي كالمحصر, والمحصر لم يف حجه ويخرج الهدي في سنة القضاء نص عليه, والحجة فيه حديث عمر المذكور في الفصل الثاني.
مسألة: "وإن أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك"؛ لأنه لا يؤمر مثل ذلك في القضاء فيشق. "وإن فعل ذلك نفر منهم فقد فاتهم الحج" لتفريطهم, وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال لهبار: ما حبسك؟ قال: كنت أحسب أن اليوم عرفة فلم يعذره بذلك.
مسألة: "ويستحب لمن حج زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه رضي الله عنهما". قال أحمد في رواية عبد الله عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم علي عند قبري إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" 1.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الحج: حديث رقم 2041. وأحمد في المسند 2/527.(1/196)
باب الهدي و الأضحية
...
باب الهدي والأضحية
والهدي والأضحية سنة لا تجب إلا بالنذر والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها, والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم ويستحب استحسانها واستسمانها, ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني مما سواه وثني المعز ما له سنة وثني
ـــــــ
باب الهدي والأضحية
مسألة: "والهدي والأضحية سنة", لأن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى في حجته مائة بدنة وضحى بكبشين أملحين موجوءين ذبحهما بيده, وقال: "اللهم هذا منك ولك". واضعا قدمه على صفاحهما1.
مسألة: "ولا يجب" الهدي والأضحية "إلا بالنذر" فيقول: لله علي أن أذبح هذا الهدي أو هذه الأضحية وإن قال: هذا نذر لله وجب لأن لفظه يقتضي الإيجاب فأشبه لفظ الوقوف, ولا يجب بسوقه مع نيته كما لا تجب الصدقة بالمال بخروجه به.
مسألة: "والتضحية أفضل من الصدقة بثمنها"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنة ولا يفعل إلا الأفضل.
مسألة: "والأفضل فيهما الإبل ثم البقر ثم الغنم" لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة". متفق عليه2.
مسألة: "ويستحب استحسانها واستسمانها" لقوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} 3. قال ابن عباس: هو الاستسمان والاستحسان.
مسألة: "ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن" وهو الذي به ستة أشهر "والثني من غيره ومن المعز ما له سنة وثني الإبل ما كمل له خمس سنين ومن البقر ما له سنتان", لما روى ابن ماجه عن أم بلال بنت هلال عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جوز الجذع من الضأن أضحية" 4. وعن عاصم بن كليب عن أبيه قال: كنا مع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الأضاحي: حديث رقم 5558. ومسلم في الأضاحي رقم 17, 18.
2 - رواه البخاري في الجمعة: حديث رقم 881. ومسلم في الجمعة: حديث رقم 10.
3 - آية 32 سورة الحج.
4 - رواه ابن ماجه في الأضاحي: حديث رقم 3139. وأحمد في المسند 6/368.(1/197)
الإبل ما كمل له خمس سنين ومن البقر ما له سنتان وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة ولا تجزئ العوراء البين عورها إلا العجفاء التي لا تنقى ولا العرجاء البين ظلعها ولا المريضة البين مرضها ولا العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها وتجزئ الجماء والبتراء والخصي
ـــــــ
فقال له مجاشع من بني سليم: فغرت الغنم فأمر مناديا فنادى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الجذع يوفي بما توفي منه الثنية" 1. وأحكام الهدي والأضاحي سواء قال أبو عبيد الهروي: قال إبراهيم الحربي: إنما يجزئ الجذع من الضأن في الأضاحي لأنه ينزو فيلقح فإذا كان من المعز لم يلقح حتى يصير ثنيا.
مسألة: "وتجزئ الشاة عن واحد والبدنة والبقرة عن سبعة" وروى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن". رواه ابن ماجه2. وعن جابر قال: كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل له: والبقر؟ فقال: وهل هي إلا من البدن3. وأحكام الهدي والأضاحي سواء.
مسألة: "ولا تجزئ العوراء البين عورها ولا العجفاء التي لا تنقى ولا العرجاء البين ظلعها ولا المريضة البين مرضها". قال البراء بن عازب: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين عرجها والكبيرة التي لا تنقى" 4.
مسألة: "ولا تجزئ العضباء التي ذهب أكثر قرنها أو أذنها"؛ لما روي عن علي رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يضحي بأعضب الأذن والقرن. قال قتادة: فسألت سعيد بن المسيب فقال: نعم العضب النصف فأكثر من ذلك رواه النسائي5.
مسألة: "وتجزئ الجماء والبتراء والخصي وما شقت أذنها أو خرقت أو قطع أقل من نصفها" والأبتر المقطوع الذنب؛ لأن ذلك ليس بمقصود, والجماء التي لم يخلق لها قرن فتجزئ لأن القرن غير مقصود ويجزئ الخصي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأضاحي: حديث رقم 2799. والنسائي في الأضاحي: 12- باب المسنة والجذعة: حديث رقم 6. وابن ماجه في الأضاحي: حديث رقم 3140. وأحمد في المسند 5/368.
2 - رواه ابن في الأضاحي: حديث رقم 1341.
3 - ومسلم في الحج: حديث رقم 350, 351, 352.
4 - رواه الترمذي بنحوه في: الأضاحي: حديث رقم 1497. وقال: حسن صحيح.
5 - رواه النسائي في: الأضاحي: 11- باب العضباء: حديث رقم 1.(1/198)
وما شقت أذنها أو خرقت أو قطع أقل من نصفها, والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى, وذبح البقر والغنم على صفاحها. ويقول عند ذلك: بسم الله والله أكبر, اللهم هذا منك ولك, ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل. ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد إلى آخر يومين من أيام التشريق.
ـــــــ
أقرنين موجوءين والموجوء الذي رضت خصيتاه أو قطعتا, ولا فرق بينهما لأن المرضوض كالمقطوع ولأن ذلك العضو غير مستطاب, وذهابه يؤثر في سمنه وكثرة اللحم وطيبه لانعلم فيه خلافا.
مسألة: وتجزئ ما شقت أذنها بالكي أو خرقت أو قطع أقل من نصفها؛ لأنه يسير ولا يمكن التحرز منه لا نعلم فيه خلافا.
مسألة: "والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى"؛ لقوله سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} 1. وقال زياد بن جبير: رأيت ابن عمر أتى على رجل أناخ بدنته ينحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم. متفق عليه2.
مسألة: "وذبح البقر والغنم" لأن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علينا بلحم بقر فقلت ما هذا؟ فقيل: ذبح النبي صلى الله عليه وسلم عن أزواجه. رواه البخاري. وقال أنس: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما. متفق عليه3. ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة وأعطى عليا فنحر ما غبر منها.
مسألة: "ويستحب أن يقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك"؛ لما روى أنس قال: ضحى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين ذبحهما بيده وسمى وكبر. متفق عليه4. وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عند أضحيته: "اللهم هذا منك ولك عن محمد وأمته بسم الله والله أكبر". ثم ذبح.
مسألة: "ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم" لأنها قربة, "وإن ذبحها صاحبها فهو أفضل" لحديث أنس.
مسألة: "ووقت الذبح يوم العيد بعد صلاة العيد" أو قدرها "إلى آخر يومين من أيام الثشريق"؛ لما روى البراء ابن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا
ـــــــ
1 - آية 36 سورة الحج.
2 - رواه البخاري في: الحج حديث رقم 1713.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه البخاري في: الأضاحي حديث رقم 5565. ومسلم في: الأضاحي: حديث رقم 18.(1/199)
وتتعين الأضحية بقوله هذه أضحية, والهدي بقوله هذا هدي وإشعاره وتقليده مع النية, ولا يعطى الجزار بأجرته شيئا منها والسنة أن يأكل ثلث أضحيته ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها, وإن أكل أكثر جاز وله أن ينتفع بجلدها ولا يبيعه ولا شيئا منها
ـــــــ
فقد أصاب النسك ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى". متفق عليه1. هذا في حق أهل المصر فأما غيرهم فبقدر الصلاة والخطبة؛ لأنه تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة فاعتبر قدرها وآخر وقتها آخر اليومين الأولين من أيام التشريق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث. متفق عليه2. فوجه الحجة أنه من الزيادة على ثلاث ولا ينبغي أن ينهى عن الادخار في زمن التضحية فلو جازت التضحية في اليوم الرابع كان ناهيا عن إمساك اللحم في يوم يحل إمساك اللحم وأكله فيه.
مسألة: "وتتعين الأضحية بقول هذه أضحية" أو هذا لله ونحوه من القول ولا يحصل ذلك بالشراء مع النية؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم تؤثر فيها النية المقارنة للشراء كالوقف والعتق. وكذلك الهدي ويتعين بـ "إشعاره أو تقليده مع النية", كما لو أذن على باب بيته وأذن بالصلاة فيه.
مسألة: "ولا يعطى الجزار بأجرته شيئا منها" لما روي عن علي رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر منها شيئا. وقال: "نحن نعطيه من عندنا" . متفق عليه"3.
مسألة: "والسنة أن يأكل" من "أضحيته" ثلثها "ويهدي ثلثها ويتصدق بثلثها" لما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأضحية قال: "ويطعم أهل بيته الثلث ويطعم فقراء جيرانه الثلث ويتصدق على السؤال بالثلث". قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن. وقال ابن عمر: الضحايا والهدايا ثلث لك وثلث لأهلك وثلث للمساكين. "وإن أكل أكثر جاز"؛ لأنها سنة غير واجبة.
مسألة: "وله أن ينتفع بجلدها" ويصنع منه النعال والخفاف والفراء والأسقية ويدخر منها؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوها ما بدا لكم". رواه مسلم4؛ ولأن الجلد جزء من الأضحية فجاز الانتفاع به.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في العيدين: حديث رقم 985. ومسلم في الأضاحي: حديث رقم 1.
2 - رواه البخاري في الأضاحي: حديث رقم 5570. ومسلم في الأضاحي حديث رقم 24, 25, 26, 27.
3 - رواه البخاري في الحج: حديث رقم 1716. ومسلم في الحج: حديث رقم 348.
4 - رواه مسلم في الأضاحي: حديث رقم 37.(1/200)
فأما الهدي إن كان تطوعا استحب له الأكل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جزور ببضعة فطبخت فأكل من لحمها وحسا من مرقها, ولا يأكل من واجب إلا من هدي المتعة والقران.
ـــــــ
كاللحم "ولا يبيع جلدها"؛ لأنه لا يجوز بيع شيء منها والجلد جزء منها
مسألة: "ولا" يجوز أن يبيع "شيئا منها" لأنه لا يجوز أن يعطي الجازر بأجرته شيئا منها للخبر, فكذلك لا يجوز أن يبيع شيئا منها.
مسألة: "فأما الهدي إن كان تطوعا استحب له الأكل منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جزور ببضعة فطبخت وأكل من لحمها وحسا من مرقها" في حديث جابر1.
مسألة: "ولا يأكل من واجب إلا من هدي التمتع والقران"؛ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن متمتعات إلا عائشة فإنها كانت قارنة لإدخالها الحج على العمرة، وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة. قالت: فدخل علينا لحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل: ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه, ولأنه دم نسك فجاز الأكل منه كالأضحية, ولا يجوز الأكل من واجب سواها؛ لأنه كفارة فلم يجز الأكل منه ككفارة اليمين. وعنه له الأكل من الجميع إلا المنذور وجزاء الصيد وروت أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي". رواه مسلم2.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: الأضاحي: حديث رقم 3158. قال في الزوائد: رجال إسناده ثقات. وأحمد في المسند 1/260 و 305 و314.
2 - رواه مسلم في الأضاحي: حديث رقم 39, و 40 و 41 و 42.(1/201)
باب العقيقة
وهي سنة عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة تذبح يوم سابعه ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقا, فإن فات يوم سابعه ففي أربعة عشر فإن فات ففي أحد وعشرين
ـــــــ
باب العقيقة
مسألة: هي الذبيحة عن المولود "وهي سنة", لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل غلام رهينة بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه ويسمى ويحلق رأسه". رواه أبو داود1 عن
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأضاحي: حديث رقم 2838.(1/201)
وينزعها أعضاء ولا يكسر لها عظما وحكمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك
ـــــــ
الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة" لما روت أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة". رواه أبو داود1. وقالت عائشة: السنة شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة تطبخ جدولا ولا يكسر عظمها ويأكل ويطعم ويتصدق وذلك في اليوم السابع, "ويحلق رأسه ويتصدق بوزنه ورقا"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين رضي الله عنهما بكبش كبش وأنه تصدق بوزن شعرهما ورقا. رواه سعيد "فإن فات ففي أربعة عشر فإن فات ففي أحد وعشرين"؛ لما روى بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة: "تذبح لسبع ولأربع عشرة ولإحدى وعشرين". أخرجه الحسين بن يحيى بن عباس القطان.
مسألة: "وينزعها أعضاء ولا يكسر لها عظما" لحديث عائشة تفاؤلا بسلامة أعضائه, "وحكمها حكم الأضحية فيما سوى ذلك" قياسا عليها.
ـــــــ
1 - المصدر عاليه: حديث رقم 2834.(1/202)
كتاب البيوع
مدخل
...
كتاب البيوع
قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} والبيع معاوضة المال بالمال ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب فإنه لا يجوز بيعه ولا غرم على متلفه لأن
ـــــــ
كتاب البيوع
مسألة: قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} والبيع معاوضة المال بالمال" لغرض التملك.
مسألة: "ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح" ويشثرط لصحة البيع أن يكون المبيع مملوكا لبائعه أو مأذونا له فيه فإن باع ملك غيره بغير إذنه لم يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك". رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حديث صحيح1. يعني: ما لا تملك لأنه ذكره جوابا له حين سأله أن يببع الشيء ثم يمضي ويشتريه ويسلمه, ولاتفاقنا على صحة بيع ماله الغائب عنه؛ ولأنه عقد على ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء, وعنه يصح ويقف على إجارة المالك؛ لما روى عروة بن الجعد البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به شاة فاشترى به شاتين, ثم باع إحداهما بدينار في الطريق. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار والشاة وأخبرته. فقال: "بارك الله لك في صفقة يمينك". رواه الأثرم وابن ماجه؛ ولأنه عقد له مخير حال وقوعه فيجب أن يقف على إجازته كالوصية فيما زاد على الثلث لأجنبي, والصحيح الأول وحديث عروة محمول على أنه كانت وكالته مطلقة بدليل أنه سلم وتسلم وليس ذلك لغير المالك باتفاق, وأما الوصية فيتأخر فيها القبول عن الإيجاب ولا يعتبر أن يكون له تخير حال وقوع العقد ويجوز فيها من الغرر ما لا يجوز في البيع فافترقا. وقوله: "فيه نفع مباح" احتراز عما فيه نفع محرم كآلات اللهو فإنه لا يجوز بيعها لأنها محرمة.
مسألة: "إلا الكلب فإنه لا يجوز بيعه" وإن كان معلما لما روى أبو مسعود
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1232. وابن ماجه في التجارات: حديث رقم 2187.(1/203)
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب. ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالكه أو ولاية عليه ولا بيع ما لا نفع فيه كالحشرات, ولا ما نفعه محرم كالخمر والميتة, ولا بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته, أو مجهول كالحمل والغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته ولا معجوز عن تسليمه كالآبق والشارد والطير في الهواء والسمك في الماء, ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه أو من يقدر على أخذه منه, ولا بيع غير معين كعبد من عبيده أو شاة من قطيعه إلا فيما تتساوى أجزاؤه كقفيز من صبرة
ـــــــ
الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وقال: "ثمن الكلب خبيث". متفق عليه1. "ولا غرم على متلفه" لذلك ولأنه لا قيمة له.
مسألة: "ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالكه أو ولاية عليه" لما سبق من حديث حكيم بن حزام.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع ما لا نفع فيه كالحشرات" لأنه لا قيمة لها وهي محرمة أشبهت الميتة.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع ما نفعه محرم كالخمر والميتة" لقوله عليه السلام: "إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه". وفي حديث جابر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". متفق عليه2.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته" لأنه مجهول غير مقدور على تسليمه ولا يجوز بيع "المجهول كالحمل" لجهالته.
مسألة: "ولا" يجوز بيع "الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته" لجهالته "و" لا بيع "معجوز عن تسليمه كالآبق والطير في الهواء والسمك في الماء"؛ لأن القدرة على التسليم شرط في صحة البيع ولم يوجد.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع المغصوب" لذلك "إلا لغاصبه أو لمن يقدر على أخذه منه" لأنه يقدر على تسليمه.
مسألة: "ولا" يجوز "بيع غير معين كعبد من عبيده أو شاة من قطيعه" لجهالته فإن
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2237. ومسلم في المساقاة: حديث رقم 40.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2236. ومسلم في المساقاة: حديث رقم 71.(1/204)
فصل
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة وعن المنابذة وعن بيع الحصاة وعن بيع الرجل على بيع أخيه وعن بيع حاضر لباد وهو أن يكون له سمسارا,
ـــــــ
تساوت أجزاؤه كقفيز من صبرة معينة صح" لأنه يصير معلوما.
فصل: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة" في المتفق عليه لا نعلم خلافا بين أهل العلم في فساد هذين البيعين, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن الملامسة والمنابذة". متفق عليه1. والملامسة أن يبيعه شيئا ولا يشاهده على أنه متى لمسه وقع البيع, والمنابذة أن يقول أي ثوب نبذته إلي فقد اشتريته, وفي البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه, ونهى عن الملامسة والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه2 وعلة المنع من ذلك كون المبيع مجهولا لا يعلم.
مسألة: "ونهى عن بيع الحصاة" فروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحصاة3 واختلف في تفسيره فقيل: هو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا, وقيل: هو أن يقول بعتك من هذه الضيعة مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا, وقيل: هو أن يبيعه شيئا فإذا رمى بالحصاة فقد وجب البيع, والعلة في فساد ذلك ما فيه من الغرر والجهالة ولا نعلم في فساده خلافا.
مسألة: "و" نهى "عن بيع الرجل على بيع أخيه" لقوله عليه السلام: "لا يبع بعضكم على بيع بعض" 4. ومعناه أن الرجلين إذا تبايعا فجاء آخر إلى المشتري فقال: أنا أبيعك مثل هذه السلعة بدون الثمن الذي اشتريت به أو قال: أبيعك خيرا منها بثمنها أو عرض عليه سلعة أخرى حسب ما ذكره, فهذا غير جائز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه لما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه, فيكون حراما فإن خالف وعقد البيع فالبيع باطل؛ لأنه نهى عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
مسألة: "و" نهى أن يبيع "حاضر لباد" والبادي هاهنا هو من يدخل البلدة من غير أهلها, سواء كان بدويا أو من قرية أو بلدة أخرى قال ابن عباس: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2146. ومسلم في البيوع: حديث رقم 1, 3.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2144.
3 - ومسلم في البيوع: حديث رقم 4.
4 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2139.(1/205)
وعن النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها, وعن بيعتين في بيعة, وهو
ـــــــ
تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد قال: فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون له سمسارا, متفق عليه1. وروى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه: "لا يبع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" 2. والمعنى في ذلك أنه متى ترك البدوي يبيع سلعته اشتراها الناس برخص وتوسع عليهم السعر,فإذا تولى الحاضر بيعها وامتنع أن يبيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل البلد فيضر بهم, فنهى عنه صلى الله عليه وسلم, وعنه يصح وأن النهى اختص بأول الإسلام لما عليهم من الضيق في ذلك, والأول المذهب لعموم النهي, وما ثبت في حق الصحابة ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل.
فصل: ويشترط لعدم الصحة خمسة شروط: أن يحضر البدوي لبيع سلعته بسعر يومها جاهلا سعرها ويقصده الحاضر وبالناس حاجة إليها,وإنما اشترط ذلك لأن النهي معلل بالضرر الحاصل من الضيق على أهل المصر وإغلاء أسعارهم,ولهذا قال عليه السلام: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض" ولا يحصل الضرر إلا باجتماع الشروط الخمسة: أحدها: أن يحضر البادي لبيع سلعته فأما إن جاء بها ليأكلها أو يخزنها أو يهديها فليس في بيع الحاضر له تضييق, بل فيه توسعة. الثاني: أن يحضر ليبيعها بسعر يومها فأما إن أحضرها وفي نفسه أن لا يبيعها رخيصة فليس في بيعه له تضييق. الثالث: أن يقصده الحاضر فإن كان هو القاصد للحاضر جاز لأن التضييق حصل منه لا من الحاضر فأشبه ما لو امتنع هو من بيعها إلا بسعر غال. الرابع: أن يكون جاهلا بسعرها فإن كان عالما بسعرها لم تحصل التوسعة بتركه بيعها؛ لأن الظاهر أنه لا يبيعها إلا بسعرها. الخامس: أن يكون بالناس حاجة إلى سلعته كالأقوات ونحوها؛ لأن ذلك هو الذي يعم الضرر بغلو سعره.
مسألة: "و" نهى "عن النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها" ليقتدي به من يريد شراءها يظن أنه لم يزد فيها هذا القدر إلا وهي تساويه فيغتر بذلك, فهذا خداع وهو حرام. وقد ررى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النجش. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الركبان ولا يبع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا يبع حاضر لباد". متفق عليهما3.
مسألة: "و" نهى "عن بيعتين في بيعة وهو أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2162, 2163. ومسلم في البيوع: حديث رقم 11, 12, 18, 19.
2 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 20.
3 -سبق تخريجه.(1/206)
أن يقول: بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة, أو يقول بعتك هذا على أن تبيعني هذا أو تشتري مني هذا. وقال: "لا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق". وقال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه"
ـــــــ
عشرين مكسرة" أو بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة, فهذا لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة. حديث صحيح1, وهو هذا ويحتمل أن يصح بناء على قوله في الإجارة: إن خطته روميا فلك نصف درهم وإن خطته فارسيا فلك درهم فإن فيها وجهين.
مسألة: "وقال" عليه السلام: "لا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق". رواه البخاري2. وروي أنهم كانوا يتلقون الأجلاب فيشترون منهم الأمتعة قبل أن يهبط بها الأسواق, فربما غبنوهم غبنا بينا فيضروا بهم وربما أضروا بأهل البلد؛ لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم وهؤلاء الذين يتلقونهم لا يبيعون سريعا ويتربصون به السعر فهو في معنى بيع الحاضر للبادي, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك, وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد". وعن أبي هريرة. مثله متفق عليهما3. فإن خالف وتلقى الركبان واشترى منهم فالبيع صحيح؛ لأن في حديث أبي هربرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلقوا الجلب فمن تلقاه واشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار". هكذا رواه مسلم4. والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح؛ ولأن النهي لا لمعنى في البيع بل يعود إلى ضرب من الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار فأشبه بيع المصراة.
مسألة: "وقال" عليه السلام: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" وروى ابن عمر قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يؤوه إلى رحالهم, وقال عليه السلام: "من اشرى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه". متفق عليهما5, ولمسلم عن ابن عمر كنا نشتري من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه6. [قال ابن المنذر:] وأجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاما فليس له أن يبيعه حتى يستوفيه.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1231. وقال: حسن صحيح.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2165.
3 - سبق تخريجه وأما حديث أبي هريرة فرواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2162. ومسلم في البيوع: حديث رقم 18.
4 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 17.
5 - الأول: رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2131. ومسلم في البيوع: حديث رقم 38. والثاني: رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2132. ومسلم في البيوع: حديث رقم 29.
6 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 37.(1/207)
باب الربا
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثل بمثل سواء بسواء فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى". ولا يجوز بيع مطعوم - مكيل أو موزون- بجنسه إلا مثالا بمثل
ـــــــ
باب الربا
وهو في اللغة الزيادة قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 1, وقال سبحانه وتعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} 2 أي أكثر عددا, ويقال: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه, وهو في الشرع الزيادة في أشياء مخصوصة وهو محرم بقوله سبحانه: {وَحَرَّمَ الرِّبا} 3. وقال عليه السلام: "اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". وقال عليه الصلاة والسلام: "لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه". متفق عليهما4. وأجمعت الأمة على أن الربا محرم والأعيان المنصوصة على الربا فيها ستة وهي: "في حديث عبادة بن الصامت" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل والتمر بالتمر مثلا بمثل والبر بالبر مثلا بمثل والشعير بالشعير مثلا بمثل والملح بالملح مثلا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد". رواه مسلم5.
مسألة: "ولا يجوز بيع مطعوم -مكيل أو موزون- بجنسه إلا مثلا بمثل"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل". رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله6, والمماثلة المعتبرة في الشرع هي المماثلة في الكيل والوزن فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن ولا يحرم فيما لا يطعم كالأشنان والحديد ولا فيما لا يكال
ـــــــ
1 - آية 5 سورة الحج.
2 - آية 92 سورة النحل.
3 - آية 275سورة البقرة.
4 - الأول: رواه البخاري في الوصايا: حديث رقم 2766. ومسلم في الإيمان: حديث رقم 144. والثاني: رواه البخاري.
5 - رواه مسلم في المساقاة: حديث رقم 80.
6 - المصدر عاليه: حديث رقم 93.(1/208)
ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزنا ولا موزون كيلا, وإن اختلف
ـــــــ
كالبطيخ والرمان وهي إحدى الروايات في علة الربا عن أحمد رحمه الله فعلى هذه تكون علة الربا في الذهب والفضة الثمنية؛ لأنها وصف شرف فيصلح التعليل بها كالطعام, والرواية الأخرى أن العلة في الذهب والفضة الوزن والجنس, وفي غيرهما الكيل والجنس. لما روي عن عمار أنه قال: العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين فما كان يدا بيد فلا بأس إنما الربا في النسا إلا ما كيل أو وزن. وروى الإمام أحمد في المسند عن أبي حبان عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين, فإني أخاف عليكم الربا وهو الربا" . فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل, فقال: "لا بأس إن كان يدا بيد". ولأن قضية البيع المساواة والمؤثر في تحققها الكيل والوزن والجنس, فإن الكيل يسوي بينهما صورة والجنس يسوي بينهما معنى فكانا علة, ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فإنه جائز إذا تساويا في الكيل, ولو كانت العلة في الطعم لجرى الربا في الماء لكونه مطعوما. قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي}. والرواية الثالثة: أن العلة فيما عدا الأثمان كونه مأكول الجنس فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها, والعلة في الذهب والفضة: الثمنية وهو مذهب الشافعي فيختص الذهب والفضة, ودليله حديث معمر وقد سبق ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان, والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال, فيقتضي التعليل بهما ولأنه لو كانت العلة في الأثمان: الوزن؛ لما جاز إسلامهما في الموزونات؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النسا. إذا ثبت هذا فعلى الرواية الأولى متى اجتمع الطعم والجنس والكيل والوزن حرم الربا رواية واحدة, وما وجد فيه أحد الوصفين: الطعم والكيل, أو الوزن واتحد جنسه ففيه روايتان واختلاف بين أهل العلم كالأشنان والحديد والرصاص والبطيخ والرمان, ولا فرق في المأكولات بين ما يؤكل قوتا أو تفكها كالفواكه, أو تداويا كالإهليلج فإن الكل واحد في باب الربا, والله أعلم.
مسألة: "ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بجنسه وزنا ولا موزون كيلا" قد سبق أن قضية البيع المساواة, والمساواة المرعية في الشرع هي المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا, فإذا تحققت المساواة في ذلك لم يضر اختلافها فيما سواه, وإن لم توجد المساواة في ذلك لم يصح البيع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن والبر بالبر كيلا بكيلا". رواه الأثرم في حديث عبادة؛ ولأبي داود ولفظه: "البر بالبر مدا بمد والشعير بالشعير مدا بمد فمن زاد أو ازداد فقد أربى" 1. فأمر بالمساواة في الموزونات
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3349.(1/209)
الجنسان جاز بيعه كيف شاء يدا بيد, ولم يجز النسا فيه, ولا التفرق قبل القبض
ـــــــ
المذكورة في الوزن وأمر بالمساواة في المكيلات في الكيل؛ ولأن حقيقة الفضل مبطلة للبيع والمساواة مشترطة فيجب العلم بوجود الشرط, فلا يجوز بيع المكيل بالمكيل وزنا لأن تماثلهما في الكيل شرط, فمتى باع رطلا خفيفا منه برطل ثقيل حصل في كفة الخفيف أكثر مما في كفة الثقيل فربما حصل في رطل حنطة ثقيلة ثلثا مد ويحصل في رطل الخفيفة مد فيفوت التساوي المشترط, ولا يجوز بيع الموزون بالموزون كيلا لإفضائه إلى التفاضل على مثل ما ذكرنا في الكيل.
مسألة: "وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يدا بيد" يعني يجوز بيعه كيلا ووزنا وجزافا, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأعيان الستة: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد". رواه أبو داود1.
مسألة: "ولم يجز النسا فيه" لذلك. وفي لفظ أبي داود: "لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا" 2. فما اتحدت عليه ربا الفضل فيهما كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون عند من يعلل بهما والمطعوم عند من يعلل به, فهذا لا خلاف بين أهل العلم في تحريم النسا فيهما, وما اختلفت علتاهما كالمكيل بالموزون ففيه روايتان عن أحمد إحداهما لا يجوز النسا فيهما بالقياس على ما اتفقت علتهما, والرواية الثانية: يجوز لأنه لم يجتمع فيهما أحد وصفي علة الربا أشبها الثياب بالحيوان, ويخرج من القسمين إذا كان أحد العوضين ثمنا والآخر من غير ثمن فإنه يجوز النسا فيهما بغير خلاف؛ لأن الشرع رخص في السلم, والأصل في رأس المال السلم النقدان, فلو قلنا لا يجوز انسد باب السلم في الموزونات على ما عليه الأصل الغالب فأثرت رخصة الشرع في التجويز.
مسألة: "ولا يجوز النسا فيه ولا التفرق قبل القبض" لقوله صلى الله عليه وسلم: "يدا بيد" فيحتمل أنه أراد به القبض وعبر باليد عن القبض, ويحتمل أنه أراد به الحلول وترك النسيئة؛ لأننا لو اشترطنا القبض في جميع ما يحرم فيه النسا لم يبق فيه ربا نسيئة لكون العقد يفسد بترك التقابض, والإجماع منعقد على أن من أنواع الربا: ربا النسيئة. قال أبو الخطاب: ما اتفقت علتهما كالحنطة بالشعير والذهب بالفضة لم يجز التفرق فيهما قبل القبض وإن فعلا بطل العقد, وما اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون جاز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة. قال شيخنا: وهذا ينبغي أن يكون في غير المطعوم, فأما المطعوم فإن فيه رواية لأن الربا
ـــــــ
1 - المصدر عاليه: حديث رقم 3350.
2 - سبق تخريجه.(1/210)
إلا في الثمن بالمثمن, وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد, إلا أن يكونا من أصلين مختلفين فإن فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها كالأدقة والأدهان, ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه, ولا خالصه بمشوبه ولا نيئه بمطبوخه
ـــــــ
يجري فيه فعلى هذه لا يجوز التفرق فيه قبل القبض أيضا وعلى الرواية الأخرى يجوز.
مسألة: "إلا في الثمن بالمثمن" يعني فإنه يجوز التفرق فيه قبل القبض والنسا لما سبق.
مسألة: "وكل شيئين جمعهما اسم خاص" من أصل الخلقة "فهما جنس واحد" يشمل أنواعا كالذهب والفضة والبر والشعير والتمر والملح, فإذا اتفق شيئان في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما في واحد, كأنواع التمر والبر وإن اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان كالستة المذكورة في الخبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الزيادة فيها إذا بيع منها شيء بما يوافقه في الاسم, وأباحها إذا بيع بما يخالفه في الاسم, فدل على أن ما اتفقا في الاسم جنس وما اختلفا فيه جنسان.
مسألة: "إلا أن يكونا من أصلين مختلفين فإن فروع الأجناس أجناس" تعتبر بأصولها فما أصله جنس واحد فهو جنس واحد وإن اختلفت أسماؤه, وما أصله أجناس فهو أجناس "وإن اتفقت أسماؤه" فدقيق الحنطة والشعير جنسان, وكذا خل العنب وخل التمر جنسان, وكذلك اللبن. وعنه أنهما جنس واحد والأول أصح؛ لأنهما فرعا أصلين مختلفين فكانا جنسين "كالأدقة "
مسألة: "ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع التمر بالتمر, متفق عليه. وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم: سأل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس"؟. فقالوا: نعم, فنهى عن ذلك. أخرجه أبو داود1. فنهى وعلل بأنه ينقص عن يابسه فدل على أن رطبه يحرم بيعه بيابسه.
مسألة: "ولا" يجوز بيع "خالصه بمشوبه" كحنطة فيها شعير أو زوان بخالصة أو غير خالصة أو لبن مشوب بخالص أو مشوب أو عسل في شمعه بمثله, إلا أن يكون الخلط يسيرا لا وقع له كيسير التراب والزوان ودقيق التراب الذي لا يظهر في الكيل؛ لأنه لا يخل بالتماثل ولا يمكن التحرز منه.
مسألة: "ولا" يجوز بيع "نيئه بمطبوخه" لأن النار تذهب برطوبته وتعقد أجزاءه فيمتنع تساويهما.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3359.(1/211)
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة وهو شراء التمر في رؤوس النخل, ورخص في بيع العرايا -فيما دون خمسة أوسق- أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا.
ـــــــ
مسألة: "ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة: وهو اشتراء التمر بالتمر في رؤوس النخل" فروى جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة. متفق عليه1. والمحاقلة: بيع الحب في سنبله بجنسه. وروى البخاري عن أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمخاضرة2: وهو بيع الزرع الأخضر والثمرة قبل بدو صلاحها من غير شرط القطع, وقيل المحاقلة استكراء الأرض بالحنطة.
مسألة: "ورخص" رسول الله صلى الله عليه وسلم "في بيع العرايا -فيما دون خمسة أوسق- أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا", فروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا في خمسة أوسق. متفق عليه3. وإنما يجوز بشروط خمسة: أحدها أن يكون دون خمسة أوسق, وعنه يجوز في الخمسة, والمذهب الأول؛ لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر دون الخمسة بالخبر والخمسة مشكوك فيها فرد إلى الأصل. الثاني: أن يكون مشتريها محتاجا إلى أكلها رطبا؛ لما روى محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار: شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطبا يأكلونه وعندهم فضول من التمر؛ فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاعوا العرية بخرصها من التمر يأكلونه رطبا. متفق عليه. والرخصة الثابتة لحاجة لا تثبت مع عدمها. الثالث: أن لا يكون له نقد يشتري به للخبر. الرابع: أن يشتريها بخرصها للخبر ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلا. متفق عليه4. ولا بد أن يكون التمر معلوما بالكيل للخبر, وفي معنى الخرص روايتان إحداهما: أن ينظر كم يجيء منها تمرا فيبيعها بمثله, لأنه يخرص في الزكاة كذلك. والثانية: يبيعها بمثل ما فيها من الرطب؛ لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل وإذا خولف الدليل في أحدهما وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب. الخامس: أن يتقابضا قبل تفرقهما لأنه بيع تمر بتمر فاعتبرت فيه أحكامه إلا ما استثناه الشرع, والقبض فيها على النخل بالتخلية وفي التمر باكتياله فإن كان حاضرا في مجلس البيع اكتاله وإن كان غائبا مشى إلى التمر فتسلمه, وإن قبضه أولا ثم مشى إلى النخلة فتسلمها جاز, واشترط الخرقي كون النخلة موهوبة لبائعها لأن العرية اسم لذلك واشترط القاضي وأبو بكر حاجة البائع إلى بيعها وحديث زيد ابن ثابت يرد ذلك مع أن اشتراطه يبطل الرخصة إذ لا تتفق الحاجتان مع سائر الشروط فتذهب الرخصة, فعلى قولنا يجوز لرجلين شراء عريتين من واحد, وعلى قولهما لا يجوز إلا أن ينقصا بمجموعهما عن خمسة أوسق.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2186. ومسلم في البيوع: حديث رقم 59.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2207.
3 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2173. ومسلم في البيوع: حديث رقم 57.
4 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2188, ومسلم في البيوع: حديث رقم 59.(1/212)
باب بيع الأصول و الثمار
...
باب بيع الأصول والثمار
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع". وكذلك بيع الشجر إذا كان ثمره باديا. فإن باع الأرض وفيها زرع لا
ـــــــ
باب بيع الأصول والثمار
مسألة: "و" "من باع نخلا مؤبرا فالثمر للبائع" متروكا في النخل إلى الجذاذ "إلا أن يشترطه المبتاع" . قال ابن عبد البر: الإبار عند أهل العلم التلقيح. وقيل: التأبير ظهور الثمرة من جف الطلع, والأول أشهر؛ لأن الحكم متعلق بنفس الظهور دون نفس التلقيح بغير اختلاف بين العلماء, فمتى ظهرت الثمرة فهي للبائع وإن لم تظهر فهي للمشتري؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطها المبتاع". رواه البخاري ومسلم. ولفظه: "قد أبرت "1.
مسألة: "وكذلك بيع الشجر إذا كان ثمره باديا", والشجر على خمسة أضرب: "الأول": ما تكون ثمرته في أكمامها لم يفتح الكمام فتظهر: كالنخل, وقد سبق بيان حكمه وهو الأصل الذي وردت السنة ببيان حكمه وما عداه مقيس عليه, ومن هذا الضرب القطن وما يقصد نوره كالورد والياسمين والنرجس والبنفسج فإنه يظهر في أكمامه ثم يفتح كمامه فيظهر فهو كالطلع أن يفتح جنبذه فيظهر نوره فهو للبائع, وإن لم يظهر فهو للمشتري قياسا على النخل. "الضرب الثاني": ما له ثمرة بارزة كالجميز والتوت والتين فما كان منه ظاهرا فهو للبائع؛ لأنها ثمرة ظاهرة فهي كالطلع المؤبر وما ظهر بعد العقد فهو للمشتري؛ لأنه حدث في ملكه. "الثالث": ما له قشر لا يزول إلا عند الأكل كالرمان والموز فهو للبائع إن كان ظهر؛ لأن قشره في مصلحته فهو كأجزاء الثمرة. "الرابع":ما له قشران كاللوز والجوز فهذا للبائع بنفس الظهور لأن قشره لا يزال في الغالب إلا بعد جذاذه فهو كالرمان. وقال بعض أصحابنا: إن تشقق قشره الأعلى فهو للبائع وإلا فهو للمشتري؛ لأنه لا يدر في قشره الأعلى بخلاف الرمان. "الخامس" ما تظهر ثمرته في نوره ثم يتناثر نوره كالعنب والمشمش والتفاح فكان كتأبير النخل ويحتمل أنه للبائع بظهور نوره؛ لأن استتار الثمرة بالنور كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض. "السادس" ما يقصد ورقه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2204. وسلم في البيوع: حديث رقم 80.(1/213)
يحصد إلا مرة فهو للبائع ما لم يشترطه المبتاع وإن كان يجز مرة بعد أخرى فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع
فصل
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها, ولو باع الثمرة بعد بدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز, فإن أصابتها جائحة رجع بها على البائع لقول
ـــــــ
كالتوت فيحتمل أنه للمشتري بكل حال قياسا على سائر الورق, ويحتمل أنه إن تفتح فهو للبائع وإلا فهو للمشتري لأنه هاهنا كالثمر.
مسألة: "فإن باع الأرض وفيها زرع لا يحصد إلا مرة" كالبر والشعير "فهو للبائع ما لم يشترطه المشتري"؛ لأنه ظاهر فكان للبائع أشبه الثمرة المؤبرة.
مسألة: "وإن كان يجز مرة بعد أخرى" كالرطبة والبقول "فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع" إلا أن يشترطه المبتاع لذلك.
مسألة: "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها" فلو باعها قبل بدو صلاحها لم يجز إلا بشرط القطع؛ لما روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها". متفق عليه1. وفي لفظ: نهى عن بيع الثمار حتى تزهو وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. رواه مسلم2. ولأن في بيعه غررا من غير حاجة فلم يجز كما لو اشترط التبقية وإن باعها بشرط القطع جاز بالإجماع.
مسألة: "ولو باع الثمرة بعد بدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز". قال أبو حنيفة: لا يجوز بشرط التبقية لأنه شرط الانتفاع بملك البائع على وجه لا يقتضيه العقد فلم يجز, كما لو شرط تبقية الطعام في بيته, ولنا أن رسول الله نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها3, فمفهومه أنه أجاز بيعها بعد بدو صلاحها وثبت أنه إنما نهى عن بيع يتضمن التبقية؛ لأنه يجوز بشرط القطع وعنده مطلقا ثبت أن الذي نهى عنه هو الذي أجازه, ولأن النقل والتحويل يجب في المبيع بحكم العرف فإذا اشترطه جاز كما لو اشترط نقل الطعام من ملك البائع حسب الإمكان وفي هذا انفصال عما قاله.
مسألة: "فإن أصابتها جائحة رجع بها على البائع" لما روى جابر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2194. ومسلم في البيوع: حديث رقم 49.
2 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 50.
3 - سبق تخريجه.(1/214)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا لم تأخذ مال أخيك بغير حق"؟ وصلاح ثمر النخل أن يحمر أو يصفر والعنب أن يتموه وسائر الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله.
ـــــــ
قال: "إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنه شيئا, لم تأخذ مال أخيك بغير حق". رواه مسلم والإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه, ولفظهما: "من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا, على ما يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم"1. وهذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه, وروى مسلم عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح2.
مسألة: "وصلاح ثمر النخل أن يحمر أو يصفر والعنب أن يتموه, وسائر الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله" لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب". متفق عليه. و نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو. قيل: وما تزهو؟. قال: "تحمار أو تصفار" . ونهى عن بيع الحب حتى يشتد ونهى عن بيع العنب حتى يسود. رواه الترمذي3.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 14. وأحمد في المسند 3/477, 5/60. وأبو داود في: البيوع: حديث رقم 3470. وابن ماجه في: التجارات: حديث رقم 2219.
2 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 17.
3 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1228.وقال: حسن غريب.(1/215)
باب الخيار
البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد
ـــــــ
باب الخيار
مسألة: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما" لما روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البيعان بالخيار ما لم فرقا" متفق عليه4. و في لفظ: "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فيتبايعا على ذلك فقد وجب البيع". متفق عليه5.
مسألة: "فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع" والتفرق يكون بالأبدان فإن ابن عمر كان يمشي خطوات حتى يلزمه البيع إذا أراد لزومه, ولا خلاف في لزومه بعد
ـــــــ
1 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 14. وأحمد في المسند 3/477, 5/60. وأبو داود في: البيوع: حديث رقم 3470. وابن ماجه في: التجارات: حديث رقم 2219.
2 - رواه مسلم في البيوع: حديث رقم 17.
3 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1228.وقال: حسن غريب.
4 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2107. ومسلم في البيوع: حديث رقم 47.
5 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2112. ومسلم في البيوع: حديث رقم 44.(1/215)
وجب البيع إلا أن يشترط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة فيكونان على شرطهما, وإن طالت المدة إلا أن يقطعاه, وإن وجد أحدهما بما اشتراه عيبا لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب
ـــــــ
التفرق والمرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم؛ لأن الشارع علق عليه حكما ولم يبينه فدل على أنه أبقاه على ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز, فالتفرق العرفي هو التفرق بالأبدان كذلك فسره ابن عمر وتفسيره أولى لأنه راوي الحديث.
مسألة: "إلا أن يشترط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة فيكونان على شرطهما وإن طالت المدة إلا أن يقطعاه"؛ لأنه حق يعتمد الشرط فجاز ذلك فيه كالأجل ولا يجوز مجهولا؛ لأنها مدة ملحقة بالعقد فلم يصح مجهولا كالتأجيل وهل يفسد به العقد؟ على روايتين: إحداهما لا يفسد لحديث بريدة. والثانية يفسد لأنه عقد قارنه شرط فأفسد أشبه نكاح الشغار, وعنه يصح مجهولا لقوله عليه السلام: "المؤمنون على شروطهم". رواه الترمذي وقال: حديث صحيح1. فعلى هذا إذا كان الخيار مطلقا مثل أن يقول: لك الخيار متى شئت أو إلى الأبد أو يقطعاه, وإن قال إلى أن يقوم زيد أو ينزل المطر ثبت الخيار إلى زمن اشتراطه أو يقطعاه قبله.
مسألة: "وإن وجد أحدهما بما اشترى عيبا لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب" والعيب كالمرض أو ذهاب جارحة أو سن وفي الرقيق من فعله كالزنا والسرقة والإباق, فمن اشترى معيبا لم يعلمه فله الخيار بين الرد وأخذ الثمن؛ لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له فثبت له الرجوع في الثمن كما في المصراة, وبين الإمساك وأخذ الأرش لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن, فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله كما لو تلف في يده.
"فصل" ومعنى الأرش أن ينظر ما بين قيمته سليما ومعيبا فيؤخذ قدره من الثمن فإذا نقصه العيب عشر قيمته فأرشه عشر ثمنه؛ لأن ذلك هو المقابل للجزء الفائت مثاله: أن يكون قد اشترى منه سلعة بخمسة عشر فيظهر فيها عيب فتقوم صحيحة بعشرة ومعيبة بتسعة فقد نقصها العيب عشر قيمتها فيرجع المشتري على البائع بعشر الثمن دينار ونصف, وحكمة ذلك أن المبيع مضمون على المشتري بالثمن ففوات جزء من المبيع يسقط عنه ضمان ما قابله من الثمن أيضا؛ ولأننا لو ضمناه نقصان القيمة أفضى إلى أن يجمع المشتري الثمن والمثمن وهو أن تكون قيمة المبيع عشرة وقد اشتراه بخمسة ويكون العيب ينقصه
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الأحكام: حديث رقم 1352.(1/216)
وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له لأن الخراج بالضمان وإن تلفت السلعة أو عتق العبد أو تعذر رده فله أرش العيب, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها
ـــــــ
نصف قيمته وذلك خمسة فيرجع بها فهذا ضمناه بما ذكرناه.
مسألة: "وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له"؛ لما روت عائشة أن رجلا ابتاع غلاما فاستعمله ما شاء الله ثم وجد به عيبا فرده, فقال: يا رسول الله إنه استعمل غلامي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان". رواه أبو داود. وعنه ليس له رده دون نمائه لأنه تبع له أشبه النماء المتصل كالسمن واللبن والتعلم والحمل والثمرة قبل الظهور, فإنه إذا أراد الرد رده بزيادته إجماعا لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها.
مسألة: "وإن تلفت السلعة أو أعتق العبد أو تعذر رده فله أرش العيب" أما إذا أعتق العبد ثم ظهر على عيب قديم فله الأرش بغير خلاف نعلمه, وإن تلف المبيع أو تعذر الرد وكذا إن باعه أو وهبه وهو غير عالم بعيبه نص عليه, لأن البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد فكان له الرجوع عليه كما لو أعتقه وإن فعل ذلك مع علمه بالعيب فلا أرش له لرضاه به معيبا حيث تصرف فيه مع علمه بعيبه ذكره القاضي, وعنه في البيع والهبة له الأرش ولم يعتبر علمه وهو قياس المذهب؛ لأننا جوزنا له إمساكه بالأرش وتصرفه فيه كإمساكه وذكر أبو الخطاب رواية فيمن باعه ليس له شيء لأنه استدرك ظلامته ببيعه فلم يكن له أرش كما لو زال العيب فإن رد عليه المبيع كان له حينئذ الرد أو الأرش كما لو لم يبعه أصلا.
مسألة: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تصروا الإبل و الغنم". الحديث"1. التصرية في اللغة: الجمع يقال صرى الماء في الحوض وصرى الطعام في فيه إذا جمعه, وصرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع وأنشد أبو عبيدة:
رأت غلاما قد صرى في فقرته ... ماء الشباب عنفوان شرته
ويقال: المصراة المحفلة وهو من الجمع أيضا ومنه سميت مجامع الناس محافل, والتصرية حرام إذا أراد بها التدليس لقوله عليه السلام: "من غشنا فليس منا". متفق عليه2. فمن اشترى مصراة وهو لا يعلم فهو بالخيار بين أن يقبلها وبين أن يردها "وصاعا من تمر" وهو قول جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2148. ومسلم في البيوع: حديث رقم 11.
2 - رواه مسلم في الإيمان: حديث رقم 164, والترمذي في البيوع: حديث رقم 1315.(1/217)
إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر فإن علم بتصريتها قبل حلبها ردها ولا شيء معها", وكذلك كل مدلس لا يعلم تدليسه فله رده كجارية حمر وجهها أو سود شعرها أو جعده, أو رحى ضم الماء وأرسله عليها عند عرضها على المشتري وكذلك لو وصف المبيع بصفة يزيد بها ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد أو كتابة أو أن الدابة هملاجة والفهد صيود, أو معلم أو أن الطائر مصوت ونحوه ولو أخبره بثمن المبيع فزاد عليه رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح إن كان
ـــــــ
تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر". متفق عليه1. ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به الرد كما لو كانت شمطاء فسود شعرها فإذا ردها رد بدل اللبن صاعا من تمر, كما جاء في الحديث وفي لفظ: "ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء". يعني: لا يرد قمحا.
مسألة: "فإن علم بتصريتها قبل حلبها ردها ولا شيء معها" لأن الصاع إنما وجب عوضا عن اللبن, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من اشترى غنما مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر". رواه البخاري2. وهذا لم يأخذ لها لبنا فلا يلزمه رد شيء. قال ابن عبد البر: هذا ما لا اختلاف فيه.
مسألة: "وكذلك كل مدلس لا يعلم بتدليسه له رده كجارية حمر وجهها أو سود شعرها أو جعده أو رحى ضم الماء وأرسله عليها عند عرضها على المشتري" لأنه تدليس بما يختلف به الثمن فأثبت الخيار في الرد كالتصرية.
مسألة: "وكذلك لو وصف المبيع بصفة يزيد بها في ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد أو كتابة أو أن الدابة هملاجة أو الفهد صيود أو معلم أو أن الطير مصوت ونحو هذا" فله الرد لذلك.
مسألة: "ولو أخبره بثمن المبيع فزاد عليه رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح إن كان مرابحة" يثبت الخيار في بيع المرابحة للمشتري إذا أخبره البائع بزيادة في الثمن كاذبا كما لو أخبره بأنه كاتب أو صانع فاشتراه بثمن كثير وبان بخلافه فثبت للمشتري الخيار بين الرد والإمساك مع الحظ نص عليه؛ لأنه لا يأمن الخيانة في الثمن أيضا, وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له لأنه لم يذكره.
مسألة: ولا بد من معرفة المشتري رأس المال لأن العلم بالثمن شرط ولا يحصل
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2151.(1/218)
مرابحة وإن بان أنه غلط على نفسه خير المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به, وإن بان أنه مؤجل ولم يخبره بتأجيله فله الخيار بين رده وإمساكه
ـــــــ
إلا بمعرفة رأس المال والمرابحة أن يخبر برأس المال ثم يبيعه بربح معلوم, فيقول رأس مالي مائة بعتك بها وربح عشرة, فهو جائز غير مكروه لأن الثمن معلوم ثم إذا بان ببينة أو إقرار أن رأس المال تسعون فالبيع صحيح؛ لأنه زيادة في الثمن فلم يمنع صحة البيع كالمعيب وللمشتري أن يرجع على البائع بما زاد وهو عشرة وحظها من الربح وهو درهم فيبقى على المشتري تسعة وتسعون درهما.
مسألة: "وإن بان أنه غلط على نفسه" يعني البائع, "خير المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به" فإذا قال في المرابحة: رأس مالي فيه مائة والربح عشرة, ثم عاد فقال: غلطت بل رأس مالي فيه مائة وعشرة لم يقبل قوله في الغلط إلا ببينة تشهد أن رأس ماله عليه ما قاله ذكره ابن المنذر عن الإمام أحمد رحمه الله, وذكر القاضي عن الإمام أحمد رواية يقبل قول البائع مع يمينه إذا كان معروفا بالصدق, وإن لم يكن معروفا بالصدق فقد جاز البيع. قال: لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه, والقول قول الأمين مع يمينه كالوكيل والمضارب, وعنه رواية ثالثة: أنه لا يقبل قول البائع وإن أقام بينة حتى يصدقه المشتري وهو قول الشافعي رحمه الله؛ لأنه أقر بالثمن وتعلق به حق الغير فلا يقبل رجوعه ولا بينة لإقراره بكذبه, ولنا أنها بينة عادلة شهدت بها يحتمل الصدق فتقبل كما تقبل سائر البينات, ولا يصح قولهم إنه أقر فإن الإقرار إنما يكون للغير وحالة إخباره لم يكن عليه حق لغيره فلم يكن إقرارا. قال الخرقي: وله أن يحلفه أن وقت ما باعها لم يعلم أن وقت شراءها أكثر, وهذا صحيح فإنه لو أخبر بذلك عالم بكذب نفسه لزمه البيع بما عقد عليه من الثمن؛ لأنه تعاطى مسببه عالما بالضرر فلزمه كما لو اشترى معيبا عالما بعيبه, وإذا كان البيع يلزمه فادعى عليه العلم لزمته اليمين فإن نكل قضى عليه وإن حلف خير المشتري بين قبوله بالثمن والزيادة التي غلط بها وحظها من الربح وبين فسخ العقد, وإنما أثبتنا له الخيار لأنه إنما دخل على أن الثمن مائة وعشرة فإذا بان أكثر فعليه ضرر في التزامه فلم يلزمه كالمعيب إذا رضيه المشتري, وإن اختار أخذها بمائة وعشرين لم يكن للبائع خيار؛ لأنه زاده خيرا فهو كالمعيب إذا رضيه المشتري فل خيار أيضا لأنه قد بذلها بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا عليه.
مسألة: "وإن بان أنه مؤجل ولم يخبره بتأجيله فله الخيار بين رده وإمساكه" يعني أن المشتري يكون مخيرا بين الرد وبين الإمساك بالثمن حالا؛ لأن البائع لم يرض بذمته وقد تكون ذمته دون ذمة البائع فلا يلزمه الرضاء بذلك. وحكى ابن المنذر عن الإمام أحمد أنه إن كان المبيع قائما فهو مخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلا لأنه الثمن الذي اشترى به البائع.(1/219)
وإن اختلف البيعان في قدر الثمن تحالفا, ولكل واحد منهما الفسخ إلا أن يرضى بما قال صاحبه
ـــــــ
والتأجيل صفة له فأشبه المخير بزيادة في القدر فإن للمشتري أن يحط ما زاده ويأخذ بالباقي, وإن علم ذلك بعد تلف المبيع حبس المال بقدر الأجل.
مسألة: "وإن اختلف البيعان في قدر الثمن تحالفا ولكل واحد منهما الفسخ إلا أن يرضى بما قال صاحبه". فمتى اختلفا في قدر الثمن والسلعة قائمة تحالفا فيبدأ بيمين البائع فيحلف ما بعته بعشرة وإنما بعته بخمسة عشر, ثم يحلف المشتري ما اشتريته بخمسة عشر وإنما اشتريته بعشرة؛ لما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع". رواه ابن ماجه1. وفي لفظ: "تحالفا". ولأن البائع يدعي عقدا بثمن ينكره المشتري, والمشتري يدعي عقدا ينكره البائع, والقول قول المنكر مع يمينه, ويبدأ بيمين البائع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل القول ما قال البائع. وفي لفظ: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار". رواه أحمد والشافعي2, معناه: إن شاء أخذ وإن شاء حلف؛ ولأن جنبة البائع أقوى لأنهما إذا تحالفا رجع المبيع إليه فكانت البداءة به أولا كصاحب اليد.
مسألة: فإذا تحالفا لم ينفسخ العقد بنفس التحالف؛ لأنه عقد وقع صحيحا فتنازعهما وتعارضهما في الحجة لا يوجب الفسخ, كما لو أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه, لكن يقال للمشتري أترضى بما قال البائع؟ فإن رضيه أجبر البائع على قبول ذلك؛ لأنه حصل له ما ادعاه, وإن لم يرضه قيل للبائع: أترضى بما قال المشتري؟ فإن رضيه أجبر المشتري على قبول ذلك, وإن لم يرضيا فسخ العقد. وظاهر كلام أحمد أن لكل واحد منهما الفسخ؛ لقوله عليه السلام: "أو يتارادان البيع". وظاهره استقلالهما كذلك. وفي قصة ابن مسعود: باع الأشعت بن قيس رقيقا من رقيق الإمارة, فاختلفا في الثمن فروى له عبد الله هذا الحديث. قال: فإني أرى أن أرد البيع فرده ولا فسخ لاستدراك الظلامة أشبه الرد في العيب.
"فصل": وإن كانت السلعة تالفة تحالفا ورجعا إلى قيمة مثلها كما لو كانت باقية, وعنه القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر, لقوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا". فمفهومه أنه لا يشرع التحالف عند عدمها, ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى المشتري واختلفا في عدة زائدة يدعيها البائع والمشتري ينكرها والقول قول المنكر, وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة للحديث ففيما عداه تبقى على مقتضى القياس.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في: التجارات: حديث رقم 2186.
2- رواه أحمد في المسند 1/466, 6/320.(1/220)
................................................................................................
ـــــــ
ووجه الأولى أن كل واحد منهما مدع ومنكر فتشرع اليمين لهما كحال قيام السلعة, وقوله في حديثهم تحالفا لم يثبت في شيء من الأخبار, وعلى أن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها لمعرفة قيمتها, فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك يكون أولى, فإذا اختلفا جميعا فسخنا البيع كما نفسخه مع بقائها, ويرد البائع الثمن والمشتري قيمة السلعة, فإن اختلفا في قيمتها رجعا إلى قيمة مثلها موصوفا بصفاتها, فإن اختلفا في صفاتها فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه غارم والقول قول الغارم.(1/221)
باب السلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين, فقال: "من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم". ويصح السلم في كل ما ينضبط بالصفة إذا ضبطه بها وذكر
ـــــــ
باب السلم
وهو نوع من البيع يصح بألفاظه وبلفظ السلم والسلف, ويعتبر فيه شروط البيع ويزيد عليه بشروط: منها أن يكون مما يمكن ضبط صفاته التي يختلف الثمن باختلافها ظاهرا كالمكيل أو الموزون أو المذروع أو المعدود؛ -لأنه بيع بصفة فيشترط للكل إمكان ضبطها-؛ لما روي [عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم" متفق عليه. فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر, وقسنا عليه ما يضبط بالصفة لأنه في معناه. فأما المعدود المختلف كالحيوان والفواكه والبقول والجلود والرءوس ونحوها, ففي الحيوان روايتان: إحداهما لا يصح السلم فيه؛ لما روى عن ابن عمر أنه قال: إن من الربا أبوابا لا تخفى وإن منها السلم في السن, رواه الجوزجاني. ولأن الحيوان يختلف اختلافا متباينا فلا يمكن ضبطه وإن استقصى صفاته التي يختلف فيها الثمن تعذر تسليمه, مثل أزج الحاجبين أكحل العينين أقنى الأنف أشم العرنين أهدب الأشفار, فأشبه السلم في الحوامل من الحيوان, وعنه صحة السلم فيه وهو ظاهر المذهب؛ لأن أبا رافع قال: استسلف النبي صلى الله عليه وسلم من رجل بكرا. رواه مسلم. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أبتاع له البعير بالبعيرين وبالأبعرة إلى مجئ الصدقة, ولأنه ثبت في الذمة صداقا فثبت في السلم كالثياب. وأما حديث ابن عمر فهو محمول على أنهم كانوا يشترطون من ضراب فحل بني فلان, كذلك قال الشعبي: إنما كره ابن مسعود السلم في الحيوان لأنهم اشترطوا لقاح فحل معلوم. رواه سعيد. ولو أضافه إلى لقاح بني فلان لقبيلة كبيرة أو بلد كبير صح كما إذا أضاف إلى غلة بلد كبير أو قرية كبيرة, وقد روى حديث علي أنه باع جملا له(1/221)
قدره بما يقدر به من كيل أو وزن أو ذرع أو عد وجعل له أجلا معلوما وأعطاه
ـــــــ
يدعى عصيفير بعشرين بعيرا إلى أجل وهو قول ابن مسعود وابن عباس وابن عمر.
"فصل": وأما الفواكه والمعدودات كالجوز والبيض والبطيخ والرمان والبقول ونحوها ففيها روايتان: إحداهما لا يصح لما ذكرناه في الحيوان وأنه لا يمكن ضبطه بالصفات المقصودة التي يختلف بها الثمن. والثانية: يصح لأن التفاوت يسير ويمكن ضبطه: بعضه بالصغر والكبر وبعضه بالوزن فصح السلم فيه كالمذروع.
"فصل": وفي الرءوس والأطراف والجلود مثل ذلك, أما الرءوس ففيها روايتان أيضا: إحداهما لا يجوز السلم فيها؛ لأن أكثرها عظام واللحم فيها قليل. والثانية: يصح لأنه لحم فيه عظم يجوز شراؤه فجاز السلم فيه كبقية اللحم, وكثرة العظام لا تمنع بيعه فلا تمنع السلم فيه, والجلود تختلف أيضا فالورك ثخين قوي والصدر ثخين رخو والبطن رقيق ضعيف والظهر قوي فيحتاج إلى وصف كل موضع فيه, ولا يمكن ذرعه لاختلاف أطرافه فلا يجوز السلم فيه ووجه الجواز أن التفاوت فيه معلوم فلم يمنع صحة السلم فيه فكذلك هاهنا.
الشرط الثاني: أن يصفه بما يختلف به الثمن ظاهرا فيذكر جنسه ونوعه وقدره وبلده وحداثته وقدمه وجودته ورداءته؛ لأن السلم عوض يثبت في الذمة فلا بد من كونه معلوما بالوصف كالثمن؛ ولأن العلم شرط في البيع وطريقه إما الرؤية أو الوصف والرؤية ممتنعة في المسلم فيه فيتعين الوصف فيذكر الجنس والنوع والجودة والرداءة فهذه مجمع عليها, وما سوى ذلك فيه خلاف وما لا يختلف به الثمن لا يحتاج إلى ذكره؛ لأن العوض لا يختلف باختلافها ولا يضر جهالتها.
الشرط الثالث: أن يذكر قدره بالكيل في المكيل والوزن في الموزون والذرع في المذروع لحديث ابن عباس في أول الباب؛ ولأنه عوض غير مشاهد ثبت في الذمة فاشترط معرفة قدره كالثمن فلو أسلم في المكيل وزنا أو في الموزون كيلا لم يصح؛ لأنه مبيع اشترط معرفة قدره فلم يجز بغير ما هو مقدر به كالربويات, وعنه ما يدل على الجواز لأنه يخرجه عن الجهالة وهو الغرض.
"فصل": ولا بد أن يكون المكيال معلوما عند العامة فإن قدره بإناء أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح؛ لأنه قد يهلك فيجهل قدره وهذا غرر لاحتياج العقد إليه.
الشرط الرابع: أن يشترط أجلا معلوما له وقع في الثمن كالشهر ونحوه, فإن أسلم حالا لم يصح لحديث ابن عباس ولأن السلم إنما جاز رخصة للرفق ولا يحصل الرفق إلا(1/222)
الثمن قبل تفرقهما, ويجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة, وإن أسلم ثمنا واحدا في شيئين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس ومن أسلف في شيء لم ـ
ـــــــ
بالأجل فلا يصح بدونه كالكتابة.
"فصل": ولا بد أن يكون الأجل مقدرا بزمن معلوم للخبر, فإن أسلم إلى الحصاد لم يجز؛ لأن ابن عباس قال: لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم؛ ولأن ذلك يختلف فلم يجز أن يجعله أجلا كقدوم زيد, وعنه أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس؛ لأن عمر كان يبتاع إلى العطاء ولأنه لا يتفاوت تفاوتا كثيرا.
الشرط الخامس: أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله مأمون الانقطاع فيه لأن القدرة على التسليم شرط ولا تتحقق إلا بذلك فإن كان لا يوجد فيه لم يصح لذلك.
الشرط السادس: أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد قبل تفرقهما؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم" والإسلاف التقديم سمي سلفا لما فيه من تقديم رأس المال, فإذا تأخر لم يكن سلما فلم يصح؛ ولأنه يصير بيع دين بدين فإن تفرقا قبل قبضه بطل, وإن تفرقا قبل قبض بعضه بطل فيما لم يقبض وفي المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة.
الشرط السابع: أن يسلم في الذمة فإن أسلم في عين لم يصح؛ لأنه ربما تلف قبل وجوب تسليمه فلم يصح, كما لو أسلم في مكيال معين غير معلوم القدر؛ ولأنه يمكن بيعه في الحال فلا حاجة إلى السلم فيه.
مسألة: "ويجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة"؛ لأن كل بيع جاز في أجل واحد جاز في أجلين وآجال كبيوع الأعيان.
مسألة: "وإن أسلم ثمنا واحدا في شيئين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس" مثل أن يسلم دينارا في قفيز حنطة وقفيز شعير ولا يبين ثمن الحنطة من الدينار ولا ثمن الشعير؛ لأن ما يقابل كل واحد من الجنسين مجهول فلم يصح كما لو عقد عليه عقدا مفردا بثمن مجهول؛ ولأن فيه غررا لا تأمن الفسخ بتعذر أحدهما فلا يعرف ما يرجع به وهذا غرر يؤثر مثله في السلم.
مسألة: "ومن أسلف في شيء لم يصرفه إلى غيره" كمن أسلف في حنطة لا يجوز أن يأخذ شعيرا, ومن أسلف في عسل لا يجوز أن يأخذ زيتا لقوله عليه السلام: "من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره" رواه أبو داود1.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع حديث رقم 3468.(1/223)
يصرفه إلى غيره, ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه ولا الحوالة بت, وتجوز الإقالة فيه أو في بعضه لأنها فسخ.
ـــــــ
مسألة: "ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن رواه الترمذي وقال: صحيح, ولفظه: "لا يحل" 1. ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه.
مسألة: "ولا" يجوز "الحوالة به" لأنها إنما تجوز بدين مستقر والسلم يعرض للفسخ.
مسألة: "وتجوز الإقالة فيه" لأنها فسخ. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الإقالة في جميع ما أسلم فيه جائزة؛ ولأن الإقالة فسخ للعقد ورفع له من أصله فلم يكن بيعا.
مسألة: وتجوز الإقالة "في بعضه" في إحدى الروايتين لأنها مندوب إليها وكل معروف جاز في الجميع جاز في البعض كالإبراء والإنظار, وفي الأخرى لا يجوز لأن المثمن في الغالب نقل منه الثمن لأجل التأجيل, فإذا أقاله في البعض بقي البعض بالباقي من الثمن وبمنفعة الجزء الذي حصلت الإقالة فيه فلم يجز كما لو اشترط ذلك في ابتداء العقد وخرج عليه الإبراء والإنظار؛ لأنه لا يتعلق به شيء من ذلك.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1234.(1/224)
باب القرض و غيره
...
باب القرض وغيره
عن أبي رافع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره, فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا, فقال: "أعطوه فإن خير الناس أحسنهم قضاء".
ـــــــ
باب القرض
أجمع المسلمون على جوازه واستحبابه للمقرض, وهو من المرافق المندوب إليها, وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يقرض قرضا مرتين إلا كان كصدقة مرة". رواه ابن ماجه1. و "عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: استسلف من رجل بكرا فقدمت إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال: "أعطوه فإن خير الناس أحسنهم قضاء" رواه مسلم2.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الصدقات: حديث رقم 2430. قال في الزوائد: إسناده ضعيف, ورواه ابن حبان في صحيحه بإسناده إلى ابن مسعود.
2 - سبق تخريجه.(1/224)
ومن اقترض شيئا فعليه رد مثله ويجوز أن يرد خيرا منه وأن يقترض تفاريق ويرد جملة إذا لم يكن شرط, وإن أجله لم يتأجل, ولا يجوز شرط شيء لينتفع به المقرض إلا أن يشترط رهنا أو كفيلا, ولا يقبل هدية المقترض إلا أن يكون بينهما عادة بها قبل القرض
ـــــــ
مسألة: "ومن اقترض شيئا فعليه رد مثله" في المكيل والموزون؛ لأنه يجب مثله في الإتلاف ففي القرض أولى, فإن أعوزه المثل فعليه قيمته حين أعوزه لأنها حينئذ ثبتت في الذمة وفي الجواهر ونحوها ترد القيمة؛ لأنها من ذوات القيمة وفي ما سوى ذلك وجهان: أحدهما ترد القيمة؛ لأن ما أوجب المثل في المثلى أوجب قيمته في غيره كالإتلاف. والثاني: يرد المثل لحديث أبي رافع؛ ولأن ما ثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلى بخلاف الإتلاف فإنه عدوان فأوجب القيمة؛ لأنها أحضر والقرض ثبت للرفق فهو أسهل فعلى هذا يعتبر مثله في الصفات تقريبا.
مسألة: "ويجوز أن يرد خيرا منه" يعني خيرا مما أخذ لخبر أبي رافع.
مسألة: "و" يجوز "أن يقترض تفاريق ويرد جملة إذا لم يشترط"؛ لأنه إذا اقترض متفرقا صار عليه جملة فإذا رد جملة فقد أدى ما عليه من غير زيادة ولا نقصان, ويصير كما لو اقترض جملة ورده بالتفاريق؛ فإنه يجوز لذلك ولا يجوز ذلك بشرط لأن فيه نفعا للمقرض فيكون قرضا جر نفعا فلا يجوز كما لو شرط زيادة في القدر.
مسألة: "وإن أجله لم يتأجل"؛ لأنه يثبت في الذمة حالا والتأجيل في الحال عدة وتبرع فلا يلزمه كتأجيل العارية.
مسألة: "ولا يجوز شرط شيء ينتفع به المقرض" نحو أن يسكنه داره أو يقضيه خيرا منه أو أن يبيعه أو يشتري منه أو يؤجره أو يستأجر منه أو يهدي إليه أو يعمل له عملا ونحوه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع وسلف". رواه الترمذي وقال حديث صحيح1, وعن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس أنهم نهوا عن قرض جر منفعة؛ ولأنه عقد إرفاق وشرط ذلك فيه يخرجه عن موضوعه.
مسألة: "إلا أن يشترط رهنا أو كفيلا"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: رهن درعه على شعير أخذه لأهله, متفق عليه.
مسألة: "ولا يقبل هدية المقترض إلا أن يكون بينهما عادة بها قبل القرض" لما روى ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله إلا أن يكون قد جرى بينه وبينه قبل ذلك" 2.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1234.
2 - رواه ابن ماجه في الصدقات: حديث رقم 2432. وفي سنده مجهول.(1/225)
باب أحكام الدين
من لزمه دين مؤجل لم يطلب به قبل أجله ولم يحجر عليه من أجله ولم يحل تفليسه ولا بموته إذا وثقه الورثة برهن أو كفيل, وإن أراد سفرا يحل قبل مدته أو الغزو تطوعا فلغريمه منعه إلا أن يوثق بذلك وإن كان الدين حالا على معسر وجب إنظاره
ـــــــ
باب أحكام الدين
مسألة: "من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله"؛ لأنه لا يلزمه أداؤه قبل أجله "ولم يحجر عليه من أجله"؛ لأنه لا يستحق المطالبة به قبل أجله فلم يملك منعه من ماله بسببه "ولم يحل تفليسه"؛ لأن الأجل حق له فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه.
مسألة: "ولا يحل بموته إذا وثقه الورثة" اختاره الخرقي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك حقا فلورثته". والتأجيل حق له فينتقل إلى ورثته, ولأنه لا يحل به ما عليه كالجنون وعنه أنه يحل لأن بقائه ضرر على الميت لبقاء ذمته مرتهنة به وعلى الوارث ضرر أيضا لمنعه التصرف في التركة وعلى الغريم بتأخير حقه, وربما تلفت التركة وعلى الروايتين يتعلق الحق بالتركة كتعلق الأرش بالجاني ويمنع الوارث التصرف فيها إلا برضا الغريم أو يوثق الحق بضمين مليء أو رهن يفي بالحق إن كان مؤجلا, فإنهم قد لا يكونون أملياء فيؤدي تصرفهم إلى فوات الحق, وإن تلفت التركة قبل التصرف فيها سقط الحق كما لو تلف الجاني.
مسألة: "فإن أراد سفرا يحل الدين قبل موته أو الغزو تطوعا فلغريمه منه إلا أن يوثقه" برهن أو كفيل مليء لأنه ليس له تأخير الحق عن محله, وفي السفر تأخيره عن محله وإن كان لا يحل قبله ففي منعه روايتان: إحداهما: له منعه لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر فملك منعه منه كالأول والأخرى ليس له منعه لأنه لا يملك المطالبة به في الحال ولا يعلم أن السفر مانع منه عند الحلول فأشبه السفر القصير.
مسألة: "وإن كان الدين حالا على معسر وجب إنظاره" يعني: ولا يحبس لأن مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد يحل عقوبته". أن غير الواجد لاتحل له عقوبته؛ ولأن حبسه لايفيد(1/226)
فإن ادعى الإعسار حلف وخلى سبيله إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببينة, فإن كان موسرا لزمه وفاؤه فإن أبى حبس حتى يوفيه فإن كان ماله لا يفي بدينه كله فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمه إجابتهم, فإذا حجر عليه لم يجز تصرفه في ماله ولم يقبل إقراره عليه ويتولى الحاكم قضاء دينه ويبدأ بمن له أرش جناية من
ـــــــ
صاحب الدين, وإنما هو محض إضرار في حق المديون وقد قال عليه السلام: "لا ضرر و لا ضرار". الحديث في المسند1؛ ولأنه إذا كان خارج الحبس ربما حصل واكتسب وسعى في قضاء الدين وفي الحبس لا يقدر على ذلك.
مسألة: "وإن ادعى الإعسار حلف وخلى سبيله"؛ لأن الأصل الإعسار "إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببينة"؛ لأن الأصل بقاء المال ويحبس حتى يقيم البينة على نفاد ماله وإعساره وعليه اليمين مع البينة أنه معسر؛ لأنه صار بهذه البينة كمن لم يعرف له مال.
مسألة: "وإن كان موسرا لزمه وفاؤه", لقوله عليه السلام: "مطل الغني ظلم" 2. "فإن أبى حبس حتى يوفيه" لقوله عليه السلام: "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه". من المسند, فإن أصر باع الحاكم ما له وقضى دينه؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: ألا إن أسيفع جهينه رضي من دينه أن يقال سائق الحاج فادان مغرما, فمن له مال فليحضر فإنا بايعو ماله وقاسموه بين غرمائه.
مسألة: "وإن كان ماله لا يفي بدينه كله فسأل غرماؤه الحجر عليه لزمه إجابتهم"؛ لما روى كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع ما له. رواه الخلال؛ ولأن فيه دفعا للضرر عن الغرماء فلزم ذلك لقضائهم.
مسألة: "وإذا حجر عليه لم يجز تصرفه في ماله" لا بيع ولا هبة ولا وقف ولا غير ذلك؛ لأنه حجر ثبت بالحكم فمنع تصرفه كالحجر للسفهز
مسألة: "ولا يقبل إقراره على ماله" لذلك.
مسألة: "ويتولى الحاكم قضاء دينه" فيبيع ما يمكن بيعه ويقسم بين غرمائه؛ لأن ذلك هو المقصود بالحجر.
مسألة: "ويبدأ بمن له أرش جناية من رقيقه فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من ثمنه أو أرش جنايته" وما فضل رد إلى الغرماء, "ثم بمن له رهن فيدفع إليه أقل الأمرين من دينه أو ثمن رهنه"؛ لأن ذلك مقدم على حق الغرماء لأن حقه تعين في الرهن وإن بقي
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الاستقراض: حديث رقم 2400. ومسلم في المساقاة: حديث رقم 33.(1/227)
رقيقه فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من أرشها أو قيمة الجاني ثم بمن له رهن فيدفع إليه أقل الأمرين من دينه أو ثمن رهنه وله أسوة الغرماء في بقية دينه, ثم من وجد متاعه الذي باعه بعينه لم يتلف بعضه ولم يزد زيادة متصلة ولم يأخذ من ثمنه شيئا فله أخذه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره"
ـــــــ
منه بقية ردها إلى الغرماء "وله أسوة الغرماء في بقية دينه" يعني صاحب الرهن وإن لم يفي ثمن الرهن بدينه شارك الغرماء في بقية دينه.
مسألة: "ثم من وجد متاعه الذي باعه فهو أحق به"؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به". متفق عليه1. ولا يكون أحق به إلا بشروط: "أحدها" أن تكون بحالها سالمة لم يتلف بعضها, فإن تلف بعضها أو باعه المفلس أو وهبه أو وقفه فله أسوة الغرماء؛ لقوله عليه السلام: "من أدرك متاعه بعينه فهو أحق به" 2. والذي تلف بعضه لم يوجد بعينه. "الشرط الثاني": أن لا يزيد زيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة فإن وجد ذلك منع الرجوع؛ لأنه فسخ بسبب حادث فمنعته الزيادة المتصلة كالرجوع في الصداق للطلاق قبل الدخول, وعنه أن الزيادة لا تمنع الرجوع للخبر؛ ولأنه فسخ فلم تمنعه الزيادة كالرد بالعيب فأما الزيادة المتصلة فلا تمنع الرجوع؛ لأنه يملك الرجوع في العين دونها والزيادة للمفلس في ظاهر المذهب؛ لأنها نماء ملكه المنفصل فكانت له كما لو ردها بالعيب؛ ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الخراج بالضمان" يدل على أن النماء للمشتري لكون الضمان عليه, وقال أبو بكر: هي للبائع نص عليه قياسا على المتصلة والفرق ظاهر؛ لأن المتصلة تتبع في الفسوخ دون المنفصلة. "الشرط الثالث": أن لا يكون البائع أخذ من ثمنها شيئا فإن قبض بعضه فلا رجوع له؛ لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما رجل باع سلعته فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئا فهي له وإن كان قد قبض من ثمنها شيئا فهو أسوة الغرماء". رواه أبو داود؛ ولأن في الرجوع في الباقي تبعيض الصفقة على المفلس فلم يجز كما لو لم يقبض شيئا. "الشرط الرابع": أن لا يتعلق بها حق غير حق المفلس فإن خرجت عن ملكه ببيع أو غيره لم يرجع؛ لأنه تعلق بها حق غيره أشبه ما لو أعتقها. "الشرط الخامس": أن يكون المفلس حيا فإن مات فله أسوة الغرماء؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن مات فصاحب المتاع أسوة الغرماء". رواه أبو داود. ولأن الملك انتقل عن المفلس فأشبه ما لو باعه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الاستقراض: حديث رقم 2402. ومسلم في المساقاة: حديث رقم 24, 25.
2 - شبق تخريجه.(1/228)
ويقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته من ماله إلى أن يفرغ من القسمة, فإن وجب له حق بشاهد فأبى أن يحلف لم يكن لغرمائه أن يحلفوا
ـــــــ
مسألة: "ويقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم"؛ لأن ذلك هو المقصود ببيع متاعه وهو المقصود من الحجر عليه.
مسألة: "وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤنته من ماله إلى أن يفرغ من القسمة", وذلك أنه إذا حجر عليه فإن كان ذا كسب يفي بنفقته ونفقة من تلزمه نقته فنفقته في كسبه؛ لأنه لا حاجة إلى إخراج ماله وهو يكسب ما ينفقه؛ ولأنه مستغن بكسبه عن ماله فلم يجز أحذ ماله كما لم يجز أخذ زيادة عن النفقة, وإن كان كسبه دون نفقته كملناها من ماله وإن لم يكن ذا كسب أنفق عليه من ماله في مدة الحجر, وإن طالت لأن ملكه قبل القسمة باق وقد قال عليه السلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". ومعلوم أن فيمن يعوله من تجب عليه نفقته وتكون دينا عليه وهي الزوجة, فإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة فكذلك على حق الغرماء؛ ولأن الحي آكد حرمة من الميت؛ لأنه مضمون بالإتلاف وتقديم تجهيز الميت ومؤنته على دينه, متفق عليه فنفقته أولى, وتقدم أيضا نفقة من تلزمه نفقته من أقاربه مثل الوالدين والمولودين وغيرهم ممن تجب نفقتهم؛ لأنهم يجرون مجرى نفسه لأنهم يعتقون عليه إذا ملكهم كما يعتقون إذا ملكهم, كما يعتقون إذا ملك نفسه فيما إذا كان مكاتبا فعتق وهم في ملكه, وكانت نفقتهم كنفقته وتقدم نفقة زوجته؛ لأن نفقتها آكد من نفقة الأقارب لأنها تجب على طريق المعاوضة وفيها معنى الإحياء كما في الأقارب.
مسألة: "وإن وجب له حق بشاهد فأبى أن يحلف لم يكن لغرمائه أن يحلفوا", وذلك أن المفلس في الدعوى كغيره فإذا ادعى حقا له به شاهد عدل وحلف مع شاهده ثبت المال وتعلقت به حقوق الغرماء, وإن امتنع لم يجبر لأنه قد لا يعلم صدق الشاهد وقد يعلم كذبه ولا يملك الغرماء أن يحلفوا مع الشاهد؛ لأنهم يثبتون ملكا لغيرهم لتتعلق حقوقهم به بعد ثبوته فلم يجز كما لم يجز لزوجته أن تحلف لإثبات ملك لزوجها لتتعلق نفقتها به وفارق الورثة؛ لأنهم يثبتون ملكا لأنفسهم إذا حلفوا بعد موت مورثهم(1/229)
باب الحوالة و الضمان
...
باب الحوالة والضمان
ومن أحيل بدينه على من عليه مثله فرضي فقد برئ المحيل, ومن أحيل على مليء لزمه أن يحتال, لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتبع أحدكم
ـــــــ
باب الحوالة والضمان
مسألة: "ومن أحيل بدينه على من عليه مثله فرضي فقد برئ المحيل" ولصحة(1/229)
على مليء فليتبع" وإن ضمنه عنه ضامن لم يبرأ وصار الدين عليهما, ولصاحبه مطالبة من شاء منهما فإن استوفى من المضمون عنه أو أبرأه برئ ضامنه وإن أبرأ الضامن لم يبرأ
ـــــــ
الحوالة شروط: "أحدها" تماثل الحقين لأن الحوالة تحويل الحق ونقله فيعتبر نقله عن صفته ويعتبر التماثل في الجنس والصفة والحلول والتأجيل, فلو أحال من عليه أحد النقدين بالآخر لم يصح ولو أحال عن المصرية بمنصورية أو عن الصحاح بمكسرة لم يصح, ولئن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا أو أجل أحدهما مخالفا لأجل الآخر لم يصح لما سبق. "الشرط الثاني": أن يحيل برضاه لأنه حق عليه فلا يلزمه أداؤه من جهة بعينها ولا يعتبر رضاء المحال عليه لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله, وقد أقام المحال مقام نفسه في القبض فلزم المحال عليه الأداء إليه كما لو وكله في الاستيفاء منه. "الشرط الثالث": أن يحيل على دين مستقر لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقا ولا يثبت ذلك فبما هو معرض للسقوط, فلو أحال على مال الكتابة أو دين السلم لم يصح؛ لأنها تعرض للسقوط بالفسخ لأجل انقطاع المسلم فيه؛ لقوله عليه السلام: "من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره". ومال الكتابة معرض للسقوط بالعجز. "الشرط الرابع": أن يحيل بمال معلوم لأنها إن كانت بيعا فلا يصح في المجهول وإن كانت تحول الحق فيعتبر فيها التسليم والجهالة تمنع منه.
مسألة: "ومن أحيل على مليء لزمه أن يحتال", والمليء: الموسر. وذلك "لقوله عليه السلام: "إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع". ولأن للمحيل إيفاء الحق بنفسه وبوكيله وقد أقام المحال عليه مقامه في الإيفاء فلم يكن للمحال الامتناع.
مسألة: "وإن ضمنه عنه ضامن لم يبرأ وصار الدين عليهما ولصاحبه مطالبة من شاء منهما"؛ لأن الضمان ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق فثبت في ذمتهما جميعا, ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة والموت لقوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن1. يقال: زعيم وضمين وقبيل وحميل وصبير بمعنى.
مسألة: "فإن استوفى من المضمون عنه أو أبرأه برئ ضامنه"؛ لأن الضامن تبع للمضمون عنه فزال بزوال أصله كالرهن.
مسألة: "وإن أبرأ الضامن لم يبرأ الأصيل"؛ لأن التوثقة انحلت من غير استيفاء فلم يسقط الدين كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاء.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3565. والترمذي في البيوع: حديث رقم 1265. وقال: حسن غريب.(1/230)
الأصيل وإن استوفى من الضامن رجع عليه ومن كفل بإحضار من عليه دين فلم يحضره لزمه ما عليه فإن مات برئ كفيله
ـــــــ
مسألة: "وإن استوفى من الضامن رجع عليه" يعني رجع الضامن على المضمون عنه. أما إذا قضاه متبرعا لم يرجع بشيء كما لو بنى داره بغير إذنه وإن نوى الرجوع وكان الضمان والقضاء بغير إذن المضمون عنه فهل يرجع؟ على روايتين: إحداهما يرجع لأنه قضاء مبرئ من دين واجب لم يتبرع به وكان على من هو عليه كما لو قضاه الحاكم عند امتناعه. الثانية: لا يرجع لأنه تصرف له بغير إذنه فلم يرجع به كما لو بنى داره أو علف دابته بغير إذنه.
مسألة: وإن أذن له في القضاء فله الرجوع بأقل الأمرين مما قضى فيه أو قدر الدين لأنه قضى دينه بإذنه فهو كوكيله.
مسألة: وإن ضمن بإذنه رجع عليه لأنه يضمن الإذن في الأداء فأشبه ما لو أذن فيه صريحا, ويرجع بأقل الأمرين مما قضى أو قدر الدين لأنه إن قضاه بأقل منه فإنما يرجع بما غرم وإن أدى أكثر منه فالزائد لا يجب أداؤه لتبرعه به.
مسألة: "ومن كفل بإحضار من عليه دين فلم يحضره لزمه ما عليه" لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" 1. ولأنها أحد نوعي الكفالة فوجب بها الغرم كالكفارة بالمال.
مسألة: "فإن مات برئ كفيله" لأن الحضور سقط عن المكفول به فيبرأ كفيله كما برئ الضامن ببراءة المضمون عنه, ويحتمل أن لا يسقط ويطالب بما عليه؛ لأن الدين لم يسقط عن المكفول به فأشبه المضمون عنه إذا لم يبرأ من الدين.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(1/231)
باب الرهن
وكل ما جاز بيعه جاز رهنه وما لا فلا ولا يلزم إلا بالقبض وهو نقله إن كان
ـــــــ
باب الرهن
مسألة: "وكل ما جاز بيعه جاز رهنه وما لا فلا"؛ لأن المقصود من الرهن الاستيثاق بالدين باستيفائه من ثمنه عند تعذر استيفائه من الراهن وهذا يحصل مما يجوز بيعه, فأما ما لا يصح بيعه فلا يصح رهنه كالحر وأم الولد لأن مقصود الرهن لا يحصل منه.
مسألة: "ولا يصح إلا بالقبض" لقوله سبحانه: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1؛ ولأنه عقد
ـــــــ
1 - آية 283 سورة البقرة.(1/231)
منقولا والتخلية فيما سواه وقبض أمين المرتهن يقوم مقام قبضه والرهن أمانة عند المرتهن أو أمينه لا يضمنه إلا أن يتعدى, ولا ينتفع المرتهن بشيء منه إلا ما كان مركوبا أو محلوبا فللمرتهن أن يركب ويحلب بمقدار العلف, وللراهن غنمه من غلته وكسبه ونمائه
ـــــــ
إرفاق فافتقر إلى القبض كالقرض, وعنه في غير المكيل والموزون أنه يلزم بمجرد العقد قياسا على البيع والمذهب الأول لأن البيع معاوضة وهذا إرفاق فهو أشبه بالقرض.
مسألة: "وقبض المنقول بالنقل وبالتخلية فيما سواه" وذلك لأن القبض في الرهن كالقبض في البيع والهبة, فإن كان منقولا فقبضه نقله أو كالثوب والعبد والكتاب ونحو ذلك, والمكيل رهنه بالكيل فقبضه اكتياله لقوله عليه السلا م: "إذا سميت فكل" 1. وإن كان موزونا فقبضه بالوزن وقال ابن عمر: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه. متفق عليه2. وأما العقار والثمار على الشجر فقبض ذلك بالتخلية بين مرتهنه وبينه من غير حائل بأن يفتح له باب الدار ويسلم إليه مفاتيحها.
مسألة: "وقبض أمين المرتهن يقوم مقام قبضه"؛ لأنه وكيله ونائبه واستدامة القبض شرط في اللزوم كحالة الابتداء للآ ية, وعنه أن القبض واستدامته في المتعين ليس بشرط في البيع فلم يشترط في الرهن.
مسألة: "والرهن أمانة عند المرتهن وعند أمينه لا يضمنه إلا أن يتعدى" فإن تلف بغير تعد منه فلا شيء عليه لأنه أمين فأشبه المودع.
مسألة: "ولا ينتفع المرتهن بشيء من الرهن إلا ما كان مركوبا أو محلوبا فيحلب ويركب بقدر العلف" متحريا للعدل في ذلك سواء تعذر الإنفاق من المالك أم لم يتعذر؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرهن يركب بنفقته ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة". رواه البخاري3, وفي لفظ: "فعلى المرتهن علفها ولبن الدر ويشرب وعلى الذي يشرب نفقته ويركب".
مسألة: "وللراهن غنمه من غلته وكسبه ونمائه"؛ لأنه نماء ملكه فأشبه غير المرهون, "لكنه يكون رهنا معه" لأنه عقد وارد في الأصل فثبت حكمه في نمائه كالبيع, وقال عليه السلام: "الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه ".
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في التجارات: حديث رقم 2230.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه البخاري في الرهن: حديث رقم 2512.(1/232)
لكن يكون رهنا معه وعليه غرمه من مؤنته ومخزنه وكفنه إن مات وإن أتلفه أو أخرجه من الرهن بعتق أو استيلاد فعليه قيمته تكون رهنا مكانه, وإن جنى عليه غيره فهو الخصم فيه وما قبض بسببه فهو رهن وإن جنى الرهن فالمجني عليه أحق برقبته فإن فداه فهو رهن
ـــــــ
مسألة: "وعليه غرمه من مؤنته ومخزنه وكفنه إن مات" ويلزمه جميع نفقته من كسوة وعلف وحرز وحائط وسقي وتسوية وجذاذ وتجفيف؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه" 1, وهذا من غرمه لأنه ملكه فكانت عليه نفقته كالذي في يده ويلزمه كفنه إن مات كما يلزمه في الذي في يده.
مسألة: "وإن أتلفه أو أخرجه من الرهن بعتق أو استيلاد فعليه قيمته تكون رهنا" فلا يجوز للراهن عتق المرهون؛ لأن فيه إضرارا بالمرتهن وإسقاط حقه اللازم له فإن فعل نفذ عتقه نص عليه؛ لأنه محبوس لاستيفاء حق فنفذ فيه عتق المالك كالمحبوس على ثمنه وتؤخذ منه قيمته تكون رهنا مكانه؛ لأنه أبطل حق الوثيقة بغير إذن المرتهن فلزمه قيمته كما لو قتله.
مسألة: وأما إذا وطىء جاريته المرهونة فأولدها خرجت من الرهن, وأخذت منه قيمتها فجعلت رهنا وذلك أن الراهن ليس له وطء جاريته المرهونة؛ لأنه يفضي بذلك إلى أن يخرجها من الرهن فيفوت حق المرتهن, فإن وطئها فلا حد عليه لأنها ملكه فإن كانت بكرا فعليه ما نقصها إن شاء جعله رهنا وإن شاء جعله قضاء من الحق, فإن لم تحمل منه فهي رهن بحالها كما لو استخدمها وإن ولدت فولده حر وتصير أم ولد له؛ لأنه أحبلها في ملكه وتخرج من الرهن موسرا كان أو معسرا كما لو أعتقها وعليه قيمتها يوم أحبلها؛ لأنها وقت إتلافها تجعل رهنا وكذلك إن تلفت بسبب الحمل.
مسألة: "وإن جنى عليه غيره فهو الخصم فيه وما قبض بسببه فهو رهن" فإن كانت الجناية عليه موجبة للقصاص فلسيده الاقتصاص وله أن يعفو؛ لأنه مالكه فإن اقتص فعليه قيمة أقلها قيمة من العبد الجاني والعبد المرهون, فإن كانت قيمة المرهون عشرة وقيمة الجاني مائة لم يلزمه إلا عشرة؛ لأنه إنما فوت على المرتهن عشرة وإن كانت قيمة المرهون مائة وقيمة الجاني عشرة لم يلزمه إلا عشرة؛ لأن هذا هو المقدار الذي فوته على المرتهن يجعل ذلك رهنا مكانه في أحد الوجهين؛ لأنه أتلف مالا بسبب إتلاف الرهن فغرم قيمته كما لو كانت الجناية موجبة للمال. والوجه الثاني: لا شيء عليه لأنه لم يجب بالجناية مال ولا استحق بحال وليس على الراهن السعي للمرتهن في اكتساب مال وكذلك إن جنى على سيده فاقتص منه أو ورثته.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(1/233)
بحاله, وإذ حل الدين فلم يوفه الراهن بيع وأوفى الحق من ثمنه وباقيه للراهن وإذا شرط الرهن أو الضمين في بيع فأبى الراهن أن يسلمه وأبى الضمين أن يضمن خير البائع بين الفسخ أو
ـــــــ
مسألة: وإن عفا السيد عن مال أو كانت الجناية موجبة للمال فاقتص منه جعل رهنا مكانه؛ لأنه بدل عنه فقام مقامه وإن عفا السيد عن السيد عن مال لم يصح عفوه عنه كما لو قبضه المرتهن ويلزمه العفو في حقه فإذا فك الرهن رد إلى الجاني, وقال أبو الخطاب: يصح عفو السيد عن المال ويؤخذ منه قيمته تكون رهنا؛ لأنه أتلفه بعفوه. وقال القاضي: تؤخذ قيمته من الجاني فتجعل مكانه فإذا زال الرهن ردت إلى الجاني كما لو أقر على عبده المرهون بالجناية.
مسألة: وإن عفا السيد عن القصاص إلى غير مال انبنى على موجب العمد فإن قلنا أحد شيئين فهو كالعفو عن المال وإن قلنا القصاص فهو كالاقتصاص وفيه وجهان.
مسألة: "وإن جنى الرهن فالمجني عليه أحق برقبته"؛ وقدم على الحق المرتهن؛ لأنه فداؤه فإن يقدم على المالك فأولى أن يقدم على المرتهن ولسيده فداؤه. "فإن فداه فهو رهن بحاله" فإن كان أرش الجناية أكثر من ثمنه فطلب المجني عليه تسليمه للبيع أراد الراهن فداءه فله ذلك؛ لأنه حق المجني عليه في قيمته لا في عينه ولسيده الخيار بين أن يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه وبين أن يفديه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته؛ لأنه لا يلزمه أكثر من قيمة العبد ولا أكثر من الجناية, فإن كانت قيمته عشرين وأرش الجناية عشرة أو قيمته عشرة وأرش الجناية عشرين لم يلزمه أكثر من عشرة؛ لأنها أقل الأمرين منهما لأن ما يدفعه عوض عنه فلم يلزمه أكثر من قيمته, وعنه يلزمه أرش جنايته كلها أو تسليمه لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته فينتفع به المجني عليه فإن فداه فهو رهن بحاله؛ لأن حق المرتهن لم يبطل وإنما قدم حق المجني عليه؛ لقوته فإذا زال ظهر حق المرتهن وإن سلمه بطل الرهن لما ذكرنا.
مسألة: "وإذا حل الدين فلم يوفه الراهن بيع ووفى الحق من ثمنه وباقيه للراهن", وذلك أن الراهن إذا امتنع من وفاء الدين عند حلوله فإن كان أذن المرتهن في بيعه أو للعدل الذي هو في يده باعه ووفى الدين؛ لأن هذا هو المقصود من الرهن وقد باعه بإذن صاحبه في قضاء دينه فيصح كما في غير الرهن وإلا رفع الأمر إلى الحاكم فيجبره على وفاء الدين أو بيع الرهن فإن لم يفعل باعه الحاكم وقضى دينه؛ لأن ولاية الحاكم على ذلك نافذة ولأن مقتضى الرهن الإيفاء من ثمنه فجاز للحاكم ذلك كما لو أذن فيه.
مسألة: "وإذا شرط المرتهن أو الضمين في بيع فأبى الراهن أن يسلمه أو أبى الضمين أن يضمن خير البائع بين الفسخ أو إقامته بلا رهن ولا ضمين", وذلك أن البيع بهذا الشرط(1/234)
إقامته بلا رهن ولا ضمين.
ـــــــ
صحيح والشرط صحيح أيضا لأنه من مصلحة العقد غير مناف لمقتضاه ولا نعلم في صحته خلافا إذا كان معلوما فيشترط معرفة الرهن والضمين معا إما بالمشاهدة أو الصفة التي يعلم بها الموصوف كما في السلم, ويتعين القبض ويعرف الضمين بالإشارة إليه أو تعريفه بالاسم والنسب ولا يصح بالصفة بأن يقول رجل غني من غير تعيين؛ لأن الصفة لا تأتي عليه بخلاف الرهن, ولو قال بشرط رهن أو ضمين لكان فاسدا؛ لأن ذلك يختلف وليس له عرف ينصرف إليه بالإطلاق. إذا ثبت هذا فإن المشتري إذا وفى بالشرط وسلم الرهن أو ضمن له الضمين لزم البيع, وإن امتنع الراهن من تسليم الرهن أو أبى الضامن أن يضمن عنه فللبائع الخيار بين فسخ البيع -لأنه إنما بذل ماله بهذا الشرط فإذا لم يسلم له استحق الفسخ كما لو لم يأته بالثمن- وبين إتمامه أو الرضى به بلا رهن, ولا ضمين لأن ذلك حقه وقد أسقطه فيلزمه البيع عند ذلك كما لو لم يشترطه(1/235)
باب الصلح
ومن أسقط بعض دينه أو وهب غريمه بعض العين التي في يده جاز ما لم يجعل وفاء الباقي شرطا في الهبة والإبراء أو يمنعه حقه إلا بذلك أو يضع بعض المؤجل ليعجل لو الباقي ويجوز اقتضاء الذهب عن الورق والورق عن الذهب إذا
ـــــــ
باب الصلح
مسألة: "ومن أسقط بعض دينه أو وهب غريمه بعض العين التي له في يده جاز ما لم يجعل وفاء الباقي شرطا في الهبة والإبراء أو يمنعه حقه إلا بذلك" وذلك لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه ولا من استيفائه. قال أحمد: ولو شفع فيه شافع لم يأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر فوضعوا عنه الشرط, وكلم كعب بن مالك فوضع عن غريمه الشطر, ويجوز للقاضي فعل ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله, ولو قال للغريم أبرأتك من بعضه بشرط أن توفيني بقيته -أو على أن توفيني باقيه- لم يصح؛ لأنه جعل إبراءه عوضا عن إعطاءه فيكون معاوضا لبعض حقه ببعض ولا تصح بلفظ الصلح لأن معنى صالحني عن المائة بخمسين أي بعني وذلك غير جائز لما ذكرناه ولأنه ربا.
مسألة: "أو يضع له بعض المؤجل ليعجل له الباقي" يعني لو صالح عن المؤجل ببعضه حالا مثل أن يصالح عن المائة المؤجلة بخمسين حالة لم يجز؛ لأنه ربا وهو بيع بعض ماله ولأن بيع الحلول غير جائز.
مسألة: "ويجوز اقتضاء الذهب عن الورق بالورق عن الذهب إذا أخذها بسعر يومها وتقابضا في المجلس", وذلك أنه إذا صالحه عن أثمان بأثمان فهذا صرف يعتبر له شروط(1/235)
أخذها بسعر يومها وتقابضا في المجلس ومن كان له دين على غيره لا يعلمه المدعى عليه فصالحه على شئ جاز وإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه فالصلح في حقه باطل ومن كان له حق على رجل لا يعلمان قدره فاصطلحا عليه جاز
ـــــــ
الصرف من القبض في المجلس وسائر شروطه.
مسألة: "ومن كان له على غيره حق لا يعلمه المدعى عليه فصالحه على شيء جاز, فإن كان أحدهما يعلم كذبه في نفسه فالصلح باطل" في حقه, وهذا هو الصلح على الإنكار وهو أن يدعي على إنسان عينا في يده أو دينا في ذمته لمعاملة أو جناية أو إتلاف أو غصب أو تفريط في وديعة أو مضاربة ونحو ذلك فينكره ويصالحه بمال فيصح إذا كان المنكر معتقدا بطلان الدعوى فيدفع إليه المال افتداء ليمينه ودفعا للخصومة عن نفسه, والمدعي يعتقد صحتها فيأخذه عوضا عن حقه الثابت له لأنه صلح يصح مع الأجنبي فيصح بين الخصمين كالصلح في الإقرار ويكون بيعا في حق المدعي لأنه يأخذ المال عوضا عن حقه فيلزمه حكم إقراره حتى لو كان العوض شقصا وجبت الشفعة, وإن وجد به عيبا فله رده ويكون إبراء في حق المنكر لاعتقاده أن ملكه المدعي لم يتجدد بالصلح وإنما يدفع المال افتداء ليمينه لا عوضا, فلو كان المدعي شقصا لم تجب فيه الشفعة ولو وجد فيه عيبا لم يملك رده كمن اشترى عبدا ذقد أقر بحريته فإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه فالصلح باطل في الباطن وما يأخذه بالصلح حرام لأنه يأكل مال أخيه بباطله ويستخرجه منه بشره وهو في الظاهر صحيح لأن ظاهر حال المسلمين الصحة والحق.
مسألة: "ومن كان له حق على رجل لا يعلمان قدره فاصطلحا عليه جاز"؛ لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فإذا اتفقا عليه جاز كما لو اتفقا على أن يتبارآ.(1/236)
باب الوكالة
وهي جائزة في كل ما تجوز النيابة فيه إذا كان الموكل والوكيل ممن يصح ذلك
ـــــــ
باب الوكالة
مسألة: "وهي جائزة في كل ما تجوز النيابة فيه إذا كان الموكل والوكيل ممن يصح ذلك منه" تجوز الوكالة بإجماع الأمة في الجملة وتجوز في الشراء والبيع والنكاح؛ لأن النيابة تدخلها بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عروة بن الجعد دينارا وأمره أن يشتري به شاة, وقال الله سبحانه وتعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ}. وقال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}, فجوز العمل عليها. وقال جابر بن عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أريد الخروج إلى خبير فقال:(1/236)
منه وهي عقد جائز تبطل بموت كل واحد منهما وفسخه لها وجنونه والحجر عليه لسفه, وكذلك في كل عقد جائز كالشركة والمساقاة والمزارعة والجعالة والمسابقة وليس للوكيل أن يفعل إلا ما تناوله الإذن لفظا أو عرفا وليس له توكيل غيره ولا
ـــــــ
"ائت وكيلي فخذ منه خمسة عشرة وسقا فإذا ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته", وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية الضمري في قبول نكاح أم حبيبة وأبا رافع في قبول نكاح ميمونة, وتجوز الوكالة بشرط أن تكون فيما تدخله النيابة كالبيع والشراء والنكاح لما سبق وتجوز في الرهن والحوالة والضمان والكفالة والشركة والوديعة والمضاربة والجعالة والمساقاة والإجارة والقرض والوصية والهبة والوقف والصدقة؛ لأنها كلها تدخلها النيابة وهي في معنى البيع في الحاجة إلى التوكيل فيها فيثبت فيها حكمه ولا نعلم في شيء من ذلك خلافا, ويشترط أن يكون الموكل والوكيل ممن يصح ذلك منه بنفسه؛ لأن من لا يصح تصرفه بنفسه فكيف يصح بنائبه.
مسألة: "وهي عقد جائز تبطل بموت كل واحد منهما وجنونه والحجر عليه لسفه" لأنه يخرج بذلك عن أهلية التصرف ويبطل بفسخ كل واحد منهما؛ لأنه إذن في التصرف فملك كل واحد منهما إبطاله كالإذن في أكل الطعام.
مسألة: "وكذلك الحكم في كل عقد جائز كالشركة والمساقاة والمزارعة والجعالة والمسابقة" لذلك.
مسألة: "وليس للوكيل أن يفعل إلا ما تناوله الإذن لفظا أو عرفا"؛ لأن الإنسان ممنوع من التصرف في حق غيره وإنما أبيح لوكيله التصرف فيه بإذنه فيجب اختصاص تصرفه فيما تناوله إذنه إما لفظا كقوله بع ثوبي بعشرة, وإما عرفا كبيعه الثوب بعشرة وزيادة إما من جنس العشرة كبيعه بأحد عشر وما زاد عليها أو من غير جنسها كعشرة وثوب؛ لأن الزيادة تنفعه ولا تضره وكل أحد يريد ذلك ويرضاه بحكم العرف.
مسألة: "وليس" للوكيل "توكيل غيره" وذلك أن الوكيل لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن ينهاه الموكل عن التوكيل فلا يجوز له ذلك رواية واحدة؛ لأن ما نهاه عنه غير داخل في إذنه فلم يجز له كما لو لم يوكله. الثاني: أذن له في التوكيل فيجوز له رواية واحدة لأنه عقد أذن له فيه فكان له ذلك كما لو أذن له في البيع ولا نعلم في هذين خلافا. الثالث: أطلق الوكالة فلا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله كالأعمال الدنيئة في حق أشراف الناس المرتفعين عن فعلها في العادة فإنه يجوز له التوكيل فيها؛ لأنها إذا كانت مما لا يفعله الوكيل بنفسه عادة انصرف الإذن إلى ما جرت به العادة من الاستنابة به فيه. الحال الثاني: أن يكون عملا لا يرتفع عن مثله إلا أنه عمل كثير لا يقدر الوكيل على فعله جميعه فإنه يجوز له التوكيل فيه أيضا لما ذكرنا الحال الثالث أن يكون(1/237)
الشراء من نفسه ولا البيع لها إلا بإذن موكله وإن اشترى لإنسان ما لم يأذن له فيه فأجازه جاز وإلا لزم من اشتراه, والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما يتلف إذا لم يتعد والقول قوله في الرد والتلف ونفي التعدي, وإذا قضى الدين بغير بينة ضمن إلا أن يقضيه بحضرة الموكل ويجوز التوكيل بجعل وبغيره, فلو قال بع هذا بعشرة فما زاد فلك صح
ـــــــ
مما لا يرتفع عنه الوكيل ويمكنه عمله بنفسه فليس له أن يوكل فيه لأنه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه عنه؛ ولأنه استئمان فإذا استأمنه فيما يمكنه النهوض به لم يكن له أن يوليه من لم يأمنه عليه كالوديعة, وعنه له أن يوكل فيه لأن الوكيل يملك التصرف بنفسه فيملكه بنائبه كالملك وكما لو وكله فيما لا يتولى مثله بنفسه.
مسألة: وليس للوكيل "الشراء من نفسه ولا البيع لها إلا بإذن"؛ لأن العرف في العقد أن يعقده مع غيره فحمل التوكيل عليه, ولأنه يلحقه تهمة ويتنافى الغرضان يجز كما لو نهاه عنه, وعنه يجوز لأنه امتثل أمره وحصل غرضه فصح كما لو كان من أجنبي وإنما يصبح بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء أو يوكل من يبيع ويكون هو أحد المشترين لتنتفي التهمة. قال القاضي: ويحتمل أن لا يشترط ذلك لأنه قد امتثل أمره فأما إذا أذن له في ذلك فقد عمل بمقتضى التوكيل.
مسألة: "وإن اشترى لإنسان ما لم يأذن له فيه فأجازه جاز"؛ لأن المشتري في الذمة لا ينصرف في حق المشتري له إنما ينصرف في ذمة نفسه فتحصيل شيء له موقوف على إجازته ورضاه, فإن أجازه كان له وإن رده "لزم من اشتراه" لأنه ألزم بت.
مسألة: "والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما يتلف إذا لم يتعد"؛ لأنه نائب والمالك أشبه المودع "والقول قوله في الرد والتلف ونفي التعدي" لذلك.
مسألة: "وإن قضى الدين بغير بينة" وأنكره الغريم "ضمن"؛ لأن الموكل لا يقبل قوله على الغريم فكذلك وكيله.
مسألة: "إلا أن يكون قضاه بحضرة الموكل" فلا ضمان عليه لأن التفريط من الموكل حيث لم يشهد وإن قضاه في غيبته ولم يشهد ضمن؛ لأنه أذن له في قضاء مبرم ولم يوجد وعن أحمد رحمه الله لا يضمن إلا أن يكون أمره بالإشهاد فلم يفعل فعلى هذه الرواية إن صدقه الموكل لم يضمن الوكيل وإن كذبه فالقول قول الوكيل؛ لأنه أمينه فيقبل قوله عليه في تصرفه كما يقبل قوله في البيع والقبض.
مسألة: "ويجوز التوكيل بجعل وبغيره" لأنه تصرف لغيره لا يلزمه فجاز أخذ العوض عنه كرد الآبق "فإذا قال: بع بعشرة فما زاد فهو لك صح" وله الزيادة لأن ابن عباس رضي الله عنه كان لا يرى بذلك بأسا.(1/238)
باب الشركة
وهي على أربعة أضرب: "شركة العنان": وهي أن يشتركا بماليهما وبدنيهما. "وشركة الوجوه": وهي أن يشتركا فيما يشتريان بجاهيهما. "والمضاربة": وهي أن يدفع
ـــــــ
باب الشركة
مسألة: "وهي على أربعة أضرب: شركة العنان وهي أن يشتركا بماليهما وبدنيهما" وربحه لهما فينفذ تصرف كل واحد منهما بحكم الملك في نصيبه والوكالة في نصيب شريكه وهي جائزة بالإجماع, ذكره ابن المنذر. وإنما اختلف في بعض شروطها وسميت شركة العنان لأنهما يتساويان في المال والتصرف كالفارسين إذا سويا بين فرسيهما وتساويا في السير فإن عنانيهما يكونان سواء, ولا تصح إلا بشرطين: "أحدهما": أن يكون رأس المال دراهم أو دنانير ولا خلاف في صحة الشركة بهما لأنهما أثمان البياعات وقيم الأموال.
مسألة: ولا يصح بالعروض وهو ظاهر المذهب لأن هذه الشركة لا تخلو إما أن تقع على الأعيان أو قيمتها أو أثمانها لا يجوز وقوعها على الأعيان؛ لأنها تقتضي الرجوع عند المفاضلة برأس المال ولا مثل لها فيرجع إليه وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الآخر فيستوعب بذلك جميع الربح وتنقص قيمته فيؤدي إلى مشاركة الآخر في ثمن ملكه الذي ليس بربح ولا على أثمانها؛ لأنها معدومة حال العقد ولا يملكانها ولأنها تصير عند من يجوزها شركة معلقة على شرط وهو بيع الأعيان, ولا يجوز أن تكون واقعة على قيمتها لأن القيمة غير متحققة المقدار فيفضي إلى التنازع ولأن القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فيشاركه الآخر في ثمن العين التي هي ملكه. وعنه يجوز وتجعل قيمتها وقت العقد برأس المال ودليله أن مقصود الشركة أن يملك كل واحد منهما نصف مال الآخر وينفذ تصرفهما وهذا موجود في العروض فصحت الشركة فيها كالأثمان. "الشرط الثاني": أن يشترطا لكل واحد منهما جزءا من الربح مشاعا معلوما ولا خلاف في ذلك في المضاربة المحضة قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يجمعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوما جزءا من أجزاء ولأن استحقاق المضارب للربح بعمله فجاز ما يتفقان عليه من قليل وكثير كالأجرة في الإجارة وكالجزء من الثمرة في المساقاة والمزارعة.
الضرب الثاني: "شركة الوجوه وهو أن يشتركا فيما يشتريان بجاههما" وثقة التجار بهما فما ربحا فهو بينهما؛ لأن مبناها على الوكالة والكفالة لأن كل واحد منهما وكيل(1/239)
أحدهما إلى الآخر مالا يتجر فيه ويشتركان في ربحه. "وشركة الأبدان": وهي أن يشتركا فيما يكسبان بأبدانهما من المباح: إما بصناعة أو احتشاش أو اصطياد ونحوه؛ لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم آت أنا وعمار بشيء.
والربح في جميع ذلك على ما شرطاه والوضيعة على قدر المال, ولا يجوز أن يجعل لأحدهما دراهم معينة ولا ربح بشيء معين والحكم في المساقاة والمزارعة
ـــــــ
صاحبه فيما يشتريه ويبيعه كفيل عنه بذلك والملك بينهما على ما شرطاه نصفين أو أثلاثا أو أرباعا, والوضيعة على قدر ملكيهما فيه ويبيعان فما رزق الله تعالى فهو بينهما على ما شرطاه فهو جائز ويحتمل أن يكون على قدر ملكيهما وهما في جميع تصرفاتهما وما يجب لهما وعليهما في إقرارهما وخصومتهما بمنزلة شريكي العنان على ما سبق.
الضرب الثالث. "المضاربة وهو أن يدفع أحدهما ماله إلى آخر يتجر فيه والربح بينهما" ويسمى مضاربة وقراضا: وينعقد بلفظهما وكل ما يؤدي معناهما؛ لأن القصد المعنى فجاز بما دل عليه كالوكالة وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة. ذكره ابن المنذر. ويروى ذلك عن جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فيكون إجماعا؛ ولأن بالناس حاجة إليها فإن الدراهم والدنانير لا تنمو إلا بالتقليب والتجارة وليس كل من يملكها يحسن التجارة ولا كل من يحسن له رأس مال فاحتيج إليها من الجانبين فشرعها الله سبحانه لدفع الحاجتين.
الضرب الرابع "شركة الأبدان وهي أن يشتركا فيما يكسبان بأبدانهما من المباح: إما بصناعة أو احتشاش أو اصطياد ونحوه" كالاحتطاب والتلصص على دار الحرب وفي المعادن وسائر المباحات فهي صحيحة. لما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: اشتركت أنا وسعد وعمار يوم بدر فلم أجيء أنا وعمار بشيء وجاء سعد بأسيرين. رواه أبو داود1 واحتج به أحمد.
مسألة: "والربح في جميع ذلك على ما شرطاه"؛ لأن الحق لا يخرج عنهما, "والوضيعة على قدر المال" وهي الخسارة على كل واحد منهما بقدر ماله: إن كان متساويا تساويا في الخسران وإن كان أثلاثا كان أثلاثا ولا نعلم فيه خلافا.
مسألة: "ولا يجوز أن يجعل لأحدهما دراهم معينة ولا ربح بشيء معين" لأن ذاك
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3388.(1/240)
كذلك وتجبر الوضيعة من الربح وليس لأحدهما البيع بنسيئة ولا أخذ شيء من الربح إلا بإذن الآخر.
و تجوز المساقاة في كل شجر له ثمر بجزء من ثمره مشاع معلوم والمزارعة في الأرض بجزء من زرعها سواء كان البذر منهما أو من أحدهما
ـــــــ
يفضي إلى جهل حق كل واد منهما من الربح ومن شرط المضاربة كون ذلك معلوما فيفسد بها العقد؛ لأن الفساد لمعنى في العوض المعقود عليه فأفسد العقد كما لو جعل رأس المال خمرا أو خنزيرا ويخرج في ذلك روايتان: إحداهما لا يبطل به عقد الشركة؛ لأنه إذا حذف من الشرط بقي الإذن بحاله والأخرى يبطل العقد؛ لأنه إنما رضي بالعقد بهذا الشرط فإذا فسد فات الرضا به ففسد كالشروط الفاسدة في البيع.
مسألة: "والحكم في المساقاة والمزارعة كذلك" يعني أن ذلك عقد جائز يشترط له من الشروط ما يشترط للمضاربة ويفسده ما يفسدها, وسيأتي ذكرها إن شاء الله.
مسألة: "وتجبر الوضيعة من الربح" لأن الربح الفاضل عن رأس المال وما لم يفضل فليس بربح وهذا لا نعلم فيه خلافا.
مسألة: "وليس لأحدهما البيع نسيئة" لأن فيه تغريرا بالمال وفيه وجه آخر يجوز لأن عادة التجار البيع نسأ والربح فيه أكثر.
مسألة: "وليس له أن يأخذ من الربح شيئا إلا بإذن الآخر" لأنه إذا أخذ من الربح شيئا يكون قرضا في ذمته فلا يجوز إلا بإذن كما في الوديعة.
مسألة: "وتجوز المساقاة في كل شجر له ثمر بجزء من ثمره مشاع معلوم" لما روى عبد الله بن عمر قال: عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع, متفق عليه. وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم: عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي, ثم أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع.
مسألة: وتجوز "المزارعة في الأرض بجزء من زرعها سواء كان البذر منهما أو من أحدهما" لحديت " ابن عمر وفي لفظ: على أن يعمروه من أموالهم" ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. "وعلى العامل ما جرت العادة بعمله" في المساقاة والمزارعة من الحرث والزبار والتلقيح وإصلاح طرق الماء والحصاد والدراس والذرى؛ لأن لفظهما يقتضي ذلك وموضعها أن العمل من العامل وأصل المال وما يتعلق ببقائه من رب المال فيلزمه ما فيه حفظ الأصل كسد الحيطان وإنشاء الأنهار وعمل الدولاب وما يديره وشراء ما يلقح بت, فإذا أطلق العقد فعلى كل واحد منهما ما ذكرنا وإن شرطا ذلك كان تأكيدا.(1/241)
لقول ابن عمر: عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع وثمر. وفي لفظ: على أن يعمروها من أموالهم, وعلى العامل ما جرت العادة بعمله ولو دفع إلى رجل دابة يعمل عليها وما حصل بينهما جاز على قياس ذلك.
ـــــــ
مسألة: "ولو دفع إلى رجل دابة يعمل عليها وما حصل بينهما جاز على قياس ذلك" لأنه يشبه ما لو دفع ماله إلى من يتجر فيه والربح بينهما, ويشترط أن يكون ما بينهما معلوما كالمضاربة(1/242)
باب إحياء الموات
وهي الأرض الدائرة التي لا يعرف لها مالك فمن أحياها ملكها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له وإحياؤها عمارتها بما تتهيأ به لما يراد منها"
ـــــــ
باب إحياء الموات
مسألة: "وهي الأرض الدائرة التي لا يعرف لها مالك", وهي نوعان: أحدهما أرض لم يجر عليه ملك فهذه تملك بالإحياء؛ لما روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضا ميتة فهي له". أخرجه الترمذي, وقال: حديث حسن صحيح. النوع الثاني: ما كان فيها من آثار الملك ولا يعلم لها مالك ففيها روايتان: إحداهما تملك بالإحياء للخبر ولما روى طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم بعد". رواه أبو عبيد في الأموال, ولأنه في دار الإسلام فيملك كاللقطة. والثانية: لا تملك لأنها إما لمسلم أو ذمي أو بيت المال فلم يجز إحياؤها كما لو تعين مالكها.
مسألة: "وإحياؤها عمارتها بما تتهيأ به لما يراد منها" والمرجع في ذلك إلى العرف فما تعارفه الناس أنه إحياء فهو إحياء؛ لأن الشرع ورد به ولم يثبته فيرجع فيه إلى العرف كما رجعنا إلى ذلك في القبض والإحراز فإذا ثبت هذا فإن الأرض تحيا دارا للسكنى أو حظيرة ومزرعة. فأما الدار فأن يبني حيطانها وسقفها لأنها لا تكون للسكنى إلا كذلك, وإن أرادها حظيرة فإحياؤها بحائط جرت به عادة مثلها وإن أرادها للزراعة فأن يحوط عليها بتراب أو غيره مما تتميز به عن غيرها ويسوق إليها ماء من نهر وبئر فإنها تصير محياة وإن لم يزرعها وإن كانت من الأرض التي لا تحتاج إلى ماء فأن يعمل فيها ما تتهيأ به للزراعة من قلع أحجارها وأشجارها وتمهيدها وذكر القاضي رواية أخرى في صفة الإحياء وهو أن يحوزها بحائط أو يجري لها ماء لما روى ابن عبد البر في كتابه عن سعيد وغيره من أصحاب قتادة عن قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحاط حائطا على أرض فهي له" رواه أبو داود وأحمد في المسند ومثله عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء أشبه ما لو جعلها للغنم حظيرة.(1/242)
كالتحويط عليها وسوق الماء إليها إن أرادها للزرع وقلع أشجارها وأحجارها المانعة من غرسها وزرعها وإن حفر فيها بئرا فوصل إلى الماء ملك حريمه وهو خمسون ذراعا من كل جانب إن كانت عادية, وحريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعا
ـــــــ
مسألة: "وإن حفر بئرا فوصل إلى الماء ملك حريمه وهو خمسون ذراعا من كل جانب إن كانت عادية وحريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعا"؛ لما روى الدارقطني بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ريم البئر البديء خمسة وعشرون ذراعا وحريم العادي خمسون ذرعا".(1/243)
باب الجعالة
وهي أن يقول: من رد لقطتي أو ضالتي أو بنى لي هذا الحائط فله كذا فمن فعل ذلك استحق الجعل؛ لما روى أبو سعيد: أن قوما لدغ رجل منهم فأتوا أصحاب رسول الله فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: لا حتى تجعلوا لنا شيئا, فجعلوا لهم قطيعا من الغنم فجعل رجل منهم يقرأ بفاتحة الكتاب ويرقي ويتفل حتى برأ فأخذوا الغنم وسألوا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "وما يدريكم أنها رقية؟ خذوا واضربوا لي معكم بسهم". ولو التقط اللقطة قبل أن يبلغه الجعل لم يستحقه
ـــــــ
باب الجعالة
مسألة: "وهي أن يقول: من رد لقطتي أو ضالتي أو بنى لي هذا الحائط فله كذا فمن فعل ذلك استحق الجعل", لقوله سبحانه وتعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} 1, وروى أبو مسعود أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حيا من أحياء العرب فلم يقروهم فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا: هل فيكم من راق؟ فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيع شياه فجعل رجل منهم يقرأ بأم القرآن ويجمع ريقه وبتفل فبرأ الرجل,فأتوهم بالشاء فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما يدريك أنها رقية خذوها واضربوا لي فيها بسهم". متفق عليه2. ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك في رد الضالة ونحوها فجاز كالأجرة.
مسألة: "ولو التقط اللقطة قبل أن يبلغه الجعل لم يستحقه"؛ لأنه يجب عليه ردها إذا وجدها فلا يجوز له الأخذ على الواجب.
ـــــــ
1 - آية 72 سورة يوسف.
2 - رواه البخاري في فضائل القرآن: حديث رقم 5007. ومسلم في السلام: حديث رقم 65, 66.(1/243)
باب اللقطة
وهي على ثلاثة أضرب: "أحدها": ما تقل قيمته فيجوز أخذه والانتفاع به من غير تعريف لقول جابر: رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به. "الثاني": الحيوان الذي يمتنع بنفسه من صغار السباع كالإبل والخيل ونحوها فلا يجوز أخذها لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ضالة الإبل فقال: "ما لك ولها؟ دعها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها". ومن أخذ هذا لم يملكه ولزمه ضمانه ولم يبرأ إلا بدفعه إلى نائب الإمام. "الثالث": ما تكثر قيمته من الأثمان والمتاع والحيوان الذي لا يمتنع من كل صغار السباع, فيجوز أخذه ويجب تعريفه حولا في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد فمتى جاء طالبه فوصفه دفعه إليه بغير بينة.
ـــــــ
باب اللقطة
مسألة: "وهي على ثلاثة أضرب: أحدها ما تقل قيمته فيجوز أخذه والانتفاع به" كالسوط والشسع والرغيف فيملك "بلا تعريف"؛ لما روى "جابر" قال: "رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به", رواه أبو داود1. "الثاني: الحيوان الذي يمتنع بنفسه من صغار السباع كالإبل والخيل" والبقر والبغال "فلا يجوز" التقاطها, لقوله عليه السلام لما "سأل عن ضالة الإبل" في حديث زيد بن مالك: "ما لك ولها؟ دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها". متفق عليه2.
مسألة: "ومن أخذ هذا لم يملكه ولزمه ضمانه" لأنه أخذ ملك غيره بغير إذنه ولا إذن الشارع له فهو كالغاصب.
"الثالث: ما تكثر قيمته كالأثمان والمتاع والحيوان الذي لا يمتنع بنفسه من صغار السباع فيجوز أخذه ويجب تعريفه حولا في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد فمتى جاء طالبه فوصفه دفع إليه بغير بينة"؛ لما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه". الحديث متفق عليه3.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في اللقطة: حديث رقم 1717.
2 - رواه البخاري في العلم: حديث رقم 91. ومسلم في اللقطة: حديث رقم 1, 2.
3 - المصدر عاليه.(1/244)
وإن لم يعرف فهو كسائر ماله ولا يتصرف فيه حتى يعرف وعاءه ووكاءه وصفته فمتى جاء طالبه فوصفه دفعه إليه أو مثله. إن كان قد هلك وإن كان حيوانا يحتاج إلى مؤنة أو شيئا يخشى تلفه فله أكله قبل التعريف أو بيعه, ثم يعرفه لما روى زيد بن خالد قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لقطة الذهب والورق فقال: "اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه" وسأله عن الشاة فقال: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب". وإن هلكت اللقطة في حول التعريف من غير تعد فلا ضمان فيها
"فصل في اللقيط" هو الطفل المنبوذ وهو محكوم بحريته وإسلامه وما وجد عنده من المال فهو له وولايته لملتقطه إذا كان مسلما عدلا ونفقته في بيت المال إن لم يكن معه ما ينفق عليه وما خلفه فهو فيء,
ـــــــ
مسألة: "وإن لم يعرف فهو كسائر ماله ولا يتصرف فيه حتى يعرف وعاءه ووكاءه وصفته فمتى جاء طالبه فوصفه دفعه إليه أو مثله إن كان قد هلك" لحديث زيد.
مسألة: "وإن كان حيوانا يحتاج إلى مؤنة أو يخشى تلفه فله أكله قبل التعريف أو بيعه ثم يعرفه" لأن في حديث زيد وسأله عن الشاة فقال: "خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب".
مسألة: "وإن هلكت اللقطة فى حول التعريف من غير تعد فلا ضمان فيها" لأنها عنده أمانة فهي كالمودع.
"فصل في اللقيط: وهو الطفل المنبوذ وهو محكوم بحريته"؛ لما روى سعيد عن سفيان عن الزهري أنه سمع شبيبا أبا جميلة قال: وجدت ملقوطا فأتيت به عمر رضي الله عنه فقال عريفي: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح فقال عمر: أكذلك هو؟ قال: نعم, فقال: اذهب فهو حر ولك ولاؤه وعلينا نفقته, أو قال: رضاعه, وقال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن اللقيط حر؛ ولأن الأصل في الآدميين الحرية فيكون حرا.
مسألة: "ويحكم بـ "إسلامه" في دار الإسلام إذا كان فيها مسلم لأنه اجتمع الدار وإسلام من فيها.
مسألة: "ومما يوجد عنده من المال فهو له" وكذلك ما يوجد عليه من الثياب والحلي أو تحته من فراش أو سرير أو غيره لأنه آدمي حر فأشبه البالغ.
مسألة: "وولايته لملتقطه إذا كان مسلما عدلا" لحديث أبي جميلة يعني: ولاية حفظه والإنفاق عليه "ونفقته في بيت المال إن لم يكن معه ما ينفق عليه" لذلك.
مسألة: "وما خلفه فهو فيء" وذلك أن ميراث اللقيط وديته إن قتل لبيت المال إن لم(1/245)
ومن ادعى نسبه ألحق به إلا إن كان كافرا ألحق به نسبا لا دينا, ولم يسلم إليه.
ـــــــ
يخلف وارثا معروفا كغيره من المسلمين. وأما حديث أبي جميلة وقول عمر: ولاؤه لك, فقال ابن المنذر: هو رجل مجهول وما يقوم بحديثه حجة, يعني: أبا جميلة, ويحتمل أن عمر عنى لك ولاية حفظه والقيام به. وحديث واثلة: "تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه" لا يثبت أيضا فيكون حكمه في الميراث حكم من ثبت نسبه وانقرض أهله, يدفع ميراثه إلى بيت المال.
مسألة: "ومن ادعى نسبه ألحق به" مسلما كان أو كافرا لأنه أقر له بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل كما لو أقر له بمال, ويتبع الكافر نسبا لا دينا لأنه محكوم بإسلامه بالدار فلا يزول ذلك بدعوى كافر.
مسألة: "ولم يدفع إليه" يعني إلى الكافر لأنه لا ولاية لكافر على مسلم.(1/246)
باب السبق
تجوز المسابقة بغير جعل في الأشياء كلها, ولا تجوز بجعل إلا في الخيل والإبل والسهام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر". فإن كان لجعل من غير المستبقين جاز وهو للسابق منهما وإن كان من أحدهما فسبق
ـــــــ
باب السبق
مسألة: "وتجوز المسابقة بغير جعل في الأشياء كلها" الدواب والأقدام والسفن والمزاريق وغيرها؛ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "سابق بين الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع, وبين التي لم تضمر من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق", متفق عليه1. وسابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة على قدميه, وسابق سلمة بن الأكوع رجلا من الأنصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يربعون حجرا أي يرفعونه ليعلم الشديد منهم فلم ينكر عليهم.
مسألة: "ولا تجوز بعوض إلا في الخيل والإبل والسهام"؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر". رواه أبو داود2, فتعين حمله على المسابقة بعوض جمعا بينه وبين ما سبق من الأحاديث, والمراد بالحافر الخيل خاصة وبالخف الإبل وبالنصل السهام, فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس من اللهو ثلاث: تأديب الرجل فرسه وملاعبة أهله ورميه بقوسه ونبله"؛ ولأن غير الخيل والإبل لا تصلح للكر ولا للفر في القتال, وغير السهام لا يعتاد الرمي بها فلم تجز المسابقة بها كالبقر.
مسألة: "فإن كان الجعل من غير المستبقين جاز وهو للسابق منهما"؛ لأنه إخراج مال
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الجهاد: حديث رقم 2869. ومسلم في: الإمارة: حديث رقم 95.
2 - رواه أبو داود في الجهاد: حديث رقم 2474.(1/246)
المخرج أو جاءا معا أحرز سبقه ولا شيء له سواه وإن سبق الآخر أخذه وإن أخرجا جميعا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافئ فرسه فرسيهما أو بعيره بعيريهما أو رميه رميهما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار, ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار". فإن سبقهما أحرز سبقيهما وإن سبق أحدهما أحرز سبق نفسه وأخذ سبق صاحبه, ولا بد من تحديد المسافه وبيان الغاية وقدر الإصابة وصفتها وعدد الرشق
ـــــــ
لمصلحة فجاز أن يكون من غيرهما كارتباط الخيل في سبيل الله عز وجل, ويكون للسابق منهما لأنه ليس بقمار.
مسألة: "وإن كان" العوض "من أحدهما فسبق المخرج أو جاءا معا أحرز سبقه ولا شيء له سواه" أما إذا جاءا معا فلا شيء لهما؛ لأنه لم يسبق واحد منهما وإن سبق المخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من الآخر شيئا لأنه لو أخذ شيئا كان قمارا.
مسألة: "وإن سبق الآخر" أحرز سبق صاحبه لأنه ليس بقمار.
مسألة: "وإن أخرجا جميعا لم يجز" لأنه يكون قمارا "إلا أن يدخلا بينهما محللا", وهو ثالث لم يخرج "يكافئ فرسه فرسيهما أو بعيره بعيريهما أو رميه رميهما"؛ لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمار, ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار". رواه أبو داود, فجعله قمارا إذا أمن أن يسبق لأنه لا يخلو كل واحد منهما أن يغنم أو يغرم وإذا لم يؤمن أن يسبق لم يكن قمارا؛ لأن كل واحد لا يخلو من ذلك.
مسألة: "فإن سبقهما أحرز سبقيهما" بالاتفاق, "وإن سبق" أحد المستبقين وحده "أحرز سبق نفسه وأخذ سبق صاحبه" ولم يأخذ من المحلل شيئا, وإن سبق أحد المستبقين والمحلل الثالث أحرز السابق مال نفسه ويكون سبق المسبوق بين السابق والمحلل نصفين.
مسألة: "ولا بد من تحديد المسافة والغاية" بما جرت به العادة؛ لأن الغرض معرفة أسبقهما وأرماهما ولا يعلم ذلك إلا بتساويهما في الغاية؛ ولأن أحدهما قد يكون مقصرا في أول عدوه سريعا في انتهائه وقد يكون بالضد فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه.
مسألة: ويشترط معرفة عدد "الإصابة وصفتها وعدد الرشق", الرشق: بكسر الراء عبارة عن عدد الرمي الذي يتفقان عليه, والرشق: بفتح الراء الرمي نفسه مصدر رشقت رشقا أي رميت رميا, اشترط معرفة عدده لأن الحذق في الرمي لا يعلم إلا بذلك, وعدد الإصابة ينبغي أن يكون معلوما فيكون الرشق مثلا عشرين والإصابة خمسة فيقولان أينا سبق إلى(1/247)
وإنما تكون المسابقة في الرمي على الإصابة لا على البعد
ـــــــ
خمس إصابات من عشرين رمية فهو السابق اشترط ذلك ليبين أحذقهما.
مسألة: وأما صفة الإصابة فإن أطلقاها تناولها على أي صفة كانت؛ لأنها إصابة فإن قالا: "خواصل" كانت تأكيدا لأنه اسم لها كيف ما كانت, وتسمى الإصابة أيضا "القرع" ويقال: "قرطس" إذا أصاب ومن أسماء الإصابة الموارق, وهو ما نفذ الغرض ووقع من الجانب الآخر, ويسمى "الصادر" أيضا ومن أسمائها "خواسق" وهو ما خرق الغرض وثبت فيه و "خوارق" وهو ما خرق الغرض ولم يثبت فيه, و "خواصر" وهو ما وقع في أحد جانبي الغرض, ومنه الخاصرة: لأنها في جانب الإنسان, فإن عينا شيئا من ذلك تقيدت المفاضلة به لأن المرجع في ذلك إلى شرطها.
مسألة: "وإنما تكون المسابقة في الرمي على الإصابة لا على البعد"؛ لأن المقصود منها الإصابة وليس البعد مقصودا.(1/248)
باب الوديعة
وهي أمانة عند المودع لا ضمان عليه فيها إلا أن يتعدى وإن لم يحفظها في حرز مثلها أو مثل الحرز الذي أمر بإحرازها فيه
ـــــــ
باب الوديعة
"وهي أمانة عند المودع لا ضمان عليه فيها إلا أن يتعدى" سواء ذهب معها شيء من مال المودع أو لم يذهب, وعنه إن ذهبت من بين ماله غرمها؛ لما روي عن عمر بن الخطاب أنه ضمن أنس بن مالك وديعة ذهبت من بين ماله, ودليل الأولى أن الله سبحانه سماها أمانة والضمان ينافي الأمانة, ويروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المودع ضمان" . ويروى ذلك عن جماعة من الصحابة؛ ولأن المستودع يحفظها لصاحبها متبرعا فلو ضمن لامتنع الناس من قبول الودائع فيضربهم لحاجتهم إليها, وما روي عن عمر محمول على التفريط من أنس في حفظها فلا ينافي ما ذكرناه. فأما إن تعدى فيها أو فرط في حفظها فتلفت ضمنها بغير خلاف نعلمه.
مسألة: "ويلزمه حفظها في حرز مثلها فإن تركها في دون حرز مثلها ضمن"؛ لأن الإيداع يقتضي الحفظ فإن أطلق حمل على المتعارف وهو حرز المثل وهو ما جرت العادة بحفظ مثلها فيه والدراهم والدنانير في الصناديق من وراء الأقفال والثياب في البيوت والمخازن من وراء السكاكر والأغلاق والخشب في الحضائر والغنم في الصير.
مسألة: "فإن أمره صاحبها بإحرازها في حرز فجعلها في دونه ضمن"؛ لأن صاحبها لم يرضه وإن أحرزها في مثله أو فوقه لم يضمن؛ لأن من رضي شيئا رضي مثله وفوقه وقيل(1/248)
أو تصرف فيها لنفسه أو خلطها بما لا تتميز منه أو أخرجها لينفقها ثم ردها أو كسر ختم كيسها أو جحدها ثم أقر بها, أو امتنع من ردها عند طلبها مع إمكانه ضمنها, وإن قال ما أودعتني ثم ادعى تلفها أو ردها لم يقبل منه, وإن قال: ما لك عندي شيء ثم ادعى ردها أو تلفها قبل, والعارية مضمونة وإن لم يتعد فيها المستعي
ـــــــ
يضمن لأنه خالف أمره لغير حاجة أشبه ما لو نهاه.
مسألة: "وإن تصرف فيها لنفسه" فركب الدابة لغير نفعها أو لبس الثوب فتلف "ضمن"؛ لأنه تعدى فيها فبطل استئمانه.
مسألة: "وإن خلطها بما لا تتميز منه" فقد فوت على نفسه إمكان ردها بعينها, فوجب أن "يضمنها" كما لو ألقاها في مهلكة.
مسألة: "وإن أخرجها لينفقها ثم ردها ضمن"؛ لأنه هتك الحرز بغير عذر.
مسألة: "وإن كسر ختم كيسها" ضمن لذلك.
مسأله: "وإن جحدها ثم أقر بها ضمنها"؛ لأنه بجحده بطل استئمانه عليها.
مسألة: وإن "امتنع من ردها عند طلبها مع إمكانه ضمنها"؛ لأنه تعدى بالامتناع من ردها فصار كالغاصب.
مسألة: "وإن قال: ما أودعتني ثم ادعى تلفها أو ردها لم يقبل منه"؛ لأنه مكذب لإنكاره الأول معترف على نفسه بالكذب المنافي للأمانة.
مسألة: "وإن قال ما لك عندي شيء ثم ادعى ردها أو تلفها قبل"؛ لأن من تلفت الوديعة عنده من غير تفريط من حرزه فلا شيء لمالكها عنده.
مسألة: "والعارية مضمونة وإن لم يتعد فيها المستعير"؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته عام حجة الوداع: "العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم". وروى صفوان ابن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعا, فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: "بل عارية مضمونة". رواه أبو داود.(1/249)
كتاب الإجارة
باب الإجارات
...
كتاب الإجارة
وهي عقد على المنافع لازم من الطرفين لا يملك أحدهما فسخها ولا تنفسخ بموته ولا جنونه, وتنفسخ بتلف العين المعقود عليها أو انقطاع نفعها, وللمستأجر فسخها بالعيب قديما كان أو حادثا, ولا تصح إلا على نفع معلوم إما بالعرف كسكنى دار أو بالوصف كخياطة ثوب معين أو بناء حائط أو حمل شيء إلى موضع
ـــــــ
باب الإجارات
"وهي عقد على المنافع" كسكنى الدار والحمل إلى مكان معين وخدمة الإنسان قال الله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}, وقال تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ}؛ ولأن الحاجة تدعو إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز عقد البيع على الأعيان وجب أن يجوز عقد الإجارة على المنافع.
مسألة: "وهي عقد لازم من الطرفين لا يملك أحدهما فسخها"؛ لأنها عقد بيع أشبهت بيوع الأعيان.
مسألة: "ولا تنفسخ بموته ولا جنونه" كالبيع "وتنفسخ بتلف العين المعقود عليها أو انقطاع نفعها", كما لو تلف المكيل قبل قبضه وكذلك إذا تعيبت كدار استأجرها فانهدمت أو أرض انقطع ماؤها؛ لأن المنفعة المقصودة منها تعذرت فأشبه تلف العبد, وفيه وجه آخر لا تنفسخ لأنه يمكن الانتفاع به بالسكنى في خيمة أو يجمع فيها حطبا أو متاعا لكن له الفسخ لأنها تعيبت.
مسألة: "ولا تصح الإجارة إلا على نفع معلوم إما بالعرف كسكنى الدار وإما بالوصف كخياطة ثوب معين, أو بناء حائط أو حمل شيء إلى موضع معين وضبط ذلك بصفاته" فيشترط أن يكون النفع معلوما؛ لأنه المعقود عليه فأشبه المبيع ويحصل العلم بالعرف كسكنى الدار شهرا والأرض عاما وبناء حائط يصف طوله وعرضه وارتفاعه. "كما يشترط معرفة الأجرة" ويشترط معرفة الأجرة كما يشترط معرفة الثمن في المبيع.(1/250)
معين وضبط ذلك بصفاته أو معرفة أجرته وإن وقعت على عين فلا بد من معرفتها ومن استأجر شيئا فله أن يقيم مقامه من يستوفيه بإجارته أو غيرها إذا كان مثله أو دونه وإن استأجر أرضا لزرع فله زرع ما هو أقل منه ضررا فإن زرع ما هو أكثر منه ضررا أو يخالف ضرره ضرره فعليه أجرة المثل وإن اكترى إلى موضع
ـــــــ
مسألة: "وإن وقعت" الإجارة "على عين فلا بد من معرفتها", وإجارة العين تنقسم قسمين: أحدهما: أن يكون على مدة كإجارة الدار شهرا أو العبد للخدمة أو للرعي مدة معلومة فيشترط معرفتها؛ لأن الأعيان تختلف فتختلف أجرتها كما أن المبيعات تختلف فتختلف أثمانها. القسم الثاني: إجارتها لعمل معلوم كإجارة الدابة للركوب إلى موضع معين أو بقر لحرث مكان معين أو دراس زرع فتشترط معرفة العمل وضبطه بما لا يختلف كيلا يفضي إلى التنازع والاختلاف كما قلنا في المبيع.
مسألة: "ومن استأجر شيئا فله أن يقيم مقامه من يستوفيه بإجارته أو غيرها إذا كان مثله أو دونه" فإذا اكترى دارا فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر؛ لأنه لم يزد على استيفاء حقه ولا يجوز أن يسكنها من هو أكثر ضررا منه لأنه يأخذ فوق حقه.
مسألة: "وإن استأجر أرضا لزرع فله زرع ما هو أقل ضررا منه" فإذا استأجر أرضا لزرع حنطة فله أن يزرع شعيرا أو باقلاء, وليس له زرع ما هو أكثر ضررا منه كالدخن والذرة والقطن؛ لأن ضررها أكثر ولا يملك الغرس ولا البناء لأنه أضر من الزرع.
مسألة: ولا يجوز له أن "يخالف ضرره ضرره" مثل القطن والحديد إذا اكترى لأحدهما لم يملك حمل الآخر؛ لأن ضررهما يختلف فإن الحديد يجتمع في مكان واحد بثقله والقطن يتجافى وتهب فيه الريح فينصب الظهر, فإن فعل شيئا من ذلك فعليه أجرة المثل لأنه استوفى منفعة غير التي عقد عليها فلزمه "أجرة المثل", كما لو استأجر أرضا لزرع شعير فزرعها قمحا أو كما لو حمل عليها من غير استئجار.
مسألة: "وإن اكترى إلى موضع فجاوزه" كمن يكتري دابة إلى حمص فركبها إلى حلب "أو لحمل شيء فيزيد عليه" كمن اكترى لحمل قنطار فحمل قنطارا ونصفا, "فعليه" الأجرة المذكورة "وأجرة المثل للزائد"؛ لأنها غير مأذون فيها فلزمه أجرتها كما لو غصبها في الجميع. وقال أبو بكر: عليه أجرة المثل للجميع لأنه عدل عن المعقود عليه إلى غيره فأشبه ما لو استأجر أرضا فزرع أخرى والأول أجود؛ لأنه إنما عدل في الزيادة لا غير فنقول فعل المعقود عليه وزاد فلزمته الأجرة المذكورة للمعقود عليه وأجرة المثل للزيادة لأنها غير مأذون فيها أشبه ما لو استأجر أرضا فزرعها وزرع أخرى.(1/251)
فجاوزه أو لحمل شيء فزاد عليه فعليه أجرة المثل للزائد وضمان العين إن تلفت, وإن تلفت من غير تعد فلا ضمان عليه, ولا ضمان على الأجير الذي يؤجر نفسه مدة بعينها فيما يتلف في يده من غير تفريط, ولا على حجام أو ختان أو طبيب إذا عرف منه حذق في الصنعة ولم تجن أيديهم
ـــــــ
مسألة: "و" يلزمه "ضمان العين إن تلفت" بقيمتها سواء كان صاحبها معها أو لم يكن؛ لأنها تلفت بالجناية عليها وسكوت صاحبها لا يسقط الضمان كمن جلس إلى جنب إنسان فخرق ثيابه وهو ساكت فإن الضمان يلزمه.
مسألة: "وإن تلفت من غير تعد فلا ضمان عليه" لأنه غير متعد.
مسألة: "ولا ضمان على الأجير الذي يؤجر نفسه مدة بعينها فيما يتلف في يده من غير تفريط", والإجارة على ضربين: خاص ومشترك فهذا هو الأجير الخاص الذي يؤجر نفسه مدة معلومة لخدمة أو خياطة أو رعاية شهرا أو سنة أو أكثر سمي خاصا لاختصاص المستأجر بمنفعته في تلك المدة دون سائر الناس لا ضمان عليه فيما يتلف في يده مثل أن تهلك الماشية معه أو تنكسر آله الحرث وما أشبه ذلك إذا لم يتعد لأنه أمين فلم يضمن من غير تعد كالمودع والتعدي أن ينام عن الماشية أو يغفل عنها حتى تبعد منه بعدا فاحشا فيأكلها الذئب, أو يضرب الشاة ضربا كثيرا فيضمن بعدوانه. والضرب الثاني: الأجير المشترك وهو الذي يقع العقد معه على عمل معين كخياطة ثوب أو بناء حائط سمي مشتركا لأنه يعمل للمستأجر وغيره يتقبل أعمالا كثيرة في وقت واحد فيشتركون في منفعته فيضمن ما جنت يده مثل أن يدفع إلى حائك عملا فيفسد حياكته أو القصار يخرق الثوب بدقه أو عصره والطباخ ضامن لما فسد من طبيخه, والخباز في خبزه لما روى جلاس بن عمرو أن عليا رضي الله عنه كان يضمن الأجير ولأنه قبض العين لمنفعة من غير استحقاق وكان ضامنا لها كالمستعير.
مسألة: "ولا" ضمان "على حجام ولا ختان أو طبيب إذا عرف منهم حذق الصنعة ولم تجن أيديهم" إذا فعل هؤلاء ما أمروا به لم يضمنوا بشرطين: أحدهما أن يكونوا ذوي حذق وبصارة في صنعتهم ومعرفة بها. والثاني: ألا تجني أيديهم فيتجاوزوا ما أمروا به لأنهم إذا كانوا كذلك فقد فعلوا فعلا مأذونا فيه فلم يضمنوا سرايته كقطع الإمام يد السارق أو فعلا مباحا مأمورا به أشبه ما ذكرنا.
مسألة: فأما إذا لم يعرف منهم حذق الصنعة فلا يحل لهم مباشرة القطع فإن قطعوا مع هذا كان فعلا محرما فيضمن سرايته كالقطع ابتداء, وإن كانوا حذاقا إلا أن أيديهم جنت مثل أن يتجاوز قطع الختان إلى الحشفة أو بعضها أو يقطع في غير محل القطع أو(1/252)
ولا على الراعي: إذا لم يتعد ويضمن القصار والخياط ونحوهما ممن يتقبل العمل ما تلف بعمله دون ما تلف حرزه.
ـــــــ
في وقت لا يصلح القطع فيه فإنه يضمن؛ لأن الإتلاف لا يختلف ضمانه بالعمد والخطأ, ولأن هذا فعل محرم فيضمن سرايته كالقطع ابتداء.
مسألة: "ولا" ضمان "على الراعي إذا لم يتعد" لأنه مؤتمن على حفظها فلم يضمن من غير تعد كالمودع والتعدي أن ينام عنها أو يتركها حتى تبعد عنه كثيرا, وشبه ذلك إذا فعل هذا ضمن لأنه تلف بعدوانه.
مسألة: "ويضمن القصار والخياط ونحوهما ممن يتقبل العمل ما تلف بعمله دون ما تلف من حرزه", وذلك أن القصار إذا أتلف الثوب بقوة الدق والعصر والخياط بخياطته فإنه يضمن لأنه قبض العين لمنفعته فأشبه المستعير فأما إن تلفت من حرزه فلا يضمن لأنه أمين فأشبه المودع.(1/253)
باب الغصب
وهو استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق.
من غصب شيئا فعليه رده وأجرة مثله إن كان له أجرة مدة مقامه في يده, وإن نقص فعليه أرش نقصه, وإن جنى المغصوب فأرش جنايته عليه سواء جنى على سيده أو أجنبي وإن جنى عليه أجنبي فلسيده تضمين من شاء منهما
ـــــــ
باب الغصب
وهي الاستيلاء على مال غيره بغير حق:
مسألة: "ومن غصب شيئا فعليه رده", لقوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه". "و" عليه "أجرة مثله مدة مقامه في يده"؛ لأنه فوت عليه منفعته, والمنافع لها قيمة فيضمنها كالأعيان.
مسألة: "وإن نقص فعليه أرش نقصه"؛ لأنه يلزمه ضمان جميع المغصوب لو تلف فيلزمه ضمان بعضه بقيمته قياسا للبعض على الكل.
مسألة: "وإن جنى المغصوب فأرش جنايته عليه", يعني: على الغاصب, "سواء جنى على سيده أو أجنبي"؛ لأنه نقص في حق العبد لكونه يتعلق برقبته فكان مضمونا على الغاصب كسائر نقصه.
مسألة: "وإن جنى عليه أجنبي فلسيده تضمين من شاء منهما", الجاني: لأنه أتلف, والغاصب: لأن نقص العبد حصل وهو في يده فلزمه ضمانه كما لو كان هو المتلف؛ لأن(1/253)
وإن زاد المغصوب رده بزيادته سواء كانت متصلة أو منفصلة وإن زاد أو نقص رده بزيادته وضمن نقصه سواء زاد بفعله أو بغير فعله فلو نجر الخشبة بابا أو عمل الحديد إبرا ردهما بزيادتهما وضمن نقصهما إن نقصا, ولو غصب قطنا فغزله أو غزلا فنسجه أو ثوبا فقصره أو فصله وخاطه أو حبا فصار زرعا أو نوى فصار شجرا أو بيضا فصار فراخا فكذلك, وإن غصب عبدا فزاد في بدنه أو بتعليمه ثم ذهبت الزيادة رده وقيمة الزيادة, وإن تلف المغصوب أو تعذر رده فعليه مثله إن كان مكيلا أو موزونا وقيمته إن لم يكن كذلك ثم إن قدر على رده رده ويأخذ القيمة
ـــــــ
الجناية إن كانت غير مقدرة كشجة دون أرش الموضحة لزم فيها ما نقص من قيمته, وإن كانت على شيء مقدر كقطع يده أو قلع عينه فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه ضمان مال أشبه ضمان البهيمة وفي الأخرى يجب نصف قيمته ويخرج أن يجب أكثر الأمرين منهما؛ لأن سبب ضمان كل واحد منهما قد وجد فوجب أكثرهما فإن ضمن الغاصب أكثر الأمرين رجع على الجاني بنصف قيمته لا غير؛ لأن ضمانه ضمان الجناية وإن ضمن الجاني ضمنه نصف القيمة لأن جنايته لا توجب أكثر من ذلك ويطالب الغاصب بتمام النقص كما لو أتلفه.
مسألة: "وإن زاد المغصوب" أو نقص "رده بزيادته سواد كانت" الزيادة "متصلة" كالسمن وتعلم صنعة "أو منفصلة", كالورد والكسب؛ لأن ذلك نماء ملكه, ويضمن النقص لما سبق, و "سواء" كانت الزيادة بفعل الغاصب "أو بغير فعله" كمن "نجر الخشبة بابا أو عمل الحديد إبرا" لأن ذلك غير ماله فيلزمه "رده بزيادته" كما لو زاد بسمن أو تعلم صنعة "ويضمن النقص" لما سبق.
مسأله: "ولو غصب قطنا فنسجه أو ثوبا فقصره أو فصله وخاطه أو حبا فصار زرعا أو نوى فصار شجرا أو بيضا فصار فراخا فكذلك" لذلك.
مسألة: "وإن غصب عبدا فزاد في بدنه أو بتعليمه ثم ذهبت الزيادة رده وقيمة الزيادة"؛ لأنها زادت على ملك المغصوب منه فلزمه ضمانها كما لو كانت موجودة حال الغصب.
مسألة: "وإن تلف المغصوب أو تعذر رده فعليه مثله إن كان مكيلا أو موزونا وقيمته إن لم يكن كذلك". أما إذا تلف المغصوب فعليه مثله. قال ابن عبد البر: كل مطعوم من مأكول أو مشروب فمجمع على أنه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته وإن لم يكن كذلك فعليه قيمته؛ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل". متفق عليه1. فأمر بالتقويم في حصة الشريك لأنها متلفة بالعتق ولم يأمر
ـــــــ
1 -رواه البخاري في العتق: حديث رقم 2524. ومسلم في العتق: حديث رقم 1.(1/254)
وإن خلط المغصوب بما لا يتميز به من جنسه فعليه مثله منه وإن خلطه بغير جنسه فعليه مثله من حيث شاء, وإن غصب أرضا فغرسها أخذ بقلع غرسه وردها وأرش نقصها وأجرتها, وإن زرعها وأخذ الغاصب الزرع ردها وأجرتها وإن أدرك
ـــــــ
بالمثل, وأما إذا تعذر رده مع وجوده فعليه مثله أو قيمته لذلك. "ثم إن قد ر على رده" بعد ذلك "رده" لأنه غير مال فيلزمه رده كما لو لم يتعذر رده, "ويأخذ القيمة"؛ لأن المالك أخذها على سبيل العوض عن ملكه فإذا رجع إليه ملكه ردها كما لو لم يكن أخذ شيئا.
مسألة: "وإن خلط المغصوب بما لا يتميز به من جنسه فعليه مثله منه" في أحد الوجهين, وهو قول ابن حامد لأنه قدر على دفع ماله إليه فلم ينتقل إلى البدل في الجميع كما لو غصب شيئا فتلف بعضه وهو ظاهر كلام أحمد رحمه الله, وفي الوجه الآخر يلزمه مثله من حيث شاء وهو قول القاضي لأنه تعذر رد عينه أشبه ما لو أتلفه كله.
مسألة: "وإن خلطه بغير جنسه فعليه مثله حيث شاء" لذلك.
مسألة: "وإن غصب أرضا فغرسها أخذ بقلع غرسه" لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق" 1. ويلزمه "ردها" لقوله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما أخذت حتى تؤدي". "و" يلزمه "أرش نقصها" لأنها لو تلفت جميعا لزمه قيمتها فإذا نقصت لزمه البعض كما يلزمه ضمان الجملة, ويلزمه الأجرة لأنه شغل ملك الغير بغير إذنه أشبه غصب الدابة.
مسألة: "وإن زرعها وأخذ الغاصب الزرع ردها وأجرتها" لذلك.
مسألة: "وإن أدرك الزرع قبل حصاده خير بين ذلك" يعني بين تركه بالأجرة لما سبق "وبين أخذ الزرع بقيمته"؛ لما روى رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وعليه نفقته". رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي, وقال: حديث حسن.
مسألة: "وإن غصب جارية فوطئها وأولدها لزمه الحد"؛ لأنه زان لكونها ليست زوجته ولا ملك يمين "و" يلزمه "ردها", لقوله صلى الله عليه وسلم: "على كل يد ما أخذت حتى تؤدي". "ورد ولدها" لأنه نماء غير ملكه "و" يلزمه "مهر مثلها" سواء كانت مكرهة أو مطاوعة؛ لأن هذا حق للسيد فلا يسقط بمطاوعتها كما لو أذنت في قطع يدها.
مسألة: "و" يجب "أرش نقصها" إن نقصت بالولادة كما يلزمه أرش نقص الأرض إذا زرعها.
ـــــــ
1 - رواه مالك في: الأقضية: رقم 26.(1/255)
مالكها الزرع قبل حصاده خير بين ذلك وبين أخذ الزرع بقيمته, وإن غصب جارية فوطئها وأولدها لزمه الحد وردها ورد ولدها ومهر مثلها وأرش نقصها وأجرة مثلها, وإن باعها فوطئها المشتري وهو لا يعلم فعليه مهرها وقيمة ولدها إن أولدها وأجرة مثلها ويرجع بذلك كله على الغاصب.
ـــــــ
مسألة: ويجب عليه "أجرة مثلها" لكونه شغل ملك الغير بغير إذنه وإن كانت بكرا لزمه أرش بكارتها مع المهر؛ لأنه بدل آخر منها وإنما اجتمعا لأن كل واحد منهما يضمن منفردا بدليل أنه لو وطئها ثيبا وجب مهرها ولو افتضها بإصبعه وجب أرش بكارتها, وعنه لا يلزمه مهر الثيب لأنه لم ينقصها ولم يؤلمها أشبه ما لو قبلها.
مسألة: "وإن باعها فوطئها المشتري وهو لا يعلم فعليه مهرها"؛ لأنه وطئ جارية غيره بغير نكاح وإن ولدت منه فهو حر؛ لأن اعتقاده أنه يطأ مملوكته منع انخلاق الولد رقيقا أو يلحقه نسبه. وعليه فداؤه لأنه فوت رقه على سيده باعتقاده حل الوطء ويفديه ببدله يوم الوضع. قال الخرقي: يفديه بمثله يعني في السن والجنس والصفات وقد نص عليه أحمد رحمه الله. وقال أبو الخطاب: يفديه يقيمته لأن الحيوان ليس بمثله ووجه قول الخرقي أنهم أحرار والحر لا يضمن بقيمته.
مسألة: ويلزمه "أجرة مثلها" كما لو غصب بهيمة "ويرجع بذلك على الغاصب"؛ لأن المشتري دخل على أن يتمكن من الوطء بغير عوض, وأن يسلم له الأولاد فإذا لم يسلم له ذلك فقد غره فيرجع إليه كالمغرور بتزويج الأمة على أنها حرة.(1/256)
باب الشفعة
وهو استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها ولا تجب إلا بشروط سبعة: أحدها: البيع فلا تجب في موهوب ولا موقوف ولا عوض خلع.
ـــــــ
باب الشفعة
مسألة: "وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها".
مسألة: "ولا تجب إلا بشروط سبعة: أحدها البيع فلا تجب في موهوب ولا موقوف ولا عوض خلع ولا صداق" بشرط أن تكون الشفعة في مبيع؛ لما روى جابر قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يستأذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يستأذنه فهو أحق به. أخرجه مسلم1. فجعله أحق به إذا باع وأما إذا انتقل بغير عوض كالموهوب والموصى به والموقوف فلا
ـــــــ
1 -رواه مسلم في المساقاة: حديث رقم 134.(1/256)
ولا صداق. "الثاني": أن يكون عقارا أو ما يتصل به من البناء والغراس. "الثالث": أن يكون شقصا مشاعا فأما المقسوم المحدود فلا شفعة فيه لقول جابر: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. "الرابع": أن يكون مما ينقسم فأما ما لا ينقسم فلا شفعة فيه
ـــــــ
شفعة فيه؛ لأنه انتقل بغير بدل أشبه الموروث ولا شفعة فيما عوضه عن المال كالخلع والصداق والصلح عن دم العمد؛ لأنه انتقل بغير مال أشبه الموهوب ولأنه لا يمكن الأخذ بمثل العوض أشبه الموروث. وقال ابن حامد: فيه الشفعة لأنه عقد معاوضة أشبه البيع ويأخذ الشقص بقيمته.
الشرط: "الثاني: أن يكون عقارا أو ما يتصل به من البناء والغراس"؛ لحديث جابر في أول الباب ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" 1. وفي حديث: "إذا قسمت الأرض وحددت فلا شفعة فيها". رواه أبو داود2, وهذا يختص العقار فتختص الشفعة بت.
"الثالث: أن يكون شقصا مشاعا فأما المقسوم المحدود فلا شفعة فيه"؛ للأحاديث المذكورة مع حديث جابر.
الشرط "الرابع: أن يكون مما ينقسم فأما ما لا ينقسم فلا شفعة فيه" كالحمام الصغير والبئر والطرق والعراض الضيقة, فعن أحمد فيها روايتان: إحداهما لا شفعة فيها: والأخرى فيها الشفعة لعموم الحديث في ذلك؛ ولأنه عقار مشترك فتجب فيه الشفعة كالذي يمكن قسمته؛ ولأن الشفعة تثبت لأجل الضرر بالمشاركة والضرر في هذا النوع أكثر؛ لأنه يتأبد ضرره والرواية الأولى ظاهر المذهب لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا شفعة في فناء ولا طريق ولا منقبة". وهو الطريق الضيق. رواه أبو الخطاب في رءوس المسائل, وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر ولا فحل3؛ ولأن إثبات الشفعة في هذا يضر البائع لأنه لا يمكنه التخلص من إثبات الشفعة في نصيبه بالقسمة, وقد يمتنع المشتري لأجل الشفيع فيضر بالبائع وقد يمتنع البيع لتسقط الشفعة فيؤدي إثباتها إلى انتفائها, وأيضا فإن الشفعة تثبت لدفع الضرر الذي يلحقه بالمقاسمة لما يحتاج من إحداث المرافق الخاصة وهذا لا يوجد فيما لا يقسم.
ـــــــ
1- رواه البخاري في الشركة: حديث رقم 2495, 2496. ومالك في الشفعة: حديث رقم 1, 4.
2 -رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3515.
3 - رواه مالك في الشفعة: حديث رقم 4.(1/257)
الخامس: أن يأخذ الشقص كله فإن طلب بعضه سقطت شفعته ولو كان له شفيعان فالشفعة بينهما على قدر سهامهما فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر إلا أخذ الكل أو الترك. السادس: إمكان أداء الثمن فإن عجز عنه أو عن بعضه سقطت شفعته وإذا كان الثمن مثليا فعليه مثله, وإن لم يكن مثليا فعليه قيمته, وإن اختلفا في قدره ولا بينة لهما فالقول قول المشتري مع يمينه. السابع: المطالبة بها على الفور ساعة يعلم فإن أخرها بطلت شفعته.
ـــــــ
"الخامس: أن يأخذ الشقص كله فإن طلب بعضه بطلت شفعته" لأن أخذه لبعضها ترك للبعض الآخر فتسقط الشفعة فيه فإذا سقط بعضها سقط جميعها لأنها لا تتبعض فتسقط كلها كالقصاص.
مسألة: "فإن كان له شفيعان فالشفعة بينهما على قدر سهامهما" في ظاهر المذهب؛ لأنه حق يستحق بسبب الملك فيسقط على قدره كالأجرة, وعنه على عدد الرؤوس اختارها ابن عقيل لأن كل واحد منهما يأخذ الكل لو انفرد فإذا اجتمعوا تساووا كسراية العتق.
مسألة: "فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر أن يأخذ إلا الكل أو الترك"؛ لأن في أخذ البعض تفريق صفقة المشتري فيتضرر بذلك. قال ابن المنذر: أجمع من أحفظ عنه من أهل العلم على ذلك.
"السادس: إمكان أداء الثمن"؛ لقوله عليه السلام في حديث جابر: "فهو أحق به بالثمن" رواه الجوزجاني. "فإن عجز عنه أو عن بعضه سقطت شفعته"؛ لأن أخذه المبيع من غير دفع الثمن أو بعضه إضرار بالمشتري, وقال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار". ولأن ثبوت الشفعة لدفع الضرر عن الشفيع والضرر لا يدفع بالضرر فإن عجز عنه أو عن بعضه بطلت الشفعة؛ لأن من شروط ثبوت الشفعة القدرة على الثمن لما ذكرنا.
مسألة: "وإن كان الثمن مثليا" كالأثمان والحبوب والأدهان "فعليه مثله وإن لم يكن مثليا أعطاه قيمته": لما ذكرنا في الغصب.
مسألة: "وإن اختلفا في قدره ولا بينة لهما فالقول قول المشتري مع يمينه"؛ لأنه علم بالثمن ولأن المبيع ملكه فلا ينزع منه بدعوى مختلف فيها إلا ببينة وعلى المشتري اليمين؛ لأن دعوى البائع محتملة.
"السابع: المطالبة بها على الفور ساعة يعلم فإن أخرها بطلت شفعته" 1 في
ـــــــ
1 - رواه ابن في: الشفعة: حديث رقم 2500. وإسناده ضعيف.(1/258)
إلا أن يكون عاجزا عنها لغيبة أو حبس أو مرض أو صغر فيكون على شفعته متى قدر عليها إلا أنه إن أمكنه الإشهاد على الطلب بها فلم يشهد بطلت شفعته, فإن لم يعلم حتى تبايع ثلاثة فأكثر فله مطالبة من شاء منهم فإن أخذ من الأول رجع عليه الثاني بما أخذ منه والثالث على الثاني.
ومتى أخذه وفيه غرس أو بناء للمشتري أعطاه الشفيع قيمته إلا أن يختار المشتري قلعه من غير ضرر فيه.
ـــــــ
الصحيح من المذهب لقول عمر رضي الله عنه: الشفعة كحل العقال. رواه ابن ماجه.
ولأن إثباتها على التراخي يضر بالمشتري كالرد بالعيب. لكونه يستقر ملكه على المبيع فلا يتصرف فيه خوفا من أخذه بالشفعة. و قال القاضي:يتقيد بالمجلس لأنه كله كحالة العقد. و عنه أنها على التراخي و المذهب الأول.
مسألة: "إلا أن يكون عاجزا عنها لغيبة أو حبس أو مرض أو صغر فيكون على شفعته متى قدر عليها" [لأن من لا يقدر على الشيء عاجز عنه فلا يكلف فوق وسعه و لا نعلم فيه خلافا] "إلا أنه إن أمكنه الإشهاد على الطلب بها فلم يشهد بطلت شفعته" كما لو ترك الطلب مع حضوره.
مسألة: "فإن لم يعلم حتى تبايع" ذلك "ثلاثة أو أكثر فله مطالبة من شاء منهم فإن أخذ من الأول رجع عليه الثاني بما أخذ منه والثالث على الثاني" فمتى تصرف المشتري في المبيع قبل أخذ الشفيع فتصرفه صحيح, لأنه ملكه إلا أن الشفيع ملك عليه أن يتملكه وذلك لا يمنع من تصرفه كما لو كان الثمن معينا فتصرف المشتري في المبيع فإن تصرفه صحيح, وإن ملك عليه الرجوع فيه إذا ثبت هذا فإن المشتري إذا باع الشقص المشفوع وباعه المشتري الثاني للثالث فللشفيع أن يفسخ العقدين الآخرين ويأخذ بالأول وله أن يفسخ الثالث وحده ويأخذ بالثاني, وله أن يقر الجميع ويأخذ بالثالث فإذا أخذ من الثالث دفع إليه الثمن الذي اشترى به ولم يرجع على أحد وإن فسخ العقد الثالث وأخذ من الثاني دفع إليه الثمن الذي اشترى به ورجع الثالث على الثاني بالثمن الذي أخذ منه, وإن فسخ العقدين الآخرين وأخذ من الأول دفع إليه ما اشترى به ورجع الثاني على الأول بما أخذ منه, والثالث على الثاني فإذا كان ثمن العقد الأول عشرة والثاني عشرين والثالث ثلاثين فإنه يأخذ من الأول بعشرة ويدفعها إليه ثم يعود الثاني على الأول بعشرين ويرجع الثالث على الثاني بثلاثين لا نعلم في هذا خلافا.
مسألة: "ومتى أخذه وفيه غرس أو بناء أعطاه الشفيع قيمته", ويملكه لقوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار". رواه أحمد وابن ماجه ولا يزول عنهما الضرر إلا بذلك.
مسألة: "إلا أن يختار المشتري قلعه" فله ذلك لأنه ملكه فملك نقله ولا يلزمه ضمان(1/259)
وإن كان فيه زرع أو ثمر باد فهو للمشتري يبقى إلى الحصاد أو الجذاذ وإن اشترى شقصا وسيفا في عقد واحد فللشفيع أخذ الشقص بحصته
ـــــــ
نقص الأرض لأنه غير متعد. وقال الخرقي: له ذلك إذا لم يكن في أخذه "ضرر" فيحتمل كلامه أن يلزمه ضمان النقص لأنه قلعه من ملك غيره لتخليص ملكه أشبه ما لو كسر محبرة إنسان لتخليص ديناره منها.
مسألة: "وإن كان فيه زرع أو ثمر باد فهو للمشتري يبقى إلى الحصاد والجذاذ"؛ لأنه زرعه بحق فوجب إبقاؤه كما لو باع الأرض المزروعة والشجر الذي عليه ثمر باد.
مسألة: "وإن اشترى شقصا وسيفا في عقد واحد فللشفيع أخذ الشقص بحصته" من الثمن ويحتمل أن لا يجوز لما فيه من تبعيض الصفقة على المشتري, وعن مالك تثبت الشفعة فيهما لئلا تتبعض الصفقة على المشتري ولنا أن السيف لا شفعة فيه ولا هو تابع لما فيه الشفعة فلم يؤخذ بالشفعة كما لو أفرده وما يلحق المشتري من الضرر فهو ألحقه بنفسه بجمعه بين ما ثبتت فيه الشفعة وما لا تثبت فيه, ولأن في أخذ الكل ضررا به لأنه ربما كان غرضه في السيف فيكون أخذه منه إضرارا به من غير سبب يقتضيه.(1/260)
كتاب الوقف
مدخل
...
كتاب الوقف
وهو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ويجوز في كل عين يجوز بيعها وينتفع بها دائما مع بقاء عينها ولا يصح في غير ذلك مثل الأثمان والمطعومات والرياحين ولا يصح إلا على بر أو معروف مثل ما روي عن عمر أنه قال: يا رسول الله إني أصبت مالا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني فيه؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنها لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث". قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقا غير متمول فيه.
ـــــــ
كتاب الوقف
"وهو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة".
مسألة: "ويجوز في كل عين يجوز بيعها وينتفع بها دائما مع بقاء عينها" كالعقار والحيوان والأثاث والسلاح فما لا يجوز بيعه لا يصح وقفه, كأم الولد والكلب لأنه نقل للملك فيهما فلم يجز كالهبة. "وما لا ينتفع به دائما مع بقائه لا يصح وقفه كالمطعومات والرياحين" لأنه يتنافى.
مسألة: "ولا يصح إلا على بر أو معروف, مثل ما روى" عبد الله بن عمر قال: أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره, فقال: "يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني فيها؟ قال: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث". قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل والضيف, لا جناح على من وليها أن يأكل منها" أو يطعم صديقا "بالمعروف" غير متأثل فيه أو- "غير متمول فيه" متفق عليه1. وقال
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الوصايا: حديث رقم 2772. ومسلم في الوصية: حديث رقم 15. 16.(1/261)
ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه مثل أن يبني مسجدا ويأذن في الصلاة فيه أو سقاية ويشرعها للناس, ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطل منافعه بالكلية فيباع ويشتري
ـــــــ
صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". رواه مسلم1.
مسألة: "ويصح الوقف بالقول والفعل الدال عليه مثل أن يبني مسجدا ويأذن في الصلاة فيه أو سقاية ويشرعها للناس"؛ لأن العرف جار به وفيه دلالة على الوقف فجاز أن يثبت به كالقول وجرى مجرى من قدم طعاما لضيافه أو نثر نثارا أو صب في خوابي السبيل ماء, وعنه لا يصح إلا بالقول وألفاظه ست: ثلاث صريحة وثلاث كناية فالصريح: وقفت وحبست وسبلت متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفا من غير انضمام أمر زائد؛ لأن هذه الألفاظ ثبت لها حكم الاستعمال بين الناس يفهم الوقف منها عند الإطلاق, وانضم إلى ذلك الشرع بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها" فصارت هذه الألفاظ في الوقف كلفظ الطلاق في التطليق, وأما الكناية فهي: تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة؛ لأن لفظة الصدقة والتحريم مشتركة فإن الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات, والتحريم يستعمل في الظهار والأيمان, ويكون تحريما على نفسه أو على غيره والتأبيد يحتمل تأبيد التحريم وتأبيد الوقف, ولم يثبت لهذه الألفاظ عرف الاستعمال فلا يحصل الوقف بمجردها فإن ضم إليها أحد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها: أحدها أن ينضم إليها أخرى تخلصها من الألفاظ الخمسة فيقول: صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة. الثاني: أن يصفها بصفات الوقف فيقول: صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث؛ لأن هذه القرينة تزيل الاشتراك. الثالث: أن ينوي الوقف فيكون على ما نوى ليصير وقفا في الباطن فإن اعترف بما نواه لزم الحكم لظهوره. ولو قال: ما أردت الوقف فالقول قوله؛ لأنه أعلم بما نوى. وظاهر كلام أحمد وظاهر المذهب أن الوقف يحصل بالفعل مع القرينة مثل: أن يبنى مسجدا ويأذن في الصلاة فيه, وذكر القاضي عنه ما يدل على أنه لا يصح إلا بالقول وهو مذهب الشافعي, ودليله أن هذا تحبيس أصل على وجه القربة فوجب أن يفتقر إلى اللفظ كالوقف على الفقراء, والأول أولى لما سبق, وأما الوقف على الفقراء فلم تجر به عادة بغير لفظ ولو كان بشيء جرت به العادة ودلت عليه الحال لكان هكذا.
مسألة: "ولا يجوز بيعه" لحديث عمر "إلا أن تتعطل منافعه بالكلية فيباع ويشترى به ما يقوم مقامه" لما روي أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الوصية: حديث رقم 14.(1/262)
به ما يقوم مقامه. والفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع واشترى به ما يصلح للجهاد, والمسجد إذا لم ينتفع به في مكانه بيع ونقل إلى مكان ينتفع به.
ويرجع في الوقف ومصرفه وشروطه وترتيبه وإدخال من شاء بصفة وإخراجه بها -وكذلك الناظر فيه والنفقة عليه- إلى شرط الواقف فلو وقف على ولد فلان ثم على المساكين كان الذكر والأنثى بالسوية, إلا أن يفضل بعضهم فإذا لم يبق منهم
ـــــــ
بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد فإنه لن يزال في المسجد مصل, وكان هذا بمشهد من الصحابة ولم يظهر خلافه ووجه الحجة منه أنه أمره بنقله من مكانه فدل على جواز نقل الوقف من مكانه وإبداله بمكان آخر, وهذا معنى البيع؛ ولأن فيما ذكرنا استبقاء الوقف بمعناه عند تعذر إبقائه بصورته فوجب كما لو استولد الموقوف عليه الجارية الموقوفة أو قتلها فإنه يجب قيمتها وتصرف في شراء مثلها, وعنه: لا تباع المساجد لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر؛ لأن المقصود يحصل بنقلها لحديث عمر "ولا يباع أصلها".
مسألة: "والفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع واشترى بثمنه ما يصلح للجهاد" إجماعا.
مسألة: "والمسجد إذا لم ينتفع به في مكانه بيع ونقل إلى مكان ينتفع به" لحديث عمر رضي الله عنه.
مسألة: "ويرجع في الوقف ومصرفه وشروطه وترتيبه وإدخال من شاء بصفة وإخراجه بها, وكذلك الناظر فيه والنفقة عليه" وسائر أحواله "إلى شرط الواقف"؛ لأنه ثبت بوقفه فوجب أن يتبع فيه شرطه ولأن عمر رضي الله عنه وقف أرضه على الفقراء وذوي القربى وفي الرقاب وابن السبيل والضيف وجعل لمن وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا, ووقف الزبير على ولده وجعل للمردودة من بناته أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها فإن استغنت بزوج فلا حق لها.
مسألة: "فلو وقف على ولد فلان ثم على المساكين كان للذكر والأنثى بالسوية" وإنما كان جميعهم بالسوية؛ لأن الجميع أولاده فلفظه يقتضي ذلك ولا يدخل فيه ولد البنات؛ لأنهم ليسوا من ولده قال الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب
و "إن فضل بعضهم فله ذلك"؛ لأنه ثبت بشرطه "فإذا لم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين"؛ لأنه جعل المساكين بعد ولده بقوله ثم على المساكين(1/263)
أحد رجع إلى المساكين. وإن كان الوقف على من يمكن حصرهم لزم استيعابهم به والتسوية بينهم, إلا أن يفضل بعضهم وإن لم يمكن حصرهم جاز تفضيل بعضهم على بعض, وتخصيص واحد منهم به
ـــــــ
مسألة: "وإن كان الوقف على من يمكن حصرهم لزمه استيعابهم به والتسوية بينهم"؛ لأن اللفظ يقتضي ذلك وقد أمكن الوفاء به فوجب العمل بمقتضاه, كقوله سبحانه: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ}, إنه يجب تعميم الإخوة من الأم والتسوية بينهم؛ ولأن اللفظ يقتضي التسوية أشبه ما لو أقر لهم. "إلا أن يفضل بعضهم" فله ذلك لأنه ثبت بلفظه.
مسألة: "وإن لم يمكن حصرهم" كالمساكين وبني هاشم "جاز تفضيل بعضهم على بعض وتخصيص واحد منهم به"؛ لأنه لا يمكن تعميمهم فلا تجب إجماعا؛ لأنه لا يدخل تحت الوسع ويجوز التفضيل؛ لأن من جاز حرمانه جاز تفضيل غيره عليه ويجوز الاقتصار على واحد منهم كما قلنا في الزكاة ويحتمل أن لا يجزئه أقل من ثلثه بناء على القول في الزكاة.(1/264)
باب الهبة
وهي تمليك المال في الحياة بغير عوض وتصح بالإيجاب والقبول والعطية المقترنة بما يدل عليها, وتلزم بالقبض
ـــــــ
باب الهبة
"وهي تمليك المال في الحياة بغير عوض":
مسألة: "وتصح بالإيجاب والقبول والعطية المقترنة بما يدل عليها", فالإيجاب أن يقول: وهبتك أو ملكتك أو أعطيتك أو لفظ يؤدي هذا المعنى, والقبول أن يقول: قبلت أو رضيت أو نحو هذا إذا لم يوجد قبض فأما مع القبض فلا يفتقر إلى ذلك؛ لأن الأخذ قام مقام القبول في الدلالة على الرضا به وقبوله, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي ويهدى إليه ويهب ويوهب له, وكذلك الصحابة رضي الله عنهم, ولم ينقل عنهم إيجاب ولا قبول ولو استعملوه لنقل إلينا نقلا شائعا, ولم ينقل إلا المعاطاة والتفرق عن تراض فكان ذلك كافيا.
مسألة: "وتلزم بالقبض" وهو إجماع الصحابة؛ لأن ذلك روي عن أبي بكر وعمر ولم يعرف لهم مخالف, وروي عن عائشة أن أبا بكر نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالغابة فلما مرض قال: يا بنية إني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا وددت أنك كنت حزتيه أو قبضتيه وهو اليوم مال وارث فاقتسموه على كتاب الله عز وجل؛ ولأنها هبة غير مقبوضة فلا تلزمه كما لو مات قبل أن يقبض ولأن الهبة أحد نوعي التمليك فكان منها ما يلزم قبل القبض كالبيع.(1/264)
ولا يجوز الرجوع فيها, إلا الأب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده". والمشروع في عطية الأولاد أن يسوى بينهم على قدر ميراثهم؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". وإذا قال لرجل:
ـــــــ
مسألة: "ولا يجوز الرجوع فيها" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالعائد في قيئه", وفي لفظ: "كالكلب يعود في قيئه ليس لنا مثل السوء". متفق عليه1.
مسألة: "إلا الأب" لما روى ابن عمر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده". [إذا لم يتعلق به حق لأحد] قال الترمذي: حديث حسن2, وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرجع واهب في هبته إلا الوالد من ولده" 3.
مسألة: "والمشروع في عطية الأولاد القسمة بينهم على قدر ميراثهم"؛ لأن التسوية بينهم واجبة والتسوية الواجبة المأمور بها هي القسمة بينهم على قدر ميراثهم؛ لأنه تعجيل لما يصل إليهم بعد الموت فأشبه الميراث, فإن خص بعضهم فعليه بالتسوية بالرجوع وإعطاء الآخر حتى يستووا لما روى النعمان بن بشير قال: تصدق علي أبي بعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فجاء أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشهد على صدقتي فقال: "أكل ولدك أعطيت مثله"؟ قال: لا. قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة. وفي لفظ: "لا تشهدني على جور" وفي لفظ: "فاردده" وفي لفظ: "فارجعه". وفي لفظ: "فأشهد على هذا غيري", وفي لفظ: "سو بينهم". وهو يدل على التحريم؛ لأنه سماه جورا وأمر برده والأمر يقتضي الوجوب؛ ولأن تخصيص بعضهم يورث بينهم العداوة وقطيعة الرحم فيمنع منه كتزويج المرأة على عمتها وخالتها.
مسألة: "وإذا قال لرجل: أعمرتك داري أو هي لك" عمرك أو حياتك فإنه يصح وتكون للمعمر "ولورثته من بعده"؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا". متفق عليه4, وفي لفظ: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له. متفق عليه5.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الهبة: حديث رقم 2589. ومسلم في الهبات: حديث رقم 7, 8.
2 - رواه الترمذي في البيوع: حديث رقم 1299.
3 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3539.
4 - رواه مسلم في الهبات: حديث رقم 26.
5 - رواه البخاري في الهبة: حديث رقم 2625. ومسلم في الهبات: حديث رقم25.(1/265)
أعمرتك داري أو هي لك عمرى فهي له ولورثته من بعده, وإن قال: سكناها لك عمرك فله أخذها متى شاء.
ـــــــ
ولأن الأملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك وتنتقل إلى الورثة فلم يكن تقديره بحياته منافيا لحكم الأملاك. وعنه ترجع بعد موته إلى المعمر لما روى جابر قال: إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك, فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها, متفق عليه.
مسألة: "وإن قال: سكناها لك عمرى فله أخذها متى شاء"؛ لأن الموهوب هاهنا المنفعة وإنما تملك بمضي الزمان شيئا فشيئا فله أخذها لأنها لا تقع لازمة فهي بمنزلة العارية.(1/266)
باب عطية المريض
تبرعات المريض مرض الموت المخوف ومن هو في الخوف كالمريض كالواقف بين الصفين عند التقاء القتال ومن قدم ليقتل, وراكب البحر حال هيجانه ومن وقع الطاعون ببلده إذا اتصل بهم الموت -حكمها حكم وصيته في ستة أحكام: أحدها: أنها لا تجوز لأجنبي بزيادة على الثلث, ولا لوارث بشيء إلا بإجازة الورثة؛ لما روي أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته لم يكن له مال غيرهم فدعاهم
ـــــــ
باب عطية المريض
مسألة: "تبرعات المريض مرض الموت المخوف ومن هو في الخوف كالمريض" - مثل "الواقف بين الصفين عند" التحام الحرب "ومن قدم ليقتل وراكب البحر عند هيجانه ومن وقع الطاعون ببلده إذا اتصل بهم الموت -حكمها حكم وصيته في ستة أحكام", والمرض المخوف كالبرسام وذات الجنب والرعاف الدائم والقيام المتدارك والفالج في ابتدائه والسل في انتهائه, وما قال عدلان من أهل الطب إنه مخوف وكذلك من هو في الخوف فعطاؤهم كالوصية في ستة أحكام: "أحدها: أنها لا تجوز لأجنبي بزيادة على الثلث ولا لوارث شيء إلا بإجازة الورثة؛ لما روى" عمران بن حصين "أن رجلا أعتق ستة" أعبد له "عند موته لم يكن له مال غيرهم" فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم "فدعاهم فجزأهم ثلاثة أجزاء" فأقرع بينهم "فأعتق اثنين وأرق أربعة" وقال قولا شديدا, رواه مسلم1. ولأنه في هذه الحال لا يأمن الموت فجعل كحال الموت. "الثاني: أن الحرية تجمع في بعض العبيد بالقرعة إذا لم يف الثلث بالجميع للخبر. الثالث: أنه إذا أعتق عبدا غير معين أو معينا
ـــــــ
1 - رواه مسلم في الإيمان: حديث رقم 56.(1/266)
النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا فأعتق اثنين وأرق أربعة. الثاني: أن الحرية تجمع في بعض العبيد بالقرعة إذا لم يف الثلث بالجميع للخبر. الثالث: أنه إذا أعتق عبدا غير معين أو معينا فأشكل أخرج بالقرعة. الرابع: أنه يعتبر خروجها من الثلث حال الموت فلو أعتق عبدا لا مال له سواه أو تبرع به ثم ملك عند الموت ضعف قيمته تبينا أنه عتق كله حين إعتاقه وكان ما كسبه بعد ذلك له وإن صار عليه دين يستغرقه لم يعتق منه شيء, ولا يصح تبرعه به ولو وصى له بشيء فلم يأخذه الموصى له زمانا قوم عليه وقت الموت لا وقت الأخذ. الخامس: أن كونه وارثا يعتبر حالة الموت فيهما فلو أعطاه أخاه أو وصى له ولا ولد له فولد له ابن صحت العطية والوصية ولو كان له ابن فمات بطلت. السادس: أنه لا يعتبر رد الورثة وإجازتهم إلا بعد الموت فيهما.
ـــــــ
فأشكل أخرج بالقرعة" للخبر. [و أنه لا طريق إلى تعيين المعتق إلا بالقرعة فيصار إليها للخبر] "الرابع: أنه يعتبر خروجها من الثلث حال الموت فلو أعتق عبدا لا مال له سواه أو تبرع به ثم ملك عند الموت ضعف قيمته تبينا أنه أعتق كله حين إعتاقه وكان ما كسبه بعد ذلك له" لخروجه من الثلث عند الموت.
مسألة: "وإن صار عليه دين يستغرقه لم يعتق منه شيء" لأن الدين يقدم على الوصية؛ لما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية. "ولا يصح تبرعه به" لأنه تبرع به عند الموت فينزل بمنزلة الوصية والدين يقدم عليها لحديث علي رضي الله عنه.
مسألة: "ولو وصى له بشيء فلم يأخذه الموصى له زمانا قوم وقت الموت لا وقت الأخذ"؛ لأن الاعتبار بقيمة الموصى به وخروجه من الثلث وعدم خروجه منه بحالة موت الموصي لأنها حال لزوم الوصية فتعتبر قيمة المال فيها لا نعلم في ذلك خلافا, فينظر فإن كان الموصى به وقت الموت ثلث التركة في القيمة أو دونه نفذت الوصية واستحقه الموصى له ولو زادت قيمته بعد ذلك حتى يصير معادلا لسائر المال ولو هلك جميع المال سواه كان للموصى له وإن كان حين الموت زائدا عن الثلث فللموصى له نصفه فإن نقص الموصى به بعد ذلك أو زاد أو نقص سائر التركة أو زاد فليس للموصى له إلا ما خرج عن الثلث. [حال الموت لذلك] "الخامس: أن كونه وارثا يعتبر حالة الموت فيهما فلو أعطاه أخاه أو أوصى له ولا ولد له فولد له ابن صحت العطية والوصية"؛ لأنه عند الموت صار غير وارث, "ولو كان له ابن" وقت العطية "فمات" الابن "بطلت"؛ لأنه صار عند الموت وارثا لأن اعتبار الوصية بالموت لا خلاف في ذلك نعلمه. "السادس: أنه لا يعتبر رد الورثة(1/267)
وتفارق العطية الوصية في أحكام أربعة: أحدها: أن العطية تنفذ من حينها فلو أعتق عبدا أو أعطاه إنسانا صار المعتق حرا وملكه المعطي وكسبه له ولو وصى به أو دبره لم يعتق ولم يملكه الموصى له إلا بعد الموت وما كسب أو حدث فيه من نماء منفصل فهو للورثة. الثاني: أن العطية يعتبر قبولها وردها حين وجودها كعطية الصحيح والوصية لا يعتبر قبولها ولا ردها إلا بعد موت الموصي. الثالث: أنها تقع لازمة لا يملك المعطي الرجوع فيها والوصية له الرجوع فيها متى شاء. الرابع: أن يبدأ بالأول فالأول منها إذا ضاق الثلث عن جميعها والوصية يسوى بين الأول منها والآخر ويدخل النقص على كل واحد بقدر
ـــــــ
وإجازتهم إلا بعد الموت فيهما" وما قبل ذلك لا عبرة به لأنه لا حق للوارث قبل الموت فلم يصح إسقاطه كما لو أسقط الشفعة قبل البيع وكما لو أسقطت المرأة نفقتها قبل التزويج.
مسألة: "وتفارق العطية الوصية في أحكام أربعة: أحدها أن العطية تنفذ من حينها فلو أعتق عبدا أو أعطاه إنسانا صار المعتق حرا وملكه المعطي وكسبه له" يعني إن خرج من الثلث عند الموت فكسبه له إن كان معتقا وللموهوب له إن كان موهوبا, وإن خرج بعضه فلهما من كسبه بقدر ذلك فلو أعتق عبدا لا مال له سواه فكسب مثل قيمته قبل موت سيده عتق نصفه [و نصف كسبه] وله [نصفه و] نصف كسبه ويحصل للورثة نصفه ونصف كسبه وذلك مثل ما أعتق منه, ولا يمكن أن يسترق منه ثلثاه لأنه لو استرق ثلثاه تبعه ثلثا الكسب فيصير من مال الميت ينتقل إلى الورثة فيجب أن يحتسب على الورثة ويعتق من العبد بقدره ولا يحتسب على العبد بما حصل له من الكسب؛ لأنه ملكه بجزئه الحر لا من جهة السيد ولم يدخل ذلك في ملك السيد بحال فيستخرج بالجبر فيقال: عتق من العبد شيء وله من كسبه مثله شيء آخر بقي العبد والكسب للورثة إلا شيئين, ويجب أن يكون ذلك مثل ما جاز فيه العتق فيكون إذا شيئين؛ لأن العتق إنما جاز في شيء فقد حصل للورثة شيئان وللعبد شيئان شيء من عتقه وشيء من كسبه فصار لهم مثل ما له فله النصف من نفسه وكسبه ولهم النصف, ولو كسب مثلي قيمته قلت: عتق منه شيء وتبعه من كسبه شيئان وللورثة شيئان فصار العبد وكسبه يقابل خمسة أشياء له منها ثلاثة فيعتق منه ثلاثة أخماسه وله ثلاثة أخماس من كسبه ولهم الخمسان منهما, ولو كان العبد موهوبا فللموهوب له منه بقدر ما عتق منه وبقدره من كسبه وأما الموصى به أو بعتقه فلا يملكه الموصى له به ولا يعتق إلا بعد الموت لأن ذلك إنما يلزم بالموت لما سبق وما كسب من شيء أو حدث فيه من نماء فإنه يكون للورثة لأنه إلى حين الموت باق على ملك السيد فيرثه ورثته بعد موته. "الثاني: أن العطية يعتبر قبولها وردها حين وجودها كعطية الصحيح والوصية لا يعتبر قبولها وردها إلا بعد موت الموصي"؛ لأن العطية هبة منجزة فاعتبر لها القبول عند وجودها.(1/268)
وصيته سواء كان فيها عتق أو لم يكن وكذلك الحكم في العطايا إذا وقعت دفعة واحدة
ـــــــ
كعطية الصحيح بخلاف الوصية فإنه لا حكم لقبولها ولا ردها إلا بعد الموت؛ لأنها عطية بعد الموت "الثالث: أنها تقع لازمة لا يملك المعطي الرجوع فيها" وإن كثرت لأنها هبة منجزة اتصل بها القبض أشبهت هبة الصحيح. "بخلاف الوصية فإن له الرجوع فيها متى شاء"؛ لأنها عطية معلقة على شرط أشبهت الهبة. [المعلقة على الشرط] "الرابع: أن يبدأ بالأول فالأول منها إذا ضاق الثلث عن جميعها"؛ لأن السابق استحق الثلث فلم يسقط بما بعده. "والوصية يسوى بين الأول منها والآخر ويدخل النقص على كل واحد بقدر وصيته سواء كان فيها عتق أو لم يكن"؛ لأنها توجد عقب موته دفعة واحدة فتساوت كلها وعنه يقدم العتق لأنه مبني على السراية والتغليب فكان آكد من غيره.
مسألة: "وكذا الحكم في العطايا إذا وقعت دفعة واحدة" لما ذكرنا.(1/269)
كتاب الوصايا
مدخل
...
كتاب الوصايا
روي عن سعد قال: قلت: يا رسول الله قد بلغ بي الجهد ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة, أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: "لا". قلت: فالشطر؟ قال: "لا". قلت: فالثلث؟. قال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". ويستحب لمن ترك خيرا الوصية بخمس ماله.
ـــــــ
كتاب الوصايا
وهي الأمر بالتصرف بعد الموت والوصية بالمال هي التبرع به بعد الموت فروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". متفق عليه1. وروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" رواه سعيد وأبو داود. والترمذي وقال: حديث حسن صحيح20 "وروي عن سعد" بن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي فـ "قلت: يا رسول الله قد بلغ بي الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي" أفأتصدق بمالي كله؟ "قال: لا.قال: بالثلثين؟ قال: لا.قلت: فبالشطر" يا رسول الله؟ "قال : لا.قلت: بالثلث؟ قال: "الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" 3, يعني يطلبون من الناس بأكفهم. متفق عليه.
مسألة: "ويستحب لمن ترك خيرا الوصية بخمس ماله", ودليل استحبابها قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} 4. نسخ الوجوب وبقي
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الوصايا: حديث رقم 2738. ومسلم في الوصية: حديث رقم 1, 4.
2 - رواه أبو داود في الوصايا: حديث رقم 2870. والترمذي في الوصايا: حديث رقم 2120.
3 - رواه البخاري في الجنائز: حديث رقم 1295. ومسلم في الوصية: حديث رقم 5, 8.
4 - آية 180 سورة البقرة.(1/270)
وتصح الوصية والتدبير من كل من تصح هبته ومن الصبي العاقل
ـــــــ
الاستحباب وروى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: يا ابن ادم جعلت لك نصيبا من مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك به وأزكيك". وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ}. الخير: المال الكثير فأما الفقير فلا يستحب له وصية, لقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". وقال: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". وقال رجل لعائشة رضي الله عنها: إن لي ثلاثة آلاف درهم وأربعة أولاد أفأوصي؟ فقالت: اجعل الثلاثة للأربعة ولأن الله سبحانه إنما كتب الوصية على من ترك خيرا فلما نسخ الوجوب بقي الاستحباب في محل الوجوب لا يعدوه, واختلفوا في القدر الذي إذا ملك لا يستحب معه الوصية فروي عن أحمد رحمه الله: من ترك دون الألف لا يستحب له الوصية, وعن علي: أربعمائة دينار, وقال ابن عباس: من ترك ستين دينارا لم يترك خيرا, وقال طاوس: الخير ثمانون دينارا, وقال النخعي: ألف وخمسمائة.
"فصل": والأفضل أن لا يستوعب الثلث بالوصية لقوله عليه السلام: "الثلث والثلث كثير". وأكثرهم على استحباب الوصية بالخمس, وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس وقال: رضيت بما رضي الله به لنفسه, وعن علي قال: لأن أوصي بالخمس أحب إلي من الربع, وروى سعيد عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: صاحب الربع أفضل من صاحب الثلث وصاحب الخمس أفضل من صاحب الربع, وعن العلاء قال: أوصى أبي أن أسأل العلماء أي الوصية أعدل؟ فما تتابعوا عليه فهو وصية فتتابعوا على الخمس.
مسألة: "وتصح الوصية والتدبير من كل من تصح هبته" لأنها تبرع أشبهت الهبة.
مسألة: "و" تصح "من الصبي والعاقل". قال أبو بكر: لا يختلف المذهب أن من له عشر سنين تصح وصيته ومن له دون السبع لا تصح, وأما بين السبع والعشر على روايتين. وقال ابن إسحاق: إذا بلغ اثنتي عشرة سنة. وحكاه ابن المنذر عن أحمد, وروى شعبة أن صبيا من غسان له عشر سنين أوصى لأخواله فرفع ذلك إلى عمر فأجاز وصيته ولا يعرف له مخالف. وروى مالك في الموطأ أن عمرو بن سليم أخبر أنه قيل لعمر بن الخطاب: إن هاهنا غلاما يفاعا لم يحتلم من غسان ورثته بالشام وهو ذو مال وليس له هاهنا إلا ابنة عم, فقال عمر: فليوص لها, فأوصى لها بمال يقال له بئر حسم. قال عمرو: فبعت ذلك المال بثلاثين ألفا, وابنة عمه التي أوصى لها هي أم عمرو بن سليم. قال أبو بكر: وكان الغلام ابن عشر أو اثنتي عشرة, ولأنه محض نفع للصبي تصح منه كالصلاة؛ لأن الوصية صدقة يحصل ثوابها له بعد استغنائه عن ملكه ولا يلحقه ضرر بها في الدنيا, بخلاف الهبة والعتق المنجز فإنه يفوت من ماله ما هو محتاج إليه فإذا ردت رجع إليه.(1/271)
والمحجوز عليه لسفه ولكل من تصح الهبة له وللحمل إذا علم أنه كان موجودا حين الوصية له, وتصح بكل ما فيه نفع مباح ككلب الصيد والغنم وبما فيه نفع من النجاسات, وبالمعدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته وتصح بما لا يقدر على تسليمه
ـــــــ
مسألة: "و" تصح من "المحجور عليه لسفه"؛ لأنه بمنزلة الصبي العاقل, وقال أبو الخطاب: في وصيته وجهان: أحدهما: لا تصح لأنه محجور عليه في تصرفاته أشبه الهبة. والثاني: تصح لأنه إنما حجر عليه لحفظ ماله له وليس في وصيته إضاعة لماله؛ لأنه إن عاش فهو له وإن مات لم يحتج إلى غير الثواب وقد حصل له.
مسألة: "و" تصح "لكل من تصح الهبة له" من مسلم وذمي ومرتد وحربي نص عليه؛ لأن هؤلاء لو وهبهم لصحت الهبة لهم فكذلك الوصية.
مسألة: "و" تصح "للحمل إذا علم أنه كان موجودا حين الوصية له" بأن تضعه لأقل من ستة أشهر إن كانت ذات زوج أو سيدها يطأها, ولأقل من أربع سنين إن لم تكن كذلك في أحد الوجهين وفي الآخر لأقل من سنتين, ولا نعلم في الوصية للحمل خلافا لأنها أوسع من الميراث لأنها تصح للكافر وللعبد, والحمل يرث فتصح الوصية له بطريق الأولى, فإن وضعته ميتا بطلت الوصية لاحتمال أنه لم يكن حيا حين الوصية فلا تثبت له الوصية بالشك, وإن وضعته حيا صحت الوصية له إذا حكمنا بوجوده حين الوصية. قال الخرقي: إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالوصية وليس ذلك مشترطا مطلقا لكن إن كانت فراشا لزوج أو لسيدها فأتت به لستة أشهر فما دونها علمنا وجوده حين الوصية, وإن كان لأكثر منها لم تصح الوصية له لاحتمال حدوثه بعد الوصية وإن كانت بائنا فأتت به لأكثر من أربع سنين من حين الفرقة لم تصح الوصية وإن أتمت به لأقل من أربع سنين من حين الفرقة صحت الوصية؛ لأن الولد يعلم وجوده إن كان لستة أشهر فما دون ويحكم بوجوده إذا أتت به لأقل من أربع سنين من حين الفرقة.
مسألة: "وتصح الوصية بكل ما فيه نفع مباح ككلب الصيد والغنم وما فيه نفع من النجاسات", كالزيت النجس لأنه يجوز اقتناؤه والانتفاع به فجاز نقل اليد إليه بالوصية.
مسألة: "و" تصح "بالمعدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته" لأن المعدوم يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة فجاز أن يملك بالوصية.
مسألة: "وتصح بما لا يقدر على تسليمه كالطير في الهواء والسمك في الماء", واللبن في الضرع لأن الموصى له يخلف الموصي في الموصى به كخلافة الورثة في باقي المال والوارث يخلفه في هذه الأشياء كذلك الموصى له.(1/272)
كالطير في الهواء والسمك في الماء وبما لا يملكه كمائة درهم لا يملكها وبغير معين كعبد من عبيده ويعطيه الورثة منهم ما شاءوا, وبالمجهول كحظ من ماله أو جزء ويعطيه الورثة ما شاءوا وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته فله مثل أقلهم نصيبا يزاد على الفريضة, فلو خلف ثلاثة بنين ووصى بمثل نصيب أحدهم فله الربع, فإن كان معهم ذو فرض كأم صححت مسألة الورثة بدون الوصية من ثمانية عشر وزدت عليها بمثل نصيب ابن فصارت من ثلاثة وعشرين, ولو وصى بمثل نصيب أحدهم ولآخر بسدس باقي المال جعلت صاحب سدس الباقي كذي فرض
ـــــــ
مسألة: "و" تصح "بما لا يملكه كمائة درهم لا يملكها" كما تصح بحمل أمته أو شجرته, فإن قدر عليها عند الموت أو على شيء منها وإلا بطلت؛ لأن الموصى به عدم والوصية كالهبة فلما عدم الموهوب بطلت الهبة فكذلك الوصية.
مسألة: "و" تصح "بغير معين كعبد من عبيده ويعطيه الورثة منهم ما شاءوا"؛ لأنه يتناوله الاسم سواء كان صحيحا أو معيبا أو ذكرا أو أنثى, كما لو أوصى له بحظ أو نصيب, وعنه يستحق أحدهم بالقرعة إذا خرج من الثلث وإلا ملك منه بقدر الثلث؛ لأنه يستحق واحد غير معين وليس واحد بأولى من واحد فوجب المصير إلى القرعة كما لو أعتق واحدا منهم غير معين.
مسألة: "وإن وصى له بمثل نصيب أحد ورثته فله مثل أقلهم نصيبا يزاد على الفريضة"؛ فلو خلف ابنا وأربع زوجات صحت من اثنين وثلاثين سهما, لكل امرأة سهم وللموصى له سهم يزاد عليها فتصير من ثلاثة وثلاثين سهما: للموصى له سهم, ولكل امرأة سهم, وما بقي فهو للابن, وإنما جعل له أقل أنصبائهم لأنه المتعين وما زاد مشكوك فيه, ولو كان الورثة يتساوون في الميراث كالبنين فله مثل نصيب أحدهم يزاد على الفريضة ويجعل كواحد منهم زاد فيهم. وأما إن كانوا يتفاضلون جعل له مثل ما لأقلهم نصيبا يزاد على الفريضة لما ذكرناه.
مسألة: "ولو خلف ثلاثة بنين ووصى بمثل نصيب أحدهم فله الربع" لذلك. "فإن كان معهم ذو فرض كأم صححت مسألة الورثة بدون الوصية من ثمانية عشر وزدت عليها مثل نصيب ابن فصارت من ثلاثة وعشرين"؛ لأن له مثل نصيب ابن فزاد على الفريضة فكان له خمسة من ثلاثة وعشرين ولكل ابن خمسة وللأم ثلاثة.
مسألة: "ولو وصى بمثل نصيب أحدهم ولآخر بسدس باقي المال جعلت صاحب سدس الباقي كذي فرض وصححتها كالتي قبلها" وطريق ذلك بالنصيب أنا نجعل المال كله ستة أسهم ونصيبا فندفع النصيب للموصى له به وندفع إلى الآخر سهما من ستة يبقى خمسة أسهم نقسمها على ثلاثة بنين نخرج لكل ابن سهما وثلثا سهم وذلك هو النصيب(1/273)
وصححتها كالتي قبلها, فإن كانت وصية الثاني بسدس باقي الثلث صححتها كما قلنا سواء, ثم زدت عليها مثليها فتصير تسعة وستين تعطي صاحب السدس سهما واحدا والباقي بين البنين والوصي الآخر أرباعا.
وإن زاد البنون على ثلاثة زدت صاحب سدس الباقي بقدر زيادتهم فإن كانوا أربعة أعطيته مما صحت منه المسألة سهمين وإن كانوا خمسة فله ثلاثة
ـــــــ
فيكون المال جميعه سبعة أسهم وثلثي نصيب نضربها في ثلاثة ليزول الكسر فيكون ثلاثة وعشرين: للموصى له بالنصيب خمسة, ولآخر سدس باقي المال ثلاثة يبقى خمسة عشر لكل ابن خمسة.
مسألة: "وإن كانت وصية الثاني بسدس باقي الثلث صححتها كما قلنا" يعني: من ثلاثة وعشرين, "ثم" تزيد "عليها مثليها فتصير تسعة وستين تعطي صاحب السدس سهما واحدا, والباقي بين البنين" والموصى له على أربعة, والطريق في ذلك بالنصيب أنا نجعل المال كله ثمانية عشر سهما وثلاثة أنصباء فيكون الثلث ستة أسهم ونصيبا فتدفع للموصى له بالنصيب نصيبا وللموصى له الآخر سهما لأنه سدس باقي الثلث يبقى معنا سبعة عشر سهما ونصيبان ندفع النصيبين لابنين, يبقى سبعة عشر سهما هي للابن الآخر فعلم أن النصيب سبعة عشر, فإذا جمعنا ثلاثة أنصباء إلى سبعة عشر كان الجميع تسعة وستين لصاحب السدس منها سهم ويبقى الباقي على البنين والموصى له أرباعا لكل واحد سبعة عشر كما ذكر.
مسألة: "وإن زاد البنون على ثلاثة زدت صاحب سدس الباقي بقدر زيادتهم, فإذا كانوا أربعة أعطيته مما صحت منه المسألة سهمين" وذلك لما ذكرناه من أنا نجعل المال ثمانية عشر سهما وثلاثة أنصباء فإذا دفعنا إلى الموصى له بالنصيب نصيبا وإلى ابنين نصيبين وإلى الموصى له بالسدس سهما بقي سبعة عشر على اثنين فيكون النصيب ثمانية ونصفا, فإذا جمعنا ذلك كان ثلاثة وأربعين ونصفا فنحتاج أن نضرب ذلك في اثنين ليزول الكسر فيصير كل من له شيء من ثلاثة وأربعين ونصف مضروبا في اثنين وصاحب السدس له سهم مضروب في اثنين باثنين.
مسألة: "و" لو كان "البنون خمسة فله ثلاثة"؛ لأنا نحتاج أن نقسم السبعة عشر على ثلاثة بنين يخرج النصيب خمسة أسهم وثلثي سهم, فإذا جمعنا السبعة عشر إلى ثمانية عشر كان المجموع خمسة وثلاثين: للموصى له بالسدس سهم ويبقى أربعة وثلاثون على ستة لكل واحد خمسة أسهم وثلثا سهم فنضرب ذلك في ثلاثة ليزول الكسر يصير المجموع مائة وخمسة, ثم كل من له شيء من خمسة وثلاثين مضروب في ثلاثة وصاحب السدس له سهم مضروب في ثلاثة فيصير له ثلاثة كما ذكر.(1/274)
وإن كانت الوصية بثلث باقي الربع والبنون أربعة فله سهم واحد, وإن زاد البنون على أربعة زدته بكل واحد سهما, وإن وصى بضعف نصيب وارث أو ضعفيه فله مثلا
ـــــــ
مسألة: "وإن كانت الوصية بثلث باقي الربع والبنون أربعة فله سهم واحد", وذلك أنه يكون قد خلف أربعة بنين وأوصى بمثل نصيب أحدهم وللآخر بثلث باقي الربع فالطريق أنا نجعل المال كله اثني عشر سهما وأربعة أنصباء نعطي الموصى له بالنصيب نصيبا وللموصى له الآخر ثلث باقي الربع سهما يبقى معنا ثلاثة أنصباء وأحد عشر سهما, نعطي كل ابن نصيبا ويبقى أحد عشر سهما هي للابن الرابع فبان أن النصيب أحد عشر فيكون المال كله ستة وخمسين سهما للموصى له بالنصيب أحد عشر ولصاحب ثلث باقي الربع سهم صار الجميع اثني عشر ويبقى أربعة وأربعون على أربعة بنين لكل واحد أحد عشر "وإن زاد البنون على أربعة زدته بكل واحد سهما"؛ لأنهم إذا كانوا خمسة والموصى له بالنصيب صاروا ستة ومعنا أربعة أنصباء واثنا عشر إذا أخذ الموصى له بالنصيب نصيبا وكل ابن نصيبا وأخذ الموصى له بثلث باقي الربع سهما بقي أحد عشر سهما وبقي من البنين اثنان فتبين أن النصيب خمسة ونصف فإذا ضربنا المسألة وهي أربعة وثلاثون في اثنين صار كل من له شيء من ذلك مضروبا في اثنين وصاحب ثلث الربع له سهم مضروب في اثنين فيصير له اثنان, وإن زاد البنون واحدا على خمسة ضربنا في ثلاثة في المسألة وهي ستة وعشرون وثلثان ثم كل من له شيء منها مضروب في ثلاثة والموصى له بثلث باقي الربع له منها سهم في ثلاثة فتصح له ثلاثة وكلما زاده واحدا زاد نصيبه واحدا كما ذكر, إلى أن يصير البنون أربعة عشر ابنا فإن المسألة تصح من ستة عشر سهما فيكون للموصى له بالنصيب سهم وللموصى له بثلث باقي الربع سهم ولكل ابن سهم لأنا إذا فرضنا المال جميعه أربعة أنصباء أو اثنا عشر سهما فإنا نعطي الموصى له بمثل النصيب نصيبا, والآخر لثلاثة بنين ويبقى أحد عشر على أحد عشر لكل واحد سهم فبان أن النصيب سهم وصحت من ستة عشر لأنها لم تحتج إلى ضرب. والله تعالى أعلم.
مسألة: "فإن وصى بضعف نصيب وارث أو بضعفيه فله" مثله مرتين "وإن وصى" بثلاثة أضعافه فله ثلاثة أمثاله. قال شيخنا: هذا هو الصحيح عندي؛ لأن الله سبحانه قال: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}. وقال: {أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}, وقال عطاء: أثمرت في سنة مثل ثمرة غيرها سنتين. وقال عكرمة: تحمل كل عام مرتين وثلاثة أضعاف ثلاثة أمثال, فإن أهل العربية لا يعرفون في كلامهم غير ذلك, وروى ابن الأنباري بإسناده عن هشام ابن معاوية النحوي قال: العرب تتكلم بالضعف مثنى فتقول إن أعطيتني درهما فلك ضعفاه يريدون مثليه. قال: وإفراده لا بأس به إلا أن التثنية أحسن, وقال أصحابنا: ضعفاه ثلاثة أمثاله, وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله, كلما زاد ضعفا زاد مرة واحدة, فالضعف ضم مثله إليه والضعفان ضم مثليه إليه, وقال أبو عبيدة: ضعف الشيء هو ومثله, وضعفاه هو ومثلاه, وقال في قوله تعالى: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} يعني: يجعل العذاب ثلاثة(1/275)
نصيبه وثلاثة أضعاف ثلاثة أمثاله ,وإن وصى بجزء مشاع كثلث أو ربع أخذته من مخرجه وقسمت الباقي على الورثة, وإن وصى بجزءين أخذتهما من مخرجهما وهو اثنا عشر وقسمت الباقي على الورثة, فإن ردوا جعلت سهام الوصية ثلث المال وللورثة ضعف ذلك, وإن وصى بمعين من ماله فلم يخرج من الثلث فللموصى له قدر الثلث إلا أن يجيز الورثة, وإن زادت الوصايا على المال كرجل
ـــــــ
أعذبة, والأول أولى. قال ابن عرفة: لا أحب قول أبي عبيدة في: {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}؛ لأن الله سبحانه قال في الآية الأخرى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}, فأعلم أن لها من هذا حظين ومن هذا حظين.
مسألة: "وإن وصى بجزء مشاع كثلث أو ربع أخذته من مخرجه وقسمت الباقي على الورثة" إن انقسم وإلا ضربت مسألة الورثة أو وفقها في مخرج الوصية فما بلغ فمنه تصح, مثاله خلف ابنين ووصى بثلث ماله لرجل, فالمخرج ثلاثة ندفع للموصى له سهما ويبقى سهمان لكل ابن سهم, وإن كان البنون ثلاثة بقي سهمان على ثلاثة لا تصح ولا توافق تضربها في مخرج الوصية ثلاثة تصير تسعة للموصى له بالثلث سهم مضروب في ثلاثة بثلاثة, ويبقى ستة على ثلاثة لكل ابن سهمان, وإن كان البنون أربعة بقي سهمان على أربعة لا تصح ولا توافق بالنصف فتضرب اثنين في ثلاثة بستة للموصى له سهمان ولكل ابن سهم.
مسألة: "وإن وصى بجزأين كثلث وربع أخذتهما من مخرجهما وقسمت الباقي على الورثة" على ما مر "وإن رد" الورثة جعلت السهام الحاصلة للأوصياء ثلث المال ودفعت الثلثين إلى الورثة" فإذا وصى بثلث المال وربعه وخلف ابنين أخذت ذلك من مخرجه سبعة من اثني عشر يبقى للابنين خمسة إن أجازا وإن ردا جعلت السبعة ثلث المال فتكون المسألة من أحد وعشرين للموصى لهما سبعة لصاحب الثلث أربعة ولصاحب الربع ثلاثة ولكل ابن سبعة.
مسألة: "وإن وصى بمعين من ماله" مثل إن وصى له بعبد معين "فلم يخرج من الثلث فللموصى له" من ذلك العبد مقدار الثلث مثاله: أوصى بعبد يساوي مائتين وله غيره بمائة فله نصفه لأن ذلك قدره الثلث "إلا أن يجيز الورثة" فيأخذ العبد كله.
مسألة: "وإن زادت الوصايا على المال كرجل" أوصى بماله كله "لرجل ولآخر" بثلث ضممت الثلث إلى المال فصار أربعة أثلاث وقسمت المال بينهما على أربعة إن أجيز لهما والثلث على أربعة إن رد عليهما" ومثاله في الفرائض في مسائل العول امرأة خلفت زوجا وأختا وأما فإن الزوج والأخت لو انفردا أخذا المال كله فجاءت الأم وفرضها ها هنا الثلث فتزيده على المال فيصير لها الربع وكذلك الوصية بجميع المال وثلثه فإن رد الورثة.(1/276)
وصى بثلث ماله لرجل ولآخر بجميعه ضممت الثلث إلى المال فصار أربعة أثلاث وقسمت التركة بينهما على أربعة إن أجيزت لهما والثلث على أربعة إن رد عليهما ولو وصى بمعين لرجل ثم وصى به لآخر أو أوصى إلى رجل ثم أوصى إلى آخر فهو بينهما وإن قال ما أوصيت به للأول فهو للثاني بطلت وصية الأول.
فصل
إذا بطلت الوصية أو بعضها رجع إلى الورثة فلو وصى أن يشترى عبد زيد بمائة فيعتق فمات أو لم يبعه سيده فالمائة للورثة, وإن وصى بمائة تنفق على فرس حبيس فمات الفرس فهي للورثة
ـــــــ
جعلنا ثلث المال أربعة فيصير المال كله اثني عشر: للموصى لهما أربعة ولصاحب الكل ثلاثة ولصاحب الثلث سهم.
مسألة: "وإن وصى بمعين لرجل ثم أوصى به لآخر" فهو بينهما ولا يكون رجوعا عن وصية الأول لاحتمال أن يكون ناسيا أو قاصدا للتشريك بينهما وقد ثبتت وصية الأول يقينا فلا نبطلها بالشك.
مسألة: "وإن أوصى إلى رجل ثم أوصى إلى آخر" فهما وصيان كالتي قبلها لذلك.
مسألة: "فإن قال: ما وصيت به للأول فهو للثاني بطلت وصية الأول"؛ لأنه صرح بالرجوع.
مسألة: ويجوز الرجوع في الوصية بإجماع منهم لأنها عطية تتنجز بالموت فجاز له الرجوع فيها قبل تنجزها كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل تقبيضه.
"فصل: إذا بطلت الوصية أو بعضها رجع إلى الورثة فلو وصى أن يشترى عبد زيد بمائة فيعتق فمات أو لم يبعه سيده فالمائة للورثة" وذلك أنه متى تعذر شراؤه لامتناع سيده من بيعه أو لموته أو لكونه يعجز الثلث عن ثمنه أو أن المائة لا تبلغ ثمنه فالثمن للورثة؛ لأن الوصية بطلت لتعذر العمل بما أمر به أشبه ما لو وصى لرجل فمات الموصى له, ولا يلزمهم أن يشتروا عبدا آخر لأن الوصية لمعين فلا تصرف إلى غيره. وأما إذا اشتروه بأقل فالباقي للورثة لأن المقصود بالوصية عتقه وقد حصل.
مسألة: "وإن وصى بمائة تنفق على فرس حبيس فمات الفرس فهي للورثة", وهذه المسألة كالتي قبلها وعلتها علتها ولو أنفق بعض المائة ثم مات الفرس فالباقي للورثة, كما لو وصى بشراء عبدين معينين فاشترى أحدهما ومات الآخر قبل شرائه يرجع ثمنه إلى الورثة كذا هاهنا(1/277)
ولو وصى أن يحج عنه زيد بألف فلم يحج فهي للورثة, وإن قال الموصى له: أعطوني الزائد على نفقة الحج لم يعط شيئا ولو مات الموصى له قبل موت الموصي أو رد الوصية ردت إلى الورثة ولو وصى لحي وميت فللحي نصف الوصية, ولو وصى لوارثه ولأجنبي بثلث ماله فللأجنبي السدس ويوقف سدس الوارث على الإجازة
ـــــــ
مسألة: "ولو وصى أن يحج عنه زيد بألف فلم يحج فهي للورثة" لذلك "وإن قال الموصى له أعطوني الزائد على نفقة الحج" فإنه موص لي بت, "لم يعط شيئا" لأنه إنما أوصى له بالزيادة بشرط أن يحج فإذا لم يفعل لم يوجد الشرط فلم يستحق شيئا.
مسألة: "ولو مات الموصى له قبل موت الموصي رد إلى الورثة"؛ لأن الوصية عطية بعد الموت فإذا صادفت حال العطية ميتا لم تصح كما لو وهب ميتا أو أوصى له.
مسألة: وإن "رد" الموصى له "الوصية" بعد موت الموصي "بطلت أيضا" لا نعلم في ذلك خلافا؛ لأنه أسقط حقه في حال تملك قبوله وأخذه والمطالبة به فأشبه الشفيع بعفو عن الشفعة بعد البيع وإذا بطلت الوصية رجع إلى الورثة كالمسائل التي قبلها.
مسألة: "ولو وصى لحي وميت فللحي نصف الوصية"؛ لأنه لم يوص له إلا بالنصف بدليل ما لو كان الآخر حيا, هذا إذا لم يعلم موته فإن علم موته فالكل للحي لأنه شرك بين من يستحق ومن لا يستحق عالما بأنه لا يستحق فيدل ذلك على أنه جعل الكل لمن يستحق وهو الحي.
مسألة: "وإن وصى لوارثه وأجنبي بثلث ماله فللأجنبي السدس ويقف سدس الوارث على الإجازة"؛ لأنه أوصى لكل واحد منهما السدس فلم يصح له إلا ذلك كما لو كانت الوصية لأجنبيين وإن اجازوا للوارث جاز كما لو أجازوا لأجنبي بزيادة على الثلث.(1/278)
باب الموصى إليه
تجوز الوصية إلى كل مسلم عاقل عدل من الذكور والإناث بما يجوز للموصي
ـــــــ
باب الموصى إليه
"وتجوز الوصية إلى كل مسلم عاقل عدل من الذكور والإناث بما يجوز للموصي فعله: من قضاء ديونه وتفريق وصيته والنظر في أمر أطفاله" فأما الوصية إلى المسلم العاقل العدل فتصح إجماعا ولا تصح وصية مسلم إلى كافر بغير خلاف, ولا الوصية إلى المجنون والطفل لأنهما ليسا من أهل التصرف فى أموالهما فلا يليان على غيرهما والكافر ليس من أهل الولاية على المسلم.(1/278)
فعله: من قضاء ديونه وتفريق وصيته, والنظر في أمر أطفاله ومتى أوصى إليه بولاية أطفاله أو مجانينه ثبتت ولايته عليهم ونفذ تصرفه لهم بما لهم فيه الحظ: من البيع والشراء وقبول ما يوهب لهم والإنفاق عليهم وعلى من تلزمهم مؤنته بالمعروف والتجارة لهم ودفع أموالهم مضاربة بجزء من الربح وإن اتجر لهم
ـــــــ
مسألة: وتصح الوصية إلى المرأة في قول أكثرهم, لما روي أن عمر وصى إلى حفصة ولأنها من أهل الشهادة أشبهت الرجل فهؤلاء تصح الوصية إليهم فيما ذكرنا من قضاء ديونه واقتضائها وتفريق وصيته ورد ودائعه لأنه يجوز له فعل ذلك بنفسه فجاز توصيته لأنه أقامه مقام نفسه.
مسألة: فأما الفاسق فلا تصح الوصية إليه, وعنه ما يدل على صحتها. وقال الخرقي: إذا كان الوصي خائنا ضم إليه أمين لأنه عاقل بالغ فصحت الوصية إليه كالعدل, ولأنه من أهل التصرف وله نظر وتصح استنابته في حال الحياة فكذلك بعد الموت ويمكن تحصيل نظره مع حفظ المال بأمين ووجه الأولى أنه لا يجوز إفراده بالوصية فلا تجوز الوصية إليه كالمجنون.
مسألة: أما النظر لورثته في أموالهم فإن كان ذا ولاية عليهم كأولاده الصغار فله أن يوصي إلى من ينظر لهم في أموالهم بحفظها والتصرف لهم فيها, وإن لم يكن ذا ولاية عليهم كالعقلاء الراشدين أو ممن لا ولاية له كالأخ والعم وسائر من عدا الأب لم تصح وصيته بذلك عليهم, ولا نظر له في أموالهم في الحياة فكذلك لا نظر لنائبه بعد الممات وهذا لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم.
مسألة: "ومتى أوصى إليه بولاية أطفاله أو مجانينه ثبتت له ولايتهم وينفذ تصرفه لهم بما لهم فيه الحظ: من البيع والشراء وقبول ما يوهب لهم والإنفاق عليهم وعلى من تلزمهم مؤنته بالمعروف والتجارة لهم ودفع أموالهم مضاربة بجزء من الربح"؛ لأنه إنما يتصرف لمصلحتهم وهذا من مصلحتهم ولأن العقلاء البالغين يفعلون ذلك لأنفسهم فكذلك هذا لهؤلاء.
مسألة: "إن اتجر لهم بنفسه فليس له من الربح شيء", وذلك أنه يستحب لمن ولي يتيما أن يتجر بماله؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من ولي يتيما فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة". رواه الترمذي, وروي ذلك عن عمر وهو أصح من المرفوع ولأن ذلك أحفظ لليتيم لتكون نفقته من فاضله لما يفعل البالغون في أموالهم, وإذا اتجر لهم فالربح كله لليتيم لأن الولي وكيل اليتيم بالشرع وتصرف الوكيل نفع للموكل ولا يستحق الوكيل من الربح شيئا إلا أن يجعل له.(1/279)
بنفسه فليس له من الربح شيء وله أن يأكل من مالهم عند الحاجة بقدر عمله ولا غرم عليه ولا يأكل إذا كان غنيا لقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. وليس له أن يوصي بما أوصى إليه به ولا أن يبيع ويشتري من مالهم لنفسه, ويجوز ذلك للأب فلا يلي مال الصبي والمجنون إلا الأب أو وصيه أو الحاكم.
فصل
ولوليهم أن يأذن للمميز من الصبيان بالتصرف ليختبر رشده والرشد هنا الصلاح في المال فمن آنس رشده دفع إليه ماله إذا بلغ وأشهد عليه ذكرا كان أو
ـــــــ
مسألة: "وله أن يأكل من مالهم عند حاجته بقدر عمله, ولا غرم عليه ولا يأكل إذا كان غنيا" لقوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}, فله أقل الأمرين من أجرته أو قدر كفايته؛ لأنه يستحقه بالعمل والحاجة جميعا فلم يجز أن يأخذ إلا ما وجد فيه كلاهما, فإذا أكل منه ذلك القدر ثم أيسر فإن كان أبا لم يلزمه عوضه رواية واحدة وإن كان غير الأب فهل يلزمه؟ على روايتين: إحداهما يلزمه لأنه استباحه بالحاجة من مال غيره فلزمه قضاؤه كمن اضطر إلى طعام غيره, والأخرى لا يقضي لأن الله سبحانه أمر بالأكل ولم يذكر عوضا؛ ولأنه عوض جعل له عن عمله فلم يلزمه بدله كالأجير والمضارب.
مسألة: "وليس له أن يوصي بما أوصى إليه به"؛ لأنه تصرف بولاية فلم يكن له التفويض كالوكيل, ويخالف الأب لأنه يلي بغير تولية وعنه له أن يوصي إلى غيره؛ لأن الأب أقامه مقام نفسه فكان له الوصية كالأب.
مسألة: "و" ليس للوصي "أن يبيع ويشتري لهم من مالهم لنفسه" كما لا يجوز ذلك للوكيل, ولأنه متهم في ذلك. "ويجوز ذلك للأب" لأنه غير متهم فيه.
مسألة: "فلا يلي مال الصبي والمجنون إلا الأب أو وصيه أو الحاكم" فيلي الأب مال أولاده الصغار والمجانين لكمال شفقته عليهم وحسن نظره ووصيه قائم مقامه وبعدهما الحاكم لأن ولايته عامة
"فصل: ولوليهم أن يأذن للمميز من الصبيان في التصرف ليختبر رشده فمن آنس رشده دفع إليه ماله إذا بلغ, وأشهد عليه ذكرا كان أو أنثى"؛ لقوله سبحانه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}, فاشترط إيناس الرشد والبلوغ فلا يجوز الدفع إليهم بدونهما ولم يفرق بين الذكر والأنثى.(1/280)
أنثى فإن عاود السفه أعيد عليه الحجر ولا ينظر في ماله إلا الحاكم ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكمه ولا يقبل إقراره في المال ويقبل في الحدود والقصاص والطلاق, فإن طلق أو أعتق نفذ طلاقه دون إعتاقه
ـــــــ
مسألة: "فإن عاود السفه أعيد عليه الحجر"؛ لأن ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم, وروى عروة بن الزبير أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا فأتى الزبير فقال: قد ابتعت بيعا وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي, فقال الزبير: أنا شريكك في البيع فأتى علي عثمان فقال: إن ابن جعفر قد ابتاع بيعا فاحجر عليه فقال الزبير: أنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير؟ قال أحمد: لم أسمع هذا إلا من أبي يوسف وهذه قصة يشتهر مثلها ولم يخالف ذلك أحد فكان إجماعا؛ ولأن هذا سفيه فيحجر عليه كما لو بلغ سفيها فإن العلة التي اقتضت الحجر عليه سفهه وهي موجودة؛ ولأن التبذير لو قارن البلوغ منع دفع المال إليه فإذا حدث أوجب انتزاع المال منه كالمجنون.
مسألة: "ولا ينظر في ماله إلا الحاكم"؛ لأن الحجر يفتقر إلى حكم حاكم وزواله يفتقر إلى ذلك فكذلك النظر في ماله.
مسألة: "ولا ينفك عنه الحجر إلا بحكمه"؛ لأنه حجر بحكمه فلا ينفك إلا به ولأنه يحتاج إلى تأمل في معرفة رشده وزوال بتدبيره وفارق الصبي والمجنون فإن الحجر عليهما بغير حكم حاكم فيزول بغير حكمه.
مسألة: "ولا يقبل إقراره في المال" لأن المقصود من الحجر عليه منعه من التصرف في المال ليحفظ عليه ماله, ولو قبلنا إقراره في المال لزال المقصود الذي جعل الحجر من أجله؛ ولأنه محجور عليه لحفظه ولا يقبل إقراره بالمال كالصبي فإذا فك الحجر عنه لزمه إقراره لا يكلف أمرا بما لا يلزمه في الحال فلزم بعد فك الحجر عنه كالعبد يقر بدين والراهن يقر على الرهن بجناية ونحوها.
مسألة: "ويقبل" إقراره "في الحداد والقصاص والطلاق". قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن إقرار المحجور عليه على نفسه جائز إذا كان إقراره بزنا أو سرقة أو شرب خمر أو قذف أو قتل, وإن الحدود تقام عليه وذلك أنه غير متهم في حق نفسه, والحجر إنما تعلق بماله فيقبل إقراره على نفسه بما لا يتعلق بالمال, وإن طلق نفذ طلاقه لأنه ليس بتصرف في المال ولا يجري مجراه فلا يمنع منه, كالإقرار بالحد والقصاص ودليل أنه لا يجري مجرى المال أنه يصح من العبد بغير إذن سيده مع منعه من التصرف في المال.
مسألة: "فإن طلق أو أعتق نفذ طلاقه" لما سبق ولا ينفذ عتقه؛ لأنه تصرف في المال(1/281)
فصل
وإذا أذن السيد لعبده في التجارة صح بيعه وشراؤه وإقراره ولا ينفذ تصرفه إلا في قدر ما أذن له فيه, وإن رآه سيده أو وليه يتصرف فلم ينهه لم يصر بهذا مأذونا له
ـــــــ
فلا ينفذ كما لو أقر بمال وذكر أبو الخطاب عنه رواية يصح عتقه؛ لأنه عتق من مال مكلف أشبه الراهن.
"فصل: وإذا أذن السيد لعبده في التجارة صح بيعه وشراؤه وإقراره ولا ينفذ تصرفه إلا في قدر ما أذن له فيه" لا نعلم فيه خلافا, ولا يصح فيما زاد نص عليه لأنه متصرف بالإذن فاختص تصرفه بمحل الإذن كالوكيل, وما يلزمه من الذي يتعلق بذمة السيد رواية واحدة؛ لأنه إذا أذن له في التجارة فقد غر الناس بمعاملته وأذن فيها فصار ضامنا كما لو قال لهم داينوه.
مسألة: "وإن رأه سيده يتصرف ولم ينهه لم يصر بهذا مأذونا له" لأنه إذا رآه يتصرف فسكت يحتمل أن يكون إذنا ويحتمل غير ذلك فلا يثبت له الإذن بالشك, ولأن الإذن إنما يحصل بقوله أذنت لك في كذا أو ما يدل عليه والسكوت ليس بقول فلا يدل عليه لما ذكرنا.(1/282)
كتاب الفرائض
مدخل
...
كتاب الفرائض
وهي قسمة الميراث والوارث ثلاثة أقسام: ذو فرض وعصبة وذو رحم فذو الفرض عشرة: الزوجان والأبوان والجد والجدة والبنات وبنات الابن والأخوات والإخوة من الأم, فللزوج النصف إذا لم يكن للميتة ولد فإن كان لها ولد فله الربع ولها الربع واحدة كانت أو أربعا إذا لم يكن له ولد فإن كان له ولد فلهن الثمن
ـــــــ
كتاب الفرائض
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعلموا الفرائض فإنها من دينكم وهي أول ما ينسى". رواه ابن ماجه. ولفظه: "تعلموا الفرض وعلموه فإنه نصف العلم وهو ينسى وهو أول شيء ينزع من أمتي" 1. وعن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض حتى يختلف الرجلان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما" 2. وقال عمر رضي الله عنه: إذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض وإذا لهوتم فالهوا بالرمي والأصل في الفرائض ثلاث آيات في سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}, والآية التي في آخرها ومعناها "قسمة" المواريث "والوارث ثلاثة أقسام: ذو فرض وعصبة وذو رحم فذو الفرض عشرة: الزوجان والأبوان والجد والجدة والبنات وبنات الابن والأخوات والإخوة من الأم فللزوج النصف إذا لم يكن للميتة ولد فإن كان لها ولد" أو ولد ابن "فله الربع ولها الربع واحدة كانت أو أربعا إذا لم يكن له ولد" أو ولد ابن "فإن كان له" معه "ولد فلهن الثمن" الواحدة والأربع سواء بإجماع من أهل العلم والأصل فيه قوله سبحانه: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الفرائض: حديث رقم 2719. وإسناده ضعيف.
2 - رواه الترمذي في الفرائض: حديث رقم 2091. وقال: فيه اضطراب.(1/283)
"فصل": وللأب ثلاثة أحوال: حال له السدس وهي مع ذكور الولد وحال يكون عصبة وهي مع عدم الولد وحال له الأمران مع إناث الولد
فصل
والجد كالأب في أحواله وله حال رابع وهو مع الإخوة والأخوات للأبوين أو للأب فله الأحظ من مقاسمتهم كأخ أو ثلث جميع المال فإن كان معهم ذو فرض
ـــــــ
أَزْوَاجُكُمْ} -إلى قوله- {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}, وإنما جعل للجماعة مثل ما للواحدة لأنه لو جعل لكل واحدة الربع وهن أربع لأخذن جميع المال وزاد فرضهن على فرضي الزوج.
"فصل: وللأب ثلاثة أحوال: حال له السدس وهو مع ذكور الولد", لقوله سبحانه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} 1, "وحال يكون عصبة وهي مع عدم الولد" لقوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}, أضاف المال إليهما ثم جعل للأم الثلث فكان الباقي للأب "وحال له الأمران" يعني يجتمع له الفرض والتعصيب, وهي "مع إناث الولد" أو ولد الابن فله السدس؛ لقوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ}, ولهذا كان للأم السدس مع البنت بإجماع, ثم يأخذ الأب ما بقي بالتعصيب لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر". متفق عليه2. والأب أولى رجل ذكر بعد الابن وابنه وأجمع أهل العلم على هذا فليس فيه اختلاف نعلمه.
"فصل: والجد كالأب في أحواله" يعني الجد أبا الأب لأنه بمنزلة الأب "وله حال رابع وهو مع الإخوة والأخوات للأبوين أو للأب فله الأحظ من مقاسمتهم كأخ أو ثلث جميع المال" وهذا مذهب زيد بن ثابت رحمه الله فعلى هذا إن كان الإخوة اثنين أو أربع أخوات أو أخا أو أختين فالثلث والمقاسمة سواء فأعطه ما شئت منهما, وإن نقصوا عن ذلك فالمقاسمة أحظ له فقاسم به وإن زادوا فالثلث خير له فأعطه إياه وسواء كانوا من أب أو أبوين.
مسألة: "فإن كان معهم ذو فرض أخذ فرضه ثم كان للجد الأحظ من المقاسمة أو ثلث الباقي أو سدس جميع المال". أما كونه لا ينقص عن سدس جميع المال فلأنه لا ينقص عن ذلك مع الولد الذي هو أقوى فمع غيره أولى. وأما إعطاء ثلث الباقي إذا كان أحظ له
ـــــــ
1 - آية 11 سورة النساء.
2 - رواه البخاري في الفرائض: حديث رقم 6732. ومسلم في الفرائض: حديث رقم 2, 3.(1/284)
أخذ فرضه ثم كان الأحظ من المقاسمة أو ثلث الباقي أو سدس جميع المال, وولد الأبوين كولد الأب في هذا إذا انفردوا فإن اجتمعوا عادوا ولد الأبوين الجد بولد الأب ثم أخذوا ما حصل لهم إلا أن يكون ولد الأبوين أختا واحدة فتأخذ النصف وما فضل فلولد الأب فإن لم يفضل عن الفرض إلا السدس أخذه الجد وسقط الإخوة إلا في الأكدرية وهي زوج وأم وأخت وجد فإن للزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت النصف ثم يقسم نصف الأخت وسدس الجد بينهما على ثلاثة فتصح من سبعة وعشرين ولا يعول من مسائل الجد سواها, ولا يفرض لأخت مع جد في غيرها ولو لم يكن فيها زوج كان للأم الثلث والباقي بين الأخت والجد على ثلاثة وتسمى الخرقاء لكثرة اختلاف الصحابة رضي الله عنهم
ـــــــ
فلأن له الثلث مع عدم الفروض فما أخذ بالفرض فكأنه ذهب من المال فصار ثلث الباقي بمنزلة جميع المال, وأما المقاسمة فهي له مع عدم الفروض فكذلك مع وجودها فعلى هذا متى زاد الإخوة عن اثنين أو من يعدلهم من الإناث فلا حظ له في المقاسمة, ومتى نقصوا عن ذلك فلا حظ له في ثلث ما بقي ومتى زادت الفروض عن النصف فلا حظ له في ثلث ما بقي وإن نقصت عن النصف فلا حظ له في السدس.
مسألة: "وولد الأبوين كولد الأب في هذا إذا انفردوا فإن اجتمعوا عادوا ولد الأبوين الجد بولد الأب ثم أخذوا ما حصل لهم إلا أن يكون ولد الأبوين أختا واحدة فتأخذ" منهم تمام "نصف" المال, ثم "ما فضل" فهو لهم ولا يمكن إن يفضل لهم أكثر من السدس لأن أولى ما للجد الثلث وللأخت النصف فالباقي بعدهما هو السدس.
مسألة: "وإن لم يفضل عن الفرض إلا السدس أخذه الجد وسقط الإخوة إلا في الأكدرية وهي: زوج وأم وأخت وجد, فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت النصف ثم يقسم نصف الأخت وسدس الجد بينهما عن ثلاثة فتصح من سبعة وعشرين ولا يعول من مسائل الجد سواها ولا يفرض لأخت مع جد في غيرها"
مسألة: "وإن لم يكن فيها زوج كان للأم الثلث والباقي بين الأخت والجد على ثلاثة وتسمى الخرقاء لكثرة اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيها", وكان فيها كثرة الأقوال: خرقها الصديق ومن وافقه: تسقط الأخت وقول زيد وموافقيه: للأم الثلث والباقي بين الجد والأخت على ثلاثة وتصح من تسعة وقول علي: للأخت النصف وللأم الثلث وللجد السدس, وقول عثمان: المال بينهم أثلاثا لكل واحد منهم ثلث وعن عمر وعبد الله: للأخت النصف وللأم السدس والباقي الجد وعن عبد الله رواية أخرى للأخت النصف والباقي بين الجد والأم نصفان فتكون من أربعة وهي:(1/285)
فيها, ولو كان معهم أخ أو أخت لأب صحت من أربعة وخمسين وتسمى مختصرة زيد فإن كان معهم أخ آخر من أب صحت من تسعين وتسمى تسعينية زيد ولا خلاف في إسقاط الإخوة من الأم وبني الأخوة.
فصل
وللأم أربعة أحوال: حال لها السدس وهي مع الولد أو "الاثنين فصاعدا من
ـــــــ
إحدى مربعات ابن مسعود وهي مثلثة عثمان.
مسألة: "ولو كان معهم أخ أو أخت لأب لصحت من أربعة وخمسين وتسمى مختصرة زيد" وهي أن تكون أم وأخت لأبوين وأخ وأخت لأب وجد فللأم السدس من ستة يبقى خمسة للجد ثلثها فتضرب المسألة في ثلاثة تكون ثمانية عشر: للأم ثلاثة وللجد خمسة وللأخت للأبوين تسعة ويبقى سهم للأخ وللأخت على ثلاثة فتصح من أربعة وخمسين. وتسمى مختصرة زيد لأنه لو قاسم الجد الأخ والأخت لانتقلت إلى ستة وثلاثين ثم يبقى سهمان عن ثلاثة لا تصح فتضربها في ستة وثلاثين تصير مائة وثمانية ثم ترجع بالاختصار إلى أربعة وخمسين فلذلك سميت مختصرة زيد.
مسألة: "فإن كان معهم أخ آخر" أو أختان "من أب صحت من تسعين وتسمى تسعينية زيد" وهي أن تكون أم وأخت لأبوين وأخوات وأخت لأب وجد أصلها من ستة للأم سهم فيبقى خمسة للجد ثلثها فتنتقل إلى ثمانية عشر للأم وثلاثة وللجد خمسة وللأخت للأبوين تسعة, ويبقى سهم الأخوين والأخت من الأب على خمسة تضربها في ثمانية عشر تكن تسعين فلهذا سميت تسعينية زيد.
مسألة: "ولا خلاف في إسقاط الأخوة من الأم وبني الأخوة".
"فصل: وللأم أربعة أحوال: حال لها السدس وهي مع الولد أو الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات" لقوله سبحانه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ}, ثم قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}, والحال الثاني: "لها ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين وهي مع الأب وأحد الزوجين", وهي أن يكون زوج وأبوان أو زوجة وأبوان قضى فيها عمر رضي الله عنه بأن لها ثلث الباقي بعد فرض الزوجين وتسمى العمريتين لذلك واتبعه على ذلك عثمان وعبد الله بن مسعود وزيد وروي ذلك عن علي رضي الله عنه. الحال الثالث: "لها ثلث المال وهي فيما عدا ذلك" يعني أن لها الثلث بشرطين أحدهما عدم الولد وولد الابن, والثاني: عدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات بغير خلاف نعلمه بين أهل العلم " الـ "حال" الـ "رابع وهي إذا كان ولدها منفيا(1/286)
الإخوة والأخوات وحال لها ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين وهي مع الأب وأحد الزوجين وحال لها ثلث المال وهي فيما عدا ذلك, وحال رابع وهي إذا كان ولدها منفيا باللعان أو كان ولد زنا فتكون عصبته فإن لم تكن فعصبتها عصبة.
فصل
وللجدة -إذا لم تكن أم- السدس واحدة كانت أو أكثر إذا تحاذين فإن كان
ـــــــ
باللعان أو ولد زنا فتكون عصبة له فإن لم تكن فعصبتها عصبة"؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها, رواه أبو داود1. وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه". رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب2؛ ولأنها قامت مقام أبيه في انتسابه إليها فقامت مقامه في حيازتها ميراثه؛ ولأن أقارب الأم قرنوا بها فلا يرثون معها كأقارب الأب معه, وعنه أن عصبته عصبة أمه اختارها الخرقي يروى ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" 3. وأولى الرجال به أقارب أمه, وعن عمر أنه ألحق ولد الملاعنة بعصبة أمه, وعن علي أنه لما رجم المرأة دعا أولياءها فقال: هذا ابنكم ترثونه ولا يرثكم وإن جنى جناية فعليكم حكاه أحمد عنه؛ ولأن الأم لو كانت عصبة كأبيه لحجبت إخوته ولأنه لما كان مولاها مولى أولادها كذا يجب أن تكون عصبتها عصبتهم كالأب.
فصل: "وللجدة -إذا لم تكن أم- السدس واحدة كانت أو أكثر إذا تحاذين". قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للجدة السدس إذا لم يكن للميتة أم, وروى قبيصة ابن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تطلب ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا, ولكن ارجعي حتى أسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال: هل معك غيرك؟ فشهد لي محمد بن مسلمة فأمضاه لها أبو بكر رضي الله عنه فلما كان عمر جاءت الجدة الأخرى فقال: ما لك في كتاب الله شيء وما كان القضاء الذي قضى به أبو بكر إلا في غيرك, وما أنا بزائد في الفرائض شيئا ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتما فهو لكما وأيكما خلت به فهو لها. رواه مالك في موطئه وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الفرائض: حديث رقم 2907.
2 - رواه الترمذي في الفرائض: حديث رقم 2115.
3 - سبق تخريجه.(1/287)
بعضهن أقرب من بعض فهو لقرباهن. وترث الجدة وابنها حي
ـــــــ
صحيح1 وقوله: "واحدة كانث أو أكثر" يعني أن ميراثهن السدس وإن كثرن وذلك إجماع منهم ووجهه الحديث المذكور وأن عمر شرك بينهما فيه, وروي نحوه عن أبي بكر فروى سعيد حدثنا سفيان وهشيم عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: جاءت الجدتان إلى أبي بكر رضي الله عنه فأعطى أم الأم الميراث دون أم الأب, فقال له عبد الرحمن بن سهل بن حارثة -وكان شهد بدرا-: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت التي إن ماتت لم يرثها ومنعت التي لو ماتت ورثها, فجعل أبو بكر رضي الله عنه السدس بينهما, وقوله: "إذا تحاذين" يعني إذا كانتا في القرب سواء فلا خلاف بين أهل العلم فيما علمناه في توريثهما كأم الأم وأم الأب, وقد دل عليه ما تقدم من الحديث مثال ذلك أم أم وأم أب السدس بينهما إجماعا أم أم أم وأم أم أب وأم أبي أب وأم أبي أم السدس بين الثلاث الأول وسقطت الأخرى لأنها تدلي بغير وارث.
مسألة: "فإن كان بعضهن أقرب من بعض فهو لقرباهن"؛ لأنها جدة قربى فتحجب البعدى كالتي من قبل الأم فإنه لا خلاف بينهم علمناه في أن الجدات إذا كان بعضهن أقرب من بعض وكانت إحداهما أم الأخرى أن الميراث للقربى؛ ولأن الجدات أمهات يرثن ميراثا واحدا من جهة واحدة فإذا اجتمعن فالميراث لأقربهن كالآباء والأبناء والإخوة والبنات وكل قبيل إذا اجتمعوا فالميراث لأقربهم مسائل من ذلك: أم أم وأم أم أب المال للأولى لأنها أقرب أم أب وأم أم أم المال للأولى في قول الخرقي وفي الرواية الأخرى بينهما أم أب وأم أم وأم جد المال للأوليين أم أم وأم أب وأم أم أم وأم أبي أب المال للأوليين في قول الجميع.
مسألة: "وترث الجدة وابنها حي" وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد رحمه الله وعنه لا ترث ولا خلاف في توريثها مع ابنها إذا كان عما أو عم أب؛ لأنها لا تدلي به ووجه ذلك أنها تدلي به فلا ترث معه كأم الأم مع الأم ودليل الرواية الأولى ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم السدس الجدة مع ابنها وابنها حي, أخرجه الترمذي ورواه سعيد بن منصور ولفظه إن أول جدة أطعمت السدس أم أب مع ابنها, ورواه الثوري وغيره عن أشعث عن ابن سيرين قال: أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أب مع ابنها, مسائل من ذلك: أم أب وأب لها السدس والباقي له, وعلى الرواية الأخرى المال له دونها أم أم وأم أب وأب السدس بينهما وعلى القول الآخر السدس لأم.
ـــــــ
1 - رواه مالك في الفرائض: حديث رقم 4. وأبو داود في الفرائض: حديث رقم 2894. وابن ماجه في: الفرائض: حديث رقم 2734. والترمذي في الفرائض: حديث رقم 2100, 2101.(1/288)
ولا يرث أكثر من ثلاث جدات: أم الأم وأم الأب وأم الجد, ومن كان من أمهاتهن وإن علون ولا ترث جدة تدلي بأب بين أمين ولا بأب أعلى من الجد فإن خلف جدتي أمه وجدتي أبيه سقطت أم أبي أمه والميراث للثلاث الباقيات.
فصل
وللبنت النصف وللبنتين فصاعدا الثلثان
ـــــــ
الأم والباقي للأب ثلاث جدات متحاذيات وأب السدس بينهن على الأولى وهو لأم أم الأم على الصحيح من القول. الثاني: وعلى الوجه الآخر لأم أم الأم ثلث السدس والباقي للأب.
مسألة: "ولا يرث أكثر من ثلاث جدات" متحاذيات "أم الأم وأم الأب وأم الجد", وروى ابن عبد البر بإسناده حديثا عن ابن عيينة عن منصور عن إبراهيم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث ثلاث جدات ثنتين من قبل الأب وواحدة من قبل الأم, وأخرجه الدارقطني وسعيد بن منصور وروي عن ابن عباس أنه ورث الجدات, وإن كثرن إذا كن في درجة واحدة إلا من أدلت بأب غير وارث كأم أب الأم ويحتمله كلام الخرقي؛ لأنه سمى ثلاث جدات متحاذيات, ثم قال: وإن كثرن فعلى ذلك واحتجوا بأن هذه الزائدة جدة أدلت بوارث فوجب أن ترث كالثلاث مسائل من ذلك: أم أم وأم أب السدس بينهما إجماعا أم أم أم وأم أم أب وأم أبي أب وأم أب أم السدس للثلاث الأول أم أم أم أم وأم أم أم أب وأم أم أبي أب وأم أبي أب أب وأم أم أبي أم وأم أبي أم أم وأم أبي أب وأم أبي أم أم أب السدس للثلاث الأول عند الإمام أحمد والأربع عند آخرين ولا يرث من قبل الأم إلا واحدة ولا يرث من قبل الأب إلا اثنتان.
مسألة: "ومن كان من أمهاتهن وإن علون" يرثن للخبر.
مسألة: "ولا ترث جدة تدلي بأب بين أمين" لأنه أب غير وارث, "ولا ترث" جدة تدلي "بأب أعلى من الجد" للخبر الذي رواه ابن عبد البر عن إبراهيم.
مسألة: "فإن خلف جدتي أمه وجدتي أبيه سقطت أم أبي أمه"؛ لأنها أدلت بأب غير وارث وإنما هو من ذوي الأرحام "والميراث للثلاث الباقيات" لما سبق.
"فصل: وللبنت النصف" إجماعا إذا انفردت لقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}, وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وبنت ابن وأخت للبنت النصف.
مسألة: "وللابنتين فصاعدا الثلثان" أجمعوا على ذلك سوى رواية شاذة عن ابن عباس أن فرضهما النصف والصحيح الأول وإن كثرن لقوله سبحانه: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ(1/289)
وبنات الابن بمنزلتهن إذا عدمن فإن اجتمعن سقط بنات الابن إلا أن يكون معهن أو أنزل منهن ذكر فيعصبهن فيما بقي, وإن كانت بنت واحدة وبنات ابن فللبنت النصف ولبنات الابن -واحدة كانت أو أكثر من ذلك- السدس تكملة الثلثين إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن فيما بقي,
ـــــــ
فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}, وفوق زائدة كقوله سبحانه {َاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} 1, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أرسل إلى أخي سعد بن الربيع فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك, وهذا تفسير الآية وتبيين لمعناها وقال سبحانه في الأخوات: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}, فالبنتان أولى.
مسألة: "وبنات الابن بمنزلتهن إذا عدمن" أجمعوا على ذلك في إرثهن وحجبهن لمن تحجبه البنات وجعل الأخوات معهن عصبة, وإذا استكملن الثلثين سقط من أسفل منهن إلا أن يكون معهن ذكر والأصل قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}, وولد البنين أولاد قال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ} - {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} "فإن اجتمعن سقط بنات الابن إلا أن يكون معهن أو أنزل منهن ذكر فيعصبهن فيما بقي" أجمع أهل العلم على أن بنات الصلب متى استكملن الثلثين سقط بنات الابن ما لم يكن بإزائهن أو أسفل منهن ذكر فيعصبهن والأصل في ذلك أن الله سبحانه لم يفرض للأولاد إذا كن نساء إلا الثلثين, وهؤلاء لم يخرجن عن كونهن أولادا نساء وقد ذهب الثلثان لولد الصلب فلم يبق لهن شيء ولا يمكن أن يشاركن بنات الصلب لأنهن دون درجتهن فإن كان مع بنات الابن ابن في درجتهن كأخيهن أو ابن عمهن أو أنزل منهن كابن أخيهن أو ابن ابن عمهن عصبهن في الباقي فكان بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لقوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} , فهؤلاء قد دخلوا في عموم هذا اللفظ ولهذا تناولهم الاسم لو لم يكن بنات وإن كل ذكر وأنثى يقتسمان المال إذا لم يكن معهم ذو فرض وجب أن يقتسما الفاضل عنه كالابن والبنت للصلب.
مسألة: "وإن كانت بنت واحدة وبنات ابن فللبنت النصف ولبنات الابن - واحدة كانت أو أكثر من ذلك - السدس تكملة الثلثين إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن فيما بقي" أما كونها إذا كانت واحدة فلها النصف فمجمع عليه لقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}, وأما إذا كان مع البنت الواحدة بنت ابن أو بنات ابن فلهن السدس فلأن الله سبحانه قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}, ففرض للبنات كلهن الثلثين وبنات الصلب وبنات الابن نساء من الأولاد فكان لهن الثلثان.
ـــــــ
1 - الآية 12 سورة الأنفال.(1/290)
فصل
والأخوات من الأبوين كالبنات في فرضهن والأخوات من الأب معهن كبنات الابن مع البنات سواء ولا يعصبهن إلا أخوهن
ـــــــ
بفرض الكتاب واختصت بنت الصلب بالنصف لأنه مفروض لها والاسم متناول لها حقيقة فيبقى لبنت الابن تمام الثلثين فلهذا قال الفقهاء: يكملن الثلثين وهذا مجمع عليه أيضا وروى هزيل بن شرحبيل الأزدي قال: سأل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال: للابنة النصف وما بقي فللأخت فأتى ابن مسعود فسأله وأخبره بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين, ولكن أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف ولابنة الابن السدس تكمله الثلثين وما بقي فللأخت فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم, متفق عليه. بنحو من هذا المعنى قال: إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن وهذا متفق عليه أيضا لم يخالف فيه إلا ابن مسعود رضي الله عنه فقال: لبنات الابن الأضر بهن من المقاسمة أو السدس فإن كان السدس أقل من الحاصل لهن بالمقاسمة فلهن السدس وإن كانت المقاسمة أضر بهن وأقل من السدس فلهن المقاسمة ولنا أنه يقاسمهما لو لم يكن غيرهما فيقاسمهما وإن كان معهن بنت الصلب كما لو كانت المقاسمة أضر عليهن.
فصل: "والأخوات للأبوين كالبنات في فرضهن" يعني للواحدة النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعدا الثلثان؛ لقوله سبحانه: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ}.
مسألة: "والأخوات من الأب معهن كبنات الابن مع البنات سواء"؛ لأنهن في معناهن فإن الله سبحانه فرض للأخوات كما فرض للبنات: للواحدة النصف وللاثنتين الثلثان والمراد بالآية ولد الأبوين أو ولد الأب بإجماع أهل العلم وأما سقوط الأخوات من الأب باستكمال الأخوات من الأبوين الثلثين فلأن الله سبحانه إنما فرض للأخوات الثلثين, فإذا أخذه ولد الأبوين لم يبق مما فرض الله سبحانه للأخوات شيء يستحقه ولد الأب فإن كانت واحدة من أبوين فلها النصف كالبنت الواحدة بنص الكتاب ويبقى من الثلثين المفروضة للأخوات سدس يكمل به الثلثان فيكون للأخوات من الأب كبنات الابن مع البنات من الصلب ولذلك قال الفقهاء: تكملة الثلثين فإن كان ولد الأب ذكورا أو إناثا فالباقي بينهم لقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}, ولا يفارق ولد الأب مع ولد الأبوين ولد الصلب إلا في أن بنت الابن يعصبها ابن أخيها ومن هو أنزل منها, والأخت من الأب لا يعصبها إلا أخوها.(1/291)
والأخوات مع البنات عصبة لهن ما فضل وليست لهن معهن فريضة مسماة لقول ابن مسعود رضي الله عنه في بنت وبنت ابن وأخت: أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للبنت النصف ولبنت الابن السدس وما بقي فللأخت.
فصل
والإخوة والأخوات من الأم سواء ذكرهم وإناثهم لواحدهم السدس وللاثنين السدسان فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث.
ـــــــ
مسألة: "والأخوات مع البنات عصبة كالإخوة لهن ما فضل وليست لهن معهن فريضة مسماة"؛ لقوله سبحانه: {إِِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}, فشرط في فرضها عدم الولد فاقتضى أن لا يفرض لها مع وجوده ولما سبق من حديث الهزيل وهي فتيا ابن مسعود رضي الله عنه التي قضى فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم, متفق عليه بمعناه.
فصل: "والإخوة والأخوات من الأم سواء ذكرهم وأنثاهم لواحدهم السدس وللاثنين الثلث فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث"؛ لقوله سبحانه: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}, يعني ولد الأم بإجماع أهل العلم وفي قراءة عبد الله وله أخ أو أخت من أم.(1/292)
باب الحجب
يسقط ولد الأبوين بثلاثة: بالابن وابنه والأب ويسقط ولد الأب بهؤلاء
ـــــــ
باب الحجب
"ويسقط ولد الأبوين بثلاثة: بالابن وابنه والأب" لأن الله سبحانه شرط في توريثهم عدم الولد بقوله سبحانه: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}, فلم يجعل لها مسمى مع الولد وإنما أخذت الفاضل عن البنات والابن لا يفضل عنه شيء فتسقط بت, وكذلك ابنه لأنه ابن ويسقطون بالأب لأنهم يدلون به وكل من أدلى بشخص سقط به إلا ولد الأم والجدة جهة الأب.
مسألة: "ويسقط ولد الأب بهؤلاء الثلاثة" لذلك "وبالأخ من الأبوين"؛ لما روي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى بالدين قبل الوصية وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات الرجل يرث أخاه لأبيه ولأمه دون أخيه لأمه. أخرجه الترمذي1.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الفرائض: حديث رقم 2094.(1/292)
الثلاث وبالأخ من الأبوين ويسقط ولد الأم بأربعة: بالولد ذكرا أو أنثى وولد الابن والأب والجد ويسقط الجد بالأب وكل جد بمن هو أقرب منه.
ـــــــ
مسألة: "ويسقط ولد الأم بأربعة: بالولد ذكرا كان أو أنثى وولد الابن والأب والجد" لأن الله سبحانه: شرط في توريثهم كون الموروث كلالة بقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} 1, والكلالة من لا ولد له في قول بعضهم وفي قول هو اسم لمن عدا الوالد والولد من الوارث فيدل على أنهم لا يرثون مع والد ولا ولد.
مسألة: "ويسقط الجد بالأب وكل جد بمن هو أقرب منه" لأنه يدلي به كما تسقط الجدات بالأم لكونهن أمهات يدلين بها ويسقط ولد الابن بالابن لأنه يدلي به إن كان أباه وإن كان عمه فهو أقرب منه فيكون أولى بالميراث لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر" 2.
ـــــــ
1 - آية 12 سورة النساء.
2 - سبق تخريجه.(1/293)
باب العصبات
وهم كل ذكر يدلي بنفسه أو بذكر آخر إلا الزوج والمعتقة وعصباتها وأحقهم بالميراث أقربهم وأقربهم الابن ثم ابنه وإن نزل ثم الأب ثم أبوه وإن علا ما لم يكن إخوة ثم بنو الأب ثم بنوهم وإن نزلوا ثم بنو الجد ثم بنوهم وعلى هذا لا يرث بنو أب أعلى من بني أب أدنى منه وإن نزلوا
ـــــــ
باب العصبات
"وهم كل ذكر يدلي بنفسه أو بذكر آخر إلا الزوج والمعتقة وعصباتها وأحقهم بالميراث أقربهم" ويسقط به من بعده لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر" "وأقربهم الابن وابنه وإن نزل" لأن الله سبحانه بدأ بهم بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}, والعرب تبدأ بالأهم فالأهم "ثم الأب"؛ لأن سائر العصبات يدلون به ثم الجد أبو الأب "وإن علا ما لم يكن إخوة" فإن اجتمعوا فقد مضى ذكرهم في فصل أحوال الجد "ثم بنو الأب" وهم الإخوة "ثم بنوهم وإن نزلوا ثم بنو الجد" وهم الأعمام "ثم بنوهم وإن نزلوا ثم بنو" جد الأب وهم أعمام الأب ثم بنوهم وإن نزلوا وكذلك أبدا "لا يرث بنو أب أعلى من بني أب" أقرب "منه وإن" نزلت درجتهم"؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أبقت الفرائض فللأولى رجل ذكر".(1/293)
وأولى كل بني أب أقربهم إليه فإن استوت درجاتهم فأولاهم من كان لأبوين وأربعة منهم يعصبون أخواتهم ويقتسمون ما ورثوا {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}, وهم: الابن وابنه والأخ من الأبوين أو من الأب ومن عداهم ينفرد الذكور بالميراث كبني الإخوة والأعمام وبنيهم وإذا انفرد العصبة ورث المال كله فإن كان معه ذو فرض بدأ به وكان الباقي للعصبة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر", فإن استغرقت الفروض المال سقط العصبة كزوج وأم وإخوة لأم وإخوة لأبوين, فللزوج النصف وللأم السدس وللإخوة للأم الثلث ويسقط الإخوة للأبوين وتسمى المشتركة والحمارية ولو كان مكانهم أخوات لكان لهن الثلثان
ـــــــ
مسألة: "وأولى كل بني أب أقربهم إليه" للخبر.
مسألة: "فإن استوت درجتهم فأولاهم من كان لأبوين" لحديث علي رضي الله عنه.
مسألة: "وأربعة" من الذكور "يعصبون أخواتهم" فيمنعونهن الفرض "ويقتسمون ما ورثوا: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}, وهم الابن وابنه والأخ من الأبوين أو من الأب"؛ لقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}, وقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.
مسألة: "ومن" عدا هؤلاء من العصبات "ينفرد الذكور بالميراث" دون الإناث "كبني الإخوة والأعمام وبنيهم" لأن أخواتهم من ذي الأرحام.
مسألة: "وإن انفرد العصبة ورث المال كله" لقوله عليه السلام: "ما أبقت الفروض فلأولى رجل ذكر".
مسألة: "وإذا اجتمع ذو فرض وعصبة بدئ بذي الفرض فأخذ فرضه وما بقي للعصبة" للخبر, "فإن استغرقت الفروض المال سقط العصبة كزوج وأم وإخوة لأم وإخوا لأب وأم أو لأب فللزوج النصف وللأم السدس وللأخوة من الأم الثلث وسقط الإخوة من الأبوين"؛ لأنهم عصبة وقد تم المال بالفروض "وتسمى المشتركة"؛ لأن عمر رضي الله عنه شرك بين ولد الأم وولد الأبوين في الثلث فقسم بينهم بالسوية "و" تسمى "الحمارية"؛ لأنه قيل: هب أن أباهم كان حمارا فما زادهم ذلك إلا قربا, روي أن ذلك قيل لعمر بعدما أسقطهم فشرك بينهم.
مسألة: "ولو كان مكانهم أخوات كان لهن الثلثان وتعول إلى عشرة وتسمى أم الفروخ"؛ لأنها عالت بثلثيها وهي أن يكون زوج وأم وإخوة لأم وأخوات لأبوين أو لأب أصلها من ستة فيكون للزوج النصف ثلاثة وللأم سدس سهم وللأخوة من الأم الثلث سهمان وللأخوات الثلثان أربعة صارت عشرة(1/294)
وتعول إلى عشرة وتسمى أم الفروخ, وإذا كان الولد خنثى اعتبر بمباله فإن بال من ذكره فهو رجل وإن بال من فرجه فهو امرأة, وإن بال بينهما واستويا فهو مشكل له نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى, وكذلك الحكم في ديته وجراحه وغيرهما ولا ينكح بحال.
ـــــــ
فصل : "وإذا كان الولد خنثى اعتبر بمباله" وينقسم إلى مشكل وغيره فالذي تتبن فيه علامات الذكور أو علامات الإناث فيكشف حاله ويعلم أنه رجل أو امرأة ليس بمشكل والذي لا علامة فيه مشكل فيعتبر بمباله قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الخنثى يورث من حيث يبول, إن بال من حيث يبول الرجل "فهو رجل وإن بال من" حيث تبول المرأة "فهو امرأة", وفي حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يورث الخنثى من حيث يبول". ولأن خروج البول أعم العلامات لأنها توجد من الصغير والكبير وسائر العلامات إنما توجد بعد الكبر مثل نبات اللحية وخروج المني والحيض "فإن بال منهما جميعا واستويا فهو مشكل له نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى". قاله ابن عباس ولأن حالتيه تساويا فوجب التسوية بين حكمهما كما لو تداعى نفسان دارا في أيديهما ولا بينة لهما, "وكذلك الحكم في ديته" يعني أنه إذا قتل خطأ وجب فيه نصف دية ذكر ونصف دية أنثى, "وكذلك جراحه ولا ينكح بحال"؛ لأنه ليس برجل فينكح امرأة ولا امرأة فتنكح رجلا.
مسألة: فإن كان مع الخنثى بنت وابن جعلت للبنت أقل عدد له نصف وهو سهمان وللذكر أربعة وللخنثى ثلاثة, وقال أصحابنا: تعمل المسألة على أنه ذكر ثم على أنه أنثى ثم تضرب إحدى المسألتين في الأخرى إن تباينتا أو وفقهما إن اتفقتا أو تجتزئ بإحداهما إن تماثلتا أو بأكثرهما إن تناسبتا, ثم تضرب ذلك في اثنين لأجل الحالين فما بلغ فمنه تصح ثم لك في القسمة طريقان: أحدهما أن تجمع سهام كل واحد من المسألتين ثم تدفع إليه نصف ذلك. الطريق الثاني: أن نضرب ما لأحدهما من مسألة الذكورية في مسألة الأنوثية أو في وفقها وما له من مسألة الأنوثية في مسألة الذكوربة أو في وفقها وإن تماثلتا جمعت ما له منهما وإن تناسبتا فله نصيبه من أكثرهما بغير ضرب ونصيبه من أقلهما مضروبا في مخرج نسبة إحداهما إلى الأخرى مثاله: ابن وولد خنثى مسألة الذكورية من اثنين ومسألة الأنوثية من ثلاثة تضربها في اثنين تكن ستة ثم في اثنين تكن اثني عشر, فإذا أردت القسمة فقل لو كان الخنثى ذكرا كان له ستة ولو كان أنثى كان له أربعة فله نصفهما خمسة وللابن ثمانية لو كان الخنثى أنثى, وستة إذا كان ذكرا فله نصف ذلك سبعة وبالطريق الأخرى للخنثى من مسألة الذكورية سهم في مسألة الأنوثية ثلاثة وله سهم من مسألة الأنوثية في مسألة الذكورية اثنان صار له خمسة, وكذلك يفعل في الابن وإنما كان كذلك لأن للابن النصف بيقين وللخنثى الثلث بيقين يبقى سهمان يتداعيانهما فتقسم بينهما نصفين, وكان الثوري في هذا الفصل يجعل للذكر أربعة وللأنثى اثنين وللخنثى ثلاثة, فإن كان ابن وولد خنثى فهي من سبعة وإن كانت بنت وولد خنثى فهي من خمسة فإن كان معهم عم فله السدس وهو قول لا بأس به.(1/295)
باب ذوي الأرحام
وهم كل قرابة ليس بعصبة ولا ذي فرض ولا ميراث لهم مع عصبة ولا ذي فرض إلا مع أحد الزوجين, فإن لهم ما فضل عنه من غير حجب ولا معاولة
ـــــــ
باب ذوي الأرحام
"وهم كل قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة" وهم أحد عشر صنفا: ولد البنات وولد الأخوات وبنات الإخوة وبنات الأعمام وبنو الإخوة من الأم والعم من الأم والعمات من جميع الجهات والأخوال والخالات وأبو الأم, وكل جدة أدلت بأب بين أمين أو بأب أعلى من الجد فهؤلاء ومن أدلى بهم يسمون ذوي الأرحام, "ولا ميراث لهم مع ذي فرض ولا عصبة إلا مع أحد الزوجين فإن لهم ما فضل عنه من غير حجب ولا معاولة", ويقسم الباقي بينهم كما لو انفردوا لأن الله سبحانه فرض للزوج والزوجة ونص عليهما, فلا يحجبان بذوي الأرحام وهم غير منصوص عليهم مثاله: زوج وبنت بنت وبنت أخ, للزوج النصف والباقي بينهما نصفان, كما لو انفردا وقيل يقسم بينهم على قدر سهام من يدلون به مع أحد الزوجين على الحجب والعول, ثم يفرض للزوج فرضه كاملا من غير حجب ولا عول ثم يقسم الباقي بينهم على قدر سهامهم ومثاله في هذه المسألة أن تقول: للزوج الربع وللبنت سهمان ولبنت الأخ سهم ثم تفرض للزوج النصف والنصف الآخر بينهما على ثلاثة وتصح من ستة وإنما يقع الخلاف في مسألة فيها من يدلي بذي فرض ومن يدلي بعصبة, وأما إن أدلى جميعهم بذي فرض أو عصبة فلا فرق, زوجة وابنتا ابنتين وابنتا أختين للزوجة الربع ولبنتي الابنتين ثلثا الباقي والباقي لبنتي الأختين تصح من ثمانية وعلى القول الآخر تصح من ستة وخمسين للزوجة ربعها أربعة عشر ولبنتي البنتين اثنان وثلاثون والأخريين عشرة أصلها من أربعة وعشرين للزوجة الثمن وللبنتين الثلثان ولبنتي الأختين خمسة ثم تدفع للزوجة الربع وتقسم الباقي على سهام المدلى بهم وهي أحد وعشرون للبنتين ستة عشر وللأختين خمسة فالأحد وعشرون ثلاثة أرباع فكملها بأن تزيد عليها ثلثها سبعة صارت ثمانية وعشرين إلا أن خمسة على الأختين لا تصح فتضربها في ثمانية وعشرين صارت ستة وخمسين [للزوجة ربعها أربعة عشر ولبنتي البنتين اثنان وثلاثون وللآخرين عشرة].(1/296)
ويرثون بالتنزيل فيجعل كل إنسان منهم بمنزلة من أدلى به فولد البنات وولد بنات الابن والأخوات بمنزلة أمهاتهم وبنات الإخوة والأعمام وبنو الإخوة من الأم كآبائهم والعمات والعم من الأم كالأب والأخوال والخالات وأبو الأم كالأم, فإن كان معهم اثنان فصاعدا من جهة واحدة فأسبقهم إلى الوارث أحقهم فإن استووا قسمت المال بين من أدلوا به وجعلت مال كل واحد منهم لمن أدلى به وساويت بين الذكور والإناث إذا استوت جهاتهم منه, فلو خلف ابن بنت وبنت بنت أخرى وابنا وبنت بنت أخرى, قسمت المال بين البنات على ثلاثة ثم جعلته لأولادهن للابن الثلث وللبنت الثلث وللابن والبنت الأخرى الثلث الباقي بينهما نصفين, وإن خلف ثلاث عمات متفرقات وثلاث خالات متفرقات فالثلث بين الخالات على خمسة
ـــــــ
مسألة: "ويورثون بالتنزيل فيجعل كل إنسان منهم بمنزلة من أدلى به فولد البنات وبنات الابن والأخوات كأمهاتهم وبنات الإخوة والأعمام وولد الإخوة من الأم كآبائهم والعمات والعم من الأم كالأب". وعنه كالعم "والأخوال والخالات وآباء الأم كالأم", ثم يجعل نصيب كل وارث لمن أدلى به ودليل أن العمة بمنزلة العم أنه روي عن علي ودليل أنها بمنزلة الأب ما روى الإمام أحمد بإسناده عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العمة بمنزلة الأب إذا لم يكن بينهما أب والخالة بمنزلة الخال إذا لم يكن بينهما أم". ولأن الأب أقوى جهاتها فنزلت بمنزلته كما أن بنت الأخ تدلي بأبيها لا بأخيها وبنت العم تدلي بأبيها لا بأخيها وقد قيل العمة بمنزلة الجد وقيل بمنزلة الجدة وإنما صار هذا الاختلاف لإدلائها بأربعة جهات وارثات: فالأب والعم أخواها والجد والجدة أبواها والصحيح الأول لما سبق.
مسألة: "فإن كان معهم اثنان فصاعدا من جهة واحدة فأسبقهم إلى الوارث أحقهم" مثاله: خالة وأم أبي أم الميراث للخالة لأنها تلقي الأم بأول درجة.
مسألة: "وإن استووا قسمت المال بين من أدلوا به وسويت بين الذكر والأنثى إذا استوت جهاتهم منه فلو خلف ابن بنت وبنت بنت أخرى وابنا وبنت بنت أخرى قسمت المال بين البنات على ثلاثة ثم جعلته لأولادهن للابن الثلث وللبنت الثلث وللابن والبنت الأخرى الثلث الباقي بينهما نصفين" أصلها من ثلاثة وتصح من ستة, وإنما استوى الذكر والأنثى من ذوي الأرحام في الميراث؛ لأنهم يرثون بالرحم المحض فاستوى الذكر والأنثى كولد الأم وعنه {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} لأن ميراثهم يعتبر بغيرهم فلا يجوز حملهم على ذوي الفروض؛ لأن ذوي الأرحام يأخذون المال كله ولا على العصبة البعيد لأن ذكرهم ينفرد بالميراث دون الإناث فثبت أنهم يعتبرون بالأقرب من العصبات ويجاب عن هذا بأنهم معتبرون بذوي الفروض وإنما يأخذون كل المال بالفرض والرد وهذا إذا كان أبوهم واحدا.(1/297)
والثلثان بين العمات على خمسة وتصح من خمسة عشر, وإن اختلفت جهات ذوي الأرحام نزلت البعيد حتى يلحق بوارثه ثم قسمت على ما ذكرنا. والجهات ثلاث: البنوة والأمومة والأبوة.
ـــــــ
وأمهم واحدة وقال الخرقي: يسوى بينهم إلا الخال والخالة فإن للخال الثلثين وللخالة الثلث, روي ذلك عن عثمان بن عفان رضي الله عنه, "فإن خلف ثلاث عمات متفرقات وثلاث خالات متفرقات فالثلث بين الخالات على خمسة والثلثان بين العمات على خمسة وتصح من خمسة عشر"؛ لأن أصلها من ثلاثة: للخالات سهم وللعمات سهمان إلا أن سهم الخالات بينهن على خمسة لأنهن أخوات الأم للخالة التي من قبل الأب والأم ثلاثة وللخالة التي من قبل الأب سهم وللأخرى سهم بالفرض والرد وسهم على خمسة لا يصح وكذا العمات من أخوات الأب والثلثان بينهن على نحو الثلث بين الخالات بالفرض والرد فصارت سهامهن كأنها رؤوس تنكسر عليها سهامها وخمسة تجزئ عن خمسة فتضرب خمسة في أصل المسألة وهي ثلاثة تكن خمسة عشر: للخالات خمسة على ثلاثة للتي من قبل الأب والأم ثلاثة وللأخرى سهم, وللأخرى سهم وللعمات عشرة: للتي من قبل الأب والأم ستة وللأخرى سهمان وللأخرى سهمان
مسألة: "وإن اختلفت جهات ذوي الأرحام نزلت البعيد حتى يلحق بوارثه ثم قسمت على ما ذكرنا". مثاله: بنت بنت وابن أخت وثلاث خالات مفترقات فبنت البنت بمنزلة البنت لها النصف وابن الأخت بمنرلة أمه له النصف والثلاث خالات أخوات الأم لهن نصف السدس بينهن على خمسة وتصح من خمسة وثلاثين وإن كان معهم عمه أخذت الباقي وأسقطت ابن الأخت لأنها بمنزلة الأب وهو يسقط الإخوة ومن نزل العمة عما جعل لها الباقي لابن الأخت لأنها مع البنت عصبة وهي أقرب من العم ومن نزلها جدا صحت من تسعين للخالات السدس على خمسة والثلث بين الأخت والعمة على ثلاثة فتضرب ثلاثة في خمسة عشر ثم في ستة تكن تسعين ومن نزلها جدة لم يعطها شيئا لأن الخالات بمنزلة الأم وهي تسقط الجدة.
مسألة: "والجهات ثلاث: البنوة والأمومة والأبوة" وذكرها أبو الخطاب خمسة زاد العمومة والأخوة أما العمومة فلا تصلح جهة لأنا لو قلنا إنها جهة أفضى إلى تقديم بنت العمة وإن بعدت على بنت العم, وقد روي عن الإمام أحمد خلافه ويفضي إلى إسقاط بنت العم من الأبوين ببنت العم من الأم وهذا بعيد, فإن العم فرع للأب وبه قرب إلى الميت فهو كالجد وكالجدة مع الأم وأما الأخوة فلو قلنا إنها جهة لأفضى إلى إسقاط بنت الأخ ببنت العمة وبنت العم وإن بعدت فلا تكون جهة والله أعلم ذكر ذلك شيخنا في المذاكرة(1/298)
باب أصول المسائل
وهي سبعة: فالنصف من اثنين والثلث والثلثان من ثلاثة والربع وحده أو مع النصف من أربعة والثمن وحده أو مع النصف من ثمانية فهده الأربعة لا عول فيها, وإذا كان مع النصف ثلث أو ثلثان أو سدس فهي من ستة وتعول إلى عشرة, وإن كان مع الربع أحد هذه الثلاثة فهي من اثني عشر وتعول إلى سبعة عشر وإن كان مع الثمن سدس أو ثلثان فهي من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين.
ـــــــ
باب أصول المسائل
"وهي سبعة: فالنصف" وحده "من اثنين والثلث والثلثان من ثلاثة والربع وحده أو مع النصف من أربعة والثمن وحده أو مع النصف من ثمانية فهذه الأربعة لا عول فيها, وإذا كان مع النصف ثلث أو ثلثان أو سدس فهي من ستة وتعول إلى عشرة, وإن كان مع الربع أحد هذه الثلاثة فهي من اثني عشر وتعول إلى سبعة عشر, وإن كان مع الثمن سدس أو ثلثان فهي من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين", وجملة ذلك أن الفروض في كتاب الله ستة وهي نوعان: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس, وهي تخرج من سبعة أصول: أربعة لا تعول وثلاثة تعول لأن كل فرض انفرد فأصله من مخرجه وإن اجتمع معه فرض من جنسه فأصلها من مخرج أقلهما؛ لأن مخرج الكبير داخل في مخرج الصغير فإن اجتمع معه فرض من غير جنسه ضربت مخرج أحدهما في مخرج الآخر إن لم يتوافقا فما ارتفع فهو أصل لهما أو وفق أحدهما في جميع الأجزاء إن توافقا فلذلك صارت الأصول سبعة كما ذكرنا, فالأربعة الأول لا تعول لأن العول فرع ازدحام الفروض ولا يوجد ذلك ها هنا, وإن اجتمع مع الفرض من غير جنسه كالنصف يجتمع معه أحد الثلاثة السدس أو الثلث أو الثلثان فأصلها من ستة لأنك إذا ضربت مخرج النصف في مخرج الثلث صارت ستة ويدخل العول فى هذا الأصل لازدحام الفروض فيه, وإن اجتمع مع الربع أحد الثلاثة فأصلها من اثني عشر لأنك إذا ضربت مخرج الربع في مخرج الثلث أو وفق مخرج السدس كانت اثني عشر, وإن اجتمع مع الثمن سدس أو ثلثان فأصلها من أربعة وعشرين لما ذكرناه, وتعول هذه الأصول الثلاثة, ومعنى العول نقص الفروض لازدحامها وضيق المال عنها, وطريق العمل فيها أن تأخذ لكل واحد فرضا من أصل مسألته ثم تجمع السهام كلها فتقسم المال عليها فيدخل النقص على كل ذي فرض بقدر فرضه كما تصنع في الوصايا الزائدة على الثلث وفي قسمة مال المفلس على ديونه, وإذا ثبت هذا فأصل ستة يتصور عوله إلى عشرة ولا تعول إلى أكثر منها, ومثاله: أولاد زوج وأخت لأبوين وأخت لأب: للزوج النصف ثلاثة وللأخت للأبوين ثلاثة وللأخت لأب سهم, عالت إلى سبعة فإن كان مكان الأخت من الأب أم فلها الثلث فتعول إلى ثمانية فإن كان معها ثلاث أخوات مفترقات عالت إلى تسعة, وإن كان الأخوات ستا عالت إلى عشرة وأصل اثني عشر تعول إلى سبعة عشر لا غير, ومثاله: زوج وأم وابنتان أصلها من اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشر فإن كان معهم أب عالت إلى خمسة عشر فإن كن ثلاث زوجات وجدتين وأربع أخوات لأم وثمانية لأب عالت إلى سبعة عشر لكل واحدة سهم, وأصل أربعة وعشرين تعول إلى سبعة وعشرين ولا تعول إلى أكثر من ذلك, ومثاله: زوجة وأبوان وابنتان للابنتين الثلثان ستة عشر ولكل واحد من الأبوين السدس أربعة وللزوجة الثمن ثلاثة وتسمى البخيلة لقلة عولها وتسمى المنبرية؛ لأن عليا رضي الله عنه سئل عنها على المنبر فقال: صار ثمنها تسعا ومضى في خطبته.(1/299)
باب الرد
وإن لم تستغرق الفروض المال ولم يكن عصبة فالباقي يرد عليهم على قدر فروضهم إلا الزوجين فإن اختلفت فروضهم أخذت سهامهم من أصل مسألتهم ستة
ـــــــ
باب الرد
"إذا لم تستغرق الفروض المال ولم يكن عصبة فالباقي يرد عليهم على قدر فروضهم إلا الزوجين" فإن كان المردود عليه واحدا أخذ المال كله بالفرض والرد كأم وجد أو بنت أو أخت وإن كانوا جماعة من جنس واحد كجدات وأخوات قسمته عليهم على عددهم كالبنين والإخوة وسائر العصبات "فإن اختلفت فروضهم أخذت سهامهم من ستة ثم جعلت سهامهم أصل مسألتهم", مثاله: بنت وأم للبنت النصف ثلاثة وللأم السدس سهم فتصح من أربعة وإن كانت أخت وجدة فكذلك "فإن انكسر على فريق منهم ضربته في عدد سهامهم"؛ لأنها أصل مسألتهم وتنحصر مسائل أهل الرد في أربعة أصول: الأول أصل اثنين كجدة وأخ من أم للجدة السدس وللأخ السدس أصلها من اثنين يقسم المال عليهما فيصير لكل واحد نصف المال, وإن كانت الجدات ثلاثا فلهن سهم لا ينقسم عليهن أضرب عددهن في أصل المسألة وهو اثنان فتصير ستة للأخ من الأم النصف ثلاثة ولهن ثلاثة لكل واحدة سهم الثاني أصل ثلاثة مثاله: أم وأخ من أم من ثلاثة للأم سهمان وللأخ سهم ومثله أم وأخوات لأم فإن كان الإخوة ثلاثا ضربت عددهم في أصل المسألة, وهي ثلاثة تكن تسعة ومنها تصح جدة وأختان لأم الثالث أصل أربعة بنتان وأختان وأخت لأبوين وأخت لأب أو لأم بنت وبنت ابن فإن كانت بنات الابن أربعا فلهن سهم لا ينقسم عليهن أضربهن في أصل مسألتهن وهو أربعة تكن ستة عشر ومنها تصح جدة وبنت جدة وأخت الأصل الرابع أصل خمسة أم وأخت لأبوين أخت لأبوين وأخت لأم وجدة أخت لأب وجدة وأخت لأم بنت وبنت ابن وأم أو جدة ثلاث أخوات مفترقات.(1/300)
ثم جعلت عدد سهامهم من أصل مسألتهم فإن انكسر على بعضهم ضربته في عدد سهامهم وإن كان معهم أحد الزوجين أعطيته سهمه من أصل مسألته وقسمت الباقي على مسألة أهل الرد فإن انقسم وإلا ضربت مسألة الرد في مسألة الزوج ثم تصحح بعد ذلك على ما سنذكره
وليس في مسألة يرث فيها عصبة عول ولا رد
ـــــــ
مسألة: "وإن كان معهم أحد الزوجين أعطيته سهمه من أصل مسألته وقسمت باقي مسألته على مسألة أهل الرد فإن انقسم وإلا ضربت مسألة الرد في مسألة الزوج ثم تصحح على ما سنذكره". مثاله: زوجة وأم وأخت لأم: للزوجة الربع سهم ويبقى ثلاثة على فريضة أهل الرد وهي ثلاثة فيصح الجميع من أربعة زوجة وأم وأخوان لأم كذلك زوجة وأم وثلاث إخوة لأم لا تصح سهام الأخوة عليهم فيضرب عددهم في أربعة تكن اثني عشر, ومنها تصح وإن لم تنقسم فأصل مسألة الزوج على فريضة أهل الرد فاضرب فريضة أهل الرد في فريضة أحد الزوجين, فما بلغ فإليه تنتقل المسألة فإذا أردت القسمة فلأحد الزوجين فريضة أهل الرد ولكل واحد من أهل الرد سهامه من مسألته مضروبة في فاضل فريضة الزوج فما بلغ فهو له إن كان واحدا وإن كانوا جماعة قسمته عليهم فإن لم ينقسم ضربته أو وفقه فيما انتقلت إليه المسألة, وتصح على ما يأتي وينحصر ذلك في خمسة أصول: أحدها زوج وجدة وأخ لأم للزوج النصف أصلها من اثنين للزوج سهم يبقى سهم على مسألة الرد وهي اثنان فاضربها في اثنين تكن أربعة. الأصل الثاني: زوجة وجدة وأخ لأم أصلها من أربعة للزوجة الربع يبقى ثلاثة على اثنين لا تصح تضربها في أربعة فتصير ثمانية ولأصل الثالث زوج وبنت وبنت ابن وأم أو جدة: مسألة الزوج من أربعة للزوج سهم يبقى ثلاثة على أربعة لا تصح فتضربها في أربعة تكن ستة عشر ومنها تصح الأصل الرابع زوجة وبنت وبنت ابن وأم أو جدة: مسألة الزوجة من ثمانية ثم تنتقل إلى اثنين وثلاثين الأصل الخامس زوجة وبنت وبنت ابن وجدة أصلها من ثمانية ثم تنتقل إلى أربعين وفي جميع ذلك إذا انكسر على فريق منهم ضربته فيما انتقلت إليه المسألة, مثاله: أربع زوجات وإحدى وعشرون بنتا وأربع عشرة جدة أصلها من ثمانية وتنتقل إلى أربعين: للزوجات فريضة الرد خمسة لا تصح عليهن ولا توافق عددهن وللبنات أربعة أسهم من فريضة الرد مضروبة في فاضل فريضة الزوجات وهي سبعة تكن ثمانية وعشرين توافق عددهن بالأسباع فيرجعن إلى اثنين والاثنان يدخلان في عدد الزوجات؛ لأنهن ضعفهن فتضرب أربعة في ثلاثة تكن اثني عشر في أربعين تكن أربعمائة وثمانين ومنها تصح فإذا أردت القسمة فكل من له شيء من أربعين مضروب في اثني عشر فما بلغ فهو نصيبه.
مسألة: "وليس في مسألة يرث فيها عصب عول ولا رد" لأن العصبة إذا انفرد أخذ المال كله وإن كان معه أحد من أصحاب الفروض أخذ الباقي إن فضل عن الفروض فلا يبقى رد.(1/301)
باب تصحيح المسائل
إذا انكسر سهم فريق عليهم ضرب عددهم أو وفقه إن وافق سهامهم في أصل مسألتهم أو عولها إن عالت أو نقصها إن نقصت ثم يصير لكل واحد منهم مثل ما كان لجميعهم أو وفقه وإن انكسر على فريقين فأكثر وكانت مماثلة أجزأك أحدهما
ـــــــ
باب تصحيح المسائل
"إذا انكسر سهم فريق عليهم ضربت عددهم أو وفقه إن وافق سهامهم في أصل مسألتهم أو عولها إن عالت أو نقصها إن نقصت ثم يصير لكل واحد منهم مثل ما كان لجماعتهم أو وفقه". مثاله: زوج وأم وثلاثة إخوة أصلها من ستة للزوج النصف ثلاثة وللأم السدس سهم يبقى للإخوة سهمان لا ينقسم عليهم ولا يوافق فاضرب عددهم في أصل المسألة تكن ثمانية عشر سهما للزوج ثلاثة في ثلاثة بتسعة وللأم سهم في ثلاثة بثلاثة وللإخوة سهمان في ثلاثة ستة لكل واحد سهمان فما كان لجماعتهم صار لواحدهم فإن كان الإخوة أربعة وافقهم سهامهم بالنصف فتضرب نصفهم وهو اثنان في المسألة تكن اثني عشر وعند القسمة تضرب سهام كل واحد من ستة في اثنين لأنه وفق عددهم وهو جزء السهم.
مسألة: "وإن انكسر على فريقين فأكثر" لم يخل من أربعة أقسام: أحدها أن يكونا متماثلين كثلاثة وثلاثة فيجزئك ضرب أحدهما في المسألة, مثاله: ثلاثة إخوة لأم وثلاثة لأب لولد الأم الثلث والثلث الباقي لولد الأب أصلها من ثلاثة وسهم على ثلاثة لا ينقسم وسهمان على ثلاثة لا ينقسم ولا يوافق فتضرب أحد العددين في أصل المسألة تصير تسعة: لولد الأم ثلاثة وستة للإخوة للأب ولو كان ولد الأب ستة وافقتهم سهامهم بالنصف فيرجع عددهم إلى ثلاثة وكان العمل فيها كما سبق. القسم الثاني: أن يكون العددان متناسبين وهو أن ينسب أحدهما إلى الآخر بجزء من أجزائه كنصفه أو ثلثه فيجزيك ضرب الأكثر منهما في المسألة, مثاله: جدتان وأربعة إخوة لأب للجدتين السدس وللإخوة ما بقي أصلها من ستة وعددهم لا يوافق سهامهم وعدد الجدات نصف عدد الإخوة فاجتزئ بالأكثر وهو أربعة تضربها في ستة تكن أربعة وعشرين سهما للجدات أربعة وللإخوة خمسة في أربعة وعشرين لكل واحد خمسة, ولو كان عدد الإخوة عشرين لوافقت سهامهم بالأخماس فيرجع عددهم إلى أربعة يدخل فيها عدد الجدات فتضرب الأربعة في ستة تكن أربعة وعشرين. القسم الثالث: أن يكون العددان متباينين تضرب بعضها في بعض فما بلغ ضربته في المسألة ويسمى جزء السهم. مثاله: أم وثلاثة إخوة لأم وأربعة إخوة لأب أصلها من ستة ولولد الأم سهمان لا يوافقهم ولولد الأب ثلاث كذلك فهما متباينان فتضرب أحدهما في الآخر تكن اثني عشر ثم في أصل المسألة تكن اثنين وسبعين ثم كل من(1/302)
وإن كانت متناسبة أجزأك أكثرها فإن تباينت ضربت بعضها في بعض وإن توافقت ضربت وفق أحدهما في الآخر ثم وفقت بين ما بلغ وبين الثالث وضربته أو وفقه في الثالث ثم ضربته في المسألة ثم كل من له شئ من المسألة مضروب في العدد الذي ضربته في المسألة.
ـــــــ
له شيء من ستة مضروب في اثني عشر فما بلغ فهو له. القسم الرابع أن يكون العددان متفقين بنصف أو ثلث أو ربع فيجزئك ضرب وفق أحدهما في الآخر فما بلغ ضربته في المسألة, مثاله: أربع جدات وستة إخوة يتفقان بالنصف فيضرب نصف أحدهما في جميع الآخر يكن اثني عشر تضربها في المسألة تكن اثنين وسبعبن, وإن كان الكسر على ثلاثة أعداد كثمانية وعشرة واثني عشر فهذا يسمى الموقوف وفي عمله طريقان: أحدهما أن تضرب وفق أحد العددين في جميع الآخر ثم ما بلغ وافقت بينه وبين الثالث ثم ضربت وفق أحد العددين في جميع الآخر فما بلغ ضربته في المسألة الطريق الثاني أن يقف واحد من الثلاثة ثم توافق بينه وبين الآخر ثم تردهما إلى وفقيهما, ثم تعمل في الوفقين عملك في العددين الأصليين إن كانا متماثلين اجتزئت بأحدهما وإن كانا متناسبين اجتزئت بأكثرهما وإن كانا متباينين ضربت أحدهما في الآخر, وإن كانت متوافقين ضربت وفق أحدهما في جميع الآخر ثم في الموقوف فما بلغ فهو جزء السهم تضربه في أصل المسألة فما بلغ فمنه تصح المسألة. مثاله: ست جدات وتسع بنات وخمسة عشر عما بالطريق الأول يوافق من الستة والتسعة فتضرب ثلث أحدهما في الآخر تكن ثمانية عشر توافق بينهما وبين الخمسة عشر وتضرب ثلث أحدهما في الآخر تكن تسعين وهو جزء السهم. وبالطريق الثاني توقف الستة وتوافق بينهما وبين التسعة فترجع إلى ثلاثة ثم توافق بينهما وبين الخمسة عشر فترجع إلى خمسة ثم تضرب ثلاثة في خمسة تكن خمسة عشر ثم في ستة الموقوفة تكن تسعين ثم تضرب تسعين في ستة وهي أصل المسألة تصير خمسمائة وأربعين.(1/303)
باب المناسخات
إذا لم تقسم تركة الميت حتى مات بعض ورثته وكان ورثة الثاني يرثونه على
ـــــــ
باب المناسخات
"إذا لم تقسم تركة الميت حتى مات بعض ورثته وكان ورثة الثاني يرثونه على حسب ميراثهم من الأول قسمت التركة على ورثة الثاني وأجزأك", وذلك بأن يكونوا عصبة لهما. مثاله: أربعة بنين وثلاث بنات مات بنت بنت ثم ابن ثم بنت أخرى ثم ابن آخر وبقي ابنان وبنت فاقسم المسألة على خمسة وكذلك تقول في أبوين وزوجة وابن وبنتين مات ابن ثم ماتت الزوجة ثم ماتت بنت ثم مات الأب ثم الأم فقد صارت المواريث كلها بين الابن(1/303)
حسب ميراثهم من الأول قسمت التركة على ورثة الثاني وأجزأك وإن اختلف ميراثهم صححت مسألة الثاني وقسمت عليها سهامه من الأولى فإن انقسم صحت المسألتان مما صحت منه الأولى وإن لم تنقسم ضربت الثانية أو وفقها في الأولى ثم كل من له شئ من الأولى أخذه مضروبا في الثانية أو وفقها ومن له شئ في الثانية أخذه مضروبا في سهام الميت الثاني أو وفقها ثم تفعل فيما زاد من المسائل كذلك أيضا.
ـــــــ
والبنت الباقيين ثلاثا واستغنيت عن عمل المسائل.
مسألة: "وإن اختلف ميراثهم صححت مسألة الثاني وقسمت عليها سهامه من الأولى فإن انقسم صحت المسألتان مما صحت منه الأولى وإن لم تنقسم ضربت الثانية أو وفقها في الأولى ثم كل من له شيء من الأولى مضروب في الثانية أو" في "وفقها ومن له شيء من الثانية مضروب في السهام" التي مات عنها "الميت الثاني" أو في "وفقها ثم تفعل فيما زاد من المسائل كذلك". مثال ما يصح: أم وعم مات العم عن بنت وعصبة الأولى من ثلاثة والثانية من اثنين وله من الأولى سهمان تصح على مسألته فصحت المسألتان من ثلاثة, ثلاث أخوات مفترقات ماتت الأخت من الأبوين خلفت ابنين ومن خلفت تصح المسألتان من خمسة, ومثال ما يوافق: أم وابنان وبنت مات أحد الابنين وخلف من خلف الأولى من ستة للابن منها سهمان وقد خلف جدته وأخاه وأخته فمسألتهم من ثمانية عشر يوافق سهميه بالنصف فاضرب نصف المسألة وهو تسعة في الأولى وهي ستة تكن أربعة وخمسين: للأم من الأولى سهم في تسعة وفق الثانية ولها من الثانية ثلاثة في سهم صارت اثني عشر وللابن الباقي سهمان في تسعة ومن الثانية عشرة في سهم صار له ثمانية وعشرون ولأخته أربعة عشر, ومثال ما لا يوافق: زوج وأم وست أخوات مفترقات ماتت إحدى الأختين من الأم وخلفت من خلفت الأولى من عشرة, والثانية من ستة وتصح من ستين وإن مات ثالث فصحح مسألته ثم انظر ما صار له من الأوليين فإن انقسم على مسألته فقد صحت الثلاث مما صحت منه الأوليان, وإن لم تنقسم وإلا ضربت مسألته أو وفقها فيما صحت منه الأوليان وعملت على ما ذكرنا وكذلك تصنع في الرابع والخامس وما بعده.(1/304)
باب موانع الميراث
وهي ثلاثة: أحدها : اختلاف الدين فلا يرث أهل ملة أهل ملة أخرى لقول
ـــــــ
باب موانع الميراث
"وهي ثلاثة: أحدها اختلاف الدين فلا يرث أهل ملة أهل ملة أخرى؛ لقول رسول(1/304)
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يتوارث أهل ملتين شتى". والمرتد لا يورث أحدا وإن مات فماله فيء. الثاني: الرق فلا يرث العبد أحدا ولا له مال يورث ومن كان بعضه حرا ورث وورث وحجب بقدر ما فيه من الحرية
ـــــــ
الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". متفق عليه من حديث أسامة ابن زيد1.
مسألة: "والمرتد لا يورث أحدا" لأنه ليس بمسلم فيرث المسلمين ولا يثبت له حكم الدين الذي ينتقل إليه فيرث أهله ولا يرثه أحد لذلك. "فإن مات فماله فيء" في بيت مال المسلمين وهو قول ابن عباس وعن الإمام أحمد ما يدل على أنه لورثته من المسلمين روي ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعلي وابن مسعود رضي الله عنهما, ولأن ردته بمنزلة موته فيرثونه حين ارتد وينتقل إليهم بردته كما ينتقل ميراث الميت بموته, وعنه لأهل دينه الذي اختاره لأنه صار إلى دينهم فيرثونه كما يرثون من كان أصليا في دينهم, والصحيح الأول لما سبق من الحديث ولأنه كافر فلا يرثه المسلم كالكافر الأصلي, أو مال مرتد فلا يورث كالذي اكتسبه في حال ردته ولا يصح جعله لأهل دينه لأنه لا يرثهم فلا يرثونه كغيرهم من أهل الأديان.
"الثاني: الرق فلا يرث العبد أحدا ولا له مال يورث" وقد أجمعوا على أنه لا يورث فإنه لا مال له يورث عنه, ومن قال يملك بالتمليك فملكه غير مستقر يزول إلى سيده إذا زال ملكه عن الرقبة بدليل قوله عليه السلام: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع". وأكثرهم على أنه لا يرث روي ذلك عن علي وزيد وحكي عن طاووس أنه يرث ويكون لسيده كما لو أوصى له ولنا أن فيه نقصا منع كونه موروثا فمنع كونه وارثا كالمرتد, ويفارق الوصية فإنها تصح لمولاه والميراث لا يصح لمولاه فافترقا.
مسألة: "ومن كان بعضه حرا ورث وورث وحجب بقدر ما فيه من الحرية"؛ لما روى عبد الله بن أحمد بإسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في العبد يعتق بعضه: "يرث ويورث على مقدار ما عتق منه" 2. فإذا خلف أما وبنتا نصفها حر وأبا حرا فللبنت بنصف حريتها نصف ميراثها وهو الربع وللأم مع حريتها ورق البنت الثلث والسدس مع حرية البنت فقد حجبتها بحريتها عن السدس فبنصف حريتها تحجبها عن نصفه ويبقى لها الربع لو كانت حرة فلها بنصف حريتها نصفه وهو الثمن والباقي للأب, وإن شئت نزلتهم أحوالا
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الفرائض: حديث رقم 6764. ومسلم في الفرائض: حديث رقم 1.
2 - رواه النسائي في القسامة: 37- باب دية المكاتب.(1/305)
الثالث : القتل فلا يرث القاتل المقتول بغير حق وإن قتله بحق كالقتل حدا أو قصاصا أو قتل العادل الباغي عليه فلا يمنع ميراثه
ـــــــ
كتنزيل الخناثي, فتقول: إن كانتا حرتين فالمسألة من ستة للبنت النصف ثلاثة وللأم السدس سهم والباقي للأب, وإن كانتا رقيقتين فالمال للأب وإن كانت البنت وحدها حرة فلها النصف وإن كانت الأم وحدها حرة فلها الثلث وكلها تدخل في الستة تضربها في الأربعة الأحوال تكن أربعة وعشرين للأم ثلاثة وهي الثمن وللبنت ستة وهي الربع والباقي للأب وترجع بالاختصار إلى ثمانية.
"والثالث: القتل فلا يرث القاتل المقتول بغير حق"؛ لما روى الإمام أحمد ومالك عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس لقاتل شيء" 1, وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه, ورواهما ابن عبد البر في كتابه وروى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره وإن كان والده أو ولده فليس لقاتل ميراث", رواه الإمام أحمد, ولأن توريث القاتل يفضي إلى تكثير القتل لأن الولد ربما استعجل موت مورثه ليأخذ ماله, وأجمعوا على أن قاتل العمد لا يرث إلا شيئا شاذا يروى عن سعيد بن المسيب وابن جبير وهو رأي الخوارج, وأكثرهم يرى أن القاتل القتل الخطأ لا يرث المقتول روي عن جماعة من الصحابة وورثه قوم من المال دون الدية؛ لأن ميراثه ثابت بالكتاب والسنة خصص منه قاتل العمدة بالإجماع فيجب أن يبقى فيما عداه على مقتضى المنصوص ولنا الأحاديث؛ ولأن من لا يرث من الدية لا يرث من غيرها كقاتل العمد والرقيق والعمومات مخصصة بما ذكرنا.
مسألة: "وإن قتله بحق كالقتل حدا أو قصاصا أو قتل العادل الباغي لم يمنع ميراثه"؛ لأنه فعل مأذون فيه فلم يمنع الميراث كما لو أطعمه أو سقاه فمات ولأنه حرم في محل الوفاق كيلا يفضي إلى اتخاذ القتل المحرم وحرمان الميراث ها هنا ربما يمنع من استيفاء الحد الواجب, والتوريث لا يفضي إلى اتخاذ قتل محرم فهو ضد للأصل غير مساو له في معناه.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الفرائض: حديث رقم 2109. وأبو داود في الديات: حديث رقم 4564.(1/306)
باب مسائل شتى
إذا مات عن حمل يرثه وقفت ميراث اثنين ذكرين إن كان ميراثهما أكثر وإلا
ـــــــ
باب مسائل شتى
"إذا مات عن حمل يرثه وقفت له ميراث ذكرين إن كان ميراثهما أكثر وإلا ميراث(1/306)
ميراث اثنين وتعطي كل وارث اليقين وتقف الباقي حتى يتبين, وإن كان في الورثة مفقود
ـــــــ
اثنيين فتعطي كل وارث اليقين وتقف الباقي حتى يتبين". مثاله: رجل مات وخلف أمة حاملا وبنتا يدفع للبنت الخمس ويوقف الباقي وهو نصيب ذكرين فإن كان بدل البنت ابن أعطي الثلث ويوقف الباقي أبوان وأمة حامل لهما السدسان ويوقف الباقي, ومتى زادت الفروض على الثلث كان نصيب الإناث أكثر. مثاله: امرأة حامل وأبوان تعطى الزوجة ثلاثة والأبوان ثمانية من سبعة وعشرين ويوقف الباقي, زوج وأم حامل من الأب يدفع للزوج ثلاثة من ثمانية ولللأم سهم ويوقف الباقي, امرأة حامل وأبوان وبنت يعطى للزوجة ثلاثة من سبعة وعشرين وللأبوين ثمانية من سبعة وعشرين وهو أقل ميراثهم وتعطى البنت خمسا من ثلاثة عشر من أربعة وعشرين؛ لأنه أقل ميراثها فتضرب خمسة في أربعة وعشرين تكن مائة وعشرين لها منها ثلاثة عشر, فإذا أردنا أن نعطي الزوجة والأبوين وافقنا بين السبعة وعشرين وبين المائة وعشرين ثم ترد أحدهما إلى وفقهما تسعة ثم تضربها في الأخرى تكن ألفا وثمانين ثم تعطي الزوجة ثلاثة في وفق الأخرى, وهو أربعون مائة وعشرون وللأبوين ثمانية في أربعين تكن ثلاثمائة وعشرين كل واحد مائة وستون, وللبنت ثلاثة عشر في تسعة تكن مائة وسبعة عشر فإن ولدت ذكرين فقد أخذت البنت حقها وتزاد الزوجة مثل ثمن ما معها خمسة عشر فيصير معها ثمن كامل ويزاد الأبوان مثل ثمن ما معهما أربعين فيصير معهما ثلث كامل من ألف وثمانين وإن ولدت ذكرا وأنثى فسهم الزوجة والأبوين على حاله كما ولدت ذكرين وتزاد البنت مثل ربع ما معها تسعة وعشرين وربع يصير لها مائة وستة وأربعون وربع وإن ولدت ذكرا واحدا فسهم الزوجة والأبوين على حاله وتزاد البنت مثل ثلثي ما معها أعني المائة وسبعة عشر لأن لها ثلث الباقي وقد أخذت الخمس فهو بقية مال ذهب خمساه فيزاد عليه ثلثاه وهو ثمانية وسبعون صار لها مائة وخمسة وتسعون وإن ولدت أنثى واحدة فسهم الأبوين والزوجة من سبعة وعشرين على حاله وتأخذ البنت مثل سهم الأبوين وإن ولدت انثيين لم يتغير إلا سهم البنت يصير لها ثلث الستة عشر وهو خمسة وثلث في أربعين تكن مائتين وثلاثة عشر وثلث سهم, وإن لم تلد شيئا أخذت الزوجة ثمنا كاملا والأبوان ثلثا كاملا وللبنت نصف لا غير وفضل معها سهم تدفعه إلى الأب فيصير لها خمسة من أربعة وعشرين, وقد صحت كلها بعد كسر الأسهم: البنت فيه كسر ثلث سهم فيما إذا ولدت ابنتين وربع سهم فيما إذا ولدت ذكرا وأنثى فتضرب مخرج الثلث ثلاثة ومخرج الربع أربعة, فيصير اثني عشر تضربها في ألف وثمانين, وكل من له شيء من ألف وثمانين مضروب في اثني عشر فتصير المسألة كلها من اثني عشر ألفا وتسعمائة وستين سهما, والله أعلم.
مسألة: "وإن كان في الورثة مفقود لا يعلم خبره أعطيت كل وارث اليقين ووقف الباقي حتى يعلم حاله" وهي رواية عن الإمام أحمد ينتظر أبدا وهو محمول على أنه ينتظر.(1/307)
لا يعلم خبره أعطيت كل وارث اليقين ووقفت الباقي حتى يعلم حاله إلا أن يفقد في مهلكة أو من بين أهله فينتظر أربع سنين ثم يقسم.
وإن طلق المريض في مرض الموت المخوف امرأته طلاقا يتهم فيه لقصد
ـــــــ
مدة لا يعيش في مثلها وهو قول أكثرهم, وهذا إذا كان في غيبة ظاهرها السلامة كالسفر للتجارة أو طلب علم وعنه ينتظر تمام تسعين سنة مع سنة من يوم ولد؛ لأن الغالب أنه لا يعيش أكثر من هذا, وقيل مائة وعشرين وقيل سبعين.
مسألة: "إلا أن يفقد في مهلكة أو من بين أهله فينتظر أربع سنين"؛ لأنها أكثر مدة الحمل "فإن لم يظهر له خبر قسم ماله" واعتدت زوجته للوفاة ثم تزوجت نص عليه, وقال الشافعي رضي الله عنه: يوقف ماله أبدا حتى تمضي مدة لا يعيش في مثلها, ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تزويج امرأته بعد أربع سنين, وإذا ثبت ذلك في النكاح مع الاحتياط للأبضاع ففي المال أولى؛ ولأن الظاهر هلاكه فجاز قسمة ماله كما لو مضت مدة لا يعيش في مثلها, فإذا كان في الورثة مفقود دفعت إلى كل وارث اليقين ووقفت الباقي كما ذكرنا, فتعمل المسألة على أنه حي ثم على أنه ميت ثم تضرب إحداهما في الأخرى أو في وفقها إن اتفقتا, ثم تضرب ما لكل واحد من إحدى المسألتين في الأخرى أو في وفقها إن اتفقتا فتدفع إليه أقل النصيبين وتقف الباقي. مثاله: زوج وأم وجدة وأخت وأخ مفقود مسألة الوجود من ثمانية عشر, ومسألة العدم من سبعة وعشرين يتفقان بالاتساع فاضرب تسع إحداهما في الأخرى تكن أربعة وخمسين: للزوج من مسألة الوجود تسعة في ثلاثة سبعة وعشرون ومن مسألة العدم تسعة في سهمين ثمانية عشر تدفعها إليه؛ لأنها اليقين وللأم في مسألة الوجود ثلاثة في ثلاثة تسعة ومن مسألة العدم ستة في اثنين اثنا عشر فتدفع إليها تسعة؛ لأنها اليقين وللأخت من مسألة الوجود سهم في ثلاثة بثلاثة ومن مسألة العدم أربعة في اثنين ثمانية فتدفع إليها الثلث وللجد من مسألة الوجود ثلاثة في ثلاثة تسعة ومن مسألة العدم ثمانية فى اثنين ستة عشر فتدفع إليه التسعة يبقى خمسة عشر موقوفة, فإن بان الأخ حيا دفعت إليه ستة لأن له من مسألة الوجود اثنين مضروبا في وفق مسألة العدم ثلاثة ودفعنا إلى الزوج تسعة لأن له من مسألة الوجود سبعة وعشرين معه ثمانية عشر بقي له تسعة ونصيب الأم السدس لا غير, وقد أخذته وكذا الأخت وإن بان الأخ ميتا دفعنا إلى الأم ثلاثة وإلى الجد سبعة وإلى الأخت خمسة وعلى هذا العمل.
مسألة: "وإن طلق المريض في مرض الموت المخوف امرأته طلاقا يتهم فيه بقصد حرمانها الميراث" مثل أن طلقها ابتداء في مرضه بائنا ثم مات في مرضه ذلك, "ورثته ما دامت في العدة"؛ لما روي أن عثمان رضي الله عنه ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف وكان طلقها في مرض موته فبتها واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر(1/308)
حرمانها عن الميراث لم يسقط ميراثها ما دامت في عدته وإن كان الطلاق رجعيا توارثا في العدة سواء كان في الصحة أو في المرض وإن أقر الورثة كلهم بمشارك لهم في الميراث فصدقهم أو كان صغيرا مجهول النسب ثبت نسبه وإرثه وإن أقر به بعضهم لم يثبت نسبه ومر له فضل ما في يد المقر عن ميراثه
ـــــــ
فكان إجماعا ولأنه قصد قصدا فاسدا في الميراث فعورض بنقيض قصده كالقاتل وهل ترث بعد انقضاء العدة؟ فيه روايتان: إحداهما ترثه لأن عثمان ورث امرأة عبد الرحمن بعد انقضاء العدة, ولأنه فار من ميراثها فورثته كالمعتدة, والثانية لا ترثه لأن آثار النكاح زالت بالكلية فلم ترثه كما لو تزوجت ولأن ذلك يفضي إلى توريث أكثر من أربع زوجات بأن تزوج أربعا بعد انقضاء عدة المطلقة وذلك غير جائز.
مسألة: "وإن كان الطلاق رجعيا توارثا في العدة سواء كان في الصحة أو في المرض"؛ لأن الرجعية زوجة.
مسألة: "وإن أقر الورثة كلهم بمشارك لهم في الميراث فصدقهم أو كان صغيرا مجهول النسب ثبت نسبه وإرثه"؛ لأن الورثة يقومون مقام الميت في ماله وحقوقه وهذا من حقوقه وسواء كان الورثة واحدا أو جماعة ذكرا أو أنثى؛ لأنه حق ثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه العدد كالدين ولأنه قول لا تعتبر فيه العدالة فلا يعتبر فيه العدد كإقرار الموروث.
مسألة: "وإن أقر بعضهم لم يثبت نسبه"؛ لأنه لا يرث المال كله ولو كان المقر عدلا لأنه إقرار من بعض الورثة فإن شهد منه عدلان أنه ولد على فراشه وإن الميت أقر به ثبت نسبه وشاركهما في الإرث؛ لأنهما لو شهدا على غير موروثهما قبل فكذلك على موروثهما.
مسألة: وعلى المقر أن يدفع إلى المقر "له فضل ما في يده عن ميراثه" فإذا أقر أحد الاثنين بأخ فله ثلث ما في يده, وإن أقر بأخت فلها خمس ما في يده لأن التركة بينهم أثلاثا أو أخماسا فلا يستحق المقر له مما في يده إلا الثلث أو الخمس كما لو ثبت نسبه ببينة؛ ولأنه إقرار بحق يتعلق بحصته وحصة أخيه فلا يلزمه أكثر مما يخصه كالإقرار بالوصية وكإقرار أحد الشريكين على مال الشركة بدين؛ ولأنه لو شهد معه أجنبي بالنسب ثبت ولو لزمه أكثر من حصته لم تقبل شهادته لأنه يجر بها نفعا إلى نفسه لكونه يسقط عن نفسه ببعض ما يستحقه عليه وفارق ما إذا غصب بعض الشركة وهما اثنان؛ لأن كل واحد منهما يستحق النصف من كل جزء من الشركة وها هنا يستحق الثلث فافترقا, فإن لم يكن في يده فضل فلا شيء للمقر له لأنه لم يقر له بشيء.(1/309)
باب الولاء
الولاء لمن أعتق وإن اختلف بينهما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق". وإن عتق عليه برحم أو كتابة أو تدبير أو استيلاء فله عليه الولاء وعن أولاده من حرة معتقة أو أمة, وعلى معتقيه ومعتقي أولاده وأولادهم ومعتقيهم أبدا ما تناسلوا ويرثهم إذا لم يكن له من يحجبه عن ميراثهم ثم عصباته من بعده.
ـــــــ
باب الولاء
كل من "أعتق" عبدا أو "عتق عليه برحم أو كتابة أو تدبير أو استيلاء" أو وصية بعتقه "فله عليه الولاء"؛ لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الولاء لمن أعتق". وروى: أنه نهى عن بيع الولاء وعن هبته. متفق عليهما1. وأجمعوا على أن من أعتق عبدا أو عتق عليه ولم يعتقه سابقه أن له عليه الولاء, "ويثبت الولاء للمعتق على المعتق "وعلى أولاده من زوجة معتقة أو أمة" أما ثبوت الولاء على المعتق مجمع عليه؛ لقوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق" 2, وأما ثبوته على أولاده فلأنه ولي نعمتهم وعتقهم بسببه, ولأنهم فرع والفرع يتبع الأصل بشرط أن يكونوا من زوجة معتقة أو من أمته فإن كانت أمهم حرة الأصل فلا ولاء على ولدها؛ لأنهم يتبعونها في الحرية والرق فيتبعونها في عدم الولاء وليس عليها ولاء, وإن كان أبوهم حر الأصل فلا ولاء عليهم أيضا ولكن يشترط أن لا يكون قد ثبت عليهم ملك مالك فإن كان قد ثبت عليهم ملك وعتقوا فولاؤهم لمن أعتقهم؛ لقوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق" 3. "و" يثبت له الولاء "على معتقي معتقيه ومعتقي أولاده وأولادهم ومعتقيهم أبدا ما تناسلوا" ؛ لأنه ولي نعمتهم وبسببه عتقوا أشبه ما لو باشرهم بالعتق.
مسألة: "ويرثهم إذا لم يكن له من يحجبه من ميراثهم ثم عصباته من بعده" فمتى كان للمعتق عصبة من أقاربه أو ذو فرض تستغرق فروضهم المال فلا شيء للمولى المنعم؛ لما روى سعيد عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الميراث للعصبة فإن لم يكن عصبة فللمولى", وعنه أن رجلا أعتق عبدا فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى في مال؟. قال: "إن مات ولم يدع وارثا فهو لك". ولأن النسب أقوى من الولاء بدليل أنه لا يتعلق به التحريم والنفقة وسقوط القصاص ورد الشهادة, ويتعلق ذلك بالنسب ولا نعلم في هذا خلافا ثم يرث به
ـــــــ
1- الأول: رواه البخاري في كتاب البيوع: 37- باب إذا اشترط شروطا في البيوع لا تحل. ومسلم في كتاب الطلاق: حديث رقم 8. والثاني: رواه البخاري في كتاب العتق: 10- باب بيع الولاء وهبته. ومسلم في كتاب العتق: حديث رقم 16.
2 - سبق تخريجه.
3 -سبق تخريجه.(1/310)
ومن قال: أعتق عبدك عني وعلي ثمنه ففعل فعلى الآمر ثمنه وله ولاؤه وإن لم يقل عني فالتمني عليه والولاء للمعتق ومن أعتق عبده عن حي بلا أمره أو عن ميت فالولاء للمعتق, وإن أعتقه عنه بأمره فالولاء للمعتق عنه بأمره وإذا كان أحد الزوجين الحرين حر الأصل فلا ولاء على ولدهما وإن كان أحدهما رقيقا تبع الولد الأم في حريتها ورقها فإن كانت الأم رقيقة فولدها رقيق لسيدها فإن أعتقهم فولاؤهم له لا يخرج عنهه بحال وإن كان الأب رقيقا والأم
ـــــــ
عصباته من بعده الأقرب فالأقرب فإذا مات العبد بعد موت مولاه ورثه أقرب عصبة مولاه دون ذوي الفروض؛ لأن الولاء كالنسب والنسب إلى العصبات ولأنه كنسب المولى من أخ أو عم فيرثه ابن المولى دون ابنته كما يرث عمه ويقدم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لما روى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المولى أخ في الدين وولي نعمة يرثه أولى الناس بالمعتق", ولأن عصبات الميت يرث منهم الأقرب فالأقرب فكذلك عصبات المولى.
مسألة: "ومن قال أعتق عبدك عني وعلي ثمنه ففعل فعلى الأمر ثمنه وله ولاؤه"؛ لأنه نائب عنه في العتق فهو كالوكيل.
مسألة: "وإن لم يقل عني فالثمن عليه والولاء للمعتق"؛ لأنه لم يعتقه عن غيره فأشبه ما لو لم يجعل له جعلا.
مسألة: "ومن أعتق عبده عن حي بلا أمره أو عن ميت فالولاء للمعتق"؛ لقوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق". "وإن أعتقه عنه بأمره فالولاء للمعتق عنه بأمره"؛ لأنه عتق عليه فأشبه ما لو باشر عتقه.
مسألة: "وإذا كان أحد الزوجين الحرين حر الأصل فلا ولاء على ولدهما"؛ لما سبق في أول الباب ولأن حرية الأب تقطع الولاء عن موالي الأم بعد ثبوته فإذا كان حرا منع ثبوتها؛ لأن المنع أسهل من الرفع.
مسألة: "وإذا كان أحدهما رقيقا تبع الولد الأم في حريتها أو رقها" ؛ لأنه إن كانت أمهم رقيقة وأبوهم حر تبعوا الأم لأنهم عبيد لسيدها ونفقتهم عليه, وإن كان أبوهم رقيقا وأمهم حرة تبعوا أمهم في الحرية لأنهم يتبعونها في الرق ففي الحرية أولى, "فإن كانت الأم رقيقة فولدها رقيق لسيدها فإن أعتقهم فولاؤهم له لا يخرج عنه بحال"؛ لقوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق". "وإن كان الأب رقيقا والأم معتقة فولدها أحرار وعليهم الولاء لمولى أمهم"؛ لأنه ولي نعمتهم لأنهم عتقوا بسبب عتقه أمهم "فإن أعتق العبد سيده ثبت له عليه(1/311)
معتقة فأولادها أحرار وعليهم الولاء لمولى أمهم فإن أعتق العبد سيده ثبت له عليه الولاء وجر إليه ولاء أولاده, وإن اشترى أباه عتق عليه وله ولاؤه وولاء إخوته ويبقى ولاؤه لموالي أمه
ـــــــ
الولاء وجر إليه ولاء أولاده" عن مولى أمهم لأن الأب لما كان مملوكا لم يكن يصلح وارثا ولا واليا في النكاح ولا يعقل فكان ابنه كولد الملاعنة انقطع نسبه عن أبيه فثبت الولاء لمولى أمه وانتسب إليها, فإذا أعتق العبد صلح الانتساب إليه وعاد وارثا عاقلا وليا فعادت النسبة إليه وإلى مواليه بمنزلة ما لو استلحق الملاعن ولده وهو قول جمهور الصحابة رضى الله عنهم.
مسألة: "وإن اشترى" أحد الأولاد "أباه عتق عليه وله ولاؤه وولاء إخوته" للخبر؛ ولأنه سبب الإنعام عليهم فكان له ولاؤهم كما لو باشرهم بالعتق, "ويبقى ولاؤه لموالي أمه لأنه لا يكون مولى نفسه" يعقل عنها ويرثها.
مسألة: "فإن اشترى أبوهم عبدا فأعتقه ثم مات الأب فميراثه بين أولاده" بالنسب "للذكر مثل حظ الأنثيين فإذا مات عتيقه بعده فميراثه للذكور دون الإناث"؛ لأنهم أقرب عصبة موالاة فيرثونه دون ذوي الفروض لأن الولاء كالنسب والنسب إلى العصبات ولأنه كنسب المولى من أخ أو عم فيرثه ابن المولى دون ابنته كما يرث ابن عمه دون ابنة عمه ويرثه ابن أخيه دون ابنته.
مسألة: "ولو اشترى الذكور والإناث أباهم فعتق عليهم ثم اشترى أبوهم عبدا فأعتقه ثم مات الأب ثم مات عتيقه فميراثهما على ما ذكرنا في التي قبلها" ودليلها دليل التي قبلها.
مسألة: "وإن مات الذكور قبل موت العتيق ورث الإناث من ماله بقدر ما أعتقن من أبيهن ثم يقسم الباقي بينهن وبين معتق الأم فإن اشترين نصف الأب وكانوا ذكرين وانثيين فلهم خمسة أسداس الميراث ولمعتق الأم سدسه؛ لأن لهم نصف الولاء والباقي بينهم وبين معتق الأم أثلاثا"؛ لأن النصف الباقي كان للاثنين لكل واحد منهما الربع فلما مات الأول منهما كان نصيبه لمواليه وهم أختاه وأخوه وموالي أمه لكل واحد منهم ربعه, فلما مات الثاني منهما فنصيبه بينهم كذلك إلا أننا أسقطنا ذكر نصيب الميت الأول منهما قطعا للدور؛ ولأننا لو قسمنا سهمه لعاد إلى الأحياء من الموالي وهم الأختان وموالي الأم أثلاثا فقسمنا النصف الباقي بين الثلاثة أثلاثا لكل واحد منهم سدس فصار للأختين السدسان مع النصف الذي لهما وهي خمسة أسداس, ولموالي الأم سدس أصلها من أربعة وتصح من ثمانية وأربعين لأن الولاء بينهم على أربعة: للبنتين سهمان ولكل ابن سهم فإذا(1/312)
لأنه لا يجر ولاء نفسه فإن اشترى أبوهم عبدا فأعتقه ثم مات الأب فميراثه بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين وإذا مات عتيقه بعده فميراثه للذكور دون الإناث ولو اشترى الذكور والإناث أباهم فعتق عليهم, ثم اشترى أبوهم عبدا فأعتقه ثم مات الأب ثم مات عتيقه فميراثهما على ما ذكرنا في التي قبلها وإن مات الذكور قبل موت العتيق ورث الإناث من ماله بقدر ما أعتقن من أبيهن, ثم يقسم الباقي بينهم وبين معتق الأم فإن اشترين نصف الأب وكانوا ذكرين وأنثيين فلهن خمسة أسداس الميراث ولمعتق الأم السدس لأن لهن نصف الولاء والباقي بينهن وبين معتق الأم أثلاث, فإن اشترى ابن المعتقة عبدا فأعتقه ثم اشترى العبد أبا معتقه فأعتقه جر ولاء معتقه وصار كل واحد منهما مولى للآخر, ولو أعتق الحربي عبدا فأسلم وسباه العبد وأخرجه إلى دار الإسلام ثم أعتقه صار كل واحد منهما مولى الآخر.
ـــــــ
مات أحد الابنين عن سهم فهو مقسوم بين أخيه وأختيه وموالي أمه من أربعة لكل واحد الربع وسهم على أربعة لا يصح فتضرب أربعة في أربعة تكن ستة عشر: للبنتين عشرة وللأختين خمسة ولموالي الأم سهم, فإذا مات الأخ الآخر عن خمسة قسمناها على ثلاثة للأختين وموالي الأم تركنا ذكر سهم الميت أولا قطعا للدور, وخمسة على ثلاثة لا تصح فنضرب ثلاثة في ستة عشر تكن ثمانية وأربعين للأختين أربعون سهما منها أربعة وعشرون سهما النصف ولهما من ستة عشر اثنان في ثلاثة ستة صارت ثلاثين يبقى خمسة عشر لهما ولموالي الأم أثلاثا لهما عشرة ولموالي الأم خمسة ولهم ثلاثة أيضا صارت ثمانية وهي سدس والأربعون خمسة أسداس فصحت من ذلك.
مسألة: "فإن اشترى ابن المعتقة عبدا فأعتقه ثم اشترى العبد أبا معتق فأعتقه جر ولاء معتقه وصار كل واحد منهما مولى الآخر", وذلك أنه إذا أعتق صار له ولاؤه لقوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق". فإذا أعتق هذا العبد أبا معتقه صار له الولاء على معتقه بولائه على أبيه, "و" مثله ما "لو أعتق الحربي عبدا فأسلم ثم" أسر سيده و "أعتقه" فلـ "كل واحد منهما" ولاء صاحبه, وكما جاز أن يشتركا في النسب فيرث كل واحد منهما صاحبه كذلك الولاء.(1/313)
باب الميراث بالولاء
الولاء لا يورث وإنما يرث به أقرب عصبات المعتق
ـــــــ
باب الميراث بالولاء
مسألة: "الولاء لا يورث وإنما يرث به أقرب عصبة المعتق" فإذا مات السيد قبل مولاه لم ينتقل الولاء إلى عصبته لأن الولاء كالنسب لا يورث فهو باق للمعتق أبدا لا(1/313)
ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتقه من أعتقن وكذلك كل فرض إلا الأب والجد لهما السدس مع الابن وابنه, والولاء للكبر فلو مات المعتق وخلف ابنين وعتيقه فمات أحد الابنين عن ابن ثم مات عتيقه فماله لابن المعتق إن مات الابنان بعده وقبل المولى وخلف أحدهما ابنا والآخر تسعة فولاؤه بينهم على عددهم
ـــــــ
يزول بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق". وإنما يرث عصبة المولى مولى المولى بولاء معتقه لا نفس الولاء وهو قول الجمهور, وشذ شريح فقال: يورث كما يورث المال, ولنا ما روى سعيد بإسناده عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المولى أخ في الدين ومولى نعمة وأولى الناس بميراثه أقربهم من المعتق"؛ ولأنه إجماع الصحابة لم يظهر عنهم خلافه فلا يجوز مخالفته ولا يصح اعتبار الولاء بالمال؛ لأن الولاء لا يورث بدليل أنه لا يرث منه ذو الفروض وإنما يورث به فينتظر أقرب الناس إلى سيده يوم موت المولى المعتق فيكون هو الوارث للمولى دون غيره كما أن السيد لو مات في تلك الحال ورثه وحده, فلو مات المولى وخلف ابن مولاه وابن ابن مولاه كان ميراثه لابن مولاه لأنه أقرب عصبات سيده.
مسألة: "ولا يرث النساء بالولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن", وهذا ليس فيه خلاف بينهم وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك, فإن عائشة لما أرادت شراء بريرة لتعتقها وأراد أهلها اشتراط ولائها قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق". متفق عليه. وفي حديث: "تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه". قال الترمذي: حديث حسن؛ ولأن المعتقة منعمة بالإعتاق كالرجل فوجب أن تساويه في الميراث وترث معتق معتقها؛ لأنها السبب في الإنعام عليه أشبه ما لو باشرته بالعتق, فأما من أعتقه أبوها فلا ترثه لأنه بمنزلة أخي أبيها أو عمه لا ترثه ويرثه أخوها.
مسألة: "وكذلك كل ذي فرض إلا الأب والجد لهما السدس مع الابن وابنه" الجد يرث الثلث مع الإخوة إذا كان أحظ له فإذا مات المعتق وخلف أبا معتقه وابن معتقه فلأبي معتقه السدس وما بقي فللابن نص عليه, وكذلك في جد المعتق وابنه فإن ترك أخا معتقه وجد معتقه فالولاء بينهما نصفين فإن كانا أخوين فالولاء بينهما أثلاثا, للجد الثلث وإن كانوا أكثر من اثنين قسم بينهم مال المعتق كما يقسم مال المعتق لو مات؛ لأنه ميراث بين الجد والإخوة أشبه الميراث بالنسب فإن كان معهم أخوات لم يعتد بهن لأنهن لا يرثن منفردات فلا يعتد بهم كالإخوة من الأم.
مسألة: "والولاء للكبر فلو مات المعتق وخلف ابنين وعتيق فمات أحد الابنين عن ابن ثم مات عتيقه فماله لابن المعتق"؛ لأن الولاء لأقرب عصبة المعتق والابن أقرب من(1/314)
لكل واحد عشرة وإذا أعتقت المرأة عبدا ثم ماتت فولاؤه لابنها وعقله على عصبتها
ـــــــ
ابن ابن "وإن مات الابنان بعده وقبل مولاه وخلف" أحد الابنين "ابنا" وخلف آخر "تسعة" كان الولاء "بينهم على عددهم لكل واحد" منهم "عشرة", روي ذلك عن جماعة من الصحابة قالوا: الولاء للكبر. وتفسيره أنه يرث المولى المعتق من عصبات سيده أقربهم إليه يوم موت العبد. قال ابن سيرين: إذا مات المعتق نظر أقرب الناس إلى الذي أعتقه فيجعل ميراثه له, وإذا مات السيد قبل مولاه لم ينتقل الولاء إلى عصبته؛ لأن الولاء كالنسب لا يورث وإنما يورث به فهو باق للمعتق أبدا؛ لقوله عليه السلام: "إنما الولاء لمن أعتق".
مسألة: "وإذا أعتقت المرأة عبدا ثم ماتت فولاؤه لابنها وعقله على عصبتها"؛ لما روى زياد بن أبي مريم أن امرأة أعتقت عبدا ثم توفيت وتركت ابنا لها وأخاها ثم توفي مولاها من بعدها فأتى أخو المرأة وابنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ميراثه فقال عليه السلام: "ميراثه لابن المرأة ". فقال أخوها: لو جر جريرة كانت علي ويكون ميراثه لهذا؟ قال: "نعم".(1/315)
باب العتق
وهو تحرير العبد ويحصل بالقول والفعل فأما القول فصريحه لفظ العتق والتحرير وما تصرف منهما فمتى أتى بذلك حصل العتق وإن لم ينوه, وما عدا هذا من الألفاظ المحتملة للعتق كناية لا يعتق بها إلا إذا كان نوى وأما الفعل فمن ملك
ـــــــ
باب العتق
"وهو" في اللغة الخلوص ومنه عتاق الخيل والطير إلى خالصها وفي الشرع: "تحرير الرقبة" وتخليصها من الرق.
مسألة: "ويحصل بالقول والفعل: فأما القول فصريحه لفظ العتق والتحرير وما تصرف منهما" نحو أنت حر أو محرر أو عتيق أو معتق أو أعتقتك؛ لأن هذين اللفظين وردا في الكتاب والسنة وهما يستعملان عرفا في العتق فكانا صريحين فيه كلفظ الطلاق فيه, "فمتى أتى" بشيء من هذه الألفاظ "حصل العتق وإن لم ينو" شيئا "وما عدا هذا من الألفاظ المحتملة للعتق كناية لا يعتق به إلا إذا نوى". نحو قوله: خليتك والحق بأهلك واذهب حيث شئت ونحوه, كما قلنا في صريح الطلاق وكنايته "وأما الفعل فمن ملك ذا رحم محرم عتق عليه"؛ لما روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر". رواه أبو داود1. ولأنه ذو رحم فعتق عليه إذا ملكه كالولد, وعنه لا يعتق إلا عمود النسب بناء على أن نفقة غيرهم لا تجب.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في العتاق: حديث رقم 3949, 3959, 3951.(1/315)
ذا رحم محرم عتق عليه ومن أعتق جزءا من عبد مشاعا أو معينا عتق كله وإن أعتق ذلك من عبد مشترك وهو موسر بقيمة نصيب شريكه عتق كله وقوم عليه نصيب شريكه وله ولاؤه, وإن كان معسرا لم يعتق إلا حصته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق". وإن ملك جزءا من ذي رحمه عتق عليه باقية إن كان موسرا إلا أن يملكه بالميراث فلا يعتق عليه إلا ما ملك.
فصل
وإذا قال لعبده أنت حر في وقت سماه أو علق عتقه على شرط يعتق إذا جاء ذلك الوقت أو وجد الشرط ولم يعتق قبله ولا يملك إبطاله بالقول وله بيعه وهبته
ـــــــ
مسألة : "ومن أعتق جزءا من عبده مشاعا أو معينا عتق كله" فإذا قال: ربع عبدي حر أو يده حرة عتق جميعه؛ لأنه موسر بما يسري إليه فأشبه ما لو أعتق شركا له في عبد وهو موسر بقيمة باقية.
مسألة: "وإن أعتق ذلك من عبد مشترك وهو موسر بقيمة نصيب شريكه عتق كله وعليه قيمة باقيه يوم العتق لشريكه"؛ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شركا له في عبد فإن كان له ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل فأعطى شركاءه حصصهم وإلا فقد عتق منه ما عتق". متفق عليه. وفي لفظ: "فكان له ما يبالغ ثمنه بقيمة العدل فهو عتق". رواه أبو داود, وفي لفظ: "فقد عتق كله" 1.
مسألة: "وله ولاؤه" لقوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق". "وإن كان معسرا لم يعتق منه إلا حصته" للخبر.
مسألة: "وإن ملك جزءا من ذي رحم عتق عليه باقيه إن كان موسرا إلا أن يملكه بالميراث" فلا يعتق عليه إلا ما ملك وذلك أنه متى ملكه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله؛ لأنه عتق بسبب من جهته فأشبه إعتاقه بالقول.
مسألة: "وإن ملكه بالميراث لم يعتق منه إلا ما ملك" موسرا كان أو معسرا؛ لأنه لا اختيار له في إعتاقه ولا بسبب من جهته, ونقل عن المروذي ما يدل على أنه يعتق عليه نصيب الشريك إذا كان موسرا لأنه ملك بعضه أشبه ما لو ملكه بالشراء.
"فصل: وإذا قال لعبده: أنت حر في وقت سماه أو علق عتقه على شرط عتق إذا جاء
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(1/316)
والتصرف فيه ومتى عاد إليه عاد الشرط وإن كانت الأمة حاملا حين التعليق أو وجد الشرط عتق حملها وإن حملت ووضعت فيما بينهما لم يعتق ولدها.
ـــــــ
الوقت أو وجد الشرط"؛ لأنه عتق بصفة فجاز كالتدبير "و" لا "يعتق قبل" وجود ذلك؛ لأنه حق علق على شرط فلا يثبت قبله كالجعل في الجعالة "ولا يملك إبطال ذلك بالقول؛ لأنه كالتدبير", "ويملك ما يزيل الملك فيه من البيع والهبة" والوقف كما ملك ذلك في المدبر فإن باعه ثم اشتراه عاد الشرط؛ لأن التعليق والصفة وجدا في ملكه فعتق كما لو لم يزل ملكه.
مسألة: "وإن كانت الأمة حاملة حين" وجود "التعليق أو وجود الشرط عتق حملها"؛ لأنه كعضو من أعضائها, "وإن حملت ووضعت فيما بينهما لم يعتق ولدها" في أحد الوجهين وفي الآخر يتبع أمه؛ لأنه نوع استحقاق للحرية فتبع الولد أمه فيه كالتدبير ودليل الأول أن التدبير أقوى من التعليق؛ لأن التعليق بصفة في الحياة يبطل بالموت والتدبير لا يبطل بالموت بل يتحقق مقصود منه.(1/317)
باب التدبير
وإذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي أو قد دبرتك أو أنت مدبر, صار مدبرا يعتق بموت سيده إن حمله الثلث, ولا يعتق ما زاد إلا بإجازة الورثة.
ـــــــ
باب التدبير
مسألة: "وإذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي أو قد دبرتك أو أنت مدبر صار مدبرا يعتق بموت سيده إن حمله الثلث" والأصل فيه ما روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن رجلا أعتق مملوكا عن دبر فاحتاج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتريه مني"؟ فباعه من نعيم بن عبد الله بثمان مائة درهم فدفعها إلى الرجل, وقال: "أنت أحوج". متفق عليه1. وقال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من دبر عبده أو أمته ولم يرجع عن ذلك حتى مات -والمدبر يخرج من ثلث ماله بعد قضاء دين إن كان عليه دين, وإنفاذ وصاياه إن كان وصى وكان السيد بالغا جائز الأمر- أن الحرية تجب له أو لها ويعتبر من الثلث؛ لأنه تبرع بالمال بعد الموت فهو كالوصية, ونقل عنه حنبل أنه من رأس المال وليس عليه عمل, وذكر أبو بكر أنه كان قولا قديما رجع عنه. "ولا يعتق ما زاد" على الثلث "إلا بإجازة الورثة"؛ لأنه حقهم فلا يجوز بغير إجازتهم.
ـــــــ
1 -رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2141. ومسلم في الزكاة: حديث رقم 41.(1/317)
ولسيده بيعه وهبته ووطء الجارية, ومتى ملكه بعد عاد تدبيره وما ولدت المدبرة والمكاتبة وأم الولد من غير سيدها فله حكمها ويجوز تدبير المكاتب وكتابة المدبر فإن أدى عتق وإن مات سيده قبل أدائه عتق إن حمل الثلث ما بقي عليه من كتابته وإلا عتق منه بقدر الثلث وسقط من الكتاب بقدر ما عتق وكان على الكتابة بما بقي وإن استولد مدبرته بطل تدبيرها وإن أسلم مدبر الكافر أو أم ولده حيل بينه وبينهما
ـــــــ
مسألة: "ولسيده بيعه" لخبر جابر. ويجوز "هبته" لأنها كالبيع. ويجوز "وطء الجارية" المدبرة لأنها مملوكته, وقد قال سبحانه: {إِِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} 1, ولأن ثبوت العتق لها بالموت لا يمنع من وطئها كأم الولد.
مسألة: فإن باعه ثم "عاد" إليه عاد التدبير؛ لأنه علق عتقه بصفة فإذا باعه ثم اشتراه عادت الصفة كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر ثم باعه ثم اشتراه.
مسألة: "وما ولدت المدبرة والمكاتبة وأم الولد من غير سيدها فله حكمها"؛ لأن الولد جزء من الأم فيتبعها كبقية أجزائها.
مسألة: "ويجوز تدبير المكاتب" لا نعلم فيه خلافا لأنه تعليق عتق بصفة وهو يملك إعتاقه فيملك تعليقه, وإن كان التدبير وصية فهو وصية بما ملك وهو الإعتاق.
مسألة: وتجوز "كتابة المدبر", روى الأثرم بإسناده عن أبي هريرة وابن مسعود جوازه؛ ولأن التدبير إن كان عتقا بصفة لم يمنع الكتابة كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر ثم كاتبه, وإن كان وصية فالوصية للمكاتب جائزة. "فإن أدى عتق" كما لو لم يكن مدبرا, "وإن مات سيده قبل أدائه عتق" بالتدبير إن حمل "الثلث ما بقي من" كتابته ؛ لأنه لو أدى ما بقي من كتابته لعتق والمدبر يعتق من الثلث فإذا خرج من الثلث عتق كله وإذا عتق سقط ما عليه كما لو أعتقه سيده.
مسألة: "وإلا عتق منه بقدر الثلث وسقط من الكتابة بقدر ما عتق وكان على الكتابة بما بقي"؛ لأن التدبير وصية والوصية تنفذ في الثلث فإذا عتق منه بقدر ثلث مال سيده سقط من الكتابة بقدر ما عتق؛ لأن ما عتق قد صار حرا بإعتاق سيده له وتبرعه به فلم يبق له عوض ويبقى على الكتابة ما بقي لبقاء الرق فيه.
مسألة: "وإن استولد مدبرته بطل تدبيرها" قد سبق أن له إصابة مدبرته لكونها ملكه
ـــــــ
1 - الآية 30 سورة المعارج.(1/318)
وينفق عليهما من كسبهما وإن لم يكن لهما كسب أجبرعلى نفقتهما, فإن أسلم ردا إليه وإن مات عتقا, وإن دبر شركا له في عبد وهو موسر لم يعتق عليه سوى ما أعتقه وإن أعتقه في مرض موته وثلثه يحتمل باقيه عتق جميعه
ـــــــ
فإن أولدها بطل تدبيرها لأن مقتضى التدبير العتق بعد الموت من الثلث والاستيلاد يقتضي ذلك مع تأكده وقوته فإنها تعتق من رأس المال, وإن لم يملك غيرها وسواء كان عليه دين أو لم يكن فوجب أن يبطل التدبير كما أن النكاح يبطل بملك اليمين.
مسألة: "وإن أسلم مدبر الكافر حل بينه وبينه"؛ لأن الكافر لا يمكن من استدامة ملكه على مسلم مع إمكان بيعه وفيه وجه آخر لا يباع؛ لأنه استحق الحرية بالموت ولكن تزال يده عنه ويترك في يد عدل "وينفق عليه من كسبه", وما فضل فهو لسيده وإن أعوز ولم يكن ذا كسب فنفقته على سيده, "وكذلك الحكم في أم الولد إذا أسلمت" غير أنها لا تباع لأن الاستيلاد يمنع البيع.
مسألة: "فإن أسلم" السيد الكافر "ردا إليه"؛ لأنه إنما أخذا منه لكفره وقد زال الكفر, "وإن مات" الكافر "عتقا" كما لو كان مسلما.
مسألة: "وإن دبر شركا له في عبد وهو موسر لم يعتق منه سوى ما أعتقه"؛ لأن التدبير إما أن يكون تعليقا للعتق بصفة أو وصية وكلاهما لا يسري, ويحتمل أن يضمن لشريكه ويصير كله مدبرا لأنه سبب يوجب العتق بالموت فسرى كالاستيلاد.
مسألة: "وإن أعتقه في مرض موته وثلثه يحتمل باقيه عتق جميعه"؛ لأن للمريض التصرف في ثلثه كما أن للصحيح التصرف في جميع ماله, وعنه لا يعتق منه إلا ما ملك لأن حق الورثة تعلق بماله إلا ما استثناه من الثلث بتصرفه فيه؛ ولأنه بموته يزول ملكه إلى ورثته فلا يبقى له شيء يقضي منه للشريك.(1/319)
باب المكاتب
الكتابة شراء العبد نفسه من سيده بمال في ذمته واذا ابتغاها العبد المكتسب
ـــــــ
باب المكاتب
الكتابة شراء العبد نفسه من سيده بمال في ذمته وإذا ابتغاها العبد المكتسب الصدوق من سيده استحب له إجابته إليها لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} 1
ـــــــ
1 - الآية 33 سورة النور.(1/319)
الصدوق من سيده استحب له إجابته إليها لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}, ويجعل المال عليه أنجما, فمتى أداها عتق ويعطى مما كوتب عليه الربع؛ لقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}. قال علي رضي الله عنه: هو الربع والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم إلا أنه يملك البيع والشراء
والسفر وكل ما فيه مصلحة ماله.
ـــــــ
مسألة: "ويجعل المال عليهم منجما" نجمين فصاعدا؛ لأن عليا رضي الله عنه قال: الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني, وقال ابن أبي موسى: يجوز فيه نجم واحد لأنه عقد شرط فيه التأجيل فجاز على نجم واحد كالسلم؛ ولأن القصد بالتأجيل إمكان التسليم عنده ويحصل ذلك في النجم الواحد والأحوط نجمان فصاعدا؛ لقول علي رضي الله عنه؛ ولأنه أسهل على المكاتب ويجب أن تكون النجوم معلومة ويعلم في كل نجم قدر المؤدى وأن يكون العوض معلوما بالصفة؛ لأنه عوض في الذمة فوجب فيه العلم بذلك كالسلم.
مسألة: "فمتى أدى" ما كوتب عليه أو أبرىء منه "عتق"؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم". رواه أبو داود, ومفهومه أنه إذا أدى جميع ما عليه أنه لا يبقى عبدا وأنه يصير حرا بالأداء, وقال أصحابنا: إذا أدى ثلاثة أرباع كتابته وعجز عن الربع عتق؛ لأنه حق له فلا تتوقف حريته على أدائه كأرش جناية لسيده عليه, وإن أبرأه سيده عتق لأنه لم يبق عليه شيء.
مسألة: "ويعطى مما كوتب عليه الربع؛ لقوله سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}. وروي عن "علي رضي الله عنه" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: "يحط عنه "الربع" ". أخرجه أبو بكر. وهذا نص, وروي عن علي رضي الله عنه موقوفا عليه, ويخير السيد بين وضعه عنه وبين أخذه منه ودفعه إليه لأن الله تعالى نص على الدفع عليه فنبه به على الوضع عنه لكونه أنفع من الدفع لتحقق النفع به في الكتابة.
مسألة: "والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم" لحديث عمرو بن شعيب "إلا أنه يملك البيع والشراء" بإجماع من أهل العلم؛ لأن عقد الكتابة لتحصيل العتق لا يحصل إلا بأداء عوضه ولا يمكنه الأداء إلا باكتساب, والبيع والشراء من جملة الاكتساب بل قد جاء في بعض الآثار أن تسعة أعشار الرزق في التجارة.
مسألة: "و" له "السفر" قريبا كان أو بعيدا. قال شيخنا: وقياس المذهب أن له منعه من سفر تحل نجوم الكتابة قبله كقولنا في منع الغريم من السفر الذي يحل عليه الدين قبل(1/320)
وليس له التبرع ولا التزوج ولا التسري إلا بإذن سيده وليس لسيده استخدامه ولا أخذ شيء من ماله, ومتى أخذ منه شيئا أو جنى عليه أو على ماله فعليه غرامته ويجري الربا بينهما كالأجانب إلا أنه لا بأس أن يعجل لسيده ويضع عنه بعض
ـــــــ
قدومه منه ولم يذكر أصحابنا هذا بل قالوا له السفر مطلقا "و" له "كل ما فيه مصلحة ماله" من الإجارة والاستئجار والمضاربة وأخد الصدقة لأنه غارم.
مسألة: "وليس له التبرع إلا بإذن سيده"؛ لأن ذلك إتلاف المال على سيده فإن أذن له السيد جاز لأنه حقه.
مسألة: "وليس له التزوج"؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر". رواه أبو داود, ولأن عليه في ذلك ضررا لأنه يحتاج إلى أن يؤدي المهر والنفقة من كسبه وربما عجز فرق فرجع إليه ناقص القيمة فإن أذن له سيده صح إجماعا, "و" ليس له "التسري إلا بإذن سيده"؛ لأن ملكه غير تام ولأن على السيد ضررا في ذلك لأنه ربما أحبلها وعجز وترجع إليه ناقصة لأن الحبل عيب في بنات آدم, فإن أذن له سيده جاز لأنه يجوز للعبد القن التسري بإذن سيده فالمكاتب أولى.
مسألة: "وليس لسيده استخدامه"؛ لأنه يشغله بذلك عن التكسب ولأن منافعه صارت مملوكة له بعقد الكتابة فلا يملك السيد استيفاءها.
مسألة: "ولا" يملك "أخذ شئ من ماله" كما لا يملك ذلك من الأجنبي, "ومتى أخذ شيئا منه أو جني عليه أو على ماله فعليه غرامته" لذلك.
مسألة: "ويجري الربا بينهما كالأجانب"؛ لأنه في باب المعاوضة كالأجنبي ولهذا لكل واحد منهما الشفعة على الآخر فيكون بيعه لسيده درهما بدرهمين كبيعه ذلك لأجنبي وهو الربا المحض.
مسألة: "إلا أنه لا بأس إن يعجل لسيده ويضع بعض كتابته" مثل إن كاتبه على ألف في نجمين إلى سنة ثم قال: عجل لي خمسمائة حتى أضع عنك الباقي جاز ذلك. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا يجوز لأنه بيع ألف بخمسمائة وهو ربا الجاهلية, ولهذا لا يبيعه درهما بدرهمين ولنا أن مال الكتابة غير مستقر وليس بدين صحيح فيحمل على أنه أخذ بعضا وأسقط بعضا, والدليل على أنه غير مستقر وليس بدين صحيح فيحمل على أنه أخذ بعضا وأسقط بعضا, والدليل على أنه غير مستقر أنه معرض للسقوط بالعجز ولا تجوز الكفالة به ولا الحوالة عليه, ولا تجب فيه زكاة بخلاف الدين على الأجنبي فإنه دين حقيقي والذي يحقق هذا أن المكاتب عبد للسيد وكسبه ينبغي أن يكون له, وذكر ابن أبي موسى أن الربا لا يجري بين المكاتب وسيده لأنه عبد في الأظهر عنه.(1/321)
كتابته, وليس له وطء مكاتبته ولا بنتها ولا جاريتها فإن فعل فعليه مهر مثلها وإن ولدت منه صارت أم ولد, فإن أدت عتقت وإن مات سيدها قبل أدائها عتقت وما في يدها لها إلا أن تكون قد عجزت. ويجوز بيع المكاتب لأن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وهي مكاتبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويكون في يد مشتريه مبقي على ما بقي من كتابته فإن أدى عتق وولاؤه لمشتريه وإن عجز فهو عبد وإن اشترى
ـــــــ
مسألة: "وليس له وطء مكاتبته" إلا أن يشترط في قول أكثرهم؛ لأن الكتابة عقد أزال ملك استخدامها ومنع ملك عوض منفعة البضع فيما إذا وطئت بشبهة فأزال حل وطئها كالبيع, فإن اشترط وطئها فله ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون عند شروطهم". ولأنه شرط منفعتها فصح كما لو شرط استخدامها فإن وطئها ولم يشترط فلها عليه المهر ولا تخرج بالوطء على الكتابة؛ لأنه عقد لازم فلم ينفسخ بالمطاوعة على الوطء كالإجارة, ويجب لها المهر لأنه عوض منفعتها فوجب لها كعوض بدنها, ولأن المكاتبة في يد نفسها ومنافعها لها ولو وطئها أجنبي كان لها المهر فكذلك السيد.
مسألة: "وكذلك الحكم في وطء ابنتها" لذلك "فإن ولدت منه صارت أم ولد له"؛ لأنها مملوكته علقت بجزء في ملكه وولده حر لأنه من مملوكته ولا يجب عليه قيمته؛ لأنها ولدته في ملكه ولا تبطل كتابتها لأنه عقد لازم من جهة سيدها وقد اجتمع لها سببان يقتضيان العتق أيهما سبق صاحبه ثبت حكمه؛ لأنه لو وجد منفردا ثبت حكمه وانضمام غيره إليه يؤكده ولا ينافيه "فإن أدت عتقت" بالكتابة, وما فضل من كسبها له وإن عجزت وردت في الرق بطل حكم الكتابة ويبقى لها حكم الاستيلاد منفردا كما لو استولدها من غير مكاتبة, وتعتق بموته وما في يدها لورثة سيدها.
مسألة: "ويجوز بيع المكاتب" لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة جاءتها فقالت: يا أم المؤمنين إني كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني على كتابتي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "اشتريها". متفق عليه1. ولأنه سبب يجوز فسخه فلم يمنع البيع كالتدبير.
مسألة: "ويكون في يد مشتريه مبقي على ما بقي من كتابته فإن أدى عتق" كما لو أدى إلى سيده الذي كاتبه, "وولاؤه لمشتريه"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "اشتريها فإن الولاء لمن أعتق".
مسألة: "وإن عجز فهو عبد" لمشتريه كما لو عجز وهو في يد سيده وعنه لا يجوز.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(1/322)
المكاتبان كل واحد منها الآخر صح شراء الأول وبطل شراء الثاني فإن جهل الأول منهما بطل البيعان وإن مات المكاتب بطلت الكتابة, وإن مات السيد قبله فهو على كتابته يؤدي إلى الورثة وولاؤه لمكاتبه والكتابة عقد لازم ليس لأحدهما فسخها, وإن حل نجم فلم يؤده فلسيده تعجيزه وإذا جنى المكاتب بدىء بجنايته, وإن اختلف هو وسيده في الكتابة أو عوضها أو التدبير أو الاستيلاد فالقول قول السيد مع يمينه
ـــــــ
بيع المكاتب لأن سبب العتق ثبت له على وجه لا يستقل السيد برفعه فيمنع البيع كالاستيلاد والأول أصح للخبر.
مسألة: "وإن اشترى المكاتبان كل واحد منهما الآخر صح شراء الأول"؛ لأنه أهل للشراء والبيع فحل له أشبه ما لو اشترى عبدا, "ويبطل شراء الثاني" لأنه لا يصح أن يملك سيده إذ لا يكون مملوك مالكا لأنه يفضي إلى تناقض الأحكام إذ كل واحد منهما يقول لصاحبه أنا مولاك ولي ولاؤك فإن عجزت صرت لي عبدا, وفي هذا تناقض وإذا تنافى أن تملك المرأة زوجها ملك اليمين مع بقاء ملكه في النكاح عليها فها هنا أولى.
مسألة: "فإن جهل الأول منهما بطل البيعان" لأن العقد الصحيح فيهما مجهول فبطلا كما لو زوج الوليان وجهل السابق منهما فسد النكاحان.
مسألة: "وإن مات المكاتب بطلت الكتابة" لفوات محل الاستحقاق ويصير كما لو تلف الرهن أو العين المستأجرة فإن العقد يبطل كذا ها هنا.
مسألة: "وإن مات السيد قبل" المكاتب "فهو على كتابته يؤدي إلى الورثة"؛ لأن الحق انتقل إليهم كما لو مات المؤجر. "وولاؤه لمكاتبه" لأن العتق والولاء لمن أعتق.
مسألة: "والكتابة عقد لازم ليس لأحدهما فسخها" لأنها عقد معاوضة لا يقصد منه المال أشبه النكاح أو كان لازما كالبيع.
مسألة: "فإن حل نجم فلم يؤده فلسيده تعجيزه" لأن العوض تعذر في عقد معاوضة ووجد غير ماله فكان له الرجوع فيها كما لو باع سلعة فأفلس المشتري قبل نقد ثمنها, وعنه لا يعجز حتى يحل نجمان لأن ما بينهما محل لأداء الأول فلا يتحقق عجزه حتى يحل الثاني, وعنه لا يعجز حتى يقول قد عجزت لأنه يحتمل أن يتمكن من الأداء فيما بعد النجوم.
مسألة: "وإذا جنى المكاتب بدىء بجنايته" قبل كتابته لأن مال الجناية حق مستقر ومال الكتابة غير مستقر لما سبق.
مسألة: "وإن اختلف هو وسيده في الكتابة" فالقول قول من ينكرها لأن الأصل معه.
وإن اختلفا في قدر "عوضها" فالقول قول السيد؛ لأنهما اختلفا في عوضها فأشبه ما لو اختلفا في عقدها وعنه القول قول العبد لأن الأصل عدم الزيادة المختلف فيها, وعنه يتحالفان لأنهما اختلفا في قدر العوض فيتحالفان كما لو اختلفا في ثمن المبيع فإذا تحالفا قبل العتق فسخ العقد إلا أن يرضى أحدهما بما قال صاحبه, وإن كان التحالف بعد العتق رجع السيد على العبد بقيمته ويرجع العبد بما أداه إلى سيده وإن اختلفا في وفاء مالها فالقول قول السيد لأن الأصل معه.
مسألة: وإن اختلفا في "التدبير أو الاستيلاد فالقول قول السيد" لذلك.(1/323)
باب أحكام أمهات الأولاد
إذا حملت الأمة من سيدها فوضعت ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان صارت له بذلك أم ولد تعتق بموته, وإن لم يملك غيرها وما دام حيا فهي أمته أحكامها أحكام الإماء في حل وطئها وملك منافعها وكسبها وسائر الأحكام, إلا أنه لا يملك بيعها ولا رهنها ولا سائر ما ينقل الملك فيها أو يراد له وتجوز الوصية لها وإليها.
ـــــــ
باب أحكام أمهات الأولاد
مسألة: "إذا حملت الأمة من سيدها فوضعت ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان صارت بذلك أم ولد تعتق بموته" من رأس المال؛ لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة عن دبر منه". رواه ابن ماجه1؛ ولأنه إتلاف حصل الاستمتاع فحسب من رأس المال كإتلاف ما تأكله.
مسألة: "وما دام حيا فهي أمته أحكامها أحكام الإماء في حل وطئها ويملك منافعها وكسبها وسائر الأحكام"؛ لأنها مملوكته إنما تعتق بالموت بدليل حديث ابن عباس.
مسألة: "إلا أنه لا يملك بيعها ولا رهنها ولاسائر ما ينتقل الملك فيها أو يراد له" كالرهن؛ لما روى سعيد بإسناده قال: خطب علي الناس فقال: شاورني عمر في أمهات الأولاد فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن فقضى به عمر حياته وعثمان حياته, فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال عبيدة: فرأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي علي وحده. وروي عنه أنه قال: بعث إلى علي وإلى شريح أن اقضوا بما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف.
مسألة: "وتجوز الوصية لها وإليها" لأن العبد تصح الوصية له وإليه "وإن قتلت سيدها
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في العتق: حديث رقم 2515. وفي سنده ضعف.(1/324)
فإن قتلت سيدها عمدا فعليها القصاص وإن قتلته خطأ فعليها قيمة نفسها وتعتق في الحالين, وإن وطئ أمة غيره بنكاح ثم ملكها حاملا عتق الجنين وله بيعها
ـــــــ
عمدا فعليها القصاص" كما لو لم تكن أم ولد "وإن قتلته خطأ فعليها قيمة نفسها"؛ لأنها جناية أم ولد فلم يلزمها أكثر من قيمتها كالجناية على أجنبي "وتعتق في الموضعين" لحديث ابن عباس.
مسألة: "وإن وطئ أمة غيره بنكاح ثم ملكها حاملا عتق الجنين" ولم تصر أم ولد؛ لأنها علقت بمملوك فإذا كان الولد مملوكا فأمه أولى.
مسألة: "وله بيعها" لأنها لم تصر أم ولد وعنه تصير أم ولد لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أول الباب.(1/325)
المجلد الثاني
كتاب النكاح
مدخل
...
كتاب النكاح
النكاح من سنن المرسلين وهو أفضل من التخلي منه لنفل العبادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رد على عثمان بن مظعون التبتل وقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". ومن أراد خطبة امرأة فله النظر منها إلى ما يظهر عادة كوجهها وكفيها
ـــــــ
كتاب النكاح
"النكاح من سنن المرسلين". قال عليه السلام: "النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني" 1, وقال سعد: لقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أحله له لاختصينا, متفق عليه2.
مسألة: "وهو أفضل من التخلي منه" لحديث عثمان بن مظعون والذي قبله فإن أقل أحوالهما الندب إلى النكاح والكراهية لتركه إلا أن يكون لا شهوة له كالعنين والشيخ الكبير ففيه وجهان: أحدهما: النكاح له أفضل لدخوله في عموم الأخبار, والثاني: تركه أفضل لأنه لا تحصل منه مصلحة النكاح ويمنع زوجته من التحصين بغيره, ويلزم نفسه واجبات وحقوقا ربما عجز عنها, "وقال" عليه السلام: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء". فخاطب الشباب بذلك, متفق عليه3.
مسألة: "ومن أراد خطبة امرأة فله النظر منها إلى ما يظهر منها عادة كوجهها وكفيها وقدميها"؛ لما روى جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". رواه أبو داود4, وينظر إلى
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في النكاح: حديث رقم 1846.
2 - رواه البخاري في كتاب النكاح: حديث رقم 5073. ومسلم في النكاح: حديث رقم 6, 8.
3 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5065, 5066. ومسلم في النكاح: حديث رقم 1.
4 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2082.(2/3)
وقدميها ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه إلا أن لا يسكن إليه, ولا يجوز التصريح بخطبة معتدة ويجوز التعريض بخطبة البائن خاصة فيقول: لا تفوتيني بنفسك وأنا في مثلك لراغب ونحو ذلك, ولا ينعقد النكاح إلا بإيجاب من الولي أو نائبه فيقول: أنكحتك أو زوجتك وقبول من الزوج أو نائبه فيقول قبلت أو تزوجت
ـــــــ
وجهها لأنه مجمع المحاسن وموضع النظر وليس بعورة.
مسألة: "ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه إلا أن لا يسكن إليه"؛ لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه". وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك". متفق عليه1.
مسألة: "ولا يجوز التصريح بخطبة معتدة"؛ لقوله سبحانه: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} 2 فوجه الحجة أن تخصيص التعريض بالإباحة دليل على تحريم التصريح, ولأن التصريح لا يحتمل غير النكاح فلا يأمن أن يحملها الحرص عليه على الإخبار بانقضاء عدتها قبل انقضائها بخلاف التعريض.
مسألة: "ويجوز التعريض بخطبة البائن خاصة فيقول: لا تفوتيني بنفسك وإني في مثلك لراغب, ونحو ذلك", ويجوز في عدة الوفاة وللبائن بطلاق ثلاث لقوله سبحانه: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} 3, وروت فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تستفتي بنفسك", وفي لفظ: "إذا حللت فآذنيني", وفي لفظ: "لا تفوتينا بنفسك", وهذا تعريض بخطبتها في العدة.
مسألة: "ولا ينعقد النكاح إلا بإيجاب من الولي أو نائبه, فيقول: أنكحتك أو زوجتك"؛ لأن ما سواهما لا يأتي على معنى النكاح فلا ينعقد به كلفظ الإحلال, ولأن الشهادة شرط في النكاح وهي واقعة على اللفظ وغير هذا اللفظ ليس بموضوع النكاح وإنما يصرف إليه بالنية ولا شهادة عليها فيخلو النكاح على الشهادة ولا ينعقد مع الإيجاب إلا بالـ "قبول من الزوج أو نائبه فيقول: قبلت" هذا النكاح "أو تزوجت", وإن اقتصر على قبلت صح؛ لأن القبول يرجع إلى ما أوجبه الولي كما في البيع وإنما اشترط القبول لينعقد النكاح كما في البيع.
ـــــــ
1 - الأول رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5142. ومسلم في النكاح: حديث رقم 38. والثاني: رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5142. ومسلم في النكاح: حديث رقم 56.
2 - سورة البقرة: الآية 235.
3 - سورة البقرة 235.(2/4)
ويستحب أن يخطب قبل العقد بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله", ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} الآية, {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ}, الآية, و {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}, ويستحب إعلان النكاح والضرب عليه بالدف للنساء
ـــــــ
مسألة: "ويستحب أن يخطب قبل العقد بخطبة ابن مسعود التي قال: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد في الحاجة: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" ويقرأ ثلاث آيات: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآية, {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} الآية,و {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}. رواه الترمذي1.
مسألة: "ويستحب إعلان النكاح والضرب عليه بالدف" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف". أو كما قال صلى الله عليه وسلم2.
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في النكاح: حديث رقم 1105. وقال: حديث حسن.
2 - رواه الترمذي في النكاح: حديث رقم 1089. وقال: غريب حسن.(2/5)
باب ولاية النكاح
لا نكاح إلا بولي
ـــــــ
باب ولاية النكاح
"لا نكاح إلا بولي" لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي" 1. قال الإمام أحمد: هذا حديث صحيح, وعنه أن للمرأة تزويج معتقها وأمتها فيخرج منه صحة تزويج نفسها بإذن وليها وتزويج غيرها بالوكالة لما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل فإن أصابها فلها المهر بما استحل من فرجها, فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". رواه أبو داود والترمذي2.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2085. والترمذي في النكاح: حديث رقم 1101. وابن ماجه في النكاح: حديث رقم 1879.
2 -رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2083. والترمذي في النكاح: حديث رقم 1102. وقال: هذا حديث حسن.(2/5)
وشاهدين من المسلمين, وأولى الناس بتزويج الحرة أبوها ثم أبوه وإن علا, ثم ابنها ثم ابنه وإن نزل, ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها, ثم معتقها ثم الأقرب فالأقرب من عصباته, ثم السلطان وكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه.
ـــــــ
فمفهومه صحته بإذنه ولأن المنع لحقه فجاز بإذنه كنكاح العبد والأول المذهب لعموم الخبر ولأن المرأة غير مأمونة على البضع لنقص عقلها وسرعة انخداعها فلم يجز تفويضه إليها كالمبذر في المال, بخلاف العبد فإن المنع لحق الولي خاصة, وإنما ذكر تزويجها بغير إذن وليها لأنه الغالب إذ لو رضي لكان هو المباشر له دونها.
مسألة: ولا ينعقد إلا بـ "شاهدين من المسلمين" لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". رواه أبو بكر الخلال وابن بطة بإسنادهما, وروى الدارقطني عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا بد في النكاح من أربعة: الولي والزوج والشاهدان". ولأنه يتعلق به حق لغير المتعاقدين -وهو الولد- فأشترطت فيه الشهادة لئلا يتجاحداه فيضيع نسبه, وتشترط في الشهود شروط: منها العدالة لقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل". ومنها أن يكونا ذكرين لما روى أبو عبيدة في كتاب الأموال عن الزهري أنه قال: مضت السنة أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق, ومنها البلوغ لأن الصبي لا شهادة له, ومنها العقل لأن المجنون والطفل ليسا من أهل الشهادة.
مسألة: "وأولى الناس بتزويج" المرأة "الحرة أبوها" لأنه أشفق عصباتها ويلي ما لها عند تمام رشدها, "ثم أبوه وإن علا" لأنه أب, "ثم ابنها ثم ابنه وإن نزل" لأنه عدل من عصباتها فيلي نكاحها كأبيها وقدم على سائر العصبات لأنه أقربهم نسبا وأقواهم تعصيبا فقدم كالأب, ثم أخوها لأبويها ثم لأبيها؛ لأن الأخ من الأبوين مقدم على الأخ من الأب في الميراث فكذلك في الولاية, وعنه يقدم الابن على الجد لأنه أقوى تعصيبا منه, وعنه التسوية بين الأخ والجد لاستوائهما في الإرث بالتعصيب, وعنه يقدم الأخ على الجد لأنه يدلي ببنوة الأب والبنوة أقوى, والمذهب الأول لأن الجد له التقدم إيلادا وتعصيبا فقدم عليه كالأب, ثم بنو الأخ وإن نزلوا ثم العم ثم ابنه, "ثم الأقرب فالأقرب من" العصبات على ترتيب الميراث؛ لأن الولاية لدفع العار عن النسب, والنسب في العصبات وقدم الأقرب فالأقرب لأنه أقوى فقدم كتقديمه في الإرث؛ ولأنه أشفق فيقدم كالأب, "ثم السلطان" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له".
مسألة: "ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه" وإن كان حاضرا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل أبا رافع في تزويجه ميمونة وعمرو بن أمية في تزويجه أم حبيبة؛ ولأنه عقد معاوضة فجاز التوكيل فيه كالبيع.(2/6)
ولا يصح تزويج أبعد مع وجود أقرب إلا أن يكون صبيا أو زائل العقل أو مخالفا لدينها أو عاضلا لها أو غائبا غيبة بعيدة.
ـــــــ
مسألة: "ولا يصح تزويج" الـ "أبعد مع وجود أقرب منه" لأنه نكاح لم تثبت أحكامه من الطلاق والخلع والتوارث فلم ينعقد كنكاح المعتدة, وعنه أنه موقوف على إجازة من له الإذن فإن أجازه جاز وإلا بطل لما ذكرناه في تصرف الفضولي في البيع؛ ولما روى ابن ماجه أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود, وقال: حديث مرسل رواه إلياس عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا ابن عباس1.
مسألة: "إلا أن يكون صبيا أو زائل العقل أو مخالفا لدينها أو عاضلا لها أو غائبا غيبة بعيدة" يعني إن كان القريب على صفة من هذه الصفات زوج البعيد, أما الصبي فلا تصح ولايته لأن الولاية يعتبر لها كمال الحال لأنها تفيد التصرف في حق الغير فاعتبرت نظرا له والصبي مولى عليه فهو كالمرأة, وعنه لا يشترط البلوغ في الولي. قال الإمام أحمد: إذا بلغ عشرا زوج وتزوج وطلق ووجهه أنه يصح بيعه ووصيته فتثبت ولايته كالبالغ, وأما المجنون فليس من أهل الولاية وهو أيضا مولى عليه فلا يكون وليا كالطفل, وأما المخالف لدينها فإن كانت مسلمة وهو كافر فلا ولاية له عليها؛ لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2, وإن كانت كافرة وهو مسلم فلا ولاية له عليها لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 3, إلا سيد الأمة فإنه يلي نكاحها لكونه مالكها أو ولي سيدها إذا كان سيدها صغيرا وفي تزويجها مصلحة أو السلطان فإنه يزوجها لأنه يقوم مقامها, وأما إذا عضلها القريب جاز للبعيد تزويجها لأنه تعذر التزويج من جهة الأقرب فوليها الأبعد كما لو فسق, وعنه يزوج الحاكم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له". والأول أولى والحديث دليل على أن السلطان يزوج من لا ولي لها وهذه لها ولي, وإن غاب القريب غيبة بعيدة زوج الأبعد لما ذكرناه والغيبة البعيدة ما لا يقطع إلا بكلفة ومشقة في المنصوص والمرجع في هذا إلى العرف وما جرت العادة بالانتظار فيه والمراجعة لصاحبه لعدم التحديد فيه من الشارع, وقال أبو الخطاب: يحتمل أن يحدها بما تقصر فيه الصلاة لأن الإمام أحمد قال: إذا كان الأب بعيد السفر يزوج الأخ والسفر البعيد في الشرع ما علق عليه رخص السفر.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في النكاح: حديث رقم 1875. وأبو داود في النكاح: حديث رقم 2096.
2 - سورة التوبة: الآية 71.
3 - سورة الأنفال: الآية 73.(2/7)
ولا ولاية لأحد على مخالف لدينه إلا المسلم إذا كان سلطانا أو سيد أمة.
فصل:
وللأب تزويج أولاده الصغار ذكورهم وإناثهم وبناته الأبكار بغير إذنهم
ـــــــ
مسألة: "ولا ولاية لأحد على مخالف لدينه إلا المسلم إذا كان سلطانا أو سيد أمة" لما سبق.
"فصل :وللأب تزويج أولاده الصغار ذكورهم وإناثهم", أما الذكور فلما روي عن عمر أنه زوج ابنه وهو صغير فاختصموا إلى زيد فأجازاه جميعا رواه الأثرم, ولأنه يتصرف في ماله بغير تولية فملك تزويجه كابنته الصغيرة وسواء كان عاقلا أو معتوها لأنه إذا ملك تزويج العاقل فالمعتوه أولى, وأما تزويجه للإناث فإن "للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر" بغير خلاف؛ لأن الله سبحانه قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}, فجعل للائي لم يحضن عده ثلاثه أشهر ولا تكون العدة ثلاثة أشهر إلا من طلاق في نكاح فدل على أنها تزوج وتطلق ولا إذن لها فتعتبر. وزوج أبو بكر عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة ست ولم يستأذنها متفق عليه1. وروى الأثرم أن قدامة بن مظعون تزوج ابنة الزبير حين نفست فقيل له فقال: ابنة الزبير إن مت ورثتني وإن عشت كانت امرأتي. فأما البكر البالغ ففيها روايتان: إحداهما له إجبارها لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها صماتها" 2. وإثباته الحق للأيم على الخصوص يدل على نفيه عن البكر, والرواية الأخرى لا يجوز تزويجها إلا بإذنها لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح البكر حتى تستأذن" قيل: يا رسول الله فكيف إذنها؟ قال: "تسكت". متفق عليه3. وعنه لا يجوز تزويج ابنة تسع إلا بإذنها لقوله عليه السلام: "تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها". رواه أبو داود4, واليتيمة من لم تبلغ وقد جعل لها إذنا وقد انتفى الإذن في حق من لم تبلغ تسعا بالاتفاق فيجب العمل به في حق بنت تسع لأن عائشة قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة, رواه الإمام أحمد في المسند5, ومعناه في حكم المرأة في الإذن والأحكام, وروي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولأنها تصلح بذلك للنكاح وتحتاج إليه فأشبهت البالغة, فأما الثيب الصغيرة فهل له
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5160. ومسلم في النكاح: حديث رقم 69.
2 - رواه البخاري في الحيل: حديث رقم 2122. ومسلم في النكاح: حديث رقم 64.
3 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5136. ومسلم في النكاح: حديث رقم 64.
4 -رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2093.
5 - لم أقف عليه في المسند والحديث رواه الترمذي في النكاح ب 19.(2/8)
ويستحب استئذان البالغة وليس له تزويج البالغ من بنيه وبناته الثيب إلا بإذنه وليس لسائر الأولياء تزويج صغير ولا صغيرة, ولا تزويج كبيرة إلا بإذنها وإذن البكر الصمات لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر
ـــــــ
تزويجها؟ على وجهين: أحدهما لا يجوز لعموم الأحاديث والآخر يجوز لأنها ولد صغير أشبهت الغلام.
مسألة: "ويستحب" له "استئذان" البكر "البالغة" لقوله عليه السلام: "لا تنكح البكر حتى تستأذن". قالوا: يا رسول الله فكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت ". متفق عليه1.
مسألة: "وليس له تزويج البالغ من بنيه وبناته الثيب إلا بإذنهم" لعموم قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها صماتها" 2. فدل على اعتبار إذنها, وأما الذكر من بنيه البالغ فليس له تزويجه بغير إذنه لأنه ذكر بالغ فلا يجوز توليه تزويجه بغير إذنه كغير الأب.
مسألة: "وليس لسائر الأولياء تزويج صغير" لأنه لا ولاية لهم على ماله فكذلك نكاحه.
وأما الصغيرة ففيها ثلاث روايات: إحداهن ليس لهم تزويجها بحال لما روي أن قدامه بن مظعون زوج ابنة أخيه من عبد الله بن عمر فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنها يتيمة ولا تنكح إلا بإذنها". والصغيرة لا إذن لها. والثانية: لهم تزويجها ولها الخيار إذا بلغت لما روت عائشة أن جارية بكرا زوجها أبوها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم, رواه أبو داود وقال: حديث مرسل3. والثالثة: لهم تزويجها إذا بلغت تسع سنين بإذنها, ولا يجوز قبل ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تستأمر البكر في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها". رواه أبو داود4.
مسألة: "و" ليس لهم "تزويج كبيرة إلا بإذنها" لقوله عليه السلام: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر" 5.
مسألة: "وإذن الثيب الكلام وإذن البكر" لما روى عدي الكندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الثيب تعرب عن نفسها والبكر رضاها صماتها". رواه الأثرم, ولا فرق
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2098. والترمذي في النكاح: حديث رقم 1108. وقال: حسن صحيح.
3 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2096, 2097.
4 - سبق تخريجه.
5 - سبق تخريجه.(2/9)
تستأذن في نفسها وإذنها صماتها وليس لولي امرأة تزويجها بغير كفئها والعرب بعضهم لبعض أكفاء وليس العبد كفئا لحرة ولا الفاجر كفئا لعفيفة
ـــــــ
بين الثيوبة بوطء مباح أو محرم لشمول اللفظ لهما جميعا.
مسألة: "وليس لولي امرأة تزويجها بغير كفئها" بغير رضاها, وهل له تزويجها برضاها بغير كفء؟ فيه روايتان: إحداهما لا يصح؛ لما روى الدارقطني بإسناده عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ولا يزوجهن إلا الأولياء". وقال عمر: لأمنعن فروج ذوي الأحساب إلا من الأكفاء؛ ولأنه تصرف يتضرر به من لم يرض به فلم يصح كما لو زوجها وليها بغير رضاها. والثانية: يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج مولاه زيدا ابنة عمته زينب بنت جحش, وزوج ابنه أسامة فاطمة بنت قيس الفهرية القرشية. وقالت عائشة: إن أبا حذيفة تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه هندا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة, أخرجه البخاري. لكن إن لم ترض المرأة أو لم يرض بعض الأولياء ففيه روايتان إحداهما: العقد باطل؛ لأن الكفاءة حقهم تصرف فيه بغير رضاهم فلم يصح كتصرف الفضولي. والثانية: يصح ولمن لم يرض الفسخ سواء كانوا متساويين في الدرجة أو متفاوتين فيزوج الأقرب, فلو زوج الأب بغير الكفء فرضيت الثيب كان للإخوة الفسخ؛ ولأنه ولي في حال يلحقه العار بفقد الكفاءة فملك الفسخ كالمتساويين.
مسألة: "والعرب بعضهم لبعض أكفاء" وسائر الناس بعضهم لبعض أكفاء؛ لأن المقداد بن الأسود الكندي تزوج ضباعة بنت الزبير عم رسول صلى الله عليه وسلم, وزوج أبو بكر أخته للأشعث بن قيس الكندي, وزوج علي ابنته أم كلثوم عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
مسألة: "وليس العبد كفئا لحرة"؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة حين عتقت تحت العبد, فإذا ثبت الخيار بالحرية الطارئة فبالسابقة أولى؛ ولأن فيه نقصا في النصيب والاستمتاع والإنفاق ويلحق به العار فأشبه عدم المنصب, وعنه ليست الحرية شرطا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة حين عتقت تحت عبد فاختارت فرقته: "لو راجعتيه" قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: "لا إنما أنا شفيع". ومراجعتها له ابتداء نكاح عبد لحرة.
مسألة: "ولا الفاجر كفئا لعفيفة" لقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} 1, ولأن الفاسق مرذول مردود الشهادة والرواية غير مأمون على النفس والمال مسلوب الولايات ناقص عند الله سبحانه وعند خلقه, فلا يجوز أن يكون كفئا للعفيفة ولا مساويا لها.
ـــــــ
1 - سورة السجدة: الآية 18.(2/10)
ومن أراد أن ينكح امرأة هو وليها فله أن يتزوجها من نفسه بإذنها, وإن زوج أمته عبده الصغير جاز أن يتولى طرفي العقد, وإن قال لأمته: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك بحضرة شاهدين ثبت العتق والنكاح؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها.
فصل
وللسيد تزويج إمائه كلهن وعبيده الصغار بغير إذنهم, وله تزويج أمة موليته بإذن سيدتها, ولا يملك إجبار عبده الكبير على النكاح وأيما عبد تزوج بغير إذن
ـــــــ
مسألة: "ومن أراد أن ينكح امرأة هو وليها فله أن يتزوجها من نفسه بإذنها"؛ لما روي عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال لأم حكيم ابنة قارظ: أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم, فقال: قد تزوجتك؛ ولأنه صدر الإيجاب من الولي والقبول من الأهل فصح كما لو زوج الرجل عبده الصغير من أمته, وعنه لا يجوز حتى يوكل غيره في أحد الطرفين لما روي أن المغيرة بن شعبة أمر رجلا يزوجه امرأة المغيرة أولى بها منه؛ ولأنه وليها فجاز أن يتزوجها من وكيله كالإمام.
مسألة: "وإن زوج أمته عبده الصغير جاز أن يتولى طرفي العقد", وكذلك ولي المرأة مثل ابن العم والمولى والحاكم إذا أذنت له في نكاحها لحديث عبد الرحمن بن عوف.
مسألة: "وإذا قال لأمته أعتقتك وجعلت عتقك صداقك بحضرة شاهدين ثبت العتق والنكاح" لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها", متفق عليه1.
"فصل: وللسيد تزويج إمائه كلهن وعبيده الصغار بغير إذنهم" لأنه عقد على منافعهم فملكه كإجارتهم.
مسألة: "وله تزويج أمة موليته بإذن سيدتها" لأن المرأة لا تلي عقد النكاح فقام وليها مقامها فيه كقيام ولي الصغيرة مقامها في العقود التي هو وليها فيها.
مسألة: "ولا يملك إجبار عبده البالغ على النكاح" لأنه مكلف يملك الطلاق فلا يجبر على النكاح كالحر.
مسألة: "وأيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر" لأن النبي قال: "أيما عبد تزوج بغير إذن مالكه فهو عاهر" 2. ولأن على السيد ضررا في ذلك لأنه يحتاج إلى المهر والنفقة.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5086. ومسلم في النكاح: حديث رقم 85.
2 - رواه ابن ماجه في النكاح: حديث رقم 1959. قال في الزوائد: هذا إسناد حسن.(2/11)
مواليه فهو عاهر, فإن دخل بها فمهرها في رقبته كجنايته إلا أن يفديه السيد بأقل من قيمته أو المهر, ومن نكح أمة على أنها حرة ثم علم فله فسخ النكاح ولا مهر عليه إن فسخ قبل الدخول, وإن أصابها فلها مهرها وإن أولدها فولده حر يفديه بقيمته ويرجع بما غرم على من غره, ويفرق بينهما إن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء, فإن كان ممن يجوز له ذلك فرضي فما ولدت بعد الرضا فهو رقيق.
ـــــــ
مسألة: "فإن دخل بها فمهرها في رقبته كجنايته إلا أن يفديه سيده بأقل من قيمته أو المهر" كما يفعل في جنايته.
مسألة: "ومن نكح أمة على أنها حرة ثم علم" أنها أمة "فله فسخ النكاح ولا مهر عليه إن فسخ قبل الدخول" بها؛ لأنه عقد لم يرض به فكان له فسخه كما لو اشترى منه ثوبا على أنه كتان فبان قطنا أو فضة فبانت رصاصا أو ذهبا فبان نحاسا.
مسألة: "وإن أصابها فلها المهر" بما استحل من فرجها "وإن أولدها فولدها حر" بغير خلاف؛ لأنه اعتقد حريته فكان حرا كما لو اشترى أمة يظنها ملكا لبائعها فبانت مغصوبة بعد أن أولدها.
مسألة: و "يفديه بقيمته" لقوله عليه السلام: "من أعتق شركا في عبد قوم عليه نصيب شريكه". ولأن الحيوان من المتقومات لا من ذوات الأمثال فيجب ضمانه بقيمته كما لو أتلفه, وعنه يفديهم بمثلهم يوم ولادتهم قضى به عمر وعلي وابن عباس, وعنه ليس عليه فداؤهم لأن الولد ينعقد حر الأصل فلم يضمنه لسيد الأمة لأنه لا يملكه, والصحيح الأول لقضاء الصحابة ولأن الولد نماء للأم المملوكة فسبيله أن يكون مملوكا لمالكها, وقد فوته باعتقاد الحرية فلزم ضمانه كما لو فوت رقه بفعله.
مسألة: "ويرجع بما غرم" من المهر وقيمة الولد: "على من غره". قال ابن المندز: كذلك قضى به عمر وعلي وابن عباس, وعنه لا يرجع بالمهر لأنه وجب عليه في مقابلة نفع وصل إليه وهو الوطء فلم يرجع به كما لو اشترى مغصوبا فأكله بخلاف قيمة الولد فإنه لم يحصل له في مقابلتها عوض؛ لأنها وجبت بحرية الولد وحرية الولد للولد لا لأبيه.
مسألة: "ويفرق بينهما إن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء" لأنا تبينا أن النكاح فاسد من أصله لعدم شرطه "وإن كان ممن يجوز له ذلك" وكانت شرائط النكاح مجتمعة فالعقد صحيح وللزوج الخيار بين الفسخ والمقام على النكاح فإن اختار المقام "فما ولدت بعد" ذلك "فهو رقيق" لسيدها؛ لأن المانع من رقه مع الغرور اعتقاد الزوج حريتها وقد زال ذلك بالعلم.(2/12)
باب المحرمات في النكاح
وهن الأمهات والبنات والأخوات وبنات الإخوة وبنات الأخوات والعمات والخالات وأمهات النساء وحلائل الآباء والأبناء والربائب المدخول بأمهاتهن
ـــــــ
باب المحرمات في النكاح
وهن اللاتي ذكرهن الله سبحانه في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} 1, فهؤلاء محرمات بالنسب, فالأمهات كل امرأة انتسب إليها بولادة وهي الأم والجدات من جهة الأم وجهة الأب وإن علون, والبنات كل من انتسب إليك بولادة وهي ابنة الصلب وأولادها وأولاد البنين وإن نزلت درجتهن, والأخت من الجهات الثلاث والعمات كل من أدلت بالعمومة من أخوات الأب وأخوات الأجداد وإن علوا من جهة الأب والأم, والخالات كل من أدلت بالخئولة من أخوات الأم وأخوات الجدات وإن علون من جهة الأب والأم, وبنات الإخوة كل من انتسب ببنوة الأخ من أولاده وأولاد أولاده الذكور والإناث وإن نزلن, وبنات الأخت كذلك لأن الاسم ينطلق على القريب والبعيد؛ لقوله سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ} والمحرمات بالمصاهرة وهن: أمهات النسب لقوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}, فمتى عقد على امرأة حرم عليه جميع أمهاتها من النسب والرضاع وإن علون, سواء دخل بالمرأة أو لم يدخل بها لعموم اللفظ فيهن؛ ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل نكح امرأة دخل بها أم لم يدخل فلا يحل له نكاح أمها" 2. رواه ابن ماجه, والثانية: حلائل آبائه وهن زوجات الأب القريب والبعيد من قبل الأب والأم من نسب أو رضاع يحرمن لقوله سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} 3, وسواء دخل بهن أو لم يدخل لعموم الآية فيحرمن من دون بناتهن فيحل له نكاح ربيبة ابنه وأبيه لقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} 4. الثالث: حلائل الأبناء وهن زوجات أبنائه وأبناء أبنائه وبناته وإن سفلوا من نسب أو رضاع لقوله سبحانه: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} 5, فيحرمن بمجرد العقد لعموم الآية فيهن. الرابعة: الربائب وهن بنات النساء اللاتي دخل بهن فإن فارق أمها قبل أن يدخل بها حلت لها ابنتها لقوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} 6.
ـــــــ
1 - سورة النساء الآية 23.
2 - رواه الترمذي في النكاح: حديث رقم 1117. وقال: لا يصح من قبل إسناده.
3 - سورة النساء: الآية 22.
4 - سورة النساء: الآية 24.
5 - سورة النساء: الآية 23.
6 - سورة النساء: الآية 23.(2/13)
ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب, وبنات المحرمات محرمات إلا بنات العمات والخالات وأمهات النساء وحلائل الآباء والأبناء وأمهاتهن محرمات إلا البنات والربائب وحلائل الآباء والأبناء. ومن وطئ امرأة -حلالا أو حراما- حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمهاتها وبناتها
ـــــــ
مسألة: "ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" سواء, لقوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 1, وقسنا عليهما سائر المحرمات بالنسب, وقال عليه السلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". متفق عليه2.
مسألة: "وبنات المحرمات محرمات" لتناول التحريم لهن فالأمهات يحرم بناتهن لأنهن أخوات أو عمات أو خالات, والبنات تحرم بناتهن لأنهن بنات ويحرم بنات الأخوات وبناتهن لأنهن بنات الأخوات وكذلك بنات بنات الإخوة لأنهن بنات إخوة.
مسألة: "إلا بنات العمات والخالات" فإنهن لا يحرمن بالإجماع لأنهن لم يذكرن في التحريم فيدخلن في عموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}, وقد أحلهن الله سبحانه صريحا لنبيه بقوله: {وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ}, ذكرهن فيما أحل له "وأمهات النساء" يعني أن بنات أمهات النساء حلال لأنهن غير مذكورات في المحرمات ولأنهن أخوات الزوجة فإنما يحرمن بالجمع لا غير "وحلائل الآباء والأبناء" لا تحرم بناتهن لأنهن حرمن لعلة نكاح الآباء والأبناء لهن ولم يوجد هذا المعنى في بناتهن ولا وجدت فيهن علة أخرى فاقتصر الحكم عليهن وحلت بناتهن.
مسألة: "وأمهاتهن محرمات" يعني أن المحرمات نكاحهن أمهاتهن أيضا محرمات بقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} يتناول أمهاتهن لأن أم الأم أم فقد تناولها التحريم بالنص والأخوات أمهن أم أو زوجة أب وهما محرمتان وأمهات العمات أمهاتهن أيضا محرمات لأنهن زوجات أب فإن الجد أب وأمهات الخالات هن نساء الجد من الأم فهن محرمات أيضا وأمهات بنات الأخوات محرمات لأنهن أخوات.
مسألة: "إلا البنات والربائب" أمهاتهن حلال لأنهن زوجاته "وحلائل الآباء والأبناء" أمهاتهن حلال لأنهن أجنبيات.
مسألة: "وإن وطئ امرأة -حلالا أو حراما- حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمهاتها وبناتها" أما إذا وطئ حلالا فقد حرمت على أبيه وابنه لأنها صارت من حلائل
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 23.
2 - رواه البخاري في فرض الخمس: حديث رقم 1285. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 1.(2/14)
فصل
ويحرم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمها وخالتها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بينها وبين خالتها". ولا يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة ولا للعبد أن يجمع إلا اثنتين, فإن جمع بين من لا يجوز
ـــــــ
الأبناء أو من زوجات الأب وتحرم عليه أمها لأنها من أمهات النساء وتحرم بنتها لأنها ربيبة, وأما إذا وطئها حراما فقد حرمت أيضا على أبيه وابنه وحرمت عليه أمهاتها وبناتها كما لو وطئها بشبهة أو بالقياس على الوطء الحلال, وقال الله سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}, والوطء يسمى نكاحا.
مسألة: "ويحرم الجمع بين الأختين" لقوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}, وسواء كانتا من أبوين أو من أحدهما أو من نسب أو رضاع لعموم الآية في الجمع, ويحرم الجمع "بين المرأة وعمتها وخالتها" لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها". متفق عليه1. ولأنهما امرأتان لو كانت إحداهما ذكرا حرمت عليه الأخرى فحرم الجمع بينهما كالأختين؛ ولأنه يفضي إلى قطيعة الرحم المحرم لما بين الزوجات من التغاير والتنافس, والقريبة والبعيدة سواء في التحريم لتناول اللفظ لهما ولأن المحرمية ثابتة بينهما مع البعد فكذلك تحريم الجمع.
مسألة: "ولا يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة" بغير خلاف لقوله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 2, يعني اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة حين أسلم وتحته عشر نسوة: "أمسك أربعا وفارق سائرهن". رواه الترمذي3.
مسألة: "و" ليس "للعبد أن يجمع إلا اثنتين"؛ لما روي عن الحكم بن عتبة أنه قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين, وروى الإمام أحمد أن عمر سأل في ذلك فقال عبد الرحمن بن عوف: لا يتزوج إلا اثنتين, وهذا كان بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعا.
مسألة: "فإن جمع بين من لا يجوز الجمع بينه في عقد واحد فسد" لأن إحداهما ليست أولى بالبطلان من الأخرى فبطل فيهما كما لو باع درهما بدرهمين.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5109. ومسلم في النكاح: حديث رقم 33.
2 - سورة النساء الآية 3.
3 - رواه الترمذي في النكاح: حديث رقم 1128. وابن ماجه في النكاح: حديث رقم 1953.(2/15)
الجمع بينه في عقد واحد فسد العقد وإن كان في عقدين لم يصح. الثاني منهما: ولو أسلم كافر وتحته أختان اختار منهما واحدة وإن كانتا أما وبنتا ولم يدخل بالأم فسد نكاحها وحدها, وإن كان قد دخل بها فسد نكاحهما وحرمتا على التأبيد, وإن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أمسك منهم أربعا وفارق سائرهن, وسواء كان أمسك منهن أول من عقد عليها أو آخرهن, وكذلك العبد إذا أسلم وتحته أكثر من اثنتين ومن طلق امرأة ونكح أختها أو خالتها أو خامسة في عدتها لم يصح سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا
ـــــــ
مسألة: "وإن كان في عقدين لم يصح الثاني منهما" لأنه اختص بالجمع.
مسألة: "ولو أسلم كافر وتحته أختان اختار منهما واحدة"؛ لما روى الضحاك ابن فيروز عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان قال: "طلق أيتهما شئت". رواه أبو داود وابن ماجه وغيرهما1؛ ولأن أنكحة الكفار صحيحة وإنما حرم الجمع في الإسلام وقد أزاله فصح كما لو طلق إحداهما قبل إسلامه ثم أسلم والأخرى في حياله.
مسألة: "وإن كانتا أما وبنتها ولم يدخل بالأم فسد نكاحها وحدها" لأنها أم زوجته فتحرم لقوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}, فتدخل في عموم الآية. "وإن كان قد دخل بها فسد نكاحهما وحرمتا على التأبيد" الأم لأنها أم زوجته والبنت لأنها ربيبته من زوجته التي دخل بها. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم, والدخول بالأم وحدها كالدخول بهما لأن البنت تكون ربيبته مدخولا بأمها والأم تحرم بمجرد العقد على ابنتها, وإن دخل بالبنت وحدها ثبت نكاحها وفسد نكاح الأم لأن البنت لا تحرم إلا بالدخول بأمها ولم يدخل بها والأم تحرم بمجرد العقد على بنتها.
مسألة: "وإن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة أمسك منهن أربعا ويفارق سائرهن سواء كان من أمسك منهن أول من عقد عليها أو آخرهن"؛ لما سبق من حديث غيلان بن سلمة وروى قيس بن الحارث قال: أسلمت وتحتي ثماني نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له ذلك فقال: "اختر منهن أربعا". رواه الإمام أحمد وأبو داود2.
مسألة: "وكذلك العبد إذا أسلم وتحته أكثر من اثنتين" وذلك أن حكم العبد فيما زاد على اثنتين حكم الحر فيما زاد على الأربع, فإن أسلم وتحته أكثر من اثنتين اختار منهن اثنتين كما قلنا في الحر إذا كان تحته أكثر من أربع يختار منهن أربعا.
مسألة: "ومن طلق امرأة فنكح أختها أو خالتها أو خامسة في عدتها لم يصح سواء
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2243. وابن ماجه في النكاح: حديث رقم 1950.
2 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2241.(2/16)
ويجوز أن يملك أختين وله وطء إحداهما فمتى وطئها حرمت أختها حتى تحرم الموطوءة بتزويج أو إخراج عن ملكه ويعلم أنها غير حامل, فإذا وطئ الثانية ثم عادت الأولى إلى ملكه لم تحل له حتى تحرم الأخرى وعمة الأمة وخالتها في هذا كأختها وليس للمسلم وإن كان عبدا نكاح أمة كتابية كافرة, ولا لحر نكاح أمة مسلمة إلا أن لا يجد طول حرة ولا ثمن أمة ويخاف العنت, وله نكاح أربع إذا كان الشرطان فيه قائمين
ـــــــ
كان الطلاق رجعيا أو بائنا" لأنه إذا تزوجها في عدة أختها كان قد جمع بينهما في النكاح لأن العدة من آثار النكاح وكذلك الخامسة إذا تزوجها في عدة الرابعة.
فصل: "ويجوز أن يملك أختين وله وطء إحداهما" أيتهما شاء لأنها ملكه, فإذا "وطئها حرمت" عليه "أختها حتى تحرم الموطوءة بتزويج أو إخراج عن ملكه ويعلم أنها غير حامل", لئلا يكون جامعا بينهما في الفراش أو جامعا ماءه في رحم أختين, "فإذا وطئ الثانية ثم عادث الأولى إلى ملكه لم تحل له حتى تحرم الأخرى". لذلك "وعمة الأمة وخالتها في" ذلك "كأختها"، وعنه لا يحرم الجمع بين الأمتين في الوطء وإنما يكره لقوله سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} 1, والمذهب الأول لأنه إذا حرم الجمع في النكاح لكونه طريقا إلى الوطء ففي الوطء أولى.
مسألة: "وليس للمسلم إن كان عبدا نكاح أمة وكتابية" لأن الله سبحانه قال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} وعنه يجوز لأنه له وطئها بملك اليمين فجاز بالنكاح كالمسلمة, ورد الخلال هذه الرواية وقال إنما توقف الإمام أحمد ولم ينفذ له قول.
مسألة: "ولا" يجوز "لحر" مسلم "نكاح أمة مسلمة إلا أن لا يجد طول حرة ولا ثمن أمة ويخاف العنت"؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} -إلى قوله- {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} 2 فاشترط شرطين: خوف العنت وعدم الطول بحرة فلا يجوز بدونهما.
مسألة: "وله نكاح أربع إذا كان الشرطان فيه قائمين", للآية
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 3.
2 - سورة النساء: الآية 25.(2/17)
كتاب الرضاع
مدخل
...
كتاب الرضاع
حكم الرضاع حكم النسب في التحريم والمحرمية فمتى أرضعت المرأة طفلا
ـــــــ
كتاب الرضاع
مسألة: "حكم الرضاع حكم النسب في التحريم والمحرمية" لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" 1. متفق عليه. "فمتى أرضعت المرأة طفلا صار ابنا لها وللرجل الذي ثاب اللبن بوطئه" فإذا حملت من رجل ثبت نسب ولدها منه فثاب لها لبن فأرضعت به طفلا صار ولدا لهما في تحريم النكاح وإباحة النظر والخلوة وثبوت المحرمية, وأولاده وإن سفلوا أولاد ولدهما وصارا أبويه وآباؤهما أجداده وجداته وإخوة المرأة وأخواتها أخواله وخالاته وإخوة الرجل وأخواته أعمامه وعماته؛ لقوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}, نص على هاتين في المحرمات فدل على ما سواهما وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرضاعة تحرم ما يحرم من الولادة" 2. وحديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابنة حمزة: "لا تحل لي, يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاعة". متفق عليه3. وروت عائشة أن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعدما أنزل الحجاب فقلت: والله لا آذن له حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأة أخيه قال: "إئذني له فإنه عمك تربت يمينك". متفق عليه4؛ ولأن اللبن حدث للولد والولد ولدهما فكان المرضع بلبنه ولدهما.
مسألة: "فيحرم عليه" يعني على المرتضع "كل من يحرم على ابنها من النسب" لذلك.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5099. ومسلم في الرضاع: رقم 1.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5103. ومسلم في الرضاع: رقم 9.(2/18)
صار ابنا لها وللرجل الذي ثاب اللبن بوطئه فيحرم عليه كل من يحرم على ابنها من النسب وإن أرضعت طفلة صارت بنتا لهما تحرم على كل من تحرم عليه ابنتهما من النسب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب", والمحرم من الرضاع ما دخل الحلق من اللبن سواء دخل بارتضاع من الثدي أو وجور أو سعوط محضا كان أو مشوبا إذا لم يستهلك ولا يحرم إلا بشروط ثلاثة:
أحدها: أن يكون لبن امرأة بكرا كانت أو ثيبا في حياتها أو بعد موتها فأما لبن
ـــــــ
مسألة: "وإن أرضعت طفلة صارت بنتا لهما تحرم على كل من تحرم عليه ابنتهما من النسب" لذلك.
مسألة: "والرضاع المحرم ما دخل الحلق من اللبن سواء دخل بارتضاع من الثدي أو وجور أو سعوط محضا كان أو مشوبا إذا لم يستهلك" والوجور أن يصب اللبن في حلقه فيحرم لأنه ينشر العظم وينبت اللحم فأشبه الارتضاع, وأما السعوط فهو أن يصب في أنفه فيحرم لأنه سبيل لفطر الصائم فكان سبيلا للتحريم بالرضاع كالفم, وعنه لا يثبت التحريم بهما لأنهما ليسا برضاع وأما المشوب فهو كالمحض في نشر الحرمة إذا كانت صفات اللبن باقية, فإن صب في ماء كثير لم يتغير به لم يثبت التحريم لأن هذا لا يسمى لبنا مشوبا ولا ينشر عظما ولا ينبت لحما. وقال أبو بكر: قياس قول الإمام أحمد أن المشوب لا ينشر الحرمة لأنه وجور, وقال أبو حامد: إن غلب اللبن حرم وإن غلب خلطه لم يحرم؛ لأن الحكم للأغلب ويزول اسم المغلوب والأول أصح؛ لأن ما تعلق به الحكم غالبا تعلق به مغلوبا كالنجاسة والخمر.
مسألة: "ولا يحرم إلا بشروط ثلاثة: أحدها أن يكون لبن امرأة بكرا كانت أو ثيبا في حياتها أو بعد موتها", فلو ثاب للرجل لبن فأرضع به طفلا لم يتعلق به تحريم لأنه لم يخلق لغذاء المولود فلم يتعلق به تحريم كلبن البهيمة؛ ولأنه لا تثبت به الأمومة بخلاف لبن المرأة فإنه خلق لغذاء الولد وتثبت به الأمومة سواء كانت بكرا أو ثيبا لأنه رضاع من امرأة فنشر الحرمة كما لو كان لها ولد؛ ولأن لبن النساء خلق لتغذية الأطفال فيدخل في عموم قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}, وعنه لا ينشر الحرمة لأنه نادر أشبه لبن الرجل لأنه لم تجر العادة به لتغذية الأطفال أشبه لبن الرجال, وإن ارتضع من امرأة ميتة نشر الحرمة كما لو ارتضع من حية.
مسألة: "فأما لبن البهيمة فلا" يثبت الحرمة فلو ارتضع طفلان من بهيمة لم يصيرا أخوين, وقال بعضهم: يصيران أخوين وليس بصحيح لأن هذا اللبن لا يتعلق به تحريم الأمومة فلا يتعلق به تحريم الأخوة؛ لأنه فرع على الأمومة ولأن البهيمة دون الآدمية في الحرمة ولبنها دون لبنها في غذاء الآدمي فلم تتعلق الحرمة به.
مسألة: فإن ثاب لبن لخنثى مشكل لم يثبت به التحريم لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك.(2/19)
البهيمة أو الرجل أو الخنثى المشكل فلا يحرم شيئا.
الثاني: أن يكون في الحولين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام".
ـــــــ
الشرط "الثاني: أن يكون في الحولين" لقوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 1, فجعل تمام الرضاعة حولين فيدل على أنه لا حكم لما بعدهما وعن عائشة, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنظرن إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة". متفق عليه2. وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام". أخرجه الترمذي وقال: حديث صحيح3.
الشرط "الثالث: أن يرتضع خمس رضعات" فصاعدا هذا الصحيح من المذهب وروي عن جماعة من الصحابة, وعنه أن قليل الرضاع وكثيره يحرم لقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} 4, وقوله عليه السلام: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" 5. وأنه فعل يتعلق به تحريم مؤبد فلم يعتبر فيه العدد كتحريم أمهات النساء وعنه لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات لقوله عليه السلام: "لا تحرم المصة ولا المصتان" 6. روته عائشة, وروى عن أم الفضل بنت الحارث قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان" 7. ووجه الرواية الأولى ما روى عن عائشة عن سهلة بنت سهيل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "ارضعي سالما خمس رضعات فيحرم بلبنها" 8. وروي عن "عائشة" أنها قالت: "أنزل في القرآن عشر رضعات" معلومات "فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك" , رواه مسلم9. والآية تقول بها والسنة فسرت الرضاعة المحرمة وصريح ما رويناه يخص مفهوم ما رووه فيجمع بين الأخبار بحملها على الصريح الصحيح الذي رويناه.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 233.
2 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5102. ومسلم في الرضاع: 32.
3 - رواه الترمذي في الرضاع: في الرضاع: حديث رقم 1152. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
4 - سورة النساء: الآية 23.
5 - سبق تخريجه
6 - رواه مسلم في الرضاع: حديث رقم 17, 20, 23.
7 - المصدر عاليه: حديث رقم 18, 22.
8 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2061. ومالك في الرضاع: حديث رقم 12. وأحمد في المسند 6/201. و255, 269, 271.
9 - رواه مسلم في الرضاع: حديث رقم 25.(2/20)
الثالث: أن يرتضع خمس رضعات لقول عائشة: أنزل في القرآن عشر رضعات يحرمن فنسخ من ذلك خمس فصار إلى خمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك, ولبن الفحل محرم فإذا كان لرجل امرأتان فأرضعت إحداهما بلبنه طفلا والأخرى طفلة صارا أخوين لأن اللقاح واحد وإن أرضعت إحداهما بلبنه طفلة ثلاث رضعات ثم أرضعتها الأخرى رضعتين صارت بنتا له دونهما, فلو كانت الطفلة زوجة له انفسخ نكاحها ولزمه نصف مهرها ويرجع به عليهما أخماسا ولم ينفسخ نكاحهما, ولو أرضعت إحدى امرأتيه الطفلة خمس رضعات: ثلاثا من لبنه واثنتين من لبن غيره صارت أما لها وحرمتا عليه وحرمت الطفلة على الرجل الآخر على التأبيد, وإن لم تكن الطفلة امرأة له لم ينفسخ نكاح المرضعة ولو تزوجت امرأة طفلا فأرضعته خمس رضعات حرمت عليه وانفسخ نكاحها وحرمت على صاحب اللبن تحريما مؤبدا لأنها صارت من حلائل أبنائه.
ـــــــ
مسألة: "ولبن الفحل محرم" فإذا وطئ امرأة بنكاح فحملت وبان لها اللبن فأرضعت به طفلا أو طفلة صار المرتضع ابنا لها ولزوجها؛ لأن اللبن هو من الحمل الذي هو منه, "وإذا كان له امرأتان فأرضعت إحداهما بلبنه طفلا والأخرى طفلة صارا أخوين؛ لأن اللقاح واحد, وإن أرضعت إحداهما بلبنه طفلة ثلاث رضعات ثم أرضعتها الأخرى رضعتين صارت بنتا له دونهما"؛ لأنها ارتضعت من لبنه خمس رضعات فكمل رضاعها من لبنه فصار أبا لها كما لو أرضعتها واحدة منهن في أحد الوجهين, وفي الآخر لا يصير أبا لها لأنه رضاع لم تثبت به الأمومة فلم تثبت به الأبوة كلبن البهيمة.
مسألة: "ولو كانت الطفلة زوجة له انفسخ نكاحها"؛ لأنها صارت ابنة له لكونها ارتضعت من لبنه خمس رضعات, "وعليه نصف مهرها يرجع به عليها" على قدر رضاعها يقسم بينهما "أخماسا" الأولى ثلاثة أخماس وعلى الثانية خمسان, "ولم ينفسخ نكاحهما" لأن الأمومة لم تثبت لهما وعلى الوجه الآخر لا ينفسخ نكاح الصغيرة لما سبق في التي قبلها.
مسألة: "ولو أرضعت إحدى امرأتيه الطفلة خمس رضعات ثلاثا من لبنه واثنتين من لبن غيره وصارت أما لها" لأنها أرضعتها خمس رضعات "وحرمتا عليه على التأبيد" الكبيرة لكونها أم زوجته والصغيرة لأنها بنت زوجته فهي ربيبته, وحرمت الطفلة على الرجل الآخر لأنها ابنة زوجته, "وإن لم تكن الطفلة امرأة له لم ينفسخ نكاح المرضعة" لأنها إنما انفسخ نكاحها في المسألة قبلها لأنها صارت أم زوجته وهذا المعنى مفقود فيما إذا لم تكن الطفلة امرأة له.
مسألة: "ولو تزوجت المرأة طفلا فأرضعته خمس رضعات حرمت عليه" لأنه صار ابنا(2/21)
فصل: ولو تزوج رجل كبيرة ولم يدخل بها وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت الكبيرة وثبت نكاح الصغيرة, وإن كانتا صغيرتين فأرضعتهما الكبرى حرمت الكبرى وانفسخ نكاح الصغيرتين, وله نكاح من شاء من الصغيرتين وإن كن ثلاثا فأرضعتهن متفرقات حرمت الكبرى وانفسخ نكاح المرضعتين أولا وثبت نكاح
ـــــــ
لها بالرضاع "وانفسخ نكاحها" لذلك, "وحرمت على صاحب اللبن تحريما مؤبدا لأنها صارت من حلائل أبنائه".
فصل: "ولو تزوج رجل كبيرة ولم يدخل بها وصغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة حرمت الكبيرة" على التأبيد لأنها صارت من أمهات النساء "وثبت نكاح الصغيرة" لأنها ربيبة لم يدخل بأمها فلا تحرم لقوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}, وعنه يفسخ نكاحها وهو مذهب الشافعي لأنهما صارتا أما وبنتا واجتمعتا في نكاحه والجمع بينهما محرم فانفسخ نكاحها كالأختين وكما لو عقد عليهما بعد الرضاع عقدا واحدا, ولنا أنه أمكن إزالة الجمع بانفساخ نكاح الكبيرة وهي أولى به لأن نكاحهما محرم على التأبيد فلم يبطل نكاحهما معا كما لو ابتدأ العقد على أخته وأجنبية؛ ولأن الجمع طرأ على نكاح الأم والبنت فاختصت الأم بفسخ نكاحها كما لو أسلم وتحته امرأة وبنتها وفارق الأختين؛ لأنه ليست إحداهما بالفسخ أولى من الأخرى وفارق ما إذا ابتدأ العقد عليهما لأن الدوام أقوى من الابتداء.
مسألة: "وإن كانتا صغيرتين فأرضعتهما الكبرى حرمت الكبرى" لأنها صارت من أمهات النساء, "وانفسخ نكاح الصغيرتين" لأنهما صارتا أختين وقد اجتمعت في نكاحه فانفسخ نكاحهما كما لو جمع بين أختين في نكاح أجنبيتين, "وله نكاح من شاء من الصغيرتين" كما لو كانتا أجنبيتين إلا على الرواية الأخرى؛ فإنه ينفسخ نكاح الأولى ويثبت نكاح الثانية هذا إن ارتضعن منفردات لأن الكبيرة لما أرضعت الأولى انفسخ نكاحها بالإجماع, ثم أرضعت الأخرى فلم تجتمع معها في النكاح فلم ينفسخ نكاحها فإن ارتضعتا معا انفسخ نكاح الجميع لأنهم اجتمعوا في النكاح.
مسألة: ولو كان الأصاغر "ثلاثا فأرضعتهن متفرقات حرمت الكبرى" لما سبق "وانفسخ نكاح المرضعتين أولا"؛ لأنهما صارتا أختين "وثبت نكاح إحداهن" رضاعا لأن رضاعها بعد انفساخ نكاح الكبيرة والصغيرتين اللتين قبلها فلم تصادف أخواتها جميعا في النكاح, وعلى الرواية الأخرى ينفسخ نكاح الجميع لأن الكبيرة لما أرضعت الأولى انفسخ نكاحهما بالاجتماع معا ثم لما أرضعت الاثنتين بعد ذلك صارتا أختين في نكاحه فانفسخ نكاحهما أيضا.(2/22)
الثالثة: وإن أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعدها معا انفسخ نكاح الثلاث وله نكاح من شاء منهن منفردة, وإن كان دخل بالكبرى حرم الكل عليه على الأبد ولا مهر للكبرى إن كان لم يدخل بها, وإن كان قد دخل بها فلها مهرها وعليه نصف مهر الأصاغر يرجع به على الكبرى ولو دبت الصغرى على الكبرى وهي نائمة فارتضعت منها خمس رضعات حرمتها على الزوج ولها نصف مهرها يرجع به على الصغرى إن كان قبل الدخول وإن كان بعدها فلها مهرها كله لا يرجع به على أحد ولا مهر للصغرى, ولو نكح امرأة ثم قال: هي أختي من الرضاع انفسخ نكاحها ولها
ـــــــ
مسألة: "وإن أرضعت إحداهن منفردة واثنتين" بعد ذلك "معا انفسخ نكاح" الجميع لأنها إذا أرضعت إحداهن منفردة لم ينفسخ نكاحها لأنها منفردة ثم إذا أرضعت اثنتين بعد ذلك مجتمعتين بأن تلقم كل واحدة ثديا فيمتصان معا انفسخ نكاح الجميع؛ لأنهن صرن أخوات في النكاح وعلى الرواية الثانية ينفسخ نكاح الأم والثانية بالاجتماع ثم ينفسخ نكاح الاثنتين بالاجتماع أيضا.
مسألة: "وله نكاح من شاء منهن منفردة" لأن تحريمهن تحريم جمع لكونهن أخوات لا تحريم تأبيد لأنهن ربائب لم يدخل بأمهن.
مسألة: "وإن كان دخل بالكبرى حرم الكل عليه على الأبد" لأنهن يصرن من الربائب المدخول بأمهن.
مسألة: "ولا مهر للكبرى إن كان لم يدخل بها" لأنها أفسدت نكاح نفسها وكل من أفسد نكاح امرأة قبل الدخول فإن الزوج يرجع عليه بنصف مهرها الذي يلزمه لها؛ لأنه قرره عليه بعد أن كان تعرض للسقوط وفرق بينه وبين زوجته فلزمه ذلك كشهود الطلاق إذا رجعوا فإذا تقرر هذا فكانت هي المفسدة لزمها ذلك فسقط لأنه لو وجب لوجب لها على نفسها فأشبهت الغاصب إذا جنى عليه المغصوب.
مسألة: "وإن كان قد دخل بها فلها مهرها" ولم يرجع به على أحد لأنه استقر بالدخول فلم يسقط كما لو ارتدت "وعليه نصف مهر الأصاغر يرجع به على الكبرى"؛ لأنها أفسدت نكاحهن برضاعها إياهن فلزمها لما سبق.
مسألة: "ولو دبت الصغرى إلى الكبرى وهي نائمة فارتضعت منها خمس رضعات حرمتها على الزوج ولها نصف مهرها" عليه "يرجع به على الصغرى" لأنها أفسدت نكاحها "إن كان قبل الدخول وإن كان بعد" الدخول "فلها مهرها كله لا يرجع به على أحد" لأنه استقر بالدخول, "ولا مهر للصغرى" لأنها هي التي أفسدت نكاح نفسها.
مسألة: "ولو نكح امرأة ثم قال" قبل الدخول "هي أختي من الرضاع انفسخ نكاحها"(2/23)
المهر إن كان دخل بها ونصف المهر إن كان لم يدخل بها ولم تصدقه وإن صدقته قبل الدخول فلا شيء لها, وإن كانت هي التي قالت هو أخي من الرضاع فأكذبها ولا بينة لها فهي امرأته في الحكم.
ـــــــ
لأنه أقر بما يوجب تحريمها عليه أشبه ما لو أقر بالطلاق "ولها المهر إن كان دخل بها" لأنه استقر بالدخول "و نصفـ" ـه "إن كان لم يدخل بها ولم تصدقه"؛ لأن قوله غير مقبول عليها في إسقاط حقوقها فلزمه إقراره فيما هو حق له وهو تحريمها عليه ولم يقبل فيما عليه من المهر, "وإن صدقته قبل الدخول فلا مهر لها" لأنها صدقته على أن النكاح فاسد لا يستحق فيه مهر.
مسألة: "وإن كانت هي التي قالت هو أخي فأكذبها ولا بينة لها فهي امرأته في الحكم" ولا يقبل قولها في فسخ النكاح؛ لأنه حق عليها فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لأنها تقر بأنها لا تستحقه وإن كان بعد الدخول وأقرت أنها كانت عالمة بأنها أخته وبتحريمها عليه فلا مهر لها؛ لأنها تقر بأنها زانية مطاوعة وإن أنكرت ذلك فلها المهر لأنه وطئ بشبهة وهي زوجته في ظاهر الحكم لأن قولها عليه غير مقبول. فأما فيما بينها وبين الله فإن علمت صحة ما أقرت به لم يحل لها مساكنته ولا تمكينه من وطئها وعليها أن تفر منه وتفتدي نفسها؛ لأن وطئه لها زنا في اعتقادها فعليها التخلص منه مهما أمكنها كما إذا علمت إن زوجها طلقها ثلاثا وجحدها ذلك.(2/24)
باب نكاح الكفار
لا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال ولا لمسلم نكاح كافرة إلا الحرة الكتابية ومتى أسلم زوج الكتابية أو أسلم الزوجان الكافران معا فهما على نكاحهما
ـــــــ
باب نكاح الكفار
مسألة: "لا يحل لمسلمة نكاح كافر بحال" لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} 1, "ولا لمسلم نكاح كافرة" لقوله سبحانه: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} 2, "إلا الحرة الكتابية" لقوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} 3.
مسألة: "ومتى أسلم زوج الكتابية أو أسلم الزوجان الكافران معا فهما على نكاحهما".
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 221.
2 - سورة البقرة: الآية 221.
3 - سورة المائدة: الآية 5.(2/24)
وإن أسلم أحدهما غير زوج الكتابية أو ارتد أحد الزوجين المسلمين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال وإن كان ذلك بعد الدخول فأسلم الكافر منهما في عدتهما
ـــــــ
لأن للمسلم أن يبتدئ العقد على كتابية فاستدامته أولى ولا خلاف في هذا بين القائلين بجواز نكاح الكتابيات, وأما إذا أسلما معا فهما على نكاحهما إجماعا ذكره ابن عبد البر؛ ولأنه لم يوجد منهما اختلاف دين, وروى أبو داود أن رجلا جاء مسلما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءت امرأته مسلمة بعده فقال: يا رسول الله إنها كانت أسلمت معي, فردها عليه1, ويعتبر تلفظهما بالإسلام دفعة واحدة لئلا يسبق إسلام أحدهما إسلام صاحبه فيفسد نكاحه, ويحتمل أن يقف على المجلس كالقبض فإن حكمه حكم حالة العقد لأنه يبعد اتفاقهما على النطق بكلمة الإسلام دفعة واحدة.
مسألة: "وإن أسلم أحدهما غير زوج كتابية" مثل أن يسلم أحد الزوجين غير الكتابيين كالوثنيين أو المجوسيين أوكتابي متزوج لوثنية أو مجوسية قبل الدخول به تعجلت الفرقة بينهما من حين إسلامه, ويكون فسخا ليس بطلاق لأنها فرقة لاختلاف دين فكانت فسخا كما لو أسلم الزوج؛ ولأنه اختلاف دين يمنع الإقرار على النكاح فإذا وجد قبل الدخول تعجلت الفرقة كالردة أو كما لو أسلم الزوج؛ ولأنه إن كان هو المسلم فليس له إمساك الزوجة لقوله سبحانه: {وََلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}, وإن كانت هي المسلمة فلا يجوز بقاؤها في نكاح مشرك لقوله سبحانه: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ}.
مسألة: "و" إن "ارتد أحد الزوجين المسلمين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال"؛ لقوله سبحانه: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} 2, ولقوله سبحانه: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} 3, ولأنه اختلاف دين يمنع الإصابة فأوجب فسخ النكاح كما لو أسلمت تحت كافر, "وإن" كانت الردة "بعد الدخول" فهل تعجل الفرقة أو تقف على انقضاء العدة؟ على روايتين: إحداهما تتعجل الفرقة لأن ما أوجب فسخ النكاح استوى فيه ما قبل الدخول وبعده كالرضاع, والثانية: تقف على انقضاء العدة. "فـ" إن "أسلم" المرتد قبل انقضائها "فهما على" النكاح وإن لم يسلم حتى انقضت "تبينا" انفساخ "النكاح منذ اختلف" الدينان؛ لأنه لفظ تقع به الفرقة فإذا وجد بعد الدخول جاز أن يقف على انقضاء العدة كالطلاق الرجعي.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2238.
2 - سورة الممتحنة: الآية 10.
3 - سورة الممتحنة : الآية 10.(2/25)
فهما على نكاحهما وإلا تبينا أن النكاح انفسخ منذ اختلف دينهما وما سمى لها وهما كافران فقبضته في كفرهما فلا شيء لها غيره, وإن كان حراما وإن لم تقبضه وهو حرام فلها مهر مثلها أو نصفه حيث وجب ذلك.
فصل: وإن أسلم الحر وتحته إماء فأسلمن معه, وكان في حال اجتماعهم على الإسلام ممن لا يحل له نكاح الإماء انفسخ نكاحهن وإن كان ممن يحل له نكاحهن أمسك منهن من تعفه وفارق سائرهن.
ـــــــ
مسألة: "وما سمى لها وهما كافران فقبضته في كفرهما فلا شيء لها غيره وإن كان حراما وإن لم تقبضه وهو حرام فلها مهر مثلها أو نصفه حيث وجب ذلك", وذلك أن الكفار إذا أسلموا أو تحاكموا إلينا بعد العقد والقبض لم نتعرض لما فعلوه وما قبضت من المهر فقد نفذ وليس لها غيره حلالا كان أو حراما؛ لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} 1, فأمر بترك ما بقي دون ما قبض, ولأن التعرض للمقبوض بإبطاله يشق لتطاول الزمان وكثرة تصرفاتهم في الحرام ففيه تنفيرهم عن الإسلام؛ ولأنهما تقابضا بحكم الشرك فبرئت ذمة من هو عليه كما لو تبايعا بيوعا فاسدة وتقابضا, وإن لم يتقابضوا وكان المسمى حلالا وجب ما سمياه؛ لأنه مسمى صحيح فهو كتسمية المسلم وإن كان حراما كالخمر والخنزير بطل ولم يحكم بت؛ لأن ما سمياه لا يجوز إيجابه في الحكم ولا يجوز أن يكون صداقا لمسلمة ولا في نكاح مسلم, ويجب مهر المثل إن كان بعد الدخول ونصفه إن وقعت الفرقة قبل الدخول وهو معنى قوله: حيث وجب ذلك.
"فصل: فإن أسلم الحر وتحته إماء فأسلمن معه وكان في حال اجتماعهم على الإسلام ممن لا يحل له نكاح الإماء انفسخ نكاحهن"؛ لأنه في هذه الحالة لا يملك ابتداء نكاحهن, "وإن كان" في حال اجتماعهم على الإسلام "ممن يحل له نكاح الإماء" فله الاختيار منهن واحدة لأنه يملك ابتداء نكاحها فملك اختيارها كالحرة.(2/26)
باب الشروط في النكاح
إذا اشترطت المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى فلها
ـــــــ
باب الشروط في النكاح
مسألة: "وإذا اشترطت المرأة دارها أو بلدها أو لا يتزوج عليها أو لا يتسرى" فلها شرطها وإن لم يف به فلها فسخ النكاح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا(2/26)
شرطها" وإن لم يف به فلها فسخ النكاح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج". ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وهو أن يتزوجها إلى أجل وإن شرط أن يطلقها في وقت بعينه لم يصح كذلك, ونهى عن الشغار وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ولا صداق بينهما ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له, وهو أن يتزوج المطلقة ثلاثا ليحلها لمطلقها
ـــــــ
بها ما استحللتم به الفروج". متفق عليه1. وهو قول جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم في عصرهم فكان إجماعا وقال عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" 2.
مسألة: "وإن لم يف" لها بشرطها "فلها" الـ "فسخ" لأنه شرط لازم في عقد فيثبت حق الفسخ بفواته كشرط الرهن في البيع.
مسألة: "ونكاح المتعة باطل وهو أن يتزوجها إلى مدة" لما روى الربيع بن سبرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة في حجة الوداع. وفي لفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء, رواه أبو داود3؛ ولأنه لم تتعلق به أحكام النكاح من الطلاق وغيره فكان باطلا كسائر الأنكحة الباطلة.
مسألة: "وإن شرط أن يطلقها في وقت بعينه لم يصح" النكاح لأنه شرط يمنع بقاء النكاح فأشبه التأقيت ويتخرج أن يصح ويبطل الشرط؛ لأن النكاح وقع مطلقا وشرط على نفسه شرطا لا يؤثر فيه فأشبه ما لو شرط أن لا يطأها.
مسألة: ونكاح الشغار لا يصح "وهو أن" يزوجه وليته "على أن يزوجه الآخر" وليته "ولا صداق بينهما" لما روى ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار4. والشغار: أن يزوجه ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق. متفق عليه. ولأنه جعل كل واحد من العقدين سلفا في الآخر فلم يصح كما لو قال: بعني ثوبك على أن أبيعك ثوبي.
مسألة: "ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له", قال الترمذي: حديث صحيح5. "وهو أن يتزوجـ" ـها على أنه إذا أحلها طلقها فيكون النكاح حراما باطلا للخير فإن تواطئا على ذلك قبل العقد فنواه في العقد ولم يشرطه فالنكاح باطل أيضا, نص عليه وقال: متى أراد بذلك الإحلال فهو ملعون لعموم الحديث.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5151. ومسلم في النكاح: حديث رقم 63.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2072, 2073.
4 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5112. ومسلم في النكاح: حديث رقم 57, 59, 61.
5 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2076. والترمذي في النكاح: حديث رقم 1119, 1120. وقال في الثاني: حسن صحيح. وابن ماجه في النكاح: حديث رقم 1935.(2/27)
باب العيوب التي يفسخ بها النكاح
متى وجد أحد الزوجين الآخر مملوكا أو مجنونا أو أبرص أو مجذوما أو وجد الرجل المرأة رتقاء أو وجدته مجبوبا فله فسخ النكاح إن لم يكن علم ذلك قبل العقد, ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم, وإن ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها فاعترض أنه لم يصبها أجل سنة منذ ترافعه, فإن لم يصبها خيرت في المقام معه
ـــــــ
باب العيوب التي يفسخ بها النكاح
"متى وجد أحد الزوجين الآخر مملوكا فله" الـ "فسخ" أما إذا وجد الرجل المرأة مملوكة وقد تزوجها على أنها حرة فله الفسخ, وقد مضى ذكره في آخر باب ولاية النكاح, وإن وجدته الحرة مملوكا فلها الفسخ أيضا لحديث بريرة وقد مضى أيضا.
مسألة: "وإن وجد" أحدهما صاحبه مجنونا أو مجذوما أو أبرص فله الفسخ لأن هذه العيوب تمنع الاستمتاع المقصود بالنكاح, فإن ذلك يثير نفرة ويخشى من تعديه إلى الولد والنفس فيمنع الاستمتاع,
"وإن وجدها الرجل رتقاء أو وجدته مجبوبا ثبت لمن وجده الفسخ" لأن الرتق والجب يتعذر معهما الوطء بالكلية, فإن الرتق عبارة عن انسداد الفرج والجب عبارة عن المقطوع الذكر, فيتعذر الوطء فيثبت الفسخ كالعيوب الأولى.
مسألة: "وإنما ثبت له الفسخ إذا لم يكن عالم بالعيب قبل العقد" لأنه يكون معذورا, فأما إن علم بالعيب قبل العقد أو وقت العقد أو قال: قد رضيته معيبا بعد العقد أو وجد منه دلالة على الرضا من وطء أو تمكين مع العلم بالعيب فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة فلم يكن له خيار كمشتري المعيب.
مسألة: "ولا يجوز الفسخ إلا بحكم حاكم" لأنه أمر مجتهد فيه فهو كفسخ العنة وكالفسخ للإعسار بالنفقة ويخالف خيار المعتقة فإنه متفق عليه.
مسألة: "وإن ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها فاعترف أنه لم يصبها أجل سنة منذ ترافعه", روي ذلك عن جماعة من الصحابة لما روى الدارقطني أن عمر أجل العنين سنة, وروي ذلك عن ابن مسعود والمغيرة بن شعبة ولا مخالف لهم ورواه أبو حفص عن علي رضي الله عنه.
مسألة: "فإن لم يصبها خيرت في المقام معه أو فراقه" وهو قول من سمينا من الصحابة الذين أجلوه سنة, وإنما أجل سنة لأن العجز عن الوطء قد يكون خلقة وقد يكون(2/28)
أو فراقه فإن اختارت فراقه فرق الحاكم بينهما إلا أن تكون قد علمت عنته قبل نكاحها أو قالت: رضيت به عنينا في وقت, وإن علمت بعد العقد وسكتت عن المطالبة لم يسقط حقها, وإن قال: قد علمت عنتي ورضيت بي بعد علمها فأنكرته فالقول قولها, وإن أصابها مرة لم يكن عنينا وإن ادعى ذلك فأنكرته فإن كانت عذراء أوريت النساء الثقات ورجع إلى قولهن فإن كانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه.
ـــــــ
لمرض عرض به فضربت له سنة لتمر به الفصول الأربعة, فإن كان ذلك من يبس زال في فصل الرطوبة وإن كان من رطوبة زال في فصل الحرارة, وإن كان من انحراف مزاج زال في فصل الاعتدال, فإذا مضت الفصول الأربعة ولم يطأ علم أن ذلك خلقة, والعنين هو الذي في ذكره ضعف فلا يقدر على الإيلاج.
مسألة: "فإن اختارت فراقه" لم يجز إلا بحكم حاكم لأنه فسخ في موضع اجتهاد فافتقر إلى الحاكم. كالفسخ للإعسار هذا إذا لم تكن علمت بالعيب قبل النكاح, فإن كانت علمت به أو قالت قد رضيت به عنينا في وقت فإن خيارها يبطل؛ لأنها دخلت على بصيرة ورضيت به فأشبه شراء المعيب.
مسألة: "وإن علمت بعد العقد وسكتت عن المطالبة لم يسقط حقها" لا نعلم في ذلك خلافا؛ لأن سكوتها بعد العقد ليس بدليل على الرضا به لأنه زمان لا يملك فيه الفسخ والامتناع من استمتاعه فلم يكن سكوتها مسقطا لحقها كسكوتها بعد ضرب المدة وقبل انقضائها.
مسألة: "وإن قال قد علمت عنتي أو رضيت بي بعد علمها فأنكرت فالقول قولها"؛ لأن الأصل عدم العلم والرضا.
مسألة: "وإن أصابها مرة لم يكن عنينا" أكثرهم يقولون متى وطئ امرأته مرة ثم ادعت عجزه لم تسمع دعواها؛ لأنه قد تحققت قدرته على الوطء في هذا النكاح وزوال عنته فلم تضرب له مدة كما لو لم يترك وطئها.
مسألة: "وإن ادعى ذلك فأنكرته فإن كانت عذراء أوريت النساء الثقات ورجع إلى قولهن" فإن شهدن أنها عذراء أجل سنة؛ لأن الوطء يزيل عذرتها فوجودها يدل على عدم الوطء, وإن شهدن أن عذرتها زالت فالقول قوله لأنها تزول بالوطء.
مسألة: "وإن كانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه" لأن هذا مما يتعذر إقامة البينة عليه وحجته أقوى, فإن في دعواه سلامة العقد وصحته ولأن الأصل في الرجال السلامة وعدم العيوب, ويحلف على صحه ما قال لأن قوله محتمل للكذب فرجحنا قوله بيمينه كما في سائر الدعاوى. وقال الخرقي: يخلى معها ويقال له أخرج ماءك على شيء فإن أخرجه فالقول قوله؛ لأن العنين يضعف عن الإنزال فإذا أنزل تبينا صدقه فيحكم بت, كما لو شهد النساء بعذرتها فإنا نقبل قولها لظهور صدقها فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على النار فإن(2/29)
فصل: وإن عتقت المرأة وزوجها عبد خيرت في المقام معه أو فراقه, ولها فراقه من غير حكم حاكم فإن أعتق قبل اختيارها أو وطئها بطل خيارها, وإن أعتق بعضها أو عتقت كلها وزوجها حر فلا خيار لها
ـــــــ
ذاب فهو مني لأنه إنما يشبه بياض البيض وبياض البيض إذا جعل على النار يجتمع وييبس وهذا يذوب فيعرف بذلك,
"فصل: وإن عتقت الأمة وزوجها عبد خيرت في المقام معه أو فراقه" أجمع أهل العلم على أن لها الخيار في فسخ النكاح,ذكره ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما, والأصل فيه حديث بريرة قالت عائشة رضي الله عنها: كاتبت بريرة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها وكان عبدا فاختارت نفسها, رواه مالك وأبو داود والنسائي1؛ ولأن عليها عارا وضررا في كونها حرة تحت عبد فكان لها الخيار كما لو تزوج حرة على أنه حر فبان عبدا.
مسألة: "ولها فراقه من غير حكم حاكم" لأنه مجمع عليه لا يحتاج إلى اجتهاد.
مسألة: "فإن عتق قبل اختيارها أو وطئها بطل خيارها" علمت أن لها الخيار أو لم تعلم؛ لما روى الإمام أحمد بإسناده عن الحسن بن عمر بن أمية قال: سمعت رجالا يتحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أعتقت الأمة فهي بالخيار ما لم يطأها إن شاءت فارقته وإن وطئها فلا خيار لها". ورواه الأثرم2, وروى أبو داود أن بريرة عتقت وهي عند مغيث عبد لآل أبي أحمد, فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: "إن قربك فلا خيار لك". وقد روي ذلك عن عبد الله وحفصة, وقال ابن عبد البر: لا أعلم لهما مخالفا من الصحابة. إذا ثبت هذا فإنه متى عتق بطل خيارها لأن الخيار لدفع الضرر بالرق وقد زال بعتقه فسقط خيارها كالمبيع إذا زال عيبه, فإن وطئها بطل خيارها علمت بالخيار أو لم تعلم نص عليه الإمام أحمد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة: "إن قربك فلا خيار لك". ولم يفرق.
مسألة: "وإن أعتق بعضها" فلا خيار لها لأن الخيار إنما يثبت لمن عتقت كلها ولا يلزم من ذلك ثبوته لمن عتق بعضها لأنه قد ثبت للكل ما لا يثبث للبعض.
مسألة: "وإن عتقت كلها وزوجها حر فلا خيار لها" لأن الخيار إنما يثبت لدفع العار بكونها حرة تحت عبد وهذا متفق فيما نحن فيه.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2235. والنسائي في الزكاة: 99- باب إذا تحولت الصدقة.
2 - رواه أحمد في المسند 4/65, 5/378.(2/30)
كتاب الصداق
مدخل
...
كتاب الصداق
وكل ما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون صداقا قليلا كان أو كثيرا؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: للذي قال له زوجني هذه المرأة إن لم يكن لك بها حاجة قال: "التمس ولو خاتما من حديد". فإذا زوج الرجل ابنته بأي صداق جاز ولا ينقصها غير
ـــــــ
كتاب الصداق
"كل ما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون صداقا قل أو كثر" بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سهيل بن سعد: "التمس ولو خاتما من حديد" 1. وقال سبحانه: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً}, يعني: مائة رطل ذهب, وهذا يدل على جوازه بالقليل والكثير؛ وقوله كل ما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون صداقا؛ لأنه عقد معاوضة أشبه البيع فلا يجوز بالمجهول والمحرم والحشرات التي لا يجوز أن تكون رهنا لذلك.
مسألة: "فإذا زوج الرجل ابنته بأي صداق كان جاز" سواء كانت بكرا أو ثيبا وسواء كان بصداق مثلها أو دونه وإن كرهت كبيرة كانت أو صغيرة؛ لأن عمر رضي الله عنه خطب الناس فقال: ألا لا تغالوا في صداق النساء فما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من نسائه ولا بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية, وظاهره صحة تسميته من زوج بمثل ذلك وإن نقص عن مهر المثل لأن عمر إنما ذكر ذلك ليحذا ويتأسى به ولا يزاد عليه, وزوج سعيد بن المسيب ابنته بدرهمين وهو سيد قريش؛ ولأنه غير متهم في حقها فلا يمنع من تحصيل المقصود والحظ لابنته بتفويت غير المقصود فإن المقصود من النكاح الوصلة والاستمتاع, ووضع المرأة في منصب وخلق حسن وليس المقصود منه المهر, والظاهر من حال الأب مع تمام شفقته أنه لا ينقص من صداقها إلا لتحصيل المعاني المقصودة بالنكاح؛ فإنه غير متهم. "وليس لغيره نقصها عن مهر مثلها إلا بإذنها"؛ لأنه متهم فإذا نقصه بإذنها لم يكن لغيره الإعتراض لأن الحق لها وقد أسقطته فأشبه ما لو أذنت في بيع سلعة لها بأقل من
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5078, 5121, 5126.(2/31)
الأب من مهر مثلها إلا برضاها, فإذا أصدقها عبدا بعينه فوجدته معيبا خيرت بين أرشه ورده أو أخذ قيمته, وإن وجدته مغصوبا أو حرا فلها قيمته وإن كانت عالمة بحريته أو غصبه حين العقد فلها مهر مثلها, وإن تزوجها على أن يشتري لها عبدا بعينه فلم يبعه سيده أو طلب به أكثر من قيمته فلها قيمته.
فصل
فإن تزوجها بغير صداق صح
ـــــــ
ثمن مثلها وإن فعله بغير إذنها لم يجز, والنكاح صحيح ويكون لها مهر مثلها؛ لأنه قيمة بضعها وليس لهذا. الولي تنقيصه فرجع إلى مهر المثل كالمفوضة ويحتمل أن لا يلزم الزوج إلا المسمى والباقي على الولي لأنه المفرط فأشبه ما لو باع الوكيل بدون ثمن المثل.
مسألة: "فإذا أصدقها عبدا بعينه فوجدت" به عيبا "خيرت بين أرشه ورده أو أخذ قيمته" لأنه عوض في عقد معاوضة فيرد بالعيب كالمبيع فإذا ردته بالعيب فلها قيمته لأن العقد لا ينفسخ برده فيبقى سبب استحقاقه فكان لها القيمة كما لو غصبها إياه وتلف عنده وإن كان من ذوات الأمثال فلها مثله لأنه أقرب إليه وإن اختارت إمساكه والمطالبه بالأرش فلها ذلك كقولنا في المبيع المعيب.
مسألة: "وإن وجدته مغصوبا أو حرا فلها قيمته" لأنها رضيت بقيمته إذ ظنته مملوكا وقد تعذر تسليمه فكان لها قيمته كما لو وجدته معيبا فردته.
مسألة: "وإن كانت عالمة بحريته أو غصبه" جاز "العقد" و "لها مهر مثلها".
مسألة: "وإن تزوجها على أن يشتري لها عبدا بعينه فلم يبعه سيده أو طلب به أكثر من قيمته فلها قيمته" نص عليه, لأنه أصدقها تحصيل عبد معين فصح كما لو تزوجها على رد عبدها الآبق من مكان معلوم فإذا ثبت هذا فإنه إذا تعذر عليه تحصيل العبد فلها قيمته لأنه تعذر الوصول إلى قبض المسمى فوجب قيمته كما لو تلف.
"فصل: وإن تزوجها بغير صداق صح" النكاح لقوله سبحانه: {لاَجُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ}, وحديث بروع بنت واشق التي قضى فيها ابن مسعود بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث" تزوجها رجل ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات, أخرجه أبو داود فدل على صحة النكاح بغير تسمية صداق؛ ولأن القصد من النكاح الوصلة والاستمتاع دون الصداق فصح من غير ذكره كالنفقة وتسمى هذه مفوضة البضع وهو التفويض الصحيح.(2/32)
فإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا المتعة: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}, وأعلاها خادم وأدناها كسوة تجوز لها الصلاة فيها وإن مات أحدهما قبل الدخول والفرض فلها مهر نسائها لا وكس ولا شطط, وللباقي منهما الميراث وعليها العدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق لما مات زوجها ولم يدخل بها ولم يفرض لها أن لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة, ولو طالبته قبل الدخول أن يفرض لها فلها ذلك فإن فرض لها مهر نسائها أو أكثر فليس لها غيره وكذلك إن فرض لها أقل منه فرضيت.
فصل
وكل فرقة جاءت من المرأة قبل الدخول كإسلامها أو ارتدادها أو رضاعها أو
ـــــــ
مسألة: "فإن طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا المتعة" لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ}, والأمر يقتضي الوجود وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} 1؛ لأنه طلاق في نكاح يقتضي عوضا فلا معدي عن العوض كما لو سمى مهرا إذا ثبت هذا فالمتعة معتبرة بحال الزوج في يسره وعسره لقوله سبحانه: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} , إذا ثبت هذا "فأعلاها خادم" إذا كان موسرا وإن كان معسرا أمتعها كسوتها درعا وخمارا وثوبا تصلي فيه وهو قول ابن عباس وعنه يرجع في تقديرها إلى الحاكم لأنه يحتاج إلى اجتهاد فأشبه سائر المجتهدات.
مسألة: "فإن مات أحدهما قبل الدخول والفرض فلها مهر نسائها لا وكس ولا شطط وللباقي منهما الميراث وعليها العدة لحديث بروع بنت واشق" وقد سبق.
مسألة: "ولو طالبته قبل الدخول أن يفرض لها فلها ذلك" لأن النكاح لا يخلو من المهر فوجبت لها المطالبة ببيان قدره لا نعلم في ذلك خلافا, وإن اتفقا على فرضه جاز ما فرضاه قليلا كان أو كثيرا لأن الحق لا يخرج عنهما, "فإن فرض لها مهر نسائها أو أكثر فليس لها غيره" لأنه بدل البضع فيقدر به كالسلعة إذا تلفت إنما يجب قيمتها ومهر نسائها كالقيمة في السلعة, فإذا بذل أكثر من مهر نسائها فلزمها قبوله بطريق الأولى لأنه زادها خيرا وإن فرض لها أقل من مهر المثل فرضيته فكذلك لأن الحق لها وقد رضيت بدونه.
"فصل: وكل فرقة جاءت من قبل المرأة قبل الدخول كإسلامها أو ارتدادها أو رضاعها" أو ارتضاعها "أو فسخ لعيبها أو فسخها لعيبه أو إعساره" أو لأنها تحت عبد "يسقط به مهرها" ولا يجب لها متعة لأنها أتلفت المعوض قبل تسليمه فسقط البدل كالبائع يتلف المبيع قبل تسليمه.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 241.(2/33)
فسخ لعيبها أو فسخ لعيبه أو إعساره أو أعتقها يسقط به مهرها, وإن جاءت من الزوج كطلاقه وخلعه يتنصف مهرها بينهما إلا أن يعفو لها عن نصفه أو تعفو هي عن حقها وهي رشيدة فيكمل الصداق للآخر, وإن جاءت من أجنبي فعلى الزوج نصف المهر يرجع به على من فرق بينهما, ومتى تنصف المهر وكان معينا باقيا لم تتغير قيمته صار بينهما نصفين وإن زاد زيادة منفصلة كغنم ولدت فالزيادة لها والغنم بينهما, وإن زادت زيادة متصلة مثل أن سمنت الغنم خيرت بين دفع نصفها زائدا وبين دفع نصف قيمتها يوم العقد, وإن نقصت فلها الخيار بين أخذ نصفه ناقصا وبين أخذ نصف قيمته يوم العقد وإن تلفت فلها نصف قيمتها يوم العقد ومتى دخل بها استقر المهر ولم
ـــــــ
مسألة: "وإن جاءت من الزوج كطلاقه وخلعه" وإسلامه وردته "يتنصف" به "مهرها بينهما إلا أن يعفو لها عن نصفه أو تعفو هي عن حقها وهي رشيدة فيكمل الصداق للآخر"؛ لقوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} 1, نص على الطلاق وسائر ما استقل به الزوج في معناه؛ لأنه لم يوجد من المرأة إتلاف المعوض فإن عفت عن نصفها أو عفا هو عن نصفه جاز لأن الحق لا يخرج عنهما.
مسألة: "وإن جاءت" الفرقة "من أجنبي" كالرضاع أو وطء ينفسخ النكاح "فعلى الزوج نصف المهر" للآية "ويرجع به على من فرق بينهما" لأنه المتلف فأشبه.
مسألة: "ومتى تنصف المهر وكان معينا باقيا لم تتغير قيمته صار بينهما نصفين" للآية "وإن زاد زيادة منفصلة كغنم ولدت فالزيادة لها"؛ لأنه نماء ملكها "والغنم بينهما" نصفين للآية, "وإن زادت زيادة متصلة مثل إن سمنت الغنم خيرت بين دفع نصفها زائدا وبين دفع نصف قيمتها يوم العقد" فإن دفعت نصفها زائدا لزمه قبوله لأنه أخذ حقه وزيادة وإن أخذ نصف قيمته يوم العقد فهو حقه من غير زيادة.
مسألة: "وإن نقصت فلها الخيار بين أخذ نصفها ناقصا وبين أخذ نصف قيمتها يوم العقد" فإن رضي بنصفها ناقصا فقد رضي بدون حقه, وإن أخذ نصف قيمتها يوم العقد فهو حقه لأنه نصف ما فرض "وإن تلف فله نصف قيمتها يوم العقد" للآية وقد تعذر الرجوع في العين فرجع في القيمة.
مسألة: "ومتى دخل بها استقر المهر ولم يسقط بشيء" لقوله سبحانه: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 237.(2/34)
يسقط بشيء وإن خلا بها بعد العقد وقال : لم أطأها وصدقته استقر المهر ووجبت العدة وإن اختلف الزوجان في الصداق أو قدره فالقول قول من يدعي مهر المثل مع يمينه
ـــــــ
مُبِيناً}, أمر بترك الكل لها وقال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}, فجعل هذا للمطلقة قبل الدخول وذاك للمطلقة بعد الدخول بدليل قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} 1 أراد به الجماع والخلوة بها.
مسألة: "وإن خلا بها بعد العقد وقال: لم أطأها وصدقته استقر المهر ووجبت العدة"؛ لما روى الإمام أحمد والأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون أن من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب المهر ووجبت العدة وإن لم يطأ, روي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر وعن الشافعي: لا يستقر المهر إلا بالوطء, وحكي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وعن أحمد مثل ذلك إذا صدقته المرأة أنه لم يطأها لم يكمل لها الصداق وعليها العدة, رواه عنه يعقوب بن بحران ودليله قوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}, وهذه قد طلقها قبل أن يمسها, وقال: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}, والإفضاء الجماع, وقال: {إِِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} 2, وللأولى إجماع الصحابة وما روي عن ابن عباس لا يصح. قال أحمد: يرويه ليث وليس بالقوي وقد رواه حنظلة خلاف ما رواه ليث وحنظلة أوثق من ليث. قال ابن المنذر: وحديث ابن مسعود منقطع, وروى الدارقطني عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل". ولأن التسليم المستحق من جهتها قد وجد فيستقر به البدل كما لو أجرت دارها وتسلمها فأما قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}, فيحتمل أنه كنى بالسبب عن المسبب الذي هو الخلوة بدليل ما ذكرناه. وأما قوله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}, فقال الفراء: هو الخلوة دخل بها أو لم يدخل فإن الإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو الشيء الخالي فكأنه قال: وقد خلا بعضكم إلى بعض.
مسألة: "وإن اختلف الزوجان في الصداق أو قدره فالقول قول من يدعي مهر المثل منهما مع يمينه" فإذا ادعت المرأة مهر مثلها أو أقل فالقول قولها, وإن ادعى الزوج مهر مثلها أو أكثر فالقول قوله؛ لأن الظاهر قول من يدعي مهر المثل فكان القول قوله قياسا على المنكر في سائر الدعاوى ويلزمه اليمين لأنه منكر.
مسألة: وإن أنكر الزوج الصداق فالقول قولها قبل الدخول وبعده؛ فإذا ادعت مهر مثلها فكذلك إلا أن يأتي ببينة تشهد أنه وفاها أو أنها أبرأته من ذلك.
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 21.
2 - سورة الأحزاب: الآية 49.(2/35)
باب معاشرة النساء
وعلى كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف وأداء حقه الواجب إليه من غير مطل ولا إظهار لكراهية لبذله وحقه عليها تسليم نفسها إليه وطاعته في
ـــــــ
باب عشرة النساء
مسألة: "وعلى كل واحد من الزوجين معاشرة صاحبه بالمعروف"؛ لقوله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}, ويجب عليه "أداء حقه الواجب له إليه من غير مطل ولا إظهار الكراهة لبذله"؛ لأنه من المعاشرة بالمعروف.
مسألة: "وحقه عليها تسليم نفسها إليه وطاعته في الاستمتاع متى أراد" ه "ما لم يكن عذرا" ؛ لأن المقصود من النكاح الاستمتاع ولا يحصل إلا بالتسليم فإن كان لها عذر من حيض أو نفاس صبر عليها حتى ينقضي العذر "فإذا فعلت ذلك" يعني سلمت نفسها "فلها عليه قدر كفايتها من النفقة والكسوة والمسكن بما جرت به عادة أمثالها" والأصل في وجوب النفقة قوله سبحانه: {لِِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} 1, وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: "اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم: أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجيه بكلمة الله ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف". رواه مسلم ورواه الترمذي, وفيه: "وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن". وقال: حديث صحيح2. و قال عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" حين قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. متفق عليه3. وأجمعوا على وجوب نفقة الزوجات إلا الناشزة ذكره ابن المنذر, وقال الله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 4, والمعروف قدر الكفاية وقدر الكفاية غير مقدر فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم عند التنازع, ويعتبر بحال الزوجين فيعتبر يسار الزوج وإعساره لقوله سبحانه: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}, وقدر: ضيق. قال سبحانه: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} 5. أي: يوسع الرزق على من يشاء ويضيقه على من يشاء, ثم قال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} 6 ويعتبر حال المرأة لقوله عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك
ـــــــ
1 - سورة الطلاق: الآية 7.
2 - رواه مسلم في الحج: حديث رقم 147.
3 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2211. ومسلم في الأقضية: حديث رقم 7.
4 - سورة البقرة : الآية 233.
5 - سورة الرعد: الآية 26.
6 - سورة الطلاق: الآية 7.(2/36)
الاستمتاع متى أراد ما لم يكن لها عذر وإذا فعلت ذلك فلها عليه قدر كفايتها من النفقة والكسوة والمسكن بما جرت به عادة أمثالها, فإن منعها ذلك أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه قدر كفايتها وكفاية ولدها بالمعروف؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند حين قالت له إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". فإن لم تقدر على الأخذ لعسرته
ـــــــ
بالمعروف" 1 فيفرض الحاكم للموسرة تحت الموسر قدر كفايتها من أرفع خبز البلد الذي يأكله أمثالها كالحواري والقدر ومن أرفع الأدم من اللحم والأرز والدهن على اختلاف أنواعه في بلدانه السمن في موضع والزيت في آخر والشحم في غيره والشيرج في موضع.
مسألة: "وتجب كسوتها بإجماعهم لما سبق من النصوص" ؛ ولأنها لا بد لها منها على الدوام فلزمته كالنفقة فيجب كفايتها منها وليس فيها تقدير من الشرع فهي كالنفقة فيرجع فيها إلى اجتهاد الحاكم عند التنازع فيفرض لها قدر كفايتها على قدر حالها للموسرة تحت الموسر من أرفع ثياب البلد من الكتان والخز والابريسم, وأقله قميص وسراويل ووقاية ومقنعة ومداس وجبة للشتاء ويزيد في عدد الثياب ما جرت العادة بلبسه مما لا غناء عنه دون ما تتجمل به وتتزين بلبسه, والأصل قوله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. والكسوة بالمعروف: هي التي جرت عادتها وعادة أمثالها بلبسه.
"فصل :ويفرض للمتوسطة تحت المتوسط أو إذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا" ما بين نفقة الغني ونفقة الفقير على حسب عادة أمثالها على ما يراه الحاكم.
"فصل: وأما المسكن فحكمه حكم النفقة والكسوة على ما سبق". فأما الفقيرة تحت الفقير فيفرض لها قدر كفايتها من أدنى خبز البلد ومن أدنى أدمه مثل الباقلاء والعدس والحمص والكشك والخل والبقل والكامخ وما تحتاج إليه من الدهن كالزيت ونحوه, وما تحتاج إليه من الكسوة من أغلظ القطن والكتان, وما تحتاج إليه للنوم والجلوس مما جرت عادة أمثالها به كالكساء الخشن والحصير الخشن ونحوه على حسب ما يراه الحاكم.
مسألة: "فإن منعها ذلك أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه قدر كفايتها وكفاية ولدها بالمعروف" لحديث هند وقد سبق.
مسألة: "فإن لم تقدر على أخذ لعسرته أو منعها واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما"؛ لقوله سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} 2, وقد تعذر الإمساك بالمعروف فتعين التسريح بالإحسان.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سورة البقرة: الآية 229.(2/37)
أو منعها فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما سواء كان الزوج صغيرا أو كبيرا, وإن كانت صغيرة لا يمكن الاستمتاع بها أو لم تسلم إليه أو لم تطعه فيما يجب له عليها أو سافرت بغير إذنه أو بإذنه في حاجتها فلا نفقة لها عليه.
فصل
ولها عليه المبيت عندها ليلة من كل أربع إن كانت حرة ومن كل ثمان إن كانت أمة إذا لم يكن له عذر إصابتها مرة في كل أربعة أشهر إذا لم يكن له عذر فإن آلى منها أكثر من أربعة أشهر فتربصت أربعة أشهر ثم رافعته إلى الحاكم فأنكر الإيلاء أو مضى الأربعة أو ادعى أنه أصابها وكانت ثيبا فالقول قوله مع يمينه.
ـــــــ
مسألة: و "سواء كان الزوج صغيرا أو كبيرا" لذلك.
مسألة: "إن كانت صغيرة لا يمكن الاستمتاع بها أو لم تسلم" نفسها "إليه أو لم تطعه فيما يجب له عليها أو سافرت بغير إذنه أو بإذنه في حاجتها فلا نفقة لها عليه"؛ لأن النفقة تجب للتمكين من الاستمتاع ولم يوجد فأشبه البائع إذا امتنع من تسليم المبيع, ويحتمل أن لها النفقة إذا سافرت بإذنه في حاجتها لأنها سافرت بإذنه فأشبه ما لو سافرت بأمره في حاجته.
"فصل: ولها عليه المبيت عندها ليلة من كل أربع إن كانت حرة"؛ لأن عمر رضي الله عنه قال لكعب بن سور: اقض بين هذا وبين امرأته. قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهن فأقضي له بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة, فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب إلي من رأيك الآخر اذهب فأنت قاض على البصرة.
مسألة: وإن كانت أمة فلها ليلة من "ثمان" لأنها على النصف من الحرة والحرة لها ليلة من أربع فيكون للأمة ليلة من ثمان.
مسألة: ولها عليه "إصابتها في كل أربعة أشهر مرة"؛ لأن الوطء يجب على غير المولى في كل أربعة أشهر ويفسخ النكاح لتركه, وما لا يجب على غير الحالف لا يجب على الحالف على تركه كسائر المباحات إذ ما لا يجب لا يفسخ النكاح لتعذره كزيادة النفقة, فإن كان له عذر من سفر أو مرض صبرت من أجله حتى ينقضي العذر.
مسألة: "فإن آلى منها أكثر من أربعة أشهر فتربصت أربعة أشهر ثم رافعته إلى الحاكم فأنكر الإيلاء أو مضى الأربعة" أشهر "فالقول قوله"؛ لأن الأصل معه, "وكذا إن ادعى الإصابة وهي ثيب" لأنه مما يتعذر إقامة البينة عليه ولا يعرف إلا من جهته؛ ولأن الأصل بقاء النكاح وهو يدعي ما ينفيه والمرأة تدعي ما يلزمه به رفعه فكان القول قوله كما لو(2/38)
وإن أقر بذلك أمر بالفيئة عند طلبها وهي الجماع, فإن فاء فإن الله غفور رحيم, فإن لم يفي أمر بالطلاق فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه, ثم إن راجعها أو تركها حتى بانت فتزوجها وقد بقي أكثر من مدة الإيلاء وقف لها كما وصفت, ومن عجز عن الفيئة عند طلبها فليقل: متى قدرت جامعتها ويؤخر حتى يقدر عليها
ـــــــ
أدعى الوطء في العنة وعليه اليمين لأن ما تدعيه المرأة يحتمل فوجب نفيه باليمين, وعنه لا يلزمه يمين لأنه لا يقضي فيه بالنكول اختاره أبو بكر.
مسألة: "وإن أقر بذلك" يعني أقر بالإيلاء وأنه لم يصبها "أمر بالفيئة" وهي الجماع فإن فاء فإن الله غفور رحيم "وإن لم يفيء أمر بالطلاق" إن طلبت ذلك لقوله سبحانه: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1, فإن طلق واحدة فهي رجعية لأنها طلقة بغير عوض فأشبه غير المولى, وعنه أنها طلقة بائنة لأنها فرقة لدفع الضرر فأشبهت فرقة العنة.
مسألة: "وإن لم يطلق وإلا طلق الحاكم عليه" لأن ما دخله النيابة وتعين مستحقه وتعين من هو عليه قام الحاكم مقامه فيه كقضاء الدين, وهذا إذا طلبته المرأة لأن الحق لها فأشبهت صاحب الدين, وعنه إن لم يطلق حبس وضيق عليه حتى يطلق ولا يقوم الحاكم مقامه في الطلاق, والأول أصح لما سبق. فإذا طلق عليه الحاكم طلقه وقلنا هي رجعية فراجع "أو تركها حتى بانت ثم تزوجها وقد بقي أكثر من مدة الإيلاء وقف لها كما وصفت" يعني: إن فاء فإن الله غفور رحيم وإن عزم الطلاق فطلق كان الحكم كما سبق.
مسألة: "ومن عجز عن الفيئة عند طلبها" بجب أو شلل ففيئته بلسانه, وهي أن يقول لو قدرت لجامعتها لأن ذلك يزيل ما حصل بإيلائه, وإن كان عذره من مرض أو إحرام أو حبس ففيئته أن يقول: "متى قدرت جامعتها ويؤخر حتى" يزول عذره؛ لأن القصد بالفيئة ترك ما قصد إليه من الإضرار وقد ترك قصد الإضرار بما أتى به من الاعتذار والقول قوله مع العذر يقوم مقام فعل القادر, بدليل إشهاد الشفيع على الطلب بالشفعة عند العجز عن طلبها [فإنه] يقوم مقام طلبها في الحضور لإثباتها.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 227.(2/39)
باب القسم و النشوز
...
باب القسم والنشوز
وعلى الرجل العدل بين نسائه في القسم
ـــــــ
باب القسم والنشوز
"وعلى الرجل العدل بين نسائه في القسم" لا نعلم فيه خلافا بينهم في وجوب التسوية(2/39)
وعماده الليل فيقسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين, وإن كانت كتابية وليس عليه المساواة في الوطء بينهن, وليس له البداءة في القسم بإحداهن ولا السفر بها إلا بقرعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيهن خرج سهمها خرج بها معه.
ـــــــ
بين زوجاته في القسم وقد قال سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} 1, وليس مع الميل معروف. وقد قال تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} 2. وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بيننا ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك". رواه أبو داود3.
مسألة: "وعماد" القسم "الليل" ولا خلاف في ذلك لأن الليل للسكن يأوي الإنسان إلى أهله والنهار للمعاش والخروج في الأشغال. قال الله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً} 4, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ليلة وليلة, وفي النهار لمعاشه وقضاء حقوق الناس.
مسألة: "ويقسم لزوجته الأمة ليلة وللحرة ليلتين"؛ لما روى الدارقطني عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: إذا تزوج الحرة على الأمة قسم للأمة ليلة وللحرة ليلتين. احتج به الإمام أحمد رحمه الله فإن كانت إحداهما كتابية فإنه يساوي بينهما في القسم. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القسم بين المسلمة والذمية سواء؛ لأنه من حقوق الزوجية فأشبه النفقة والسكنى.
مسألة: "وليس عليه المساواة بينهن في الوطء" لا نعلم فيه خلافا؛ لأن الجماع طريقه الشهوة والميل ولا سبيل إلى التسوية في ذلك, فإن القلب يميل. وقد قال الله سبحانه: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} 5, قال عبيدة السلماني: في الحب والجماع, وإن أمكنه التسوية بينهن في الجماع كان أحسن وأبلغ في العدل, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ثم يقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" 6.
مسألة: "وليس له البداية في القسم بإحداهن ولا السفر بها إلا بقرعة" لأن البداية بها تفضيل والتسوية واجبة؛ ولأنهن متساويات في الحق فلا يمكن الجمع فوجب المصير إلى القرعة؛ "لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه" فمن خرجت قرعتها خرج
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 19.
2 - سورة النساء الآية 29.
3 - رواه أبو داود في النكاح: حديث رقم 2134.
4 - سورة النبأ: الآية 10.
5 - سورة النساء: الآية 129.
6 - سبق تخريجه.(2/40)
وللمرأة أن تهب حقها من القسم لبعض ضراتها بإذن زوجها أو له, فيجعله لمن شاء منهن لأن سودة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة, وإذا أعرس على بكر أقام عندها سبعا ثم دار, وإن أعرس على ثيب أقام عندها ثلاثا. لقول أنس: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أن يقيم عندها سبعا وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا", وإن أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا فعل وقضاهن البواقي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا ثم قال: "ليس بك هوان على أهلك إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة لك, وإن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي".
فصل
ويستحب التستر عند الجماع, وأن يقول ما رواه ابن عباس: "لو أن أحدكم إذا
ـــــــ
بها معه" متفق عليه1. فالقرعة في السفر منصوص عليها وابتداء القسم مقيس عليه.
مسألة: "وللمرأة أن تهب حقها من القسم لبعض ضرائرها بإذن زوجها أو له فيجعله لمن شاء منهن" لأن حقه في الاستمتاع بها لا يسقط إلا برضاه فإذا رضيا جاز؛ لأن الحق لا يخرج عنهما, وقد روت عائشة رضي الله عنها: أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة. متفق عليه2.
مسألة: "وإذا عرس عند بكر أقام عندها سبعا ثم دار, وإذا عرس عند ثيب أقام عندها ثلاثا", وذلك لما روى أبو قلابة عن "أنس" رضي الله عنه قال: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب" أقام "عندها سبعا" وقسم "وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا" ثم قسم, قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت إن أنسا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه3, "وإذا أحبت الثيب أن يقيم عندها سبعا فعل ثم قضاهن للبواقي"؛ لما روي عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما تزوج أم سلمة أقام عندها ثلاثا", و "قال: "إنه ليس بك على أهلك هوان إن شئت سبعت لك وإن سبعت لك سبعت لنسائي". رواه مسلم4, وفي لفظ: "إن شئت ثلثت ثم درت". وفي لفظ: "إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة لك".
"فصل: ويستحب التستر عند الجماع" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5211. ومسلم في النكاح: حديث رقم 38.
2 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5212. ومسلم في النكاح: حديث رقم 47.
3 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5213, 5214. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 44, 45.
4 - رواه مسلم في الرضاع: حديث رقم 41, 42, 43.(2/41)
أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا".
فصل
وإن خافت المرأة من زوجها نشوزا أو إعراضا فلا بأس أن تسترضيه بإسقاط بعض حقوقها كما فعلت سودة حين خافت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن خاف الرجل نشوز امرأته وعظها فإن أظهرت نشوزا هجرها في المضجع فإن لم يردعها
ـــــــ
إلى أهله فليستتر ولا ينكشف انكشاف العير". أو كما, قال: ويستحب "أن يقول" عند الجماع "ما" روى ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فولد بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا". متفق عليه.
"فصل: وإذا خافت المرأة من زوجها نشوزا أو إعراضا" لمرض أو كبر "فلا بأس أن تسترضيه بإسقاط بعض حقوقها كما فعلت سودة حين خافت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم" فروت عائشة رضي الله عنها أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة. متفق عليه1. ولقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} 2.
مسألة: "وإن خاف الرجل نشوز امرأته" بأن تظهر منها أمارات النشوز بأن لا تجيبه إلى الاستمتاع أو تجيبه متبرمة متكرهة فإنه "وعظها" ويخوفها الله سبحانه ويذكر لها ما أوجب الله له عليها من الحق والطاعة وما يلحقها بذلك من الإثم وما يسقط عنها من النفقة والكسوة, وما يباح له من ضربها فهجرها لقوله سبحانه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} 3, فإن أصرت وأظهرت النشوز والامتناع من فراشه فله أن يهجرها في المضجع ما شاء"؛ لقوله سبحانه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} 4. "فإن أصرت فله أن يضربها ضربا غير مبرح"؛ لقوله سبحانه: {وَاضْرِبُوهُنَّ}, "فإن خيف الشقاق بينهما" يعني علم "بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها مأمونين يجمعان إن رأيا أو يفرقان فما فعلا من ذلك لزمهما", وذلك أن الزوجين إذا خرجا إلى الشقاق والعداوة بعث الحاكم حكمين حرين مسلمين عدلين والأولى أن يكونا من أهلهما برضاهما وتوكيلهما فيكشفان عن حالهما ويفعلان ما يريانه من جمع بينهما أو تفريق بطلاق أو خلع فما فعلا من ذلك لزمهما والأصل فيه قوله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سورة النساء: الآية 128.
3 - سورة النساء: الآية 34.
4 - سورة النساء: الآية 34.(2/42)
ذلك فله أن يضربها ضربا غير مبرح وإن خيف الشقاق بينهما بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها مؤمنين يجمعان إن رأيا أو يفرقان فما فعلا من ذلك لزمهما
ـــــــ
وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} 1.
فصل: واختلفت الرواية عن أحمد في الحكمين فعنه أنهما وكيلان لا يملكان التفريق إلا بإذنهما لأن البضع حقه والمال حق المرأة وهما رشيدان فلا يتصرف غيرهما لهما إلا بوكالة منهما أو ولاية عليهما فكانا وكيلين, وعنه هما حاكمان ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق بعوض وغيره لا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما, روي ذلك عن علي وابن عباس لأن الله سبحانه سماهما حكمين ولا يعتبر رضا الزوجين ثم قال: {إِِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}, فخاطب الحكمين بذلك ولا يمنع أن تثبت الولاية على الرشيد عند امتناعه من أداء الحق كما يقضي الدين من ماله إذا امتنع ويطلق الحاكم على المولى إذا امتنع.
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 35.(2/43)
باب الخلع
وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وخافت أن لا تقيم حدود الله في طاعته فلها أن تفتدي نفسها منه بما تراضيا عليه ويستحب أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها
ـــــــ
باب الخلع
مسألة: "وإذا كانت المرأة مبغضة للرجل وخافت أن لا تقيم حدود الله في طاعته فلها أن تفتدي نفسها منه بما تراضيا عليه"؛ لقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} 1, و روى البخاري قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما أنقم علي ثابت في دين ولا خلق إلا أني أخاف الكفر في الإسلام, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟" قالت: نعم فردت عليه وأمره ففارقها2.
مسألة: "ويستحب أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها" فإن فعل كره وصح روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عباس لقوله سبحانه: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}. وقالت الربيع بنت معوذ: اختلعت من زوجي بما دون عفاص رأسي فأجاز ذلك علي عثمان بن عفان ومثل هذا يشتهر فيكون إجماعا إذا ثبت هذا فإنه إذا فعل جاز مع الكراهة؛ لأنه روي في حديث جميلة فأمره أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد وروي عن عطاء عن ابن
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 229.
2 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5273, 5274, 5275, 5276.(2/43)
فإذا خلعها أو طلقها بعوض بانت منه ولم يلحقها طلاقه بعد ذلك ولو واجهها به ويجوز الخلع بكل ما يجوز أن يكون صداقا, وبالمجهول فلو قالت اخلعني بما في يدي من الدراهم أو ما في بيتي من المتاع ففعل صح وله ما فيهما فإن لم يكن فيهما شيء فله ثلاثة دراهم وأقل ما يسمى متاعا, وإن خالعها على عبد معين فخرج معيبا فله أرشه أو رده وأخذ قيمته وإن خرج مغصوبا أو حرا
ـــــــ
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها فيجمع بين الآية والخبر فنقول: الآية دلت على الجواز والنهي عن الزيادة في الخبر للكراهة.
مسألة: "فإذا خلعها أو طلقها بعوض بانت منه فلم يلحقها طلاقه بعد ذلك وإن واجهها به" فإذا قال الرجل لزوجته: خالعتك أو فاديتك أو فسخت نكاحك أو طلقها على عوض بذلته له ورضي به فقد بانت منه وملكت نفسها بذلك, ولو أراد ارتجاعها لم يكن له ذلك إلا بنكاح جديد, ولو طلقها لم يقع بها طلاقه ولو واجهها به وهو قول ابن عباس وابن الزبير ولم يعرف لهما مخالف في عصرهما فكان إجماعا, ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد فلم يلحقها طلاقه كالمطلقة قبل الدخول والمنقضية عدتها؛ ولأنه لا يملك بضعه فلم يملك طلاقها كالأجنبية, ولا فرق بين أن يواجهها ويقول أنت طالق أو لا يواجهها فيقول فلانة طالق سواء كانت في العدة أو قد خرجت منها.
مسألة: "ويجوز الخلع بكل ما يجوز أن يكون صداقا" لأنه عقد معاوضة؛ ولأن المرأة مخالع بصداقها فما جاز صداقا جاز عوضا في الخلع إلا أن الخلع يصح "بالمجهول", وقال أبو بكر: لا يصح لأنه عقد معاوضة أشبه البيع, ودليل الأول أن الخلع يصح تعليقه على الشرط فجاز أن يستحق به المجهول كالوصية, "فلو قالت: اخلعني على ما في يدي من الدراهم أو ما في بيتي من المتاع" فخالعها على ذلك "صح وله ما فيهما وإن لم يكن فيهما شيء فله ثلاثة دراهم " نص عليه الإمام أحمد؛ لأنه أقل ما يقع عليه اسم الدراهم حقيقة فاستحقه كما لو وصى له بدراهم وكذا إن لم يكن في بيتها متاع فله أقل ما يقع عليه اسم المتاع كالمسألة قبلها.
مسألة: "وإن خالعها على عبد فخرج معيبا فله أرشه أو رده وأخذ قيمته"؛ لأنه عوض في معاوضة فيستحق ذلك كالبيع والصداق.
مسألة: "وإن خرج معصوبا أو حرا فله قيمته" لأنه خالعها على عوض يظنه" مالا فبان غير مال فالخلع صحيح؛ لأنه معاوضة بالبضع فلا يفسد بفساد العوض كالنكاح فإذا ثبتت صحته فإنه يرجع عليها بقيمته لو كان عبدا؛ لأنها عين يجب تسليمها مع سلامتها مع بقاء سبب الاستحقاق فوجب بذلها مقدرا بقيمتها كالمغصوب والمعار.(2/44)
فله قيمته ويصح الخلع من كل من يصح طلاقه ولا يصح بذل العوض إلا ممن يصح تصرفه في المال
ـــــــ
مسألة: "ويصح الخلع من كل من يصح طلاقه" مسلما كان أو ذميا لأنه إذا ملك الطلاق بغير عوض فبعوض أولى.
مسألة: "ولا يصح بذل العوض إلا ممن يصح تصرفه في المال" فلو خالعت المحجور عليها لسفه أو صغر أو جنون لم يصح الخلع؛ لأنه تصرف في المال وليس لهن أهلية التصرف فيه ويقع طلاقه رجعيا لأنه لم يسلم له العوض وسواء أذن لهن الولي أو لم يأذن لأنه ليس له الإذن في التبرعات وهذا تبرع.(2/45)
كتاب الطلاق
مدخل
...
كتاب الطلاق
ولا يصح الطلاق إلا من زوج مكلف مختار ولا يصح طلاق المكره ولا زائل العقل إلا السكران
ـــــــ
كتاب الطلاق
مسألة: "لا يصح الطلاق إلا من زوج مكلف مختار" فإما غير الزوج فلا يصح منه لقوله عليه السلام: "الطلاق لمن أخذ بالساق", وروى الخلال بإسناده عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق قبل نكاح" 1. فأما الصبي العاقل ففيه روايتان: إحداهما لا يقع طلاقه لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم" 2؛ ولأنه غير مكلف أشبه الطفل. والثانية: إن كان ابن عشر وعقل الطلاق صح منه لأنه عاقل أشبه البالغ. "وأما الطفل والمجنون والنائم والزائل العقل لمرض أو شرب دواء أو أكره على شرب الخمر فلا يقع طلاقه"؛ لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" 3. وغير الثلاثة مقيس عليهم.
مسألة: "إلا السكران" فإنه يقع طلاقه إذا كان سكره بغير عذر والشارب لما يزيل عقله من غير حاجة ففيه روايتان: إحداهما يقع طلاقه؛ لما روى أبو وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن, فقلت: إن خالدا يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة. فقال عمر: هؤلاء عندك فسلهم, فقال علي: تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال, فجعلوه كالصاحي ولأنه إيقاع الطلاق من مكلف صادق ملكه فوجب أن يقع كالصاحي ويدل على تكليفه أنه يقتل بالقتل ويقطع بالسرقة. والثانية: لا
ـــــــ
1 - رواه البخاري تعليقا في الطلاق: 9- باب لا طلاق قبل نكاح. والترمذي بنحوه في الطلاق: حديث رقم 1181. وقال: حسن صحيح.
2 - سبق تخريجه.
3 - سبق تخريجه.(2/46)
ويملك الحر ثلاث تطليقات والعبد اثنتين سواء كان تحته حرة أو أمة فمتى استوفى عدد طلاقه لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويطأها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة
ـــــــ
يقع طلاقه وهو قول عثمان, وقال ابن المنذر: هذا ثابت عن عثمان ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفه. قال الإمام أحمد: حديث عثمان أرفع شيء فيه وهو أصح, يعني: من حديث علي وحديث الأعمش عن منصور لا يرفعه إلى علي ولأنه زائل العقل أشبه المجنون والنائم ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره.
مسألة: "ويملك الحر ثلاث تطليقات والعبد اثنتين سواء كان تحته حرة أو أمة" روي ذلك عن عمر وابنه وجماعة من الصحابة؛ ولأن الله سبحانه خاطب الرجال بالطلاق فكان حكمه معتبرا بهم لأن الطلاق خالص حق الزوج وهو مما يختلف بالرق والحرية فكان اختلافه به لعدد المنكوحات؛ ولأن الحر يملك أن يتزوج أربعا فملك طلقات ثلاثا كما لو كان تحته حرة, وعنه أن الطلاق معتبر بالنساء فطلاق الأمة اثنتان حرا كان الزوج أو عبدا, وطلاق الحرة ثلاثة حرا كان زوجها أو عبدا, روي ذلك عن علي وابن مسعود ولما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان". ورواه أبو داود وابن ماجه1؛ ولأن المرأة محل الطلاق فيعتبر بها كالعدة والأولى أولى, وحديث عائشة قال أبو داود رواية مظاهر بن أسلم وهو منكر الحديث وقد أخرجه الدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلاق العبد اثنتان" فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وقرء الأمة حيضتان ويتزوج الحرة على الأمة ولا يتزوج الأمة على الحرة". وهو نص.
مسألة: "فمن استوفى عدد طلاقه لم تحل زوجته حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا ويطأها". أما الحرة فلقوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} 2,[وأما العبد فلحديث عائشة و يجب أن يكون النكاح صحيحا لأن الله سبحانه قال: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ] أطلق النكاح وإنما يحمل المطلق من كلام الله سبحانه على الصحيح لا على الفاسد ويجب أن يطأها أيضا لما روت عائشة أن رفاعة طلق امرأته فبت طلاقها فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزبير فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها كانت عند رفاعة فطلقها ثلاث تطليقات فتزوجت بعده بعبد الرحمن ابن الزبير وإنما معه مثل الهدبة فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة, لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". متفق عليه3.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2189. وابن ماجه في الطلاق: حديث رقم 2079, 2080.
2 - سورة البقرة الآية 230.
3 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5265, 5317. ومسلم في النكاح: حديث رقم 111, 115.(2/47)
رفاعة: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك".
ولا يحل جمع الثلاث ولا طلاق المدخول بها في حيضتها أو في طهر أصابها فيه؛ لما روى ابن عمر أنه طلق امرأة له وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها". والسنة في الطلاق أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه واحدة ثم يدعها حتى
ـــــــ
مسألة: "ولا يحل جمع الثلاث" وهو إحدى الروايتين وهو طلاق بدعة, وهو محرم روي ذلك عن عمر وعلي وجماعة من الصحابة فروي عن عمر أنه كان إذا أتى برجل طلق ثلاثا أوجعه ضربا, وعن مالك بن الحارث قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال: إن عمك عصى الله وأطاع الشيطان فلم يجعل الله له مخرجا؛ ولأنه تحريم للبضع بقول الزوج من غير حاجة فحرم كالظهار, والرواية الأخرى أنه مكروه غير محرم لأن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله, متفق عليه1. ولم ينقل إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه, وفي حديث امرأة رفاعة أنها قالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي. متفق عليه2. وفي حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها أرسل إليها بثلاث تطليقات3, والأولى أولى. وأما حديث المتلاعنين فغير لازم لأن الفرقة لم تقع بالطلاق وإنما وقعت بمجرد لعانها فلا حجة فيه وسائر الأحاديث لم يقع فيها جمع الثلاث بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون مقرا عليه على أن حديث فاطمة بنت قيس أنه أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها وحديث امرأة رفاعة جاء فيه أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات متفق عليه ولم يكن في شيء من ذلك جمع الثلاث.
مسألة: "ولا" يحل "طلاق المدخول بها في حيضها أو في طهر أصابها" فيه لأنه طلاق بدعة محرم, "لما روي أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "مره فليراجعها ثم يمسها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها" 4.
مسألة: "والسنة في الطلاق أن يطلقها في طهر لم يصبها فيه واحدة ثم يدعها حتى
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5308. ومسلم في اللعان: حديث رقم 9, 12.
2 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5260. ومسلم في الطلاق: حديث رقم 1, 2.
3- رواه النسائي في الطلاق: 7- باب الرخصة في ذلك: حديث رقم 2.
4 - رواه البخاري في الأحكام: حديث رقم 7160. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 70.(2/48)
تنقضي عدتها فمتى قال لها أنت طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه طلقت وإن كانت في طهر أصابها فيه أو حيض لم تطلق حتى تطهر من حيضة, وإن قال لها: أنت طالق للبدعة وهي حائض أو في طهر أصابها فيه طلقت وإن لم تكن كذلك لم تطلق حتى يصيبها أو تحيض. فأما غير المدخول بها والحامل التي تبين حملها والآيسة والتي لم تحض فلا سنة لطلاقها ولا بدعة فمتى قال لها أنت طالق للسنة أو للبدعة طلقت في الحال
ـــــــ
تنقضي عدتها" أجمعوا على أن هذا مصيب للسنة مطلق للعدة التي أمر الله سبحانه بها. قاله ابن المنذر وابن عبد البر "فمتى قال أنت طالق للسنة وهي في طهر لم يصبها فيه طلقت" في الحال؛ لأنه وصف الطلقة بصفتها فوقعت في الحال. "وإن قال ذلك لها" وهي في طهر أصابها فيه لم يقع حتى تحيض ثم تطهر"؛ لأن الطهر الذي جامعها فيه والحيض بعده زمن بدعة, فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة طلقت حينئذ لأن الصفة وجدت.
مسألة: "وإن قال ذلك لحائض لم يقع في الحال لأن طلاقها طلاق بدعة لكن إذا طهرت طلقت لأن الصفة وجدت حينئذ".
مسألة: "وإن قال لها أنت طالق للبدعة وهي حائض أو في طهر أصابها فيه طلقت" وإن كانت في طهر لم يصبها فيه طلقت إذا أصابها أو حاضت, وهذه المسألة عكس التي قبلها لأنه وصف الطلقة بأنها للبدعة فإن قال ذلك لحائض أو طاهر طهرا قد أصابها فيه وقع الطلاق لأنه وصف الطلقة بصفتها وإن كانت في طهر لم يصبها فيه لم يقع في الحال فإذا حاضت طلقت بأول جزء من الحيض وإن أصابها طلقت بالتقاء الختانين لأن ذلك وطء.
مسألة: "فأما غير المدخول بها والحامل التي تبين حملها والآيسة والصغيرة التي لم تحض فلا سنة" لها "ولا بدعة فمتى قال لها: أنت طالق للسنة أو للبدعة طلقت في الحال". قال ابن عبد البر: أجمع العلماء أن طلاق السنة إنما هو للمدخول بها أما غير المدخول بها فليس لطلاقها سنة ولا بدعة إلا في عدد الطلاق لأن العدة تطول عليها بالطلاق في الحيض وترتاب بالطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وينتفي عنها الأمران بالطلاق في طهر لم يجامعها فيه, بخلاف غير المدخول بها فإنه لا عدة عليها بنفي تطويلها أو الارتياب فيها, وكذلك ذوات الأشهر وهي الصغيرة التي لم تحض والآيسة لا سنة لطلاقها ولا بدعة؛ لأنها لا تحمل, فترتاب ولا تطول العدة بطلاقها, وكذلك الحامل التي استبان حملها فهؤلاء الأربعة ليس لطلاقهن سنة ولا بدعة, فإذا قال لإحداهن: أنت طالق للسنة أو للبدعة طلقت في الحال ولغت الصفة لأن طلاقهن لا يتصف بذلك فصار كأنه قال: أنت طالق ولم يزد وأما العدد فيكره له أن يطلق واحدة منهن ثلاثا لأنه لا يبقى له سبيل إلى الرجعة فطلاق السنة في حقهم واحدة ليكون له سبيل إلى الرجعة من غير أن تنكح زوجا غيره.(2/49)
باب صريح الطلاق و كنايته
...
باب صريح الطلاق وكنايته
صريحه لفظ الطلاق ما تصرف منه كقوله: أنت طالق أو مطلقة وطلقتك فمتى أتى به بصريح الطلاق طلقت وإن لم ينوه وما عداه مما يحتمل الطلاق فكناية لا يقع به الطلاق إلا أن ينويه فلو قيل له ألك امرأة؟ قال: لا ينوي الكذب لم تطلق فإن قال: طلقتها طلقت وإن نوى الكذب وإن قال لامرأته أنت خلية أو برية أو بائن
ـــــــ
باب صريح الطلاق وكنايته
"صريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه كقوله أنت طالقة أو مطلقة أو طلقتك فمتى أتى" به "طلقت وإن لم ينوه" لأنه موضوع له على الخصوص ثبت له عرف الشرع والاستعمال.
مسألة: "وما عداه مما يحتمل الطلاق فكناية لا يقع به الطلاق إلا أن ينويه فلو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا ينوي الكذب لم تطلق" لأن قوله ما لي امرأة كناية تفتقر إلى نية الطلاق, وإذا نوى الكذب فما نوى الطلاق فلم يقع. "فإن قال: طلقتها طلقت وإن نوى الكذب"؛ لأنه أتى بالصريح الذي لا يحتمل غير الطلاق.
مسألة: "وإن قال لامرأته أنت خلية أو برية أو بائن أو بتة أو بتلة ينوي طلاقها طلقت ثلاثا إلا أن ينوي دونها" في هذه الألفاظ في المذهب روايتان: الأولى هي ثلاث وإن نوى واحدة؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عمر وزيد ولم ينقل خلافهم فكان إجماعا؛ ولأنه لفظ يقتضي البينونة بالطلاق فوقع ثلاثا كما لو طلق ثلاثا واقتضاؤه البينونة ظاهر في قوله أنت بائن, وكذلك البتة لأن البت القطع كأنه قطع النكاح كله وبتلة مثله والخلية والبرية يقتضيان الخلو من النكاح والبراءة منه ولا سبيل إلى البينونة بدون الثلاث ولا يمكن إيقاع واحدة بائن لأنه لا يقدر على ذلك بالصريح من غير عوض فكذلك الكناية, والثانية يقع ما نواه اختاره أبو الخطاب؛ لما روى أبو داود أن ركانة طلق امرأته سهمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة"؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة, فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم1, إلا أن أحمد ضعفه, وروى عنه حنبل رواية ثالثة تقع واحدة بائنة لأنه لفظ أقتضى البينونة دون العدد فوقعت واحدة بائنة كالخلع وذكر أصحابنا من جملة هذه الألفاظ: أنت للحرج
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2196.(2/50)
أو بتة أو بتلة ينوي بها طلاقها طلقت ثلاثا إلا أن ينوي دونها وما عدا هذا يقع به واحدة إلا أن ينوي ثلاثا وإن خير امرأته فاختارت نفسها طلقت واحدة, وإن لم تختر أو اختارت زوجها لم يقع شيء. قالت عائشة: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا؟ وليس لها أن تختار إلا في المجلس إلا أن يجعله لها فيما بعده
ـــــــ
والحقي بأهلك وحبلك على غاربك وأنت حرة ولم يذكرها شيخنا ها هنا أما قوله أنت الحرج وأنت حرة فقال شيخنا: لم يذكرهما لأنه مختلف فيهما ولم يذكرهما الخرقي في الظاهر ولم يعرف فيهما دليلا ظاهرا فتركناهما لذلك, و أما الحقي بأهلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة تزوجها: "الحقي بأهلك". ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليطلق ثلاثا, فإن طلاق الثلاث محرم أو مكروه ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل المحرم ولا المكروه, وقد ذكر الأثرم هذا للإمام أحمد فسكت ولم يجب, والظاهر أنه رجع عن قوله إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه قوله: "الحقي بأهلك" لا يقتضي لفظ الثلاث ولا معناه فإنها قد تلحق بأهلها بطلقة واحدة, وأما قوله حبلك على غاربك فلا نعلم فيه دليلا على الثلاث ولا في لفظها ما يقتضيه فهو كقوله: "الحقي بأهلك".
مسألة: "وما عدا هذا يقع به واحدة" يعني الكنايات الخفية نحو اخرجي واذهبي وذوقي وتجرعي وخليتك وأنت مخلاة وأنت واحدة ولست لي بامرأة واعتدي واستبرئي واعتزلي واختاري ووهبتك لأهلك وسائر ما يدل على الفرقة فهذا يقع به واحدة لأنها اليقين "إلا أن ينوي ثلاثا" لأنه محتمل.
مسألة: "وإن خير امرأته فاختارت نفسها طلقت واحدة" لأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم, فروي عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وجابر وعبد الله بن عمر وعائشة أنهم قالوا في الخيار: إن اختارت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها. رواه البخاري عنهم بأسانيده؛ ولأن قوله اختاري تفويض مطلق فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم وذلك طلقة واحدة, ولا يجوز أن يكون بائنا لأنها بغير عوض لم يكمل بها العدد بعد الدخول فأشبه ما لو طلقها واحدة.
مسألة: "وإن لم تختر أو اختارت زوجها لم يقع شيء قالت عائشة رضي الله عنها: قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكان طلاقا؟".
مسألة: "وليس لها أن تختار إلا في المجلس" وذلك أن أكثر أهل العلم على أن التخيير على الفور روي ذلك عن عمر وعثمان وابن مسعود وجابر ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعا.
مسألة: "إلا أن يجعله لها فيما بعد" المجلس فيجوز لأن الحق له ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال(2/51)
وإن قال: أمرك بيدك أو طلقي نفسك فهو في يده ما لم يفسخ أو يطأ.
ـــــــ
لعائشة لما خيرها: "إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك" 1. فجعل لها الخيار على التراخي. فأما من أطلق الخيار فهو مقصور على المجلس. قال الإمام أحمد رحمه الله: الخيار على مخاطبة الكلام أن تجاوبه ويجاوبها إنما هو جواب كلام إن أجابته من ساعته وإلا فلا شيء.
مسألة: "وإن قال" لها "أمرك بيدك أو طلقي نفسك فهو في يدها ما لم يفسخ أو يطأ" متى قال لزوجته أمرك في يدك فلها أن تطلق نفسها ثلاثا وإن نوى واحدة. قاله عثمان وابن عمر وابن عباس وعلي رضي الله عنهم. قال القاضي: وقد نقل عن الإمام أحمد ما يدل على أنه إذا نوى واحدة فهي واحدة؛ لأنه نوع تخيير فرجع إلى نيته فيه كقوله اختاري, ودليل الأولى أنه لفظ يقتضي العموم في جميع أمرها لأنه اسم جنس مضاف فيتناول الثلاث كما لو قال طلقي نفسك ما شئت ويقبل قوله أردت واحدة لأنه خلاف ما يقتضيه اللفظ وهو في يدها ما لم يفسخ أو يطأ؛ لما روي عن علي في رجل جعل أمر امرأته بيدها قال: هو لها حتى ينكل؛ ولأنه توكيل في الطلاق فكان على التراخي كما لو قال لأجنبي: أمر امرأتي بيدك وفارق قوله اختاري فإنه تخيير فإن رجع الزوج فيما جعل إليها أو قال: فسخت ما جعلت إليك بطل لأنه توكيل فأشبه التوكيل في البيع وإن وطئها قبل اختيارها نفسها كان رجوعا؛ لأنه نوع توكيل والتصرف فيما وكل فيه يبطل الوكالة كذا ها هنا تصرفه بالوطء يبطل وكالته.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في المظلم: حديث رقم 2468. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 89.(2/52)
باب تعليق الطلاق بالشروط
يصح تعليق الطلاق والعتاقة بشرط بعد النكاح والملك ولا يصح قبله فلو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق أو ملكتها فهي حرة فتزوجها أو ملكها لم تطلق
ـــــــ
باب تعليق الطلاق بالشروط
مسألة: "يصح تعليق الطلاق والعتاق بشروط بعد النكاح والملك ولا يصح قبله فلو قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق وإن ملكتها فهي حرة فتزوجها أو ملكها لم تطلق ولم تعتق"؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها" 1. رواه الدارقطني, وفي لفظ: "لا طلاق فيما لا يملك". رواه الترمذي وقال: حديث حسن, وعنه ما يدل على أن الطلاق يقع لأنه يصح تعليقه على الإحضار فصح تعليقه على الملك كالوصية, والمذهب الأول لأن من لا يقع طلاقه بالمباشرة لا يصح تعليقه كالمجنون.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/52)
ولم تعتق, وأدوات الشروط ست: إن, وإذا, وأي, ومتى, ومن, وكلما, وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا كلما, وكلها إذا كانت مثبتة ثبت حكمها عند وجود شرطها, فإذا قال: إن قمت فأنت طالق فقامت طلقت وانحل شرطه, وإن قال: كلما قمت فأنت طالق طلقت كلما قامت وإن كانت نافية كقوله إن لم أطلقك فأنت طالق كانت على التراخي إذا لم ينو وقتا بعينه فلا يقع الطلاق إلا في آخر أوقات الإمكان, وسائر الأدوات على الفور, فإذا قال: متى لم أطلقك فأنت طالق ولم يطلقها طلقت في الحال, وإن قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى زمن يمكن طلاقها فيه ثلاثا ولم
ـــــــ
مسألة: "وأدوات الشرط ست: إن, وإذا, وأي, ومتى, ومن, وكلما, وليس فيها ما يقتضي التكرار إلا كلما" فإذا قال: إن قمت فأنت طالق فقامت طلقت وإن تكرر القيام لم يتكرر الطلاق, وكذا سائرها لأن اللفظ لا يقتضي التكرار لغة, وإن قال: كلما قمت فأنت طالق فقامت طلقت وإن تكرر القيام تكرر الطلاق لأن اللفظ يقتضي التكرار لغة.
مسألة: "وكلها إذا كانت مثبتة ثبت حكمها عند وجود شرطها فإذا قال: إن قمت فأنت طالق فقامت طلقت وانحل شرطه" لأنها تقتضي ذلك "وإن قال: كلما قمت فأنت طالق طلقت كلما قامت" لأنها تقتضي التكرار.
مسألة: "وإن كانت نافية -كقوله: إن لم أطلقك فأنت طالق" -كانت "على التراخي إذا لم ينو وقتا بعينه فلا يقع الطلاق إلا في آخر أوقات الإمكان", وذلك في آخر جزء من حياة أحدهما لا نعلم في هذا خلافا؛ لأن حرف "إن" مجرد يقتضي التراخي إلا أن ينوي وقتا بعينه فيتقيد بذلك الوقت, كقوله إن لم أطلقك -ينوي اليوم- فأنت طالق فإنه يتقيد باليوم, فإذا خرج اليوم ولم يطلقها طلقت.
مسألة: "وسائر الأدوات على الفور" يعني إذا كانت نافية وإن تجردت عن النفي فهي على التراخي مثل قوله: إن خرجت وإذا خرجت ومتى خرجت وأي حين خرجت ومن خرجت منكن وكلما خرجت فأنت طالق, فمتى وجد الخروج طلقت وإن كانت نافية فكلها على الفور؛ لأنها تقتضي ذلك إلا إن على ما سبق. "فإذا قال: متى لم أطلقك فأنت طالق ولم يطلقها طلقت في الحال" لذلك, "وإن قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى زمان يمكن طلاقها فيه ثلاثا ولم يطلقها طلقت ثلاثا" لأن كلما تقتضي التكرار. قال الله سبحانه: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ}, فيقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة والصفة عدم تطليقه لها, فإذا مضى زمن يمكن أن يطلقها فيه بعد يمينه فلم يطلقها فقد وجدت الصفة فتقع طلقة وتتبعها الثانية والثالثة "إن كانت مدخولا بها" وإلا بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأن البائن لا يلحقها طلاق.(2/53)
يطلقها طلقت ثلاثا إن كانت مدخولا بها, وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت توأمين طلقت بالأول وبانت بالثاني؛ لانقضاء عدتها به ولم تطلق به, وإن قال: إن حضت فأنت طالق طلقت بأول الحيض فإن تبين أنه ليس بحيض لم تطلق.
فإن قالت: قد حضت فكذبها طلقت, وإن قال: قد حضت وكذبته طلقت بإقراره, فإن قال: إن حضت فأنت وضرتك طالقتان, فإن قالت: قد حضت قكذبها طلقت دون ضرتها.
ـــــــ
مسألة: "وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت توأمين طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به"؛ لأن العدة انقضت بوضع الثاني فصادفها الطلاق بائنا فلم يقع كما لو قال: إذا مت فأنت طالق.
مسألة: "وإن قال: إن حضت فأنت طالق طلقت بأول الحيض"؛ لأن الصفة وجدت ولذلك حكمنا به حيضا في المنع من الصلاة والصيام والوطء "فإن تبين أنه ليس بحيض لم تطلق" لأنا تبينا أن الصفة لم توجد.
مسألة: "فإن قالت: قد حضت فكذبها طلقت" لأنه يقبل قولها في حق نفسها لقوله سبحانه: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} 1, فلولا أن قولهن مقبول ما حرم الله عليهن كتمانه ويصير كقوله سبحانه: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ}, يدل على قبولها ولأنه لا يعرف إلا من جهتها.
مسألة: "وإن قال: إن قد حضت فكذبته طلقت بإقراره".
مسألة: "وإن قال: حضت فأنت وضرتك طالقتان فقالت: قد حضت فكذبها طلقت دون ضرتها"؛ لأن قولها مقبول على نفسها ولم تطلق الضرة إلا أن تقوم بينة على حيضها.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 228.(2/54)
باب ما يختلف به عدد الطلاق و غيره
...
باب ما يختلف به عدد الطلاق وغيره
المرأة إذا لم يدخل بها تبينها الطلقة وتحرمها الثلاث من الحر والاثنتان من العبد إذا وقعت مجموعة كقوله: أنت طالق ثلاثا أو أنت طالق وطالق وطالق وإن
ـــــــ
باب ما يختلف به عدد الطلاق وغيره
مسألة: "المرأة إذا لم يدخل بها تبينها الطلقة وتحرمها الثلاث من الحر والاثنتان من العبد إذا وقعت مجموعة كقوله أنت طالق ثلاثا أو" قوله "أنت طالق وطالق وطالق", وذلك أن غير المدخول بها تبين بطلقة لقوله سبحانه: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}, وأما كونها تحرم بالثلاث من الحر فلقوله سبحانه: {الطَّلاَقُ(2/54)
أوقعه مرتبا كقوله أنت طالق فطالق أو ثم طالق أو طالق بل طالق أو أنت طالق أنت طالق وإن طلقتك فأنت طالق ثم طلقها أو كلما طلقتك فأنت طالق أو كلما ثم أطلقك فأنت طالق وأشباه هذا لم يقع بها إلا واحدة, وإن كانت مدخولا بها وقع بها جميع ما أوقعه ومن شك في الطلاق أو عدده أو الرضاع أو عدده بنى على اليقين وإن قال لنسائه: إحداكن طالق ولم ينو واحدة بعينها خرجت بالقرعة وإن طلق جزءا
ـــــــ
مَرَّتَانِ} 1, ثم قال بعد ذلك: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ}, وتحرم الاثنتان من العبد روي ذلك عن علي وابن مسعود لما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلاق العبد اثنتان فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وقرء الأمة حيضتان. ويتزوج الحرة على الأمة ولا يتزوج الأمة على الحرة"2. وهذا النص رواه الدارقطني.
مسألة: "وإن أوقعه مرتبا كقوله أنت طالق فطالق" أو "طالق ثم طالق أو طالق بل طالق أو أنت طالق أنت طالق أو إن طلقتك فأنت طالق ثم طلقها أو كلما طلقتك فأنت طالق أو كلما لم أطلقك فأنت طالق وأشباه هذا لم يقع إلا واحدة" لأنها تبين بالأولى فلا تقع الثانية لأنها حروف تقتضي الترتيب فتقع الأولى بها فتبينها ثم تأتي الثانية فتصادفها قد بانت عن نكاحه فتلغو.
مسألة: "ولو كانت مدخولا بها وقع بها جميع ما أوقعه" لأنها لا تبينها الأولى فتأتي الثانية فتصادف محل النكاح فتقع.
مسألة: "ومن شك في الطلاق أو عدده أو الرضاع أو عدده بنى على اليقين" لأن النكاح من متيقن فلا يزول عنه بالشك.
مسألة: "وإن قال لنسائه: إحداكن طالق ولم ينو واحدة بعينها أخرجت بالقرعة" لأن الحقوق إذا تساوت على وجه لايمكن التمييز إلا بالقرعة صح استعمالها كالشريكين إذا اقتسما فإنه يسوى بينهما ويقرع بينهما, وكذلك العبيد إذا أعتقهم في مرضه ولم يخرج من ثلثه إلا واحد منهم فإنه يقرع بينهم فكذلك ها هنا.
مسألة: "وإن طلق جزءا من امرأته مشاعا أو معينا كإصبعها أو يدها طلقت كلها" لأنها جملة لا تتبعض في الحل والحرمة وجد فيها ما يقتضي التحريم والإباحة فغلب فيها حكم التحريم كما لو اشترك مسلم ومجوسي في صيد ولأنه أضاف الطلاق إلى جزء ثابت استباحه بعقد النكاح فأشبه الجزء الشائع فإن من خالف في ذلك قد سلمه
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 229.
2 - سبق تخريجه.(2/55)
من امرأته مشاعا أو معينا كإصبعها أو يدها طلقت كلها إلا الظفر والسن والشعر والريق والدمع ونحوه لا تطلق به وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة أو أقل من هذا طلقت واحدة.
ـــــــ
مسألة: "إلا الظفر والسن والشعر والريق والدمع ونحوه لا تطلق به" لأنه جزء ينفصل عنها في حال السلامة فلم تطلق بطلاقه كالحمل والريق؛ ولأن الشعر لا روح فيه ولا ينقض الوضوء مسه فأشبه العرق والريق واللبن وقبل تطلق إذا طلق الظفر والشعر والسن لأنه جزء يستباح بنكاحها أشبه الإصبع ولنا ما سبق وأما الإصبع فإنها لا تنفصل في حال السلامة بخلاف السن فإن ماله إلى الانفصال والدمع والعرق والحمل والريق متفق عليها لا نعلم فيها خلافا.
مسألة: "وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة أو أقل من هذا طلقت واحدة" لأن الطلقة لا تتبعض فتقع كلها لأن ذكر ما لا يتبعض في الطلاق مثل ذكر جميعه كما لو قال نصفك طالق. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أنها تطلق بذلك إلا داود.(2/56)
باب الرجعة
إذا طلق امرأته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث أو العبد أقل من اثنتين فله رجعتها ما دامت في العدة لقول الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} والرجعة أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا أنني قد راجعت زوجتي أو رددتها أو أمسكتها من غير ولي ولا صداق يزيده ولا رضائها وإن وطئها كان رجعة.
ـــــــ
باب الرجعة
مسألة: "وإذا طلق" الرجل "امرأته بعد الدخول بغير عوض أقل من ثلاث أو العبد أقل من اثنتين فله رجعتها ما دامت في العدة" لقوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} 1, يعني فى العدة ذكر ذلك بعد قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 2, والمراد بهذه الآية المدخول بها بدليل أن غير المدخول بها ليس عليها عدة بقوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.
مسألة: "والرجعة أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا أني قد راجعت زوجتي أو رددتها أو أمسكتها من غير ولي ولا صداق يزيده ولا رضاها" للآية.
مسألة: "وإن وطئها كانت رجعة" سواء نوى الرجعة أو لم ينو لأن سبب زوال
ـــــــ
1 - سورة البقرة: 228.
2 - سورة البقرة: الآية 228.(2/56)
والرجعية زوجة يلحقها الطلاق والظهار ولها التزين لزوجها والتشرف له وله وطؤها والخلوة والسفر بها, وإذا ارتجعها عادت على ما بقي من طلاقها ولو تركها حتى بانت ثم نكحت زوجا غيره ثم بانت منه وتزوجها الأول رجعت إليه على ما بقي
ـــــــ
الملك انعقد مع الخيار فالوطء من المالك يمنع زوال الملك كوطء البائع في مدة الخيار.
مسألة: "والرجعية زوجة" بدليل أن الله سبحانه سمى الرجعة إمساكا بقوله سبحانه: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}, وسمى المطلقين بعولة فقال عز من قائل: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ}. فـ "يلحقها" طلاقه وظهاره ولعانه وخلعه ويرثها وترثه لأنها زوجته فثبت فيها ذلك كما قبل الطلاق.
مسألة: "ولها التزين لزوجها والتشرف له وله وطؤها والخلوة والسفر بها" لذلك؛ ولأن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} 1, وهذه زوجة فيباح له منها ما يباح من الزوجات.
مسألة: "وإذا ارتجعها عادت على ما بقي من طلاقها" ولا تخلو المطلقة من ثلاثة أحوال: الأول أن يطلقها ثلاثا فتنكح زوجا غيره ويصيبها ثم يتزوجها الأول فهذه تعود إليه على طلاق ثلاث بإجماع منهم. قاله ابن المنذر, والثاني: أن يطلقها دون الثلاث ثم تعود إليه برجعة أو نكاح جديد قبل زوج ثان فهذه تعود إليه على ما بقي من طلاقها بغير خلاف نعلمه. الثالث: طلقها دون الثلاث فقضت عدتها ثم نكحت غيره ثم تزوجها الأول فإنها تعود إليه على ما بقي من الثلاث وهو قول الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر وعلي وأبى ومعاذ وعمران بن حصين وأبي هريرة وزيد وعبد الله بن عمر, وعنه تعود إليه على طلقات ثلاث وهو قول ابن عمر وابن عباس لأن وطء الزوج الثاني مثبت للحل فيثبت حلا يتسع لثلاث طلقات كما بعد الثلاث؛ ولأن وطء الثاني يهدم الطلقات الثلاث فأولى أن يهدم ما دونها, ودليل الأولى أن وطء الثاني لا يحتاج إليه لإحلال الزوج الأول فلا يعتبر حكم الطلاق كوطء السيد؛ ولأنه تزويج قبل استيفاء الثلاث فأشبه ما لو رجعت إليه قبل وطء الثاني, وقولهم إن وطء الثاني يثبت الحل فلا يصح لوجهين: أحدهما منع كونه مثبتا للحل أصلا وإنما هو في الطلاق الثلاث غاية للتحريم بدليل قوله: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, وحتى للغاية وإنما سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزوج الذي قصد الحلية محللا تجوزا بدليل أنه لعنه ومن أثبت حلا لا يستحق لعنا الثاني أن الحل إنما يثبت في محل فيه تحريم وهي المطلقة ثلاثا, وها هنا هي حلال له فلا يثبت فيها حل آخر وقولهم إنه يهدم الطلاق قلنا بل هو غاية لتحريمه وما دون الثلاث لا تحريم فيه فلا يكون غاية له.
ـــــــ
1 - سورة المؤمنون: الآية 5.(2/57)
من طلاقها, وإذا اختلفا في انقضاء عدتها فالقول قولها مع يمينها إذا ادعت من ذلك ممكنا, وإن ادعى الزوج بعد انقضاء عدتها أنه قد راجعها في عدتها فأنكرته فالقول قولها, وإن كانت له بينة حكم له بها فإن كانت قد تزوجت ردت إليه سواء كان دخل بها الثاني أو لم يدخل بها.
ـــــــ
مسألة: "وإذا اختلفا في انقضاء عدتها فالقول قولها مع يمينها إذا ادعت من ذلك ممكنا" لقول الله سبحانه: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}, فلولا أن قولهن مقبول ما حرم عليهن كتمانه كالشهود لما حرم عليهم كتمان الشهادة دل على قبولها منهم, وقوله: إذا ادعت من ذلك ممكنا يعني أنها تدعي انقضاء عدتها بالقروء في زمان يمكن انقضاؤها فيه كالشهرين ونحوهما, وإن ادعت انقضاءها في مدة لا يمكن انقضاؤها فيها لم تسمع دعواها مثل أن تدعي انقضاءها بالقروء في أقل من ثمانية وعشرين يوما إذا قلنا الأقراء الأطهار أو في أقل من تسعة وعشرين يوما إذا قلنا هي الحيض, لأننا نعلم كذبها وإن ادعت انقضاءها بالقروء في شهر لم تقبل دعواها إلا ببينة؛ لأنه يروى عن علي ولأنه يندر جدا فيرجع ببينة فإذا زاد على الشهرين لم يندر كندرته في الشهر فقبل من غير بينة.
مسألة: "وإن ادعى الزوج بعد انقضاء عدتها أنه قد كان راجعها في عدتها فأنكرته فالقول قولها" بإجماعهم؛ لأنه ادعاها في زمن لا يملكها والأصل عدم الرجعة وحصول البينونة.
مسألة: "وإن كانت له بينة حكم له بها"؛ لقوله: "البينة على المدعي". "فإن كانت قد تزوجت ردت إليه سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل بها" لأنها زوجته فترد إليه كما لو لم يتزوج.(2/58)
باب العدة
ولا عدة على من فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس والخلوة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}, والمعتدات ينقسمن أربعة أقسام :
إحداهن: أولات الأحمال فعدتهن أن يضعن حملهن
ـــــــ
باب العدة
مسألة: "ولا عدة على من فارقها زوجها في الحياة قبل المسيس" لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}.
مسألة: "والمعتدات ينقسمن أربعة أقسام: إحداهن أولات الأحمال فعدتهن أن(2/58)
ولو كانت حاملا بتوأمين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما والحمل الذي تنقضي به العدة وتصير به الأمة أم ولد ما يتبين فيه خلق الإنسان.
الثاني: اللاتي توفي أزواجهن {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} والإماء على النصف من ذلك وما قبل المسيس وما بعده سواء.
الثالث: المطلقات من ذوات القروء {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقرء الأمة حيضتان
ـــــــ
يضعن حملهن" حرائر كن أو إماء من فرقة الحياة أو الممات لقوله سبحانه: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 1.
مسألة: "ولو كانت حاملا باثنين لم تنقض عدتها حتى تضع الثاني منهما" للآية.
مسألة: "والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه" شيء "من خلق الإنسان"؛ لأنه ولد. "الثاني: اللاتي توفي أزواجهن {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} " إن كانت حرة وشهرين وخمسة أيام إن كانت أمة وسواء مات قبل الدخول أو بعده إذا لم تكن حاملا لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 2, وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا". متفق عليه3.
مسألة: "والأمة على النصف من ذلك" لأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن عدة الأمة المطلقة نصف عدة الحرة فيجب أن يكون المتوفى عنها زوجها عدتها نصف عدة الحرة. "الثالث: المطلقات من ذوات القروء {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقرء الأمة حيضتان"؛ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلاق الأمة طلقتان وقرءها حيضتان" 4.
فصل: وفي الأقراء روايتان: إحداهما هي الحيض لهذا الخبر وقول الصحابة رضي الله عنهم و قوله عليه السلام: "تدع الصلاة أيام أقرائها". رواه أبو داود5, وقال لفاطمة: "فإذا أتى قرءك فلا تصلي وإذا مر قرءك فتطهري ثم صلي ما بين القرء إلى القرء". رواه النسائي6؛ ولأنه
ـــــــ
1 - سورة الطلاق: الآية 4.
2 - سورة البقرة: الآية 234.
3 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5334. ومسلم في الطلاق: حديث رقم 58, 59.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه أبو داود في الطهارة: حديث رقم 281.
6 - رواه النسائي في الطهارة: 136- باب ذكر الأقراء: حديث رقم 3.(2/59)
الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} والأمة شهران,
ويشرع التربص مع العدة في ثلاثة مواضع :
أحدها: إذا ارتفع حيض المرأة لا تدري ما رفعه فإنها تتربص تسعة أشهر ثم تعتد عدة الآيسات وإن عرفت ما رفع
ـــــــ
معنى يستبرئ به الرحم فكان بالحيض كاستبراء الأمة, والثانية: القروء للأطهار لقوله سبحانه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}, إلا في عدتهن وإنما تطلق في الطهر فإذا قلنا هي الحيض لم يحتسب بالحيضة التي طلقها فيها حتى تأتي بثلاث كاملة بعدها لقوله سبحانه: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}, فتتناول الكاملة فإذا انقطع دمها من الثالثة حلت في إحدى الروايتين لأن ذلك أخر القروء وفي الأخرى لا تحل حتى تغتسل من الحيضة الثالثة؛ لأنه يروى عن الأكابر من الصحابة رضي الله عنهم: أبي بكر وعثمان وعبادة وأبي موسى وأبي الدرداء رضي الله عنهم, وإن قلنا الإقراء الأطهار أحتسبت بالطهر الذي طلقها فيه قرءا ولو بقي منه لحظة لقوله سبحانه: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}, أي في عدتهن, وإنما يكون في عدتهن إذا احتسبن بت؛ ولأن الطلاق إنما جعل في الطهر دون الحيض كي لا يضر بها فتطول عدتها ولو لم تحتسب ببقية الطهر قرءا لم تقض عدتها بالطلاق فيه, وآخر العدة آخر الطهر. الثالث: إذا رأت الدم بعده انقضت عدتها. "الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} "؛ لقوله سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} 1, هذا إذا كانت حرة, "و" إن كانت "أمة" فعدتها "شهران"؛ لأن كل شهر مكان قرء وعدتها بالإقراء قرآن, وعنه عدتها ثلاثة أشهر لعموم الآية ولأن اعتبار الشهور لمعرفة براءة الرحم ولا تحصل بأقل من ثلاثة, وعنه عدتها شهر ونصف لأن عدتها نصف عدة الحرة, وإنما كملنا الأقراء لتعذر تنصيفها وتنصيف الأشهر ممكن.
مسألة: "ويشرع التربص مع العدة في ثلاثة مواضيع: أحدها إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فإنها تتربص تسعة أشهر ثم تعتد عدة الآيسات" تسعة أشهر للحمل؛ لأنها غالب مدته ثم تعتد بعد ذلك ثلاثة أشهر عدة الآيسات. قال الشافعي رحمه الله: هذه فتيا عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار ولم ينكرها منكر علمناه فصار إجماعا.
مسألة: "وإن عرفت ما رفع الحيض" من مرض أو رضاع أو نفاس "فإنها تنتظر زوال العارض وعود الدم وإن طال فإن عاد الدم اعتدت به" ,وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كان عند جده امرأتان هاشمية وأنصارية فطلق الأنصارية وهي ترضع
ـــــــ
1 - سورة الطلاق: الآية 4.(2/60)
الحيض لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به. الثاني: المفقود الذي فقد في مهلكة أو من بين أهله فلم يعلم خبره تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة, وإن فقد في غير هذا كالمسافر للتجارة ونحوها لم تنكح حتى تتيقن موته. الثالث: إذا ارتابت
ـــــــ
فمرت بها سنة ثم هلك ولم تحض, فقالت الأنصارية: لم أحض فاختصموا إلى عثمان فقضى لها بالميراث فلامت الهاشمية عثمان, فقال: هذا عمل ابن عمك هو أشار علينا بهذا يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه. "الثاني: امرأة المفقود الذي", انقطع خبره وهو قسمان: أحدهما أن تكون غيبة ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله ليلا أو نهارا أو في مفازة مهلكة أو بين الصفين, فإن زوجته "تتربص أربع سنين" أكثر مدة الحمل "ثم تعتد للوفاة" أربعة أشهر وعشرا وتحل للأزواج, وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير. قال الإمام أحمد: من ترك هذا القول أي شيء يقول؟ هو عن خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. القسم الثاني: "من انقطع خبره لغيبة ظاهرها السلامة" كالتاجر والسائح, فإن امرأته تبقى أبدا إلى أن "تتيقن موته"؛ لأنها زوجته بيقين فلا تزول بالشك, روي ذلك عن علي رضي الله عنه, وعنه إذا مضى له تسعون سنة قسم ماله وهذا يقتضي أن زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج. قال أصحابنا: إنما اعتبروا التسعين سنة من يوم ولادته لأن الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر, فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب الحكم بموته كما لو كان فقده لغيبة ظاهرها الهلاك, والمذهب الأول؛ لأن هذه غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قبل الأربع سنين أوكما قبل التسعين. "الثالث: إذا ارتابت المرأة قبل قضاء عدتها لظهور أمارات الحمل" من الحركة وانتفاخ البطن وانقطاع الحيض "لم تنكح حتى تزول الريبة" , وذلك أن المرتابة لا تخلو من ثلاثة أحوال: أحدها أن تحدث لها الريبة قبل انقضاء عدتها فإنها تبقى في حكم الإعتداد حتى تزول الريبة فإن بان حمل انقضت عدتها بوضعه, وإن زال وبان أنه ليس بحمل تبينا أن عدتها انقضت بمضي الأقراء والشهور, فإن تزوجت قبل زوال الريبة لم يصح النكاح لأنها تزوجت وهي في حكم المعتدة في الظاهر. الثاني: أن تظهر الريبة بعد قضاء العدة والتزويج فالنكات صحيح لأنه وجد بعد انقضاء العدة والحمل مع الريبة مشكوك فيه فلا يزول به ما حكم بصحته لكن لا يحل لزوجها وطئها لأنا شككنا في صحة النكاح, ثم ننظر فإن وضعت الولد لأقل من ستة أشهر منذ تزويجها الثاني ووطئها فنكاحه باطل؛ لأنه نكحها وهي حامل, وإن أتت به لأكثر من ذلك فالولد لاحق به والنكاح صحيح. الحال الثالث: ظهرت الريبة بعد قضاء العدة وقبل النكاح ففيه وجهان: أحدهما لا يحل لها أن تتزوج فالنكاح باطل؛ لأنها تزوجت مع الشك في انقضاء العدة فلم يصح كما لو وجدت الريبة في العدة. والثاني: يحل لها النكاح ويصح لأننا حكمنا بانقضاء العدة وحل النكاح وسقوط النفقة.(2/61)
المرأة بعد انقضاء عدتها لظهور أمارات الحمل لم تنكح حتى تزول الريبة فإن نكحت لم يصح النكاح وإن ارتابت بعد نكاحها لم يبطل نكاحها إلا إن علمت أنها نكحت وهي حامل, ومتى نكحت المعتدة فنكاحها باطل ويفرق بينهما وإن فرق
ـــــــ
والسكنى فلا يجوز زوال ما حكم به في الشك الطارىء ولهذا لا ينقض الحاكم ما حكم به بتغير اجتهاده ورجوع الشهود.
مسألة: "ومتى نكحت المعدة فنكاحها باطل ويفرق بينهما" لا يجوز نكاح معتدة إجماعا إلى عدة كانت لقوله سبحانه: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} 1, وإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من النكاح لحق الزوج الأول فكان نكاحها باطلا كما لو تزوجت وهي في نكاحه ويجب أن يفرق بينهما لذلك.
مسألة: "وإن فرق بينهما قبل الدخول أتمت عدة الأول" ولا تنقطع بالعقد الثاني لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا تستحق بالعقد شيئا, وإن فرق بينهما "بعد الدخول بنت على عدة الأول" وتستأنف "العدة للثاني" وتقدم عدة الأول؛ لأن حقه أسبق ولأن عدته وجبت عن وطء صحيح ولا تتداخل العدتان لأنهما من رجلين. قال أبو حنيفة: تتداخل لأن القصد معرفة براءة الرحم وهذا يحصل به براءة الرحم منهما جميعا, ولنا ما روى الشافعي في مسنده: حدثنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن طلحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحت في عدتها فضربها عمر وضرب زوجها وفرق بينهما, ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما, ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب, وإن كان قد دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر ولا ينكحها أبدا, وروى بإسناده عن علي أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر وهذان قولان سديدان من الخلفاء ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة؛ ولأنهما حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين.
مسألة: "وله نكاحها" يعني الثاني "بعد قضاء العدتين" وعنه أنها تحرم عليه على التأبيد لقول عمر: لا ينكحها أبدا ولأنه استعجل الحق قبل وقته فحرمه في وقته كالوارث إذا قتل موروثه؛ ولأنه يفسد النسب فوقع التحريم المؤبد كاللعان ولنا على إباحتها له أنه لا يخلو إما أن يكون تحريمها بالعقد أو بالوطء في النكاح الفاسد أو بهما, وجميع ذلك لا يقتضي التحريم بدليل ما لو زنى بها, وما روي عن عمر في تحريمها فقد خالفه علي, وروي عن عمر أنه رجع عن قوله في التحريم إلى قول علي فإن عليا قال: فإذا انقضت
ـــــــ
1 - سورة القرة: الآية 235.(2/62)
بينهما قبل الدخول أتمت عدة الأول وإن كان بعد الدخول بنت على عدة الأول من حين دخل بها الثاني واستأنفت العدة للثاني وله نكاحها بعد انقضاء العدتين, وإن أتت بولد من أحدهما انقضت به عدته واعتدت للآخر وإن أمكن أن يكون منهما أري القافة فألحق بمن ألحقوه منهما وانقضت به عدتها منه واعتدت للآخر.
ـــــــ
عدتها فهو خاطب من الخطاب, فقال عمر: ردوا الجهالات إلى السنة ورجع إلى قول علي وقياسه يبطل بما لو زنى بها فإنه استحل وطئها ولا تحرم عليه على التأبيد.
مسألة: "وإن أتت بولد من أحدهما انقضت عدتها به" منه "واعتدت للآخر" فإن كان يمكن أن يكون من الأول دون الثاني -وهو أن تأتي به لدون ستة أشهر من وطء الثاني وأربع سنين فما دونها من فراق الأول -فإنه يلحق الأول وتنقضي به عدتها منه, ثم تعتد بثلاثة أقراء عن الثاني وإن أتت به لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين من وطء الثاني ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول فهو يلحق الثاني دون الأول فتنقضي به عدتها عن الثاني ثم تتم عدة الأول, وتقدم ها هنا عدة الثاني على عدة الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من إنسان وتعتد به من غيره.
مسألة: "وإن أمكن أن يكون منهما" وهو أن تأتي لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني ولأربع سنين فما دونها من بينونتها من الأول, "أرى القافة" فإن ألحقته بالأول لحق به كما لو أمكن أن يكون منه دون الثاني "وانقضت به عدتها منه واعتدت للآخر" وإن ألحقته بالثاني لحق به وانقضت به عدتها منه وأعتدت للآخر.
فصل: وإن أشكل أمره على القافة أو لم يكن قافة لزمها أن تعتد بعد وضعه بثلاثة أقراء لأنه إن كان من الأول فقد أتت بما عليها من عدة الثاني وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول ليسقط الفرض بيقين.(2/63)
باب الإحداد
وهو واجب على من توفي عنها زوجها وهو اجتناب الزينة والطيب والكحل بالإثمد ولبس الثياب المصبوغة للتحسين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحد
ـــــــ
باب الإحداد
"وهو واجب على المتوفى عنها زوجها" لما روت أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا" 1.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/63)
امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا" ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا إلا إذا اغتسلت نبذة من قسط أو أظفار وعليها المبيت في منزلها الذي وجبت عليها العدة وهي ساكنة فيه إذا أمكنها ذلك فإن خرجت لسفر أو حج فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في بيتها وإن
ـــــــ
"ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا". الاعتداد في طهرها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قسط أو أظفار, متفق عليه. وفي حديث أم سلمة: "لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق1 ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل". رواه النسائي2 وهو اجتناب الطيب والكحل بالإثمد ولبس الثياب المصبوغة لحديث أم عطية وأم سلمة.
مسألة: "وعليها المبيت في منزلها الذي وجبت عليها العدة وهي ساكنة فيه" روي ذلك عن عمر وابنه وأم سلمة لما روت فريعة بنت مالك بن سنان أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم". قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة -أو في المسجد- دعانى فقال: "كيف قلت؟", فرددت عليه القصة فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى بت, رواه مالك في موطئه وأبو داود والأثرم وهو حديث صحيح3, فعلى هذا يجب عليها أن تعتد فيه سواء كان ملكا لزوجها أو معه بأجرة أو عارية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفريعة: "أمكثي في بيتك", ولم تكن في بيت يملكه زوجها وفي بعض الألفاظ: "اعتدي في البيت الذي أتاك فيه" يعني زوجك فإن أتاها الخبر في غير مسكنها رجعت إلى مسكنها للخبر وهذا "إذا أمكنها ذلك فإن" لم يمكنها بأن يحولها مالكه أو تخشى من هدم أو غرق أو عدو فإنها تنتقل لأنه عذر ولأن القعود للعدة لدفع الضرر عن الزوج في حفظ نسب ولده والضرر لا يزال بالضرر.
مسألة: "فإن خرجت لسفر أو حج فتوفي زوجها وهي قريبة رجعت لتعتد في بيتها" لأنها في حكم الإقامة "وإن تباعدت" خيرت بين البلدين لأن البلدين تساويا فكانت الخيرة إليها فيما المصلحة لها فيه لأنها أخبر بمصلحتها وإن خشيت فوات الحج مضت في
ـــــــ
1 - قوله: الممشف: المصبوغ بطين أحمر.
2 - رواه المسائي في الطلاق: 64- باب ما يجتنب الحادة من الثياب المصبغة: حديث رقم 2.
3 - سبق تخريجه.(2/64)
تباعدت مضت في سفرها والمطلقة ثلاثا مثلها إلا في الاعتداد في بيتها
ـــــــ
سفرها لأنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب أن يقدم الأسبق منهما كما لو كانت العدة أسبق.
مسألة: "والمطلقة ثلاثا مثلها إلا في الاعتداد في بيتها" فلا يجب عليها العدة في منزله وتعتد حيث شاءت نص عليه لما روت فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته, فقال: والله مالك علينا من شيء فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "ليس لك عليه نفقة ولا سكنى" وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك. ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي في بيت ابن أم مكتوم". متفق عليه1.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الطلاق: حديث رقم 5325, 5326. ومسلم في الطلاق: حديث رقم 53.(2/65)
باب نفقة المعتدات
وهن ثلاثة أقسام :
أحدها: الرجعية وهي من يمكن زوجها إمساكها فلها النفقة والسكنى ولو أسلم زوج الكافرة أو ارتدت امرأة المسلم فلا نفقة لهما, وإن أسلمت امرأة الكافر أو ارتد زوج المسلمة بعد الدخول فلهما نفقة العدة. الثاني: البائن في الحياة بطلاق أو فسخ فلا سكنى لها بحال ولها النفقة إن كانت حاملا وإلا
ـــــــ
باب نفقة المعتدات
"وهي ثلاثة أقسام: أحدها الرجعية" وهي "من يمكن زوجها إمساكها فلها النفقة والسكنى" والكسوة كالزوجة سواء لأنها زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه فكانت لها النفقة كغير المطلقة. "الثاني: البائن في الحياة بطلاق أو فسخ" [فإن لم تكن حاملا] "فلا سكنى لها بحال ولا نفقة" وهو قول علي وابن عباس وجابر ودليله حديث فاطمة بنت قيس ولأنها محرمة عليه أشبهت الأجنبية.
مسألة: "ولها النفقة" والسكنى "إن كانت حاملا" بإجماع أهل العلم لقوله سبحانه: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} 1, إلى قوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}, وفي بعض ألفاظ حديث فاطمة: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا" ولأن الحمل ولده فيلزمه الإنفاق عليه ولا يمكنه الإنفاق عليه إلا بالإنفاق عليها فوجبت كما وجبت أجرة الرضاع, "الثالث: المتوفى عنها زوجها فلا نفقة لها ولا سكنى" إن كانت حائلا وإن كانت حاملا ففيه روايتان: إحداهما لها النفقة والسكنى لأنها حامل.
ـــــــ
1 - سورة الطلاق: الآية6.(2/65)
فلا. الثالث: التي توفي عنها زوجها فلا نفقة لها ولا سكنى
ـــــــ
أشبهت المفارقة في الحياة والثانية لا نفقة لها ولا سكنى, قال القاضي: وهي أصح لأن المال قد صار للورثة ونفقة الحامل إنما هي للحمل أو من أجله ونفقة الحمل من نصيبه من الميراث كما بعد الولادة.(2/66)
باب استبراء الإماء
وهو واجب في ثلاثة مواضع: أحدها: من ملك أمة لم يصبها حتى يستبرئها.
الثاني: أم الولد والأمة التي يطؤها سيدها لا يجوز له تزويجها حتى يستبرئها. الثالث: إذا أعتقهما سيدهما أو عتقا بموته لم ينكحا حتى يستبرئا أنفسهما والاستبراء في جميع ذلك بوضع الحمل إن كانت حاملا أو حيضة إن كانت تحيض
ـــــــ
باب استبراء الإماء
"وهو واجب في ثلاثة مواضع: أحدها: من ملك أمة لم يصبها حتى يستبرئها" وكذا لا يحل له الاستمتاع بها بمباشرة وقبلة حتى يستبرئها؛ لما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سبايا أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض حيضة. رواه الإمام أحمد في المسند1. وروى الأثرم عن رويفع ابن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره, ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأ جارية من السبي حتى يستبرئها بحيضة". ولأنه إذا وطئها قبل استبرائها أدى إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب.
"الثاني: أم الولد والأمة التي يطأها سيدها لا يجوز له تزويجها حتى يستبرئها" لأن الزوج لا يلزمه استبراؤها فإذا لم يستبرئها السيد أفضى إلى اختلاط المياه واشتباه الأنساب. "الثالث: إذا أعتقهما سيدهما أو عتقا بموته" يعني أم الولد والأمة كأن يصيبهما "لم ينكحا حتى يستبرئا أنفسهما" لأنهما صارتا فراشا له.
مسألة: "والاستبراء" يحصل "في جميع ذلك بوضع الحمل إن كانت حاملا أو بحيضة إن كانت" ممن "تحيض" لما روى أبو سعيد.
مسألة: "وإن كانت" من الآيسات "أو ممن لم يحضن" كالصغيرة ففيها ثلاث روايات: إحداهن تستبرأ بشهرين كعدة الأمة الثانية: "تستبرأ بشهر" لأن الشهر أقيم مقام الحيضة في عدة الحرة والأمة. والثالثة: بثلاثة أشهر. قال أحمد بن القاسم: قلت لأبي
ـــــــ
1 رواه أحمد في المسند 4/127.(2/66)
أو شهر إن كانت آيسة أو من اللائي لم يحضن أو عشرة أشهر إن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه
ـــــــ
عبد الله: كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان الحيضة وإنما جعل الله في القرآن الكريم مكان كل حيضة شهرا؟ فقال: من أجل الحمل فإنه لا يتبين في أقل من ذلك فإن عمر بن عبد العزيز سأل عن ذلك وجمع أهل العلم والقوابل فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر فأعجبه ذلك, ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود: إن النطفة أربعين يوما ثم علقة أربعين يوما ثم مضغة بعد ذلك فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة وهي لحم فيتبين حينئذ وهذا معروف عند النساء.
مسألة: "وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه" استبرأت بعشرة أشهر تسعة للحمل وشهر مكان الحيضة, وعنه سنة تسعة أشهر للحمل لأنها غالب مدته في حق الحرائر والإماء وثلاثة أشهر مكان الثلاثة التي تستبرأ بها الآيسات, وعنه في أم الولد إذا مات سيدها اعتدت أربعة أشهر وعشرا لما روي عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تفسدوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر؛ ولأنه استبراء الحرة من الوفاة أشبهت الحرة والأول أصح وخبر عمرو لا يصح قاله أحمد رحمه الله.(2/67)
كتاب الظهار
وهو أن يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي أو من تحرم عليه على التأبيد أو يقول أنت علي كأبي يريد تحريمها به فلا تحل له حتى يكفر بتحرير رقبة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}, {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} { فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
ـــــــ
كتاب الظهار
"وهو أن يقول لامرأته أنت علي كظهر أمي" فهذا ظهار إجماعا. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن تصريح الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي و في حديث خويلة أنه قال لها: أنت علي كظهر أمي فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالكفارة.
مسألة: وإن قال أنت علي كظهر "من تحرم عليه على التأبيد" كجدته وعمته وخالته فهذا أيضا ظهار في قول أكثرهم لأنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم, وإن قال "أنت علي كأبي يريد تحريمها" كان مظاهرا؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فأما إن قال: أنت علي كأمي وقال: أردت في الكرامة دين لأن لفظه يحتمل وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين: إحداهما يقبل لذلك, والثانية: لا يقبل؛ لأنه لما قال أنت علي كأمي اقتضى أن يكون عليه فيها تحريم فأشبه ما لو قال أنت علي كظهر أمي فأما إن قال أنت علي كأمي وأطلق ذلك فقال أبو بكر: هو ظهار قال: ونص عليه الإمام أحمد وحكى ابن أبي موسى: فيه روايتان أظهرهما لا يكون ظهارا حتى ينويه؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الكراهة أكثر مما يستعمل في التحريم فلم ينصرف إليه إلا بالنية ككنايات الطلاق بخلاف التشبيه بالعضو فإنه لا يستعمل في الكراهة ووجهه قول أبي بكر وهي الرواية الأخرى أنه شبه امرأته بأمه فأشبه إذا شبهها بعضو من أعضائها. قال شيخنا: والذي يصح عندي أنه إن وجدت قرينة تدل على قصد التحريم مثل أن يكون في حال الغصب أو نحو ذلك فهو ظهار وإلا فليس بظهار لأنه يحتمل غير الظهار احتمالا كثيرا فلم يكن ظهارا بإطلاقه كما لو وقال أنت كحفصة إذا ثبت هذا فإن المظاهر لا تحل له زوجته التي ظاهر منها حتى يكفر [إجماعا إذا كان التكفير بالعتق أو بالصيام] لأن الله سبحانه قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}, وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}, وأكثرهم على أن التكفير(2/68)
مِسْكِيناً}, وحكمها وصفتها ككفارة الجماع في شهر رمضان فإن وطء قبل التكفير عصى ولزمته الكفارة المذكورة ومن ظاهر من امرأته مرارا ولم يكفر فكفارة واحدة
ـــــــ
بالإطعام مثل ذلك لما روى عكرمة عن ابن عباس: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال: "ما حملك على ذلك رحمك الله"؟, قال: "رأيت خلخالها في ضوء القمر". قال: "فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن1؛ ولأنها إحدى كفارات الظهار فيحرم الوطء قبلها كالعتق والصيام وترك النص عليها لا يمنع قياسها على المنصوص الذي هي في معناه. والكفارة عتق "رقبه" مؤمنة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}, {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} من قبل أن يتماسا {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}, بدليل قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 2.
مسألة: "وحكمهما وصفتها ككفارة الجماع في شهر رمضان" وقد مضى ذكرها في باب الصيام.
مسألة: "فإن وطئ قبل التكفير عصى ولزمته الكفارة المذكورة" بدليل حديث ابن عباس قبلها ولأنه خالف أمر الله سبحانه وتجزيه كفارة واحدة لذلك.
مسألة: "ومن ظاهر من امرأته مرارا ولم يكفر فكفارة واحدة" لأنه قول لم يؤثر في تحريم المرأة فلم تجب به كفارة كاليمين بالله سبحانه, ولا يخفى أنه لم يؤثر تحريما لأنها حرمت بالقول الأول ولم يزد تحريمها ولأنه لفظ يتعلق به كفارة فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله عز وجل, وعنه إن كرره في مجالس فكفارات روي ذلك عن علي ولأنه قول يوجب تحريم الزوجة فإذا نوى به الاستئناف تعلق به لكل مرة حكم كالطلاق والأول أصح, وأما الطلاق فإنه ما زاد منه على الطلاق الثلاث لا يثبت له حكم بالإجماع وبهذا ينتقض ما ذكروه. وأما الثالثة فإنها تثبت تحريما زائدا وهو التحريم قبل زوج وإصابة ولا يثبت لها حكم كذلك الظهار.
مسألة: "و" لو "ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفارة واحدة" وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة فكان إجماعا؛ ولأن إظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله سبحانه.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2221. والترمذي في الطلاق: رقم 1199.
2 - سورة المجادلة: الآية 3.(2/69)
وإن ظاهر منهن بكلمات فعليه كفارة لكل واحدة وإن ظاهر من أمته أو حرمها أو حرم شيئا مباحا, أو ظاهرت المرأة من زوجها أو حرمته لم يحرم وكفارته كفارة يمين والعبد كالحر في الكفارة سواء إلا أنه لا يكفر إلا بالصيام
ـــــــ
مسألة: "وإن ظاهر منهن بكلمات" فقال لكل واحدة منهن أنت علي كظهر أمي فإن "لكل" يمين "كفارة", وقال أبو بكر: فيه رواية أخرى أنه يجزيه كفارة واحدة واختار ذلك وقال: هو اتباع لعمر رضي الله عنه لأن كفارة الظهار حق الله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد, ولنا أنها أيمان متفرقة فكان لكل واحد كفارة كما لو كفر ثم ظاهر؛ ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة فتتعد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل ويفارق الحد فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات.
مسألة: "وإن ظاهر من أمته أو حرمها أو حرم شيئا" منها "مباحا" لم تحرم وعليه "كفارة يمين" لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 1, حين حرم مارية ثم أنزل الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} 2, أي قد بين لكم تحلة أيمانكم أي كفارة أيمانكم وذلك البيان في المائدة وهو كفارة اليمين وهو قوله سبحانه: {لََا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} 3. الآية.
مسألة: "وإن قالت المرأة لزوجها أنت علي كظهر أمي لم تكن مظاهرة". قال القاضي: لا تكون مظاهرة رواية واحدة وعليها التمكين لذلك, واختلف عنه هل عليها كفارة ظهار؟ فنقل جماعة عليها كفارة الظهار لما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم أن عائشة بنت طلحة قالت: إن تزوجت بمصعب بن الزبير فهو علي كظهر أمي فسألت أهل المدينة فرأوا أن عليها الكفارة, وروي أنها استفتت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهم يومئذ كثير- فأفتوها أن تعتق رقبة وتتزوجه رواه سعيد؛ ولأنها زوج أشبهت الرجل ولأنها يمين مكفرة أشبهت اليمين بالله تعالى, وعنه الميل إلى أنها كفارة يمين بمنزلة من حرم على نفسه شيئا؛ لأنه تحريم الحلال أشبه تحريم المال, وعنه لا شيء عليها؛ لأن الله سبحانه قال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}, فعلقه على الزوج فيختص بت.
مسألة: "والحر والعبد في الكفارة سواء" لأن العبد مكلف أشبه الحر, "إلا أنه لا يكفر إلا بالصيام" لأنه لا يملك شيئا يكفر به.
ـــــــ
1- سورة التحريم: الآية 1.
2 - سورة التحريم: الآية 2.
3 - سورة البقرة: الآية 225.(2/70)
كتاب اللعان
مدخل
...
كتاب اللعان
إذا قذف الرجل امرأته البالغة العاقلة الحرة العفيفة المسلمة بالزنى لزمه الحد إن
ـــــــ
كتاب اللعان
وهو مشتق من اللعن لأن كل واحد منهما يلعن نفسه في الخامسة, واللعنة: الطرد والإبعاد, والأصل فيه قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} 1, وروى سهل بن سعد أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها". قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم, متفق عليه2. وحديث ابن عباس في لعان هلال بن أمية, رواه أبو داود3.
مسألة: "إذا قذف الرجل امرأته البالغة العاقلة الحرة المسلمة العفيفة بالزنا لزمه الحد إن لم يلاعن" هذه الشروط هي شروط لوجوب الحد بالقذف فإنه لا يجب إلا باجتماعها فلو قذفها وهي صغيرة أو مجنونة أو كافرة أو فاسقة لم يجب عليه الحد؛ لأن الحد لا يجب إلا بقذف المحصن وشروط الإحصان خمسة: العقل, والحرية, والإسلام, والعفة, وأن يكون كبيرا يجامع مثله, وهذا إجماع وبه يقول جملة العلماء قديما وحديثا إلا داود فإنه أوجب الحد على قاذف العبد, وابن المسيب وابن أبي ليلى قالا: إذا قذف ذمية لها ولد مسلم يحد, والأول أصح لأن من لا يحد قاذفه إذا لم يكن له ولد لا يحد وله ولد كالمجنونة, وفي اشتراط البلوغ عن الإمام أحمد روايتان: إحداهما يشترط لأنه أحد شرطي التكليف فأشبه العقل؛ ولأن زنا الصبي لا يوجب حدا فلا يجب لا الحد بالقذف
ـــــــ
1 - سورة النور: الآية 6.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2254.(2/71)
لم يلاعن, وإن كانت ذمية أو أمة فعليه التعزير إن لم يلاعن ولا يعرض له حتى تطالبه, واللعان أن يقول بحضرة الحاكم أو نائبه: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما
ـــــــ
به كزنا المجنون والأخرى لا يشترط لأنه حر عاقل عفيف يتغير بهذا القول الممكن صدقه أشبه الكبير فعلى هذه الرواية لا بد أن يكون الكبير يجامع مثله وأدناه عشر سنين للغلام وللجارية تسع.
وللعان شروط لا يصح إلا بها: الأول: أن يكون كل من زوجين عاقلين بالغين سواء كانا مسلمين أو كتابيبن أو رقيقين أو فاسقين, أو كان أحدهما كذلك في إحدى الروايتين, وفي الأخرى لا يصح إلا من زوجين مسلمين حرين عدلين؛ لأن اللعان شهادة بقوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} وقال: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}, وإن كانت المرأة ممن لا يحد بقذفها لم يجب اللعان لأنه يراد لإسقاط الحد ولا حد ها هنا فينتفي اللعان, ودليل الأولى عموم قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية؛ ولأن اللعان يمين فلا يفتقر إلى ما شرطوه كسائر الأيمان, ودليل أنه يمين قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن" 1. وأنه يفتقر إلى اسم الله تعالى ويستوي فيه الذكر والأنثى وأما تسميته شهادة فلقوله في يمينه أشهد بالله فسمي شهادة وإن كان يمينا كما قال الله سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ والله يعلم إنك لرسوله} 2, ولأن الزوج يحتاج إلى نفي الولد فشرع له طريقا إلى نفيه كما لو كانت زوجته ممن لا يحد بقذفها. الشرط الثاني: أن يقذفهما بالزنا لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } الآية, يعني: بالزنا وهذا رام لزوجته.
مسألة: "وإن كانت" زوجته "ذمية أو أمة فعليه التعزيز إن لم يلاعن" لأن الإسلام والحرية من شرائط القذف الموجب للحد ولم يوجدا, وإنما يجب عليه التعزيز وله إسقاطه باللعان كما له إسقاط الحد باللعان, وشرع اللعان ها هنا لإسقاط التعزيز ولنفي الولد إن كان ثم ولد.
مسألة: "ولا يعرض له حتى تطالبه" زوجته يعني: لا يعرض للزوج بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى تطالبه زوجته بذلك؛ لأن ذلك حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقها.
مسألة: وصفة "اللعان أن" يبدأ الزوج فـ "يقول: أشهد بالله إني لمن فيما
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2256.
2 - سورة المنافقون: الآية 1.(2/72)
رميت به امرأتي هذه من الزنى ويشير إليها فإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها, ثم يوقف عند الخامسة فيقال له: اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة, فإن أبى إلا أن يتم فليقل: وإن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنى, ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنى, ثم توقف عند الخامسة تخوف كما يخوف الرجل فإن أبت إلا أن تتم فلتقل: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به زوجي هذا من الزنى, ثم يقول الحاكم: قد فرقت بينكما فتحرم عليه تحريما مؤبدا, وإن كان بينهما ولد فنفاه انتفى عنه -سواء كان حملا أو مولودا.
ـــــــ
رميت به امرأتي هذه من الزنا ويشير إليها وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها" حتى يكمل ذلك أربع مرات, "ثم يوقف عند الخامسة فيقال له: اتق الله فإنها الموجبة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فإن أبى إلا أن يتم فليقل: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميت به امرأتي هذه من الزنا, ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا, ثم توقف عند الخامسة وتخوف كما خوف الرجل فإن أبت إلا أن تتم فلتقل: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به زوجي هذا من الزنا, ثم يقول الحاكم: قد فرقت بينكما فتحرم عليه تحريما مؤبدا" ودليل هذا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}, الآيات؛ ولما روى ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسلوا إليها" فجاءت, فقال لهلال: "اشهد" فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين, فلما كانت الخامسة قال له: "اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب". فقال: والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها, فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين, ثم شهدت مثله وقيل لها مثله ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما1.
مسألة: "وإن كان بينهما ولد فنفاه انتفى عنه" لما روى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته فانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالأم. "وسواء كان حملا أو مولودا" وقال أبو بكر: ينتفي عنه الولد بزوال الفراش وإن لم يذكره في لعانه, وكذلك حملها ينتفي وإن لم يذكره, واشترط الخرقي في نفي الولد أن ينفيه في اللعان فإن لم يذكره أفاد اللعان لأنه لم ينتف باللعان الأول وهو اختيار القاضي؛ لأن من سقط حقه باللعان كان ذكره فيه شرطا كالزوجة, واشترط الخرقي أيضا في الحمل أن لا ينتفي حتى ينفيه بعد وضعها له ويلاعن.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/73)
ما لم يكن أقر به أو وجد منه ما يدل على الإقرار لما روى ابن عمر: أن رجلا لاعن امرأته وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالأم.
فصل
ومن ولدت امرأته أو أمته التي أقر بوطئها ولدا يمكن كونه منه لحقه نسبه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر", ولا ينتفي ولد المرأة إلا باللعان ولا ولد الأمة إلا بدعوى عدم استبرائها وإن لم يمكن كونه منه مثل أن تلد
ـــــــ
وينفي الولد في اللعان لأن الحمل غير مستيقن لجواز أن يكون ريحا فيصير نفيه مشروطا بوجوده, ولا يصح تعليق اللعان بشرط ودليل الأول أن هلال بن أمية لاعن زوجته وهي حامل فلم ينقل عنه تعرض للحمل بنفي ولا غيره فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبد البر: الآثار الدالة على هذا كثيرة ولأن الحمل مظنون بأمارات ظاهرة تدل عليه ولهذا ثبت للحامل أحكام تخالف فيما للحامل من النفقة والفطر في الصيام وغير ذلك, ويصح استلحاق الحمل فكان كالولد بعد وضعه وهذا أقرب إلى الصواب لموافقته الأحاديث, فإن هلالا لاعن امرأته وهي حامل ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروها فإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال وإن جاءت به كذا وكذا فهو الذي رميت به". ولم يعد لعانها عند وضعه إذ يبعد أن يكون أعاد لعانها فلم ينقل.
مسألة: فإن "أقر" بالولد "أو وجد منه ما يدل على الإقرار" به لم يكن له نفيه بعد ذلك"؛ لأنه أقر لولده بحق فلم يكن له جحده كما لو بانت منه, وإن أقر بتوأمه كان إقرارا بالآخر إذ لا يمكن أن يعلم الذي له منها فإذا نفى الآخر كان رجوعا عن إقراره فلا يقبل, وإن هنئ به فسكت كان إقرارا بت, وكذا إن هنئ به فأمن على الدعاء أو قال رزقك الله مثله لزمه الولد؛ لأن ذلك جواب الراضي في العادة.
"فصل: ومن ولدت امرأته أو أمته التي أقر بوطئها ولدا يمكن كونه منه" بأن تأتي به لأكثر من ستة أشهر من حين وطئها, "لحقه نسبه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". متفق عليه1.
مسألة: "ولا ينتفي ولد المرأة إلا باللعان" لما سبق "ولا ولد الأمة إلا بدعوى عدم استبرائها" فلو أراد نفيه باللعان لم يجز لأن اللعان لا يكون إلا بين زوجين, ولا ينتفي عنه ولدها إلا أن يدعي استبراءها بعد وطئه, فإن ادعى ذلك فالقول قوله وينتفي ولدها عنه لأن الولد لا يلحق إلا بعد الاستبراء كما لا يلحق ولد الزوجة بالزوج بعد قضاء عدتها ويقوم.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في البيوع: حديث رقم 2218. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 36, 37.(2/74)
أمته لأقل من ستة أشهر منذ وطئها أو امرأته لأقل من ذلك منذ أمكن اجتماعهما ولو كان الزوج ممن لا يولد لمثله -كمن له دون عشر سنين أو الخصي المجبوب- لم يلحقه.
فصل
وإذا وطئ رجلان امرأة في طهر واحد بشبهة أو وطئ رجلان شريكان أمتهما في طهر واحد فأتت بولد أو ادعى نسب مجهول النسب رجلان أري القافة معهما أو مع أقاربهما فألحق بمن ألحقوه منهما وإن ألحقوه بهما لحق بهما
ـــــــ
ذلك مقام اللعان في نفي الولد وهل يحلف؟ على وجهين: أحدهما لا يحلف لأنه أمر لا يقضى فيه بالنكول. والثاني: يحلف لاحتمال أن يكون كاذبا في دعواه فيستحلف كما في غيره من الدعاوى.
مسألة: "وإن لم يمكن كونه منه مثل أن تلد أمته لأقل من ستة أشهر منذ وطئها أو امرأته لأقل من ذلك منذ أمكن اجتماعهما" أو لأكثر من أربع سنين منذ أبانها لم يلحق بالزوج؛ لأننا علمنا أنها علقت به قبل النكاح ولا يحتاج إلى نفيه باللعان؛ لأن اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق أحد الجائزين أو نفي أحد المحتملين وما لا يجوز لا يحتاج إلى نفيه, "و" كذلك إذا "كان الزوج ممن لا يولد لمثله كمن له دون عشر سنين" إذا أتت زوجته بولد لم يلحقه نسبه؛ لأنه لم يوجد ولد لمثله ولا يمكنه الوطء وإن ولدت زوجة المجبوب المقطوع الذكر والخصيتين "لم يلحق" به ولا يحتاج إلى نفيه باللعان لأنه يستحيل أن ينزل مع قطعهما فلا يكون الولد منه فلا يحتاج إلى نفيه لما سبق.
"فصل: وإذا وطئ رجلان امرأة في طهر واحد بشبهة أو وطئ" الـ "شريكان أمتهما في طهر واحد فأتت بولد أو ادعى نسب مجهول النسب رجلان أري القافة معهما أو مع أقاربهما"- بعد موتهما- "فألحق بمن ألحقوه" به "منهما فإن ألحقوه بهما لحق بهما" لأن قول القافة معتبر في نظر الشرع, بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: "ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد وأسامة وقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض". متفق عليه1, فلولا جواز الاعتماد على القافة لما سر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا اعتمد عليه, ولأن عمر رضي الله عنه قضى به بحضرة الصحابة فلم ينكره أحد منهم فكان إجماعا؛ ولأنه حكم بظن غالب ورأي راجح ممن هو من أهل الخبرة فجاز كقول المقومين.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في المتاقب: حديث رقم 3555. ومسلم في الرضاع: حديث رقم 38, 39, 40.(2/75)
وإن أشكل أمره أو تعارض أمر القافة أو لم يوجد قافة ترك حتى يبلغ فيلحق بمن انتسب إليه منهما ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا مجربا في الإصابة.
ـــــــ
مسألة: "وإن أشكل أمره" على "القافة أو لم توجد قافة ترك حتى يبلغ فيلحق بمن انتسب إليه منهما"؛ لأن ذلك يروى عن عمر ولأن الإنسان يميل طبعه إلى قريبه دون غيره. قال القاضي: وقد أومأ أحمد إلى هذا في رجلين وقعا على امرأة في طهرها خير الابن أيهما اختار, وقال أبو بكر: يضيع نسبه ولا يقبل قوله في الانتساب لأن الطبع يميل إلى غير القرابة لإحسانه إليه وحسن أخلاقه وكثرة يساره.
مسألة: "ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا" حرا ذكرا "مجربا في الإصابة"؛ لأن قوله حكم والحكم تعتبر له هذه الشروط.(2/76)
باب الحضانة
أحق الناس بالطفل أمه ثم أمهاتها وإن علون ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته ثم الأخت من الأبوين ثم الأخت من الأب ثم الأخت من الأم ثم
ـــــــ
باب الحضانة
و "أحق الناس" بحضانة "الطفل أمه" إذا افترق الزوجان وبينهما ولد فأمه أحق بحضانته إذا كملت الشرائط فيها لا نعلم فيه خلافا؛ لقوله عليه السلام: "أنت أحق به ما لم تنكحي" رواه أبو داود1؛ ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه ولا يشاركها في ذلك إلا أبوه وليس له مثل شفقتها وإنما يتولى الحضانة النساء دون الرجال, وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حكم على عمر بن الخطاب وقضى بعاصم لأمه أم عاصم وقال: حجرها وريحها ومسها خير له منك حتى يشب فيختار, رواه سعيد وقال: ريحها وشمها ولفظها خير له منك.
مسأله: "ثم أمهاتها وإن علون" الأقرب فالأقرب لأنهن نساء ولادتهن متحققة فهن في معنى الأم, وعنه رواية أخرى أن أم الأب تقدم على أم الأم لأنها تدلي بعصبة فعلى هذه الرواية يكون الأب أولى بالتقديم لأنهن يدلين به فيكون الأب بعد الأم ثم أمهاته, والأولى هي المشهورة وأن المقدم الأم ثم أمهاتها وإن علون "ثم الأب ثم أمهاته ثم الجد ثم أمهاته" ثم جد الأب ثم أمهاته وإن لم يكن وارثات لأنهن يدلين بعصبة من أهل الحضانة بخلاف أم أبي الأم فإنها لا حق لها لأنها تدلي بمن ليس له حق منهما.
مسألة: "ثم الأخت من الأبوين" لأنها أقرب "ثم الأخت من الأب" لأنها تليها في
ـــــــ
1 - رواه أبوداود في الطلاق: حديث رقم 2276.(2/76)
الخالة ثم العمة ثم الأقرب فالأقرب من النساء, ثم عصباته الأقرب فالأقرب, ولا حضانة لرقيق ولا فاسق ولا امرأة مزوجة لأجنبي من الطفل
ـــــــ
الميراث "ثم" التي "من الأم" فلو اجتمعت مع أخيها قدمت على الأخ في الحضانة لأنها امرأة من أهل الحضانة فقدمت على من في درجتها من الرجال كتقدم الأم على الأب لأنها تلي الحضانة بنفسها والرجل لا يليها بنفسه.
مسألة: فإذا انقرض الأخوات فبعدهن الخالات لأنهن أخوات الأم فتقدم الخالة من الأبوين ثم الخالة من الأب ثم من الأم كالأخوات ويقدمن على الأخوال؛ لأنهن نساء من أهل الحضانة كما تقدم الأخت على أخيها, "ثم" بعد الخالات "العمات" لأنهن أخوات الأب فتقدم التي من الأبوين على التي من الأب ثم التي من الأم كما قلنا في الخالات ويقدمن على الأعمام لأنهن نساء من أهل الحضانة كما قلنا في تقديم الخالات على الأخوال وعلى الرواية التي تقول بتقديم أم الأب على أم الأم ينبغي أن تقدم العمات على الخالات لأنهن يدلين بالأب وهو عصبة فهن أولى من الخالات.
مسألة: "ثم الأقرب فالأقرب من النساء", إذا انقرض العمات انتقلت الحضانة إلى خالات الأم لأنهن أخوات أمها وعلى الرواية الأخرى تنتقل إلى خالات الأب لأنهن أخوات أم الأب فيقدمن لأنهن نساء من أهل الحضانة ولأنهن يدلين بعصبة وهو الأب, فإذا انقرض النساء فالحضانة للعصبات من الرجال وأولاهم الأب ثم الجد أبو الأب وإن علا ثم الأخ للأبوين ثم الأخ للأب ثم بنوهم وإن سفلوا, ثم العم للأبوين ثم العم للأب على حسب تقديمهم في الميراث.
مسألة: "ولا حضانة لرقيق" لعجزه عنها بخدمة سيده "ولا" لـ "فاسق" لأنه لا يوفي الحضانة حقها ولا حظ للولد في حضانته لأنه ينشأ على طريقته.
مسألة: "ولا" حضانة "لامرأة مزوجة لأجنبي من الطفل"؛ لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وثديي له سقاء وحجري له حواء وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي". رواه أبو داود1؛ ولأنها تشتغل بالاستمتاع عن الحضانة فإذا زوجت المرأة بمن هو من أهل الحضانة كالجدة المزوجة بالجد لم تسقط حضانتها لأن كل واحد منهما له الحضانة منفردا فمع اجتماعهما أولى ولأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بنت حمزة عند خالتها لما كانت مزوجة بجعفر ابن عمتها إذ كانت من أهل الحضانة لكونه عصبة.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/77)
فإن زالت الموانع منهم عاد حقهم من الحضانة وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه فكان عند من اختار منهما, وإذا بلغت الجاربة سبعا فأبوها أحق بها وعلى الأب أن يسترضع لولده إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجر مثلها فتكون أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة
ـــــــ
مسألة: "فإذا زالت الموانع منهم" مثل إن طلقت المزوجة أو عتق الرقيق أو أسلم الكافر أو عدل الفاسق "عاد حقهم من الحضانة" لأنه زال المانع فثبت الحكم بالسبب الخالي من المانع.
مسألة: "وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه فكان عند من اختار منهما"؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه, رواه سعيد, وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عتبة وقد نفعني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به" 1. ولأنه إجماع الصحابة وروي عن عمر أنه خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد, وعن عمارة الحرير قال: خيرني علي بين أمي وأبي وكنت ابن سبع سنين أو ثمان, وروي نحو ذلك عن أبي هريرة وهذه قصص في مظنة الشهرة ولم تنكر فكانت إجماعا.
مسألة: "وإذا بلغت الجارية سبعا فأبوها أحق بها" لأن الغرض بالحضانة الحظ للجارية في الكون عند أبيها لأنها تحتاج إلى الحفظ والأب أولى بذلك فإن الأم تحتاج إلى من يحفظها ويصونها؛ ولأن الجارية إذا بلغت السبع فقد قاربت الصلاح للتزويج و قد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي بنت سبع2 وإنما تخطب الجارية من أبيها لأنه المالك لتزويجها وهو أعلم بالكفاءة وأقدر على البحث فيقدم على غيره كما يقدم في العقد.
مسألة: "وعلى الأب أن يسترضع لولده" لأن نفقته عليه واجبة فكذلك رضاعه "إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجر مثلها فتكون أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة" لأنها أقرب إليه وأشفق عليه ولا نعلم في ذلك خلافا, وقد قال سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} 3 فقدمهن على غيرهن, وقال سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} 4.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2277.
2- سبق تخريجه.
3 - سورة البقرة: الآية 233
4 - سورة الطلاق: الآية 6.(2/78)
فإن لم يكن له أب ولا مال فعلى ورثته أجر رضاعه على قدر ميراثهم منه.
ـــــــ
مسألة: "فإن لم يكن" للصبي "أب ولا مال فعلى ورثته أجرة رضاعه على قدر ميراثهم" منه, لأن الله سبحانه قال: {وََعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} -إلى قوله- {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} 1, فأوجب على الوارث أجرة الرضاع وتكون واجبة عليهم على قدر ميراثهم منه لأن الله سبحانه رتب النفقة على الإرث بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}, فيجب أن تترتب في المقدار عليه فإذا كان للصبي أم وجد فعلى الأم الثلث والباقي على الجد وإن كان له جد وأخ فعلى الجد السدس والباقي على الأخ كالنفقه سواء ولو كان له أب كان الجميع عليه لقوله سبحانه : {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فجعل أجرة الرضاع عليه دونها وقال لهند : "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" 2.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 233.
2 - سبق تخريجه.(2/79)
باب نفقة الأقارب و المماليك
...
باب نفقة الأقارب والمماليك
وعلى الإنسان نفقة والديه وإن علوا وأولاده وإن سفلوا ومن يرثه بفرض أو تعصيب إذا كانوا فقراء وله مال ينفق عليهم,
ـــــــ
باب نفقة الأقارب والمماليك
"وعلى الإنسان نفقة والديه وإن علوا" لقوله سبحانه: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} 1, ومن الإحسان الإنفاق عليهما, وقال عليه السلام: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه". رواه أبو داود2.
مسألة: "و" تجب "نفقة" الأولاد بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهند: "خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف" 3. وتجب نفقة الأجداد وأولاد الأولاد لأنهم آباء وأولاد وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} 4, وقال: {يَا بَنِي آدَمَ} 5.
مسألة: "و" تجب نفقة "من يرثه بفرض أو تعصيب" سواء ورثه الآخر أو لا كعمته وعتيقه سوى الزوج لقول الله سبحانه: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} -إلى قوله- {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}, فأوجب على الوارث أجرة رضاع الصبي فيجب أن تلزمه نفقته, وروى أبو داود أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبر؟ قال: "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذلك حقا واجبا ورحما موصولا" 6, وقضى عمر على بني عم منفوس بنفقته ولأنها قرابة تقتضي التوريث فتوجب الإنفاق كقرابة الولد.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 83.
2 - رواه أبو داود في البيوع: حديث رقم 3528.
3 - سبق تخريجه.
4 - سورة الحج: الآية 78.
5 - سورة الأعراف: الآية 26.
6 - رواه أبو داود في الأدب: حديث رقم 5140.(2/79)
وإن كان للفقير وارثان فأثر فنفقته عليهم على قدر ميراثهم منه إلا الابن فإن نفقته على أبيه خاصة, وعلى ملاك المملوكين الإنفاق عليهم وما يحتاجون إليه من مؤنة وكسوة فإن لم يفعلوا أجبروا على بيعهم إذا طلبوا ذلك.
ـــــــ
مسألة: ويشترط لوجوب الإنفاق على القريب ثلاثة شروط: أحدهما "فقر من تجب نفقته" فإن كان غنيا بمال أو كسب لم تجب لأنها وجبت على سبيل المواساة فلا تستحق مع الغني كالزكاة. والثاني: أن يكون للمنفق "مال ينفق عليهم" فاضلا عن نفقة نفسه وزوجته لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول". قال الترمذي: حديث صحيح1؛ ولأنها مواساة فيجب أن تكون في الفاضل عن الحاجة الأصلية. الثالث: أن يكون المنفق عليه وارثا فأما من لا يرث كذوي الأرحام فقال القاضي: لا تجب نفقتهم رواية واحدة إذا كانوا من غير عمودي النسب, وأما إن كانوا من عمودي النسب فلهم النفقة لوجود الإيلاد والمحرمية. وقال أبو الخطاب: يخرج في وجوبها عليهم, روايتان: إحداهما: تجب لأنهم أقارب أشبهوا الوارث, والثانية: لا نفقة لهم لأنهم لا يرثون أشبهوا الأجانب.
مسألة: "فإن كان للفقير وارثان فأكثر فنفقته عليهم على قدر ميراثهم منه إلا من له أب فإن نفقته على أبيه خاصة" كما قلنا في أجرة الرضاع وقد سبق.
مسألة: "وعلى ملاك المملوكين الإنفاق عليهم وما يحتاجون إليه من مؤنة وكسوة" بالمعروف؛ لما روى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان له أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه". متفق عليه2, وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق". رواه الشافعي وأجمع العلماء على وجوب نفقة المملوك على سيده.
مسألة: "فإن لم يفعلوا أجبروا على بيعهم إذا طلبوا ذلك" لأن بقاء ملكه عليه مع الإخلال بالواجب عليه من نفقة وكسوة بالمعروف إضرار به وإزالة الضرر واجبة, ولذلك أبحنا للمرأة فسخ النكاح عند عجز زوجها عن الإنفاق عليها.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الإيمان: حديث رقم 30. ومسلم في الأيمان: حديث رقم 40.(2/80)
باب الوليمة
وهي دعوة العرس وهي مستحبة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف
ـــــــ
باب الوليمة
"وهي" اسم لـ "دعوة العرس" حكاه ثعلب وغيره من أهل اللغة والعذيرة دعوة(2/80)
حين أخبره أنه تزوج: "بارك الله لك أولم ولو بشاة". والإجابة إليها واجبة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله ومن لم يحب أن يطعم دعا وانصرف". والنثار والنقاطه مباح مع الكراهة
ـــــــ
الختان والخرسة دعوة الولادة والوكيرة دعوة البناء والنقيعة لقدوم الغائب والعقيقة للمولود, والحذاق الطعام عند حذق الصبي, والمأدبة اسم لكل دعوة, "و" دعوة العرس "مستحبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: "أولم ولو بشاة" 1؛ ولأنها طعام سرور أشبه سائر الأطعمة ولا خلاف بين أهل العلم أنها سنة مشروعة والأصل فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بها عبد الرحمن, وقال أنس: ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب جعل يبعثني فأدعو له الناس وأطعمهم خبزا ولحما حتى شبعوا, وأولم على صفية بنت حيي حيسا في نطع صغير. متفق عليهن2.
مسألة: "والإجابة إليها واجبة" إذا عينه الداعي المسلم في اليوم الأول. قال ابن عبد البر: لا خلاف في وجوب إتيان الوليمة لمن دعي إليها إذا لم يكن فيها لهو, وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم في وليمة فليأتها" 3. وقال أبو هريرة: شر الطعام طعام الوليمة يدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء, ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله, رواهما البخاري4.
مسألة: "ومن لم يحب أن يطعم دعا وانصرف" لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائما فليدع وإن كان مفطرا فليطعم". رواه أبو داود5.
مسألة: "والنثار والتقاطه مباح" لما روى عبد الله بن قرط أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر خمس بدنات وقال: "من شاء اقتطع". رواه الإمام أحمد وأبو داود, وهذا جار مجرى النثار ولأنه نوع إباحة فأشبه إباحة الطعام للضيفان. "وهو مكروه" لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النهبى والمثلة, رواه البخاري والإمام أحمد في المسند6؛ ولأن فيه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5072. ومسلم في النكاح: حديث رقم 79, 80.
2 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5171. والبيوع: حديث رقم 2235. ومسلم في النكاح: حديث رقم 90, 95.
3 - رواه البخاري في النكاح: حديث رقم 5173.
4 - المصدر عاليه: حديث رقم 5177.
5 - رواه أبو داود في الأطعمة: حديث رقم 3736, 3737.
6 - رواه البخاري في المظالم: حديث رقم 2472. وأحمد في المسند 4/246 و 307 و 428.(2/81)
وإن قسم على الحاضرين كان أولى.
ـــــــ
تزاحما وقتالا وربما أخذه من يكره صاحبه لقوته وشدة نفسه, وحرمه من يحب صاحب النثار صيانة لنفسه ومروءته عن مزاحمة السفلة, فكره لما فيه من الدناءة فأما خبر البدنات فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه لا نهبة في ذلك لكثرة اللحم وقلة الآخذين, أو فعله لاشتغاله بالمناسك وهو مباح في الجملة غير محرم, ومن أخذ منه شيئا ملكه لأنه نوع إباحة أشبه ما يأكله الضيفان وإنما الكلام في الكراهية.
مسألة: "وإن قسم على الحاضرين كان أولى" ولا خلاف في أن ذلك حسن غير مكروه, وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قسم النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين أصحابه تمرا فأعطى كل إنسان سبع تمرات فأعطاني سبع تمرات إحداهن حشفة فلم يكن فيهن تمرة أعجب إلي منها شدت في مضاغي1. قال المروذي: وسألت أبا عبد الله عن الجوز نثير فكرهه. وقال: يعطون من يقسم عليهم, وفرق أبو عبد الله على الصبيان الجوز لكل واحد خمسا خمسا لما حذق ابنه حسن, والله أعلم.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الأطعمة: حديث رقم 5411.(2/82)
كتاب الأطعمة
مدخل
...
كتاب الأطعمة
وهي نوعان: حيوان وغيره فأما غير الحيوان فكله مباح إلا ما كان نجسا أو مضرا كالسموم, والأشربة كلها مباحة إلا ما أسكر فإنه يحرم قليله وكثيره من أي شيء كان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام"
ـــــــ
كتاب الأطعمة
"وهي نوعان حيوان وغيره فأما غير الحيوان فكله مباح" لأن الأصل في الأشياء الإباحة لقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} 1, "إلا ما كان نجسا" فإنه حرام الأكل بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحمر الأهلية: "اكفئوها فإنها رجس". وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} 2, والرجس اسم لما استقذر, والنجس مستقذر, وقد أمر في أثناء الآية باجتنابه بقوله {فَاجْتَنِبُوهُ}, فدل على تحريمه والمضر حرام أيضا لضرره "كالسموم" ونحوها.
مسألة: "والأشربة كلها مباحة" لأن الأصل الإباحة "إلا ما أسكر فإنه يحرم قليله وكثيره من أي شيء كان" لقوله عليه السلام: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام". رواه ابن عمر وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". رواهما أبو داود والأثرم وغيرهما3, وقال عمر: نزل تحريم الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ولأنه مسكر فأشبه عصير العنب.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية: 29.
2 - سورة المائدة: الآية 90.
3 - الأول رواه أبو داود في : الأشربة: حديث رقم 3679. والبخاري في الأدب: حديث رقم 6124. ومسلم في الأشربة: حديث رقم 73, 75. والثاني: رواه أبو داود في الأشربة: حديث رقم 3681.(2/83)
وإن تخللت الخمرة طهرت وحلت وإن خللت لم تطهر
فصل
والحيوان قسمان: بحري وبري فأما البحري فكله حلال إلا الحية والضفدع والتمساح, وأما البري فيحرم منه كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير كالنسور والرخم وغراب البين الأبقع والحمر الأهلية والبغال وما يأكل الجيف من
ـــــــ
مسألة: "وإن تخللت الخمر طهرت وحلت" وهذا إجماع "وإن خللت لم تطهر"؛ لما روى أبو طلحة قال: لما نزل تحريم الخمر كان عندي خمر لأيتام فقلت: يا رسول الله أخللها؟ قال: "لا أرقها" 1. فأمر بإرقاتها ولو كان يحل تخليلها لما أمر بإراقتها لأنه يكون إتلاف مال وتضيع على الأيتام وذلك لا يجوز.
"فصل: والحيوان قسمان : بحري وبري فأما البحري فكله حلال", لقول النبي صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 2. وهذا عام "إلا الحية والضفدع" لأنهما من الخبائث وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع "إلا التمساح" لأنه يأكل الناس وله ناب يجرح.
مسألة: "وأما البري فيحرم منه كل ذي ناب من السباع" وهي التي تضرب بأنيابها الشيء وتفرس وهو مذهب أكثر أهل العلم؛ لما روى أبو ثعلبة الخشني قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع, متفق عليه, وقال أبو هريرة رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" 3. قال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت صحيح مجمع على صحته وهذا نص صريح.
مسألة: "ويحرم كل ذي مخلب من الطير" وهي التي تعلف بمخالبها الشيء وتصيد بها لما روى ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير, وعن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حرام عليكم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير". رواهما أبو داود4.
مسألة: "و" تحرم "الحمر الأهلية" لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأشربة: حديث رقم 3675.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5527. ومسلم في الصيد: حديث رقم 12, 15.
4 - الأول: رواه أبو داود في الأطعمة: حديث رقم 3803. والثاني: المصدر عاليه: حديث رقم 3806.(2/84)
الطير, وما يستخبث من الحشرات كالفار ونحوها إلا اليربوع والضب لأنه أكل على
ـــــــ
لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. متفق عليه1.
مسألة: "والبغال" محرمة لأنها متولدة منها والمتولد من شيء له حكمه في التحريم. قال قتادة: ما البغل إلا شيء من الحمار, وعن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمر ولم ينهنا عن الخيل.
مسألة: "وما يأكل الجيف من الطير" كالنسور والرخم وغراب البين الأبقع قال عروة: ومن يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق؟ ولعله يعني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور" 2. فهي محرمة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها فواسق وأمر بقتلها وما يحل أكله لم يحل قتله بل يذبح.
مسألة: "و" يحرم كل "ما يستخبث من الحشرات" كالديدان والجعلان وبنات وردان والخنافس والفأر والأوزاغ والحرباء والعظاء والجراذين والعقارب والحيات لقوله سبحانه: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} 3, وهذه من الخبائث وقال عليه السلام: "خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والفأرة والعقرب والحدأة والكلب العقور". وفي حديث مكان الفأرة الحية, ولو كانت من الصيد المباح لما أبيح قتلها للمحرم لأن الله سبحانه قال: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} 4, وقال سبحانه: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} 5, وكذلك القنفذ لما روى أبو داود أن أبا هريرة قال: ذكر القنفذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو خبيثة من الخبائث".
مسألة: "إلا اليربوع" يعني أنه مباح لأن عمر رضي الله عنه حكم فيه بجفرة ولأن الأصل الإباحة ما لم يرد تحريم وعنه أنه حرام لأنه يشبه الفأر.
مسألة: "والضب" حلال لما روى ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فقيل: "هو ضب يا رسول الله فرفع يده -فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5520. ومسلم في الصيد: حديث رقم 36.
2 - رواه البخاري في جزاء الصيد: حديث رقم 926. ومسلم في الحج: حديث رقم 69.
3 - سورة الأعراف: الآية 157.
4 - سورة المائدة: الآية 95.
5 - سورة المائدة: الآية 96.(2/85)
مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر وقيل له: أحرام هو؟ قال: "لا". وما عدا هذا مباح ويباح أكل الخيل والضبع لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في لحوم الخيل وسمى الضبع صيدا.
ـــــــ
خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر, متفق عليه1 وقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الضب ولكنة قذره ولو كان عندي لأكلته2.
مسألة: "ويباح أكل الخيل" لحديث جابر وقد تقدم.
مسألة: "و" يباح "الضبع" لما روى جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكل الضبع قلت: صيد هي؟ قال: "نعم". واحتج به الإمام أحمد وفي لفظ قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع. فقال: "هو صيد ويجعل فيه كبشا إذا صاده المحرم". رواه أبو داود3.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الذبائح والصيد: حديث رقم 5537. ومسلم في الصيد والذبائح: حديث رقم 43.
2 رواه أحمد في المسند 1/29.
3 - سبق تخريجه.(2/86)
باب الذكاة
يباح كل ما في البحر بغير ذكاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: "الحل ميتته" إلا ما يعيش في البر فلا يحل حتى يذكى إلا السرطان ونحوه ولا يباح من البري
ـــــــ
باب الذكاة
"يباح كل ما في البحر بغير ذكاة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" 1.
مسألة: "إلا ما يعيش في البر" من دواب البحر "فلا" يباح "حتى يذكى" كالطيور والسلحفاة وكلب الماء. قال أحمد: كلب الماء نذبحه ولا أرى بأسا بالسلحفاة إذا ذبحت, وقال: السرطان لا بأس بت, فقيل له: يذبح؟ قال: لا, وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء في البحر مذبوح" 2. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ذبح كل شيء في البحر لابن آدم". وروي نحو ذلك عن أبي بكر وقد صح أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر ميتة فأكلوا منها شهرا وادهنوا حتى سمنوا ولا يذكى السرطان لأنه ليس له نفس سائلة.
مسألة: "ولا يباح من البري شيء بغير ذكاة" لقوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - أورده البخاري في الذبائح: 12- باب قول الله تعالى: {أُحِِلَ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ}. معلقا وموقوفا على شريح صاحب النبي صلى الله عليه وسلم.(2/86)
شيء بغير ذكاة إلا الجراد وشبهه.
والذكاة تنقسم ثلاثة أقسام: نحر وذبح وعقر ويستحب نحر الإبل وذبح ما سواها فإن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر فجائز, ويشترط للذكاة كلها ثلاثة شروط :
ـــــــ
-إلى قوله- {إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} 1, فيدل ذلك على اشتراط الذكاة في الحل؛ ولأن غير المذكى يسمى ميتة والميتة حرام ولما أباح النبي ميتة البحر دل على تحريم غيرها وأن الذكاة شرط فيها.
مسألة: "إلا الجراد وشبهه" فإنه يباح أكله بإجماع أهل العلم, وقد قال عبد الله بن أبي أوفى: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد2, وقد قال عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان" 3. فالميتتان السمك والجراد, ولا فرق بين أن يموت بسبب أو غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحلت لنا ميتتان" ولم يفصل ولأنه لو افتقر إلى سبب لافتقر إلى ذبح وذابح وآلة كبهيمة الأنعام.
مسألة: "والذكاة تنقسم ثلاثة أقسام: نحر وذبح وعقر ويستحب نحر الإبل وذبح ما سواها" فالنحر هو أن يضربها بحربة أو نحوها في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر بدنة وضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده4, متفق عليه. وأما الذبح فهو عبارة عن قطع الودجين والحلقوم والمريء وذلك معلوم في الغنم والبقر والطيور, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الذكاة في الحلق واللبة" 5. وروي ذلك عن عمر رواه سعيد والأثرم, وسيأتي ذلك وأما العقر فهو في الصيد وما لا يقدر على تذكيته فيرميه بنشابة أو يطعنه برمح في أي موضع اتفق فيحل.
مسألة: "فإن ذبح ما ينحر أو نحر ما يذبح فجائز"؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي: "أمر الدم بما شئت" 6. وقالت أسماء: نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه7, وعن عائشة قالت: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بقرة واحدة8؛ ولأن ما كان ذكاة في
ـــــــ
1 - سورة المائدة الآية 3.
2 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5495. ومسلم في الصيد: حديث رقم 52.
3 - سبق تخريجه.
4 - سبق تخريجه.
5 - أورده البخاري في الذبائح: 24- باب النحر والذبح: معلقا وموقوفا على ابن عباس.
6 - رواه أبو داود في الأضاحي: حديث رقم 2824. وابن ماجه في الذبائح: حديث رقم 3177.
7 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5510.
8 - رواه أبو داود في المناسك: حديث رقم 1750.(2/87)
أحدها : أهلية المذكي وهو أن يكون عاقلا قادرا على الذبح مسلما أو كتابيا فأما الطفل والمجنون والسكران والكافر الذي ليس بكتابي فلا تحل ذبيحته.
الثاني: أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح وإرسال الآلة في الصيد إن كان ناطقا وإن كان أخرس أشار إلى السماء فإن ترك التسمية على الذبيحة عامدا لم تحل وإن تركها ساهيا حلت وإن تركها على الصيد لم يحل عمدا كان أو سهوا
ـــــــ
حيوان كان ذكاة بحيوان آخر سائر الحيوانات.
مسألة: "ويشترط للذكاة كلها ثلاثة شروط: أحدها أهلية المذكي", ولها ثلاثة شروط: الأول "أن يكون عاقلا" يعرف الذبح ليقصده فإن كان لا يعقل كالطفل والمجنون والسكران لم يحل ما ذبحه لأنه لا يصح منه القصد فأشبه ما لو ضرب إنسانا بسيف فقطع عنق شاة, وكذلك لو وقعت الحديدة بنفسها على عنق شاة فذبحتها لم تحل. والثاني: أن يكون "قادرا على الذبح" ليتحقق منه فلو كان صبيا أو امرأة صح. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. والثالث: الدين فيشترط أن يكون "مسلما أو كتابيا"؛ لأن الله سبحانه أحل لنا ما ذكيناه بقوله: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}, وأحل طعام أهل الكتاب بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}, معناه ذبائحهم كذا فسره العلماء؛ ولأن المذكاة من جملة الأطعمة وأما غير الكتابي كالوثني فلا تحل ذبيحته ولا طعامه. الشرط "الثاني": للذكاة أن "يذكر اسم الله تعالى عند الذبح, و" عند "إرسال الآلة في الصيد إن كان ناطقا وإن أخرس أشار إلى السماء" فتشترط التسمية في حق كل ذابح مع العمد سواء كان مسالما أو كتابيا لقوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1, فإن لم يعلم أسمى الكتابي أم لا؟ فذبيحته حلال لأن الله سبحانه أباح لنا أكل ما ذبحه الكتابي وقد علم أننا لا نقف على كل ذابح.
مسألة: "وإن ترك" التسمية على الذبيحة "ساهيا حلت" لقوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 2, وقد روي عن ابن عباس أنه قال: من نسي التسمية فلا بأس, وروى سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذبيحة المسلم حلال وإن له يسم إذا لم يتعمد", ولقوله سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ}, محمول على من ترك عمدا بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ}, والناسي ليس بفاسق.
مسألة: "وإن تركها على الصيد لم يحل عمدا كان أو سهوا" هذا تحقيق المذهب
ـــــــ
1 - سورة الأنعام: الآية 121.
2 - سبق تخريجه.(2/88)
الثالث: أن يذكي بمحدد سواء كان من حديد أو حجر أو قصب أو غيره إلا السن والظفر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر", ويعتبر في الصيد أن يصيد بمحدد أو يرسل جارحا فيجرح الصيد فإن قتل الصيد بحجر أو بندق أو شبكة أو قتل الجارح الصيد بصدمته أو خنقه أو روعته لم يحل
ـــــــ
ونقل حنبل عن أحمد: إن نسي التسمية على الذبيحة والكلب أكل. قال: الخلال سها حنبل في نقله فإن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل, ودليل الأولى قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ}. وقال: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} 1, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل". قلت: وأرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: "لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". متفق عليه2. وفي لفظ: "إذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل". وفي حديث ثعلبة ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل3. وقوله: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" 4. يقتضي نفي الإثم لأنه جعل الشرط المعدوم كالموجود بدليل ما لو نسي شروط الصلاة والفرق بين الصيد والذبيحة أن الذبح وقع في محله فجاز أن يسامح فيه بخلاف الصيد, والأحاديث بخلاف هذا لا نعلم لها أصلا. الشرط الثالث: أن يذكي بمحدد سواء كان من حديد أو حجر أو قصب أو غيره إلا السن والظفر, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكله ما لم يكن سنا أو ظفرا". متفق عليه5.
مسألة: "ويعتبر في الصيد أن يصيد بمحدد أو يرسل جارحا فيجرح الصيد" لأن الاصطياد قام مقام الذكاة والجارح آلة كالسكين وعقره الحيوان بمنزلة إفراء الأوداج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن أخذ الكلب ذكاته" 6. والصائد بمنزلة المذكي وكذلك السهم ينبغي أن يكون محددا فإن كان غير محدد كالمصطاح لم يحل, أو قتل بالمعراض فإنه يحل ما أصاب بحده ولا يحل ما أصاب بعرضه؛ لأن هذا كله من الموقوذة. وكذا لو "قتل الصيد بحجر أو بندق أو شبكة" فمات فيها "أو قل الجارح الصيد بصدمته أو بخنقه أو روعته لم يحل" لأنه موقوذ.
ـــــــ
1 - سورة المائدة: الآية 4.
2 - رواه البخاري في الوضوء: حديث رقم 175. ومسلم في الصيد: حديث رقم 1, 3.
3 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5478.
4 - سبق تخريجه.
5 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5498. ومسلم في الأضاحي: حديث رقم 20.
6 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5475. ومسلم في الصيد: حديث رقم 4.(2/89)
وإن صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده دون ما قتل بعرضه وإن نصب المناجيل للصيد وسمى فعقرت الصيد أو قتلته حل.
فصل
ويشترط في الذبح والنحر خاصة شرطان: أحدهما: أن يكون في الحلق واللبة فيقطع الحلقوم والمريء وما لا تبقى الحياة مع قطعه, الثاني: أن يكون في المذبوح حياة يذهبها الذبح فإن لم يكن فيه إلا كحياة المذبوح وما أبينت حشوته لم يحل بالذبح ولا النحر وإن لم يكن كذلك حل لما روى كعب قال: كانت لنا غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا شاة موتى فكسرت حجرا فذبحتها به فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمر بأكلها
ـــــــ
مسألة: "وإن صاد بالمعراض كل ما قتل بحده" ولم يأكل "ما قتل بعرضه" لذلك.
مسألة: "وإن نصب المناجل للصيد وسمى فعقرت الصيد أو قتلته حل" لأنه قتل الصيد بحديدة على الوجه المعتاد فأشبه ما لو رماه بها؛ ولأنه قصد قتل الصيد بما قد جرت العادة بالصيد به أشبه ما ذكرناه؛ ولأن التسبب جرى مجرى المباشرة في الضمان فكذلك في الصيد, وقال عليه السلام: "كل ما ردت عليك يدك".
"فصل: ويشترط في الذبح والنحر خاصة شرطان: أحدهما أن يكون في الحلق واللبة فيقطع الحلقوم والمريء وما لا تبقى الحياة مع قطعه", فيعتبر في الذكاة قطع الحلقوم والمريء ويكفي ذلك فيهما, وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين؛ لما روى أبو هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأوداج ثم يترك حتى يموت, رواه أبو داود, ودليل الأولى أنه قطع ما لا تبقى الحياة مع فقده في محل الذبح فأجزأ كما لو قطع الودجين. فأما الحديث فمحمول على من لم يقطع المريء, فإذا ثبت هذا فالكمال أن يقطع الأربعة: الحلقوم وهو مجرى النفس, والمريء وهو مجرى الطعام والشراب, والودجين وهما عرقان محيطان بالحلقوم؛ لأنه أعجل لخروج روح الحيوان فيخف عليه فيكون أولى. الشرط "الثاني: أن يكون في المذبوح حياة يذهبها الذبح فإن لم يكن فيه إلا كحياة المذبوح وما أبينت حشوته لم يحل بالذبح ولا النحر" لأن هذا قد صار في حكم الميت, ولهذا لو أبان رجل حشوة إنسان فضرب الآخر عنقه كان القاتل الأول, ولو ذبح الشاة بعد ذبح المجوسي لم تحل, "وإن لم يكن كذلك حل" بالذبح يعني بذلك أن يدركها وفيها حياة بحيث إذا ذبحها يكون الذبح هو الذي قتلها لقوله سبحانه: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ}, وفي حديث جارية كعب أنها أصيبت شاة من غنمها فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلوها". وسواء(2/90)
وأما العقر فهو القتل بجرح في غير الحلق واللبة ويشرع في كل حيوان معجوز عنه من الصيد, والأنعام لما روى أبو رافع أن بعيرا ند فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا". ولو تردى بعير في بئر فتعذر نحره فجرح في أي موضع من جسده فمات به حل أكله,
ـــــــ
كانت قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه أو تعيش لعموم الآية والخبر وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل ولم يستفصل. وقال الإمام أحمد في بهيمة عقرت بهيمة حتى تبين فيها آثار الموت إلا أن فيها الروح, فقال: إذا مصعت بذنبها أو طرفت بعينها وسال الدم فأرجو إن شاء الله أن لا يكون بأكلها بأس, وسئل الإمام أحمد عن شاة مريضة خافوا عليها الموت فذبحوها فلم يعلم منها أكثر من أنها طرفت بعينها أو حركت يدها أو رجلها أو ذنبها بضعف فنهر الدم قال: فلا بأس, وقال بعض أصحابنا: إذا انتهت إلى حد لا تعيش معه لم تبح بالذكاة, ونص عليه الإمام إذا شق الذئب بطنها فخرج قصبها فذبحها لا تؤكل, وقال: إن كان يعلم أنها تموت من عقر السبع فلا تؤكل وإن ذكاها وقد يخاف على الشاة الموت من العلة والشيء يصيبها فبادرها فذبحها فيأكلها وليس هذا مثل هذه ولا ندري لعلها تعيش والتي خرجت أمعاؤها قد علم أنها لا تعيش, وقال شيخنا: والأول أصح لأن عمر رضي الله عنه انتهى به الجرح إلى حد علم أنه لا يعيش فصحت وصاياه ووجبت عليه العبادة؛ ولأن ما ذكرنا فيما قبل يرد هذا. قال: وما رويناه عن الإمام أحمد فالصحيح أنها إذا كانت تعيش زمانا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح, والله أعلم.
مسألة: "وأما العقر فهو الجرح في غير الحلق واللبة وشرع في كل حيوان معجوز عنه من الصيد والأنعام"؛ لما "روى رافع بن خديج رضي الله عنه" قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم: فند بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا". متفق عليه1. وحرن ثور في بعض دور الأنصار فضربه رجل بالسيف وذكر اسم الله عليه فسأل عنه عليا فقال: ذكاة وجبت فأمرهم بأكله, وتردى بعير في بئر فذكي من قبل شاكلته فبيع بعشرين درهما فأخذ ابن عمر عشره بدرهمين رواه سعيد؛ ولأنه حيوان غير مقدور على تذكيته فأشبه الوحشي.
مسألة: "ولو تردى بعير في بئر فتعذر نحره فجرح في أي موضع من جسده فمات حل أكله" لذلك.
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الذبائح: حديث رقم 5498. ومسلم في الأضاحي: رقم 20.(2/91)
كتاب الصيد
مدخل
...
كتاب الصيد
كل ما أمكن ذبحه من الصيد لم يبح إلا بذبحه وما تعذر ذبحه فمات بعقره حل بشروط ستة ذكرنا منها ثلاثة في الذكاة, والرابع: أن يكون الجارح الصائد معلما وهو ما يسترسل إذا أرسل ويجيب إذا دعي.
ويعتبر في الكلب والفهد خاصة أنه إذا أمسك لم يأكل ولا يعتبر ذلك في الطائر. الثاني: أن يرسل الصائد الآلة فإن استرسل الكلب بنفسه لم يبح صيده. الثالث: أن يقصد الصيد فإن أرسل سهمه ليصيب به غرضا أو كلبه ولا يرى صيدا,
ـــــــ
كتاب الصيد
مسألة: "كل ما أمكن ذبحه من الصيد لم يبح إلا بذبحه" وقد سبق ذكر المعجوز عن تذكيته. فأما المقدور عليه فلا يباح إلا بالذبح بلا خلاف بين أهل العلم, وقوله عليه السلام في حديث عدي: "فإن أدركته حيا فاذبحه".
مسألة: "وما تعذر ذبحه فمات بعقره حل بشروط ستة ذكرنا منها ثلاثة في الذكاة" وقد مضى تعليلها, "والرابع: أن يكون الجارح الصائد معلما" ولا خلاف في اعتبار هذا الشرط والأصل فيه قوله سبحانه: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}, وروى أبو ثعلبة الخشني قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنا بأرض صيد أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلم فأخبرني ما يصلح لي؟ قال: "أما ما ذكرت أنكم بأرض صيد فما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل, وما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل, وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل". متفق عليه.
مسألة: "ويعتبر في" تعليمه ثلاثة شروط: إذا أرسله استرسل وإذا زجره انزجر "وإذا أمسك لم يأكل" إذا كان كلبا أو فهدا, ويتكرر هذا منه مرة بعد أخرى حتى يصير معلما في حكم العرف, ولا يعتبر ترك الأكل في الطائر لأن تعليمه بأن يأكل عند أهل العرف بذلك فإن أكل غير الطائر من الصيد لم يبح في إحدى الروايتين. والثانيه: يباح, وروي(2/92)
فأصاب صيدا لم يبح, ومتى شارك في الصيد ما لا يباح قتله مثل أن يشارك كلبه أو سهمه كلب أو سهم لا يعلم مرسله أو لا يعلم أنه سمي عليه أو رماه بسهم مسموم يعين على قتله أو غرق في الماء أو وجد به أثرا غير أثر السهم أو الكلب يحتمل أنه مات
ـــــــ
ذلك عن جماعة من الصحابة لعموم قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}, وعن أبي ثعلبة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل". ذكره الإمام أحمد وأخرجه أبو داود, ودليل الرواية الأولى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عدي بن حاتم: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك". قلت: وإن قتل؟ قال: "وإن قتل إلا أن يأكل الكلب فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه". متفق عليه. وأما الآية فإنها تتناول ما أمسكن علينا, وهذا إنما أمسك على نفسه, وحديث أبي ثعلبة قال الإمام أحمد: يختلفون فيه عن هشيم, وعلى أن حديث عدي أصح لأنه متفق عليه وعدي بن حاتم أضبط ولفظه أبين؛ لأنه ذكر الحكم والعلة. قال أحمد: حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم, الشعبي يقول: كان جاري وربيطي فحدثني والعمل عليه. "الثاني": وهو الخامس "أن يرسل الصائد المصيد فإن استرسل بنفسه" فقتل "لم يبح صيده" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أرسلت كلبك وسميت فكل"؛ ولأن إرسال الجارحة جعل بمنزلة الذبح ولهذا اعتبرت التسمية معه. "الثالث": وهو السادس "أن يقصد الصيد فإن أرسل سهمه ليصيب به غرضا ولا يرى صيدا فأصاب صيدا لم يبح"؛ لأنه لم يقصد برميه عينا فأشبه من نصب سكينا فانذبحت بها شاة.
مسألة: "ومتى شارك في الصيد ما لا يباح قتله مثل أن يشارك كلبه أو سهمه كلب أو سهم لا يعلم مرسله أو لا يعلم أنه سمي عليه" لم يبح؛ لما روي أن عديا قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر. قال: "لا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر", وفي لفظ: "فإن وجدت مع كلبك كلبا آخر فخشيت أن يكون أخذ معه وقد قتله فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك", وفي لفظ: "فإنك لا تدري أيهما قتل". أخرجه البخاري؛ ولأنه شك في وجود الاصطياد المباح فوجب إبقاء حكم التحريم وكذلك الحكم في سهمه إذا وجد معه سهما آخر وقد قتل لا يباح لأنه إنما ذكر اسم الله على سهمه ولم يذكره على سهم غيره, والحديث حجة فيهما جميعا وفي بعض ألفاظ حديث عدي: "فإن لم تجد فيه إلا أثر سهمك فكله إن شئت", مفهومه أنه إن وجد فيه أثر غيره لا يأكله.
مسألة: "وإن رماه بسهم مسموم يعين على قتله" ويحتمل أنه مات به لم يحل لأن قتله بالسهم حرام وقتله بالسهم مباح فقد اشتبه المحظور بالمباح فيحرم كما لو مات بسهم مجوسي ومسلم "وإن رماه فغرق في ماء" يحتمل أنه مات بذلك. "حرم" لأن في(2/93)
لم يحل لما روى عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فأمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب له ذكاة فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه . وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره وإذا أرسلت سهمك فاذكر اسم الله عليه وإن غاب عنك يوما أو يومين ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكله إن شئت وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو قتله سهمك" .
ـــــــ
بعض ألفاظ حديث عدي: "وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك" .(2/94)
باب المضطر
ومن اضطر في مخمصة فلم يجد إلا محرما فله أن يأكل منه ما يسد رمقه
ـــــــ
باب المضطر
"ومن اضطر في مخمصة فلم يجد إلا محرما فله أن يأكل منه ما يسد" به "رمقه" أجمع العلماء على إباحة الأكل من الميتة للمضطر وكذلك سائر المحرمات التي لا تزيل العقل, والأصل فيه قوله سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}, ويباح له أكل ما يسد به الرمق ويأمن معه الموت بالإجماع, ويحرم عليه ما زاد على الشبع بالإجماع, وفي الشبع روايتان: أحدهما لا يباح, والثانية: يحل له الشبع اختارها أبو بكر؛ لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده ناقة فقال: أسلخها حتى نقدد لحمها وشحمها ونأكله, فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل عندك غني يغنيك"؟ قال: لا, قال: "فكلوها ولم يفرق". رواه أبو داود1؛ ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح, ودليل الأولى أن الآية الكريمة دلت على تحريم الميتة ثم استثنى منها ما ضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل كحالة الابتداء ولأنه بعد سد الرمق غير خائف للتلف فلم يجز له الأكل كغير المضطر يحققه أنه بعد سد الرمق كهو قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل هكذا هنا, إذا ثبت هذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف منها التلف إن ترك الأكل. قال الإمام أحمد: إذا كان يخشى على نفسه أن يتلف سواء كان من جوع أو يخاف إن ترك
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الأطعمة: حديث رقم 3816.(2/94)
وإن وجد متفقا على تحريمه ومختلفا فيه أكل من المختلف فيه فإن لم يجد إلا طعاما لغيره به مثل ضرورته لم يبح له أخذه وإن كان مستغنيا عنه أخذه منه بثمنه, فإن منعه منه أخذه قهرا وضمنه له متى قدر فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى قاتله ضمانه, وإن قتل المانع فلا ضمان فيه, ولا يباح التداوي بمحرم ولا شرب الخمر لمن عطش ويباح دفع الغصة بها إذا لم يجد مائعا غيرها,
ـــــــ
الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة أو يعجز عن الركوب فيهلك.
مسألة: "وإن وجد متفقا على تحريمه ومختلفا فيه, أكل من المختلف فيه" لأنه أخف تحريما كالخنزير متفق على تحريمه والثعلب مختلف فيه والقنفذ وما شاكل ذلك.
مسألة: "فإن لم يجد إلا طعاما لغيره به مثل ضرورته لم يبح له أخذه" لأن صاحب الطعام ساواه في الضرورة وانفرد بالملك فأشبه غير حال الضرورة.
مسألة: "وإن كان مستغنيا عنه أخذه منه بثمنه" لأنه أمكن الوصول إليه برضا صاحبه. قال القاضي: فإن لم يبعه إلا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه بذلك لم يلزمه إلا بثمن مثله لأنه صار مستحقا له بقيمته, فإن كان العوض معه دفعه إليه وإلا بقي في ذمته ولا يباح للمضطر من مال غيره إلا ما يباح له من الميتة. قال أبو هريرة: قلنا يا رسول الله ما يحل لأحدنا من مال أخيه إذا اضطر إليه؟ قال: "يأكل ولا يحمل ويشرب ولا يحمل".
مسألة: "فإن منعه منه أخذه قهرا وضمنه له متى قدر" [على مثله أو قيمته] وذلك لأن صاحب الطعام إذا كان مستغنيا عنه لزمه بذله للمضطر لأنه يتعلق به إحياء نفس آدمي معصوم فلزمه بذله له كما يلزمه بذل منافعه في تخليصه من الغرق والحرق, فإن لم يبذله له فللمضطر أخذه منه قهرا لأنه مستحق له دون مالكه فجاز له أخذه كعين ماله فإن احتيج في ذلك إلى قتال فله المقاتلة عليه. "فإن قتل المضطر فهو شهيد وعلى الآخر ضمانه" بالقصاص أو الدية "وإن آل آخذه إلى قتل مالكه فهو هدر" كما قلنا في الصائل إذا قتله المصول عليه دفعا عن نفسه ولم يمكنه دفعه إلا بالقتل.
مسألة: "ولا يباح التداوي بمحرم" لقوله عليه السلام: "لا شفاء لأمتي فيما حرم عليها". رواه الإمام أحمد في كتاب الأشربة ولفظه: "إن الله لم يجعل فيما حرم عليكم شفاء" 1.
مسألة: "ولا" يجوز "شرب الخمر من عطش" لأنه لا يروي.
مسألة: "ويباح دفع الغصة بها إذا لم يجد مائعا غيرها" لأنه حالة ضرورة إذ لو لم يفعل ذلك لخاف الموت لأنها تقتل صاحبها.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/95)
باب النذر
من نذر طاعة لزمه فعلها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" فإن كان لا يطيقها -كشيخ نذر صياما لا يطيقه- فعليه كفارة يمين؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين" ومن نذر المشي إلى بيت الله الحرام
ـــــــ
باب النذر
والأصل في النذر الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله سبحانه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} وأما السنة فما روت عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". أخرجه البخاري1, وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة وهو غير مستحب لأن ابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل". متفق عليه2.
مسألة: "ومن نذر أن يطيع الله فليطعه" لحديث عائشة رضي الله عنها "فإن كان لا يطيق - كشيخ كبير نذر صياما لا يطيقه- فعليه كفارة يمين" لما روى عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال: "لتمش ولتركب". متفق عليه3, ولأبي داود: "ولتكفر يمينها" 4. وللترمذي "ولتصم ثلاثة أيام" 5. قال ابن عباس: من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا يطيقه فليف لله بما نذر فإذا كفر فهل يلزمه مع الكفارة إطعام؟ على روايتين: إحداهما لا يلزمه لأن الكفارة إنما وجبت لترك الفعل فلو أوجبنا فدية عن الصيام لجمعنا بين كفارتين ولأنه لو نذر ما لا يطيقه غير الصوم لما يلزمه أكثر من كفارة كذا ها هنا, والثانية: يلزمه أن يطعم عن كل يوم مسكينا كما قلنا في رمضان إذا عجز عن صيامه والأول أصح وأقيس لأن موجب النذر اليمين واليمين إنما لها كفارة واحدة.
مسألة: "ومن نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزه المشي إلا في حج أو عمرة" لأن المشي المعهود في الشرع إلى البيت هو المشي في حج أو عمرة فإذا أطلق الناذر
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في القدر: حديث رقم 6608, 6609. ومسلم في النذر: حديث رقم 3, 7.
3 - رواه البخاري في الصيد: باب 27. ومسلم في النذر: حديث رقم 11.
4 - رواه أبو داود في الأيمان والنذور: حديث رقم 3295.
5 - رواه الترمذي في النذور: حديث رقم 1544. وقال: هذا حديث حسن.(2/96)
لم يجزه المشي إلا في حج أو عمرة فإن عجز عن المشي ركب وإن نذر صوما متتابعا فعجز عن التتابع صام متفرقا وكفر وإن ترك التتابع لعذر في أثنائه خير بين استئنافه وبين البناء والتكفير وإن تركه لغير عذر وجب استئنافه وإن نذر معينا فأفطر في بعضه أتمه وقضى وكفر بكل حال
ـــــــ
حمل على المعهود الشرعي ويلزمه المشي لأن المشي إلى العبادة أفضل؛ ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يركب في عيد ولا جنازة قط, فإذا ثبت هذا فإنه إن أتى البيت ماشيا فقد وفى بنذره, "فإن عجز عن المشي ركب" وكفر كفارة يمين لحديث عقبة بن عامر وقد سبق, وروى عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفارة النذر كفارة يمين" 1. وعنه رواية أخرى يلزمه دم لأن ابن عباس رضي الله عنهما روى أن أخت عقبة نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي هديا وفيه ضعف, والصحيح الأول لما سبق ولأن المشي مما لا يوجبه الإحرام فلم يجب الدم بتركه كما لو نذر صلاة ركعتين فلم يصلهما فإن قيل خبر عقبة ليس فيه ذكر عجز أخته [عن المشي], قلنا: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم عجزها لمعرفته بحالها أو من حيث أن الظاهر من حال المرأة أنها لا تطيق المشي في الحج كله أو ذكر له ذلك فلم ينقل, ودليل هذا التأويل أن المشي قربة والقربة تلزم بالنذر فلا يجوز أن يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بتركه من غير عذر.
مسألة: "وإن نذر شهرا متتابعا فعجز عن التتابع صام متفرقا وكفر" لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أخت عقبة بن عامر بالكفارة لعجزها عن المشي لأن النذر كاليمين ولو حلف ليصومن متتابعا فأخل به لزمته الكفارة.
مسألة: "وإن ترك التتابع لعذر في أثنائه" من مرض أو حيض "خير بين استئنافه" ولا شيء عليه لأنه أتى بما نذره على وجهه "وبين أن يبني على صيامه ويكفر" لأن الكفارة تلزم لتركه المنذور وإنما جوزنا له البناء ها هنا لأن الفطر لعذر لا يقطع التتابع حكما بدليل أنه لو أفطر في صيام الشهرين المتتابعين من غير عذر كان له البناء وإن كان العذر يبيح الفطر كالسفر فهل يقطع التتابع؟ فيه وجهان: أحدهما يقطعه لأنه يفطر باختياره, والثاني: لا يقطعه لأنه عذر في الفطر في رمضان فأشبه المرض.
مسألة: "وإن تركه لغير عذر وجب استئنافه" ولا كفارة عليه لأنه ترك التتابع المنذر ولغير عذر مع إمكان الإتيان به فلزمه كما لو نذر صوما معينا فصام قبله.
مسألة: "وإن نذر صياما معينا فأفطر في بعضه أتمه وقضى وكفر بكل حال" سواء
ـــــــ
1 - رواه مسلم في النذر: حديث رقم 13.(2/97)
وإن نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها ولا نذر في معصية
ـــــــ
أفطر لعذر أو لغير عذر ولا يلزمه استئناف نص عليه الإمام أحمد, ولكنه يقضي ما تركه لأنه واجب بالنذر فلزمه قضاؤه كالواجب بالشرع ويكفر لأنه فات عليه ما نذره فلزمته الكفارة لأنه كاليمين والمذهب أنه إن تركه لغير عذر لزمه الاستئناف والكفارة لأنه صوم يجب متتابعا بالنذر فأبطله الفطر لغير عذر كما لو شرط التتابع وذكر أبو الخطاب رواية أنه لا كفارة عليه إذا تركه لعذر لأن المنذور محمول على المشروع, ولو أفطر في رمضان لعذر لم يلزمه شيء ولنا أنه فات عليه ما نذره فلزمته الكفارة بدليل قوله عليه السلام لأخت عقبة: "لتركب وتكفر يمينها", وفارق رمضان فإنه لو أفطر لغير عذر لم يكن عليه كفارة إلا في الجماع.
مسألة: "ومن نذر رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب إلا أن ينوي رقبة بعينها" يعني لا يجزيه إلا رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل وهي التي تجزئ في الكفارة لأن النذر المطلق يحمل على المعهود في الشرع والواجب بأصل الشرع كذلك, [و في وجه لأصحاب الشافعي يجزيه أي رقبة كانت لأنه نوى بلفظه ما يحتمله] "فأما إن نوى رقبة بعينها تعينت" بنذره كما لو نذر صوم يوم بعينه.
مسألة: "ولا نذر في معصية" ولا يحل الوفاء به إجماعا لقوله عليه السلام: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصه", ويجب عليه كفارة يمين. روي ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, وعنه ما يدل على أنه لا كفارة عليه لقوله عليه السلام: "لا نذر في معصية الله ولا في ما لا يملك العبد". رواه مسلم1, وقال: "ليس على الرجل نذر فيما لا يملك". متفق عليه2. وقال: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى". رواه أبو داود3, ولم يأمر بكفارة ولأن النذر التزام الطاعة وهذا التزام معصية ولأنه نذر غير منعقد فلم يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة ووجه الأولى ما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين". رواه الإمام أحمد وأبو داود وقال الترمذي: هو حديث غريب.4 وفي حديث عمران: "وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه وتكفيره ما يكفر اليمين". وأما ما سبق من الأحاديث فمعناها لا يوفي بالنذر في معصية الله وإن لم يبين الكفارة فيها فقد بينها ها هنا.
ـــــــ
1 - رواه مسلم في النذر: حديث رقم 8.
2 - رواه البخاري في الأدب: حديث رقم 6047. ومسلم في النذر: حديث رقم 8.
3 - رواه أبو داود في الطلاق: حديث رقم 2192.
4 - سبق تخريجه.(2/98)
ولا مباح ولا فيما لا يملك ابن آدم, ولا فيما قصد به اليمين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم", وقال: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله سبحانه", وإن جمع في النذر بين الطاعة وغيرها فعليه الوفاء بالطاعة وحدها لما روى ابن عباس قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قائما فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم, فقال: "مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه". وإن قال لله علي نذر ولم يسمه فعليه كفارة يمين,
ـــــــ
مسألة: "ولا" نذر "فيما لا يملك ابن آدم" لما سبق.
مسألة: "ولا نذر في مباح" كمن نذر أن يلبس ثوبه أو يركب دابته فالناذر مخير بين فعله فيبر وبين تركه ويكفر كاليمين على ذلك ويتخرج في المذهب أن لا ينعقد هذا النذر ولا كفارة عليه بتركه وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى", ولم يذكر كفارة.
مسألة: "ولا نذر فيما قصد به اليمين" وهو نذر اللجاج وسيأتي في باب الأيمان إن شاء الله تعالى.
مسألة: "وإن جمع في النذر بين الطاعة وغيرها فعليه الوفاء بالطاعة وحدها؛ لما روى ابن عباس" رضي الله عنهما "قال": بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم "فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس و لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم, فقال" النبي صلى الله عليه وسلم: "مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم الصوم". رواه البخاري1.
مسألة: "وإن قال لله علي نذر ولم يسمه فعليه كفارة يمين" ويسمى النذر المبهم فيه كفارة يمين في قول أكثرهم, وقد روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ولا نعلم فيها مخالفا إلا الشافعي رضي الله عنه قال: لا ينعقد نذره ولا كفارة عليه, ولنا ما روى عصبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة اليمين". رواه الترمذي, وقال: حديث حسن صحيح2, وهذا نص وهو قول جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه الترمذي في النذور والأيمان: حديث رقم 1528.(2/99)
كتاب الأيمان
مدخل
...
كتاب الأيمان
ومن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه فعليه كفارة يمين إلا أن يقول إن شاء الله متصلا بيمينه أو يفعله مكرها أو ناسيا فلا كفارة عليه,
ـــــــ
كتاب الأيمان
مسألة: "ومن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله أو ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه فعليه كفارة يمين" والأصل في ذلك قول الله سبحانه: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} 1, وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها". متفق عليه2, وقال عليه السلام: "إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". متفق عليه3. وقال لعبد الرحمن: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك" 4. فإذا حلف أن لا يفعل شيئا ففعله فقد حنث ولزمته الكفارة, وكذلك إن حلف ليفعلنه في وقت فلم يفعله فيه كقوله: لأصومن غدا فلم يصم حنث ولزمه الكفارة لا خلاف في هذا بين فقهاء الأمصار. قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بإجماع المسلمين هي اليمين على المستقبل من الأفعال.
مسألة: "إلا أن" يستثني فـ "يقول" لا فعلت "إن شاء الله" أو لأفعلن إن شاء الله "متصلا بيمينه" فلا يحنث إن فعله أو لم يفعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فقد اسثتنى". رواه أبو داود من حديث ابن عمر5.
ـــــــ
1 - سورة المائدة: الآية 89.
2 - رواه البخاري في الأيمان: حديث رقم 6621. ومسلم في الأيمان: حديث رقم 9.
3 - رواه البخاري في الأيمان: حديث رقم 6622. ومسلم في الأيمان: حديث رقم 17.
4 - رواه مسلم في الأيمان: حديث رقم 19.
5 - رواه أبو داود في الأيمان والنذور: حديث رقم 3261.(2/100)
ولا كفارة في الحلف على ماض سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم يكن ولا في اليمين الجارية على لسانه من غير قصد إليها كقوله في عرض حديثه لا والله
ـــــــ
مسألة: "وإن حلف أن لا يفعل شيئا ففعله مكرها أو ناسيا لم يحنث" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" 1؛ ولأن فعل المكره لا ينسب إليه فلم تجب عليه كفارة كما لو لم يفعله.
مسألة: "ولا كفارة في الحلف على ماض سواء تعمد الكذب أو ظنه كما حلف فلم يكن" وذلك أن اليمين على الماضي ينقسم ثلاثة أقسام: ما هو فيه صادق فلا كفارة فيه إجماعا وما هو متعمد الكذب فيه فهي تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم ولا كفارة فيها في ظاهر المذهب, وقال الشافعي رضي الله عنه: فيها الكفارة, وعن الإمام أحمد مثله لأنه وجدت منه اليمين والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة, ولنا أنها يمين غير منعقدة فلا توجب كفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبه اللغو وبيان أنها غير منعقدة أنها لا توجب برا ولا يمكن فيها, ولأنها قارنها ما ينافيها وهو الحنث فلم تنعقد كالنكاح إذا قارنه الرضاع ولأن الكفارة لا ترفع إثمها فلا تشرع فيها بدليل أنها كبيرة فإنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس". رواه البخاري2 وروي فيه: "خمس من الكبائر لا كفارة لهن: الإشراك بالله والفرار من الزحف وبهت المؤمن وقتل المسلم بغير حق والحلف على يمين فاجرة يقتطع فيها مال امرئ مسلم" 3, ولا يصح القياس على المستقبلة لأنها يمين معمودة فتجب الكفارة في حلها وهذه لا عقد لها فلا حل لها. قال ابن المنذر: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" يدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف على فعل يفعله فيما يستقبله. القسم الثالث: ما يظنه فيتبين بخلاف ما ظنه فلا كفارة فيها لأنها من لغو اليمين واللغو نوعان: أحدهما: هذه لا كفارة فيها لأنها يمين غير منعقدة لأن الحنث مقارن لها فأشبهت يمين الغموس ولأنه غير قاصد المخالفة فأشبه ما لو حنث ناسيا, وعن الإمام أحمد أنه ليس من لغو اليمين وفيه الكفارة والمذهب الأول لما سبق. النوع الثاني: من اللغو "أن يحلف بلسانه من غير أن يعقد عليها قلبه بل تمر "على لسانه من غير قصد إليها", وقال عطاء: قالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يعني في اللغو في اليمين: "هو كلام الرجل في بيته: لا والله وبلى والله". أخرجه أبو داود وروي4.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الأيمان: حديث رقم 6675.
3 - سبق تخريجه.
4 - رواه أبو داود في الأيمان: حديث رقم 3254.(2/101)
وبلى والله لقول الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}. ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى أو اسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته كعلمه وكلامه وعزته وقدرته وعظمته وعهده وميثاقه وأمانته إلا في النذر الذي يقصد به اليمين فإن كفارته كفارة يمين,
ولو حلف بهذا كله والقرآن جميعه فحنث أو كرر اليمين على
ـــــــ
عن عائشة موقوفا قالت: أيمان اللغو ما كان في المراء والهزل والمزاحة, والحديث الذي لا يعقد عليه القلب ولأن اللغو في كلام العرب الكلام غير المعقود وهذا كذلك وإذا ثبت هذا فاللغو لا كفارة فيه لقول الله سبحانه: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, فجعل الكفارة لليمين التي يؤاخذ بها ونفي المؤاخذة باللغو فيلزم انتفاء الكفارة.
مسألة: "ولا تجب الكفارة إلا في اليمين بالله تعالى أو اسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته كعلمه وكلامه وعزته وقدرته وعظمته وعهده وميثاقه وأمانته" أجمع أهل العلم على أن من حلف بالله عز وجل فقال: والله أو تالله أو بالله فحنث أن عليه الكفارة. قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي يقولون: من حلف باسم من أسماء الله عز وجل فحنث فعليه الكفارة ولا نعلم في ذلك اختلافا, وكذلك إن أقسم بصفة من صفات ذات الله تعالى في قولهم جميعا, وقال أبو حنيفة في قوله وعلم الله لا يكون يمينا: لأنه يحتمل المعلوم قلنا يبطل بقوله وقدرة الله فإنه يحتمل المقدور وقد سلموه.
مسألة: "إلا في النذر الذي يقصد به اليمين فإن كفارته كفارة يمين" وذلك أنه متى أخرج النذر مخرج اليمين -بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا أو يحنث به على شيء مثل أن يقول: إن كلمت زيدا فعلي الحج أو صدقة مالي أو صوم شهر -فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه فلا يلزمه شيء وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وكفارة يمين, ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب ولا يتعلق عليه الوفاء به وإنما يلزم نذر التبرر على ما سبق في باب النذر.
مسألة: "وقيل لا شيء عليه بالحلف بالحج ولا بصدقة ماله" لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله سبحانه لحرمة الاسم وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه لأنه لم يخرجه مخرج القربة وإنما التزمه على طريق العقوبة فلا يلزمه, وقال أبو حنيفة: يلزمه كنذر التبرر, ولنا ما روي عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين". أخرجه الجوزجاني, وسعيد بن منصور. وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بالمشي أو الهدي أو جعل ماله في سبيل الله عز وجل(2/102)
شيء واحد قبل التكفير, أو حلف على أشياء بيمين واحدة لم يلزمه أكثر من كفارة
ـــــــ
أو في المساكين أو في رتاج الكعبة فكفارته كفارة يمين"؛ ولأنه قول عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة وحفصة وزينب بنت أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين ولا مخالف لهم في عصرهم نعلمه فكان إجماعا؛ ولأنه يمين فيدخل في قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, ودليل أنه يمين أنه يسمى بذلك ويسمى قائله حالفا وفارق نذر التبرر فإنه لم يخرجه مخرج اليمين وإنما قصد به التقرب وها هنا خرج مخرج اليمين فأشبهها من وجه وأشبه النذر من وجه فخيرناه بين الوفاء به والكفارة, وعن أحمد يتعين عليه الكفارة ولا يجزيه الوفاء بنذره لأنها يمين والأول أولى؛ لأنه جمع الصيغتين فيجب العمل بهما والخروج من عهدته بما يخرج به عن عهدة كل واحد منهما.
مسألة: "لو حلف بهذا كله" يعنى بأسماء الله وصفاته "والقرآن جميعه فحنث أو كرر اليمين على شيء واحد قبل التكفير أو حلف على أشياء بيمين واحدة" [فحنث] "لم يلزمه أكثر من كفارة". أما إذا حلف بالله وصفاته كلها أو كرر اليمين على شيء واحد مثل قوله عليه السلام: "والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا" ثم حنث فليس عليه إلا كفارة واحدة, وقال أصحاب الرأي: عليه كفارات إذا كررت اليمين إلا أن يقصد التأكيد لأن أسباب الكفارات تكررت فتتكرر الكفارات كالقتل وإتلاف صيد الحرم؛ ولأن اليمين الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه ولنا أنها أسباب كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس واحد وقد ثبت الأصل بقوله عليه السلام: "الحدود كفارات لأهلها", ولأن الثانية لا تفيد إلا ما أفادته الأولى فلم يجب أكثر من كفارة كما لو قصد التأكيد وقياسهم ينتقض بما إذا قصد التأكيد.
مسألة: وأما إذا حلف بالقرآن جميعه فحنث فعليه كفارة واحدة نص عليه, وعنه يلزمه لكل آية كفارة, روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه, وقال الإمام أحمد لا أعلم شيئا يدفعه وعن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية كفارة يمين فمن شاء بر ومن شاء فجر". رواه الأثرم ووجه الأولى قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, وهذه يمين فتدخل في عموم الآية ولأنها يمين فلم توجب أكثر من كفارة كسائر الأيمان؛ ولأن إيجاب كفارات بعدد الآيات يفضي إلى منع الحالف من البر والتقوى والإصلاح بين الناس وقد نهى الله سبحانه عن ذلك بقوله: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} 1، ولأن الحالف بصفات الله كلها وتكرار اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة فالحلف
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 224.(2/103)
وإن حلف أيمانا على شيء فعليه لكل يمين كفارتها, ومن تأول في يمينه فله تأويله إلا أن يكون ظالما فلا ينفعه تأويله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك".
ـــــــ
بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزيه كفارة ويحمل كلام أحمد على الندب لا على الإيجاب فإن المنصوص عنه لكل آية كفارة فإن لم يمكنه فكفارة واحدة ورده إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب والله أعلم, وحديث مجاهد مرسل وقول ابن مسعود يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله سبحانه والمبالغة في تعظيمه لاغير.
مسألة: "وإن حلف على أشياء بيمين واحدة لم يلزمه أكثر من كفارة" لأنها يمين واحدة كقوله: والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست, وإن حنث في جنس انحلت في الجميع ولزمته الكفارة ولا نعلم في هذا خلافا.
مسألة: "وإن حلف أيمانا على" أشياء فقال: والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست فحنث في الجميع "فعليه لكل يمين كفارتها" نص عليه في رواية المروذي, وقال أبو بكر: تجزيه كفارة واحدة نقلها ابن منصور عن الإمام أحمد. قال القاضي: وهي الصحيحة. قال أبو بكر: ما نقله المروذي عن أحمد قول أول لأبي عبد الله ومذهبه أن كفارة واحدة تجزيه لأنها كفارات من جنس واحد فتداخلت كالحدود من جنس واحد إذا اختلفت محالها بأن يسرق من جماعة أو يزني بنساء, ولنا أنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تكفر إحداها بكفارة الأخرى كما لو كفر عن إحداها قبل الحنث في الأخرى كالأيمان المختلفة الكفارة وهذا فارق الايمان على شيء واحد فإنه متى حنث في إحداها كان حنثا في الأخرى فلما كان الحنث واحدا كانت الكفارة واحدة وها هنا الحنث متعدد فكانت الكفارة متعددة.
مسألة: "ومن تأول في يمينه فله تأويله إلا أن يكون ظالما فلا ينفعه تأويله" لقوله عليه السلام: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك" 1. ومعنى التأويل أن يقصد بكلامه محتملا يخالف ظاهره نحو أن يحلف أن هذا أخي ويعني به أنه أخوه في الإسلام أو المشابهة, وما رأيت فلانا يعني ما ضربت برئته, ولا ذكرته يعني ما قطعت ذكره, أو يقول جواري أحرار يعني سفنه, ونسائي طوالق يعني أقاربه دون زوجاته, فهذا وأشباهه إذا عناه بيمينه فهو تأويل لأنه خلاف الظاهر فلا يخلو الحالف من ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون
ـــــــ
1 - رواه أبو في الأيمان: حديث رقم 3255.(2/104)
..............................................................................
ـــــــ
مظلوما مثل أن يستحلفه سلطان على شيء لو صدق عنده لظلمه أو ضره أو يخاف على مسلم من ظالم فيحلف عنه فهذا له تأويله لقوله عليه السلام: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب". يعني سعة. الثاني: أن يكون الحالف ظالما كالذي يستحلفه الحاكم فهذا ينصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ ولا ينفعه تأويله لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يمينك على ما يصدقك به صاحبك". رواه أبو داود, ولو ساغ ذلك للظالم لكان وسيلة إلى جحد الحقوق لأن مقصود اليمين تخويف الحالف ليرتدع عن الجحود خوفا من عاقبة اليمين الكاذبة, فإذا ساغ له التأويل انتفى ذلك وصار وسيلة إلى إبطال الحقوق. الثالث:لم يكن ظالما ولا مظلوما فظاهر كلام الإمام أحمد له تأويله؛ لأنه عني بكلامه ما يحتمله على وجه لم يتضمن إبطال حق أحد فجاز كما لو كان مظلوما, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا.(2/105)
باب جامع الأيمان
ويرجع فيها إلى النية فيما يحتمله اللفظ
ـــــــ
باب جامع الأيمان
"ويرجع فيها إلى النية فيما يحتمله اللفظ" سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له, فالموافق للظاهر هو أن ينوي باللفظ موضوعه [الأصلي] مثل أن ينوي باللفظ العام العموم والمخالف يتنوع أنواعا: أحدها أن ينوي بالعام الخاص مثل أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة ويريد لحما بعينه أو فاكهة بعينها ومثل أن يحلف لا كلمت رجلا ويريد رجلا بعينه أو لا يتغدى يريد غداء بعينه اختصت يمينه بت, ومنه أن يحلف على ترك شيء مطلقا ويريد وقتا بعينه. والثاني: أن ينوي بالخاص العام مثل أن يحلف لا أشرب له الماء من العطش يريد قطع المنة فتتناول يمينه كل ما فيه منة فإنه شائع في الكلام التنيه بالأدنى على ما فوقه وبالأعلى على ما دونه فإذا نبه بشرب الماء في حال العطش على اجتناب كل نفع يصل إليه منه ويمتن به عليه كان صحيحا فإن لم يكن له نية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها لأنه دال على النية, وقال الشافعي رضي الله عنه: لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف اللفظ لأن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه ولو أحنثناه على ما نواه لأحنثناه على ما نوى لا على ما حلف؛ ولأن اليمين لا تنعقد بالنية وكذلك لا يحنث بمخالفته ما نواه ولنا أنه شائع في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام بدليل قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 1, {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} 2, {فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} 3, والقطمير لفافة
ـــــــ
1 - سورة فاطر: الآية 13.
2 - سورة النساء: الآية 49.
3 - سورة النساء: الآية 53.(2/105)
فإذا حلف لا يكلم رجلا يريد واحدا بعينه أو لا يتغدى يريد غداء بعينه اختصت يمينه به, وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش يريد قطع منته حنث بكل ما فيه منة, وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها فباعه وانتفع بثمنه حنث, وإن حلف ليقضينه حقه غدا يريد أن لا يتجاوزه فقضاه اليوم لم يحنث
ـــــــ
النواة والفتيل ما في شقها, والنقير النقرة في ظهرها, ولم يرد ذلك بعينه بل نفي كل شيء, وقال الحطيئة:
ولا يظلمون الناس حبة خردل
يريد لا يظلمون الناس شيئا وإذا كان سائغا, فقد نوى بكلامه ما يحتمله فيحنث كما لو لفظه؛ ولأننا أجمعنا على صحة التأويل في اليمين لغير الظالم وهو إرادة ما الظاهر خلافه وهذا مثله, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما لكل امرئ ما نوى" 1, فيدخل فيه ما اختلفنا فيه ولأن الشارع قد ينص على الحكم في صورة خاصة لمعنى فيثبت الحكم في كل ما وجد فيه المعنى ولا يقف على لفظه كتنصيصه على تحريم الربا في الأعيان الستة فثبت التحريم فيما وجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي.
مسألة: "فإذا حلف لا يكلم رجلا يريد واحدا بعينه أو لا يتغدى يريد غداء بعينه اختصت يمينه به" كما ذكرنا "وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش يريد قطع منته حنث بكل ما فيه منة" لأن مبنى الأيمان على النية لا على اللفظ ونيته قطع المنة فيحنث بكل ما فيه منة.
مسألة: "وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها فباعه وانتفع بثمنه حنث" لذلك.
مسألة: "وإن حلف ليقضينه حقه غدا يريد أن لا يتجاوزه فقضاه اليوم لم يحنث" اعتبارا بنيته؛ لأن مقتضى هذه اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد فإذا قضاه قبله فقد قضاه قبل خروج الغد وزاده خيرا؛ ولأننا قد بينا أن مبنى الأيمان على النية وهذا نوى بيمينه أن لا يجاوز الغد فتعلقت يمينه بهذا المعنى كما لو صرح به فإن لم يكن له نية رجع إلى سبب اليمين [وما هيجها] فإن كانت تقتضي التعجيل فهو كما لو نواه وإن لم يكن له نية ولا سبب فظاهر كلام الخرقي أنه لا يبر إلا بقضائه في الغد خاصة وهكذا في سائر الأيمان, فلو حلف ليصومن شعبان فصام رجبا لم يبر ولو حلف ليأكلن هذا الطعام في غد فأكله اليوم لم يبر وإن أكل بعضه اليوم وبعضه غدا لم يبر؛ لأن اليمين في الإثبات لا يبر فيها إلا بجميع المحلوف عليه فترك أكل بعضه إلى الغد كترك جميعه إلا أن ينوي بيمينه أن لا يجاوز ذلك الوقت.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/106)
وإن حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة فباعه بأكثر منها لم يحنث إذا أراد أن لا ينقصه عن مائة وإن حلف ليتزوجن على امرأته يريد غيظها لم يبر إلا بتزوج يغيظها به, وإن حلف ليضربنها يريد تأليمها لم يبر إلا بضرب يؤلمها, وإن حلف ليضربنها عشرة أسواط فجمعها فضربها ضربة واحدة لم يبر, فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فيقوم مقام نيته لدلالته عليها, فإن عدم ذلك حملت يمينه على ظاهر لفظه فإن كان له عرف شرعي كالصلاة والزكاة حملت يمينه عليه وتناولت صحيحه, ولو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث إلا أن يضيفه إلى ما لا يصح بيعه كالحر والخمر فتتناول يمينه صورة البيع, وإن لم يكن له عرف شرعي وكان له
ـــــــ
مسألة: "وإن حلف لا يبيع ثوبه إلا بمائة فباعه بأكثر منها لم يحنث إذا كان أراد أن لا ينقصه عن مائة" لذلك.
مسألة: "وإن حلف ليتزوجن على امرأته يريد غيظها لم يبر إلا بتزوج يغيظها به" لما سبق.
مسألة: "وإن حلف ليضربنها يريد تأليمها لم يبر إلا بضرب يؤلمها" لأنه قصد ذلك وبنى الأيمان على القصد والنية.
مسألة: "وإن حلف ليضربنها عشرة أسواط فجمعها فضربها بها ضربة واحدة لم يبر"؛ لأنه لا يفهم من ضرب عشرة أسواط إلا عشر ضربات متفرقات فيجب أن تحمل اليمين عليه؛ ولأن السوط آلة أقيم مقام المصدر وانتصب انتصابه فمعنى كلامه: لأضربن عشر ضربات بسوط, وكذلك لما قال الله سبحانه وتعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}, لم يجزه ضربة واحدة بثمانين سوطا, وأما قوله سبحانه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} : فإن الله سبحانه خص بها أيوب عليه السلام ورخص له ولهذا امتن عليه, وكذلك المريض الذي يخاف عليه التلف أرخص له.
مسألة: "فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فيقوم مقام نيته لدلالته عليها فإن عدم ذلك" يعني عدم السبب والنية جميعا "حملت على ظاهر" اللفظ "فإن كان له عرف شرعي" وموضوع لغوي حملت يمين الحالف على الشرعي دون اللغوي كالصلاة والصوم والزكاة والحج وهذا لا نعلم فيه خلافا.
مسألة: وتتناول اليمين الصحيح دون الفاسد "فلو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا لم يحنث" لأن اليمين تتعلق بالبيع الشرعي والفاسد ليس بشرعي "إلا أن يضيفه إلى ما لا يصح بيعه كالحر والخمر فتتناول يمينه صورة البيع".
مسألة: "وإن لم يكن له عرف شرعي وكان له عرف في العادة كالدابة والظعينة حملت(2/107)
عرف في العادة كالرواية والظعينة حملت يمينه عليه فلو حلف لا يركب دابة فيمينه على الخيل والبغال والحمير وإن حلف لا يشم الريحان فيمينه على الفارسي, والشواء هو اللحم المشوي, وإن حلف لا يطأ امرأته حنث بجماعها, وإن حلف لا يطأ دارا حنث بدخولها كيفما كان, وإن حلف لا يأكل لحما ولا رأسا ولا بيضا فيمينه على كل لحم ورأس كل حيوان وبيضه, والأدم كل ما جرت العادة بأكل الخبز
ـــــــ
يمينه عليه" لأن الظاهر أنه أراد ذلك "فلو حلف لا يركب دابة فيمينه على الخيل والبغال والحمير" لأن الدابة اسم لذلك عرفا.
مسألة: "و" إن "حلف لا يشم الريحان فيمينه على الفارسي" لأنه اسمه في العرف.
مسأله: "وإن حلف لا يأكل شواء فأكل لحما مشويا حنث" وإن أكل بيضا مشويا لم يحنث لذلك.
مسألة: "وإن حلف لا يطأ امرأته حنث بجماعها" لأن الوطء العرفي في الزوجة هو الجماع, "وإن حلف لا يطأ دار أخيه حنث بدخولها" ماشيا وراكبا, و "كيف ما كان" لما ذكرناه.
مسألة: "وإن حلف لا يأكل لحما ولا رأسا ولا بيضا فيمينه على كل لحم ورأس كل حيوان وبيضه" لأن لفظه عام في ذلك إلا أن يكون له نية فيقتصر على ما نواه, وقال ابن أبي موسى في الإرشاد: لا يحنث بأكل لحم السمك إلا أن ينويه بيمينه لأنه لا ينصرف إليه إطلاق اسم اللحم فإنه لو أمر وكيله أن يشتري له لحما فاشترى سمكا لم يلزمه ويصح أن ينفي عنه الاسم فيقول ما أكلت لحما, وإنما أكلت سمكا فلم يتعلق به الحنث عند الإطلاق كما لو حلف لا يقعد تحت سقف لا يحنث بقعوده تحت السماء, وقد سماها الله تعالى سقفا محفوظا لأنه مجاز كذا ها هنا, ولنا قول الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} 1, وقال تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} 2؛ ولأنه من جسم حيوان فكان لحما كسائر اللحم, وما ذكروه يبطل بلحم العصافير وصغار الطير فإنه لحم مع ما ذكروه ودعوى المجاز تحتاج إلى دليل والأصل في الإطلاق الحقيقة, وأما السماء فإن الحالف لا يقعد تحت سقف لا يمكنه التحرز من القعود تحته فلم يكن مراده بيمينه بخلاف ما نحن فيه.
مسألة: "والأدم كل ما جرت العادة بأكل الخبز به من مائع وجامد: كاللحم والبيض والملح والجبن والزيتون". وقال أبو حنيفة: ما لا يصطبغ به ليس بأدم لأن كل واحد منهما
ـــــــ
1 - سورة النحل: الآية 14.
2 - سورة فاطر: الآية 12.(2/108)
به من مانع وجامد كاللحم والبيض والملح والجبن والزيتون, وإن حلف لا يسكن دارا تناول ما يسمى سكنى فإن كان ساكنا بها فأقام بعد ما أمكنه الخروج منها حنث وإن قام لنقل قماشه أو كان ليلا فأقام حتى يصبح أو خاف على نفسه فأقام حتى أمن لم يحنث.
ـــــــ
يرفع إلى الفم مفردا ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "سيد الإدام اللحم". ولأنه يؤتدم به عادة أشبه ما يصطبغ بت, ولا عبرة برفعه مفردا لأنهما يجتمعان في المضغ والبلع الذي هو حقيقة الأكل, فإن أكل ملحا فقد توقف الإمام أحمد عنه, وقال القاضي: إن أكله مع الخبز حنث.
مسألة: "وإن حلف لا يسكن دارا تناول ما يسمى سكنا فإن كان ساكنا بها فأقام بعدما أمكنه الخروج منها حنث" لأن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها ألا تراه يقول: سكنت هذه الدار شهرا كما يقول لبست هذا الثوب شهرا.
مسألة: "وإن أقام لنقل" رحله و "قماشه لم يحنث" لأن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال فيحتاج إلى أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا وعن زفر أنه يحنث وإن انتقل في الحال لأنه لا بد أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها وليس بصحيح فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لا تقع اليمين عليه ولا يراد باليمين؛ ولأنه ترك والتارك لا يسمى ساكنا.
مسألة: وإن أقام لنقل قماشه وأهله لم يحنث, وقال الشافعي: يحنث ولنا أن الانتقال إنما يكون بالأهل والمال فلا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا تقع اليمين عليها.
مسألة: وإن "كان ليلا فأقام حتى يصبح أو خاف على نفسه" أو ماله "فأقام" في طلب النقلة ينتظر زاول المانع منها "لم يحنث", وإن مكث أياما وليالي لأن إقامته لدفع الضرر وانتظار الإمكان لا للسكنى.(2/109)
باب كفارة اليمين
وكفارتها: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
ـــــــ
باب كفارة اليمين
"وكفارتها {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}, أجمع المسلمون على أن الحانث في يمينه بالخيار إن شاء أطعم وإن شاء كسا وإن شاء أعتق أي ذلك فعل أجزأه؛ لأن الله سبحانه عطف هذه الخصال بعضها على بعض بحرف, "أو" وهى للتخيير قال الله سبحانه: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ(2/109)
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}.
ـــــــ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}, والواجب في الإطعام إطعام عشرة مساكين لنص الله سبحانه على عددهم ويعتبر فيهم أربعة شروط: الأول: أن يكونوا مساكين وهم الصنف الذي يدفع إليهم في الزكاة, والفقير داخل فيهم لأنه مسكين وزيادة, وأن يكونوا أحرارا واختار الشريف أبو جعفر دفعها إلى المكاتب لأنه ممن يجوز دفع الزكاة إليه ولنا أن الله سبحانه عده صنفا في الزكاة غير صنف المساكين فيدل على أنه ليس بمسكين, والكفارة إنما هي للمساكين بدليل الآية ولأن المسكين يدفع إليه لتتم كفايته والمكاتب إنما يأخذ لفكاك رقبته ما كفايته فإنها حاصلة بكسبه فإن عجز رجع إلى سيده فاستغنى بإنفاقه, ويخالف الزكاة فإنها تدفع إلى الغني والكفارة بخلافها ويشترط أن يكونوا مسلمين فلا يجوز صرفها إلى كافر, وقال أصحاب الرأي: يجوز دفعها إلى أهل الذمة لدخولهم في اسم المساكين, وخرج أبو الخطاب وجها لذلك ولنا أنهم كفار فلم يجز إعطاوهم كمستأمني أهل الحرب, والآية مخصوصة بهذا فنقيس عليه. الشرط الرابع: أن يكونوا قد أكلوا الطعام فإن كان طفلا لم يأكل لم يجز الدفع إليه في ظاهر كلام الخرقي وهي إحدى الروايتين عن أحمد, وعنه لا يشترط ذلك. قال أبو الخطاب: هذا قول أكثر الفقهاء لأنه حر مسلم محتاج فأشبه من يطعم ولنا قوله عز وجل: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, وهذا يقتضي أكلهم له فإذا لم تعتبر حقيقة الأكل وجب اعتبار مظنته ولا تتحقق مظنة الأكل ممن لم يطعم؛ ولأنه لو كان المقصود دفع حاجته جاز دفع القيمة ولم يتعين الإطعام, وهذا يقيد ما ذكروه فإذا اجتمعت هذه الأوصاف جاز الدفع إليه غير أن المحجور يقبض له وليه.
"فصل": ويطعم لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق أو رطلان من خبز أو مدان تمرا أو شعيرا, والمخرج في الكفارة ما يجزئ في الفطرة وهو البر والشعير والتمر والزبيب قياسا لها عليها وفي الخبز روايتان: إحداهما يجزئه لقوله سبحانه: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} 1, ومن أخرج الخبز فقد أطعم, والأخرى لا يجزئه لأنه خرج عن حال الكمال فأشبه الهريسة فإن قلنا يجزئه اعتبر أن يكون من مدبر فصاعدا, وقال الخرقي: لكل مسكين رطل خبز لأن الغالب أنها تكون إلا من مد أو أكثر ولا يجزئ من البر أقل من مد ولا من غيره أقل من مدين؛ لما روى الإمام أحمد بإسناده عن أبي يزيد المدني قال: جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمظاهر: "أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مدبر" 2, وهذا نص.
مسألة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ}. الآية.
ـــــــ
1 - سورة المجادلة: الآية 4.
2 - رواه أحمد في المسند 4/37, 6/410.(2/110)
وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث أو تأخيرها عنه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير". وروي: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه", ويجزئه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه: للرجل ثوب وللمرأة درع وخمار, ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة
ـــــــ
مسألة: "وهو مخير بين تقديم الكفارة على الحنث وتأخيرها عنه" لقوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خيرا". وروي: "فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه". متفق عليه1.
مسألة: "ويجزيه في الكسوة ما تجوز الصلاة فيه: للرجل ثوب وللمرأة درع وخمار" وقال الشافعي: يجزيه أول ما يقع عليه الاسم من سراويل أو إزار أو رداء أو مقنعة أو عمامة, وفي القلنسوة وجهان لأن ذلك يقع عليه اسم الكسوة فأشبه ما يجزئ في الصلاة, ولنا أن الكسوة أحد أنواع الكفارة فلم يجزئ فيه ما يقع عليه الاسم كالإطعام والإعتاق؛ ولأن اللابس ما لا يستر عورته يسمى عريانا لا مكتسيا, وكذلك لابس السراويل أو مئزر وحده يسمى عريانا, فوجب أن لا يجزيه؛ ولأنه مصروف إلى المساكين فيقدر كالإطعام, إذا ثبت هذا فإذا كسا امرأة أعطاها درعا وخمارا؛ لأنه أقل ما يجزئها الصلاة فيه وإن كسا الرجل أجزأه قميص أو ثوب يستر عورته به ويجعل على عاتقه منه شيئا أو ثوبين يأتزر بأحدهما ويجعل الآخر على عاتقه ولا يجزيه مئزر وحده ولا سراويل وحده؛ لقوله عليه السلام: "لا يصلي أحدكم في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء" 2.
مسألة: "ويجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة" وعند الشافعي لا يجزئه لقوله سبحانه: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ}, فوجه الحجة أنه جعل الكفارة أحد هذه الخصال الثلاث ولم يأت بواحدة منها. الثاني: أن اقتصاره على هذه الثلاث يدل على انحصار لتكفير فيها وما ذكرتموه قسم رابع ولأنه نوع من التكفير فلم يجز تبعيضه كالعتق, ولنا أنه أخرج من جنس المنصوص عليه بعدة العدد الواجب فأجزأ كما لو أخرجه من جنس؛ ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد فقام مقامه في بعضه كالتيمم لما جاز أن يقوم مقام الماء في جميع البدن في الجنابة جاز في بعضه في طهارة الحدث وفيما إذا كان بعض بدنه جريحا وبعضه صحيحا؛ ولأن معنى الطعام والكسوة متقارب إذ القصد منها سد الخلة ودفع الحاجة وتنوعهما من حيث كونهما في الإطعام إشباع الجوعة وفي الكسوة ستر العورة ولا يمنع
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.(2/111)
ولو أعتق نصف رقبة أو أطعم خمسة أو كساهم أو أعتق نصف عبدين لم يجزه, ولا يكفر العبد إلا بالصيام ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة
ـــــــ
الإجزاء في الكفارة الملفقة منهما كما لو كان أحد الفقيرين محتاجا إلى ستر العورة والآخر إلى الاستدفاء, وأما الآية فإنها تدل بمعناها على ما ذكرناه ولأنها دلت على أنه مخير في كل فقير من العشرة بين أن يطعمه أو يكسو, وهذا يقتضي ما ذكرناه ويصير كما يتخير في فداء الصيد الحرمي بين أن يفديه بالنظير أو يقوم النظير بدراهم فيشتري بها طعاما فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما فلو صام عن بعض الأمداد وأطعم بعضا جاز كذا ها هنا.
مسألة: "ولو أعتق نصف رقبة أو أطعم خمسة مساكين أو كساهم" لم يجزئه لأن مقصودهما مختلف متباين إذ كان القصد من العتق تكميل الأحكام أو تخليصه من الرق والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة وإبقاء النفس بدفع المسغبة في الإطعام ودفع ضرر الحر والبرد في الكسوة فلتقارب معناهما جرتا مجرى الجنس الواحد, فكملت الكفارة من أحدهما بالآخر ولذلك سوى بين عددهما ولتباعد مقصد العتق منهما ومباينته لهما لم يجر معهما مجرى الجنس الواحد, ولذلك خالف عدده عددهما فلم يكمل به أحدهما ولو يكمل هو بواحد منهما.
مسألة: وإن "أعتق نصف عبدين لم يجزه" وهو اختيار أبي بكر لأن المقصود من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل ذلك من إعتاق نصفين, والمذهب أنه يجزي. قال الشريف: هذا قول أكثرهم, ولأصحاب الشافعي قولان كذلك ومنهم من قال: إن كان نصف الرقبتين حرا أجزأ لأنه يحصل تكميل الأحكام وإن كان رقيقا لم يجز لأنه لم يحصل.
مسألة: "ولا يكفر العبد إلا بالصيام" لا خلاف بين أهل العلم في أن العبد يجزيه الصيام في الكفارة لأن ذلك فرض الحر المعسر وهو أحسن حالا من العبد فإنه يملك في الجملة فلو أذن له سيده في التكفير بالمال لم يلزمه لأنه ليس بمالك لما أذن له فيه وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجزيه التكفير بغير الصيام, وقال أصحابنا فيما إذا أذن له سيده في التكفير بالمال روايتان: إحداهما يجوز تكفيره به لأنه بإذن سيده يصير قادرا على التكفير بالمال فجاز له ذلك كالحر, والرواية الأخرى لا يجزيه لأنه لا يملك المال فيكون تكفيره بغير ماله فلم يصح كما لو أعتق الحر عبد غيره عن كفارته وعلى الروايتين لا يلزمه التكفير بالمال, وإن أذن له سيده لأن فرضه الصيام فلم يلزمه غيره كما لو أذن موسر لحر معسر في التكفير من ماله.
مسألة: "ويكفر بالصوم من لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة عياله وقضاء(2/112)
عياله وقضاء دينه ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وكتب وآنية وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه, ومن أيسر بعد شروعه في الصوم لم يلزمه الانتقال عنه ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه عشرة أيام
ـــــــ
دينه". قال الشافعي: من كان له الأخذ من الزكاة لحاجته فله الصيام لأنه فقير ولنا ظاهر قوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}, ومن لم يجد ما يكفر به فاضلا عن مؤنته ومؤنة عياله فليس بواجد ولأنه حق لا يزيد بزيادة المال فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته كصدقة الفطر فإن ملك ما يكفر به وعليه دين مثله وهو مطالب به فلا كفارة عليه؛ لأنه حق آدمي, والكفارة حق الله سبحانه فإذا كان مطالبا به وجب تقديمه كتقديمه على زكاة الفطر, وإن لم يكن مطالبا به فكلام أحمد يقتضي روايتين: إحداهما لا يجب لذلك والأخرى يجب لأنه لا يعتبر فيها قدر من المال فلم تسقط بالدين كزكاة الفطر.
مسألة: "ولا يلزمه أن يبيع في ذلك شيئا من مسكن وخادم وأثاث وكتب وآنية وبضاعة يختل ربحها المحتاج إليه" لأن الكفارة إنما تجب فيما يفضل عن حاجته الأصلية وهذا من حوائجه الأصلية فلا يلزمه بيع شيء من ذلك لأنه يضر به كثيرا, وقد قال عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار" 1.
مسألة: "ومن أيسر بعد شروعه في الصوم لم يلزمه الانتقال عنه" لأنه بدل لا يبطل بالقدرة عن المبدل فلم يلزمه الرجوع إليه كما لو قدر على الهدي في صوم السبعة الأيام فإنه لا يخرج بغير خلاف, والدليل على أن البدل لا يبطل ها هنها أن البدل الصوم والصوم صحيح مع قدرته اتفاقا.
مسألة: "ومن لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه عشرة أيام" وعنه لا يجزيه إلا كمال العدد لقوله سبحانه: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ}, ومن أطعم واحدا فما أطعم عشرة, ودليل الأولى وأنه يجزي أن ترديد الإطعام على الواحد في عشرة أيام في معنى إطعام عشرة لأنه قد دفع الحاجة في عشرة أيام فأشبه ما لو أطعم كل يوم واحدا والشيء بمعناه يقوم مقام وجوده بصورته في المعنى, ولا يجتزئ بها مع المقدرة على المبدلات كذا ها هنا.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/113)
كتاب الجنايات
مدخل
...
كتاب الجنايات
القتل بغير حق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها: العمد وهو أن يقتله بجرح
ـــــــ
كتاب الجنايات
مسألة: "القتل بغير حق ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها العمد" المحض وهو نوعان: أحدهما أن يضربه بمحدد وهو ما يقطع به ويدخل في البدن كالسيف والسكين والنشاب وما يجرح بحده وإن كان زجاجا أو خشبا أو قصبا فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين أهل العلم فيما علمناه. فأما الجرح الصغير كشرطة حجام أو غرزة بإبرة أو شوكة نظرت: فإن كان ذلك في مقتل كالعين والفؤاد والصدغ فمات فهو عمد لأن الإصابة بذلك في المقتل كالإصابة بالسكين في غير, مقتل وإن كان في غير مقتل نظرت: فإن كان قد بالغ في إدخالها في البدن فهو كالجرح الكبير وإن غرزه بها غرزا يسيرا أو جرحه بالكبير جرحا لطيفا كشرطة الحجام فما دونها في غير مقتل فقال أصحابنا: إن بقي فيها حتى مات ففيه القود لأن الظاهر أنه مات منه, وإن مات في الحال ففيه وجهان: أحدهما لا قصاص. قال ابن حامد: لأن الظاهر أنه لم يمت منه. والثاني: فيه القصاص لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة ظن القتل به بدليل ما لو قطع أنملته؛ ولأن في البدن مقاتل خفية وهذا له سراية ومور فأشبه الجرح الكبير. الثاني: أن يقتله بما ليس بمحدد بما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهذا عمد موجب للقصاص أيضا. وقال أبو حنيفة: لا قود في هذا إلا أن يكون قتله بالنار, وعنه في مثقل الحلائل روايتان واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل" 1. فسماه "عمد الخطأ" وأوجب فيه الدية دون القصاص؛ ولأن العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه بمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالبا لأن ذلك يختلف وهو
ـــــــ
1 - رواه النسائي في القسامة: 31- باب كم دية شبه العمد: حديث رقم 1. و: 32- باب ذكر الاختلاف على خالد: حديث رقم 1. وابن ماجه في الديات: حديث رقم 2627. وأحمد في المسند 2/11 و 36 و46.(2/114)
أو فعل يغلب على الظن أنه يقتله كضربه بمثقل كبير أو تكريره بصغير أو إلقائه من شاهق أو خنقه أو تحريقه أو تغريقه أو سقيه سما أو الشهادة عليه زورا بما يوجب قتله أو الحكم عليه به أو نحو هذا قاصدا عالما بكون المقتول آدميا معصوما فهذا
ـــــــ
مستقصى بما لو جرحه جرحا صغيرا لا يقتل مثله غالبا كقطع شحمة أذنه وأنملة وغرزة بإبرة فوجب ضبطه بالجارح, ولنا قوله سبحانه: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً} 1, وروى أنس بن مالك رضي الله عنه: أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين. متفق عليه2. وروى أبو هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يود وإما أن يقاد". متفق عليه3؛ ولأنه يقتل غالبا فوجب به القصاص كالمحدد, وأما الحديث فمحمول على المثقل الصغير لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر فدل على أنه أراد الصغير, وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع وصغير المحدد قد تقدم الكلام فيه. إذا ثبت هذا فمن صور المسألة أن يضربه بمثقل كبير سواء كان من حديد كاللت والسندان والمطرقة أو حجر ثقيل أو خشبة كبيرة أو يلقي عليه حائطا أو صخرة عظيمة أو ما أشبهه فيموت بذلك ففيه القود؛ لأنه يقتل غالبا ومنها أن يضربه بمثقل صغير أو يلكزه بيده فإن كان في مقتل أو في حال ضعف من المضروب بحيث تقتله تلك الضربة غالبا أو كرر الضرب حتى قتله أو عصر خصيتيه عصرا شديدا فمات منه ففيه القود لذلك, ومنها أن يلقيه من شاهق كرأس جبل أو حائط عال فهو عمد أيضا, ومنها أن يمنع خروج نفسه إما أن يجعل في عنقه خراطة ثم يعلقه في خشبة بحيث يرتفع عن الأرض فيختنق أو يخنقه وهو على الأرض بيده أو بمنديل أو حبل أو يغمه بوسادة أو شيء يضعه على فمه وأنفه مدة فيموت, فإن فعله مدة يموت فيها غالبا فمات فهو عمد وفيه القصاص, ومنها أن يلقيه في نار أو ماء لا يمكنه التخلص من ذلك لكثرة الماء والنار أو لمنعه إياه من الخروج أو لضعفه عن الخروج فهو عمد يقتل غالبا, ومنها أن يسقيه سما أو يطعمه قاتلا فيموت به فهو عمد إذا كان مثله يقتل غالبا, ومنها أن يشهد رجلان على رجل بما يوجب قتله فيقتل بشهادتهما ثم رجعا واعترفا بتعمد القتل وجب عليهما القتل قصاصا؛ لأن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما فقال علي: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وغرمهما دية يده؛ ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فأشبه المكره, ومنها إذا حكم الحاكم على رجل بالقتل ظلما عالما بذلك متعمدا قتله فقتل واعترف بذلك وجب القصاص عليه, والخلاف
ـــــــ
1 - سورة الإسراء: الآية 33.
2 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6879. ومسلم في القسامة: حديث رقم 15.
3 - رواه البخاري في: 183 الديات: حديث رقم 6880.(2/115)
يخير الولي فيه بين القود والدية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فهو يخير النظيرين: إما أن يقتل وإما أن يفديه" وإن صالح القاتل عن القود بأكثر من دية جاز
ـــــــ
فيه كالشاهدين. وفي هذه الصور جميعها يتخير الولي بين القود والدية؛ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إما أن يود وإما يقاد". متفق عليه1. وروى أبو شريح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرين: إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية". رواه أبو داود وغيره2, وروي عن أحمد رحمه الله أن موجب العمد القصاص عينا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل عمدا فهو قود" 3؛ ولأنه بدل متلف فكان معينا كسائر المتلفات والأول أولى لما سبق من الأحاديث لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}, أوجب الاتباع بمجرد العفو عن القصاص وأما الخبر فالمراد به وجوب القصاص ونحن نقول به ويخالف القتل سائر المتلفات لأن بدلها لا يختلف بالقصد وعدمه والقتل بخلافه, وللشافعي رضي الله عنه كهاتين الروايتين فإن قلنا موجبة للقصاص عنها فله العفو مطلقا وله العفو على مال فإن عفا بشرط المال وجبت الدية وإن عفا مطلقا لم يجب شيء وإن قلنا الواجب أحد الأمرين لا بعينه فعفا عن القصاص مطلقا أو إلى الدية وجبت الدية لأن الواجب غير متعين فإذا ترك أحدهما تعين الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وإن اختار القصاص تعين, وهل له بعد ذلك العفو على الدية؟ قال القاضي: له ذلك لأن القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى ويكون بدلا عن القصاص وليس الذي وجب بالقتل ويحتمل أنه ليس ذلك لأنه أسقطها باختياره فلم يعد إليها.
مسألة: "وإن صالح القاتل عن القود بأكثر من" الـ "دية جاز". قال شيخنا: لا أعلم فيه خلافا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب4. وروي أن هدبة بن خشرم قتل قتيلا فبذل سعيد بن العاص والحسن والحسين لابن المقتول سبع ديات ليعفو عنه فأبى ذلك وقتله؛ ولأنه عوض عن غير مال فجاز الصلح عنه بما اتفقوا عليه كالصداق وعوض الخلع ولأنه صلح
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4505.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4539.
4 - رواه الترمذي في الديات: حديث رقم 1387.(2/116)
الثاني: شبه العمد وهو أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتله غالبا فلا قود فيه والدية على العاقلة.
الثالث: الخطأ وهو نوعان: أحدهما: أن يفعل ما لا يريد به المقتول فيفضي إلى قتله أو يتسبب إلى قتله بحفر بئر أو نحوه وقتل النائم والصبي والمجنون فحكمه حكم شبه العمد.
النوع الثاني: أن يقتل مسلما في دار الحرب يظنه حربيا أو يقصد رمي صف
ـــــــ
عن ما لا يجري فيه الربا فأشبه الصلح عن العروض.
"الثاني: شبه العمد وهو أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتله غالبا فلا قود فيه والدية على العاقلة" وسمي شبه العمد لأنه قصد الضرب وأخطأ في القتل ويسمى خطأ العمد وعمد الخطأ وقال أبو بكر: تجب به الدية في مال القاتل لأنه موجب فعل عمد فكان في مال الفاعل كسائر الجنايات, ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها". متفق عليه1. وقال عليه الصلاة والسلام: "ألا إن في قتيل خطأ العمد وقتيل السوط والعصا مائة من الإبل" 2. فسماه خطأ العمد وأوجب فيه الدية لا القصاص وفي لفظ رواه أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه" 3.
"الثالث: الخطأ, وهو نوعان: أحدهما: أن يفعل" فعلا "لا يريد به المقتول فيفضي إلى قتله" قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره ولا أعلمهم يختلفون فيه فهذا الضرب من الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة في مال القاتل بغير خلاف علمناه بينهم بدليل قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 4.
مسألة: "أو يتسبب إلى" القتل "بحفر بئر وقتل النائم والمجنون والصبي فحكمه حكم شبه العمد" يعني أنه لا يوجب القصاص وإنما يوجب الدية ودليله ما سبق.
"النوع الثاني: أن يقتل مسلما في دار الحرب يظنه حربيا أو يقصد رمي صف الكفار
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6904. ومسلم في القسامة: حديث رقم 34.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4565.
4 - سورة النساء: الآية 92.(2/117)
الكفار فيصيب سهمه مسلما ففيه كفارة بلا دية لقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ},
ـــــــ
فيصيب سهمه مسلما ففيه كفارة بلا دية لقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وعنه تجب فيه الدية والكفارة لقوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} , ولنا ما سبق من الآية ولم يذكر دية وتركه لذكرها في هذا النوع مع ذكرها في الذي قبله دليل ظاهر أنها لا تجب وذكره لهذا قسما مفردا دليل على أنه لم يدخل في عموم الآية.(2/118)
باب شروط وجوب القصاص و استيفائه
...
باب شروط وجوب القصاص واستيفائه
ويشترط لوجوبه أربعة شروط: أحدها: كون القاتل مكلفا فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما, الثاني: كون المقتول معصوما فإن كان حربيا أو مرتدا
ـــــــ
باب شروط وجوب القصاص واستيفائه
"ويشترط لوجوب" القصاص "أربعة شروط: أحدها" أن يكون "القاتل مكلفا فأما الصبي والمجنون فلا قصاص عليهما" لقوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ" 1. وحكم قتلهما حكم قتل الخطأ لأن عمدهما خطأ لكونهما لا يصح منهما قصد صحيح بدليل أنه لا يصح إقرارهما ولهذا لما قصد الصيد ولم يقصد آدميا فوقع في الآدمي فقتله فلا قصاص عليه كذا ها هنا. "الثاني: كون المقتول معصوما فإن كان حربيا أو مرتدا أو قاتلا في المحاربة أو زانيا محصنا أو قتله دفعا عن نفسه أو ماله أو حرمته فلا ضمان فيه" لأن دماءهم مهدرة فلا يقتل قاتلهم كما لو كان المقتول حربيا وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق" 2. والصائل متعد أهدر دم نفسه فصار كالقاتل في المحاربة؛ ولأن قتل الصائل لدفع شره فلا يجب فيه ضمان كقتل الباغي, والصائل من طلب نفسه أو ماله أو حرمته أو زوجته أو بعض أقاربه من نسائه. "الثالث: كون المقتول مكافئا للقاتل فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم" إجماعا "ذكرا كان أو أنثى" وعنه لا يقتل الذكر بالأنثى وتعطى نصف الدية ذكرها أبو الخطاب لأن ديتها على النصف من دية الذكر والأولى أولى لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} 3.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري بنحوه في الديات: حديث رقم 6878. ومسلم في القسامة: حديث رقم 25, 26.
3 - سورة المائدة: الآية 45.(2/118)
أو قاتلا في المحاربة أو زانيا محصنا أو قتله دفعا عن نفسه أو ماله أو حرمته فلا ضمان فيه, الثالث: كون المقتول مكافئا للجاني فيقتل الحر المسلم بالحر المسلم ذكرا كان أو أنثى ولا يقتل حر بعبد ولا مسلم بكافر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر", ويقتل الذمي بالذمي ويقتل الذمي بالمسلم ويقتل العبد بالعبد ويقتل الحر بالحر
ـــــــ
مسألة: "ولا يقتل حر بعبد" روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وزيد وابن الزبير, وقال أصحاب الرأي: يقتل به لعموم النصوص وقوله: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" 1. ولأنه معصوم قتل ظلما فيجب القصاص على قاتله كالحرين والعبدين؛ ولما روي عن علي أنه قال: من السنة أن لا يقتل حر بعبد وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل حر بعبد". رواه الدارقطني ولأنهما شخصان لا يجري القصاص بينهما في الأطراف فلا يجري بينهما في النفس كالأب مع ابنه ولأنه منقوص بالرق فلا يقتل به الحر كالمكاتب الذي ملك ما يؤدي عنه والعمومات مخصوصة بما ذكرنا.
مسألة: "ولا" يقتل "مسلم بكافر" روي ذلك عن خمسة من الصحابة. وقال أصحاب الرأي: يقتل بالذمي واحتجوا بقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}, وروى ابن السلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي وقال: "أنا أحق من وفى بذمته" ولأنه معصوم قتل ظلما فيجب على قاتله القصاص كالمسلم ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مؤمن بكافر". رواه الإمام أحمد بإسناده وأبو داود وروى البخاري وأبو داود: "لا يقتل مسلم بكافر". وروى الإمام أحمد بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: من السنة لا يقتل مؤمن بكافر, ولأنه منقوص بالكفر فلم يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات مخصوصة بحديثنا وحديثهم. قال أحمد: ليس لنا إسناد وقال: وهو مرسل. قال الدارقطني: ابن السلماني ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل والمعنى في المسلم أنه مكان المسلم بخلاف الذمي.
مسألة: "ويقتل الذمي بالذمي" سواء اتفقت أديانهما أو اختلفت نص عليه لأنهما تكافآ في العصمة بالذمة ونقيضه الكفر فجرى القصاص بينهما كما لو تساوى دينهما.
مسألة: "ويقتل الذمي بالمسلم" لأنه إذا قتل بمثله فلأن يقتل بمن هو فوقه أولى.
مسألة: "ويقتل العبد بالحر" لذلك.
مسألة: "ويقتل العبد بالعبد" لأنه مكافئ له وعنه لا يقتل به إلا أن يكون مساويا له
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4530.(2/119)
الرابع: أن لا يكون أبا للمقتول فلا يقتل والد بولده وإن سفل والأبوان في هذا سواء ولو كان ولي الدم ولدا أو له فيه حق وإن قل لم يجب القود.
فصل
ويشترط لجواز استيفائه شروط ثلاثة: أحدها: أن يكون لمكلف فإن كان
ـــــــ
في القيمة لأن العبيد أموال فأشبهوا البهائم والأول أولى لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}, الآية. وهذا نفس فيقتل بت, وقال سبحانه: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}. "الرابع: أن لا يكون أبا للمقتول فلا يقتل الوالد بولده وإن سفل" لما روى عمر بن الخطاب وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل والد بولده" 1. وذكره ابن عبد البر وقال: هو حديث مشهور عند أهل العلم في الحجاز والعراق مستفيض عندهم يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه حتى يكون الإسناد فيه مع شهرته تكلفا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنت ومالك لأبيك" 2. وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه فإذا لم تثبت حقيقة الملك بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات. "والأم كالأب" لأنها والدة أشبهت الأب والجد وإن علا كالأب سواء كان من قبل الأب أو الأم لأنه والد فيدخل في عموم الخبر ولأنه حكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه القريب والبعيد كالمحرمية والعتق عليه إذا ملكه.
مسألة: "ولو كان ولي الدم ولدا أو له فيه حق وإن قل لم يجب القود" فلو كان رجل له زوجة وله منها ابن فقتل أحد الزوجين الآخر لم يجب القصاص لأنه لو ثبت لثبت للابن والابن لا يجب له القصاص على والده لأنه إذا لم يجب بالجناية عليه فلأنه لا يجب عليه بجناية على غيره أولى.
"فصل: ويشترط لجواز استيفائه شروط ثلاثة: أحدها أن يكون لمكلف فإن كان لغيره أو له فيه حق -وإن قل- م يجز استيفاؤه". أما إذا ثبت القصاص لمكلف فإن له استيفاءه كما له استيفاء جميع حقوقه وإن ثبت لغير مكلف كقصاص ثبت للصغير كصغير قتلت أمه وليست زوجة لأبيه فالقصاص للصغير ليس لأبيه استيفاؤه وذكر أبو الخطاب فيه رواية أنه يجوز لأنه أحد بدلي النفس فكان للأب استيفاؤه كالدية, ولنا أنه لا يملك إيقاع الطلاق بزوجته فلا يملك استيفاء القصاص كالوصي ولأن القصد التشفي ودرك الغيظ وذلك لا يحصل باستيفاء الولي, ويخالف الدية فإن الغرض يحصل باستيفاء الأب لها فافترقا.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الديات: حديث رقم 2661, 2662.
2 - رواه ابن ماجه في التجارات: حديث رقم 2291, قال في الزوائد: إسناده صحيح, ورجاله ثقات على شرط البخاري.(2/120)
لغيره أو له فيه حق -وإن قل- لم يجز استيفاؤه وإن استوفى غير المكلف حقه بنفسه أجزأ ذلك.
الثاني: اتفاق جميع المستحقين على استيفائه فإن لم يأذن فيه بعضهم أو كان فيهم غائب لم يجز استيفاؤه فإن استوفاه بعضهم فلا قصاص عليه وعليه بقية ديته
ـــــــ
مسألة: وإن ثبت لمكلف وغيره كصبي أو مجنون فإنه ليس للمكلف استيفاؤه حتى يبلغ الصبي أو يفيق المجنون, وعنه رواية أخرى للمكلف استيفاؤه لأن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل ابن ملجم قصاصا وفي الورثة صغار فلم ينكر ذلك ولأن ولاية القصاص عبارة عن استحقاق استيفائه وليس للصغير هذه الولاية ولنا أنه قصاص غير متحتم ثبت لجماعة غير معينين فلم يجز لأحدهم استيفاؤه استقلالا كما لو كان بين حاضر وغائب أو أحد بدلي النفس فلم ينفرد به بعضهم كالدية. فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله لكفره لأنه قتل عليا مستبيحا دمه معتقدا كفره وقيل لسعيه في الأرض بالفساد وإظهاره السلاح فيكون قتله متحتما إلى الإمام, وكان الحسن رضي الله عنه الإمام ولذلك لم ينتظر الغائبين وبالاتفاق يجب انتظارهم في القصاص وإن فعله قصاصا فقد اتفقنا على تركه فكيف يحتج به.
مسألة: "وإن استوفى غير المكلف حقه نفسه بنفسه أجزأ ذلك" لأنه أتلف حق نفسه بنفسه فأشبه ما لو أكل طعام نفسه وكما لو أتلف الوديعة أو شيئا من بقية أمواله.
الشرط "الثاني: اتفاق جميع المستحقين على استيفائه"؛ لأنه حق لجميعهم فلم يكن لبعضهم الاستقلال به كما لو كان بين حاضر وغائب فإنه لا يجوز للحاضر الاستيفاء حتى يحضر الغائب فيوافقه على الاستيفاء منه.
مسألة: "فإن لم يأذن فيه بعضهم أو كان فيهم غائب لم يجز استيفاؤه" لذلك.
مسألة: "فإن استوفاه بعضهم" بغير إذن شريكه "فلا قصاص عليه" لأنه مشارك في استحقاق القتل فأسقط القصاص كما لو كان مشاركا في ملك الجارية ووطئها إذا ثبت هذا فإن للولي الذي لم يقتل قسطه من الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فهو كما لو مات القاتل. وأما القتل فقد استوفى حقه وعليه قسط شريكه من الدية لأنه استوفى جميع النفس وليس له إلا بعضها وهل يرجع شريكه عليه بما استحقه أو يرجع إلى مال القاتل؟ فيه وجهان: أحدهما يرجع على شريكه لأنه أتلف حقهما جميعا فكان الرجوع عليه بعوض نصيبه كما لو كانت لهما وديعة فأتلفها. والثاني: يرجع في مال القاتل ثم يرجع ورثة القاتل على قاتله لأن حقه من القصاص سقط بغير اختياره فوجبت له الدية في مال القاتل كما لو قتله أجنبي وفارق الوديعة فإن أجنبيا لو أتلفها كان الرجوع عليه فكذلك شريكه وها هنا بخلافه.(2/121)
له ولشركائه حقهم في تركة الجاني ويستحق القصاص كل من يرث المال على قدر مواريثهم.
الثالث: الأمن من التعدي في الاستيفاء فلو كان الجاني حاملا لم يجز استيفاء القصاص منها في نفس ولا جرح ولا استيفاء حد منها حتى تضع ولدها ويستغني عنها
ـــــــ
مسألة: "ويستحق القصاص كل من يرث المال على قدر مواريثهم" سواء كانوا من ذوي الأنساب أو ذوي الأسباب, وعن مالك أنه موروث العصبات خاصة وهو وجه لأصحاب الشافعي رضي الله عنه لأنه ثبت لدفع العار فاختص بالعصبات كولاية النكاح, ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب خاصة لأن الزوجة تزول بالموت ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا أن يأخذوا العقل أو يقتلوا" 1. وروى زيد بن وهب أن عمر أتى برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل, رواه أبو داود2؛ ولأن من ورث الدية ورث القصاص كالعصبات وما ذكروه لا يصح لأنه ثبت للصغار والمجانين بخلاف ولاية النكاح وزوال الزوجية لا يمنع الميراث كما لم يمنع من الدية.
"الثالث: الأمن من التعدي في الاستيفاء فلو كان الجاني حاملا لم يجز استيفاء القصاص منها في نفس ولا جرح حتى تضع ولدها ويستغني عنها" لقول الله سبحانه: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ}, وقتل الحامل قتل لغير القاتل فيكون إسرافا, وروى ابن ماجه بإسناده عن جماعة منهم شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا وحتى تكفل ولدها, وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها" 3, وهذا نص وليس في المسألة اختلاف بين أهل العلم فيما نعلم وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقي الولد اللبن لأن الولد لا يعيش إلا به في الغالب: ثم إن لم يكن للولد من يرضعه لم يجز قتلها حتى تفطمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغامدية: "اذهبي حتى ترضعيه". وفي حديث عبد الرحمن بن غنم: "وحتى تكفل ولدها"؛ ولأنه لما أخر القتل لحفظه وهو حمل فلان يؤخر وهو ولد لحفظه أولى. فأما إن وحدت من يرضعه جاز قتلها لأنه يستغني عن الأم وإن وجد من ترضعه مترددة أو جماعة يتناوبنه أو بهيمة يشرب من
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه أبو داود في الديات: الباب 4.
3 - رواه ابن ماجه في الديات: حديث رقم 2694. قال في الزوائد: في إسناده ابن أنعم, ضعيف, وكذلك الراوي عنه عبد الله بن لهيعة.(2/122)
فصل
ويسقط بعد وجوبه بأمور ثلاثة: أحدها: العفو عنه أو عن بعضه فإن عفا بعض الورثة عن حقه أو عن بعضه سقط كله وللباقين حقهم من الدية وإن كان العفو على
ـــــــ
لبنها جاز قتلها أيضا, ويستحب للولي أن يؤخر قتل الأم لأن على الولد ضررا في اختلاف اللبن عليه وشرب لبن البهيمة.
مسألة: "ويسقط بعد وجوبه بأمور ثلاثة: أحدها العفو عنه أو عن بعضه فلو عفا بعض الورثة عن حقه أو عن بعضه سقط كله وللباقين حقهم من الدية" أجمع أهل العلم على إجازة العفو عن القصاص وأنه أفضل, ودليله قوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} 1, وقال بعد قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 2, وروى أنس قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع إليه شيء فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو, رواه أبو داود3؛ ولأنه حق له تركه فجاز ذلك وكان أفضل من الاستيفاء كسائر الحقوق إذا ثبت هذا فإن القصاص ثبت لجميع الورثة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل أو يقتلوا" 4. وروى زيد بن وهب أن عمر أتي برجل قتل قتيلا فقالت امرأة المقتول -وهي أخت القاتل- قد عفوت عن حقي, فقال عمر: الله أكبر عتق القتيل, رواه أبو داود5, وإذا ثبت أن هذا مشترك بين جميعهم سقط بإسقاط بعضهم أيهم كان لأن حقه منه له فينفذ تصرفه فيه فإذا سقط وجب سقوطه جميعه لأنه مما لا يتبعض فهو كالطلاق والعتق, وروى قتادة أن عمر رفع إليه رجل قتل رجلا فجاء أولاد المقتول وقد عفا بعضهم فقال عمر لابن مسعود: ما تقول؟ قال: إنه قد أحرز من القتل فضرب على كتفه. وقال: كنيف مليء علما؛ ولأن القصاص حق مشترك بينهم لا يتبعض ومبناه على الإسقاط فإذا أسقط بعضهم سرى إلى الباقي كالعتق.
مسألة: فإذا عفا بعضهم فللباقين حقوقهم من الدية سواء أسقط مطلقا أو إلى الدية لأن حقه من القصاص سقط بغير رضاه فثبت له البدل كما لو مات القاتل, وكما لو سقط حق أحد الشريكين في العبد بإعتاق شريكه.
ـــــــ
1 - سورة البقرة: الآية 178.
2 - سورة المائدة: الآية 45.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4497.
4 - سبق تخريجه.
5 - سبق تخريجه.(2/123)
مال فله حقه من الدية وإلا فليس له الثواب. الثاني: أن يرث القاتل أو بعض ولده شيئا من دمه. الثالث: أن يموت القاتل فيسقط وتجب الدية في تركته ولو قتل واحد اثنين عمدا فاتفق أولياؤهما على قتله بهما قتل بهما
ـــــــ
مسألة: "وإن كان العفو على مال فله حقه من الدية وإلا فليس له إلا الثواب" يعني: إذا عفا بعض الورثة عن القصاص على مال فله حقه من الدية إن كان العفو على الدية وإن كان على أكثر منها جاز وله حقه من ذلك؛ لأنه حقه وله التصرف فيه حسب اختياره. "الثاني: أن يرث القاتل أو بعض ولده شيئا من دمه". كرجل له زوجة وابنان منها فقتل أحد الابنين أباه وقتل الآخر أمه فإنه يجب القصاص على قاتل الأم ويسقط عن قاتل الأب لأنه ورث ثمن دمه عن أمه ويلزم سبعة أثمان دية الأب لقاتل الأم ولو لم يقتل الآخر أمه ولكنها ماتت فإن القصاص يسقط عن قاتل الأب أيضا؛ لأنه يرث من دمه نصف ثمنه والنصف الآخر لأخيه ويجب عليه لأخيه سبعة أثمان الدية ونصف ثمنها, ولو قتل رجل زوجته وله منها ولد سقط عنه القصاص لثبوته لولده لأنه لو قتل ولده لم بجب عليه قصاص فإذا ثبت لولده عليه قصاص سقط بطريق الأولى. "الثالث: أن يموت القاتل فيسقط" القصاص "وتجب الدية في تركته" لفوات محل الحق فيسقط القصاص ضرورة فواته ويراجع إلى الدية كما رجعنا في المتلفات إلى القيمة.
مسألة: "ولو قتل واحد اثنين عمدا فاتفق أولياؤهما على قتله بهما" جاز, وقال أبو حنيفة ومالك: يقتل بالجماعة ليس لهم إلا ذلك وإن طلب بعضهم فليس له وإن بادر أحدهم فقتل سقط حق الباقين؛ لأن الجماعة يقتلون بالواحد فكذلك يقتل بهم كالواحد بالواحد. وقال الشافعي: لا يقتل إلا بواحد سواء اتفقوا على الطلب للقصاص أو لم يتفقوا لأنه إذا كان لكل واحد استيفاء القصاص فاشتراكهم في المطالبة لا يوجب تداخل حقوقهم كسائر الحقوق؛ ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل" 1. وظاهر الخبر أن أهل كل قتيل يستحقون ما يختارونه من القتل أو الدية فإذا اتفقوا على القتل وجب لهم وإن اختار بعضهم الدية وجبت له بظاهر الخبر ولأنهما جنايتان ولو كانتا خطأ أو إحداهما لم يتداخلا فلم يتداخلا في العمد كالأطراف وقد سلموا أن الأطراف لا تتداخل؛ ولأنه حق تعلق بعينه حقان لا يتسع لهما معا فإذا رضيا به عن حقهما جاز ذلك كما لو قتل عبد عبدين لهما خطأ فرضيا بأخذه بدلا عنهما؛ ولأنهما رضيا بدون حقهما فجاز كما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء وولي الحر بالعبد وولي المسلم بقتل الكافر وما ذكره مالك وأبو حنيفة فليس بصحيح فإن الجماعة قتلوا بالواحد لئلا يؤدي الاشتراك إلى إسقاط القصاص تغليظا
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/124)
وإن تشاحوا في استيفاء المستوفي قتل بالأول وللثاني الدية فإن سقط قصاص الأول فلأولياء الثاني استيفاؤه ويستوفى القصاص بالسيف في العنق ولا يمثل به إلا أن يفعل شيئا فيفعل به مثله
ـــــــ
للقصاص, وفي مسألتنا ينعكس هذا المعنى فإنه إذا قتل واحدا وعلم أن القصاص واجب عليه وأنه لا يزداد بزيادة القتل لهما فأدى إلى قتل من يريد قتله لزوال الزاجر عنه فافترقا.
مسألة: "فإن تشاحوا في المستوفي" أولا قدم الأول لأن حقه أسبق وصار الآخر إلى الدية لفوات المحل أشبه ما لو مات فإنه يصار إلى الدية فإن كان قتلهم دفعة واحدة أقرع بينهم فيقدم من تقع له القرعة لتساوي حقوقهم وكذلك لو قتلهم متفرقا وأشكل.
مسألة: "فإن سقط قصاص الأول" إما بأن عفا مطلقا أو اختار الدية "فلأولياء الثاني استيفاؤه" لأنه حقهم فكان لهم استيفاؤه كما لو لم يكن قتل غيره.
مسألة: "ويستوفى القصاص بالسيف في العنق ولا يمثل به إلا أن يفعل شيئا فيفعل به مثله". أما إذا قتله فإن القصاص يستوفى بالسيف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قود إلا بالسيف". رواه ابن ماجه1. فأما إن كان قد قطع يدي شخص ورجليه ثم ضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه ففيه روايتان: إحداهما لا يستوفى منه إلا بالسيف في العنق بدليل الخبر؛ ولأن القصاص أحد بدلي النفس فيدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر إلى الدية لم تجب إلا دية النفس ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل وإتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعديته بإتلاف أطرافه كما لو قتله بسيف كال فإنه لا يقتله بمثله, والرواية الأخرى قال: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل يعني أن يقطع أطرافه ثم يقتله لقوله سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} 2, وقوله سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 3؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رضخ رأس يهودي لرضخه رأس جارية بين حجرين4, وقال الله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والعين بالعين} 5, وهذا قد قلع عينه فيجب أن تقلع عينه للآية, وقال عليه السلام: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه" ؛ لأن القصاص موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فيجب أن يستوفى منه مثل ما فعل كما لو ضرب العنق آخر غيره فأما حديث: "لا قود إلا بالسيف" 1. فقد قال الإمام أحمد: إسناده ليس بجيد.
ـــــــ
1 - رواه ابن ماجه في الديات: حديث رقم 2667, 2668.
2 - سورة النحل: الآية 126.
3 - سورة البقرة: الآية 194.
4 - سبق تخريجه.
5 - سورة المائدة: الآية 45.(2/125)
باب الاشتراك في القتل
وتقتل الجماعة بالواحد فإن تعذر قتل أحدهم لأبوته أو عدم مكافأته للقتيل أو
ـــــــ
باب الاشتراك في القتل
"وتقتل الجماعة بالواحد" روي ذلك عن عمر وعلي والمغيرة وابن عباس وعن أحمد رواية أخرى لا يقتلون به وتجب عليهم الدية روي ذلك عن ابن عباس. قال ابن المنذر: لا حجة مع من أوجب قتل جماعة بواحد, ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم فروى سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا, وعن علي رضي الله عنه أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلا وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قتل جماعة بواحد ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف؛ ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف؛ ولأنه لو سقط القصاص بالاشتراك لأفضى إلى التسارع إلى القتل وإسقاط حكمة الردع والزجر وإنما يجب القود إذا فعل كل واحد منهم فعلا لو انفرد به وجب عليه القود فإذا اشتركوا وجب عليهم جميعهم.
مسألة: " فإن تعذر قتل أحدهم لأبوته أو عدم مكافأة القتيل" له "أو العفو عنه قتل شركاؤه" أما إذا تعذر قتل أحدهم لأبوته كما إذا اشترك في القتل أب وأجنبي قتل الأجنبي وعنه لا يقتل شريك الأب لأنه مشارك من لا قصاص عليه فلم يجب عليه قصاص كشريك الخاطىء ولنا أنه مشارك في القتل العمد العدوان لمن لم يقتل به لو انفرد فوجب عليه القصاص كشريك الأجنبي وأما شريك الخاطىء ففيه روايتان: إحداهما يجب عليه كمسألتنا وفي الأخرى لا قصاص عليه لأن القتل لم يتمحض عمدا لوجود الخطأ في الفعل الذي حصل به خروج النفس بخلاف شريك الأب فإن قتلهما عمد محض وعدوان وإنما سقط القصاص عن الأب لمعنى فيه مختص به فأشبه ما لو سقط عن أحد الأجنبيين للعفو عنه.
مسألة: وأما إذا تعذر قتل أحدهما لعدم مكافاة القتيل له كما إذا اشترك مسلم وذمي في قتل ذمي أو حر وعبد في قتل عبد عمدا فإن القصاص يجب على العبد والذمي؛ لأن سقوطه عن المسلم لمعنى فيه وهو الإسلام وسقوطه عن الحر لعدم المكافأة وهذا المعنى لا يتعدى إلى شريكه ولا إلى فعله فلم يقتض سقوط القصاص عن شريكه.
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/126)
العفو عنه قتل شركاؤه وإن كان بعضهم غير مكلف أو خاطئا لم يجب القود على واحد منهم وإن أكره رجلا على القتل فقتل أو جرح أحدهما جرحا والآخر
ـــــــ
مسألة: وأما إذا تعذر قتل أحد الشريكين للعفو عنه فإن القصاص يجب على شريكه لأن سقوطه عنه للعفو عنه وهو معنى لا يتعدى إلى شريكه فلم يسقط عنه القصاص.
مسألة: "وإن كان بعضهم غير مكلف أو خاطئا لم يجب القود" أما إذا كان الشريك في القتل غير مكلف كالصبي والمجنون والآخر مكلفا لم يجب القود على المكلف في صحيح المذهب, وعنه يجب عليه لأن القصاص يجب عليه جزاء لفعله لا عن فعل غيره فيجب أن يكون الاعتبار بفعله فمتى تمحض عمدا أو عدوانا وجب القود إذا كان المقتول مكافئا له, وإنما يسقط عن الصبي والمجنون لمعنى فيهما وهو عدم التكليف فلم يقتض سقوطه عن شريكهما كشريك الأب, ولنا أنه شارك من لا إثم عليه في فعله فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ, أو شارك من رفع عنه القلم فأشبه شريك الخاطئ, ودليل ذلك قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة". الحديث1. ودل على أن الأصل قوله عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" 2. ولأن الصبي والمجنون لا قصد لهما صحيح, ولهذا لا يصح إقرارهما فكان حكم فعلهما حكم الخطأ.
مسألة: وإن كان شريك العامد مخطئا فلا قود على واحد منهما أما المخطئ فلا قصاص عليه لقوله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} 3, وقال عليه السلام: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان" 4. وأجمعوا على أنه لا قود عليه, وأما شريكه فكذلك عند أكثرهم وعنه عليه القود لأنه شارك في القتل العمد العدوان فأشبه شريك العامد ولأنه مؤاخذ بفعله وهو عمد عدوان لا عذر له فيه, ولنا أنه قتل غير متمحض عمدا فلم يوجب القود كشبه العمد وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ.
مسألة: "وإن أكره رجل رجلا على القتل فقتل أو جرح أحدهما جرحا والآخر مائة أو قطع أحدهما يده من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان وعليهما القصاص وإن وجبت الدية استويا فيها". أما إذا أكره رجل رجلا على القتل فقتل فالقصاص على المكره والمكره جميعا أما المكره فلأنه تسبب إلى القتل العمد العدوان فوجب عليه القصاص كشهود القصاص إذا رجعوا, وأما المكره فإنه قتل من يكافئه ظلما عدوانا فوجب عليه القصاص كما لو لم يكره, والدليل على أنه قتل أنه أخذ السيف وحز الرقبة ولأن القتل عبارة عن جرح يتبعه الزهوق وقد وجد منه ذلك؛ ولأنه أثم بذلك فإن عليه إثم القتل
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - سورة الأحزاب: الآية 5.
4 - سبق تخريجه.(2/127)
مائة, أو قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فهما قاتلان وعليهما القصاص وإن وجبت الدية استويا فيها وإن ذبحه أحدهما ثم قطع الآخر يده أو قده نصفين فالقاتل الأول وإن قطعه أحدهما ثم ذبحه الثاني قطع القاطع وذبح الذابح
ـــــــ
والدليل على أنه عمد أنه قصد الفعل بآلة محصلة له ولأن الإكراه لم يسلبه اختياره ولا ضعف قصده بل هيج دواعيه وكثرها ولا يقال إنه ينزل بمنزلة الآلة فإن الآلة لا تأثم وهذا يأثم والآلة ليس لها قصد وهذا له قصد صحيح فإنه وقى نفسه واستبقاها بقتل أخيه المسلم فينبغي أن يجب عليه القصاص ويصير كما لو قال له: اقتله وإلا قتلتك غدا فقتله فإنه يجب عليه القصاص.
مسألة: وأما إذا جرح أحدهما جرحا والآخر مائة فإنه يجب عليهما القصاص إذا مات المجروح وإن صار الأمر إلى الدية فهما فيها سواء؛ لأنه يجوز أن يموت من الجرح دون الجراحات فسقط اعتبار عددها ولأن الجراح إذا صارت نفسا أوجبت دية واحدة كما لو قطع يده فمات ولو كانت إحدى الجراحتين أعمق من الأخرى مثل أن تكون إحداهما موضحة والأخرى مأمومة فمات منها فالقود عليهما لأن ذلك لا يمنع من تساويهما كما لا يمنع زيادة عدد الجراحات.
مسألة: "وإن قطع أحدهما من الكوع والآخر من المرفق فمات وجب القود عليهما", وقال أبو حنيفة: لا قصاص على الأول ويجب على الثاني لأنه قطع سراية الأول فمات بعد زوال جنايته فأشبه ما لو اندمل جرحه ثم مات, ولنا أن قطع الثاني لا يمنع جناية بعدها فلا يمنع جناية قبلها كما لو قطع يده الأخرى وما ذكره فغير مسلم فإن الألم الحاصل بقطع الأول لم يزل وإنما زاد ويخالف الاندمال فإنه لا يبقى معه الألم الذي حصل في الأعضاء الشريفة فاختلفا.
مسألة: "وإن ذبحه أحدهما ثم قطع الآخر يده أو قده نصفين فالقاتل الأول وإن قطعه أحدهما ثم ذبحه الثاني قطع القاطع وذبح الذابح" وذلك أنه إذا جنى عليه اثنان جنايتين نظرنا فإن كانت الجناية الأولى أخرجته من حكم الحياة مثل أن أخرج ما في بطنه فأبانه أو قطع حلقومه ومريئه ثم ضرب عنقه. الثاني: أو قطع يده أو قده نصفين فالأول هو القاتل لأنه لا يبقى مع جنايته حياة والقود عليه خاصة, وعلى الثاني التعزير كما لو جنى على ميت وإن عفا الولي إلى الدية فهي على الأول وحده وإن كان جرح الأول يجوز بقاء الحياة معه مثل شق البطن من غير إبانة أو قطع عضو كاليد والإصبع ثم ضرب عنقه آخر فالثاني هو القاتل لأنه لم يخرج بجرح الأول من حكم الحياة فيكون الثاني هو المفوت لها فعليه القصاص في النفس ثم ينظر في جرح الأول فإن كان موجبا للقصاص كقطع الطرف(2/128)
وإن أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل فالقصاص على المباشر ويؤدب الآمر وإن أمر من لا يعلم تحريمه به أو لا يميز فالقصاص على الآمر وإن أمسك إنسانا للقتل فقتل قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت.
ـــــــ
فالولي مخير بين قطع طرفه أو العفو على دية الطرف أو العفو مطلقا, وإن كان لا يوجب القصاص كالجائفة وغيرها فعليه الأرش وإنما جعلنا له القصاص أو الأرش لأن فعل الثاني قطع سراية الأول فصار كالمندمل ولو كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به عن حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة مثل جرح يخرق المعاء فضرب عنقه. الثاني: فالقاتل هو الثاني لأن حكم الحياة ثابت فيه ألا ترى أن عمر رضي الله عنه لما دخل عليه الطبيب فسقاه لبنا فخرج نصله فعلم الطبيب أنه ميت فقال له: اعهد إلى الناس فعهد إليهم وأوصى وجعل أمر الخلافة إلى أهل الشورى فقبلت الصحابة عهده وأجمعوا على قبول وصاياه فلما كان حكم الحياة باقيا كان مفوتها هو القاتل كما لو قتل عليلا به علة قاتلة.
مسألة: "فإن أمر من يعلم تحريم القتل به فقتل فالقصاص على المباشر ويؤدب الآمر وإن أمر من لا يعلم تحريمه به أو لا يميز فالقصاص على الآمر" لأنه إذا كان غير عالم تحريم القتل فهو معتقد لإباحته وذلك شبهة تمنع القصاص كما لو اعتقده صيدا فرماه فبان إنسانا؛ ولأن حكمه القصاص الزجر ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة وإذا لم يجب عليه وجب على الآمر لأنه آلة لا يمكن إيجاب القصاص عليه فوجب على المتسبب به كما لو أنهشه حية أو ألقاه في زبية أسد فقتله, ويؤدب المأمور. قال الإمام أحمد: يضرب ويؤدب. قال علي: ويستودع السجن ويفارق هذا ما إذا علم حظر القتل فإن القصاص على المأمور لإمكان إيجابه عليه وهو مباشر له فانقطع حكم الآمر كالدفع مع الحافز ويكون على الآمر الأدب لتعديه بالتسبب إلى القتل وإن أمر بالقتل من لا يميز كصبي أو مجنون فالقصاص على الآمر لأن المأمور ليس له قصد صحيح لكونه غير مميز فهو كالآلة.
مسألة: "فإن أمسك إنسانا للقتل فقتل قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت" أما القاتل فإنه يقتل بغير خلاف, وأما الممسك فإن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه وإن أمسكه له ليقتله عالما بذلك مثل أن ضبطه له حتى ذبحه فاختلفت الرواية عن الإمام أحمد: فروي عنه أنه يحبس حتى يموت, وروي ذلك عن علي رضي الله عنه, وعنه يقتل أيضا لأنه لو لم يمسكه لم يقدر على قتله وبإمساكه تمكن من قتله فالقتل حاصل بفعلهما فيكونان شريكين فيه فيجب عليهما القصاص كما لو جرحاه, وقيل يعاقب ويأثم ولا يقتل لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أغنى الناس على الله تعالى من قتل غير قاتله". والممسك غير قاتل ولأن الإمساك سبب غير ملجئ فإذا اجتمعت معه المباشرة كان الضمان على المباشر كالدافع والحافز, ولنا ما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أمسك الرجل وقتله الآخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك"؛ ولأنه حبسه إلى الموت فيحبس الآخر إلى الموت ليكون مثلا لما أتى به كما لو حبس رجلا عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به ذلك حتى يموت.(2/129)
باب القود في الجروح
يجب القود في كل عضو بمثله فتؤخذ العين بالعين والأنف بالأنف وكل واحد من الجفن والشفة واللسان والسن واليد والرجل والذكر والانثيين بمثله وكذلك كل ما أمكن القصاص فيه ويعتبر كون المجني عليه مكافئا للجاني وكون
ـــــــ
باب القود في الجروح
"يجب القود في كل عضو بمثله فتؤخذ العين بالعين" أجمع أهل العلم على ذلك لقوله سبحانه: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}؛ ولأنها تنتهي إلى مفصل فيجري القصاص فيها كاليد.
مسألة: "وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ" أجمعوا على ذلك لقوله سبحانه: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} والمعنى الذي سبق في العين.
مسألة: ويجب القود في "كل واحد من الجفن" بمثله لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}, ولأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل ولا فرق بين جفن الأعمى والبصير في ذلك لأنهما تساويا في السلامة من النقص وعدم البصر نقص في غيره فلم يمنع القصاص فيه كما أن عدم السمع لم يمنع القصاص في الأذن وتؤخذ "الشفة" بالشفة وهي ما جاوز جلد الذقن والخدين علوا أو سفلا للآية والمعنى الذي سبق.
مسألة: ويؤخذ "اللسان" باللسان للآية والمعنى ولا نعلم فيه خلافا ولا يؤخذ لسان ناطق بلسان أخرى لأنه أفضل ويؤخذ الأخرس بالناطق لأنه بعض حقه.
مسألة: ويؤخذ "السن" بالسن أجمع أهل العلم على ذلك لقوله سبحانه: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}؛ ولأن القصاص في السن ممكن لأنها محدودة في نفسها فوجب فيها القصاص كالعين وتؤخذ الصحيحة بالصحيحة والمكسورة تؤخذ بالصحيحة؛ لأنه يأخذ بعض حقه ويأخذ معها من الدية بقدر ما انكسر منها على قول ابن حامد وعلى قياس قول أبي بكر لا ينبغي أن يجب مع القصاص شيء.
مسألة: وتؤخذ "اليد" باليد "والرجل" بالرجل لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولأن لهما حدا ينتهيان إليه وهو المفصل فيجري فيهما القصاص كبقية الأعضاء.
مسألة: ويؤخذ "الذكر" بالذكر لا نعلم بين أهل العلم خلافا في ذلك لقوله سبحانه:(2/130)
الجناية عمدا والأمن من التعدي بأن يقطع من مفصل أو حد ينتهي إليه كالموضحة التي تنتهي إلى العظم فأما كسر العظام والقطع من الساعد والساق فلا قود فيه ولا في الجائفة ولا في شئ من شجاج الرأس إلا الموضحة إلا أن يرضى مما فوق الموضحة بموضحة ولا قود في الأنف إلا من المارن وهو ما لان منه
ـــــــ
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}؛ ولأنه له حد ينتهي إليه ويمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب القصاص فيه كاليد ولا فرق بين ذكر الصغير والكبير والشاب والشيخ والذكر الكبير والصغير؛ لأن كل ما وجب القصاص فيه من الأطراف لم يفرق فيه بين هذه المعاني كاليد والرجل.
مسألة: وتقطع الأنثيان بالأنثيين للآية والمعنى.
مسألة: "وكذلك كل ما أمكن القصاص فيه" للنص والمعنى.
مسألة: "ويعتبر كون المجني عليه مكافئا للجاني" وذلك أن القصاص فيما دون النفس معتبر له ثلاثة شروط: أحدها كون المجني عليه مكافئا للجاني فإن لم يكن مكافئا كالعبد إذا قطع الحر طرفه أو الذمي إذا قطعه المسلم لا يقطع طرفه بطرفه؛ لأنه إذا لم تؤخذ نفسه بنفسه لعدم المكافأة فوجب أن لا يؤخذ طرفه بطرفه لعدم المكافأة. الثاني: أن تكون "الجناية عمدا" فإن كانت خطأ لم يجب القصاص بغير خلاف, وإن كانت عمدا خطأ مثل أن يضربه بحجر صغير لا يوضح مثله فأوضحه لم يجب القصاص لأنه شبه عمد ولا يجب القصاص إلا بالعمد المحض, وقال أبو بكر: يجب القصاص ولا يراعى فيه ذلك لعموم الآية. الثالث: "والأمن من التعدي" بحيث يمكن الاستيفاء بغير حيف فإن كان قطع طرف, "بأن" يكون "من مفصل" وإن كان جرحا فبأن ينتهي إلى عظم "كالموضحة" وما عدا هذا كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج أو فوقها أو قطع الطرف من غير مفصل كقطع اليد من الساعد أو العضد أو الرجل من الساق أو الفخذ فلا قصاص فيه غير أكثرهم لأنه لا يمكن المماثلة فيها ولا تؤمن الزيادة عليها ولا يمكن أن يستوفى أكثر من الحق فسقط القصاص كما لو قتل من لا يكافئه أو قطع صحيح اليد بشلاء أو ناقصة الأصابع. "فأما كسر العظام والقطع من الساعد والساق فلا قود فيه" لما ذكرنا.
مسألة: "ولا" قود "في الجائفة" ولا المأمومة لذلك.
مسألة: "ولا" قود "في شيء من شجاج الرأس" لذلك إلا الموضحة" لأنها تنتهي إلى العظم "إلا أن يرضى بما فوق الموضحة" بموضحة لأنه يأخذ دون حقه كمن يأخذ الشلاء بالصحيحة وقد أمن الضرر.
مسألة: "ولا قود في الأنف إلا من المارن وهو ما لان منه" دون قصبة الأنف؛ لأن ذلك(2/131)
ويشترط التساوي في الاسم والموضع فلا تؤخذ واحدة من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى إلا بمثلها
ولا تؤخذ إصبع ولا أنملة ولا سن إلا بمثلها ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة ولا صحيحة بشلاء وتؤخذ الناقصة بالكاملة والشلاء بالصحيحة إذا أمن التلف
ـــــــ
حد ينتهي إليه فهو كاليد يجب القصاص فيها إلى الكوع وإن قطع القصبة كان له القصاص في المارن وحكومة في القصبة على قول ابن حامد, وعلى قياس قول أبي بكر ليس له قصاص لأنه لا يجيز الاقتصاص من غير محل الجناية ولا يجمع في عضو واحد بين دية وقصاص.
مسألة: "ويشترط التساوي في الاسم والموضع فلا يؤخذ واحد من اليمنى واليسرى والعليا والسفلى إلا بمثلها", وقيل تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهما تستويان في الخلقة والمنفعة ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى لأنهما تستويان في الخلقة والمنفعة, ولنا أن كل واحدة منهما تختص باسم فلا تؤخذ إحداهما بالأخرى كاليد مع الرجل: فعلى هذا كل ما ينقسم إلى يمين ويسار كاليدين والرجلين والأذنين والمنخرين لا يؤخذ أحدهما بالآخر؛ لما ذكرناه, وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالجفنين والشفتين والأسنان لا يؤخذ الأعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لما ذكرنا.
مسألة: "ولا تؤخذ إصبع بإصبع" إلا أن يتفقا في الاسم والموضع "ولا" تؤخذ "أنملة" بأنملة إلا أن يتفقا في ذلك, ولا تؤخذ عليا بسفلى ولا وسطى وكذلك الوسطى والسفلى لا يؤخذان بغيرهما, "ولا" يؤخذ السن بالسن إلا أن يتفق موضعهما واسمهما ولا يؤخذ سن ولا إصبع أصلية بزائدة ولا زائدة بأصلية ولا زائدة بزائدة في غير محلها لما ذكرناه.
مسألة: "ولا تؤخذ كاملة الأصابع بناقصة" لأنها فوق حقه والقصاص يعتمد المماثلة.
مسألة: "ولا تؤخذ صحيحة بشلاء" لأنه يأخذ كاملا بناقص وذلك فوق حقه.
مسألة: "وتؤخذ الناقصة بالكاملة" فإذا كانت يد القاطع ناقصة إصبعا أو أكثر فالمجني عليه مخير بين أخذ دية يده وبين قطع الناقصة لأنها دون حقه ويأخذ أرش الأصابع المقطوعة على قول ابن حامد وقياس قول أبي بكر ليس له مع القطع أرش لئلا يجمع بين قصاص ودية في عضو.
مسألة: "و" تؤخذ "الشلاء بالصحيحة إذا أمن التلف" فإن كان القاطع أشل والمقطوعة سالمة فاختار المجني عليه دية يده فله ذلك لا نعلم فيه خلافا؛ لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم يكن للقاطع يد وإن اختار القصاص فله ذلك لأنه رضي بدون حقه اللهم إلا أن يخاف من القصاص التلف لقول أهل الخبرة إنه إذا(2/132)
فصل
إذا قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله يقدر بالأجزاء كالنصف والثلث ونحوهما وإن أخذت ديته أخذ بالقسط منها وإن كسرت بعض سنه برد من سن الجاني إذا أمن انقلاعها ولا يقتص من السن حتى ييأس من
ـــــــ
قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن فأفسده فإنه يسقط القصاص ولأنه لا يجوز أخذ نفس بطرف وإن أمن هذا كله فله القصاص, وليس له أرش معه لأن الشلاء كالصحيحة في الخلقة وإنما نقصت عنها في الصفة فلم يكن له أرش كما لا يأخذ ولي المسلم مع القصاص من الذمي أرشا لنقص الكفر. وقال أبو الخطاب: عندي أنه يأخذ أرش الشلاء مع القصاص على قياس قوله في عين الأعور إذا قلعت والأول أصح؛ لأن إلحاق الفرع بالأصول المتفق عليها أولى من إلحاقه بفرع مختلف فيه خارج عن الأصول.
"فصل: وإذا قطع بعض لسانه أو مارنه أو شفته أو حشفته أو أذنه أخذ مثله بقدر الأجزاء" لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كما في السن يقدر ذلك في الأجزاء أو يؤخذ منه بالحساب فإذا قطع ربع لسانه أخذ من لسان الجاني ربعه وإن قطع نصفه أخذ نصفه أو ثلثه أخذ ثلثه وكذلك سائرها ولا يؤخذ شيء من ذلك بالمساحة لما يأتي.
مسألة: "وإن أخذت ديته أخذ بالقسط منها" يعني إن قطع الجاني نصف اللسان أخذ منه نصف ديته وإن كان أكثر أو أقل فبالحساب وكذلك سائرها.
مسألة: "وإن كسر بعض سنه برد من سن الجاني مثله إذا أمن انقلاعها" وذلك لأن القصاص جاز في بعض السن لأن الربيع كسر سن جارية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص وما جرى القصاص في جملته جرى في بعضه إذا أمكن كالأذن فيقدر ذلك بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف والثلث بالثلث, وكل جزء بمثله ولا يؤخذ ذلك بالمساحة كي لا يفضي إلى أخذ جميع سن الجاني ببعض سن المجني عليه ويكون القصاص بالبرد ليؤمن أخذ الزيادة فإنا لو أخذناها بالكسر لم يؤمن أن يتصدع أو ينقلع أو ينكسر من غير موضع القصاص ولا يؤخذ بعضها قصاصا حتى يقول أهل الخبرة إنه يؤمن انقلاعها أو السداد فيها لأن توهم الزيادة يمنع القصاص في الأعضاء كما لو قطعت يده من غير مفصل.
مسألة: "ولا يقتص من السن حتى ييأس من عودها" بأن يكون قد أثغر أي سقطت رواضعه ثم نبتت فإذا سقطت قيل ثغر فإذا نبتت قيل أثغر فإن قلع سن من لم يثغر لم يقلع سن الجاني في الحال؛ لأنها تعود بحكم العادة وما يعود لا يجب ضمانه كالشعر وينظر فإن عاد بدل السن في محلها على صفتها فلا شيء على الجاني وإن عادت مائلة عن(2/133)
عودها, ولا من الجرح حتى يبرأ وسراية القود مهدرة وسراية الجناية مضمونة بالقصاص والدية
ـــــــ
محلها أو متغيرة عن صفتها كان عليه حكومة لأنها لو لم تعد ضمن السن فإذا عادت ناقصة ضمن ما نقص وإن عادت قصيرة ضمنه بالحساب: ففي نصفها نصف ديتها وفي ربعها ربع ديتها وكذلك على هذا, وإن مضى زمان عودها ولم تعد سئل أهل العلم بالطب فإن قالوا قد يئس من عودها فالمجني عليه بالخيار بين القصاص أو دية السن. فإما إن قلع سن من قد أثغر فقال القاضي: سئل أهل العلم والخبرة فإن قالوا لا تعود أبدا فله القصاص في الحال وإن قالوا يرجى عودها إلى وقت ذكروه لم يقتص حتى يأتي ذلك الوقت فإن لم تعد وجب القصاص وإن عادت لم يجب قصاص ولا دية لأنها سن عادت فسقط أرشها كسن من لم يثغر فإن كان الأرش رده وإن كان استوى القصاص فقد بان أنه كان غير مستحق له لأن القصاص لم يجب عليه لأنه لم يقصد التعدي وعليه الدية لأنه أخذ ما لا حق له فيه.
مسألة: "ولا" يقتص "من الجرح حتى يبرأ" لما روى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح, والنهي يقتضي التحريم لأن الجرح لا يدرى أقتل هو أم ليس بقتل فينبغي أن ينتظر ليعلم ما حكمه وما الواجب فيه.
مسألة: "وسراية القود مهدرة" ومعناه أنه إذا قطع طرفا يجب القود فيه فاستوفى منه المجني عليه ثم مات الجاني بسراية الجرح لم يلزم المستوفي شيء روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم ولما روي أن عمر وعليا رضي الله عنهما قالا: من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله, وروى سعيد نحوه ولأنه قطع مستحق مقدر فلا يضمن سرايته كقطع السارق.
مسألة: "وسراية الجناية مضمونة" بغير خلاف لأنها أثر الجناية والجناية مضمونة فكذلك أثرها ثم إن سرت إلى النفس وجب القصاص فيه ولا خلاف في ذلك وإن قطع إصبعا فشلت يدها أو إصبع إلى جانبها وجب القصاص في المقطوعة ووجب الأرش فيما شل إذا ثبت هذا فيجب الأرش في ماله ولا يجب على العاقلة لأنه سراية جناية عمد وإنما لم يجب القصاص لعدم التماثل في القطع والشل وإذا شل جميع كفه فعفى عن القصاص استحق نصف الدية في اليد وإن استوفى من الإصبع كان له أربعون من الإبل في الأصابع الأربع ويتبعها أربعة أخماس الكف فأما خمسة الكف الذي يختص الإصبع التي اقتص منها ففيه وجهان: أحدهما يتبعها في الأرش لاستوائهما في الحكم فأما إذا اقتص فحكمها مختلف وتجب فيه الحكومة.(2/134)
إلا أن يستوفي قصاصها قبل برئها فيسقط ضمانها
ـــــــ
مسألة: "إلا أن يستوفي قصاصها قبل برئها فيسقط ضمانها" لما روى جابر أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فقال: يا رسول الله أقدني قال: "حتى تبرأ". فعجل فاستقاد له رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعيبت رجل المستقيد وبرأت رجل المستقاد منه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لك شيء إنك عجلت". رواه سعيد مرسلا ورواه الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, وفيه ثم جاء الثالثة فقال: يا رسول الله عرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله ومعطل عرجك". ثم نهى أن يقتص من عرج حتى يبرأ صاحبه وهو دليل على سقوط حقه.
مسألة: عجيبة: إذا قلع سن إنسان فقلع الإنسان سن الجاني ثم عادت سن المجني عليه فقلعها الجاني ثانيا فلا شئ على واحد منهما لأن سن المجني عليه لما عادت وجب عليه دية سن الجاني فإذا قلعها الجاني وجب عليه ديتها فيصير لكل واحد منهما دية سن على الآخر فيقاصان.(2/135)
كتاب الديات
مدخل
...
كتاب الديات
دية الحر المسلم ألف مثقال من الذهب أو اثنا عشر ألف درهم أو مائة من الإبل فإن كانت دية عمد فهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهن
ـــــــ
كتاب الديات
والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجمإع أما الكتاب فقوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} 1. وأما السنة فما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم كتابا إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن والديات وقال فيه: "إن في النفس الدية مائة من الإبل". رواه النسائي ومالك في الموطأ2.
مسألة: "دية الحر المسلم ألف مثقال أو اثنا عشر ألف درهم أو مائة من الإبل" لما روى ابن عباس: أن رجلا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا, رواه أبو داود وابن ماجه3, وفي كتاب عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: "وإن في النفس المؤمنة مائة من الإبل وعلى أهل الذهب ألف دينار" , رواه النسائي4.
مسألة: "فإن كانت دية عمد فهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهي الحوامل"؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوا وإن شاءوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم وذلك لتشديد القتل". رواه
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 92.
2 - رواه النسائي في القسامة: 45- باب ذكر حديث عمرو بن حزم: حديث رقم 1. ومالك في العقول: حديث رقم 1.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4546. وابن ماجه في الديات: حديث رقم 2632.
4 - رواه النسائي في القسامة: 45- باب ذكر حديث عمرو بن حزم: حديث رقم 1.(2/136)
الحوامل، وتكون حالة في مال القاتل وإن كان شبه عمد فكذلك في أسنانها: وهي
ـــــــ
الترمذي وقال: حديث غريب1, وعنه أنها أرباع رواها الجماعة عنه واختارها الخرقي لما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا: خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين بنت لبون وخمسا وعشرين بنت مخاض؛ ولأنه قول ابن مسعود والخلفة الحوامل لأن في حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" 2. والخلفة: هي الحوامل وقوله: "في بطونها أولادها" تأكيد.
مسألة: "وتكون حالة في مال القاتل" أجمع أهل العلم على أن دية العمد تجب في مال القاتل لا تحملها العاقلة. قال ابن المنذر: وهذه قضية الأصل أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية يختص بالجاني وإنما خولف هذا الأصل في الخطأ وشبه العمد تخفيفا عن الجاني والعامد لا يليق بحاله التخفيف فيبقى على الأصل, ولهذا قال عليه السلام: "لا يجني جان إلا على نفسه" 3. وإذا ثبت هذا فإنها تجب حالة لأن ما وجب بالعمد المحض كان حالا كالقصاص وأرش [الجناية في] أطراف العبد.
مسألة: "وإن كان شبه عمد فكذلك في أسنانها" لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل فيها أربعون خلفة في بطونها أولادها" . رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما4, وعنه أنها تجب أرباعا ودليلها حديث السائب بن يزيد وقد سبق.
مسألة: "وهي على العاقلة" في ظاهر المذهب واختار أبو بكر بن عبد العزيز أنها على القاتل في ماله؛ لأنها موجب فعل قصده فلم تحمله العاقلة كالعمد المحض ولأنها دية مغلظة أشبهت دية العمد, ولنا ما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها, متفق عليه5. ولأنه نوع قتل لا يوجب قصاصا فوجبت ديته على العاقلة كالخطأ ويخالف العمد المحض لأنه مغلظ من كل وجه لقصده الفعل وأراد به القتل وعمد الخطأ مغلظ من وجه وهو قصده الفعل ومخفف من وجه وهو كونه لم يرد القتل
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه الترمذي في الفتن: حديث رقم 2159. وقال: هذا حديث حسن صحيح.
4 - سبق تخريجه.
5 - سبق تخريجه.(2/137)
على العاقلة في ثلاث سنين, في رأس كل سنة ثلثها: وإن كانت دية خطأ فهي على العاقلة كذلك إلا أنها عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت لبون
ـــــــ
فاقتضى تغليظا من وجه وهو الأسنان وتخفيفا من وجه وهو حمل العاقلة لها وتأجيلها.
مسألة: وهي تجب "في ثلاث سنين" على العاقلة لا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا, وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس لم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا, وحكي عن قوم من الخوارج أنهم قالوا: إن الدية حالة لأنها بدل متلف وليس بشيء لأن الدية تخالف سائر المتلفات لأنها تجب على غير المتلف ولا تختلف باختلاف صفات المتلف.
مسألة: وتجب "في رأس كل حول ثلثها" وابتداء المدة من حين وجوب الدية لأن هذا مال يحصل بانقضاء أجل فكان ابتداؤه من وجوبه كسائر الديون فإن كان الواجب دية نفس فابتداء مدتها من حين الموت سواء كان قتلا موجبا أو عن سراية جرح [وإن كان الواجب ديةيد أو جرح فابتداء المدة من حين الاندمال لأن الأرش لا يستقر إلا بالاندمال].
مسألة: "وإن كان" القتل خطأ "فهي على العاقلة كذلك" يعني في ثلاث سنين لما سبق "إلا أنها عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة" لا يختلف المذهب في أن دية الخطأ أخماسا كما ذكر, وقيل هي أخماس إلا أن مكان بني مخاض بني لبون. قال الخطابي: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض1. وفيها اختلاف كثير, ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في دية الخطأ عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني مخاض". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه2؛ ولأن ابن لبون يجب على طريق البدل عن ابنة مخاض في الزكاة إذا لم يجدها فلا يجمع بين البدل والمبدل في واجب؛ ولأنهما موجبهما واحد فيصير كأنه أوجب أربعين ابنة مخاض ولأن ما قلناه الأقل فالزيادة عليه لا تثبت إلا بتوقيف يجب الدليل على من ادعاه فأما دية قتيل خيبر فلا حجة فيه لأنهم لم يدعو على أهل خيبر قتل صاحبهم إلا عمدا فتكون ديته دية العمد وهي من أسنان الصدقة إن قلنا تجب أرباعا. أما وجوبها على العاقلة فقال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في ذلك, وقد ثبتت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6898. ومسلم في القسامة: حديث رقم 2, 6.
2 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4545. والنسائي في القسامة: 33- باب ذكر أسنان دية الخطأ: حديث رقم 1, وابن ماجه في الديات: حديث رقم 2631.(2/138)
وعشرون حقة وعشرون جذعة, ودية الحرة المسلمة نصف دية الرجل وتساوي جراحها جراحه إلى ثلث الدية فإذا زادت صارت على النصف ودية الكتابي نصف دية المسلم, ونساؤهم على النصف من ذلك ودية المجوسي ثمانمائة درهم
ـــــــ
قضى بدية الخطأ على العاقلة وأجمع عليه أهل العلم وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم دية عمد الخطأ على العاقلة بما قد روينا من الحديث فيما سبق وفيه تنبيه على أن العاقلة تحمل دية الخطأ والمعنى في ذلك أن جنايات الخطأ تكثر ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني يجحف بماله فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة للقاتل والإعانة له تخفيفا عنهما إذ كان معذورا في فعله, ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين فإن عمر وعليا رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة, واتبعهم على ذلك أهل العلم؛ ولأنه مال يجب على سبيل المواساة فلم يجب حالا كالزكاة.
مسألة: "ودية الحرة المسلمة نصف دية الرجل". قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة على نصف دية الرجل, وحكي عن ابن علية والأصم أنهما قالا: ديتها دية الرجل لقوله عليه السلام: "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" 1, وهو قول شاذ يخالف إجماع الصحابة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فإن في كتاب عمرو بن حزم: "ودية المرأة على النصف من دية الرجل" 2. وهو أخص مما ذكروه وهما في كتاب واحد فيكون ما ذكرناه مفسرا لما ذكروه ومخصصا.
مسألة: "وتسوى جراحها جراحه إلى ثلث الدية فإذا زادت صارت على النصف" روي هذا عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها". أخرجه النسائي3. وقال ربيعة: قلت لسعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر, قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون, قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون, قلت: ففي أربع أصابع؟ قال: عشرون قلت: لما عظمت مصيبتها قل عقلها. قال: هكذا السنة يا ابن أخي, وهذا يقتضي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, رواه سعيد بن منصور.
مسألة: "ودية الكتابي نصف دية المسلم" وروي عنه أنها ثلث الدية لكنه رجع عنها وروى عنه ابنه صالح قال: كنت أذهب إلى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف فأنا
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه النسائي في القسامة: 35-باب عقل المرأة: حديث رقم 1.(2/139)
ونساؤهم على النصف, ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغت ومن بعضه حر
ـــــــ
اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم لحديث عمرو بن شعيب وحديث عثمان الذي يرويه الزهري عن سالم عن أبيه وهذا صريح في الرجوع إلى أن ديته نصف دية المسلم وذلك لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دية المعاهد نصف دية المسلم". وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلمين, رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه ولفظه قال: "دية المعاهد نصف دية الحر" 1. قال الخطابي: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا ولا بأس بإسناده وقد قال به الإمام أحمد وقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى.
مسألة: "ونساؤهم على النصف من ذلك" يعني على النصف من دياتهم لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل؛ ولأنه لما كان دية نساء المسلمين على النصف من ديات رجالهم كذلك نساء أهل الذمة على النصف من دياتهم.
مسألة: "ودية المجوسي ثماني مائة درهم" وهو قول أكثر أهل العلم وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم, وقال عمر بن عبد العزيز: ديته كدية الكتابي نصف دية مسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"؛ ولأنهم يقرون بالجزية فأشبهوا أهل الكتاب, وقال أصحاب الرأي: ديته كدية المسلم لأنه محقون الدم فأشبه المسلم ولنا قول عمر وعثمان وابن مسعود: دية المجوسي ثماني مائة درهم ولا مخالف لهم وأما قولهم سنوا بهم سنة أهل الكتاب فالمراد به في أخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل أن ذبائحهم لا تباح ولا تنكح نساؤهم ولا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي لنقص أحكامه عنهما وذلك مما يوجب نقصان ديته كما نقصت دية المرأة عن دية الرجل.
مسألة: "ونساؤهم على النصف" من دياتهم بالإجماع وجراح كل أحد معتبرة من ديته وجراح كل امرأة منهم تساوي جراح رجالهم إلى الثلث.
مسألة: "ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغت" فإذا قتلهما قاتل وجبت قيمتهما لأنهما أموال لسيدهما والمال يضمن بقيمته مهما بلغت ويصير كما لو أتلف عليه حيوان أو متاع فإنه تجب قيمة ذلك وكذلك في العبد والأمة.
مسألة: "ومن بعضه حر ففيه بالحساب من دية حر وقيمة عبد" فإذا كان نصفه حرا
ـــــــ
1 - رواه أحمد في المسند 2/180, 183 و 215 و 244. وأبو داود في الديات: حديث رقم 4583. والنسائي في القسامة: 36- باب كم دية الكافر: حديث رقم 1, 2. وابن ماجه في الديات: حديث رقم 2644.(2/140)
ففيه بالحساب من دية حر وقيمة عبد ودية الجنين إذا سقط ميتا غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه ولو شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها
ـــــــ
ونصفه قنا كان فيه نصف دية حر ونصف قيمة عبد لأنه لو كان جميعه حرا لوجب دية حر فيجب في نصفه نصف ديته ولو كان كله عبدا لوجب فيه كمال قيمته فيجب في نصفه نصف قيمته.
مسألة: "ودية الجنين" الحر "إذا سقط" من الضربة "ميتا غرة عبد أو أمة قيمتها خمس من الإبل موروثة عنه" فيجب في جنين الحرة المسلمة غرة وهو قول أكثرهم روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه استشار الناس في إملاص المرأة فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. قال: لتأتين بمن يشهد معك فشهد له محمد بن مسلمة1, وعن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها2, واشترط كون الجنين حرا لأن الخبر ورد فيه وإن كان مملوكا ففيه عشر قيمة أمه كما قلنا في جنين الحرة يجب فيه عشر دية أمه وإنما تجب الغرة إذا سقط من الضربة ويعلم ذلك بأن يسقط عقيبها أو يبقى بها سالما إلى أن يسقط لأنه إذا سقط من الضربة كان قاتلا له فوجبت ديته كما لو ضربه بعد الولادة فقتله, ويجب أن تكون الغرة قيمتها نصف عشر الدية وهي خمس من الإبل وإذا لم يجد الغرة انتقل إلى خمس من الإبل على ظاهر كلام الخرقي وعلى قول غيره من أصحابنا ينتقل إلى خمسين دينارا أو ستمائة درهم. إذا ثبت هذا فإن الغرة موروثة عن الجنين كأنه سقط حيا لأنها دية له وبدل عنه فيرثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة وكدية الكبير.
مسألة: "ولو شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها فعليها غرة لا ترث منها شيئا" أجمعوا على ذلك ولأنها إذا أسقطت بالدواء جنينا فهي القاتلة للجنين الجانية عليه فلزمها ضمانه بالغرة كما لو جنى عليه غيرها ولا ترث من الغرة شيئا؛ لأن القاتل لا يرث وتكون الغرة لبقية الورثة من كانوا وعليها عتق رقبة وكذلك كل من ضرب عليه عتق رقبة في ماله لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وقد ثبت للجنين الإيمان تبعا لأبويه ولأنها نفس مضمونة بالدية فوجب فيها الكفارة كالكبير.
مسألة: "وإن كان الجنين كتابيا ففيه عشر دية أمه" لأن الجنين المسلم فيه عشر دية
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة: حديث رقم 7317.
2 - سبق تخريجه.(2/141)
فعليها غرة لا ترث منها شيئا وإن كان الجنين كتابيا ففيه عشر دية أمه وإن كان عبدا ففيه عشر قيمة أمه وإن سقط الجنين حيا ثم مات من الضربة ففيه دية كاملة إذا كان سقوطه لوقت يعيش في مثله.
ـــــــ
أمه فكذلك الجنين الكتابي فيه عشر دية أمه.
مسألة: "وإن كان عبدا ففيه عشر قيمة أمه" وقال أبو حنيفة: يعتبر الجنين بنفسه إن كان ذكرا ففيه نصف عشر قيمته وإن كان أنثى ففيه عشر قيمتها لأنه متلفة فكان بدله معتبرا بنفسه كسائر المتلفات ولنا أنه جنين مات بالجناية في بطن أمه فلم يختلف بالذكورة ولا بالأنوثة كجنين الحرة ويفارق سائر المتلفات فإنه لا يضمن بجميع قيمته ولأنه يتعذر تقويمه وتمييز الذكر من الأنثى.
مسألة: "وإن سقط الجنين حيا ثم مات من الضربة ففيه دية كاملة". قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن في الجنين يسقط حيا من الضرب الدية كاملة؛ ولأنه مات من جناية بعد ولادته فكانت فيه دية كاملة كما لو قتله بعد وضعه وإنما تجب ديته إذا سقط حيا وتعلم حياته بالاستهلال أو التنفس أو شرب اللبن أو العطاس وإنما يجب ضمانه إذا سقط من الضربة ومات ويعلم بها ذلك بأن يموت في الحال أو يبقى متألما إلى أن يموت فيعلم أنه مات من الجناية كما إذا ضرب رجلا فمات عقيب ضربه أو بقي متألما حتى مات إذا ثبت هذا فإن الدية كاملة إنما تجب فيه "إذا كان سقوطه لوقت يعيش في مثله" وهو أن يكون لستة أشهر فصاعدا فإن كان لدون ذلك ففيه غرة كما لو سقط ميتا, وقال الشافعي رضي الله عنه: فيه دية كاملة لأننا علمنا حياته وقد تلف من جنايته ولنا أنه لم يعلم فيه حياة يتصور بقاؤه بها فلم تجب فيه دية كما لو ألقته ميتا وكالمذبوح وقولهم إننا علمنا بحياته إذا سقط ميتا وله ستة أشهر فقد علمنا حياته .(2/142)
باب العاقلة و ما تحمله
...
باب العاقلة وما تحمله
وهي عصبة القاتل كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والموالي إلا الصبي
ـــــــ
باب العاقلة وما تحمله
"و" العاقلة "عصبة القاتل كلهم قريبهم وبعيدهم من النسب والموالي" لا خلاف بين أهل العلم أن العاقلة هم العصبات وأن غيرهم من الإخوة للأم وسائر ذوي الأرحام والزوج ليس من العاقلة واختلفت الرواية في الأبناء والآباء هل هم من العاقلة؟ ففيه روايتان عن أحمد رحمه الله: إحداهما أن كل العصبات من العاقلة يدخل فيه آباء الرجل وأبناؤه وإخوته وعمومته وأبناؤهم وهو اختيار أبي بكر والشريف أبي جعفر لما روى أبو داود بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل(2/142)
والمجنون والفقير ومن يخالف دينه دين القاتل, ويرجع في تقدير ما يحمله كل واحد
ـــــــ
المرأة بين عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا إلا ما فضل عن ورثتها وإن قتلت فعقلها بين ورثتها1؛ ولأنهم عصبة أشبهوا الإخوة يحققه أن العقل موضوع على التناصر وهم من أهله والرواية الثانية ليس هم من العاقلة؛ لما روى أبو هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم, متفق عليه2. وفي رواية: ثم ماتت القاتلة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنتها والعقل على العصبة, رواه أبو داود والترمذي, وفي رواية عن جابر بن عبد الله قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها وعصبتها وبرأ زوجها وولدها. قال: فقال: عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ميراثها لزوجها وولدها". رواه أبو داود3. إذا ثبت هذا في الأولاد قسنا عليه الوالد لأنه في معناه؛ ولأن مال والده وولده كماله ولهذا لم تقبل شهادتهما له فلا تجب فيه دية كما لا تجب في ماله وظاهر كلام الخرقي أن الإخوة كالوالد في أن فيه روايتين وغيره من أصحابنا يخصون الروايتين بالولد والوالد ويجعلون الإخوة من العصبة بكل حال وهو الصحيح.
مسألة: "وسائر العصبة من العاقلة -بعدوا أو قربوا- من النسب والموالي" لأنهم عصبة فيدخلون في تحمل العقل كالقريب ولا يعتبر أن يكونوا وارثين في الحال بل متى كانوا بحال يرثون لولا الحجب عقلوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية بين عصبة المرأة من كانوا والمولى من عصبته يعقل عنه إلا أنه لا يعقل إلا ما يفضل عن المناسبين فيقسم أولا على الإخوة ثم بنيهم ثم الأعمام ثم بنيهم فإن فضل بعد جميع المناسبين فضلة من الدية قسم على المولى وعصبته فإن لم يكن له عصبات أو كانوا وفضل عنهم شيء من الدية قسم على مولى المولى ثم على عصبة مولى المولى ثم على هذا التريب بحسب ما ذكرنا في الميراث فإن فضل عن جميعهم شيء كان في بيت المال.
مسألة: "إلا الصبي والمجنون والفقير ومن يخالف دينه دين القاتل" وذلك لأن تحمل العقل على سبيل المواساة فلا يلزم الفقير كالزكاة؛ ولأن حمل الدية وجب على سبيل النصرة والصبي والمجنون ليسا من أهلها فلا يلزمهم العقل, وكذلك المرأة, وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ لا يعقلان مع العاقلة, وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه شيء لما سبق ومن يخالف دينه فليس من أهل نصرته وموالاته فلا يعقل عنه كالصبي.
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4564.
2 - سبق تخريجه.
3 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4575.(2/143)
منهم إلى اجتهاد الإمام فيفرض عليه قدرا يسهل ولا يشق وما فضل فعلى القاتل وكذلك الدية في حق من لا عاقلة له ولا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا
ـــــــ
مسألة: "ويرجع في تقدير ما يحمله كل واحد منهم إلى اجتهاد الإمام فيفرض عليه قدرا يسهل" عليه "ولا يشق" لأنه لم يرد فيه تقدير من الشرع فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم لأنه يحتاج إلى نظر واجتهاد فأشبه النفقات وتقدير المتعة للمتزوجة بغير صداق إذا طلقها قبل الدخول.
مسألة: "وما فضل" عن العاقلة "فـ" هو "على القاتل وكذلك الدية في حق من لا عاقلة له" حكم من لم يكن له عاقلة تحمل الجميع كحكم من لا عاقلة له, وقد ذكر الخرقي فيمن لا عاقلة له روايتين: إحداهما يؤدي عنه من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري المقتول في خيبر من إبل الصدقة؛ ولأن بيت المال للمسلمين وهم يرثون كما ترثه عصباته, والرواية الأخرى لا يجب ذلك لأن بيت المال فيه حق النساء والصبيان والمعتوهين والفقراء ولا عقل عليهم؛ ولأن العقل بالتعصيب لا بالميراث ولم يثبت أن مال بيت المال لعصبات هذا. فأما تحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية الأنصاري فلا يلزم لأنه قتيل أهل الذمة وبيت المال لا يعقل عنهم, فإن قلنا بالرواية الأولى فلم يكن له عاقلة أصلا أخذ من بيت المال وإن كان له من عاقلته من يحمل بعض الدية فرض عليهم على قدر الواجب عليهم والباقي من بيت المال, فإذا لم يمكن الأخذ من بيت المال فقال الشافعي: ليس على القاتل شيء في أحد قوليه وفي الآخر تكون الدية على القاتل لأن الدية تجب عليه ابتداء ثم تحملها العاقلة عنه فإذا لم يكن متحمل بقيت عليه؛ ولعموم قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}؛ ولأنه يتعذر حمل الدية عن القاتل فلزمته كما لو ثبت القتل باعترافه. قال شيخنا: ويتخرج في المذهب مثل ذلك ولأن أصحابنا قالوا في المرتد إذا قتل رجلا خطأ فالدية في ماله مؤجلة؛ لأنه لا عاقلة له فينبغي أن يثبت هذا الحكم في كل من لا عاقلة له لوجود العلة فيه. وقالوا في نصراني رمى بسهم ثم أسلم ثم قتل السهم رجلا: الدية في ماله لأنه تعذر حمل العاقلة فكذا هذا.
مسألة: "ولا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون الثلث"؛ لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحمل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا". وروى عن ابن عباس موقوفا عليه وفي هذه المسألة خمس مسائل: الأولى أنها لا تحمل العمد وقد أجمع العلماء على أن العاقلة لا تحمل العمد الموجب للقصاص في نفس ولا طرف وعن مالك أن الجنايات التي لا قصاص فيها تحملها العاقلة كالجائفة والمأمومة لأنها جناية لا قصاص فيها فأشبهت الخطأ, ولنا حديث ابن عباس ولأنها جناية عمد فلا تحملها العاقلة كقتل الأب ابنه والموضحة وأما سقوط القصاص(2/144)
صلحا ولا اعترافا ولا ما دون الثلث
ـــــــ
في الجائفة والمأمومة بخلاف الخطأ فإن انتفاء القصاص فيه لكونه معذورا فيه فيقتضي أن تواسيه العاقلة فيه. والمسألة الثانية: أنها لا تحمل العبد فإذا قتله قاتل وجبت قيمته في مال القاتل ولا شيء على عاقلته خطأ كان أو عمدا, وقال أبو حنيفة: تحمله العاقلة لأنه آدمي يجب لقتله القصاص والكفارة فحملت العاقلة بدله كالحر, ولنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ ولأن الواجب في العبد القيمة وهي تختلف باختلاف صفاته فلا تحملها العاقلة كسائر القيمة وكضمان أطرافه وبهذا فارق الحر. والمسألة الثالثة: أنها لا تحمل الصلح قال القاضي: معناه إن صالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية فلا تحمله العاقلة لكونه حصل على جناية العمد ويحتمل أنه إذا ادعى عليه قتل عمد فينكر ثم يصالح الأولياء على الإنكار على مال فلا تحمله العاقلة؛ لأنه مال ثبت بمصالحته واختياره فجرى مجرى اعترافه وقد سبق فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والمسألة الرابعة: أن العاقلة لا تحمل الاعتراف وهو أن يعترف إنسان بقتل خطأ أو شبه عمد فلا تحمله العاقلة ولا نعلم فيه مخالفا. وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ولأنا لو أوجبنا الدية عليهم لأوجبنا عليهم حقا بإقرار غيرهم ولا يقبل إقرار شخص على غيره؛ ولأنه متهم في أن يواطئ على ذلك ليأخذ الدية من عاقلته إذا تقرر هذا فإنه إذا اعترف وجبت الدية عليه حالة ولا يصح إقراره ولا يلزمه شيء لكونه إقرارا على غيره, ولنا قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} ؛ ولأنه مقر بجناية على غير لا يصح إقراره كجناية العمد ولأنه محل مضمون بالدية لو ثبت بالبينة فيضمن إذا اعترف كسائر المحال وإنما سقطت عنه الدية في محل الوفاق لتحمل العاقلة له فإذا لم تتحملها العاقلة بقي وجوبها عليه كسائر الديون.
المسألة الخامسة: أن العاقلة لا تحمل ما دون الثلث, والصحيح عن الشافعي رضي الله عنه أن العاقلة تحمل القليل والكثير؛ لأن من وجب عليه الكثير لزمه القليل كالجاني. وقال أبو حنيفة: تحمل العاقلة السن والموضحة وما فوقها وهو نصف عشر الدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الغرة التي في الجنين على العاقلة وقيمتها نصف عشر الدية ولا تحمل ما دونه؛ لأنه ليس فيه أرش مقدر يجري مجرى ضمان الأموال, ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية أن لا تحمل منها العاقلة شيئا حتى تبلغ الدية عقل المأمومة؛ ولأن الأصل وجوب الضمان على الجاني على مقتضى قاعدة سائر الجنايات لكن خولف الأصل في ما زاد على الثلث لكونه كثيرا يجحف بالجاني ففيما عداه يبقى على قضية القياس لقلته وعدم إجحافه به, والدليل على كثرة الثلث وقلة ما دونه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير". وبهذا يفارق الثلث ما دونه, وأما الغرة فلا نسلمها إلا أن يقتل الجنين مع الأم فتحملها العاقلة؛ لأن موجب الجناية يزيد على الثلث وإن سلمنا فإنما تحملها العاقلة لأنها دية آدمي على سبيل الكلام.(2/145)
ويتعاقل أهل الذمة, ولا عاقلة لمرتد ولا لمن أسلم بعد جنايته أو انجر ولاؤه بعدها.
فصل
وجناية العبد في رقبته إلا أن يفديه السيد بأقل الأمرين من أرشها أو قيمته
ـــــــ
مسألة: "ويتعاقل أهل الذمة" فإذا كان القاتل ذميا فعقله على عصبته من أهل دينه المعاهدين, وعنه لا يتعاقلون ولنا أنهم عصبة يرثونه فيعقلون عنه كعصبة المسلم من المسلمين ولا يعقل عنه مناسبوه من المسلمين؛ لأنهم لا يرثونه ولا عصبته الذين بدار الحرب لأن الموالاة والنصرة منهم منقطعة وهل يعقل اليهودي عن النصراني أو النصراني عن اليهودي؟ على وجهين بناء على الروايتين في توارثهما فإن لم يكن للذمي عصبة لم يعقل عنه بيت المال؛ لأن المسلمين لا يرثونه وإنما ينقل ماله إلى بيت المال إذا لم يكن له وارث فيأخذه بخلاف مال المسلمين.
مسألة: "ولا عاقلة لمرتد" لأن عصبته من المسلمين لا يرثونه فلا يعقلون عنه, ولا يقر على الكفر فيعقل عنه الكفار ولو رماه وهو مسلم ثم ارتد ثم أصابه السهم لم يعقل عنه المسلمون؛ لأنه قتل وهو مرتد ولا عصبته الكفار لأنه رمى وهو مسلم ولأنهم لا يرثونه فتكون الدية في ماله.
مسألة: "ولا" عاقلة "لمن أسلم بعد جنايته" فلو قتل وهو كافر ثم أسلم لم تعقل عنه عصبته الكفار لأنه مسلم والكفار لا يرثونه فلا يعقلون عنه ولا يعقل عنه المسلمون لأنه جنى وهو كافر ولو رمى يهودي طائرا بسهم ثم أسلم ووقع السهم في مسلم فقتله لم تعقل عنه عصبته المسلمون؛ لأن إرسال السهم كان قبل إسلامه ولا عصبته الذميون لأنه قتله وهو مسلم فيكون في مال الجاني.
مسألة: ولا عاقلة لمن "انجر ولاؤه بعدها" يعني بعد جنايته, وصورة ذلك إذا تزوج عبد معتقة قوم فأولدها فولاء الوالد لمولاه فإن جنى الولد فعقله على مولى أمه فإن أعتق أبوه انتقل الولاء إلى موالي الأب وانقطع عن موالي الأم؛ لأن الولاء انجر عنهم فلا يعقلونهم لأنهم لا يرثونه ولا يعقل عنه موالي الأب لأنه جنى وهو مولى غيرهم ولو جرح ابن المعتقة رجلا ثم انجر ولاؤه إلى موالي أبيه ثم سرت الجناية فالحكم كذلك؛ لأن موالي الأم لا يعقلون لانقطاع الولاء عنهم وموالي الأب لا يعقلون لأن سبب السراية كان قبل حصول الولاء لهم
فصل
مسألة: "وجناية العبد في رقبته إلا أن يفديه السيد بأقل الأمرين من أرشها أو قيمته" هذا في الجناية التي تودي بالمال إما لكونها موجبة للقصاص فعفى عنه إلى المال وإما(2/146)
ودية الجناية عليه ما نقص من قيمته في مال الجاني
ـــــــ
لكونها لا توجب إلا المال كسائر جناياته فإن أرش جميع ذلك يتعلق برقبته لأنه لا يخلو إما أن يتعلق برقبته أو بذمته أو بذمة سيده أو لا يجب شيء ولا يمكن إلغاؤها لأنها جناية آدمي فيجب اعتبارها كجناية الحر ولا يمكن تعلقها بذمته لإفضاء ذلك إلى فوات حق المجني عليه أو تأخيره, ولا بذمة السيد لأنه لم يجن والجاني هو العبد وله يد وقصد فثبت أنها تتعلق برقبته؛ ولأن الضمان موجب جنايته فيتعلق برقبته كالقصاص ثم لا يخلو أرش الجناية من أن يكون بقدر قيمة العبد فما دون أو أكثر فإن كان بقدرها فما دون فالسيد مخير بين أن يفديه بأرش جنايته أو يسلمه إلى ولي الجناية فيملكه لأنه إن دفع أرش الجناية فهو الذي وجب للمجني عليه فلم يملك المطالبة بأكثر منه وإن سلم العبد فقد أدى المحل الذي تعلق الحق بت؛ ولأن حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة وقد أداها فإن طالب بتسليمه إليه وأبى ذلك سيده لم يجبر عليه لما ذكرنا, وإن دفع السيد عبده فأبى قبوله وقال بعه وادفع إلي ثمنه فهل يلزم السيد ذلك؟ على روايتين: إحداهما: لا يلزمه بيعه لأن الحق لم يثبت في ذمته ولم يتعلق بغير الجاني فلم يلزمه أكثر من تسليمه كما لو أصدق المرأة عبدا بعينه. والثانية: يلزم السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته ولا يلزم الجاني أخذ العبد لأن الدين تعلق به على وجه لم يملكه ولا يجب مثله فأشبه الرهن, وأما إن كانت الجناية أكثر من قيمته ففيه روايتان: إحداهما أن سيده مخير بين أن يفديه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته وبين أن يسلمه لما ذكرنا في القسم الذي قبله. والثانية: أنه مخير بين تسليمه وبين فدائه بأرش جنايته بالغة ما بلغت؛ لأنه إذا عرض للبيع ربما رغب فيه راغب بأكثر من قيمته فإذا أمسكه فقد فوت تلك الزيادة على المجني عليه, ووجه الأولى أن الشارع قد جعل للسيد فداءه فكان الواجب عليه قيمته كسائر المتلفات.
مسألة: "ودية الجناية عليه" -يعني على العبد- "ما نقص من قيمته" ؛ لأن ضمانه ضمان الأموال فيجب فيه ما نقص كالبهائم؛ ولأن ما ضمن بالقيمة بالغا ما بلغ ضمن بعضه بما نقص كسائر الأموال, وعنه إن كانت الجناية عليه في شيء مثله مؤقت في الحر كاليد والعين فهو في العبد مقدر من قيمته لأن ديته قيمته ففي يده نصف قيمته وفي موضحته نصف عشر قيمته وما أوجب الدية من الحر كاليدين والرجلين, والأنف والذكر والأنثيين أوجب قيمة العبد, وهذا يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولم يعرف له مخالف من الصحابة؛ ولأنه آدمي يضمن في القصاص والكفارة فكان في أطرافه مقدرا كالحر ولأن أطرافه منها مقدر من الحر فكان فيها مقدرا من العبد كالشجاج الأربع؛ ولأن ما وجب في شجاجه مقدرا وجب في أطرافه مقدرا كالحر إذا ثبت هذا فإنها تجب. "في مال الجاني" لأن العاقلة لا تحمل العبد كما سبق.(2/147)
وجناية البهائم هدر إلا أن تكون في يد إنسان كالراكب والقائد والسائق فعليه ضمان ما جنت بيدها أو فمها دون ما جنت برجلها أو ذنبها، وإن تعدى بربطها في ملك غيره أو طريق ضمن جنايتها كلها وما أتلفت من الزرع نهارا لم يضمنه إلا أن
ـــــــ
مسألة: "وجناية البهائم هدر" لقوله عليه السلام: " العجماء جبار" 1, والعجماء البهيمة وقوله جبار أي هدر كقوله: "البئر جبار والمعدن جبار" 2. أي هدر يعني إذا استأجر من يحفر له في بئر أو معدن فوقع عليه فقتله فهو هدر.
مسألة: "إلا أن تكون" البهيمة "في يد إنسان كالراكب والقائد والسائق فعليه ضمان ما جنت يدها أو فمها دون ما جنت رجلها أو ذنبها"؛ لأن اليد والفم يمكنه التحفظ منهما وليس كذلك الرجل فإنه لا يمكنه التحفظ منها كما لو لم تكن يده عليها, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرجل جبار" 3. في حديث أبي هريرة وروى سعيد بإسناده عن هذيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وذنبها كرجلها", وعنه رواية أخرى يضمن جناية الرجل. قال القاضي: وهي أصح لأنه يشاهدها فهي كاليد أو الفم.
مسألة: "وإن تعدى بربطها في ملك غيره أو طريق ضمن جنايتها كلها" لأنه متعد بذلك وإن كان الطريق واسعا ففيه روايتان: إحداهما يضمن أيضا لأن انتفاعه بالطريق مشروط بالسلامة وكذلك لو ترك في الطريق طينا أو ما أشبهه فزلق فيه إنسان ضمن. والثانية: لا يضمن لأن له أن يقفها في طريق لا يضيق بها على الناس فلم يكن متعديا فلم يضمن كما لو جلس فعثر به إنسان.
مسألة: "وما" أفسدت البهيمة "من الزرع نهارا لم يضمنه إلا أن تكون في يده وما أتلفت ليلا فعليه ضمانه" ؛ لما روى مالك عن الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الأموال حفظها بالنهار وما أفسدت بالليل فهو مضمون عليهم. قال ابن عبد البر: إن كان هذا مرسلا فهو مشهور حدث به الأئمة الثقات واستعمله فقهاء الحجاز بالقبول؛ ولأن العادة من أهل المواشي إرسالها في النهار للرعي وحفظها ليلا وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا دون الليل فإذا رعت ليلا كان التفريط من أهلها بتركهم حفظها في وقت عادة الحفظ, وإن أتلفت نهارا كان التفريط من أهل الزرع فكان عليهم, وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى على كل إنسان بالحفظ في وقت عادته, وأما غير الزرع فلا يضمن لأن البهيمة لا تتلف
ـــــــ
1 - رواه البخاري في الديات: حديث رقم 6912, ومسلم في المساقاة: حديث رقم 3.
2 - انظر تخريج الحديث عاليه.
3 - نفس التخريج.(2/148)
تكون في يده وما أتلفت ليلا فعليه ضمانه.
ـــــــ
ذلك عادة فلا يحتاج إلى حفظها عنه بخلاف الزرع وهذا إذا لم تكن يد أحد عليها فإن كان صاحبها معها أو غيره فعلى من يده عليها ضمان ما أتلفته من نفس أو مال على ما سبق في المسألة قبلها.(2/149)
باب ديات الجراح
كل ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه دية كلسانه وأنفه وذكره وسمعه وبصره وشمه وعقله وكلامه وبطشه ومشيه, وكذلك في كل واحد من صعره -وهو أن يجعل وجهه في جانبه- وتسويد وجهه وخديه واستطلاق بوله أو غائطه وقرع رأسه ولحيته دية, وما فيه منه شيئان ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها كالعين والحاجبين والشفتين والأذنين واللحيين واليدين والثديين والاليتين والأنثيين والأسكتين والرجلين وفي الأجفان الأربعة الدية وفي أهدابها الدية وفي كل واحد ربعها, فإن
ـــــــ
باب ديات الجراح
"كل ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه دية كلسانه وأنفه وذكره وسمعه وبصره وشمه وعقله وكلامه وبطشه ومشيه وكذلك في كل واحد من صغره وهو أن يجعل وجهه في جانبه وتسويد وجهه وخديه واستطلاق بوله أو غائطه وقرع رأسه ولحيته دية", وذلك أن كل عضو لم يخلق الله سبحانه في الإنسان منه إلا واحدا كاللسان والأنف وجميع ما ذكرنا ففيه دية كاملة؛ لأن في إتلافه إذهاب منفعة الجنس وإذهاب منفعة الجنس كإتلاف النفس.
مسألة: "وما فيه منه شيئان ففيهما الدية وفي أحدهما نصفها كالعينين والحاجبين والشفتين والأذنين واللحيين واليدين والثديين والإليتين والأنثيين والأسكتين والرجلين"؛ لأن منفعة الجنس تذهب بذهابهما فكان فيهما الدية وفي إتلاف أحدهما إذهاب نصف منفعة الجنس فكان فيه نصف الدية لا نعلم في هذا خلافا, وقد روى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه وكان في كتابه: "وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية", رواه النسائي وغيره1. ورواه ابن عبد البر وقال: كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء وما فيه متفق عليه إلا قليلا.
مسألة: "وفي الأجفان الأربعة الدية" لأن بإذهابها تفوت منفعة الجنس جميعا, "وفي
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.(2/149)
قلعها بأهدابها وجبت دية واحدة وفي أصابع اليدين الدية وفي أصابع الرجلين الدية وفي كل إصبع عشرها وفي كل أنملة ثلث عقلها إلا الإبهام في كل أنملة نصف عقلها وفي كل سن خمس من الإبل إذا لم تعد
ـــــــ
كل واحد" منها "ربع" الدية لأن كل ذي عدد تجب الدية في جميعه تجب في كل واحد بحصته من الدية كالعينين والأصابع ولأن فيها جمالا ظاهرا ومنفعة كاملة فإنها تكن العين وتحفظها وتقيها الحر والبرد وتكون كالغلق عليها يطبقه إذا شاء ويفتحه إذا شاء ولولاها لقبح منظره فوجب أن يكون فيها الدية كاليدين.
مسألة: وتجب الدية في أهداب العينين بمفردها وهو الشعر الذي على الأجفان لأن فيها جمالا ومنفعة فوجب فيها الدية كالأجفان.
مسألة: "فإن" قطع الأجفان "بأهدابها" لم يجب أكثر من "دية واحدة" لأن الشعر يزول تبعا لزوال الأجفان فلم يجب فيها شيء كالأصابع إذا قطع الكف وهي عليه.
مسألة: "وفي أصابع اليدين الدية وفي أصابع الرجلين الدية وفي كل إصبع عشرها" ولا نعلم فيه مخالفا إلا عن عمر ثم رجع عنه إلى ما في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لآل حزم فأخذ به وترك قوله الأول وبهذه الجملة قال عمر وعلي وزيد وابن عباس وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل لكل إصبع". أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح, ورواه أبو داود عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم1. وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "وفي كل إصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر من الإبل" 2؛ ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فكانت سواء في الدية كالأسنان والأجفان.
مسألة: "وفي كل أنملة ثلث عقلها" فديتها مقسومة على عدد أناملها لكل إصبع ثلاث أنامل "إلا الإبهام" فإنها أنملتان ففي كل أنملة من غير الإبهام ثلث عقلها ثلاثة أبعر وثلث ثلث دية الإصبع وفي كل أنملة من الإبهام خمس من الإبل نصف ديتها والحكم في أصابع اليدين والرجلين سواء لعموم الخبر فيهما وحصول الاتفاق عليهما.
مسألة: "وفي كل سن خمس من الإبل إذا لم تعد" لا نعلم خلافا بينهم في أن دية الأسنان من الإبل خمس في كل سن روي ذلك عن عمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم, وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي السن خمس من الإبل". رواه النسائي وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الأسنان خمس
ـــــــ
1 - رواه الترمذي في الديات: حديث رقم 1391. وأبو داود في الديات: حديث رقم 4556.
2 - سبق تخريجه.(2/150)
وفي مارن الأنف وحلمة الثدي والكف والقدم
ـــــــ
خمس", رواه أبو داود1, والأضراس والأنياب كالأسنان روي ذلك عن ابن عباس ومعاوية رواه مسلم ولأن قوله في الخبر "في كل سن خمس من الإبل" ولم يفصل فدخل في عمومها الأضراس والأنياب لأنها أسنان, وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأصابع سواء والأسنان سواء الشفة والضرس سواء هذه وهذه سواء" 2, وهذا نص وإذا ثبت هذا فإن ديتها تجب إذا لم تعد فإن عادت لم تجب ديتها كما لو نتف شعره فعاد مثله.
مسألة: "وفي مارن الأنف" الدية بغير خلاف بينهم حكاه ابن عبد البر وابن المنذر عن من يحفظ عنه من أهل العلم وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في الأنف إذا أوعب مارنه جدعا الدية" 3؛ ولأنه عضو فيه جمال ومنفعة ليس في البدن منها إلا شيء واحد فكانت فيه دية كاللسان, وإنما الدية في مارنه وهو ما لان منه هكذا قال الخليل وغيره؛ ولأن الذي يقطع منه ذلك فانصرف الخبر إليه.
مسألة: "و" في "حلمتي الثدي" الدية نص عليه لأن المنفعة بها تتعلق بالحلمتين بهما يشرب اللبن فهما كالأصابع مع الكف وحكم ثدي الرجل كحكم ثدي المرأة؛ لأن ما وجب فيه من المرأة وجب فيه من الرجل كسائر الأعضاء؛ ولأنه أذهب الجمال على الكمال فوجبت الدية كأذني الأصم وأنف الأخشم.
مسألة: "و" في "الكف" الدية "و" كذلك "القدم" يعني الكف بأصابعه والقدم بأصابعه إذا قطعه وجبت ديته كاملة؛ لأنه قطع يده أو رجله فوجبت ديتها لذهاب نفعها وخص ذلك بالقدم والكف لأن فيه زيادة بيان وتعريف أن قطع ذلك يوجب الدية كما لو قطع اليد من المرفق فإنه يجب دية اليد لا غير, ولو قطع الرجل مع الركبة وجبت ديتها لأن ذلك يسمى يدا وتسمى رجلا فهو داخل في مسمى اليد والرجل فلم يكن فيه أكثر من دية. هذا ظاهر المذهب, وقال القاضي: في الزائد حكومة يعني إذا قطع من المرفق أو من الركبة وجبت عليه دية اليد والرجل وفي الزائد عن الكوع والكعب حكومة لأن اليد اسم لها إلى الكوع بدليل الآية وهي قوله سبحانه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 4, ولا تقطع إلا من الكوع ولنا أن اليد اسم للجميع إلى المنكب بدليل قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}, ولما نزلت آية التيمم مسح الصحابة إلى المناكب وقال ثعلب: اليد إلى
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4563.
2 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4559.
3 - سبق تخريجه.
4 - سورة المائدة: الآية 38.(2/151)
وحشفة الذكر وما ظهر من السن وتسويدها دية العضو كله وفي بعض ذلك بالحساب من ديته وفي الأشل من اليد, والرجل والذكر وذكر الخصي والعنين
ـــــــ
المنكب فإذا قطعها من فوق الكوع فما قطع إلا اليد فلا يكون فيها إلا دية اليد ولا يمنع أن يجب في الكل مثل ما يجب في البعض كما لو قطع الذكر من أصله لم يجب إلا دية ولو قطع الحشفة وجبت الدية ولو قطع الأصابع وجبت الدية ولو قطعها مع الكوع لم يجب إلا دية.
مسألة: "و" في "حشفة الذكر" الدية ولا نعلم مخالفا فيه لأن منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل منافع اليد بالأصابع فكملت الدية بقطعها كالأصابع.
مسألة: ويجب في "ما ظهر من السن ديتها" لأن السن اسم لما ظهر من اللثة فإذا كسره من ذلك الحد وجبت الدية وما في اللثة يسمى سنخا فإن قلعه بسنخه لم يزد الأرش كما أن أصل الأصابع في الكف فإذا قطعها وجبت الدية وإذا قطع معها الكف لم يزد الأرش.
مسألة: "وإن جنى على السن فسودها وجبت عليه ديتها" روي ذلك عن زيد ابن ثابت وحكي عن الإمام أحمد فيها روايتان أن في تسويدها كمال ديتها؛ لأنه أذهب الجمال على الكمال فكملت ديتها كما لو قطع أذن الأصم وأنف الأخشم ولأنه قول زيد ولم يعرف له مخالف من الصحابة.
مسألة: "وفي بعض ذلك بالحساب من ديته" فإذا قطع شيئا من مارن الأنف أو الثدي أو الحشفة أو الذكر أو كسر بعض السن إن النصف وجب نصف ديته وإن كان أقل من ذلك أو أكثر وجب بحسابه.
مسألة: "وفي الأشل من اليد والرجل والذكر وذكر الخصي والعنين ولسان الأخرس والعين الغائمة والسن السوداء والذكر دون حشفته والثدي دون حلمته والأنف دون أرنبته والزائد من الأصابع وغيرها حكومة". اليد الشلاء اليابسة التي قد ذهبت منها منفعة البطش واختلفت الرواية عن أحمد فيها وفي السن السوداء والعين الغائمة وهي التي ذهب بصرها وصورتها باقية: فعنه فيهن حكومة لأنه لا يمكن إيجاب دية كاملة لكونها قد ذهبت منفعتها ولا مقدر فيها فتجب فيها الحكومة كاليد الزائدة وعنه يجب في كل واحدة ثلث ديتها؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في العين الغائمة السادة لمكانها بثلث الدية وفي اليد الشلاء إذا قطعت ثلث ديتها وفي السن السوداء إذا قلعت ثلث ديتها. رواه النسائي وأخرجه أبو داود مختصرا في العين وحدها, وروي ذلك عن عمر ولأنها كاملة الصورة فكان فيها مقدر كالصحيحة.(2/152)
ولسان الأخرس والعين الغائمة والسن السوداء والذكر دون حشفته والثدي دون حلمته والأنف دون أرنبته والزائد من الأصابع وغيرها حكومة وفي الأشل من الأنف وأنف الأخشم وأذن الأصم ديتها كاملة.
ـــــــ
مسألة: وكذلك الرجل الشلاء والذكر الأشل وذكر الخصي وذكر العنين وكذلك كل عضو ذهب نفعه وبقيت صورته فذلك على روايتين: إحداهما تجب حكومة كما سبق والثانية ثلث الدية بالقياس على ما مضى.
مسألة: "وفي لسان الأخرس روايتان أيضا كالروايتين في اليد الشلاء". قال القاضي: في معنى ذلك الإصبع الزائدة ونحوها. قال شيخنا -رحمه الله-: والصحيح أن الواجب في الزائد حكومة لأن الأصلي الباقية صورته بقي جماله بعد ذهاب نفعه والزائد لا جمال فيه بل هو يشين في الخلقة فلا يصح قياسه على ما بقي جماله.
مسألة: "وأما الذكر دون حشفته ففيه وجهان:" أحدهما حكومة, والثاني: ثلث ديته كما لو قطع الكف بعد ذهاب الأصابع والحكم في الثدي دون حلمته كالذكر دون حشفته وعلى قياسه الأنف دون أرنبته لأنه يشبه الذكر دون حشفته فيكون حكمه حكمه.
مسألة: "وفي الأشل من الأذن والأنف وأنف الأخشم وأذن الأصم ديتها كاملة" لأن نفعها وجمالها باق بعد شللها فإن منفعة الأذن جمع الصوت ومنع دخول الماء والهوام في صماخه فإذا قطعها وجبت ديتها ولأنه قطع أذنا فيها الجمال والنفع فأشبه ما لو قطعها قبل الشلل, والأنف الأشل كذلك لأنه قطع أنفا فيه الجمال والنفع فوجبت ديته كغير الأشل وأنف الأخشم -يعني الذي لا يشم- تجب ديته كما لو قطع أذن الأصم فإنه يجب ديتها كاملة لما ذكرناه.(2/153)
باب الشجاج و غيرها
...
باب الشجاج وغيرها
الشجاج هي جروح الرأس والوجه وهي تسع: أولها الحارصة وهي التي تشق الجلد شقا لا يظهر منه دم ثم البازلة التي ينزل منها دم يسير ثم الباضعة التي تبضع اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة التي أخذت في اللحم ثم السمحاق التي بينها وبين
ـــــــ
باب الشجاج وغيرها
"والشجاج هي جراح الرأس والوجه" فإنه يسمى شجاجا خاصة دون جراح سائر البدن والشجاج المساة "تسعة": منها خمس لا توقيت فيها وباقيها مقدر فأما التي لا توقيت فيها فقال الأصمعي: "أولها الحارصة وهي التي تشق" اللحم قليلا, ومنه حرص القصار للثوب "ثم البازلة" وهي "التي يبزل منها" الـ "دم" أي يسيل وتسمى الدامية أيضا "ثم(2/153)
العظم قشرة رقيقة فهذه الخمس لا توقيت فيها ولا قصاص بحال ثم الموضحة وهي التي وصلت إلى العظم وفيها خمس من الإبل, والقصاص إذا كانت عمدا ثم
ـــــــ
الباضعة" وهي "التي" تشق "اللحم بعد الجلد ثم المتلاحمة" وهي "التي أخذت في اللحم" ولم تبلغ السمحاق "ثم السمحاق وهي التي" تصل إلى "قشرة رقيقة" أو جلدة بين اللحم والعظم تسمى الجراح الموصلة إلى تلك الجلدة سمحاقا باسمها ويسميها أهل المدينة الملطاء وهي التي تأخذ اللحم كله حتى تخلص منه. "فهذه خمس لا توقيت فيها ولا قصاص" أي لم نجد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حكما ولا توقيتا وأكثر الفقهاء لا يرون فيها توقيتا وهو الصحيح عن أحمد رحمه الله, وعنه رواية أخرى في الدامية بعير وفي الباضعة بعيران وفي الملاحمة ثلاثة أبعرة وفي السمحاق أربعة أبعرة وهذا يروي عن زيد بن ثابت صار أحمد إلى ذلك اتباعا لزيد؛ لأن مثل هذا لا يكاد يصدر إلا عن توقيت ووجه الأول أنها جراحات لم يرد فيها توقيت في الشرع فكان الواجب فيها حكومة كجراحات البدن أو كالحارصة وروى مكحول قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموضحة بخمس من الإبل ولم يقض فيما دونها.
مسألة: "ثم الموضحة" وهي من الشجاج "وهي التي وصلت إلى العظم" سميت موضحة لأنها أبدت وضح العظم أي بياضه أجمع أهل العلم على أن أرشها مقدر قاله ابن المنذر, وفي كتاب عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وفي الموضحة خمس من الإبل". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في المواضح خمس خمس" . رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن1, والموضحة في الوجه والرأس سواء وعنه رواية أخرى: يجب في موضحة الوجه عشر من الإبل وهو قول سعيد بن المسيب لأن تشيينها أكثر والأول ظاهر المذهب وهو الصحيح الذي يوافق عموم الخبر ويشهد له النظر فإن التقدير لا يصار إليه بالرأي والاختيار أما كثرة الشين فلا عبرة به بدليل التسوية بين الصغير والكبير.
مسألة: "و" فيها "القصاص إذا كانت عمدا" لقوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ؛ ولأن لها حدا تنتهي إليه فأشبهت اليد وقوله في الشجاج وهي جروح الرأس والوجه يعني أنها تختص بالرأس والوجه فلو أوضحه في غيرهما لم يكن فيه مقدر هذا قول أكثرهم وقال بعضهم: إن أوضحه في غير الرأس والوجه كانت موضحة مقدرة ولنا أن اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة بالرأس والوجه وقول الخليفتين الراشدين
ـــــــ
1 - رواه أبو داود في الديات: حديث رقم 4566. والنسائي في القسامة: 44- باب المواضح حديث رقم 1. والترمذي في الديات: حديث رقم 1390.(2/154)
الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه وفيها عشر من الإبل ثم المنقلة وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها وفيها خمسة عشر من الإبل, ثم المأمومة وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ وفيها ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى الجوف فإن خرجت من جانب آخر فهي جائفتان وفي الضلع بعير وفي الترقوتين
ـــــــ
الموضحة في الرأس والوجه سواء يدل على أن باقي البدن بخلافه ولأن الشين فيهما أكثر منه في سائر البدن فلا يلحق به ثم إن إيجاب ذلك في سائر البدن يفضي إلى أن يجب في موضحة العضو أكثر من ديته مثل أن يوضح عن عظم أنملة فيجب فيها خمس من الإبل وديتها ثلاث وثلث.
مسألة: "ثم الهاشمة وهي التي توضح العظم وتهشمه" سميت هاشمة لهشمها العظم "وفيها عشر من الإبل" روي ذلك عن زيد بن ثابت ومثل ذلك الظاهر أنه توقيف ولأنه لم يعرف له مخالف في عصره فكان إجماعا؛ ولأنها شجة فوق الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر كالمأمومة وهي في الوجه والرأس سواء على ما ذكرناه في الموضحة.
مسألة: "ثم المنقلة وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها وفيها خمس عشر من الإبل" بإجماع أهل العلم حكاه ابن المنذر في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم قال: "وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل".
مسألة: "ثم المأمومة وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ" وهي الآمة أيضا وهي الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ وهي جلدة فيها الدماغ سميت أم الدماغ لأنها تحوطه وتجمعه فإذا وصلت الجراحة إليها سميت آمة ومأمومة يقال أم الرجل آمة ومأمومة "و" أرشها "ثلث الدية" لقوله عليه السلام [في كتاب عمرو: "و في المأمومة ثلث الدية" و عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم] مثل ذلك ونحوه عن علي.
مسألة: "وفي الجائفة ثلث الدية وهي التي تصل إلى الجوف" لقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو ابن حزم: "وفي الجائفة ثلث الدية", وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك.
مسألة: "فإن" جرحه في جوفه "فخرجت من" الـ "جانب" الـ "آخر فهي جائفتان"؛ لما روى سعيد بن المسيب: أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه فقضى أبو بكر رضي الله عنه بثلثي الدية ولا مخالف له أخرجه سعيد. قال أصحابنا: وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر رضي الله عنه قضى في الجائفة إذا نفذت في الجوف بأرش جائفتين ولأنه أنفذه في موضعين فأشبه ما إذا كان من الظاهر إلى الباطن.
مسألة: "وفي الضلع بعير وفي الترقوتين بعيران" هكذا ذكره الخرقي وقال القاضي: إن المراد بقوله الترقوة الترقوتان معا وإنما اكتفى بلفظ الواحد لإدخال الألف.(2/155)
بعيران وفي الزندين أربعة أبعرة, وما عدا هذا مما لا يقدر فيه ولا هو في معناه ففيه حكومة وهي أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص من قيمته فله بقسطه من الدية إلا أن تكون الجناية على عضو فيه مقدر فلا
ـــــــ
واللام المقتضية للاستغراق والترقوة العظم الممدود من النحر إلى الكتف ولكل واحد ترقوتان ففي كل ترقوة بعير وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولما كانت الترقوة عظمين في كل واحد بعير كان في الضلع بعير أيضا.
مسألة: "وفي الزندين أربعة أبعرة" لأن فيهما أربعة عظام ففي كل عظم بعير يروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وقيل في ذلك حكومة وما روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن عمرو ابن العاص كتب إلى عمر في أحد الزندين إذا كسر فكتب إليه عمر: إن فيه بعيرين وإذا كسر الزندان ففيهما أربعة من الإبل.
مسألة: "وما عدا هذا مما لا يقدر فيه ولا هو في معناه ففيه حكومة" وذلك أن لنا مقدرا وما هو في معناه وغيره فالمقدر ما نص النبي صلى الله عليه وسلم على أرشه وبين قدره كقوله: "في الأنف الدية وفي اللسان الدية" وقد سبق ذكره وما هو في معناه كالإليتين والثديين والحاجبين فذلك ملحق بالمقدر وقد سبق أيضا, وأما غير المقدر والذي ليس في معناه فكالشجاج التي دون الموضحة وجراحات البدن سوى الجائفة وقطع الأعضاء وكسر العظام المذكورة فيجب فيها حكومة لأنها ليست في معنى المقدر.
مسألة: "و" الحكومة "أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت فما نقص من قيمته فله نقصه من ديته". قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل العلم يرى أن معنى قولهم "حكومة" أن يقال إذا أصيب الإنسان بجرح لا عقل له معلوم كم قيمة هذا المجروح لو كان عبدا لم يجرح هذا الجرح فإن قيل مائة دينار قيل وكم قيمته وقد أصابه هذا الجرح وانتهى برؤه قيل خمسة وتسعون فالذي يجب له على الجاني نصف عشر الدية, وإن قالوا تسعون فعشر الدية وإن زاد أو نقص فعلى هذا المثال وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة بالدية فأجزاؤه مضمونة فيها كما أن المبيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان أرش المعيب الموجود فيه مقدرا من الثمن فيقال: كم قيمته لا عيب فيه؟. قالوا: عشرة فيقال: وكم قيمته والعيب فيه؟ فإذا قيل تسعة علم أنه نقص عشر قيمته فيجب أن يرد من الثمن عشرة أي قدر كان وتقديره عبدا ليمكن تقويمه ويجعل العبد أصلا للحر فيما لا توقيت فيه والحر أصلا للعبد فيما فيه توقيت.
مسألة: "إلا أن تكون الجناية على عضو فيه مقدر فلا يجاوز به أرش المقدر مثل أن يشجه دون الموضحة فلا يجب أكثر من أرشها أو يجرح أنملة فلا يجب أكثر من ديتها" وذلك(2/156)
يجاوز به أرش المقدر مثل أن يشجه دون الموضحة فلا يجب أكثر من أرشها أو يجرح أنملة فلا يجب أكثر من ديتها.
ـــــــ
مثل أن يشجه سمحاقا في وجهه فينقص عشر قيمته فتقتضي الحكومة أن يجب فيه عشر من الإبل ودية الموضحة خمس فها هنا يعلم غلط المقوم لأن الجراحة لو كانت موضحة لم تزد على خمس من الإبل مع زيادتها على السمحاق قليلا فلأنه لا يجب في بعضها زيادة على خمس أولى وكذلك لو جرح أنملة فبلغ أرشها بالحكومة خمسا من الإبل فإنه يرد إلى دية الأنملة المجروحة وينقص عنها شيئا ذكره القاضي وفي التي قبلها وقال: من المحال أن يجب في الجناية على العضو أكثر من ديته فما زاد علمنا غلط المقوم وإن كانت الجناية في محل لا مقدر فيه وجب فيه ما أخرجته الحكومة بالغا ما بلغ.(2/157)
باب كفارة القتل
ومن قتل مؤمنا أو ذميا بغير حق أو شارك فيه أو في إسقاط جنين فعليه كفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله سواء كان مكلفا أو غير مكلف حرا أو عبدا
ـــــــ
باب كفارة القتل
"ومن قتل مؤمنا" غير متعمد "أو ذميا بغير حق أو شارك فيه أو في إسقاط جنين فعليه كفارة وهي تحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله سبحانه سواء كان مكلفا أو غير مكلف حرا أو عبدا" والأصل في كفارة القتل قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وأجمعوا على أن على القاتل خطأ الكفارة للآية وتجب في قتل الصغير والكبير لعموم الآية وتجب بقتل العبد كما تجب بقتل الحر لعموم الآية وتجب بقتل الذمي والمستأمن وهو قول أكثرهم لقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, والذمي والمستأمن لهما ميثاق ولأنه مقتول ظلما فأشبه المسلم.
مسألة: وإن قتل صبي أو مجنون وجبت الكفارة في مالهما لعموم قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وهما قد قتلا مؤمنا وكذلك الكافر إذا قتل تجب عليه الكفارة لأنه حق مال يتعلق بالقتل فتعلقت به كالدية.
مسألة: والمشهور في المذهب أنه لا كفارة في قتل العمد وعنه تجب فيه وهو قول الشافعي لما روى واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب بالقتل فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق الله تعالى بكل عضو منها عضوا منه من النار"؛ ولأنها إذا(2/157)
ولو تصادم نفسين فماتا فعلى كل واحد منهما كفارة ودية صاحبه على عاقلته،
ـــــــ
وجبت في الخطأ ففي العمد أولى لأنه أعظم إثما وأكبر جرما ولنا مفهوم قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, ثم ذكر قتل العمد فلم يوجب فيه كفارة فمفهومه أنه لا كفارة فيه وروي أن سويد ابن الصامت قتل رجلا فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم القود ولم يوجب كفارة؛ ولأنه فعل يوجب القتل فلا يوجب كفارة كالزنى من المحصن وخبر واثلة يحتمل أنه أمرهم بالإعتاق عنه تبرعا وكذلك أمر به غير القاتل وما ذكره من المعنى لا يصح لأنه يحتمل أنها وجبت في الخطأ لقلة إثمه لتمحو أثر التفريط فلا يلزم إيجابها في موضع كبر إثمه وتعاظم جرمه بحيث لا يمكنها رفعه.
مسألة: ومن شارك في قتل يوجب الكفارة لزمته الكفارة ويلزم كل واحد من شركائه كفارة وهو قول أكثرهم وحكى أبو الخطاب عن الإمام أحمد رواية أن عليهم كفارة واحدة؛ لعموم قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, و "من" تتناول الواحد والجماعة ولأنه لم يوجب إلا دية وكفارة والدية لا تتعدد بالفاعلين كذلك الكفارة ولأنها كفارة تتعلق بالقتل فإذا اشترك في سببها الجماعة وجبت كفارة واحدة ككفارة الصيد ولنا أنها كفارة لا تتبعض بدليل أنها لا تنقسم على الأطراف وما لا يتبعض إذا اشترك في سببه الجماعة وجب تكميله كالقصاص ويخالف كفارة الصيد؛ لأنها تجب بدلا ولهذا تجب في أبعاضه وكذلك الدية.
مسألة: وإن شارك في ضرب بطن امرأة فألقت جنينا سواء كان ميتا أو حيا ثم مات فعليه الكفارة وعلى كل واحد من شركائه كفارة كما إذا قتل جماعة رجلا ودليلها ما سبق في المسألة قبلها, وقال أبو حنيفة: لا كفارة على من ضرب بطن امرأة فألقت جنينا سواء كان حيا أو ميتا جماعة أو واحدا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب فيه الغرة ولم يوجب الكفارة, ولنا قول الله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وقد ثبت للجنين الإيمان تبعا لأبويه ولأنها نفس مضمونة بالدية فوجبت فيها الكفارة كالكبير وما ذكره من الحديث فلا يدل على نفي الكفارة كما قال: "في نفس المؤمن مائة من الإبل" ولم يذكر الكفارة فيحتمل أن يكون ترك ذكرها اعتمادا على عموم الآية.
مسألة: "ولو تصادم نفسان فماتا فعلى كل واحد منهما كفارة ودية صاحبه على عاقلته" وإنما لزم كل واحد منهما كفارة لأنه قتل صاحبه بصدمته له فوجبت عليه كفارة كما لو لكمه فقتله ويجب على الآخر كفارة لذلك, وأما الدية في المتصادمين فتجب دية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه لأنه قاتل خطأ أو شبه عمد وفيه الدية على العاقلة على ما سبق فإن كان المتصادمان امرأتين حاملتين فأسقطت كل واحدة منهما جنينا فعلى كل واحدة منهما نصف ضمان جنينها ونصف ضمان جنين صاحبتها لأنهما اشتركتا في قتله.(2/158)
وإن كانا فارسين فمات فرساهما فعلى كل واحد منهما ضمان فرس الآخر وإن كان أحدهما واقفا والآخر سائرا فعلى السائر ضمان دابة الواقف وعلى عاقلته ديته إلا أن يكون الواقف متعديا بوقوفه كالقاعد في طريق ضيق أو ملك السائر فعليه الكفارة وضمان السائر ودابته ولا شيء على السائر ولا عاقلته وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق
ـــــــ
وعلى كل واحدة منهما عتق ثلاث رقاب: واحدة لقتلها صاحبتها والثانية لمشاركتها في قتل جنينها والثالثة لمشاركتها في قتل جنين صاحبتها.
مسألة: "وإن كانا فارسين فمات فرساهما فعلى كل واحد منهما ضمان فرس الآخر" لأن التلف حصل بفعليهما فيستويان في الضمان سواء استوى فعلاهما أو اختلف كما لو جرح أحد الشريكين جرحا والآخر مائة جرح, وقال الشافعي: يجب على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الآخر لأنهما استويا في الاصطدام فكل منهما مات في الفعلين فوجب على كل واحد نصف قيمة دابة الآخر كما لو جرح كل واحد منهما نفسه وجرح صاحبه ولنا أن كل واحد منهما ماتت دابته من صدمة صاحبه وإنما هو قربها إلى محل الجناية فلزم الآخر ضمانها كما لو كانت واقفة بخلاف الجراحة فإذا ثبت هذا فإن كانتا سواء تقاصا وان كانت قيمة إحداهما أكثر من الأخرى فله فضل قيمة دابته.
مسألة: "وإن كان أحدهما واقفا والآخر سائرا فعلى السائر ضمان دابة الواقف" نص عليه الإمام أحمد لأنه قتلها بصدمته وإن ماتت دابة السائر فهي هدر لأنه هو الذي قتلها بصدمته "وعلى عاقلته ديته".
مسألة: "إلا أن يكون الواقف متعديا بوقوفه كالقاعد في طريق ضيق أو ملك السائر فعليه الكفارة"؛ لأنه خطأ "و" يلزمه "ضمان السائر" إن مات من الصدمة "و" ضمان "دابته" لأنه متعد في وقوفه في موضع ليس له الوقوف فيه فأشبه ما لو وضع في الطريق حجرا أو جلس في طريق فعثر به إنسان.
مسألة: "ولا شيء على السائر ولا" على "عاقلته" لأن الواقف اختص بالتعدي فكان مهدرا أو فاختص بالضمان كالصائل.
مسألة: "وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق فقتل الحجر معصوما فعلى كل واحد منهم كفارة" لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وليس في ذلك خلاف علمناه لأن كل واحد منهم مشارك في إتلاف آدمي معصوم "وتجب ديتهم على عواقلهم أثلاثا" وإن كانوا لم يقصدوا الرمي كان خطأ تجب ديته على عواقلهم مخففة وإن عمدوا واحدا بعينه فهو شبه عمد لأنه لا يمكن قصد رجل بعينه بالمنجنيق وإنما يتفق وقوعه بمن يقع فتجب الدية مغلظة على العاقلة وعند أبي بكر أن دية شبه العمد على الجاني في ماله.(2/159)
فقتل الحجر معصوما فعلى كل واحد منهم كفارة وعلى عاقلته ثلث الدية وإن قتل أحدهم فكذلك إلا أنه يسقط ثلث ديته في مقابلة فعله, وإن كانوا أكثر من ثلاثة سقطت حصة القتيل وباقي الدية في أموال الباقين.
ـــــــ
مسألة: والكفارة لا تتبعض فكملت في حق كل واحد فإن كان القتيل منهم لم تسقط الكفارة عنه؛ لأنه شارك في قتل نفسه والكفارة تجب بحق الله تعالى فوجبت عليه بالمشاركة في قتل نفسه كما تجب بالمشاركة في قتل غيره. وأما الدية ففيها ثلاثة أوجه: أحدها أن على عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية ويجب ثلثها على عاقلة المقتول لورثته وهذا ينبني على إحدى الروايتين في أن جناية المرء على نفسه خطأ تحملها عاقلته. والوجه الثاني: أن ما قابل فعل المقتول هدر لا تضمنه العاقلة ولا غيرها ويجب الثلثان الباقيان على عاقلة شريكيه وهذا ينبني على الرواية الأخرى في أن جناية الإنسان على نفسه هدر والثالث أن يلغي فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكمالها على عاقلة الآخرين.
مسألة: "وإن كانوا أكثر من ثلاثة" فالدية حالة في أموالهم هذا صحيح في المذهب سواء كان المقتول منهم أو من غيرهم إلا أنه إذا كان منهم يكون فعل المقتول في نفسه هدرا لأنه لا تجب عليه لنفسه ويكون باقي الدية في أموال شركائه حالا لأن التأجيل في الديات إنما يكون فيما تحمله العاقلة تخفيفا عنهم كيف لا يشق عليهم؛ لأنهم يتحملونه مواساة وهذا لا تحمله العاقلة لأنها لا تحمل ما دون الثلث والقدر اللازم لكل واحد منهم دون الثلث وذكر أبو بكر رواية أخرى أن العاقلة تحملها لأن الجناية فعل واحد وجبت دية تزيد على الثلث والصحيح الأول؛ لأن كل واحد منهم يختص بموجب فعله دون فعل شركائه وتحمل العاقلة إنما شرع للتخفيف عن الجاني فيما يشق ويثقل وما دون الثلث يسير على ما أسلفناه والذي يلزم كل واحد دون الثلث, وقوله أنه فعل واحد قلنا: بل هي أفعال فإن فعل كل واحد منهم غير فعل الآخر وإنما موجب الجميع واحد فأشبه ما لو جرحه كل واحد جرحا فماتت النفس بجميعها.(2/160)
باب القسامة
روى سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أن محيصة وعبد الله بن سهل انطلقا
ـــــــ
باب القسامة
قال القاضي: القسامة هي الأيمان إذا كثرت يقال قسامة على وجه المبالغة والأصل فيها ما "روى" يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن "سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج أن محيصة" بن مسعود "وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود به" فجاء أخوه عبد الرحمن وابنا عمه حويصة ومحيصة للنبي صلى الله عليه وسلم(2/160)
قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته", فقالوا: أمر لم نشهده فكيف نحلف؟ قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم", قالوا: قوم كفار فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من قبله. فمتى وجد قتيل فادعى أولياؤه على رجل قتله وكانت بينهم عداوة ولوث -كما كان بين الأنصار وأهل خيبر- أقسم الأولياء على واحد منهم خمسين يمينا واستحقوا دمه فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليه خمسين وبرئ فإن نكلوا فعليهم الدية
ـــــــ
فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه -وهو أصغرهم- "فقال" النبي "صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته", فقالوا: أمر لم نشهده فكيف نحلف؟ . قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم". قالوا:" يا رسول الله "قوم كفار" ضلال. قال: "فوداه" رسول الله صلى الله عليه وسلم "من قبله", قال سهل: فدخلت مربدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل. متفق عليه.
مسألة: "فمتى وجد قتيل فادعى أولياؤه على رجل قتله وكانت بينهم عداوة ولوث -كما كان الأنصار وأهل خيبر- أقسم الأولياء على واحد منهم خمسين يمينا واستحقوا دمه" إذا كانت الدعوى عمدا "فإن لم يحلفوا" له "حلف المدعى عليه خمسين" يمينا "وبرئ" ودليل هذه المسألة جميعها حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج ولا بد من اللوث -وهو العداوة- ولأن اليهود كانوا أعداء الأنصار فإنهم قالوا ليس لنا عدو بخيبر غير اليهود فقضى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وينبغي أن تكون الدعوى عمدا لأنه قال: "تحلفون خمسين يمينا على رجل منهم فيدفع برمته". والرمة الحبل الذي يربط به من عليه القود يقاد به, وفي لفظ: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وإنما أراد دم القاتل ولأنها حجة يثبت بها قتل العمد فيثبت بها القود كالبينة هذا إذا حلف المدعون فإن لم يحلفوا حلف المدعى عليه خمسين يمينا وبرئ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم". أي يتبرأون منكم وفي لفظ: "فيحلفون خمسين يمينا ويبرؤون من دمه" وحكى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أنهم يحلفون ويغرمون الدية كقول أصحاب الرأي ووجهه قول عمر وحديث سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها على اليهود لأنه وجد بين أظهرهم, والأولى أولى لأنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغرم اليهود الدية وأنه أداها من عنده ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه فيبرأ منها كسائر الحقوق.
مسألة: "فإن نكل المدعى عليهم عن اليمين فعليهم الدية", وعنه رواية أخرى أنهم يحبسون حتى يحلفوا والأولى أنهم لا يحبسون لأنها يمين مشروعة في حق المدعى عليه فلم يحبس عليها كسائر الأيمان ولا يجب القصاص؛ لأن النكول حجة ضعيفة فلا يتغلظ بها الدم كالشاهد واليمين. قال القاضي: ويديه الإمام من بيت المال لأنه مال وجب لامتناع(2/161)
فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه فداه الإمام من بيت المال ولا يقسمون على أكثر من واحد وإن لم يكن بينهم عداوة ولا لوث حلف المدعى عليه يمينا واحدة وبرئ
ـــــــ
الأيمان في القسامة فكانت الدية في بيت المال كما لو امتنع المدعون منها نص عليه أحمد وقال أبو الخطاب: فيه رواية أخرى أن الدية تجب عليهم لأنه حكم ثبت بالنكول فيثبت في حقهم ها هنا بالنكول كسائر الدعاوى.
مسألة: "فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه وداه الإمام من بيت المال" بدليل حديث سهل حين أبى أهله أن يحلفوا ولم يقبلوا أيمان اليهود فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده كراهة أن يطل دمه.
مسألة: "ولا يقسمون على أكثر من واحد" لا يختلف المذهب في ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته", فخص بها الواحد ولأنها بينة ضعيفة خولف بها الأصل في قتل الواحد فيقتصر عليه بقاء على الأصل فيما عداه ولا تخفى مخالفة الأصل فإنها تثبت باللوث واللوث شبهة تغلب على الظن صدق المدعي والقود يسقط بالشبهات ولا يثبت بها.
مسألة: "وإن لم يكن بينهم عداوة حلف المدعى عليه يمينا واحدة وبرئ" فمتى لم يكن لوث لم يحلف المدعون ابتداء بغير خلاف علمناه بين أهل العلم, وهل يحلف المدعى عليه؟ على روايتبن: إحداهما يحلف لعموم قوله عليه السلام: "واليمين على المدعى عليه" ولأنها دعوى في حق آدمي فيستحلف فيها كالدعوى في المال والرواية الأخرى لا يحلف ويخلى سبيله سواء كانت الدعوى خطأ أو عمدا لأن النكول بدل وبدل هذه الأشياء لا يصح فلا تكون اليمين حقا وإذا قلنا بمشروعية اليمين فهي يمين واحدة؛ لأنها يمين يعضدها الظاهر والأصل فلم تغلظ كما في سائر الدعاوى وفي قول الشافعي يحلفون خمسين يمينا فإن ادعى على جماعة فهل يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا أو تقسم بينهم؟ على قولين:(2/162)
كتاب الحدود
مدخل
...
كتاب الحدود
ولا يجب الحد إلا على مكلف عالم بالتحريم ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه إلا السيد فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه القن لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت
ـــــــ
كتاب الحدود
مسألة: "ولا يجب الحد إلا على مكلف عالم بالتحريم" فأما الصبي والمجنون فلا حد عليهما إذا زنيا؛ لما روى علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يعقل". رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن1, وفي حديث ماعز أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين أقر له: "أبك جنون"؟ قال: لا, وروي عنه أنه سأل عنه "أمجنون هو؟" قالوا: ليس به بأس2, إذا ثبت هذا فينبغي أن يكون عالما بالتحريم, وقال عمر وعلي: لا حد إلا على من علمه فإن ادعى الزاني الجهل بالتحريم وكان يحتمل أن يجهله كحديث عهد بالإسلام أو الناشئ ببادية قبل قوله, وإلا فلا يقبل لأن تحريم الزنى لا يخفى على ناشئ ببلاد الإسلام.
مسألة: "ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه" لأنه حق لله سبحانه والإمام نائب عن الله عز وجل فاختص باستيفائه كالجزية والخراج.
مسألة: "إلا السيد فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه القن" في قول أكثرهم وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وقال ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يجلدون ولائدهم في مجالسهم فيقيمون الحدود إذا زنوا, وروى سعيد أن فاطمة حدت جارية لها, وقال أصحاب الرأي: ليس له ذلك لأن الحدود إلى السلطان؛ ولأن من لا يملك إقامة الحد على الحر لا يملكه على العبد كالصبي, ولنا قول النبي "صلى الله عليه وسلم: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها", وقوله: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم", رواه الدارقطني؛ ولأنه يملك تأديبه وتزويجه إذا كانت أمته فملك إقامة الحد عليه كالسلطان وفارق الصبي إذا ثبت هذا
ـــــــ
1 - سبق تخريجه.
2 - رواه البخاري في الأحكام: حديث رقم 7167. ومسلم في الحدود: حديث رقم 16, 22.(2/163)
أمة أحدكم فليجلدها, وليس له قطعه في السرقة ولا قتله في الردة ولا جلد مكاتبه ولا أمته المزوجة وحد الرقيق في الجلد نصف حد الحر
ـــــــ
فإنه إنما يجوز له إقامته بالجلد خاصة مثل حد الزنى وحد القذف والشرب فإن كان قطعا في السرقة لم يقمه السيد لأنه يحتاج إلى مزيد احتياط ففوض إلى الإمام, وإنما ملك السيد الجلد لأنه تأديب وهو يملك تأديبه وفي تفويضه إليه ستر عليه لئلا يقيمه الإمام فيظهر وتنقص قيمته, ولا يملك إقامته إلا إذا ثبت ببينة أو إقرار فإن ثبت بإقرار فللسيد سماعه وإقامة الحد به وإن ثبت بشهادة اعتبر ثبوتها عند الحاكم لأنها تحتاج إلى البحث عن العدالة ولا يقوم بذلك إلا الحاكم, وقال القاضي يعقوب: إن كان السيد يحسن سماع البينة ويعرف شروط العدالة جاز أن يسمعها ويقيم الحد كما يقيمه بالإقرار, فأما إقامته عليه بعلمه فعن أحمد فيه روايتان: إحداهما لا يقيمه بعلمه كالإمام والثانية يقيمه لأنه قد ثبت عنده فجاز له إقامته كما لو أقر ويختص ذلك بالمملوك القن فإن كان بعضه حرا لم يملك إقامة الحد عليه؛ لأن الحر إنما يقيم الحد عليه الإمام وهذا بعضه حر فلا يقيم السيد عليه الحد كما لو كان كله حرا.
مسألة: "وليس له قطعه في السرقة" لأن ذلك حق الله تعالى وهو مفوض إلى نائب الله سبحانه وهو الإمام.
مسألة: "و" ليس له "قتله في الردة" لذلك "ولا جلد مكاتبه" لأنه قد انعقد في حقه سبب الحرية.
مسألة: "ولا أمته المزوجة" لما روي عن ابن عمر أنه قال: إذا كانت الأمة ذات زوج فزنت دفعت إلى السلطان فإن لم يكن لها زوج جلدها سيدها نصف ما على المحصن ولا يعرف له مخالف وقد احتج به أحمد رحمه الله.
مسألة: "وحد الرقيق في الجلد نصف حد الحر" فمتى زنى العبد أو الأمة جلد خمسين جلدة سواء كانا بكرين أو ثيبين لقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} 1, ثم قال سبحانه: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} 2؛ ولأن عدتها على النصف من عدة الحرة فيكون جلدها على النصف ولا فرق بين العبد والأمة بدليل سراية العتق فالتنصيص على أحدهما تنصيص على الآخر.
ـــــــ
1 - سورة النساء: الآية 25.
2 - سورة النساء: الآية 25.(2/164)
ومن أقر بحد ثم رجع عنه سقط.
فصل
ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق ولا يمد ولا يربط ولا يجرد
ـــــــ
مسألة: "ومن أقر بحد ثم رجع عنه سقط" وذلك أن من شرط إقامة الحد الإقرار والبقاء على الإقرار إلى تمام الحد فإن رجع عن إقراره أو هرب كف عنه, ولم يتبع لما روي أن ماعزا هرب فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه". قال ابن عبد البر: ثبت من حديث أبي هريرة وجابر ونعيم بن هزال ونصر بن دهر وغيرهم أن ماعزا لما هرب فقال لهم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فهلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه", ففي هذا أوضح الدلائل على أنه يقبل رجوعه ولأن رجوعه شبهة والحدود تدرأ بالشبهات.
"فصل: ويضرب في الجلد بسوط لا جديد ولا خلق" لما روي أن رجلا اعترف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال: "فوق هذا", فأتي بسوط جديد لم تكسر غرته فقال: "بين هذين", رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا1, وروي عن أبي هريرة مسندا وقد روى علي رضي الله عنه أنه قال: ضرب بين ضربين وسوط بين سوطين, فيكون وسطا لا جديدا فيجرح ولا خلقا فلا يؤلم, وهكذا العذاب يكون وسطا لا شديدا فيقتل ولا ضعيفا فلا يردع ولا يرفع باعه كل الرفع ولا يحطه فلا يؤلم. قال أحمد: لا يبدي إبطه في شيء من الحدود يعني لا يبالغ في رفع يده فإن المقصود أدبه لا قتله.
مسألة: "ولا يمد ولا يربط ولا يجرد". قال ابن مسعود: ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجريد وجلد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينقل عن أحد مد ولا قيد ولا تجريد ولا تنزع ثيابه بل يكون عليه الثوب والثوبان وإن كان عليه فرو أو جبة محشوة نزعت لأنه لو ترك عليه ذلك لم يبال بالضرب.
مسألة: "ويتقي وجهه ورأسه وفرجه" لأنها مقاتل وليس القصد قتله وقال علي رضي الله عنه: لكل موضع من الحد حظ إلا الوجه والفرج وقال للجلاد: اضرب وأوجع واتق الرأس والوجه وينبغي أن يفرق الضرب على جميع الجسد ويكثر منه في مواضع اللحم كالإليتين والفخذين والمرأة كالرجل في ذلك.
ـــــــ
1 - رواه مالك في الحدود: حديث رقم 12.(2/165)
ويتقي وجهه ورأسه وفرجه, ويضرب الرجل قائما والمرأة جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها, ومن كان مريضا يرجى برؤه أخر حتى يبرأ لما روي عن علي رضي الله عنه: أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنت", فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة
ـــــــ
مسألة: "ويضرب الرجل قائما" لأن قيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو من الجسد حظه من الضرب, وقال مالك: يضرب جالسا لأن الله سبحانه لم يأمر بالقيام ولأنه مجلود في حد أشبه المرأة, قلنا: ولم يأمر بالجلوس أيضا ولم يذكر الكيفية فعلمناها من دليل آخر وأما المرأة فتضرب جالسة ليكون أستر لها.
مسألة: "و" تضرب "المرأة جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها" لئلا تنكشف لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: تضرب المرأة جالسة والرجل قائما لأن المرأة عورة وجلوسها أستر لها ويفارق اللعان فإنه لا يؤدي إلى كشف العورة وتشد عليها ثيابها لئلا ينكشف شيء من عورتها عند الضرب, وفي حديث عمران ابن حصين قال: فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت. قال الأوزاعي: يعني فشدت عليها.
مسألة: "ومن كان مريضا يرجى برؤه أخر حتى يبرأ لما روى" أبو داود بإسناده عن علي رضي الله عنه قال: فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا علي انطلق فأقم عليها الحد", فانطلقت فإذا بها دم يسيل, فأتيته فقال: "يا علي أفرغت؟", فقلت: أتيتها و دمها يسيل, فقال: "دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها الحد", رواه مسلم بنحو من هذا المعنى.
مسألة: "فإن لم يرج برؤه وخشي عليه من السوط جلد بضغث فيه عيدان بعدد ما يجب عليه مرة واحدة"؛ لما روى أبو أمامة بن سهل عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه اشتكى رجل منهم حتى ضنى فعاد جلدا على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فوقع عليها فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك, وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم, فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. قال ابن المنذر: هذا الحديث في إسناده مقال ولأنه لما كانت الصلاة تختلف باختلاف حال المصلي فالحد بذلك أولى.(2/166)