- رحمه الله تعالى -
- غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين -
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ( [آل عمران :102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً( [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ( [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد (، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:(1/1)
فإن من أعظم القربات إلى الله تبارك وتعالى وأفضلها نشر العلم وبخاصة ما يتصل منها بالنواحي الفقهية, حتى يكون الناس على بينة من أمرهم في عباداتهم ومعاملاتهم, وقد قال رسول الله( : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )), وإن من ألطف الأساليب وأنفعها, وأقربها إلى القلوب والعقول في دراسة الفقه الإسلامي هو ذكر القول الراجح من بين الأقوال المختلفة, وذلك بالرجوع إلى الكتاب والسنة, والتمسك بهما , وترك كل قول يخالفهما مهما كان القائل عظيماً, فإن شأن الكتاب والسنة أعظم . وهذا هو الطريق الأقوم الذي أمر الله به المؤمنين, وبينه نبينا محمد ( سيد المرسلين, وهو الذي سلكه السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم من الأئمة المشهورين .
هذا وقد وفق الله تبارك وتعالى فضيلة الشيخ الإمام العلامة أبي عبد الله محمد بن صالح العثيمين إلى سلوك هذا المنهج القويم, والسبيل المستقيم, وما كتابه ( الشرح الممتع ) إلا خير دليل على ذلك, ففيه من الأحكام والفوائد, والمسائل والقواعد, والترجيحات الموافقة للكتاب والسنة ما لا تجده في غيره من الكتب, فإستحق بذلك المثوبة من الله إن شاء الله , وإعجاب الغيورين على هذا الدين, فجزاه الله عن دينه ودعوته خير الجزاء .
بيد أنه - رحمه الله تعالى - في كتابه هذا أطال وأطاب, ووجد مكان القول ذا سعة فقال وأصاب, ولكن لما قصرت الهمم, وضعف الطلب عن نيل المراد, إستخرت الله تبارك وتعالى في إختصاره, وشحذت العزم في تهذيبه, قاصداً بذلك تعميم الخير لهذا الكتاب, وتسهيل الانتفاع به من غير أن أخل بالمراد , حتى يكون سهل المتناول, سهل الإطلاع, مقرباً لفقه الشيخ وآراءه لدى الطلاب , وقد أسميته ( التهذيب المقنع في اختصار الشرح الممتع ) .
وقد جاء هذا الاختصار على خطة اتبعتها, ليكون غاية في المقصود, وتحقيقاً للمراد, وهي تتمثل في الركائز التالية :(1/2)
1 - ذكر الأحكام الفقهية فقط , دون التعرض للمباحث اللغوية ونحوها .
2 - إذا كان هناك أقوال في المسألة فالغالب أني أذكرها وأذكر ما رجحه الشيخ منها دون التعرض لأدلتها, وأحيانا قد أكتفي بذكر القول الراجح وهو قليل جداً.
3 - المحافظة على نص كلام الشيخ في شرحه, والحرص عليه حرصاً كاملاً , بحيث يستطيع الباحث أن يقتبس منه أو يحيل إليه. لكني في بعض الأحيان قد أقدم بعض العبارات أو أزيد وأنقص من بعض الكلمات و الحروف حتى يتناسب الكلام مع سياق الإختصار, وهذا قليل أيظاً. وقد أنبه عليه في بعض الأحيان بوضع علامة القوسين ( ) .
والله أسأل أن ينفع بهذا الكتاب كما نفع بأصله , إنه جواد كريم , كما أسأله سبحانه أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم , وأن يجعله في ميزان الحسنات, والصحائف الصالحات, إنه أكرم مسئول, ومنه التفضل بالقبول. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماَ كثيراَ .
كتبه
أحمد محمد خليل
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
سلطنة عمان في 24 / ربيع الأول / 1426 هـ
Al_saaid2020@hotmail.com
Al_saaid2020@yahoo.com
مقدمة الشيخ ابن عثيمين
إنَّ الحمدَ و نحمدُهُ، ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنفسنا، وسَيِّئَاتِ أعمالنا، مَنْ يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ؛ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صَلَّى' اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابِهِ؛ والذين اتَّبعوهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.(1/3)
أمَّا بعدُ: فإنَّ كتابَ "زاد المستقنع في اختصار المقنع" ـ تأليف: أبي النَّجا موسى' بن أحمد بن موسى' الحجاوي ـ كتابٌ قليلُ الألفاظِ، كثيرُ المعاني، اختصره من "المقنع"، واقتصرَ فيه على قولٍ واحدٍ، وهو الرَّاجحُ من مذهب الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل، ولم يَخرُجْ فيه عن المشهور من المذهب عند المتأخرين إلا قليلاً.
وقد شُغِفَ به المبتدئون من طُلاب العلم على مذهب الحنابلة، وحَفِظَهُ كثيرٌ منهم عن ظهرِ قلبٍ.
وكان شيخُنَا عبدُ الرَّحمن بن ناصر بن سعدي ـ رحمه الله تعالى' ـ يَحُثُّنَا على' حفظه، ويدرِّسُنَا فيه.
وقد انتفعنا به كثيراً وو الحمد، وصرنا نُدرِّسُ الطلبةَ فيه بالجامع الكبير بعُنَيْزَة، بحلِّ ألفاظه، وتَبْيينِ معانيه، وذِكْرِ القولِ الرَّاجحِ بدليله أو تعليله. وقد اعتنى' به الطَّلبةُ وسَجَّلُوه وكتبوه.
ولما كَثُر تداولُه بين النَّاس عَبرَ الأشرطة والمذكِّرات؛ قام الشَّيخان الكريمان الدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل، والدكتور خالد بن علي المشيقح بإخراجه في كتاب سميَ : "الشَّرح الممتع على زاد المستقنع"، فخرَّجا أحاديثَهُ، ورقما آياتِهِ، وعلَّقا عليه ما رأياه مناسباً، وطبعاه الطَّبعة الأُولى'، فجزاهما الله خيراً.
ولما كان الشَّرحُ بالتَّقرير لا يساوي الشَّرحَ بالتَّحرير؛ من حيثُ انتقاءُ الألفاظ؛ وتحريرُ العبارة؛ واستيعابُ الموضوع؛ تَبيَّنَ أنَّ من الضَّروري إعادةَ النَّظر في الكتاب، وتهذيبه وترتيبه. وقد تَمَّ ذلك فعلاً ـ وو الحمد ـ ؛ فحذفنا ما لا يُحتاج إليه، وزدنا ما تدعو الحاجةُ إليه، وأبقينا الباقي على ما كان عليه.
وقد كان في مقدَّمة من قرأه علينا في هذه الطَّبعة الدكتور خالد بن علي المشيقح، جزاه الله خيراً.
ثم قام بتخريج أحاديثه، وتصحيح تجارب طباعته، أخونا عُمَر بن سُليمان الحَفْيَان، فجزاه الله خيراً.(1/4)
واللهَ أسألُ؛ أن يجعلَ عملنا خالصاً لوجهه، موافقاً لمرضاته، وأن ينفعَ به عبادَه، إنَّه سميعٌ قريبٌ، وصَلَّى' الله وسَلَّمَ على نبينا محمَّد؛ وعلى آله وأصحابه؛ والتَّابعين لهم بإحسان.
قوله: " بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله حمدا لا ينفد, أفضل ما نبغي أن يحمد, وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد, وعلى آله, وأصحابه, ومن تعبد. أما بعد : فهذا مختصر في الفقه, من مقنع الإمام الموفق أبي محمد على قول واحد, وهو الراجح في مذهب الإمام أحمد. وربما حذفت منه مسائل نادرة الوقوع, وزدت ما على مثله يعتمد؛ إذ الهمم قد قصرت, والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت. ومع صغر حجمه حوى ما يغني عن التطويل, ولا حول ولا قوة إلا بالله, وهو حسبنا ونعم الوكيل ", " قوله :"في مذهب أحمد" المذهب في اللُّغَةِ: اسم لمكان الذَّهاب، أو زمانه، أو الذَّهابِ نفسِه. وفي الاصطلاح: مذهب الشَّخص: ماقاله المجتهدُ بدليلٍ، ومات قائلاً به، فلو تغيَّر قولُه فمذهبه الأخير. واعلمْ أن قول العلماء: مذهب فلان، يُراد به أمران:
الأول: المذهب الشَّخصي.الثاني: المذهب الاصطلاحي .
والغالب عند المتأخِّرين إذا قالوا: هذا مذهب الشَّافعي، أو أحمد، أو ما أشبه ذلك، فالمُراد المذهب الاصطلاحي، حتى إنَّ الإمام نفسَه قد يقول بخلاف ما يُسمَّى بمذهبه، ولكنهم يجعلون مذهبه ما اصطلحوا عليه.
ومُراد المؤلِّف هنا بمذهب أحمد: المذهب الاصطلاحي.
كِتَابُ الطَّهارة
الطَّهارة: لُغةً: النَّظافة. طَهُرَ الثَّوبُ من القَذَر، يعني: تنظَّفَ.وفي الشَّرع: تُطلقُ على معنيين:
الأول: أصْل، وهو طهارة القلب من الشِّرك في عبادة الله، والغِلِّ والبغضاء لعباد الله المؤمنين. الثَّاني: فَرْع، وهي الطَّهارة الحسِّيَّةُ.(1/5)
ججقوله: "وهي ارتفاعُ الحَدَث" أي: زواله. والحَدَثُ: وصفٌ قائمٌ بالبدن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشْتَرطُ له الطَّهارةُ. مثاله: رجل بَالَ واستنجى، ثم توضَّأ. فكان حين بوله لا يستطيع أن يُصلِّيَ، فلما توضأ ارتفع الحَدَثُ، فيستطيع بذلك أن يصلِّيَ لزوال الوصف المانع من الصَّلاة.
ججقوله: "وما في معناه" ، أي: وما في معنى ارتفاع الحَدَث. مثاله: غسل اليدين بعد القيام من نوم الليل، فهذا واجب، ويُسمَّى طهارة، وليس بحَدَث؛ لأنَّه لا يرتفع به الحَدَث، فلو غُسلت الأيدي ما جازت الصَّلاة.
قوله: "وزوال الخَبَث" , الخَبَثُ: هو النَّجاسة. والنَّجاسة:كلُّ عينٍ يجب التَّطهُّرُ منها. فإذا زال الخبث فإنه يطهر سواء زال بنفسه أو بمنديل آخر. فمثلاً: إذا فرضنا أن أرضاً نجسة بالبول، ثم جاء المطر وطَهَّرَها، فإنها تَطْهُرُ بدون إزالةٍ مِنَّا، ولو أنَّ عندنا ماءً متنجِّساً بتغيُّر رائحته، ثم زالت الرائحة بنفسها طَهُرَ.
ج قوله: "المياهُ ثلاثةٌ: طَهُورٌ" , الطَّهور: الماء الباقي على خلقته حقيقة، بحيث لم يتغيَّر شيء من أوصافه، أو حكماً بحيث تغيَّر بما لا يسلبُه الطَّهوريَّةَ. فمثلاً: الماء الذي نخرجه من البئر على طبيعته ساخناً لم يتغيَّر، وأيضاً: الماء النَّازل من السَّماء طَهور، لأنَّه باقٍ على خلقته. هذان مثالان للباقي على خلقته حقيقة، وقولنا: "أو حُكْماً" كالماء المتغيِّر بغير ممازج، أو المتغيِّر بما يشقُّ صون الماء عنه، فهذا طَهور لكنه لم يبقَ على خلقته حقيقة، وكذلك الماء المسخَّن فإنه ليس على حقيقته؛ لأنَّه سُخِّن، ومع ذلك فهو طَهور؛ لأنَّه باقٍ على خلقته حكماً.(1/6)
قوله :"لا يرفع الحدث ولا يزيل النَّجس الطارئَ غيره" أي: لا يرفع الحَدَث , ولا يزيل النجس إلا الماء. فالبنزين وما أشبهه لا يرفع الحَدَثَ؛ فكلُّ شيء سوى الماء لا يرفع الحَدَث، ( وهذا ما قرره المؤلف ). والصَّواب : أنَّه إذا زالت النَّجاسة بأي مزيل كان طَهُر محلُّها .
وقوله: "النَّجس الطَّارئ" أي: الذي وَرَدَ على محَلٍّ طاهر. فمثلاً: أن تقع النَّجاسة على الثَّوب أو البساط، وما أشبه ذلك، فقد وقعت على محَلٍّ كان طاهراً قبل وقوع النَّجاسة، فتكون النَّجاسةُ طارئةً.أما النَّجاسة العينيَّة فهذه لا تطهُر أبداً، لا يطهِّرُها لا ماء ولا غيره؛ كالكلب، فلو غُسِلَ سبع مرات إحداهن بالتُّراب فإنَّه لا يَطْهُر؛ لأنَّ عينَه نجسه. وذهب بعض العلماء إلى أنَّ النَّجاسة العينية إذا استحالت طَهُرت؛ كما لو أوقد بالرَّوث فصار رماداً؛ فإنه يكون طاهراً، وكما لو سقط الكلب في مملحة فصار ملحاً؛ فإنه يكون طاهراً، لأنَّه تحوَّلَ إلى شيء آخر، والعين الأولى ذهبت، فهذا الكلب الذي كان لحماً وعظاماً ودماً، صار ملحاً. فالملح قضى على العين الأولى.
قوله: "وهو الباقي على خلقته", هذا تعريفُ الماء الطَّهور، وقد تقدم شرحُه.
قوله: "فإن تغيَّر بغير ممازجٍ كقطع كافور, أودُهْنٍ, أو بملح مائي, أو سُخِّن بنَجَسٍ كُرِه. وإن تغيَّرَ بمكثه, أو بما يُشقُّ صون الماء عنه من نابتٍ فيه, ووَرَقِ شَجَر, أو بمجَاورة مَيْتَةٍ, أو سُخِّن بالشَّمس أو بطاهر, وإن استُعْمِل في طهارة مستحبَّة وغُسْل جُمُعَة وغَسْلة ثانية وثالثة كُرِهَ", ( هذا هو المذهب ). والصَّواب في هذه المسائل كلِّها: أنه لا يُكره؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ يفتقر إلى دليل، وكيف نقول لعباد الله: إنه ُيكره لكم أن تستعملوا هذالماء. وليس عندنا دليلٌ من الشَّرع.(1/7)
ججقوله: "وإن بلغ قُلَّتين", الضَّمير يعود على الماء الطَّهور. والقُلَّتان: تثنية قُلَّة. والقُلَّة مشهورة عند العرب، قيل: إنها تَسَعُ قِربتين ونصفاً تقريباً.
قوله: "وهو الكثير" جملة معترضة بين فعل الشَّرط وجوابه. أي: إن القُلَّتين هما الكثير بحسب اصطلاح الفقهاء، فالكثير من الماء في عرف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ ما بلغ القُلَّتين، واليسير: ما دون القُلَّتين.
قوله: "وهما خمسمائة رَطْلٍ عراقيٍّ تقريباً". مائة الرَّطل العراقي يزن قِربة ماء تقريباً، وعلى هذا تكون خمس قِرب تقريباً. وأفادنا المؤلِّف بقوله: "تقريباً" أن المسألة ليست على سبيل التَّحديد، فلا يضرُّ النَّقصُ اليسير.
جقوله: "فخالطته نجاسة" أي: امتزجت به، وتقدَّم تعريف النَّجاسة.(1/8)
قوله: "غَيرُ بولِ آدميٍّ، أو عَذِرتِه المائعةِ، فلم تغيِّرهُ", المراد لم تغيِّرْ طعمه، أو لونه، أو رائحته. وهذه المسألة ـ أعني مسألة ما إذا خالطت الماءَ نجاسةٌ ـ فيها ثلاثة أقوال: القول الأول ـ وهوالمذهب عند المتقدِّمين ـ: أنه إذا خالطته نجاسة ـ وهو دون القُلَّتين ـ نَجُسَ مطلقاً، تغيَّر أو لم يتغيَّر، وسواء كانت النَّجاسة بولَ الآدميِّ أم عَذِرَتَهُ المائعةَ، أم غير ذلك. أمَّا إذا بلغ القُلَّتين فيُفرَّق بين بولِ الآدميِّ وعَذِرَتِهِ المائعةِ، وبين سائر النَّجاسات، فإذا بلغ القُلَّتين وخالطه بولُ آدميٍّ أو عَذِرَتُهُ المائعةُ نَجُسَ وإن لم يتغيَّر، إلا أن يَشُقَّ نَزْحُه، فإن كان يَشُقُّ نَزْحُه، ولم يتغيَّر فَطَهُورٌ، وإن كان لا يَشُقُّ نَزْحُه ولو زاد على القُلَّتين فإنَّه يَنْجُس بمخالطة بول الآدميِّ، أو عَذِرَتِهِ المائعةِ وإن لم يتغيَّر. وأما بقيَّة النَّجَاسات فالمعتبر القُلَّتان، فإذا بلغ قُلَّتين ولم يتغيَّر فطَهورٌ، وإن لم يبلغ القُلَّتين فنجسٌ بمجرد الملاقاة.(و) القول الثاني ـ وهو المذهب عند المتأخرين ـ: أنه لا فرق بين بول الآدميِّ عَذِرَتِهِ المائعةِ، وبين غيرهما من النَّجَاسات، الكُلُّ سواء ، فإذا بلغ الماء قلُتَّين لم يَنْجُسْ إلا بالتَّغيُّر، وما دون القلَّتين يَنْجُسُ بمجرَّد الملاقاة. (و) القول الثَّالث ـ وهو اختيار شيخ الإسلام, وجماعة من أهل العلم ـ: أنه لا ينجس إلا بالتَّغيُّر مطلقاً؛ سواء بلغ القُلَّّتين أم لم يبلغ، لكن ما دون القلّتين يجب على الإنسان أن يتحرَّز إذا وقعت فيه النَّجَاسة ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ ما دونهما يتغيَّر.وهذا هو الصحيح .(1/9)
قوله: " أو خَالَطَهُ البَولُ، أو العَذِرَةُ، ويَشُقُّ نَزْحُه كمصانِع طريق مكَّة فَطَهُورٌ", قوله:"كمصانع" هذا للتَّمثيل؛ يعني: وكذلك ما يشبهها من الغُدران الكبيرة، فإذا وجدنا مياهاً كثيرة يشقُّ نزحُها فإنها إذا لم تتغيَّر بالنَّجاسة فهي طَهُورٌ مطلقاً.
قوله: "ولا يرفع حَدَثَ رَجُلٍ طَهُورٌ يَسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطَهَارةٍ كَامِلةٍ عن حََدَثٍ". مثال ذلك: امرأة عندها قِدْرٌ من الماء يسع قُلَّةً ونصفاً ـ وهو يسير في الاصطلاح ـ خَلَت به في الحمَّام، فتوضَّأت منه وُضُوءاً كاملاً، ثم خرجت فجاء الرَّجُلُ بعدها ليتوضَّأَ به، نقول له: لا يرفعُ حَدَثَك. هذا حكم المسألة على المذهب. والصَّواب: أن الرَّجل لو تطهَّر بما خلت به المرأةُ؛ فإن طهارته صحيحة ويرتفع حدثه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
قوله: " وإن تغير لونه, أو طعمه, أو ريحه بطبخ, أو ساقط فيه, أو رفع بقليله حدث, أو غمس فيه يد قائم من نوم ليل ناقض للوضوء, أوْ كان آخرَ غَسْلةٍ زالت بها النجاسة فَطَاهرٌ". أي تغير تغيراَ كاملاَ بحيث لا يذاق معه طعم الماء, أو تغير أكثر أوصافه: وهي ثلاثة : الطعم, والريح, واللون . وهذا هو الطاهرعلى قول من يقول : إن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام : طهور وطاهر ونجس . والصَّحيح : أن الماء قسمان فقط: طَهُور ونجس. فما تغيَّر بنجاسة فهو نجس، ومالم يتغيَّر بنجاسة فهو طَهُور، وأن الطَّاهر قسم لا وجود له في الشَّريعة، وهذا اختيار شيخ الإسلام .
قوله: "والنَّجس ما تغيَّر بنجاسة". أي: تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه بالنَّجاسة، ويُستثنى من المتغيِّر بالرِّيح ما إذا تغيَّر بمجاورة ميتة، وهذا الحكم مُجمَعٌ عليه، أي أن ما تغيَّر بنجاسة فهو نجس .(1/10)
جقوله: "أو لاقاها وهو يسير" أي: لاقى النَّجاسة وهو دون القُلَّتين. ومفهوم قوله: "وهو يسير" أنه إن لاقاها وهو كثير فإنَّه لا ينجس، لكن يُستثنى من هذا بول الآدمي وعَذِرَتُه , والصَّحيح : أنَّ هذا ليس من قسم النَّجس إلا أن يتغيَّر.
قوله: "أو انفصل عن محلِّ نجاسة قبل زوالها" أي: قبل زوال حكمها.
قوله: "فإن أُضيف إلى الماء النَّجِسِ طَهُورٌكثيرٌ غيرُ ترابٍ، ونحوِه, أو زال تغيُّر النَّجس الكثير بنفسه, أو نُزِحَ منه فبقِيَ بعده كثيرٌ غَيْرُ مُتغيرٍ طَهُرَ ", هذه هي الطَّريقة الثَّالثة لتطهير الماء النَّجس، وهي أن يُنزح منه حتى يبقى بعد النَّزح طَهُور كثير.( وهذا هو المذهب في تطهير ما زاد عن القلتين ) . والصَّحيح : أنه إذا زال تغيُّر الماء النَّجس بأي طريق كان فإنه يكون طَهُوراً؛ لأن الحكم متى ثبت لعِلَّة زال بزوالها. وأيُّ فرق بين أن يكون كثيراً، أو يسيراً، فالعِلَّة واحدة، متى زالت النَّجَاسة فإنه يكون طَهُوراً وهذا أيضاً أيسر فهماً وعملاً.
واعلم أن هذا الحكم ـ على المذهب ـ بالنَّسبة للماء فقط، دون سائر المائعات، فسائر المائعات تَنْجُس بمجرَّد الملاقاة، ولو كانت مائة قُلَّة، فلو كان عند إنسان إناء كبير فيه سمن مائع وسقطت فيه شعرة من كلب؛ فإنَّه يكون نجساً، لا يجوز بيعه؛ ولا شراؤه؛ ولا أكله أو شربه. والصَّواب : إن غير الماء كالماء لا يَنْجُس إلا بالتغيُّر.
قوله: "وإن شكَّ في نجاسة ماء، أو غيرِه، أوْ طَهارته, بنى على اليقين ", أي: إن شكّ في نجاسته إذا كان أصله طاهراً، وفي طهارته إذا كان أصله نجساً. فإنه ( في هذه الحالة ) يبني على اليقين.واليقين : هو ما لاشك فيه .(1/11)
قوله: "وإن اشتبه طَهور بنجس حَرُمَ استعْمَالُهُمَا", يعني: إن اشتبه ماء طهور بماء نجس حرم استعْمَالُهُمَا. قوله: "ولم يتحرَّ, ولا يُشترط للتيمُّم إراقتُهما، ولا خلطُهما " , أي: لا ينظر أيُّهما الطَّهور من النَّجس، وعلى هذا فيتجنَّبُهُما حتى ولو مع وجود قرائن، وفي حال إجتنابهما فإنه يتيمم, هذا هو المشهور من المذهب. وقال الشَّافعي ـ رحمه الله ـ: يتحرّى , وهو الصَّواب، وهو القول الثَّاني في المذهب . (و) هذا إن كان هناك قرائن تدلُّ على أن هذا هو الطَّهور وهذا هو النَّجس؛ لأن المحلَّ حينئذ قابل للتحرِّي بسبب القرائن، وأما إذا لم يكن هناك قرائن؛ مثل أن يكون الإناءان سواء في النَّوع واللون فهل يمكن التَّحرِّي؟ قال بعض العلماء: إذا اطمأنت نفسُه إلى أحدهما أخذ به ، ولا شكَّ أن استعمال أحد الماءين في هذه الحال فيه شيء من الضَّعف؛ لكنَّه خير من العدول إلى التيمُّم.
جقوله: "وإن اشتَبَه بطَاهِر تَوَضَّأ منهمَا وُضُوءًا واحدًا، مِنْ هذا غَرْفَةٌ، ومن هذا غَرفةٌ، وصَلَّى صلاةً واحدةً",هذه المسألة لا تَرِدُ على ما صحَّحناه لعدم وجود الطَّاهر غير المطهِّر على القول الصِّحيح لكن تَرِدُ على المذهب .
جقوله: "وإن اشتبهت ثياب طاهرةٌ بنجسة, أو بمحرَّمةٍ صلَّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بعددِ النَّجس أو المحرَّم، وَزاد صلاةً ", هذا مامشى عليه المؤلف . والصحيح : أنه يتحرى , فإذا غلب على ظنه طهارة أحد الثياب صلى فيه . ( وكذلك في الإشتباه بالثياب المحرمة ), الصحيح : أنه يتحرى, ويصلي بما يغلب على ظنه أنه الثوب المباح, ولا حرج عليه, ولا يكلف الله نفساَ إلا وسعها , وفي كلا الحالتين ليس عليه إعادة الصلاة, فلم يوجب الله على الإنسان أن يصلي الصلاة مرتين . ولو فرضنا أنه لم يمكنه التحرِّي لعدم وجود القرينة، فإنه يصلِّي فيما شاء؛ لأنه في هذه الحال مضطر إلى الصَّلاة في الثَّوب المحرَّم ولا إعادة عليه.
بابُ الآنية(1/12)
قوله: "كلُّ إناءٍ طاهر" , هذا احتراز من النَّجس، فإنه لا يجوز استعماله؛ لأنَّه قذر، وفيما قال المؤلِّفُ نظر، لأن النَّجس يباح استعمالُه إذا كان على وجه لا يتعدَّى، مثاله : أن يتَّخذ "زِنْبِيلاً" نجساً يحمل به التُّراب ونحوه، على وجهٍ لا يتعدَّى.
قوله: "و لو ثميناً". "لو": إشارة خلاف. والمعنى: ولو كان غالياً مثل: الجواهر، والزُّمرُّد، والماس، وما شابه ذلك فإنه مباح اتَّخاذه واستعماله. وقال بعضَ العلماء: إنَّ الثمين لا يُباح اتِّخاذه واستعماله، لما فيه من الخُيلاء، والإسراف.
قوله: "يُباحُ اتِّخاذه واستعماله". قوله: "اتِّخاذُه واستعمَالُه" هناك فرق بين الاتِّخاذ والاستعمال، فالاتِّخاذ هو: أن يقتنيَه فقط إما للزِّينة، أو لاستعماله في حالة الضَّرورة، أو للبيع فيه والشِّراء، وما أشبه ذلك.
أما الاستعمال: فهو التلبُّس بالانتفاع به، بمعنى أن يستعمله فيما يستعمل فيه.
قوله: "إلا آنيةَ ذهب وفضَّة ومُضَبَّباً بهما، فإنه يحرُمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى ". أي: كل شي يباح إتخاذه إلا آنية الذهب والفضة, ومضبباَ بهما فإنه حرام. والضبَّةُ: التي أخذ منها التضبيب، وهي شريطٌ يَجْمَعُ بين طرفي المنكسر، فإذا انكسرت الصَّحْفَةُ من الخشب يخرزونها خرزاً، وهذا في السَّنوات الماضية.
وعندنا (هنا) ثلاث حالات: اتِّخاذ، واستعمال، وأكل وشرب. أمَّا الأكل والشُّرب فيهما فهو حرام بالنَّص، وحكى بعضهم الإجماع عليه.
وأما الاتِّخاذ فهو على المذهب حرام، وفي المذهب قول آخر , وهو محكِّيٌ عن الشَّافعي ـ رحمه الله ـ أنه ليس بحرام . وأما الاستعمال فهو محرَّم في المذهب قولاً واحداً. والصَّحيح: أن الاتِّخاذ والاستعمال في غير الأكل والشُّرب ليس بحرام.(1/13)
قوله: "وتصحُّ الطَّهارة منها" يعني: تصح الطَّهارة من آنية الذَّهب والفضَّة، فلو جعل إنسان لوضوئه آنيةً من ذهب، فالطَّهارة صحيحةٌ، والاستعمال محرَّمٌ. وقال بعض العلماء: إن الطَّهارة لا تصحُّ، وهذا ضعيف.
قوله: "إلا ضبَّةً يسيرةً من فِضَّة لحاجةٍ" هذا مستثنى من قوله: "يَحْرُم اتِّخاذها واستعمالها". فشروطُ الجواز أربعةٌ:
1ـ أن تكون ضبَّةً . 2ـ أن تكون يسيرةً.
3ـ أن تكون من فضَّةٍ . 4ـ أن تكون لحاجةٍ.
قوله: "لحاجة" قال أهل العلم: الحاجة أن يتعلَّق بها غرضٌ غير الزِّينة, بمعنى أن لا يتَّخذها زينة. قال شيخ الإسلام: وليس المعنى: ألاّ يجدَ ما يجبر به الكسرَ سواها؛ لأن هذه ليست حاجة، بل ضرورة .
قوله: "وتُكره مباشرتها لغير حاجة" أي: تُكره مباشرة الضَبَّة اليسيرة، ومعنى مباشرتها: أنَّه إذا أراد أن يشرب من هذا الإناء المضبَّب شرب من عند الفِضَّة، فيباشرها بشفتيه وهي حلال. والصَّواب: أنه ليس بمكروه، وله مباشرتها.
قوله: "وتُباح آنية الكفَّار ولو لم تحلَّ ذبائحُهُم وثيابهم إن جُهل حالها" , والدَّليل على إباحة آنية الكفار هو عموم قوله تعالى : (( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا )) {البقرة: 29} ، وثبت أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ دعاه غلام يهوديٌّ على خبز شعير، وإهالة سَنِخَة فأكل منها. وكذلك أكل من الشَّاة المسمومة التي أُهديت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في خيبر. وثبت أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ توضَّأ وأصحابه من مزادة امرأة مشركة، كلُّ هذا يدلُّ على أن ما باشر الكُفَّار، فهو طاهر.(1/14)
وأما حديث أبي ثعلبة الخشني أن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "لا تأكلوا فيها، إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها". فهذا يدلُّ على أن الأَوْلَى التنزُّه، ولكن كثيراً من أهل العلم حملوا هذا الحديث على أناس عُرفوا بمباشرة النَّجاسات من أكل الخنزير، ونحوه، فقالوا: إن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ منع من الأكل في آنيتهم إلا إذا لم نجد غيرها، فإننا نغسلها، ونأكل فيه. وهذا الحمل جيد، وهو مقتضى قواعد الشَّرع.
وقوله "وثيابهم" أي تُباحُ ثيابُهم وهذا يشمل ما صنعوه وما لبسوه، فثيابهم التي صَنَعوها مباحة، ولا نقول: لعلهم نسجوها بمنْسَج نجس؛ أو صَبغُوها بصبغ نجس؛ لأنَّ الأصل الحِلُّ والطَّهارة، وكذلك ما لبسوه من الثياب فإنه يُباح لنا لُبسه، ولكن من عُرِفَ منه عدم التَّوقِّى من النَّجاسات كالنَّصارى فالأَوْلَى التنزُّه عن ثيابهم بناءً على ما يقتضيه حديث أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه.
وقوله "إن جُهل حالها" هذا له مفهومان:
جالأول: أن تُعلَمَ طهارتُها .
الثاني: أن تُعلَمَ نجاستُها، فإن عُلِمتْ نجاستُها فإنها لا تُستعمل حتى تُغسل. وإن عُلمتْ طهارتُها فلا إشكال، ولكن الإشكال فيما إذا جُهل الحال، فهل نقول: إن الأصل أنهم لا يتوقَّون النَّجاسات وإنَّها حرام، أو نقول: إن الأصل الطَّهارة حتى يتبيَّن نجاستها؟ الجواب : هو الأخير.
قوله: "ولا يَطْهر جلدُ ميتة بدِبَاغ" الدَّبغ: تنظيف الأذى والقَذَر الذي كان في الجلد بواسطة مواد تُضاف إلى الماء.فإذا دُبِغَ جلدُ الميتة فإنَّ المؤلِّف يقول: إنه لا يطهُر بالدِّبَاغ .
قوله: "ويُباحُ استعمالهُ بعد الدَّبْغِ في يَابِسٍ من حيوانٍ طاهرٍ في الحياة ". يعني: يباح استعمال جلد الميتة بعد الدَّبغ في يابس. وأن يكون من حيوان طاهر في الحياة. والطاهر في الحياة ما يلي:
أولاً: كُلُّ مأكول كالإبل، والبقر، والغنم، والضَّبُعِ، ونحو ذلك.(1/15)
ثانياً: كلُّ حيوان من الهِرِّ فأقلُّ خِلْقة ـ وهذا على المذهب ـ كالهِرَّة.
ثالثاً: كُلُّ شيء ليس له نَفْسٌ سائلة، يعني إذا ذُبِحَ، أو قُتل ليس له دم يسيل.
رابعاً: الآدمي، ولكنه هنا غير وارد؛ لأن استعمال جلده محرَّم، لا لنجاسته، ولكن لحرمته.
وقيل: إن جلد الميتة لا يطهر بالدِّباغ؛ إلا أن تكون الميتةُ مما تُحِلُّه الذَّكاة، كالإبل والبقر والغنم ونحوها، وأما ما لا تحلُّه الذَّكاة فإنه لا يطهر، وهذا القول هو الرَّاجح؛ وهو اختيار شيخنا عبدالرحمن السَّعدي رحمه الله . وهذا أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله . وله قول آخر يوافق قول من قال: إن ما كان طاهراً في الحياة فإنّ جلده يطهر بالدَّبغ .
قوله: "ولبنُها" , لبن الميتة نجس، وإن لم يتغيَّر بها؛ لأنه مائع لاقى نجساً فتنجَّس به . واختار شيخ الإسلام أنَّه طاهر, بناءً على ما اختاره من أن الشيء لا ينجس إلا بالتغيُّر، فقال: إن لم يكن متغيِّراً بدم الميتة، وما أشبه ذلك فهو طاهر. والذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة هو المذهب .
قوله: "وكل أجزائها نجسةٌ", كاليد، والرِّجْل، والرَّأس ونحوها.
قوله: "غيرُ شَعْر ونحوه" , كالصُّوف للغنم، والوبر للإبل، والرِّيش للطيور، والشَّعر للمَعْز والبقر، وما أشبهها. ويُستثنى من ذلك ما يلي:
1ـ السَّمك وغيره من حيوان البحر بدون استثناء، فإنه ميتته طاهرة حلال .
2ـ ميتة الآدمي .
3ـ ميتة ما ليس له دم، والمراد الدَّم الذي يسيل إذا قُتل، أو جُرح، كالذُّباب، والجراد، والعقرب.
4ـ عظم الميتة، على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , وهو أحد القولين في المذهب . ولكن الذي يظهر أن المذهب في هذه المسألة هو الصَّواب .(1/16)
(تتمة) : ذكر الفقهاء رحمهم الله: أنَّ جعلَ المُصْرَان والكِرْش وتَراً ـ أي حبالاًـ دِبَاغٌ، أي بمنزلة الدِّباغ, وبناءً عليه لا يكون طاهراً، ويجوز استعماله في اليابسات على المذهب. لكن صاحب "الفروع" يقول: "يتوجَّه لا": والمعنى: أنه يرى أن الأوجه بناءً على المذهب، أو على القول الرَّاجح عنده أنَّه ليس دباغاً. وما قاله متوجِّه؛ لأن المُصْرَان والكِرْش من صُلب الميتة. والصَّواب : ما ذهب إليه صاحب "الفروع".
قوله: "وما أُبين من حيٍّ فهو كميتته" هذه قاعدة فقهية. وأُبين: أي فُصل من حيوان حيٍّ.
وقوله: "كميتته" يعني: طهارة، ونجاسة، حِلاً، وحُرمة، فما أُبينَ من الاّدمي فهو طاهر، حرام لحرمته لا لنجاسته، وما أُبين من السَّمك فهو طاهر حلال، وما أبين من البقر فهو نجس حرام، لأنَّ ميتتها نجسة حرام، ولكن استثنى فقهاؤنا ـ رحمهم الله تعالى ـ مسألتين :
الأولى: الطَّريدة: فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الصيد يطرده الجماعة فلا يدركونه فيذبحوه، لكنهم يضربونه بأسيافهم أو خناجرهم، فهذا يقطع رِجْلَه، وهذا يقطع يده، وهذا يقطع رأسه حتى يموت، وليس فيها دليل عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلا أن ذلك أُثِرَ عن الصَّحابة رضي الله عنهم . قال الإمام أحمد ـ رحمه الله: ـ كانوا يفعلون ذلك في مغازيهم، ولا يرون به بأساً .
الثانية: المِسْك وفأرته، ويكون من نوع من الغزلان يُسمَّى غزال المسك.
بابُ الاستِنْجَاء(1/17)
قوله: "يُسْتَحبُّ عِنْدَ دُخولِ الخلاءِ قول بسم الله أعوذُ بالله من الخُبث والخبائث وعند الخَروج ِمنه: غُفْرانك " . مناسبة قول غفرانك هنا : قيل: إن المناسبة أن الإنسان لما تخفَّف من أذيَّة الجسم تذكَّر أذيَّةَ الإثم؛ فدعا الله أن يخفِّف عنه أذيَّة الإثم كما مَنَّ عليه يتخفيف أذيَّة الجسم، وهذا معنى مناسب من باب تذكُّر الشيء بالشيء . وقال بعض العلماء: إنه يسأل الله غُفْرَانه، لأنه انحبس عن ذكره في مكان الخلاء، فيسأل الله المغفرة له ذلك الوقت الذي لم يذكر الله فيه. وفي هذا نظر. والصَّحيح : هو الأول.
قوله: "الحمد و الذي أذْهب عَنِّي الأذى وعَافَاني". الحديث الوارد في هذا فيه ضعف .
قوله: "وتَقْديمُ رجْله اليُسْرى دُخُولاً، واليُمنى خروجاً، عَكس مَسْجدٍ، ونعْلٍ". أي: يستحبُّ أن يُقدِّمَ رجله اليُسرى عنده دخول الخلاء، ويُقدِّمَ اليُمنى إذا خرج .
جقوله: "واعتمادُه على رجْلِه اليُسرى" , يعني: يُستحبُّ أن يعتمدَ على رجله اليُسرى عند قَضَاء الحاجة، واستدلَّ الأصحاب لذلك بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "أمر أصحابه أن يعتمدوا على الرِّجْلِ اليُسرى، وأن ينصِبُوا اليُمنى". وهذا الحديث ضعيف. ولهذا لو قال قائل: ما دامت المسألة ليست فيها سُنَّة ثابتة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فإن كون الإنسان يبقى على طبيعته معتمداً على الرِّجلين كلتيهما هو الأولى والأيسر.
قوله: "وبُعْدُه في فَضَاء" الضَّمير يعود إلى "قاضي الحاجة"، والمراد بُعْدُهُ حتى لا يُرى جسمُه، وذلك إذا كان في مكان ليس فيه جُدران، أو أشجار ساترة، أو جبال، يبعد في الفضاء حتى يستترَ .
قوله: "واستتارُه" , يعني: يُستحب استتارُه، والمراد استتارُ بدنِه كُلِّه، وهذا أفضل. وأما استتارُه بالنسبة للعورة فهو أمر واجب.(1/18)
جقوله: "وارتيادُه لبوله مكاناً رَخْواً" , ارتياد: أي: طلب، و"لبوله" يعني: دون غائطه، و "رخواً": مثلث الرَّاء ومعناه المكان اللَّيِّن الذي لا يُخشى منه رَشاشُ البول, فإن كان في أرض ليس حولَه شيءٌ رخْوٌ، قالوا: يُدني ذَكَرَه من الأرض حتى لا يحصُل الرَّشاش ، وهذا صحيح، وكُلُّ هذا إبعاد عن الوِسواس والشُّكوك التي يُلقيها الشَّيطانُ في نفس الإنسان.
قوله: "ومَسْحُه بيده اليُسرى إذا فرغ من بوله, من أصل ذكره إلى رأسه ثلاثاَ " , أي: يُستحبُّ أن يمسح إذا فرغَ من البول من أصل الذَّكر ـ وهو عند حلقة الدُّبُر ـ إلى رأسه ثلاث مرات؛ لأجل أن يخرج ماتَبَقَّى في القناة من البول. وهذا قول ضعيف جدًّا؛ وعلى هذا فلا يُستَحبُّ المسحُ، بل إذا انتهى البول يغسل رأسَ الذَّكر فقط.
قوله: "ونَتْرُه ثلاثاً" , النَّتْرُ معناه: أن يحرِّك الإنسان ذَكَره من الدَّاخل لا بيده , ( وهذا ) النَّتْرُ من باب التنطعِ المنهيِّ عنه، ولهذا قال شيخ الإسلام: "النَّتْرُ بدعة وليس سُنَّة، ولا ينبغي للإنسان أن يَنْتُرَ ذَكَرَه".
وهذان الأمران اللَّذان ذكرهما الأصحاب يُشبهان ما ذكره بعض العلماء من أنَّه ينبغي للإنسان أن يَتَنَحْنَحَ ليخرج باقي البول إن كان فيه. وبعضهم قال: ينبغي أن يقومَ ويمشيَ خطوات . وبعضهم قال: ينبغي أن يصعدَ درجة ويأتيَ من أعلاها بسرعة ، والتَّعليل ما سبق. وكُلُّ هذا من الوساوس التي لا أصل لها، والدِّينُ ـ وو الحمد ـ يُسْرٌ.
صحيحٌ أن بعض النَّاس قد يُبتلى إذا لم يمشِ خطوات ويتحرَّك بخروج شيء بعد الاستنجاء، فهذا له حكم خاصٌّ، فيمكن أن نقول له: إذا انتهى البول وكان من عادته أن ما بقي من البول لا يخرج إلا بحركة، ومشي، فلا حرج أن تمشيَ بشرط أن يكون عنده علم ويقين بأنه يخرج منه شيء، أما مجرد الوهم فلا عِبْرَة به، وهذا كعلاجٍ لهذا الشَّخص ولا يُجعل هذا أمراً عاماً لكلِّ أحد.(1/19)
جقوله: "وتَحوُّلُه من موضعه؛ ليستَنْجيَ في غيره إن خافَ تلوُّثاً". يعني: انتقاله من موضع قضاء الحاجة ليستنجيَ بالماء إن خاف تلوُّثاً؛ كأن يخشى من أن يضربَ الماء على الخارج النَّجس ثم يُرشُّ على ثوبه، أو فخذه، أو ما أشبه ذلك، فيُقال: الأفضل أن تنتقلَ درءاً لهذه المفسدة. وأيضاً: مثل هذه الأمور قد تُحدث وسوسة.
أما إذا لم يخَفْ، كما يوجد في المراحيض الآن، فإنَّه لا ينتقل.
قوله: "ويُكْرَه دُخولُهُ بشيء فيه ذِكْرُ الله تعالى". الضَّمير في قوله: "دُخولُه" يعود إلى "قاضي الحاجة"، ويُحتمل أن يعود إلى "الخلاء". والمُراد بذكر الله هنا "اسم الله" لا الذِّكر المعروف؛ لأنهم استدلُّوا بحديث أنس رضي الله عنه أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان إذا دخل الخلاء وضع خَاتَمة؛ لأنه كان منقوشاً فيه: "محمَّدٌ رسولُ الله" وهذه ليست من الذِّكر المعروف، فيقتضي أن كُلَّ ما فيه اسمُ الله يُكرَه دُخولُ الخلاء به. والحديث معلول، وفيه مقال كثير. ومن صحَّحَ الحديث أو حسَّنه قال بالكراهة. ومن قال: إنه لا يصحُّ؛ قال بعدم الكراهة، لكن الأفضل أن لا يدخُلَ. وفرق بين قولنا: الأفضل، والقول: إنه مكروه، لأنَّه لا يلزم من ترك الأفضل الوقوع في المكروه.
واستثنى بعض العلماء "المُصْحَفَ" فقال: يحرم أن يدخَلَ به الخَلاء سواءٌ كان ظاهراً أم خفيًّا ؛ لأن "المُصْحَفَ" فيه أشرف الكلام، ودخول الخلاء فيه نوع من الإهانة.
قوله: "إلا لحاجة" , هذا مستثنى من المكروه، يعني إذا احتاج إلى ذلك كالأوراق النقديَّة التي فيها اسم الله فلا بأس بالدُّخول بها. أما "المُصْحَفُ" فقالوا: إن خاف أن يُسرقَ، فلا بأس أن يدخلَ به ، وظاهر كلامهم: ولو كان غنيًّا يجدُ بَدَلَه. وعلى كُلِّ حالٍ ينبغي للإنسان في "المُصْحَفِ" خاصَّة أن يحاول عدم الدُّخول به، حتى وإن كان في مجتمع عامٍّ من النَّاس، فيعطيه أحداً يمسكه حتى يخرج.(1/20)
جججقوله: "ورَفْعُ ثَوْبهِ قَبلَ دُنُوِّه مِن الأرض". أي: يُكره لقاضي الحاجة أن يرفَعَ ثوبَه قبل أن يدنوَ من الأرض، وهذا له حالان:
الأولى: أن يكون حوله من ينظره، فرفْعُ ثوبهِ هنا قبل دنوِّه من الأرض محرَّم .
الثانية: كشفه وهو خالٍ ليس عنده أحد، فهل يُكرَهُ أم لا؟ هذا ينبني على جواز كشف العورة والإنسان خالٍ.وفيه ثلاثة أقوال للعلماء : الأول: الجواز. الثاني: الكراهة. الثَّالث: التَّحريم، وهو المذهب .
أما إذا أراد أن يبولَ وهو قائم، فإنه سيرفع ثوبه وهو واقف، ولكن نقول: إن القائم دانٍ من قضاء الحاجة؛ لأنه سيقضيها وهو قائم. والبول قائماً جائزٌ، ولاسيَّما إذا كان لحاجة، ولكن بشرطين:
الأول: أن يأمنَ التَّلويث.
الثاني: أن يأمنَ النَّاظر.
قوله: "وكَلامُهُ فيه" , يعني: يُكره كلامُ قاضي الحاجة في الخلاء، والدَّليل: أن رجلاً مرَّ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهو يبول؛ فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه السَّلام . قالوا: ولو كان الكلام جائزاً لردَّ عليه السَّلام؛ لأن ردَّ السَّلام واجب . لكن مقتضى هذا الاستدلال أنه يحرم أن يتكلَّم وهو على قضاء حاجته، ولهذا ذكر صاحب "النُّكت" ابن مفلح ـ رحمه الله ـ هذه المسألة وقال: وظاهر استدلالهم يقتضي التَّحريم، وهو أحد القولين في المسألة .(1/21)
أما إذا كان قاضِيَا الحاجة اثنين، ينظر أحدهما إلى عورة الآخر ويتحدَّثان فهو حرام بلا شَكٍّ، بل إن ظاهر الحديث الوارد فيه ـ لولا ما فيه من المقال ـ أنه من كبائر الذُّنوب؛ لأن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أخبر أن الرَّجُلين إذا فَعَلا ذلك فإن الله يمقت عليه. والمَقْتَ أشدُّ البُغض، وأما إذا لم ينظر أحدهما إلى عورة الآخر؛ فأقلُّ أحواله أن يكون مكروهاً. والإمام أحمد نصَّ على أنه يُكره الكلام حال قضاء الحاجة، وفي رواية عنه قال: "لا ينبغي" . والمعروف عند أصحابه أنه إذا قال: "أكره"، أو "لا ينبغي" أنه للتَّحريم.
فالحاصل: أنه لا ينبغي أن يتكلَّم حال قضاء الحاجة، إلا لحاجة كما قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ كأن يُرشِدَ أحداً، أو كلَّمه أحد لا بدَّ أن يردَّ عليه، أو كان له حاجة في شخص وخاف أن ينصرف، أو طلب ماء ليستنجيَ، فلا بأس.
جقوله: "وبولُه في شَقٍّ" , يعني: يُكرَهُ بولُه في شَقٍّ والشَّقُّ: هو الفتحةُ في الأرض، وهو الجُحر للهوامِّ والدَّواب، وظاهر كلامهم أنَّه ولو كان الشَّقُ معلوم السَّبب كما لو كانت الأرض قيعاناً، ويبس هذا القَاع ففي العادة أنه يتشقَّقُ.
جقوله: "ونحْوِه", مَثَّلَ بعضهم بفم البَالوعة، وهي مجتمع الماء غير النَّظيف، وسُمِّيت بهذا الاسم لأنها تبتلعُ الماءَ.
والكراهة تزول بالحاجة، كأن لم يجدْ إلا هذا المكان المتشققَ .(1/22)
قوله: "ومسُّ فرجِه بيَمِيِنه", يعني: يُكرَهُ لقاضي الحاجة مسُّ فرجه بيمينه، لحديث أبي قتادة: "لا يُمْسِكَنَّ أحدُكُم ذَكَرَه بيمينه وهو يبول " . ومن تأمَّل الحديثَ وَجَدَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قيَّده بحال البول . وقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في القَيد،هل هو مرادٌ بمعنى أن النهيَّ وارد على ما إذا كان يبول فقط أم هو مطلق . والأحوط : ( للإنسان ) أن يتجنَّب مسَّهُ مطلقاً، ولكن الجزم بالكراهة إنَّما هو في حال البول للحديث، وفي غير حال البول محلُّ احتمال ، فإذا لم يكن هناك داعٍ ففي اليد اليُسرى غنيةٌ عن اليد اليمنى.
قوله: "واستنجاؤه واستجماره بها", يعني: يُكرَهَ استنجاؤه واستجماره بيمينه. والفرق بينهما: أن الاستنجاء بالماء، والاستجمار بالحجر ونحوه . أما إذا احتاج إلى الاستنجاء، أوالاستجمار بيمينه؛ كما لو كانت اليُسرى مشلولة فإن الكراهة تزول، وكذا إن احتاج إلى الاستجمار باليمين؛ مثل أن لا يجد إلا حجراً صغيراً، فقال العلماء: إن أمكن أن يجعله بين رجليه، ويتمسَّح فعل، وإن لم يمكنه أخذه باليمين، ومسح بالشِّمال .
قوله: "واستقبال النَّيْرَين", يعني: يُكْرَهُ استقبالُ الشَّمس والقمر حال قضاء الحاجة . فالصَّحيح: عدمُ الكراهة لعدم الدَّليل الصَّحيح، بل ولثبوت الدَّليل الدَّالِّ على الجواز.
قوله: "ويحرُمُ استقبالُ القبلة واستدبارُها في غير بُنْيَان", وهذا (هو) المشهور من المذهب, بل قالوا ـ رحمهم الله ـ يكفي الحائل وإن لم يكن بُنياناً كما لو اتَّجه إلى كَوْمَةٍ من رمل أقامها وكان وراءها، أو إلى شجرة وما أشبه ذلك . وقال بعض العلماء: لا يجوز استقبال القبلة، ولا استدبارها بكلِّ حال في البُنيان وغيره، وهو رواية عن أحمد. والرَّاجح: أنه يجوز في البُنيان استدبارُ القِبْلة دون استقبالِها. والأفضل: أن لا يستدبرها إن أمكن.(1/23)
قوله: "ولُبْثُه فوق حاجته", أي: يحرم، ويجب عليه أن يخرج من حين انتهائه، وعلَّلوا ذلك بعِلَّتين: الأولى: أن في ذلك كشفاً للعورة بلا حاجة. (و) الثَّانية: أن الحُشُوشَ والمراحيض مأوى الشَّياطين والنُّفوس الخبيثة فلا ينبغي أن يبقى في هذا المكان الخبيث. وتحريمُ اللُّبث مبنيٌّ على التَّعليل، ولا دليلَ فيه عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولهذا قال أحمد في رواية عنه: "إنه يُكره، ولا يحرم".
قوله: "وبولُه في طريق", أي: يحرم، والغائط من باب أَوْلَى.
قوله: "وظِلٍّ نافعٍ" أي: يَحرُمُ أن يبولَ أو يتغوَّط في ظلٍّ نافع، وليس كُلُّ ظل يحرم فيه ذلك، بل الظلُّ الذي يستظِلُّ به النَّاسُ، فلو بال أو تغوط في مكان لا يُجلسُ فيه؛ فلا يُقال بالتَّحريم. وقال بعض أهل العلم: مثلُه مشمس النَّاس في أيام الشِّتاء، يعني: الذي يجلسون فيه للتَّدفئة، وهذا قياس صحيح جَليٌّ. وقال بعض أهل العلم: إلا إذا كانوا يجلسون لغيبة، أو فعل محرَّم جاز أن يفرِّقَهم، ولو بالبول، أو الغائط . وفي هذا نظر؛ لعموم الحديث؛ ولأنه لا فائدة من ذلك، لأنهم إذا علموا أنه تغوَّط أو بال في أماكن جلوسهم فإنهم يزيدون شرًّا، وربَّما يتقاتلون معه.
والطَّريق السَّليم أن يأتي إليهم وينصحهم.
قوله: "وتحت شجرةٍ عليها ثَمرةٌ", يعني: يحرم البولُ والتغوُّط تحت شجرة عليها ثمرة، وأفادنا ـ رحمه الله ـ بقوله: "تحت" أنه لا بُدَّ أن يكون قريباً منها، وليس بعيداً. وقوله: "ثمرة" أطلق المؤِّلفُ ـ رحمه الله ـ الثمرة، ولكن يجب أن تُقيَّد فيُقال: ثمرة مقصودة، أو ثمرة محترمة. والمقصودةُ هي التي يقصدها النَّاس، ولو كانت غير مطعومة .(1/24)
وهناك أشياء لا يجوز البول فيها ولا التغوُّط غير ما ذكره المؤلِّف كالمساجد و المدارس، (و) كلُّ مجتمعات النَّاس لأمر دينيٍّ أو دنيويِّ. وأما المُسْتَحمُّ الذي يستحِمُّ النَّاسُ فيه فلا يجوز التغوُّط فيه، لأنَّه لا يذهب. أما البول فجائز، لأنه يذهب؛ مع أنَّ الأَوْلَى عدمه، لكن قد يحتاج الإنسان إلى البول كما لو كانت باقي الحمَّامات مشغولة.
قوله: "ويستجمر ثُمَّ يََسْتَنْجِي بالماء. ويجزئه الاستجمار ". قوله: "يستجمرُ ثم يستنجي" هذا هو الأفضل؛ وليس على سبيل الوجوب. والإنسان إذا قضى حاجته لا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أنْ يستنجيَ بالماء وحده.وهو جائز على الرَّاجح .
الثانية: أن يستنجيَ بالأحجار وحدها وهو جائز.
الثالثة: أن يستنجيَ بالحجر ثم بالماء. وهذا لا أعلمه ثابتاً عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لكن من حيث المعنى لا شكَّ أنه أكمل تطهيراً.
قوله: " ويجزئه الاستجمار إن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادةِ ويُشترَطُ للاستجمار بأحجارٍ ونحوها مُنْقِياً غيرَ عظمٍ وروثٍ, وطعامٍ, ومحترم, ومتصل بحيوان, ويُشتَرَطُ ثلاثُ مسحات مُنْقِيَة ", ( اشترط المؤلِّفُ للاستجمار ونحوها مثل: المَدَرَ، والتُّراب، والخِرَق، والورق، وما أشبه ذلك كالخشب. شروطاً:
الشَّرط الأول: أن لا يتعدى الخارجُ موضعَ العادةِ. أي: الذي جرت العادة بأن البول ينتشر إليه من رأس الذَّكَر، وبأن الغائط ينتشر إليه من داخل الفَخذين، فإن تعدَّى موضع العادة فلا يجزئ إلا الماء .
ولو قال قائلُ: إن ما يتعدَّى موضعَ العادة بكثير، مثل أن ينتشر على فخذه من البول فإنه لا يجزئ فيه إلا الماء؛ لأنَّه ليس محلَّ الخارج ولا قريباً منه، وأما ما كان قريباً منه فإنه يُتَسامحُ فيه فلعلَّه لا يُعارض كلام الفقهاء رحمهم الله.
الشَّرط الثَّاني: أن يكون طاهراً . يعني: لا نجساً، ولا متنجِّساً، والفرق: أن النَّجِسَ: نجس بعينه، والمتنجِّس: نجس بغيره.(1/25)
الشَّرط الثَّالث: أن يكون منقياَ. أي : يحصُل به الإنقاء، فإن كان غير مُنْقٍ لم يجزيء . والذي لا يُنقي: إما لا يُنقي لملاسته، كأن يكونَ أملساً جدًّا، أو لرطوبته، كحجر رَطْب، أو مَدَر رطب، أو كان المحلُّ قد نَشِفَ؛ لأنَّ الحجر قد يكون صالحاً للإنقاء لكنَّ المحلَّ غير صالح للإنقاء.
الشرط الرابع: أن لا يكون عظما,َ أو روثاَ, أو طعاماَ, أو محترماَ, أو متصل بحيوان .
الشَّرط الخامس: أن يمسح محل الخارج ثلاث مرَّات.
الشَّرط السَّادس: أن تكون هذه المسحات منقية .والإنقاء: هو أن يرجعَ الحجرُ يابساً غير مبلول، أو يبقى أثرٌ لا يزيله إلا الماء. )
قوله: "فأكثر", يعني: أن يمسحَ ثلاثَ مسحات، فإن لم تُنْقِ الثَّلاث زادَ عليها. وقال بعض العلماء: إذا أنقى بدون ثلاث كفى؛ لأنَّ الحكم يدور مع عِلَّته. وهذا القول يُرَدُّ بأنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نهى أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار، وإذا نهى عن ذلك فإنَّه يجب أن لا نقع فيما نهى عنه.
قوله: "ولو بحَجَر ذي شُعبٍ", أي: إذا كان الحَجَر ذا شُعَبٍ واستجمر بكُلِّ جهة منه صَحَّ. وهذا هو الراجح . وقال بعض العلماء: لابد من ثلاثة أحجار, ولا شك أن هذا أكمل .
قوله: "ويُسَنُّ قَطْعُه على وِتْرٍ", يعني: قطع الاستجمار، والمُراد عددُه، فإذا أَنْقَى بأربعٍ زاد خامسة، وإذا أنقى بستٍّ زاد سابعة، وهكذا. والأمر بالإيتار الثَّلاثُ الوجوب, وما زاد على الثَّلاث للاستحباب.
قوله: "ويجبُ الاستنجاءُ لكُلِّ خارج ٍإلا الريحَ". هذا بيانُ حكم الاستنجاء، وما يجب له الاستنجاء.
وقوله: "لكُلِّ خَارجٍ" أي من السَّبيلين .(1/26)
ويُستثنى من ذلك الرِّيحُ؛ لأنها لا تُحدِثُ أثراً فهي هواءٌ فقط، وإذا لم تُحدث أثراً في المحلِّ فلا يجب أن يُغسَلَ؛ لأن غسله حينئذ نوع من العبث، وسواء كان لها صوت أم لا فهي طاهرة ، وإن كانت رائحتها خبيثة. وقال بعض العلماء: إن الرِّيحَ نجسةٌ فيجب غَسْلُ المحلِّ منها. والصَّحيحُ: أنَّها طاهرةٌ؛لأنها ليس لها جِرْمٌ.
ويُستثنى من ذلك أيضاً المنيُّ؛ وهو خارج ٌمن السَّبيل فهو داخل في عموم قوله: "لكُلِّ خَارجٍ" لكنَّه طاهرٌ، والطَّاهر لا يجب الاستنجاء له.
ويُستثنى أيضاً غيرُ المُلَوِّثِ ليُبُوسَتِه، فإذا خرج شيءٌ لا يُلوِّثُ ليُبُوسَتِه فلا يُستَنْجى له؛ لأن المقصودَ من الاستنجاء الطَّهارةُ، وهنا لا حاجة إلى ذلك. فإنْ خرجَ شيءٌ نادرٌ كالحصاة فهل يجب له الاستنجاء؟ الجواب: إنْ لوَّثت وجب الاستنجاءُ؛ لدخولها في عموم كلام المؤلِّف، وإذا لم تلوِّثْ لم يجبْ لعدم الحاجة إليه.
قولُه: "ولا يصح ُّقبلَه وُضُوءٌ ولا تيمُّمٌ", يعني: يُشترطُ لصحَّة الوضُوء والتيمُّم تقدمُ الاستنجاء، أو الاستجمار.
وللإمام أحمد في هذه المسألة روايتان : الأولى: أنَّه يصحُّ الوُضُوءُ والتيمُّمُ قبل الاستنجاء. (و) الثانية: أنَّه لا يصحُّ وهي المذهب. والرِّواية الأولى اختارها الموفَّق، وابن أخيه شارح "المقنع" والمجد .
وهذه المسألة إذا كان الإنسانُ في حال السَّعَة فإننا نأمره أولاً بالاستنجاء ثم بالوُضُوء، وذلك لفعل النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، وأما إذا نسيَ، أو كان جاهلاً فإنه لا يجسر الإنسان على إبطال صلاته، أو أمره بإعادة الوُضُوء والصَّلاة.
بابُ السِّواكِ وسُنَنِ الوُضُوءِ(1/27)
قوله: "التَّسوُّك بعُود ليِّنٍ مُنْقٍ غَيْرِ مُضرٍّ لا يَتَفَتَّتُ, لا بأصْبع, أو خِرْقَةٍ ", قوله: "لا بأصْبع أو خِرْقَةٍ " أي: لا يُسَنُّ التَّسوُّكُ بالأصبع، ولا بالخرقة, ولا تحصُل بهما السُّنَّةُ، سواء كان ذلك عند الوُضُوء أو لم يكن، هذا مقتضى إطلاق المؤلِّف. وقال بعضُ العلماء: إن كان الإصبع خشناً أجزأ التَّسوُّك به، وإن كان غير خشنٍ لم يجزئ. وقال بعضهم : إنه يحصُل من السُّنِّيَّة بقدر ما حصل من الإنقاء . وقد رُوي عن عليِّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في صفة الوُضُوء أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "أدخل بعضَ أصابعه في فيه." وهذا يدلُّ على أن التَّسوُّك بالأصبع كافٍ، ولكنَّه ليس كالعُود؛ لأن العود أشدُّ إنقاءً. لكن قد لا يكون عند الإنسان في حال الوُضُوء شيء من العيدان يَستاكُ به، فنقول له: يجزئ بالأصبع.
قوله: "مَسْنُون كُلَّ وقْتٍ ", أي : بالليل والنَّهار.
قوله: "لغير صائمٍ بعد الزَّوال" أي: فلا يُسَنُّ، وهذا يعمُّ صيام الفرض والنَّفْل. و(هذا) المشهور من المذهب , (وهو) كراهة التَّسوُّك بعد الزَّوال للصَّائم . والرَّاجح : أن السِّواك سُنَّةٌ للصَّائم ولا يكره مطلقاَ, قبل الزَّوال وبعده . وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - .
قوله: "مُتَأكّد عِنْدَ صَلاة ٌ", قوله: "عند صلاةٍ" يشمل الفرضَ والنفلَ، وصلاةَ الجنازة لعموم الحديث,
أما سجود التِّلاوة فيُبنى على الخلاف: فإن قلنا: إنَّه صلاة ـ كما هو المشهور من المذهب ـ سُنَّ السِّواك له، وإلا فلا، وكذلك سجود الشُّكر. ولكن نقول: إذا لم يكن مُتَأكّداً عند سجود التِّلاوة، فإنه داخل في أنه مسنون كُلَّ وقت، لكن لا نعتقد أنَّه مسنونٌ من أجل هذا الشيء إذا قلنا: إن سجود التلاوة ليس بصلاة.(1/28)
قوله: "وانتباهٍ", أي: يُتَأكَّدُ السِّواكُ عند الانتباه من النَّوم. وظاهر كلام المؤلِّف: أنه يَتَأكَّدُ عند الانتباه من نوم الليل، ومن نوم النهار.
قوله: "وتغيُّر فَم", أي: يَتَأكَّد عندَ تغيُّر الفَمًِ.
قوله: "ويستاكُ عَرضاً", أي: عرضاً بالنِّسبة للأسنان، وطولاً بالنِّسبة للفَمِ، وقال بعض العلماء: يستاك طولاً بالنِّسبة للأسنان، لأنه أبلغ في التنظيف. ويحتمل أن يُقال: يرجع إلى ما تقتضيه الحال، فإذا اقتضت الحالُ أن يستاكَ طولاً، استاك طولاً، وإذا اقتضت أن يستاكَ عرضاً استاك عرضاً؛ لعدم ثبوت سُنَّة بيِّنَةٍ في ذلك.
قوله: "مبتدِئاً, بجانب فَمِه الأيمن" والدَّليل أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "كان يُعجبُه التيمّن في تنعُّله، وترجُّله، وطُهوره، وفي شأنه كلِّه".
واختلف العلماء هل يستاك باليد اليُمنى أو اليُسرى ؟ فقال بعضهم: باليمنى. وقال آخرون: باليسار أفضل، وهو المشهور من المذهب. وقال بعض المالكية: بالتَّفصيل، وهو إنْ تسوَّك لتطهير الفَمِ كما لو استيقظ من نومه، أو لإزالة أثر الأكل والشُّرب فيكون باليسار؛ لأنه لإزالة الأذى. وإنْ تَسوَّك لتحصيل السُّنَّة فباليمين؛ لأنه مجرد قُربة، كما لو توضَّأ واستاك عند الوُضُوء، ثم حضر إلى الصَّلاة قريباً فإنَّه يستاك لتحصيل السُّنَّة. والأمر في هذا واسع لعدم ثبوت نصٍّ واضحٍ.(1/29)
قوله: "ويَدَّهِنُ غِبًّا", الادهان: أن يستعملَ الدُّهن في شعره. وقوله: "غِبًّا" يعني: يفعل يوماً، ولا يفعل يوماً، وليس لازماً أن يكون بهذا التَّرتيب؛ فيُمكن أن يستعمله يوماً، ويتركه يومين، أو العكس، ولكن لا يستعمله دائماً؛ لأنه يكون من المُترَفين الذين لا يهتمون إلا بشؤون أبدانهم، وهذا ليس من الأمور المحمودة , لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ )) كان ينهى عن كثيرٍ من الإرفاه )). وترك ُالادِّهان بالكلية سيِّئٌ؛ لأنَّ الشَّعر يكون شَعِثاً ليس بجميل ولا حسن، فينبغي أن يكون الإنسان وسطاً بين هذا وهذا.
قوله: "ويَكْتَحِلُ وِتْراً", يعني ثلاثةً في كُلِّ عَين. قالوا: وينبغي أن يكتحلَ بالإثْمِدِ كُلَّ ليلة، وهو نوع من الكُحْل مفيدٌ جداً للعين.
أمَّا الاكتحالُ الذي لتجميل العين فهل هو مشروع للرَّجُلِ أم للأنثى فقط؟ الظَّاهر: أنَّه مشروع للأنثى فقط، أما الرَّجُل فليس بحاجة إلى تجميل عينيه. وقد يُقال: إنه مشروع للرَّجُل أيضاً؛ لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لما سُئِلَ: إن أحدنا يحب أن يكون نعلُه حسناً، وثوبُه حسناً فقال: "إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال" وقد يُقال: إذا كان في عين الرَّجُل عيبٌ يَحتاجُ إلى الاكتحال فهو مشروعٌ له، وإلا فلا يُشرع.
جقوله: "وتجبُ التَّسميةُ في الوُضُوء ِمع الذِّكر". أي: يقول: بسم الله، ويكون عند ابتدائه . والقول بالوجوب هو المشهور من المذهب . والصحيح : أنها سنة وليست بواجبة. وإلى هذا ذهب الموفق.(1/30)
وقوله: "مع الذِّكر" أفادنا المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ أنها تسقط بالنِّسيان وهو المذهب، فإن نسيها في أوَّله، وذكرها في أثنائه فهل يُسمِّي ويستمر، أم يَبْتَدِئُ؟ اختلف في هذه المسألة "الإقناعُ" و"المُنتهى" ـ وهما من كتب فقه الحنابلة ـ فقال صاحب "المنتهى": يبتدئ ، وقال صاحب "الإقناع": يستمر . والمذهب ما في "المنتهى"، لأن المتأخِّرين يرون أنه إذا اختلف "الإقناع" و"المنتهى" فالمذهب "المنتهى".
قوله: "ويجبُ الختانُ ما لم يخفْ على نَفْسِه". ظاهر كلام المؤلِّف: أنه واجب على الذَّكر والأنثى، وهو المذهب. وقيل: هو واجب على الذَّكر دون الأنثى، واختاره الموفق -رحمه الله -. وقيل: سُنَّة في حَقِّ الذُّكور والإناث.
وأقرب الأقوال: أنه واجب في حَقِّ الرِّجال، سُنَّةٌ في حَقِّ النِّساء.
قوله: "ويُكره القَزَعُ", القَزَعُ: حلقُ بعض الرَّأس، وتركُ بعضه، وهو أنواع:
1ـ أن يحلِقَ غير مرتّب، فيحلقُ من الجانب الأيمن، ومن الجانب الأيسر، ومن النَّاصية، ومن القَفَا.
2ـ أن يحلقَ وسطَه ويترك جانبيه.
3ـ أن يحلقَ جوانبه ويتركَ وسطه، قال ابن القيم رحمه الله: "كما يفعله السُّفَل".
4ـ أن يحلقَ النَّاصيةَ فقط ويتركَ الباقي.
والقَزَع مكروه؛ لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رأى غلاماً حلق بعض شعره وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك وقال: "احلقوا كلَّه، أو اتركوه كلَّه". إلا إذا كان فيه تشبُّهٌ بالكُفَّار فهو محرَّمٌ، وعلى هذا فإذا رأينا شخصاً قَزَّع رأسه فإننا نأمره بحلق رأسه كلِّه، ثم يُؤمر بعد ذلك إمَّا بحلقهِ كلِّه أو تركه كلِّه.
قوله: "ومن سُنن الوُضُوء السِّوَاك, وغَسْلُ الكفَّين ثلاثاً, ويجبُ من نومِ ليلٍ ", الضَّمير في قوله: "يجب" يعودُ على غسل الكفَّين ثلاثاً، وهذا إذا أراد أن يغمسهُما في الإناء.
وقوله: "مِنْ نومِ ليلٍ" خرج به نوم النهار، فلا يجب غسل الكفَّين منه.(1/31)
قوله: "ناقضٍ لوُضُوء", احترازاً مما لو لم يكن ناقضاً. والنَّوم النَّاقض على المذهب: كُلُّ نوم إلا يسير نوم من قائم، أو قاعد . والصَّحيح: أن المدار في نقض الوُضُوء على الإحساس، فما دام الإنسان يُحسُّ بنفسه لو أحدث فإن نومه لا يَنْقُضُ وضوءَه، وإذا كان لا يحسُّ بنفسه لو أحدث فإن نومَه يَنْقُضُ وضوءَه .
قوله: "والبَدَاءَة بمَضْمَضَةٍ ثم استنشاق" أي: ومن سُنَنِ الوُضُوء البَدَاءَةُ بمضمضة ثم استنشاق، وهذا بعد غسل الكَفَّين، والأفضل أن يكون ثلاث مَرَّات بثلاث غَرَفات. والبَدْءُ بهما قبلَ غسل الوجه أفضل، وإن أخَّرهما بعد غسل الوجه جاز. ولم يذكر المؤلِّفُ الاستنثار؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا استنشق الماء أنه يستنثره، وإلا فلابُدَّ من الاستنثار، إذ لا تكتمل السُّنَّةُ إلا به، كما أنها لا تكتمل السُّنَّة بالمضمضة إلا بمجِّ الماء، وإن كان لو ابتلعه لعُدَّّ متمضمضاً، لكن الأفضل أن يمجَّه؛ لأن تحريك الماء بالفَمِ يجعل الماء وسخاً لما يلتصق به من فضلات كريهة بالفم.
قوله: "والمبالغة فيهما لغيرصائم". "فيهما" أي: ومن سُنَنِ الوُضُوء المبالغة في المضمضة والاستنشاق، والمبالغة في المضمضة: أن تحرِّكَ الماء بقوة وتجعله يصلُ كلَّ الفم، والمبالغة في الاستنشاق: أن يجذبه بنفس قويٍّ. ويكفي في الواجب أن يديرَ الماء في فمه أدنى إدارة، وأن يستنشقَ الماءَ حتى يدخل في مناخره.
والمبالغةُ مكروهةٌ للصَّائم، لأنها قد تؤدِّي إلى ابتلاع الماء ونزوله من الأنف إلى المعدة. وإذا كان في الإنسان جيوبٌ أنفيةٌ، ولو بالغ في الاستنشاق احتقن الماءُ بهذه الجيوب وآلمه، أو فسد الماء وأدَّى إلى صديد أو نحو ذلك، ففي هذه الحال نقول له: لا تبالغ درءاً للضَّرر عن نفسك.
قوله: "وتخليلُ اللِّحْيَة الكثيفة", أي: ومن سنن الوضوء تخليل اللحية الكثيفة، واللحية إما خفيفةٌ، وإما كثيفةٌ.(1/32)
فالخفيفة هي التي لا تَسْتُرُ البشرة، وهذه يجب غسلُها وما تحتها؛ لأنَّ ما تحتها لمَّا كان بادياً كان داخلاً في الوجه الذي تكون به المواجهة، والكثيفةُ: ما تَسْتُرُ البشرة، وهذه لا يجب إلا غسل ظاهرها فقط، وعلى المشهور من المذهب يجب غسل المسترسل منها. وقيل: لا يجب كما لا يجب مسحُ ما استرسلَ من الرَّأسِ، والأقرب: في ذلك الوجوب.
والتخليل له صفتان :
الأولى : أن يأخذ كفاً من ماء, ويجعله تحتها ويعكرها حتى تتخلل به .
الثانية : أن يأخذ كفاً من ماء, ويخللها بأصابعه كالمشط .
وذكر أهل العلم أن إيصال الطهور بالنسبة للشعر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ما يجب فيه إيصال الطهور إلى ما تحت اللحية, كثيفة كانت أم خفيفة, وهذا في الطهارة الكبرى من الجنابة .
الثاني : ما لا يجب فيه إيصال الطهور إلى ما تحت الشعر, سواء كانت خفيفاً أم ثقيلاَ, وهذا في طهارة التيمم.
الثالث : ما يجب فيه إيصال الطهور إلى ما تحت اللحية, إن كانت خفيفة, ولا يجب إن كانت كثيفة, وهذا في الوضوء . فإن لم يكن له لحية سقط التخليل .
قوله: "والأصابع ", أي: ومن سنن الوضوء تخليل أصابع اليدين, والرجلين, وهو في الرجلين آكد . وتخليل أصابع اليدين : أن يدخل بعضهما في بعض .
وأما الرجلان فقالوا : يخللهما بخنصر يده اليسرى؛ مبتدئاً بخنصر يده اليمنى من الأسفل إلى الإبهام, ثم الرجل اليسرى يبدأ بها من الإبهام لأجل التيامن. وهذا إستحسنه بعض العلماء, لكن القول: بأنه من السنة وهو لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نظر! فيقال: هذا استحسان من بعض العلماء, لكن لا يلتزم به كسنة .
قوله: "والتيامن", أي: ومن سنن الوضوء التيامن, وهو خاص بالأعضاء الأربعة فقط وهما: اليدان والرجلان .(1/33)
أما الوجه والرأس والأذنان فالنصوص تدل على أنه لا تيامن فيها, اللهم إلا أن يعجز الإنسان عن غسله دفعة واحدة فحينئذٍ يبدأ بالأيمن منها . وأما المسح على الخفين فقال بعض العلماء: يمسحهما معاً. وقال بعض العلماء: يستحب التيامن. وهذا هو الأقرب؛ (وهو) أن تبدأ باليمنى قبل اليسرى, والأمر في هذا واسع إن شاء الله تعالى .
قوله: "وأخذ ماءٍ جديد للأذنين", أي: ومن سنن الوضوء أخذ ماءٍ جديد للأذنين , فيسن إذا مسح راسه أن يأخذ ماءً جديداً لأذنيه .( وهذا هو المذهب ).والصواب : أن لا يسن أنه يأخذ ماءً جديداً للأذنين .(بل) يمسحهما مع الرأس مرةً واحدة .
قوله: "والغسلة الثانية والثالثة", أي: من سنن الوضوء الغسلة الثانية والثالثة, والأولى واجبة, والثانية أكمل, والثالثة أكمل منهما؛ لأنهما أكمل في التنظيف.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ مرة مرة, ومرتين مرتين, وثلاثاً ثلاثاً. وتوضأ كذلك مخالفاً, فغسل وجهه ثلاثاً, ويديه مرتين, ورجليه مرة.
وقد كره بعض العلماء أن يخالف بين الأعضاء في العدد, والصواب: أنه لا يكره.والأفضل: أن يأتي بهذا مرة وبهذا مرة .
بابُ فُرُوضِ الوُضُوءِ وصفته
المراد بفروض الوُضُوء هنا أركانُ الوُضُوء.
قوله: "فُروضُهُ سِتَّةٌ", دليلُ انحصارها في ذلك هو التَّتبُّع.
قوله: "غسل ُالوجه", هذا هو الفرض الأول، وخرج به المسحُ، فلابُدَّ من الغسل، فلو بلَّلت يدك بالماء ثم مسحت بها وجهك لم يكن ذلك غسلاً. والغَسلُ: أن يجري الماء على العضو.
وقوله: "الوجه" هو ما تحصُل به المواجهةُ، وحَدُّه طولاً: من منحنى الجبهة إلى أسفل اللحية، وعرضاً من الأُذن إلى الأذن. وقولنا: من منحنى الجبهة؛ هو بمعنى قول بعضهم: من منابت شعر الرَّأس المعتاد؛ لأنه يصِل إلى حَدِّ الجبهة وهو المنحنى، وهذا هو الذي تحصُل به المواجهة؛ لأن المنحنى قد انحنى فلا تحصُل به المواجهة .(1/34)
قوله: "والفمُ والأنفُ منه", أي: من الوجه؛ لوجودهما فيه فيدخلان في حَدِّه، وعلى هذا فالمضمضة والاستنشاق من فروض الوُضُوء؛ لكنهما غير مستقلَّين.
قوله: "وغسل اليدين", هذا هو الفرضُ الثَّاني، وأطلق المؤلِّف ـ رحمه الله ـ لفظ اليدين، ولكن يجب أن يقيِّد ذلك بكونه إلى المرفقين؛ لأنَّ اليد إذا أُطلقت لا يُرادُ بها إلا الكفّ. والمِرْفَقُ: هو المِفْصلُ الذي بين العضد والذِّراع.
قوله: "ومسحُ الرَّأس" هذا هو الفرضُ الثَّالثُ من فُرُوض الوُضُوء، والفرقُ بين المسح والغسل: أنَّ المسحَ لا يحتاج إلى جريان الماء، بل يكفي أن يغمسَ يده في الماء؛ ثم يمسح بها رأسَهُ. وحَدُّ الرَّأس من منحنى الجبهة إلى منابت الشَّعر من الخلف طولاً، ومن الأُذن إلى الأُذن عرضاً، وعلى هذا فالبياض الذي بين الرَّأس والأُذنين من الرَّأس.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيما إذا غسل رأسه دون مسحه؛ هل يجزئه أم لا؟ على ثلاثة أقوال : القول الأول: أنه يُجزئه. (و) القول الثَّاني: أنَّه يجزئه مع الكراهة بشرط أن يُمِرَّ يده على رأسه، وإلا فلا، وهذا هو المذهب. (و) القول الثالث: أنه لا يجزئه؛ لأنَّه خلاف أمر الله ورسوله . ولا ريب أنَّ المسح أفضلُ من الغسل، وإجزاء الغسل مطلقاً عن المسح فيه نظرٌ، أما مع إمرار اليد فالأمر في هذا قريب.
ولو مسح بناصيته فقط دون بقيَّة الرَّأس فإنَّه لا يجزئه.
قوله: "ومنه الأُذنان", أي: من الرَّأس.
قوله: "وغَسْل الرِّجْلين", وهذا هو الفرض الرَّابع من فروض الوُضُوء. وأطلق ـ رحمه الله ـ هنا الرِّجْلين، لكن لابُدَّ أن يُقالَ: إلى الكعبين. والكَعْبَان: هما العظمان النَّاتئان اللذان بأسفل السَّاق من جانبي القدم، وهذا هو الحقُّ الذي عليه أهل السُّنَّة. (وقال) الرَّافضة: المراد بالكعبين ما تكعَّب وارتفع،وهما العظمان اللذان في ظهر القدم .(1/35)
جقوله: "والتَّرتيبُ" وهو أن يُطهَّر كلُّ عضو في محلِّه، وهذا هو الفرض الخامس من فروض الوُضُوء.
مسألة: هل يسقط التَّرتيبُ بالجهل أو النسيان على القول بأنَّه فرض؟ قال بعض العلماء: يسقط بالجهل والنسيان لأنهما عُذْر، وقال آخرون: لا يسقط بالنِّسيان؛ لأنَّه فرض والفرض لا يسقط بالنسيان. والقول بأنَّ التَّرتيب يسقطُ بالنِّسيان؛ في النَّفس منه شيء، نعم لو فُرِضَ أن رجلاً جاهلاً في بادية ومنذ نشأته وهو يتوضَّأ؛ فيغسل الوجه واليدين والرِّجلين ثم يمسح الرَّأس، فهنا قد يتوجَّه القول بأنه يُعذر بجهله؛ كما عَذَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُنَاساً كثيرين بجهلهم في مثل هذه الأحوال.
قوله: "والموالاة" , هذا هو الفرض السَّادس من فروض الوُضُوء؛ وهي أن يكون الشَّيء موالياً للشيء، أي عَقبَه بدون تأخير. وقال بعضُ العلماء: إن الموالاة سُنَّةٌ وليست بشرط . والأَوْلَى: القول بأنها شرط؛ لأنها عبادة واحدة لا يمكن تجزئتها.
قوله: "وهي: أن لا يؤخِّر غَسْل عُضْوٍ حتى يَنْشِفَ الذي قَبْلَه", هذا تفسير المؤلِّف رحمه الله للموالاة. وهذا بشرط أن يكون ذلك بزمنٍ معتدل خالٍ من الرِّيح أو شِدَّة الحرِّ والبرد.(1/36)
وقوله: "الذي قبله" أي: الذي قبل العضو المغسول مباشرة، فلو فُرِضَ أنَّه تأخَّر في مسح الرَّأس فمسحه قبل أن تَنْشِف اليدان، وبعد أن نَشِفَ الوجه فهذا وُضُوء مجزئ؛ لأنَّ المراد بقوله: "الذي قبله" أي: قبله على الولاء، وليس كُلُّ الأعضاء السَّابقة. وقولنا: في زمن معتدل، احترازاً من الزَّمن غير المعتدل، كزمن الشِّتاء والرُّطوبة الذي يتأخَّر فيه النَّشَاف، وزمن الحرِّ والرِّيح الذي يُسرع فيه النَّشاف. وقال بعض العُلماء ـ وهي رواية عن أحمد ـ: إن العبرة بطول الفصل عُرفاً، لا بنَشَاف الأعضاء. فلا بُدَّ أن يكون الوُضُوء متقارباً، فإذا قال النَّاس: إن هذا الرَّجُل لم يفرِّق وضوءَه؛ بل وضوؤه متَّصلٌ، فإنَّه يُعتبرُ موالياً، وقد اعتبر العُلماء العُرف في مسائل كثيرة. ولكنَّ العُرْفَ قد لا ينضبطُ، فتعليقُ الحكمِ بنشَافِ الأعضاء ِأقربُ إلى الضَّبط.
وقوله: "الموالاة" يُستثنى من ذلك ما إذا فاتت الموالاة لأمرٍ يتعلَّق بالطَّهارة. مثل: أن يكون بأحد أعضائه حائلٌ يمنع وصول الماء "كالبوية" مثلا، فاشتغل بإزالته فإنه لا يضَرُّ، وكذا لو نفد الماء وجعل يستخرجه من البئر، أو انتقل من صنبور إلى آخر ونَشِفت الأعضاء فإنَّه لا يضرُّ. أما إذا فاتت الموالاة لأمر لا يتعلَّق بالطَّهارة؛ كأن يجد على ثوبه دماً فيشتغل بإزالته حتى نَشِفت أعضاؤه؛ فيجب عليه إعادةُ الوُضُوء؛ لأن هذا لا يتعلَّق بطهارته.
قوله: "والنيَّة شرطٌ", أي لصحَّة العمل وقَبوله وإجزائه؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيَّات" .
وهل ينطِقُ بالنيَّة؟ على قولين للعلماء، والصَّحيحُ: أنَّه لا ينطق بها، وأن التعبُّد و بالنُّطق بها بدعة يُنهى' عنها.(1/37)
وأمَّا القول: بأنه يُسَنُّ النُّطُق بها جهراً؛ فهذا أضعف وأضعف، وفيه من التَّشويش على النَّاس ولا سيما في الصَّلاة مع الجماعة ما هو ظاهرٌ، وليس هناك حاجة إلى التلفُّظ بالنيَّة لأنَّ الله يعلم بها.
ج قوله: "لطهارة الأحداث كلِّها", خرج بقوله: "طهارة الأحداث" طهارة الأنجاس، فلا يُشترطُ لها نيَّة ٌ، فلو عَلَّق إنسانٌ ثوبه في السَّطح، وجاء المطرُ حتى غسله، وزالت النَّجَاسةُ طَهُرَ؛ مع أن هذا ليس بفعله، ولا بنيَّته. وكذلك الأرض تصيبها النَّجَاسة، فينزل عليها المطر فتطهُر. وما ذكره المؤلِّف: مذهب مالك، والشَّافعي، وأحمد .وذهب أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ إلى أن طهارة الحدث لا يُشترطُ لها النيَّةُ، لأنها ليست عبادة مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة لتصحيح الصَّلاة. وهذا ضعيف .
والصَّوابُ : أن الوُضُوءَ عبادةٌ مستقلِّة ، بدليل أن الله تعالى رتَّب عليه الفضلَ والثَّوابَ والأجرَ، ومثلُ هذا يكون عبادةً مستقلَّةً ، وهو قول جمهور العلماء . وإذا كان عبادة مستقلَّة ، صارت النيَّةُ فيه شرطاً، بخلاف إزالة النَّجاسة فإنها ليست فعلاً، ولكنها تَخَلٍّ عن شيء يُطلب إزالته، فلهذا لم تكن عبادة مستقلَّة، فلا تُشتَرطُ فيها النيَّة.
وقوله "كلِّها" أراد به شُمول الحدث الأصغر والأكبر، والطَّهارة بالماء والتيمُّم.
قوله: "فينوي رَفْعَ الحدث", هذه الصُّورة الأولى للنيَّة، فإذا توضَّأ بنيَّة رفع الحدث الذي حَصَل له بسبب البول مثلاً صحَّ وُضُوءُه، وهذا هو المقصود بالوُضُوء .
ججقوله: "أو الطَّهارة لما لا يُبَاح إلا بها", وهذه هي الصُّورة الثَّانية، أي: ينوي الطَّهارة لشيء لا يُباح إلا بالطَّهارة كالصَّلاة والطَّواف ومسِّ المصحف، فإذا نوى الطَّهارَة للصَّلاة ارتفعَ حدثُه، وإن لم ينوِ رفع الحدث، لأن الصَّلاة لا تصحُّ إلا بعد رفع الحدث.(1/38)
قوله: "فإن نوى ما تُسنُّ له الطَّهارة كقراءة", هذه هي الصَّورة الثالثة، أي: نوى الطَّهارة لما تُسَنُّ له، وليس لما تجب، كقراءة القرآن فإن قراءة القرآن دون مسِّ المصحف تُسَنُّ لها الطَّهارة، بل كلُّ ذِكْرٍ فإن السُّنَّة أن يتطهَّرَ له؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "كَرِهْتُ أن أذكر الله إلا على طهارة". فإذا نوى ما تُسَنُّ له الطَّهارةُ ارتفعَ حدثُه، لأنَّه إذا نوى الطَّهارةَ لما تُسَنُّ له فمعنى ذلك أنه نوى رفع الحدث؛ لأجل أن يقرأ، وكذلك إذا نوى الطَّهارةَ لرفع الغضبِ، أو النَّومِ، فإنه يرتفعُ حدثه. فصار للنيَّة ثلاثُ صُور: الأولى: أن ينويَ رفع الحدث.
الثانية: أن ينويَ الطَّهارةَ لما تجبُ له.
الثالثة: أن ينويَ الطهارةَ لما تُسَنُّ له.
قوله: "أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدَثَه ارتفَعَ", هذه الصُّورة الرَّابعة. أي: تجديداً لوُضُوءٍ سابق عن غير حدث، بل هو على وُضُوء، فينوي تجديدَ الوُضُوء الذي كان متَّصفاً به. لكن اشترط المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ شرطين:
الشرط الأول: أن يكونَ ذلك التجديدُ مسنوناً؛ لأنه إذا لم يكن مسنوناً لم يكن مشروعاً، فإذا نوى التَّجديدَ وهو غير مسنونٍ، فقد نوى طهارةً غير شرعية، فلا يرتفع حدثُه بذلك.
وتجديد الوُضُوء يكون مسنوناً إذا صَلَّى بالوُضُوء الذي قبله، فإذا صلّى بالوُضُوء الذي قبله فإنه يُستَحبُّ أن يتوضَّأ للصَّلاة الجديدة. مثاله: توضَّأ لصلاة الظُّهر وصلَّى الظُّهر، ثم حَضَر وقتُ العصر وهو على طهارته، فحينئذ يُسَنُّ له أن يتوضَّأَ تجديداً للوُضُوء؛ لأنَّه صلَّى بالوُضُوء السَّابق، فكان تجديدُ الوُضُوء للعصر مشروعاً، فإن لم يُصلِّ به؛ بأنَّ توضَّأ للعصر قبل دخول وقتها؛ ولم يُصلِّ بهذا الوُضُوء، ثم لما أذَّن العصرُ جدَّد هذا الوُضُوء، فهذا ليس بمشروع؛ لأنَّه لم يُصلِّ بالوُضُوء الأوَّل، فلا يرتفع حدثُه لو كان أحدث بين الوُضُوء الأول والثَّاني.(1/39)
الشرط الثَّاني: أن ينسى حدثَه، فإن كان ذاكراً لحدثه فإنه لا يرتفع، وهذا من غرائب العلم! إذا نوى الشَّيءَ ناسياً صَحَّ، وإذا نواه ذاكراً لم يصحَّ!. مثاله: رجل صلَّى الظُّهر بوُضُوء، ثم نقضه بعد الصَّلاة، ثم جدَّد الوُضُوء للعصر ناسياً أنه أحدث، فهذا يرتفع حدثُه؛ لأنه نوى تجديداً مسنوناً ناسياً حدثَه. فإذا كان ذاكراً لحدثه، فلا يرتفع؛ لأنَّه حينئذ يكون متلاعباً، فكيف ينوي التجديدَ وهو ليس على وُضُوء؛ لأن التَّجديد لا يكون إلا والإنسان على طهارة.
قوله: "وإن نوى غُسْلاً مسنوناً أجْزَأَ عن واجبٍ".مثاله: أن يغتسلَ من تغسيل الميِّت، أو يغتسل للإحرام، أو للوقوف بعرفة فهذه أغسال مسنونةٌ، وكذلك غُسْلَ الجمعة عند جمهور العلماء، والصَّحيحُ: أنه واجبٌ.(1/40)
وظاهر كلام المؤلِّف ـ وهو المذهب ـ : ولو ذكر أن عليه غسْلاً واجباً وقيَّده بعض الأصحاب بما إذا كان ناسياً حدثه، أي: ناسياً الجنابة، فإن لم يكن ناسياً فإنَّه لا يرتفع؛ لأن الغُسْل المسنون ليس عن حدث، وإذا لم يكن عن حدث، فقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيَّات". وهذا الرَّجلُ لم ينوِ إلا الغُسْل المسنون، وهو يعلمُ أن عليه جنابة، ويذكر ذلك، فكيف يرتفع الحدث؟ وهذا القول ـ وهو تقييده بأن يكون ناسياً ـ له وجهةٌ من النَّظر. وتعليلُ المذهب: أنه لما كان الغُسْل المسنونُ طهارةً شرعيَّة كان رافعاً للحدث، وهذا التَّعليل فيه شيء من العِلَّة، لأنَّه لا شَكَّ بأنَّه غُسْلٌ مشروع، ولكنه أدنى من الغُسْل الواجب من الجنابة، فكيف يقوى المسنونُ حتى يجزئ عن الواجب الأعلى؟ لكن إن كان ناسياً فهو معذور. مثاله: لو اغتسل للجمعة ـ على القول بأنه سُنَّة ـ وهو عليه جنابة لكنه لم يذكرها، أو لم يعلم بالجنابة إلا بعد الصلاة كما لو احتلم ولم يعلم إلا بعد الصلاة، فإن صلاة الجمعة تكون صحيحة لارتفاع الجنابة. أما إذا علم ونوى هذا الغسل المسنون فقط، فإن القول بالإجزاء في النفس منه شيء.
جقوله: "وكذا عكسه", أي: إذا نوى غُسْلاً واجباً أجزأ عن المسنون لدُخُوله فيه، كما لو كان عليه جنابة فاغتسل منها عند السَّعي إلى الجُمعة فإنه يجزئه عن غُسْل الجمعة؛ لأن الواجبَ أعلى من المسنون فيسقطُ به، كما لو دخل المسجد ووجد الناس يصلُّون فدخلَ معهم، فإن تحيَّة المسجد تَسقطُ عنه؛ لأن الواجب أقوى من المستحبِّ.
وإذا نوى الغُسْلين الواجب والمستحبَّ أجزأ من باب أولى؛ لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّما الأعمال بالنيَّات". وإنْ جعل لكلٍّ غُسْلاً فهو أفضل؛ كما اختاره الأصحاب - رحمهم الله - .(1/41)
قوله: "وإن اجتمعت أحداثٌ تُوجِبُ وُضُوءاً ". أي: بأن فعل من نواقض الوُضُوء أشياء متعدِّدة، كما لو بَالَ، وتغوَّط، ونامَ، وأكل لحم إبل، ونوى الطَّهارة عن البول، فإنه يجزئ عن الجميع. ولكن لو نوى عن البول فقط على أن لا يرتفع غيرُه، فإنَّه لا يجزئ إلا عن البول. وقيل يجزئ عنه وعن غيره، وقيل: إن عَيَّنَ الأوَّلَ ارتفع الباقي، وإن عيَّن الثاني لم يرتفعْ شيء منها؛ لأنَّ الثَّاني ورد على حدث، لا على طهارة كما لو بال أولاً، ثم تغوَّط، ثم توضَّأ عن الغائط فقط فإنَّه لا يرتفعُ حدثُه؛ لأن الثَّاني وَرَدَ على حَدَثٍ فلم يؤثِّر شيئاً، وحينئذٍ إذا نوى رفع الحدث من الثَّاني لم يرتفع، لأن الحدث من الأول. والصَّحيحُ: أنه إذا نوى رفع الحدث عن واحد منها ارتفع عن الجميع؛ حتى وإنْ نوى أن لا يرتفع غيرُه.
قوله: "أو غُسْلاً فَنَوى بطَهَارَتِه أَحَدَها ارتفعَ سَائُرها", أي: اجتمعت أحداث توجب غُسْلاً كالجماع ، والإنزال ، والحيض ، والنِّفاس بالنسبة للمرأة، فإذا اجتمعت ونوى بغُسُلِه واحداً منها، فإنَّ جميعَ الأحداث ترتفعُ. وما يُقالُ في الحدثِ الأصغر، ُيقالُ هنا.
قوله: "ويجب الإتيان بها عند أوَّل واجبات الطَّهارة، وهو التَّسميةُ". أي: يجبُ الإتيان بالنيَّة عند أوَّل واجبات الطَّهارة، وهي التَّسمية. وقوله: "عند" العنديَّة تدلُّ على القُرب، وعلى هذا يجب أن تكون النيَّةُ مقترنةً بالفعل، أو متقدِّمةً عليه بزمنٍ يسير، فإن تقدمت بزمن كثير فإنها لا تجزئ.
وقوله: "عند أوَّل واجبات الطهارة" لم يقل عند أوَّل فروض الطَّهارة؛ لأن الواجب مقدّمٌ على الفروض في الطَّهارة، والواجب هو التَّسمية. وهذا على المذهب من أنَّ التسمية واجبةٌ مع الذِّكر. وقد سبق بيانُ حكم التسمية والخلاف في ذلك، وبيان أنَّ الصَّحيح أنَّها سُنَّةٌ .(1/42)
قوله: "وتُسَنُّ عند أوَّل مسنوناتها إن وُجِدَ قبل واجبٍ", أوَّلُ مسنونات الطَّهارة غسل الكفَّين ثلاثاً، فإذا غسلهما ثلاثاً قبل أن يُسمِّي صار الإتيان بالنيَّة حينئذ سُنَّةٌ. وقوله: "إن وُجِدَ" الضَّمير يعود على أوَّل المسنونات.
وقوله: "قبل واجب" أي: قبل التَّسمية، فلو غسل كَفِّيه ثلاثاً قبل أن يُسمِّيَ، فإنَّ تَقَدُّمَ النيَّةِ قبلَ غسلِ اليدين سُنَّةٌ.والنيَّةُ لها محلاَّن: الأول: تكونُ فيه سُنَّةٌ، وهو قبل المسنون إنْ وُجِدَ قبل واجبٍ.
الثاني: تكون فيه واجبةٌ عند أوَّل الواجبات، وقد سبق بيان ما في ذلك، وأنَّه لا يمكن أن يُقرِّب الانسانُ الماء؛ ثم يشرع في الوُضُوء من غير نيَّة؛ ولهذا لابُدَّ أن تكون النيَّةُ سابقةٌ حتى على أوَّل المسنونات؛ اللهم إلا إن كان إنما يغسل يديه لتنظيفهما من طعام ونحوه؛ ثم نوى الوُضُوء بعد غسل اليدين، فهذا ربما يُقالُ: إنه ابتدأ الطَّهارةَ بلا نيَّة، وحينئذ فعليه أن يأتيَ بالنيَّة عند التَّسمية.
جوقولُه: "إن وُجِدَ قبل واجب" يشير ـ رحمه الله ـ إلى أن هذا المسنون لا يوجد قبل الواجب في الغالب، فالغالب أن يُسمِّيَ قبل غسل كفَّيه، وحينئذ يكون الواجب متقدِّماً.
جقوله: "واستصحاب ذكرها في جميعها", أي: يُسَنُّ استصحاب ذكرها، والمرادُ ذكرَها بالقلب، أي يُسَنُّ للإنسان تذكُّرُ النيَّةِ بقلبه في جميع الطَّهارة، فإن غابت عن خاطره فإنه لا يضرُّ، لأن استصحاب ذكرها سُنَّةٌ. ولو سبقَ لسانُه بغير قصده فالمدارُ على ما في القلب.
ولو نوى بقلبه الوُضُوء، لكن عند الفعل نطق بنيَّة العمل؛ فيكون اعتمادُه على عزم قلبه لا على الوهم الذي طرأ عليه، كما لو أراد الحجَّ ودخل في الإحرام بهذه النيَّة؛ لكن سبقَ لسانُه فلبَّى بالعُمْرة فإنَّه على ما نوى.
قوله: "ويجب استصحابُ حكمها", معناه: أن لا ينوي قطعها.
فالنيَّةُ إذاً لها أربع حالات باعتبار الاستصحاب:(1/43)
جالأولى: أن يستصحب ذكرها من أوَّل الوُضُوء إلى آخره، وهذا أكمل الأحوال.
الثانية: أن تغيبَ عن خاطره؛ لكنَّه لم ينوِ القَطْعَ، وهذا يُسمَّى' استصحاب ُحكمِها، أي بَنَيَ على الحكم الأوَّل، واستمرَّ عليه.
الثالثة: أن ينويَ قطعها أثناء الوُضُوء، لكن استمرَّ مثلاً في غسل قدميه لتنظيفهما من الطَّين فلا يصحُّ وُضُوءُه؛ لعدم استصحاب الحكم لقطعه النيَّة في أثناء العبادة.
الرابعة: أن ينويَ قطع الوُضُوء بعد انتهائه من جميع أعضائه، فهذا لا يَنْتقضُ وُضُوءُه، لأنَّه نوى القطع بعد تمام الفعل .
مسألةٌ مهمَّةٌ: وهي لو نوى فرض الوقت دون تعيين الصَّلاة، وهذه تقع كثيراً ، فلو جاء إنسان مثلاً لصلاة الظُّهر؛ ووجد الناس يُصلُّون ودخل معهم في تلك الساعة؛ ولم يستحضر أنَّها الظُّهر، أو الفجر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء. إنما استحضر أنَّها فرض الوقت. فالمذهب: لا يجزئه؛ لأنه لابُدَّ أن يُعيِّنَ إما الظُّهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أو الصُّبح. وعن أحمد رواية: أنه إذا نوى فرض الوقت أجزأه. ذكرها ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" واختارها بعض الأصحاب. وهذا لا يسعُ النَّاس العمل إلا به، لأنَّه كثيراً ما يغيب عن الإنسان تعيينُ الصَّلاة، لكن نيَّته هو أنَّها فرض الوقت.
مسألة: رجل سلَّم من ركعتين من الظُّهر بناءً على أنَّها الفجر ثم ذكر، هل يكمل ركعتين أم يستأنف الصَّلاة؟
يقولون في هذه الصُّورة: يجب أن يستأنف الصَّلاة؛ لأنه سلَّم على أنها صلاة ركعتين؛ بخلاف من سَلَّم من ركعتين عن الظُّهر ونحوها ثم ذكر؛ فانه يتمُّ أربعاً ويسجد للسَّهو، ولأنَّه سلَّم على أنَّها صلاة رباعية.(1/44)
قوله: "وصفة الوُضُوء أن ينويَ, ثم يُسمِّي, ويغسل كفَّيه ثلاثاً ثم يَتَمَضْمَضَ, ويستنشقُ ", (مسألة:) هل يجبُ أن يُدير الماء في جميع فمه أم لا؟ قال العلماء رحمهم الله: الواجُب إدارته في الفم أدنى إدارة ، وهذا إذا كان الماء قليلاً لا يملأ الفم، فإن كان كثيراً يملأ الفم فقد حصل المقصودُ.
وهل يجب أن يزيلَ ما في فمه من بقايا الطعام فيخلِّلَ أسنانه ليدخلَ الماءُ بينها؟ الظَّاهر: أنه لا يجب.
وهل يجبُ عليه أن يزيلَ الأسنانَ المركَّبةَ إذا كانت تمنعُ وصول الماء إلى ما تحتها أم لا يجب ؟ الظَّاهر: أنه لا يجب،وهذا يُشبه الخاتمَ، والخاتم لا يجب نزعُه عند الوُضُوء, بل الأَوْلى أن يحرِّكَه لكن ليس على سبيل الوجوب.
قوله: "ويغسلَ وجهه من منابتِ شعر الرأس ", المرادُ: مكان نبات الشَّعر المعتاد بخلاف الأفرع، والأنزع.
فالأفرع: الذي له شعرٌ نازل على الجبهة. والأنزع: الذي انحسر شعرُ رأسه .
وقوله: "من منابت شعر الرَّأس" هكذا حدَّه المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ وقال بعضُ العلماء: من منحنى الجبهة من الرَّأس؛ لأن المنحنى هو الذي تحصُل به المواجهة، وهذا أجود.
قوله: "إلى ما انحدر من اللَّحْيَين والذَّقن طولاً" الذَّقن: هو مَجْمعُ اللَّحْيَين. واللَّحْيَان: هما العظمان النَّابت عليهما الأسنان. فما انحدر من اللَّحيين، وكذلك إذا كان في الذَّقن شعرٌ طويلٌ فإنه يُغسل، لأن الوجه ما تحصُل به المواجهةُ، والمواجهةُ تحصُل بهذا الشَّعر فيكون غسله واجباً. وقال بعض العلماء : إن ما جاوز الفرض من الشَّعر لا يجب غسله, والأحوَطُ والأَوْلى : غسلُ ما استرسل من اللَّحيين والذَّقن.
جقوله: "ومن الأُذُنِ إلى الأُذنِ عرضاً" والبياضُ الذي بين العارض والأُذُن من الوجه. والشَّعر الذي فوق العظم الناتئ يكون تابعاً للرَّأس. هذا حَدُّ الوجه.(1/45)
جقوله:"وما فيه من شعرٍ خفيف، والظَّاهرَ الكثيف". الخفيفُ: ما تُرى من ورائه البشرةُ، والكثيف: ما لا تُرى من ورائه. فالخفيفُ: يجب غسله وما تحته؛ لأن ما تحته إذا كان يُرى فإنَّه تَحصُلُ به المواجهة، والكثيف يجب غسلُ ظاهرهِ دونَ باطنهِ؛ لأنَّ المواجهةَ لا تكون إلا في ظاهر الكثيف.
وكذلك يجب غسلُ ما في الوجه من شعر كالشَّارب والعَنْفَقَةِ والأهداب والحاجبين والعارضين. ويُستَحبُّ تخليل الشَّعر الكثيف؛ لأنَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يخلِّل لحيته في الوُضُوء.
قوله: "مع ما استرسل منه" ."استرسل"أي: نَزَلَ. وظاهرُ كلام المؤلِّفِ، ولو نزلَ بعيداً، فلو فُرِضَ أنَّ لرَجُلٍ لحيةً طويلة أكثر مما هو غالب في النَّاس، فإنَّه يجب عليه غسل الخفيف منها، والظَّاهر من الكثيف.
قوله: "ثمَّ يديه مع المرفقين", (مسألة) : هل الأفضلُ في غسل اليدين البَدْءُ من المرفق، أو من وسط الذراع، أو من أطراف الأصابع؟. فالجواب: أن الأفضلَ أن يبدأ من أطراف الأصابع لقوله: "إلى". وإن لم يكن ظُهور ذلك عندي قويًّا. وإن تمسَّك متمسِّكٌ بالظاهر ـ الذي ليس بظاهرـ وقال: إن الأفضل أن يكون من الأصابع. فأرجو أن لا يكون به بأسٌ .
قوله: " ثم يمسحُ كُلَّ رأسه مع الأُذنين مَرَّةً واحدةًً , ثم يغسل رجليه مع الكعبين , ويغسلُ الأقطعُ بقيَّةَ المفروضِ ", قوله: " ويغسلُ الأقطعُ بقيَّةَ المفروضِ" أراد ـ رحمهُ الله ـ أقطعَ اليدين؛ بدليل قوله: "غَسَلَ رأسَ العَضُد منه". فيغسلُ الأقطعُ بقيةَ المفروض، ولا يأخذ ما زاد على الفرض في المقطوع. فمثلاً: لو أنه قُطعَ من نصف الذِّراع، فلا يرتفعُ إلى العَضُدِ بمقدار نصفِ الذِّراع؛ لأن العَضُدَ ليس محلاًّ للغسل، وإنما يغسلُ بقيَّة المفروضِ .(1/46)
جقوله: "فإن قُطِعَ من المِفْصَل غَسَلَ رأْسَ العَضُد منه", يعني: إذا قُطِعَ من مفصل المِرْفق غَسَلَ رأسَ العَضُد، لأن رأس العَضُد مع المرفق في موازنة واحدة . وإن قُطِع من فوق المفصل لا يجبُ غسلُه. وهكذا بالنسبة للرِّجل إن قُطِعَ بعضُ القدمِ غَسلَ ما بقيَ، وإن قُطِع من مفصل العَقِبِ غسلَ طرفَ السَّاقِ؛ لأنَّه منه. وهكذا بالنسبةِ للأُذُن إذا قُطعَ بعضُها مسح الباقي، وإن قُطِعت كلُّها سقطَ المسحُ على ظاهرِها، ويُدخِلُ أصبعيهِ في صِمَاخ الأُذنين.
جقولهُ: "ثم يرفعُ بصره إلى السَّماء", هذا سُنَّةٌ؛ إن صحَّ الحديث، وهو ما رُويَ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "من توضَّأ فأحسن الوُضُوء، ثم رفع نظره إلى السَّماء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء" وفي سنده مجهولٌ، والمجهولُ لا يُعلم حاله: هل هو حافظ، أو عدل ، أو ليس كذلك ، وإذا كان في السند مجهولٌ حُكِمَ بضعف الحديث .والفقهاء ـ رحمهم الله ـ بَنَوا هذا الحكمَ على هذا الحديث. وعلى تعليل وهو: أنه يرفعُ نظرَه إلى السَّماء إشارةً إلى عُلوِّ اللهِ تعالى حيثُ شَهِدَ له بالتَّوحيد.
قوله: "ويقول ما وَرَدَ", وهو حديث عمر رضي اللهُ عنه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهِّرين. فإنَّ من أسبغ الوُضُوء ثم قال هذا الذِّكر؛ فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة الثَّمانية، يدخل من أيّها شاء" .(1/47)
وقال بعضَ العلماء: إن هذا الذِّكرَ يُشرَعُ بعد الغسل والتيمُّم أيضاً، ويرى بعضُ العلماء: أنه يقتصر على ما وَرَدَ في الوُضُوء فقط. وهو ظاهر كلام الأكثر، قال في "الفروع":"ويتوجَّهُ ذلك بعد الغُسل؛ ولم يذكروه" , وقال في "الفائق": "قلت: وكذا يقوله بعد الغُسل" . وهذا ـ أعني الاقتصار على قوله بعد الوُضُوء ـ أرجح. وقول هذا الذِّكر بعد الغسل أقربُ من قولِه بعد التيمُّم؛ لأنَّ المغتسل يصدق عليه أنه متوضِّئ .
قوله: "وتُباحُ معونتُه", أي: معونة المتوضِّئ ، كتقريب الماء إليه وصَبِّه عليه، وهو يتوضَّأ، وهذه الإباحة لا تحتاج إلى دليل؛ لأنَّها هي الأصل. وقال بعضُ العلماء: تُكرَهُ إعانةُ المتوضِّئ إلا عند الحاجة؛ لأنَّها عبادة ولا ينبغي للإنسان أن يستعينَ بغيره عليها. والمذهب أصَحُّ.
قوله: "وتنشيفَ أعضائه", التنشيف بمعنى: التجفيف . والأصل (فيه) الإباحة, وهو الصواب .
بابُ مَسْحِ الخُفَّيْنِ
الخُفَّان: ما يُلبَسُ على الرِّجل من الجلود، ويُلْحَقُ بهما ما يُلْبَسُ عليهما من الكِتَّان، والصُّوف، وشبه ذلك من كُلِّ ما يُلبَسُ على الرِّجْل مما تستفيدُ منه بالتسخين, والمسح على الخفين جائُزٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ.
قوله: "يجوزُ لمقيمٍ يوماً وليلةً ولمسافر ثلاثةً بلياليها ", قوله: "لمقيم" يشمل المستوطن والمقيمُ؛ لأن الفقهاء رحمهم الله يرون أن النَّاس لهم ثلاث حالات.إحداها: الإقامة.(و) الثانية: الاستيطان. (و) الثالثة: السَّفر. ويُفرِّقون في أحكام هذه الأحوال. والصَّحيح: أنَّه ليس هناك إلا استيطان أو سفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وأن الإقامة باعتبارها قسماً ثالثاً ينفرد بأحكام خاصَّة لا توجد في الكتاب، ولا في السُّنَّةِ.(1/48)
والإقامة عند الفقهاء: هي أن يقيمَ المسافرُ إقامةً تمنع القصْرَ ورُخَصَ السَّفرِ؛ ولا يكون مستوطناً، وعلى هذا فإنه مقيم، فلا تنعقد به الجمعةُ، ولا تجب عليه؛ أي: بنفسه، ولا يكون خطيباً، ولا إماماً فيها، حتى لو أراد أن يقيم سنتين، أو ثلاثاً. والمستوطنُ: الذي اتَّخَذَ البلدَ وطناً له. وحكم المقيم في المسح على الخُفَّين كحكم المستوطن، كما أنَّ حكمه كحكم المستوطن في وجوب إتمام الصَّلاة، وفي تحريم الفِطْرِ في رمضان، لكن ليس هو كالمستوطن في مسألة الجمعة، فلا تجب عليه بنفسه، ولا يكونُ إماماً فيها، ولا خطيباً، وحينئذٍ يكون في مرتبة بين مرتبتين، ولا دليل على هذه المرتبة.
قوله: "ولمسافر ثلاثةً بلياليها" إطلاقُ المؤلِّف يشمل السَّفَرَ الطَّويل والقصير. ويشمل سفرَ القَصر وغيره؛ لأن هناك سفراً طويلاً لكن لا يُقْصَر فيه كالسَّفر المحرَّم، أو المكروهِ على المذهبِ، كمن سافر لشُرب الخمر أو الاستمتاع بالبغايا. والمذهب:أنَّ السَّفر هنا مُقيَّدٌ بالسَّفر الذي يُباحُ فيه القَصرُ،ولعلَّه مراد المؤلِّف رحمه الله.(1/49)
جقوله: "من حَدَثٍ بعد لُبْسٍ", من: للابتداء، يعني: أنَّ ابتداءَ المدَّةِ سواءٌ كانت يوماً وليلة؛ أم ثلاثة أَيَّام، من الحَدَث بعد اللبس، وهذا هو المذهب . والذي يمكن أن يُعلَّق به ابتداء المُدَّة ثلاثة أمور: الأول: حال اللِّبس. (و) الثاني: حال الحَدَث.(و) الثالث: حال المسح. أما حال اللِّبس، فلا تبتدئ المدَّةُ من اللِّبس قولاً واحداً في المذهب وأما حال الحَدَث فالمذهبُ: أن المدَّة تبتدِئُ منه. والقول الثاني: تبتدئُ من المسح ، وهذا هو الصَّحيح. ويدلُّ له أنَّ الفقهاء أنفسَهم ـ رحمهم الله ـ قالوا: لو أن رجلاً لبس الخُفَّين وهو مقيمٌ؛ ثم أحدثَ؛ ثم سافر؛ ومسحَ في السَّفَر أوَّل مرَّة، فإنه يُتِمُّ مسح مسافر. وهذا يدلُّ على أنَّه يعتَبر ابتداء المدَّة من المسح وهو ظاهرٌ. فالصَّوابُ: أن العِبْرَةَ بالمسح وليس بالحَدَثِ. مثال ذلك: رجلٌ توضَّأ لصلاة الفجر ولبس الخُفَّين، وبقي على طهارته إلى السَّاعة التَّاسعة ضُحى، ثم أحدث ولم يتوضَّأ، وتوضَّأ في السَّاعة الثانية عشرة، فالمذهب: تبتدئ المُدَّةُ من السَّاعة التَّاسعة. وعلى القول الرَّاجح: تبتدئ من السَّاعة الثَّانية عشرة إلى أن يأتي دورها من اليوم الثَّاني إن كان مقيماً، ومن اليوم الرَّابع إن كان مسافراً. فالمقيمُ أربعٌ وعشرون ساعةً، والمسافر اثنتان وسبعون ساعةً.
قوله: "على طاهر", هذا هو الشّرط الثَّاني من شُروطِ صِحَّةِ المسحِ على الخُفَّين، وهو أن يكونَ الملبوس طاهراً.(1/50)
والطَّاهر: يُطلَقُ على طاهر العين، فيخرج به نجس العين. وقد يُطْلَقَ الطَّاهرُ على ما لم تُصبْه نجاسةٌ كما لو قلت: يجب عليك أن تُصلِّيَ بثوبٍ طاهر: أي: لم تُصبْه نجاسةٌ. والمراد هنا طاهر العين؛ لأنَّ من الخِفَاف ما هو نجس العين كما لو كان خُفًّا من جلد حمار، ومنه ما هو طاهر العين لكنَّه متنجِّس؛ أي: أصابته نجاسة، كما لو كان الخُفُّ من جلد بعيرٍ مُذكَّى لكن أصابته نجاسة، فالأوَّل نجاسته نجاسة عينيَّة؛ والثَّاني نجاسته نجاسة حُكميَّة، وعلى هذا يجوز المسح على الخُفِّ المتنجِّس، لكن لا يُصلِّي به، لأنه يُشترط للصَّلاة اجتناب النَّجَاسة.
وفائدة هذا أن يستبيح بهذا الوُضُوء مسَّ المصحف لأنه لا يُشترط للَمْسِ المصحف أن يكون متطهِّراً من النَّجاسة، ولكن يُشترط أن يكون متطهِّراً من الحدث. أما لو اتَّخذ خُفًّا من جلد ميتة مدبوغ تحلُّ بالذَّكَاة، فإن هذا ينبني على الخلاف : إن قلنا: لا يطهرُ وهو المذهبُ لم يَجُز المسح عليه. وإن قلنا: يطهرُ بالدَّبغ جازَ المسحُ عليه.
جقوله: "مباحٍ", احترازاً من المحرَّم، هذا هو الشَّرط الثَّالث، والمحرَّم نوعان: الأول: محرَّم لكسبه كالمغصوب، والمسروق. (و) الثاني: محرَّم لعينه كالحرير للرَّجُلِ، وكذا لو اتَّخَذ "شُرَاباً" (وهو الجورب) فيها صُور فهذا محرَّمٌ، ولا يُقال: إن هذا من باب ما يُمتهن؛ لأنَّ هذا من باب اللباس ، واللباس الذي فيه صُورٌ حرام بكلِّ حال، فلو كان على "الشُّراب" صورةُ أسدٍ مثلاً فلا يجوز المسح عليه . وكلا هذين النوعين لايجوز المسحُ عليهما.(1/51)
جقوله: "ساترٍ للمفْروضِ", أي: للمفْروض غسلُه من الرِّجْلِ وهذا هو الشَّرط الرابع، فيُشترَط لجواز المسح على الخُفَّين أن يكون ساتراً للمفروض. ومعنى "ساتر" ألا يتبيَّنَ شيٌ من المفروض من ورائه؛ سواءٌ كان ذلك من أجل صفائه، أو خفَّته، أو من أجل خروق فيه. وقال بعض العلماء: إنه لا يُشترطُ أن يكونَ ساتراً للمفروض . (وهذا) اختيار شيخ الإسلام , (و) هو الرَّاجح؛ لأن هذه الخفاف لا تسلم غالباً من الخروق، فكيف نشقُّ على النَّاس ونلزمُهم بذلك. ثم إن كثيراً من النَّاس الآن يستعملون جواربَ خفيفة، ويرونَها مفيدةً للرِّجْل، ويحصُل بها التَّسخينُ، وقد بعث النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سريةً، فأصابهم البردُ، فأمرَهم أن يمسحوا على العصائب (يعني العمائم) والتَّساخين (يعني الخِفَاف) والتَّساخين هي الخفاف؛ لأنها يُقصد بها تسخينُ الرِّجل، وتسخينُ الرِّجْل يحصُلُ من مثل هذه الجوارب. إذاً ؛ هذا الشَّرط محل خلاف بين أهل العلم، والصَّحيحُ : عدمُ اعتباره.
قوله: "يَثْبُتُ بنفسه", أي: لا بُدَّ أن يثبت بنفسه، أو بنعلين فيُمسحُ عليه إلى خلعهما، وهذا هوالشَّرط الخامس لجواز المسح على الخُفَّين، فإن كان لا يثبت إلا بشدِّه فلا يجوزُ المسح عليه. هذا المذهب. فلو فُرِضَ أنَّ رَجُلاً رِجْلُه صغيرةٌ، ولبس خُفَّاً واسعاً لكنَّه ربطه على رجْله بحيث لا يسقط مع المشي، فلا يصحُ المسحُ عليه. والصَّحيح: أنه يصحُّ.
قوله: "من خُفٍّ", الخُفُّ: ما يكون من الجلد. والجوارب: ما يكون من غير الجلد كالخرق وشبهها. فيجوز المسح على هذا وعلى هذا. وأمَّا "المُوق" فإنه خُفٌّ قصير يُمْسَحُ عليه، وقد ثبت أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مسح على الموقين.
جقوله: "وجَوْرَبٍ صفيق", اشترط المؤلِّفُ أن يكون صفيقاً؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يكون ساتراً للمفروض على المذهب، وغير الصَّفيق لا يستر.(1/52)
جقوله: "ونحوهما", أي:مثلهما من كلِّ ما يُلبَسُ على الرِّجْل سواء سُمِّي خُفَّاً، أم جورباً، أم مُوقاً، أم جُرموقاً، أم غير ذلك، فإنَّه يجوز المسح عليه؛ لأن العِلَّة واحدة.
قوله: "وعلى عِمَامة ٍلرَجُل" أي: ويجوز المسح على عِمَامة الرَّجل، والعِمامةُ: ما يُعمَّمُ به الرَّأسُ، ويكوَّرُ عليه، وهي معروفةٌ. وقد يُعبَّر عنها بالخِمَار كما في "صحيح مسلم": "مسح على الخُفَّين والخِمَار" قال: يعني العِمَامة.
ففسَّر الخِمَار بالعِمَامة، ولولا هذا التفسير لقلنا بجواز المسح على "الغُترة"، إذا كانت مخمِّرة للرَّأس، كما يجوز في خُمُر النِّساء.
وقوله: "لرَجُل" أي: لا للمرأة، وهذا أحد شروط جواز المسح على العِمَامة، فلا يجوز للمرأة المسحُ على العِمَامة، لأنَّ لبسها لها حرام لما فيه من التشبُّه بالرِّجَال. ويُشترَطُ لها ما يُشترَطُ للخُفِّ من طهارة العين، وأن تكونَ مباحةً، فلا يجوز المسح على عمامةٍ نجسة فيها صورٌ، أو عمامةِ حريرٍ. وقوله "لرَجُل" كلمة رَجُل في الغالب تُطلَقُ على البالغ، وهذا ليس بمراد هنا، بل يجوزُ للصبيِّ أن يلبس عِمامةً ويمسحَ عليها.
قوله: "محنَّكة أو ذات ذؤابة", هذا هو الشَّرط الثَّاني لجواز المسح على العِمَامة، فالمحنَّكة: هي التي يُدار منها تحت الحنك. وذات الذُّؤابة: هي التي يكون أحد أطرافها متدلِّياً من الخلف . وعارض شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هذا الشرط ، وقال: إنَّه لا دليل على اشتراط أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.(1/53)
بل النصُّ جاء: "العِمامة" ولم يذكر قيداً آخر، فمتى ثبتت العمِاَمة جاز المسحُ عليها. ولأنَّ الحكمة من المسح على العِمَامة لا تتعيَّنُ في مشقَّة النَّزع، بل قد تكون الحكمةُ أنَّه لو حرَّكها ربما تَنْفَلُّ أكوارُها. ولأنَّه لو نَزَع العِمَامة، فإن الغالب أنَّ الرَّأس قد أصابه العرقُ والسُّخونَة فإذا نزعها، فقد يُصاب بضررٍ بسبب الهواء؛ ولهذا رُخِّصَ له المسح عليها.
ولا يجب أن يَمسحَ ما ظهر من الرَّأس، لكن قالوا: يُسَنَّ أن يمسحَ معها ما ظهر من الرَّأس؛ لأنَّه سيظهر قليلٌ من النَّاصية ومن الخلف غالباً؛ فيجب المسح عليها، ويستحب المسح على ما ظَهَرَ.
قوله: "وعلى خُمُر نساءٍ" أي: ويجوزُ المسحُ على خُمُرِ نساءٍ. خُمُرِ: جمع خِمَار، وهو مأخوذٌ من الخُمْرة، وهو ما يُغطَّى به الشيءُ. فخِمَار المرأة: ما تُغطِّي به رأسها.
واختلف العلماء في جواز مسح المرأة على خمارها. فقال بعضهم: إنه لا يجزئ . وقال آخرون بالجواز. وعلى كُلِّ حالٍ إذا كان هناك مشقَّة إما لبرودة الجوِّ، أو لمشقَّة النَّزع واللَّفِّ مرَّة أخرى، فالتَّسامح في مثل هذا لا بأس به، وإلا فالأَوْلى ألاَّ تمسح ولم ترد نصوصٌ صحيحة في هذا الباب.
ولو كان الرَّأس ملبَّداً بحنَّاء، أو صمغ، أو عسل، أو نحو ذلك فيجوز المسح. وعلى هذا؛ فلو لبَّدت المرأة رأسها بالحِنَّاء جاز لها المسحُ عليه، ولا حاجة إلى أن تنقض رأسَها، وتَحُتُّ هذا الحنَّاء. وكذا لو شدَّت على رأسها حُليًّا وهو ما يُسمّى بالهامة، جاز لها المسحُ عليه؛ لأننا إذا جوَّزنا المسح على الخمار فهذا من باب أَوْلَى.
قوله: "مُدَارةٍ تحت حُلُوقِهن", هذا هو الشَّرط الثَّاني، فلا بُدَّ أن تكون مدارةً تحت الحلق، لا مطلقةً مرسلةً؛ لأن هذه لا يشقُّ نزعُها بخلافِ المُدارةِ.(1/54)
وهل يُشترطُ لها توقيت كتوقيت الخُفِّ؟ فيه خلاف. والمذهب أنَّه يُشترط، وقال بعض العلماء:لا يُشترط.وممن ذهب إلى هذا القول: الشَّوكاني في "نيل الأوطار"، وجماعة من أهل العلم.
قوله: "في حَدَثٍ أصغر", الحَدَث: وصفٌ قائمٌ بالبَدَن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشترط له الطَّهارة.
وهو قسمان:الأول: أكبر وهو ما أوجب الغسل. (و) الثاني: أصغر وهو ما أوجب الوُضُوء. ججفالعِمامةُ، والخُفُّ، والخِمارُ، إنما تُمسحُ في الحَدَث الأصغر دون الأكبر. فلو حصل على الإنسان جنابة مدَّةَ المسح فإنه لا يمسح، بل يجب عليه الغُسلُ؛ لأنَّ الحدث الأكبر ليس فيه شيء ممسوح، لا أصلي ولا فرعي، إلا الجبيرة كما يأتي.
قوله: "وجبيرة", أي: ويجوز المسحُ على جبيرةٍ، والجبيرة: هي أعوادٌ توضعُ على الكسرِ ثم يُرْبَطُ عليها ليلتئمَ. والآن بدلها الجبسُ.
قوله:"لم تتجاوز قَدْرَ الحاجة", هذا أحدُ الشُّروطِ. وتتجاوز: أي تتعدَّى. والحاجة: هي الكسر، وكلُّ ما قَرُبَ منه مما يُحتاجُ إليه في شدِّها. فإذا أمكن أن نجعل طول العيدان شبراً، فإنَّنا لا نجعلُها شبراً وزيادة، لعدم الحاجة إلى هذا الزَّائد. وكذا إذا احتجنا إلى أربطةٍ غليظة استعملناها، وإلا استعملنا أربطةً دقيقة. وإذا كان الكسر في الأصبع واحتجنا أن نربط كلَّ الرَّاحة لتستريحَ اليدُ جاز ذلك لوجود الحاجة. فإن تجاوزت قَدْرَ الحاجة، لم يُمسح عليها، لكن إن أمكن نزعُها بلا ضرر نُزِعَ ما تجاوز قدرَ الحاجةِ، فإنْ لم يُمكنْ فقيل: يمسح على ما كان على قدر الحاجةِ ويتَيمَّم عن الزَّائد. والرَّاجحُ : أنه يمسحُ على الجميعِ بلا تيمُّم؛ لأنَّه لما كان يتضرَّرُ بنزع الزَّائدِ صار الجميع بمنزلةِ الجَبيرة.(1/55)
جقوله: "ولو في أكبر", "لو": لرفع التَّوهُّمِ، لأنه في العِمَامة والخِمَار والخُفَّين قال: "في حدث أصغر" ولو لم يقل هنا "ولو في أكبر" لتوهَّمَ متوهِّمٌ أن المسحَ عليها في الحدث الأصغر فقط مع أنَّه يجوز المسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر ، وهذا ما عليه جمهور العلماء. وقال بعضُ العلماء ـ كابن حزم ـ لا يمسحُ على الجبيرة, واختلف القائلون بعدم جواز المسح. فقال بعضهم: إنه يسقطُ الغُسْل إلى بدل، وهو التيمُّم بأن يَغْسِلَ أعضاءَ الطَّهارة ِويتيمَّمَ عن الموضع الذي فيه الجبيرة. وقال آخرون: إنه لا يتيمَّمُ، ولا يمسحُ، وهذا أضعفُ الأقوال . (و) أقرب هذه الأقوال: جواز المسح عليها.
وهل يُجمعُ بين المسحِ والتيمُّم ؟ قال بعض العلماء : يجبُ الجمعُ بينهما احتياطاً. والصَّحيح: أنَّه لا يجب الجمعُ بينهما. قال العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ: إن الجُرحَ ونحوَه إما أن يكون مكشوفاً، أو مستوراً. فإن كان مكشوفاً فالواجبُ غسْلُه بالماء، فإن تعذَّر فالمسحُ ، فإن تعذَّر المسحُ فالتيمُّمُ، وهذا على الترتيب. وإن كان مستوراً بما يسوغُ ستره به؛ فليس فيه إلا المسحُ فقط، فإن أضره المسحُ مع كونه مستوراً، فيعدل إلى التيمُّم، كما لو كان مكشوفاً، هذا ما ذكره الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في هذه المسألة.
قوله: "إلى حَلِّها", أي: إزالتها، فيمسحُ على الجبيرة إلى حَلِّها إمَّا ببرء ما تحتها، وإمَّا لسبب آخر. فإذا برئ الجرحُ وجب إزالتها؛ لأن السببَ الذي جاز من أجله وضعُ الجبيرة والمسحُ عليها زال، وإذا زال السبب انتفى المُسبَّب.
قوله: "إذا لَبِسَ ذلك" المشارُ إليه الأنواع الأربعة: الخُفُّ، والعِمامةُ، والخِمارُ، والجبيرةُ.(1/56)
قوله: "بعد كمال الطَّهارة" لم يقلْ: بعد الطَّهارةِ حتى لا يتجوَّز متجوِّزٌ، فيقول: بعد الطَّهارة أي: بعد أكثرها. فلو أنَّ رَجلاً عليه جنابةٌ وغسل رجليه، ولبس الخُفَّين، ثم أكمل الغسل لم يجزْ؛ لعدم اكتمال الطَّهارة. صحيحٌ أن الرِّجْلين طهُرتا؛ لأن الغسل من الجنابة لا ترتيب فيه، لكن لم تكتمل الطَّهارة. ولو توضَّأَ رَجلٌ ثم غسل رِجلَه اليُمنى، فأدخلها الخُفَّ، ثم غسل اليُسرى؛ فالمشهورُ من المذهب: عدمُ الجواز، واختار شيخ الإسلام: أنه يجوز إذا طَهَّر اليُمنى أن يلبسَ الخفَّ، ثم يطهِّر اليسرى، ثم يلبس الخُفَّ . وعلى المذهب: لو أن رجلاً فعل هذا، نقول له: اخلع اليمنى ثم البسها؛ لأنَّك إذا لبستها بعد خلعها لبستها بعد كمال الطَّهارة . وهذا ما دام هو الأحوط فسلوكه أَوْلى، ولكن لا نجسُر على رَجُلٍ غسلَ رِجْلَه اليمنى ثم أدخلها الخفَّ، ثم غسل اليسرى ثم أدخلها الخُفَّ أن نقولَ له: أعدْ صلاتك ووضوءك. لكن نأمر من لم يفعل ألا يفعل احتياطاً.
وأما اشتراط كمال الطَّهارة في الجبيرة، فضعيفٌ. وعدم الاشتراط هو اختيار شيخ الإسلام، ورواية قويَّةٌ عن أحمد اختارها كثيرٌ من الأصحاب. ويكون هذا من الفروق بين الجبيرة والخُفِّ.
ومن الفروق أيضاً بين الجبيرة وبقيَّة الممسوحات :
1ـ أن الجبيرة لا تختصُّ بعضوٍ معيَّن، والخُفُّ يختصُّ بالرِّجْلِ، والعِمَامة والخِمَار يختصَّانِ بالرَّأسِ.
2ـ أن المسحَ على الجبيرة جائزٌ في الحَدَثين، وباقي الممسوحات لا يجوز إلا في الحدث الأصغر.
ج3ـ أن المسح على الجبيرة غيرُ مؤقَّت، وباقي الممسوحات مؤقّتةٌ، وسبقَ الخلافُ في العِمَامة.
ج4ـ أنَّ الجبيرةَ لا تُشترَطُ لها الطَّهارةُ ـ على القول الرَّاجح ـ وبقيَّةُ الممسوحات لا تُلبسُ إلا على طهارة، على خلاف بين أهلِ العلمِ في اشتراطِ الطهارة بالنسبة للعِمَامة والخِمارِ.(1/57)
جقوله: "ومن مسحَ في سَفَر، ثم أقام", من مَسَحَ في سَفَرٍ ثم أقام، فإنَّه يُتمُّ مسحَ مقيم إن بقيَ من المدَّة شيءٌ، وإن انتهت المدَّةُ خَلَعَ. مثاله: مسافرٌ أقبلَ على بلده وحان وقتُ الصَّلاةِ، فمسحَ ثم وصل إلى البلد، فإنَّه يُتمُّ مسحَ مقيمٍ؛ لأن المسحَ ثلاثة أيَّام لمن كان مسافراً والآن انقطع السَّفرُ، فكما أنَّه لا يجوزُ له قَصْرُ الصَّلاة لمَّا وصلَ إلى بلده، فكذا لا يجوز له أن يتمَّ مَسْحَ مسافرٍ. فإن كان مضى على مسحه يومٌ وليلة، ثم وصلَ بلدَه فإنه يخلعُ، وإن مضى يومان خَلَعَ، وإن مضى يومٌ بقي له ليلة.
قوله: "أو عَكَسَ", أي: مسح في إقامة ثم سافر، فإنه يتمَّ مسح مقيم تغليباً لجانب الحظر احتياطاً. مثاله: مسح يوماً وهو مقيم، ثم سافر، فإنه يبقى عليه ليلة، وما بعد الليلة اجتمع فيه مبيحٌ وحاظرٌ، فالسَّفَر يبيحه والحَضَر يمنعه، فيُغَلَّبُ جانبُ الحَظْر احتياطاً؛ لأنك إذا خلعت وغسلت قدميك فلا شُبهة في عبادتك، وإن مسحت ففي عبادتك شُبهة، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "دَعْ ما يَريْبُك إلى' ما لا يَرِيْبُك". والرِّواية الثانية عن أحمد: أنه يُتِمُّ مسح مسافر؛ لأنَّه وُجِدَ السَّببُ الذي يستبيح به هذه المدَّة، قبل أن تنتهي مُدَّة الإقامة، أما لو انتهت مُدَّةُ الإقامة كأن يتمَّ له يومٌ وليلة؛ ثم يسافر بعد ذلك قبل أن يمسح؛ ففي هذه الحال يجب عليه أن يخلعَ. وهذه الرِّواية قيل: إن أحمد ـ رحمه الله ـ رجع إليها، وهذه رواية قويَّة.
مسألة : إذا دخل عليه الوقت ثم سافر، هل يُصلِّي صلاة مسافر أو مقيم؟ المذهب: يُصلِّي صلاة مقيم. والصَّحيح: أنه يُصلِّي صلاة مسافر.(1/58)
قوله: "أو شَكَّ في ابتدائه, فمسح مقيم.", يعني: هل مَسَحَ وهو مسافرٌ أو مسحَ وهو مقيمٌ؟ فإنه يُتمُّ مسح مقيم احتياطاً، وهو المذهب . والصَّحيح في هذه المسائل الثلاث: أنَّه إذا مسح مسافراً ثم أقام فإنه يتمُّ مسح مقيم، وإذا مسح مقيماً ثم سافر أوشَكَّ في ابتداء مسحه فإنه يُتمُّ مسح مسافر، ما لم تنته مُدَّة الحضر قبل سفره، فإن انتهت فلا يمكن أن يمسح.
جقوله: "وإن أحْدَثَ ثم سافر قبل مَسْحِهِ فَمَسْحَ مسافرٍ", أي: أحدث وهو مقيمٌ، ثم سافر قبل أن يمسحَ، فإنَّه يمسحُ مسحَ مسافرٍ؛ لأنَّه لم يبتدئ المسحَ في الحضر، وإنَّما كان ابتداء مسحه في السَّفر.
وعلى هذا يتبيَّن لنا رُجحان القول الذي اخترناه من قبل: بأنَّ ابتداءَ مُدَّة المسحِ من المسح لا من الحَدَث، وَهُمْ هُنَا قد وافقوا على أنَّ الحُكم معلَّقٌ بالمسح لا بالحَدَث، ويُلزمُ الأصحاب ـ رحمهم الله ـ أن يقولوا بالقول الرَّاجح؛ أو يطردوا القاعدة، ويجعلوا الحكم منوطاً بالحَدَث، ويقولوا: إذا أحدثَ ثم سافر، ومسحَ في السَّفر، فيلزمُه أن يمسحَ مسحَ مقيمٍ؛ وإلا حصلَ التَّناقض.
قوله: "ولا يَمْسَحُ قَلانس", القلانس: جمع قَلَنْسُوَة، نوع من اللباس الذي يُوضع على الرَّأس، وهي عبارة عن طاقيَّة كبيرة، فمثل هذا النوع لا يجوزُ المسح عليه. وقال بعض الأصحاب: يمسحُ على القَلانس، إذا كانت مثل العِمَامة يشقُّ نزعُها، أمَّا ما لا يشق ُّنزعُه كالطاقيَّة المعروفة فلا يمسح عليها. ففرَّقَ بين ما يشقُّ نزعه وما لا يشقُّ. وهذا القول قويٌّ؛ لأنَّ الشَّارع لا يفرِّق بين متماثلين كما أنه لا يجمع بين متفرقين؛ لأن الشَّرع من حكيمٍ عليم، والعِبْرة في الأمور بمعانيها، لا بصورها. وما دام أن الشَّرع قد أجاز المسحَ على العِمَامة، فكلُّ ما كان مثلها في مشقَّة النَّزع فإنه يُعطى حكمُها.(1/59)
قوله: "ولا لِفَافة", أي: في القَدَم، فلا يمسح الإنسان لِفَافة لفَّها على قدمه؛ لأنَّها ليست بخُفٍّ فلا يشملُها حكمُه.
وكان النَّاس في زمنٍ مضى في فاقةٍ وإعواز، لا يجدون خُفًّا، فيأخذ الإنسانُ خِرقة ويلفُها على رجله ثم يربطُها. واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ جوازُ المسح على اللِّفافةِ، وهو الصَّحيحُ.
قوله: "ولا ما يسقط من القَدَم", يعني: ولا يمسح ما يسقط من القَدَم، وهذا بناء ًعلى أنه يُشترط لجواز المسح على الخُفِّ ثبوتُه بنفسه، أو بنعلين إلى خلعهما. ( وهذا هو المذهب, والصحيح : جواز ذلك . وهذا مبني على ماسبق من اشتراط أن يكون الخُفُّ ساتراً للمفروض , والصحيح : أنه لا يشترط ذلك ) .
قوله: "فإن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قبل الحَدَث فالحُكم للفوقاني", وهذا يقع كثيراً كالشُّراب والكنادر، فهذا خُفٌّ على جَورب. ولا يجوز المسح عليهما إن كانا مَخْرُوقين على المذهب، ولو سَتَرَا؛ لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما لم يجز المسح عليه، فلا يمسح عليهما. مثاله: لو لَبِسَ خُفَّين أحدُهما مخروق من فوق، والآخر مخروق من أسفل، فالسَّتر الآن حاصل، لكن لو انفرد كلُّ واحد لم يجز المسحُ عليه فلا يجوز المسح عليهما. ولو كانا سليمين جاز المسحُ عليهما، لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما جاز المسح عليه. والصَّحيح : جواز المسح عليهما مطلقاً، بناءً على أنه لا يُشترط سترُ محلِّ الفرض ما دام اسم الخُفِّ باقياً.
جوإذا لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ على وجه يصحُّ معه المسحُ، فإن كان قبل الحدث فالحكم للفوقاني، وإن كان بعد الحدث فالحكم للتحتاني، فلو لَبِسَ خفًّا ثم أحدث، ثم لبس خُفًّا آخر فالحكم للتحتاني، فلا يجوزُ أن يمسح على الأعلى.(1/60)
فإن لَبِسَ الأعلى بعد أن أحدث، ومسح الأسفل فالحكم للأسفل، كما لو لبس َخُفًّا ثم أحدث، ثم مسح عليه، ثم لبس خفًّا آخر فوق الأوَّل وهو على طهارةِ مَسْحٍ عند لبسه للثاني، فالمذهب أنَّ الحكم للتَّحتاني؛ لأنَّه لبس الثاني بعد الحَدَث. وقال بعض العلماء: إذا لبس الثَّاني على طهارة؛ جاز له أن يمسح عليه؛ لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "فإني أدخلتهما طاهرتين"وهو شامل لطهارتهما بالغسل والمسح، وهذا قول قويٌّ كما ترى. ويؤيِّدُه : أنَّ الأصحاب ـ رحمهم الله ـ نَصُّوا على أن المسح على الخُفَّين رافع للحدث، فيكون قد لَبِسَ الثَّاني على طهارة تامَّة فلماذا لا يمسح؟ أما لو لَبِسَ الثَّاني وهو محدثٌ فإنه لا يمسحُ؛ لأنه لبسه على غير طهارة.
وقوله: "فالحكم للفوقاني" هذا لبيان الجواز فإنه يجوز أن يمسحَ على التَّحتاني حتى ولو كان الحكم للفوقاني.(1/61)
وإذا كان في الحال التي يمسح فيها الأعلى؛ فَخَلَعه بعد مسحه؛ فإنه لا يمسح التَّحتاني. هذا هو المذهب. والقول الثَّاني: يجوز جعلاً للخُفَّين كالظِّهارة والبِطَانة، وذلك فيما لو كان هناك خُفٌّ مكوَّنٌ من طبقتين العُليا تُسمَّى' الظِّهارة والسُّفلى تُسمَّى' البِطَانة، فلو فرضنا في مثل هذا الخُفِّ أنه تمزَّق من الظِّهارة بعد المسح عليه، وهو الوجه الأعلى فإنه يمسح على البِطَانة، وهي الوجه الأسفل حتى على المذهب. فالذين يقولون بجواز المسح على الخُفِّ الأسفل بعد خلع الخُفِّ الأعلى بعد الحدث قالوا: إنما هو بمنزلة الظِّهارة والبطانة، فهو بمنزلة الخُفِّ الواحد. وهذا القول أيسر للنَّاس؛ لأن كثيراً من الناس يلبس الخُفَّين على الجورب ويمسح عليهما، فإذا أراد النوم خلعهما فعلى المذهب لا يمسح على الجورب بعد خلع الخُفَّين؛ لأنَّ زمن المسح ينتهي بخلع الممسوح. وعلى القول الثَّاني: يجوز له أن يمسحَ على الجورب. فإذا مسح ولبس خُفَّيه جاز له أن يمسح عليه مرَّة ثانية؛ لأنه لبسهما على طهارة، ولا شَكَّ أنَّ هذا أيسر للنَّاس؛ والفتوى به حسنة، ولا سيَّما إذا كان قد صدر من المستفتي ما قبل ذلك فيُفتى بما هو أحوط.
قوله: "ويمسحُ أكثرَ العِمَامة", هذا بيان لوضع المسح وكيفيته في الممسوحات، ففي العِمَامة لا بُدَّ أن يكون المسح شاملاً لأكثر العِمَامة، فلو مسح جُزءاً منها لم يصحَّ. وإن مسحَ الكُلَّ فلا حرج، ويستحبُّ إذا كانت النَّاصيةُ بادية أن يمسحها مع العِمَامة.
قوله: "وظاهر قَدَم الخُفِّ" هذا بيان لمسح الخُفَّين. وقوله "ظاهر" بالجرِّ يعني: ويمسحُ أكثر ظاهر القدم؛ لأن المسح مختصٌّ بالظَّاهر.
قوله: "من أصابعه إلى ساقه", بيَّن المؤلِّفُ كيفيَّة المسحِ: بأن يبتدئ من أصابعه أي أصابع رجله إلى ساقه .
قوله: "دون أسفله وعقبه", لأنهما ليسا من أعلى القدم، والمسح إنَّما ورد في الأعلى .(1/62)
وإذا كان الخُفُّ أكبر من القدم، فهل يمسحُ من طرف الخُفِّ أو طرف الأصابع؟ إن نظرنا إلى الظَّاهر؛ فإنَّه إن مسح على خُفَّيه مسح من طرف الخُفِّ إلى ساقه؛ بقطع النَّظر عن كون الرِّجْل فيه صغيرة أو كبيرة، وإنْ نظرنا إلى المعنى قلنا : الخُفُّ هنا زائدٌ عن الحاجة والزَّائدُ لا حُكم له ، ويكون َالحكم مما يُحاذي الأصابع ، والعمل بالظَّاهر هو الأحوط .
تنبيه : لم يبينِّ المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ هل يمسح على الخُفَّين معاً أو يبدأ باليُمنى؛ فقيل : يمسح عليهما معاً , وقيل : يبدأ باليمنى . وهذا فيما إذا كان يمكنه أن يمسحَ بيديه جميعاً، أما إذا كان لا يمكنه، مثلَ أن تكون إحدى يديه مقطوعة أو مشلولة فإنه يبدأ باليمنى.
قوله: "وعلى جميع الجبيرة", أي: يمسح على جميع الجبيرة.
ولو غسل الممسوح بدل المسح: فقال بعض أهل العلم: لا يجزئ. وقال بعض العلماء: يجزئ الغسلُ. وتوسَّط بعضُهم فقال: يجزئ الغسلُ إن أَمَرَّ يده عليها؛ لأنَّ إمرار اليد جعل الغسل مسحاً، وهذا أحوطُ؛ لكن الاقتصار على المسح أفضل وأَوْلى.
قوله: "ومتى ظهر بعضُ محلِّ الفرض بعد الحدث ", فَرْضُ الرِّجْلِ أن تُغسَلَ إلى الكعبين، فإذا ظهر من القدم بعضُ محلِّ الفرض كالكعب مثلاً، وكذا لو أن الجورب تمزَّق وظهر طرفُ الإبهام، أو بعض العَقِبِ، أو أن العِمَامة ارتفعت عمّا جرت به العادة فإنه يلزمه أن يستأنفَ الطَّهارة، ويغسل رِجليْه، ويمسحَ على رأسه.(1/63)
مسألة: إذا خلع الخُفَّين ونحوهما هل يلزمُه استئناف الطَّهارة؟ اختُلِفَ في هذه المسألة على أربعة أقوال : القول الأول: ما ذهب إليه المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ أنه يلزمه استئناف الطَّهارة، حتى ولو كان ظهورها بعد الوُضُوء بقليل وقبل جفاف الأعضاء، فإنه يجبُ عليه الوُضُوء, وهذا هو المذهب.(و) القول الثَّاني: أنه إذا خلع قبل أن تَجِفَّ الأعضاء أجزأه أن يغسل قدميه فقط، (و) القول الثَّالث: أن يلزمه أن يغسلَ قدميه فقط، ولو جفَّت الأعضاءُ قبل ذلك، وهذا مبنيٌّ على عدم اشتراط المولاة في الوُضُوء.(و) القولُ الرَّابعُ: ـ وهو اختيار شيخ الإسلام ـ أن الطَّهارة لا تبطل سواء فاتت الموالاة أم لم تَفُتْ، حتى يوجد ناقضٌ من نواقض الوُضُوء المعروفة، لكن لا يعيده في هذه الحال ليستأنف المسح عليه؛ لأنَّه لو قيل بذلك لم يكن لتوقيت المسح فائدة؛ إذ كلُّ مَنْ أراد استمرار المسح خلع الخُفَّ، ثم لَبسه،ثم استأنف المدَّة. وهذا القول هو الصَّحيحُ، ويؤيِّده من القياس: أنَّه لو كان على رَجُلٍ شَعْرٌ كثيرٌ، ثم مسح على شعره؛ بحيث لا يصل إلى باطن رأسه شيء من البلل، ثم حلق شعره بعد الوُضُوء فطهارتُه لا تنتقض.(1/64)
قوله: "أو تمَّت مدَّتُه استأنف الطَّهارة", يعني: إذا تمَّت المدَّة، ولو كان على طهارة، فإنه يجب عليه إذا أراد أن يُصلِّيَ ـ مثلاً ـ أن يستأنفَ الطَّهارة. مثاله: إذا مَسَحَ يوم الثلاثاء الساعة الثانية عشرة، فإذا صارت الساعة الثانية عشرة من يوم الأربعاء انتهت المدَّة فبطل الوُضُوء، فعليه أن يستأنفَ الطَّهارة، فيتوضَّأ وُضُوءاً كاملاً. هكذا قرَّر المؤلِّفُ رحمه الله. ولا دليل على ذلك من كتاب الله تعالى، ولا من سُنَّة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولا من إجماع أهل العلم. والنبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقّتَ مدَّة المسح، ليُعرَفَ بذلكُ انتهاء مدَّة المسح، لا انتهاء الطَّهارة. فالصَّحيحُ : أنَّه إذا تَمَّت المدَّةُ، والإنسان على طهارة، فلا تبطل. وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله .
وكذلك ـ على المذهب ـ لو بريء ما تحت الجبيرة، لزمه أن يستأنف الطَّهارة إذا كانت في أعضاء الوُضُوء.
وإذا كانت في أعضاء الغسل، كما لو اغتسل من جنابة ومسح عليها لزمه أن يغسل ما تحتها، ولا يلزمه الغسل كاملاً، لأن الموالاة على المذهب لا تُشترط في الغسل.
وكذلك لو انحلَّت الجبيرةُ استأنفَ الطَّهارةَ في الوُضُوءِ إذا كانت في أحد أعضاء الوُضُوء. والصَّحيح كما سبق: أنه لا تبطل الطَّهارةُ لبرء ما تحتها، أو انتقاضها، ويعيد شدَّها في الحال، أو متى شاء؛ لأن الجبيرة ـ على القول الرَّاجح ـ لا يُشترط لوضعها الطَّهارةُ كما سبق .
بابُ نَواقِضِ الوُضُوءِ
نواقض الوُضُوء: مفسداتُه، أي: التي إذا طرأت عليه أفسدته.
وقوله: "ينقض ما خرج من سبيل", قوله:"من سبيل" مطلق يتناول القُبُل، والدُّبُر، وسُمِّيَ "سبيلاً"، لأنَّه طريق يخرج منه الخارج. وقوله: "ما خرج" عام يشمل المعتاد وغيرالمعتاد؛ ويشمل الطَّاهر والنَّجس، فالمعتاد كالبول، والغائط، والرِّيح من الدُّبر, وغير المعتاد: كالرِّيح من القُبُل.(1/65)
واختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فيما إذا خرجت الرِّيحُ من القُبُل؟فقال بعضهم: تنقض وهو المذهب. وقال آخرون: لا تنقض. وهذه الرِّيح تخرج أحياناً من فُروج النساء، ولا أظنُّها تخرج من الرِّجَال، اللهم إلا نادراً جداً.
وتنقضُ الحصاةُ إذا خرجت من القُبُل، أو الدُّبُر؛ لأنه قد يُصابُ بحصوة في الكِلى، ثم تنزلُ حتى تخرجَ من ذكره بدون بول. ولو ابتلع خرزة، فخرجت من دبره، فإنه ينتقض وضوءُه لدخوله في قوله: "ينقض ما خرج من سبيل". ويشمل الطَّاهر: كالمنيِّ. والنَّجس ما عداه من بولٍ، ومذيٍ، ووَدْيٍ، ودَمٍ. وهذا هو النَّاقض الأوَّل، وهو ثابت بالنَّصِّ، والإجماع، إلا ما لم يكن معتاداً، ففيه الخلاف .
قوله: "وخارج من بقية البدن إن كان بولاً، أو غائطاً", هذا هو النَّاقض الثَّاني من نواقض الوُضُوء. وهو معطوف على "ما" أي: وينقضُ خارجٌ من بقيَّة البَدن، إن كان بولاً، أو غائطاً، وهذا ممكن ولا سيَّما في العصور المتأخِّرة، كأن يُجرى للإنسان عمليَّةٌ جراحيَّةٌ حتى يخرج الخارج من جهة أخرى. فإذا خرج بول، أو غائط من أيِّ مكان فهو ناقض، قلَّ أو كَثُرَ. وقال بعض أهل العلم: إن كان المخرج من فوق المعدة فهو كالقيء، وإن كان من تحتها فهو كالغائط. وهذا اختيار ابن عقيل رحمه الله. وهذا قولٌ جيد، بدليل: أنه إذا تقيَّأ من المعدة، فإنه لا ينتقض وضوءُه على القول الرَّاجح، أو ينتقض إن كان كثيراً على المشهور من المذهب. ويُستثنى مما سبق مَنْ حَدَثُه دائمٌ، فإنَّه لا ينتقضُ وضوءُه بخروجه؛ كَمَنْ به سلسُ بول، أو ريح، أو غائط، وله حال خاصَّةٌ في التطهُّر تأتي إن شاء الله .(1/66)
جوظاهر قوله: "إن كان بولاً، أو غائطاً" أن الرِّيح لا تنقض إذا خرجت من هذا المكان الذي فُتِحَ عوضاً عن المخرج، ولو كانت ذات رائحة كريهة، هذا ما مشى عليه المؤلِّف، وهو المذهب. وقال بعضُ العلماء: إنهاتنقضُ الوُضُوءَ، لأن المخرج إذا انسدَّ وانفتح غيره كان له حكمُ الفَرج في الخارج، لا في المسِّ، لأنَّ مسَّه لا ينقض الوُضُوء كما سيأتي إن شاء الله .
قوله: "أو كثيراً نجساً غيرَهُما", أي: أو كان كثيراً نجساً غير البول والغائط ، فقيَّد المؤلِّفُ غير البول ، والغائط بقيدين. الأول: كونُه كثيراً. (و) الثاني: أن يكون نجساً. ولم يقيِّد البولَ والغائط بالكثير النَّجس؛ لأن كليهما نجس، ولأنَّ قليلَهُما وكثيرَهُما ينقض الوُضُوء.
جوقوله: "أو كثيراً" أطلق المؤلِّف الكثير، والقاعدة المعروفة: أنَّ ما أتى، ولم يُحدَّدْ بالشَّرع فمرجعُه إلى العُرف، وقال بعض العلماء: إن المعتبر عند كلِّ أحد بحسبه، فكلُّ من رأى أنَّه كثيرٌ صار كثيراً، وكلُّ من رأى أنه قليلٌ صار قليلاً. وهذا القول فيه نظر؛ لأنَّ من النَّاس من عنده وِسواس، فالنُّقطَةُ الواحدة عنده كثيرة، ومنهم من عنده تهاون فإذا خرج منه دم كثير قال: هذا قليل. والصَّحيح الأول: أن المعتبر ما اعتبره أوساط النَّاس، فما اعتبروه كثيراً فهو كثير، وما اعتبروه قليلاً فهو قليل.(1/67)
وقوله: "نجساً غيرَهُما" نجساً: احترازاً من الطَّاهر، فإذا خرج من بقية البدن شيء طاهر، ولو كَثُرَ فإنه غيرُ ناقض كالعَرَق، واللُّعاب ودمع العين. وقوله: "غيرَهُما" أي : غير البول والغائط، فدخل في هذا الدَّمُ، والقيءُ، ودَمُ الجروح، وماءُ الجروحِ وكلُّ ما يمكن أن يخرج مما ليس بطاهر. فالمشهور من المذهب أنَّه إذا كان كثيراً إما عُرفاً، أو كل إنسان بحسب نفسه ـ على حسب الخلاف السابق ـ أنَّه ينقض الوُضُوء، وإن كان قليلاً لم ينقض. وذهب الشافعيُّ والفقهاء ُالسَّبعةُ: إلى أنَّ الخارج من غير السَّبيلين لا ينقض الوُضُوء قلَّ أو كثُر إلا البول والغائط. وهذا هو القول الثاني في المذهب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو القول الرَّاجح.
قوله: "وزوالُ العقلِ" هذا هو النَّاقض الثَّالث من نواقض الوُضُوء وزوال العقل على نوعين:
الأول: زواله بالكُلِّيَّة، وهو رفع العقل، وذلك بالجنون.
الثاني: تغطيته بسبب يوجب ذلك لمدَّة معيَّنة كالنَّوم، والإغماء، والسُّكر، وما أشبه ذلك.
وزوال العقل بالجنون والإغماء والسُّكْرِ هو في الحقيقة فَقْدٌ له، وعلى هذا فيسيرُها وكثيرُها ناقضٌ، فلو صُرِعَ ثم استيقظَ، أو سَكِرَ، أو أُغمي عليه انتقضَ وضوءُه سواءٌ طال الزَّمنُ أم قَصُرَ.(1/68)
قوله: "إلا يسيرَ نوم من قاعدٍ وقائمٍ", اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في النَّوم هل هو ناقضٌ، أو مظنَّة النَّقض، على أقوالٍ منها: أن النَّوم ناقضٌ مطلقاً يسيرُه وكثيره، وعلى أيِّ صفة كانوهذا القول الأول .(و) القول الثَّاني: أنَّ النَّوم ليس بناقضٍ مطلقاً. (و) القول الثَّالث ـ وهو المذهب ـ: أن النَّوم ليس بِحَدَثٍ ، ولكنه مظنَّة الحدث، ولا يُعفى عن شيء منه إلا ما كان بعيداً فيه الحدث، ولهذا قال المؤلِّف: "إلا يسير نومٍ من قاعدٍ وقائم". (و) القول الرَّابع ـ وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو الصَّحيح ـ: أنَّ النَّوم مظنَّة الحَدَث، فإذا نام بحيث لو انتقض وضوءُه أحسَّ بنفسه، فإن وضوءَه باقٍ، وإذا نام بحيث لو أحدث لم يحسَّ بنفسه فقد انتقض وضوءُه .
جقوله: "ومسُّ ذكر متَّصل", هذا هو النَّاقض الرَّابع من نواقض الوُضُوء، والمسُّ لا بُدَّ أن يكون بدون حائلٍ؛ لأنَّه مع الحائل لا يُعَدُّ مسًّا.
وقوله: "ذكرٍ" أي: أن الذي ينقض الوُضُوءَ مسُّ الذَّكرِ نفسِه، لا ما حوله. وقوله: "متَّصلٍ" اشترط المؤلِّف أن يكون متَّصلاً احترازاً من المنفصل، فلو قُطِع ذكرُ إنسان في جناية، أو علاج، أو ما أشبه ذلك، وأخذه إنسان ليدفنه، فإن مسَّه لا ينقض الوُضُوء. وأيضاً: لابُدَّ أن يكون أصليًّا؛ احترازاً من الخُنثى. (و) قوله: "أو قُبُلٍ" القُبُل للمرأة، ويُشترَطُ أن يكونَ أصليًّا ليخرج بذلك قُبُل الخُنثى.
جقوله: "بظهر كفِّه أو بطنه", متعلِّق بـ "مسَّ" أي: لا بُدَّ أن يكون المسُّ بالكفِّ، سواء كان بحرفه، أو بطنه، أو ظهره. ونصَّ المؤلِّف على ظهر الكفِّ؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إنَّ المسَّ بظهر الكفِّ لا ينقض الوُضُوء.(1/69)
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في مسِّ الذَّكر والقُبُل هل ينقضُ الوُضُوءَ أم لا؟ على أقوال: الأول: وهو المذهب أنَّه ينقض الوُضُوءَ. (و) القول الثَّاني: أن مسَّ الذَّكَرِ لا ينقضُ الوضوءَ . (و) القول الثَّالث:أنَّه إنْ مسَّهُ بشهوة انتقض الوُضُوء وإلا فلا. (و) القول الرَّابع: وهو اختيار شيخ الإسلام أن الوُضُوء من مسِّ الذَّكَر مستحبٌ مطلقاً، ولو بشهوة .
والخلاصة: أن الإنسان إذا مسَّ ذكره استُحِبَّ له الوُضُوءَ مطلقاً، سواء بشهوة أم بغير شهوة، وإذا مسَّه لشهوة فالقول بالوجوب قويٌ جدًّا، لكنِّي لا أجزم به، والاحتياط : أن يتوضَّأ.
قوله: "ولمسُهُما من خُنْثَى مُشْكِل", أي: إذا مسَّ قُبُلَ الخُنثى وذَكَرَه انتقض وضوءُه؛ لأنه قد مسَّ فَرجاً أصليّاً إذ إنَّ أحدَهما أصليٌّ قطعاً.
قوله: "ولَمسُ ذَكَرٍ ذَكَرَه", أي: لَمسُ الذَّكرِ ذَكَرَ الخُنْثَى لشهوة.
جقوله: "أو أنثى قُبُلَه", أي: لَمْسُ الأُنثى قُبُلَ الخُنثَى لشهوة.
قوله: "لشهوة فيهما", أي: فيما إذا مسَّ الذَّكرُ ذكرَ الخُنثى، أو الأنثى قُبُلَهُ. مثاله: رجلٌ خُنثى، ورجلٌ صحيحٌ، هذا الصَّحيحُ مَسَّ ذَكَرَ الخُنثى لشهوةٍ فينتقضُ وضوءُه.
قوله: "ومسُّه امرأة بشهوة", هذا هو النَّاقض الخامس من نواقض الوُضُوء. والضَّمير في قوله: "ومسُّه" يعود على الرَّجُل، أي: مسُّ الرَّجل امرأة بشهوة؛ وظاهره العموم وأنه لا فرق بين الصغير والكبير،والعاقل والمجنون، والحرِّ والعبد. ولم يقيِّد المؤلِّف المسَّ بكونه بالكَفِّ فيكون عامًّا، فإذا مسَّها بأيِّ موضع من جسمه بشهوة انتقض وضُوءُه.(1/70)
وقوله: "امرأة" المرأة هي البالغة، ولكن البلوغ هنا ليس بشرط، لكن قيَّده بعضُ العلماء ببلوغ سبع سنين، سواءٌ من اللامس أم الملموس. وفيه نظر؛ لأن الغالب فيمن كان له سبع سنوات أنَّه لا يدري عن هذه الأمور شيئاً؛ ولهذا قيَّده بعضُ العلماء بمن يطأ مثله، ومن تُوطأ مثلها، أي: تشتهي. والذي يطأ مثله من الرجال هو من له عشر سنوات، والتي تُوطأ مثلُها من النِّساء هي من تم لها تسعُ سنوات، فعلى هذا يكون الحُكم معلَّقاً بمن هو محلُّ الشَّهوة ، وهذا أصحُّ . واختلف أهل العلم في هذا النَّاقض على أقوال: القول الأول ـ وهو المذهبُ ـ: أن مسَّ المرأة بشهوة ينقض الوُضُوء.(و) القول الثَّاني: أنه ينقضُ مطلقاً، ولو بغير شهوة، أو قصد. (و) القول الثَّالث: أنه لا ينقض مسُّ المرأة مطلقاً، ولو الفرج بالفرج، ولو بشهوة. ( وهذا القول هو ) الرَّاجح: إلا إذا خرج منه شيءٌ فيكون النَّقضُ بذلك الخارج.
قوله: "أو تمسُّه بها", ضمير المفعول في "تمسُّه" يعود على الرَّجل، أي: أو تمسُّ المرأة الرَّجلَ بشهوة، فينتقض وضوءُها.( وهذا هو المذهب. والراجح : أن وضوءها لا ينتقض ) .
قوله: "ومسُّ حلْقةِ دُبُرٍ", هذا من النواقض، ولا يحتاج إلى أن يُخَصَّ؛ لأنَّه داخل في عموم مسِّ الفَرْج ، وهذا فرعٌ من حكم مسِّ الذَّكر فليُرجعْ إليه لمعرفة الراجح في ذلك . وقوله: "حلْقة دُبُر" يخرج به ما لو مسَّ ما قَرُب منها كالصفحتين، وهما جانبا الدُّبُر، أو مسَّ العجيزة، أو الفخذ، أو الأنثيين، فلا ينتقض الوُضُوء.
قوله: "لا مسَّ شَعْرٍ", أي: لا ينقض مسٌّ شعرٍ ممن ينقضُ مسُّه كمس المرأة بشهوة على المذهب. مثاله: رجلٌ مسَّ شَعْر امرأته بشهوة، ولم يخرجْ منه شيءٌ، فإنَّه لا ينتقض وضوءه .(1/71)
قوله: "وظُفُر", يعني: لو مسَّ ظُفْر من ينقضُ الوُضُوءَ مسُّه لم ينقضْ وضوءه. مثاله:رجل مسَّ ظُفْر امرأته لشهوة فإنه لا ينتقض وضوءُه، سواء طال هذا الظُّفْر، أم قَصُر. وكذا السِّنُّ، فلو مسَّه بشهوة لا ينتقضُ وضوءُه.
قوله: "وأمْرَدٍ", أي: لا ينقضُ الوُضُوء مَسُّ الأمرد، وهو من طرّ شاربُه، أي: اخضَرَّ ولم تنبت لحيتُه؛ لأنه ليس محلاً للشهوة. وهذا القول ضعيف جدًّا، إذا قلنا بنقض الوُضُوء بمسِّ المرأة لشهوة؛ لأن من النَّاس ـ والعياذ بالله ـ من قَلَبَ اللهُ حِسَّه وفطرته فأصبح يشتهي الذُّكور دون النِّساء، بل أشدُّ. والصَّواب: أن مسَّ الأمرد كمسِّ الأُنثى سواء، حتى قال بعض العُلماء: إنَّ النَّظر إلى الأمرد حرامٌ مطلقاً كالنظر إلى المرأة فيجب عليه غَضُّ البصر. وقال شيخ الإسلام: لا تجوز الخلوةُ بالأمرد، ولو بقصد التَّعليم.
قوله: "ولا مع حائل", أي: ولا ينقض مسٌّ مع حائل؛ لأنَّ حقيقة المسِّ الملامسةُ بدون حائل.
قوله: "ولا ملموسٍ بدنُه" يعني : ولا ينتقضُ وضوءُ ملموسٍ بدنُه، فلو أن امرأة مسَّها رَجُلٌ بشهوةٍ، فلا ينتقض وضوءُها، وينتقض وضوءُ الرَّجُل.
قوله: "ولو وُجِدَ منه شهوة", أي: ولو وُجِدَ من الملموس بدنُه شهوة؛ٌ فإن وضوءَه لا ينتقضُ؛ وهذا غريبٌ: أنه لا ينتقضُ وضوءُ الملموس. مثاله: شابٌّ قَبَّلَ زوجته وهي شابَّةٌ بشهوة، وهي كذلك بشهوة فيجب عليه الوضوء، ولا يجب عليها مع أن العِلَّة واحدة. ولهذا كان القول الصَّحيح في هذه المسألة: أن الملموس إذا وُجِدَ منه شهوةٌ انتقض وضوءُه؛ على القول بأنَّ اللامس ينتقض وضوءُه، وهو القياس.(1/72)
قوله: "وينقضُ غَسْلُ ميِّتٍ", هذا هو النَّاقضُ السَّادسُ من نواقض الوضوء. والغَسل بالفتح: بمعنى التغسيل، وبالضم، المعنى الحاصل بالتغسيل، ومعنى: ينقض غَسلُ ميِّت: أي: تغسيل ميِّت، سواء غَسَل الميَّتَ كلَّه أو بعضَه. وقوله: "ميِّتٍ" يشمل الذكر والأنثى, والصغير والكبير, والحر والعبد, ولو من وراء حائل, وهذا الذي مشى عليه المؤلف هو المذهب, وهو من مفردات مذهب أحمد.(و) القول الثاني: أن غسل الميت لا ينقض الوضوء . وهذا مذهب الأئمة الثلاثة .
قوله: "وأكل الحم خاصة من الجزور", يعني وينتقض أكل اللحم خاصة من الجزور, هذا هو النَّاقضُ السابع من نواقض الوضوء, وهو من مفردات مذهب أحمد - رحمه الله -.
قوله: "وأكل الحم " يشمل النيء والمطبوخ.وخرج بقوله:"وأكلُ" ما لو مضغه ولم يبلعه, فإنه لا ينتقض وضوءُه . وخرج بكلمة "خاصة" ما عدا اللحم كالكرش, والكبد, والشحم, والكلية وما أشبه ذلك. لأن هذه الأشياء لا تدخل في اسم اللحم, الذي هو الهبر. وهذا هو المشهور من المذهب. والصحيح : أن أكل لحم الإبل ناقضٌ للوضوء مطلقاً, سواء ٌ كان هبراٌ أم غيره. ولا فرق بين الهبر وبقية الأجزاء. وهذا النَّاقضُ من نواقض الوضوء هو من مفردات مذهب أحمد - رحمه الله -.(و) القول الثاني: أنه لا ينقض الوضوء.(والراجح: أنه ينقض الوضوء). أما الوضوء من ألبان الإبل, فالصحيح : أنه مستحب وليس بواجب.
مسألة : الوُضُوء من مرقِ لحم الإبل. المذهب: أنه غير واجب، ولو ظهر طعمُ اللَّحم؛ لأنه لم يأكل لحماً. وفيه وجه للأصحاب: أنه يجب الوُضُوء؛ لوجود الطعم في المرق، كما لو طبخنا لحم خنزير، فإن مرقه حرام. وهذا تعليل قويٌّ جداً. فالأحوط: أن يتوضَّأ، أما إذا كان المرق في الطَّعام، ولم يظهر فيه أثره فإنه لا يضرُّ.(1/73)
قوله: "وكلُّ ما أوجب غُسْلاً أوجب وُضُوءا إلا الموتَ ", هذا هو النَّاقض الثَّامن من نواقض الوُضُوء وبه تمَّت النَّواقضُ. أي: وكلُّ الذي أوجب غسلاً أوجب وُضُوءاً إلا الموت. وهذا الضَّابط في النَّفس منه شيء لقوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا {المائدة: 6} فأوجب الله في الجنابة الغسل فقط، ولم يوجب علينا غسلَ الأعضاء الأربعة، فما أوجب غُسْلاً لم يوجب إلا الغُسْل، إلا إن دَلَّ إجماع على خلاف ذلك، أو دليل. ولهذا فالراجح: أن الجنب إذا نوى رفع الحدث كفى، ولا حاجة إلى أنَّ ينويَ رفع الحدث الأصغر. فالظاهَّر أن موجبات الغُسْل لا توجب إلا الغُسْل لعدم الدَّليل على إيجاب الوُضُوء.
قوله: "ومن تيقَّن الطَّهارة وشَكَّ في الحدث أَوْ بالعَكْسِ بَنَى على اليقينِ", يعني: إذا تيقَّن أنه طاهر، وشك في الحدث فإنه يبني على اليقين، وهذا عام في موجبات الغُسل، أو الوُضُوء. مثاله: رجل توضَّأ لصَلاة ِ المغرب، فلما أذَّن العِشَاء وقام ليُصلِّي شَكَّ هل انتقض وضوءُه أم لا؟ فالأصل عدم النَّقضِ فيبني على اليقين وهو أنه متوضِّيء.
وقوله: "أو بالعكس" يعني أن من تَيَقَّنَ الحدثَ وشكَّ في الطَّهارة، فالأصْل الحدث.
وهذه ـ أعني البناءَ على اليقين وطرح َالشَّكِّ ـ قاعدةٌ مهمَّة، دَلَّ عليها قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"إذا شَكَّ أحدكم في صلاته فليطرح الشَّكَّ وليَبْنِ على ما استيقن". ولها فروع كثيرة جدًّا في الطلاق والعقود وغيرهما من أبواب الفقه، فمتى أخذ بها الإنسان انحلَّت عنه إشكالات كثيرة، وزال عنه كثير من الوَساوس والشُّكوك، وهذا من بَرَكَةِ كلام النبي ِّصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وحكمه.(1/74)
قوله: "فإن تَيَقَّنَهُمَا وجهل السَّابق", أي: تيقَّن أنه مرَّ عليه طهارةٌ وحَدَثٌ تَيَقَّنَهُمَا جميعاً، ولكن لا يدري أيُّهما الأول، فيُقال له: ما حالُكَ قَبْلَ هذا الوقت الذي تبيَّن لك أنَّكَ أحدثت وتَطَهَّرْتَ فيه؟ فإن قال: محدث، قلنا: أنت الآن متطهِّر. وإن قال: متطهِّر، قلنا: أنت الآن محدث. مثاله: رجل متيقِّنٌ أنَّه على وُضُوء من صلاة الفجر إلى طلوع الشَّمس، وبعد طلوع الشمس بساعة أراد أن يُصلِّي الضُّحَى، فقال: أنا متيقِّن أنَّه من بعد طلوع الشَّمس إلى الآن حصل مِنِّي حَدَث ووُضُوء، ولا أدري أيُّهُمَا السَّابق. نقول: أنت الآن محدث. وإن قال: أنا متيقِّن أني بعد صلاة الفجر نَقَضْتُ الوُضُوءَ ، وبعد طلوع الشمس حَصَلَ مِنِّي حَدَثٌ ووُضُوء ، نقول : أنت الآن طاهر. وهذا هو المذهب. وقال بعض العُلماء: إنه يجب الوُضُوء مطلقاً. والقول بوجوب الوُضُوء أَحْوَط، لأنه مثلاً بعد طلوع الشمس متيقِّن أنه أَحْدَثَ وتَوَضَّأ، ولا يدري الأسبق منهما، وفيه احتمال أنه توضَّأ تجديداً ثم أحدث، فصار يجب عليه الوُضُوء الآن، وإذا كان هذا الاحتمال وارداً فلا يخرج من الشَّكِّ إلا بالوُضُوءِ. وهذا الوُضُوء إنْ كان هو الواجب فقد قام به، وإلا فهو سُنَّةٌ. والفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا قَوِيَ الشَّكُّ فإنه يُسَنُّ الوُضُوء؛ لأجل أن يُؤَدِّي الطَّهَارة بيقين.(1/75)
قوله: "ويحرم على المحدِث مسُّ المصحف", المصْحَفُ: ما كُتِبَ فيه القرآن سواء كان كاملاً، أم غير كامل، حتى ولو آية واحدة كُتِبَتْ في ورقة ولم يكن معها غيرها؛ فحكمها حكم المصحف. وكذا اللَّوح له حكم المصحف؛ إلا أن الفقهاء استثنوا بعض الحالات. وقوله :"المحدِث" أي: حدثاً أصغر أو أكبر, ( وتحريم مس المصحف على المحدث ) هو قول جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة. وقال داود الظَّاهري وبعض أهل العلم : لا يحرم على المُحْدِثِ أن يَمَسَّ المصحف. وكنت في هذه المسألة أميل إلى قول الظَّاهِريَّة. (و) الذي تَقَرَّرَ عندي أخيراً: أنَّه لا يجوز مَسُّ المصْحَفِ إلا بِوُضُوء.
مسألة: هل المحرَّمُ مَسُّ القرآنِ، أو مَسُّ المصحفِ الذي فيه القرآن؟ فيه وَجْهٌ للشَّافعية: أن المحرَّم مسُّ نَفْس الحروفِ دونَ الهوامِش، لأنَّ الهوامِش وَرَقٌ، وقال الحنابلة: يَحْرُمُ مَسُّ القرآن وما كُتِبَ فيه؛ إلا أنَّه يجوز للصَّغير أن يَمَسَّ لوحاً فيه قُرآن بِشَرْطِ ألاّ تقع يَدُهُ على الحروف. وهذا هو الأحوط؛ لأنه يَثْبُتُ تبعاً ما لا يَثْبُتُ استقلالاً.
مسألة: هل يَشْمُل هذا الحُكْم مَنْ دونَ البُلُوغ. قال بعض العلماء: لا يَشْمُل الصِّغارَ لأنَّهم غير مكلَّفين. وهل يلزم وَلِيُّهُ أنْ يأمره بذلك، أو لا يلزمه؟ الصَّحيح عند الشَّافعية: أنه لايلزمه الوُضُوء، ولا يَلزم وليَّه أن يُلزِمه به؛ لأنه غير مكلَّف. والمشهور عند الحنابلة: أنه لا يجوز للصَّغير أن يَمَسَّ القرآن بلا وُضُوء، وعلى وليِّه أن يُلزِمه به كما يلزمه بالوُضُوءِ للصَّلاة ، لأنه فعل تُشترط لحِلِّه الطَّهارة، فلا بُدَّ من إلزام وليِّه به.
واستثنوا "اللَّوح"، فيجوز للصَّغير أن يَمَسَّه ما لَمْ تقع يدُه على الحروف .(1/76)
وظاهِرُ كلام الفُقَهاء رحمهم الله: أنه لا يجوز مَسُّ "السُّبورة" الثَّابتة بلا وُضُوء إذا كُتِبَتْ فيها آية، لكن يجوز أن تَكتبَ القرآن بلا وُضُوء ما لم تمسَّها. وقد يُقال: إن هذا الظَّاهر غير مراد؛ لأنه يُفرَّق بين المصحف أو اللوح وبين السُّبُّورة الثَّابتة، بأنَّ المصحف أو اللوح يُنْقَل ويُحْمَل فيكون تابعاً للقرآن بِخِلاف السُّبورة الثابتة. وأما كُتُب التَّفسير فيجوز مَسُّها؛ لأنها تُعْتَبر تفسيراً، والآيات التي فيها أقلُّ من التَّفسير الذي فيها. أما إذا تساوى التَّفسير والقُرآن، فإنَّه إذا اجتمع مبيحُ وحاظٌر ولم يتميَّز أحدُهما بِرُجْحَانٍ، فإنه يُغلَّب جانب الحظر فيُعْطى الحُكْمُ للقرآن.
وإن كان التَّفسير أكثر ولو بقليل أُعْطِيَ حُكْمَ التَّفسير.
قوله: "والصَّلاة", أي : تَحْرُمُ الصَّلاة على المحدِثِ ، وذلك بالنَّصِّ من الكتاب والسُّنَّة والإجماع . وعلى هذا فالطهَّارة شَرْطٌ لصِحَّةِ الصَّلاة وجَوازِها، فلا يَحِلُّ لأَحَدٍ أن يُصَلِّيَ وهو مُحدِثٌ، سواء كان حَدثاً أصغر أو أكبر. فإن ْصلَّى وهو مُحْدِثٌ،فإنْ كان هذا استهزاءً منه؛فهو كافر لاستهزائه.وإنْ كان متهاوناً فقد اختلف العلماء رحمهم الله في تكفيره. فمذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ : أنه يَكْفُر, ومَذْهَبُ الأئمة الثَّلاثة: أنَّه لا يَكْفُر.وهذا أقرب. والصَّلاة هي التي بَيَّنَهَا الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تحريمها التَّكبير، وتحليلها التَّسليم، سواء كانت ذاتَ رُكوع وسُجود أم لا. فالفرائض الخَمْسُ صلاة، والجمعة، والعيدان، والاستسقاء، والكسوف، والجنازة صلاة، لأن الجنازة مُفتتحة بالتكبير، مُختتمة بالتَّسليم، فينطبق عليها التَّعريف الشَّرعي، فتكون داخلة في مُسَمَّى الصَّلاة.(1/77)
وقال بعض العلماء: إنَّ الصَّلاةَ هي التي فيها رُكُوع وسجود. وقال آخرون: إن الصَّلاة هي التي تكون رَكْعَتَيْن فأكثر، إلا الوِتْر فهو صلاة، ولو رَكْعَة. والأوَّل هو الأصحُّ.
وبناءً على هذا التَّعريف ننظر في سجدتَي التِّلاوة والشُّكر هل يكونان صلاة؟ فالمشهور من المَذْهَبِ أنهما صلاة تُفْتَتَحُ بالتكبير، وتُخْتَتَمُ بالتَّسليم، ولهذا يُشرع ُعندهم أن يُكبِّر إذا سجد وإذا رفع، ويُسلِّم. وبِنَاءً على هذا يَحْرُمُ على المحْدِثِ أن يَسْجُدَ للتِّلاوة أو الشُّكْر وهو غير طاهر. فالخِلاف في اشتراط الطَّهارة لهما مبنيٌّ على أنَّ سَجْدَتَي التِّلاوة والشُّكر هل هما صلاة أم لا؟ فإن قُلْنا: إنهما صلاة وَجَبَ لهما الطَّهارة ، وإن قلنا: إنهما غير صلاة لم تَجِبْ لهما الطهارة . والمتأمِّلُ للسُّنَّةِ يُدْرِك أنهما ليسا بصلاة . وحينئذ لا يَحْرُم على مَنْ كان مُحْدِثاً أن يَسْجُدَ للتِّلاوة أو الشُّكْرِ وهو على غَير طَهَارة، وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله . ولا رَيْبَ أنَّ الأفضل أن يتوضّأ .
قوله: "والطَّواف", أي: يَحْرُمَ على المُحْدِثِ الطَّوافُ بالبيتِ، سواء كان هذا الطَّواف نُسُكاً في حَجٍّ، أو عُمْرَةٍ أو تَطَوُّعاً، كما لو طَافَ في سَائِرِ الأيَّام ، وهذا قَول جمهورِ العلماء . وقال بعض العلماء: إنَّ الطَّوافَ لا تُشترطُ له الطَّهارة، ولا يَحْرُمُ على المحْدِثِ أنْ يَطوفَ، وإنَّما الطَّهارة فيه أَكْمَل. ولا شَكَّ أنَّ الأفضل : أن يَطُوفَ بطهارة بالإجماع، ولا أظنُّ أنَّ أحداً قال: إنَّ الطَّواف بطهارة وبغير طهارة سواء، لأنه من الذِّكْرِ، ،ولِفِعْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ .(1/78)
مسألة: إذا اضطُرَّت الحائض إلى الطَّواف. على القول بأنَّ الطَّهارة من الحيض شَرْط فإنها لا تطوف؛ لأنها لو طافت لم يصحَّ طوافها؛ لأنه شرط للصِّحَّة. وإن قلنا: لا تطوف لِتَحْريمِ المقَام عليها في المسجد الحرام، فإنها إذا اضْطُرَّت جَازَ لها المُكثُ، وإذا جاز المُكث جاز الطَّواف. ولهذا اخْتَلَفَ العلماء ُفي امرأةٍ حاضت ولم تَطُفْ للإفاضَةِ، وكانت في قافِلَةٍ ولن ينتظروها، فهذه القوافل التي لا يمكن أن تنتظر ولا يمكنُ للمرأة أنْ تَرْجِعَ إذا سافرت؛ كما لو كانت في أقصى الهند أو أمريكا، فحينئذ إما أن يُقَال: تكون مُحْصَرة فَتَتَحَلَّل بِدَمٍ، ولا يَتِمُّ حَجُّهَا؛ لأنها لمْ تَطُفْ. وهذا فيه صُعُوبَةٌ لأنها حينئذ لمْ تُؤَدِّ الفريضةَ. أو يقال: تذهب إلى بلدها وهي لمْ تَتَحَلَّل التَّحَلُّلَ الثَّاني، فلا يَحِلُّ لها أن تتزوَّج ولا يحلُّ لمزوَّجةٍ أن يَقْرَبَهَا زوجُها، وإنْ مات عنها أو طَلَّقَهَا لا يحلُّ لها أن تتزوَّج، لأنها ما زالت في إحرام، وهذا فيه مَشَقَّةٌ عظيمة. أو يقال: تَبْقَى في مكَّة وهذا غير ممكن. أو يُقال: تطوف للضَّرورة، وهذا اختيار ُشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ ، وهو الصَّواب، لكنْ يجبُ عليها أن تَتَحَفَّظَ حتى لا ينْزل الدَّمُ إلى المسجد فيلوِّثه.
باب الغسلِ
قوله: "ومُوجِبُهُ" بالكَسْرِ، أي: الشيء الذي يوجب الغُسْل، يقال: موجب بِكَسْرِ الجيم وفَتْحِهَا.
فبالكسر: هو الذي يُوجِبُ غيره. وبالفتح: هو الذي وَجَبَ بغيره، كما يقال: مُقْتضِي بكسر الضَّادِ: الذي يقتضي غيره، ومقتضَى بفتحها: الذي اقتضاه غيرُه.(1/79)
قوله: " ومُوجِبُهُ خروج المنيِّ دفقاً بلذَّةٍ ", هذا هو الموجِبُ الأوَّل , فإذا خرجَ مِنْ غيرِ لذَّةٍ مِنْ يقظانَ فإنَّه لا يُوْجِبُ الغُسْلَ على ما قاله المؤلِّفُ, وهو قول وجمهور أهل العلم, وهو الصَّحيح ، وذهب الشَّافعي رحمه الله: أنَّ خروج المنيِّ مُطلقاً مُوجِبٌ للغُسْلِ حتى ولو بدونِ شهْوَةٍ وبأيِّ سَبَبٍ خرج .
قوله: "لا بدونهما", الضَّميرُ يعودُ على الدَّفْقِ، واللَّذَّةِ.
قوله: "من غير نائم", أي: من اليَقْظَان، فإذا خَرَجَ مِنَ اليقظان بلا لِذَّةٍ، ولا دَفْقٍ، فإنه لا غُسْلَ عليه.
وعُلم منه: أنَّه إنْ خرجَ مِنْ نائم وَجَبَ الغُسْلُ مطلقاً، سواء كان على هذا الوصِف أم لمْ يكن، لأنَّ النَّائِم قد لا يُحِسُّ به، وهذا يَقَعُ كثيراً أنَّ الإنسان إذا استيقظ وجدَ الأثرَ، ولم يشعرْ باحتلامٍ. فإذا استيقظَ ووجد بَللاً فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يتيقَّنَ أنَّه مُوجِبٌ للغُسْل، يعني: أنَّه مَنِيٌّ، وفي هذه الحال يجبُ عليه أنْ يغتسلَ سواء ذَكَرَ احتلاماً أم لم يذكر.
الثَّانية: أنْ يتيقَّنَ أنَّه ليسَ بِمنِيٍّ، وفي هذه الحال لا يجب الغُسْل، لكنْ يجب عليه أنْ يَغْسِلَ ما أصابه، لأن حُكمَهُ حُكمُ البولِ.
الثالثة: أنْ يجهلَ هل هو مَنيٌّ أم لا؟ فإن وُجِدَ ما يُحَالُ عليه الحُكْم بِكَوْنِهِ منيًّا، أو مذياً أُحِيلَ الحكم عليه، وإنْ لم يوجد فالأصل الطَّهارة، وعدم وجوب الغُسْل، وكيفيَّة إحالةِ الحُكْمِ أَنْ يُقال: إنْ ذَكَرَ أنَّه احتلم فإننا نجعله منيًّا, وإنْ لم يَرَ شيئاً في منامه وقد سبقَ نومَهُ تفكيرٌ في الجِمَاعِ جعلناه مَذياً، لأنَّه يخرج بعد التَّفكيرِ في الجِمَاعِ دونَ إحساس، وإنْ لَمْ يَسْبقْه تفكير ففيه قَوْلان للعلماء: قيل: يجبُ أنْ يغتسلَ احتياطاً. وقيل: لا يجب .(1/80)
قوله: "وإن انتقل ولَمْ يخرج، اغْتَسل لَه", أي: المنيُّ، يعني: أَحَسَّ بانتقاله لكنه لَمْ يَخْرُجْ، فإنَّه يغتسلِ. وقال بعض العلماء: لا غُسْلَ بالانتقالِ، وهذا اختيار شيخِ الإسلام, وهو الصَّواب .
قوله: "فإن خَرَجَ بَعْده لم يُعِدْه", أي: إذا اغْتَسَلَ لهذا الذي انتقلَ ثُمَّ خرجَ مع الحركةِ، فإنَّه لا يُعِيدُ الغُسْلَ.
قوله: "وتَغْييبُ حَشَفَةٍ أصليَّة", هذا الموجِبُ الثَّاني من مُوجِبَات الغُسْل. وتَغْيبُ الشَّيءِ في الشَّيءِ معناه: أنْ يَختفيَ فيه. وقوله: "أصليَّة" يُحْتَرز بذلك عن حَشَفَةِ الخُنْثَى المُشْكِل، فإنها لا تُعتبر حَشَفَةً أصليَّة. فلو غَيَّبَها في فَرْجٍ أصليٍّ أو غير أصليٍّ فلا غُسْلَ عليهما.
قوله: "في فَرْجٍ أصليّ قُبُلاً كان أو دُبُراً ", احترازاً منْ فرجِ الخُنثى المُشْكِل، فإنه لا يُعْتبرُ تَغْييبُ الحَشَفَةِ فيه موجباً للغُسْل، لأنَّ ذلك ليس بفَرْجٍ.فإذا غَيَّبَ الإنسانُ حَشفَتَهُ في فَرْجٍ أصليٍّ، وجبَ عليه الغُسْلُ أنزلَ أم لم يُنْزِلْ.
قوله: "ولو من بَهيمَةٍ أو مَيْتٍ", "لو": إشارة خِلاف، فَمِنْ أهل العلم من قال: يُشترط لِوُجُوبِ الغُسْلِ بالجِمَاعَ أنْ يكون في فَرْجٍ من آدميٍّ حيٍّ. وعلى هذا الرَّأي لو أولجَ بفَرجِ امرأة ميْتة ـ مع أنَّه يَحْرُم ـ فعليه الغُسْل، ولو أَوْلَجَ في بهيمة فعليه الغُسْل. وقال بعض العلماء: إنَّه لا يجب الغُسل بِوَطْءِ الميْتَةِ إلا إذا أَنْزَل .
وهل يُشْتَرط عدم وجود الحائل؟ قال بعض العلماء: يُشْتَرط أن يكون ذلك بلا حائل ، لأنَّه مع الحائل لا يَصْدُق عليه أنه مَسَّ الختانُ الختانَ، فلا يجب الغُسْلُ. وقال آخرون: يجب الغُسْلُ. وفَصَّل آخرون فقالوا: إنْ كان الحائلُ رقيقاً بحيث تَكْمُل به اللَّذَّةُ وجب الغُسْلُ، وإن لم يكن رقيقاً فإنه لا يجب الغُسْل، وهذا أقرب، والأَوْلَى' والأحوط : أن يغتسل.(1/81)
قوله: "وإسلامُ كافرٍ", هذا هو الموجِبُ الثَّالث من موجِبَات الغُسْل، وهو إسلام الكافر، وإذا أسلم الكافر وجب عليه الغُسْل سواء كان أصليًّا، أو مرتدًّا. فالأصليُّ: من كان من أول حياته على غَيْر دِينِ الإسلام كاليهوديِّ والنَّصرانيِّ، والبوذيِّ، وما أشبه ذلك. والمرتَدُّ: من كان على دين الإسلام ثم ارتدَّ عنه. وقال بعض العلماء : لا يَجِب الغُسْل بذلك. وقال بعض العلماء : إنْ أتَى في كفره بما يوجب الغُسْل كالجَنَابَةِ مثلا وجب عليه الغُسْلُ سواء اغتسل منها أم لا، وإنْ لم يأت بموجب لم يجب عليه الغُسْلُ. وقال آخرون: إنه لا يجب عليه الغُسْلُ مطلقاً، وإن وجد عليه جنابة حال كُفْرِه ولم يغتسل منها. والأَحْوَط : أن يغتسل؛ لأنه إن اغتسل وصلَّى فَصَلاُته صحيحة على جميع الأقوال، ولو صلَّى ولم يغتسل ففي صِحَّة صَلاته خلاف بين أهل العلم.
قوله: "وموت", هذا هو الموجِب الرابع من موجبَات الغُسْل. أي: إذا مات المسلم وجب على المسلمين غَسْلُه. وسواء مات فجأة، أم بحادث ، أم بمرضٍ، أم كان صغيراً، أم كبيراً.
وهل يشمل السَّقط؟ فيه تفصيل: إن نُفِخت فيه الرُّوح غُسِّل، وكُفِّنَ، وصُلِّيَ عليه، . وإن لم تُنْفَخ فيه الرُّوح فلا. وتُنْفَخُ الرُّوح فيه إذا تَمَّ له أربعة أشْهُرٍ.
قوله: "وحيض". هو الموجِبُ الخامس من موجبات الغُسْل، فإذا حاضت المرأة وَجَبَ عليها الغُسْلُ، وانقطاع الحيض شَرْطٌ، فلو اغتسلتْ قَبل أن تَطْهُرَ لم يصحَّ، إذ مِنْ شرط صِحَّة الاغتسال الطَّهارة .(1/82)
قوله: "ونِفَاسٌ",هذا هو الموجِبُ السَّادس من موجبات الغُسْلِ. والنِّفَاسُ: الدَّمُ الخارج مع الولادة أو بعدها، أو قَبْلها بيومين، أوثلاثة، ومعه طَلْقٌ. أما الدَّمُ الذي في وسط الحَمْلِ، أو في آخر الحَمْلِ ولكن بدون طَلْقٍ فليس بشيء، فتصلِّي وتصوم، ولا يَحْرُمُ عليها شيء مما يحرم على النُّفساء. وقد أَجمعَ العلماء على وجوب الغُسْلِ بالنِّفَاِس كالحيض.
قوله:"لا وِلادةٌ عاريةٌ عن دَمٍ", "لا": عاطفة، تدلُّ على النفي، أي: ليست الولادة ُالعاريةُ عن الدَّمِ موجِبَةٌ للغُسْل، فلو أن امرأة ولَدت، ولم يخرج منها دم فلا غُسْل عليها، لأَّن النِّفَاس هو الدَّمُ، ولا دَمَ هنا، وهذا نادر جدًّا. وقال بعض العلماء: إنه يجب الغُسْل، والولادة هي الموجِبَةُ .
قوله: "ومَنْ لَزِمَهُ الغُسْل حَرُمَ عليه قِراءةُ القُرْآنِ". أي : أيُّ إنسان لَزِمَهُ الغُسْل سواء كان ذكراً أم أنثى، ويلزَمُ الغُسْل بواحد من الموجِبات السِّتة السَّابقة. فمن لَزِمَهُ الغُسْل حرم عليه: الصَّلاة، والطَّواف، ومَسُّ المصْحَفِ. ويَحْرُمُ عليه أيضاً: قراءة القرآن، واللبْثُ في المسجد، وهذان يختصَّان بمن لَزِمَهُ الغُسْل.
وقوله: "حَرُمَ عليه قِراءةُ القُرْآنِ". أي: حتى يغتسل، وإن توضَّأ ولم يغتسل، فالتَّحريم لا يزال باقياً. وقوله: "قراءة القرآن" المراد أن يقرأ آية فصاعداً، سواء كان ذلك من المصْحَفِ، أم عن ظَهْرِ قَلْبٍ، لكن إن كانت الآية طويلة فإنَّ بعضها كالآية الكاملة.
وقوله: "قراءة القرآن" أي: لا قراءة ذِكْرٍ يوافق القرآن، ولم يَقْصِد التِّلاوة؛ فإنَّه لا بأس به كما لو قال: بسم الله الرحمن الرحيم، أو الحمد و ربِّ العالمين؛ ولم يقصد التِّلاوة.(1/83)
وأما بالنِّسبة للحائض: فإنَّها مِمَّنْ يلزمه الغُسْل، وعلى هذا فجُمهور أهل العِلْمِ أنَّه لا يجوز لها أنْ تقرأَ القرآن؛ لكنْ لها أن تذكُرَ الله بما يوافق القرآن. وقال شيخُ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إنه ليس في مَنْعِ الحائض(والنُّفساء) من قراءة القرآن نُصوص صريحة صحيحة . وما ذهب إليه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مَذْهبٌ قويٌّ.
ولو قال قائل: ما دام العلماء مختلفين، وفي المسألة أحاديث ضعيفة، فلماذا لا نجعل المسألة معلَّقة بالحاجة، فإذا احتاجتْ إلى القِراءة كالأَوْراد ، أو تَعاهُد ما حَفِظَتْهُ حتى لا تنسى ، أوتحتاج إلى تعليم أولادها ؛ أو البنات في المدارس فيُباح لها ذلك، وأما مع عدم الحاجة فتأخذ بالأَحْوَطِ ، وهي لن تُحْرَم بقيَّة الذِّكْرِ. فلو ذهب ذاهب إلى هذا لكان مذهباً قويًّا.
أمَّا إسلام الكافر: فالكافر ممن يَلْزَمُه الغُسْل، فلو أَسْلَم وأراد القراءة مُنِعَ حتى يَغتسل. والدَّليل على ذلك: القياس على الجُنُبِ. وهذا فيه نَظَرٌ قويٌّ جدًّا. وعليه فَمَنْع الكافر من قراءة القرآن حتى يغتسل ضعيف؛ لأنَّه ليس فيه أحاديث، لا صحيحة ولا ضعيفة، وليس فيه إلا هذا القياس.
قوله: "ويَعْبُرُ المسجد لحاجة", أي: يَمرُّ به عند الحاجة، ( والمعنى: أنه ) يَحْرُم على من لَزِمَهُ الغُسْلُ اللُّبْثُ في المسجد: أي: الإقامة فيه ولو مدَّة قصيرة.
وقوله: "لحاجة". والحاجة متنوِّعة، فقد يريد الدُّخول من باب، والخروج من آخر حتى لا يُشاهَد، وقد يفعل ذلك لكونه أخْصَرُ لطريقه، وقد يَعْبُره لينظر هل فيه محتاج فيؤويه أو يتصدَّق عليه، أو هل فيه حَلَقَةُ عِلْمٍ فيغتسل ثم يرجع إليها. وأفادنا ـ رحمه الله ـ بقوله: "لحاجة" أنه لا يجوز له أن يَعْبُرَ لغير حاجة.(1/84)
وظاهر الآية الكريمة: (( إلا عابري سبيل )) العموم ؛ فَيَعْبُره لحاجة ، أو غيرها، وهو المذهب , إلا أن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ كَرِه أن يُتَّخَذ المسجد طريقاً إلا لحاجة، وهذا له وجه.
قوله: "ولا يَلْبَثُ فيهِ بغَيْر وُضُوءٍ". فإن توضَّأ جاز المُكْثُ.
قوله: "ومَنْ غَسَّلَ ميتاً.". هذا شروع في بيان الأَغْسال المسْتَحَبَّة فمنها: الاغتسال من تغسيل الميتِ، فإذا غَسَّل الإنسان ميتاً، سُنَّ له الغُسْل. وهذا القول الذي مشى عليه المؤلِّف هو القول الوسط والأقرب. وقال بعض أهل العِلْم: إنه يجب أن يَغْتَسِلَ. وقال آخرون: لا يجب عليه أن يَغْتَسِل، ولا يُسَنُّ له.
قوله: "أو أفاقَ مِنْ جُنُونٍ، أو إغماءٍ ". هذا هو الثَّاني والثَّالث من الأَغْسال المستحبَّة. والجنون: زوال العقل، ومنه الصَّرَعُ فإنَّه نوع من الجُنُون. والإغماء: التَّغطية، ومنه الغَيْم الذي يُغطِّي السَّماء.
قوله: "بلا حُلْمٍ سُنَّ له الغُسْلُ". أي: بلا إنزال، فإن أنزَل حال الإغماء وَجَبَ عليه الغُسْل كالنَّائم إذا احتلم.
قوله: "والغُسْلُ الكاملُ.". الغُسْل: له صفتان: الأولى: صفة إجزاء, (و) الثانية: صفة كمال.
كما أنَّ للوُضُوء صفتين، صفة إجزاء، وصفة كمال، وكذلك الصَّلاةُ والحجُّ. والضَّابط: أن ما اشتَمَل على الواجب فقط فهو صفة إجزاء، وما اشتمل على الواجب والمسْنُون، فهو صفة كمال.
قوله: "أن ينويَ". النِّيَّة نيَّتان: الأولى: نِيَّة العمل، ويتكلَّم عليها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، لأنها هي المصحِّحة للعمل. (و) الثانية: نِيَّة المعمول له، وهذه يتكلَّم عليها أهل التَّوحيد، وأرباب السُّلوك لأنها تتعلَّق بالإخلاص.(1/85)
مثاله: عند إرادة الإنسان الغسل ينوي الغُسْل فهذه نِيَّة العمل. لكن إذا نَوى الغُسْل تقرُّباً إلى الله تعالى، وطاعة له، فهذه نيَّة المعمول له، أي: قصَد وجهه سبحانه وتعالى، وهذه الأخيرة هي التي نَغْفُلُ عنها كثيراً، فلا نستحضر نيَّة التقرُّب، فالغالب أنَّنا نفعل العبادة على أننا ملزَمون بها، فننويها لتصحيح العمل، وهذا نَقْصٌ، ولهذا يقول الله تعالى عند ذِكْرِ العمل: (( يبتغون فضلا من الله ورضوانا )) .
قوله: "ثُمَّ يُسَمِّيَ". أي: بعد النِّيَّة، والتسميَة على المذهب واجبة كالوُضُوء. والصَّحيح : كما سبق أنها ليست بواجبة لا في الوُضُوء، ولا في الغُسْل.
قوله: "ويغسل يديه ثلاثاً", هذا سُنَّة، واليدان: الكفَّان لأنَّ اليَدَ إذا أُطْلقتْ فهي الكَفُّ .
قوله: "وما لَوَّثَه", أي: يغسل ما لَوَّثَه من أَثَرِ الجنابة .
قوله: "ويتوضَّأ". أي: يتوضَّأ وُضُوءه للصَّلاة.
قوله: "ويحثي على رأسه ثلاثاً", ظاهره أنه يحثي الماء على جميع الرَّأس ثلاثاً.
قوله: "تُروِّيه", أي: تصل إلى أُصُوله بحيث لا يكون الماء قليلاً. وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "ثم يخلِّل بيده شَعْره حتى إذا ظَنَّ أنه قد أروى بَشَرَتَهُ أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسَل سائر جسَده". وظاهره أن يصب عليه الماء أولاً ويخلِّله، ثم يفيض عليه بَعْد ذلك ثلاث مرات. وقال بعض العلماء: إن قولها: "ثلاث مرَّات" لا يَعُمُّ جميع الرَّأس، بل مَرَّة للجَّانب الأيمن، ومرَّة للأيسر، ومرَّة للوَسَطِ، كما يدلُّ على ذلك صنيعه حينما أتى بشيء نحو الحِلاَب فأخذ منه فغسل به جانب الرَّأس الأيمن، ثم الأيسر، ثم وسط الرَّأس .(1/86)
قوله: "ويَعُمَّ بدنَه غسلاً ثلاثاً ". وهذا بالقياس على الوُضُوء لأنه يُشْرَع فيه التَّثليث ، وهذا هو المشهور من المذْهَب . واختار شيخ الإسلام وجماعة من العلماء، أنه لا تثليث في غَسْلِ البَدَنِ لعدم صحَّته عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فلا يُشْرَع.
قوله: "ويَدْلُكَه", أي: يمرُّ يده عليه .
قوله: "ويَتَيَامن", أي: يبدأ بالجانب الأيمن .
قوله: "ويغسل قَدَمْيه مكاناً آخر". أي: عندما ينتهي من الغُسْل يغسل قَدَميْه في مكان آخر غير المكان الأول.
وظاهر كلام المؤلِّف أنه سُنَّة مطْلَقاً، ولو كان المحلُّ نظيفاً كما في حمَّاماتنا الآن. والظَّاهر لي: أنه يَغْسل قَدَميْه في مكان آخر عند الحاجة كما لو كانت الأرض طِيناً، لأنَّه لو لم يغسلهما لتلوثَّت رِجْلاه بالطِّين.
قوله: "والمجزئ". أي: الذي تبرأُ به الذِّمَّة.
قوله: "أن ينويَ ويُسمِّيَ ويعمَّ بدنه بالغُسْل مرَّةً ", لم يذكر المضمضة والاستنشاق، لأن في وُجوبهما في الغُسْل خِلافاً، فَمِنْ أهل العِلْم مَن قال: لا يَصحُّ الغُسْل إلا بهما كالوُضُوء. وقيل: يصحُّ بدونهما. والصَّواب: القول الأول.
وقوله: " ويَعُمَّ بَدَنَهُ". يشمل حتى ما تحت الشَّعر الكثيف، فيجب غَسْل ما تحته بِخِلافِ الوُضُوء، فلا يجب غَسْل ما تحته.
والحاصل: أن الغُسْلَ المجزئ أن ينويَ، ثم يسمِّيَ، ثم يعمَّ بدَنَه بالغُسْل مرَّة واحدة مع المضمضة والاستنشاق . ولو أن رَجُلاً عليه جنابة، فنوى الغُسْل، ثم انغمس في بِرْكة ـ مثلاً ـ ثم خرج، فهذا الغُسْل مجزيء بِشَرط أنْ يتمضمض ويستنشق. ولو أنَّه أراد الوُضُوء بعد أن انغمس فلا يجزيء إلا إن خَرَج مرتِّباً لأن التَّرتيب فرْضٌ على المذهب .(1/87)
وظاهرُ كلام المؤلِّف ـ رحمه الله ـ أنَّ الموالاة ليست شرطاً في الغُسل، فلو غسل بعض بدنه ثم أتمَّهُ بعد زمن طويل عُرفاً صَحَّ غُسله، وهذا هو المذهب. وقيل: إن الموالاة شرطٌ، وهو رواية عن الإمام أحمد. وقيل: وجه للأصحاب. وهذا ـ أعني كون الموالاة شرطاً ـ أصَحُّ، لأن الغُسل عبادة واحدة، فلزم أن ينبني بعضُه على بعض بالموالاة، لكن لو فرَّقه لعُذرٍ؛ لانقضاء الماء في أثناء الغسل مثلاً؛ ثم حصَّله بعد ذلك لم تلزمه إعادة ما غسَّله أولاً؛ بل يُكمل الباقي.
قوله: "ويتوضَّأُ بمدٍّ ويَغْتَسِلُ بِصَاعٍ". المعنى يُسَنُّ أنْ يكون الوُضُوء بِمُدٍّ، والغُسْلُ بصَاعٍ. والمدُّ: رُبْعُ الصَّاع. والصَّاع النبويُّ: أقلُّ من الصَّاع العُرْفِي عندنا بالخُمْس وخُمْس الخُمْس، فالصَّاع النبويُّ ـ مثلاً ـ زِنته ثمانون ريالاً فرنسياً، وصاعنا العُرْفي مائة ريال، وأربع ريالات. فيأخذ إناء يَسَعُ أربعة أخماس الصَّاع العُرْفِي، ويغتسل به، هذه هي السُّنَّة، لِئَلا يُسرِف في الماء، فإن أسبغ بأقلَّ جاز.
فإن قيل: نحن الآن نتوضَّأ مِن الصَّنابير فمقياس الماء لا ينضبط؟. فيقال: لا تَزِدْ على المشروع في غَسْل الأعضاء في الوُضوء، فلا تَزِدْ على ثلاث، ولا تزد في الغُسْل على مرَّة، على القول بِعَدَم الثلاث، وبهذاَ يحصُل الاعتدال.
قوله: "فإن أَسْبَغ بأَقلَّ". أي: إن أَسْبَغ بأقلَّ مِنَ المدِّ في الوُضُوء، ومِن الصَّاع في الغُسْل أَجْزأَ؛ لأنَّ التَّقدير بالمدِّ والصَّاع على سبيل الأفضليَّة. لكنْ يُشترط ألا يكون مَسْحاً ، فإن كان مَسْحاً فلا يُجزيء . والفرق بين الغُسْل والمسح : أن الغُسْل يتقاطر منه الماء ويجري، والمسح لا يتقاطر منه الماء .
قوله: "أو نوى بغُسْلِه الحَدَثَيْن أَجْزأ". النيَّة لها أربع حالات:
الأولى: أن ينوي رفع الحَدَثَيْن جميعاً فيرتفعان .(1/88)
الثانية: أن ينويَ رفع الحَدَثِ الأكبر فقط. ويَسْكت عن الأصغر، فظاهر كلام المؤلِّف أنَّه يرتفع الأكبر، ولا يرتفع الأصغر. واختار شيخ الإسلام: أنه يرتفع الحَدَثَان جميعاً ، وهذا هو الصَّحيح.
الثالثة: أن ينويَ استباحة ما لا يُباح إلاّ بالوُضُوء، أو ارتفاع الحَدَثَيْن جميعاً كالصَّلاة، فإذا نوى الغُسْلَ للصلاة، ولم ينوِ رَفْع الحَدَثِ، ارتفع عنه الحَدَثَان .
الرابعة: أن ينوي استباحة ما يُبَاح بالغُسْل فقط، دون الوُضُوء كقراءة القرآن، أو المُكْثِ في المسجد. فلو اغتسل لقراءة القرآن فقط، ولم يَنوِ رَفْعَ الحَدَثِ أو الحَدَثَيْن فيرتفع حَدَثُه الأكبر فقط، فإن أراد الصَّلاة، أو مَسَّ المصحفِ، فلا بُدَّ من الوُضُوء. ولكن واقع النَّاس اليوم، نجدُ أنَّ أكثرهم يغتسلون من الجَنَابة من أَجْلِ رَفْعِ الحَدَثَ الأكبر، أو الصَّلاة، وعلى هذا فيرتفع الحَدَثَان.
قوله: "ويُسنُّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرجِهِ، والوُضُوءُ لأكلٍ".وُضوء الجُنُبِ للأكل ليس بواجب بالإجماع لكنَّه مستَحَبٌّ .
قوله: "ونومٍ". أي: يُسْتَحَبُّ للجُنُب إذا أراد النَّوم أن يتوضَّأ, (وهذا هو) المشهور عند الفقهاء والأئمَّة المتبوعين, وذهب الظَّاهريَّة وجماعة كثيرة من أهل العِلْمِ: إلى وجوب وضوء الجنب عند النوم. والذي يظهر لي: أن الجُنُبَ لا ينام إلا بِوُضُوء على سبيل الاستحباب , وكذا بالنِّسبة للأكْلِ والشُّرْب.
وفرَّق الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بين الأكل والشُّرب والنَّوم، فقالوا: يُكْرُه أن ينام على جنابة بلا وُضُوء، ولا يُكْرَه له الأكل، والشُّرب بلا وُضُوء .
قوله: "ومُعَاوَدَةِ وَطْءٍ". أي: يُسَنُّ للجُنُبِ أن يتوضَّأ إذا أراد أن يُجَامع مرَّة أُخرى .
باب التيممِ
التَّيمُّم لغةً: القصد. وشرعاً:التَّعبُّد و تعالى بقصد الصَّعيد الطَّيب؛ لمسْحِ الوجه واليدين به.(1/89)
قوله: "وهو بَدَلُ طهارة الماء", أي: ليس أصْلاً؛ لأن الله تعالى يقول: (( فلم تجدوا ماء فتيمموا )){المائدة: 6} . فهو بدلٌ عن أصلٍ، وهو الماء . وفائدة قولنا: إنه بدل أنه لا يُمكن العمل به مع وجود الأصل ؛ وإلا فهو قائم مقامه، ولكن هذه الطَّهارة إذا وُجِدَ الماء بطلت، وعليه أن يغتسل إن كان التَّيمُّم عن غُسْل، وأن يتوضَّأ إن كان عن وُضُوء .
وهل هو رافِع للحَدَثِ، أو مُبيح لما تَجِبُ له الطَّهارة ؟ اختُلِف في ذلك: فقال بعض العلماء : إنه رافع للحَدَثِ . وقال آخرون: إنه مُبيح لما تجب له الطَّهارة . والصواب : هو القول الأول. ويترتَّب على هذا الخلاف مسائل منها:
أ - إذا قلنا: إنه مُبيح فَنَوى التَّيمُّم عن عِبادة لم يَستبِحْ به ما فوقها. فإذا تيمَّم لنافلة لم يُصلِّ به فريضة؛ لأن الفريضة أعلى، وإذا تيمَّم لِمَسِّ المصحف لم يُصلِّ به نافلة، إذ الوُضُوء للنَّافلة أعلى فهو مُجْمع على اشتراطه بخلاف الوُضُوء لِمَسِّ المصحف، وهكذا. وإذا قلنا: إنه رافع فإذا تيمَّمَ لنافلة جازَ أن يُصلِّيَ به فريضة، وإذا تيمَّم لمسِّ مصحف جاز أن يُصلِّيَ به نافلة.
ب - إذا قلنا: إنه مُبيح، فإذا خرج الوقت بَطلَ؛ لأن المبيح يُقتصر فيه على قَدْرِ الضَّرورة، فإذا تيمَّم للظُّهر ـ مثلاً ـ ولم يُحْدِث حتى دخل وقت العصر فعليه أن يُعيدَ التَّيمُّم. وعلى القول بأنه رافع، لا يجب عليه إعادة التيمُّم، ولا يَبْطُل بخروج الوقت.
ج - إذا قلنا: إنه مبِيح، اشترط أن ينوِيَ ما يتيمَّم له، فلو نَوَى رفْع الحَدَث فقط لم يرتفع. وعلى القول بأنه رافع لا يُشترَط ذلك، فإذا تيمَّم لرَفْع الحَدَث فقط جاز ذلك .(1/90)
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه بَدَل عن طهارة الماء في كلِّ ما يطهِّره الماء؛ سواء في الحَدَث؛ أم في نجاسة البَدَن؛ أم في نجاسة الثَّوب؛ أم في نجاسة البُقعة، ولكن ليس هذا مراده، بل هو بَدَل عن طهارة الماء في الحَدَث قولاً واحداً؛ وفي نجاسة البَدَن على المذهب، أي أنه يتيمَّم إذا عدم الماء للحَدَث الأصغر والأكبر، ويتيمَّم إذا كان على بَدَنِه نجاسة ولم يَقْدِرْ على إزالتها ، ولايتيمَّم إذا كان على ثَوبه أو بُقعَته نجاسة. والصَّحيح : أنه لا يتيمَّم إلا عن الحَدَث فقط ، وعلى هذا: إن وَجَد الماء أزالها به، وإلا صلَّى على حَسَب حاله؛ لأن َّطهارة التيمُّم لا تؤثِّر في إزالة النَّجاسة.
قوله: "إذا دخلَ وقتُ فريضةٍ أو أُبيحَت نافلةٌ", أي : يُشترط للتَّيمُّم دخول الوقت، أو إباحة النَّافلة، وهذا هو الشَّرط الأول لِصِحَّة التَّيمُّم، وهذا مبنيٌّ على القول بأنه مبيح لا رافع وهو المذهب، فيقتصر فيه على الضَّرورة ، وذلك بأن يكون في وقت الصَّلاة. والصَّواب : أنه رافع، فمتى تيمَّم في أيِّ وقتٍ صحَّ .
قوله: "وعدم الماء." , هذا الشَّرط الثَّاني لِصِحَّة التَّيمُّم: أن يكون غيرَ واجِدٍ للماء لا في بيته، ولا في رَحْلِه، إن كان مسافراً، ولا ما قَرُبَ منه.
قوله: "أو زادَ على ثَمَنِه كثيراً". أي: إذا وجد الماء بثمن زائد على ثمنه كثيراً عَدَل إلى التَّيمُّم، ولو كان معه آلاف الدَّراهم. وعلَّلوا: أن هذه الزِّيادة تجعله في حُكْم المعدوم. والصَّواب: أنه إذا كان واجداً لثمنه قادراً عليه وَجَبَ عليه أن يشتريه بأيِّ ثمن .
قوله: "أو ثَمن يعجزه", أي: لا يَقْدر على بَذْلِه بحيث لا يكون معه ثَمنه، أو معه ثَمن ليس كاملاً، فَيُعتبر كالعَادِم للماء فيتيمَّم.(1/91)
قوله: "أو خاف باسْتِعْمالِه، أو طَلبِهِ ضَرَرَ بَدَنِهِ". فإذا تضرَّر بَدَنُه باستعماله الماءَ صار مريضاً، فيدخل في عموم قوله تعالى : وإن كنتم مرضى" أو على" سفر الآية {المائدة: 6}. كما لو كان في أعضاء وُضُوئه قُروح، أو في بَدَنِه كُلِّه عند الغُسْل قُروح وخاف ضَرَر بَدَنِه فله أن يتيمَّم. وكذا لو خاف البرْد، فإنه يُسخِّن الماء، فإن لم يَجِد ما يسخِّن به تيمَّم؛ لأنَّه خَشِيَ على بَدَنِه من الضَّرر .
وقوله: "أو طلبِهِ ضرَرَ بدنِهِ". أي: خاف ضَرَرَ بَدَنِه بطلَبِ الماء، لبُعْدِه بعض الشيء، أو لِشدَّة برودة الجَوِّ، فيتيمَّم.
قوله : "أو رفيقه", أي: خاف باستعمال الماء أو طَلَبِه ضَرَرَ رفيقه. مثال ذلك: أن يكون معه ماء قليل ورُفْقَة، فإن استعمل الماء عطِشَ الرُّفْقَة وتضرَّروا، فنقول له: تيمَّم، ودَع الماء للرُّفْقَة.
وظاهر قوله: "أو رفيقه" أنه يشْمل الكافر والمسلم، لكن بِشَرط أن يكون الكافر معصوماً، وهو الذِّمِّي، والمُعَاهد، والمُستَأْمَن.
قوله: "أو حرمته". أي: خاف باستعمال الماء أو طلبهِ ضرر امرأته، أو من له ولاية عليها من النِّساء.
قوله: "أو مالِه", أي: خاف باستعمال الماء أو طلبه تضرُّرَ ماله، كما لو كان معه حيوان، وإذا استعمل الماء تضرَّر، أو هَلَكَ.
قوله: "بِعَطَشٍ", متعلِّق بـ "ضَرر"، أي: ضرر هؤلاء بعطش.
قوله: "أو مَرَضٍ", مثاله: أن يكون في جِلْدِه جروح تتضرَّر باستعمال الماء.
قوله: "أو هَلاكٍ". كما لو خاف أن يموت من العَطَشِ.
قوله: "ونَحْوه". أي: من أنواع الضَّرر. فالضَّابط : أن يُقال: الشَّرط الثاني: تعذُّر استعمال الماء، إما لِفَقْده، أو للتَّضرُّر باستعماله أو طَلَبِه. وهذا أعمُّ وأوضَحُ من عبارة المؤلِّفِ.(1/92)
قوله: "شُرع التَّيمُّمُ". "شُرع": جواب "إذا" في قوله "إذا دخل . وقوله: "شُرع" أي: وجب لما تجب له الطَّهارة بالماء كالصَّلاة، واستُحبَّ لما تُستحبُّ له الطَّهارة بالماء؛ كقراءة القرآن دون مَسِّ المصحَف.
قوله: "ومَنْ وجدَ ماءً يكْفي بعضَ طُهرِه تيمَّم بعد استعمالِهِ". أفادنا المؤلِّف أن الإنسان إذا وَجَد ماءً يكْفي بعضَ طُهرِه، فإنَّه يَجمع بين الطَّهارة بالماء والتَّيمُّم. مثاله: عنده ماء يكفي لغَسْل الوَجْه واليدين فقط؛ فيجب أن يستعمل الماء أولاً؛ فيغسِل وجهه ويديه، ثم يتيمَّم لما بَقِيَ من أعضائه. وسبب تقديم استعمال الماء، ليَصْدُقَ عليه أنه عَادِمٌ للماء، إذا استعمله قبل التَّيمُّم. وقال بعض العلماء: لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التَّيمُّم، بل إذا كان الماء يكفي لنِصْفِ الأعضاء فأكثر فإنه يستعمل بلا تيمُّم، وإذا كان يكفي لأقَلَّ من النِّصف، فلا يستعمل الماء بل يتيمَّم فقط . وقال آخرون: إنه يستعمل الماء مطلقاً، فيما يقدر عليه ولا يتيمَّم. والصَّواب : ما ذهب إليه المؤلِّف.
قوله: " ومَنْ جُرِحَ تيمَّم له وغَسَل الباقي", يعني: من كان في أعضائه جُرْح، والمراد جُرْح يَضرُّه الماء، تيمَّم لهذا الجُرح وغَسَل باقي الأعضاء، والتَّيمُّم للجُرح لا يُشترَط له فُقدان الماء، فلا حَرَجَ أن يتيمَّم مع وجود الماء.
وظاهر قوله المؤلِّف "تيمَّم له" أنه لا بُدَّ أن يكون التَّيمُّم في مَوضِع غَسْل العضوِ المجروح، لأنه يُشْترَط الترتيب، وأما إذا كان الجُرح في غُسْل الجنابة، فإنه يجوز أن يتيمَّم قبل الغُسْل، أو بعده مباشرة، أو بعد زَمَنٍ كثيرٍ.(1/93)
هذا هو المذهب، لأنهم يَرَون أن الغُسْل لا يُشْترَط له ترتيب ولا مُوالاة، فلو بَدَأَ بِغَسْل أعلى بَدَنِه، أو أَسْفَلِه، أو وَسَطِه صَحَّ. وإذا كان التَّيمُّم في الحَدَثِ الأصغر فَعَلَى المذهب يُشْترَط فيه التَّرتيب والموالاة. فإذا كان الجُرْح في اليَدِ وَجَبَ أن تَغْسِل وجهك أولاً، ثم تتيمَّم، ثم تَمْسَح رأسك، ثم تغسِل رجليك. وهنا يجب أن يكون معك منديل، حتى تُنشِّف به وجهك، ويَدَكَ، لأنَّه يُشترط في التُّراب أن يكون له غبار، وإذا كان على وجهك ماء فالتَّيمُّم لا يَصِحُّ. وقال بعض العلماء: إنه لا يُشترط التَّرتيب ولا الموالاة، كالحَدَثِ الأكبر, وعلى هذا يجوز التَّيمُّم قَبْل الوُضُوء، أو بعده بِزَمن قليل أوكثير، وهذا الذي عليه عمل النَّاس اليوم، وهو الصَّحيح. اختاره الموفَّق والمجدُّ, وشيخ الإسلام ابن تيمية، وَصوَّبه في "تصحيح الفروع .
فائدة : قال بعض العلماء: لا يُشرع التَّيمُّم إلا في الطَّهارة الواجبة . وأما المستحبَّة فلا يُشْرَع لها. وهذا أحد القولين في المذهب. ( ولكن هذا القول ) يُعكِّر عليه أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تيمَّم لردِّ السَّلام وقال: "إني كَرهْتُ أن أَذْكُر الله إلا على طُهْر"، ومعلوم أن التَّيمُّم لردِّ السَّلام ليس واجباً بالإجماع، وإذا كان كذلك وقد تيمَّم له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فإنه يدلُّ على مشروعيَّة التَّيمُّم في الطَّهارة المستحبَّة .وهذا استدلال واضح جداً .
قوله: "ويَجبُ طَلَبُ الماءِ في رَحْلِه". أي: عند الجماعة الذين معه. والرَّحْل: المَتَاع، والمراد الجماعة، فإذا كان يعْلَم أنه لا ماء فيه فلا حاجَة إلى الطَّلب، لأنه حينئذ تحصيل حاصل، وإضاعَةُ وقت، لكن لو فُرض أنه أَوْصَى مَن يأتي بماء، ويُحتمَل أنه أتى بماء، ووضَعه في الرَّحْل فحينئذ يجب الطَّلب.(1/94)
قوله: "وقُرْبِه", أي: يجب عليه أن يطلب الماء فيما قَرُبَ منه، فيبحث هل قُرْبه، أو حَوْله بئر، أو غدير؟ والقُرب ليس له حَدٌّ محدَّد، فيُرْجَع فيه إلى العُرْف، والعُرْف يختلف باختلاف الأزمنة. ففي زمَننا وُجِدَت السيَّارات فالبعيد يكون قريباً. وفي الماضي كان الموجود الإبل فالقريب يكون بعيداً. فيبحث فيما قَرُبَ بحيث لا يشقُّ عليه طلبه، ولا يفوته وقت الصَّلاة.
قوله: "وبِدلالةٍ", يعني: يجب عليه أن يطلب الماء بدليل يَدُلُّهُ عليه. فإذا كان ليس عنده ماء في رَحْلِه، ولا يستطيع البحث لِقِلَّةِ معرفته، أو لكونه إذا ذهب عن مكانه ضاع، فهذا فرضُه الدِّلالة؛ فيَطلُب من غيره أن يَدُلَّه على الماء سواء بمال، أم مجاناً. وإذا لم يَجِد الماء في رحَلْهِ، ولا في قُرْبِه، ولا بدلالة، شُرِعَ له التَّيمُّم.
قوله: "فإن نسيَ قدرتَه عليه وتيمَّمَ أعادَ", أي: لو كان يعرف أن حوله بئراً لكنَّه نَسِيَ، فلما صلَّى، وَجَدَ البئر فإنَّه يُعيد الصَّلاة. وقيل: لا يُعيد. والأَحْوَط : أن يُعيد .
قوله: "وإن نَوى بتيمُّمِه أحداثاً", أي: أجزأ هذا التَّيمُّم الواحد عن جميع هذه الأحداث، ولو كانت متنوِّعة؛ لأنَّ الأحداث إمَّا أن تكون من نوع واحد؛ كما لو بال عِدَّة مرَّات فهذه أحداث نَوْعُها واحد وهو البوَل. أو تكون من أنواع من جِنْس واحد كما لو بال، وتغوَّط، وأكل لحم جَزور فهذه أنواع من جِنْس واحد وهو الحَدَث الأصغر.
أو تكون من أجناس كما لو بال، واحْتَلم، فهذه أجناس؛ لأن الأوَّل حَدَث أصغر والثَّاني أكبر. فإذا تيمَّم، ونَوَى كُلَّ هذه الأحداث، فإنه يجزيءُ .
قوله: "أو نَجَاسة على بَدَنِه تضُرُّه إزالتُها". مثاله: لو سقطتْ نقطةُ بَولٍ على جُرْحٍ طريّ لا يستطيع أن يغْسلَه، ولا يمسَحَه؛ لأنَّه يضرُّه إزالتها، فيتيمَّم على القول بالتَّيمُّم عن نجاسة البَدَن.(1/95)
قوله: "أوْ عَدِمَ ما يُزيلها". مثاله: أصابه بول على بَدَنِه ولا ماء عنده يُزيلها به، فيتيمَّم. وأفاد ـ رحمه الله ـ بقوله: "أو نجاسة على بَدَنِه" أن النَّجاسة على البَدَنِ يتيمَّمُ لها إذا لم يَقْدِر على إزالتها، وأما النَّجاسة في الثَّوب، أو البقعة فلا يتيمَّم لها. والصَّحيح : أنه لا يتيمَّم عن النَّجاسة مطلقاً .
قوله: "أو خافَ برْداً", يعني: خاف من ضَرَرِ البرد لو تطهَّر بالماء، إما لكون الماء بارداً ولم يَجِد ما يُسخِّن به الماءَ، وإما لِوُجود هواء يتضرَّر به، ولم يَجِد ما يتَّقي به فَلَهُ أن يتيمَّم. فإن وَجد ما يُسخِّن به الماءَ، أو يتَّقي به الهواء، وَجَبَ عليه استعمال الماء، وإنْ خافَ الأذى' باستعمال الماء دون الضَّررِ، وجب عليه استعمالُهُ.
قوله: "أو حُبِس في مِصْرٍ فَتَيَمَّم". "حُبس" أي: لم يتمكَّن من استعمال الماء. والمِصْر: المدينة، وإنما نَصَّ المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ على ذلك؛ لأن بعض العلماء قال: لا يتيمَّم .
قوله: "أو عَدِمَ الماء، والتُّراب صلَّى، ولم يُعِد". كما لو حُبِس في مكان لا تُراب فيه ولا ماء، ولا يستطيع الخروج منه، ولا يُجلب له ماء ولا تُراب؛ فإنه يُصلِّي على حَسَب حاله، محافظة على الوقت الذي هو أعظم شروط الصلاة.
قوله: "ويَجبُ التيمُّمُ بتُرابٍ", هذا بيان لما يُتيمَّم به. وقد ذكر المؤلِّفُ له شروطاً: الأول: كونه تراباً، والتُّراب معروف، وخرج به ما عداه من الرَّمل، والحجارة وما أشبه ذلك. فإنْ عَدِم التُّرابَ كما لو كان في بَرِّ ليس فيه إلا رَمْل، أو ليس فيه إلا طِين لكثرة الأمطار فيصلِّي بلا تيمُّم، لأنَّه عادِم للماء والتُّراب. والصَّحيح : أنَّه لا يختصُّ التَّيمُّم بالتُّراب، بل بِكلِّ ما تصاعد على وجه الأرض .(1/96)
قوله: "طَهُور". هذا هو الشَّرط الثَّاني لما يُتيمَّم به . وهو إشارة إلى أن التُّراب ينقسم إلى ثلاثة أقسام : طَهُور, (و) طاهر, (و) نجِس . كما أن الماء عندهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام. فخرج بقوله: "طَهُور" التُّراب النَّجس كالذي أصابه بَوْل، ولم يَطْهُر من ذلك البول. والصَّحيح : أنه ليس في التُّراب قِسْم يُسمَّى طاهراً غير مطهِّر كما سبق في الماء .
قوله: "غير محتَرِق"، هذا هو الشَّرط الثَّالث من شروط المتيمَّم به. فلو كان محترِقاً كالخَزَفِ والإسمنت، فلا يجوز التَّيمُّم به. وهذا ضعيف، والصَّواب : أنَّ كلَّ ما على الأرض من تُراب، ورَمْل، وحجر محتَرِق أو غير محتَرِق، وطين رطب، أو يابس فإنه يُتيمَّم به.
قوله: "له غبار". هذا هو الشَّرط الرَّابع من شروط المتيمَّم به. فإن لم يكن له غبار لم يَصحَّ التَّيمُّم به كالتُّراب الرَّطب، وعلى هذا لو كنّا في أرض أصابها رَشُّ مطر حتى ذهب الغُبَار فلا نتيمَّم عليها، بل نصلِّي بلا تيمُّم. والصَّحيح : أنه ليس بشرط.
قوله: "وفُرُوضُه: مَسْحُ وَجْهِه ويَديْه إلى كُوْعَيْه", الكُوع: هو العَظم الذي يلي الإبهام. ( وهذا هو المذهب ). وقال بعض العلماء: إن التَّيمُّم إلى المرفقين .
قوله: "وكذا التَّرتيبُ والموالاةُ في حَدَث أصغر", يعني: أنَّ من فروض التَّيمُّم في الحَدَثِ الأصْغَرِ التَّرتيب والموالاة. فالتَّرتيب: أن يبدأ بالوَجْه قَبْل اليَدَين. والموالاة: ألاّ يُؤخِّر مسْحَ اليدين زمناً لو كانت الطَّهارة بالماء لَجَفَّ الوَجْه، قبل أن يطهِّر اليدين.(1/97)
وأما بالنسبة (للحدث) الأكبر كالجنابة فلا يُشْترط التَّرتيب، ولا الموالاة، لِعَدم وجوبهما في طَهارة الجَنابة، وهذا هو المذهَب. وقال بعض العلماء: إن التَّرتيب والموالاة فُرْضٌ فيهما جميعاً. وقال بعض العلماء: إنهما لَيْسا فرضاً في الطَّهارتين جميعاً . والذي يظهر أن يقال: إن التَّرتيب واجب في الطَّهارتين جميعاً، أو غير واجب فيهما جميعاً؛ لأن الله تعالى جعل التَّيمُّم بدلاً عن الطَّهارتين جميعاً، والعضوان للطهارتين جميعاً. وبالنِّسبة للموالاة الأوْلَى أن يُقال: إنها واجبة في الطَّهارتين جميعاً، إذ يبعد أن نقول لمن مَسَح وَجْهَه أوَّل الصُّبْح، ويدَيْه عند الظُّهر: إن هذه صورة التَّيمُّم المشروعة!.
قوله: "وتُشْتَرطُ النيَّةُ لما يَتَيَمَّم له من حَدَثٍ، أو غيره ". ( وهذا على القول بأن التَّيمُّم مبيح لا رافع وهو المذهب، والراجح : أن التيمم مطهلر ورافع؛ فنجعل نيته حينئذٍ كنية الوضوء. فإذا نوى رفع الحدث صح , وإذا نوى الصلاة ولو نافلة صح وارتفع حدثه وصلى به الفريضة ) .
قوله: "فإن نوى أحدهما لم يجزئه عن الآخر, وإن نوى نفلاً, أو أطلق لم يصل به فرضاً, وإن نواه صلى كل وقته فروضاً ونوافل ". قوله: "وإن نواه صلى كل وقته فروضاً ونوافل", أي : إذا نوى التيمم لصلاة الفريضة, صلى كل وقت الصلاة فرائض ونوافل, ما لم يكن الوقت وقت نهي . وإنما نص على ذلك؛ لأن بعض السلف قال : يتيمم لكل صلاة, فكلما سلم من صلاة تيمم للأخرى. وهذا ضعيف. والصواب : ما قاله المؤلف .
قوله: "ويبطل التيمم بخروج الوقت". هذا شروع في بيان مبطلات التيمم, وهي خروج الوقت الأول, أي: وقت الصلاة التي تيمم لها, فإذا تيمم لصلاة الظهر بطل بخروج الوقت , فلا يصلي به العصر . والصحيح : أنه لا يبطل بخروج الوقت, وأنك إذا تيممت لصلاة الفجر, وبقيت على طهارتك إلى صلاة العشاء فتيممك صحيح .(1/98)
قوله: "وبمبطلات الوضوء ". هذا هو الثاني من مبطلات التيمم, وهو مبطلات الوضوء, أي: نواقض الوضوء. وكذا التيمم عن الأكبر يبطل بموجبات الغُسل, وهذا ظاهر جداً .
قوله: "وبوجود الماء". هذا هو الثالث من مبطلات التيمم, وهو وجود الماء فيما إذا كان تيممه لعدم الماء . فإذا تيمم لعدم الماء بطل بوجوده, وإذا تيمم لمرض لم يبطل بوجود الماء؛ لأنه يجوز أن يتيمم مع وجود الماء, ولكن يبطل بالبُرء لزوال المبيح, وهو المرض. ولهذا لو قال المؤلف: وبزوال المبيح لكان أولى .
قوله: "ولو في الصلاة". (هذا هو المذهب ), وذهب كثير من العلماء إلى هدم بطلان التيمم إذا وُجد الماء في الصلاة, وهو رواية عن أحمد, لكن قيل: إنه رجع عنها. والذي يَظهر : أن المذهب أقربُ للصَّواب.
قوله: "لا بَعْدَها", أي: إذا وَجَدَ الماء بعد الصَّلاة، لا يَلْزَمه الإعادة، وليس مُراده أنَّ التيمُّم لا يَبْطُل كما هو ظاهر عبارته.
قوله: "والتَّيمُّمُ آخِرَ الوقتِ لراجِي الماءِ أَوْلَى". أي: إذا لم يَجِدْ الماءَ عند دخول الوقت، ولكن يرجو وجُودَه في آخر الوقت؛ فتأخير التَّيمُّم إلى آخر الوقت أَوْلَى؛ ليصلِّي بطهارة الماء، وإن تيمَّم وصلَّى في أوَّل الوقت فلا بأس.
واعْلَم أن لهذه المسألة أحوالاً: فيترجَّح تأخير الصَّلاة في حالين: الأولى: إذا عَلِمَ وجود الماء.
الثَّانية: إذا ترجَّح عنده وجود الماء؛ لأن في ذلك محافظة على شَرْطٍ من شروط الصَّلاة وهو الوُضُوء، فيترجَّح على فِعْل الصَّلاة في أوَّل الوقت الذي هو فضيلة.
ويترجَّح تقديم الصَّلاة أول الوقت في ثلاث حالات: الأولى: إذا عَلِمَ عدم وجود الماء.
الثَّانية: إذا ترجَّحَ عنده عَدَمُ وجود الماء.
الثالثة: إذا لم يترجَّحْ عنده شيء. وذهب بعضُ العلماء إلى أنه إذا كان يَعْلَم وجود الماء فيجب أن يؤخِّر الصَّلاة. والرَّاجح عندي: أنه لا يتعيَّن التَّأخير، بل هو أفضل .(1/99)
والمراد بقوله: "آخِرَ الوقت" الوقت المختار. والصَّلاة التي لها وقتُ اختيار ووقت اضْطرار هي صلاة العَصْر فقط، فوقت الاختيار إلى اصْفِرار الشَّمس، والضَّرورة إلى غروب الشَّمس. وأما العِشَاء؛ فالصَّحيح أنه ليس لها إلا وقت فضيلة ووقت جَواز، فوقت الجواز من حين غَيبوبة الشَّفق، ووقت الفضيلة إلى نِصف الليل. وأمَّا ما بعد نِصف الليل؛ فليس وقتاً لها.
(مسألة) : إذا دار الأَمْر بين أن يُدرِك الجماعة في أوَّل الوقت بالتَّيمُّم، أو يتطهَّر بالماء آخِر الوقت وتفوته الجماعة؛ فيجب عليه تقديم الصَّلاة أول الوقت بالتَّيمُّم، لأنَّ الجماعة واجبة.
قوله: "وصِفَتُه أَنْ يَنْوِي, ثم يُسَمِّي, ويَضْرِبُ التُّرابَ بِيَدَيْه", لم يَقُلْ: الأرض، لأنَّهم يشتَرِطون التُّراب، والصَّواب أن يُقال: ويَضْرِب الأرضَ سواء كانت تراباً، أم رَمْلاً، أم حجَراً.
قوله: "مُفَرَّجَتَي الأصَابِعِ", أي: مُتَباعِدة؛ لأجْل أن يَدْخُل التُّراب بينها، لأنَّ الفقهاء يَرَوْن وُجوب استيعاب الوَجْه والكفَّين هنا، ولذلك قالوا: مُفَرَّجَتَي الأصابع. والأحاديثُ الواردة عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه ضَرَبِ بِيَديه ليس فيها أنه فرَّج أصابعه. وطهارة التَّيمُّم مبنيَّة على التَّسهيل والتَّسامُحُ، ليست كطهارة الماء.
قوله: "يمسح وجهه بباطنها وكفَّيْه بِراحَتَيْهِ". أي: بِباطن الأصابع، ويَتْرُك الرَّاحتَين، فلا يَمْسَح بهما، لأنه لو مَسَحَ بكلِّ باطن الكفِّ، ثم أراد أن يَمْسَح كفَّيه؛ صار التُّراب مستعمَلاً في طهارة واجبة؛ فيكون طاهراً غيرمطهِّر على المذهب, والصَّحيح كما سبق أنَّه لا يوجد تراب يُسمَّى' طاهرٌ غيرُ مطهِّر وأن التُّراب المستعمَل في طهارة واجبة طَهُور، وحينئذ لا حاجة إلى هذه الصِّفة.(1/100)
قوله: "ويخلِّل أصابِعَه". أي: وُجوباً، بخلاف طهارة الماء فإنه مُسْتَحَبٌّ. ونحن نقول: إثبات التَّخليل ـ ولو سُنَّة ـ فيه نَظَر؛ لأن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حديث عمَّار لم يخلِّل أصابعَه. ولهذا ففي النَّفس شيء من استحِباب التخليل في التَّيمُّم لأمرين: أولاً: أنه لم يَرِدْ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وثانياً: أنَّ طهارة التَّيمُّم مبنيَّة على التَّيسير والسُّهولة، بخلاف الماء؛ ففي طهارة الماء في الجنابة يجب استيعاب كل البَدَنِ؛ وفي التَّيمُّم عُضوان فقط، وفي التَّيمُّم لا يجب استيعاب الوَجْه والكفَّين على الرَّاجِح، بل يُتَسامَح عن الشَّيء الذي لا يَصِل إليه المسْح إلا بمشقَّة كباطن الشَّعْر، فلا يجب إيصال التُّراب إليه ولو كان خفيفاً، فيُمْسَح الظَّاهرُ فقط، وفي الوُضُوء يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشَّعر إذا كان خفيفاً، ولأن التَّيمُّم لا مضمضة فيه ولا استنشاق، ولأنَّ ما كان من مسافط الجبهة لا يجب إيصال التراب إليه بخلاف الماء . فالصَّواب: أن نَقْتَصِر على ظاهر ما جاء عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في هذا.
والكيفيَّة عندي التي توافق ظاهر السُّنَّة: أن تَضْرب الأرض بيدَيك ضَرْبة واحدة بلا تفريج للأصابع، وتَمْسَح وجهك بكفَّيك، ثم تَمْسَح الكفَّين بعضهما ببعض، وبذلك يَتِمُّ التَّيمُّم. ويُسَنُّ النَّفْخ في اليدين ؛ لأنه وَرَدَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، إلا أن بعض العلماء قيَّده بما إذا عَلِق في يدَيه تراب كثير.
بابُ إزَالة النَّجَاسَة(1/101)
قوله: "يُجزِئ في غَسْلِ النَّجاسات كلها إذا كانت على الأرض غسلةٌ واحدةُ تذهبٌ بعين النجاسة". هذا تخفيف باعتبار الموضع، فإذا طرأت النَّجاسة على أرض؛ فإنه يُشترَط لطِهَارتها أن تزول عَينُ النَّجاسة ـ أيًّا كانت ـ بغَسْلَة واحدة، فإن لم تَزُلْ إلا بغَسْلَتين، فَغَسْلَتان، وبثلاث فثلاث. وإن كانت النَّجاسة ذات جِرْمٍ فلا بُدَّ أولاً من إزالة الجِرْمِ كما لو كانت عَذِرَة، أو دَمَاً جَفَّ، ثم يُتبع بالماء. فإن أزيلت بكلَّ ما حولها من رطوبة كما لو اجتثت اجْتِثاثاً، فإنه لا يحتاج إلى غَسْل، لأن الذي تلوَّث بالنَّجاسة قد أُزيل.
قوله: "وعلى غَيْرِها سَبْعٌ", أي: يُجزئ في غَسْل النَّجاسات على غير الأرض سَبْعُ غَسْلات، فلا بُدَّ من سَبْع، كلُّ غَسْلَة منفصلة عن الأخرى، فيُغسَل أولاً، ثم يُعصَر، وثانياً ثم يُعصَر وهكذا إلى سَبْع.
قوله: "إحْدَاها بتراٍب في نجاسةِ كَلْبٍ وخِنْزيرٍ", أي: إحدى الغَسْلات السَبْعِ بتراب.(1/102)
وقوله: "كَلْب" يشمل الأسودَ، والمُعلَّم وغيرهما، وما يُباح اقتناؤه وغيره، والصَّغير، والكبير. ويشمل أيضاً لما تنجَّس بالوُلوغ، أو البَول، أو الرَّوث، أو الرِّيق، أو العَرَق. وقال بعض الظَّاهريَّة: إنَّ هذا الحُكم فيما إذا وَلَغَ الكلب، أما بَوْله، ورَوْثه فكسائر النَّجاسات. وجمهور الفقهاء قالوا: إن روثه، وبوله كوُلُوغه، بل هو أخبث، ورجَّحَ بعض المتأخِّرين مذهب الظَّاهريَّة، لا من أجل الأخذ بالظَّاهر؛ ولكن من أجل امتناع القياس( وقالوا ) : إن لُعاب الكلب فيه دودة شريطيَّة ضارَّة بالإنسان، وإذا وَلَغَ انفصلت من لُعابه في الإناء، فإذا استعمله أحد بعد ذلك فإنها تتعلَّق بمعدة الإنسان وتخرقها ولا يُتلفها إلا التُّراب. ولكن هذه العِلَّة إذا ثبتت طبيًّا، فهل هي منتفية عن بوله، وروثه؟يجب النَّظر في هذا، فإذا ثبت أنها منتفية، فيكون لهذا القول وجه من النَّظر، وإلا فالأحْوَط ما ذهب إليه عامة الفقهاء، لأنك لو طهَّرته سبعاً إحداها بالتُّراب لم يَقُل أحد أخطأت، ولكن لو لم تطهِّره سَبْع غسلات إحداها بالتُّراب، فهناك من يقول: أخطأت والإناء لم يطهُر.
قوله: "وخِنْزير" الخنزير: حيوان معروف بفَقْدِ الغِيرة، والخُبث، وأكل العَذِرة، وفي لحمه مكروبات ضارَّة قيل إن النَّار لا تؤثِّر في قتلها، ولذا حَرَّمه الشَّارع. والفقهاء ـ رحمهم الله ـ ألحقوا نجاسته بنجاسة الكلب لأنه أخبث من الكلب ، فيكون أوْلى بالحكْم منه . وهذا قياس ضعيف ، لأن الخنزير مذكور في القرآن، وموجود في عهد النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، ولم يَرِدْ إلحاقه بالكلب. فالصَّحيح : أن نجاسته كنجاسة غيره فتُغسل كما تُغسل بقية النَّجاسات.(1/103)
قوله: "ويجزئ عن التراب أشنانٌ, ونحوه". الأشنان: شجر يُدَقُّ ويكون حبيبات كحبيبات السُّكَّر أو أصغر، تغسل به الثِّياب سابقاً، وهو خشن كخشونة التُّراب، ومنظِّف، ومزيل، ولهذا قال المؤلِّف: يجزئ عن التُّراب في نجاسة الكلب. وهذا فيه نظر . (و) الصَّحيح: أنه لا يجزئ عن التُّراب، لكن لو فُرض عدم وجود التُّراب ـ وهذا احتمال بعيد ـ فإن استعمال الأشنان، أو الصَّابون خير من عَدَمه.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنَّ الكلب إذا صادَ، أو أمسك الصَّيد بفمه، فلا بُدَّ من غسْل اللحم الذي أصابه فمه سبع مرات إحداها بالتُّراب، أو الأشنان، أو الصَّابون، وهذا هو المذهب. (و) الصَّحيح: أنه لا يجب غسل ما أصابه فَمُ الكلب عند صيده هذا مما عَفَا عنه الشَّارع ( وهذا اختيار ) شيخ الإسلام - رحمه الله - .
قوله: "وفي نجاسةِ غَيْرهما سَبْعٌ بلا تُرابٍ". أي: يجزئ في نجاسة غير الكلب والخنزير سبع غسلات بلا تراب، فلا بُدَّ من سبع، بأن تُغسل أولاً، ثم تُعصر، ثم تغسل ثانياً ثم تُعصر، وهكذا إلى سبع غسلات، وإن احتاج إلى الدلك فلا بُدَّ من الدَّلك،
وإذا زالت النَّجَاسة بأوَّل غسلة، وبقي المحلُّ نظيفاً، لا رائحة فيه، ولا لون فلا يطهر إلا بإكمال السَّبع وهذا هو المذهب. وقال بعض العلماء: إنه لابدَّ من ثلاث غسلات. وقال آخرون: تكفي غَسْلة واحدة تزول بها عَيْن النَّجاسة، ويطهر بها المحلُّ. والصَّحيح: أنه يكفي غسلة واحدة تذهب بعين النَّجاسة، ويطهُر المحل، ما عدا الكلب فعلى ما تَقدَّم. فإن لم تَزُلْ النَّجاسة بغسلةٍ زاد ثانية، وثالثة وهكذا، ولو عشر مرات حتى يطهُر المحلُّ .(1/104)
قوله: "ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ بشمسٍ", المتنجِّس ما أصابته النَّجاسة. أو هو هنا نكِرة في سِيَاق النَّفي، فتعمُّ كلَّ متنجِّس سواء كان أرضاً، أو ثوباً، أو فراشاً، أو جداراً، أو غير ذلك، فلا يطهُر بالشَّمس يعني بذهاب نجاسته بالشمس. وهذا هو المشهور من المذهب أنَّ الماء يُشْتَرَط لإزالة النَّجاسة، فلو كان هناك شيء متنجس بادٍ للشمس كالبول على الأرض ومع طول الأيام؛ ومرور الشمس عليه زال بالكليِّة، وزال تغيُّرُه فلا يطهُر، بل لابُدَّ من الماء. وذهب أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ إلى أن الشمس تطهر المتنجس، إذا زال أثر النَّجاسة، بها وأنَّ عين النَّجاسة إذا زالت بأيِّ مزيل طَهُر المحلُّ، وهذا هو الصَّواب .
قوله: "ولا ريح", أي لا يطهُر المتنجِّس بالرِّيح يعني الهواء. هذا هوالمشهور من المذهب. والقول الثَّاني: أنه يطهُر المتنجِّس بالريح، لكن مجرد اليُبْس ليس تطهيراً، بل لابدَّ أن يمضي عليه زمن بحيث تزول عين النَّجاسة وأثرها، لكن يُستثنى من ذلك: لو كان المتنجِّس أرضاً رمليَّة؛ فحملت الرِّيح النَّجاسة وما تلوَّث بها؛ فإنها تطهر.
قوله: "ولا دَلْكٍ". أي: لا يطهُر المتنجِّس بالدَّلكِ مطلقاً؛ سواء كان صقيلاً تذهب عين النَّجاسة بدلكه كالمرآة، أم غير صقيل هذا هو المذهب. والقول الثَّاني: أن المتنجِّس ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما يمكن إزالة النَّجاسة بِدَلْكِه وذلك إذا كان صقيلاً كالمرآة، والسَّيف، ومثل هذا لا يتشرَّب النَّجاسة، فالصَّحيح أنه يطهُر بالدَّلْكِ، فلو تنجَّست مرآة، ثم دَلَكْتَها حتى أصبحت واضحة لا دَنَسَ فيها فإنها تطهُر.
الثاني: ما لا يمكن إزالة النَّجاسة بِدَلْكِه، لكونه خشناً، فهذا لا يطهُر بالدَّلك، لأن أجزاءً من النَّجاسة تبقى في خلاله.(1/105)
قوله: "ولا استحالة غير الخمرة", استحال: أي تحوَّل من حالٍ إلى حال. أي: أن النَّجاسة لا تطهر بالاستحالة؛ لأنَّ عينها باقية. مثاله: رَوْثُ حمار أُوقِدَ به فصار رماداً؛ فلا يطهُر؛ لأن هذه هي عين النَّجاسة، وقد سبق أن النَّجاسة العينيَّة لا تطهُر أبداً .
قوله: "غَيْرَ الخَمْرَة", الخَمْرُ: اسم لكل مُسكِر. هكذا فسَّره النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ. ( مسألة ): نجاسة الخمر : جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة , وشيخ الإسلام أنها نجسة. والصحيح : أنها ليست نجسة .
قوله: "فإن خُلِّلَتْ", الضَّمير يعود إلى الخمرة، وتخليلها أن يُضاف إليها ما يُذهِب شدَّتها المسْكِرة من نبيذ أو غيره، أو يصنع بها ما يذهب شدَّتها المسْكِرة. والمشهور من المذهب: أنها إذا خُلِّلَتْ لا تطهُر، ولو زالت شدَّتُها المسكرة، ولا فرق بين أن تكون خمرة خَلاَّل، أو غيره؛ لأن بعض العلماء استثنى خمرة الخلاَّل وقال: إنه يجوز تخليلُها؛ لأن هذه هي كلُّ ماله، فإذا منعناه من التَّخليل أفسدنا عليه ماله. ولكن الصَّحيح : أنَّه لا فرق، وأن الخمر متى تخمَّرت أريقت؛ ولا يجوز أن تُتَّخذ للتَّخليل بخلاف ما إذا تخلَّلت بنفسها فإنها تطهُر وتحِلُّ. وقال بعض العلماء: إنها تطهُر، وتحلُّ بذلك، مع كون الفعل حراماً. وقال آخرون: إنْ خلَّلها مَنْ يعتقدُ حِلَّ الخمرِ كأهل الكتاب؛ اليهود والنَّصارى، حَلَّت، وصارت طاهرة. وإن خلَّلها مَنْ لا تَحِلُّ له فهي حرام نجسة ، وهو أقرب الأقوال. وعلى هذا يكون الخلُّ الآتي من اليهود والنَّصارى حلالاً طاهراً، لأنهم فعلوا ذلك على وجه يعتقدون حِلَّه، ولذا لا يُمنعون من شرب الخمر.
قوله: "أَوْ تَنَجَّسَ دُهْنٌ مائعٌ لم يَطْهُر", الدُّهن تارة يكون مائعاً، وتارة يكون جامداً، والمائع قيل: هو الذي يتسرَّب أو يجري إذا فُكَّ وعاؤه، فإن لم يتسرَّب فهو جامد. وقيل: هو الذي لا يمنع سريان النَّجاسة.(1/106)
فإذا كان جامداً، وتنجَّس، فإنها تزال النَّجاسة، وما حولها. مثاله: سقطت فأرة في وَدَكٍ جامد فماتت، فالطَّريق إلى طهارته أن تأخذ الفأرة، ثم تقوِّر مكانها الذي سقطت فيه، ويكون الباقي طاهراً حلالاً. وإن كان مائعاً، فالمشهور من المذهب أنَّه لا يطهُر، سواء كانت النَّجاسة قليلة أم كثيرة، وسواء كان الدُّهن قليلاً أم كثيراً، وسواء تغيَّر أم لم يتغيَّر، فمثلاً: إذا سقطت شعرة فأرة في "دَبَّةٍ" كبيرة مملوءة من الدُّهن المائع، فينجُس هذا الدُّهن ويفسد. والصَّواب: أن الدُّهن المائع كالجامد؛ فتلقي النجاسة وما حولها، والباقي طاهر.
قوله: "وإن خَفِيَ مَوْضِعُ نجاسةٍ غَسَل حَتَّى يَجْزِمَ بزَوالِهِ", يعني: إذا أصابت النَّجاسة شيئاً، وخفي مكانها، وجب غسل ما أصابته حتى يتيقَّن زوالها.
واعْلَمْ أنَّ ما أصابته النَّجاسة لا يخلو من أمرين: إما أن يكون ضيِّقاً، وإمَّا أن يكون واسعاً. فإن كان واسعاً فإنه يتحرَّى، ويغسل ما غلب على ظنِّه أنَّ النَّجاسة أصابته، لأن غسْل جميع المكان الواسع فيه صُعوبة. وإن كان ضيِّقاً، فإنَّه يجب أن يَغسِل حتى يَجزِم بزوالها. مثال ذلك: أصابت النَّجاسة أَحَدَ كُمَّي الثَّوب، ولم تعرف أيَّ الكُمَّين أصابته، فيجب غسل الكَمَّين جميعاً، لأنه لا يجزم بزوالها إلا بذلك. وكذا لو علمتَ أحدهما، ثم نسيتَ فيجب غسلهما جميعاً. وكلامه ـ رحمه الله ـ يدلُّ على أنه لا يجوز التَّحرِّي ولو أمكن؛ لأنه لا بُدَّ من الجزم واليقين. والصَّحيح: أنه يجوز التَّحرِّي، وعليه؛ إذا كان للتَّحرِّي مجال، فتتحرَّى أيَّ الكُمَّين أصابته النَّجاسة، ثم تغسله. مثال ذلك: لو مرَرْتَ بالنَّجاسة عن يمينك، وأصابك منها، ولا تدري في أيِّ الكُمَّين، فهنا الذي يغلب على الظَّن أنَّه الأيمن، فيجب عليك غسله دون الأيسر. أما إذا لم يكن هناك مجال للتَّحرِّي، فتغسل الكُمَّين جميعاً؛ لأنك لا تجزم بزوال النَّجاسة إلا بذلك .(1/107)
قوله: "ويَطْهُرُ بَولُ غلامٍ". "بول": خرج به الغائط. "غلام": خرج به الجارية.
قوله: "لم يأكُل الطَّعامَ بنضْحِه". خرج من يأكل الطَّعامَ ،أي: يتغذَّى به. والنَّضح: أن تُتْبِعَهُ الماءَ دون فَرْكٍ، أو عَصْرٍ حتى يشمله كلَّه. وغائط هذا الصبي كغيره لا بُدَّ فيه من الغَسْل.
قوله: "ويُعْفَى في غير مائعٍ، ومَطْعُومٍ عن يسيرِ دمٍ نجسٍ." العفو: التَّسامح والتَّيسير. والمائع: هو السَّائل، كالماء، واللَّبَن، والمرَق. والمطعوم: ما يُطعَم كالخبز، وما أشبه. فيُعفى في غير هذين النَّوعين كالثياب، والبدن، والفُرش، والأرض وما أشبه ذلك عن يسيرِ دمٍ نجس... الخ. أما المائع والمطعوم؛ فلا يُعفى عن يسيره فيهما، هذا هو المذهب، والرَّاجح: العفو عن يسيره فيهما كغيرهما ما لم يتغيَّر أحدُ أوصافهما بالدَّمِ.
قوله: "دم نجس" عُلِمَ منه أن الدَّمَ الطَّاهر غير داخل في هذا؛ ويتبيَّن ذلك ببيان أقسام الدِّماء. فالدماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نجس لا يُعْفَى عن شيء منه، وهوالدَّمُ الخارج من السَّبيلَين، ودم محرَّم الأكل إذا كان مما له نَفْسٌ سائلة كدم الفأرة والحمار، ودم الميْتة من حيوان لا يحلُّ إلا بالذَّكاة .
الثاني: نجس يُعْفَى عن يسيره، وهو دم الآدمي وكلُّ ما ميتته نجسة، ويُستثنى منه دَمُ الشَّهيد عليه، والمسك ووعاؤه، وما يبقى في الحيوان بعد خروج روحه بالذَّكاة الشَّرعيَّة؛ لأنَّه طاهر.
الثالث: طاهر، وهو أنواع: 1ـ دم السمك، لأن ميْتته طاهرة، وأصل تحريم الميتة من أجل احتقان الدَّمِ فيها، ولهذا إذا أُنهِرَ الدَّمُ بالذَّبْح صارت حلالاً.
2ـ دم ما لا يسيل دمه؛ كدم البعوضة، والبقِّ، والذُّباب، ونحوها، فلو تلوَّث الثَّوب بشيء من ذلك فهو طاهر، لا يجب غَسْلُه.
3ـ الدَّمُ الذي يبقى في المذكَّاة بعد تذكِيَتِها، كالدَّمِ الذي يكون في العُروق، والقلب، والطِّحال، والكَبِد، فهذا طاهر سواء كان قليلاً، أم كثيراً.(1/108)
4ـ دَمُ الشَّهيد عليه طاهر. وهل هو طاهر لأنَّه دم شهيد، وهذا ما ذهب إليه الجمهور، أم أنَّه طاهر لأنه دم آدمي؟ فعلى رأي الجمهور: لو انفصل عن الشَّهيد لكان نجساً. وعلى الرأي الثَّاني: هو طاهر؛ لأنَّه دم آدمي.
والقول بأن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السَّبيلَين قول قويٌّ جداً .
قوله: "من حيوانٍ طاهرٍ". الحيوانات قسمان: طاهر، ونجس.
فالطَّاهر: 1ـ كلُّ حيوان حلال كبهيمة الأنعام، والخَيل، والظِّباء، والأرانب ونحوها .
2ـ كلُّ ما ليس له دم سائل فهو طاهر في الحياة، وبعد الموت، وسبق أن الدَّمَ من هذا الجنس طاهر.
والنَّجس: كل حيوان محرَّم الأكل؛ إلا الهِرَّة وما دونها في الخِلْقة فطاهر على المذهب؛ لحديث أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قُدِّمَ إليه ماء ليتوضَّأ به، فإذا بِهرَّة فأصغى لها الإناء حتى شربت، ثم قال: إن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال في الهِرَّة: "إنها ليست بِنَجَسٍ، إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات". وسواء كان ما دون الهرة من الطوَّافين، أم لم يكن من الطَّوَّافين، حتى ولو كان لا يوجد في البيوت أبداً. ولكن ظاهر الحديث: أن طهارتها لمشَقَّة التَّحرُّز منها؛ لكونها من الطوَّافين علينا؛ فيكثر تردُّدها علينا، فلو كانت نجسة؛ لَشقَّ ذلك على النَّاس. وعلى هذا يكون مناطُ الحُكْمِ التَّطْوَافَ الذي تحصُل به المشقَّة بالتَّحرُّز منها، فكل ما شقَّ التَّحرُّز منه فهو طاهر.
فعلى هذا؛ البغل والحمار طاهران، وهذا هو القول الرَّاجح الذي اختاره كثير من العلماء.
قوله: "وعَنْ أَثَرِ استجمارٍ بِمَحَلِّه". أي:يُعفى عن أثر استجمار بمحلِّه . والمراد: الاستجمار الشَّرعي، الذي تَمَّتْ شروطُه، وقد سبق ذلك في باب الاستنجاء, فإذا تَمَّتْ شروطُه، فإنَّ الأثر الباقي بعد هذا الاستجمار يُعْفَى عنه في محلِّه، ولا يطهُر المحلُّ بالكُليَّة إلا بالماء.(1/109)
وعُلِم من قوله : "بمحلِّه" أنه لو تجاوز محلَّه لم يُعْفَ عنه، كما لو عَرِقَ وسال العَرَقُ، وتجاوز المحلَّ، وصار على سراويله أو ثوبه، أو صفحتي الدُّبر، فإنه لا يُعْفَى عنه حينئذ، لأنه تعدَّى محلَّه.
وعُلِمَ من كلامه ـ رحمه الله ـ أنَّ الاستجمار لا يُطَهِّر، وأن أثره نجس، لكن يُعْفَى عنه في محلِّه. والصَّحيح: أنه إذا تَمَّتْ شروط الاستجمار، فإنه مطَهِّر. وبناءً على هذا القول ـ الذي هو الرَّاجح ـ لو تعدَّى محلَّه، وعَرِقَ في سراويله فإنه لا يكون نجساً، لأنَّ الاستجمار مطهِّر، لكنَّه عُفي عن استعمال الماء تيسيراً على الأمة.
فهذان اثنان مما يُعْفَى عنهما:
1ـ يسير الدَّم النَّجس من حيوان طاهر.
2ـ أثر الاستجمار بمحلِّه.
وظاهر كلامه: أنه لا يُعفَى عن يسير شيء مما سواهما، فالقَيء مثلاً لا يُعفَى عن يسيره، وكذلك البول، والرَّوث.
وللعلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في هذه المسألة أقوال: القول الأول: أنَّه لا يُعفَى عن اليسير مطلقاً.(و) القول الثَّاني: المذهب على التَّفصيل السَّابق. (و) القول الثَّالث: أنه يُعفَى عن يسير سائر النَّجاسات. وهذا مذهب أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة,0( وهذا القول هو) الصحيح .
ومن يسير النَّجاسات التي يُعْفَى عنها لمشَقَّةِ التَّحرُّز منه: يسير سَلَسِ البول لمن ابتُلي به، وتحفَّظ تحفُّظاً كثيراً قدر استطاعته.
قوله: "ولا يَنجُسُ الآدمِيُّ بالمَوْتِ", الآدمي: مَنْ كان من بني آدم من مؤمن، وكافر، وذكر، وأنثى، وصغير، وكبير، فإنه لا يَنجُسُ بالموت.وهذا هو القول الصَّحيح. وقال بعض العلماء: إن الكافر يَنجُس بالموت .
قوله: "وما لا نَفْسَ له سائِلَةٌ متَولِّد مِنْ طاهر". قوله: "نَفْس": أي: دم. وقوله:"سائلة" أي: يسيل إذا جُرِح، أو قُتِل.
وقوله "متولِّد من طاهر": أي مخلوق من طاهر. فاشترط المؤلِّف ـ رحمه الله ـ شرطين:
الأول: ألا يكون له نَفْس سائلة.(1/110)
الثَّاني: أن يكون متولِّداً من طاهر، فهذا لا يَنْجُس بالموت، وكذلك لا يَنْجُس في الحياة من باب أَوْلَى.
مثال ذلك: الصَّراصير، والخنفساء، والعقرب، والبَقُّ (صغار البعوض)، والبعوض، والجراد. فإذا سَقَطَتْ خنفساء في ماء وماتت فيه، فلا يَنْجُس؛ لأنها طاهرة.ىوأما الوزغُ؛ فقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ : "إنَّ له نَفْساً سائلة" وعلى هذا تكون ميتته نَجِسَة، والفأرة لها نَفْس سائلة، فإذا ماتت فهي نَجِسَة.
ومفهوم قوله: "متولِّد من طَاهرٍ" أنَّه إذا تولَّد من نَجِسٍ فهو نَجِسٌ، وهذا مبنيٌّ على أنَّ النَّجس لا يطهُر بالاستحالة.
وأمَّا على قول من يقول: بأنَّ النَّجس يطهر بالاستحالة فإن ميتته طاهرة؛ وعليه فلا يشترط أن يكون متولِّداً من طاهر. فصراصير الكُنُفِ (المراحيض) ـ على المذهب ـ نجسة؛ لأنها متولِّدة من نجس، وعلى القول الثَّاني طاهرة .
قوله: "وبَوْلُ ما يُؤكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثُه", يعني: أنه طاهر. كالإبل، والبقر، والغنم، والأرانب، وما شابه ذلك.
قوله: "ومَنِيّه", أي: منيُّ ما يُؤكل لحمه. أي: طاهر. وعُلِم من كلامه أن له مَنِيّاً .
قوله: "ومنيُّ الآدمَيّ", أي: طاهر.
قوله: "ورُطُوبَةُ فرجِ المرْأَةِ", أي: طاهر. واخْتُلِفَ في هذه المسألة. فقال بعض العلماء: إنها نجسة، وتُنَجِّسُ الثِّياب إذا أصابتها. وفي هذا القول من الحرج والمشقَّة ما لا يعلمه إلا الله تعالى، خصوصاً مَنِ ابتُلِيَتْ به من النِّساء؛ لأنَّ هذه الرُّطوبة ليست عامَّة لكُلِّ امرأة، فبعض النِّساء عندها رطوبة بالغة تخرج وتسيل، وبعض النِّساء تكون عندها في أيام الحمل، ولاسيَّما في الشُّهور الأخيرة منه، وبعض النساء لا تكون عندها أبداً. وقال بعض العلماء: إنها طاهرة، وهو المذهب. ( وهذا القول هو ) الصَّواب .(1/111)
( فائدة ): للفرجَ مجريان: الأولُ: مجرى مسلك الذَّكر، وهذا يتَّصل بالرَّحم، ولا علاقة له بمجاري البول ولا بالمثانة، ويخرج من أسفل مجرى البول.
الثَّاني: مجرى البول، وهذا يتَّصل بالمثانة ويخرج من أعلى الفرج.
فإذا كانت هذه الرُّطوبةُ ناتجةً عن استرخاء المثانة وخرجت من مجرى البول، فهي نجسةٌ. وحكمها حكم سلس البول. وإذا كانت من مسلك الذَّكر فهي طاهرة، لأنها ليست من فضلات الطعام والشراب، فليست بولاً، والأصل عدم النَّجاسة حتى يقومَ الدَّليل على ذلك، ولأنَّه لا يلزمه إذا جامع أهله أن يغسل ذكره ولا ثيابه إذا تلوَّثت به، ولو كانت نجسةٌ للزم من ذلك أن ينْجُسَ المنيُّ، لأنَّه يتلوَّث بها.
وهل تنقض هذه الرُّطوبةُ الوُضُوءَ؟ أما ما خرج من مسلك البول، فهو ينقضُ الوُضُوء، لأنَّ الظَّاهر أنَّه من المثانة.
وأما ما خرج من مسلك الذَّكر: فالجمهور: أنه ينقض الوُضُوء. وقال ابن حزم: لا ينقض الوُضُوء، وقال: بأنه ليس بولاً ولا مذياً، ومن قال بالنَّقض فعليه الدَّليل، بل هوكالخارج من بقية البدن من الفضلات الأخرى. ولم يذكر بذلك قائلاً ممن سبقه. والقول بنقض الوُضُوء بها أحوط. فيُقال: إن كانت مستمرَّة، فحكمها حكم سلس البول، أي: أن المرأة تتطهَّر للصلاة المفروضة بعد دخول وقتها، وتتحفَّظُ ما استطاعت، وتُصلِّي ولا يضرُّها ما خرج. وإن كانت تنقطع في وقت معيَّن قبل خروج الصَّلاة فيجب عليها أن تنتظرَ حتى يأتيَ الوقتُ الذي تنقطع فيه؛ لأنَّ هذا حكم سلس البول.
قوله: "وسؤرُ الهِرَّة وما دونها في الخِلْقَة طاهر", السُّؤر: بقيَّة الطَّعام والشَّراب، ومنه كلمة سائر: بمعنى الباقي.
والدَّليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الهِرَّة: "إنَّها ليست بنجس، إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات".
(و)الطَّوَّافُ من يُكثر التِّرداد، ومنه الطَّوَاف بالبيت، لأنَّ الإنسان يكثر الدَّوران عليه.(1/112)
وقوله: "وما دونها في الخِلْقَة طاهر". والدَّليل: القياس على الهِرَّة. وعلى هذا: كلُّ ما يكثر التطواف على الناس؛ مما يشقُّ التَّحرُّز منه فحكمه كالهَّرة. لكن يُستثنى من ذلك ما استثناه الشَّارع، وهو الكلب .
قوله: "وسباع البهائم", يعني: نجسة. وسباع البهائم: هي التي تأكل وتفترس كالذِّئبِ، والضَّبُعِ، والنَّمِر، والفَهْدِ، وابن آوى، وابن عُرس، وما أشبه ذلك مما هو أكبر من الهِرَّة.
قوله: "والطير". أي: وسباع الطَّير كالنسر، التي هي أكبر من الهرة.
قوله: "والحمارُ الأهليُّ", احترازاً من الحمار الوحشيِّ، لأن الوحشيَّ حلالُ الأكل فهو طاهر. وأما الأهليُّ فهو محرَّمٌ نجِسٌ .
قوله: "والبغل منه: نَجِسةٌ", أي: من الحمار الأهليِّ، والبغل: دابَّة تتولَّد من الحمار إذا نَزَا على الفرس. وإذا كانت هذه الأشياء نجسة، فإن آسارَها ـ أي: بقيةُ طعامها وشرابِها ـ نجسةٌ. فلو أن حماراً أهليًّا شرب من إناء، وبقي بعد شربه شيء من الماء، فإنه نجس على كلام المؤلِّف. وذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أن آسار هذه البهائم طاهرةٌ إذا كانت كثيرةَ الطَّواف علينا . وقال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ: إنَّ الحمار والبغل طاهران . وهذا هو الصَّحيح. وعلى هذا فسؤرهما، وعرقهما، وريقهما، وما يخرج من أنفهما طاهر .
بابُ الحَيْضِ
هذا الباب من أصعب أبواب الفقه عند الفقهاء، وقد أطالوا فيه كثيراً. وفيما يبدو لنا أنَّه لا يحتاج إلى هذا التَّطويل والتفريعات والقواعد التي أطال بها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ والتي لم يكن كثيرٌ منها مأثوراً عن الصَّحابة رضي الله عنهم. فالمرأة إذا جاءها الحيض تركت الصَّلاة ونحوها، وإذا طَهُرَتْ منه صلَّت، وإذا تنكَّر عليها لم تجعله حيضاً. فقواعده في السُّنَّة يسيرة جدًّا، ولهذا كانت الأحاديث الواردة فيه غير كثيرة.
الحيض : في اللُّغة: السَّيلان، يُقال: حَاضَ الوادي إذا سال.(1/113)
وفي الشَّرع: دم طبيعة يصيب المرأة في أيام معلومة إذا بلغت. خلقه الله تعالى لحكمة غذاء الولد، ولهذا لا تحيض الحامل في الغالب، لأن هذا الدَّم ـ بإذن الله ـ ينصرف إلى الجنين عن طريق السُّرَّة، ويتفرَّق في العروق ليتغذَّى به، إذ إنه لا يمكن أن يتغذَّى بالأكل والشُّرب في بطن أمه، لأنه لو تغذَّى بالأكل والشُّرب لاحتاج غذاؤه إلى الخروج. هكذا قال الفقهاء - رحمهم الله - .
قوله: "لا حَيضَ قبل تسع سنين". أي: لا حيض شرعاً قبل تسع سنين، فإن حاضت قبل تمام التِّسع فليس بحيض، حتى وإن حاضت حيضاً بالعادة المعروفة، وبصفة الدَّم المعروف، فإنه ليس بحيض، بل هو دم عِرْق، ولا تثبت له أحكامُ الحيض. وقوله: "قبل تسع سنين" أي انتهاؤها، فإذا حاضت من لها تسعٌ، فليس بحيض، وبعد التِّسع حيض .
قوله: "ولا بعد خمسين", أي: ولا حيض بعد تمام خمسين سنة، فلو أنَّ امرأة استمرَّ بها الحيض على وتيرة وطبيعة واحدة بعد تمام الخمسين فليس بحيض. (وهذا هو المذهب), وقال شيخُ الإسلام، وابنُ المنذر، وجماعةٌ من أهل العلم: إنه لا صحَّة لهذا التَّحديد، وأن المرأة متى رأت الدَّم المعروف عند النِّساء أنه حيض؛ فهو حيض؛ صغيرةً كانت أم كبيرةً. ( وهذا هو ) الصواب .(1/114)
قوله: "ولا مع حَمْلٍ". أي: لا حيض مع الحمل، أي حال كونها حاملاً، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : "إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدَّم". وقال بعض العلماء: إن الحامل قد تحيض إذا كان ما يأتيها من الدَّم هو الحيض المعروف المعتاد. (و)الرَّاجح: أن الحامل إذا رأت الدَّم المطَّرد الذي يأتيها على وقته، وشهره؛ وحاله؛ فإنه حيضٌ تترك من أجله الصَّلاة، والصَّوم، وغير ذلك. إلا أنه يختلف عن الحيض في غير الحمل بأنه لا عِبْرَة به في العِدَّة، لأن الحمل أقوى منه. والحيض مع الحمل يجب التحفُّظ فيه، وهو أنَّ المرأة إذا استمرت تحيضُ حيضَها المعتاد على سيرته التي كانت قبل الحمل فإنَّنا نحكم بأنه حيض. أما لو انقطع عنها الدَّم، ثم عاد وهي حاملٌ، فإنَّه ليس بحيضٍ.
قوله: "وأقلُّه يوم ٌوليلة", يعني: أقلَّ الحيض يومٌ وليلةٌ، والمراد أربعٌ وعشرون ساعة. هذا أنهى شيء في القِلَّة، فلو أنها رأت الحيض لمدَّة عشرين ساعة وهو المعهود لها برائحته، ولَونه، وثخونته، فليس حيضاً، فما نَقَصَ عن اليوم والليلة، فليس بحيض. هذا المذهب.(و) الصحيح: أنه لا حَدَّ لأقلِّه.
قوله: "وأكثَرُه خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً", أي: أكثر الحيض، وهذا المذهب. والصَّحيح في ذلك أيضاً: أنه لا حَدَّ لأكثره. فإذا كان لها عادة مستمرَّة مستقرَّة سبعة عشر يوماًـ مثلاًـ قلنا: هذا كله حيض.
أما لو استمرَّ الدَّم معها كُلَّ الشَّهر؛ أو انقطع مدَّة يسيرة كاليوم واليومين، أو كان متقطِّعاً يأتي ساعات، وتطهُر ساعات في الشَّهر كلِّه، فهي مستحاضة؛ وحينئذ نعاملها معاملة المستحاضة كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قوله: "وغَالِبُهُ ستٌّ، أو سَبْعٌ", أي: غالب الحيض ستُّ ليال أو سبع. وهذا صحيح؛ لثبوت السُّنَّة به. وهذا أيضاً هو الواقع، فإنه عند غالب النساء يكون ستًّا، أو سبعًا.(1/115)
قوله: "وأَقَلُّ الطُّهرِ بين الحَيْضَتَين ثَلاثَة عشَرَ يوماً". وكذا لو أتاها بعد عشرة أيام بعد طُهْرِها، فليس بحيض، فما تراه قبل ثلاثة عشر يوماً ليس بحيض، لكن له حُكْم الاستحاضة, ( وهذا هو المذهب ). والصَّحيح: أنه لا حدَّ لأقلِّ الطُّهر كما اختاره شيخ الإسلام، ومالَ إليه صاحب "الإنصاف"، وقال: "إنه الصَّواب".
قوله: "ولا حدَّ لأكثره", أي: لا حدَّ لأكثر الطُّهر بين الحيضتين، لأنه وُجِدَ من النساء من لا تحيض أصلاً، وهذا صحيحٌ.
قوله: "وتقضي الحائض الصَّوم، لا الصَّلاة", استفدنا من هذه العبارة أربعة ُأحكام:
الأول: أنَّها لا تصوم. الثاَّني: أنَّها لا تُصلِّي.
الثَّالث: أنَّها تقضي الصوم. الرَّابع: أنَّها لا تقضي الصَّلاة.
قوله: "ولا يَصحَّان منها". أي: لا يصحُّ منها صومٌ، ولا صلاةٌ. فلو أنها تذكَّرت فائتةً قبل حيضها، ثم قضتها حال الحيض لم تبرأ ذمَّتُها بذلك.
قوله: "بل يحرمان", أي: الصَّوم والصَّلاة. وتعليل ذلك: أنَّ كلَّ ما لا يصحُّ فهو حرام.
قوله: "ويحرم وطؤها في الفرج", أي: يحرم وطء الحائض في فرجها.
قوله: "فإن فعل", أي: وَطئها في الفَرْج .
قوله "فعليه دينار، أو نصفه كفَّارة", أي: يجب عليه دينار أو نصفه كفَّارة. والدِّينار: العُملة من الذَّهب، وزِنَةُ الديِّنار الإسلاميِّ مثقالٌ من الذهب، والمثقالُ غرامان وربع، والجنيه السعودي: مثقالان إلا قليلاً، فنصف جنيه سعودي يكفي، فيُسأل عن قيمته في السُّوق. فمثلاً: إذا كان الجنيه السعودي يساوي مائة ريال، فالواجب خمسون أو خمسة وعشرون ريالاً تقريباً، ويُدفع إلى الفقراء.
وقوله: "أو نِصْفُه" أو : للتخيير، فيجب عليه أن يتصدَّق بدينار، أو نصفه، لأنَّ الأصل في "أو" أنها للتخيير.(1/116)
والدَّليل على ذلك: ما رواه أهلُ السُّنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: "يتصدَّق بدينار أو بنصف دينار". واختلف العلماء في تصحيحه، فصحَّحه جماعةٌ من العلماء حتى قال الإمام أحمد: ما أحسنه من حديث. وقال أبو داود لمَّا رواه: هذه هي الرِّواية الصَّحيحة.
وضعَّفه بعض العلماء حتى قال الشَّافعيُّ ـ رحمه الله ـ : "لو ثبت هذا الحديث لَقُلْتُ به". ولهذا كان وجوبُ الكفَّارة من مفردات المذهب، والأئمة الثَّلاثة يرون أنَّه آثم بلا كفارة. والحديثُ صحيحٌ، لأنَّ رجالَه كلَّهم ثقاتٌ، وإذا صحَّ فلا يضرُّ انفرادُ أحمد بالقول به. فالصحيح : أنها واجبةٌ، وعلى الأقل نقولُ بالوجوب احتياطاً.
وهل على المرأة كفَّارة؟ سكت المؤلِّفُ عن ذلك. فقيل: لا كفارة عليها. وقيل: عليها كفَّارة كالرَّجل إن طاوعته.
ولا تجب الكفَّارة إلا بثلاثة شروط: أن يكون عالماً, ذاكراً, مختاراً. فإن كان جاهلاً للتّحريم، أو الحيضِ، أو ناسياً، أو أُكرهت المرأةُ، أو حَصَلَ الحيضُ في أثناء الجماع، فلا كفَّارة، ولا إثم.
قوله: "ويستمتعُ منها بما دُونه", أي: يستمتعُ الرَّجل من الحائض بما دون الفَرْج. فيجوز أن يستمتعَ بما فوق الإزار وبما دون الإزار، إلا أنَّه ينبغي أن تكون متَّزرة؛ لأنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يأمر عائشة رضي الله عنها أن تَتَّزِرَ فيباشرها وهي حائض ، وأَمْرُه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لها بأن تتَّزِرَ لئلا َّيَرى منها ما يكره من أثر الدَّم، وإذا شاء أن يستمتع بها بين الفخذين مثلاً، فلا بأس.(1/117)
وإذا استمتع منها بما دون الفَرْج فلا يجب عليه الغُسْل إلا أن يُنزِلَ. والمرأة إذا أنزلت وهي حائض استُحِبَّ لها أن تغتسل للجنابة، لئلا يبقى عليها أثر الجنابة، سواء حَدَثت لها الجنابة بعد الحيض كما لو احتلمت، أو كانت على جنابة حين الحيض، هكذا قال العلماء. وتستفيد من هذا الغسل استباحة قراءة ما تحتاجه من القرآن كالأوراد والتَّعلُّمِ والتَّعليم.
قوله: "وإذا انقطع الدَّم ولم تغتسل لم يُبَحْ غير الصِّيام والطَّلاق". يعني: إذا انقطع الدَّمُ ولم تغتسل؛ بقي كلُّ شيء على تحريمه إلا الصِّيامَ، والطَّلاقَ.
فإن قيل: هل يجوز الجِمَاع؟ فالجواب: لا، والدَّليلُ على هذا قوله تعالى: (( ولا تقربوهن حتى" يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله )). {البقرة: 222} .
فإن قيل: المراد بقوله: "تَطَهَّرْنَ" أي: غَسَّلْنَ أثرَ الدَّم؟ فالجواب: أنَّ هذا قال به بعضُ العلماء كابن حزم ـ رحمه الله ـ ، ولكن نقول: إن المراد بالتطهُّر هو التطهُّر من الحَدَث، وهذا لا يكون إلا بالاغتسال، والدَّليل على ذلك قوله تعالى: )) وإن كنتم جنبا فاطهروا )). {المائدة: 6} وقال تعالى: (( ولكن يريد ليطهركم )) .
قوله: "والمُبْتَدَأةُ تجلس أقلَّه، ثم تغتسلُ وتصلِّي". بدأ ـ رحمه الله ـ ببيان الدِّماء التي تكون حيضاً، والتي لا تكون حيضاً. والمُبْتَدأةُ: هي التي ترى الحيضَ لأوَّل مرَّة، سواءٌ كانت صغيرةً، أم كبيرة لم تحضْ من قبلُ ثم أتاها الحيضُ.
ومعنى قوله: "تجلسُ" أي: تدعُ الصَّلاةَ والصِّيام، وكلَّ شيء لا يُفْعَلُ حال الحيض. وقوله : "أقلُّه" أي: أقلُّ الحيض وهو يومٌ وليلةٌ.وقوله: "ثم تغتسل وتُصلِّي" أي: بعد أن يمضيَ عليها أربعٌ وعشرون ساعة، تغتسلُ وتُصلِّي ولو لم يتوقَّف الدَّمُ.(1/118)
وقوله: "وتصلِّي" أي: المفروضة. وظاهر كلامه حتى النَّوافل، وهل هذا الظَّاهر مرادٌ؟ الذي يظهر لي: أنَّه إنْ كان مراداً فهو ضعيف، لأنَّ صلاتها الآن من باب الاحتياط، فيجب عليها أن تقتصر على الفرائض, و(كذلك)
تصوم الصَّوم الواجب؛ كما لو ابتدأ بها في رمضان؛ فتجلس يوماً وليلة، ثم تصوم من باب الاحتياط.
قوله: "فإن انقطعَ لأكْثَره فما دُون اغتسلت عند انقطاعه", أي: انقطع الدَّم لأكثر الحيض كخمسة عشر يوماً، فما دونه كعشرة أيام، إن لم ينقصْ عن يوم وليلة. وسنقرِّر المذهب حتى نعرفه، ثم نرجع إلى القول الرَّاجح.
مثال ذلك: امرأة جلست يوماً وليلةً، ثم اغتسلت، وصارت تُصلِّي وتصوم الواجب، فانقطع لأكثره فأقل، فمثلاً: انقطع لعشرة أيام، فتغتسل مرَّةً أخرى، ولهذا قال: "اغتسلت عند انقطاعه" وهذا على سبيل الوجوب؛ لاحتمال أن يكون الزَّائدُ عن اليوم واللَّيلة حيضاً، فتغتسل احتياطاً، فهنا اغتسلت مرَّتين؛ الأولى عند تمام اليوم واللَّيلة، والثَّانية عند الانقطاع. ولنفرض أنَّه في شهر "محرَّم" فعلت هذا الشيء؛ فإذا جاء "صفر" تعمل كما عملت في "محرَّم"، فإذا جاء الشهر الثَّالث وهو "ربيعٌ الأولُ" تعمل كما عملت في شهر "محرَّم" تجلس يوماً وليلة، ثم تغتسل وتُصلِّي وتصوم، فإذا انقطع لعشرة أيام كما ذُكِرَ في المثال اغتسلت أيضاً ثانية وصلَّت، فالآن تكرَّر عليها ثلاثَ مرَّاتٍ.(1/119)
قوله: "فإن تكرَّر ثلاثاً فحيضٌ", كما في المثال السَّابق، فتكون عادتُها عشرةَ أيام، لكن ماذا تصنع بالنِّسبة لما بين اليوم والليلة إلى اليوم العاشر؛ لأنها كانت تُصلِّي فيها وتصوم، وتبيَّن أنَّها أيَّامُ حيض؟ فيُقال: أمَّا بالنَّسبة للصَّلاة فإنَّها وإن لم تصحَّ منها؛ فإنها لا تُقضى ، لأن َّالحائض لا تجب عليها الصَّلاةُ ولا تأثم بفعلها ؛ لأنَّها فعلتها تعبُّداً و واحتياطاً. وتقضي الصَّوم، لأنه تبينَّ أنَّها صامت في أيام الحيض، والصَّوم لا يصحُّ مع الحيض، لو فُرِضَ أنَّ هذا وَقَعَ في رمضان.
قوله: "وتقضي ما وَجَبَ فيه", أي: تُقضَى كلُّ عبادة واجبة على الحائض؛ لا تصحُّ منها حال الحيض، كما في المثال السَّابق. وهذه قاعدةٌ. فإن قُدِّرَ أن هذا الحيض لم يتكرَّر بعدده ثلاثاً، أي: جاءها أول شهر عشرةٌ، والشهرُ الثاني ثمانيةٌ، والثالُث ستةٌ، فالسِّتةُ هنا هي الحيض فقط، ففي الشَّهر الرَّابع إن تكررت الثمانية ثلاث مرَّات صارت عادتُها ثمانية، وفي الشهر الخامس إن تكرَّرت العشرة ثلاثاً صارت عادتها عشرة، فما تكرَّر ثلاثاً فهو حَيضٌ.
قوله: "وإن عَبَر أكثره فمستحاضةٌ", "عبر" أي: جاوز، "أكثرُه" أي: أكثر الحيض وهو خمسة عشر يوماً، "فمستحاضةٌ" ويكون من مُبْتَدَأَة ومُعْتَادة. مثال المُبْتَدَأة: امرأة جاءها الحيض لأوَّل مرَّة واستمرَّ معها حتى جاوز الخمسة عشر؛ فهذه المبتدأةُ ليس لها عادةٌ سابقة ٌترجع إليها، فلا يكون أمامها بالنسبة للاستحاضة إلا شيئان:
الأول: التَّمييز، وهذه علامةٌ خاصَّة. (و) الثَّاني: عادة غالب نسائها، وهذه عامَّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام، والاستحاضة: سيلان دم عِرْقٍ في أدنى الرَّحم يُسمَّى العاذل. مثل: لو حصل لها جُرح في عِرَقٍ، وخرج الدَّم باستمرار، فهذا ليس طبيعيًّا، ولكنه مرضٌ بسبب انفصام أحد العُروق في أدنى الرَّحم. والحيض: سيلان دَم عِرْقٍ في قعر الرَّحم يُسمَّى العاذر.(1/120)
ثم بَيَّنَ المؤلِّفُ ـ رحمه الله تعالى ـ التَّمييز فقال: "فإن كان بعضُ دمها أحمرَ وبعضه أسودَ" هذه علامة من علامات التَّمييز، فيُقال لها: ارجعي إلى التَّمييز. والتَّمييزُ: التَّبيُّن حتى يُعرفَ هل هو دُم حيض، أو استحاضة.
والمؤلِّف ـ رحمه الله ـ ذكر علامةً واحدة ًوهي اللَّون. والتَّمييز له أربع علامات:
الأولى: اللَّون: فدم الحيض أسودُ، والاستحاضةُ أحمرُ.
الثانية: الرِّقة: فدم الحيض ثخينٌ غليظٌ، والاستحاضةُ رقيقٌ.
الثالثة: الرَّائحة: فدم الحيض منتنٌ كريهٌ، والاستحاضةُ غيرُ منتنٍ، لأنه دَمُ عِرْقٍ عادي.
الرَّابعةُ: التَّجمُّد: فدم الحيض لا يتجمَّد إذا ظهر، لأنه تجمَّد في الرَّحم، ثم انفجر وسال، فلا يعود ثانية للتجمُّد، والاستحاضة يتجمَّد، لأنه دم عِرْقٍ. هكذا قال بعضُ المعاصرين من أهل الطبِّ، وقد أشار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى ذلك بقوله "إنه دَمُ عِرْقٍ" والمعروف أنَّ دماء العروق تتجمَّد.
قوله: "ولم يَعبُرْ أكثره", أي: لم يتجاوز الأسود أكثر الحيض، لأنه إذا عَبَرَ أكثرُه لم يصلُح أن يكونَ حيضاً. فلو أنَّ امرأةً جاءها الدَّم لمدَّة خمسة وعشرين يوماً، منها عشرون يوماً أسود وخمسةٌ أحمر، فالأسودُ لا يصلح أن يكون حيضاً، لأنَّه تجاوز أكثر الحيض.
قوله: "ولم يَنْقُصْ عن أَقَلِّه فهو حَيْضُها تَجْلِسُهُ في الشَّهْرِ الثَّاني، والأحْمَرُ استحاضةٌ", أي: لم ينقص الأسود عن أقلِّ الحيض. وأقلُّه يوم وليلةٌ، فلو قالت المُبْتَدَأة: إنَّه أول يوم أصابها الدَّم كان أسود، ثم صار أحمر لمدة عشرين يوماً، فلا ترجع إلى التَّمييز، لأنَّه لا يصلح أن يكون حيضاً؛ لنقصانه عن يوم وليلة. وإن قالت: أصابها الدَّم الأسود ستَّةَ أيام، فإنّه حيضٌ، لأنَّه لم ينقص عن أقلِّه، ولم يزد على أكثره، والباقي الأحمر استحاضة.(1/121)
قوله: "وإنْ لم يكن دَمُهَا متميِّزاً قعدتْ غالبَ الحيضِ". قعدت؛ أي: المُبْتَدأةُ. وغالب الحيض: ستَّة أيام أو سبعةٌ، والدَّليل على ذلك: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "تحيَّضي في علم الله ستًّا أو سبعاً". ولأنَّه إذا تعذَّر علم الشَّيء بعينه رجعنا إلى جنسه، فهذه المرأة لمَّا تعذَّر علم حيضها بعينها ترجع إلى بني جنسها. والأرجح: أن ترجع إلى عادة نسائها كأختها وأمِّها، وما أشبه ذلك، لا إلى عادة غالب الحيض، لأنَّ مشابهة المرأة لأقاربها أقرب من مشابهتها لغالب النساء.
قوله: "من كلِّ شهر", لأن غالب النساء تحيض في الشَّهر مرَّة. وتبدأ الشَّهر من أوَّل دم أصابها، فإذا كان أول يوم أصابها الدَّم فيه هو الخامس عشر، فإنها تبدأ من الخامس عشر، فإذا قلنا: سبعة أيام، فإلى اثنين وعشرين، وإن قلنا: ستة فإلى واحد وعشرين، وهكذا. وإن نسيت ولم تَدْرِ هل جاءها الحيض من أول يوم من الشَّهر، أم في العاشر، أم العشرين، فلتجعلْهُ من أوَّل الشَّهر على سبيل الاحتياط.
واعلم: أن هذه الأحكام ليست من أجل الصَّلاة فقط، بل كلُّ الأحكام المترتِّبَة على الحيض تترتَّب على هذه الأيام إذا حكمنا بأنها أيَّام حيض، وإذا قلنا بأنها أيام طُهْر يترتَّب على ذلك كلُّ ما يترتَّب على الطُّهر.
والخلاصة: أن المستحاضة المُبْتَدأة تعمل بالتَّمييز، فإن لم يكن لها تمييزٌ عملت بغالب عادة النساء، فتجلس ستَّة أيَّام أو سبعة من أوَّل وقت رأت فيه الدَّم، فإن نسيت متى رأته فمن أول كلِّ شهر هلالي، وسبق أنَّ الأرجح أن تعمل بعادة نسائها.(1/122)
قوله: "والمستحاضةُ المعتادة ُولو مميِّزة تجلسُ عادتَها", المعتادة: هي التي كانت لها عادةٌ سليمةٌ قبل الاستحاضة، ثم أُصيبتْ بمرض الاستحاضة. مثال ذلك: امرأةٌ كانت تحيض حيضاً مطَّرداً سليماً ستَّة أيَّام من أوَّل كلِّ شهر، ثم أُصيبت بمرض الاستحاضة؛ فجاءها نزيفٌ يبقى معها أكثر الشَّهر، فهذه مستحاضةٌ معتادة، نقول لها: كلَّما جاء الشَّهر فاجلسي من أول يوم إلى اليوم السَّادس.
وقوله: "ولو مميِّزة" لو: إشارة خلاف. أي: هذه المعتادة تجلس العادة، ولو كان دمُها متميِّزاً فيه الحيضُ من غيره. مثاله: امرأةٌ معتادةٌ عادتها من أول يوم من الشهر إلى اليوم العاشر؛ لكنها ترى في اليوم الحادي عشر دماً أسود لمدَّة ستَّة أيَّام، والباقي أحمر، فهذه معتادة مميِّزة. فالمشهور من المذهب: أنها تأخذ بالعادة. وذهب الشَّافعيُّ، وهو روايةٌ عن أحمد : أنها ترجع للتَّمييزه. والرَّاجح: أنها ترجع للعادة. (وهذا) أيسر وأضبط ُللمرأة، لأنَّ هذا الدَّمَ الأسود، أو المنتنَ، أو الغليظَ، ربما يضطرب، ويتغيَّر أو ينتقل إلى آخر الشَّهر، أو أوَّله، أو يتقطَّع بحيث يكون يوماً أسود، ويوماً أحمر.(1/123)
قوله: "وإن نسيتها عملت بالتَّمييز الصَّالح", أي: نسيت عادتها. والتَّمييزُ الصالحُ: هو الّذي يصلُحُ أن يكونَ حيضاً، بأن لا ينقص عن أقلِّه، ولا يزيد على أكثره. مثاله: امرأةٌ نسيت عادتها؛ لا تدري هل هي في أوَّل الشَّهر، أو وسطه أو آخره، فنقول:ترجع إلى المرحلة الثَّانية، وهي التَّمييز، لأنها لما نسيت العادة تعذَّر العمل بها، فترجع إلى التَّمييز. فنقول: هل دمك يتغيَّر؟ فإن قالت: نعم، بعضُه أسودُ، أو منتنٌ، أو غليظٌ، نقول لها أيضاً: كم يوماً يأتي هذا الأسود، أو المنتن، أو الغليظ؟ فإذا قالت: يأتي خمسة أيَّام أو سِتَّة أيَّام مثلاً، نقول لها: اجلسي هذا الدَّم، والباقي تطهَّري وصلِّي. وإن قالت إنه يأتيها يوماً واحداً أو أكثر من خمسة عشر يوماً فلا عِبْرَة به؛ لأنَّه لا يصلح أن يكونَ حيضاً.
قوله: "فإن لم يكن لها تمييزٌ فغالب الحيض", أي: أنه ليس لها تمييزٌ، بأن كان دمُها لا يتغيَّر فتجلسُ غالب الحيض مثاله: امرأة يأتيها الدَّم أسود دائماً؛ أو أحمر دائماً ونحو ذلك. فنقول هنا: تجلس غالب الحيض سِتَّة أيَّام أو سبعة.والرَّاجح: كما قلنا في المُبْتَدَأة أنَّها ترجعُ إلى أقاربها، وتأخذ بعادتهن في الغالب من أول الشهر الهلاليِّ، ولا نقول من أوَّل يوم أتاها الحيضُ، لأنَّها قد نسيت العادة.
قوله: "كالعالمة بموضعه النَّاسية لعدَدِه", يعني : كما تجلسُ العالمة بموضعه الناسية لعدده . أي: أن العالمة بموضعه الناسية لعدده تجلس غالب الحيض، ولا ترجع للتَّمييز. مثاله: امرأة تقول: إَّن عادتها تأتيها في أوّل يوم من الشهر الهلاليِّ لكنها لا تدري هل هي ستُة أيام، أو سبعةٌ، أو عشرةٌ؟ فهي نسيت العدد، وعلمت الموضع.
فنقول: ترجع إلى غالب الحيض، فتجلس ستَّة أيَّام أو سبعة من أوَّل الشهر؛ لأنها علمت أن عادتها من أول الشَّهر. وسبق أنها ترجع إلى غالب عادة نسائها على القول الرَّاجح.(1/124)
قوله: "وإن علمت عَدَدَهُ ونسيت موضعه من الشَّهرِ", هذه المسألة عكس المسألة السَّابقة، علمت العَدَدَ؛ ونسيت الموضعَ من الشَّهر. فنقول لها: كم عادتُك؟ فإذا قالت: ستَّةٌ لكنني نسيت هل هي في أوَّل الشَّهر، أو وسطه، أو آخره؟ فنأمرها أن تجلسَ من أوَّل الشَّهر على حسب عادتها.
قوله: "ولو في نصفه جَلستها من أوَّلِهِ". "لو": إشارة خلاف. أي: علمت أنَّها في نصفه، لكن لا تدري في أيِّ يوم من النِّصف هل هو في الخامس عشر، أو العشرين؟ فترجع إلى أوَّل الشَّهر لسقوط الموضع، وهذا هو المذهب. والقول الثَّاني: تجلس من أوَّل النِّصف، لأنَّه أقرب من أوَّل الشَّهر. وهذا هو الصَّحيح.
قوله: "كمن لا عادة لها، ولا تمييز". "مَنْ": نكرة موصوفة، والتقدير: كمُبْتَدَأَة. وعرفنا هذا التقدير من قوله: "لا عادة لها".إذن؛ فالمُبْتَدَأَة التي لا عادة لها ولا تمييز؛ تجلس غالبه من أوَّل الشَّهر، وهذه فائدة قوله: "كمن لا عادة لها، ولا تمييز".
والصحيح في المُبْتَدَأَة: أنَّ دمَها دُم حيض ما لم يستغرق أكثر الشهر، فالمبتدأةُ من حين مجيء الحيض إليها فإنها تجلس حتى تطهر أو تتجاوز خمسة عشر يوماً. والدَّليل على ذلك: قوله تعالى: (( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى )).{البقرة: 222}. فمتى وُجِدَ هذا الدَّمُ الذي هو أذيً فهو حيضٌ قلَّ أو كَثُرَ. إذ كيف يُقالُ: اجلسي يوماً وليلة، ثم اغتسلي وصلِّي، ثم اغتسلي عند انقطاعه ثانية، واقضي الصوم؟!! إذ معنى هذا أننا أوجبنا عليها العبادة مرَّتين، والغسل مرَّتين، وهذا حكم لا تأتي بمثله الشَّريعةُ، والعبادات تجبُ مرَّةً واحدة لا أكثر من ذلك.وإن استغرق دمُ المُبْتَدَأَة أكثرَ الوقت، فإنَّها حينئذ مستحاضةٌ، ترجع إلى التَّمييز، فإن لم يكن تمييزٌ فغالب الحيض أو حيض نسائها، هذا هو الصحيح.(1/125)
قوله: "ومن زادت عادتها". "مَنْ": اسم شرط جازم، يفيدُ العموم، فيشمل كلَّ امرأة. مثاله: امرأةٌ عادتُها خمسةُ أيَّام، ثم زادت فصارت سبعة أيام.
قوله: "أو تقدَّمت". مثالُه: امرأةٌ عادتُها في آخر الشهر، فجاءتها في أوَّل الشَّهر .
قوله: "أو تأخَّرت".مثاله: عادتُها في أوَّل الشَّهر فجاءتها في آخره. فالصُّور في تغيُّر الحيض ثلاث: الزِّيادةُ، التَّقدُّم، التَّأخُّر، وبقيت صورةٌ رابعةٌ وهي النقصُ، وسيذكرها المؤلِّف .
قوله: "فما تكرر ثلاثاً فحيض", كالمبتدأة تماماً. مثال الزِّيادة: عادتُها خمسةُ أيام، فجاءها الحيضُ سبعةٌ، فتجلس خمسةٌ فقط، ثم تغتسل وتُصلِّي وتصوم، فإذا انقطع اغتسلت ثانية كالمُبْتَدَأة إذا زاد دمُها على أقلِّ الحيض، وإذا كان الشَّهرُ الثَّاني وحاضت سبعة تفعل كما فعلت في الشهر الأول، وإذا كان الشهر الثَّالث وحاضت سبعة صار حيضاً، وحينئذ يجب عليها أن تقضيَ ما يجب على الحائض قضاؤه فيما فعلته بعد العادة الأولى؛ فتقضي الصَّوم الواجب إن كانت صامت في اليومين، والطَّواف الواجب، إن كانت طافت فيهما، لأنه تبيَّن أنهما حيضٌ؛ والحيض لا يصحُّ معه الصِّيام ولا الطَّواف. وهذا مبنيٌّ على ما سبق في المُبْتَدَأة، وتقدَّم أنَّ الصَّحيح: أنَّ المُبْتَدَأَة تجلسُ حتى تطهر، وعلى هذا إذا زادت العادةُ وجبَ على المرأة أن تبقى لا تُصلِّي ولا تصومُ، ولا يأتيها زوجُها حتى تطهَر ثم تغتسلَ وتُصلِّي؛ لأنَّ هذا دمُ الحيض ولم يتغيَّر، والله قد بيَّن لنا الحيضَ بوصف منضبط فقال: ((ويسألونك عن المحيض قل هو أذى)). {البقرة: 222} فما دام هذا الأذى موجوداً فهو حيض.
ومثال التَّقدُّم: عادتُها في آخر الشَّهر فجاءها في أوَّله فنقول: انتظري، فإذا تكرَّر ثلاثاً فحيض، وإلا فليس بشيء.(1/126)
والصَّحيح: أنه حيضٌ، وأنه لو كانت عادتُها في آخر الشَّهر، ثم جاءتها في أوَّله في الشَّهر الثَّاني، وجب عليها أن تجلسَ ولا تُصلِّي ولا تصوم ولا يأتيها زوجُها.
ومثال التَّأخر: عادتُها في أوَّل الشَّهر، ثم تأخرت إلى آخره، فعلى ما مشى عليه المؤلِّف إذا جاءها في آخره لا تجلس ـ وإن كان هو دم الحيض الذي تعرفه برائحته وغلظه وسواده ـ حتى يتكرَّرَ ثلاثاً، وتُصلِّي وتصوم، فإذا تكررَ ثلاث مرَّات أعادتْ ما يجب على الحائض قضاؤه. والرَّاجح ُ: أنه إذا تأخَّرت عادتُها، وجب عليها أن تجلسَ لكونه حيضاً، لأنه معلوم بوصف الله إيَّاه بأنَّه أذى.
قوله: "وما نَقَصَ عن العادة طُهْرٌ". هذا تَغَيُّر العادة بنقص. مثاله: عادتُها سبعٌ، فحاضت خمسةً، ثم طَهُرت، فإنّ ما نقص طُهْرٌ، يجب عليها أن تغتسل، وتُصلِّي، وتصوم الواجب، ولزوجها أن يجامعها كباقي الطَّاهرات .
فائدة : علامةُ الطُّهر معروفةٌ عند النِّساء، وهو سائلٌ أبيضُ يخرج إذا توقَّفَ الحيضُ، وبعض النِّساء لا يكون عندها هذا السَّائل؛ فتبقى إلى الحيضة الثَّانية دون أن ترى هذا السَّائل، فعلامةُ طُهْرِها أنَّها إذا احتشت بقطنة بيضاء أي: أدخلتْهَا محلَّ الحيض ثم أخرجَتْهَا ولم تتغيَّرْ، فهو علامةُ طهرها.
قوله: "وما عاد فيها جَلَسَتْهُ", أي: ما عاد في العادة بعد انقطاعه، فإنها تجلسه بدون تكرار، لأنَّ العادة قد ثَبَتَتْ، وعاد الدَّم الآن في نفس العادة. مثاله: عادتُها ستَّة أيَّام وفي اليوم الرَّابع انقطع الدَّم، وطَهُرَتْ طُهْراً كاملاً، وفي اليوم السادس جاءها الدَّمُ، فإنها تجلس اليوم السَّادس؛ لأنه في زمن العادة، فإن لم يعدْ إلا في اليوم السَّابع، فإنَّها لا تجلسه،؛لأنه خارجٌ عن العادة، وقد سبق أنه إذا زادت العادة، فليس بحيض حتى يتكرَّر ثلاث مرَّات، وسبق القولُ الرَّاجح في ذلك .(1/127)
قوله: "والصُّفرة، والكُدرة", الصُّفرة والكُدرة: سائلان يخرجان من المرأة، أحياناً قبل الحيض، وأحياناً بعد الحيض. والصُّفرة: ماءٌ أصفر كماء الجُروح. والكُدرة: ماءٌ ممزوجٌ بحُمرة، وأحياناً يُمزَجُ بعروق حمراء كالعَلَقة، فهو كالصَّديد يكون ممتزجاً بمادة بيضاء وبدم.
قوله: "في زمن العادة حيضٌ", أي: في وقتها، وظاهر كلامه أنهما إن تقدَّما على زمن العادة أو تأخَّرا عنه فليسا بحيض . وهذا أحد الأقوال في المسألة. والقول الثاني : أنَّهما ليسا بحيض مطلقاً. والقول الثَّالث: أنَّهما حيض مطلقاً .
قوله: "ومن رأت يوماً دماً، ويوماً نقاءً، فالدَّم حيضٌ، والنَّقاء طُهرٌ". مثاله: امرأة ترى يوماً دماً، ويوماً نقاءً، فإذا أذَّن المغرب رأت الدَّم، وإذا أذَّن المغرب في اليوم الثاني رأت الطُّهر. فالحكم يدور مع عِلَّته، فيوم الحيض له أحكام الحيض، ويوم النَّقاء له أحكام الطُّهر.
وعلى هذا فإننا نُلزِمُ المرأة أن تغتسل ثلاث مرَّات في ستَّة أيام. (و) القول الثاني: أنَّ اليومَ ونصفَ اليوم لا يُعدُّ طُهراً؛ لأنَّ عادة النِّساء أن تجفَّ يوماً أو ليلة؛ حتى في أثناء الحيض ولا ترى الطُّهر، ولا ترى نفسها طاهرة في هذه المدَّة، بل تترقَّب نزول الدم، فإذا كان هذا من العادة، فإنه يُحكم لهذا اليوم الذي رأت النَّقاء فيه بأنه يومُ حيض؛ لا يجب عليها فيه غُسْلٌ، ولا صلاٌة، ولا تطوف ولا تعتكف؛ لأنَّها حائض، حتى ترى الطُّهر. وهذا أقرب للصَّواب، فجفافُ المرأة لمدَّة عشرين ساعة، أو أربع وعشرين ساعة أو قريباً من هذا لا يُعَدُّ طُهراً؛ لأنه معتاد للنِّساء.
قوله: "ما لم يَعْبُرْ أكثَره". أي ما لم يتجاوز مجموعُهما أكثرَ الحيض، فإن تجاوز أكثره فالزَّائد عن خمسة عشر يوماً، يكون استحاضةً؛ لأنَّ الأكثر صار دماً.(1/128)
قوله: "والمستحاضةُ ونحوُها". المستحاضة على المذهب: هي التي يتجاوز دمُها أكثر الحيض. وقيل: إنّ المستحاضة هي التي ترى دماً لا يصلُح أن يكونَ حيضاً، ولا نفاساً. فعلى التَّعريف الأخير يشمل من زاد دمُها على يوم وليلة وهي مُبْتَدَأة، لأنَّه ليس حيضاً ولانِفَاساً، فيكون استحاضة حتى يتكرَّر كما سبق. وعلى الأوَّل يكون دَمَ فساد، يُنْظَرُ فيه هل يلحق بالحيض، أو بالاستحاضة؟
قوله: "ونحوها", أي: مثلها. والمُراد به من كان حدثُه دائماً، كمن به سَلَسُ بولٍ أو غائط فحكمه حكم المستحاضة.
قوله: "تغسل فرجَها", أي: بالماء فلا يكفي تنظيفُه بالمناديل وشبهها.
قوله: "وتَعْصِبُه", أي: تشدُّه بخِرْقَة، ويُسمَّى تَلجُّماً، واستثفاراً. والذي ينزف منه دمٌ دائماً من غير السَّبيلين لا يلزمُه الوُضُوء، إلا على قول من يرى أن الدَّم الكثيرَ ينقض الوُضُوء إذا خرج من غير السَّبيلين . والرَّاجح: أنه لا يلزمه الوُضُوءُ؛ لأن الخارج من غير السَّبيلين لا دليل على أنه ناقض للوُضُوء، والأصل بقاء الطَّهارة.
قوله: "وتتوضَّأ لوقت كُلِّ صلاةٍ".أي: يجب على المستحاضة أن تتوضَّأ لوقتِ كُلِّ صلاة إن خرج شيء، فإن لم يخرج منها شيء بقيت على وضوئِها الأوَّل.
قوله: "وتُصلِّي فروضاً ونوافل", أي: إذا توضَّأت للنَّفل فلها أن تُصلِّيَ الفريضة، لأنَّ طهارتها ترفع الحدث.
قوله: "ولا تُوطَأُ إلا مع خوف العَنَتِ", يعني: أن المستحاضة لا يحلُّ وَطْؤها إلا مع خَوفِ العَنَتِ، أي: المشقَّة بترك الوَطءِ ـ هذا هو المذهب ـ إلا أنَّ هذا التَّحريم ليس كتحريم وطءِ الحائض. (و) القول الثَّاني: أنه ليس بحرام ، وهو الصَّحيح . لكِن إذا استقذره، وكَرِه أن يجامعَ مع رؤية الدَّم؛ فهذا شيءٌ نفسيٌّ لا يتعلَّق به حكمٌ شرعيٌّ، فقد يَكره الإنسان الشيءَ كراهةً نفسيَّةً، ولا يُلام إذا تجنَّبَه .(1/129)
قولهُ: "ويُستَحبُّ غُسلها لكلِّ صلاة", أي: غُسل المستحاضة لوقتِ كلِّ صلاة ؛ لا لفعل كلِّ صلاة . والدَّليل على ذلك:أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بذلك. وهذا إذا قويت أن تغتسلَ لكلِّ صلاة ، وإلا فإنَّها تجمعُ بين الظُّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فبدلاً من أن تغتسلَ خمس مرَّات تغتسلُ ثلاث مرات ، مرَّةً للظُّهر والعصر ، ومرَّة للمغرب والعشاء، ومرَّة للفجر.وهذا الاغتسال ليس بواجب، بل الواجب ما كان عند إدبار الحيض، وما عدا ذلك فهو سُنَّه. وفيه فائدةٌ من النَّاحية الطِّبيَّة، لأنه يوجب تقلُّص أوعيةُ الدَّم، وإذا تقلَّصت انسدَّت، فيقلُّ النَّزيف، وربما ينقطع بهذا الاغتسال؛ لأنَّ دم الاستحاضة دمُ عِرْقٍ، ودمُ العِرْق يتجمَّد مع البرودة.
قوله: "وأكثر مدَّة النِّفاس أربعون يوماً", النِّفاس آخرُ الدِّماء، لأن الدماء ثلاثةٌ: حيضٌ، واستحاضةٌ، ونِفاس، وبعضهم يزيد دماً رابعاً: دمُ فساد، وبعضهم يُدخِلُ دمَ الفساد في دم الاستحاضة. والنِّفاس: دمٌ يخرج من المرأة بعد الولادة، أو معها، أو قبلها بيومين، أو ثلاثةٍ مع الطَّلق، أما بدون الطَّلق، فالذي يخرج قبل الولادة دم ُفساد وليس بشيء.
فإن قيل: كيف نعرف أنه قبل الولادة بيومين أو ثلاثة؟ فهنا امرأة أحسَّت بالطَّلق، وصار الدَّم يخرج منها؛ لكن هل نعلم أنها سَتَلِدُ خلال يومين أوثلاثة؟ الجواب: لا نعلم، والأصل أنها لا تجلس، لكن عندنا ظاهرٌ يَقْوَى' على هذا الأصل وهوالطَّلق، فإنه قرينةٌ على أنَّ الدَّم دمُ نِفاسٍ، وأن الولادةَ قريبةٌ، وعلى هذا تجلسُ ولا تُصلِّي، فإن زاد على اليومين قضت ما زاد؛ لأنَّه تبيَّن أنَّ ما زاد ليس بنفاس، بل هو دمُ فساد.
وقال بعض العلماء : لا نِفاس إلا مع الوِلادة أو بعدها ، وما تراه المرأةُ قبل الولادة ـ ولو مع الطَّلق ـ فليس بنِفاس.(1/130)
وعلى هذا القول تكونُ المرأة مستريحةٌ، وتُصلِّي وتصومُ حتى مع وجود الدَّم والطَّلق ولا حرج عليها، وهذا قول الشَّافعية، وأشرت إليه لقوَّته؛ لأنَّها إلى الآن لم تتنفَّس، والنِّفاس يكون بالتنفُّس .
مسألة: هل كلُّ دم يخرج عند الوضع يكون نفاساً؟ الجواب: لا يخلو هذا من أحوال:
الأولى: أن تُسقِطَ نطفةً، فهذا الدَّم دمُ فساد وليس بنِفَاس.
الثَّانية: أن تضع ما تمَّ له أربعةُ أشهر، فهذا نِفاسٌ ، وهذان الطَّرفان محلُّ اتفاق، وما بينهما محل اختلاف.
الثَّالثة: أن تُسقِطَ علقةً. واختُلفَ في ذلك: فالمشهور من المذهب: أنه ليس بحَيضٍ ولا نِفَاس. وقال بعض أهل العلم: إنه نفِاس .
الرابعة: أن تُسقِط مُضغَةً غير مخلَّقة. فالمشهور من المذهب: أنَّه ليس بنِفَاسٍ. وقال بعض أهل العلم: إنَّه نفاس.
الخامسة: أن تُسقِطَ مُضغةً مخلَّقة بحيث يتبينُ رأسه ويداه ورجله.فأكثر أهل العلم ـ وهوالمشهور من المذهب ـ أنَّه نِفاَس .
وأقلُّ مدَّة يتبيَّن فيها خَلْقُ الإنسان واحدٌ وثمانون يوماً. فإذا سقط لأقلِّ من ثمانين يوماً، فلا نِفاس، والدَّمُ حكمُه حكمُ دمِ الاستحاضة. وإذا ولدت لواحد وثمانين يوماً فيجب التثبُّتُ، هل هو مخلَّق أم غير مخلق؛ لأن الله قسَّمَ المُضْغَة إلى مخلَّقة، وغير مخلَّقة بقوله: (( مضغة مخلقة وغير مخلقة)). {الحج: 5} فجائز ألاَّ تُخلَّق. والغالب: أنه إذا تمَّ للحمل تسعون يوماً تبيَّن فيه خلق الإنسان، وعلى هذا إذا وضعت لتسعين يوماً فهو نِفَاس على الغالب، وما بعد التِّسعين يتأكَّد أنه ولدٌ وأنَّ الدَّم نفاسِ، وما قبل التسعين يحتاج إلى تثبُّتٍ.(1/131)
وإذا نَفِستْ المرأةُ فقد لا ترى الدَّم، وهذا نادرٌ جدًّا، وعلى هذا لا تجلس مدَّة النِّفاس، فإذا ولدت عند طُلوع الشَّمس ودخل وقت الظُّهر ولم تَرَ دَماً فإنها لا تغتسلُ، بل تتوضَّأُ وتُصلِّي. وإذا رأت النُّفساء الدَّم يوماً أو يومين أو عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو أربعين يوماً فهو نِفَاس، وما زاد على ذلك فالمذهبُ أنَّه ليس بنِفَاسٍ؛ لأنَّ أكثرَ مدَّة النِّفاس أربعون يوماً.(و) القول الثَّاني: (أنها) تستمرُّ في نِفَاسها حتى تبلغَ ستين يوماً، وهذا قول مالك, والشَّافعي, وحكاه ابنُ عقيل رواية عن أحمد . والذي يترجَّح عندي: أنَّ الدَّم إذا كان مستمرًّا على وتيرة واحدة، فإنَّها تبقى إلى تمام ستِّين، ولا تتجاوزه.
وعلى التَّقديرين، السِّتِّين أو الأربعين على القول الثَّاني إذا زاد على ذلك نقول: إن وافق العادة فهو حيضٌ. مثاله: امرأةٌ تمَّ لها أربعون يوماً في أوَّل يوم من الشَّهر، وعادتُها قبل الحمل أن يأتيها الحيضُ أولَ يوم من الشَّهر إلى السِّتَّة الأيام فإذا استمرَّ الدَّمُ من اليوم الأوَّل إلى السَّادس، فهذه الأيَّام نجعلُها حيضاً؛ لأنهَّ وافق العادة، وهو لمَّا تجاوز أكثَر النِّفاس صار حكمُه حكم الاستحاضة، وقد تقدَّم أن المستحاضةُ المعتادةَ ترجعُ إلى عادتِها، فَنَرُدُّ هذه إلى عادتها. فإن لم يصادف العادةَ فَدَمُ فساد، لا تترك من أجله الصَّومَ ولا الصَّلاةَ، وأما أقلُّ النِّفاس فلا حدَّ له، وبهذا يُفارق الحيضَ، فالحيضُ على كلام الفقهاء أقلُّه يومٌ وليلة، وأما النِّفاس فلا حَدَّ لأقلّه.
قوله: "ومتى طَهُرَتْ قَبلَه", أي: طَهُرَت النُّفساء قبل مدَّة أكثر النِّفاس.وذلك بانقطاع الدَّم،والمرأةُ تعرف الطَّهارةَ .
قوله: "تطهَّرت", أي: اغتسلت.
قوله: "وصلَّت". أي: فروضاً ونوافل، فالفرائض وجوباً، والنَّوافل استحباباً.(1/132)
قوله: "ويُكره وَطؤها قبل الأربعين بعد التَّطهُّر". أي: يُكره وَطُء النُّفساء إذا تطهَّرت قبل الأربعين.(و)الرَّاجح: أنه يجوز وطؤُها قبل الأربعين إذا تطهَّرت .
قولُه: "فإن عاودها الدَّم", أي: عاد الدَّم إلى النُّفساء بعد انقطاعه .
قوله: "فمشكوكٌ فيه", أي: لا ندري أنِفاسٌ هو؟ أم دمُ فساد؟ فإن كان نفاساً ثبت له حُكْمُ النِّفاس، وإن كان دم فساد لم يثبتْ له حكمُ النِّفاس.
قوله: "تصومُ وتُصلِّي". أي: يجب عليها أن تتطهَّر، وتصلِّي وتصومَ إذا صادف ذلك رمضان، ولكنها تتجنَّب ما يحرم على النُّفساء كالجماع مثلاً فلا تفعله، لأننا نأمرها بفعل المأمور كالصَّلاة والصَّوم من باب الاحتياط، ونمنعُها من المحرَّم من باب الاحتياط.
قوله: "وتقضي الواجب", يعني: من الصَّوم والصَّلاة إن كان يُقْضَى.
فصار حكم الدَّم المشكوك فيه أن المرأة يجب عليها فعلُ ما يجب على الطَّاهرات لاحتمال أنه دمُ فساد، ويجب عليها قضاءُ ما يجب على النُّفساء قضاؤه لاحتمال أنه دمُ نِفاس، هذا ما قاله المؤلِّفُ وهو المذهب. والرَّاجح: أنهَّ إن كان العائدُ دمَ النِّفاس بلونه ورائحته، وكلِّ أحواله، فليس مشكوكاً فيه، بل هو دمٌ معلومٌ، وهو دمُ النِّفاس فلا تصوُم، ولا تصلِّي، وتقضي الصَّوم دون الصَّلاة. وإن عَلِمَت بالقرائن أنه ليس دمَ نفاس فهي في حكم الطَّاهرات تصومُ وتصلِّي، ولا قضاءَ عليها؛ لأن الله لم يوجبْ على العباد العبادةَ مرَّتين. فإمّا أن تكونَ أهلاً للصوم فتصوم وإلا فلا. لكن إن صادف العائدُ عادة حيضها فهو حيض.
قوله: "وهو كالحيض فيما يحلُّ", يعني: أن حكمَ النِّفاس حكمُ الحيض. فيما يحلُّ كاستمتاعِ الرَّجل بالمرأة بغير الوَطء، والمرورِ في المسجد مع أمن التَّلويث.
قوله: "ويحرم", يعني: أنه كالحيض فيما يحرُمُ. كالصَّوم، والصَّلاة، والوطءِ، والطَّواف، والطَّلاق على حسب كلام المؤلِّف.(1/133)
قولُه: "ويجب", يعني: أنه كالحيض فيما يجب. كالغسل إذا طَهُرتْ.
قوله: "ويسقُطُ", يعني: أنه كالحيض فيما يَسقُطُ به، كالصَّوم، والصَّلاةِ فإنهما يسقطانِ عنها، لكن الصومَ يجبُ قضاؤه، والصلاةَ لا تُقضى.
قوله: "غيرَ العِدَّة", يعني: أن النِّفاس يفارق الحيض في العدَّة. فالحيضُ يُحْسَبُ من العِدَّة، والنِّفاس لا يُحْسَبُ من العدَّة. مثاله: إذا طلَّق امرأته، فإنها تعتدُّ بثلاث حِيَضٍ، وكلُّ حيضةٍ تحسبُ من العدَّةِ. والنِّفاس لا يُحسب؛ لأنه إذا طلَّقِها قبلَ الوضعِ انتهتِ العِدَّةُ بالوضع، وإن طلَّقها بعده انتظرتْ ثلاث حيض، فالنِّفاسُ لا دخلَ له في العِدَّة إطلاقاً.
قوله: "والبلوُغ", يعني: أنه يفارقَ الحيضَ في البلوغِ، أي: أن الحيضَ من علامات البلوغ. أما الحْملُ فليس من علامات البلوغ؛ لأنَّها إذا حملت، فقد علمنا أنَّها أنزلت، وحصل البلوغُ بالإنزال السَّابق على الحمل .
قوله: "وإن ولدت توأمين". أي: ولدين.
قوله: "فأوَّلُ النِّفاس، وآخرُه من أوَّلهما", أي: أوَّل الولدين خروجاً. حتى ولو كان بينهما مدَّة كيومين، أو ثلاثة، فلو قُدِّر أنها ولدت الأول في أول يوم من الشهر، والثَّاني في العاشرِ من الشَّهر، فإنه يبقى لها ثلاثون يوماً؛ لأن أوَّل النِّفاس من الأوَّل.
ولو قُدِّر أنها ولدت الأوَّل في أوَّلِ الشَّهر، وولدت الثَّاني في الثَّاني عشر من الشَّهر الثَّاني، فلا نِفاس للثَّاني؛ لأن النِّفاس من الأوَّل، وانتهت الأربعون يوماً، ولا يمكن أن يزيدَ النِّفاس على أربعين يوماً على المذهب؛ لأن الحملَ واحدٌ والنِّفاس واحدٌ، وان تعدَّد المحمولُ. والرَّاجح : أنه إذا تجدَّدَ دمٌ للثاني، فإنَّها تبقى في نفاسِها، ولو كان ابتداؤه من الثاني، إذ كيفَ يُقال: ليس بشيءٍ، وهي ولدتْ وجاءها دم؟!.
كتاب الصلاة(1/134)
الصَّلاةُ في اللُّغة: الدُّعاءُ. وفي الشَّرع: هي التعبُّدُ للَّهِ تعالى بأقوال وأفعال معلومة، مفتتَحة بالتَّكبير، مختتَمة بالتَّسليم. وإن شئت فقل: هي عبادةٌ ذاتُ أقوال وأفعال، مفتتحة بالتَّكبير، مختتمة بالتَّسليم.
قوله: "تجب"، أي: الصَّلاة، والمراد بالوجوب هنا أعلى أنواع الوجوب وهو الفريضة. وهي في الدِّين في المرتبة الثانية بعد الشَّهادة بالتَّوحيد والرِّسالة.
قوله: "على كُلِّ مسلم"، المسلم هو: الذي يشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، ويقيمُ الصَّلاة، ويؤتي الزَّكاة، ويصومُ رمضانَ، ويحجُّ البيتَ. هذا هو المسلم الكامل الإسلام، ولكن المراد بالمسلم هنا: من يشهد أن لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله. فتَجِبُ على هذا الذي شَهِدَ أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسولُ الله، فالكافر لا تجب عليه، والمراد بنفي الوجوب على الكافر أنَّها لا تَلْزَمُهُ حال كفره، ولا يَلزَمُه قضاؤها بعد إسلامه.
قوله: "مُكلَّف"، التَّكليف يتضمَّن وصفين هما: البلوغ والعقل. فمعنى مكلَّف أي: بالغ عاقل، فغير البالغ وغير العاقل لا تلزمه الصَّلاة .
قوله: "لا حائضاً ونُفساء"، أي: لا تجب عليهما الصَّلاة.
قوله: "ويقضي مَنْ زالَ عقلُهُ بنومٍ" ، وعندي أنَّ في العبارة شيئاً من التَّساهل؛ لأنَّ النَّائمَ ليس زائلَ العقلِ بل مُغطًّى عقلُهُ، وفاقدٌ لإحساسه الظَّاهريِّ. والمعنى: أنَّ النَّائمَ يقضي الصَّلاة.
وأفاد قوله: "ويقضي" أنَّ صلاة النَّائم ونحوه بعد خروج الوقت تُعتبر قضاءً، وذهب شيخُ الإسلام ابنُ تيمية إلى أنَّ كلَّ من صَلَّى بعد الوقت معذوراً فصلاتُه أداءً .
قوله: "أو إغماء" ، أي: يقضي من زال عقلُهُ بإغماءٍ، والإغماء: هو التَّطبيق على العقل، فلا يكون عنده إحساس إطلاقاً، فلو أَيْقَظْتَه لم يستيقظ.(1/135)
فإذا أُغمي عليه وقتاً أو وقتين وجبَ عليه القضاء ، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل. والأئمةُ الثَّلاثةُ يَرَون عدم وجوب القضاء على المُغمى عليه، لكنَّ أبا حنيفة يقول: إذا كانت خمس صلوات فأقلَّ فإنَّه يقضي؛ لأنَّها سهلة ويسيرة، أمَّا إذا زادت على الخمس فلا يقضي، وكلامُ أبي حنيفة مبنيٌّ على شيء من العقل والرَّأي. ولكن لا شَكَّ أنَّ مثل هذا التَّقديرِ الدَّقيق يحتاج إلى دليل. والرَّاجح: قول من يقول: لا يقضي مطلقاً .
قوله: "أو سُكْرٍ" ، أي: يقضي من زال عقله بسُكْر.
قوله: "أو نحوه" ، أي: نحو ما ذُكِرَ مثل البَنْج والدَّواء، وهذا محلُّ خِلاف، فمن أهل العلم من قال: إن زالَ عقلُهُ بشيء مباح فلا قضاء عليه. والذي يترجَّحُ عندي: أنه إن زال عقلُهُ باختياره فعليه القضاء مطلقاً، وإن كان بغير اختياره فلا قضاء عليه.
قوله: "ولا تصحُّ من مجنون ولا كافر"، أي: لا تصحّ الصَّلاة من مجنون ولا كافر، وسواءٌ أكان الكافر أصليًّا أم مرتدًّا، فلا تصحُّ الصَّلاة منهما .
قوله: "فإن صلَّى فمسلمٌ حُكْماً" ، أي: إذا صلَّى الكافر فإننا نحكم بإسلامه، ولكنَّه مسلم حُكْماً لا حقيقة؛ حتى وإن لم يَنْوِ الإسلامَ بما فعله.
وفائدتُه: أنَّنا إذا حكمنا بإسلامه طالبناه بلوازم الإسلام؛ فيَرثُ أقاربَه المسلمين ويرثونَه. وإن قال: "فعلتُه استهزاءً" فنعتبره مرتدًّا. والفرق بين كونه مرتدًّا وبين كفره الأصليِّ: أنَّ كُفْرَ الرِّدَّة لا يُقَرُّ عليه، بخلاف الكفر الأصليِّ فيُقَرُّ عليه، فالكافر بالرِّدَّة يُطَالَبُ بالإسلام؛ فإن أسلم وإلَّا قتلناه.
قوله: "وَيُؤْمَرُ بها صغيرٌ" ، يُؤمر: مبنيٌّ للمجهول؛ لأنَّ الأمرَ لا يتعيَّن، فكلُّ من له الإمْرَةُ على هذا الصَّبيِّ فإنَّه يأمره بالصَّلاة كالأب، والأخ، والعمِّ، والأمِّ.(1/136)
قوله: "لِسَبْعٍ" ، أي: لتمامها لا لبلوغها، فلا يُؤْمَرُ إلا إذا دخل الثامنةَ؛ وإذا كنَّا نأمره بالصَّلاة فإنَّنا نأمره بلوازم الصَّلاة من الطَّهارة؛ وغيرها من الواجبات، ويستلزم تعليمَه ذلك.
قوله: "ويُضْرَبُ عليها لعَشرٍ" ، أي: لتمام عشرٍ ليفعلها، ولا يكون ذلك إلَّا بالتَّرك، فنضربه حتى يصلِّي، في كلِّ وقت، والضَّرب باليد أو الثوب أو العصا، أو غير ذلك، ويُشْتَرطُ فيه ألَّا يكون ضرباً مُبرِّحاً؛ لأنَّ المقصود تأديبُه لا تعذيبُه.
قوله: "فإن بَلَغَ في أثنائها، أو بَعْدَها في وَقْتِها أعادَ" ، أي: إذا بلغ الصَّغيرُ في أثناء الصَّلاة، أو بعد انتهائها، لكن في وقتها أعاد الصَّلاة، ويحصُلُ هذا إذا حرَّرنا ولادته بالسَّاعة.
والأصحاب قالوا: إذا بلغ الصَّبيُّ وهو صائمٌ مضى في صومه ولم تلزمه الإعادة. ففرَّقوا بين الصَّلاة والصِّيام ، ولهذا جعل بعضُ الأصحاب حكمهما واحداً، وأوجبَ القضاءَ على مَنْ بلغ أثناء صومه. ولكن الصَّواب: أنَّه يمضي في صلاته وصومه ولا إعادة عليه، وكذلك لو بلغ بعد صلاته لم تلزمه إعادتها، كما لا يلزمه إعادةُ صيام الأيام الماضية من رمضان قولاً واحداً.
قوله: "وَيَحْرُمُ تأخيرُها عن وَقْتِها"، قوله: "تأخيرها" يشمَلُ تأخيرها بالكلِّيَّة؛ أو تأخيرَ بعضها، بحيث يؤخِّر الصَّلاة حتَّى إذا لم يبقَ إلَّا مقدارُ ركعةٍ صلَّى، فإنَّه حرامٌ عليه؛ لأنَّ الواجبَ أن تقع جميعُها في الوقت.
وقوله: "عن وقتها" يشمَلُ وقت الضَّرورة ووقت الجواز؛ لأنَّ صلاة العصر مثلاً لها وقتان: وقتُ ضرورة؛ ووقتُ جواز، فوقتُ الضَّرورة من اصفرار الشَّمس إلى غروبها، ووقتُ الجواز من دخول وقتها إلى اصفرار الشَّمس، فيحرم أن يؤخِّرها عن وقت الجواز إلَّا لعذر. ويُستثنى من ذلك مسألتان:(1/137)
المسألة الأولى: أشار إليها بقوله: "إِلا لِنَاوِ الجَمْعِ" ، ونزيد قيداً: وكان ممَّن يَحِلُّ له أن يجمع. وهذا الاستثناء يشبه أن يكون صُوريًّا، وذلك لأنَّه إذا جاز الجمعُ بين الصَّلاتين صار وقتاهما وقتاً واحداً، ولا يقال: "أخَّرها عن وقتها".
المسألة الثانية: ذكرها بقوله: "ولمُشْتَغِلٍ بشَرْطها الذي يُحَصِّلُهُ قريباً" . مثاله: إنسان انشقَّ ثوبه فصار يخيطُه فحانَ خروجُ الوقت، فإن صَلَّى قبل أن يخيطَه صلَّى عُرْياناً، وإن انتظر حتَّى يخيطَه صلَّى مستتراً بعد الوقت، فهذا تحصيلُه قريب، فهنا يجوز أن يؤخِّرها عن وقتها، أمَّا إذا كان بعيداً فلا.
ومثله لو وصل إلى الماء عند غروب الشَّمس، فإن اشتغل باستخراجه غربتِ الشَّمسُ؛ فله أن يؤخِّرها عن وقتها، لأنَّه اشتغل بشرطٍ يُحصِّلُه قريباً، وهو استخراج الماء من البئر، وإن كان يحتاج إلى حفر البئر فلا يؤخِّرها؛ لأن هذا الشَّرطَ يُحصِّله بعيداً. هذا ما ذهب إليه المؤلِّف. والصَّواب: أنَّه لا يجوز أن يؤخِّرها عن وقتها مطلقاً، وأنَّه إذا خاف خروجَ الوقت صَلَّى على حَسَبِ حاله؛ وإن كان يمكن أن يُحصِّل الشَّرطَ قريباً، وهذا اختيار شيخ الإسلام. فعلى هذا يصلِّي في الوقت بالتَّيمُّم وعُرياناً. ويكون الذي يُستثنى مسألة واحدة وهي من نوى الجمع، وسبق التنبيه على أنه تأخير صوريٌّ فقط.
مسألة : اختلف العلماء هل يجوز تأخير الصَّلاة لشدَّة الخوف بحيث لا يتمكَّن الإنسانُ من الصَّلاة بوجه من الوجوه؛ لا بقلبه؛ ولا بجوارحه على قولين، والصَّحيح منهما أنه يجوز في هذه الحال ، فيكون هذا الاستثناء الثَّاني في التأخير، وعليه يكون تأخير الصَّلاة عن وقتها في موضعين:
أحدهما: عند الجمع.
والثَّاني: في شدَّة الخوف الذي لا يتمكَّن معه من الصَّلاة بأيِّ وَجْهٍ من الوجوه كما سبق.(1/138)
وهل يجوز تأخير الصَّلاةِ من أجل العمل؛ إذا كان لا يتمكَّن صاحبُه من أداء الصلاة في وقتها فيؤخِّرها؟. والجواب: إن كان ذلك للضَّرورة كإطفاء الحريق وإنقاذ الغريق فالظَّاهر الجواز، وإن كان لغير الضرورة لا يجوز.
قوله: "وَمَنْ جَحَدَ وجُوبها كَفَرَ"، أي: وجوبَ الصَّلاة المُجمع على وجوبها وهي: الصلوات الخمس والجُمُعة فهو كافرِ، وحتى لو جَحَدَ وجوبها وصلَّى، وكذا لو جَحَدَ وجوبَ بعضها، وكذا لو جَحَدَ وجوبَ ركعة واحدة، فإنَّه يكفر. وكذا لو جَحَدَ وجوبَ رُكْنٍ واحد فقط، كفر إذا كان مُجمَعاً عليه. واستثنى العلماءُ من ذلك: ما إذا كان حديثَ عهدٍ بكفر وجَحَدَ وجوبها، فإنَّه لا يكفر، لكن يُبيَّنُ له الحق، فإذا عُرض له الحقُّ على وجهٍ بَيِّنٍ ثُمَّ جَحَدَ كفر.
قوله: "وكذا تاركُها تهاوناً، ودَعَاهُ إمامٌ أو نائبُه فأَصرَّ وضَاقَ وَقْتُ الثَّانية عنها" ، فَصَلَ هذه المسألة عن الأولى بقوله: "وكذا"، لأنَّ هذه لها شروط، فإذا تركها تهاوناً وكسلاً مع إقراره بفرضيتها، فإنَّه كافرٌ كفراً أكبرَ مخرجاً عن المِلَّة ولكن بشرطين:
الأول: ذكره بقوله: "ودَعَاهُ إمامٌ أو نائبُه"، أي: إلى فعلها. والمراد بالإمام هنا: مَنْ له السُّلطة العُليا في البلد.
والثاني: ذكره بقوله: "وضاقَ وقتُ الثَّانية عنها" فإنَّه يكفرُ. وعليه؛ فإذا ترك صلاة واحدة حتى خرج وقتها، فإنَّه لا يكفر، وظاهره أنَّه سواءٌ كانت تُجمع إلى الثانية أو لا تُجمع، وعلى هذا؛ فمذهب الإمام أحمد المشهور عند أصحابه أنَّه لا يمكن أن يُحْكَمَ بكفر أحد تركَ الصَّلاةَ إذا لم يَدْعُهُ الإمامُ. والقول الصَّحيح - بلا شكٍّ - ما ذهب إليه بعض الأصحاب من أنه لا تُشترط دعوةُ الإمام .(1/139)
وقال بعض العلماء: يكفرُ بترك فريضةٍ واحدة ، ومنهم من قال: بفريضتين ، ومنهم من قال: بترك فريضتين إن كانت الثَّانية تُجمع إلى الأولى . وعليه؛ فإذا ترك الفجر فإنَّه يكفر بخروج وقتها، وإن ترك الظُّهر، فإنَّه يكفر بخروج وقت صلاة العصر. والذي يظهر من الأدلَّة: أنَّه لا يكفر إلا بترك الصَّلاة دائماً؛ بمعنى أنَّه وطَّنَ نفسَه على ترك الصَّلاة؛ فلا يُصلِّي ظُهراً، ولا عَصراً، ولا مَغرباً، ولا عِشاء، ولا فَجراً، فهذا هو الذي يكفر. فإن كان يُصلِّي فرضاً أو فرضين فإنَّه لا يكفر.
وقال بعض العلماء: لا يكفر تاركها كسلاً. وقول الإمام أحمد بتكفير تارك الصلاة كسلاً هو القول الرَّاجح، ولنا في ذلك رسالة مستقلَّة؛ أوسع من هذا البحث؛ فليُراجعها من أحبَّ؛ لأهميَّةِ الموضوع.
قوله: "وَلَا يُقْتَلُ حتى يُستتاب ثَلاثاً فِيهِما" ، أي: لا يقتل من جَحَد وجوب الصَّلاة أو تركها تهاوناً وكسلاً "حتى يُستتاب"، أي: يستتيبه الإمام أو نائبه ثلاثة أيام، فيقول له: تُبْ إلى الله وصَلِّ وإلا قتلناك. وهذه المسألة، فيها خلافٌ بين أهل العلم،وعن الإمام أحمد روايتان، هل يُستتابُ كلُّ مرتد أم لا؟ والمذهب: أن المرتدين قسمان:
قسم لا تقبل توبتهم، فهؤلاء لا يُستتابون لعدم الفائدة وهم: من سَبَّ الله، أو رسوله، أو تكرَّرت رِدَّتُه، فإن هذا يُقتل حتى لو تاب. والصَّحيح: أنَّه تُقبل توبتهم.
والقسم الثاني من المرتدين تُقبل توبتهم، وفي استتابتهم روايتان: الرِّواية الأولى: لا يُستتابون بل يقتلون . والرِّواية الثانية: أنهم يُستتابون ثلاثة أيَّام. وهناك قول ثالث: أنَّ هذا يرجع إلى اجتهاد الحاكم، وهذا القول هو الصَّحيح.
باب الآذان والإقامة
هذا الباب عنوان لمسألتين، لكنهما مسألتان متلازمتان: إحداهما الأذان، والثانية الإقامة.
الأذان في اللُّغة: الإعلامُ. وفي الشَّرع: هو التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص؛ بعد دخول وقت الصَّلاة؛ للإعلام به.(1/140)
أما الإقامة: فإنها في اللُّغَةِ مصدرُ أقام، من أقام الشيءَ إذا جعله مستقيماً. وفي الشَّرع: فهي التعبُّد لله بذكرٍ مخصوص عند القيام للصَّلاة. والفرق بينها وبين الأذان: أن الأذان إعلام بالصلاة للتهيُّؤ لها والإقامة إعلامٌ للدُّخول فيها والإحرام بها، وكذلك في الصِّفة يختلفان.
مسألة : واختلف العلماء أيُّها أفضل، الأذان، أم الإقامة، أم الإمامة؟ والصَّحيح: أنَّ الأفضل الأذان.
قوله: "هما فرضُ كِفَاية" ، هذا بيان لحكمهما. وقوله: "كفاية" (أي): هو الذي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين.
قوله: "على الرِّجال" ، جمع رَجُل، وتُطلق على البالغين، فخرج بذلك الصِّغار والإناث والخُنثى المُشكِل، فلا يجب على الصِّغار؛ لأنهم ليسوا رجالاً، وليسوا من أهل التَّكليف.
أمَّا النِّساء: فعلى المذهب لا يجب عليهنَّ أذان؛ سواء كُنَّ منفردات عن الرِّجال أو كُنَّ معهم، وإذا لم نقل بالوجوب عليهنَّ فما الحكم حينئذ؟ فيه روايات عن الإمام أحمد : رواية أنَّهما يُكرهان، ورواية أنَّهما يُبَاحان، ورواية أنَّهما يُستحبَّان، ورواية أنَّ الإقامة مستحبَّة دون الأذان. وكلُّ هذا مشروطٌ بما إذا لم يرفعنَ الصَّوت على وجهٍ يُسمَعْنَ، أما إذا رفعن الصَّوت فإما أن نقول بالتَّحريم أو الكراهة. والمذهب الكراهة مطلقاً ، ولو قال قائل بالقول الأخير - وهو سُنِّيَّةُ الإقامة دون الأذان؛ لأجل اجتماعهن على الصَّلاة - لكان له وجه.
قوله: "المقيمين"، ضِدُّ المسافرين، فالمسافرون لا أذان عليهم ولا إقامة، ولكن يُسَنُّ. هذا هو المذهب، ولكن لا دليل له، والصَّواب: وجوبُه على المقيمين والمسافرين.(1/141)
قوله: "للصَّلوات" ، اللام للتعليل، يعني أنَّ الأذان والإقامة واجبان للصَّلاة وليسا واجبين فيها، والفرق بين الواجب للشيء والواجب فيه: أنَّ الواجب في الشيء من حقيقته وماهيَّتِه، كالتَّشهُّد الأوَّل مثلاً، وأمَّا الواجب للشيء فهو خارجٌ عن الحقيقة والماهيَّة، كالأذان والإقامة للصَّلاة، فهما خارجان عن الصَّلاة واجبان لها؛ فلو صَلَّى بدونهما صحَّت صلاتُه، ولو ترك التَّشهُّد الأوّل عمداً لم تصحَّ.
وقوله: "الخَمْسِ المكتوبة" ، يعني: المفروضة ومنها الجُمُعة؛ لأنها حَلَّت محلَّ الظُّهر.
وقوله: "للصّلوات الخمس" خرج به ما عداها، فلو أراد الإنسان الوتر فإنه لا يؤذِّن له، ولو كُسِفَت الشمسُ لم يؤذِّنْ لذلك، وكذلك صلاة العيد لا أذان لها، ومثل ذلك المنذورة.
قوله: "المؤدَّاة" ، فخرج بهذا المقضيَّة، وهي التي تُصلَّى بعد الوقت، فلا يجب الأذان لها لكن يُسَنُّ . والصَّواب: وجوبهما للصَّلوات الخمس المؤدَّاة والمقضيَّة ، ولكن إذا كان الإنسان في بلد قد أُذِّنَ فيه للصَّلاة، كما لو نام جماعةٌ في غرفة في البلد؛ ولم يستيقظُوا إلا بعد طلوع الشَّمس؛ فلا يجب عليهم الأذان اكتفاءً بالأذان العام في البلد، لأنَّ الأذان العام في البلد حصل به الكفاية وسقطت به الفريضةُ، لكن عليهم الإقامة.
وقوله: "للصلوات الخمس" هذا ما لم تُجمع الصَّلاة، فإنه يكفي للصَّلاتين أذان واحد، ولكن لا بُدَّ من الإقامة لكلِّ واحدة منهما.
قوله: "يُقَاتَلُ أَهْلُ بَلَدٍ تَرَكُوْهُمَا"، والذي يِقاتِلهم الإمام إلى أنْ يُؤذِّنُوا، وهذا من باب التعزير لإقامة هذا الفرض، وليس من باب استباحة دمائهم، ولهذا لا يُتْبَع مُدْبِرُهم، ولا يُجْهَزُ على جَريحِهم، ولا يُغْنَمُ لهم مالٌ، ولا تُسْبَى لهم ذُرِّيَّة؛ لأنَّهم مسلمون، وإنما قُوتلوا تعزيراً.(1/142)
وقوله: "تركُوهُمَا"، يحتمل تركوهما جميعاً، أو تركوا واحداً منهما. فإن تركوهما أو تركوا الأذان فقتالهم ظاهر؛ لأن الأذان من العلامات الظَّاهرة، وإن تركوا الإقامة يحتمل أن يقاتلوا، ويحتمل ألَّا يُقاتَلوا.
قوله: "وتَحْرُمُ أجرتُهُمَا" ، أي: أن يعقدَ عليهما عقد إجارة، بأن يستأجرَ شخصاً يؤذِّن أو يُقيم. أما الجُعَالة؛ بأن يقول: من أذَّن في هذا المسجد فله كذا وكذا دُونَ عقدٍ وإلزام فهذه جائزة؛ لأنَّه لا إلزام فيها، فهي كالمكافأة لمن أذَّن، ولا بأس بالمكافأة لمن أذَّن، وكذلك الإقامة.
قوله: "لا رَزْقٍ من بيتِ المَالِ" ، فلا يحرم أن يُعْطَى المؤذِّن والمُقيم عطاءً من بيت المال، وهو ما يُعرفَ في وقتنا بالرَّاتب؛ لأن بيت المال إنما وُضِعَ لمصالح المسلمين، والأذان والإقامة من مصالح المسلمين.
قوله: "لعدم مُتَطَوِّع" ، هذا شرط لأخذ الرَّزْق، فإن وُجِدَ مُتَطَوِّعٌ أَهْلٌ فلا يجوز أن يُعطَى من بيت المال، حمايةً لبيت المال من أن يُصرفَ دُونَ حاجة إلى صرفه.
قوله: "ويكون المُؤَذِّنُ صَيِّتاً أميناً عَالماً بالوَقْتِ" .قوله: "صَيِّتاً" هذا مستحبٌ، وليس واجباً، فالواجب أن يُسْمِعَ من يُؤَذِّنُ لهم فقط، وما زاد على ذلك فغير واجب. وقوله: "صَيِّتاً" يحتمل أن يكون المعنى قويَّ الصَّوتِ، ويحتمل أن يكون حسنَ الصَّوت، ويحتمل أن يكون حسنَ الأداء، ولكن الاحتمال الأخير ليس واضحاً من العبارة. فهنا ثلاثةُ أوصاف تعود على التلفُّظ بالأذان:
1 - قوَّة الصَّوت.
2 - حُسْن الصَّوتِ.
3 - حُسْن الأدَاءِ. فهذا كُلُّه مطلوب.(1/143)
ونستنبط من قوله: "صَيِّتاً" أن مكبِّرات الصَّوت من نعمة الله؛ لأنَّها تزيد صوت المؤذِّن قوَّة وحُسناً، ولا محذور فيها شرعاً، فإذا كان كذلك وكانت وسيلة لأمر مطلوب شرعي، فللوسائل أحكام المقاصد. ولهذا أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم العبَّاس بن عبد المطلب أن ينادي يوم حنين: "أين أصحابُ السَّمُرَة"، لقوَّةِ صَوته. فدلَّ على أنَّ ما يُطلبُ فيه قوَّةُ الصَّوت ينبغي أن يُختار فيه ما يكون أبلغ في تأديَة الصَّوت. ولكن ما يُتَّخذُ من تفخيم الصوت بما يسمُّونه "الصَّدَى" فليس بمشروع، بل قد يكون منهيًّا عنه إذا لزم منه تكرار الحرف الأخير لما فيه من الزِّيادة.
وقوله: "أميناً"، الظَّاهر من المذهب: أن كونه أميناً سُنَّة. والصَّحيح: أنَّه واجب.
وقوله: "أميناً"، أي: على الوقت، وعلى عورات النَّاس خصوصاً فيما سبق؛ حيث كان النَّاس يؤذِّنون فوق المنارة.(1/144)
وقوله: "عالماً بالوقت"، هذا ليس بشرط إن أراد أن يكون عالماً به بنفسه؛ لأن ابنَ أمِّ مكتوم كان رجلاً أعمى لا يؤذِّن حتى يُقال له: "أصبحتَ أصبحتَ"، لكن الأفضل أن يكون عالماً بالوقت بنفسه؛ لأنه قد يتعذَّر عليه من يُخبره بالوقت. وقد يقال: المراد أن يكون عالماً بالوقت بنفسه أو بتقليد ثقة. والعِلْمُ بالوقت يكون بالعلامات التي جعلها الشَّارع علامة، فالظُّهر بزوال الشَّمس، والعصر بصيرورة ظلِّ كُلِّ شيءٍ مثله بعد فيء الزَّوال، والمغرب بغروب الشَّمس، والعِشاء بمغيب الشَّفق الأحمر، والفجر بطلوع الفجر الثَّاني. وهذه العلامات أصبحت في وقتنا علامات خفيَّة؛ لعدم الاعتناء بها عند كثير من النَّاس، وأصبح النَّاس يعتمدون على التقاويم والسَّاعات. ولكن هذه التقاويم تختلف؛ فأحياناً يكون بين الواحد والآخر إلى ست دقائق، وهذه ليست هيِّنة ولا سيَّما في أذان الفجر وأذان المغرب؛ لأنَّهما يتعلَّق بهما الصِّيام، مع أن كلَّ الأوقات يجب فيها التَّحري، فإذا اختلف تقويمان وكلٌّ منهما صادرٌ عن عارف بعلامات الوقت، فإننا نُقدِّم المتأخِر في كلِّ الأوقات؛ لأنَّ الأصل عدم دخول الوقت، مع أن كلًّا من التَّقويمين صادر عن أهلٍ، وقد نصَّ الفقهاء رحمهم الله على مثل هذا فقالوا: لو قال لرَجُلين ارْقُبَا لي الفجر، فقال أحدهما: طلع الفجرُ، وقال الثاني: لم يطلع؛ فيأخذ بقول الثَّاني، فله أن يأكلَ ويشرب حتى يتَّفقا بأن يقول الثَّاني: طلع الفجر، أما إذا كان أحد التقويمين صادراً عن أعلم أو أوثق فإنَّه يقدَّم.
قوله: "فإن تَشاحَّ فيه اثنان قُدِّمَ أفضلُهُما فيه" ، تشاحَّ: أي: تزاحما فيه، وهذا في مسجد لم يتعيَّن له مؤذِّن، فإن تعيَّن بقي الأمر على ما كان عليه.(1/145)
وقوله: "قُدِّم أفضلُهُما فيه"، أي: أقومهما في الأذان من حُسنِ الصَّوت، والأداء، والأمانة، والعلم بالوقت، وذلك لأنَّهما قد تزاحما في عمل فقُدِّم أفضلهما فيه. وقوله: "فيه" خرج به ما لو كان أحدُهما أقرأ، لكنَّه دون الآخر فيما يتعلَّق بالأذان؛ فلا يُقدَّم على الآخر.
قوله: "ثم أفضلُهُمَا في دينه وعقلِهِ" ، أي: أطوعهما لله. وقوله: "وعَقْلِهِ" المراد: حُسن التَّرتيب، فيستطيع أن يرتِّبَ نفسه، ويجاري النَّاس بتحمُّلِهم في أذاهم، ولم يذكر المؤلِّف أفضلهما في علمه، وهذا أمرٌ لا بُدَّ منه، فإنَّنا نقدم أعلمهما، ورُبَّما قال قائل: هذا داخل في قوله: "أفضلهما فيه"، فنقول: إن تَحَمَّلَتْهُ الكلمة فهذا هو المطلوب، وإلا فَيَجِبُ أن نراعيَها.
قوله: "ثم من يختارُهُ الجِيْرَان" ، أي: أهل الحيِّ، وإذا تَعَذَّر إجماع الجيران على اختياره أخذنا بقول الأكثر؛ لأنَّه قَلَّ أن تجد رجلاً يُجْمِعُ النَّاسُ عليه.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا اعتبار في اختيار الجهة المسؤولة عن المساجد، لأنَّ الأذان لأهل الحيِّ فهم المسؤولون، ولكن هذا فيه نظر، بل نقول: المسؤول عن شؤون المساجد لا بُدَّ أن يكون له نوع اختيار، لأنَّه هو المسؤول، ولهذا عندما يحصُل إخلال من المؤذِّن يُرجع إلى المسؤول عن شؤون المساجد. ولعل المساجد في زمن المؤلِّف وما قبله ليس لها مسؤول خاصٌّ.
قوله: "ثم قُرْعَةٌ" ، هذا إذا تعادلت جميع الصِّفات، ولم يُرجِّح الجيران، أو تعادل التَّرجيح، فحينئذ نرجع إلى القُرْعة.
قوله: "وَهو خَمْسَ عَشْرَةَ جُمْلَةً يُرَتِّلُها عَلَى عُلْوٍ". فالتَّكبير في أوَّله أربع، والشَّهادتان أربع، والحيعلتان أربع، والتَّكبير في آخره مرَّتان، والتَّوحيد واحدة. فالمجموع خمسَ عشرةَ جملة، وهذا أوَّلُ الشروط في الأذان، ألا يَنْقُصُ عن خمسَ عَشْرةَ جملة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، والمسألة فيها خلاف.(1/146)
ونقول: كلُّ ما جاءت به السُّنَّة من صفات الأذان فإنه جائز، بل الذي ينبغي: أنْ يؤذِّنَ بهذا تارة، وبهذا تارة إن لم يحصُل تشويش وفتنةٌ. فعند مالك سبعَ عَشْرةَ جملة، بالتكبير مرتين في أوَّله مع الترجيع - وهو أن يقول الشهادتين سِرًّا في نفسه ثم يقولها جهراً -. وعند الشافعي تسعَ عَشْرَة جملة، بالتكبير في أوَّله أربعاً مع الترجيع، وكلُّ هذا مما جاءت به السُّنَّة، فإذا أذَّنت بهذا مرَّة وبهذا مرَّة كان أولى.
وقوله: "يُرَتِّلُها"، أي: يقولها جملةً جملةً، وهذا هو الأفضل على المشهور. وهناك صفة أخرى: أنه يقرُنُ بين التَّكبيرتين في جميع التَّكبيرات فيقول: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، ثم: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ، ويقول في التَّكبير الأخير: اللَّهُ أكبرُ اللَّهُ أكبرُ. والأفضل أن يعمل بجميع الصِّفات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يخاف تشويشاً أو فتنة، فليقتصر على ما لم يحصُل به ذلك؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم تَرَكَ بناءَ الكعبة على قواعد إبراهيم خوفاً من الفتنة. ولكن ينبغي أن يُروَّض النَّاسُ بتعليمهم بوجوه العبادة الواردة، فإذا اطمأنت قلوبُهم وارتاحت نفوسُهم؛ قام بتطبيقها عمليّاً؛ ليحصُل المقصود بعمل السُّنَّة من غير تشويش وفتنة.
وقوله: "على عُلْو"، أي: ينبغي أن يكون الأذان على شيء عالٍ؛ لأنَّ ذلك أبعد للصَّوت، وأوصل إلى النَّاس.
قوله: "متطهِّراً" ، أي: من الحَدَث الأكبر والأصغر وهو سُنَّة، ولكن قال الفقهاء رحمهم الله: إنه يُكره أذان الجُنب دون أذان المُحْدِث حَدَثاً أصغر، هذا إذا لم تكن المنارةُ في المسجد، فإن كانت في المسجد فإنَّه لا يجوز أن يمكُثَ في المسجد إلا بوُضُوء، فالمراتب ثلاث:
1 - أن يكون متطهِّراً من الحدثين، وهذا هو الأفضل.
2 - أن يكون محدثاً حدثاً أصغر، وهذا مباح.
3 - أن يكون محدثاً حدثاً أكبر، وهذا مكروه.(1/147)
قوله: "مستقبل القِبْلَة" ، أي: يُسَنُّ أن يكون مستقبل القِبلة حال الأذان.
قوله: "جَاعلاً إِصْبَعَيْهِ في أُذُنَيْهِ" ، أصبعيه يعني: السَّبَّابتين.
قوله: "غيرَ مستدير" ، أي: لا يستدير على المنارة.
قوله: "ملتفتاً في الحيعلة يميناً وشمالاً" ، الحيعلة: أي: قول "حَيَّ على الصَّلاة.
والمؤلِّف أجملَ كيفيَّة الالتفات. فقال بعضهم: إنه يلتفت يميناً لـ"حيَّ على الصَّلاة" في المرَّتين جميعاً، وشمالاً لـ"حيَّ على الفلاح" في المَرَّتين جميعاً ، وقال بعضهم: إنه يلتفت يميناً لـ"حيَّ على الصَّلاة" في المَرَّة الأولى، وشمالاً للمرَّة الثانية؛ و"حيَّ على الفلاح" يميناً للمرَّة الأولى، وشمالاً للمرَّة الثانية ليُعطي كلَّ جهة حَظَّها من "حَيَّ على الصَّلاة" و"حَيَّ على الفلاح". ولكن المشهور وهو ظاهر السُّنَّة: أنه يلتفت يميناً لـ"حيَّ على الصَّلاة" في المرَّتين جميعاً، وشمالاً لـ"حيَّ على الفلاح" في المَرَّتين جميعاً. ولكن يلتفت في كُلِّ الجملة. وما يفعله بعض المؤذِّنين أنَّه يقول: "حيَّ على" مستقبل القبلة ثم يلتفت، لا أصل له. ومثلها التَّسليم، فإن بعض الأئمة يقول: السَّلام عليكم قبل أن يلتفت، ثم يقول: ورحمة الله حين يلتفت. ولا أصل لهذا ولا لهذا.
تنبيه: الحكمة من الالتفات يميناً وشمالاً إبلاغ المدعوين من على اليمين وعلى الشمال، وبناءً على ذلك: لا يلتفت من أذَّن بمكبر الصَّوت؛ لأنَّ الإسماع يكون من "السَّمَّاعات" التي في المنارة؛ ولو التفت لَضَعُف الصَّوت؛ لأنه ينحرف عن "الآخذة".(1/148)
قوله: "قَائِلاً بَعْدَهما في أَذَانِ الصُّبحِ: الصَّلاةُ خَيرٌ من النَّوْمِ مَرَّتَيْنِ" ، قائلاً بعدهما - أي: بعد الحيعلتين -: الصَّلاة خيرٌ من النَّوم في أذان الصُّبْحِ مَرَّتين. وقوله: "مَرَّتين"، أي: يُرَدِّدُها مَرَّتين، ولم يذكر العلماء هل يلتفت يميناً وشمالاً، أو يبقى مستقبل القبلة؟ والأصل إذا لم يُذكر الالتفات أن يبقى على التوجّه إلى القِبلة. وهذا القول يُسمَّى التثويب، من ثاب يثوب إذا رجع؛ لأن المؤذِّنَ ثاب إلى الدَّعوة إلى الصلاة بذكر فضلها.
وأذان الصُّبْح: هو الأذان الذي يكون بعد طلوع الفجر، واختُصَّ بالتثويب لأن كثيراً من النَّاس يكون في ذلك الوقت نائماً، أو متلهِّفاً للنَّوم. وقد توهَّمَ بعض النَّاس في هذا العصر أن المُرَاد بالأذان الذي يُقال فيه هاتان الكلمتان هو الأذان الذي قبل الفجر،(( وهذا خطأ ))؛ فلو ثوب في الأذان الذي قبل الصبح لقلنا هذا غير مشروع. (( والصحيح: أن )) التثويب يكون في أذان صلاة الصبح .(1/149)
قوله: "وهي إحدى عشرة يَحْدُرُها" ، و"هي" أي: الإقامة. وقوله: "يحدُرُها"، أي: يُسرع فيها فلا يرتِّلها، وكانت إحدى عشرة؛ لأنَّ "التكبير" في أوَّلاها مرَّتان، و"التَّشهد" للتَّوحيد والرِّسالة مرَّة مرَّة، و"الحيعلتان" مرَّة مرَّة، و"قد قامت الصَّلاة" مرَّتان، و"التكبير" مرَّتان، و"التوحيد" مرَّة، فهذه إحدى عشرة، وهذا ما اختاره الإمام أحمد. ومن العلماء من اختار سوى ذلك، وقال إنها: سبعَ عَشْرَة، فيجعل "التكبير" أربعاً، و"التشهدين" أربعاً، و"الحيعلتين" أربعاً، و"قد قامت الصلاة" اثنتين، و"التكبير" مرَّتين، و"التوحيد" مرَّة، فيكون المجموع سَبْعَ عَشْرَة. ومنهم من قال: إنها على جُملة جُملة إلا "قد قامت الصلاة"، فتكون تسع جُمَل. وينبغي أن يُعلم "قاعدة" أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم: "بأن العبادات الواردة على وجوه متنوِّعة؛ ينبغي أن تُفعل على جميع الوجوه؛ هذا تارة وهذا تارة، بشرط ألا يكون في هذا تشويش على العامة أو فتنة".
قوله: "ويقيم من أذَّن" ، أي: يتولَّى الإقامةَ من يتولَّى الأذان، لكن لا يقيم إلا بإذن الإمام أو عُذْره.
قوله: "في مكانه إن سَهُلَ" ، أي: يقيم في مكان أذانه. نَصَّ عليه الإمام أحمد.
وقيَّد المؤلف ذلك بقوله: "إن سَهُلَ" فعُلِمَ منه أنَّه لو صَعُبَ؛ كما لو أذَّن في منارة فإنه يُقيم حيث تيسَّر. وفي وقتنا الحاضر يمكن أن يكون من أقام في مكبِّر الصَّوت كمن أقام في مكان أذانه؛ لأنَّ صوته يُسمع من سمَّاعات المنارة، فيكون إسماع الإقامة من المنارة بمكبر الصَّوت جارياً على ما قاله الفقهاء رحمهم الله: إنه يقيم في مكانه ليُسمعَ النَّاس الإقامة فيحضروا.(1/150)
قوله: "ولا يصحُّ إلا مرتَّباً"، أي: لا يصحُّ الأذان إلا مرتَّباً، والترتيب أن يبدأ بالتكبير، ثم التَّشهُّد، ثم الحيعلة، ثم التَّكبير، ثم التَّوحيد، فلو نَكَّسَ لم يجزئ . وقوله: "لا يصحُّ إلا مرتَّباً" يفيد أنَّه لا يصحُّ إلا بهذا اللفظ، فلو قال: "الله أجلُّ" أو "الله أعظمُ" لم يصحَّ.
قوله: "متوالياً" ، يعني: بحيث لا يَفْصِلُ بعضَه عن بعض، فإن فَصَلَ بعضَه عن بعض بزمن طويل لم يجزئ، فإن حَصَل له عُذر مثل إن أصابه عُطاس أو سُعَال، فإنه يبني على ما سبق؛ لأنه انفصل بدون اختياره.
قوله: "من عَدْل" ، هذه الكلمة صفة لموصوف محذوف، والتقدير: "من رَجُلٍ واحد عدل" فلا يصحُّ من امرأة، ولا من اثنين فأكثر، ولا يُكمِلُ الأذان إذا حصَل له عُذر بل يستأنف.
واستفدنا من قوله: "عدل" أنه لا بُدَّ أن يكون مسلماً، فلو أذَّنَ الكافر لم يصحَّ؛ لأن الأذان عبادة فاشتُرطَ فيه الإسلام، ولو أذَّن المعلنُ بفسقه كحالق اللحية ومن يشرب الدُّخان جهراً، فإنه لا يَصِحُّ أذانه على كلام المؤلِّف. والرواية الثانية عن الإمام أحمد صحَّة أذان الفاسق؛ لأن الأذان ذِكْرٌ؛ والذِّكْرُ مقبولٌ من الفاسق؛ لكن لا ينبغي أن يتولَّى الأذان والإقامة إلا من كان عدلاً. وكلمة "عدل" تضمَّنت أن يكون مسلماً عاقلاً ذَكَراً واحداً عدلاً.
( تنبيه ) : الأذان بالمُسجِّل غير صحيح.
قوله: "ولو مُلَحَّناً" ، الملحن: المطرَّب به، أي: يؤذِّنُ على سبيل التطريب به كأنما يجرُّ ألفاظ أغنية، فإنه يجزئ لكنه يُكره. ومن العلماء من قال: لا يصحُّ الأذان الملحَّن.
قوله: "أو مَلْحُوناً" ، الملحون: هو الذي يقع فيه اللَّحن، أي: مخالفة القواعد العربية. ولكن اللَّحن ينقسم إلى قسمين:
1 - قسم لا يصحُّ معه الأذان، وهو الذي يتغيَّر به المعنى.(1/151)
2 - وقسم يصحُّ به الأذان مع الكراهة، وهو الذي لا يتغيَّر به المعنى، فلو قال المؤذَّن: "الله أكبار" فهذا لا يصحُّ، لأنه يُحيل المعنى، فإن "أكبار" جمع "كَبَر" كأسباب جمع "سبب" وهو الطَّبل. ولو قال: "الله وكبر" فإنَّه يجوز في اللغة العربية إذا وقعت الهمزة مفتوحة بعد ضَمٍّ أن تَقلب واواً، ولو قال: "أشهد أن محمداً رسولَ الله" بنصب "رسول" فهو لا شكَّ أنَّه لَحْنٌ يُحيل المعنى على اللُّغة المشهورة؛ لأنه لم يأتِ بالخبر، لكن هناك لغة أن خبر "أن" يكون منصوباً فيُقبل هذا. ولو قال: "حيَّا على الصَّلاة" فعلى اللُّغة المشهورة - وهي أنَّ اسم الفعل لا تلحقه العلامات - فهذا لا يتغيَّر به المعنى فيما يظهر، وحينئذ يكون الأذان صحيحاً؛ لأنَّ غايته أنه أشبع الفتحة حتى جعلها ألفاً.
"ويُجْزِئُ من مُمَيِّز" ، يُجزئ: الفاعل يعود على الأذان. والمميِّز: من بلغ سبعاً إلى البلوغ، وسُمِّيَ مميِّزاً لأنه يميِّز فيفهم الخطاب ويردُّ الجواب. وقال بعضُ العلماء: إن المميِّز لا يتقيَّد بسنٍّ، وإنما يتقيَّد بوصف. فهل يصحُّ أذان المُميِّز أو لا يصحُّ؟ قال المؤلِّف: إنَّه يصحُّ، فلو لم يوجد في البلد إلا هذا الصبيُّ المميِّز وأذَّن فإنه يُكتفى به. وقال بعض العلماء: لا يجزئ أذان المُميِّز. وفَصَّلَ بعض العلماء فقال: إنْ أذَّنَ معه غيرهُ فلا بأس، وإن لم يكن معه غيرُه فإِنَّه لا يُعتمد عليه، إلا إذا كان عنده بالغ عاقل عارف بالوقت ينبِّهه عليه. وهذا هو الصَّواب.
قوله: "ويُبطلُهُما فصلٌ كثيرٌ" ، يبطلهما: الضَّمير يعود على الأذان والإقامة. والفصل الكثير هو الطويل عُرفاً، وإنما أبطلهما لأن الموالاة شرط ، فلو كبَّر أربع تكبيرات ثم انصرف وتوضَّأ ثم أتى فأتمَّ الأذان، فإن هذا الأذان لا يصحُّ، بل يجب أن يَبْتَدِئَهُ من جديد.(1/152)
قوله: "ويَسيرٌ مُحَرَّمٌ" ، وذلك لأن المحرَّم يُنافي العبادة، مثل لو كان رجلٌ يؤذِّن وعنده جماعة يتحدَّثون؛ وفي أثناء الأذان التفت إليهم وقال: فلان فيه كذا وكذا يغتابه، فالغيبة من كبائر الذُّنوب، فنقول: لا بُدَّ أن تعيد الأذان؛ لأنه قد بَطَلَ، وهذا رُبَّما يقع كثيراً في الرَّحلات عند بعض النَّاس.
وعُلِمَ من قوله: "يَسيرٌ مُحَرَّم"، أنَّه إذا كان يسيراً مُباحاً كما لو سأله سائل وهو يؤذِّنُ: أين فلان؟ فقال: ذهب. فهذا يسيرٌ مباح فلا يبطله.
قوله: "ولا يُجزِئُ قبل الوقت". فلو أذَّن قبل الوقت جاهلاً قلنا له: إذا دخل الوقت فأعد الأذان، وهذا يقع أحياناً فيما إذا غَرَّت الإنسانَ ساعتُهُ، ويُثَاب على أذانه السَّابق للوقت ثواب الذِّكْرِ المطلق.
قوله: "إلا الفَجْرَ بعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ" ، استثنى المؤلِّف من شرط دخول الوقت أذان الفجر فقال: "إلا الفجر بعد نصف الليل"، فيصحُّ الأذان وإن لم يؤذِّن في الوقت، وعلى هذا؛ فلو أنَّ المؤذِّنين أذَّنوا للفجر بعد منتصف الليل بخمس دقائق، ولم يؤذِّنوا عند طُلوع الفجر، فهذا على كلام المؤلِّف يجزئ، لقول الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام: "إن بلالاً يؤذِّنُ بليل؛ فكُلُوا واشربُوا حتى يؤذِّن ابنُ أُمِّ مكتوم، فإنه لا يؤذِّنُ حتى يطلع الفجر. والقول الثاني: في هذه المسألة: أنه لا يصحُّ الأذان قبل الفجر إلا إذا وُجِدَ من يؤذِّن بعد الفجر، وهؤلاء لهم حَظٌ من حديث بلال. والقول الثالث: أنه لا يصحُّ الأذان لصلاة الفجر، ولو كان يوجد من يؤذِّن بعد الفجر، وأن الأذان الذي يكون في آخر الليل ليس للفجر، ولكنه لإيقاظ النُّوَّمِ؛ من أجل أن يتأهَّبوا لصلاة الفجر، ويختموا صلاة الليل بالوتر، ولإرجاع القائمين الذين يريدون الصِّيام. وهذا القول أصحُّ.
قوله: "وَيُسَنَّ جُلُوسُهُ بَعْدَ أَذَانِ المغربِ يَسِيْراً" ، هنا أمران: "جلوسه" و"يسيراً" ففيه سُنَّتَان:(1/153)
الأولى: أن يجلس بحيث يفصل بين الأذان والإقامة.
والثانية: أن يكون الجلوس يسيراً، وإنما قال المؤلِّفُ ذلك لأنَّ من العلماء من يرى أن السُّنَّة في صلاة المغرب أن تُقرن بالأذان، فبيَّن المؤلِّف أن الأفضل أن يجلس يسيراً.
وقوله: "يسيراً"، أي: لا يطيل؛ لأنَّ صلاة المغرب يُسَنُّ تعجيلُها، وكلُّ صلاة يُسَنُّ تعجيلها فالأفضل أن لا يطيل الفصل بين الأذان والإقامة، لكن مع ذلك ينبغي أن يراعي حديث: "بين كُلِّ أذانين صلاة"، ولهذا قال العلماء: ينبغي في هذا أن يفسَّر التَّعجيل بمقدار حاجته، من وُضُوء، وصلاة نافلة خفيفة أو راتبة.
ويُسَنُّ تعجيلُ جميعِ الصَّلوات إلا العشاء، وإلا الظُّهر عند اشتداد الحرِّ، ولكن الصَّلوات التي لها نوافل قبلها كالفجر والظُّهر؛ ينبغي للإنسان أن يُراعي حال النَّاس في هذه، بحيث يتمكَّنون من الوُضُوء بعد الأذان ومن صلاة هذه الرَّاتبة.
قوله: "وَمَنْ جَمَعَ أَوْ قَضَى فَوَائِتَ أَذَّنَ لِلأُولى ثُمّ أَقَام لِكُلِّ فَرِيضَةٍ" ، هاتان مسألتان:
الأولى: الجمع، ويُتصوَّر بين الظُّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، وسيأتي بيان سبب الجمع، وأنَّه المشقَّة، فكُلَّما كان يَشُقُّ على الإنسان أن يُصلِّي كلَّ صلاة في وقتها؛ فإنَّ له أن يجمع، سواء كان في الحضر أم في السَّفر، فإذا جمع الإنسانُ أذَّن للأُولى؛ وأقام لكلِّ فريضة، هذا إن لم يكن في البلد، أما إذا كان في البلد؛ فإنَّ أذان البلد يكفي؛ وحينئذ يُقيم لكلِّ فريضة.
المسألة الثانية: من قضى فوائت فإنه يؤذِّن مرَّة واحدة، ويُقيم لكلِّ فريضة.
وقوله: "أو قضى فوائت"، قال العلماء: أوصاف الصَّلاة ثلاثة: أداء، وإعادة، وقَضاء. فالأداء: ما فُعل في وقته لأوّل مرّة. والإعادة: ما فُعِلَ في وقته مرَّة ثانية كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صَلَّيتُما في رِحالِكُما؛ ثم أتيتما مسجدَ جماعة فصلِّيا معهم، فإنَّها لكما نافلة".(1/154)
والقضاء: ما فُعِلَ بعد وقته، وهذا بناءً على المشهور عند أكثر أهل العلم أنَّ ما فُعِلَ بعد الوقت فهو قَضاء. ولكن هناك قولاً ثانياً هو الأصحُّ: وهو أنَّ ما فُعِلَ بعد الوقت؛ فإن كان لغير عُذْرٍ لم يقبل إطلاقاً، وإِن كان لعُذْرٍ فهو أداء وليس بقضاء. ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نام عن صلاة أو نسيها فليصلِّها إذا ذكرها". فجعل وقتها عند ذكرها، وكذلك في النوم عند الاستيقاظ. والخلاف في هذا قريب من اللفظي؛ لأن الكُلَّ يتَّفقون على أنه يُشرع الأذان والإقامة حتى فيما فُعِلَ بعد الوقت.
قوله: "ويُسَنُّ لسامعه مُتابعتُه سِرًّا". قول المؤلِّف: "يُسَنُّ لسامعه"، أي لسامع الأذان فيشمل الذَّكر والأُنثى، ويشمل المؤذِّن الأول والثاني إذا اختلف المؤذِّنُون.
فيجيب الأول ويجيب الثَّاني؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثل ما يقول". ثم هو ذِكْرٌ يُثاب الإنسان عليه، ولكن لو صَلَّى ثم سمع مؤذِّناً بعد الصَّلاة فظاهر الحديث أنَّه يجيب لعمومه. وقال الأصحاب: إنه لا يجيب؛ لأنه غير مدعو بهذا الأذان فلا يتابعه. ولكن لو أخذ أحدٌ بعموم الحديث وقال: إنه ذِكْر؛ وما دام الحديث عاماً فلا مانع من أن أذكر الله .
وقوله: "يُسَنُّ لسامعه متابعتُه سِرًّا"، صريحٌ بأنه لو ترك الإجابة عمداً فلا إثم عليه ، (( لأن الإجابة ليست بواجبة )) وهذا هو الصَّحيح. وقال بعض أهل الظَّاهر: إن المتابعة واجبة، وإنه يجب على من سمع المؤذِّن أن يقول مثلَ ما يقول.
وقوله: "يُسَنُّ لسَامعه متابعتُه سِرًّا"، ظاهره: أنه إذا رآه ولم يسمعه فلا تُسَنُّ المتابعة. وظاهر كلامه أيضاً: أنه لو سَمِعَه ولم يَرَهُ؛ تابعه للحديث.(1/155)
وظاهر الحديث كما هو ظاهرُ كلام المؤلِّف أنه يتابعه على كلِّ حال؛ إلا أن أهل العلم استثنوا مَنْ كان على قضاء حاجته؛ لأنَّ المقام ليس مقام ذِكْر، وكذا المصلِّي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الصَّلاةِ شُغْلاً"، فهو مشغول بأذكار الصَّلاة. وقال شيخ الإسلام: بل يتابع المصلّي المؤذِّنَ؛ لعموم الأمر بالمتابعة، والرَّاجح: أن المصلِّي لا يتابع المؤذِّن، وكذا قاضي الحاجة. لكن هل يقضيان أم لا؟ المشهور من المذهب أنهما يقضيان؛ لأن السبب وُجِدَ حال وجود المانع؛ فإذا زال المانع ارتفع وقضى ما فاته. وفي النَّفس من هذا شيء، خصوصاً إذا طال الفصلُ والله أعلم.
قوله: "وحَوقَلَتُه في الحَيْعَلة" ، هذان مصدران مصنوعان ومنحوتان؛ لأنَّ الحَوقَلَة مصنوعة من "لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله"، والحيعلة من "حيَّ على الصَّلاة" "حيّ على الفلاح"، فتقول إذا قال المؤذِّنُ: "حَيَّ على الصَّلاة": لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله، وإذا قال: "حَيَّ على الفلاح": لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله..(1/156)
قوله: "وقوله بعد فراغه: اللهم رَبَّ هذه الدَّعوةِ التَّامَّة، والصَّلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلةَ والفضيلةَ، وابْعَثْهُ مَقَامَاً مَحْمُوداً الذي وَعَدْتهُ" ، الحقيقة أن المؤلِّف اقتصر في الدُّعاء الذي بعد الأذان على ما ذكره، وإلا فينبغي بعد الأذان أن تُصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم تقول: "اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة... إلخ"، وفي أثناء الأذان إذا قال المؤذِّن: "أشهد أنْ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسولُ الله" وأجبته تقول بعد ذلك: "رضيت بالله رَبًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً" كما هو ظاهر رواية مسلم حيث قال: "من قال حين سمع النداء: أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله، رضيت بالله رَبًّا وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً، غُفِرَ له ذَنْبه". في رواية ابن رُمْح - أحد رجال الإسناد -: "من قال: وأنا أشهد". وفي قوله: "وأنا أشهد" دليلٌ على أنه يقولها عقب قول المؤذِّن: "أشهد أنْ لا إله إلا الله"، لأنَّ الواو حرف عطف، فيعطف قولَه على قولِ المؤذِّن. فإذاً؛ يوجد ذِكْرٌ مشروع أثناء الأذان.
لو قال قائل: إذا كانت الوسيلة حاصلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، فما الفائدة من أن ندعو الله له بها؟ فالجواب: لعلَّ من أسباب كونها له دُعاءُ النَّاس له بذلك، وإن كان صلى الله عليه وسلم أحقَّ الناس بها. ولأن في ذلك تكثيراً لثوابنا؛ وتذكيراً لحقِّه علينا.(1/157)
تنبيه: لم يذكر المؤلِّف قوله: "إنك لا تخلف الميعاد"؛ لأن المحدثين اختلفوا فيها، هل هي ثابتة أو ليست بثابتة؟ فمنهم من قال: إنها غير ثابتة لشُذُوذِها. ومن العلماء من قال: إنَّ سندها صحيح، وإنها تُقال؛ لأنها لا تُنَافي غيرَها، وممن ذهب إلى تصحيحها الشيخ عبد العزيز بن باز، وقال: إن سندَها صحيح، وقد أخرجها البيهقي بسند صحيح. فمن رأى أنَّها صحيحة فهي مشروعة في حقِّه، ومن رأى أنَّها شاذة فليست مشروعة في حقِّه، والمؤلِّف وأصحابُنَا يرون أنها شاذَّة ولا يُعمل بها.
تَنْبِيهات: الأوَّل: ظاهر كلام المؤلِّف أنه لا تُسَنُّ متابعةُ المقيم، وهو أظهر. وقيل: بل تُسَنُّ، وفيها حديث أخرجه أبو داود لكنه ضعيف؛ لا تقوم به الحُجَّة.
الثاني: ظاهر كلامه: أنَّه إذا قال المؤذِّن في صلاة الصُّبْح: "الصَّلاة خير من النوم"، فإن السَّامع يقول مثل ما يقول: "الصَّلاةُ خير من النوم" وهو الصَّحيح . والمذهب أنه يقول في المتابعة في "الصلاة خير من النوم": "صدقت وبررت" وهذا ضعيف، لا دليل له؛ ولا تعليل صحيح.
الثالث: ظاهر كلام المؤلِّف أيضاً: أن المؤذِّن لا يتابعُ نفسَه، وهو الصَّحيح. والمذهب أنه يُتابع نفسه، وهو ضعيفٌ.
باب شروط الصلاة
قوله: "شروطها قبلها منها الوقت" ، "من" هنا للتبعيض، وهو يدلُّ على أنَّ هناك شروطاً أخرى، وهو كذلك؛ منها: الإسلام، والعقل، والتَّمييز، فهذه ثلاثة شروط لم يذكرها المؤلِّف؛ لأنَّ هذه الشُّروط معروفة. والصَّلاة لا تصحُّ قبل الوقت بإجماع المسلمين، فإن صلَّى قبل الوقت، فإن كان متعمِّداً فصلاته باطلة، ولا يسلم من الإثم، وإن كان غير متعمِّد لظنِّه أنَّ الوقت قد دخل، فليس بآثم، وصلاته نَفْل، ولكن عليه الإعادة.(1/158)
وهل تصحُّ بعد الوقت؟ نقول: إن كان الإنسان معذوراً فإنها تصحُّ بالنصِّ والإجماع. وأما صحتها بعد خروج الوقت بدون عُذر؟ فجمهور أهل العلم على أنها تصحُّ بعده مع الإثم. والصَّحيح: أنها لا تصحُّ بعد الوقت إذا لم يكن له عُذر، وأنَّ من تعمَّد الصَّلاة بعد خروج الوقت فإن صلاته لا تصحُّ، ولو صَلَّى ألف مَرَّة.
قوله: "والطَّهارة من الحدث والنجس" ، أي: ومن شروط الصَّلاة: الطهارة من الحدث والنجس، والطَّهارةُ من النَّجس يعني: في الثوب، والبقعة، والبدن.
قوله: "فوقت الظُّهر من الزَّوال، إلى مُسَاواةِ الشَّيءِ فيئَه بعد فيءِ الزَّوال " ، فيئَه، أي: ظِلَّه، يقول بعضُ أهل اللغة: الفيءُ هو الظِلُّ بعد الزَّوال، وأما قبله فيُسمَّى ظلاً، ولا يُسمَّى فيئاً، وما قالوه له وجه، لأنَّ الفيءَ مأخوذ من فاء يفيء، إذا رجعَ، كأن الظِلَّ رجع بعد أن كان ضياء، أما الذي لم يزل موجوداً فلا يُسمَّى فيئاً؛ لأنَّه لم يزل مظلماً. فقوله: "مساواةِ الشَّيءِ فيئَه بعد فيءِ الزَّوال"، وذلك أن الشَّمس إذا طلعت صار للشَّاخص ظِلٌّ نحو المغرب والشَّاخص الشيء المرتفع - ثم لا يزال هذا الظِلُّ ينقص بقدر ارتفاع الشمس في الأُفق حتى يتوقف عن النقص، فإذا توقَّف عن النقص، ثم زاد بعد توقُّف النقص ولو شعرة واحدة فهذا هو الزَّوال، وبه يدخل وقت الظُّهر.(1/159)
وقوله: "بعد فيءِ الزَّوال"، أي: أنَّ الظِلَّ الذي زالت عليه الشمس لا يُحسب، ففي وقتنا الآن حين كانت الشِّمس تميل إلى الجنوب لا بُدَّ أن يكون هناك ظِلٌّ دائمٌ لكلِّ شاخص من النَّاحية الشِّمالية له، وهذا الظِلُّ لا يُعتبر، فإذا بدأ يزيد فَضَعْ علامةً على ابتداء زيادته، ثم إذا امتدَّ الظِلُّ من هذه العلامة بقدر طول الشَّاخص، فقد خرج وقت الظُّهر، ودخل وقت العصر، ولا فرق بين كون الشَّاخص قصيراً أو طويلاً، لكن تَبَيُّن الزِّيادة والنقص في الظِلِّ فيما إذا كان طويلاً أظهر. أما علامة الزَّوال بالسَّاعة فاقسمْ ما بين طُلوع الشَّمس إلى غروبها نصفين، وهذا هو الزَّوال، فإذا قدَّرنا أن الشمس تطلع في الساعة السادسة، وتغيب في الساعة السادسة، فالزوال في الثانية عشرة.
قوله: "وتعجيلها أفضل إلا في شِدَّة حَرٍّ " ، أي: تعجيل صلاة الظُّهرِ أفضل، (إلا في شدة الحر، ففي شدة الحر) الأفضل تأخيرها حتى ينكسر الحرُّ. وقال بعض العلماء: بل حتى يكون للشَّواخص ظِلٌّ يُستظلُّ به. لكن هذا ليس بمنضبط, وأصحُّ شيء أن يكون ظِلُّ كلِّ شيء مثله مضافاً إليه فيء الزَّوال، يعني: أنه قُرب صلاة العصر، وهذا هو الذي يحصُل به الإبراد، أمَّا ما كان النَّاس يفعلونه من قبلُ، حيث يصلُّون بعد زوال الشَّمس بنحو نصف ساعة أو ساعة، ثم يقولون: هذا إبراد. فليس هذا إبراداً! هذا إحرار؛ لأنه معروف أن الحرَّ يكون أشدَّ ما يكون بعد الزَّوال بنحو ساعة. فإذا قَدَّرنا مثلاً أن الشَّمس في أيام الصَّيف تزول على الساعة الثانية عشرة، وأن العصر على الساعة الرابعة والنصف تقريباً، فيكون الإبراد إلى الساعة الرابعة تقريباً.(1/160)
قوله: "ولو صَلَّى وَحْدَه"، "لو": إشارة خلاف؛ لأنَّ بعض العلماء يقول: إنَّما الإبراد لمن يصلِّي جماعة، وزاد بعضهم: إذا كان منزله بعيداً بحيث يتضرَّرُ بالذَّهاب إلى الصَّلاة.وهذا قيدٌ لما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من حقِّنا أن نقيِّد ما أطلقه الشَّارع، (فالإبراد) يحصُل لمن يُصلِّي جماعة، ولمن يصلِّي وحده، ويدخل في ذلك النِّساء، فإنه يُسنُّ لهنَّ الإبراد في صلاة الظُّهر في شدَّة الحرِّ.
قوله: "أو مع غَيْمٍ لمَنْ يصلِّي جماعةً" ، أي: يُسنُّ تأخير صلاة الظُّهر مع الغيم لمن يُصلِّي جماعةً، والمُراد: الجماعة في المسجد. هذا ما ذهب إليه المؤلِّف، والصَّواب: عدم استثناء هذه الصُّورة، وأن صلاة الظُّهر يُسنُّ تقديمها إلا في شدَّة الحرِّ فقط، وما عدا ذلك فالأفضل أن تكون في أوَّل الوقت.
قوله: "وَيَليه وَقْتُ العَصْرِ" ، أي: يلي وقتَ الظُّهر وقتُ العصرِ، واستفدنا من قول المؤلِّف: "ويليه" أنه لا فاصل بين الوقتين، (وهو) الصحيح فإذا خرج وقت الظهر دخل وقت العصر. وقال بعض العلماء: إن هناك فاصلاً بين وقت الظُّهر ووقت العصر لكنه يسير. وقال آخرون: هناك وقت مشترك بقَدْرِ أربع ركعات بين الظُّهر والعصر.
قوله: "إِلَى مَصيرِ الفَيءِ مِثْلَيْه بَعْدَ فَيءِ الزَّوَالِ"، يعني: أنَّ فيءَ الزَّوال لا يُحسب، فنبدأُ منه، فإذا صار الظِلُّ طول الشَّاخص فهذا نهاية وقت الظُّهر ودخول وقت العصر.
قوله: "والضَّرُورَة إلى غُرُوبها"، أي: وقت الضَّرورة إلى غروب الشمس، فوقت الاختيار ما لم تصفر الشمس ووقت الضرورة إلى الغروب.(1/161)
فإن قيل: ما معنى وقت الضَّرورة؟ فالجواب: أن يضطر الإنسان إلى تأخيرها عن وقت الاختيار. مثاله: أن يشتغل إنسان عن العصر بشغل لا بُدَّ منه، ولنفرض أنه أُصيب بجرح؛ فاشتغل به يُلبِّده ويِضَمّدُه، وهو يستطيع أن يصلِّيَ قبل الاصفرار، لكن فيه مشقَّة، فإذا أخَّر وصَلَّى قُبيل الغروب فقد صَلَّى في الوقت ولا يأثم، لأنَّ هذا وقت ضرورة، فإذا اضطر الإنسان إلى تأخيرها لوقت الضَّرورة فلا حرج، وتكون في حقِّه أداء.
قوله: "ويُسَنُّ تَعجِيلُها" ، أي: يُسَنُّ في صلاة العصر تعجيلُها في أوَّل.
قوله: "ويليه وَقْتُ المَغْرب إلى مَغيب الحُمْرَة" ، أي: يلي وقتَ العصر، بدون فاصل وبدون اشتراك بينهما في الوقت، فوقت المغرب من مغيب الشَّمس إلى مغيب الحُمْرة.
وقوله: "إلى مغيب الحُمْرة"، أي: الحُمْرة في السَّماء، فإذا غابت الحُمْرة لا البياض، فإنه يخرجُ وقتُ المغرب، ويدخلُ وقتُ العِشَاءِ، ومقداره في السَّاعة يختلف باختلاف الفُصول، فتارة يطول وتارة يقصر؛ لكنه يُعرف بالمشاهدة، فمتى رأيت الحُمْرة في الأُفُقِ قد زالت فهذا دليل على أن وقت المَغْربِ قد انقضى، وهو يتراوح ما بين ساعة وربع، إلى ساعة ونصف وثلاث دقائق تقريباً بعد الغروب.
قوله: "ويُسَنُّ تعجيلُها"، أي: يُسَنُّ تعجيل صلاة المَغْرب.
قوله: "إلا ليلة جَمْعٍ" ، جَمْع: اسم "مُزْدَلِفة"، وسُميت جَمْعاً؛ لاجتماع الناس فيها ليلة العيد.
قوله: "لَمن قَصَدها مُحْرماً" ، أي: قصد "جَمْعاً" محرماً، فالمؤلِّف استثنى في صلاة المغرب مسألة واحدة وهي: الحاجُّ إذا دفع من "عَرَفة" فإنه لا يُصلِّي في "عَرَفة" ولا في الطريق، بل يُصلِّي في "مُزْدَلفة". واستثنى فقهاؤنا رحمهم الله في الكتب المطوَّلة: إن لم يُوافها وقت الغروب، أي: إن لم يَصلْ إليها وقت الغروب، فإن وافاها في ذلك الوقت صلَّاها في وقتها وبادر بها.(1/162)
فإن قال قائل: لو تأخَّرتُ في الطريق، وخفتُ أن يخرج وقتُ العشاء، فماذا أصنع؟ فالجواب: إذا خاف خروج الوقت وجب عليه أن ينزل فيصلِّي، فإن لم يمكنه النُّزول صَلَّى، ولو على ظهر راحلته.
قوله: "وَيَلِيه وَقْتُ العِشَاءِ إلى الفَجْرِ الثَّانِي وَهُوَ: البَيَاضُ المُعْتَرِضُ" .أي: يلي وقتَ المَغْرب وقتُ العشاء، وعلى كلام المؤلِّف (وقت العشاء) من خروج وقت المَغْرب إلى طلوع الفجر الثَّاني. والصواب : (الذي دلت عليه السنة وظاهر القرآن)، أن وقت العشاء إلى نصف الليل.
ولكن ما المراد بنصف الليل؟ هل الليل من غروب الشَّمس إلى طُلوعها؟ أو من غروب الشَّمس إلى طُلوع الفجر؟ أما في اللغة العربية: فكلاهما يُسمَّى ليلاً، قال في "القاموس": "الليل: من مغرب الشَّمس إلى طُلوع الفجر الصَّادق أو الشمس". (و) أما في الشَّرع: فالظَّاهر أن الليل ينتهي بطلوع الفجر، وعلى هذا نقول: الليل الذي يُنَصَّفُ من أجل معرفة صلاة العشاء: من مغيب الشَّمس إلى طُلوع الفجر، فنِصْفُ ما بينهما هو آخر الوقت، وما بعد منتصف الليل ليس وقتاً للصَّلاة المفروضة، إنما هو وقت نافلة وتهجُّد.
قوله: "وتأخيرها إلى ثُلُثِ الليل أفضل إن سَهُلَ" ، فإن شَقَّ فَتُعَجَّل في أوَّل الوقت، ثم إذا سَهُلَ فالأفضل تأخيرها إلى ثُلُث الليل، وإن صَلَّى بالنَّاس فالأفضل مراعاة النَّاس، إذا اجتمعوا صَلَّى، وإن تأخَّروا أخَّر. وإذا كانوا جماعة محصورين لا يهمهم أن يعجِّل، أو يؤخِّر فالأفضل التأخير. والنساء في بيوتهن الأفضل لهنَّ التَّأخير إن سَهُل.(1/163)
فإن قال قائل: هل الأَولى مراعاة تأخير الصَّلاة إلى آخر الوقت، أو الصلاة مع الجماعة؟ فالجواب: الصَّلاة مع الجماعة؛ لأن صلاة الجماعة واجبة، والتأخير مستحبٌّ، ولا مقارنة بين مستحبٍّ وواجب. وظاهر كلامه أن تأخيرها إلى ما بعد نصف الليل جائز؛ لأنه لم يُفصح أنه وقت ضرورة، وقد صرَّح غيره بأنه وقت ضرورة لا يجوز تأخير الصَّلاة إليه إلا لضرورة، وقد سبق أن الصحيح أن وقتها ينتهي بنصف الليل.
قوله: "ويليه وقتُ الفَجْرِ إلى طُلُوعِ الشَّمسِ" ، لم يُبيِّن المؤلِّفُ ابتداء وقت الفجر؛ لأنه يرى أن وقت العشاء يمتدُّ إلى طلوع الفجر، ولهذا قال: "ويليه وقتُ الفَجْرِ" فيكون من طلوع الفجر الثَّاني إلى طلوع الشَّمس. ومقداره بالسَّاعة يختلف، قد يكون ساعة ونصفاً، وقد يكون ساعة وربعاً كالمغرب. أما بالنسبة للمُشَاهد، فإذا كنت في بَرٍّ وليس حولك أنوار تمنع الرؤية ولا قَتَرٌ، فإذا رأيت البياض ممتدًّا من الشِّمال إلى الجنوب فقد طلع الفجرُ ودخل وقتُ الصَّلاة، أما قبل أن يتبيَّن فلا تصلِّ الفجر. وبعد طُلوع الشَّمس إلى زوال الشَّمس ليس وقتاً لصلاة مفروضة، كما أن من نصف الليل إلى طُلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة مفروضة على القول الرَّاجح.
قوله: "وَتَعْجِيْلُها أَفْضَلُ" ، أي: تعجيل صلاة الفجر في أوَّل وقتها أفضل.(1/164)
قوله: "وَتُدْرَكُ الصَّلَاةُ بِتَكْبِيْرَةِ الإِحْرامِ في وَقْتِها" ، قوله: "الصَّلاة" عامَّة لصلاة الفريضة وصلاة النَّافلة المؤقَّتة مثل صلاة الضُحى والوتر، فإنهما مؤقَّتان، وكذلك الرَّواتب فإنها مؤقَّتة، فالرَّواتب القَبليَّة وقتها من دخول وقت الصَّلاة إلى إقامة الصَّلاة، والرَّواتب البعديَّة من انتهاء الصَّلاة إلى خروج الوقت، فكلُّ صلاة مؤقَّتة تُدرك بتكبيرة الإحرام، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، سواء كان هذا الإدراك من أوَّل الوقت أم من آخر الوقت. والقول الثاني: أنها لا تُدرك الصَّلاة إلا بإدراك ركعة، وهذا القول هو الصَّحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
لو حاضت المرأة بعد دخول الوقت بأقلَّ من مقدار ركعة لم يلزمها القضاء؛ لأنها لم تدرك ركعة، وإن حاضت بعد دخوله بركعة لزمها القضاء. وقيل: لا يلزمها القضاء إلا أن تحيض قبل خروج الصَّلاة بمقدار الصَّلاة والتطهُّر لها، لأنها قبل ذلك لا يلزمها فعل الصَّلاة؛ لكون الوقت مُوسَّعاً، ولو طَهُرت قبل خروج الوقت بأقلَّ من رَكعة فإنّه لا يلزمها قضاء الصَّلاة؛ لأنها لم تدرك ركعة.
ويَنْبَني على هذا أيضاً إدراكات أخرى مثل إدراك الجماعة: هل تُدرك الجماعة بركعة، أو تُدرك بتكبيرة الإحرام؟ والصَّحيح: أنها لا تُدرك إلا بركعة، كما أن الجُمعة لا تُدرك إلا بركعة بالاتفاق، فكذلك الجماعة لا تدرك إلا بركعة.
وقوله: "بتكبيرة الإحرام في وقتها" يشمل وقت الضَّرورة ووقت الاختيار، وليس عندنا صلاةٌ لها وقتان إلا صلاةٌ واحدة وهي العصر على القول الرَّاجح. فلو أدرك تكبيرة الإحرام قبل غروب الشَّمس فقد أدرك صلاة العصر، لكن سبقَ أنَّ الإدراك معلَّق بركعة.(1/165)
قوله: "ولَا يُصَلِّي قَبْلَ غَلَبَةِ ظَنِّهِ بِدُخُولِ وَقْتِهَا" ، قوله: "قبل غلبة ظَنِّه بدخول وقتها"، أفادنا المؤلِّف بقوله: قبل غلبة ظَنِّه" أنه يجوز أن يُصلِّي إذا غلب على ظنِّه دخول الوقت، فإذا كان الجوُّ صحواً وشاهدنا الشَّمس قد غربت نصلِّي المغرب، فهنا تيقَّنَّا دخول الوقت، وإذا كانت السماء مُغَيِّمَة ولم نشاهد الشَّمس، ولكن غلب على ظنِّنَا أنها قد غابت، نُصلِّي، وهذه صلاة بغلبة الظنِّ. ولكن إذا تيقن أنه صلى قبل الوقت لزمته الإعادة وتكون الأولى نفلاَ. ولو شك في دخول الوقت أو غلب على ظنه عدم دخوله أو تيقن عدم دخوله فلا يصلي.
قوله: "إمَّا باجتهادٍ أو خبرِ ثقةٍ مُتَيقِّنٍ" ، هنا ذكر المؤلِّف الطُّرق التي يحصُل بها غلبة الظنِّ:
الطريق الأول: الاجتهاد، لكن بشرط أن يكون المجتهد عنده أداة الاجتهاد، بأن يكون عالماً بأدلَّةِ الوقت، فإن لم يكن عالماً فإنه لا يعمل باجتهاده؛ إذ إنه ليس من أهل الاجتهاد.
الطَّريق الثَّاني: خبرُ ثقةٍ مُتيقِّنٍ، فإن أخبرك عن اجتهادٍ أو عن غلبة ظنٍّ فإنك لا تعمل بقوله.وهذا القول الذي ذهب إليه المؤلِّف بأنَّه لا بُدَّ أن يكون خَبَرُ الثقة عن يقين فيه نظر. والصَّواب: أنه إذا أَخبرك مَنْ تثقُ به جاز أن تُصلِّي على خبره، سواء كان إخباره عن يقين أم غلبة ظنٍّ.
وقوله: "أو خبر ثقة" يشمل المرأة، فلو أخبرتك امرأة ثقة بدخول الوقت عملت بقولها. وقوله: "ثقة"، الثِّقة هو: مَنْ يُوثق بقوله؛ لكونه مُكَلَّفاً صدوقاً.أي: بالغاً عاقلاً لم يُعرف بالكذب، أو بالعجلة والتَّسرع.
قوله: "فإن أحرمَ باجتهاد فَبَانَ قَبْلَه فَنَفْلٌ وإلا فَفَرْضٌ" ، أي: اجتهد في تحرِّي الوقت، فَبَان أنه أحرم أي: كبَّر للإحرام - قبل دخول الوقت، فصلاته تكون نَفْلاً لا يُحرَمُ ثوابه.
وقوله: "وإلا ففرض"، أي: وإلا يتبيَّن أنه أحرم قَبْلَه فصلاتُه فرض.(1/166)
قوله: "وإن أدرك مكلَّفٌ من وقتها قدْرَ التَّحريمة " ، أي: قَدْرَ تكبيرة الإحرام، وهذا مبنيٌّ على أن المعتبر في إدراك الصَّلاة هو إدراك تكبيرة الإحرام.
قوله: "ثم زالَ تكليفُه" ، أي: بأن جُنَّ بعد العقل، أو أُغميَ عليه.
قوله: "أَوْ حَاضَتْ، ثُمَّ كُلِّفَ وَطَهُرتْ؛ قَضَوْها" ، أي: المرأة بعد دخول وقتِ الصَّلاة بِقَدْرِ تحريمة، فزال تكليفُها ( وهذا هو المذهب ) . وقال بعض أهل العلم: لا يلزمه قضاء الصَّلاة؛إلا إذا أدرك من وقتها قَدْر ركعة.(وهذا القول هو) : أحوط . وقال بعض أهل العلم - واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -: لا يلزمه القضاء إذا زال التكليف، أو وُجِدَ المانعُ في وقت واسع، فإنَّ هذه الصَّلاة لا يلزم قضاؤها، فإنْ قضاها احتياطاً فهو على خير، وإن لم يقضها فليس بآثم.
قوله: "وَمَنْ صَارَ أَهْلاً لِوُجُوبِهَا" ، أهليَّة الوجوب تكون بالتَّكليف أو زوال المانع، فيصير أهلاً لوجوبها إذا بلغ قبل خروج الوقت، وإذا عَقِلَ قبل خروج الوقت، وإذا زال الإغماءُ قبل خروج الوقت على قول أن المُغمى عليه لا يقضي الصَّلاة . وأما زوال المانع فمثاله: إذا طَهُرت قبل خروج الوقت.
فقوله: "من صار أهلاً لوجوبها" يشمل من صار أهلاً لوجوبها لكونه لم يُكلَّف ثم كلِّف، أو لكونه متَّصفاً بمانع ثم زال، فمتى صار أهلاً لوجوبها قبل خُروج الوقت بمقدار تكبيرة الإحرام لزمته على المذهب، وعلى القول الثاني لا تلزمه إلا إذا أدرك من وقتها قَدْرَ رَكعة.
قوله: "قَبْلَ خُرُوج وَقْتِها لَزِمَتْه" ، أي: لزمته تلك الصَّلاة التي أدرك من وقتها قَدْرَ التَّحريمة على المذهب، أو قَدْر ركعة على القول الرَّاجح .(1/167)
قوله: "وَمَا يُجْمَعُ إلَيْهَا قَبْلَها" ، أي: ولزمه ما يُجمع إليها قبلها، مثال ذلك: إذا أدرك من وقت صلاة العصر قَدْر ركعة أو قَدْرَ التَّحريمة لزمته صلاة العصر، ولزمته صلاة الظُّهر أيضاًً ، وهذا هو المشهور من المذهب . وقال بعض أهل العلم : إنه لا يلزمه إلا الصَّلاة التي أدرك وقتها فقط، فأما ما قبلها فلا يلزمه. وهو القول الرَّاجح .
قوله: "ويجب فوراً قضاء الفوائت" ، قوله: "قضاء الفوائت"، القضاء: ما فُعِلَ بعد وقته المحدَّد له. والفوائت جمع فائتة، وهي كلُّ عبادة مُؤقَّتة خرج وقتها قبل فعلها؛ سواء كانت نَفْلاً أم فرضاً كالصَّلوات الخمس.
وظاهر كلام المؤلِّف أنَّه لا فرق بين أن يدعها عمداً بلا عُذر، أو يدعها لعُذر، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم: أن قضاء الفوائت واجب، سواء تركها لعُذر أم لغير عُذر، أي: حتى المتعمِّد الذي تعمَّد إخراج الصَّلاة عن وقتها يقال له: إنك آثم وعليك القضاء، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وجمهور أهل العلم. والقول الثاني في المسألة: أنَّه إذا فاتت العبادة المؤقَّتة عن وقتها لعُذرٍ قُضيت، وإن فاتت لغير عُذرٍ فلا قضاء، ليس تخفيفاً عن المؤخِّر، ولكن تنكيلاً به وسُخطاً لفعله. والصَّواب: أن من ترك الصَّلاة عمداً - على القول بأنه لا يكفر - كما لو كان يصلِّي ويخلِّي، فإنه لا يقضيها، ولكن يجب عليه أن تكون هذه المخالفة دائماً نُصْبَ عينيه، وأن يُكثر من الطَّاعات والأعمال الصَّالحة لعلَّها تُكفِّر ما حصل منه من إضاعة الوقت.
وقوله: "قضاء الفوائت" يُستفاد منه أنَّه يقضي الصَّلاة الفائتة على صفتها؛ لأن القضاء يحكي الأداء، هذه القاعدة المعروفة، فعلى هذا إذا قضى صلاة ليل في النَّهار جهر فيها بالقراءة، وإذا قضى صلاة نهار في ليل أسرَّ فيها بالقراءة. ((كذلك)) تشرع في المقضية الجماعة إذا كانوا جميعا. ((والأدلة تدل)) على وجوب القضاء فوراَ.(1/168)
قوله: "مرتِّباً"، أي: يبدأ بها بالتَّرتيب، فإذا كان عليه خمس صلوات تبتدئ بالظُّهر، صَلَّى الظُّهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر.
قوله: "ويَسْقطُ التَّرتيبُ بنسْيَانِهِ، وبخَشْيَةِ خُرُوجِ وقت اختيار الحاضرة" ، ذكر ((المؤلف)) أنه يسقط بشيئين:
الأول: النسيان، فلو كان عليه خمس فرائض تبتدئ من الظُّهر، فنسي فبدأ بالفجر مع أنها هي الأخيرة؛ نقول: قضاؤه صحيح؛ لأنه نسي.
الثاني: خشية خروج وقت اختيار الحاضرة. وإذا خشيَ أن يخرجَ الوقتُ كلُّه من باب أولى، وليس عندنا وقت ضرورة على القول الرَّاجح إلا في صلاة العصر. فلو أن رَجُل ذكر أن عليه فائتة، وقد بَقِيَ على أن يكون ظِلُّ كلِّ شيء مثليه ما لا يتَّسع للفائتة والحاضرة، ماذا نقول؟ الجواب: نقول: قَدِّم الحاضرة.
مسألة: هل يسقط الترتيب لغير ذلك؟ الجواب: نقول: نعم، يسقط، بما لا يمكن قضاؤه على وجه الانفراد كصلاة الجُمعة، فإنه لو ذكر أن عليه فائتة بَعْد أن أُقيمت صلاة الجُمُعة، ولا يتمكَّن من قضائها وإدراك الجُمُعة، فإنه يبدأ بالجُمُعة؛ لأن فوات جماعة الجُمُعة كفوات الوقت؛ لأنها لو فاتت الجماعة عليك فاتتك الجُمُعة، ولا يمكن أن تصلِّيها جُمُعة بعد فوات الجماعة فيها.
مسألة: وهل يسقط التَّرتيبُ بالجهل؟ في هذا خلافٌ بين العلماء، وظاهر كلام المؤلِّفِ أنَّه لا يسقط، فلو جاءنا رَجُلٌ يسأل ويقول: عَلَيَّ فوائت الظُّهر والعصر والمغرب. فبدأت بصلاة المغرب، ثم بالعصر، ثم بالظُّهر جهلاً؟ فالجواب: نقول: كلام المؤلّف يدلُّ على أنَّه لا يسقط التَّرتيب. وقال بعض العلماء: بل يسقط التَّرتيب بالجهل. فإذا كان هذا جاهلاً فإنه لا يَضرُّه تركُ الترتيب، ونقول: صلاتُك صحيحة، وهذا القول هو الصَّواب.(1/169)
مسألة : هل يسقطُ التَّرتيب بخوف فَوْتِ الجماعة؟ الجواب: المذهب: لا يسقط التَّرتيب، فنقول: ابدأْ بالفائتة، ثم صَلِّ الحاضرةَ مع الجماعة إنْ أدركتها؛ وإلا فلا شيء عليك. وذهب بعضُ العلماء إلى أن التَّرتيب يسقطُ بخوف فَوْت الجَماعة، ولا سيَّما على القول بأن الجماعة شرط لصحَّة الصَّلاة، فيجب أن تُقدِّمَ الصَّلاة الحاضرة مع الجماعة ثم تُصَلِّي الفائتة. والقول بأنه يسقط الترتيب بخوف فَوْت الجماعة، مبنيٌّ على القول بأنه لا يصحُّ أن يُصلِّي خلف من يُصلِّي صلاة أخرى، أما على القول بالجواز فنقول: صَلِّ معهم في الجماعة، وانْوِ بها الصَّلاة الفائتة التي عليك. مثال ذلك: لو كان عليك الظُّهر؛ وجئت وهم يصلُّون العصر، فإنا نقول لك على القول الرَّاجح: ادخلْ معهم بنيَّة الظُّهر؛ واختلاف النيَّة لا يضرُّ، لكن على القول بأن اختلاف النيَّة يضرُّ، فإنهم يقولون: لا يسقط التَّرتيب بخوف فَوت الجماعة كما هو المذهب.
قوله: "وَمِنْها سَتْرُ العَوْرَةِ" ، أي: من شروط الصَّلاة ستر العورة والسَّترُ بمعنى التغطية. والعَوْرة: هي ما يسوءُ الإنسان إخراجه، والنَّظر إليه؛ لأنها من "العَوَر" وهو العيب، وكلُّ شيء يَسُوءُكَ النَّظرُ إليه، فإن النَّظر إليه يُعتبر من العيب.
ولم تأتِ كلمة "سَتْرُ العَوْرَة" في الكتاب أو السُّنَّة، ومن أجل أنَّه لم تأتِ ينبغي أن لا نعبِّر إلا بما جاء في القرآن والسُّنَّة في مثل هذا الباب، فلو عَبَّرَ بما جاء في القرآن أو السُّنَّة لكان أسلم، والذي جاء في القرآن: )يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )(لأعراف: من الآية31). فأمر الله تعالى بأخذ الزِّينة عند الصَّلاة، وأقلُّ ما يمكن لباس يُواري السَّوأة، وما زاد على ذلك فهو فَضْل. إذاً؛ فليس مَنَاط الحُكم سَتْر العَورة، إنما مَنَاط الحُكم اتِّخاذ الزِّينة، هذا هو الذي أمرَ الله به، ودلَّت عليه السُّنَّة.(1/170)
قوله: "فيجب بما لا يَصِفُ البَشَرة" ، يُشترط في الثَّوب السَّاتر أربعة شروط:
الأول: ألَّا يصفَ البشرة كما قال المؤلِّفُ، فإن وَصَفَها لم يجزئ.
الثاني: أن يكون طاهراً. فإذا كان نجساً فإنه لا يصحُّ أن يصلِّي به، ولو صَلَّى به لا تصح صلاتُه. وهذا الشَّرطان الأولان فواضحان وأدلتهما ظاهرة.
الثَّالثُ: أن يكون مباحاً، أي: ليس بمحرَّمٍ، والمحرَّمُ ثلاثة أقسام: محرَّم لعينه، محرَّم لوَصْفِهِ، محرَّمٌ لكسبه.أما المحرم لعينه: فكالحرير للرَّجُل، وأما المحرَّم لوصفه: فكالثوب الذي فيه إسبال، وأما المحرَّم لكسبه: فأن يكون مغصوباً أو مسروقاً. (وهذا) الشرط محلُّ خلافٍ بين العلماء، فمن أهل العلم من يقول: إن السَّتر يحصُل بالثَوب المحرَّم. وعلى هذا فإذا صَلَّى بثوبٍ مُحَرَّمٍ فصلاتُه صحيحة؛ لكنه آثمٌ؛ لأنه متلبِّسٌ بثوب محرَّم.
الرابع: ألا يضره، (كأن يكون ) الثوب فيه مسامير. ولو أنَّ إنساناً في جلده حَسَاسية لا يمكن أن تقبل أيَّ ثوب، ولو لَبِس ثوباً لكان مشغولاً جداً فماذا يصنع؟ فالجواب: أن يُقال: إن الحرير يُخَفِّفُ هذه الحَسَاسية، وأن الإنسان إذا كان في جلده حَساسية ولبس الحرير، فإن الحَساسية تبرد عليه ما دام عليه هذا الثَّوب. وحينئذ نقول: الْبِسْ ثوباً من حرير إذا تمكَّنت، وإذا لم تتمكَّنْ فصلِّ حَسَبَ الحال.(1/171)
قوله: "وعورة رَجُلٍ وأَمَةٍ، وأُمِّ وَلَدٍ، ومُعْتَقٍ بعضُها، من السُّرَّة إلى الرُّكبة وكُلُّ الحُرَّةِ عَوْرَة إلا وَجْهَهَا." ، بدأ المؤلِّف يفصِّل في العورة. فالعورة في الصَّلاة على المشهور من مذهب الحنابلة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مغلَّظة، ومخفَّفة، ومتوسِّطة. فالمخفَّفة: عورة الذَّكر من سبع إلى عشر سنوات، وهي الفَرْجَان فقط، أي: إذا سَتَرَ قُبُلَهُ ودُبُرَه فقد أجزأه السَّتْرُ، ولو كانت أفخاذهُ بادية. والمغلَّظة: عورة الحُرَّة البالغة؛ فكلُّها عَورة إلا وجهها؛ فإنه ليس عورة في الصَّلاة. والمتوسِّطَة: ما سوى ذلك، وحدُّها ما بين السُّرَّة والرُّكبة، فيدخلُ فيها الذَّكر من عشر سنوات فصاعداً، والحُرَّة دون البلوغ، والأَمَةُ ولو بالغة.
وعن الإمام أحمد رحمه الله رواية أنَّ عورة الرَّجل الفَرجان فقط. وظاهر النَّقل: أنَّه لا فرق بين الصَّلاة والنَّظر، وأن هذه الرِّواية حتى في الصَّلاة، وأنه يمكن للرَّجل أن يُصلِّي وهو لم يستر إلا السَّوأتين فقط ، ولكن شيخ الإسلام أَبَى ذلك وقال: أما في الصَّلاة فلا ينبغي أن يكون خلاف في أن الواجب ستر الفخذين. وأمَّا في النَّظر؛ فالنَّظر شيء آخر.وهذا الذي ذكره هو القول الرَّاجح المتعيِّن. وبناءً على ذلك فنقول: الفَخِذَان في الصَّلاة لا بُدَّ من سترهما؛ لأنَّ هذا أدنى ما يُقال إنه زينة، والله يقول: )يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ )(لأعراف: من الآية31).(1/172)
وأما في النَّظر؛ فالمقصود منه سَدُّ ذرائع الفتنة، فالنَّظر إلى ما كان محاذياً للسَّوأتين فله حكمهما، يعني أعلى الفخذ له حكم السوأتين، وما دون ذلك من الفخذ، فإن الذي يظهر من النُّصوص أنه ليس بعورة من حيث النَّظر؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد حَسَرَ عن فخذه، وهو - عليه الصَّلاة والسَّلام - أشدُّ النَّاس حياءً، لكن بالنسبة للشباب أرى أنه لا بُدَّ أن يستر الشاب فخذه كلَّه وما دون السُّرَّة، خوفاً من الفتنة. ( أما بالنسبة للحرة فالمذهب أنه: ) يجب ( في الصلاة ) ستر جميع بدنها إلا وجهها، وليس هناك دليلٌ واضحٌ على هذه المسألة، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن الحُرَّة عورة إلا ما يبدو منها في بيتها وهو الوجه والكَفَّان والقدمان. وبناءً على أنه ليس هناك دليلٌ تطمئنُّ إليه النفس في هذه المسألة، فأنا أقلِّد شيخ الإسلام في هذه المسألة، وأقول: إن هذا هو الظَّاهر إنْ لم نجزم به. ( وأما في النظر فالمرأة كلها عورة ).
وأما الأَمَةُ - ولو بالغة - وهي المملوكة، فعورتها ( في الصلاة ) من السُّرَّة إلى الرُّكبة، فلو صلَّت الأَمَةُ مكشوفة البدن ما عدا ما بين السُّرَّة والرُّكبة، فصلاتها صحيحة، لأنَّها سترت ما يجب عليها سَتْرُه في الصَّلاة. وأما في باب النَّظر: فقد ذكر الفقهاءُ رحمهم الله تعالى أن عورة الأَمَة أيضاً ما بين السُّرَّة والرُّكبة، ولكن شيخ الإسلام رحمه الله في باب النَّظر عارض هذه المسألة، كما عارضها ابن حزم في باب النَّظر، وفي باب الصَّلاة، وقال: إن الأمة كالحُرَّة( كلها عورة ). وقوله صحيح بلا شكٍّ، وهو الذي يجب المصير إليه.(1/173)
قوله: "من السُّرَّة إلى الرُّكبة"، المعروف أن ابتداء الغاية داخل لا انتهاؤها إذا ذُكِرَ ابتداؤها، مثل أن تقول: لك من الأرض من ههنا إلى ههنا. وعلى هذا تكون السُّرَّة في ظاهر كلام المؤلِّف داخلة في العَوْرَة؛ لأنها ابتداء الغاية فيجبُ سَتْرها، والرُّكبة غير داخلة. وفي المسألة أقوال: أحدها: أن الرُّكبة داخلة في العَوْرة فيجب سَتْرها. (و) القول الثاني: أن السُّرَّة والرُّكبة كلتيهما من العَوْرَة فيجب سترهما. (و) القول الثالث: وهو المشهور من المذهب أن السُّرَّة والرُّكبة لا تدخلان، فلا يجب سترهما، وعلى هذا؛ فالعبارة التي تخرجهما أن يقال: "ما بين السُّرَّة والرُّكبة".
وقوله: "وأُمِّ ولد" ، أُمُّ الولد: هي الأَمَة التي أتت من سيِّدها بولد، وهي رقيقة حتى يموت سيِّدُها، فإذا مات سَيِّدُها عُتقت بموته وحُكمها حكم الأَمَة؛ أي: أن عورتها من السُّرَّة إلى الرُّكبة.
وقوله: "ومُعْتَقٍ بعضُها" ، أي: بعضها حُرٌّ وبعضها رقيقٌ.
قوله: "وتُستَحبُّ صلاتُه في ثَوْبَيْن" ، أي: ينبغي للإنسان أن يُصلِّي في ثوبين؛ لأنهما أستر، ومن الثوبين: الإزار والرِّداء. والثَّوب الواحد مجزء سواء كان سابغا يلتحف به جميع بدنه أم كان إزاراَ. لكن الأفضل أن يصلي في ثوبين لأنه أبلغ في الستر وأحوط .
وظاهر كلام المؤلِّف: أن سَتْرَ الرَّأس ليس بسُنَّة ، ولكن إذا طبَّقنا هذه المسألة على قوله تعالى:)يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) تبيَّن لنا أن ستر الرأس أفضل في قوم يعتبر ستر الرأس عندهم من أخذ الزِّينة، أما إذا كُنَّا في قوم لا يُعتبر ذلك من أخذ الزينة، فإنَّا لا نقول: إنَّ ستره أفضل، ولا إنَّ كشفه أفضل، وقد ثبت عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام: "أنه كان يُصلِّي في العِمامة"، والعِمَامة ساترة للرَّأس.(1/174)
قوله: "ويكفي سَتْرُ عَوْرَته في النَّفل" ، أي: عورة الرَّجُل، وهي ما بين السُّرة والرُّكبة، إلا من سبع إلى عشر فهي الفَرْجان، القُبُل والدُّبُر، فيكفي ستر العورة، أما الزيادة فهو سُنَّة.
وقوله: "في النَّفْلِ"، النَّفْل: كلُّ ما عدا الفرض، كالرَّواتب التَّابعة للمكتوبات؛ ورَكعتي الضُّحى وغيرهما.
قوله: "ومع أحد عاتقيه في الفرض" ، يعني: أنه يجب ستر أحد العاتقين مع العورة في الفرض، وهو ما يأثم بتركه كالصَّلوات الخمس والجُمُعة. وظاهر كلامه: أنه يشمل الفرض بأصل الشَّرع والواجب بالنَّذر، ويشمل فرضَ العين، وفرضَ الكفاية؛ كصلاة الجنازة، وصلاة العيدين على أحد الأقوال.
والعاتق: هو موضع الرِّداء من الرَّقبة، فالرِّداء يكون ما بين الكَتِف والعُنقً، وما قاله المؤلِّفُ هو المشهور من المذهب. والقول الثاني: أنَّ سَتْرَ العاتقين سُنَّة؛ وليس بواجب؛ لا فرق بين الفرضِ والنَّفلِ، وهذا القول هو الراجح, وهو قول الجمهور.
قوله: "وصلاتها في دِرْعٍ وخِمَارٍ ومِلْحَفَة" ، يعني: تُسَنُّ صلاةُ المرأة في دِرْع وخِمار ومِلحفة. والدِرْعُ هو: القميص السابغ الذي يصل إلى القدمين. والخِمَار: ما يُلَفُّ على الرَّأس. والمِلحَفَة: ما يُلَفُّ على الجسم كلِّه كالعَباءة والجلباب وما أشبههما. فيُسَنُّ للمرأة أن تُصلِّي في هذه الأثواب الثلاثة ، فلو اقتصرت على الدِّرع والخِمَار أجزأ، لكن لا بُدَّ من ستر اليدين بالقُفَّازين، وستر القدمين إمَّا بالجوارب، وإمَّا بأن يُجعل الدِّرعُ سابغاً بناءً على القول بأنه لا بُدَّ من ستر الكفَّين والقدمين. أمَّا على القول الرَّاجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب "الإنصاف" فإنه لا يجب ستر الكفَّين والقدمين، وبناءً على ذلك: يكفي إذا كان الدِّرْعُ إلى القدمين وأكمامُه إلى الرُّسغ.(1/175)
قوله: "ويجزئ سَتْر عورتها" ، أي: يجزئ المرأة ستر عورتها، ولو بثوبٍ واحدٍ، فلو تَلَفْلَفَت المرأةُ بثوب يستر رأسها وكفَّيها وقدميها وبقية بدنها، ولا يخرج منه إلا الوجه أجزأ، ولو لفّت نفسها بثوب يخرج منه الكفَّان والقدمان مع الوجه أجزأ على القول الرَّاجحِ.
قوله: "ومن انْكَشَفَ بعضُ عَوْرَتِهِ وفَحُشَ" ، "انكشف" أي: زال عنه السَّترُ و"بعض العورة" يشمل السَّوأة وغيرها مما قلنا إنه عورة.
وقوله: "فَحُشَ" ، أي: غَلُظَ وعَظُمَ، ولم يُقيِّده المؤلِّفُ، فيُرجعُ إلى العُرف ، فإذا قال النَّاس: هذا كبير، كان فاحشاً. وإذا قالوا: هذا يسير، يكون غير فاحش ولا يؤثِّر. ثم إن الفُحْشَ يختلف باختلاف المنكشف، فلو انكشف شيء من أسفل الفخذ مما يلي الرُّكبة على قَدْر الظُّفر، وانكشف على السَّوأتين نفسِهِما على قَدْر الظُّفر لعُدَّ الثاني فاحشاً، والأول غير فاحش. فإذاً؛ اختُلف باعتبار المكان الذي انكشف، وبناءً على ذلك يوجد بعض الناس يكون عليهم "بنطلون"، ثم إذا سجد انكشف بعضُ الظَّهر من أسفل الظَّهر بعيداً عن الدُّبُر، فإذا كان انكشافاً يسيراً في العُرف، كأن يكون كخطِّ الإصبع مثلاً، فهذا يسير لا يضرُّ، أما إذا كان السِّروال قصيراً ثم لمَّا سجد انكشف منه كثيرٌ فهذا فاحش.(1/176)
وظاهر قوله: "ومن انكشف"، أن هذا انكشاف دُونَ عمد، وأنَّه لو تعمَّد لم تصحَّ الصَّلاةُ، سواء كان الانكشافُ يسيراً، أم فاحشاً؛ لأن هناك فرقاً بين الانكشافِ وبين الكشف. وعلى هذا فلو تعمَّد أن يَكشِفَ شيئاً من عورته ولو يسيراً، ولو في زمن يسير، فإن صلاته تبطل، فلو رفع سروالَه ليَحُكَّ ركبته، ورفع حتى ظهر الفَخِذُ - وقلنا إن الفخذ عورة - بطلت صلاته؛ لأنه تعمَّد الكشف. فإن فَحُشَ ولكنه في زمن يسير، بحيث انكشف ثم ستره؛ فظاهر كلام المؤلِّف أن صلاته لا تصحُّ، وهذا ليس بصحيح، بل نقول: إذا انكشف كثير وستره في زمن يسير، فإن صلاته لا تبطل، ويُتَصَوَّرُ ذلك فيما لو هبَّت ريحٌ، وهو راكع وانكشف الثَّوب، ولكن في الحال أعاده، فظاهر كلام المؤلِّف أن الصَّلاة تبطل، والصَّحيح: أنها لا تبطل . أما إذا انكشف عن غير عَمْد انكشافاً فاحشاً، وطالَ الزَّمن بأن لم يعلم إلا في آخر صَلاتِهِ، أو بعد سلامه، فهذا لا تصحُّ صلاته؛ لأنَّه فاحش والزَّمن طويل. وأما إذا انشق الثَّوب في أثناء الصَّلاة، وهذا يقع كثيراً، ولا سيَّما في الثِّياب الضيِّقة، ثم بسرعة أمسكه بيده فالصَّلاة صحيحة؛ لأنه وإن كان فاحشاً فالزَّمن قصير، ولم يتعمَّد.
قوله: "أو صَلَّى في ثوب محرَّم عليه" ، أي: لم تصحَّ صلاتُهُ؛ لأنه سبقَ أن من شرط السَّاتر أن يكون مباحاً. وذهب كثيرٌ من أهل العلم: إلى أن الصَّلاة لا تبطل إذا ستر عورته بثوب محرَّم. وهذا القول هو الرَّاجح، إلا إذا ثبت الحديث في المُسبل ثوبه بإعادة الصَّلاة، فإن ثبت الحديث تعيَّن القول بموجبه، لكن كثيراً من أهل العلم ضَعَّفه، وقالوا: لا تقوم به حُجَّة، ولا يمكن أن نلزم إنساناً بإعادة صلاته بناءً على حديث ضعيف.(1/177)
مسألة : إذا لم يجد إلا ثوباً محرَّماً فهل يصلِّي فيه؟ الجواب: ننظر، فإن كان محرَّماً لحق العباد كالمغصوب، فإنه لا يصلِّي فيه، فإذا لم يكن عليه إلا ثوب مغصوب نقول: اخلعِ الثَّوبَ وصَلِّ عُرياناً، ولا يجوز أن تُصلِّي بالثَوب؛ لأنه محرَّم لحقِّ العباد؛ إلا إذا كنت مضطراً لدفع البرد فهنا صَلِّ به؛ لأن لُبْسَه حينئذ مباح. وإن كان محرَّماً لحقِّ الله فلا حرج عليه أن يُصلِّي فيه، كالثَّوب الحرير للرَّجُل إذا لم يجد غيره، فإنه يُصلِّي فيه؛ لأن التَّحريم لحقِّ الله يزول عند الضَّرورة، وحينئذ يُصلِّي ولا إعادة عليه، وكذلك لو كان ثوبه فيه صُوَر يُصلِّي فيه إذا لم يجد غيره. وقال بعض أهل العلم: إذا كان محرَّماً لحقِّ العباد لا بأس أن يُصلِّي فيه؛ لأن هذا استعمال يسير جرت العادةُ والعُرف بالتَّسامح فيه. ونحن يَغْلِبُ على ظنِّنا أن صاحب هذا الثوب إذا علم أنك استعملته لعدم وجود غيره فسوف يسمح، هذا هو الغالب إن لم يكن المعلوم. وهذا القول ليس بعيداً من الصَّواب، ولا سيما إذا كنت تعرف أن صاحب هذا الثوب رَجُلٌ كريم جيد، فهنا قد نقول: يتعيَّن عليك أن تُصلِّي فيه؛ لأن مثل هذا يُعلم رضاه.
قوله: "أو نجسٍ أعاد" ، أي: أو صَلَّى في ثوبٍ نجس، والمراد بالثَّوبِ النَّجس ما كان نجساً بعينه كجلد السِّباع أو متنجِّساً بنجاسة لا يُعفى عنها، فإن كانت نجاسة يُعفى عنها فلا حرج عليه أن يُصلِّي فيه، مثل: اليسير من الدم المسفوح. وقال بعضُ أهل العلم: إنه إذا كان جاهلاً فلا إعادة عليه،(( وهذا هو الصحيح )).
وأما النسيان: بأن نسيَ أن يكون عليه نجاسة، أو نسيَ أن يغسلها فَصَلَّى بالثوب النَّجس؛ فالصَّحيح أنه لا إعادة عليه.(( والمذهب أنه يعيد )).(1/178)
وأما العدم بمعنى أن لا يكون عنده ثوب طاهر، ولا يتمكَّن من تطهير ثوبه ، ففي هذه المسألة أقوال أشهرها ثلاثة: القول الأول: وجوب الصَّلاة مع الإعادة، وهو المذهب. والقول الثاني: أنه يُصلِّي عُرياناً ولا يعيد، وهو قول الشَّافعي ورواية عن أحمد. والقول الثالث: أنه يُصلِّي به، ولا إعادة، اختاره الشَّيخان: الموفَّق والمجد، وهو مذهب مالك. وهو الراجح .
قوله: "لا مَنْ حُبِسَ في مَحَلٍّ نَجِسٍ" ، أي: لا يُعيد من حُبِسَ في مَحَلٍّ نجسٍ، ولم يتمكَّن من الخروج إلى مَحَلٍّ طاهرٍ. ولكن كيف يُصلِّي من حُبِسَ في مَحَلٍّ نَجِسٍ؟ الجواب: إن كانت النَّجاسة يابسة صَلَّى كالعادة، وإن كانت رطبة صَلَّى قائماً ويركع ويرفع من الرُّكوع، ويجلس على قدميه عند السُّجود، ويومئ بالسُّجود، ولا يضع على الأرض شيئاً من أعضائه؛ لقوله تعالى: )فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: من الآية16)] ، لأنَّه إذا كانت رَطْبَة يجب أن يتوقَّاها بقَدْرِ الإمكان، وأقلُّ ما يمكن أن يباشر النَّجاسة أن يجلس على القدمين، ولا يقعد مفترشاً ولا متورِّكاً، لأنه لو قَعَد لتلوَّث ساقُه وثوبُه وركبتُه، والواجب أن يُقلِّلَ من مباشرة النَّجاسة.
قوله: "ومَنْ وَجَدَ كِفَاية عورته سَتَرَهَا" ، أي: من وَجَدَ كفاية العورة وجب عليه سَتْرها .
قوله: "وإلا فالفَرْجَين" ، (( أي: )) وإلا يجد فالفَرْجَين، أي: فليستر الفَرْجين، فإذا قُدِّرَ أن شخصاً تَعرَّض له قُطَّاع طريق وسلبوا رَحْله وثيابه، ولم يُبقوا معه إلا منديلاً فقط، والمنديل لا يمكن أن يستر به عورته، نقول: استرْ الفَرْجَين، يعني: القُبُل والدُّبُر.(1/179)
قوله: "فإن لم يكفِهِما فالدُّبُر" ، أي: إن لم يكفِ الموجود الفَرْجَين سَتَرَ الدُّبُر . وظاهر كلام المؤلِّف أن ستر الدُّبُر هنا مقدَّم وجوباً، لكن قال في "الإنصاف": "الخلافُ إنما هو في الأولويَّة". وعن أحمد رواية ثانية: أنَّه يستر القُبُل، وهو أولى؛ لأنه أفحش من الدُّبُر.
قوله: "وإن أُعِيْرَ سُتْرَةً لَزِمَه قَبُولُها" ، لكن لو أن هذه الإعارة يريد المُعير منها أن تكون ذريعة لنيل مأرب له باطل، فهنا لا يلزمه القَبول. وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنه لو أُعطيها هِبَة لم يلزمه قَبولها؛ لقوله: "وإن أُعِيرَ". وظاهرُ كلامه أيضاً: أنَّه لا يلزمه الاستعارة، أما الهِبَة فلا يلزمه قَبولها. وعَلى كُلٍّ؛ فالقول الرَّاجح: في هذه المسألة: أنه يلزمه تحصيل السُّترة بكل وسيلة ليس عليه فيها ضرر ولا مِنَّة، سواء ببيع أم باستعارة، أم بقَبول هِبَة، أم ما أشبه ذلك.
قوله: "ويُصلِّي العاري قاعداً بالإيماء" ، أي: إذا كان إنسانٌ عارٍ ليس عنده ثوب، فإنه يُصلِّي قاعداً، ولو كان قادراً على القيام؛ لأنه أستر لعورته.
قوله: "استحباباً فيهما"، أي: أننا نستحبُّ له ذلك وهو القُعود والإيماء استحباباً لا على وجه الوجوب، وعلى هذا فلو صَلَّى قائماً وركع وسَجَد صَحَّت صلاتُه.
وظاهر كلام المؤلِّف: أن هذا الحكم ثابتٌ، سواء كان حوله أحدٌ أم لم يكن حوله أحد؛ لإطلاق كلامه، وما ذكره المؤلِّف هو المذهب. والقول الثاني: لا يجوز أن يُصلِّي قاعداً، بل يجب أن يُصلِّي قائماً مطلقاً ويركع ويسجد. وقال بعض أهل العلم: في هذا تفصيل؛ فإن كان حولَه أحدٌ صَلَّى قاعداً، وإن لم يكن حوله أحد، أو كان في ظُلْمَة، أو حوله شخص لا يُبْصِرُ، أو شخص لا يستحي من انكشاف عورته عنده كالزوجة فإنه يُصلِّي قائماً ويركع ويسجد؛ لأنه لا عُذْرَ له. وهذا القول أقرب الأقوال إلى الحقِّ .(1/180)
قوله: "ويكون إمَامُهُم وَسَطَهُم" ، "إمَامُهُم" أي: إمام العُراة "وَسَطَهم"، أي: بينهم، أي: لا يتقدَّم؛ لأنه أستر له، وعلى هذا؛ فإذا كان عشرة كلُّهم عُراة، تعرَّض لهم قُطَّاع الطَّريق، وأخذوا ثيابَهم، وحانَ وقتُ الصَّلاة؛ صَلُّوا جماعة صفًّا واحداً، والإمام بينهم، ولو طال الصفُّ، ويصلُّون على المذهب قُعوداً استحباباً؛ ويُومِئُون بالرُّكوع والسُّجود استحباباً أيضاً. وقال بعض أهل العلم: بل يتقدَّم الإمام؛ لأن السُّنَّة أن يكون الإمام أمامَهم، وتأخُّره لا يفيد شيئاً يُذكر، والإنسان إذا شاركه غيرُه في عيبه خَفَّ عليه، فهو إذا تقدَّم لا يرى في نفسه غَضَاضة، أو حياء، أو خجلاً؛ لأن جميع مَنْ معه على هذ الوجه، ولا ينبغي أن نُفَوِّت موقف الإمام وانفراده في المكان المشروع؛ لأن الإمام مَتْبُوع، فينبغي أن يتميَّز عن أتباعه الذين هم المأمومون، وهذا القول أقربُ إلى الصَّواب.
قوله: "ويُصلِّي كلُّ نوعٍ وحده" ، أي: إذا اجتمع رجالٌ ونساءٌ عُراة، صَلَّى الرِّجَال وحدهم، والنِّساء وحدهنَّ، فلا يُصلُّون جميعاً.(1/181)
قوله: "فإن شقَّ" ، أي: شقَّ صلاةُ كلِّ نوع وحده بحيث لا يوجد مكان آخر "صَلَّى الرِّجال واستدبرهم النِّساء ثم عكسوا" ، ومعنى تستدبرهم النساء تلقِّيهم ظُهُورُهن، فتكون ظُهُور النِّساء إلى القِبْلة، لئلا يَرَيْن عورات الرِّجَال، ثم بعد ذلك تُصلِّي النِّسَاء. ويستدبرهنَّ الرِّجال، فتكون ظُهُور الرِّجال نحو القِبْلة لئلا يروا عورات النِّساء. فإن قيل: إذا كان المكان ضيِّقاً ولم يتَّسعْ لكونهم صَفاً واحداً فهل يصفُّون صَفَّين أو ينتظر بعضهم حتى يُصلِّي من يتَّسع له الصفُّ؟. فالجواب: فيه قولان لأهل العلم، فبعضهم قال: ينتظر من لا يتَّسع له الصف حتى يُصلِّي من يتَّسع له ثم يُصلِّي، ومنهم من قال: بل يُصلُّون جماعة واحدة، فإذا كان الإنسان يخشى على نفسه الانشغال برؤية هؤلاء فإنه يُغمض عينيه، وإن كان لا يَخشى، ولا يهتمُّ إلا بصلاتِه، وسينظر إلى موضع سجوده، وموضِع إشارته في الجلوس فلا حاجة أن يُغمض عينيه.
قوله: "فإن وجد سُتْرة قريبة في أثناء الصَّلاة سَتَر وَبَنَى وإلا ابتدأ" ، إنْ وجد الذي يُصلِّي عُرياناً في أثناء الصَّلاة سُتْرة، فإن كانت قريبة، أي: لم يطل الفصل؛ أخذها وستر وبَنَى على صلاته، وإن كانت بعيدة فإنَّه يقطع صلاته ويبتدئ الصَّلاة من جديد.(1/182)
قوله: "ويُكره في الصَّلاة السَّدْلُ" ، والسَّدلُ: أن يَطّرَح الرِّداءَ على كتفيه، ولا يردَّ طرفَه على الآخر. وقال بعضهم: السَّدْلُ: أن يضع الرِّداء على رأسه ولا يجعل أطرافه على يمينه وشماله. وقال بعضهم: السَّدْلُ: أن يُرسل ثوبه حتى يكون تحت الكعبين، وعلى هذا فيكون بمعنى الإسبال. والمعروف عند فقهائنا هو: أن يطرح الثَّوب على الكتفين، ولا يردَّ طرفه على كتفه الآخر، ولكن إذا كان هذا الثَّوب مما يلبس عادة هكذا، فلا بأس به، ولهذا قال شيخ الإسلام: إنَّ طَرْح القَبَاءَ على الكتفين من غير إدخال الكمَّين لا يدخل في السَّدْلِ. والقَبَاء يُشبه ما يُسمَّى عندنا "الكوت" أو "الجُبَّةَ".
قوله: "واشتمال الصَّمَّاء"، أي: أن يلتحف بالثوب ولا يجعل ليديه مخرجاً . وقال بعض العلماء: إن اشتمال الصمَّاء أن يضطبع بثوب ليس عليه غيره وهو المذهب، أي: أن يكون عليه ثوب واسع ثم يضطبع فيه. أما إذا كان عليه ثوب آخر فلا كراهة.
والاضطباع: أن يُخرج كتفه الأيمن، ويجعل طرفي الرِّداء على الكتف الأيسر. وقيل هو: أن يجعل الرِّداء على رأسه ثم يسدل طرفيه إلى رجليه. فهذه ثلاث صفات لاشتمال الصمَّاء، وكلُّ هذه الصِّفات إذا تأمَّلتها وجدت أنها تُخَالف قول الله تعالى: )يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد) (لأعراف: من الآية31).
قوله: "وتغطيةُ وجهِهِ" ، أي: يُكره أن يغطِّيَ الإنسانُ وجهه وهو يُصلِّي ، لكن لو أنَّه احتاج إليه لسبب من الأسباب، ومنه العُطاس مثلاً - لأن الأفضل عند العطاس تغطية الوجه - فإن المكروه تُبيحه الحاجة. ويُستثنى من ذلك: المرأة إذا كان حولها رجال ليسوا من محارمها، فإن تَغْطِيَة وجهها حينئذ واجب، ولا يجوز لها كشفه.(1/183)
قوله: "واللِّثَامُ على فَمِه وأَنْفِه" ، أي: يُكره اللِّثام على فَمِهِ وأنفه بأن يضع "الغُترة" أو "العِمَامة"، أو "الشِّماغ" على فمه، وكذلك على أنفه. ويُستثنى منه ما إذا تثاءب وغَطَّى فمه ليكظم التثاؤب فهذا لا بأس به، أما بدون سبب فإنه يُكره، فإن كان حوله رائحة كريهة تؤذيه في الصَّلاة، واحتاج إلى اللِّثام فهذا جائز؛ لأنه للحاجة، وكذلك لو كان به زُكام، وصار معه حَساسية إذا لم يتلثَّم، فهذه أيضاً حاجة تُبيح أن يتلثَّم.
قوله: "وكَفُّ كُمِّه وَلَفُّه" ، أي: يُكره أن يكفَّ الإنسانُ كُمَّه في الصَّلاة، أو يَلُفَّه. وكفُّ الكُمِّ: أن يجذبه حتى يرتفع. وَلَفُّهُ: أن يطويه حتى يرتفع. قال فقهاؤنا: ولا فرق بين أن يفعل ذلك عند الصَّلاة من أجل الصَّلاة، أو أن يفعل ذلك لعمل قبل الصَّلاة. كما لو كان يشتغل، وقد كفَّ كُمَّه أو لَفَّه ثم جاء يُصلِّي، نقول له: أطلق الكُمَّ وفُكَّ اللفَّة. ويُكره ((أيظا)) كفُّ الثَّوبِ بأن يرفع الثوب من أسفل، ولفُّ الثوب أيضاً بأن يطويه حتى يحزمه على بطنه.
مسألة : فإن قيل: هل من كَفِّ الثَّوب ما يفعله بعض الناس بأن يكفَّ "الغُتْرَة" بأن يردَّ طرف "الغُتْرَة" على كتفه حول عنقه؟ فالجواب: هذا ليس من كفِّ الثَّوب؛ لأن هذا نوع من اللباس، أي: أن "الغُتْرة" تُلبس على هذه الكيفيَّة، فَتُكفُّ مثلاً على الرَّأس، وتُجعل وراءه، ولذلك جاز للإنسان أن يُصلِّي في العِمَامة، والعِمَامة مكوَّرة على الرَّأس غير مرسلة، فإذا كان من عادة الناس أن يستعملوا "الغُتْرة" و"الشِّمَاغ" على وجوه متنوِّعة فلا بأس. لكن لو كانت "الغُتْرة" مرسلة؛ ثم كفَّها عند السُّجود؛ فالظَّاهر أن ذلك داخل في كَفِّ الثَّوب.(1/184)
قوله: "وشَدُّ وسَطِهِ كزُنَّار" ، أي: يُكره أيضاً للإنسان أن يَشُدَّ وسَطَهُ لكن لا مطلقاً، بل بما يُشبه الزُّنَّار. وشَدُّ الوسط، أي: أن يربط على بطنه حَبلاً، أو سَيراً، أو ما أشبه ذلك، وهذا يُفعل كثيراً، فهو يُكره إن كان على وجه يُشبه الزُّنَّار، والزُّنَّار سَيْر معروف عند النَّصَارى يشدُّون به أوساطهم، وإنما كُرِه ما يشبه شَدَّ الزُّنَّار؛ لأنه تشبُّه بغير المسلمين , واقتصار المؤلِّف على الكراهة فيما يُشبه شَدَّ الزنَّار فيه نظر، والصَّواب: أنه حرام.
فإن قال قائل: أنا لم أقصد التشبُّهَ؟ قلنا: إن التشبُّهَ لا يفتقر إلى نيَّة؛ لأن التشبُّهَ: المشابهة في الشَّكلِ والصُّورة، فإذا حصلت، فهو تشبُّه سواء نويت أم لم تنوِ، لكن إن نويت صار أشَدَّ وأعظم؛ لأنك إذا نويت، فإنما فعلت ذلك محبَّةً وتكريماً وتعظيماً لما هم عليه، فنحن ننهى أيَّ إنسان وجدناه يتشبَّهُ بهم في الظَّاهر عن التشبه بهم، سواء قصد ذلك أم لم يقصده، ولأن النيَّة أمر باطن لا يمكن الاطلاع عليه، والتشبُّه أمرٌ ظاهر فيُنهى عنه لصورته الظَّاهرة.
قوله: "وتَحْرمُ الخُيَلاءُ في ثوبٍ وغيرهِ" ، الخُيَلاء: مأخوذة في الأصل من الخَيل، لأن الخَيل تجلب التَّباهي والترفُّع والتَّعالي. فالخُيَلاء: أن يجدَ الإنسانُ في نفسه شيئاً من التَّعاظُم على الغَير، وهذا حرام في الثَّوب وغيره، فالثَّوب كالقميص والسَّراويل والإزار، وغير الثوب كالخَاتم، فبعض النَّاس يلبس الخَاتم، ويضع عليه فَصًّا كبيراً جداً، وأحياناً تشعر بأنه يتخايل به، كأن يحرِّك أصبعه بالخَاتم خُيلاء، ولهذا قال المؤلِّف: "في ثَوبٍ وغَيْرِه" فأطلقَ.(1/185)
فإن قال قائل: إن النبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: "مَنْ جَرَّ ثَوبه خُيَلاء لم ينظر الله إليه"، فخصَّ ذلك بالثَّوب؟ فالجواب: أنَّ الحكم يدور مع علَّته، وذِكْرُ الثوب مقروناً بالوصف الذي هو عِلَّة الحكم يكون كالمثال؛ فكان المحرّم في الأصل هو الخُيلاء.
والخُيَلاء في الثَّوب منها: ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يَجُرَّه خُيَلاء، أي: يجعله يضرب على الأرض خُيَلاء. عقوبة هذا - والعياذ بالله -: "أن الله لا يُكلِّمه يوم القيامة، ولا ينظر إليه، ولا يزكِّيه، وله عذابٌ أليم"، فعُوقِبَ بأمرين: عذابٌ مؤلم، وإعراضٌ من الله ، ولهذا لما قال الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام: "ثلاثةٌ لا يُكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عذاب أليم" كرَّرها ثلاثاً، قال أبو ذَرٍّ: مَنْ هم يا رسول الله؟ خَابوا وخَسِروا، قال: "المُسْبِلُ، والمَنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلِفِ الكَاذِب". فإذا جَرَّ ثوبه خُيَلاء، فهذه عقوبته والعياذ بالله، وإن لم يجرَّه خُيَلاء، فلا يستحقُّ هذه العقوبة، ولكن عقوبة ثانية وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أسفلَ من الكعبين مِنَ الإزارِ ففي النَّار" فيُقال: إنك تُعذَّبُ في النَّار بقَدْرِ ما نزل من ثوبك عن كعبيك. وأما ما بين الكعب إلى نصف السَّاق فهذا محلُّ جواز، فللرَّجل أن يجعله إلى الكعب، أو أرفع إلى نصف السَّاق، أو أرفع قليلاً أيضاً.
قوله: "والتَّصويرُ" ، التَّصوير محرَّم، والتصوير أنواع ثلاثة:
النَّوع الأول: تصوير ما يصنعه الآدمي، فهذا جائز؛ مثل: أن يُصوِّرَ إنسانٌ سيَّارةً.
النَّوع الثاني: أن يُصوِّر ما لا روح فيه مما لا يخلقه إلا الله؛ وفيه حياة، إلا أنها ليست نَفْساً، كتصوير الأشجار والزُّروع، وما أشبه ذلك. فجمهور أهل العلم: أن ذلك جائز لا بأس به. وقال مجاهد: إنَّه حرام.(1/186)
النَّوع الثالث: أن يُصوِّر ما فيه نَفْسٌ من الحيوان مثل: الإنسان والبعير والبقر والشَّاة والأرانب وغيرها، فهذه اختلف السَّلف فيها, فمنهم من قال: إنها حَرام إن كانت الصُّورة مُجسَّمة؛ بأن يصنع تمثالاً على صورة إنسان أو حيوان، وجائزة إن كانت بالتلوين، أي: غير مجسَّمة. ومنهم من قال وهم الجمهور وهو الصَّحيح : إنها محرَّمة سواء كانت مجسَّمة، أم ملوَّنة، فالذي يخطُّ بيده ويصنع صُورة كالذي يعملها ويصنعها بيده ولا فرق، بل هي من كبائر الذُّنوب.
وأما الصُّور بالطُّرقِ الحديثةِ فهي قسمان:
القسم الأول: ما لا يكون له منظرٌ ولا مشهدٌ ولا مظهر، كما ذُكِرَ لي عن التصوير بأشرطة "الفيديو"، فهذا لا حُكم له إطلاقاً، ولا يدخلُ في التَّحريم مطلقاً، ولهذا أجازه أهل العلم الذين يمنعون التَّصوير بالآلة "الفتوغرافيَّة" على الورق، وقالوا: إن هذا لا بأس به، حتى حصل بحثٌ: هل يجوز أن تُصوَّر المحاضرات التي تُلقى في المساجد؟ فكان الرَّأي ترك ذلك؛ لأنه ربما يُشوِّش على المصلِّين، وربما يكون المنظرُ غيرَ لائقٍ، وما أشبه ذلك.(1/187)
القسم الثاني: التَّصوير الثَّابت على الورق. وهذا إذا كان بآلة "فوتوغرافية" فورية، فلا يدخل في التَّصوير، ولا يستطيع الإنسان أن يقول: إن فاعله ملعون .ٌولهذا يُفَرَّقُ بين رجلٍ أخذ الكتاب الذي خطته يدي، وألقاه في الآلة "الفوتوغرافية" وحرَّكَ الآلة فانسحبت الصُّورةُ، فيُقال: إنَّ هذا الذي خرج بهذا الورق رَسْمُ الأول، ويقال: هذا خَطُّه، ويشهد النَّاس عليه، وبين أن آتي بخطك أقلِّدُه بيدي، أرسم مثل حروفه وكلماته، فأنا الآن حاولت أن أقلِّدَك، وأن أكتبَ ما كتبْتَ، وأصوِّر كما صوَّرت. أما المسألة الأولى فليس منِّي فعلٌ إطلاقاً، ولهذا يمكن أن أصوِّر في الليل، ويمكن أن يصوِّر الإنسانُ وقد أغمض عينيه، ويمكن أن يُصوِّر الرَّجلُ الأعمى، فكيف نقول: إن هذ الرَّجل مصوِّر؟!. فالذي أرى: أن هذا لا يدخل تحت اشتقاق المادة "صَوَّر" بتشديد الواو، فلا يستحقُّ اللعنة. ولكن يبقى النَّظر: إذا أراد الإنسان أن يصوِّر هذا التصوير المباح، فإنه تجري فيه الأحكام الخمسة بحسب القصد، فإذا قصد به شيئاً محرَّماً فهو حرامٍ، وإن قصد به شيئاً واجباً كان واجباً، فقد يجب التَّصوير أحياناً، فإذا رأينا مثلاً إنساناً متلبِّساً بجريمة من الجرائم التي هي من حَقِّ العباد؛ كمحاولة أن يقتلَ، وما أشبه ذلك، ولم نتوصَّلْ إلى إثباتها إلا بالتَّصوير، كان التَّصويرُ حينئذ واجباً، خصوصاً في المسائل التي تضبط القضيَّة تماماً؛ لأنَّ الوسائل لها أحكام المقاصد، وإذا صَوَّرَ إنسانٌ صورةً يحرم تمتُّعُه بالنَّظر إليها من أجل التَّمتُّع بالنَّظر إليها فهذا حرام بلا شكٍّ، وكالصُّورة للذِّكرى؛ لأننا لا نقول: إنها غير صورة؛ بل هي صورة لا شَكَّ، فإذا اقتناها فقد جاء الوعيد فيمن كان عنده صورة أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة.(1/188)
قوله: "واسْتِعْمَالُهُ" ، هذه الجُملة فيها شيء من التجوُّز، لأننا لو أخذناها بظاهرها لكان المعنى: واستعمال التصوير، لأن الضمير يعود على التَّصوير، وليس هذا بمراده قطعاً. وقال في "الرَّوض": واستعمال المصوَّر. فالتَّصوير المراد به المصوَّر، فالضَّمير عاد على مصدر يُراد به اسم المفعول، يعني: أن استعمال المصوَّر حرام.
وظاهر إطلاق المؤلِّف العموم، أنه يحرم على أي وجهٍ كان، ولكن ينبغي أن نعلم التَّفصيل في هذا: فاستعمالُ المُصَوَّرِ ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يستعمله على سبيل التَّعظيم، فهذا حرام سواء كان مجسَّماً أم ملوَّناً، وسواء كان التَّعظيم تعظيم سلطان، أم تعظيم عبادة، أم تعظيم عِلْمٍ، أم تعظيم قَرابة، أم تعظيم صُحبة، أيًّا كان نوعُ التعظيم. وفي الحقيقة؛ إنه ليس فيه تعظيم، فمثلاً: إذا أراد أن يصوِّر أباه، فإن كان أبوه حيًّا فالتَّعظيم بإعطائه ما يلزمه من البِرِّ القولي والفعلي والمالي والجاهي وغير ذلك، وإن كان ميِّتاً فلا ينتفع بهذا التَّعظيم، بل فيها كسب الإثم وتجديد الأحزان، ولذلك يجب على مَنْ كان عنده صورة من هذا النوع أن يمزِّقها، أو يحرقها، ولا يجوز له إبقاؤها.
القسم الثاني: أن يتَّخذه على سبيل الإهانة مثل: أن يجعله فراشاً، أو مِخَدَّة، أو وسادة، أو ما أشبه ذلك، فهذا فيه خلاف بين أهل العلم: فأكثر أهل العلم على الجواز، وأنه لا بأس به. وذهب بعضُ أهل العلم إلى التَّحريم. ولا شكَّ أن تجنُّبَ هذا أورع وأحوط، فلا تستعمل الصُّور، ولو على سبيل الامتهان كالفراش والمخدَّة، والسَّلامة أسلم، وشيء كَرِه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدخل البيت من أجله، فلا ينبغي لك أن ينشرح صدرُك به، فمن يستطيع أن ينشرح صدرُه في مكان كَرِهَ النبي صلى الله عليه وسلم دخوله. لهذا فالقول بالمنع إن لم يكن هو الصَّواب فإنه هو الاحتياط.(1/189)
القسم الثالث: ألا يكون في استعمالها تعظيم ولا امتهان، فذهب جمهور أهل العلم إلى تحريم استعمال الصُّور على هذا الوجه، ونُقل عن بعض السَّلف الإباحة إذا كان ملوَّناً، حتى إن بعض السَّلف كان عندهم في بيوتهم السَّتائر يكون فيها صُور الحيوان، ولا يُنكرون ذلك، ولكن لا شَكَّ أن هؤلاء الذين فعلوه من السَّلف كالقاسم بن محمد رحمه الله لا شكَّ أنه يُعتَذر عنهم بأنهم تأوَّلوا، ولا يحتجُّ بفعلهم؛ لأن الحُجَّة قولُ الله ورسوله، أو لم يبلغهم الخبر، أو ما أشبه ذلك من الأعذار.
مسألتان: المسألة الأولى: ما عمَّت به البلوى الآن من وجود هذه الصُّور في كلِّ شيء إلا ما ندر، فتوجد في أواني الأكل والشُّرب، وفي "الكراتين" الحافظة للأطعمة، وفي الكُتُب، وفي الصُّحف، فتوجد في كلِّ شيءٍ إلا ما شاء الله. فنقول: إن اقتناها الإنسان لما فيها من الصُّور فلا شكَّ أنه محرَّم، أي: لو وَجَدَ صورةً محرّمة في هذه "المجلة" أو في هذه "الجريدة" فأعجبته؛ فاقتناها لهذا الغرض فهذا حرام لا شكَّ. أو كان يشتري "المجلات" التي تُنشر فيها الصُّور للصُّور فهذا حرام، أما إذا كانت للعلم والفائدة والاطلاع على الأخبار؛ فهذه أرجو ألَّا يكون بها بأس، نظراً للحرج والمشقَّة. لكن لو فُرض أنَّ الإنسان عنده أهل؛ ويخشى أن يكون في هذه الصُّور من هو وسيم وجميل تُفْتَتَنُ به النِّساء، فحينئذٍ لا يجوز أن تكون هذه "المجلة" أو "الصحيفة" في بيته، لكن هذا تحريم عارض، كما أن مسألة الأواني و"الكراتين" الحافظة للأطعمة وشِبْهِ ذلك قد يُقال: إنَّ فيها شيئاً من الامتهان، فلا تكون من القسم المحرَّم.
المسألة الثانية: وهي الصُّور التي يلعب بها الأطفال، وهذه تنقسم إلى قسمين:
الأول: قسم من الخِرَق والعِهْن وما أشبه ذلك، فهذه لا بأس بها؛ لأنَّ عائشة كانت تلعبُ بالبنات على عَهْد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُنكر عليها.(1/190)
الثاني: قسم من "البلاستيك" وتكون على صورة الإنسان الطبيعي إلا أنها صغيرة، وقد يكون لها حركة، وقد يكون لها صوت، فقد يقول القائل: إنها حرام؛ لأنها دقيقة التَّصوير ، وقد نقول: إنها مباحة؛ لأن عائشة كانت تلعب بالبنات، ولم يُنكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم. فأنا أتوقَّفُ في تحريمها، لكن يمكن التخلُّص من الشُّبهة بأن يُطمس وجهها.
قوله: "ويحرمُ استعمالُ مَنْسوجٍ أو مُمَوَّهٍ بذَهَبٍ قبل استِحَالَتِه" ، يعني: يحرم على الذَّكر استعمال منسوج بذهب أو مُموَّه به. والمنسوج بذَهَبٍ: هو أن يكون فيه خيوط من الذَّهب تُنْسج؛ سواء كانت هذه الخيوط على جميع الثَّوب، أو في جانب منه كالطَّوق مثلاً أو طرف الكُمِّ، أو في أيِّ موضع. وتحريمُ لباس الخالص من الذهب بالنسبة للرَّجل من باب أولى، ولهذا يحرم عليه أن يلبس خاتماً من الذَّهب، أو قِلادةً، أو سِلسِلةً، أو خُرْصاً، أو ما أشبه ذلك.
وقوله: "أو مُمَوَّهٍ بذهبٍ قبل استحالتِه"، أي: ويحرُم مموَّهٌ بذهبٍ، وهو المطليُّ بالذَّهب على الرَّجل؛ لعموم الحديث، إلا أن المؤلِّف استثنى إذا استحال هذا الذهب وتغيَّر لونُه. وصار لو عُرِضَ على النَّار لم يحصُل منه شيءٌ، فهذا لا بأس به؛ لأنه ذهب لونُه، فمثلاً: لو أنه مع طول الزَّمن تآكل، وذهب لونُه، ولم يكن لونُه كلون الذَّهب، وصار لو عُرِضَ على النار وصُهِرَ لم يحصُل منه شيءٌ، فحينئذ نقول: هذا جائز؛ لأنه ذهب عنه لونُ الذَّهب ما بقي إلا أنه كان قد مُوِّه به.
قوله: "وثِيَابُ حَرِيْرٍ" ، أي: ويَحرُم ثيابُ حرير خَالصة. والمراد بالحرير هنا الحريرُ الطبيعي دون الصناعي.
قوله: "وما هو أكْثَرُهُ ظُهُوراً على الذُّكُورِ" ، أي: يحرم على الذُّكور ثوبٌ يكون الحرير أكثره ظهوراً. مثال ذلك: لو كان هناك ثوب فيه أعلام، ثُلُثَاه من الحرير وثُلُثُه من القطن، أو الصُّوف، فهو حرام؛ لأن أكثره الحرير.(1/191)
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنه لو كان الحرير أقلَّ، فليس بحرامٍ، مثل لو كان فيه أعلام حرير أعني خُطُوطاً، وهذه الخطوط إذا نُسِبَتْ إلى ما معها من القُطن أو الصُّوف وجدنا أنها الثُّلُث، فالثَّوب حينئذ حلال اعتباراً بالأكثر، فإن تساويا فسيأتي في كلام المؤلِّف أنه ليس بحرام، وقيل: إنَّه حرام..
قوله: "لا إذَا اسْتَوَيَا" ، أي: لا يحرم الحرير إذا استويا. وقال بعض أصحابنا رحمهم الله: بل إذا استويا يَحرُم .
قوله: "ولضرورة" ، هذا عائد على الحرير، أي: أو لُبْسه لضرورة، ومن الضَّرورة ألا يكون عنده ثوب غيره، ومن الضَّرورة أيضاً أن يكون عليه ثوب، ولكنه احتاج إلى لُبْسِهِ لدفع البرد، ومن الضَّرورة أيضاً أن يكون عليه ثوب لا يستر عورته لتمزُّقٍ فيه، فكلُّ ما دعت إليه الضَّرورة جاز لُبْسُهُ.
قوله: "أو حِكَّةٍ" ، أي: أنه إذا كان فيه حِكَّة جاز لُبْسه.
قوله: "أو مَرضٍ" ، أي: يجوز لُبْس الحرير إذا كان فيه مرض يخفِّفُه الحرير أو يُبرئه، والمرجع في ذلك إلى الأطباء، فإذا قالوا: هذا الرَّجل إذا لَبِسَ الحرير شُفي من المرض، أو هان عليه المرض، فله أن يَلْبَسَه.
قوله: "أو قَمْلٍ" ، أي: يجوز لُبْسُ الحرير لطرد القمل.
قوله: "أو حرب" ، أي: ويجوزُ لُبْس الحرير لحربٍ مع الكُفَّار .
قوله: "أو حَشْواً" ، بالنصب خبراً لكان المحذوفة، والتقدير: أو كان حشواً، أي: يجوز أن يلبس الإنسان ثوباً محشوًّا بالحرير، فإذا قُدِّر أن رجلاً رأى ثوباً يُبَاع، وفيه حشوُ حرير، واشتراه ليلبسه، فلا بأس بذلك، وإنْ رَأى فراشاً حَشْوه حرير واشتراه لينامَ عليه، فلا بأس بذلك.(1/192)
قوله: "أو كان عَلَماً" ، هذه معطوفة على ما قبلها، أي: يجوز لُبْس الحرير إذا كان عَلَماً في ثوبٍ، والعَلَمُ معناه: الخَطُّ يُطرَّز به الثَّوب. وتطريزُ الثَّوب قد يكون من أسفل، وقد يكون في الجَيْبِ، وقد يكون في الأكمام، وقد يكون ثوباً مفتوحاً فيكون التَّطريز من جوانبه.
المهمُّ: إذا كان في الثَّوب عَلَم، أي: خطٌّ من الحرير، فهو جائز لكن بشرطٍ ذكره المؤلِّف في قوله: "أربعُ أصابِع فما دونَ" ، أي: أن العَلَمَ يكون قدْرَ أربعة أصابع فما دون، والمرادُ أصابع إنسان متوسِّط، ومثلُ هذا يُرجع فيه إلى الوسط . فإذا كان العَلَمُ أربعة أصابع في مكان واحد فما دون فهذا لا بأس به. فإن قيل: كيف نجمع بين هذا وبين قوله فيما سبق: "وما هو أكثرُه ظُهوراً"؟ لأنَّنا لو أخذنا بظاهر العبارة السَّابقة لقلنا: إذا كان عَلَماً عرضه خمس أصابع، وإلى جنبه عَلَم من القُطن عرضه ستَّة أصابع، فإن نظرنا إلى ظاهر ما سبق قلنا: إنَّه جائز. ولكن ما سبق مقيَّد بما يلحق، فيكون مراده فيما سبق إذا كان الثَّوب مشجَّراً، أو إذا كان فيه أعلام أقلُّ من أربع أصابع، أو أعلامٌ كثيرةٌ مفرَّقة، فهنا نعتبر الأكثر، أما إذا كان عَلَماً متَّصِلاً فإن الجائز ما كان أربع أصابع فما دونها.
قوله: "أو رِقَاعاً أو لَبنة جَيْبٍ" ، الرِّقَاع: جمع رُقْعَة، أي: لو رَقَّعَ الثَّوبَ بالحرير فإنَّه يجوز، لكن يجب أن نلاحظ أنه يُقيد بأن يكون أربع أصابع فما دون، وكذلك "لَبنة الجَيْب". والجَيْبُ: هو الذي يدخل معه الرَّأس، و"لَبِنَتهُ" هي: ما يُوضع من حرير على هذا الطَّوق وهو معروف في بعض الثِّياب الآن.
قوله: "وسُجُفِ فِرَاءٍ" ، الفِراء: جمع فروة، و"سُجُفها" أطرافها، والفروة مفتوحة من الأمام، "فسجفُها" أي: أطرافها. فهذا لا بأس به، لكن بشرط أن يكون أربع أصابع فما دون.(1/193)
قوله: "ويُكره المُعَصْفَر والمُزَعْفَر للرِّجَال" ، أي: كراهة تنزيه، ويجب أن نعلم أنَّ الفقهاء المتأخِّرين رحمهم الله إذا قالوا: "يُكره" فالمُراد كراهة التَّنزيه، ولا يَقْصِدُون بذلك كراهة التَّحريم.
والمُزَعْفَرُ: هو المصبوغ بالزَّعفران، والمُعَصْفر: هو المصبوغ بالعُصْفر، مكروه للرِّجال. (( وقال بعض العلماء : )) أن لبس المعصفر والمزعفر حرامٌ، وهذا هو الصَّحيحُ . ولكن يَرِدُ على هذا: أنَّ الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَلْبَسُ الحُلَّةَ الحمراء، والحمراء أغلظ حمرة من المُعَصْفر، فكيف ينهى عن المُعْصْفَر ويقول: إنه من لِبَاسِ الكُفَّار، ثم يلبسُ الأحمر؟ أُجيب عن ذلك بثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: أنَّ الأحمر الخالص ليس هو لِبَاس الكُفَّار، فلباس الكفار هو المُعْصْفَر، والمُعَصْفَر يميل إلى الحُمْرَة، ولكن ليس خالصاً، والحُلَّة الحمراء التي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلبسها كانت حمراء خالصة. وهذا الجواب فيه نظر، لأنَّ الأحمر الخالص أشدُّ من المعصفر.
الجواب الثاني: أنَّ هذا فعل، والفعل لا يُعارض القول؛ لاحتمال الخُصوصية، وهذه القاعدة مشى عليها الشَّوكاني في "شرح المنتقى" ، وهذه الطريقة ليست بصواب؛ لأن فعلَ الرَّسول سُنَّةٌ وقولَه سُنَّة، ومتى أمكن الجمع بينهما وَجَبَ؛ لئلا يكون التَّناقض، ولأنَّ الأصل عدم الخُصوصيَّة.
الجواب الثَّالث: أنَّ الحُلَّة الحمراء هي التي خُطوطها حُمْر، وليست حمراء خالصة، وإلى هذا ذهب ابنُ القيم رحمه الله. كما يُقال: هذا الرَّجل "شِماغه" أحمر، وهذا الرَّجل "شِمَاغه" أسود، وليس المُراد أنَّ كلَّه أحمر أو كلَّه أسود، فيقول : إن هذه الحُلَّة الحمراء لا تُعارض نهيه؛ لأنها حُلَّة حمراء لكن ليست خالصة، وإذا كان مع الأحمر شيء يُزيل عنه الحُمرة الخالصة فإن هذا لا بأس به. وهذا الجواب أظهر الأجوبة.(1/194)
قوله: "ومنها اجتنابُ النَّجَاسات" ، أي: ومن شروط صحّة الصَّلاة اجتنابُ النَّجاسات، أي: التنزُّه منها، وهذا في البدن والثوب والبقعة. وجمهور أهل العلم على أنَّ التنزُّهَ من النَّجاسة شَرطٌ لصحَّةِ الصَّلاة، وأنَّه إذا لم يتنزَّه من ذلك فصلاتُه باطلة. وذهب بعض أهل العلم إلى أنها ليست شرطاً للصِّحَّةِ، ولكنها واجبة، فلو صَلَّى وعليه نجاسة فهو آثم، وصلاته صحيحة. والقول الرَّاجح: هو قول الجمهور.
قوله: "فمن حَمَل نجاسةً لا يُعفى عَنها" ، مثال حمل النَّجَاسة: إذا تلطَّخ ثوبُه بنجاسةٍ، فهذا حامل لها في الواقع؛ لأنَّه يَحمِلُ ثوباً نجساً، وإذا جعل النَّجَاسة في قارورة في جيبه، فقد حَمَل نجاسة لا يُعفى عنها، وهذا يقع أحياناً في عصرنا فيما إذا أراد الإنسان أن يحلِّلَ البِرَاز أو البول؛ فحَمَله في قارورة وهو يُصلِّي، فهذا صلاته لا تصحُّ؛ لأنَّه حَمَل نجاسة لا يُعفى عنها.
قوله: "أَوْ لَاقَاهَا بِثَوْبِهِ، أوْ بَدَنِه لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ" ، أي: باشر المصلِّي النَّجاسة بثوبه؛ أو بدنه؛ لم تصحَّ صلاتُه. مثاله: استند رجلٌ إلى جدار نجس، نقول: هذا لاقى النَّجاسة، أو كان جالساً في التَّشهُّد أو بين السَّجدتين، وحوله شيء نجس قد وضع يده عليه، فإنه قد لاقاها، فلا تصحّ صلاتُه. فإن مسَّ ثوبُه شيئاً نجساً؛ لكن بدون اعتماد عليه، فقد قال أهل العلم: لا يضرُّ؛ لأن هذا ليس بثابتٍ. فإذا قُدِّرَ أنَّ الإنسان المصلِّي لمَّا رَكَعَ مسَّ ثوبُه الجدارَ النَّجس، ولم يستندْ عليه، فإن هذا لا يؤثِّرُ، لأنَّه لم يعتمدْ عليه، فلا يُعدُّ ذلك ملاقاة. ولو صَلَّى رجلٌ على بساط فيه بُقْعَةٌ نجسة؛ فإذا سجد صارت البقعة بين ركبتيه ويديه، فتصحُّ صلاتُه، لأنَّه لم يُلاقِها، ولم يحملْهَا وبالأَوْلَى أيضاً: لو كانت النَّجاسة على جانب من زاوية البساط فإنَّه تصحُّ صلاتُه؛ لأنَّه لم يُلاقِها.(1/195)
قوله: "وإن طَيَّن أرضاً نَجِسةً أو فرشها طاهِراً كُرِه وصَحَّتْ"، هذان حُكمان: إذا طيَّن أرضاً نَجِسَة، أي: كساها بالطِّين، وإن سُمِّتَتْ أو زُفِّتَتْ فمثله، فإذا صلَّى على هذا الطِّين الذي كُسيتْ به هذه الأرض. فذكر المؤلف أن الصلاة صحيحة والفعل مكروه، والصَّواب: أنَّها تصحُّ ولا تُكره.
وقوله: "أو فَرَشَها طاهراً"، أي: فرش عليها، أي: على الأرض النَّجسة شيئاً طاهراً، مثل: ثوب أو سَجَّادة وصَلَّى عليه؛ فالصَّلاة صحيحة لكن مع الكراهة. والصَّحيح: أنها لا تُكره .
فإن قيل: لو فرشَها تُراباً، فهل تصحُّ صلاته؟ فالجواب: إنْ كان كثيراً؛ بحيثُ لا يُلاقي النَّجاسة إذا كَبَسَ عليه؛ فالصَّلاةُ صحيحة، وإنْ كان قليلاً؛ بحيثُ يَمُسُّ النَّجاسةَ إذا كَبَسَ عليه؛ فالصَّلاةُ غيرُ صحيحة.
قوله: "وإن كانت" ، الضَّمير يعودُ على النجاسة.
قوله: "بطرفِ مُصَلَّى مُتَّصلٍ صَحَّتْ" ، مثاله: رجلٌ يُصلِّي على سَجَّادَة وطرفُها نَجِسٌ، وهذا الطَّرف متَّصلٌ بالذي يُصلِّي عليه، ولكنَّه لا يُباشر النَّجاسة، ولا يُلاقيها، فنقول: إنَّ صلاتَه صحيحةٌ.
قوله: "إنْ لم يَنْجَرَّ بمشيه" ، هذه العبارة فيها رَكَاكَة، فهي لا تَتَّفقُ مع الأُولى إلا على تقدير؛ لأن قوله: "وإنْ كان بطرفِ مُصَلَّى" فالمُصَلَّى لا ينجرُّ بالمشي، فلو مَشَيت فإنَّه يبقى في مكانه، ولكن يُشير المؤلِّف إلى مسألة أخرى، وهي إذا كانت النَّجاسة متَّصلة بشيءٍ مُتعلِّقٍ بالمُصلِّي، فإن كانت تنجرّ بمشيه لم تصحَّ صلاتُه، وإن كانت لا تنجرُّ صحَّت صلاتُه. مثال ذلك: رَجُل معه حبل، وربطه على رقبة حمار، وقد أمسكه بيده أو ربطه على بطنه، فهنا صلاتُه تصحُّ؛ لأنَّ الحِمَار لو استعصى عليه لم ينجرَّ إذا مشى، وهذا في الغالب، فالصَّلاة هنا صحيحة؛ لأنَّ الرَّجُلَ غير حامل للنَّجَاسة، ولا النَّجاسة تتبعه، وليس مباشراً لها، وهذا على القول بأنَّ الحِمَار نجسٌ.(1/196)
مثالٌ ثانٍ: رَجُلٌ آخر ربط حَبْلاً بيده أو ببطنه، وربطَ طرَفَهُ الآخر في رقبة كلب صغير، فهذا الرَّجُل صلاته لا تصحُّ؛ لأنَّه إذا مشى انجرَّ الكلب فهو مستتبع للنجاسة الآن. وهذا ما ذهب إليه المؤلِّفُ . والصَّحيحُ: أنَّها لا تبطلُ الصَّلاة.
قوله: "وَمَنْ رَأَى عَلَيه نَجَاسَةً بَعْدَ صَلَاتِهِ، وَجَهِلَ كَوْنَهَا فيها لَمْ يُعدْ، وإنْ عَلِمَ أنَّهَا كَانَتْ فِيهَا، لَكِنْ نَسِيهَا أَوْ جَهِلها أَعَادَ" ، المراد بالنَّجاسة ما لا يُعفى عنه من النجاسات؛ لأنَّ ما يُعفى عنه لا يضرُّ وجوده.
وقوله: "عليه"، أي: على بدنه أو ثوبه. وقد ذكر المؤلِّفُ هنا صورتين:
الصُّورة الأُولى: أشار إليها بقوله: "وجهل كونها فيها"، أي: لا يدري هل كانت عليه وهو في صلاته، أم أصابته بعد الصَّلاة، ففي هذه الصُّورة لا إعادة عليه.
الصُّورة الثَّانية: عَلِمَ أنَّ النَّجاسة كانت في الصَّلاة؛ لكن جهلها فلم يعلم إلا بعد صلاته، فعليه الإعادة على كلام المؤلِّف. مثاله: رَجُل صَلَّى؛ فلما سَلَّم وَجَدَ على ثوبه نجاسة يابسة؛ يتيقَّن أنها أصابته قبل الصَّلاة، ولكن لم يعلم بها.
واعلمْ أنَّ الجهل ثلاثة أقسام:
الأول: أن يعلم أن النَّجاسة كانت في الصلاة لكن بعد أن سلَّم، وهذا ما ذكره المؤلِّف.
الثاني: أن يعلم وجودها في الصلاة، لكن لا يدري أهي من النَّجاسات المانعة من صحة الصَّلاة أم لا. مثاله: رَجُل صلَّى وفي ثوبه بُقعٌ؛ لا يدري أهي من النجاسات المعفوِّ عنها أم لا؟ فتبيَّن أنها من النَّجاسات التى لا يُعفى عنها.
الثالث: أن يعلمَ وجودها في الصَّلاة؛ لكن لا يدري أنَّ إزالتها شرطٌ لصحَّة الصَّلاة. والمثال واضح.
ففي هذه الأقسام كلِّها تلزمه إعادة الصَّلاة .(1/197)
وقوله: "أو نَسيَها"، أي: نَسيَ أنَّ النَّجاسة أصابته، ولم يذكر إلا بعد سلامه فعليه الإعادة على كلام المؤلِّف. ومثل ذلك لو نسيَ أن يغسلها. والرَّاجح : في هذه المسائل كلِّها: أنه لا إعادة عليه سواء نسيها، أم نسي أن يغسلها، أم جهل أنها أصابته، أم جهل أنها من النَّجاسات، أم جهل حكمها، أم جهل أنها قبل الصَّلاة، أم بعد الصلاة.
قوله: "ومن جُبر عظمُه بنجس لم يجبْ قَلْعُه مع الضَّرر" .مثال ذلك: رجل انكسر عظمه وسقط أجزاء من العظم، فلم يجدوا هذه الأجزاء، وعندهم كلب، فكسروا عظم الكلب، وجَبَروا به عظمَ الرَّجل. فقد جُبِرَ الآن بعظم نجس، فإذا صَلَّى فسيكون حاملاً نجاسة؛ فنقول له: اقلعْ هذا العظم النَّجس؛ لأنه لا يجوز لك أن تُصلِّي وأنت حامل للنَّجاسة، فإن قال الأطباء: إذا قلعه تضرَّر وعاد الكسر وربما لا يُجبر. فنقول: لا يجب قلعه حينئذ؛ لأن الله أباح ترك الوُضُوء عند خوف الضَّرر؛ فترك اجتناب النَّجاسة من باب أولى عند خوف الضَّرر. لكن هل يتيمَّم لحمله هذه النجاسة؟ الجواب: الصَّحيح أنه لا يجب التيمم؛ بل ولا يُشرع لهذه النَّجاسة. والمذهب: إن كان قد غطَّاه اللحم لم يجب التيمُّم؛ لأنه غير ظاهر، وإن كان لم يغطِّه وجب التيمُّم؛ لأن النَّجاسة ظاهرة. ولكن الصَّحيح كما سبق في باب التيمُّم أن النَّجاسات لا يُتَيمَّمُ عنها؛ وأنَّ من كان على بدنه نجاسة وتعذَّر عليه غسلها فليُصلِّ بدون تيمم؛ لأنَّ التَّيمُّم إنما ورد في طهارة الحدث، لا في طهارة الخَبَث.
قوله: "وما سقط منه من عُضوٍ أو سِنٍّ فطاهرٌ" ، أي: إذا سقط من الإنسان عضو؛ أو سِنٌّ فهو طاهر. مثال العضو: قطع الأصبع. مثال السِّنِّ: واضح.(1/198)
قوله: "ولا تصحُّ الصَّلاةُ في مَقْبَرة" ، قوله: "الصَّلاة" يعمُّ كلَّ ما يُسمَّى صلاة، سواءٌ كانت فريضةً أم نافلة، وسواء كانت الصلاة ذات ركوع وسجود أم لم تكن. (( ويستثنى من ذلك صلاة الجنازة، لأنه قد دل الدليل على إستثنائها )). وهل يجوز السُّجود المجرَّد كسجود التِّلاوة مثلاً؛ كما لو كان الإنسان يقرأ في المقبرة ومرَّ بآية سجدة؟ ينبني هذا على اختلاف العلماء في سجود التلاوة، فمنهم من قال: إنه صلاة. ومنهم من قال: إنَّه ليس بصلاة. فالذين قالوا: ليس بصلاة يقولون: إنه يجوز أن يسجد الإنسان سجود التلاوة في المقبرة، والذين قالوا: إنه صلاة يقولون لا يجوز.
وهل المراد بالمقبرة هنا ما أُعِدَّ للقبر، وإن لم يدفن فيه أحد، أم ما دُفِنَ فيه أحد بالفعل؟ الجواب: المراد ما دُفِنَ فيه أحد، أمَّا لو كان هناك أرض اشتُريت؛ لتكون مقبرة، ولكن لم يُدْفَنْ فيها أحد، فإن الصَّلاة فيها تصحُّ، فإن دُفِنَ فيها أحد، فإن الصَّلاة لا تصحُّ فيها؛ لأنها كلّها تُسمَّى مقبرة .
قوله: "وحُشٍّ" ، الحُش: المكان الذي يَتخلَّى فيه الإنسان من البول أو الغائط؛ وهو الكَنيف، فلا تصحُّ الصلاة فيه.
قوله: "وحمَّام" ، كلُّ ما يُطلق عليه اسم الحَمَّام يدخل في ذلك؛ حتى المكان الذي ليس مبالاً فيه فإنه لا تصحُّ فيه الصَّلاة، للحديث: "الأرضُ كلُّها مسجدٌ إلا المقبرة والحَمَّام"، ولأن الحمَّام، مكان كشف العورات.والحَمَّام هو المغتسل، وكانوا يجعلون الحمَّامات مغتسلات للنَّاس يأتي النَّاس إليها ويغتسلون، يختلط فيه الرِّجال والنساء، وتنكشف العورات، وليس المقصود به "المرحاض"، ولهذا نهى الشَّرع عن الصَّلاة فيه. وظاهر الحديث: أنه لا فرق بين أن يكون الحَمَّام فيه ناس يغتسلون، أو لم يكن فيه أحد، فما دام يُسمَّى حَمَّاماً فالصَّلاة لا تصحُّ فيه.(1/199)
قوله: "وأعطان إبِلٍ" ، وأعطان الإبل فُسِّرتْ بثلاثة تفاسير: قيل: مباركها مطلقاً، وقيل: ما تُقيم فيه وتأوي إليه، وقيل: ما تبرك فيه عند صدورها من الماء؛ أو انتظارها الماء. فهذه ثلاثة أشياء، والصَّحيح: أنَّه شاملٌ لما تقيم فيه الإبل وتأوي إليه، كمَرَاحِها، سواءٌ كانت مبنيَّة بجدران أم محوطة بقوس أو أشجار أو ما أشبه ذلك، وكذلك ما تعطن فيه بعد صدورها من الماء. وإذا اعتادت الإبِلُ أنها تبرك في هذا المكان، وإن لم يكن مكاناً مستقراً لها فإنه يعتبر معطناً. أما مبرك الإبل الذي بركت فيه لعارض ومشت، فهذا لا يدخل في المعاطن؛ لأنه ليس بمبرك.
قوله: "ومغصوبٍ" ، أي: ولا تصحُّ الصلاة في مغصوب، والمغصوب: كلُّ ما أُخِذَ من مالكه قهراً بغير حقٍّ، سواءٌ أُخِذَ بصورة عقد أو بدون صورة عقد. فمثلاً: لو جاء إنسان لآخر وغصب منه أرضاً وصَلَّى فيها؛ فصلاته لا تصحُّ؛ لأنها مغصوبة. والقول الثَّاني في المسألة: أنها تصحُّ في المكان المغصوب مع الإثم؛ وهو الرَّاجح.
قوله: "وأسطحتها" ، يعني: لا تصحُّ الصلاة في أسطحة هذه الأماكن، فيكون هذا الموضع السادس، والأسطحة هي ما يلي:
أولاً: سطح المقبرة. ثانياً: سطحِ الحُشِّ.
ثالثاً: سطح الحَمَّام. رابعاً: سطح أعطان الإبل.
خامساً: سطح المغصوب. (( وهذا على ماقرره المؤلف )).
والقول الرَّاجح: أن جميع هذه الأسطحة تصحُّ الصلاة فيها إلا سطح المقبرة وسطح الحَمَّام. أمَّا المقبرة، فلأنَّ البناء على المقبرة كالمقبرة في كونه ذريعة إلى عبادة القبور، ولهذا نُهيَ عن البناء على القبر، وأما سطح الحَمَّام فلأنه داخل في مسمَّاه؛ لكن سبق البحث في ذلك، فهو محل تردُّدٍ عندي.(1/200)
قوله: "وتصحُّ إليها"، أي: تصحُّ الصلاة إلى هذه الأماكن، ومعنى تصحُّ إليها يعني تصحُّ الصلاة إذا كانت في قبلتك، فلو كان في قِبْلة الإنسان حَمَّامٌ؛ أو أعطان إبل؛ أو مغصوب، أو قبر؛ فصلاتُه صحيحة؛ هذا مقتضى كلام المؤلِّف. إلا أنهم قالوا: إنها تُكره إذا لم يكن حائل، ولو كمُؤْخِرَة الرَّحْل، ومُؤْخِرَة الرَّحْل يكون نصف متر في نصف متر. والصحيح : أن الصلاة إلى المقبرة حرام، ولو قيل بعدم الصحة لكان له وجه . (( وأما الصلاة إلى )) الحش والحمام ، (( فيمكن أن )) نقول : تُكره الصَّلاة إليهما؛ لأنَّ فيهما رائحة كريهة قد تؤثِّر على المُصلِّي بأذيَّة أو تشويش، والشيء الذي يؤثِّر على المُصلِّي ويُشَوِّشُ عليه مكروه. وأما أعطان الإبل؛ فربما نقول: إذا كانت الإبل موجودة باركة فرُبَّما تُكره الصلاة إليها؛ لأنه ربما تتحرَّك أو ترغو، أو ما أشبه ذلك فيؤثِّر عليه في صلاته، فيكون في ذلك تشويش عليه، وإذا كانت غير موجودة فلا وجه للكراهة؛ إلا إن كانت هناك رائحة. وأمَّا المغصوب: فلا وجه للكراهة في الصلاة إليه.
فإذا قال قائل: ما هو الحَدُّ الفاصل في الصلاة إليها؟ قلنا: الجدار فاصل، إلا أن يكون جدارَ المقبرة ففي النفس منه شيء، لكن إذا كان جداراً يحول بينك وبين المقابر، فهذا لا شَكَّ أنه لا نهي، كذلك لو كان بينك وبينها شارع فهنا لا نهي، أو كان بينك وبين المقبرة مسافة لا تُعَدُّ مصلِّياً إليها، حدَّها بعضُهم بمسافة السُّترة للمصلِّي، وعلى هذا فتكون المسافة قريبة، لكن لا شَكَّ أن هذا يُوهم، فإن أحداً من النَّاس لو رآك تُصلِّي وبينك وبين المقبرة ثلاثة أذرع بدون جدار لأَوهم ذلك أنك تُصلِّي إلى القبور. فإذاً؛ لا بُدَّ من مسافة يُعلم بها أنك لا تُصلِّي إلى القبر.(1/201)
وظاهر كلام المؤلِّف: أن ما عداها تصحُّ الصلاة فيه فرضاً أو نَفْلاً، فتصحُّ في المجزرة إلا إذا صَلَّى على المكان النَّجس منها. وتصحُّ في المزبلة: إذا كان الزِّبل طاهراً، أما إذا كان نجساً فقد دخل في كلام المؤلِّف في المنع.
وتصحُّ في قارعة الطريق، يعني: لو صلَّى في قارعة الطريق فصلاتُه صحيحة، لكن إذا كان الطريق مسلوكاً فالصلاة فيه حال سلوك الناس فيه مكروهة؛ من أجل الانشغال والتشويش، فإن كان مسلوكاً بالسيارات فقد نقول بالتَّحريم؛ لأنَّه لا يمكن أن يقيم الصَّلاة والسيارات تمشي، أو يُعطِّل الناس فيعتدي عليهم؛ لأن وقوف الناس بأماكن الطُّرق يمنع الناس من التَّطرُّق؛ ففيه عُدوان عليهم، والحقُّ لهم.
قوله: "ولا تصحُّ الفريضة في الكعبة، ولا فَوْقَهَا" ، أي: ولا تصحُّ الفريضة داخل الكعبة، ولا فوقها، أي: على السطح . وعُلم من كلام المؤلِّف: صحَّة صلاة النَّفْل في الكعبة وفوقها. والصحيح : أنَّ الصلاة في الكعبة صحيحة فرضاَ ونفلاَ .
قوله: "وتصحُّ النَّافلة باستقبال شاخص منها" ، يعني: تصحُّ النَّافلة في الكعبة باستقبال شاخص منها، أي: لا بُدَّ أن يكون بين يديه شيءٌ شاخصٌ حتى في النَّافلة، والشَّاخص: الشيء القائم المتَّصل بالكعبة، المبنيُّ فيها، وعلى هذا فلو صَلَّى نافلة إلى جهة الباب وهو مفتوح، وهو داخل الكعبة لم تصحَّ؛ لأنه ليس بين يديه شاخص منها، فإن وضع لَبِنةً أو لَبِنتين بين يديه لم تصحَّ أيضاً؛ لأنا ليست منها، وليست متَّصلة. وقال بعض أهل العلم: تصحُّ النَّافلة في الكعبة؛ وإن لم يكن بين يديه شيء منها شاخص. ولا شَكَّ أن الاحتياط أن يكون بين يديه شاخص منها، ولكن لو أن الإنسان صَلَّى، وجاء يستفتينا فلا نستطيع أن نقول: إن صلاتك ليست صحيحة، وإنما نأمره قبل أن يُصلِّيَ ألا يُصلِّيَ في جوف الكعبة إلا إلى شيء شاخص منها.(1/202)
قوله: "ومنها استقبال القِبلة" ، أي: من شروط الصَّلاة استقبال القبلة، والمراد بالقِبلة الكعبة، وسُمِّيَت قِبْلة؛ لأن النَّاس يستقبلونها بوجوههم ويؤمُّونها ويقصدونها، وهو من شروط الصَّلاة بدلالة الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع.
قوله: "فَلَا تَصِحُّ بِدُونِه"، أي: لا تصحُّ الصلاة بدون استقبال القِبلة.
قوله: "إلا لعاجز ومتنفِّلٍ راكبٍ سَائرٍ في سَفَرٍ "، وقد استثنى المؤلِّف مسألتين:
الأولى: العاجز؛ تصحُّ صلاته بدون استقبال القِبلة، وله أمثلة منها: أن يكون مريضاً لا يستطيع الحركة، وليس عنده أحد يوجِّهه إلى القبلة، فهنا يتَّجه حيث كان وجهه؛ لأنَّه عاجز.
الثَّانية، "المتنفِّل" أي:الذي يصلي نافلة إذا كان راكباً، واشترط المؤلِّف شرطين:
أحدهما: أن يكون سائراً. الثاني: أن يكون في سفرٍ.
وعُلِمَ من كلامه أن النَّازل في السَّفر يلزمه استقبال القِبْلة، وأنَّ السَّائر في الحضر يلزمه استقبال القِبْلة.
فإن قيل: هل تجوز الفريضة للرَّاكب السَّائر في السَّفر بدون استقبال القِبْلة؟ فالجواب: لا؛ إلا في الحال التي يتعذَّر فيها استقبال القِبْلة.
فإن قيل: إذا كان المسافرُ نازلاً في مكان، فهل يجوز أن يتنفَّل إلى غير القبلة؟ فالجواب: لا؛ لأنَّ تخصيص العام يُقتصر فيه على الصُّورة التي وقع فيها التَّخصيص فقط.
فإن قيل: إذا كان الإنسانُ في بلده، لكن البلد متباعد الأحياء؛ فهل له أن يتنفَّل في هذه الحال إلى جهة سيره؟ فالجواب: ليس له ذلك؛ لأنه غير مسافر.
ولو قال قائل: رجل في مَكَّة يتنقَّل في سيارته، هل يجوز له أن يتنفَّل عليها غير مستقبل القبلة أو لا؟ فالجواب: إن كان من أهل مَكَّة فلا يجوز، وإن كان من غيرهم فيجوز، إذاً؛ لو ذهبت إلى مَكَّة في العُمرة، وصرت تتنقَّل من المسجد الحرام إلى بيتك على السيَّارة جاز؛ ولو كانت الكعبة خلف ظهرك؛ لأنَّك مسافر، هذا هو الظَّاهر من عمومات الأدلَّة، وفيه شيء من البحث والنَّظر.(1/203)
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه يجوز أن يتنفَّلَ على راحلته، ولو كان السَّفر قصيراً؛ فإذا خَرجتَ من البلد؛ ولو إلى بلد قريب منك لا يُعَدُّ الخروج إليه سفراً تُقصر فيه الصلاة؛ جاز لك التنفُّل على الرَّاحلة غير مستقبل القِبْلة للعموم، ولكن بعض الأصحاب رحمهم الله قالوا: لا يجوز التنفُّل على الرَّاحلة إلا في سفر يقصر فيه، فإن كان لا يقصر فيه فإنه لا يجوز.
قوله: "ويلزمه افتتاحُ الصَّلاةِ إليها" ، "يلزمه"، أي: الرَّاكب "افتتاح الصَّلاة إليها"، أي: إلى الكعبة، ثم بعد ذلك يكون حيث كان وجهه.وقال بعض أهل العلم: إنه ليس بواجبٍ . والصَّحيح في هذه المسألة أن الأفضل أن يبتدئ الصَّلاة متَّجهاً إلى القِبْلة، ثم يتَّجه حيث كان وجهه، أمَّا أن يكون واجباً ففي النَّفس منه شيء.
قوله: "وماشٍ" ، يعني: يمشي على قدميه. فيجوز للإنسان المسافر إذا كان يمشي على قدميه؛ أن يكون اتِّجاهُه حيث كان وجهه في صلاة النَّفل، ويسقط عنه استقبال القبلة. ومن العلماء من يقول: إن المسافر الماشي لايجوز أن يتنفل حال مشيه. ولكن الذي يظهر - والله أعلم - أن القول الرَّاجح: ما قاله المؤلِّف في إلحاق الماشي بالرَّاكب.(1/204)
قوله: "وَيَلْزَمُهُ الافْتِتَاحُ والرُّكُوعُ والسّجُودُ إلَيْهَا" ، "يلزمه" أي: الماشي. "الافتتاح" أي: إلى القِبْلة؛ لأنه إذا لزم الرَّاكب مع معاناةِ صَرْفِ المركوب؛ فلزُومُه في حقِّ الماشي من باب أَولى؛ لأنَّ انصراف الماشي إلى القِبْلة أسهل من انصراف مركوبِهِ لو كان راكباً. وكذلك يلزمه الرُّكوع والسُّجود إليها أيضاً، أما الرَّاكب فلا يلزمه رُكوع ولا سجود، وإنما يومئ إيماء . ولكن الصَّحيح: أننا إن جوَّزنا للماشي التَّنفُّل فإنه لا يلزمه الرُّكوع والسُّجود إلى القِبْلة؛ لأنَّ في ذلك مشقَّة عليه؛ لأنه يستلزم الوقوف للرُّكوع والسجود والجلوس بين السَّجدتين، وهذا يعيقُه بلا شَكٍّ، لكن لو قلنا يومئُ إيماء؛ أمكنه أن يومئ وهو ماشٍ في ركوعه وسجوده، فحكمه حكم الرَّاكب في أنه يلزمه الافتتاح فقط؛ لأن الافتتاح مدَّتُه وجيزة والانحراف إلى القِبْلة فيه سهل فلا يضرُّه.
لكن ماذا يستقبل؟ بيَّنت السُّنَّة أنَّ قِبْلَتَهُ جهةُ سيره، فلا بُدَّ أن يكون متَّجهاً إمَّا إلى القِبْلة، وإما إلى جهة سيره، فلو حَرَفَ البعيرَ عن جهة سيره إلى جهة القِبْلة صَحَّ؛ لأنَّها الأصل، ولو حَرَفَها عن جهة سيره لغير القِبلة فقد قال العلماء: لا يجوز، لأنَّه خرج عن استقبال القِبْلة؛ وخرج عن استقبال جهة سيره التي أباح الشَّارع أن تكون قِبْلته من أجل تسهيل سيره، فإذا عدل بها عن جهة سيره فإنها تبطل. أما إذا عَدَلت به الدَّابة؛ فقال بعض أهل العلم: إن طال الفصل بطلت صلاته، وإن لم يطلْ لم تبطل صلاته. والصَّحيح: أنه إذا عَجَزَ عن ردِّها لم تبطل مطلقاً، لأنه يدخل في العاجز عن استقبال القِبْلة، ولو طال الفصلُ.
قوله: "وفَرْضُ من قَرُبَ من القِبْلَة إصابَةُ عينها، ومَنْ بَعُدَ جهتُها" . بيَّنَ المؤلِّف كيف يكون استقبال القِبْلة، وذَكَرَ أنه على وجهين:
الوجه الأول: أنه يلزمُه استقبالُ عينِ الكعبة.(1/205)
والوجه الثاني: أنه يلزمُه استقبالُ جهةِ الكعبة.
فالأول إذا كان قريباً من الكعبة؛ وهو الذي يمكنه مشاهدتها. والثاني إذا كان بعيداً عنها أو قريباً لا يمكنه المشاهدة.
وظاهر كلامهم: أنَّ المراد الإمكان الحسيّ، وأنه إذا أمكنه المشاهدة حِسًّا وجب عليه إصابةُ العين، وإن كان لا يمكن شرعاً، وعلى هذا؛ فمن كان في صحن المسجد، فاستقبالُ عين الكعبة عليه فرض، وهذا سهل. ومَنْ كان في السَّطح الأعلى أو الأوسط فهذا قد تكون إصابة عين الكعبة سهلة عليه، وقد تكون صعبة، فإذا كانت الصُّفوف متراصَّة أو أمامه أعمدة تمنعه من مشاهدة الكعبة، فهنا قد لا يستطيع الرُّؤية، ولا يستطيع أن يتحوَّل عن مكانه، لأنَّ الصُّفوف متراصَّة والتَّعذُّر هنا شرعي.(1/206)
وظاهر كلامهم: أنها لا تصحُّ صلاته حتى يكون مصيباً للعين، وإذا أخذنا بهذا الرَّأي فإن كثيراً من الذين يصلُّون في المسجد الحرام لا تصحُّ صلاتهم؛ لأنَّ كثيراً منهم نشاهدهم بأعيننا لا يصيبون عينَ الكعبة، يتَّجهون إلى جهتها ولا يُصيبون عينها، فتجد الصَّفَّ مستطيلاً، وبعضهم يتَّجه عن يمين الكعبة، وبعضهم عن يسار الكعبة، وبعضهم يتَّجه إلى الكعبة تماماً، وهذه المسألة مشكلة باعتبار أن الإنسان إذا كان بآخر الصفوف لا يتمكَّن من مشاهدة الكعبة قطعاً، ولا يقول: إنه أصاب عينها، وأحياناً يرى الظُّلْمَة والسَّواد ويقول: هذا عينُ الكَّعبة، ثم يُصلِّي، وإذا سَلَّم يجد الكعبة عن يمينه أو عن يساره، وهذا كثير. ولكنِّي ما رأيت أحداً من أهل العلم قال: إنَّ مَنْ كان بداخل المسجد فإن فرضه استقبال الجهة إلا قولاً في "سُبُل السَّلام شرح بلوغ المرام" لم يعزُه لأحد، ولكنَّه قاله تَفَقُّهاً من عنده، وإذا لم يكن أحد قال به قَبْله فهو غير مُسَلَّم؛ لأن المعروف من كلام أهل العلم قاطبة أنه من كان يمكنه مشاهدتها ففرضُه إصابةُ العين. ويجب أن يصيبَ عينَ الكعبة بكلِّ بدنه، فلو فُرِضَ أن جانبَ الوجه الأيمن مساوٍ للكعبة؛ والجانبَ الأيسر خارج عن الكعبة؛ لم تصحَّ صلاته، فلا بُدَّ أن يكون اتجاهُه كلُّه إلى عين الكعبة، وذلك لأنَّه أمكن الاتجاه عن يقين، فوجب عليه، ولأنَّ الأصل وجوب الاستقبال إلى البيت الذي هو البناء وليس إلى المسجد كلِّه، وإلا لصحَّ أن نقول: إن الذي يصلِّي إلى الجانب الجنوبي منه مثلاً له أن يستقبل الجانب الشمالي منه، ولو كانت الكعبة عن يمينه أو عن يساره، ولا أحد يقول بهذا، فالمقصود الأول هو عينُ الكعبة، فإذا أمكن وجب.(1/207)
وقوله: "ومَنْ بَعُدَ جهتُها"، أي: من بَعُدَ عن الكعبة بحيث لا يمكنه المشاهدة؛ فيجب عليه إصابةُ الجهة، والجهة حدَّدها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تستقبلوا القِبْلة بغائطٍ ولا بولٍ، ولا تستدبرُوها، ولكن شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا". لمَّا قال: "شَرِّقُوا أو غَرِّبُوا" يريد بذلك عكس القِبْلة، وعلى هذا فيكون ما بين المشرق والمغرب بالنسبة لأهل المدينة كلُّه قِبْلة، فالجنوب كلُّه قِبْلة لهم، ليس قِبْلتهم ما سامت الكعبةَ فقط، وبهذا نعرف أنَّ الأمر واسع، فلو رأينا شخصاً يُصلِّي منحرفاً يسيراً عن مُسامَتَةِ القِبْلة، فإن ذلك لا يضرُّ، لأنَّه متَّجه إلى الجهة وهذا فرضه. وجهة القِبْلة لمن كانوا شمالاً عن الكعبة ما بين الشَّرق والغرب، ولمن كانوا شرقاً عن الكعبة ما بين الشَّمال والجنوب. ولمن كانوا غرباً ما بين الشَّمال والجنوب، ولمن كانوا جنوباً عن الكعبة ما بين الشرق والغرب، فالجهات إذاً أربع، وهذا مقتضى حديث أبي أيوب.
واعلمْ أنه كلَّما قَرُبتَ من الكعبة صَغُرت الجهة، فإذا صِرتَ تحت جدار الكعبة تكون الجهة بقَدْر بدنك فقط، أي: لو انحرفت أقلَّ انحراف عن الكعبة، إما عن يسارك أو عن يمينك بطلت.
قوله: "فَإنْ أَخْبَرَه ثِقَةٌ بِيَقِينٍ" ، شرع المؤلِّف في بيان ما يُستدلُّ به على القِبْلة. فذكر أشياء:
الأول: خبرُ ثقة؛ لكن عن يقين، فلو أخبره ثقة بيقين - رَجُل أو امرأة - أن هذه هي القِبْلة، لَزِم الأخذ بقوله. والثقة: تستلزم العدالة والخبرة، فإن لم يكن عدلاً فليس بثقة، فإذا قال لنا إنسانٌ فاسقٌ: القِبْلة هنا، وإنْ كان ذا خبرة، فإننا لا نعمل بقوله؛ لأنه ليس بعدل، وكذلك إذا قال لنا إنسانٌ عدل ظاهراً وباطناً صاحب عبادة وزهد وورع: هذه هي القِبْلة، ولكنه ليس ذا خبرة، فإنَّنا لا نأخذ بقوله؛ لعدم الثِّقة بقوله؛ لكونه ليس ذا خبرة.(1/208)
وأفاد المؤلِّف بقوله: "فإن أخبره ثقة" أنه لا يُشترط التَّعدد، يعني: لا يُشترط أنه يخبره ثقتان. وأفادنا أيضاً بقوله: "ثقة" أنه لو كان المخبر امرأة يُوثق بقولها؛ لكونها عدلاً وذات خِبرة، فإننا نأخذ بقولها.
وقول المؤلِّف: "بيقين"، أي: بأن أخبره عن مشاهدة، وأفادنا أنَّه لو أخبره الثقة عن اجتهاد، فإنه لا يعمل بقوله. والصَّواب: أنه لو أخبره ثقة سواءٌ أخبره عن يقين أم عن اجتهاد، فإنه يعمل بقوله كما نعمل بقول الثِّقة بالاجتهاد في مسائل الدِّين؛ الحلال والحرام والواجب، فكيف لا نعمل به في إخباره بالقِبْلة؟
قوله: "أو وَجَدَ محاريبَ إسلاميَّة" ، هذا هو الثاني مما يُستدلُّ به على القِبْلة: المحاريب الإسلامية، فإذا وجد محاريبَ إسلاميَّة فإنه يعمل بها؛ لأن الغالب بل اليقين أن لا تُبنى إلا إلى جهة القِبْلة. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في اتِّخاذ المِحراب؛ هل هو سُنَّة؛ أم مستحبٌّ؛ أم مباح؟ والصَّحيح أنَّه مستحبٌّ، أي: لم تَرِدْ به السُّنَّة، لكن النُّصوص الشَّرعيَّة تدلُّ على استحبابه.
قوله: "ويُستدلُّ عليها في السَّفرِ بالقُطْبِ" ، هذا هو الثَّالث مما يُستدلُّ به على القِبْلة: القُطْب؛ وهذا دليل آفاقي، أي: دليل على الأُفق. والقُطْبُ: هو الشيء الذي تدور عليه الأشياء، وهو أصل الشيء، وهو نجم خفيٌّ جداً من جهة الشَّمال الشَّرقي بالنسبة لنا في "القصيم"، قال العلماء: لا يراه إلا حديد البَصَر في غير ليالي القمر، إذا كانت السماء صافية.
قوله: "والشمس والقمر"، هذا هو الرَّابع مما يستدلُّ به على القِبْلة؛ لأنَّ الشمس والقمر كلاهما يخرج من المشرق ويغرب من المغرب، فإذا كنت عن الكعبة غرباً فالقِبْلة شرقاً، وإذا كنت عن الكعبة شرقاً، فالقِبْلة غرباً، وإذا كنت عن الكعبة شمالاً فالقِبْلة جنوباً، وإذا كنت عن الكعبة جنوباً فالقِبْلة شمالاً.(1/209)
قوله: "ومنازلهما" ، أي: منازل الشمس والقمر، يعني: منازل النجوم الصيفيَّة والشتوية، وهي ثمان وعشرون منزلة ينزلها القمر كلَّ ليلة له منزلة منها، وليلتان أو ليلة واحدة يكون مستتراً لا يُرى، ولهذا تُسمَّى ليلة التاسع والعشرين والثلاثين، أو الثامن والعشرين والتاسع والعشرين "ليالي الاستسرار"، أي: أنَّ القمر يستتر فيها ولا يُرى. والثمان والعشرون منزلة هذه تنزلها الشمس على مدى سَنَة كاملة، أما القمر فيطوف بها خلال شهر، وفي السَّنَة اثنتي عشرة مَرَّة. أما الشمس فتطوف بها في السَّنَة مرَّة واحدة.
وكيف نستدلَّ بمنازلهما؟ الجواب: ننظر مثلاً إلى النجوم الشَّمالية التي تقسم المشرق نصفين والمغرب نصفين. والنُّجوم الجنوبية التي تقسم المشرق نصفين والمغرب نصفين. فالجنوبية من جهة الجنوب، والشمالية من جهة الشمال، لكن هذه لا يعرفها إلا من تَمَرَّسَ وكان في البَرِّ، وليس حوله أنوار كهرباء بحيث يعرف هذه النُّجوم، والذين يعرفونها يستطيعون أن يحكموا على الليل والنهار بالسَّاعات، بل بأقلَّ من السَّاعات، فيقولون: الآن ذهب من الليل نصفُه، ذهب رُبعُه، ذهب ثُمنُه، ذهب عُشرهُ، ويستدلُّون على ذلك بهذه المنازل.(1/210)
وقال بعضُ العلماء: يُستدلُّ أيضاً بالجبال الكِبَار. وقال بعضهم: يُستدلُّ بالأنهار ومصابِّها. وقال بعضهم: يُستدلُّ بالرِّياح. لكن هذه الثلاثة دلالتها خفيَّة، ولهذا أغفلها المؤلِّف ولم يذكرها، فإن من النَّاس من يكون عنده قوَّة إحساس؛ بحيث يقول لك: الهواءُ جنوبي، الهواءُ شرقي، الهواءُ غربي - ولو كان أعمى -، ويَستدلُّ بالرِّياح على الجهات. وفي زمننا هذا أنْعَمَ اللَّهُ بالآلات الدَّقيقة التي يُستدلُّ بها على جهة القِبْلة، بل إنني سمعت أنه يوجد آلات يُستدلُّ بها على عين القِبْلة؛ لأنهم يقولون: إن الكعبة هي مركز الكُرَة الأرضيَّة، وأنهم الآن توصَّلُوا إلى آلات دقيقة يكون اتجاهُها دائماً إلى مركز الأرض وهو وسطها.
قوله: "وَإنْ اجتَهَدَ مُجْتَهِدَانِ فَاخْتَلَفَا جِهَةً"، أي: بذلا الجُهد في معرفة القِبْلة. والمجتهد في جهة القِبْلة هو: الذي يعرف أدلَّتها.
وقوله: "فاختلفا جِهَةً"، أي: قال أحدُهما: إنَّ القِبْلة هنا؛ ويُشير إلى الشِّمال؛ والثَّاني يقول: القِبْلة هنا؛ ويشير إلى الجنوب، فلا يجوز أن يَتْبَعَ أحدُهما الآخر. لأنَّ كُلَّ واحد منهما يعتقد خطأ الآخر، وهذا فيما إذا كان الاختلاف في جهتين. أما إذا اختلفَا في جهةٍ واحدة؛ بأن اختلفا في الانحراف في جهة واحدة، فهنا لا بأس أن يَتْبَعَ أحدُهما الآخر، مثل: أن يتَّجِهَا إلى الجنوب لكن أحدهما يميل إلى الغرب، والآخر يميل إلى الشَّرق فلا يأس للذي يميل إلى الغرب أن يَتْبَع الذي يميل إلى الشَّرق، ويميل معه إلى الشَّرق أو العكس؛ لأن الانحراف في الجهة لا يضرُّ؛ ولا يُخِلُّ بالصَّلاة.(1/211)
قوله: "لم يَتْبَع أحدُهُما الآخر" ، المراد بالاتِّباع هنا في القِبْلة، فلا يجوز أن يَتْبَع أحدُهما الآخر؛ حتى ولو كان أعلمَ منه وأعرف، ما دام أنَّه خالفه، فإن كان المجتهدُ حين اجتهد؛ واجتهد الآخر الذي هو أعلمُ منه صار عنده تردُّد في اجتهاده، وغلبة ظنِّه في اجتهاد صاحبه. فعلى المذهب لا يتبعه؛ لأنهم يقولون: لا بُدَّ أن يكون خبر الثّقة عن يقين. والصَّحيح: أنه يَتْبَعه.
وقوله: "لم يَتْبَع أحدُهما الآخر" يشمل متابعة الائتمام، فلا يأتمُّ به؛ لأنَّ كُلَّ واحد منهما يعتقد أنَّ هذا أخطأ القِبْلة، فالإمام يرى أن القِبْلة جنوب، والمأموم يرى أن القِبْلة شمال؛ فيتَّجِه الإمامُ إلى الجنوب والمأموم إلى الشَّمال، فصار المأموم قد استدبر الإمام، فإذا ركع الإمامُ إلى الجنوب ركع المأموم إلى الشَّمال، وهذا تضادٌّ. والمقصود من الجماعة هو الائتلاف. وقال بعض أهل العلم: بل يجوز أن يتبعه في الائتمام، وإذا كانت الصَّلاة صلاةَ جماعة واجبة وجب أن يَتْبَعه ويأتمَّ به، لأن كلَّ واحد منهما يعتقد خطأ الآخر بالنسبة لاجتهاده، ويعتقد صوابه بالنسبة لاجتهاده نفسه،. وهذا القول أقرب للصَّواب.
قوله: "وَيَتْبَعُ المُقَلِّدُ أَوْثَقَهُمَا عِنْدَهُ" ، يعني: إذا اجتهد مجتهدان إلى القِبْلة؛ فقال: أحدهما: القِبْلة هنا وأشار إلى ناحية، وقال الثاني: القِبْلة هنا وأشار إلى ناحية مخالفة، وعندهما رجل ثالث فَيَتْبع أوثقهما، فإن تَبِعَ غير الأوثق مع وجود الأوثق، فصلاته باطلة؛ لأنه يعتقد بطلانها، ويكون كالمتلاعب في صلاته.(1/212)
قوله: "وَمَنْ صَلَّى بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيْدٍ قَضَى إنْ وَجَدَ مَنْ يُقَلِّدُه" ، يعني: "من صَلَّى بغير اجتهادٍ" إن كان يحسنه، "ولا تقليد" إن كان لا يُحسنه فإنه يقضي؛ لأنَّه لم يأتِ بما يجب عليه، فكان بذلك مفرِّطاً فوجب عليه القضاء. مثال ذلك: رَجُلٌ يُحسنُ الاجتهاد، ويعرف دلائل القِبْلَة بالقُطْبِ، أو الشمس، أو القمر، وصَلَّى بغير اجتهاد فإنه يجبُ عليه القَضاء.
وظاهر كلام المؤلِّف أنه يقضي ولو أصاب، وذلك لأنَّه لم يَقُمْ بالواجب عليه من الاجتهاد،وإصابته وقعت على سبيل الاتفاق، لا على سبيل الرُّكُون إلى هذه الجهة؛ لأنه لم يجتهد. كذلك لو كان ليس من أهل الاجتهاد، ففرضه التَّقليد، لكنَّه لم يُقلِّد، فلم يسأل أحداً من النَّاس وصَلَّى، فإنَّه يقضي ولو أصاب.وقال بعض العلماء: إنه إذا أصاب أجزأ، وإن أخطأ وجبت عليه الإعادة؛ لأنَّه لم يأتِ بما يجب عليه من السُّؤال ولا من الاجتهاد.وهذا القول أصح .
وهل الحضر محلٌّ للاجتهاد أم لا؟ الجواب: أمَّا المذهب عند الأصحاب فليس محلًّا للاجتهاد، ولا ريب أنَّ هذا القول ضعيف. والصَّواب: أنَّ الحضر والسَّفر كلاهما محلٌ للاجتهاد، وإذا اجتهد في الحضر فإنه تصحُّ صلاته، ولا إعادة عليه مطلقاً؛ سواء أصاب أم لم يصب.
مسألة : إذا كان من غير أهل الاجتهاد في الحضر، واستند إلى قول صاحب البيت، وتبيَّن أنَّ قول صاحب البيت خطأ، فالمذهب أنه يُعيد . والصَّحيح: أنه لا يُعيد.
قوله: "وَيَجْتَهِدُ العَارِفُ بِأَدِلَّةِ القِبْلَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ" ، هذا القول ضعيف . والصَّواب: أنه لا يلزمه أن يجتهد لكلِّ صلاة، ما لم يكن هناك سبب، مثل أن يطرأ عليه شَكٌّ في الاجتهاد الأوَّل، فحينئذ يعيد النَّظر، وسواءٌ كان الشَّكُّ بإثارة الغير أم بإثارة من نفسه.(1/213)
قوله: "وَيُصَلِّي بالثَّانِي، وَلَا يَقْضِي ما صَلَّى بالأَوَّلِ" ، "يُصلِّي" أي: المجتهد "بالثاني"، أي: بالاجتهاد الثاني "ولا يقضي ما صَلَّى بالأول" أي: إذا تبيَّن له خطؤه؛ لأن الأول مبنيٌّ على اجتهاد قد أتى الإنسان بما يجب عليه فيه.
قوله: "ومنها النِّيَّةُ" ، أي: ومن شروط الصَّلاة النيَّة. والنيَّة محلُّها القلب، وليست من أَعمال الجوارح، ولهذا نقول: إن التلفّظَ بها بدعة، فلا يُسَنُّ للإنسان إذا أراد عبادة أن يقول: اللهم إني نويت كذا؛ أو أردت كذا، لا جهراً ولا سِرًّا.
قوله: "فَيَجِبُ أنْ يَنْوِيَ عَيْنَ صَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ" ، أي: يجب على من أراد الصَّلاة أن ينويَ عينَها إذا كانت معيَّنة، مثل: لو أراد أن يُصلِّي الظُّهر يجب أن ينوي صلاةَ الظُّهر، أو أراد أن يُصلِّي الفجر فيجب أن ينويَ صلاة الفجر، أو أراد يُصلِّي الوِتر فيجب أن ينويَ صلاة الوِتر. فإن كانت غير معيَّنة كالنَّفل المطلق، فينوي أنه يريد أن يُصلِّي فقط بدون تعيين.(1/214)
وأفادنا المؤلِّف: أنه لا بُدَّ أن ينويَ عين المعيَّن كالظُّهر، فلو نوى فرض هذا الوقت أو الصَّلاة مطلقاً، كأن جاء إلى المسجد والنَّاسُ يُصلُّون، فدخل وغاب عن ذِهْنِه أنها الظُّهر أو العصر، أو أنها فرضٌ أو نَفْلٌ، فعلى كلام المؤلِّف: صلاتُه غير صحيحة؛ لأنه لم ينوِ الصَّلاة المعيَّنة، وتصحُّ على أنها صلاةٌ يؤجَرُ عليها. وقيل: لا يُشترط تعيين المعيَّنة، فيكفي أن ينويَ الصلاة؛ وتتعيَّن الصلاة بتعيُّن الوقت، فإذا توضَّأ لصلاة الظُّهر ثم صَلَّى، وغاب عن ذهنه أنَّها الظُّهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فالصَّلاة صحيحة؛ لأنه لو سُئِل: ماذا تريد بهذه الصَّلاة؟ لقال: أريد الظُّهر، فيُحمل على ما كان فرضَ الوقت، وهذا القول هو الذي لا يسعُ النَّاس العمل إلا به؛ لأن كثيراً من الناس يتوضَّأ ويأتي ليُصلِّي، ويغيب عن ذهنه أنها الظُّهر أو العصر، ولا سيَّما إذا جاء والإمام راكع؛ فإنه يغيب عنه ذلك لحرصه على إدراك الرُّكوع.
ويَنْبَني على هذا الخلاف: لو كان على الإنسان صلاة رباعية؛ لكن لا يدري هل هي الظُّهر أو العصر أو العشاء؟ فصلَّى أربعاً بنيَّة الواجب عليه، فعلى القول بأنه لا يجب التعيين: تصحُّ، وتكون عن الصلاة المفروضة التي عليه. وعلى القول بوجوب التَّعيين: لا تصحُّ؛ لأنه لم يعيِّنها ظُهراً ولا عصراً ولا عشاءً، وعليه؛ لا بُدَّ أن يُصلِّي أربعاً بنيَّة الظُّهر، ثم أربعاً بنيَّة العصر، ثم أربعاً بنية العشاء. والذي يترجَّحُ عندي: القول بأنه لا يُشترط التَّعيين، وأن الوقت هو الذي يُعيِّنُ الصَّلاة، وأنه يصحُّ أن يُصلِّي أربعاً بنيَّة ما يجب عليه، وإنْ لم يعينه، فلو قال: عليَّ صلاة رباعيَّة لكن لا أدري: أهي الظُّهر أم العصر أم العشاء؟ قلنا: صَلِّ أربعاً بنيَّة ما عليك وتبرأ بذلك ذِمَّتُك.(1/215)
وعليه؛ فلو قال: أنا عليَّ صلاة من يوم؛ ولا أدري: أهيَ الفجر؛ أم الظُّهر؛ أم العصر؛ أم المغرب؛ أم العشاء؟ فعلى القول بعدم اشتراط التَّعيين نقول: صَلِّ أربعاً وثلاثاً واثنتين، أربعاً تجزئ عن الظُّهر أو العصر أو العشاء، وثلاثاً عن المغرب، واثنتين عن الفجر. وعلى القول الثَّاني: يُصلِّي خمس صلوات؛ لأنه يُحتمل أنَّ هذه الصَّلاة الظُّهر؛ أو العصر؛ أو المغرب؛ أو العشاء؛ أو الفجر، فيجب عليه أن يحتاط ليبرئَ ذِمَّته بيقين ويُصلِّي خمساً.
قوله: "ولا يُشترطُ في الفرضِ، والأداءِ، والقضاءِ، والنَّفلِ، والإعادةِ نيَّتَهُنَّ" ، أي: لا يُشترط في الفرض نيَّة الفرض، والأداء والقضاء والنَّفْل والإعادة نيَّتهُنَّ اكتفاء بالتعيين. فمثلاً: إذا نوى أنها صلاة الظُّهر، لا يُشترط أن ينوي أنها فرض؛ لأن نيَّة الظُّهر تتضمَّن نيَّة الفرض، فإن صلاة الظُّهر فرض. ولذلك قال: "لا يُشترط في الفرض نيَّة الفرض"، ولا يُشترط أيضاً في الأداء نيَّته، والأداء ما فُعل في وقته؛ لأنه متى صَلَّى في الوقت فهي أداء.
ولا يُشترط في القضاء نيَّة القضاء. والقضاء: هو الذي فُعِلَ بعد وقته المحدَّد له شرعاً؛ كصلاة الظُّهر إذا نام عنها حتى دخل وقتُ العصر، فصَلَّى الظُّهر، فهذه قضاء؛ لأنها فُعِلت بعد الوقت. ولا يُشترط مع نيَّة الظُّهر أن ينويَ أنَّها قضاء؛ لأن صلاتها بعد الوقت يكفي عن نيَّة القضاء.(1/216)
وقوله: "النَّفْل"، يعني: في النَّفْل المطلق، أو النَّفْل المعيَّن أن ينويه نفلاً. أما في النَّفْل المعيَّن فالتعيين يكفي. مثال ذلك: إذا أراد أن يوتر، لا يُشترط أن ينويَ أنه نَفْل، وإذا أراد أن يُصلِّيَ راتبة الظُّهر مثلاً، لا يُشترط أن ينويها نَفْلاً؛ لأن تعيينها يكفي عن النَّفل، ما دام أنه قد نوى أنَّها راتبة الظُّهر، فإن راتبة الظُّهر نَفْل، وما دام أنه نوى الوِتر فإن الوِتر نَفْل. وكذلك النَّفْل المطلق لا يُشترط أن ينويه نَفْلاً. مثال ذلك: قام يُصلِّي من الليل، فلا حاجة أن ينويَ أنها نَفْل؛ لأنَّ ما عدا الصَّلوات الخمس نَفْل.
وقوله: "الإعادة"، أي: لا يُشترط في الإعادة نيَّة الإعادة. والإعادة: ما فُعِلَ في وقته مرَّة ثانية، سواء كان لبطلان الأُولى أم لغير بُطلانها. فمثلاً: إذا صَلَّى الظُّهر؛ ثم ذكر أنه محدث، فتجب عليه الإعادة ولا يجب أن ينويَ أنها إعادة. ومثلاً: إذا صَلَّى الظُّهر في مسجد ثم حضر إلى مسجد ثانٍ وأُقيمت الصَّلاة؛ فيُشرع أن يعيدَ، ولا يُشترط أن ينويَ أنها إعادة؛ لأنَّه قد فعل الأُولى، واعتقد أن هذه الثانية نَفْلٌ فلا يُشترط أن ينويها مُعَادة.
قوله: "وَيَنْوِي مَعَ التَّحْرِيمَةِ" ، ذكر المؤلِّف هنا محلَّ النيَّة متى تكون؟ الأَوْلَى أن تكون مقارِنَةً للتَّحريمة أو قبلها بيسير؛ ولهذا قال: "ينوي مع التَّحريمة"، أي: يجعل النيَّة مقارنة لتكبيرة الإحرام، فإذا أراد أن يكبِّر كبَّر وهو ينوي في نفس التَّكبير أنها صلاة الظُّهر مثلاً.(1/217)
قوله: "وَلَهُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا بِزَمنٍ يَسيرٍ في الوقْتِ"، أي: له أن يقدِّم النيَّة قبل التَّحريمة لكن بزمنٍ يسير، وشرط آخر "في الوقت"، فلو نوى الصَّلاة قبل دخول وقتها، ولو بزمنٍ يسير، ثم دخل الوقت وصَلَّى بلا تجديد نيَّة، فصلاتُه غيرُ صحيحة؛ لأن النيَّة سبقت الوقت، وإن نوى في الوقت ثم تشاغل بشيء في زمن يسير، ثم كبَّر، فصلاتُه صحيحة؛ لأنَّ الزَّمن يسير، فإن طال الوقت فظاهر كلام المؤلِّف أنَّ النيَّة لا تصحُّ؛ لوجود الفصل بينها وبين المنوي. وقال بعض العلماء: بل تصحُّ ما لم ينوِ فَسْخَها. وهذا القول أصحُّ .
قوله: "فإنْ قَطَعَهَا في أَثْنَاءِ الصَّلاةِ، أوْ تَرَدَّدَ بَطَلَتْ"، "فإن قطعها" أي: النيَّة "في أثناء الصَّلاة أو تردَّد بطلت"، أي: إذا قطعها في أثناء الصَّلاة بطلت صلاتُه. مثاله: رَجُلٌ قام يتنفَّل، ثم ذكر أن له شُغلاً فقطع النيَّة، فإن الصَّلاة تبطل ولا شكَّ.
وقوله: "أو تردَّد"، أي: تردَّد في القطع. مثاله: سمع قارعاً يقرع الباب فتردَّد؛ أأقطعُ الصلاةَ أو أستمرُّ؟ يقول المؤلِّف: إن الصلاة تبطل، وإن لم يعزم على القطع. وقال بعض أهل العلم: إنها لا تبطل بالتردُّد؛ وذلك لأن الأصل بقاء النيَّة، والتردُّد هذا لا يبطلها، وهذا القول هو الصَّحيح.
مسألة : إذا عزم على مبطل ولم يفعله، مثاله: عزم على أن يتكلَّم في صلاته ولم يتكلَّم، عزم على أن يُحْدِث ولم يُحْدِث، فقال بعض العلماء: إنها تبطل، لأن العزمَ على المفسد عزمٌ على قطع الصَّلاة، والعزمُ على قطع الصَّلاة مبطلٌ لها. ولكن المذهب: أنها لا تبطل بالعزم على فعل مبطل إلا إذا فعله؛ لأن البطلان متعلِّق بفعل المبطل، ولم يوجد، وهو الصَّحيح.(1/218)
ولو علَّق القطعَ على شرطٍ فقال: إن كلَّمني زيد قطعت النيَّة أو أبطلت صلاتي؟ فإنها تبطل على كلام الفقهاء، والصَّحيح أنها لا تبطل؛ لأنه قد يعزم على أنه إنْ كلَّمه زيد تكلَّم؛ ولكنه يرجع عن هذا العزم.
قوله: "وإذا شَكَّ فيها استأنفَها" ، أي: إذا شكَّ هل نوى أم لم ينوِ، فإنه يستأنفها؛ أي: الصَّلاة؛ وذلك لأنَّ الأصل العدم. لكن على كلام المؤلِّف: يقيَّد بما إذا لم يكن كثير الشُّكوك، فإذا كان كثيرَ الشُّكوك بحيث لا يتوضَّأ إلا شكَّ، ولا يصلِّي إلا شَكَّ، فإن هذا لا عِبْرَة بشكِّه، لأن شكَّه حينئذ يكون وسواساً.
مسألة : لو تيقَّن النيَّة وشكَّ في التَّعيين، فإن كان كثيرَ الشُّكوك فلا عِبْرة بشكِّه، ويستمرُّ في صلاته، وإن لم يكن كثيرَ الشُّكوك؛ لم تصحَّ صلاتُه عن المعينة؛ إلا على قول من لا يشترط التعيين، ويكتفي بنيَّة صلاة الوقت.
قوله: "وَإِنْ قَلَبَ مُنْفَردٌ فَرْضَهُ نَفْلاً في وَقْتِه المُتَّسع جَازَ" ، شرع المؤلِّف في بيان حكم الانتقال من نيَّة إلى نيَّة، والانتقال من نيَّة إلى نيَّة له صُور متعددة: منها: ما ذكره المؤلِّف: "قَلَبَ منفردٌ فرضَه نَفْلاً في وقته المتَّسع جاز". مثال ذلك: دخل رَجُلٌ في صلاة الظُّهر وهو منفرد، وفي أثناء الصَّلاة قَلَبَ الفرض إلى نَفْلٍ، فهذا جائز؛ بشرط أن يكون الوقت متَّسعاً للصلاة، فإن كان الوقت ضيِّقاً؛ بحيث لم يبقَ منه إلا مقدار أربع ركعات فإن هذا الانتقال لا يصحُّ؛ لأن الوقت الباقي تعيَّن للفريضة .(1/219)
وقول المؤلِّف: "وإن قَلَبَ منفردٌ" خرج بذلك المأموم، وخرج بذلك الإمام، فظاهر كلام المؤلِّف: أن المأموم لا يصحُّ أن يقلب فرضه نَفْلاً، وأنَّ الإمام لا يصحُّ أن يقلب فرضه نَفْلاً؛ لأن المأموم لو قَلَب فرضه نَفْلاً فاتته صلاة الجماعة في الفرض، وصلاة الجماعة في الفرض واجبة، وحينئذ يكون انتقاله من الفريضة إلى النَّفْل سبباً لفوات هذا الواجب، فلا يحلُّ له أن يقلب فرضه نَفْلاً، ولأن الإمام إذا قلب فرضه نَفْلاً لزم من ذلك أن يأتمَّ المأموم المفترض بالإمام المتنفِّل، وائتمام المفترض بالمتنفِّل غير صحيح. فيلزم أن تبطل بذلك صلاة المأموم، فيكون في هذا عُدوان على غيره.
فإن قيل: هل قَلْبُ الفرض إلى نَفْل، مستحبٌّ أم مكروه؟ أم مستوي الطرفين؟ فالجواب: أنه مستحبٌّ في بعض الصُّور، وذلك فيما إذا شَرَع في الفريضة منفرداً ثم حضر جماعة؛ ففي هذه الحال هو بين أمور ثلاثة: إمَّا أن يستمرَّ في صلاته يؤدِّيها فريضة منفرداً، ولا يُصلِّي مع الجماعة الذين حضروا، وإمَّا أن يقطعها ويُصلِّي مع الجماعة، وإما أن يقلبها نَفْلاً فيكمل ركعتين، وإن كان صَلَّى ركعتين، وهو في التشهد الأوَّل فإنه يتمُّه ويُسلِّم، ويحصُل على نافلة، ثم يدخل مع الجماعة، فهنا الانتقال من الفرض إلى النَّفْل مستحبٌّ من أجل تحصيل الجماعة، مع إتمام الصلاة نَفْلاً، فإن خاف أن تفوته الجماعة فالأفضل أن يقطعها من أجل أن يُدرك الجماعة.
وقد يقول قائل: كيف يقطعها وقد دخل في فريضة، وقطع الفريضة حرام؟ فنقول: هو حرامٌ إذا قطعها ليترُكَهَا، أما إذا قطعها لينتقل إلى أفضل، فإنه لا يكون حراماً، بل قد يكون مأموراً به.(1/220)
قوله: "وَإنِ انْتَقَلَ بِنِيَّةٍ مِنْ فَرْضٍ إلى فَرْضٍ بَطَلا" ، هذه هي الصورة الثانية من صور الانتقال من نيَّة إلى نية، وهي أن ينتقل من فرض إلى آخر. مثال ذلك: شَرَعَ يُصلِّي العصر، ثم ذكر أنه صَلَّى الظُّهر على غير وُضُوء؛ فنوى أنها الظُّهر، فلا تصحُّ صلاة العصر، ولا صلاة الظُّهر؛ لأن الفرض الذي انتقل منه قد أبطله، والفرض الذي انتقل إليه لم ينوِه من أوِّلهِ.
وقوله: "بنيَّة" خرج ما لو انتقل من فرض إلى فرض بتحريمة، والتَّحريمة بالقول، ففي المثال الذي ذكرنا ذكر أنه صَلَّى الظُّهر على حَدَث فانتقل من العصر وكبَّر للظُّهر؟ نقول: بطلت صلاةُ العصر؛ لأنه قطعها وصحَّت الظُّهر؛ لأنه ابتدأها من أوَّلها، ولهذا قيَّده المؤلِّف بقوله: "بنيَّة"، أي: لا بتحريمة.
وعُلِمَ من قول المؤلِّف: "انتقل من فرض إلى فرض"، أنَّه إن انتقل من نَفْل إلى نَفْل لم يبطلا، وهذه الصُّورة الثالثة، لكن هذا غير مُراد على إطلاقه؛ لأنَّه إذا انتقل من نَفْل معيَّن إلى نَفْل معيَّن؛ فالحكم كما لو انتقل من فَرْض إلى فَرْض، فلو انتقل مثلاً من راتبة العشاء إلى الوِتر، فالرَّاتبة معيَّنة والوِتر معيَّنة، بطل الأول ولم ينعقد الثاني؛ لأن الانتقال من معيَّن إلى معيَّن يُبطل الأول ولا ينعقد به الثَّاني، سواء أكان فريضة أم نافلة. وإن انتقل من فَرض معيَّن، أو من نَفْل معيَّن إلى نَفْل مطلق؛ صحَّ. وهذه الصُّورة الرابعة، لكن يُشترط في الفرض أن يكون الوقت متَّسعاً.(1/221)
قوله: "وَيَجِبُ نيَّةُ الإمَامَةِ والائتِمَام" ، أي الإمام أن ينوِي الإمام الإمامةَ , وينوي المأموم الائتمام. ولا شكَّ أن هذا شرط لحصول ثواب الجماعة لهما، فلا ينال ثواب الجماعة إلا بنيَّة الإمام الإمامةَ، ونيَّة المأموم الائتمامَ، لكن هل هو شرط لصحَّة الصلاة؟ كلام المؤلِّف صريحٌ في أنَّه شرط لصحَّة الصَّلاة، وأن الإمام إذا لم ينوِ الإمامةَ أو المأموم لم ينوِ الائتمام فصلاتُهما باطلة، لكن في المسألة خلاف يتبيَّن في الصُّور الآتية:
الصُّورة الأولى: أن ينويَ الإمامُ أنه مأموم، والمأموم أنه إمام، فهذه لا تصحُّ.
الصُّورة الثانية: أن ينويَ كلُّ واحد منهما أنه إمام للآخر، وهذه أيضاً لا تصحُّ.
الصُّورة الثالثة: أن ينويَ كلُّ واحد منهما أنه مأموم للآخر، فهذه أيضاً لا تصحُّ.
الصُّورة الرابعة: أن ينويَ المأمومُ الائتمامَ، ولا ينويَ الإمامُ الإمامة فلا تصحّ؛ صلاة المؤتمِّ وحدَه، وتصحُّ صلاة الأول. مثاله: أن يأتي شخصٌ إلى إنسان يُصلِّي فيقتدي به على أنه إمامه، والأول لم ينوِ أنه إمام؛ فتصحُّ صلاة الأوَّل دون الثَّاني؛ لأنَّه نوى الائتمام بمن لم يكن إماماً له. هذا المذهب، وهو من المفردات كما في "الإنصاف". والقول الثاني في المسألة: أنَّه يصحُّ أن يأتمَّ الإنسان بشخص لم ينوِ الإمامة. وهذا قول الإمام مالك وهو أصحُّ ، وفي هذه الحال يكون للمأموم ثواب الجماعة، ولا يكون للإمام؛ لأن المأموم نوى فكان له ما نوى، والإمام لم ينوِ فلا يحصُل له ما لم ينوه.
الصُّورة الخامسة: أن ينويَ الإمامُ دون المأموم، كرَجُلٍ جاء إلى جَنْبِ رَجُل وكبَّر، فظنَّ الأول أنه يريد أن يكون مأموماً به فنوى الإمامة، وهذا الرَّجُل لم ينوِ الائتمام، فهنا لا يحصُل ثواب الجماعة لا للإمام ولا للمأموم . ولو قال قائلٌ بحصول الثواب للإمام في هذه الصُّورة لم يكن بعيداً .(1/222)
الصُّورة السادسة: أن يتابعه دُون نيَّة، وهذه لا يحصُل بها ثواب الجماعة لمن لم ينوِها؛ وصورتها ممكنة فيما لو أنَّ شخصاً صَلَّى وراء إمام لا تصحُّ صلاتُه، لكن تابعه حياءً دون نيَّة أنه مأموم، أو يُحْدِث وهو مأموم، ويخجل أن ينطلق ليتوضَّأ فيتابع مع النَّاس، وهو لم ينوِ الصَّلاة لأنه محدث، وهذه تقع مع أن هذا لا يجوز، والواجب أن ينصرف فيتوضَّأ ثم يستأنف الصَّلاة.
ثم ذكر المصنف أنواع الانتقالات في النيَّة.
النوع الأول: ما ذكره في قوله: "وَإنْ نَوَى المُنْفَردُ الائْتِمَامَ لَمْ تَصِحَّ" ، يعني: إذا انتقل من انفراد إلى ائتمام لا تصحُّ الصلاة. مثاله: شخصٌ ابتدأ صلاته منفرداً؛ ثم حضرت جماعة فصلُّوا جماعة؛ فانتقل من انفراده إلى الائتمام بالإمام الذي حضر، فإن صلاتَه لا تصحُّ، وهذا هو المذهب. والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد: أنه يصحُّ أن ينويَ المنفرد الائتمام ، وهذا هو الصَّحيح.
فإذا قال قائل: على القول بالصِّحَّة، إذا كان قد صَلَّى بعضَ الصلاة، وحضر هؤلاء لأداء الجماعة مثلاً في صلاة الظُّهر، وكان قد صَلَّى ركعتين قبل حضورهم، فلما حضروا دخل معهم، فسوف تتمُّ صلاته إذا صَلُّوا ركعتين، فماذا يصنع؟ فالجواب: يجلس ولا يتابع الإمام؛ لأنه لو تابع الإمام للزم أن يُصلِّي ستًّا، وهذا لا يجوز، فيجلس وينتظر الإمام ويُسلِّم معه، وإن شاء نوى الانفراد وسلَّم، فهو بالخيار.
النوع الثاني: الانتقال من انفراد إلى إمامة، وقد ذكره بقوله: "كنيَّة إمامته فرضاً" ، أي: كما لا يصحُّ أن ينتقل المنفرد إلى إمامة في صلاة الفرض. مثاله: رَجُلٌ ابتدأ الصَّلاة منفرداً، ثم حضر شخصٌ أو أكثر فقالوا: صلِّ بنا، فنوى أن يكون إماماً لهم، فقد انتقل من انفراد إلى إمامة، فلا يصحُّ؛ لأنه انتقل من نيَّة إلى نيَّة، فتبطل الصَّلاة كما لو انتقل من فَرْض إلى فَرْض.(1/223)
وعُلِمَ من قول المؤلِّف: "كنيَّة إمامته فرضاً"، أنه لو انتقل المنفردُ إلى الإمامة في نَفْل فإن صلاته تصحُّ. والقول الثاني في المسألة: أنه يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى إمامة في الفرض والنَّفْل. والقول الثَّالث في المسألة: أنه لا يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى إمامة؛ لا في الفرض ولا في النَّفْل، كما لا يصحُّ أن ينتقل من انفراد إلى ائتمام لا في الفرض ولا في النَّفْل، وهذا هو المذهب. والصَّحيح: أنه يصحُّ في الفرض والنَّفْل.
النوع الثالث: من الانتقالات: ما ذكره المؤلِّف بقوله:وَإِنْ انْفَرَدَ مُؤْتَمٌّ بلا عُذْرٍ بَطَلتْ" ، وهذا يُعَبَّر عنه بالانتقال من ائتمام إلى انفراد، وفي هذا تفصيل: إن كان هناك عُذْر جاز، وإن لم يكن عُذْر لم يَجُزْ. مثال العُذْر: تطويل الإمام تطويلاً زائداً على السُّنَّة، فإنه يجوز للمأموم أن ينفرد. ومن الأعذار أيضاً: أن يطرأ عليه احتباسُ البول أو الغائط فيُحصر ببول أو غائط. لكن إذا قُدِّرَ أنه لا يستفيد من مفارقة الإمام شيئاً؛ لأن الإمام يخفِّف، ولو خفَّف أكثر من تخفيف الإمام لم تحصُل الطُّمأنينة فلا يجوز أن ينفردَ؛ لأنه لا يستفيد شيئاً بهذا الانفراد. ومن الأعذار أيضاً: أن تكون صلاة المأموم أقلَّ من صلاة الإمام، مثل: أن يُصلِّي المغرب خلف من يصلِّي العشاء على القول بالجواز؛ فإنه في هذه الحال له أن ينفرد ويقرأ التشهد ويُسَلِّمَ وينصرف، أو يدخل مع الإمام إذا كان يريد أن يجمع مع الإمام فيما بقي من صلاة العشاء، ثم يُتمُّ بعد سلامه. وهذا القولُ رواية عن الإمام أحمد رحمه الله. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الحقُّ .(1/224)
وإن انفرد بلا عُذر؛ فصريح كلام المؤلِّف أنها تبطل، وهو المذهب، والقول الثاني: أنها لا تبطل، لكن إن قلنا به فيجب أن يقيَّد بما إذا أدرك الجماعة بأن يكون قد صَلَّى مع الإمام رَكعةً فأكثر، أما إذا لم يكن أدرك الجماعة فإنه لا يَحِلُّ له الانفراد؛ لأنه يُفضي إلى ترك الجماعة بلا عُذر، لكن لو صَلَّى ركعةً، ثم أراد أن ينفرد فإنه حينئذ يجوز له، لكن القول بجواز الانفراد بلا عُذر في النَّفس منه شيء، أما مع العُذر الحسِّي أو الشرعي فلا شَكَّ في جوازه.
مسألة : إذا انفردَ المأمومُ لِعُذر؛ ثم زال العُذرُ، فهل له أنْ يرجعَ مع الإمام أو يستمرَّ على انفراده؟ قال الفقهاء: يجوزُ أنْ يرجعَ مع الإمام، وأن يستمرَّ على انفراده. فإذا قدرنا أنه انفردَ وصَلَّى ركعةً؛ ثم رجع مع إمامه، والإمامُ لم يزل في ركعته التي انفرد عنه فيها، فسيكون الإمام ناقصاً عنه بركعة. فإذا قام الإمام ليكمل صلاته فله أن يجلسَ وينتظره، أو ينفردَ ويتمَّ. وهذا يَرِدُ أحياناً فيما إذا سَلَّم الإمام قبل تمام صَلاتِهِ، ثم قام المأمومُ المسبوق ليقضيَ ما فاته، ثم قيل للإمام: إنه بقي عليه رَكعة، فقامَ الإمامُ ليُكملَ هذه الرَّكعة. فنقول: إنَّ المأموم انفردَ الآن بمقتضى الدَّليل الشَّرعيِّ، فهو معذورٌ في هذا الانفراد، فإذا عادَ الإمامُ لإكمال صلاته فهو بالخِيار، إنْ شاء استمرَّ في صلاته، وإنْ شاء رجعَ مع الإمام.
النوع الرابع: الانتقال من إمامة إلى انفراد، وهذا لم يذكره المؤلِّف، وله صُورتان:
الأُولى: أنْ تَبْطُلَ صلاة المأموم، بأن تكون الجماعة من إمام ومأموم؛ فتَبْطُل صلاة المأموم، فهنا يتعيَّن أن ينتقل من إمامة إلى انفراد؛ لأن مأمومه بطلت صلاتُه.(1/225)
الصُّورة الثانية: أنْ ينفردَ المأموم عن الإمام لعُذر؛ فهنا ينتقل من إمامة إلى انفراد؛ بأن يكون للمأموم عُذر شرعيٌّ أو حسيٌّ؛ فينفرد عن إمامه، ويبقى الإمامُ وحدَه، فهنا يكون قد انتقل من إمامة إلى انفراد.
النوع الخامس: الانتقالُ من إمامة إلى ائتمام، وقد ذكره في قوله: "وإِنْ أَحْرَمَ إِمَامُ الحَيِّ بِمَنْ أَحْرَمَ بِهِمْ نَائِبُهُ وَعَادَ النَّائِبُ مُؤْتَمّاً صَحَّ" ، إمام الحيِّ هو الإمام الرَّاتب. وصورة ما ذكر المؤلِّف: أحرمَ شخصٌ بقوم نائباً عن إمام الحَيِّ الذي تخلَّف، ثم حضر إمامُ الحيِّ، فتقدَّم ليُكمل بالنَّاس صلاة الجماعة، فنائبه يتأخَّر إنْ وجد مكاناً في الصَّفِّ، وإلا بقي عن يمين الإمام، فهنا ينتقل الإمام النَّائب من إمامة إلى ائتمام، وهذا جائز.
وقول المؤلِّف: "وإن أحرم إمامُ الحيِّ بمَنْ أحرم بهم نائبُه" ظاهره: أنه لو وقع ذلك لغير إمام الحيِّ لم يصحَّ؛ لأن إمام الحيِّ هو الأصل في الإمامة؛ فإمامته رجوع إلى الأصل بخلاف غيره، ولكن الظاهر أنه لا فرق إذا كان للإمام الثاني مزيَّة حُسْن القراءة، أو زيادة في العِلْم؛ أو العبادة، فإن لم يكن له مزيَّة لم يصحَّ.
النوع السَّادس: الانتقال من ائتمام إلى إمامة، أي: كان مؤتمّاً ثم صار إماماً، وله صُور منها.
الصُّورة الأُولى: أن يُنيبه الإمام في أثناء الصَّلاة؛ بأن يُحسَّ الإمام أن صلاته ستبطل؛ لكونه أحسَّ بانتقال البول مثلاً، وعرف أنه سيخرج، فقدَّم شخصاً يُكمل بهم الصلاة، فقد عاد المؤتمُّ إماماً، وهذا جائز.(1/226)
الصُّورة الثَّانية: دخل اثنان مسبوقان، فقال أحدُهما للآخر: إذا سلَّم الإمامُ فأنا إمامُك؛ فقال: لا بأس، فلما سلَّمَ الإمامُ صار أحد الاثنين إماماً للآخر، فقد انتقل هذا الشَّخص من ائتمام إلى إمامة، وانتقل الثَّاني من إمامة شخص إلى إمامة شخص آخر. فالمذهب: أن هذا جائز؛ وأنه لا بأس أن يتَّفق اثنان دخلا وهما مسبوقان ببعض الصَّلاة على أن يكون أحدُهما إماماً للآخر. وقال بعض أصحاب الإمام أحمد: إن هذا لا يجوز. ولكن القائلين بجوازه لا يقولون: إنه مطلوب من المسبوقين أن يتَّفِقَا على أن يكون أحدهما إماماً. بل يقولون: هذا إذا فُعل فهو جائز، وفرق بين أن يُقال: إنه جائز وبين أن يُقال بأنه مستحبٌّ ومشروع، فلا نقول بمشروعيَّته ولا نندب النَّاس إذا دخلوا؛ وقد فاتهم شيء من الصَّلاة؛ أن يقول أحدُهم: إني إمامُكم. لكن لو فعلوا ذلك فلا نقول: إن صلاتَكم باطلة. وهذا القول أصحُّ، أي: أنه جائز، ولكن لا ينبغي.
قوله: "وتَبْطُلُ صَلَاةُ مَأْمُومٍ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ إِمَامِهِ فَلا اسْتِخْلَافٍ". صلاةُ المأموم مرتبطة بصلاة الإمام، ولهذا يتحمَّل الإمام عن المأموم أشياء كثيرة منها: التَّشهُّد الأوَّل إذا قام الإمام عنه ناسياً؛ فإن المأموم يلزمه أن يتابع إمامه. ومنها: الجلوس الذي يُسمَّى جلسة الاستراحة، فإن الإمام يتحمَّلها عن المأموم، فإذا كان الإمامُ لا يجلس فإن المشروع في حَقِّ المأموم ألا يجلس.
أما الشيء الذي لا يقتضي التَّأخُّر عن الإمام ولا التَّقدُّم عليه، فهذا يأخذ المأموم بما يراه. مثاله: لو كان الإمام لا يرى رفع اليدين عند التَّكبير للرُّكوع، والرَّفع منه، والقيام من التَّشهد الأوَّل، والمأموم يرى أن ذلك مستحبٌّ، فإنه يفعل ذلك؛ لأنه لا يستلزم تأخراً عن الإمام ولا تقدُّماً عليه.(1/227)
ويتحمَّل الإمام عن المأموم سُجود السَّهو؛ بشرط أن يدخل المأموم مع الإمام من أوَّل الصلاة، فلو قُدِّرَ أن المأموم جلس للتَّشهُّد الأوَّل، وظَنَّ أنه بين السَّجدتين، فصار يقول: "رَبِّ اغفرْ لي وارحمني" فقام مع إمامه، فهنا يتحمَّل عنه الإمامُ سجود السَّهو؛ إن كان لم يَفُتْهُ شيء من الصَّلاة؛ وذلك لأنه لو سجد في هذه الحال لأدَّى إلى مخالفة الإمام، أما لو فاته شيء من الصلاة فإن الإمام لا يتحمَّل عنه. ومن ذلك: أن الإمام يتحمَّل عن المأموم قراءة غير الفاتحة في الصَّلاة التي تُشرع فيها قراءة زائدة على الفاتحة في الجهرية. ومنها السُّترة؛ فإن سُترة الإمام سُترة للمأموم. وبناءً على هذا الارتباطِ بين صلاة الإمام والمأموم قال الأصحابُ: إنَّ صلاة المأموم تبطل بصلاة الإمام، أي: إذا حَدَثَ للإمام ما يُبطل صلاته بطلت صلاتُه وصلاة المأمومين، وإن لم يوجد منهم مبطل، ولا يُستثنى من ذلك شيء، إلا إذا صَلَّى الإمام مُحْدثاً ونسيَ، أو جهل ولم يعلم بالحَدَث، أو لم يذكر الحدث إلا بعد السَّلام، فإنه في هذه الحال يلزم الإمام إعادة الصلاة، ولا يلزم المأموم إعادتها حتى على المذهب.
وعلى هذا؛ فيقول المؤلِّف: "فلا استخلاف" ، أي: فلا يستخلف الإمام من يتمُّ بهم الصلاة إذا بطلت صلاته . والقول الثاني في المذهب الذي اختاره شيخ الإسلام وجماعة من أهل العلم : أنه يستخلف ، وأن صلاة المأموم لا تبطل بصلاة الإمام ، بل إذا بطلت صلاةُ الإمام بطلت صلاته فقط ، وبقيت صلاةُ المأموم صحيحة ، وهذا القول هو الصَّحيح.(1/228)
وبناءً على هذا القول؛ فإنه إذا سبق الإمامَ الحَدَثُ، أو ذَكَرَ أنه ليس على وُضُوء، فإنه يقدِّم أحدَ المأمومين ليتمَّ بهم الصَّلاة، ولا يَحِلُّ له أن يقول لهم: استأنفوا الصَّلاة، فإن لم يستخلفْ فلهم أن يقدِّموا أحدَهم ليتمَّ بهم الصَّلاة، فإن لم يفعلوا أتمُّوها فُرادى، ولكن الأَوْلَى أن يستخلفَ؛ لئلا يحصُل عليهم تشويش.
تنبيه: ليس هناك شيءٌ تبطلُ به صلاةُ المأموم ببطلان صلاة الإمام على القول الرَّاجح؛ إلا فيما يقوم فيه الإمامُ مقامَ المأموم، والذي يقوم فيه الإمامُ مقامَ المأموم هو الذي إذا اختلَّ اختلت بسببه صلاةُ المأموم؛ لأنَّ ذلك الفعل من الإمام للإمام وللمأمومين، مثل: السُّترة؛ فالسُّترة للإمام سُتْرَة لمن خلفه، فإذا مرَّت امرأة بين الإمام وسُترته بطلت صلاة الإمام وبطلت صلاة المأموم؛ لأنَّ هذه السُّترة مشتركة، ولهذا لا نأمر المأموم أن يتَّخِذَ سُترة، بل لو اتَّخذ سُترة لعُدَّ متنطِّعاً مبتدعاً، فصار انتهاك السُّترة في حَقِّ الإمام انتهاكاً في حَقِّ المأموم، فبطلت صلاة المأموم كما بطلت صلاة الإمام. وهنا قاعدة مهمَّة وهي: أنَّ من دخل في عبادة فأدَّاها كما أُمِرَ؛ فإننا لا نُبْطِلُها إلا بدليل؛ لأن الأصلَ الصِّحةُ وإبراءُ الذِّمة؛ حتى يقوم دليل البطلان.
باب صفة الصلاة
صِفةُ الصَّلاة: أي: الكيفية التي تكون عليها.
قوله: "يُسنُّ القيامُ عند قد من إقامتها" . أي: يُسنُّ للمأموم أن يقوم إذا قال المقيم: "قد" من "قد قامت الصلاة"، والسُّنَّة لم تردْ محدِّدة لموضع القيام؛ إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أُقِيمَت الصلاةُ فلا تقوموا حتى تَرَوْنِي" . فإذا كانت السُّنَّةُ غيرَ محدِّدة للقيام؛ كان القيامُ عند أوَّل الإِقامة، أو في أثنائها، أو عند انتهائها، كلُّ ذلك جائز.
المهمُّ: أن تكون متهيِّئاً للدُّخول في الصلاة قبل تكبيرةِ الإمامِ؛ لئلا تفوتك تكبيرةُ الإِحرام.(1/229)
قوله: "وتسويةُ الصفِّ" يعني: تُسنُّ تسويةُ الصَّفِّ؛ وذهب بعضُ أهل العِلم إلى وجوب تسوية الصَّفِّ . وأنَّ الجماعة إذا لم يسوُّوا الصَّفَّ فهم آثمون، وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية وهو الراجح .
لكن إذا خالفوا فلم يسوُّوا الصَّفَّ فهل تبطل صلاتهم؛ لأنهم تركوا أمراً واجباً؟ الجواب: فيه احتمالٌ، قد يُقال: إنها تبطل؛ لأنهم تركوا الواجب. ولكن احتمال عدم البطلان مع الإِثم أقوى .
وتسوية الصَّفِّ تكون بالتساوي، بحيث لا يتقدَّم أحدٌ على أحد، وهل المعتبر مُقدَّم الرِّجْلِ؟ الجواب: المعتبر المناكب في أعلى البَدَن، والأكعُب في أسفل البَدَن، وهذا عند الاعتدال، أما إذا كان في الإِنسان احديداب فلا عِبرة بالمناكب؛ لأنه لا يمكن أن تتساوى المناكبُ والأكعُب مع الحَدَب، وإنما اعتُبرت الأكعب؛ لأنها في العمود الذي يَعتمد عليه البدنُ، فإن الكعب في أسفل السَّاق، والسَّاقُ هو عمودُ البَدَن، فكان هذا هو المُعتبر. وأما أطراف الأرجُل فليست بمعتبرة؛ وذلك لأن أطراف الأرجُلِ تختلف، فبعض الناس تكون رِجْلُه طويلة، وبعضهم قصيرة، فلهذا كان المعتبر الكعب .
ثم إن تسوية الصَّفِّ المتوعَّد على مخالفتها هي تسويته بالمحاذاة، ولا فَرْقَ بين أن يكون الصَّفُّ خلف الإِمام أو مع الإِمام، وعلى هذا؛ فإذا وقف إمامٌ ومأموم فإنه يكون محاذياً للمأموم، ولا يتقدَّم عليه خلافاً لمن قال من أهل العلم: إنه ينبغي تقدُّم الإِمام على المأموم يسيراً.
وهناك تسوية أخرى بمعنى الكمال؛ يعني: الاستواء بمعنى الكمال كما قال الله تعالى: )وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى)(القصص: من الآية14)أي: كَمُلَ، فإذا قلنا: استواءُ الصَّفِّ بمعنى كماله؛ لم يكن ذلك مقتصراً على تسوية المحاذاة، بل يشمَل عِدَّة أشياء:
1 - تسويةَ المحاذاة، وهذه على القول الرَّاجح واجبة، وقد سبقت .
2 - التَّراصَّ في الصَّفِّ، فإنَّ هذا مِن كماله.(1/230)
3 - إكمالَ الأول فالأول، فإنَّ هذا مِن استواءِ الصُّفوف، فلا يُشرع في الصَّفِّ الثاني حتى يَكمُلَ الصَّفُّ الأول، ولا يُشرع في الثالث حتى يَكمُلَ الثاني وهكذا .
4 - ومِن تسوية الصُّفوف: التقاربُ فيما بينها، وفيما بينها وبين الإِمام؛ وحَدُّ القُرب: أن يكون بينهما مقدار ما يَسَعُ للسُّجودِ وزيادة يسيرة.
5 - ومِن تسوية الصُّفوفِ وكمالها: أن يدنوَ الإِنسانُ مِن الإِمامِ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لِيَلِنِي منكم أولُو الأحْلامِ والنُّهَى" وكلَّما كان أقربَ كان أَولى .
6 - ومِن تسوية الصُّفوف: تفضيل يمين الصفِّ على شماله، يعني: أنَّ أيمن الصَّفِّ أفضل مِن أيسره، ولكن ليس على سبيل الإِطلاق؛ كما في الصَّفِّ الأول؛ فإذا تحاذى اليمينُ واليسار وتساويا أو تقاربا فالأفضل اليمين، كما لو كان اليسار خمسة واليمين خمسة؛ وجاء الحادي عشر؛ نقول: اُذهبْ إلى اليمين؛ لأنَّ اليمين أفضلُ مع التَّساوي، أو التقارب أيضاً؛ بحيث لا يظهر التفاوتُ بين يمين الصَّفِّ ويسارِه، أما مع التَّباعد فلا شكَّ أنَّ اليسار القريبَ أفضل من اليمين البعيد.
7 - ومِن تسوية الصُّفوفِ: أن تُفرد النِّساءُ وحدَهن؛ بمعنى: أن يكون النِّساءُ خلف الرِّجال، لا يختلط النِّساء بالرِّجال لما في قُربهنَّ إلى الرِّجَال مِن الفتنة. وأشدُّ مِن ذلك اختلاطُهنَّ بالرِّجال، بأن تكون المرأةُ إلى جانب الرَّجُلِ، أو يكون صَفٌّ مِن النِّساءِ بين صُفوفِ الرِّجَال، وهذا لا ينبغي، وهو إلى التَّحريمِ مع خوف الفتنة أقربُ.ومع انتفاء الفتنة خِلافُ الأَولى، يعني: إذا كان النِّساءُ مِن محارمه فهو خِلافُ الأَولى، وخلاف الأفضل.(1/231)
8 - وهل مِن استواء الصُّفوفِ أن يتقدَّمَ الرِّجَالُ ويتأخَّرَ الصبيان؟. قال بعض العلماء : إنَّ هذا مِن تسوية الصُّفوفِ وكمالِها، أنْ يكون الرِّجالُ البالغون هم الذين يلون الإِمامَ، وأن يكون الصبيانُ في الخلفِ، وهذا القولَ ضعيفٌ .
مسألة: إذا كان يمينُ الصَّفِّ أكثرَ مِن يساره؛ فهل يَطلبُ الإمامُ مِن الجماعة تسوية اليمين مع اليسار؟. الجواب: إذا كان الفَرْقُ واضحاً فلا بأس أنْ يطلبَ تسويةَ اليمينِ مع اليسار، لأجل بيان السُّنَّة
مسألة: قوله صلى الله عليه وسلم "إذا توضَّأ فأحسنَ الوُضُوء، لم يخطُ خَطوة إلا رُفعت له بها درجة..." الحديث ، فهل إذا خرجَ الإِنسانُ مِن بيته قاصداً المسجدَ، ثم توضَّأ في دورةِ المياه التي في المسجد، يكون له هذا الأجر؟ الجواب: ظاهرُ الحديثِ أنَّه لا يكون له هذا الأجر؛ لأنَّ هناك فَرْقاً بين مَن يخرج مِن بيتِه متهيِّئاً للصَّلاةِ قاصداً لها، وبين إنسان يأتي إلى المسجدِ غير متهيِّئ للصَّلاةِ. نعم؛ لو كان بيتُه بعيداً، ولم يتهيَّأ له الوُضُوء منه فيُرجى أن ينال هذا الأجر.
قوله: "ويقول: الله أكبر" أي: يقول المصلِّي: "الله أكبر" ,وهذا التكبيرُ رُكْنٌ، لا تنعقدُ الصَّلاةُ بدونه , وإذا عَجَزَ الإِنسانُ عنها؛ لكونه أخرسَ لا يستطيع النُّطقَ، فهل تسقطُ عنه، أو ينويها بقلبِه، أو يحرِّك لسانَه وشفتيه ؟ الرَّاجح: أنَّ الإِنسانَ إذا كان أخرسَ لا يستطيعُ أن يقول بلسانه فإنه ينوي ذلك بقلبه، ولا يحرِّك شفتيه ولا لسانه، لأن ذلك عبث وحركة في الصَّلاة لا حاجة إليها.
وقوله: "ويقول" إذا قلنا: إن القول يكون باللسان؛ فهل يُشترط إسماع نفسه لهذا القول؟ في هذا خِلافٌ بين العلماء ، فمنهم مَن قال: لا بُدَّ أن يكون له صوتٌ يُسمعَ به نفسَه. وهو المذهب، والصَّحيحُ: أنه لا يُشترط أن يُسمِعَ نفسَه.(1/232)
وقوله: "الله أكبر" أي: بهذا اللفظ: "الله أكبر" فلا يُجزئُ غيرها، ولو قام مقامها، كما لو قال: "الله الأجلُّ، أو الله أجلُّ، أو الله أعظمُ" أو ما شابه ذلك، فإنه لا يُجزئُ ، فإن قال: الله الأكبرُ، فقال بعضُ العلماء: إنه يجزئُ، وقال آخرون: بل لا يجزئ . والصَّحيح: أنه لا يجزئ .
مسألة: وإذا كان لا يعرفُ اللغةَ العربيةَ، ولا يستطيع النُّطقَ بها فماذا يصنع؟. نقول: فليكبِّر بلغتِه ولا حَرَجَ عليه؛ لأنه لا يستطيع غيرَها.
مسألة: كيف النُّطقُ بهذه الكلمة؟ الجواب: قال بعضُ الفقهاءِ: يمدُّ التَّكبيرَ في الهويِّ إلى السُّجودِ، وفي القيامِ مِن السُّجودِ لطول ما بين الرُّكنين. وقال (بعض) العلماء: يُكره تمطيط التَّكبير ، حتى في النهوض من السُّجود إلى القيام مع طول النُّهوضِ، وحتى في الهويِّ إلى السُّجود مع طول ما بين القيامِ والسُّجودِ. ولكن؛ الظاهرُ - والله أعلم - أنَّ الأمرَ في هذا واسعٌ ما لم يُخِلَّ بالمعنى، ولكن ليس مدَّها بأفضل مِن قصرها كما يتوهَّمُه بعض الناس .
قوله: "رافعاً يديه" . يعني: حال القول يكون رافعاً يديه. (((ودليله: جاءت به السُّنَّةُ في عِدَّة أحاديث؛ كحديث ابن عُمرَ : "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفعُ يديه حذوَ مَنكبيه؛ إذا افتتح الصَّلاةَ، وإذا كبَّرَ للرُّكوع، وإذا رفع رأسه من الرُّكوع" . وصَحَّ عنه أيضاً أنه يرفعُ يديه إذا قام مِن الجلسة للتشهُّدِ الأول ، فهذه أربعة مواضع تُرفع فيها اليدان جاءت بها السُّنَّةُ، ولا تُرفع في غير هذه المواضع.)))
قوله: "مضمومتي الأصابع" . يعني: يضمُّ بعضها إلى بعض، يعني: يرصُّ بعضها إلى بعض، وقال بعضُ العلماء: إنه ينشرها ، ولكن الصحيح ما ذكره المؤلِّفُ .
قوله: "ممدودة" ، يعني: غير مقبوضة، والمدُّ: فتحها ضدُّ القبض، والقبض: أن يضمَّ الأصابع إلى الراحة.(1/233)
قوله: "حذو منكبيه" ، أي: موازيهما. والمنكبان: هما الكتفان، فيكون منتهى الرَّفْعِ إلى الكتفين، فإذا قُدِّر أن في الإِنسان آفة تمنعه من رَفْعِ اليدين إلى المنكبين فماذا يصنع؟ الجواب: يرفعُ إلى حيث يقدِرُ عليه .
كذلك إذا قُدِّرَ أنَّ في الإِنسان آفةً لا يستطيعُ أن يرفعهما إلى حَذوِ المنكبين، بل إلى أكثر مِن ذلك، كما لو كانت مرافقُه لا تنحني، بل هي واقفة، فهل يرفع؟ الجواب: يرفع.
وله أن يرفعهما إلى فُروع أُذنيه؛ لورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتكون صفة الرَّفْعِ مِن العبادات الواردة على وجوهٍ متنوِّعة. وقال بعضُ العلماءِ: إلى فُروع الأذنين باعتبار أعلى الكفِّ، وإلى حَذوِ المنكبين باعتبار أسفله . ولكنَّا نقول: لا حاجة إلى هذا الجَمْعِ؛ لأنَّ الأصلَ أنَّ المراد الكفُّ نفسُه؛ لا أعلاه ولا أسفله؛ والظَّاهر: أنَّ الأمر في هذا واسع؛ لتقارب الصِّفات بعضها مِن بعض.
وقوله: "رافعاً يديه" . الأحاديث الواردة في ابتداءِ رَفْعِ اليدين وَرَدَتْ أيضاً على وجوهٍ متعدِّدة؛ فبعضُها يدلُّ على أنه يرفع ثم يكبِّر ، وبعضها على أنه يكبِّر ثم يرفع ، وبعضها على أنه يرفع حين يكبِّر يعني يكون ابتداء التَّكبير مع ابتداء الرَّفْعِ، وانتهاؤه مع انتهاء الرَّفْعِ، ثم يضع يديه. ونحن نقول: إن الأمرَ أيضاً في هذا واسع، يعني سواء رَفعتَ ثم كبَّرت، أو كبَّرت ثم رفعتَ، أو رَفعتَ مع التَّكبيرِ، فإنْ فعلتَ أيَّ صفة مِن هذه الصِّفات فأنت مصيبٌ للسُّنَّة.
قوله: "كَالسُّجُودِ" أي: كما يفعل في السجود إذا سَجَدَ، فإنه يَجعلُ يديه حَذوَ منكبيه، وهذه إحدى الصفتين في السُّجودِ، والصِّفة الأخرى: أن يَسجدَ بين كفَّيه.(1/234)
قوله: "ويسمع الإِمام من خلفه" أي: حسب ما تقتضيه الحال، إنْ كان مَن خلفَه واحداً فالصوت الخفي يكفي، وإنْ كان مَن خلفَه جمعاً فلا بُدَّ مِن رَفْعِ الصَّوت، وإذا كان لا يسمع صوته مَنْ وراءه اُستعان بمبلِّغٍ يُبلِّغُ عنه, فإن كان لا حاجة إلى المبلغ بأن كان صوت الإِمام يبلغ الناسَ مباشرة، أو بواسطة، فلا يُسنُّ أن يبلِّغ أحدٌ تكبيرَ الإِمام باتِّفاقِ المسلمين.
وقول المؤلِّف: "ويُسمع الإِمامُ مَنْ خَلْفَه" هل هذا على سبيل الاستحباب، أو على سبيل الوجوب؟. المشهور مِن المذهب: أنه على سبيل الاستحباب، وظاهر كلام المؤلِّف: أن هذا على سبيل الوجوب, وأنه يجب على الإِمامِ أن يُكبِّر تكبيراً مسموعاً يَسمعه مَنْ خلفَه ( وهذا ) هو الصَّحيح.
قوله: "كقراءته في أولتي غير الظُّهَرين" أي: كما يسمع القراءة في أولتي غير الظُّهرين, والظُّهران: هما الظُّهر والعصر, فيَجهر في كُلِّ ركعتين أوليين في غير الظُّهرين، ويشمَلُ المغربَ والعشاءَ والفجرَ، لكن الفجر ليس إلا ركعتين، ويشمَلُ الجُمعةَ، والعيدين، والاستسقاءَ، والتراويحَ، والوِترَ، والكسوفَ، وكُلُّ ما تُشرع فيه الجماعةُ، فإنه يُسنُّ أن يجهرَ بالقراءة، ما عدا الظُّهرين.
قوله: "وغيره نفسه" . أي: ويُسمِعُ غيره، أي: غيرُ الإِمامِ نفسَه، وهو المأموم، والمنفرد يُسمعُ نفسَه، يعني: يتكلَّم وينطق بحيث يُسمعُ نفسَه، فإن أبان الحروفَ بدون أن يُسمعَ نفسَه لم تصحَّ قراءته، والصحيح: أنه متى أبان الحروفَ فإنه يصحُّ التكبيرُ والقراءةُ، فكلُّ قولٍ فإنه لا يُشترط فيه إسماعُ النَّفْسِ.
قوله: "ثم يقبض كوع يُسراه" أي: بعد التكبيرِ ورَفْعِ اليدين يقبضُ كُوعَ يُسراه، وبعضُ الناس يقول: الله أكبر، ثم يرسل يديه، ثم يرفعهما ويقبضهما، وهذا ليس له أصل، بل مِن حين أن ينزلهما مِن الرَّفْعِ يقبض الكُوعَ. والكُوعُ: مفصل الكفِّ مِن الذِّراع .(1/235)
ومراد المؤلِّف بقوله: "يقبض كُوعَ يسراه": المفصل. فأفادنا المؤلِّف : أن السُّنَّةَ قَبْضُ الكُوعِ، ولكن وَرَدَت السُّنَّةُ بقَبْضِ الكوعِ ، ووَرَدَت السُّنَّةُ بوضع اليد على الذِّراع مِن غير قَبْضٍ ، إذاً؛ هاتان صفتان: الأُولى قَبْض، والثانية وَضْع.
مسألة: نرى بعضَ النَّاس يقبض المرفق، فهل لهذا أصل؟ الجواب: ليس لهذا أصلٌ، وإنما يقبض الكُوعَ أو يضع يده على الذِّراع.
قوله: "تحت سرته" يعني يجعل اليدَ اليمنى واليسرى تحت السُّرَّة. وهذه الصفة هي المشروعة على المشهور مِن المذهب ، وذهب بعضُ العلماء: إلى أنه يضعها فوق السُّرة، ونصَّ الإِمام أحمد على ذلك . وذهب آخرون مِن أهل العِلم: إلى أنه يضعهما على الصَّدرِ ، وهذا هو أقرب الأقوال.
مسألة: نرى بعضَ النَّاسِ يضعُهما على جنبِه الأيسر، وإذا سألته لماذا؟ قال: لأنَّ هذا جانب القلب، وهذا تعليل عليل لأنَّه في مقابل السُّنَّة، وكلُّ تعليلٍ في مقابلِ السُّنَّةِ فإنَّه مردودٌ على صاحبِه؛ لأنَّ السُّنَّةَ أحقُّ بالاتِّباعِ.
قوله: "وينظر مسجده" أي: موضع سجوده، والضَّميرُ يعودُ على المُصلِّي، وهو شاملٌ للإِمام والمأموم والمنفرد؛ أنه ينظر موضعَ سجودِه، وعلى هذا كثير مِن أهلِ العلمِ ، وقال بعضُ العلماءِ: ينظرُ تلقاء وجهِهِ، إلا إذا كان جالساً، فإنَّه ينظر إلى يدِه حيث يُشير عند الدُّعاء . وفصل بعض العلماء بين الإِمام والمنفرد وبين المأموم فقال: إن المأموم ينظر إلى إمامه ليتحقق من متابعته ، والأمر في هذا واسع، ينظر الإِنسان إلى ما هو أخشع له؛ إلا في الجلوس، فإنه يرمي ببصره إلى أصبعه حيث تكون الإِشارة كما وَرَدَ ذلك .(1/236)
واُستثنى بعضُ أهلِ العِلمِ: فيما إذا كان في صلاة الخوف ، لقوله تعالى: ) وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)(النساء: من الآية102)وبأن النبي صلى الله عليه وسلم بعثَ عيناً يوم حُنين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى ناحية الشِّعْبِ وهو يُصلِّي ؛ لينظر إلى هذا العين، والعين هو الجاسوس، ولأنَّ الإِنسان يحتاج إلى النَّظَرِ يميناً وشمالاً في حال الخوف، والعملُ - ولو كان كثيراً - في حال الخوف مغتفر، فكذلك عَمَلُ البصر، وهذا الاستثناء صحيحٌ.
واُستثنى بعضُ العلماءِ أيضاً: المُصلِّي، في المسجد الحرام وقالوا: ينبغي أن ينظر إلى الكعبة؛ لأنها قِبْلةُ المصلِّي، ولكن هذا القول ضعيف , والصَّحيح: أنَّ المسجدَ الحرامَ كغيره؛ ينظر فيه المصلِّي إما إلى موضع سجودِه، أو إلى تلقاءِ وجهه.
وأما النَّظَرُ إلى السَّماءِ فإنه محرَّم، بل مِن كبائر الذُّنوب؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نَهى عن ذلك , بل قال بعضُ العلماءِ: إن الإِنسان إذا رَفَعَ بصرَه إلى السماءِ وهو يُصلِّي بطلتْ صلاتهُ، ولكن؛ جمهورُ أهل العِلم على أنَّ صلاتَه لا تبطل برَفْعِ بصرِه إلى السَّماءِ، لكنَّه على القول الرَّاجح آثمٌ بلا شَكٍّ.
مسألة: إغماض العينين في الصَّلاةِ. الصَّحيحُ: أنَّه مكروهٌ ، إلا إذا كان هناك سبب مثل أن يكون حولَه ما يشغلُه لو فَتَحَ عينيه، فحينئذٍ يُغمِضُ تحاشياً لهذه المفسدة.
قوله: "ثم يقول" أي: بعد ما سبق من التكبير ووضع اليدين وغير ذلك.
قوله: "سبحانك اللهم وبحمدك , وتبارك اسمك, وتعالى جدك, ولا إله غيرك" . هذا هو دعاء الاستفتاح، وهناك أنواعٌ أُخرى من الإستفتاحات , بعضُها في صلاة الليل خاصَّة، فليُرجع إليها في المطوَّلات.
مسألة: هل يستفتح في صلاة الجنازة؟ فيه خلاف: قال بعض العلماء: يَستفتح. والمشهور من المذهب: أنه لا يَستفتح , وهذا أقربُ.(1/237)
قوله: "ثم يستعيذ" ، أي: يقول: أعوذُ بالله مِن الشيطان الرجيم وإن شاء قال: "أعوذُ باللَّهِ السميعِ العليمِ من الشيطانِ الرَّجيمِ؛ من همزه ونفخِه ونفثِه" وإن شاء قال: "أعوذُ بالسميعِ العليمِ مِن الشيطانِ الرجيمِ" والاستعاذةُ للقراءة، وليست للصَّلاةِ.
قوله: "ثم يُبسمل سراً" . أي: يقول: { )بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) سراً , يعني: إذا كانت الصَّلاةُ جهريَّة. أما إذا كانت الصلاة سِرِّية فإنه سوف يُسرُّ بالبسملة وبالقراءة، فقوله: "سِرًّا" يعني: أنه لا يسمعها المأمومين، وإن كان يجهر بالقراءة.
قوله: "وليست من الفاتحة" . الضَّميرُ يعودُ على البسملة، بل هي آيةٌ مستقلِّة يُفتتح بها كلُّ سورة مِن القرآن؛ ما عدا براءة، فإنه ليس فيها بسملة اُجتهاداً من الصحابة، لكنه اجتهاد - بلا شك - مستندٌ إلى توقيف.
فإن قال قائل: إذا قلتم ذلك فكيف الجواب عمَّا نجدُه في المصاحف: أن أول آية في الفاتحة هي البسملة؟ فالجواب: هذا الترقيم على قول بعض أهل العلم : أنَّ البسملة آية من الفاتحة. ولهذا في بقية السُّور لا تُعدُّ مِن آياتها ولا تُرقَّم. والصَّحيحُ: أنها ليست مِن الفاتحة، ولا مِن غير الفاتحة، بل هي آية مستقلَّة.
إذا قال قائل: قلتم: إن البسملة آية مستقلَّة. ونحن وجدناها في كتاب الله آية ضمن آية في قوله: )إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (النمل:30) ؛ قلنا: هذه حكاية وخبر عن كتابٍ صَدَرَ مِن سُليمان، وليس الإِنسان يقرؤها على أنه سيبتدئ بها في مقدمة قراءته للسُّورة، لكنها مقدِّمة كتاب كَتَبَهُ سُليمان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ونَقَلَهُ لنا اللَّهُ ، فليس من هذا الباب.(1/238)
قوله: "ثم يقرأ الفاتحة" . "أل" هذه للعموم، يعني: يقرؤها كاملة مرتَّبة بآياتها، وكلماتها، وحروفها، وحركاتها، فلو قرأ ستَّ آيات منها فقط لم تصحَّ، ولو قرأ سبع آيات؛ لكن أسقط "الضَّالين" لم تصحَّ، ولو قرأ كلَّ الآيات، ولم يسقط شيئاً من الكلمات؛ لكن أسقط حرفاً مثل أن يقول: {صراط اُلذين أنعم عليهم} فأسقط "التاء" لم تصحَّ، ولو أخلف الحركات فإنها لا تصحُّ؛ إنْ كان اللَّحنُ يُحيل المعنى؛ وإلا صحَّت، ولكنه لا يجوز أن يتعمَّد اللَّحنَ. مثال الذي يُحيل المعنى: أن يقول: "أَهْدِنَا" بفتح الهمزة: لأن المعنى يختلف؛ لأن معناه يكون مع فتح الهمزة أعطنا إيَّاه هدية، لكن {أهدنا } بهمزة الوصل بمعنى: دُلَّنا عليه، ووفِّقْنَا له، وَثَبِّتْنَا عليه. ولو قال: )صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )(الفاتحة: من الآية7)لم تصحَّ؛ لأنه يختلف المعنى، يكون الإِنعامُ مِن القارئ، وليس مِن الله . ومثال الذي لا يُحيل المعنى: أن يقول: "الحمدِ لله" بكسر الدال بدل ضمِّها. ولو قال: {اُلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِ اُلْعَالَمِينَ} بدون تشديد الباء لم تصحَّ؛ لأنه أسقط حرفاً؛ لأن الحرف المشدَّد عبارة عن حرفين. إذاً؛ لا بُدَّ أن يقرأها تامَّة، بآياتها، وكلماتها، وحروفها، وحركاتها، فإن ترك آية، أو حرفاً، أو حركة تُخِلُّ بالمعنى لم تصحَّ.
وقوله: "يقرأ الفاتحة" وهي معروفة، وهي أعظم سورة في كتاب الله، وسُمِّيت "فاتحة" لأنه اُفتُتِحَ بها المُصحفُ في الكتابة. ولأنها تُفتتحُ بها الصَّلاةُ في القراءة، وليست يُفتتح بها كلُّ شيء؛ كما يصنعه بعض الناس اليوم إذا أرادوا أن يشرعوا في شيء قرأوا الفاتحة، أو أرادوا أن يترحَّمُوا على شخص قالوا: "الفاتحة" يعني: اُقرؤوا له الفاتحة، فإن هذا لم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله عنهم.(1/239)
قوله: "فإن قطعها بذِكْرٍ، أو سكوت غير مشروعين، وطَالَ" . أي: قَطَعَ الفاتحةَ فلم يواصلْ قراءتها، يعني: لما قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2) جعل يُثني على الله سبحانه وتعالى: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، والله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وقام يدعو بدعاء، ثم قال: { الرحمن الرحيم}. نقول: هذا غيرُ مشروع، فإذا طال الفصلُ وَجَبَ عليك الإِعادة، كذلك لو قَطَعَها بسكوت، قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ثم سَمِعَ ضَوضاءَ فسكت يستمعُ ماذا يقول النَّاسُ، وطال الفصلُ، فإنه يعيدها مِن جديد؛ لأنه لا بُدَّ فيها من التَّوالي، لكن اشترط المؤلِّفُ فقال: "غير مشروعين" أي: الذِّكْر والسُّكوت، فإن كانا مشروعين كما لو قَطَعَها ليسأل الله أن يكون مِن الذين أنعمَ اللَّهُ عليهم، مثل لما مرَّ (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم)قال: اللَّهُمَّ اُجْعلنِي منهم، وألحقني بالصَّالحين. فهذا يسير، ثم هو مشروعٌ في صلاةِ الليل. كذلك إذا سكتَ لاستماعِ قراءةِ إمامِه، وكان يعلم أن إمامَه يسكتُ قبل الرُّكوعِ سكوتاً يتمكَّن معه أن يكملها، فسكتَ استماعاً لقراءة إمامِه، ثم أتمَّها حين سكتَ الإِمامُ قبل الرُّكوعِ، فإن هذا السُّكوتَ مشروعٌ، فلا يضرُّ ولو طال.
قوله: "أو ترك منها تشديدة" . أي: لو تَرَكَ تشديدة حرف منها فقرأه بالتَّخفيف، مثل تخفيف الباء من قوله: {رب العالمين} لم تصحَّ.
قوله"أو حرفاً" . أي: تَرَكَ حرفاً مِن إحدى كلماتها، مثل: أن يترك (أل) في (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) وهذا يقعُ كثيراً مِن الذين يُدغمون بسبب إسراعهم في القراءة، فلا تصحُّ.
قوله: "أو ترتيباً" يعني: إذا أخلَّ بترتيب آياتِها أو كلماتِها فقال: أو قال: الرحيم الرحمن، مالك يوم الدين. فإنها لا تصحُّ.(1/240)
قوله: "لزم غير مأموم إعادتها" يعني: لزمت إعادتُها على غير مأموم؛ لأن قراءة الفاتحة في حقِّ المأموم - على المشهور من المذهب - ليست بواجبة، فلو تَرَكَها المأمومُ عمداً لم يلزمه إعادة الصَّلاةِ، ولكن مع ذلك يحرم عليه أن ينكِّس الآيات، أو أن يُنكِّس الكلمات، إنما من حيث وجوبُ إعادة الفاتحة لا يجبُ على المأموم إذا فَعَلَ ذلك.
وقوله: "لزم غير مأموم إعادتها" ظاهر كلامه: أنه يعيدُها من أولها، فلو أسقطَ "أل" مِن قوله: ) غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(الفاتحة: من الآية7)فظاهرُ كلامِه أنه يلزمه إعادة الفاتحة كلها؛ وليس هذا بوجيه، وقد لا يكون هذا مراده، بل يلزمه إعادة ما أخلَّ به وما بعدَه؛ لأن ما قبلَه وَقَعَ صحيحاً، والمدَّة ليست طويلة حتى يُقال: إنه لو أعاد مِن حيث أخلَّ لَزِمَ طول الفصل بين الجزء الصَّحيح الأول والجزء الصَّحيح الثاني؛ لأن كلَّ الفاتحة لا تستوعب زمناً طويلاً، وعلى هذا؛ فإذا أخلَّ بشيءٍ مِن آخرِها، فإنه لا يلزمه إلَّا إعادة ما أخلَّ به وما بعدَه، مراعاةً للترتيب، فإن كان في أول آية مثل: )الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بتخفيف الباء لزمتُه الإِعادة مِن الأول.
مسألة: كيف يقرأُ هذه السُّورة؟. نقول: يقرؤها معربةً مرتَّبةً متواليةً، وينبغي أن يفصِلَ بين آياتِها، ويقفَ عند كلِّ آية، وإن لم يقفْ فلا حرجَ؛ لأنَّ وقوفه عند كلِّ آيةٍ على سبيلِ الاستحبابِ، لا على سبيلِ الوجوبِ.(1/241)
فإنْ قال قائل: ذكرتم أنه إذا أبدل حرفاً بحرف فإنَّها لا تصحُّ، فما تقولون فيمَن أبدَل الضَّادَ في قوله: { وَلا الضَّالِّينَ } بالظاء؟ قلنا: في ذلك وجهان لفقهاء الحنابلة: الوجه الأول: لا تصحُّ؛ لأنه أبدلَ حَرْفاً بحرف. الوجه الثاني: تصحُّ، وهو المشهور مِن المذهب، وعلَّلوا ذلك بتقارب المخرجين، وبصعوبة التفريق بينهما، وهذا الوجه هو الصَّحيح، وعلى هذا فمَن قال: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ } بالظاء فصلاته صحيحة، ولا يكاد أحدٌ من العامة يُفرِّق بين الضَّاد والظاء.
قوله: "ويجهرُ الكُلُّ بآمينَ في الجَهريَّة" أي: المنفرد، والمأموم، والإِمام بالجهرية. لكن المنفرد إن جَهَرَ بقراءته؛ جَهَرَ بآمين، وإن أسرَّ؛ أسرَّ بآمين.
قال الفقهاء: فإن شدَّدَ الميمَ في "آمين" بطلت الصَّلاةُ؛ لأنَّ معناها حينئذٍ "قاصدين"؛ ولهذا قالوا: يحرم أن يُشدِّد الميم، وتبطل الصَّلاةُ؛ لأنه أتى بكلامٍ مِن جنسِ كلام المخلوقين.
فإن قيل: متى يقول آمين؟ فالجواب: أما الإِمامُ فإذا انتهى من قوله: { وَلا الضَّالِّينَ } وكذلك المنفرد. وأمَّا المأموم فقال بعضُ العلماءِ : يقول: "آمين" إذا فَرَغَ الإِمامُ مِن قول آمين. واستدلُّوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمَّنَ الإِمامُ فأمِّنوا" أي: إذا فَرَغَ مِن التأمين. ولكن هذا القول ضعيف؛ لأنه مصرَّحٌ به في لفظٍ آخر: "إذا قال الإِمام: ولا الضَّالين، فقولوا: آمين" . وعلى هذا ؛ فيكون المعنى: إذا أمَّن، أي: إذا بَلَغَ ما يُؤمَّنُ عليه وهو { وَلا الضَّالِّينَ }، أو إذا شَرَعَ في التَّأمين فأمِّنوا؛ لتكونوا معه.(1/242)
مسألة: إذا لم يعرفْ الفاتحةَ هل يلزمه أن يتعلَّمها؟ والجواب: نعم؛ يلزم أن يتعلَّمها؛ لأن قراءتَها واجبةٌ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ. فإن ضاق الوقتُ قرأ ما تيسَّرَ من القرآن من سواها, فإن لم يكن معه قرآن فإنه يُسَبِّحُ، فيقول: "سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، واللَّهُ أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"
فإذا قال قائل: إذا لم أجد مَنْ يُعَلِّمني إيَّاها إلا بأُجرة، فهل يلزمُني دفع أجرة إليه؟ فالجواب: نعم؛ كما لو لم يجد ماءً إلا ببيع، فإنه يلزمُه شراؤه للوُضُوء.
ولكن يبقى النَّظرُ: هل يجوز للآخر أن يطلب أُجْرةً على تعليم القرآن؟ الجواب: الصحيح: الجواز؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أحَقَّ ما أخذتُم عليه أجراً كتابُ الله" وهذا الذي استُؤجر أو طَلَبَ الأُجرةَ طَلَبَ على عَمَلٍ متعدٍّ وهو التَّعليم، بخلاف مَن طَلَبَ أُجرة على القِراءة، فإنه لا يجوز، كما لو قال: أنا أقرأُ سورةَ البقرةِ وتُعطيني كذا وكذا. قلنا: هذا حَرام. أمَّا إذا قال: أعلِّمُكَ إياها بكذا وكذا؛ فهذا جائز، ولهذا زوَّجَ النبي صلى الله عليه وسلم الرَّجُلَ الذي لم يجدْ مهراً بما معه من القُرآن يعلِّمُها إيَّاه .(1/243)
قوله: "ثم يقرأ" هل "ثم" هنا على معناها الأصلي، أي: أنها تفيد الترتيب والتراخي، أو لمجرد الترتيب؟ هذا مبنيٌّ على القول باستحبابِ السُّكوتِ بعدَ الفاتحة أو عدمِه. فإن قلنا: باستحباب السُّكوتِ - وهو المذهب - صارت "ثم" هنا على معناها الأصلي، أي: أنها للتَّرتيب والتَّراخي، وعلى هذا؛ فيسكتُ الإِمامُ بعدَ الفاتحةِ سكوتاً، ولكن كم مقدار هذا السُّكوت؟ قال بعض العلماء: إنه بمقدار قراءة المأموم سُورةَ الفاتحةِ، وعلى هذا؛ فيكون طويلاً بعضَ الشَّيء. وقيل: بل إنه سكوت ليترادَّ إلى الإِمام نفسُه ، وليتأمَّل ماذا يقرأ بعدَ الفاتحةِ، ولِيَشْرَع المأموم في قراءة الفاتحة حتى يستمرَّ فيها؛ لأن الإِمام لو شَرَعَ فوراً بقراءة السُّورة لم يبدأ المأموم بالقراءة، وحينئذٍ تفوته قراءةُ الفاتحةِ. والصَّحيح: أن هذه السَّكتة سكتة يسيرة؛ لا بمقدار أن يقرأَ المأمومُ سُورةَ الفاتحة، بل السُّكوت بهذا المقدار إلى البدعة أقرب منه إلى السُّنّة.
وقوله: "ثم يقرأ بعدها" . أي: بعدَ الفاتحة، وأفاد قوله: "بعدَها" أنه لا تُشرع القراءةُ قبل الفاتحة، فلو نسيَ وقرأ السُّورةَ قبل الفاتحةِ أعادها بعد الفاتحة؛ لأنه ذِكْرٌ قالَه في غير موضعه فلم يجزئ.
وقوله: "سورة" . قراءةُ السُّورة على قول جمهور أهل العلم سُنَّةٌ ، وليست بواجبةٍ.(1/244)
وأفادنا المؤلِّف بقوله: "سُورة" إلى أنَّ الذي ينبغي للإِنسانِ أن يقرأَهُ سورةً كاملةً، لا بعضَ السُّورة، ولا آيات من أثناء السُّورة؛ لأن ذلك لم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأطلقه ابن القيم في "زاد المعاد" حيث قال: "وأمَّا قراءة أواخر السُّورِ وأواسطها فلم يُحفظ عنه". ولكن ثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في سُنَّةِ الفجر آيات من السُّور، فكان أحياناً يقرأ في الرَّكعة الأُولى: )قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)(البقرة: من الآية136)الآية، وفي الثانية: )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم)(آل عمران: من الآية64)، الآية ، والأصل: أن ما ثَبَتَ في النَّفْل ثَبَتَ في الفرض؛ إلا بدليل.
وعلى كُلٍّ؛ نرى أنه لا بأس أن يقرأ الإِنسانُ آيةً من سورةٍ في الفريضة وفي النافلة. وربما يُستدل له أيضاً بعموم قوله تعالى: ) فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا )(المزمل: من الآية20)، لكن السُّنَّة والأفضل أن يقرأَ سورةً، والأفضلُ أن تكون كاملةً في كلِّ ركعة، فإن شَقَّ فلا حَرَجَ عليه أن يقسم السُّورة بين الركعتين.
وقوله: "سُورة" يلزم من قراءة السُّورة أن يقرأَ قبلها: "بسم الله الرحمن الرحيم"، وعلى هذا؛ فتكون البسملةُ مكرَّرة مرَّتين: مرَّة للفاتحة، ومرَّة للسُّورة. أما إنْ قرأ مِن أثناء السُّورة فإنه لا يُبسمل؛ لأن الله لم يأمر عند قراءة القرآن إلا بالاستعاذةِ، والبسملة لا تُقرأ في أواسط السُّور، لا في الصلاة ولا خارجها.(1/245)
قوله: "تكون في الصبح من طِوال المفصل, وفي المغرب من قصاره, وفي الباقي من أوساطه ". المُفصَّل ثلاثة أقسام، كما يدلُّ عليه كلام المؤلِّف: منه طِوال، ومنه قِصار، ومنه وسط. فمِن {ق~} إلى {عَمَّ} هذا هو الطِوال. ومِن {عَمَّ} إلى {اُلضُّحَى} أوساط. ومُن {اُلضُّحَى} إلى آخره قِصار. وسُمِّيَ مُفصَّلاً لكثرة فواصله؛ لأن سُورَهُ قصيرةٌ. فتكون السورة في صلاة الصبح من طوال المفصل(-يعني-) من )ق) إلى (عم) , وفي المغرب من قِصار المفصَّل، يعني: من الضُّحى إلى آخره , وفي الباقي (- أي العشاء والعصر والظهر -) من أوساطه, أي: من {عم } إلى {اُلضحى}. ودليل ذلك السُّنَّة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الغالب مِن فِعْلِ النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ هو هذا . لكنه أحياناً يقرأ في الفجر مِن القِصَار، وفي المغرب من الطِوال، فمرَّة صَلَّى الفجرَ بـ {اذا زلزلت } قرأها في الرَّكعتين ، ومرَّة قرأ في المغرب بسُورة {الاأعراف } ، وقرأ بسورة {الطور } ، وقرأ {بالمرسلات} ، وكلُّ هذا من أطول ما يكون من السُّور، فدلَّ ذلك على أنه ينبغي للإِمام أن يكون غالباً على ما ذَكَرَ المؤلِّفُ، ولكن لا بأس أن يطيل في بعض الأحيان في المغرب، ويُقَصِّرَ في الفجر. ويجوز أن يقرأَ الإِنسانُ بالسُّورةِ في الرَّكعتينِ بمعنى أنْ يكرِّرها مرَّتين.(1/246)
تتمة : في تنكيس السُّور، والآيات، والكلمات، والحروف: أما تنكيس الحروف؛ بمعنى: أن تكون الكلمة مشتملة على ثلاثة أحرف؛ فيبدؤها الإِنسان مِن آخرها مثلاً، فهذا لا شكَّ في تحريمه، وأنَّ الصَّلاةَ تبطلُ به؛ لأنه أخرج القرآنَ عن الوجه الذي تكلَّم الله به، كما أن الغالب أنَّ المعنى يختلفُ اختلافاً كبيراً. وأما تنكيس الكلمات؛ أي: يبدأ بكلمة قبل الأُخرى، مثل: أن يقول: الحمد لربِّ العالمين، الله الرحمن الرحيم. فهذا أيضاً محرَّم بلا شكٍّ؛ لأنه إخراجٌ لكلامِ الله عن الوجه الذي تكلَّم اللَّهُ به. وتبطلُ به الصَّلاةُ. وأما تنكيس الآيات أيضاً؛ فمحرَّم على القول الرَّاجح؛ لأن ترتيب الآيات توقيفي. وأما تنكيس السُّور؛ فيُكره، وقيل: يجوز. والقول بالكراهة قولٌ وسطٌ.
والحق: أن الترتيب بين السُّور منه توقيفي، ومنه اجتهادي، فما وَرَدَتْ به السُّنَّةُ كالترتيب بين "الجُمعة" و"المنافقين"، وبين "سَبِّحِ" و"الغاشية" فهو على سبيل التوقيف؛ فالنبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قرأَ "الجمعة" قبل "المنافقين" . وقرأ "سَبِّح" قبل "الغاشية" فهذا على سبيل الترتيب التوقيفي، وما لم تَرِدْ به السُّنَّةُ فهو اُجتهادٌ من الصَّحابةِ، والغالب أنَّ الاجتهادَ، إذا كان معه الأكثر أقربُ للصَّوابِ.
قوله: "ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان" .قوله: "الصلاة" : عامة تشمَلُ الفريضةَ والنافلةَ. وقوله: "بقراءة خارجة عن مصحف عثمان" . مصحف عثمان هو الذي جَمَعَ الناسَ عليه في خلافته ، فاجتمعت الأمةُ على هذا المصحف، ونُقِلَ إلينا نقلاً متواتراً، ينقله الأصاغرُ عن الأكابرِ، ولم تختلف فيه الأيدي ولا النَّقَلَةُ، بل هو محفوظٌ بحفظِ الله إلى يوم القيامة.(1/247)
لكن؛ هناك قراءات خارجة عن هذا المصحف الذي أَمَرَ عثمان بجَمْعِ المصاحف عليه، وهذه القراءات صحيحة ثابتة عمَّن قرأ بها عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها تُعَدُّ عند القُرَّاء شاذَّة اُصطلاحاً، وإنْ كانت صَحيحةً. وقد اختلف العلماءُ رحمهم الله في هذه القِراءةِ الشاذَّةِ في أمرين: الأمر الأول: هل تجوزُ القراءة بها داخل الصَّلاة وخارجها، أو لا تجوز؟ الأمر الثاني: هل هي حُجَّة في الحُكْمِ، أو ليست بحُجَّة؟ فمنهم من قال: إنها ليست بحُجَّة، ومنهم من قال: إنها حُجَّة.
وأصحُّ الأقوال: أنه إذا صحَّت هذه القراءة عَمَّن قرأ بها مِن الصَّحابة فإنها مرفوعةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكون حُجَّةً، وتصحُّ القراءةُ بها في الصَّلاة وخارج الصَّلاة؛ لأنها صحَّت موصولةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن؛ لا نقرأ بها أمامَ العامَّة؛ لأننا إذا قرأنا بها أمامَ العامَّة حصل بذلك فتنةٌ وتشويشٌ، وقِلَّةُ اُطمئنان إلى القرآن الكريم، وقِلَّةُ ثقةٍ به، وهذا لا شَكَّ أنه مؤثِّرٌ ربما على العقيدة فضلاً عن العمل، لكن الكلام فيما بين الإِنسان وبين نفسِه، أو فيما بينه وبين طَلَبَةِ العِلم الذين يفهمون حقيقة هذا الأمر.
قوله: "ثم يركع مكبِّراً" . أي: بعد القراءة يركع مكبِّراً، وقوله: "ثم يركع" نقول فيها مثل ما قلنا في "ثم يقرأ بعد الفاتحة" أنها للترتيب والتراخي، فينبغي قبل أن يركع أن يسكت سكوتاً؛ لكنه ليس سكوتاً طويلاً، بل بقَدْرِ ما يرتدُّ إليه نَفَسُه.(1/248)
وقوله: "مكبِّراً" حال من فاعل "يركع" حال مقارنة، يعني: في حال هويه إلى الرُّكوعِ يكبِّرُ فلا يبدأ قبل، ولا يؤخِّره حتى يَصِل إلى الرُّكوعِ، أي: يجب أن يكون التَّكبيرُ فيما بين الانتقالِ والانتهاءِ، حتى قال الفقهاءُ رحمهم الله: "لو بدأ بالتَّكبير قبل أن يهويَ، أو أتمَّهُ بعد أن يَصِلَ إلى الرُّكوع؛ فإنه لا يجزئه". ولا شَكَّ أن هذا القولَ له وجهة مِن النَّظر؛ لأن التَّكبيرَ علامةٌ على الانتقالِ؛ فينبغي أن يكون في حالِ الانتقال. ولكن؛ القول بأنه إن كمَّلَه بعد وصول الرُّكوع، أو بدأ به قبل الانحناء يُبطلُ الصَّلاةَ فيه مشقَّةٌ على النَّاس، لأنك لو تأملت أحوال الناس اليوم لوجدت كثيراً مِن النَّاسِ لا يعملون بهذا، فمنهم من يكبِّرُ قبل أن يتحرَّك بالهوي، ومنهم مَن يَصِلُ إلى الرُّكوعِ قبل أن يُكمل. إذاً؛ نقول: كَبِّرْ مِن حين أن تهويَ، واُحرصْ على أن ينتهي قبل أن تَصِلَ إلى الرُّكوع، ولكن لو وصلت إلى الرُّكوع قبل أن تنتهي فلا حرجَ عليك، والقولُ بأن الصَّلاةَ تفسدُ بذلك حَرَج، ولا يمكن أن يُعملَ به إلا بمشقَّةٍ. فالصوابُ: أنه إذا ابتدأ التَّكبيرَ قبل الهوي إِلى الرُّكوعِ، وأتمَّه بعدَه فلا حرج، ولو ابتدأه حين الهوي، وأتمَّه بعد وصولِهِ إلى الرُّكوعِ فلا حَرَجَ، لكن الأفضل أن يكون فيما بين الرُّكنين بحسب الإمكان. وهكذا يُقال في: "سمعَ الله لمن حمده" وجميعِ تكبيرات الانتقال. أمَّا لو لم يبتدئ إلا بعد الوصول إلى الرُّكن الذي يليه، فإنه لا يعتدُّ به.
قوله: "رافعاً يديه" أي: إلى حَذوِ مَنكبيه، أو إلى فُروع أُذنيه كما سبق عند تكبيرة الإِحرام .
قوله: "ويضعهما على رُكبتيه" "ويضعهما" أي: اليدين، والمراد باليدين هنا: الكَفَّان.
قوله: "مفرَّجتي الأصابع" يعني: لا مضمومة بل مفرَّجة؛ كأنه قابض رُكبتيه.(1/249)
قوله: "مستوياً ظهره" . الاستواء: يشمل استواء الظهر في المَدِّ، واستواءه في العلوِّ والنزول، يعني لا يقوِّس ظهره، ولا يهصره حتى ينزل وسطه، ولا ينزل مقدم ظهره، بل يكون ظهره مستوياً. وينبغي كذلك أن يفرِّج يديه عن جنبيه، ولكنه مشروط بما إذا لم يكن فيه أذيَّة، فإنْ كان فيه أذيَّة لِمَن كان إلى جنبه؛ فإنه لا ينبغي للإِنسان أن يفعل سُنَّة يؤذي بها غيره.
والواجبُ مِن الرُّكوع: أن ينحني بحيث يكون إلى الرُّكوع التَّامِّ أقربَ منه إلى الوقوفِ التَّامِّ، يعني: بحيث يعرف مَن يراه أنَّ هذا الرَّجُلَ راكعٌ. هكذا قال بعض العلماء . والمشهور من المذهب : أنه ينحني بحيث يمكن أن يَمَسَّ رُكبتيه بيديه إذا كان وسطاً، يعني: إذا كانت يداه ليستا طويلتين ولا قصيرتين، لكن القول الأول أظهر.
قوله: "ويقول: سبحان رَبِّيَ العظيم" .الواجبَ (قولها) مرَّة، وما زاد فهو سُنَّة .
وظاهرُ قولِ المؤلِّفِ: أنَّه لا يزيد عليها شيئاً، فلا يقول: "وبحمدِه" وهذا هو المشهور مِن المذهب ، وهو أن الاقتصار على قول: "سبحان ربي العظيم" أفضل من أن يزيد قوله: "وبحمدِه". ولكن الصَّحيح أنَّ المشروعَ أن يقولَ أحياناً: "وبحمدِه"؛ لأنَّ ذلك قد جاءت به السُّنَّةُ . وقد نَصَّ الإِمام أحمد أنه يقول هذا وهذا.
ومن السنة قول: "سبحانك اللَّهُمَّ رَبَّنا وبحمدِك، اللهم اُغفِرْ لي" ولكن السُّنَّةُ قول ذلك؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله كما في حديث عائشة .(1/250)
و ظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يقول: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكة والرُّوحِ"، ولكن السُّنَّةُ قد جاءت به وصحَّت عن النبي صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا يزيد: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكةِ والرُّوحِ"، ولكن هل يقول هذه الزِّيادة الأخيرة دائماً بالإِضافة إلى: "سبحان رَبِّيَ العظيم" و"سبحانك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وبحمدك" أو أحياناً؟ هذا محلُّ اُحتمال، وقد سبق أن الاستفتاحات الواردة لا تُقال جميعاً، إنما يُقال بعضها أحياناً وبعضها أحياناً ، وبيَّنا دليل ذلك، لكن أذكار الرُّكوع المعروفة تُقال جميعاً عند عامَّة العلماء.
قوله: "ثم يرفع رأسه" مراده: يرفعُ رأسَه وظهرَه.
قوله: "ويديه" أي: ويرفع يديه، والمراد إلى حذو منكبيه، كما سَبَقَ في رفعهما عند تكبيرة الإحرام.
قوله: "قائلاً إمام ومنفرد: سَمِع الله لمن حمده" . "قائلاً" حال من فاعل "يرفع" إذاً؛ فيكون القول في حال الرَّفْعِ، ويكون هذا الذِّكْرُ "سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه" مِن أذكار الرَّفْعِ، فلا يُقال قبل الرَّفْعِ، ولا يُؤخَّر لما بعدَه، ويُقال في هذا ما قيل في التكبير للرُّكوعِ، فمن العلماء من قال: يجب أن يكون قوله: "سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه" ما بين النهوض إلى الاعتدال، فإن قاله قبل أن ينهض، أو أخَّرَ بعضه، أو كلَّه حتى اعتدل فلا عِبْرة به. لكن؛ سَبَقَ لنا أن الأمر في هذا واسعٌ، وأنه لا ينبغي إلحاق الحَرَجِ بالنَّاسِ في هذا الأمر .
وقوله: "سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه" : لا بُدَّ أن يكون بهذا اللفظ، فلو قال: اُستجاب الله لمن أثنى عليه فلا يصحُّ؛ لأن هذا ذِكْرٌ واجبٌ، فيُقتصرُ فيه على الوارد، ولا بُدَّ أن يكون على هذا الترتيب: "سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه" فلو قال: اللهُ سَمِعَ لمن حَمِدَه، لم يصحَّ، ولو قال: لمَن حَمِدَه سَمِعَ اللهُ، لم يصحَّ أيضاً.(1/251)
قوله:"وبعد قيامهما ربَّنا ولك الحمد، ملءَ السماء، وملءَ الأرض، وملءَ ما شئت من شيء بعد" . قيامهما: الضمير: يعودُ على الإِمامِ والمنفرد.
ولم يذكر المؤلِّف غير هذه الصيغة: "ربنا ولك الحمد" فهل هذا يقتضي أن تكون هي الواجبة؟ يحتمل أن يكون هذا، ويحتمل أن المؤلِّف اقتصر على هذه الصيغة طلباً للاختصار، وعلى كلٍّ؛ فهذه الصيغة لها أربع صفات:الصفة الأولى: رَبَّنا ولك الحمدُ .الصفة الثانية: رَبَّنا لك الحمدُ .الصفة الثالثة: اللَّهُمَّ رَبَّنا لك الحمدُ .الصفة الرابعة: اللَّهُمَّ رَبَّنا ولك الحمدُ .وكلُّ واحدة من هذه الصِّفات مجزئة، ولكن الأفضل أن يقول هذا أحياناً، وهذا أحياناً.
قوله: "ومأموم في رفعه" ، أي: أنَّ المأمومَ يقول في حال الرَّفْعِ: "رَبَّنا ولك الحمدُ" أما الإِمامُ والمنفردُ فيقول في رَفْعِهِ: "سَمِعَ اللهُ لمَن حَمِدَه".
قوله: "فقط" بمعنى: فحسب، يعني: لا يزيد على ذلك، فيقتصر على ذلك ويقفُ ساكتاً،. ولكن عند التأمل نجد أنَّ هذا القولَ ضعيفٌ، وأنَّ الحديثَ لا يدلُّ عليه، وأنَّ المأموم ينبغي أن يقول كما يقول الإِمامُ والمنفردُ، وهذا هو القول الرَّاجح.
وعُلِمَ مِن كلام المؤلِّف: أنَّ المأمومَ لا يقول: "سَمِعَ اللهِ لمَن حَمِدَه" وهو كذلك.
تتمة: لم يذكر المؤلِّفُ ماذا يصنع بيديه بعد الرَّفع من الرُّكوع، هل يعيدهما على ما كانتا عليه قبل الرُّكوعِ؛ فيضعُ يدَه اليُمنى على ذراعه اليُسرى، أو يرسلهما؟ والمنصوص عن الإِمام أحمد : أن الإِنسان يُخيَّر بين إرسالهما، وبين وَضْعِ اليد اليُمنى على اليُسرى. وكأن الإِمام أحمد رأى ذلك؛ لأنه ليس في السُّنَّة ما هو صريح في هذا، فرأى أنَّ الإِنسان مخيَّرٌ. وهذا كما يقول بعض العلماء في مثل هذه المسألة: الأمرُ في ذلك واسع. ولكن الذي يظهر أن السُّنَّة وَضْعُ اليد اليُمنى على ذراع اليُسرى ، وهذا هو الصحيح.(1/252)
قوله: "ثم يخرُّ مكبِّراً ساجداً" . "ثم" حرف عطف يفيدُ الترتيب والتَّراخي، ولم يبيِّن المؤلِّفُ مقدار هذا التَّراخي، ولكن قد دلَّت السُّنَّةُ مِن حديث البراء بن عازب وغيره أن هذا القيام - أعني الاعتدال بعد الرُّكوع - يكون بمقدار الرُّكوع تقريباً.
ولم يذكر المؤلِّفُ رَفْعَ اليدين، فهل هذا مِن باب الاختصار، أو الاقتصار، أو العمد؟ الجواب: الثالث من باب العَمْد؛ لأن رَفْعَ اليدين عند السُّجودِ ليس بسُنَّة. وقد رُويَ عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنه كان يرفع يديه في كلِّ خَفْضٍ ورَفْعٍ. ولكن الحافظ ابن القيم ذكر أن هذا وَهْمٌ، وأن صواب الحديث: "كان يكبِّرُ في كلِّ خَفْضٍ ورَفْعٍ".
قوله: "على سبعة أعضاء: رجليه، ثم ركبتيه، ثم يديه، ثم جبهته مع أنفه" .قال: "سبعة أعضاء" وبيَّنها قال: رجليه، ثم ركبتيه، - أربعة. ثم يديه - ستة. ثم جبهته مع أنفه - سبعة.
وقوله: "ثم يديه" أي: كفَّيه.
وقوله: "ثم ركبتيه، ثم يديه" أفادنا المؤلِّفُ بالنصِّ الصَّريح أنَّ الرُّكبتين مقدمتان على اليدين في السُّجود، كما ذَهَبَ إليه عُمرُ بنُ الخطَّاب ، وعامةُ أهلِ العِلم؛ ومنهم الأئمةُ الثلاثةُ: أحمدُ وأبو حنيفة والشافعيُّ، ومِن العلماء مَن يقول: بل يسجدُ على يديه أولاً ، والقول (الأول) هوالموافق للمنقول والطبيعة, لكن مع ذلك لو أن إنساناً كان ثقيلاً، أو مريضاً، أو في ركبتيه ما يشقُّ عليه به السُّجودُ على الرُّكبتين، ففي هذه الحال لا بأس أن يُقدِّمَ اليدين، ويكون النَّهيُ ما لم يوجد سببٌ يقتضيه، فإن وُجِدَ سببٌ يقتضيه فإن هذا لا بأس به.
قوله: "ولو مع حائلٍ ليسَ من أعضاءِ سجودِهِ" أي: يَسجُد على الأرض؛ ولو مع حائل ليس مِن أعضاء السُّجودِ. والحائل: يشمَلُ الثوبَ، والغُترةَ، والمشلحَ، وما كان مِن جنس الأرضِ، وما كان من غير جنسها فهو عامٌّ، لكن لا بُدَّ أن يكون طاهراً.(1/253)
قوله: "ليسَ من أعضاءِ سجودِهِ" أي: لا يجوز أن يسجد على حائلٍ من أعضاء السُّجود: بأن يضع جبهته على كفَّيه مثلاً، أو يضع يديه بعضهما على بعض، أو يضع رجليه بعضهما على بعض، لأنه إذا فَعَلَ ذلك فكأنما سَجَدَ على عضوٍ واحدٍ.
وقوله : "ولو مع حائلٍ ليسَ من أعضاءِ سجودِهِ" : لم يبيِّن حُكمَ السُّجودِ على حائلٍ إذا كان مِن غير أعضاء السُّجودِ، إنما بَيَّنَ أنَّ السجودَ يجزئُ مع الحائل، فما حُكم وَضْعِ الحائل؟ قال أهلُ العلم: إن الحائل ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون متَّصلاً بالمصلِّي، فهذا يُكره أن يسجدَ عليه إلا مِنْ حَاجةٍ مثل: الثَّوب الملبوس، والمشلح الملبوس، والغترة، وما أشبهها.
القسم الثاني: أن يكون منفصلاً، فهذا لا بأس به ولا كراهة فيه ، ولكن قال أهل العِلم: يُكره أن يخصَّ جبهته فقط بما يسجد عليه.
والسُّجود على هذه الأعضاء السَّبعة واجب في كل حال السُّجود، بمعنى أنه لا يجوز أن يرفع عضواً من أعضائه حال سجوده، لا يداً، ولا رِجْلاً، ولا أنفاً، ولا جبهة، ولا شيئاً من هذه الأعضاء السبعة. فإن فَعَلَ؛ فإن كان في جميع حال السجود فلا شَكَّ أن سجوده لا يصحُّ؛ لأنه نقص عضواً من الأعضاء التي يجب أن يسجد عليها.
وأمَّا إن كان في أثناء السجود؛ بمعنى أن رَجُلاً حَكَّته رِجْلُهُ مثلاً فَحَكَّها بالرِّجْلِ الأخرى فهذا محلُّ نظر، قد يُقال: إنها لا تصحُّ صلاته لأنه تَرَكَ هذا الرُّكن في بعض السجود.وقد يُقال: إنه يجزئه لأن العبرة بالأَعمِّ والأكثر، فإذا كان الأعمُّ والأكثر أنه ساجد على الأعضاء السبعة أجزأه، وعلى هذا فيكون الاحتياط: ألا يرفع شيئاً وليصبر حتى لو أصابته حِكة في يده مثلاً، أو في فخذه، أو في رِجْلِهِ فليصبر حتى يقومَ من السُّجود.(1/254)
مسألة: إذا عَجَزَ عن السُّجود ببعض الأعضاء فماذا يصنع؟ الجواب: يسجدْ على بقية الأعضاء؛ لقوله تعالى{ فأتقوا الله ما إستطعتم} [التغابن: 16] وإذا قُدِّر أنه قد عَمل عمليَّة في عينيه، وقيل له: لا تسجدْ على الأرض؛ فليومئ ما أمكنه، وليضع مِن أعضاء السجود ما أمكنه.
قوله: "ويجافي عضديه عن جنبيه" . يعني: يبعدهما .ويُسْتثنى من ذلك: ما إذا كان في الجماعة؛ وخشي أن يؤذي جاره، فإنه لا يُستحبُّ له؛ لأذيَّة جاره، وذلك لأن هذه المجافاة سُنَّةٌ، والإيذاء أقلُّ أحواله الكراهة، ولا يمكن أن يفعل شيء مكروه مؤذٍ لجاره مشوِّش عليه من أجل سُنَّة .
قوله: "وبطنَه عن فَخِذَيهِ" . أي: يرفعه عن فخذيه، وكذلك أيضاً يرفع الفخذين عن الساقين.
قوله: "ويفرق ركبتيه" . أي: لا يضمُّ ركبتيه بعضهما إلى بعض، بل يفرِّقُهما، وأما القدمان فقد اُختلف العلماءُ في ذلك: فمِن العلماء من يقول: إنه يفرِّق قدميه أيضاً ، ولكن الذي يظهر مِن السُّنَّة: أن القدمين تكونان مرصوصتين، يعني: يرصُّ القدمين بعضهما ببعض, ويكون موضع اليدين على حذاء المنكبين، وإن شاء قدَّمهما وجعلهما على حذاء الجبهة، أو فُروع الأذنين؛ لأن كلَّ هذا مما جاءت به السُّنَّةُ.
مسألة: لو طال السُّجودُ؛ بأن كان خلف إمامٍ يُطيلُ السُّجودَ، هل يضع ذراعيه على الأرض يتَّكئ على الأرض؟ نقول: لا يَتَّكئ على الأرض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك, لكن قال العلماء رحمهم الله : يعتمِدُ بمرفقيه على ركبتيه إذا شقَّ عليه طول السُّجود، وهذا إذا كان مع إمام، أما إذا كان يُصلِّي لنفسه؛ فإنه لا ينبغي له أن يكلِّف نفسه ويشقَّ عليها، بل إذا شَقَّ عليه وتعب فإنه يقوم؛ لأن الله سبحانه وتعالى يَسَّر على عباده.
قوله: "ويقول: سبحان ربي الأعلى" . أي: حال السُّجودِ يقول: "سبحان ربي الأعلى" .(1/255)
وفي قوله: "ويقول سبحان رَبِّي الأعلى" قد ذكرنا في أول باب صِفة الصَّلاةِ أنه لا بُدَّ من أن يُسمِعَ الإنسانُ نفسَه في كلِّ قولٍ واجب، وذكرنا أنَّ القولَ الرَّاجح أن ذلك ليس بشرط ، فالشرطُ أن يخرجَ الحروفَ مِن مخارجها سواءٌ أسْمَعَ نفسه أم لم يُسمعها.
ولم يذكرِ المؤلِّفُ هنا كم مرَّة يقولها؟ ولم يذكر هل يذكر معها غيرها؟ والسُّنَّة أن تُكرر ثلاث مرات، وأن يزيد معها ما جاءت به السُّنَّةُ أيضاً مثل: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملائكةِ والرُّوح" ، "سبحانك اللهمَّ رَبَّنا وبحمدك، اللهمَّ اغْفِرْ لي" .
قوله: "ثم يرفع رأسه مكبِّراً" . أي: يرفعُ رأسَه وما يتبعه من اليدين "مكبِّراً" حال من فاعل "يرفع". وعلى هذا؛ فيكون التَّكبيرُ في حال الرَّفْعِ؛ لأن هذا التكبير تكبيرُ اُنتقال، وتكبيرات الاُنتقال كلُّها تكون ما بين الرُّكنين، لا يبدأ بها قبلُ، ولا يؤخِّرها إلى ما بعدُ؛ لأنه إنْ بدأها قبلُ أدخلها على أذكار الرُّكن الذي اُنتقلَ منه، وإن أخَّرها أدخلها على أذكار الرُّكن الذي اُنتقلَ إليه، فالسُّنَّةُ أن يكون التَّكبيرُ في حال الانتقال .
قوله: "ويجلس مفترشاً يسراه" . "يجلس": أي: بعد السَّجدة الأُولى "مفترشاً يسراه" أي: يُسرى رِجليه، أي: جاعلاً إيَّاها كالفراش، والفراش يكون تحت الإنسان، أي: يضعها تحته مفترشاً لها لا جالساً على عقبيه، بل يفترشها، وعليه؛ فيكون ظهرُها إلى الأرض وبطنُها إلى أعلى.
قوله: "ناصباً يُمناه" . أي: جاعلها منتصبة، والمراد: القدم، وحينئذٍ لا بُدَّ أن يخرجها من يمينه، فتكون الرِّجلُ اليُمنى مخرجة من اليمين، واليسرى مُفتَرشةً، أي: أنه يجلس بين السَّجدتين هكذا، لا يجلس متورِّكاً وهذه الصفة متفق عليها.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يُسَنُّ في هذا الجلوس سوى هذه الصِّفَة. وذهب بعضُ أهل العلم إلى أنه يجلس على عقبيه ناصباً قدميه.(1/256)
تنبيه: لم يذكر المؤلِّف أين يضع اليدين؟ وكيف تكونان؟ مع أنه من الأمر المهمِّ في هذه الجلسة، فلنبينه: الصفة الأُولى: أن يضع يديه على فخذيه، وأطراف أصابعه عند ركبتيه .(و) الصفة الثانية: أنه يضع اليد اليُمنى على الرُّكبة، واليد اليُسرى يلقمها الرُّكبة كأنه قابض لها .
وأما كيف تكون اليدان: أما بالنسبة لليُسرى: فتكون مبسوطة مضمومة الأصابع موجهة إلى القبلة، ويكون طرف المرفق عند طرف الفخذ، بمعنى: لا يُفرِّجها، بل يضمُّها إلى الفخذ. أما اليمين: فإن السُّنَّة تدلُّ على أنه يقبض منها الخنصر والبنصر، ويُحَلِّقُ الإبهام مع الوسطى، ويرفع السَّبَّابة، ويُحرِّكُها عند الدُّعاء. هكذا جاء فيما رواه الإمام أحمد من حديث وائل بن حُجْر بسند قال فيه صاحب "الفتح الرباني": "إنه جيد" . وقال فيه المحشِّي على "زاد المعاد": إنه صحيح، وإلى هذا ذهب ابنُ القيم .
أما الفقهاء: فيرون أن اليد اليُمنى تكون مبسوطة في الجلسة بين السجدتين كاليد اليُسرى ، ولكن اُتِّباعُ السُّنَّة أَولى، ولم يَرِدْ في السُّنَّة لا في حديث صحيح، ولا ضعيف، ولا حَسَن أن اليد اليُمنى تكون مبسوطة على الرِّجْلِ اليُمنى، إنما وَرَدَ أنها تُقبض، يقبض الخنصر والبنصر، ويُحلِّق الإِبهام مع الوسطى ، أو تضم الوسطى أيضاً، ويضم إليها الإبهام إذا جلس في الصَّلاة.
قوله: "ويقول: رَبِّ اغفرْ لي" أي: يقول حال جلوسه: رَبِّ اغفرْ لي، أي: يا رَبِّ، اغفرْ لي. واقتصر على الواجب . ولكن الصحيح أنه يقول كلَّ ما ذُكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ربِّ اُغفرْ لي، وارحمني، (وعافني)، واُهدني، وارزقني" أو "اجبرني" بدل "ارزقني" وإن شاء جمع بينهما؛ لأن المقام مقام دعاء.(1/257)
قوله: "ويسجد الثانية كالأُولى" .أي: في القول والفعل، يعني: فيما يُقال فيها من الأذكار، وما يُفعل فيها من الأفعال. وهل يقرأ القرآن وهو ساجد؟ الجواب: لا، اللهم إلا إذا دعا بجملة من القرآن مثل: )رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8) فهذا لا يضرُّ، لأن المقصود به الدُّعاء.
قوله: "ثم يرفع مكبِّراً ناهضاً على صدور قدميه" . أي: من السجدة الثانية "مكبِّراً" حال من فاعل "يرفع" فيكون التكبير في حال الرَّفْعِ.
قوله: "ناهضاً على صدور قدميه" قال في "الرَّوض": ولا يجلس للاستراحة، يعني: ينهض على صدور قدميه؛ معتمداً على رُكْبَتَيْه بدون جلوس.
قوله: "معتمداً على ركبتيه إن سهل" أي: وإن لم يَسْهُلْ عليه فإنه يعتمدُ على الأرض، ويبدأ بالنُّهوض مِن السُّجود بالجبهة والأنف، ثم باليدين؛ فيضعهما على الرُّكبتين، ثم ينهض على صدور القدمين. هذا هو السُّنَّةُ على ما قاله المؤلِّف وهو المذهب.(1/258)
فاستفدنا مِن كلامه أنه لا يجلس إذا قام إلى الركعة الثانية، وهذه المسألة فيها خِلاف بين أهل الحديث وبين الفقهاء أيضاً . فالقول الأول: لا يجلس كما ذَكَرَه المؤلِّفُ، فلا يُسَنُّ الجلوس مطلقاً. وهو المذهب. (و) القول الثاني: يجلس مطلقاً، سواء اُحتاجَ للجلوس أم لم يحتجْ، يجلس تعبُّداً لله . وهذا قول أكثر أهل الحديث، وهذان قولان متقابلان. (و) القول الثالث: وسط؛ وافق هؤلاء في حال؛ ووافق هؤلاء في حال، فقالوا: إن كان الإنسان محتاجاً إلى الجلوس؛ أي: لا يستطيع أن ينهضَ بدون جلوس؛ فيجلس تعبُّداً، وإذا كان يستطيع أن ينهض فلا يجلس. وهذه الجِلْسة تُسَمَّى عند العلماء: جِلْسَةَ الاستراحة. وهذا القول كما ترى قولٌ وَسَطٌ ، تجتمع فيه الأخبار كما قال صاحب "المغني" ، وهو اختيار ابن القيم، أننا لا نقول سُنَّة على الإطلاق، ولا غير سُنَّة على الإطلاق، بل نقول هي سُنَّة في حَق مَنْ يحتاج إليها لكبر أو مرض أو غير ذلك. وكنت أميلُ إلى أنها مستحبَّة على الإطلاق وأن الإنسان ينبغي أن يجلس، وكنت أفعلُ ذلك أيضاً بعد أن كنت إماماً، ولكن تبيَّن لي بعد التأمل الطويل أن هذا القول المفصَّل قول وسط، وأنه أرجح من القول بالاستحباب مطلقاً، وإن كان الرُّجحان فيه ليس قوياً عندي، لكن تميل إليه نفسي أكثر، فاعتمدت ذلك.
مسألة: إذا كان الإنسان مأموماً فهل الأفضل له أن يجلس إذا كان يرى هذا الجلوس سُنَّة، أو متابعة الإمام أفضل؟ الجواب: أنَّ متابعةَ الإمام أفضل. فإن كان الأمرُ بالعكس، بأن كان الإمامُ يرى هذه الجِلْسَة وأنت لا تراها، فإن الواجب عليك أن تجلس.
قوله: "ويصلي الثانية كذلك" . أي: يُصلِّي الركعةَ الثانية كالأُولى، يعني: في القيام والرُّكوعِ والسُّجودِ والجلوسِ، وما يُقال فيها.(1/259)
قوله: "ما عدا التحريمة" ، أي: تكبيرة الإحرام؛ لأن التحريمة تُفتتح بها الصَّلاةُ، وقد اسْتُفْتِحَتْ، بل لو كَبَّرَ ناوياً التَّحريمة بطلت صلاتُه؛ (((لأن لازم ذلك أن يكون قد قطع الركعة الأُولى، وابتدأ الثانية مِن جديد، وهذا يُبطل الصَّلاةَ.)))
قوله: "ما عدا التحريمة" ، بالنصب وجوباً؛ لأنها مسبوقة ب-"بما"، أما لو خلت من "ما" لجاز الوجهان: النصب، والجر.
قوله: "والاستفتاح" ، أيضاً الاستفتاح لا يُسَنُّ في الركعة الثانية؛ لأن الاستفتاح تُفتتح به الصَّلاةُ بعد التحريمة.
فإن قال قائل: لو أن أحداً مِن النَّاس اُستفتحَ في الركعة الأُولى بنوعٍ من الاستفتاحات، واُستفتحَ في الركعة الثانية بنوعٍ آخر؟لقلنا: هذا بدعة.
قوله: "والتعوذ" أي: وما عدا التعوُّذَ، يعني: قوله "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، فإنه يُشرع في الأُولى ولا يُشرع في الثانية، فإذا تعوَّذَ لأوَّل مرَّة كفى. قال في "الرَّوض" : إلا إذا لم يتعوَّذ في الأُولى فيتعوَّذُ في الثانية، وهذا اُستثناء جيد، مثل أن يدركَ الإمامَ راكعاً فإنه سوف يُكبِّر تكبيرة الإحرام؛ ثم يُكبِّر للرُّكوع ويركع، وتكون القراءة في الرَّكعةِ الثانيةِ هي أوَّل قراءته، وحينئذٍ يتعوَّذ. وقال بعض أهل العلم : بل يتعوَّذ في كلِّ رَكعة؛ وذلك لأنه حال بين القراءتين أذكارٌ وأفعالٌ، فيستعيذ بالله عند القراءة في كلِّ رَكعة. والأمرُ في هذا واسعُ.
قوله: "وتجديد النية" ، أي: أنَّه لا يأتي بنيَّةٍ جديدة، بخلاف الرَّكعةِ الأُولى، فإن الرَّكعةَ الأُولى يدخُلُ بها في الصَّلاةِ بنيَّةٍ جديدة، فلو نوى الدخول بنيَّةٍ جديدةٍ في الرَّكعة الثانية لبطلت الأُولى,((( لأنَّ لازمَ تجديد النيَّة في الركعة الثانية قَطْعُ النيّة في الركعة الأُولى، ولم تنعقد الثانية لعدم التَّحريمة.)))(1/260)
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أن الركعة الثانية كالأُولى في مقدار القراءة؛ لأنه لم يَستثنِ إلا هذه المسائل الأربع وهي: التحريمة، والاُستفتاح، والتعوُّذ، وتجديد النيَّة. فظاهره: أنَّ القراءة في الرَّكعة الثانية كالقراءة في الرَّكعة الأُولى، ولكن الصواب خِلافُ ذلك، فإنَّ القراءةَ في الركعةِ الثانيةِ دون القراءة في الركعة الأُولى، كما هو صريح حديث أبي قتادة ، لكن في حديث أبي سعيد ما يدلُّ على أن الركعة الثانية كالأُولى، إلا أن حديث أبي سعيد يدلُّ على أن القراءة مشروعة في الركعات الأربع، فإن حديث أبي سعيد الخدري يدلُّ على أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ مع الفاتحة في كلِّ ركعة، لكن في الركعتين الأوليين يقرأ قراءة سواء، وفي الركعتين الأخريين سواء، لكن على النِّصْفِ مِن الأوليين.
قوله: "ثم يجلس مفترشاً" أي: بعد أن يُصلِّي الثانيةَ بركوعها وسجودها وقيامها وقعودها. "يجلس" وهذا الجلوس للتشهُّدِ إمَّا الأول، وإمَّا الأخير، إن كانت الصَّلاةُ رباعية أو ثلاثية فهو أوَّل، وإن كانت سوى ذلك فهو أخير.
قوله: "ويداه على فخذيه" . معنى العبارة: أنه في هذا الجلوس يَجعلُ يديه على فخذيه. وظاهر كلامه: أنه لا يقدمهما حتى تكونا على الرُّكبة, فلا يُلْقِم اليُسرى ركبته، ولا يضع اليُمنى على حرف الفخذِ، هذا ما قاله المؤلِّفُ، ولكن السُّنَّة دَلَّت على مشروعية الأمرين، أي: أن تضعَ اليدين على الفخذين، وأن تُلْقِمَ اليُسرى الرُّكبةَ اليُسرى وتَجعلَ اليُمنى على حَرْفِ الفخذِ، أي: على طَرَفِهِ، فكلتاهما صفتان .
قوله: "يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها، ويحلق إبهامها مع الوسطى" وتبقى السَّبَّابةُ مفتوحةً لايضمها،هذه صفة , وهناك صفة أخرى ؛ بأن يضم الخنصر والبنصر والوسطى , ويضم إليها الإبهام وتبقى السبابة مفتوحة فهاتان أيضاً صفتان في كيفية أصابع اليد اليُمنى.
قوله: "ويشير بسبابتها" أي: يشير بسبَّابته إلى أعلى.(1/261)
قوله: "في تشهده" . هل المراد: يُشيرُ بها في تشهُّدِه مِن حين ما يبدأ إلى أن ينتهي، أو المراد: يُشيرُ بها في تشهُّدِه في موضع الإشارة؟ كلامُ المؤلِّف فيه اُحتمال، لكن غيره بَيَّنَ أنه يُشيرُ بها عند وجودِ سبب الإشارة. وما هو سبب الإشارة؟ سببُهُ ذِكْرُ الله، واُختلف الفقهاءُ في معنى كلمة "ذِكْر الله" فقيل: عند ذِكْرِ الجلالة. وقيل: المراد بذِكْرِ الله: الذِّكْر الخاصُّ وهو "لا إله إلا الله"، وعلى هذا؛ فلا يُشيرُ إلا مَرَّةً واحدةً، وذلك عندما يقول: أشهد أنْ لا إله إلا الله. هذا اختلاف الفقهاء، ولكن السُّنَّة دَلَّت على أنه يُشير بها عند الدعاء فقط لأن لفظ الحديث: "يُحرِّكُها يدعو بها" وقد وَرَدَ في الحديث نَفْيُ التَّحريك وإثباتُ التحريك . والجمعُ بينهما سهل: فنفيُ التَّحريك يُراد به التَّحريكُ الدَّائم، وإثباتُ التَّحريك يُراد به التَّحريكُ عند الدُّعاء، فكلما دعوت حرِّكْ إشارة إلى علوِّ المدعو سبحانه وتعالى، وعلى هذا فنقول:السلام عليك أيُّها النبيِّ" فيه إشارة؛ لأن السَّلامَ خَبَرٌ بمعنى الدُّعاءِ، "السَّلامُ علينا" فيه إشارة، "اللهم صَلِّ على محمَّد" فيه إشارة، "اللهم بارك على محمَّد" فيه إشارة، "أعوذ بالله من عذاب جهنَّم" فيه إشارة، "ومِن عذاب القبر" فيه إشارة، "ومِن فتنة المحيا والممات" فيه إشارة، "ومِن فتنة المسيح الدَّجَّال" فيه إشارة، وكُلَّما دعوت تُشيرُ إشارةً إلى عُلُوِّ مَنْ تدعوه سبحانه وتعالى، وهذا أقربُ إلى السُّنَّة.
قوله: "ويبسط اليسرى" يعني: أصابعها على الفخذِ الأيسر.(1/262)
قوله: "ويقول: التحيات لله,والصلوات والطيبات,السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته,السلام علينا, وعلى عباد الله الصالحين,أشهد أن لا إله إلا الله,وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. هذا التشهد الأول " يقول بلسانه متدبِّراً ذلك بقلبه وهل يُشترطُ أن يُسمعَ نفسَه؟ فيه خِلافٌ سَبَقَ ذِكْرُه . أمَّا المذهبُ فيُشترط أن يُسمعَ نفسَه في الفاتحة، وفي كُلِّ ذِكْرٍ واجبٍ.
واُعْلَمْ أن الأحاديث وَرَدَتْ في التشهُّدِ على أكثر من وَجْهٍ، فما موقفنا مِن هذه الوجوه؟ الجواب: أنَّ العلماء رحمهم الله اُختلفوا في مثل هذه الوجوه، وهذا بعد أن نعلم أنه لا يمكن جَمْع الذِّكْرَين في آنٍ واحدٍ، أمَّا إذا كان يُمكن أن نجمعهما في آنٍ واحدٍ فجمعُهما أولى، إلا إذا كان هناك قرينة تدلُّ على أن كلَّ واحد منهما يُقال بمفرده كما في دعاء الاستفتاح.
مسألة: ظاهر كلام المؤلِّف أنه لا يزيد في التشهُّدِ الأولِ على ما ذَكَرَ. وعلى هذا؛ فلا يستحبُّ أن تُصلِّيَ على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهُّد الأوَّل، وهذا الذي مشى عليه المؤلِّف ظاهرُ السُّنَّة، ومع ذلك لو أن أحداً مِن النَّاس صَلَّى على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع ما أنكرنا عليه، لكن لو سألنا أيُّهما أحسن؟ لقلنا: الاقتصار على التشهُّدِ فقط، ولو صَلَّى لم يُنْهَ عن هذا الشيء؛ لأنه زيادة خير، وفيه اُحتمال، لكن اُتباع ظاهر السُّنَّة أَولى.
قوله: "ثم يقول" أي: بعد التشهد الأول . "اللهم صلِّ على محمد" قيل: إنَّ الصَّلاةَ مِن الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدُّعاء.وهذا هو المشهورٌ بين أهل العلم. وأحسن ما قيل فيها: ما ذكره أبو العالية أنَّ صلاةَ الله على نبيه: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى . فمعنى "اللَّهمَّ صَلِّ عليه" أي: أثنِ عليه في الملأ الأعلى، أي: عند الملائكة المقرَّبين.وهذا هو القول الرَّاجح.(1/263)
قوله: "وعلى آل محمَّد" . أي: وصَلِّ على آل محمَّد. وآل محمد: قيل: إنهم أتباعه على دينه .وقيل: هم قرابته المؤمنون ، ولكن الصحيح الأول، وهو أن الآل هم الأتباع، لكن لو قُرِنَ "الآل" بغيره فقيل: على محمد وآله وأتباعه. صار المراد بالآل المؤمنين مِن قرابته من بني هاشم ومن تفرع منهم لأن الآل يشمل إلى الجد الرابع.
قوله: "كما صَلَّيت على آل إبراهيم, إنك حميد مجيد,وبارك على محمد,وعلى آل محمد,كما باركت على إبراهيم,إنك حميد مجيد" . هذا مِن باب التوسُّلِ بفِعْلِ الله السَّابق إلى فِعْله اللاحق، كأنك تقول: كما أنك يا رَبِّ قد تفضَّلت على آل إبراهيم وباركت عليهم فبارك على آل محمَّد.
قوله: "ويستعيذ من عذاب جهنم , ومن عذاب القبر, ومن فتنة المحيا والممات,وفتنة المسيح الدجال". في التعوّذ من هذه الأربع قولان : القول الأول: أنه واجب، وهو رواية عن الإمام أحمد. والقول الثاني: أنه سُنَّة، وبه قال جمهور العلماء. ولا شَكَّ أنه لا ينبغي الإخلالُ بها.
قوله: "ويدعو بما ورد" . ليت المؤلف قال: "ويدعو بما أحبَّ" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذَكَرَ حديث ابن مسعود في التشهُّدِ قال: "ثم يتخيَّر من الدُّعاء ما شاء" لكن يمكن أن نجيب عن كلام المؤلِّف فنقول: إنه ينبغي أن يبدأ الإنسان بما وَرَدَ؛ لأن الدُّعاء الوارد خير من الدُّعاء المصطنع، فإذا وجد دعاءً وارداً، فالتزامه أَولى، ثم تدعو بما شئت.(1/264)
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يدعو بغير ما وَرَدَ، سواء قلنا: إن المراد ما وَرَدَ بجنسه أو قلنا: ما وَرَدَ بعينه، فلا يدعو بشيء مِن أمور الدُّنيا مثل أن يقول: اللَّهُمَّ اُرزقني بيتاً واسعاً، أو: اللَّهُمَّ اُرزقني زوجة جميلة، أو: اللَّهُمَّ اُرزقني مالاً كثيراً، أو: اللَّهُمَّ اُرزقني سيارة مريحة، وما أشبه ذلك؛ لأن هذا يتعلَّق بأمور الدُّنيا، حتى قال بعض الفقهاء رحمهم الله: لو دعا بشيء مما يتعلَّق بأمور الدنيا بطلت صلاتُه ، لكن هذا قول ضعيف بلا شَكٍّ. والصحيح : أنه لا بأس أن يدعو بشيء يتعلَّق بأمور الدُّنيا؛
مسألة: هل يجوز الدُّعاء لمعين، بأن يقول: اللهم اُجْزِ فلاناً عنِّي خيراً، أو اللَّهُمَّ اُغفِرْ لفلان؟ الجواب: يجوز، لأن هذا دعاء. لكن؛ لو دعا لشخص بصيغة الخطاب فقال مثلاً: غَفَرَ الله لك يا شيخ الإسلام ابن تيمية. فالفقهاء يقولون: تبطل ً، ولكن هذا القول في النَّفْسِ منه شيء، وذلك لأنك إذا قلت: غَفَرَ الله لك يا فلان؛ وأنت تُصلِّي، فإنك لا تشعر بأنك تخاطبه أبداً، ولكن تشعرُ بأنك مستحضرٌ له غاية الاستحضار حتى كأنه أمامك. فالذي يظهر: أن خطاب الآدميين المنهيِّ عنه: أن تخاطبه المخاطبة المعتادة، فتقول مثلاً: يا فلان تعال، فهذا كلام آدميين تبطل به الصَّلاة، لكن شخصاً يستحضر شخصاً ثم يقول: غَفَرَ الله لك يا فلان، فكون هذا مبطلاً للصَّلاةِ فيه نَظَر، ولكن درءاً للشُّبهة بدل أن تقول: غَفَرَ الله لك، فقل: اللَّهُمَّ اُغفِر له، فهذا جائز بالاتفاق.
قوله: "ثم يُسلِّم عن يمينه السلام عليكم ورحمة الله,وعن يساره كذلك " أي: بعد التشهُّدِ والدُّعاء، يُسلِّم عن يمينه وعن يساره، فيقول، عن يمينه: "السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله"، وعن يساره: "السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله".(1/265)
وهنا بحثٌ في السَّلام: أولاً: لو قال: سلام عليكم بدون (أل) هل يجزئ؟ الجواب: نعم، لكن السُّنَّة أن يكون بـ(أل) فيقول: "السَّلام عليكم".
ثانياً: لو جاء بالإفراد فقال: "السَّلام عليك ورحمة الله"، فإنه لا يجزئ.
ثالثاً: لو قال: "السَّلام عليكم" فقط، فهل يجزئ؟ فيه خلاف بين العلماء : مِنهم مَن قال: لا يجزئ، وهو المذهب. ومِنهم مَن قال: يجزئ، وهو رواية عن أحمد ؛ لأنه قد وَرَدَ في حديث جابر بن سَمُرَة قال: "صَلَّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكُنَّا إذا سَلَّمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، السلام عليكم..." . بدون ذِكْرِ "ورحمة الله" وعلى هذا فيكون قوله: "ورحمة الله" سُنَّة، وليس بواجب.
رابعاً: هل يزيد في ذلك فيقول: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟ الجواب: هذا موضع خلاف بين العلماء ، فمنهم من قال: الأفضل ألا يزيد، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد ، لا في التسليمة الأولى، ولا في التسليمة الثانية. وذهب بعضُ أهل العلم: إلى أن يزيد في التَّسليمةِ الأُولى "وبركاته" دون الثانية.
خامساً: لو اُقتصرَ على تسليمةٍ واحدةٍ فهل يجزئ؟ الجواب: هذا أيضاً موضع خلاف بين العلماء ، فمنهم مَن قال: يجزئ. ومنهم مَن قال: لا يجزئ ، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة . وقال بعض أهل العلم: تجزئ واحدة في النَّفل دون الفرض. فهذه أقوال ثلاثة. والاحتياط : فيها أن يُسلِّم تسليمتين .
قوله: "وإن كان في ثلاثية، أو رباعية نهض مكبِّراً بعد التشهد الأول " . ظاهر كلام المؤلِّف: أنه لا يرفع يديه, وهذا هو المشهور من المذهب. والصَّحيح: أنه يرفع يديه.(1/266)
وعلى هذا؛ فمواضع رَفْع اليدين أربعة: عند تكبيرة الإحرام، وعند الرُّكوعِ، وعند الرَّفْعِ منه، وإذا قام من التشهُّدِ الأول. ويكون الرَّفْعُ إذا اُستتمَّ قائماً؛ لأن لفظ حديث ابن عُمر: "وإذا قام من الرَّكعتين رَفَعَ يديه" ، ولا يَصدُق ذلك إلا إذا اُستتمَّ قائماً، وعلى هذا، فلا يرفع وهو جالس ثم ينهض، كما توهَّمَهُ بعضهم. ولا رَفْعَ فيما سوى ذلك.
قوله: "وصلَّى ما بقي كالثَّانية بالحمد فقط" : أي: كالرَّكعة الثانية، أي: فليس فيه تكبيرة إحرام، ولا اُستفتاح، ولا تعوُّذ، ولا تجديد نيَّة، وتمتاز هاتان الرَّكعتان عن الأوليين، بأنه يُقتصر فيهما على الحَمْد، وأنه يُسرُّ فيهما بالقراءة في الصلاة الجهرية، فهما ركعتان مِن نوع جديد.
وقوله: "بالحمد فقط" أي: بالفاتحة لا يزيد عليها، وهذا هو مُقتضى حديث أبي قتادة الثَّابت في "الصحيحين" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الرَّكعتين الأخريين بفاتحة الكتاب فقط ، ولكن في حديث أبي سعيد الخدري ما يدلُّ على أن الركعتين الأخريين يقرأ فيهما؛ لأنه ذَكَرَ أنَّ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام كان يقرأ في الرَّكعتين الأوليين بسورة، ولا يطوّل الأولى على الثانية، ويقرأ بالرَّكعتين الأخريين بنصف ذلك .وهذا يدلُّ على أنه جَعَلَ الرَّكعتين الأوليين سواء، والرَّكعتين الأخريين سواء. لكن بعض العلماء رجَّحَ حديث أبي قتادة. وهذا هو المذهب. ولكن الذي يظهر أن إمكان الجَمْعِ حاصلٌ بين الحديثين، فيُقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يفعل ما يدلُّ عليه حديث أبي سعيد، وأحياناً يفعل ما يدلُّ عليه حديث أبي قتادة؛ لأن الصلاة ليست واحدة حتى نقول: فيه تعارض، بل كلُّ يوم يصلِّي الرسول صلى الله عليه وسلم خمس مرَّات، وإذا أمكن الجَمْعُ وَجَبَ الرُّجوعُ إليه قبل أن نقول بالنَّسخ، أو بالترجيح.(1/267)
قوله: "ثم يجلس في تشهده الأخير متورِّكاً" ، أي: إذا أتى بما بقي إما ركعة إن كانت الصَّلاةُ ثلاثية، وإما ركعتين إن كانت رباعية جَلَسَ في التشهُّدِ الأخير متورِّكاً. وكيفية التورُّك: أن يُخرِجَ الرِّجلَ اليُسرى مِن الجانب الأيمن مفروشة، ويجلس على مَقعدته على الأرض، وتكون الرِّجل اليُمنى منصوبة . وهذه إحدى صفات التورُّكِ. (و) الصفة الثانية: أن يَفرُشَ القدمين جميعاً، ويخرجهما مِن الجانب الأيمن . (و) الصفة الثالثة: أن يَفرُشَ اليُمنى، ويُدخل اليُسرى بين فخذ وساق الرِّجل اليُمنى . كلُّ هذه وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التورُّك، وعلى هذا فنقول: ينبغي أن يَفعلَ الإنسانُ هذا مرَّة، وهذا مرَّة .
وعُلِمَ مِن قوله: "في تشهُّدِه الأخير" أنه لا تورُّك إلا في التشهُّدِ الأخير من صلاةٍ ذات تشهُّدين، والمراد التشهُّدُ الأخير الذي يعقبه السَّلام، وقولنا: "الذي يعقبه السَّلام" اُحترازٌ مِن التشهُّدِ الأخير الذي لا يعقبه سلام، كما لو سُبِقَ المأمومُ بركعة، وجَلَسَ مع إمامه في تشهُّدِه الأخير؛ فإنه لا يتورَّك لأن تشهُّدَه هذا لا يعقبه سلام.
ولكن ههنا مسألة؛ وهي أنه يجب على الإنسان الذي يفعل هذه العبادات المتنوِّعة أن يكون على يقين منها، فإن شكَّ رَجَعَ إلى ما يتيقَّنُه، فمثلاً: حديث ابن عباس في التشهُّدِ ، وحديث ابن مسعود ، بينهما بعض الاختلاف فأحياناً ينسى الإنسان ما جاء في حديث ابن عباس، وحينئذ يقتصر على الذي يعلم، كما قلنا في القراءات الواردة في قراءة القرآن الكريم، إذا كُنتَ حافظاً لها مجيداً متقناً لها فالأفضل أن تقرأ بهذا مرَّة، وبهذا مرَّة؛ ما لم يكن بحضرة العَوَام، وأما إذا كنت غير مجيد لها فإنك تقتصر على ما تعلم؛ لئلا تخلِّط في القرآن، وهكذا العبادات.
قوله: "والمرأة مثله" أي: مثل الرَّجل, والأصل في الرِّجَال أنهم كالنِّساء في الأحكام.(1/268)
قوله: "لكن تَضُمُّ نفسها" أي: أن المرأة تضمُّ نفسها في الحال التي يُشرع للرَّجل التَّجافي، كما في حال الرُّكوعِ والسُّجود، فإذا سَجَدَتْ تجعل بطنَها على فخذيها، وفخذيها على ساقيها، وإذا ركعتْ تضمُّ يديها.(وهذا هو المذهب) ( ولكن ) الرَّاجح: أن المرأة تصنعُ كما يصنعُ الرَّجُلُ في كلِّ شيء، فترفَعُ يديها وتجافي، وتمدُّ الظَّهرَ في حال الرُّكوعِ، وترفعُ بطنَها عن الفخذين، والفخذين عن الساقين في حال السُّجود.
قوله: "وتسدل رجليها في جانب يمينها" يعني: أنها تخالف الرَّجل في كيفيَّة الجلوس، فلا تفترش، ولا تتورَّك، ولكن تسدلُ الرِّجْلين بجانب اليمين في الجلوس بين السَّجدتين، وفي التشهُّدين. وهذا أيضاً ليس عليه دليل، بل الدليل يدلُّ على أنها تفعل كما يفعل الرَّجل تفترش في الجلوس بين السَّجدتين، وفي التشهُّدِ الأول، وفي التشهُّدِ الأخير في صلاة ليس فيها إلا تشهُّدٌ واحدٌ، وتتورَّك في التشهُّدِ الأخير في الثلاثية والرباعية. وعلى هذا: تكون المرأةُ مساوية للرَّجُل في كيفية الصَّلاة.
( مسألة: ماذا يقول المصلي بعد السَّلام مِن الصَّلاة ) ؟ الجواب : يقول إذا سَلَّم: "أستغفرُ الله" ثلاث مرَّات, ثم يقول بعد الاستغفار: "اللَّهُمَّ أنت السَّلامَ ومنك السَّلامُ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام" ، ثم يقول ما وَرَدَ من الذِّكرْ.
والتَّرتيب بعد الاستغفار، وقوله: "اللَّهمَّ أنت السَّلامُ، ومنك السَّلامُ" لا أعلم فيه سُنَّة، فإذا قَدَّم شيئاً على شيء فلا حَرَجَ.والمهمُّ أن يحرِصَ الإنسانُ على ما وَرَدَ عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا الباب، ومنه التسبيح والتحميد والتكبير ((( وقد وَرَدَ على عدَّة أوجه:(1/269)
الوجه الأول: أن يقول: "سبحان الله" ثلاثاً وثلاثين، و"الحمد لله" ثلاثاً وثلاثين، و"الله أكبر" ثلاثاً وثلاثين، ويختمُ بـ"لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كُلِّ شيء قدير" فتكون مِئَة .
الوجه الثاني: أن يقول: "سبحان الله" ثلاثاً وثلاثين، و"الحمد لله" ثلاثاً وثلاثين، و"الله أكبر" أربعاً وثلاثين، فيكون الجميع مِئَة .
الوجه الثالث: أن يقول: "سبحان الله" عشراً، و"الحمد لله" عشراً، و"الله أكبر" عشراً، فيكون الجميع ثلاثين .
الوجه الرابع: أن يقول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" خمساً وعشرين مرَّة، فيكون الجميع مِئَة . )))
فصل
قوله: "ويكره في الصلاة التفاتُهُ" .يعني: يُكره للمصلِّي أن يلتفت في الصَّلاة, ولكن إذا كان الالتفات لحاجة فلا بأس.
قوله: "ورفع بصره إلى السماء" أي: يُكره رَفْعُ بصرِه إلى السماء وهو يُصلِّي، سواءٌ في حال القراءة أو في حال الرُّكوعِ، أو في حال الرَّفْعِ من الرُّكوع، أو في أي حال من الأحوال. والرَّاجح: في رَفْعِ البصرِ إلى السَّماءِ في الصَّلاة أنه حرام ؛ وليس بمكروه فقط ، ولكن إذا قلنا بأنه حرام؛ ثم رَفَعَ بصرَه إلى السَّماءِ؛ فهل تبطل صلاتُه؟ الجواب: اُختلفَ في ذلك أهلُ العِلم ، فقال بعضُهم: إنها تبطل الصلاة. ولكن الذي يظهر لي: أن المسألة لا تَصِلُ إلى حَدِّ البطلان.
قوله: "وتغميض عينيه" أي: أنه يُكره تغميض عينيه، أي: تطبيقهما. لكن لو فُرِضَ أن بين يديك شيئاً لا تستطيع أن تفتح عينيك أمامه؛ لأنه يشغلك، فحينئذٍ لا حَرَجَ أن تُغمض بقَدْرِ الحاجة، وأما بدون حاجة فإنه مكروه كما قال المؤلِّف، ولا تغترَّ بما يُلقيه الشيطان في قلبك من أنك إذا أغمضتَ صار أخشعَ لك.
قوله: "وإقعاؤه" أي: يُكره للمصلِّي إقعاؤه في الجلوس. والإقعاء له صُوَر:
الأولى: أن يَفْرُشَ قدميه، أي: يجعل ظُهُورَهما نحو الأرض، ثم يجلس على عقبيه.(1/270)
الثانية: أن ينصبَ قدميه ويجلسَ على عقبيه.
الثالثة: وهي أقربُها مطابقة لإقعاء الكلب أن ينصب فخذيه وساقيه ويجلسَ على أليتيه، ولا سيما إن اُعتمد بيديه على الأرض، وهذا هو المعروف من الإقعاء في اللغة العربية.
الرابعة: أن ينصبَ قدميه ويجلسَ على الأرض بينهما.
بقي صفات أخرى للجلوس لا تُكره لكنها خلاف السُّنَّة، كالتربُّع مثلاً؛ فليست مشروعةً ولا مكروهةً، ولكنها مشروعة في حال القيام إذا صَلَّى الإنسان جالساً في موضع القيام، والرُّكوع يتربَّع، وفي موضع السُّجود والجلوس يفترش إلا في حال التورُّك .
قوله: "وافتراش ذراعيه ساجداً" أي: يُكره أن يفترش ذراعيه حال السُّجود, ( فعلى المصلي أن ) يجافي ذراعيه، ويرفعهما عن الأرض، إلا أن الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا طال السُّجودُ وشَقَّ عليه؛ فله أن يعتمد بمرفقيه على ركبتيه.
قوله: "وعبثه" أي: يُكره عبث المصلِّي، وهو تشاغله بما لا تدعو الحاجة إليه.
قوله: "وتخصُّره" أي: وَضْعُ يده على خاصرته، والخاصرة هي: المستدق من البطن الذي فوق الورك، أي: وسط الإنسان، فإنه يُكره.
قوله: "وتروحه" أي: أن يروِّحَ على نفسه بالمروحة، مأخوذة من الرِّيح، والمروحة تُصنع من خوص النَّخل، تُخصف ويوضع لها عود، ثم يتروَّح بها الإنسان، يحرِّكُها يميناً وشمالاً، فيأتيه الهواء، وهذا مكروه ، لكن إنْ دعت الحاجةُ إلى ذلك بأن كان قد أصابه غَمٌّ وحَرٌّ شديد ورَوَّحَ عن نفسِه بالمروحة، من أجل أن تخفَّ عليه وطأة الغَمِّ والحرِّ في الصَّلاةِ فإن ذلك لا بأس به.
وأما التروُّح الذي هو المراوحة بين القدمين بحيث يعتمد على رِجْل أحياناً، وعلى رِجْل أُخْرى أحياناً؛ فهذا لا بأس به، ولا سيما إذا طال وقوف الإنسان، ولكن بدون أن يقدِّمَ إحدى الرِّجلين على الثانية، بل تكون الرِّجْلان متساويتين، وبدون كثرة.
قوله: "وفرقعة أصابعه" أي: ويُكره فرقعة أصابعه، أي: غمزها حتى تفرقع ويكون لها صوت.(1/271)
قوله: "وتشبيكها" أي: يُكره التشبيك بين الأصابع؛ وهو إدخال بعضها في بعض في حال صلاتِه ، وأما بعد الصلاة فلا يُكره شيء من ذلك، لا الفرقعة، ولا التشبيك. (لكن) إن خشيَ أن تشوش الفرقعة على مَن حوله إذا كان في المسجد فلا يفعل.
قوله: "وأن يكون حاقناً" أي: يُكره أن يُصلِّي وهو حاقن، والحاقن: هو المحتاج إلى البول ، وإذا كان حاقباً فهو مثله، والحاقب: هو الذي حَبَسَ الغائط، فيُكره أن يُصلِّي وهو حابس للغائط يدافعه، وكذلك إذا كان محتبس الرِّيح فإنه يُكره أن يُصلِّي وهو يدافعها.
مسألة: إذا قال قائل: رَجُلٌ على وُضُوء، وهو يدافع البول أو الرِّيح، لكن لو قضى حاجته لم يكن عنده ماء يتوضَّأ به، فهل نقول: اُقْضِ حاجتك وتيمَّم للصَّلاة، أو نقول: صَلِّ وأنت مدافع للأخبثين؟ الجواب: نقول: اُقْضِ حاجتك وتيمَّم، ولا تُصَلِّ وأنت تُدافع الأخبثين .
مسألة: لو قال قائل: إنه حاقن، ويخشى إنْ قضى حاجته أن تفوته صلاة الجماعة، فهل يُصلِّي حاقناً ليدرك الجماعة، أو يقضي حاجته ولو فاتته الجماعة؟ الجواب: يقضي حاجته ويتوضَّأ ولو فاتته الجماعة، لأن هذا عُذر، وإذا طرأ عليه في أثناء الصَّلاة فله أن يُفارق الإمام.(1/272)
مسألة: إذا قال قائل: إنَّ الوقت قد ضاقَ، وهو الآن يُدافع أحد الأخبثين فإن قضى حاجته وتوضَّأ خرج الوقتُ، وإن صَلَّى قبل خروج الوقت صَلَّى وهو يدافع الأخبثين، فهل يُصلِّي وهو يدافع الأخبثين، أو يقضي حاجته ويُصلِّي؛ ولو بعد الوقت؟ الجواب: إنْ كانت الصَّلاةُ تُجمع مع ما بعدَها فليقضِ حاجته وينوي الجمع؛ لأن الجمع في هذه الحال جائز، وإن لم تكن تُجمع مع ما بعدَها كما لو كان ذلك في صلاة الفجر، أو في صلاة العصر، أو في صلاة العشاء، فللعلماء في هذه المسألة قولان : القول الأول: أنه يُصلِّي ولو مع مُدافعة الأخبثين حفاظاً على الوقت، وهذا رأي الجُمهور. القول الثاني: يقضي حاجته ويُصلِّي ولو خرج الوقت. وهذا القول أقرب إلى قواعد الشريعة.
وهذا في المدافعة القريبة. أما المدافعة الشديدة التي لا يدري ما يقول فيها، ويكاد يتقطَّع من شدة الحصر، أو يخشى أن يغلبه الحَدَث فيخرج منه بلا اُختيار، فهذا لا شَكَّ أنه يقضي حاجته ثم يُصلِّي، وينبغي ألا يكون في هذا خلاف.
قوله: "أو بحضرة طعام يشتهيه" أي: يكره أن يُصلِّي بحضرة طعام تتوقُ نفسُه إليه فاشترط المؤلِّف شرطين وهما:
1 - أن يكون الطَّعام حاضراً.
2 - أن تكون نفسه تَتُوقُ إليه.(1/273)
وينبغي أن يُزاد شرطٌ ثالث وهو: أن يكون قادراً على تناوله حِسًّا وشرعاً. فإنْ لم يحضر الطَّعام ولكنه جائع، فلا يؤخِّر الصَّلاة. ولو كان الطَّعام حاضراً ولكنه شبعان لا يهتمُّ به فليصلِّ، ولا كراهة في حَقِّهِ. وكذلك لو حضر الطَّعامُ، لكنه ممنوع منه شرعاً أو حِسًّا. فالشرعي: كالصَّائم إذا حَضَرَ طعامُ الفطور عند صلاة العصر، والرَّجُل جائعٌ جدًّا، فلا نقول: لا تُصَلِّ العصر حتى تأكله بعد غروب الشمس. لأنه ممنوع من تناوله شرعاً، فلا فائدة في الانتظار. وكذلك لو أُحضر إليه طعامٌ للغير تتوق نفسُه إليه، فإنه لا يُكره أن يُصلِّي حينئذٍ؛ لأنه ممنوع منه شرعاً. والمانعُ الحسِّي: كما لو قُدِّمَ له طعام حارٌّ لا يستطيع أن يتناوله فهل يُصلِّي، أو يصبر حتى يبرد؛ ثم يأكل؛ ثم يُصلِّي؟ الجواب: يُصلِّي، ولا تُكره صلاتُه؛ لأن انتظاره لا فائدة منه.
وكلام المؤلِّف يدلُّ على أن الصَّلاة في هذه الحال مكروهة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة..."، وهل هذا النفي نفي كمال، أو نفي صحة؟ الجواب: جمهور أهل العِلم على أنه نفيُ كمال، وأنه يُكره أن يُصلِّي في هذه الحال، ولو صَلَّى فصلاتُه صحيحة . وقال بعض العلماء: بل النفيُ نفيٌ للصِّحَّة ، فلو صَلَّى وهو يُدافع الأخبثين بحيث لا يدري ما يقول فصلاتُه غيرُ صحيحة. وكلٌّ مِن القولين قويٌّ جدًّا.(1/274)
قوله: "وتكرار الفاتحة" أي: ويُكره تكرار الفاتحة مرَّتين، أو أكثر. لكن إذا كرَّر الفاتحةَ لا على سبيل التعبُّد، بل لفوات وصف مستحبّ؟ فالظَّاهرُ الجواز، مثل: أن يكرِّرها لأنه نسيَ فقرأها سِرًّا في حال يُشرع فيها الجهرُ، كما يقعُ لبعض الأئمة ينسى فيقرأ الفاتحةَ سِرًّا، فهنا نقول: لا بأس أن يُعيدها من الأول اُستدراكاً لما فات من مشروعية الجهر، وكذلك لو قرأها في غير اُستحضار، وأراد أن يكرِّرها ليحضر قلبه في القراءة التالية؛ فإن هذا تكرار لشيء مقصود شرعاً، وهو حضور القلب، لكن إن خشيَ أن ينفتح عليه باب الوسواس فلا يفعل.
قوله: "لا جمعُ سور في فرض كنفل" أي: لا يُكره جَمْعُ السُّور في الفرض. كما لا يُكره في النَّفل، يعني: أن يقرأ سورتين فأكثر بعد الفاتحة.
مسألة: هل تفريق السُّورة في الركعتين جائز أم لا؟ الجواب: جائز؛ إلا إذا كان لما بقي تعلُّق بما مضى، فهنا ينبغي ألا يفعل، مثل لو قال: { قل هو الله أحد*الله الصمد * لم يلد} [الإخلاص: 1 - 3] فهنا لا ينبغي أن يقفَ على هذا الموقف؛ لانقطاع الكلام بعضه عن بعض. أما إذا لم يكن محذور في الوقف فلا بأس. لكن ينبغي ملاحظة ما يُشرع مِن التطويل والتوسُّط والتقصير، كما هو معروف في أول صفة الصَّلاة .(1/275)
مسألة: هل يقرأ من أثناء السُّورة أم لا؟ الجواب: يجوز أن يقرأ آية أو آيتين أو أكثر مِن أثناء السُّورة. هذا؛ وإن كان الأفضل عدمه حتى إن ابنَ القيم ذَكَرَ في "زاد المعاد" : أنه لم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ مِن أثناء السُّورة. ولكن يُقال: إنه قد ثَبَتَ عنه أنه كان يقرأ في سُنَّةِ الفجر في الرَّكعةِ الأولى: { وقولو آمنا بالله ...} [البقرة: 136] ، وفي الثانية { )قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم...} [آل عمران: 64] . والأصلُ أن ما ثَبَتَ في النَّفل ثَبَتَ في الفرض إلا بدليل، فالصَّحيح أنه يجوز أن يقرأ الإنسانُ الآية أو الآيتين أو أكثر من أثناء السُّورة، ولا بأس في ذلك في الفرض والنَّفل.
قوله: "وله ردٌّ المارِّ بين يديه" . قوله: "ردُّ المَارِّ" يشمَلُ الآدمي وغير الآدمي، ومَنْ تبطل الصَّلاةُ بمروره، ومَنْ لا تبطل الصَّلاةُ بمروره.
وقول المؤلِّف: "له رَدُّ المارِّ بين يديه" يقتضي أن هذا مُباح. والمذهب: أن الرَّدَّ سُنَّة , وعن الإمام أحمد رواية ثالثة: أنَّ رَدَّ المارِّ واجب ، فإن لم يفعل فهو آثم، ولا فَرْقَ بين ما يقطع الصَّلاة مروره، أو لا يقطع. ويحتمل أن يُقال: يُفرَّق بين المارِّ الذي يقطعُ الصَّلاةَ مروره، والمَارِّ الذي لا يقطع الصَّلاةَ مروره، فالذي يقطع الصَّلاةَ مروره يجب رَدُّه، والذي لا يقطع الصَّلاةَ مروره لا يجب رَدُّه. وهذا قول وسطٌ بين قول مَن يقول بالوجوب مطلقاً، ومن يقول بالاستحباب مطلقاً، وهو قول قويٌّ. ويحتمل أن يُفرَّق بين الفرض والنَّفل، فإذا كانت الصَّلاة فريضة ومَرَّ مَنْ يقطعها وجب رَدُّه ، وإلا لم يجب رَدُّه، بل يُسَنُّ.(1/276)
وقوله: "بين يديه" . أي: بين يدي المصلِّي. وقد اُختُلف في المراد بما بين يديه ، فقيل: إنه بمقدار ثلاثة أذرع مِن قدمي المصلِّي. وقيل: بمقدار رَمية حَجَر، يعني بالرَّمي المتوسط لا بالقويِّ جدًّا ولا بالضعيف. وقيل: ما للمصلِّي أن يتقدَّم إليه بدون بطلان صلاتِه. وقيل: إن مَرْجِعَ ذلك إلى العُرف، فما كان يعدُّ بين يديه، فهو بين يديه، وما كان لا يُعدُّ عُرفاً بين يديه، فليس بين يديه. وقيل: ما بين رجليه وموضع سجوده. وهذا أقرب الأقوال.
وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنه لا فَرْقَ بين أن يكون المَارُّ محتاجاً للمرور أو غير محتاج، ( وهذا هو ) الصحيح .
وظاهرُ كلام المؤلِّف أيضاً: أنه لا فَرْقَ بين مَكَّة وغيرها، وهذا هو الصَّحيح، ولا حُجَّة لمن اُستثنى مَكَّة.
قوله: "وعَدُّ الآي" أي: وله عَدُّ الآي، أي: المُصلِّي. والآي: جَمْعُ آية، وعَدُّ الآيات قد يكون له حاجة، وقد لا يكون له حاجة، فمن الحاجة لعدِّ الآي إذا كان الإنسان لا يعرف الفاتحة؛ وأراد أن يقرأ بعدد آياتها مِن القرآن، فهو حينئذٍ يحتاج إلى العَدِّ، وإلَّا فالغالب أنه لا يحتاج إلى عَدِّ الآي، لكن إذا احتاج فله ذلك، ولكن لا يعدُّها باللفظ؛ لأنه لو عَدَّها باللفظ لكان كلاماً، والكلام مبطلٌ للصَّلاة، لكن يعدُّها بأصابعه، أو يعدُّها بقلبه، ولا تبطل الصَّلاةُ بعمل القلب، ولا تبطل بعمل الجوارح؛ إلا إذا كَثُر وتوالى لغير ضرورة.
وله عَدُّ التسبيح، وهذا قد يحتاج إليه الإنسان، خصوصاً الإمام؛ لأن الإمام حَدَّدَ الفقهاء - رحمهم الله - التسبيحَ له بعشر تسبيحات، قالوا: أكثر التسبيح للإمام عشر، وأدنى الكمال ثلاث .(1/277)
وله عَدُّ الركعات، وهذه قد تكون أحوج مما سَبَقَ، لأن كثيراً من الناس ينسى ويعدُّها بالأصابع، فهنا مشكل؛ لأنه إذا رَكَعَ لا بُدَّ أن يفرِّجَ أصابعه، وإذا سَجَدَ لا بُدَّ أن تكون أصابعه مبسوطة، وعلى هذا فيعدُّها بأحجار أو نَوى، فيجعل في جيبه أربع نَوى فإذا صَلَّى الرَّكعة الأُولى رَمى بواحدة، وهكذا حتى تنتهي، فهذا لا بأس به؛ لأن في هذا حاجة، وخاصة لكثير النسيان.
قوله: "والفتح على إمامه" ، أي: وللمصلِّي الفتحُ على إمامه، أي: تنبيهه إذا أخطأ.
وقوله: "على إمامه" يعني: لا على غيره فلا تفتح على إنسان يقرأ حولك إذا أخطأ.
والاقتصار على الإباحة؛ التي هي ظاهر كلام المؤلِّف؛ فيه نظر، وذلك أن الفتح على الإمام ينقسم إلى قسمين:
1 - فتح واجب. 2 - فتح مستحب.
فأما الفتحُ الواجب، فهو الفتح عليه فيما يُبطل الصَّلاة تعمُّده،((( فلو زاد ركعةً كان الفتح عليه واجباً، لأن تعمُّد زيادة الرَّكعة مبطلٌ للصَّلاة، ولو لَحَنَ لَحْناً يُحيل المعنى في الفاتحة لوجب الفتحُ عليه؛ لأن اللَّحْنَ المحيل للمعنى في الفاتحة مبطلٌ للصَّلاةِ، مثل لو قال الإمام: (أهدنا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيم * صِرَاطَ اللَّذِيْنَ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ) فيجب الفتح فيقول:(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ِ) ولو قال(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ:5) لوجب الفتح عليه؛ لأنه أسقط آية، وإذا أسقط آية من الفاتحة بطلت صلاتُه، فصار الفتح على الإمام فيما يبطل الصلاة تعمُّده واجباً.
وأما الفتح المستحبُّ فهو فيما يفوت كمالاً، فلو نسيَ الإمامُ أن يقرأ سورة مع الفاتحة، فالتنبيه هنا سُنَّة. وكذلك لو أسرَّ فيما يجهر فيه أو جهر فيما يُسر فيه.)))(1/278)
قوله: "ولبس الثَّوبِ" أي: أن المصلِّي له لُبْسُ الثوب، وكلام المؤلِّف هنا يحتاج إلى تفصيل: فإن كان يترتَّب على لُبْسِهِ صحَّة الصَّلاة فلُبْسُهُ حينئذٍ واجب، مثل أن يكون عُرياناً ليس معه ثياب؛ لأن العُريان يصلِّي على حسب حاله، وفي أثناء الصلاة جِيء إليه بثوب، فَلُبْسُ الثوب هنا واجب. (((ولا نقول: أبطلْ صلاتك، واُلبسْ الثوبَ؛ لأن ما سَبَقَ من الصَّلاةِ مأذون فيه شرعاً لا يمكن إبطاله، بل يبني عليه، ولهذا لما أخبرَ جبريلُ النبي صلى الله عليه وسلم بأن في نعليه قَذَراً خلعهما واستمرَّ ، وكذلك هنا نقول: لُبْسُ هذا الثوب واجب؛ لأنه لا يتمُّ الواجب إلَّا به وهو ستر العورة.
أما إذا كان لا يتوقَّفُ على لُبْسِهِ صحَّة الصلاة، فالمؤلِّف يقول: "له ذلك"، ولكن هل يفعل هذا؟ أو نقول: لا تفعله إلَّا لحاجة؟ الجواب: نقول: لا تفعله إلَّا لحاجة، ومِن الحاجة أن يَبْرُدَ الإنسانُ في صلاتِه بعد أن شرع فيها، والثوب حوله؛ فله أن يأخذه ويلبسه؛ لأن هذه حاجة، بل قد يكون مشروعاً له أن يَلْبَسَهُ إذا كان لُبْسُ الثوب يؤدِّي إلى الاطمئنان في صلاته والراحة فيها.)))
قوله: "ولَفُّ العِمَامة" أي: له لَفُّ العِمَامة لو اُنحلَّت ولا حَرَجَ عليه، ولكن هل هذا على سبيل الإباحة؟ الجواب: إنْ كان اُنحلالها يشغله فلفُّها حينئذٍ مشروع، لأن في ذلك إزالة لما يشغله، وإنْ كان لا يشغله فالأمر مباح وليس بمشروع.
قوله: "وقتل حية وعقرب" أي: وله قَتْلُ حَيَّة، بل يُسَنُّ له ذلك ، فإن هاجمته وَجَبَ أن يقتلها دفاعاً عن نفسه، وله أيضاً قَتْل العقرب.
قوله: "وقمل" أي: وله قتل قَمْلٍ في الصلاة، فإن أشغلته كان قتلها مستحبًّا، لكن إذا قتلها وتلوَّثت يدُه بالدَّم فهل يكون نجساً؟ الجواب: ليس بنجس؛ لأنه مما لا نَفْسَ له سائلة، كالدَّم الذي يكون في الذُّباب فلا يضرُّ، ولا ينجس.(1/279)
مسألة: إذا قال قائل: هل له أن يتحكَّك إذا أصابته حِكَّة؟ فالجواب: له ذلك، وإن أمكن الصبر على هذه الحِكَّة فليصبرْ، لكن لو اُنشغل قلبُه بذلك فليحكَّها، لإزالة ما يمنعه مِن الخشوع ومن المعلوم أن الحكّة إذا حكّها الإنسان بردت وسكنت عليه.
قوله: "فإن أطال الفعل عرفاً, من غير ضرورة ".قوله: "من غير ضرورة" : أي: من غير أن يكون مضطراً إلى الإطالة، مثل أن يهاجمه سَبُعٌ فإن لم يعالجه ويدافعه أكله، أو حيَّة إن لم يدافعها لدغته، أو عقرب كذلك، فهذا الفعل ضرورة فلا تبطل به الصلاة.
قوله: "ولا تفريق بطلت" : يعني: ليس مفرَّقاً؛ بأن يكون متوالياً في ركعة واحدة مثلاً، بخلاف ما لو تحرَّك حركة في الأُولى، وحركة في الثانية، وحركة في الثالثة، وحركة في الرابعة، فمجموعها كثير، وكلُّ واحدة على اُنفرادها قليل، فهنا لا تبطل الصَّلاة، لكن إذا كان متوالياً وكَثُرَ فإنه يبطل الصلاة.
وعُلم من كلام المؤلِّف: أنه لو كانت الحركة قصيرة، فإن الصَّلاةَ لا تبطل، ولكن ما الميزان لقصر الحركة، أو طولها؟ الجواب: أفاد المؤلِّف: أن الميزان العُرف. والحقيقة: أن العُرف فيه شيء من الغموض، ولا يكاد ينضبط ، ولكن أقربُ شيء أن يقال: إننا إذا رأينا هذا الشخص يتحرَّك ويغلب على ظَنِّنا أنه ليس في صلاة لكثرة حركته، فينبغي أن يكون هذا هو الميزان، أن تكون الحركة بحيث مَن رأى فاعلها ظَنَّ أنه ليس في صلاة؛ لأن هذا هو الذي يُنافي الصلاة. أما الشيء الذي لا ينافيها، وإنما هو حركة يسيرة، فلا تبطل الصلاة به. وقَدَّرَ بعض العلماء الحركة الكثيرة بثلاث حركات ، ولكن هذا التقدير ليس بصحيح .(1/280)
قوله: "ولو سهواً" أي: أن الصلاة تبطل بهذا الفعل، ولو كان الفعل سهواً، فلو فرضنا أن شخصاً نسيَ أنه في صلاة؛ فصار يتحرَّك: يكتب، ويعدُّ الدراهم، ويتسوَّك، ويفعل أفعالاً كثيرة. فإن الصَّلاةَ تبطل؛ لأن هذه الأفعال مغيِّرة لهيئة الصلاة، فاستوى فيها حال الذِّكْر وحال السهو.
و"لو" هنا إشارة خلاف ؛ لأن بعضَ أهل العلم يقول: إذا وَقَعَ هذا الفعل مِن الإنسان سهواً فإن صلاته لا تبطل، وهذا مما أستخيرُ الله فيه؛ أيهما أرجح.
(((والحركة التي ليست مِن جِنْسِ الصَّلاة تنقسم إلى خمسة أقسام:
1 - واجبة. 2 - مندوبة. 3 - مباحة.
4 - مكروهة 5 - محرَّمة.
والذي يبطل الصلاة منها هو المُحرَّم. (و) الحركة الواجبة : هي التي يتوقَّف عليها صحَّةُ الصَّلاة. والحركة المندوبة "المستحبَّة" : هي التي يتوقَّف عليها كمال الصلاة. والحركة المباحة : هي الحركة اليسيرة للحاجة، أو الكثيرة للضرورة. والحركة المكروهة : هي اليسيرة لغير حاجة، ولا يتوقَّف عليها كمال الصَّلاة. والحركة المحرَّمة : هي الكثيرة المتوالية لغير ضرورة.)))
قوله: "ويباح قراءة أواخر السُّور، وأوساطها" أي: أنه ليس بممنوع، وعلى هذا فنقول: يجوز أن يقرأ أواخر السُّور، وأواسطها، وأوائلها في الفرض والنَّفْلِ. ولكن القول بالإباحة لا يساوي أن يقرأ الإنسان سورة كاملة في كلِّ ركعة؛ لأن هذا هو الأصل. والأفضل شيء والمباح شيء آخر.
قوله: "وإذا نابه" : الضمير يعود على المُصلِّي لقرينة السياق. ومعنى "نابه": أي: عرض له.
قوله: "شيء" : نكرة في سياق الشرط فتعمُّ أيَّ شيء يكون، سواء كان هذا الشيء مما يتعلَّق بالصلاة، أم مما يتعلَّق بأمرٍ خارج، كما لو اُستأذن عليه أحدٌ، أو ما أشبه ذلك.(1/281)
قوله: "سبّح رجل" أي: قال: "سبحان الله"، فإنْ اُنتبه المُنبَّه بمرَّة واحدة، لم يعده مرَّة أخرى، لأنه ذِكْر مشروع لسبب فيزول بزوال السبب، وإنْ لم ينتبه بأول مرَّة كرَّره؛ فيسبِّحُ ثانية وثالثة حتى ينتبه المُنبَّه.
قوله: "رجل" المراد به هنا الذَّكر، ولا يُشترط البلوغ حتى وإن كان مراهقاً فإنه يُسبِّح.
قوله: "وصَفَّقت امرأة" أي: بيديها.
وقوله: "وصَفَّقت امرأة" . ظاهر كلامه العموم، سواء كانت اُمرأة مع نساء لا رِجَال معهن، أم مع رِجَال فإنها لا تُسبِّح وإنما تُصفّق. وقال بعض العلماء: إذا لم يكن معها رِجَال فإنَّها تُسبِّح كالرِّجَال, والمسألة محتملة ( لهذا وهذا ).
قوله: "ببطن كفِّها على ظهر الأخرى" أي: تضرب بطن كفِّها على ظهر الأخرى. وقال بعض العلماء: بظهر كفِّها على بطن الأُخرى. وقال بعض العلماء : ببطن كفِّها على بطن الأُخرى، كما هو المعروف عند النساء الآن. وعلى كُلٍّ؛ فالأمر واسع، سواء كان التَّصفيقُ بالظَّهر على البطن، أم بالبطن على الظَّهر، أم بالبطن على البطن.المهمُّ ألا تسبِّحَ بحضرة الرِّجَال.(1/282)
مسألة: لو فُرض أن المأموم سَبَّح، ولكن الإمام لم ينتبه، وسَبَّح ثانية، ولم ينتبه، وربما سَبَّح به فقام؛ وسَبَّح به فجلس؛ فماذا يصنع؟ الجواب: قال بعض العلماء: يخبره بالخَلَلِ الذي في صلاته بالنُّطْقِ، فيقول: اُركعْ... اُجلسْ... قُمْ...، ثم اُختلف القائلون بأنه يقول هذا، هل تبطل الصَّلاةُ بذلك أم لا ؟ فقال بعضهم: لا تبطل. (وقال آخرون): أن الصَّلاةَ تبطل إذا تكلَّم؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذه الصَّلاةَ لا يصلحُ فيها شيءٌ مِن كلامِ النَّاسِ" ، ولا شك أن هذا الدليل قوي . ولكن يبقى النَّظرُ؛ لو قال قائل: إذا لم نقل بأنّه يُنبَّه بالكلام فسيكون ألعوبة، يُقال: سُبحان الله فيجلس، سبحان الله فيقوم، سبحان الله فيجلس، سبحان الله فيقوم، فلا بُدَّ مِن كلام؟ فربَّما يُقال في هذه الحال: إذا دعت الضَّرورة يتكلَّم المُنبِّه، ثم يستأنف الصَّلاة، فنقول: تكلَّم لمصلحة الصلاة، فإنك إذا تكلَّمتَ الآن أصلحت صلاة الجماعة كلَّها وفسدت صلاتُك، واُستأنف، فيكون لمصلحة الجميع، ومصلحة الجميع مقدَّمة على مصلحة الفرد، حتى لو بقيتَ مع الإمام سوف تبطل صلاتك، أو يؤدي الأمر إلى أن تفارق إمامك.
مسألة: هل يمكن أن يُنبَّه بغير ذلك، أي: بغير التسبيح؟ الجواب: نعم؛ يجوز أن يُنبَّه بالنَّحْنَحَةِ, وأيضاً: يجوز أن يُنبَّه بالجهر بالقراءة، والجهر بالقراءة جائز، فإذا اُستأذن عليك أحدٌ أو ناداك وأنت تُصلِّي؛ فرفعت صوتك بما تقول فهذا فيه تنبيه، لكن أفضل شيء هو التسبيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ به.
مسألة: هل للمُصلِّي أن يُنبِّه غير إمامه إذا أخطأ في شيء، كما لو كان الذي بجانبك يكثِرُ الحركة ويشغلك. الجواب: نعم؛ لك أن تُنبِّهَه، لأن هذا مِن إصلاح صلاته وصلاتك، بل حتى لو فُرض أنه لإصلاح صلاة أخيه فلا بأس.(1/283)
قوله: "ويبصق في الصلاة عن يساره". أي: إذا اُحتاج المُصلِّي للبصاق، فإنه يبصق عن يساره، ولا يبصق عن يمينه ولا أمام وجهه.
قوله: "وفي المسجد في ثوبه" أي: تتعيَّن الطريقة الثانية إذا كان الإنسانُ في المسجد، وهي أن يبصقَ في ثوبه، فلا يبصق في المسجد. ولا يبصق تحت قدمِه في المسجد، وهي الطريقة الثَّالثة؛ لأن البُصاق في المسجد خطيئة؛ لكونه يلوِّث المسجد.
قوله: "وتسن صلاته إلى سُترة" أي: يُسَنُّ أن يُصلِّي إلى سُترة. وظاهره: أنَّه سواء كان في سَفَرٍ أم في حَضَرٍ، وسواء خشي مارًّا أم لم يخشَ مارًّا، لعموم الأدلة في ذلك. وقال بعض أهل العلم: إنه إذا لم يخشَ مارًّا فلا تُسَنُّ السُّتْرة . ولكن الصحيح: أن سُنيَّتها عامة، سواء خشي المارَّ أم لا.
وعُلم من كلامه: أنَّها ليست بواجبة، وأنَّ الإنسان لو صَلَّى إلى غير سُترة فإنه لا يأثم، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم. (و)القول الثاني: أن السُّتْرة واجبة. وأدلَّة القائلين بأن السُّتْرة سُنَّة وهم الجمهور أقوى، وهو الأرجح.
أما المَأموم فلا يُسَنُّ له اُتِّخاذ السُّترة. ولكن هل يجوز المرور بين أيديهم؟ فيه قولان لأهل العلم : القول الأول: أنه لا يجوز أن يمرَّ بين أيديهم. (و)القول الثاني: أنه لا بأس بالمرور بين أيدي المأمومين . والصَّحيح: أن الإنسان لا يأثم، ولكن إذا وَجَدَ مندوحة عن المرور بين يدي المأمومين فهو أفضل .
قوله: "قائمة" يعني: منصوبة.
قوله: "كمُؤْخِرَة الرَّحْلِ" تشبيه لها كما جاء في الحديث عن النبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ . و"مُؤْخِرَة الرَّحْل": هي: خشبة توضع فوق الرَّحل إذا رَكِبَ الراكبُ اُستند عليها، وهي حوالي ثلثي ذراع، أو ثلاثة أرباع ذراع، ورَحْلُ البعير هو: ما يشدُّ على ظهره للركوب عليه.
قوله: "فإن لم يجد شاخصاً" أي:شيئاً قائماً يكون له شخص.(1/284)
قوله: "فإلى خطٍّ" أي: فيُصلِّي إلى خطٍّ، والخطُّ له أثرٌ بالأرض، لأنَّ الأرض فيما سَبَقَ مفروشة بالرَّمْلِ أو بالحصباء، وإذا خطَّ الإنسانُ صار له أثرٌ بيِّنٌ، لكن أرض المساجد الآن مفروشة بالقماش، فهل نقول: إن الخط الذي هو خطُّ التلوين يجزئ عن الخطِّ الذي له أثرٌ؟ قال بعض أهل العلم: يجزئ كلُّ ما اعتقده سُتْرة ، وظاهره: حتى الخط الملوَّن، لكن في النفس مِن هذا شيء. فالظاهر: أن هذه الخطوط الملونة لا تكفي، لكن لو فُرض أن فيه خيطاً بارزاً في طرف الحصير، أو في طرف الفراش لصحَّ أن يكون سُتْرة، لأنه بارز.
فإذا لم تجد شاخصاً فخُطَّ خطًّا. ولكن كيف أخطُّ ؟ هل أخطُّ خطًّا مقوَّساً كالهلال أو ممتدًّا كالعصا ؟ الجواب: يكفي أيُّ خط.
قوله: "وتبطل بمرور كلب ". أي: عبور الكلب من يمين المصلِّي إلى يساره، أو من يساره إلى يمينه، وأما صعود الكلب بين يدي المصلِّي فلا يبطلها، ولو فرضنا أنَّ كلباً أمامَك فإن صلاتك لا تبطل.
قوله: "أسود" أي: دون الأحمر، والأبيض، والأزرق. أو أيّ لون غير الأسود.
قوله: "بهيم" أي: خالص لا يخالط سواده لون آخر، إلا أن بعض أهل العلم قال: إذا كان فوق عينيه نقطتان بيضاوان لم يخرج عن كونه بهيماً .
قوله: "فقط" : أي: لا غير.
وقوله: "يقطع" أي: يبطل, وهذا هو المشهور من المذهب: أن الصلاة لا تبطل إلا بمرور الكلب الأسود البهيم فقط, فلا تبطل بمرور غيره . وأما المرأة والحمار؛ فلا تبطل الصلاة بمرورهما على ماأفاده كلام المؤلف, وهو المذهب . والرَّاجحُ: أن الصَّلاة تبطل بمرور المرأة والحِمار والكلب الأسود.(1/285)
قوله: "وله التعوُّذ عند آية وعيد " أي: للمصلِّي أن يتعوَّذ بالله إذا مَرَّ بآية وَعيد، فله أن يقول: أعوذ بالله من ذلك، وظاهر كلام المؤلِّف أنه لا فَرْقَ بين الإِمام والمأموم والمنفرد. ((فنقول:)) أما المنفرد والإِمام فمُسَلَّم أن لهما أن يتعوَّذا عند آية الوعيد، ويسألا عند آية الرحمة. وأما المأموم فغير مُسلَّم على الإِطلاق، بل في ذلك تفصيل وهو: إن أدَّى ذلك إلى عدم الإنصات للإِمام فإنه يُنهى عنه، وإن لم يؤدِّ إلى عدم الإِنصات فإن له ذلك.
وقوله: "عند آية وعيد" أي: كلُّ ما يدلُّ على الوعيد، سواء كان بذِكْرِ النَّارِ، أم بذِكْرِ شيء مِن أنواع العذاب فيها، أم بذِكْرِ أحوال المجرمين، وما أشبه ذلك.
قوله: "والسؤال عند آية رحمة" أي: وللمصلِّي أن يسأل الرحمة إذا مَرَّ بآية رحمة. مثاله: مرَّ ذكر الجنة يقول: اللَّهُمَّ إنِّي أسألك الجنة، وله أن يسأله من فَضْله، ولو مرَّ ثناء على الأنبياء أو الأولياء أو ما أشبه ذلك فله أن يقول: أسأل الله من فضله، أو أسأل الله أن يلحقني بهم، أو ما أشبه ذلك.
قوله: "ولو في فرض" هذا إشارة خلاف: هل له ذلك في الفرض، أو ليس له ذلك ؟ والراجح: في حكم هذه المسألة أن نقول: أما في النفل - ولا سيما في صلاة الليل - فإنه يُسَنُّ له (ذلك). وأما في صلاة الفرض فليس بسُنَّة وإنْ كان جائزاً. فالأصل فيه الجواز ولكننا لا نندب الإنسان أن يفعل ذلك في صلاة الفريضة .(1/286)
مسألة: لو قرأ القارئ: )أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (القيامة:40)؟ فهذه ليست آية وعيد ولا آية رحمة فله أن يقول: بلى، أو "سبحانك فبلى"، لأنه وَرَدَ في حديث عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام ، ونصَّ الإِمام أحمد عليه، قال الإِمام أحمد: إذا قرأ: )أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى) (القيامة:40)؟ في الصلاة وغير الصلاة، قال: سبحانك فبلى، في فَرْضٍ ونَفْلٍ. وإذا قرأ:(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين:8) فيقول: "سبحانك فبلى" . ولو قرأ )قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) (الملك:30) فهنا لا يقول: يأتي به الله. وفيه آيات كثيرة؛ كقوله في سورة النمل: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ )(النمل: من الآية60) ؟ فهل يصحُّ أن يقول: لا؟ الجواب: نعم، يصحُّ أن يقول: لا إله مع الله.
فصل
في أركان الصَّلاة
قوله: "أركانها القيام" هذا الرُّكن الأول، وبدأ به المؤلِّفُ؛ لأنه سابق على جميع الأركان.
مسألة: ويجب القيامُ ولو معتمداً، فلو قال قائل: أنا لو قمتُ معتمداً على عصا أو على عمود، أو على جدار أمكن ذلك، وإنْ لم أعتمد لم أستطع، فلا تَقُلُّني رِجْلاي؟ فنقول: يجب عليك القيامُ ولو معتمداً؛ لعموم الأدلة.
فإذا قال: ما حَدُّه؟ أي: هل يلزم أنْ أنتصبَ، أو يجوز وأنا حاني الظَّهر بعض الشيء؟ فالجواب: إنْ حَنَيْتَ ظهركَ إلى حَدِّ الرُّكوع؛ فلستَ بقائمٍ؛ فلا يصحُّ، إلا مع العجز، وإن حَنَيْتَهُ قليلاً أجزأ.
فإن قال قائل: إذا كان قادراً على القيام، ولكنه يخافُ على نفسِه إذا قام، فهل يسقطُ عنه القيامُ؟ فالجواب: نعم.
مسألة: إذا قُدِّرَ أنه مُنحني الظَّهْرِ فإنه يقف ولو كراكع، ولا يسقط عنه القيامُ؛ لأن هذا هو قيامه.(1/287)
مسألة: إذا قال قائل: أنتم قلتم يجب القيامُ ولو معتمداً، فهل يجوزُ أن يَعتمدَ؟ الجواب: إذا كان لا يتمكَّن من القيام إلا بالاعتماد جاز له أن يَعتمدَ، وإن كان يتمكَّن بدون اُعتماد لم يَجُزْ أن يعتمدَ؛ إلا إذا كان اُعتماداً خفيفاً فلا بأس به. والضابط: أنه إنْ كان بحيث لو أُزيل ما اُستند إليه سَقَطَ؛ فهذا غير خفيف، وإن كان لو أُزيلَ لم يَسقط؛ فهو خفيف. فإنْ قال إنسان: هذا غير منضبط؛ لأن الواحد إذا اُنتبه لم يسقط بإزالة ما اُستندَ إليه، وإنْ لم ينتبه سَقَطَ ولو كان اُعتمادُه خفيفاً، فما الجواب؟ فالجواب: أن الضابط كون ما اُعتمدَ عليه حاملاً له، فإن كان حاملاً له لم يصحَّ قيامه، وإلا صحَّ. على أن بعض العلماء ، قال: إنَّ عمومَ قوله تعالى: { وقوموا لله قانتين } [البقرة: 238] . وقوله صلى الله عليه وسلم: "صَلِّ قائماً" يشمَلُ حتى المعتمدَ على شيء يسقط لو أُزيلَ، بمعنى أنه يجوز أن تعتمدَ، لكن فقهاءنا - رحمهم الله - قالوا: لا يجوز الاعتماد على شيء اُعتماداً قويًّا بحيث يَسقط لو أُزيل.
قوله: "والتحريمة" أي: تكبيرة الإِحرام، وهذا هو الرُّكن الثاني.(1/288)
قوله: "والفاتحة" أي: قراءة الفاتحة، وهذا هو الرُّكن الثالثُ، وهو رُكنٌ في الفَرْضِ والنَّفْل. والفاتحة: هي السُّورة التي اُفتُتِحَ بها القرآنُ الكريم، وقد تكلَّمنا عليها في أول صِفة الصَّلاة. وقراءتُها رُكنٌ في حَقِّ كُلِّ مصلٍّ؛ لا يُستثنى أحدٌ إلا المسبوق إذا وَجَدَ الإِمامَ راكعاً، أو أدرك مِن قيام الإِمام ما لم يتمكَّن معه من قراءة الفاتحة. وهذا هو الراجح . وقال بعض العلماء : إنَّ قراءة الفاتحة ليست رُكناً مطلقاً. وقال بعض أهل العلم : قراءة الفاتحة رُكنٌ في حقِّ غير المأموم، أما في حَقِّ المأموم فإنها ليست برُكن، لا في الصلاة السرِّيَّة، ولا في الصَّلاة الجهريَّة. وقال بعض أهل العلم : إنَّ قراءة الفاتحة رُكن في حَقِّ كُلِّ مصلٍّ؛ إلّا في حَقِّ المأموم في الصلاة الجهرية.
مسألة: ثم إذا قلنا بوجوب قراءة الفاتحة، فهل تجب في كُلِّ رَكعة، أو يكفي أن يقرأها في ركعة واحدة؟ في هذا خِلاف بين العلماء ، فمنهم مَن قال: إذا قرأها في رَكعة واحدة أجزأ. ولكن الصحيح أنها في كُلِّ رَكعة.
قوله: "والركوع والاعتدال عنه " هذان هما الرُّكنان الرابع،والخامس. ويُستثنى من هذا: الرُّكوع الثاني وما بعده في صلاة الكسوف، فإنه سُنَّة، ولهذا لو صَلَّى صلاةَ الكسوف كالصَّلاة المعتادة فصلاتُه صحيحة. ويُستثنى أيضاً: العاجز، فلو كان في الإِنسان مَرَضٌ في صُلبه لا يستطيع النُّهوض لم يلزمه النهوض، ولو كان الإِنسان أحدب مقوَّس الظَّهر لا يستطيع الاعتدال لم يلزمه ذلك، ولكن ينوي أنه رَفْعٌ ويقول: سَمِعَ الله لمن حمده.
قوله: "والسجود على الأعضاء السبعة" هذا هو الركن السادس من أركان الصَّلاة .
قوله: "والاعتدال عنه" . هذا هو الرُّكنُ السَّابعُ مِن أركان الصَّلاةِ.
قوله: "والجلوس بين السجدتين" هذا هو الرُّكنُ الثامنُ مِن أركان الصَّلاة.(1/289)
قوله: "والطمأنينة في الكُلِّ" هذا هو الرُّكن التَّاسع مِن أركان الصَّلاة وهو الطمأنينة في كلِّ ما سَبَقَ مِن الأركان الفعلية. ولكن ما حَدُّ الاطمئنان الذي هو رُكن؟ قال بعض أهل العلم : السكون وإن قَلَّ، حتى وإن لم يتمكَّن من الذِّكْرِ الواجب. وقال بعض أهل العلم: السُّكون بقَدْرِ الذِّكْرِ الواجب.(وهو) الراجح . فعلى هذا القول يطمئنُّ في الرُّكوع بِقَدْرِ ما يقول: "سبحان ربِّي العظيم" مرَّة واحدة، وفي الاعتدال منه بقَدْرِ ما يقول: "ربَّنا ولك الحمدُ"، وفي السُّجود بقَدْرِ ما يقول: "سبحان رَبِّي الأعلى"، وفي الجلوس بقَدْرِ ما يقول: "رَبِّي اُغفِر لي" وهكذا.
قوله: "والتشهد الأخير" هذا هو الرُّكنُ العاشر من أركان الصلاة. والأصلَ أن التشهُّدين كلاهما فَرْضٌ، وخَرَجَ التشهُّدُ الأول بالسُّنَّة.
قوله: "وجِلسته" هذا هو الرُّكن الحادي عشر مِن أركان الصَّلاةِ أي: أن جلسة التشهُّدِ الأخير رُكن، فلو فُرِضَ أنه قام من السُّجود قائماً وقرأ التشهُّد فإنَّه لا يجزئه.(1/290)
قوله: "والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه" أي: في التشهُّدِ الأخير، وهذا هو الرُّكن الثاني عشر مِن أركان الصلاة. ودليل ذلك: أنَّ الصَّحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسولَ الله؛ عُلِّمْنَا كيف نُسلِّم عليك، فكيف نُصلِّي عليك؟ قال: قولوا: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ" ، وهذا هو القول الأول في هذه المسألة وهي: أنها رُكنٌ، وهو المشهور مِن المذهب، فلا تصحُّ الصلاة بدونها. (و) القول الثاني: أنها واجب، وليست برُكن، فتُجبر بسجود السَّهو عند النسيان. (و) القول الثالث: أنَّ الصَّلاةَ على النبي صلى الله عليه وسلم سُنَّة، وليست بواجب ولا رُكن، وهو رواية عن الإمام أحمد، وأن الإِنسان لو تعمَّد تَرْكها فصلاتُه صحيحة. وهذا القول أرجح الأقوال إذا لم يكن سوى هذا الدليل الذي اُستدلَّ به الفقهاء رحمهم الله، فإنه لا يمكن أن نبطلَ العبادة ونفسدها بدليل يحتمل أن يكون المراد به الإِيجاب، أو الإِرشاد.
قوله: "والترتيب" هذا هو الرُّكن الثالث عشر مِن أركان الصَّلاة، يعني: الترتيب بين أركان الصَّلاة: قيام، ثم رُكوع، ثم رَفْع منه، ثم سُجود، ثم قعود، ثم سُجود.
قوله: "والتسليم" هذا هو الرُّكنُ الرابع عشر مِن أركان الصَّلاة، أي: أن يقول: "السَّلامُ عليكم ورحمةُ الله"، وإختلفَ الفقهاء - رحمهم الله - في التسليم. والمشهور من المذهب: أنَّ كلتا التسليمتين رُكنٌ في الفَرْضِ وفي النَّفْلِ . وقيل: إنَّ الثانية سُنَّة في النَّفْل دون الفَرْض. وقيل: سُنَّة في الفَرْضِ وفي النَّفْلِ. وقيل: إنَّ التَّسليمَ ليس مقصوداً بذاته، وأنه إذا فَعَلَ ما ينافي الصَّلاة فقد اُنتهت الصَّلاة . والأقرب: أنَّ التَّسليمتين كلتاهما رُكنٌ. لكن الفقهاء اُستثنوا صلاةَ الجِنازة، فقالوا: ليس فيها إلا تسليمة واحدة فقط، ولم يقولوا: إن الثانية سُنَّة.
قوله: "واجباتها" ، أي: واجبات الصلاة.(1/291)
قوله: "التكبير غير التحريمة" أي: قول "اللهُ أكبر" إلا التحريمة، هذا هو الواجب الأول؛ لأن التحريمة سَبَقَ أنَّها رُكنٌ فيدخل بذلك التكبير للركوع وللسجود وللرَّفْعِ منهما، وللقيام مِن التشهُّدِ الأول، فكلُّ التكبيرات واجبة وتسقط بالسَّهْوِ، ويُستثنى ما يلي:
1 - التكبيرات الزوائد في صلاة العيد، والاستسقاء فإنها سُنَّة.
2 - تكبيرات الجِنازة فإنَّها أركان.
3 - تكبيرة الركوع لمن أدرك الإِمام راكعاً فإنَّها سُنَّة.
قوله: "والتسميع، والتحميد" ، أي: قول الإِمام والمنفرد: "سَمِعَ اللهُ لمن حَمِدَه"، والتحميد: للإِمام، والمأموم، والمنفرد، وهذان هما الواجب: الثاني والثالث.
قوله: "وتسبيحتا الركوع والسجود" هذان هما الواجبان الرابع والخامس.(وهو) أن يقول (المصلي) في الركوع: سبحان رَبِّي العظيم , وفي السجود: سبحان رَبِّي الأعلى.
قوله: "وسؤال المغفرة مرَّة مرَّة" هذا هو الواجب السادس من واجبات الصلاة, والمذهب : أنه لا بُدَّ أن يقول: "ربِّ إغفِرْ لي" فلو قال: "اللَّهُمَّ إغفِرْ لي" ما أجزأ. والصحيح: أنه يجزئ سؤال المغفرة بأي صفة, فلو قال: "اللَّهُمَّ إغفِرْ لي" لأجزأ.
وقوله: "مرَّة مرَّة" أي: مرَّة في كُلِّ جِلسة، مرَّة في الجِلسة الأولى، ومرَّة في الجِلسة الثانية، وهكذا.
قوله: "ويُسَنُّ ثلاثاً" أي: يُسَنُّ أن يُكَرِّرَ سؤال المغفرة ثلاث مرات.
قوله: "والتشهد الأول، وجلسته" هذان هما الواجب السابع والثامن من واجبات الصلاة.
وقوله: "جَلسته" هل يمكن التشهُّد بدون جلوس؟ الجواب: يمكن أن يتشهَّد وهو قائم، أو يتشهَّد وهو ساجد، فلا بُدَّ أن يكون التشهُّدُ كُلُّه في حال الجلوس.
قوله: "وما عدا الشرائط، والأركان، والواجبات المذكورة سُنَّة" فالواجبات ثمانية سبقت أدلتُها، ولكن في بعضها خلاف، فالتشهُّدُ الأول, التسميع, والتحميد, قيل: إنه سُنَّة . ولكن الأقرب: أنها واجبة.(1/292)
قوله: "فمن ترك شَرْطاً لغير عُذر غير النية فإنها لا تسقط بحال" أي: مَن تَرَكَ شرطاً لغير عُذر بطلت صلاتُه، ولعُذر لم تبطل. مثال ذلك: صَلَّى عُرياناً وهو قادر على السَّتر، نقول: تَرَكَ شرطاً لغير عُذر فتبطل صلاتُه.
والمؤلِّف اُستثنى "النية" لأن النية محلُّها القلب، ولا يمكن العجز عنها، لكن في الحقيقة يمكن النسيان فيها، مثل أن يأتي الإِنسان ليصلِّي الظُّهر، ثم يغيب عن خاطره نيةُ الظهر، وينوي العصر، وهذا يقع كثيراً، فهل تصحُّ صلاته أم لا؟ الجواب: لا تصحُّ؛ لأنه عَيَّنَ خِلاف فَرْضِ الوقت، فلا تصحُّ، لأن النيَّة لا تسقط بحال.
بقي أن يُقال: لو صَلَّى الإِنسان قبل الوقت، وهو يظنُّ أن الوقت قد دخل، فما حكم صلاته؟ الجواب: صلاته لا تجزئه عن الفرض، ويجب عليه إعادة الصلاة بعد دخول الوقت.
قوله: "أو تعمد ترك ركن، أو واجب بطلت صلاته" ، مثال تَرْكِ الرُّكن: أن يتعمَّد تَرْكَ الركوع، ويسجد مِن القراءة إلى السُّجود فصلاته باطلة. ولو أنه ندم وهو ساجد، ثم قام وأتى بالرُّكوع فلا ينفعه؛ لأنه بمجرد تَرْكه تبطل الصلاة، وعليه أن يعيد الصلاة من جديد.
ومثال تَرْكِ الواجب: لو تَرَكَ التشهُّد الأول متعمِّداً حتى قام، ثم ندم ورجع، فتبطل صلاته وإنْ رَجَعَ، لأنّه تعمَّد تَرْكه، وإذا تعمَّد تَرْكَ واجب بطلت صلاته.
قوله: "بخلاف الباقي" أي: بعد الشروط، والأركان، والواجبات، فإن الصلاة لا تبطل بتَرْكه، ولو كان عمداً؛ لأنها سُنَنٌ مكمِّلة للصلاة، إن وُجِدَت صارت الصلاة أكمل، وإن عُدِمَت نقصت الصلاة، ولكنه نقص كمال، لا نقص وجوب.(1/293)
قوله: "وما عدا ذلك سُنن أقوال وأفعال" أي: ما عدا أركان الصلاة وواجباتها، سُنن أقوال: أي: يُسَنُّ قولها. وأفعال: أي: يُسَنُّ فِعْلها. فمثلاً: الاستفتاح: سُنَّة، البسملة: سُنَّة، التعوذ: سُنَّة، قول آمين: سُنَّة، الزيادة على قراءة الفاتحة: سُنَّة، الزيادة على تسبيح الركوع والسجود: سُنَّة، وهذه سنن قولية، والجهر بالقراءة في موضعه: سُنَّة فعلية؛ لأن الجهر صفة للقراءة، وكذلك تطويل القراءة يُعتبر سُنَّة فِعْلية، أما المطول أو المجهور به فإنه قولي، الإِسرار بالقراءة في موضعه: سنة فعلية.
قوله: "لا يُشرع السجود لتركه، وإن سجد فلا بأس". قوله: "لا يُشرع السجود لتركه" ، أي: لا يجب ولا يُسَنّ. مثال ذلك: رَجُلٌ نسيَ أن يقرأ البسملةَ في الفاتحة، فإذا قلنا بالقول الصحيح أنها ليست من الفاتحة، وإنها سُنَّة فهل يسجد للسهو؟ نقول: لا يُشرع له أن يسجد للسهو، لأن هذا سُنَّة إنْ جاء به فهو أكمل، وإن لم يأتِ به فلا حَرَجَ، وعلى هذا فلا يُشرع السُّجود لتركه.(1/294)
مثال آخر: رَجُلٌ تَرَكَ رَفْعَ اليدين عند الركوع، هل يُشرع أن يسجد للسهو؟ الجواب: لا يُشرع أن يسجد؛ لأنه سُنَّة، وعلى هذا؛ فكل سُنَّة يتركها المُصلِّي، فإنَّ السُّجودَ لها غير مشروع، لا على سبيل الوجوب، ولا على سبيل الاستحباب. (و) هذا تقرير كلام المؤلِّف وهو المذهب.أي : أن السجود لا بأس به، إلا أنه غير مشروع. والقول الثاني : أنَّ سجودَ السَّهو مشروع لترك المسنون، سواء كان مِن سُنَنِ الأقوال أم الأفعال. وعندي في ذلك تفصيل، وهو: أن الإِنسان إذا تَرَكَ شيئاً من الأقوال أو الأفعال المستحبَّة نسياناً، وكان من عادته أن يفعله فإنه يُشرع أن يسجد جَبْراً لهذا النقص الذي هو نَقْصُ كمال، لا نقص واجب؛ لعموم قوله في الحديث: "لكلِّ سهو سجدتان" ، وفي "صحيح مسلم": "إذا نسيَ أحدُكم، فَلْيَسْجُدْ سَجدتين" فإن هذا عام، أما إذا تَرَكَ سُنَّة ليس من عادته أن يفعلها، فهذا لا يُسَنُّ له السُّجود، لأنه لم يطرأ على باله أن يفعلها.
مسألة: مِن جملة المسنونات في الصلاة الخشوع. وذهب بعضُ أهل العلم، إلى أن الخشوع في الصلاة واجب، وأنه إذا غَلَبَ الوسواسُ على أكثر الصَّلاةِ فإنَّها لا تصحُّ، وعلى كُلِّ حال؛ ينبغي للإِنسان أن يحاول بقَدْرِ ما يستطيع حضور قلبه في الصلاة، (وكلما هاجمه الشيطان اُستعاذْ) بالله من الشيطان الرجيم، كما أَمَرَ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا تزال تعوِّد نفسك على حضور القلب في الصلاة حتى يكون عادة لك.
باب سجود السهو
قوله: "يُشرع لزيادة ونقص، وشَكٍّ" . "يشرع": أي: يجب تارة، ويُسَنُّ أخرى.
قوله: لزيادة: اللام للتعليل، أي: بسبب زيادة أو نقص أو شَكٍّ، ولكن في الجملة، لا في كُلِّ صورة؛ لأنه سيأتينا أن بعض الزيادات والنقص والشكوك لا يُشرع له السُّجود.(1/295)
قوله: "لا في عَمْدٍ" أي: لا يُشرع في العمد؛ وذلك لأن العمد إن كان بترك واجب أو رُكن فالصَّلاة باطلةٌ؛ لا ينفع فيها سُجود السَّهو، وإن كان بترك سنَّة فالصَّلاة صحيحة، وليس هناك ضرورة إلى جَبْرِها بسجود السهو، لكن ذَكَرَ بعض العلماء: أنَّ مَنْ زاد جاهلاً فإنه يُشرع له سجود السهو.
قوله: "في الفرض والنافلة" أي: يُشرع إما وجوباً أو اُستحباباً في صلاة الفَرْض وفي صلاة النَّفْل، لكن بشرط أن تكون الصلاة ذات ركوع وسجود، اُحترازاً مِن صلاة الجنازة، فإنَّ صلاة الجنازة لا يُشرع فيها سجود السَّهو.
فإن قال قائل: هل توجبون سجود السَّهو في صلاة النافلة فيما لو ترك واجباً من واجبات الصلاة؟ فالجواب: نعم؛ نوجبه.
فإن قال: كيف توجبون شيئاً في صلاة نَفْلٍ، وصلاة النَّفْلِ أصلاً غير واجبة؟ نقول: إنه لما تلبَّس بها وَجَبَ عليه أن يأتي بها على وَفْقِ الشريعة، وإلا كان مستهزئاً، وإذا كان لا يريد الصلاة فمن الأصل لا يُصلِّي، أما أن يتلاعب فيأتي بالنافلة ناقصة ثم يقول: لا أجبرها، فهذا لا يوافق عليه.
قوله: "فمتى زاد فعلاً من جنس الصلاة" اُحترازاً مما لو زاد قولاً، واُحترازاً مما لو زاد فِعْلاً مِن غير جنس الصلاة، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك . هذان شرطان: أن يكون فِعْلاً، وأن يكون مِن جنس الصلاة.
قوله: "قياماً" أي: في محلِّ القعود.
قوله: "أو قعوداً" أي: في محلِّ القيام.
قوله: "أو ركوعاً" أي: في غير محلِّه.
قوله: "أو سجوداً" أي: في غير محلِّه.
ولو رَكَعَ مرَّتين,أو سجد ثلاث مراتٍ, او قعد في محل القيام, او قام في محل القعود عمداً بطلت صلاتُه، قال في "الروض": "إجماعاً" يعني": أن العلماء رحمهم الله أجمعوا على ذلك.
قوله: "وسهواً يسجد له" هذه معطوفة على "عمداً" أي: ومتى زاد قياماً، أو قعوداً، أو ركوعاً، أو سجوداً سهواً يسجد له.(1/296)
قوله: "وإن زاد ركعة فلم يعلم حتى فرغ منها سجد" . يعني: إذا زاد ركعة ولم يعلم حتى فَرَغَ مِن الركعة, فإنه يسجد للسهو وجوباً (بعد السلام). فإن عَلِمَ قبل أن يُسلِّم فهل يسجد قبل السلام، أو يسجد بعده؟ الجواب: يسجد بعد السلام، فيكمِّل التشهُّد ويُسلِّم، ويسجد سجدتين ويُسلِّم.
قوله: "وإن علم فيها" أي: إنْ عَلِمَ بالزيادة في الرَّكعة التي زادها.
قوله: "جلس في الحال" أي: في حال علمه، ولا يتأخَّر حتى لو ذَكَرَ في أثناء الرُّكوع أن هذه الرَّكعة خامسة يجلس؛ لأنه لو اُستمر في الزيادة مع عِلْمِهِ بها لزاد في الصلاة شيئاً عمداً، وهذا لا يجوز؛ وتبطل به الصَّلاة.
قوله: "فَتَشَهَّد إن لم يَكُنْ تَشَهَّدَ" أي: أنه إذا علم بالزيادة فجلس فإنه يقرأ التشهُّدَ، إلا أن يكون قد تشهَّد قبل أن يقوم للزيادة.
قوله: "وسَجَدَ وسَلَّم" ظاهر كلامه أنه يسجد قبل السلام، وهو المذهب , لأنهم لا يرون السجود بعد السلام؛ إلا فيما إذا سَلَّمَ قبل إتمامها فقط، وأمَّا ما عدا ذلك فهو قبل السَّلام، لكنَّ القول الرَّاجح الذي اختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية أن السجود للزيادة يكون بعد السلام مطلقاً.
مسألة: إذا قام إلى ثالثة في الفجر ماذا يصنع؟ الجواب: يرجع ولو بعد القراءة، وكذلك بعد الرُّكوع يرجع ويتشهَّد ويُسلِّم ثم يسجد للسهو ويُسَلِّم على القول الرَّاجح أن السجود هنا بعد السلام.(1/297)
مسألة: إذا قام إلى ثالثة في صلاة مقصورة، أي: رَجُلٌ مسافر قام إلى ثالثة، والثالثة في حَقِّ المسافر زيادة، فهل يلزمه الرُّجوع في هذه الحال، أو له أن يكمل؟ الجواب: هذا ينبني على القول بالقصر، إن قلنا: إن القصر واجب لزمه الرُّجوع، وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظَّاهر. وعلى القول بأن القصر ليس بواجب نقول: إنه مخيَّر بين الإِتمام وبين الرجوع. والصحيح: أنه يرجع؛ لأن هذا الرَّجل دَخَلَ على أنه يريد أن يُصلِّي رَكعتين فليصلِّ ركعتين ولا يزيد، وفي هذه الحال يسجد للسَّهو بعد السلام.
مسألة: رَجُلٌ يُصلِّي ليلاً وصلاة الليل مثنى مثنى، فقام إلى الثالثة ناسياً فهل يلزمه الرُّجوع؟ الجواب: يرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته ، لكن يُستثنى مِن هذا الوِتر، فإن الوِتر يجوز أن يزيد الإِنسان فيه على ركعتين، فلو أوتر بثلاث جاز، وعلى هذا فإذا دَخَلَ الإِنسان بالوتر بنيَّة أنه سيصلِّي ركعتين ثم يُسَلِّم ثم يأتي بالثالثة، لكنه نسي فقام إلى الثالثة بدون سلام، فنقول له: أتمَّ الثالثة؛ لأن الوتر يجوز فيه الزيادة على ركعتين.
قوله: "وإن سَبَّحَ به ثقتان فأصَرَّ، ولم يَجْزِمْ بصواب نفسه بطلتْ صلاتُهُ" "سَبَّحَ به" أي قال: "سبحان الله" تنبيهاً له, فإذا قام إلى الخامسة مثلاً فسبَّح به ثقتان وجب عليه الرُّجوع؛ إلا أن يجزم بصواب نفسه، فإن لم يرجع، وهو لم يجزم بصواب نفسه بطلت صلاته؛ لأنه تَرَكَ الواجب عمداً، وإنْ جزم بصواب نفسه لم يرجع.
وفُهِمَ مِن كلام المؤلِّف: أنه إذا سَبَّحَ ثقتان فلا يخلو من خمس حالات:
الأولى: أن يجزم بصواب نفسه، فيأخذ به ولا يرجع إلى قولهما.
الثانية: أن يجزم بصوابهما.
الثالثة: أن يغلب على ظَنِّه صوابهما.
الرابعة: أن يغلب على ظَنِّه خطؤهما.
الخامسة: أن يتساوى عنده الأمران.
ففي هذه الأحوال الأربع يأخذ بقولهما على كلام المؤلِّف، والصحيح أنه لا يأخذ بقولهما إذا ظَنَّ خطأهما.(1/298)
مسألة: إن نَبَّهَه ثقتان بدون تسبيح، فهل يُعطى ذلك حكم التسبيح، يعني: إذا تنحنحوا له مثلاً؟ فالجواب: نعم.
ولو سَبَّحَ به رَجُلٌ واحد فقط فلا يلزمه الرُّجوع، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى قول ذي اليدين. لكن إن غلبَ على ظَنِّه صِدْقُهُ أخذ بقوله على القول بجواز البناء على غلبة الظَّنِّ، وهو الصَّحيح.
مسألة: لو سَبَّحَ رَجُلٌ بما يدلُّ على أن الإِمام زاد، وسَبَّحَ رَجُلٌ آخر بما يدلُّ على أنه لم يزدْ، فبقول أيِّ واحد منهما يأخذ؟ الجواب: يتساقطان، فلو قال له أحدهما لمَّا قام: "سبحان الله" فلما تهيَّأ للجلوس قال الثاني: "سبحان الله"، إذاً؛ تعارض عنده قولان، فيتساقطان، كلُّ قول يُسقط الآخر، ويرجع إلى ما في نفسه ويبني عليه.
مسألة: إذا سبَّحَ به مجهولان؟ فلا يرجع إلى قولهما؛ لأنه لم يثبت كونهما ثقتين، ولكن الحقيقة أن الإِمام يقع في مثل هذا الحرج؛ لأنه يسمع التسبيح مِنْ ورائه ولا يدري مَن المسبِّح، قد يكون ثقة وقد لا يكون ثقة، لكن الغالب أن الإِمام في هذه الحال يكون عنده شَكٌّ، ويترجَّح عنده أن اللذين سَبَّحَا به على صواب. وحينئذ له أن يرجع إلى قولهما؛ لأن القول الراجح أنه يبني على غَلَبة الظَّنِّ.
مسألة: فلو نَبَّهه امرأتان بالتصفيق، كأن صَلَّى رَجُلٌ بأُمِّه وأخته، وأخطأ، فنبهتاه بالتصفيق، فهل يرجع أم لا؟ فالجواب: يرجع.(1/299)
قوله: "وصلاة من تبعه عالماً لا جاهلاً أو ناسياً، ولا من فارقه" . .يعني: إذا سَبَّحَ بالإمام ثقتان، ولم يرجعْ، وهو لم يجزم بصواب نفسِه؛ بطلت صلاتُهُ؛ لتركه الواجب عليه من الرُّجوع. أمّا بالنسبة للمأمومين الآخرين، فإن كان عندهم عِلْمٌ كما عند المُنبِّهَين وَجَبَ عليهم أن يفارقوا الإمام، فإنْ لم يفارقوه وتابعوه؛ نظرنا: فإنْ كان ذلك عمداً بطلت صلاتُهم، وإنْ كان ذلك نسياناً لم تبطل؛ وعليهم سجود السَّهو إذا كان فاتهم شيء مِن الصَّلاة، وإنْ كان ذلك جهلاً بأنها زائدة أو جهلاً بالحكم لم تبطل صلاتُهم.
وعُلِمَ من قوله: "ولا مَنْ فَارقه" أنه لا يجلس فينتظر الإمام؛ لأنه يرى أن صلاة الإمام باطلة، ولا يمكن متابعته في صلاة باطلة. لكن أحياناً يقوم الإمام لزائدة حسب عِلْم المأموم، وهي غير زائدة؛ لكون الإمام نسيَ قراءة الفاتحة في إحدى الرَّكعات، فأتى ببدل الرَّكعة التي نسيَ قراءة الفاتحة فيها، ففي هذه الحال ينتظره المأموم ليُسلِّمَ معه.
فإنْ قيل: ما الذي يُدرِي المأموم أن الحال كذلك؟ فالجواب: أن إصرار الإمام على المضي في صلاته مع تنبيهه، يغلب على الظَّنِّ أن الحال كذلك، وإنْ بَنَى المأموم على أنَّ الأصل أنَّ هذه الرَّكعة زائدة فَسَلَّم؛ فلا حَرَجَ عليه.
مسألة: هل يجب على المأموم أن يُنبِّه إمامه إذا قام إلى زائدة أو لا يجب؟ الجواب: يجب أن ينبِّهَه.
وإذا عَلِمَ غير المأموم أن المُصلِّي زاد، كَرَجُلٍ يصلِّي إلى جانبه، فقام إلى خامسة، وهو ليس بإمام له، فهل يلزمه تنبيهه؟ الجواب: ظاهر كلام الفقهاء: أنه لا يلزمه إذا لم يكن إماماً له, والصحيح عندي: أنه يجب أن ينبِّهه.
قوله: "وعَمَلٌ مستكثرٌ عادةً" . أي: في يكون بكثرة في عادة النَّاس، فإذا قال النَّاس: هذا العملُ كثيرٌ في الصَّلاة. فهذا مستكثر عادةً، وإن قالوا: هذا عملٌ يسيرٌ. فهو يسير.(1/300)
وقوله: "من غير جنس الصلاة" .إحترازاً مما كان كثيراً من جنس الصلاة.
وقوله: "من غير جنس الصلاة" يحتاج إلى زيادة قَيد، وهو: أن يكون متوالياً لغير ضرورة، لأنه إذا كان لضرورة, أو كان غيرَ متوالٍ فإن الصلاة لا تبطل به.
قوله: "يبطلها عمده وسهوه" أما عمدُه فواضح، وأما سهوه فقال المؤلِّف: إنه يبطل الصَّلاة. والقول الثَّاني : أنه إذا كان سهواً فإنه لا يبطل الصَّلاة ما لم يغيِّر الصَّلاة عن هيئتها، مثل: لو سَهَا وكان جائعاً فتقدَّم إلى الطَّعام فأكل؛ ناسياً أنه في صلاة، فلما شبع ذَكَرَ أنه يُصلِّي فهذا منافٍ غاية المنافاة للصَّلاة فيبطلها.فإن كان لا يُنافي الصَّلاة منافاة بَيِّنة، فالصَّحيح أنه لا يبطل الصَّلاة.
قوله: "ولا يشرع ليسيره سجود" ، أي: لا يجب ولا يستحبُّ.
قوله: "لا تبطل" الضَّمير يعود على الصَّلاة فَرْضها ونَفْلها.
قوله: "بيسير أكل أو شُرب سهواً, ولا نفلٌ بيسير شرب عمداً " .(أي): أنه تبطل الصلاة فَرْضها ونَفْلها بالأكل الكثير سهواً أو عَمْداً، ولا تبطل بالأكل اليسير سهواً.
وأما الشُّرب: فتبطل بالشُّرب الكثير عمداً، أو سهواً، ولا تبطل باليسير سهواً، ولا تبطل أيضاً باليسير عمداً إذا كانت نَفْلاً. والقول الثاني : أنه لا يُعفى عن يسير الشُّرب في النَّفْل عمداً؛ كما لا يُعفى عنه في الفرض، وبه قال أكثر أهل العِلْم. وعلى القول بأنه يُعفى عن اليسير، فالمرجع في اليسير والكثير إلى العُرف.
وظاهر قول المؤلِّف: "يسير شُرب" أنه لا فَرْقَ بين أن يكون الشُّرب ماءً أو لبناً، أو عصيراً، أو نحو ذلك، لكن الأصحاب قالوا: إنَّ بَلْعَ ذوب السُّكَّر في الفم كالأكل . وبعضهم قال: كالشُّرب. فعلى قول من يقول: إنَّ بَلْعَ ذوب السُّكَّر إذا كان في الفم كالأكل؛ لا يُعفى عن يسير العصير وأشباهه، لأنه يشبه ذوب السُّكر. وعلى القول الثاني يُعفى عنه في النَّفْل.
قوله: "إن أتى" أي: المصلِّي.(1/301)
قوله: "بقول مشروع" أي: قد شَرَعَه الشَّارع، سواء كان مشروعاً على سبيل الوجوب كالتسبيح وقراءة الفاتحة، أو على سبيل الاستحباب كقراءة السُّورة بعدها.
قوله: "في غير موضعه" .أي: إنْ أتى في غير موضع القول المشروع بالقول المشروع.
قوله: "كقراءة في سجود, وتشهد في قيام, وقراءة سورة في الأخيرتين, لم تبطل " ظاهره: حتى وإنْ قرأ في الرُّكوع، وإنْ قرأ في السُّجود، لأنه قول مشروع في الجُمْلة في الصَّلاة، لكنه في غير هذا الموضع. وقال بعض العلماء : بل إذا قرأ في الرُّكوع أو في السُّجود بطلت، وبه قال بعض الظاهرية. والجمهور قالوا: أنها لا تبطل وهو الراجح .
(قول المؤلف: "وقراءة سورة في الأخيرتين" بناءاً على المشهور من المذهب, والصحيح: أنه ينبغي أن يقرأ بزائد على السورتين ).
تنبيه: قوله: "كقراءة في سجود" ، أي: مع الإِتيان بسبحان رَبِّيَ الأعلى؛ لأنه إنْ قرأ في السُّجود ولم يقل: سبحان ربي الأعلى؛ فقد نقَّص واجباً فيلزمه سجود السَّهو، لكن إذا أتى بقول مشروع في غير موضعه مع الإِتيان بالقول المشروع في ذلك الموضع فقرأ في الرُّكوع مع قول: "سبحان ربي العظيم"، أو قرأ في السُّجود مع قول: "سبحان ربي الأعلى"، أو قرأ في القعود مع قول: "ربِّ اُغفِرْ لي"، أو قرأ في التشهُّد مع إتيانه بالتشهُّد.(1/302)
تتمة: ولو فَعَلَ المستحب في غير موضعه؛ بأن رَفَعَ يديه في الانحدار إلى السجود ناسياً؛ فهل يُشرع السُّجود؟ الجواب: لا يُشرع السُّجود؛ لأنه إذا لم يُشرع السُّجود لتركه وهو نقص في ماهيَّة الصَّلاة؛ فلا يُشرع لفعله مِن باب أَوْلَى، لكنه لا يبطل الصلاة؛ لأنه من جنسها، إلا أنه سيأتي - إن شاء الله - في باب سجود السَّهو أنه إذا أتى بقول مشروع في غير موضعه، فإنه يُسنُّ له أن يسجد للسَّهو، كما لو قال: "سبحان رَبِّيَ الأَعلى" في الرُّكوع، ثم ذَكَرَ فقال: "سبحان رَبِّي العظيم" فهنا أتى بقول مشروع وهو "سبحان رَبِّيَ الأَعلى"، لكن "سبحان رَبِّي الأعلى" مشروع في السُّجود، فإذا أتى به في الرُّكوع قلنا: إنك أتيت بقول مشروع في غير موضعه، فالسُّجود في حقِّكَ سُنَّة. وهذا هو المذهب ، أعني التفريق بين القول المسنون والفعل المسنون، حيث قالوا: إنْ أتى بقول مشروع في غير موضعه سُنَّ له سجود السَّهو، وإن أتى بفعل مسنون في غير موضعه لم يُسنَّ له السُّجود، وفي هذا التفريق نظر؛ فإن عموم الأدلة في السُّجود للسَّهو يقتضي أنْ لا فَرْقَ.
قوله: "وإن سلم قبل إتمامها عمداً بطلت" ، أي: إذا سَلَّم قبل إتمام الصلاة بقصد الخروج منها عمداً بطلت.(1/303)
قوله: "وإن كان سهواً ثم ذكر قريباً أتمها وسجد" ، أي: وإنْ كان السَّلام سهواً... إلخ وظاهر كلامه العموم، وأنه لا فَرْقَ بين أن يُسلِّم ظانًّا أنّها تمَّت، وبين أن يُسلِّم جازماً أنها تمَّت؛ لكونه يظنُّ أنه في صلاة أخرى، وبين المسألتين فَرْقٌ، فإذا سَلَّم ظانًّا أنها تمَّت؛ فهذا ما أراده المؤلِّف، مثل: مَنْ سَلَّم مِن ركعتين في صلاة رباعية فيتمُّ ويسجد للسَّهو. وأما إذا سَلَّمَ على أنها تمَّت الصَّلاة؛ بناءً على أنه في صلاة أخرى لا تزيد على هذا العدد، مثل: أن يُسلِّم مِن ركعتين في صلاة الظُّهر؛ بناءً على أنَّها صلاة فجر، فهنا لا يبني على ما سَبَقَ، لأنه سَلَّم يعتقد أن الصَّلاة تامَّة بعددها، وأنه ليس فيها نقص، فيكون قد سَلَّمَ من صلاة غير الصَّلاة التي هو فيها، ولهذا لا يبني بعضها على بعضٍ.
لكن لو ذَكَرَ وهو قائم، فهل يبني على قيامه ويستمر، أم لا بُدَّ أن يقعد ثم يقوم؟ قال الفقهاء - رحمهم الله -: لا بُدَّ أن يقعد، ثم يقوم.
فإن قيل: إنَّ النهوض ليس رُكناً مقصوداً، ولكنه مِن أجل أن يكون قائماً، وبناءً على ذلك لا يلزمه أن يجلس ثم يقوم، كما قال به بعضُ العلماء. فالجواب: أنَّ ما ذَكَرَه الفقهاء - رحمهم الله - أحوط، فنقول: إذا كان الإِنسان قد نَهَضَ ثم ذَكَرَ، أو ذُكِّرَ، جَلَسَ، ثم قَامَ، وأتمَّ الصَّلاة.(1/304)
قوله: "فإن طال الفصل" لم يُبيِّن المؤلِّف مقدار الفصل، فيُرجع في ذلك إلى العُرف. ومثال الفصل القصير: أن يكون الفَصْلُ كالفصلِ في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في قصةِ ذي اليدين، فإنه قام إلى مقدَّم المسجد، واتكأ على خشبة معروضة هناك، وتراجع مع الناس، وخرج سُرعان الناس من المسجد وهم يقولون: قُصرت الصَّلاة . فما كان مثل هذا، كثلاث دقائق، وأربع دقائق، وخمس دقائق وما أشبهها، فهذا لا يمنع مِن بناء بعضها على بعض، وأما إن لم يَذْكُر إلا بعد زمن طويل كساعة أو ساعتين، فإنه لا بُدَّ مِن استئناف الصَّلاة.
قوله: "أو تكلم لغير مصلحتها, ككلامه في صلبها, ولمصلحتها إن كان يسيراً لم تبطل " ، أي: بعد أن سَلَّمَ قبل إتمام الصَّلاة تكلَّم بكلام لغير مصلحة الصَّلاة فإنها تبطل.
فَصَّلَ المؤلِّف في الكلام، وجعله على أقسام؛ فيما إذا تكلَّم بعد سلامه ناسياً:
القسم الأول: أن يتكلَّم لغير مصلحة الصَّلاة، فهنا تبطل بكلِّ حال.
القسم الثاني: أن يتكلَّم لمصلحة الصَّلاة بكلام يسير، كفعل الرسول صلى الله عليه وسلم والصَّحابة حين قال: "أصدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم. ومراجعة ذي اليدين له. فهنا لا تبطل.
القسم الثالث: أن يكون كثيراً لمصلحة الصَّلاة، فتبطل.
هذا ما قرَّره المؤلف، وهو أحد الأقوال في هذه المسألة . والقول الثاني: أن الصَّلاة لا تبطل بهذه المسائل الثلاث كلها؛ لأن هذا المتكلِّم لا يعتقد أنه في صلاة، فهو لم يتعمَّد الخطأ، وهذا هو الصحيح.
وكذلك على القول الصَّحيح لا تبطل بالأكل والشُّرب ونحوهما؛ - إذا سَلَّمَ ناسياً - ، ولا بغير ذلك مما ينافي الصَّلاة ويبطلها إلا في الحَدَث. (و) القول الثالث: أنَّ الصَّلاة تبطل بالكلام؛ ولو يسيراً لمصلحتها إذا سَلَّم ناسياً.(1/305)
قوله: "وقهقهة ككلام" . القهقهة: الضَّحك المصحوب بالصَّوت ، فإذا قهقه إنسانٌ وهو يُصلِّي بطلت صلاتُه؛ لأن ذلك يشبه اللعب، فإن تبسَّم بدون قهقهة فإنها لا تبطل الصَّلاة؛ لأنه لم يظهر له صوت. وإنْ قهقه مغلوباً على أمره؛ فإن بعض الناس إذا سَمِعَ ما يعجبه لم يملك نفسه من القهقهة، فَقَهْقَهَ بغير اختياره فإن صلاته على القول الرَّاجح لا تبطل، كما لو سَقَطَ عليه شيء فقال بغير إرادة منه: "أح" فإن صلاته لا تبطل أيضاً؛ لأنَّه لم يتعمَّد المفسد.
قوله: "إن نفخ" أي: فبان حرفان بطلت صلاتُه، لأنه تكلَّم مثل: أن يقول: "أف" يرفع صوته بها، فهذا تبطل صلاته به؛ لأنه بان منه حرفان. وفي هذا التَّعليل شيء، لأنه قد يكون الكلام كلاماً تامًّا مع حرف واحد؛ كأفعال الأمر مِن الثلاثي إذا كانت مثالاً ناقصاً. مثل أن تقول لصاحبك: "عِ" من وعى، فـ"عِ" هذا كلام تام، أو "فِ" من وَفَّى، هذا أيضاً كلام تام، وهي مكوَّنة مِن حرف واحد، كما أنه يكون هناك ثلاثة حروف، ولا يكون كلاماً، فكون المسألة تعلَّل بأن ما كان حرفان فهو كلام، وما دون ذلك ليس بكلام، فيه نَظَرٌ. ولهذا نقول في "النَّفخ": إن كان عَبَثاً أبطل الصَّلاة؛ لأنه عَبَثٌ، وإنْ كان لحاجة فإنه لا يُبطل الصَّلاة، ولو بان منه حرفان، لأنه ليس بكلام.
قوله: "انتحب" أي: فَبَانَ حرفان، والنَّحيب: رَفْعُ الصوت بالبكاء.
قوله: "من غير خشية الله تعالى". هذا ما قرَّره المؤلِّف. والصحيح: أنه إذا غلبه البكاء حتى اُنتحب لا تبطل صلاتُه؛ لأن هذا بغير اختياره، سواء كان مِن غير خشية الله كما سَبَقَ، أم من خشية الله.
قوله: "أو تنحنح من غير حاجة فبان حرفان بطلت" . أي إن ( نحنح ) لغير حاجة فإنها تبطل صلاته, بشرط أن يبين حرفان . والقول الراجح: أن الصَّلاة لا تبطل بذلك، ولو بَانَ حرفان. اللَّهُمَّ إلا أن يقع ذلك على سبيل اللعب، فإن الصلاة تبطل به.(1/306)
مسألة: هل مِن الحاجة أن يتنحنح إذا أطال الإِمام الركوع أو السُّجود من أجل أن يُنبِّهه أو ليس من الحاجة؟ الجواب: هذا ليس من الحاجة، إلا إذا أطال الإِمام إطالة خرجت عن حَدِّ المشروع، فقد يكون هذا من الحاجة.
مسألة: إذا عطس فبَانَ حرفان فهل تبطل صلاتُه؟ الجواب: لا تبطل صلاته؛ لأنه مغلوبٌ عليه وليس باختياره، وكذلك لو تثاءب فبان حرفان، فإنه مغلوبٌ عليه فلا يضرُّه، لكن بعض الناس ينساب وراء التثاؤب حتى تسمعَ له صوتاً "ها، ها" فهذا الظاهر أنه غير مغلوب على أمره. وكذلك بعض النَّاس يتقصَّد أن يكون عطاسه شديداً، فلو تقصَّد هذا وبان حرفان؛ بطلت صلاتُه على قاعدة المذهب؛ لأن هذا ليس مغلوباً على أمره.
فصل
الكلام في هذا الفصل على النَّقْصِ، وكلامه السابق في الباب على الزيادة، وقد سَبَقَ أن الزيادة : زيادة قول، وزيادة فِعْلٍ.
وزيادة القول إما أن تكون مِن جنس الصَّلاة، أو من غير جنسها، وكذلك الفعل. فزيادة القول مِن غير جنس الصلاة تبطل الصَّلاة إنْ كانت عمداً، وكذلك إن كانت سهواً أو جَهْلاً على المذهب؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصَّلاة لا يصلُحُ فيها شيءٌ من كلام الناس" . والصَّحيح: أنها لا تبطل الصَّلاة إنْ كانت سهواً أو جهلاً . وإن كان القول مِن جنس الصَّلاة، فإن كان مما يخرج به من الصَّلاة وهو السَّلام، فإن كان عمداً بطلت، وإن كان سهواً أتمَّها وسَجَدَ للسَّهو بعد السَّلام، وإن كان مما لا يخرج به من الصَّلاة، كما لو زاد تسبيحاً في غير محلِّه، فهذا يُشرع له السُّجود ولا يجب.(1/307)
أما زيادة الأفعال فإن كانت من غير جنس الصَّلاة فقد سَبَقَ أن أقسامها خمسة، وهي الحركة في الصَّلاة . وإن كانت من جنس الصَّلاة: فإن كانت تغير هيئة الصَّلاة، وهي: الرُّكوع والسُّجود والقيام والقعود، فإنْ كان متعمِّداً بطلت، وإلا؛ لم تبطل، وسَجَدَ للسَّهو. وإن كانت لا تغير هيئة الصَّلاة، كما لو رَفَعَ يديه إلى حذو منكبيه في غير موضع الرَّفع، فإن الصَّلاة لا تبطل به، لأن ذلك لا يُغَيِّرُ هيئة الصَّلاة ولكن يُشرع له السُّجود على القول الرَّاجح.
قوله: "ومن ترك ركنا, فذكره بعد شروعه في قراءة ركعة أخرى بطلت التي تركه منها ً" أي: صارت لغواً، وتقوم التي بعدها مقامها، هذا إذا ذكره بعد شروعه في قراءة الركعة الأخرى.هذا ما قرَّره المؤلِّف. والقول الثاني: أنها لا تبطل الركعة التي تركه منها، إلا إذا وَصَلَ إلى محلِّه في الرَّكعة الثانية، وبناء على ذلك يجب عليه الرُّجوعُ ما لم يَصِلْ إلى موضعه من الرَّكعة الثانية. فإن وصل إلى موضعه من الركعة الثانية صارت الثانية هي الأولى,وهذا القول هو الصحيح.
قوله: "وقبله يعود وجوباً، فيأتي به وبما بعده" أي: إذا ذَكَرَ الرُّكن المتروك قبل شروعه في قراءة الرَّكعة التي تلي المتروك منها، فإنه يعود إلى الرُّكن المتروك فيأتي به وبما بعده.
قوله: "وإن علم بعد السَّلام فكترك ركعة كاملة" أي: إن عَلِمَ بالرُّكن المتروك بعد أن سَلَّمَ فكتركه رَكعة كاملة، أي: فكأنه سَلَّمَ عن نقص رَكعة، وعلى هذا؛ فيأتي برَكعة كاملة، ثم يتشهَّدُ ويسجد للسَّهو ويُسلِّمُ. والقول الثاني : أنه لا يلزمه أن يأتي بركعة كاملة، وإنما يأتي بما تَرَكَ وبما بعده، وبعد السلام يسجد للسهو ويسلم, وهذا القول هو الصَّحيح.(1/308)
هذا الكلام عن نقص الأركان، أما الواجبات فقد ذَكَرَها المؤلف بقوله: "وإن نسي التشهد الأولونهض لزمه الرجوع مالم ينتصب قائماً, فإن إنتصب قائماً كره رجوعه, وإن لم ينتصب لزمه الرجوع, وإن شرع في القراءة حرم الرجوع وعليه السجود للكل." خصَّ المؤلِّفُ التشهُّدَ الأول على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، بل نقول: إذا نقَّص واجباً ناسياً كالتشهُّدِ الأول ونَهَضَ، (فلا يخلو من أربع أحوال:ثلاثة ذكرها المؤلف, ورابعة لم يذكرها.)
وعلى هذا؛ فتكون الأحوالُ أربعاً، وصار الرُّجوع: محرماً، ومكروهاً، وواجباً، ومسكوتاً عنه.
فالمحرم: إذا شَرَعَ في القراءة، ولو رَجَعَ عالماً بطلت صلاتُه؛ لأنه تعمَّد المفسد.
والمكروه: إذا اُستتمَّ قائماً ولم يشرع في القراءة، ولو رَجَعَ لم تبطل؛ لأنه لم يفعل حراماً. وقال بعض العلماء : يحرم الرُّجوع إذا اُستتمَّ قائماً، سواءٌ شرعَ في القِراءة أم لم يشرعْ؛ لأنه اُنفصلَ عن محلِّ التشهُّد تماماً. وهذا أقرب إلى الصَّواب.
والواجب: إذا لم يستتمَّ قائماً ونهضَ، ولكن في أثناء النهوض ذَكَرَ ثم رَجَع، ففي هذه الأحوال الثلاث يجب عليه سجود السَّهو.
والمسكوت عنه: أن يذكر قبل أن ينهض. قال بعض العلماء: أي قبل أن تفارق فخذاه ساقيه، وبعضهم قال: قبل أن تفارق ركبتاه الأرضَ، والمعنى متقارب؛ لأنه إذا فارقت ركبتاه الأرضَ فقد نهضَ، وإذا فارقت أليتاه ساقيه فقد نهضَ أيضاً، لكن إذا ذَكَرَ قبل أن ينهض فإنه يستقر، وليس عليه سجود سهو. هذا حكم المسألة على كلام المؤلِّف.(1/309)
ويجب أن يُعلم؛ أن ما ذكرناه في التشهُّدِ الأول يجري على مَنْ تَرَكَ واجباً آخر، مثل: التسبيح في الرُّكوع، فلو نسيَ أن يقول: "سبحان رَبِّي العظيم" ونَهَضَ من الرُّكوع فذكر قبل أن يستتمَّ قائماً، فإنه يلزمه الرُّجوع، وإن اُستتمَّ قائماً حرم الرُّجوع، وعليه أن يسجد للسَّهو؛ لأنه تَرَكَ واجباً، ويكون قبل السَّلام؛ لأنه عن نقص. وعلى هذا فقس.
قوله: "ومن شك في عدد الركعات أخذ بالأقل" . ظاهر كلام المؤلِّفِ : أنه لا فَرْقَ بين أن يكون لديه ترجيح أو لا ، وهذا هو المذهب. (و) القول الثَّاني في المسألة: أنه إذا شَكَّ وترجَّحَ عنده أحد الأمرين أخذ بالمترجِّح، سواء كان هو الزائد أم النَّاقص.وهو الصحيح. وبناءً على ذلك نقول: إذا شَكَّ في عدد الرَّكعات، فإن غلب على ظَنِّه أحد الاحتمالين عَمِلَ به، وبَنَى عليه، وسَجَدَ سجدتين بعد السَّلام، وإنْ لم يترجَّح عنده أحد الاحتمالين أخذ بالأقل، وبَنَى عليه، وسَجَدَ قبل السَّلام. وإذا شَكَّ ولم يترجَّح عنده شيء، يأخذ بالأقل ويسجد سجدتين قبل السَّلام.
بقي عندنا مسألة، وهي هل يفرَّق بين الإِمام والمنفرد والمأموم، أو هم على حَدٍّ سواء؟ الجواب: فَرَّقَ بعض العلماء بين الإِمام وغيره، وقال: الإِمامُ يأخذ بغالب ظَنِّهِ، وأما المأموم والمنفرد فيبني على اليقين، وهو الأقل، ولكن حديث ابن مسعود الذي ذكرناه آنفاً يدلُّ على أنه يبني على غالب ظَنِّهِ، سواء كان إماماً، أم مأموماً، أم منفرداً.(1/310)
مسألة: إذا جاء والإِمام راكع فكبّر للإحرام، ثم رَكَعَ، ثم أشكل عليه: هل أدرك الإِمام في الرُّكوع، أم رَفَعَ الإِمام قبل أن يدركه؟ فعلى ما مشى عليه المؤلِّف لا يُعتدُّ بها؛ لأنه شَكَّ هل أدركها أم لا؟ فيبني على اليقين، وهو أنه لم يدركها، فيُلغي هذه الرَّكعة. وعلى القول الثَّاني: وهو العمل بغلبة الظَّنِّ، نقول: هل يغلب على ظَنِّك أنك أدركت الإِمام في الركوع أم لا؟ فإن قال: نعم، يغلب على ظَنِّي أني أدركته في الرُّكوع، نقول: الرَّكعة محسوبة لك، وهل يسجد أو لا يسجد؟ سيأتينا إن شاء الله أن المأموم لا يجب عليه السُّجود، إذا كان لم يفته شيء من الصَّلاة، وإنْ فاته شيء من الصَّلاة وَجَبَ عليه أن يسجد. وإن قال: يغلب على ظَنِّي أني لم أدركها قلنا: لا تحتسب بهذه الرَّكعة وأتمَّ صلاتك ثم اُسجد للسَّهو بعد السَّلام وإن قال: إني متردِّدٌ ولم يغلب على ظنِّي أني أدركتها قلنا: اُبْنِ على اليقين، ولا تحتسبها، وأتمَّ صلاتك، واُسجد للسَّهو قبل السَّلام.
مسألة: لو بَنَى على اليقين، أو على غالب ظَنِّه، ثم تبيَّنَ أنه مصيب فيما فَعَلَ، فهل يلزمه السُّجود؟ للعلماء في هذا قولان: القول الأول: أنه لا يلزمه أن يسجد. القول الثاني: أن عليه السُّجود. وهذا القول دليله وتعليله قويٌّ، وفيه أيضاً ترجيح من وجه ثالث، وهو الاحتياط.(1/311)
القسم الثاني: الشكُّ في تَرْكِ الأركان، وأشار إليه بقوله: "وإن شكَّ في تَرْكِ رُكن فكتركه" .أي: لو شَكَّ هل فَعَلَ الرُّكن أو تَرَكَه، كان حكمه حكم مَنْ تركه. مثاله: قام إلى الرَّكعة الثانية؛ فَشَكَّ هل سَجَدَ مرَّتين أم مرَّة واحدة؟ فإن شرع في القراءة فلا يرجع، وقبل الشُّروع يرجع. وعلى القول الرَّاجح: يرجع مطلقاً، ما لم يصل إلى موضعه مِن الرَّكعة التالية، فيرجعْ ويجلسْ، ثم يسجد، ثم يقوم، لأن الشَّكَّ في تَرْكِ الرُّكن كالتَّرك. وكان الشَّكُّ في تَرْكِ الرُّكن كالتَّرك؛ لأن الأصل عدمُ فِعْله، فإذا شَكَّ هل فَعَلَه، لكن إذا غلب على ظَنِّه أنه فَعَلَه؛ فعلى القول الرَّاجح وهو العمل بغلبة الظَّنِّ يكون فاعلاً له حكماً ولا يرجع؛ لأننا ذكرنا إذا شَكَّ في عدد الركعات يبني على غالب ظَنِّهِ، ولكن عليه سجود السَّهو بعد السلام.
القسم الثَّالث: الشَّكُّ في تَرْكِ الواجب، وأشار إليه بقوله: "ولا يسجد لشكّه في ترك واجب" . أي: لو شَكَّ في تَرْكِ الواجب (كالتشهد الأول) بعد أن فارق محلَّه، فهو كفعليه فلا سجود السَّهو، وهذا هو المذهب . والقول الرَّاجح: هو اُتباع غالب الظَّنِّ فإذا غلب على ظَنِّكَ أنك تشهَّدت فلا سجود عليك، وإن غلب على ظَنِّكَ أنك لم تتشهَّد فعليك السُّجود، والسُّجود هنا يكون قبل السَّلام؛ لأنه عن نقص، وكلُّ سجود عن نقص فإنه يكون قبل السَّلام.
القسم الرابع: الشكُّ في الزيادة وأشار إليه بقوله: " أو زيادة" .أي: لو شَكَّ هل زاد في صلاته فيلزمه سجود السَّهو، أو لم يزدْ فلا سجود عليه فإنه لا يسجد.وإن تيقن أنه زاد, فيجب عليه سجود السهو. ولو شك في الزيادة حين فعل الزيادة , ثم تبين عدمها فغنه يجب عليه السجود على المذهب. وأما إذا شَكَّ في الزِّيادة بعد اُنتهائه فلا سُجود عليه.(1/312)
قوله: "ولا سجود على مأموم إلا تبعاً لإِمامه" أي: أن المأموم لا يلزمه سجود السَّهو إلا تبعاً لإِمامه. وبناءً على هذا: يشترط أن لا يفوته شيء من الصلاة. مثاله: رَجُلٌ نسيَ أن يقول: "سبحان ربِّي العظيم"، ولم يفته شيء من الصَّلاة؛ فيسقط عنه سجود السَّهو. فإن فاته شيء مِن الصَّلاة، ولزمه الإِتمام بعد سلام إمامه؛ لزمه سجود السَّهو إنْ سها سهواً يوجب السُّجود، لأنه إذا سَجَدَ لا يحصُل منه مخالفة لإمامه.
وقوله: "إلا تبعاً لإِمامه" أي: إلّا إذا كان سجوده تبعاً لإِمامه فيجب عليه، سواء سها أم لم يسهُ، فإذا سَجَدَ الإِمام وجب على المأموم أن يتابعه ، وهذا فيما إذا كان سجود الإمام قبل السَّلام، لأن الإِمام لم تنقطع صلاته بعد.
فإن كان بعد السَّلام فهل يجب متابعته أو لا يجب؟ ظاهر كلام المؤلِّف: أنها تجب متابعته ولو بعد السَّلام؛ لعموم قوله: "إلا تبعاً لإمامه" فلا فَرْقَ بين أن يسجد الإِمام قبل السَّلام أو بعده، وهذا ظاهر إذا كان المأموم لم يفته شيء من الصَّلاة، فهنا يجب أن يسجد مع الإِمام ولو بعد السَّلام. فإن كان المأموم مسبوقاً وَسَجَدَ الإِمام بعد السَّلام فهل يلزم المأموم متابعته في هذا السُّجود؟ ظاهر كلام المؤلِّف: أنه يلزمه لقوله: "إلا تبعاً لإمامه" وهذا هو المعروف عند الفقهاء حتى قالوا: إذا قام ولم يستتمَّ قائماً لزمه الرُّجوع، كما لو قام عن التشهُّدِ الأول . والصَّحيح: أن الإِمام إذا سَجَدَ بعد السَّلام لا يلزم المأموم متابعته؛ لأن المتابعة حينئذ متعذِّرة، فإن الإِمام سيُسَلِّم ولو تابعه في السَّلام لبطلت الصَّلاة، لوجود الحائل دونها وهو السَّلام . ولكن هل يلزمه إذا أتمَّ صلاته أن يسجدَ بعد السَّلام، كما سجد الإِمام؟. الجواب: فيه تفصيل:إن كان سهو الإِمام فيما أدركه من الصَّلاة وجب عليه أن يسجد بعد السَّلام. وإن كان سهو الإِمام فيما مضى من صلاته قبل أن يدخل معه لم يجب عليه أن يسجد.(1/313)
مسألة: إذا كان المأموم مسبوقاً وسَهَا في صلاته، والإِمام لم يسهُ فهل عليه سجود؟ الجواب: عليه السجود للسَّهو إذا كان سهوه مما يوجب السُّجود؛ لأنه انفصل عن إمامه، ولا تتحقَّق المخالفة في سجوده حينئذ.
مسألة: لو كان الإِمامُ لا يرى وجوب سجود السَّهو، والمأموم يرى وجوب سجود السَّهو مثل: التشهُّد الأول فإن بعض العلماء يرى أنه سُنَّة كما هو مذهب الشافعي، وليس بواجب، فإذا تَرَكَه الإِمام ولم يسجد للسَّهو بناءً على أنه سُنَّة، وأن السُّنَّة لا يجب لها سجود السَّهو، فهل على المأموم - الذي يرى أنَّ سجودَ السَّهو واجبٌ - سجودٌ؟ الجواب: لا. (و) أما لو كان الإِمام يرى وجوب سجود السَّهو وسَبَّح به للسُّجود، ولكنه لم يسجد، فقال الفقهاء رحمهم الله : يسجد المأموم إذا أيسَ من سجود إمامه.
قوله: "وسجود السَّهو لما يبطل عمده واجب" هذا الضَّابط فيما يجب سجود السَّهو له، فسجود السَّهو واجب لكل شيء يبطل الصَّلاة عمده. مثال ذلك: لو تركت قول: "رَبِّ اُغفرْ لي" بين السَّجدتين وَجَبَ عليك سجود السَّهو، لأنك لو تعمَّدت تَرْكَهُ لبطلت صلاتُكَ. مثال آخر: لو أن الإِنسان تَرَكَ الفاتحة يجب عليه سجود السَّهو، ولكن يجب عليه شيء آخر غير سجود السَّهو وهو الإِتيان بالرُّكن. (و) لو تَرَكَ الاستفتاح لا يجب عليه سجود السَّهو، لأنه لو تعمَّد تَرْكه لم تبطل صلاتُه. ولكن هل يُسَنُّ؟ الصَّحيح: أنه إذا تركه نسياناً يُسَنُّ السُّجود، لأنه قول مشروع فيجبره بسجود السَّهو، فإذا ترك الإنسان سهواً سُنَّة من عادته أن يأتي بها، فسجود السَّهو لها سُنَّة، أما لو تَرَكَ السُّنَّة عمداً فهنا لا يُشرع له السُّجود؛ لعدم وجود السَّبب، وهو السَّهو.
قوله: "وتبطل بترك سجود أفضليته قبل السلام فقط" . أفاد المؤلِّف هنا مسألتين:(1/314)
المسالة الأولى: أن كون السُّجود قبل السَّلام أو بعدَه على سبيل الأفضلية، وليس على سبيل الوجوب، وأنَّ الرَّجُل لو سَجَدَ قبل السَّلام فيما موضعه بعد السَّلام فلا إثم عليه، ولو سَجَدَ بعد السَّلام فيما موضعه قبل السَّلام فلا إثم عليه، والأفضل: أن يسجد قبل السَّلام، إلا إذا سَلَّمَ قبل إتمام الصَّلاة، فالأفضل: أن يسجد بعد السَّلام.وهذا هو المذهب.(و) القول الثاني: أنَّ كون السُّجود قبل السَّلام أو بعدَه على سبيل الوجوب، وأنَّ ما جاءت السُّنة في كونه قبل السَّلام يجب أن يكون قبل السَّلام، وما جاءت السُّنَّة في كونه بعد السَّلام يجب أن يكون بعد السَّلام، وهذا اختيار شيخ الإِسلام، وهو الرَّاجح . فيسَجَدَ للزِّيادة بعد السَّلام ، ويسَجَدَ للنَّقص قبل السَّلام.
وأما الشَّكُّ فالمذهب : أن الشَّكَّ قسم واحد يبني فيه الإِنسان على اليقين، وهو الأقل، ويسجد للسَّهو قبل السَّلام. ولكن الصَّحيح الذي دلَّت عليه السُّنَّة أنَّ الشَّكَ قسمان وهما:
1 - شَكٌّ يترجَّح فيه أحد الطَّرفين، فتعمل بالرَّاجح، وتبني عليه، وتسجد بعد السَّلام.
2 - شَكٌّ لا يترجَّح فيه أحد الطَّرفين، فتبني فيه على اليقين، وتسجد قبل السَّلام، وهذا اُختيار شيخ الإسلام.
المسألة الثانية: أن الصَّلاة تبطلُ إذا تَرَكَ السُّجود الذي محلُّه قبل السَّلام، ولا تبطل إذا تَرَكَ السُّجود الذي محلُّه بعد السَّلام.
قوله: "وإن نسيه وسَلَّمَ سجَدَ إن قَرُبَ زمنه" أي: السُّجود الذي قبل السَّلام، وسَلَّم سَجَد إن قَرُبَ زمنُه، فإنْ بَعُدَ زمنُه سقط، وصلاته صحيحة.وهذا إذا ترك واجباً سهواً. ( وأما ) إذا ترك ركناً وسلم قبل إتمام الصلاة, فلا بد أن يأتي به , فيرجع ويكمل. وقال شيخ الإِسلام ابن تيمية : بل يسجدُ، ولو طال الزَّمن. ولكن الأقرب: ما قاله المؤلِّف - - وهو المذهب : أنه إذا طال الفصل فإنه يسقط.(1/315)
قوله: "ومن سها مراراً كفاه سجدتان" لأن السَّجدتين تجبران كُلَّ ما فات. ولكن إذا اجتمع سببان، أحدهما: يقتضي أن يكون السُّجود قبل السَّلام، والثاني: يقتضي أن يكون السُّجود بعد السلام. فقيل: يعتبر ما هو أكثر، مثل: لو سَلَّمَ قبل تمام صلاته وَرَكَعَ في إحدى الرَّكعات رُكوعين، وتَرَكَ التشهُّدَ الأوَّل، فهنا عندنا سببان يقتضيان أن يكون السُّجود بعد السَّلام، وهما زيادة الرُّكوع والسَّلام قبل التمام، وعندنا سببٌ واحدٌ يقتضي السُّجود قبل السَّلام، وهو تَرْك التشهُّد الأول، فيكون السُّجودُ بعد السَّلام. والمذهب يُغَلِّبُ ما قبلَ السَّلام.
باب صلاة التطوع
قوله: "آكدها كسوف, ثم إستسقاء, ثم تراويح, ثم وتر" . هذا ما قرره المؤلف. والراجح: أن ترتيبها: الكسوف، ثم الوِتر، ثم الاستسقاء، ثم التراويح، هذا هو القول الراجح؛ لأن الاستسقاء صلاة يقصد بها رَفْع الضرر، فالناس في حاجة إليها أكثر من التراويح.
وفُهِمَ من كلام المؤلِّف : أَنَّ صلاة الكُسُوفِ نافلةٌ من باب التطوُّعِ، وفيها خِلاف بين أهل العلم. والصحيح : أَنَّ صلاة الكُسُوف فرضٌ واجب، إِمَّا على الأعيان؛ وإِمَّا على الكفاية. وأما الوتر فقال بعضُ العُلماء: إنَّهُ واجبٌ على مَنْ له وِرْدٌ مِن اللَّيل. يعني: على مَنْ يقومُ اللَّيل. وقال آخرون: إنه سُنَّةٌ مطلقة. وهو عند القائلين بأنه سنة من السنن المؤكدة.(1/316)
قوله: "يفعل بين صلاة العشاء والفجر" ، هذا وقته بين صلاة العشاء والفجر، وسواء صَلَّى العشاء في وقتها، أو صلاها مجموعة إلى المغرب تقديماً, وما يُروى عن بعضِ السَّلفِ؛ أَنَّه كان يُوتِرُ بين أذانِ الفَجرِ، وإقامةِ الفَجرِ فإنَّه عَمَلٌ مُخالفٌ لما تقتضيه السُّنَّة، ولا حُجَّةَ في قولِ أحدٍ بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. فالوِتْرُ ينتهي بطُلوعِ الفَجرِ، فإذا طَلَعَ الفجرُ وأنت لم تُوتِرْ؛ فلا تُوتِر، لكن ماذا تصنعُ؟ الجواب : تُصلِّي في الضُّحى وِتراً مشفوعاً بركعة، فإذا كان مِن عادتك أن توتر بثلاث صلَّيتَ أربعاً، وإذا كان مِن عادتك أن توتر بخمس فصل ستاً.
ولم يتكلم المؤلِّفُ هل الأفضل تقديمه في أول الوقت أو تأخيره؟ ولكن دلَّت السُّنَّةُ على أن مَنْ طَمِعَ أن يقوم من آخر الليل فالأفضل تأخيره؛ لأن صلاة آخر الليل أفضل وهي مشهودةً، ومن خاف أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام.
قوله: "وأقله ركعة" يعني: أقل الوتر ركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الوِتْرُ رَكْعَةٌ من آخرِ اللَّيلِ" أخرجه مسلم ، وقوله : "صَلاةُ اللَّيلِ مَثْنَى مَثْنَى، فإِذا خَشِيَ أحدُكُم الصُّبْحَ صَلَّى ركعةً واحدةً تُوتِرُ له ما قد صَلَّى" وهو في "الصحيحين" فقوله: "صَلَّى ركعةً واحدةً" يدلُّ على أن أقل الوتر ركعة واحدة، فإذا اقتصر الإنسان عليها فقد أتى بالسُّنَّةِ.
قوله: "وأكثره إثنى عشر ركعة, مثنى مثنى" أي: يصليها اثنتين اثنتين.
قوله: "ويوتر بواحدة، وإن أوتر بخمس أو سبع لم يجلس إلا في آخرها، وبتسع يجلس عقب الثامنة فيتشهد ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم". فيجوزُ الوِترُ بثلاثٍ، ويجوزُ بخمسٍ، ويجوزُ بسبعٍ، ويجوزُ بتسعٍ، فإنْ أوترَ بثلاثٍ فله صِفتان كِلتاهُما مشروعة:
الصفة الأولى : أنْ يَسْرُدَ الثَّلاثَ بِتَشهدٍ واحدٍ .(1/317)
الصفة الثانية : أنْ يُسلِّمَ مِن رَكعتين، ثم يُوتِرَ بواحدة . كلُّ هذا جَاءت به السُّنةُ، فإذا فَعَلَ هذا مرَّةً، وهذا مرَّةً فَحَسَنٌ.
أمَّا إذا أوتَرَ بخمسٍ؛ فإنَّه لا يَتَشَهَّدُ إلا مرَّةً واحدةً في آخرها ويُسلِّمُ . وإذا أوتَرَ بسبعٍ ؛ فكذلك لا يَتَشَهَّدُ إلا مرَّةً واحدةً في آخرها . وإن تَشَهَّدَ في السَّادسة بدون سلام ثم صَلَّى السَّابعةَ وسَلَّمَ فلا بأس . وإذا أوترَ بتسعٍ؛ تَشهَّدَ مرَّتينِ، مرَّةً في الثَّامنةِ، ثم يقومُ ولا يُسلِّمُ، ومرَّةً في التاسعة يتشهَّدُ ويُسلِّمُ . وإنْ أوترَ بإحدى عَشْرَة، فإنه ليس له إلا صِفةٌ واحدةٌ؛ يُسلِّمُ من كُلِّ ركعتين، ويُوترُ منها بواحدة .
قوله: "وأدنى الكمال ثلاث ركعات بسلامين" أي: أدنى الكمال في الوِتْرِ أنْ يُصلِّيَ ركعتين ويُسَلِّمَ، ثم يأتي بواحدة ويُسلِّمَ . ويجوز أن يجعلها بسلام واحدٍ، لكن بتشهُّدٍ واحدٍ لا بتشهُّدين؛ لأنه لو جعلها بتشهُّدين لأشبهت صلاةَ المغربِ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُشَبَّهَ بصلاةِ المغربِ .
قوله: "يقرَأُ في الأُولى "سَبِّح"، وفي الثَّانيةِ "الكافرون" وفي الثالثة "الإخلاص" , ويقنت فيها". أي: في الثالثة.
قوله: "بَعْدَ الرُّكُوعِ" أي: بعدَ الرُّكوعِ في الثَّالثةِ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ : أنَّه يدعو بعد أن يقول: "رَبَّنَا ولك الحَمْدُ" بدون أنْ يُكمل التَّحميدَ، ولكن لو كَمَّلهُ فلا حَرَجَ؛ لأن التَّحميدَ مفتاحُ الدُّعاءِ، فإنَّ الحَمْدَ والثَّناءَ على الله؛ والصَّلاةَ على نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم من أسباب إجابةِ الدُّعاءِ.(1/318)
وظاهر كلامه : أنَّه لا يَرفعُ يديه، وهو أحدُ قولي العُلماء. والصحيح : أنَّه يرفعُ يديه. ولكن كيف يَرفعُ يديه؟ الجواب: قال العُلماءُ: يَرفعُ يديه إلى صَدرِهِ، ولا يرفَعُها كثيراً؛ لأنَّ هذا الدُّعاءَ ليس دُعاءَ ابتهالٍ يُبالِغُ فيه الإنسانُ بالرَّفْعِ، بل دُعاءُ رَغْبَةٍ، ويبسُطُ يديْهِ وبطونَهما إلى السَّماءِ. هكذا قال أصحابُنَا رحمهم الله.
وظاهر كلام أهل العلم : أنه يضمُّ اليدين بعضهما إلى بعض، كحالِ المُستجدي الذي يطلب مِن غيره أن يُعطيه شيئاً، وأمَّا التَّفْريجُ والمباعدةُ بينهما فلا أعلمُ له أصلاً؛ لا في السُّنَّةِ، ولا في كلامِ العُلماءِ.
وقوله: "فيها" أي: في الرَّكعةِ الثَّالثةِ بعد الرُّكوعِ، هذا هو الأفضلُ ، وإنْ قَنَتَ قبلَه فلا بأس، فإذا أتمَّ القِراءة قَنَتَ ثم كبَّرَ ورَكَع، فهذا جائزٌ أيضاً.
وقوله: "يقنتُ فيها" أفادنا : أَنَّ القنوتَ سُنَّةٌ في الوِترِ. وإلى هذا ذهب أصحابُ الإمامِ أحمدَ، وقالوا: إنه يُسَنُّ أن يَقْنُتَ في الوِترِ في كلِّ ليلةٍ. وقال بعضُ أهل العلم: لا يقنتُ إلا في رمضان. وقال آخرون: يَقْنُتُ في رمضان في آخرِه. والمتأمِّلُ لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل يرى أنه لا يقنت في الوِترِ، وإنَّما يُصلِّي ركعةً يُوتِرُ بها ما صَلَّى. وهذا هو الأحسن؛ أنْ لا تداوم على قُنُوتِ الوِترِ؛ لأن ذلك لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه عَلَّمَ الحسنَ بنَ عليّ دعاءً يدعو به في قُنُوتِ الوِتْرِ ، فيدلُّ على أنَّه سُنَّةٌ، لكن ليس من فِعْلِهِ؛ بل من قَوْلِهِ.(1/319)
قوله: "ويقول:اللهم اهدني فيمن هديت, وعافني فيمن عافيت, وتولني فيمن توليت, وبارك لي فيما أعطيت, وقِنِي شَرَّ ما قضيتَ, إنكَ تَقضي ولا يُقضى عليك, إِنَّهُ لا يَذِلُّ من وَالَيْتَ, ولا يَعِزُّ مَنْ عاديت, تباركت رَبَّنَا تعاليت, اللهم إني أعوذ برضاك مِن سَخَطك, وبعفوك مِن عقوبتك, وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك, اللهم صل على محمد, وعلى آل محمد " ظاهر كلامه: أنه لا يبدأُ بشيءٍ قبل هذا الدُّعاءِ، لكن الصَّحيحُ أنَّه يبدأ بقوله: "اللَّهمَّ إِنَّا نَستعينُكَ، ونَستهديكَ، ونستغِفرُكَ، ونتوبُ إليكَ، ونؤمنُ بك، ونَتوكَّلُ عليك، ونُثْنِي عليكَ الخيرَ كُلَّه، ونَشْكُرُكَ ولا نَكْفُرُكَ. اللَّهمَّ إياك نعبدُ، ولك نُصلِّي ونسجدُ، وإِليكَ نَسعَى ونَحْفِدُ، نَرجو رحمَتَكَ، ونخشى عذابَكَ، إِنَّ عَذَابَكَ الجِدَّ بالكُفَّار مُلحِق" ثم يقول: "اللَّهمَّ اهدني فيمن هَدَيتَ" إلخ، هكذا قال الإمامُ أحمدُ - رحمه الله -
وقوله: "اهْدِني فِيمَنْ هَدَيتَ" الذي يقول: "اللَّهُمَّ اهْدِني" هو المنفردُ، أما الإمام فيقول: "اللَّهُمَّ اهْدِنَا" بالجمع .
وظاهرُ كلامِ المؤلِّف : الاقتصارُ على هذا الدُّعاء. ولكن لو زاد إنسانٌ على ذلك فلا بأس، لأنَّ المقامَ مقامُ دُعاءٍ، وكان أبو هريرة يقنتُ بلعن الكافرين، فيقول: اللَّهُمَّ اُلْعَن الكفرة" وفي هذا ما يدلُّ على أن الأمر في ذلك واسع.
وأيضاً: لو فُرِضَ أنَّ الإنسان لا يستطيع أنْ يدعوَ بهذا الدُّعاءِ؛ فله أنْ يدعوَ بما يشاء مما يحضره. ولكن إذا كان إماماً فلا ينبغي أن يطيلَ الدُّعاء بحيث يشقُّ على مَن وراءَه أو يملُّهم، إلا أن يكونوا جماعة محصورةً يرغبون ذلك.(1/320)
قوله: "ويمسح وجهه بيديه" . الأقوال في هذه المسألة ثلاثة: القول الأول : أنه سُنَّة. (و) القول الثاني : أنه بدعة. (و) القول الثالث : أنه لا سُنَّة ولا بدعة، أي: أنَّه مباح؛ إنْ فَعَلَ لم نُبدِّعه، وإنْ تَرَك لم نُنقِصْ عَمَله. والأقرب: أنه ليس بسُنَّة؛ لأنَّ الأحاديثَ الواردة في هذا ضعيفة، ولا يمكن أنْ نُثبتَ سُنَّة بحديث ضعيف، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية. وعلى هذا؛ فالأفضل أنْ لا يمسح، ولكن لا نُنكرُ على مَن مَسَحَ اعتماداً على تحسين الأحاديثِ الواردة في ذلك؛ لأنَّ هذا مما يختلف فيه النَّاسُ.
قوله: "ويُكره قنوته في غير الوتر" .يشمَلُ القُنُوت في الفرائضِ، والرَّواتبِ، وفي النَّوافل الأُخرى، فكلُّها لا يَقْنُتُ فيها مهما كان الأمرُ.
قوله: "إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة". هذه الجملة استثناء من قوله: "ويُكره قُنُوتُهُ في غير الوِتْرِ" . والنَّازلة: هي ما يحدث من شدائد الدَّهر.
قوله: "غير الطَّاعون" الطَّاعون: وباءٌ معروف فَتَّاكٌّ مُعْدٍ، إذا نَزَلَ بأرضٍ فإنه لا يجوز الذَّهابُ إليها، ولا يجوز الخُروجُ منها فِراراً منه . وهذا النَّوع من الوباء إذا نَزَلَ بالمسلمين فقد اختلف العُلماءُ رحمهم الله هل يُدعى بِرَفْعِهِ أم لا؟ فقال بعضُ العلماءِ : إنه يُدْعَى برَفْعِهِ. وقال بعضُ العلماءِ: لا يُدعَى برَفْعِهِ.
قوله: "فيقنُتُ الإمامُ في الفرائض" . أي: إلا أنْ تَنْزِلَ فحينئذٍ يقنتُ الإمامُ في الفرائض. فقول المؤلِّفِ: "فيقنتُ الإمامُ" أي: اُستحباباً، وقد أجمعَ العلماءُ على أنَّ هذا القُنُوت ليس بواجب، لكن الأفضل أنْ يقنتَ الإمامُ.(1/321)
وقوله: "الإمام" مَنْ يعني بالإمام؟ إذا أطلقَ الفقهاءُ "الإمامَ" فالمرادُ به: القائدُ الأعلى في الدَّولة، فيكون القانتَ الإمامُ وحدَه، أما بقيَّة النَّاس فلا يقنتون، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد. (و) القول الثاني في المسألة : أنه يقنت كلُّ إمام. (و) القول الثالث : أنه يقنت كلُّ مصلٍّ، الإمام والمأموم والمنفرد.وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. ولكن الذي أرى: أنْ يُقتصرَ على أَمْرِ وليِّ الأمْرِ، فإن أَمَرَ بالقُنُوتِ قنتنا، وإن سكتَ سكتنا، ولنا ولله الحمد مكانٌ آخر في الصَّلاة ندعو فيه؛ وهو السُّجودُ والتَّشَهُّدُ، وهذا فيه خيرٌ وبَرَكَةٌ، فأقرب ما يكون العبدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجد، لكن؛ لو قَنَتَ المنفردُ لذلك بنفسه لم نُنْكر عليه؛ لأنه لم يخالف الجماعة.
وقوله: "يقنتُ الإمامُ في الفرائض" ليس المراد أنْ يدعو بدعاء القُنُوتِ الذي عَلَّمه الرسول صلى الله عليه وسلم الحَسَن ، بل يقنتُ بدُعاءٍ مناسبٍ للنَّازلة التي نزلت.
وقوله: "في الفرائض" "أل" دخلت على جَمْعٍ فتفيد العمومَ، أي: في الفجر والظُّهر والعَصر والمَغرب والعِشاء، وليس خاصًّا بصلاة الفجر، بل في كُلِّ الصَّلوت، هكذا صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قَنَتَ في جميع الصَّلوات . واستثنى بعضُ العلماءِ الجُمعةَ وقال: إنَّه لا يقنتُ فيها. ويرى بعضُ أهلِ العِلم: أنَّه لا وجه للاستثناء, و أنه يَقْنُتُ حتى في صلاة الجُمُعة. ( وهذا هو ) الظاهر. وإذا قلنا بالقُنُوت في الصَّلوات الخمس، فإنه يُسَنُّ أنْ يجهرَ ولو في الصَّلاة السِّريَّة.
(تنبيه) قول المؤلِّف : "إلا أن تنزل ما بالمسلمين نازلة" عُلم منه أنه إن نزلت بغير المسلمين نازلة لم يُقنت لها.(1/322)
قوله: "والتراويح عشرون" . قوله: "عشرون ركعة" فإذا أضفنا إليها أدنى الكمال في الوِتر تكون ثلاثاً وعشرين، فيُصلِّي التَّراويح عشرين رَكعة، ثم يُصلِّي الوِتر ثلاث ركعات، ويكون الجميعُ ثلاثاً وعشرين رَكعة، فهذا قيامُ رمضان. والصحيح: أنَّ السُّنَّة في التَّراويح أن تكون إحدى عشرة ركعة، يُصلِّي عشراً شَفْعاً، يُسَلِّم مِن كُلِّ ركعتين، ويُوتِر بواحدة، وإنْ أوترَ بثلاث بعد العشر وجعلها ثلاثَ عشرةَ ركعةً فلا بأس، فهذه هي السُّنَّةُ، ومع ذلك لو أنَّ أحداً من النَّاس صَلَّى بثلاثَ وعشرين، أو بأكثرَ مِن ذلك فإنه لا يُنكر عليه؛ ولكن لو طالب أهلُ المسجد بأن لا يتجاوز عددَ السُّنَّةِ كانوا أحقَّ منه بالموافقة؛ لأن الدَّليل معهم. ولو سكتوا ورضوا؛ فَصَلَّى بهم أكثر من ذلك فلا مانع.
ولا فَرْقَ في هذا العدد بين أوَّلِ الشَّهرِ وآخره. وعلى هذا؛ فيكون قيامُ العشرِ الأخيرة كالقيام في أوَّل الشَّهر. لكن لو اختارَ أهلُ المسجد أنْ يقصرَ بهم القراءةَ والرُّكوعَ والسُّجودَ، ويكثِرَ مِن عددِ الرَّكعات، وقالوا له: إنَّ هذا أرفقُ بنا، فلا حرج عليه إذا وافقهم.
مسألة : لو أنَّ أحداً صَلَّى مع هذا إمام يُسرعُ سرعةً تمنع المأمومَ فِعْلَ ما يجب، فهل له أنْ يَخرجَ وينفردَ، أي: ينفصلُ عن الإمام؟ الجواب : نعم، بل يجب عليه أنْ يَنفصلَ عن الإمام، سواء في التَّراويح أو في الفريضة، فإذا أسرع سُرعةً تَعْجِزُ أنْ تُدركَ معه الواجب، ففي هذه الحال نقول: اُنْفَصِلْ، واُنْوِ الانفراد، وأتمَّ وحدَك، لأنه لا يمكن أنْ تجمعَ بين المتابعة وبين القيام بالرُّكن وهو الطُّمأنينة، فلا بُدَّ مِن أحد الأمرين.
قوله: "تفعل في جماعةٍ" أي: تُصَلَّى التَّراويح جماعة، فإنْ صلَّاها الإنسانُ منفرداً في بيته لم يدرك السُّنَّة.
قوله: "مع الوتر" أي: أنهم يُوتِرون مع التراويح جماعة .(1/323)
قوله: "بعد العشاء" أي: بعد صلاة العشاء، فلو صَلُّوا التَّراويحَ بين المغرب والعِشاء لم يدركوا السُّنَّة، وكذلك أيضاً ينبغي أن تكون بعد العِشاء وسنّتها، فإذا صَلُّوا العِشاء صَلُّوا السُّنَّة، ثم صَلُّوا التَّراويح، ثم الوِتر.
قوله: "في رمضان" لأنَّ التَّراويحَ في غير رمضان بِدْعةٌ، فلو أراد النَّاس أنْ يجتمعوا على قيام الليل في المساجد جماعة في غير رمضان لكان هذا من البِدع. ولا بأس أن يُصلِّي الإنسانُ جماعة في غير رمضان في بيته أحياناً.
مسألة : إذا قال قائل: صَحَّحتُم أنها إحدى عشرة ركعة، فما رأيكم لو صَلَّينا خلف إمام يُصلِّيها ثلاثاً وعشرين، أو أكثر، هل إذا قام إلى التَّسليمة السَّادسة نجلسُ وَنَدَعُهُ، أو الأفضل أنْ نكمِلَ معه؟ فالجواب : أنَّ الأفضلَ أنْ نكملَ معه. أما لو كانت الزِّيادةُ منهيًّا عنها مثل: أنْ يُصلِّيَ الإمامُ صلاةَ الظُّهر خمساً فإننا لا نتابعُه.
قوله: "ويوتر المتهجد بعده" . "بعده" أي: بعد تهجُّده، أي: إذا كان الإنسان يحبُّ أنْ يتهجَّدَ بعد التراويح في آخر الليل، فلا يُوتر مع الإمام ، فإذا قام الإمام ليوتر ينصرف هو، ولا يوتر معه، هذا ما ذهب إليه المؤلِّفُ . وقال بعض العلماء : بل يوتر مع الإمام ولا يتهجَّد بعده, (وهذا هو) الأولى.
قوله: "فإن تبع إمامه شفعه بركعة" يعني: إذا تابع المتهجِّدُ إمامه فصلَّى معه الوتر أتمّه شفعاً، فأضاف إليه ركعة، وهذا هو الطريق الآخر للمتهجِّد؛ فيتابعُ إمامَهُ في الوِتر، ويشفعه بركعة؛ لتكون آخر صلاته بالليل وِتراً. فإذاً يتابع الإمام، فإذا سَلَّم الإمام من الوتر قام فأتى بركعة وسَلَّم، فيكون صَلَّى ركعتين، أي: لم يُوتر، فإذا تهجَّد في آخر الليل أوتر بعد التهجُّد، فيحصُل له في هذا العمل متابعة الإمام حتى ينصرف، ويحصُل له أيضاً أن يجعل آخر صلاته بالليل وِتراً، وهذا عمل طيب.(1/324)
قوله: "ويكره التنفل بينها" يعني: أنَّ التنفُّلَ بين التَّراويح مكروه، وهذا يقعُ على وجهين:
الوجه الأول : أن يَتَنفَّلَ والنَّاس يصلُّون، وهذا لا شَكَّ في كراهته؛ لخروجه عن جماعة النّاس، إذ كيف تُصلِّي وحدك والمسلمون يصلُّون جماعة؟
فإن قال: أنا لم أُصَلِّ صلاةَ الفريضة، وأريد أنْ أصلِّي العِشاء؟ نقول: لا مانع، اُدخلْ مع الإمام في التَّراويح بنيَّة الفريضة، أي: بنية العشاء، فإذا سَلَّم فَقُمْ واُئتِ بركعتين إكمالاً للفريضة، إلا أن تكون مسافراً فَسلِّم معه، ثم اُدخلْ معه في التَّراويح بنيَّة راتبة العشاء، إن لم تكن مسافراً، فإذا صَلَّيت راتبة العِشاء اُدخلْ معه في التَّراويح، ولا يضرُّ اختلاف نيَّة الإمام والمأموم ، وهذا ما نصَّ عليه الإمامُ أحمد: من أنَّه يجوز أن يُصلِّيَ الإنسان صلاة العشاء خلف من يُصلِّي التَّراويح.
الوجه الثَّاني: أن يُصلِّي بين التَّراويح إذا جلسوا للاستراحة، فنقول: لا تتنفَّل ولهذا قال: "يُكره التنفُّل بينها" .
قوله: "لا التعقيب في جماعة" أي: لا يُكره التَّعقيب بعد التَّراويح مع الوِتر، ومعنى التَّعقيب: أن يُصلِّيَ بعدها وبعد الوِتر في جماعة. وهذا ما قاله المؤلِّف، وهو قول ضعيف. والرَّاجحُ: أنَّ التَّعقيب مكروه، وهذا القول إحدى الرِّوايتين عن الإمام أحمد ، وأطلق الروايتين في "المقنع" و"الفروع" و"الفائق" وغيرها، أي: أنَّ الروايتين متساويتان عن الإمام أحمد، لا يُرَجَّح إحداهما على الأخرى. لكن لو أنَّ هذا التَّعقيبَ جاء بعد التَّراويح وقبل الوِتر، لكان القول بعدم الكراهة صحيحاً، وهو عمل النَّاس اليوم في العشر الأواخر من رمضان، يُصلِّي النَّاس التَّراويح في أول الليل، ثم يرجعون في آخر الليل، ويقومون يتهجَّدون.(1/325)
قوله: "ثم السنن الراتبة:ركعتان قبل الظهر, وركعتان بعدها, وركعتان بعد المغرب, وركعتان بعد العشاء, وركعتان بعد الفجر وهما آكدها" . السنن الراتبة: أي: الدَّائمة المستمِرَّة، وهي تابعة للفرائض .
جَعَلَ المؤلِّفُ الرَّواتبَ عَشْراً, وهذا أحدُ القولين في المسألة. والقول الثاني في المسألة: أنَّ السُّننَ الرَّواتبَ اثنتا عَشْرَةَ رَكعةً وهي : ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظُّهر بسلامين وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العِشاء. وهذا القول هو الصحيح .
اخْتَلَفَ العلماءُ في مشروعية الاضطجاع على الجَنْبِ الأيمن بعد سنة الفجر على أقوال : فمِنْهم مَن قال: إنَّه ليس بسُنَّةٍ مطلقاً. ومِنْهم مَن قال: إنَّه سُنَّةٌ مطلقاً. ومِنْهم مَن قال: إنه سُنَّةٌ لِمَن يقوم الليل؛ لأنَّه يحتاج إلى راحة حتى ينشطَ لصلاة الفجر. ومِنْهم مَن قال: إنَّه شرط لصحَّة صلاة الفجر، وأنَّ مَنْ لم يضطجع بعد الرَّكعتين فصلاةُ الفجر باطلة. وهذا ما ذهب إليه ابنُ حَزْمٍ. وأصحُّ ما قيل في هذا : ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو التفصيل، فيكون سُنَّةً لمن يقوم الليل؛ لأنَّه يحتاج إلى أن يستريحَ، ولكن إذا كان مِن الذين إذا وضع جَنْبَهُ على الأرض نام؛ولم يستيقظ إلا بعد مُدَّة طويلة؛ فإنه لا يُسَنُّ له هذا؛ لأن هذا يُفضي إلى تَرْكِ واجب.
قوله: "ومن فاته شيء منها سُنَّ له قضاؤه" ، أي: مَنْ فاته شيءٌ مِن هذه الرَّواتب، فإنَّه يُسَنُّ له قضاؤه، بشرط أنْ يكون الفوات لعُذر, كالنسيان والنوم؛ والانشغال بما هو أَهَمُّ. أما إذا تركها عمداً حتى فاتَ وقتُهَا فإنه لا يقضيها، ولو قضاها لم تصحَّ منه راتبة.(1/326)
قوله: "وصلاة الليل أفضل من صلاة النهار" . اُعلمْ أنَّ صلاة التطوُّع نوعان: نوعٌ مطلق، ونوعٌ مقيَّد. أما المقيَّد: فهو أفضل في الوقت الذي قُيِّدَ به، أو في الحال التي قُيِّدَ بها.مثلً: تحيُّة المسجد،وسنة الوضوء. (و) أما المطلق: فهو في الليل أفضل منه في النَّهار، واللَّيلُ يدخل مِن غروب الشَّمس، فالصَّلاة مثلاً بين المغرب والعِشاء أفضل مِن الصَّلاة بين الظُّهر والعصر؛ لأنها صلاة ليل فهي أفضل.
قوله: "وأفضلها" أي: أفضلُ وَقْتِ صلاة اللَّيلِ.
قوله: "ثُلُثُ الليل بعد نصفه" أي: أنك تقسم الليل أنصافاً، ثم تقوم في الثُّلثِ من النِّصفِ الثَّاني، وفي آخر الليل تنام.
مسألة : ما هو الليلُ المعتبرُ نصفُه؟ الظَّاهر: أنَّه مِن غروب الشَّمس إلى طُلُوع الفجر ، فعُدَّ مِن غروب الشَّمس إلى طُلوع الفجر، ونصفُ ما بينهما هذا هو نصف الليل.
قوله: "وصلاة ليل ونهار مثنى مثنى" يعني: اثنتين اثنتين فلا يُصلِّي أربعاً جميعاً، وإنما يُصلِّي اثنتين اثنتين .
مسألة : إذا كانت صلاة الليل والنهار مثنى مثنى، فما الحكم لو قام الإنسان إلى ثالثة؟ الجواب : صلاته تبطل إذا تعمَّدِّ، وإنْ كان ناسياً وَجَبَ عليه الرُّجوع متى ذَكَرَ، ويسجد للسَّهوِ بعد السَّلام من أجل الزِّيادة.
قوله: "وإن تطوَّع" أي: صَلَّى صلاة تطوُّع في النَّهار، أي: لا في الليل.
قوله: "كالظُّهر" أي: بتشهُّدين، تشهُّد أول وتشهُّد ثاني.
قوله: "فلا بأس" أي: لا حرج؛ فتصحُّ صلاتُه، واستدلَّ في "الرَّوض" بحديث أبي أيوب: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهر أربعاً لا يفصِلُ بينهن بتسليمٍ . ولكن الحديث ليس فيه أنَّ الأربع تكون بتشهُّدين، ولهذا نرى أنه إذا صَلَّى أربعاً بتشهُّدين فهو إلى الكراهة أقرب، بدليل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا توتروا بثلاث لا تشبهوا بصلاة المغرب" ، وهو الصَّحيح.(1/327)
وهذا الحديث إن صَحَّ عن النبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام أنه فَعَلَ هذا فمن المعلوم أنَّ الواجبَ قَبولُه، ويكون مُستثنى مِن الحديث الذي هو قاعدة عامَّة في أنَّ صلاة الليل والنهار مثنى مثنى.
قوله: "وأجر صلاة قاعد على نصف أجر صلاة قائم" أي: تصحُّ صلاة القاعد لكنها على النِّصف مِن أجر صلاة القائم، والمراد هنا في النَّفل، ولهذا ساقها المؤلِّفُ في صلاة التطوُّع. أما الفريضة؛ فصلاةُ القاعدِ القادرِ على القيام ليس فيها أجر؛ لأنها صلاة باطلة، لأنَّ مِن أركان الصَّلاة في الفريضة القيام مع القدرة.
وقوله: "أجر صلاة قاعد" مراده إذا كان قاعداً بلا عُذر، أما إذا كان قاعداً لعُذر، وكان من عادته أن يُصلِّي قائماً، فإنَّ له الأجر كاملاً. أما إذا كان لغير عُذر فهو على النِّصفِ مِن أَجْرِ صلاة القائم، فإذا كان أَجْرُ صلاة القائم عشرَ حسناتٍ، كان لهذا القاعد خمسُ حسناتٍ، ووَرَدَ في الحديث أنَّ أجْرَ صلاةِ المُضْطجعِ على النِّصفِ من أجْرِ صلاةِ القاعد . لكن هذا الشَّطر مِن الحديث لم يأخذ به جمهورُ العلماء، ولم يروا صِحَّة صلاة المضطجع إلا إذا كان معذوراً. وذهب بعضُ العلماء: إلى الأخذ بالحديث. وقالوا: يجوز أنْ يتنفلَ وهو مضطجع، لكن أجره على النصف من أجر صلاة القاعد، فيكون على الرُّبع مِن أجر صلاة القائم.وهذا قولٌ قويٌّ.
قوله: "وتُسَنُّ صلاة الضُّحى.ظاهر قوله أنها سُنَّة مطلقاً كُلِّ يوم. وذهبَ بعض أهل العلم: إلى أنها ليست بسُنَّة . وفصَّلَ بعضُهم فقال: أمَّا مَن كان مِن عادته قيامُ الليل؛ فإنه لا يُسَنُّ له أن يُصلِّيَ الضُّحى، وأمَّا مَن لم تكن له عادة في صلاة الليل فإنها سُنَّة في حَقِّهِ مطلقاً كلَّ يوم. والقول الرابع : أنها سُنَّةٌ غيرُ راتبة، يعني: يفعلها أحياناً وأحياناً لا يفعلها. والأظهر: أنها سُنَّة مطلقة دائماً.(1/328)
قوله: "وأقلها ركعتان" أي: أقلُّ صلاة الضُّحى ركعتان، لأن الرَّكعتين أقلُّ ما يُشرع في الصَّلوات غير الوِتر، فلا يُسَنُّ ولا يصح للإنسان أن يتطوَّع برَكعة، ولا يُشرع له ذلك إلا في الوِتر, وهو الصحيح. وإنْ كان بعضُ أهل العلم قال: إنه يصحُّ أنْ يتطوَّعَ بركعة، لكنه قولٌ ضعيف كما سبق.
قوله: "وأكثرها ثمان" أي: أكثر صلاة الضُّحى ثمانِ ركعات بأربع تسليمات. والصَّحيح : أنه لا حَدَّ لأكثرها.
قوله: "ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال" . وقتُ النَّهي: من طُلوع الشَّمس إلى أن ترتفع قِيد رُمحٍ، أي: بعين الرَّائي ، أي: نحو متر. وبالدَّقائق المعروفة: حوالي اثنتي عشرة دقيقة، ولنجعله ربع ساعة خمس عشرة دقيقة؛ لأنه أحوط . فإذا مضى خمس عشرة دقيقة من طلوع الشَّمس، فإنه يزول وقت النَّهي، ويدخل وقت صلاة الضُّحى.
وقوله: "إلى قبيل وقت الزوال"، أي: قبل زوال الشَّمس بزمنٍ قليل حوالي عشر دقائق. وفِعْلُها في آخر الوقت أفضل؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الأوَّابينَ حين تَرْمَضُ الفِصَالُ" وهذا في "صحيح مسلم" . ومعنى "تَرْمَضُ" أي: تقوم مِن شِدَّة حَرِّ الرَّمضاء، وهذا يكون قُبيل الزَّوال بنحو عشر دقائق.
قوله: "وسجود التلاوة صلاة" . أي: أنَّ حُكمَه حُكمُ الصَّلاة, فيشترط له ما يُشترط لصلاة النَّافلة.هذا مقتضى كلام المؤلف. وذهب بعض أهل العلم: إلى أنه ليس بصلاة ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وهو الصَّواب. وعليه فلا يُشترط له ما يُشترط للصَّلاة، فلو كنتَ تقرأ القرآن عن ظهر قلب وأنت غير متوضىء، ومررت بآية سجدة، فعلى هذا القول تسجد ولا حرج، وكان ابن عُمر مع شِدَّة وَرَعِهِ يَسجدُ على غيرِ وُضُوءٍ لكن الاحتياط أن لا يسجد إلا متطهِّراً.(1/329)
قوله: "يسن للقارىء" يفيد أن سُجود التِّلاوة ليس بواجب، وإنما هو سُنَّة؛ وهذه المسألة محلُّ خِلاف بين أهل العِلْمِ. فَمِنهم مَن قال: إنَّ سجود التِّلاوة واجب. وقال آخرون: بل هو سُنَّة وليس بواجب، وهو الرَّاجح.
قوله: "المستمع دون السامع" أي: يسن السجود للقارئ والمستمع دون السامع . والفَرْقُ بين المستمع والسَّامع: أنَّ المستمع: هو الذي يُنصِتُ للقارىء ويتابعه في الاستماع. والسَّامع: هو الذي يسمعُ الشَّيءَ دون أن يُنصِتَ إليه.
قوله: "وإن لم يسجد القارىء لم يسجد" أي: إنْ لم يسجدِ القارئ لم يسجدِ المستمعُ؛ لأنَّ سجودَ المستمِعِ تَبَعٌ لسُجودِ القارئِ.
مسألة : هل للمستمع أن يُذَكِّرَ القارئَ فيقول: اُسجدْ؟ نقول: إن احتمل الأمرُ أنَّه ناسٍ فَلْيُذكِّرْهُ، أما إذا لم يحتمل النِّسيان كأن يكون ذاكراً فلا يُذكِّرْه؛ لأنه تركها عن عَمْدٍ؛ ليُبيِّن مثلاً إذا كان طالب علم أنَّ سجودَ التِّلاوة ليس بواجب.
قوله: "وهو" أي: سُجودَ التِّلاوة.
قوله: "أربع عشرة سجدة" يعني: أنَّ آيات السُّجود التي في القرآن أربع عشرة سَجدة فقط لا تزيد ولا تنقص.
قوله: "في الحج منها اثنتان". نص المؤلف على أن في الحج إثنتين؛ للخلاف في ذلك.
وقد عَدَّ في "الرَّوض" آياتِ السُّجود كُلَّها. وتفصيلها كما يأتي: (لأعراف:206) . (الرعد:15) . (النحل:49) . (الاسراء:107) . (مريم:58). (الحج:18) . (الحج:77) . (الفرقان:60) . (النمل:25) . (السجدة:15) . (فصلت:37) . (لنجم:62) . (الانشقاق:21) . (العلق:19) . فهذه أربع عشرة سجدة. وأما سجدة "ص~" فإنها سجدة شُكْرٍ، ولكن صَحَّ عن ابن عباس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يسجدُ فيها . والصَّحيح: أنها سجدة تِلاوة. وعلى هذا؛ فتكون السَّجدات خمسَ عشرة سجدة، وأنه يسجدُ في "ص~" في الصَّلاة وخارج الصَّلاة.(1/330)
قوله: "ويكبر إذا سجد وإذا رفع" .التكبير في سجود التِّلاوة إذا كان خارج الصَّلاة فيه ثلاثة أقوال:القول الأول : يُكبِّر إذا سَجَدَ، وإذا رَفَعَ. (و) القول الثاني : يُكبِّر إذا سَجَدَ فقط.(و) القول الثالث : لا يُكبِّر مطلقاً. (و) وَرَدَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يُكبِّرُ عند السُّجُود ، فإنْ صَحَّ الحديث عُمِلَ به سواء قلنا إنها صلاة أم لا، وليس في الحديث أنه كان يقوم ثم يَخِرُّ. وعليه؛ فيسجدُ مِن حيث كانت حاله فإن كان قائماً سجد عن قيام، وإن كان قاعداً سجد عن قُعود لأنَّ القيام تعبُّد لله يحتاج إلى دليل.
قوله: "ويجلس ويُسلم ولا يتشهد" .(هذا ما قرره المؤلف) ، ولكن السُّنَّة تدلُّ على أنه ليس فيه تكبير عند الرَّفع ولا سلام إلا إذا كان في صلاة، فإنه يجب أن يُكبِّرَ إذا سَجَدَ ويُكبِّرَ إذا رَفَعَ؛ لأنه إذا كان في الصَّلاة ثَبَتَ له حُكم الصَّلاة، حتى الذين قالوا بجواز السُّجود إلى غير القِبْلَة إذا كان في الصَّلاة لا يقولون بذلك.
تنبيه : لم يذكر المؤلِّفُ ماذا يقول في هذا السُّجود. فماذا يقول؟ الجواب : يقول في هذا السُّجود: "سبحان رَبِّي الأعلى" ، ويقول أيضاً: "سبحانك اللَّهُمَّ ربَّنا وبحمدك اللَّهُمَّ اغفِرْ لي" , ويقول: "اللَّهُمَّ لك سَجَدتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلتُ، سَجَدَ وجهي لله الذي خَلَقَهُ وصَوَّره وشَقَّ سَمْعَه وبصرَه بحوله وقوَّته، فتبارك اللهُ أحسنُ الخالقين" "اللهم اكْتُبْ لي بها أجراً، وضَعْ عَنِّي بها وِزراً، واجْعَلْها لي عندكَ ذُخراً، وتقبَّلْها مَنِّي كما تقبَّلتها مِن عبدِكَ داودَ" فإن قال هذا فَحَسَنٌ. وإنْ زادَ على ذلك دعاءً فلا بأس.(1/331)
قوله: "ويُكره للإِمامِ قراءةُ سجدة في صلاة سر وسجوده فيها" .وجه الكراهة : أن الإمام إذا قرأ سجدةً في صلاة السِّرِّ فهو بين أمرين، إمَّا أن يقرأ الآية، ولا يسجد فَيُفَوِّت على نفسِهِ الخيرَ، وإمَّا أنْ يقرأها ويسجدُ فيُشوِّشُ على مَنْ خلفَه، ولكن هذا تعليل عليل. والصحيح: أنها ليست بمكروهة. أما قولهم: إما أنْ يقرأها ويتركَ السُّجودَ، فنقول: حتى لو تَرَكَ السُّجودَ فإن ذلك لا يقتضي الكراهةَ. وأما قولهم : أو يسجدُ ويشوِّشُ على المأمومين، فنقول: هذا قد يكون. وعليه فنقول: إذا حَصَلَ تشويش لا تقرأْ، أو اقرأْ ولا تسجد، لأنه إذا قرأَ ولم يسجدْ لم يأتِ مكروهاً، لكن قد وَرَدَ في السُّنَن بسندٍ فيه نظر أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم: "قرأ في صلاة الظُّهر {ال~م تنزيل السَّجدة} وسَجَدَ فيها" فلو صَحَّ هذا الحديث لكان فاصلاً للنِّزاع، وقلنا: إنَّه يجوزُ أن يقرأَ آيةَ سجدة في صلاة السِّرِّ، ويسجدَ فيها كما فَعَلَ النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "ويلزم المأموم متابعته في غيرها" أي: يلزم المأموم إذا سجد إمامه أن يتابعه.
وقوله: "في غيرها" أي: في غير صلاة السِّرِّ. ولكن الصَّحيح: أنه يلزم المأموم متابعته حتى في صلاة السِّرِّ.
قوله: "ويستحبُّ سجود الشكر عند تجدد النعم ". أي: عند النِّعمة الجديدة، احترازاً مِن النِّعمة المستمرَّة، فالنِّعمة المستمرَّة لو قلنا للإنسان: إنه يستحبُّ أنْ يسجدَ لها لكان الإنسانُ دائماً في سُجود. مثال ذلك : إنسان نجح في الاختبار وهو مُشفِقٌ أنْ لا ينجح، فهذا تجدُّد نِعمةٍ يسجدُ لها. مثال آخر: إنسانٌ سَمِعَ انتصاراً للمسلمين في أيِّ مكانٍ، فهذا تجدُّد نِعمةٍ يسجدُ لله شكراً. مثال آخر: إنسانٌ بُشِّر بولد، هذا تجدُّد نِعمة يُسجدُ لها، وعلى هذا فَقِسْ.(1/332)
قوله: "واندفاع النقم" أي: التي وُجِدَ سببُها فَسَلِمَ منها. مثال ذلك : رجل حَصَلَ له حادث في السيارة وهو يسير، وانقبلت وخرجَ سالماً، فهنا يسجدُ؛ لأنَّ هذه النقمة وُجِدَ سببُها وهو الانقلاب لكنه سَلِمَ.
تنبيه: لم يُبيِّن المؤلِّف كيفية سُجود الشُّكر، لكن الكتب المُطوَّلَة بيَّنت أن سُجود الشُّكر كسُجُود التلاوة، وبناءً عليه: تكون صفته على ما مشى عليه المؤلِّف: أنْ يُكبِّرَ إذا سَجَدَ، وإذا رَفَعَ، ويجلس ويُسلِّم. والصَّحيح : أنه يُكبِّرُ إذا سجدَ فقط، ولا يُكبِّرُ إذا رفع ولا يُسلِّمُ، على أن التكبير عند السُّجود فيه شيء مِن النَّظر كما سبق .
قوله: "وتبطل به" أي: بسجود الشُّكر.
قوله: "صلاة غير جاهل وناس" : أي: مَن سَجَدَ سَجْدةَ الشُّكر عالماً بالحُكم ذاكِراً له فإنَّ صلاتَه تبطُلُ, فإن كان جاهلاً بالحكم, أو ناسياً فسجد فصلاته صحيحة. (وهذا) ماذكره المؤلف, وهو الصحيح .
قوله: "وأوقات النهي خمسة" . "أوقات النَّهي" : هي الأوقات التي نهى الشَّارعُ عن الصَّلاة فيها، والمراد: صلاة التطوُّع، وهي خمسة.
قوله: "مِن طلوع الفجر الثاني" هذا هو الوقت الأوَّل. والفجرُ الثاني: هو الفجرُ المعترضُ في الأُفقِ، والفجرُ الأولُ مقدِّمةُ للفجرِ الثاني، لكنه لا يكون معترضاً في الأُفقِ بل يكون مستطيلاً في الأُفق. والصحيح : أنَّ النَّهيَ يتعلَّقُ بصلاةِ الفجرِ نفسِهَا، وأما ما بين الأذان والإقامة، فليس وقت، لكن لا يُشرع فيه سوى ركعتي الفجر.(1/333)
قوله: "ومن طلوعها حتى ترتفع قيد رمح" .أي: من طلوع قرص الشمس. (و) قيد رمح : يعني: قَدْرَ رُمح برأي العين. هذا هو الوقت الثَّاني.فإذا طلعت الشَّمس؛ فانظر إليها، فإذا ارتفعت قَدْرَ رُمح، يعني: قَدْرَ متر تقريباً في رأي العين فحينئذٍ خرج وقت النَّهي. ويُقدَّرُ بالنسبة للساعات باثنتي عشرة دقيقةً إلى عشرِ دقائقَ، أي: ليس بطويل، ولكن الاحتياطُ: أن يزيدَ إلى رُبعِ ساعة، فنقول بعد طُلوع الشَّمس برُبعِ ساعة ينتهي وقتُ النَّهي.
قوله: "وعند قيامها حتى تزول" . "عند قيامها" : أي: الشَّمس حتى تزول. أي: تميل عن وَسَطِ السَّماء نحو المغرب وهذا هو الوقت الثالث.
قوله: "ومن صلاة العصر إلى غروبها" .قوله: "إلى غروبها" أي: شروعها في الغروب. هذا هو الوقت الرابع.
قوله: "وإذا شرعت فيه حتى يتم" أي: في الغُروب حتى يتمَّ. هذا هو الوقت الخامس، أي: أنَّ قُرْصَ الشَّمس إذا دَنَا من الغُروب، يبدو ظاهراً بَيِّناً كبيراً واسعاً، فإذا بدأ أوَّلُه يغيب فهذا هو وقتُ النَّهي إلى تمام الغُروب.
قوله: "ويجوز قضاء الفرائض فيها" .فيها, أي: في أوقات النَّهي.
قوله: "وفي الأوقات الثلاثة فعل ركعتي طواف, وإعادة الجماعة" .اسْتَثنى المؤلِّفُ مما لا يَجوزُ في وَقْتِ النَّهي ثلاثَ مسائلٍ: 1- قضاءَ الفرائضِ فيها. 2- فِعْلَ ركعتي الطَّواف. 3- إعادةَ الجَماعةِ.
ويُستثنى أيضاً على المذهبِ مسألةٌ رابعةٌ وهي: سُنَّةُ الظُّهرِ التي بعدَها إذا جُمِعت مع العصر. وخامسةٌ: وهي مَن دَخَلَ يومَ الجُمُعةِ والإمامُ يخطُبُ؛ فإنَّه يُصلِّي ركعتين خفيفتين، ولو كان عند قيام الشمس. وسادسة وهي: سُنَّة الفجر قبل صلاة الفجر. وسابعة وهي: صلاة الجَنازة تُفعل في أوقات النَّهي الطويلة .(1/334)
ويعني: بالأوقات الثلاثة الأوقات: القصيرة التي ذُكرت في حديث عُقبة بن عامر: وهي "مِن طُلوعِ الشَّمسِ حتى ترتفعَ قَيْدَ رُ محٍ، وعند قيامها حتى تزولَ، وحين تضيَّفَ للغروب حتى تغربَ". والوقتان الطويلان هما مِن صلاةِ العصرِ إلى أن تتضيَّفَ الشَّمسُ للغروب، ومِن صلاة الفجر أو مِن طُلوعِ الفجر إلى أن تطلعَ الشَّمسُ.
قوله: "ويحرم تطوع بغيرها" أي: بغير المتقدِّمات مِن إعادة الجَماعةِ، وركعتي الطَّواف، وكذلك تحيَّة المسجدِ لمَن دَخَلَ والإمامُ يخطبُ، وسُنَّة الظُّهر البعديَّة لمَن جمعَها مع العصرِ وسُنَّة الفجر قبلها.
قوله: "حتى ما له سبب" أي: لا يجوزُ التطوُّع في هذه الأوقات حتى الذي له سببٌ. والصحيحُ: أنَّ ما له سببٌ يجوز فِعْلُه في أوقاتِ النَّهي كلِّها، الطويلةِ والقصيرةِ. وهذا مذهبُ الشافعي وإحدى الرِّوايتين عن الإمام أحمدَ ، واختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية، وشيخِنا عبدِ الرَّحمن بنِ سعدي، وشيخِنا عبدِ العزيزِ بنِ باز.
مسألة : لو أنَّ رجُلاً توضَّأ بعدَ صلاةِ العصرِ هل يُصلِّي سُنَّة الوضُوءِ، أم لا يُصلِّي؟ الجواب : إنْ توضَّأ ليصلِّي؛ فلا يجوز؛ لأنَّه تعمَّدَ الصلاةَ في أوقات النَّهي. وإن توضَّأ للطَّهارة؛ صَلَّى على القول الصَّحيحِ، أما على قَوْلِ مَن يقول: إنَّه لا يُصلِّي مِن النوافل إلا ما خصَّصوها، فلا يجوز.
مسألة : لو أنَّ رجُلاً تقدَّم إلى صلاةِ المَغربِ يومَ الجُمُعةِ في آخر النَّهارِ مِن أجلِ أن يُصلِّي تحيَّةَ المسجدِ حتى يشمله الحديث: "إنَّ في الجُمُعَةِ لساعةً، لا يوافِقُها عبدٌ مسلمٌ وهو قائمٌ يُصلِّي يسألُ اللهَ شيئاً إلا أعطَاهُ إيَّاهُ" ، فهل نقول: إنَّ هذا حرامٌ، أو نقول: إنَّ هذا جائزٌ؟(1/335)
الجواب : إنْ قَصَدَ المسجدَ ليصلِّيَ؛ فهذا حرامٌ، كما قلنا: إنْ توضَّأ ليصلِّيَ، وإنْ قَصَدَ المسجدَ مِن أجل التقدُّم لصلاةِ المَغربِ، ثم لمَّا دَخَلَ صَلَّى ركعتين مِن أجْلِ أنَّه دَخَلَ المسجدَ، حتى وإنْ كان لا يتقدَّم إلا يومَ الجمعة فإنَّه لا بأس به. فهناك فَرْقٌ بين مَن يتوضَّأ ليصلِّي في وَقْت النَّهي فلا يجوز أنْ يصلِّي، وبين مَن يتوضَّأ لا للصَّلاة فنقول له: إذا توضَّأتَ فصلِّ، وكذلك تحيةُ المسجدِ، هناك فَرْقٌ بين مَن دَخَلَ المسجدَ لصلاة التحيَّة في وَقْتِ النَّهي وبين مَن دَخَلَه لغرضٍ آخر، ثم أمرناه بالتحيَّة لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمالُ بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرىءٍ ما نوى" .
…
باب صلاة الجماعة
قوله: "تلزم الرجال للصلوات الخمس" . ( إختلف العلماء في حكم صلاة الجماعة ), فقال بعضهم: إنَّ صلاة الجماعة فَرْضُ عَيْنٍ.وهذا القول هو الصحيح . وقال بعض العلماء: إنها فرض كفاية. وقال آخرون: إنها سُنَّةٌ.
قوله: "الرجال" جَمْع رَجُل، والرَّجُلُ هو الذَّكرُ البالغُ، فيخرجُ بذلك النساءُ، فالنساءُ لا تلزمهنَّ صلاةُ الجماعةِ.
ولكن اختلفَ العلماءُ: هل الجماعةُ سُنَّةٌ للنِّساءِ والمرادُ المنفردات عن الرِّجَال أو مكروهةٌ، أو مباحةٌ على ثلاثة أقوال: فالقول الأول : أنها سُنَّةٌ. والقول الثاني : أنَّها مكروهةٌ. والقولُ الثَّالثُ : أنَّها مباحةٌ، وهذا القولُ لا بأس به، فإذا فعلتْ ذلك أحياناً فلا حرجَ.
وقوله: "الرِّجال" يدخُلُ فيه العبيدُ، فتلزم صلاةُ الجماعةِ العبيدَ. وقال بعضُ العلماءِ: تلزمُ العبدَ بإذن سيِّدهِ، وهذا هو الأقرب .(1/336)
وهل تجوزُ صلاةُ النافلةِ جماعةً، أو نقول: إنَّ ذلك بدعة؟ الجواب : في هذا تفصيل: فمِنَ النَّوافلِ ما تُشرعُ له الجماعةُ، كصلاةِ الاستسقاءِ، والكسوفِ، إذا قلنا: بأنَّ صلاةَ الكسوفِ سُنَّةٌ، وقيامَ الليلِ في رمضان. ومِن النَّوافِل ما لا تُسَنُّ له الجماعةُ، كالرَّواتبِ التَّابعةِ للمكتوبات، وكصلاةِ الليلِ في غيرِ رمضان، لكن لا بأسَ أنْ يصلِّيَها جماعة أحياناً.
وقوله: "للصلوات الخمس"، ظاهره: أنَّه لا فَرْقَ بين أنْ تكون مؤدَّاةً أو مقضيَّة. وهذا هو الصَّحيحُ أنَّها تجبُ للصَّلوات الخمس، ولو مقضيَّةً، على أنَّ الإنسانَ الذي يؤخِّرُ الصَّلاةَ عن وقتِها لعُذْرٍ شرعيٍّ لا تكون الصَّلاةُ في حَقِّهِ قضاءً، بل هي أداءً على القولِ الصَّحيحِ.
قوله: "لا شرط" . أي: أنَّ الجماعةَ ليست شرطاً في صِحَّةِ الصلاةِ، فلو صلّى الإنسانُ وحده بلا عُذرٍ فصلاتُه صحيحةٌ، لكنَّه آثمٌ.
وقوله: "لا شرط"، قد يقول قائلٌ: لماذا قال "لا شرطٌ"؟ فنقول: إن قوله: "لا شرطٌ" كان دَفْعاً لقولِ مَن يقول: إنَّها شرطٌ لصحَّة الصلاةِ، وممَن قال: "إنَّها شرطٌ لِصحَّةِ الصلاةِ" شيخُ الإسلام ابنُ تيمية ، وابنُ عقيل. وكلاهما مِن الحنابلةِ، وهو روايةٌ عن الإمامِ أحمد وعلى هذا القول: لو صَلَّى الإنسانُ وحدَه بلا عُذْرٍ شرعيٍّ فصلاتُه باطلةٌ كما لو تَرَكَ الوضوءَ مثلاً. وهذا القولُ ضَعيفٌ . والصَّوابُ ما عليه الجمهور: وهو أنَّ الصلاةَ صحيحةٌ، ولكنه آثمٌ لتَرْكِ الواجبِ.(1/337)
قوله: "وله فعلها في بيته" . أي: يجوزُ أن يُصلِّيَ الجماعةَ في بيتِهِ ويَدَعَ المسجدَ، ولو كان قريباً منه، ولكن المسجدَ أفضلُ بلا شكِّ، وإنما لو فعلَها في بيتِهِ فهو جائز، وإذا قلنا بأنها تنعقد باثنين ولو بأُنثى فيلزمُ منه أن يُصَلِّيَ الرَّجُلُ وزوجتُه في البيت، ولا يحضُرُ المسجد.وهذا مقتضى كلام المؤلِّفِ. وذهبَ بعضُ أهلِ العِلمِ إلى أنَّ كونها في المسجدِ مِن فُروضِ الكفايات، وأنَّه إذا قامَ بها مَن يكفي سقطت عن الباقين، وجازَ لمن سواهم أنْ يصلِّيَ في بيتِهِ جماعة. وذهبَ آخرون إلى أنَّه يجبُ فِعْلُها في المسجدِ على كلِّ مَن تلزمُه. وهذا القولُ هو الصَّحيحُ: أنَّه يجبُ أن تكون في المسجدِ، وأنَّه لو أُقيمت في غير المسجدِ، فإنَّه لا يحصُلُ بإقامتها سقوطُ الإثمِ، بل هم آثمون، وإنْ كان القول الرَّاجح أنَّها تصحُّ.(1/338)
مسألة : الدَّوائرُ الحكوميَّةُ التي فيها جماعةٌ كثيرةٌ، ولهم مصلًّى خاصٌّ يصلُّون فيه، والمساجدُ حولَهم، فهل نقول لهم: اخرجُوا مِن هذه الدَّائرةِ جميعاً، وصَلُّوا في المسجدِ، أو نقول: صَلُّوا في مكانِكم ولا حَرَجَ عليكم؟ الجواب : الذي نرى : أنَّه إذا كان المسجدُ قريباً، ولم يتعطَّلْ العمل بخروجهم للمسجد، فإنَّه يجبُ عليهم أنْ يصلُّوا في المسجدِ، أما إذا كان بعيداً أو خِيفَ تعطُّلُ العملِ؛ بأن تكون الدائرةُ عليها عَمَلٌ ومراجعون كثيرون، أو كان يخشى مِن تسلُّلِ بعضِ الموظَّفين؛ لأنَّ بعضَ الموظَّفين لا يخافون الله، فإذا خرجوا إلى الصَّلاة خَرجوا إلى بيوتِهم، وربَّما لا يرجِعون، ففي هذه الحال نقول: صَلُّوا في مكانِكم، لأنَّ هذا أحفظُ للعمل وأقومُ، والعملُ تجبُ إقامتُه بمقتضى الالتزامِ والعهدِ الذي بين الموظَّفِ والحكومةِ. فهذا هو التفصيل في هذه المسألة، ولهذا ينبغي - إنْ لم نقلْ يجبُ - أنْ يُجعلَ هناك مسجدٌ في الدَّوائرِ الكبيرةِ يكون له بابٌ على الشَّارعِ تُقامُ فيه الصَّلواتُ الخمسُ، حتى يكون مسجداً لعمومِ النَّاسِ ويُصلِّي فيه أهلُ هذه الدَّائرةِ.
قوله: "تستحب صلاة أهل الثغر في مسجد واحد" .أهلُ الثَّغرِ: هم الذين يقيمون على حُدودِ البلادِ الإسلامية، يحمونها مِن الكُفَّارِ. فالأفضلُ لهم: أن يصلُّوا في مسجدٍ واحدٍ ، بشرطِ أن يأمنوا العدوَّ، فإن كانوا يخشون مِن العدوِّ إذا اجتمعوا في المسجد الواحد؛ فصلاةُ كُلِّ إنسانٍ في مكانِهِ أَولى أو أوجب.
قوله: "والأفضل لغيرهم في المسجد الذي لا تقامُ فيه الجماعةُ إلا بحضوره" .يعني: أنَّ الأفضل لغير أهل الثَّغر أنْ يصلِّي في المسجدِ الذي تُقام فيه الجماعةُ إذا حضر ولا تُقام إذا لم يحضر.
قوله: "ثم ما كان أكثر جماعة" .فإذا وُجِدَ مسجدان: أحدُهما أكثرُ جماعة مِن الآخرِ، فالأفضلُ أن تُصلِّيَ في الذي هو أكثر جماعة.(1/339)
قوله: "ثم المسجد العتيق" .المسجد العتيق: أي القديم أولى مِن الجديد، لأن الطَّاعةَ فيه أقدم فكان أَولى بالمراعاة مِن الجديد.
قوله: "وأبعد أولى من أقرب" يعني: إذا استوى المسجدان فيما سبق، وكان أحدُهما أبعد عن مكان الرجل فالأبعد أَولى مِن الأقربِ. ولكن في النَّفس مِن هذا شيء، والصَّواب أن يقال: إن الأفضلَ أنْ تُصلِّيَ فيما حولك مِن المساجد؛ لأنَّ هذا سببٌ لعِمارتهِ إلا أن يمتاز أحدُ المساجدِ بخاصِّيَّةٍ فيه فيُقدَّم.
فالحاصل : أن الأفضل أن تصلِّيَ في مسجدِ الحَيِّ الذي أنت فيه، سواءٌ كان أكثر جماعة أو أقل، لما يترتَّب على ذلك مِن المصالح، ثم يليه الأكثر جماعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما كان أكثرُ فهو أحبُّ إلى الله" ، ثم يليه الأبعدُ، ثم يليه العتيقُ؛ لأن تفضيلَ المكان بتقدُّم الطَّاعة فيه يحتاج إلى دليلٍ بَيِّنٍ، وليس هناك دليلٌ بَيِّنٌ على هذه المسألةِ.
مسألة : إذا قال قائل: إذا كان المسجدُ البعيدُ أحسنُ قِراءة، ويحصُل لي مِن الخشوعِ ما لا يحصُلُ لي لو صَلَّيتُ في مسجدي القريبِ منِّي، فهل الأفضلُ أن أذهبَ إليه وأدعُ مسجدي، أو بالعكس؟ الجواب : الظاهر لي حسب القاعدة: أنَّ الفضلَ المتعلِّقَ بذات العبادةِ أَولى بالمراعاة مِن الفضلِ المتعلِّقِ بمكانِها، ومعلومٌ أنَّه إذا كان أخشعَ فإنَّ الأفضلَ أن تذهبَ إليه، خصوصاً إذا كان إمامُ مسجدِكَ لا يتأنَّى في الصلاةِ أو يلحَنُ كثيراً، أو ما أشبه ذلك مِن الأشياءِ التي توجب أنْ يتحوَّلَ الإنسانُ عن مسجدِه مِن أجلِهِ.
قوله: "ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب" . أي يحرم أن يكون إماماً في مسجد له إمامٌ راتب. أي: مولًّى مِن قِبَلِ المسؤولين، أو مولًّى مِن قِبَلِ أهلِ الحَيِّ جيران المسجد، فإنَّه أحقُّ الناس بإمامتِهِ.(1/340)
قوله: "إلا بإذنه" أي: إلَّا إذا وَكَّلَهُ توكيلاً خاصًّا أو توكيلاً عاماً. فالتوكيل الخاص: أن يقول: يا فلان صَلِّ بالناس، والتوكيل العام أن يقول للجماعة: إذا تأخَّرتُ عن موعدِ الإقامةِ المعتادِ كذا وكذا فصلُّوا.
قوله: "أو عذره" العذر مثل: لو عَلِمنا أنَّ إمامَ المسجدِ أصابَه مرضٌ لا يحتمل أن يحضر معه إلى المسجد فلنا أن نُصلِّيَ، وإنْ لم يأذن.
مسألة : لو أنَّ أهلَ المسجدِ قدَّموا شخصاً يصلِّي بهم بدون إذن الإمامِ ولا عذره وصَلَّى بهم فهل تصحُّ الصلاةُ أو لا تصحُّ؟ فالجواب : في هذا لأهلِ العِلمِ قولان: القول الأول : أنَّ الصَّلاة تصحُّ مع الإثم. (و) القول الثاني : أنهم آثمون، ولا تصحُّ صلاتُهم، ويجبُ عليهم أن يُعيدُوها. والرَّاجح: القول الأول.
قوله: "ومن صلى ثم أقيم فرض" يعني: إذا صَلَّى الصَّلاةَ المفروضة ثم حضر مسجداً أقيمت فيه تلك الصلاة وظاهر كلامه سواءٌ صَلَّى في جماعةٍ أو منفرداً.
وقوله: "سن أن يعيدها إلا المغرب" أي: سُنَّ أنْ يعيدَ الصَّلاة التي صَلَّاها أولاً إلا المغرب.
مسألة : إذا أدركَ بعضَ المُعادةِ، فهل لا بُدَّ مِن إتمامِها، أو له أنْ يُسلِّمَ مع الإمام؟ الجواب : نقول: إذا سَلَّمَ مع الإمامِ؛ وقد صَلَّى ركعتين؛ فلا بأس؛ لأنَّها نافلةٌ لا يلزمه إتمامُها، وإن أتمَّ فهو أفضلُ.
وقوله: "إلا المغرب" أي: فإنَّه لا تُسَنُّ إعادتُها.( هذا ما قرره المؤلف ), والصحيح: أنه يعيد المغرب . ولكن؛ هل نقول: إذا سَلَّمَ الإمامُ ائتِ بركعة لتكون الصَّلاةُ شفعاً، أو له أن يُسلِّمَ مع الإمامِ؟ في هذا قولان. القول الأول: أن يشفعها بركعة. والصَّحيحُ : أنَّه يُسلِّمُ مع الإمامِ، وإذا ضَممتَ هذين القولين إلى قولِ المؤلِّفِ صارت الأقوال ثلاثة: أحدها : لا تُسنُّ إعادةُ المغربِ. (و) الثاني : تُسَنُّ؛ ويشفعُها بركعةٍ. (و) الثالث : تُسنُّ؛ ولا يشفعُها، وهو الصَّحيحُ.(1/341)
قوله: "ولا تكره إعادة الجماعة" .هذه المسألة لها ثلاثُ صور:
الصورةُ الأُولى : أن يكون إعادةُ الجماعةِ أمراً راتباً.
الصورة الثانية : أن يكون أمراً عارضاً.
الصورة الثالثة : أن يكون المسجدُ مسجدَ سوقٍ، أو مسجدَ طريقِ سياراتٍ، أو ما أشبه ذلك، فإذا كان مسجدَ سُوقٍ يتردَّدُ أهلُ السُّوقِ إليه فيأتي الرَّجُلان والثلاثةُ والعشرةُ يصلُّون ثم يخرجون، كما يوجد في المساجد التي في بعض الأسواق، فلا تُكره إعادةُ الجماعة فيه، قال بعضُ العلماء: قولاً واحداً، ولا خِلافَ في ذلك.
وأما الصُّورة الأوُلى، بأن يكون في المسجدِ جماعتان دائماً، الجماعة الأُولى والجماعةُ الثانيةُ، فهذا لا شَكَّ أنَّه مكروهٌ إنْ لم نقل: إنه محرَّمٌ؛ لأنَّه بدعةٌ؛ لم يكن معروفاً في عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وأما الصُّورة الثانيةُ، أن يكونَ عارضاً، أي: أنَّ الإمامَ الرَّاتبَ هو الذي يصلِّي بجماعةِ المسجدِ، لكن أحياناً يتخلَّفُ رَجُلان أو ثلاثةٌ أو أكثرُ لعذرٍ، فهذا هو محلُّ الخِلافِ. فمِن العلماءِ مَن قال: لا تعادُ الجماعةُ، بل يصلُّون فُرادى. ومِنهم مَن قال: بل تُعادُ، وهذا القول هو الصَّحيحُ، وهو مذهبُ الحنابلةِ.
قوله: "في غير مسجدي مكة والمدينة" أي: في غيرِ المسجدِ الحرامِ ومسجدِ النبي صلى الله عليه وسلم فَتُكرَهُ إعادةُ الجماعةِ فيهما ، وهذا هو القولُ الأولُ في هذه المسألةِ. والقول الثاني : أن إعادةَ الجماعةِ لا تُكره في المسجدين ، وهذا هو الصَّحيح إذا لم تكن ( الإعادة ) عادة.(1/342)
قوله: "وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" .قوله: "إذا أُقيمت" هل المراد بإقامة الصَّلاةِ الذِّكرِ , أو المراد نفس الصلاة ؟ في هذا خِلافٌ بين أهل العِلمِ الذين شرحوا الحديثَ: القول الأول : أنَّ المرادَ بإقامةِ الصَّلاةِ الشروعُ فيها، أي: تكبيرةَ الإحرامِ. (و) القول الثاني: أنَّ المرادَ بالإقامةِ ابتداءُ الإقامةِ؛ التي هي الإعلامُ بالقيامِ إلى الصَّلاةِ. (و) القول الثالث : أنَّ المرادَ انتهاءُ الإقامة. ( والمتعين: ) أنَّ المرادَ بإقامةِ الصَّلاةِ الشروعُ فيها .
مسألة : قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا صلاة" هل يشمَلُ الابتداءَ والإتمامَ؟. الجواب : في ذلك قولان لأهلِ العِلمِ. القول الأول : أنَّه يشمَلُ الابتداءَ، والإتمامَ، أي: فلا صلاةَ ابتداءً ولا إتماماً. (و) القول الثاني : أنه لا صلاةَ ابتداءً وعلى هذا القول يُتِمُّ النَّافلةَ ولو فاتته الجَماعةُ. والذي يظهر أن قولَه صلى الله عليه وسلم: "لا صلاةَ" المرادُ به ابتداؤها، وأنه يَحرُمُ على الإنسانِ أن يبتدىءَ نافلةً بعدَ إقامةِ الصَّلاةِ، أي: بعدَ الشروعِ فيها.
قوله: "فإن كان في نافلة أتمها, إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها" . أي إن كان شرع في النافلة ثم أقيمت الصلاة أتمها, ولكن يتمها خفيفةً من أجل المبادرة إلى الدخول في الفريضة.( فإن خشي فوات الجماعة ) فإنه يقطعها. وتفوتُ الجماعةُ على المذهب بتسليم الإمام قبلَ أن يكبِّرَ المسبوقُ تكبيرةَ الإحرامِ, هذا كلامِ المؤلِّف. والذي نرى في هذه المسألةِ: أنك إنْ كنتَ في الرَّكعةِ الثانيةِ فأتمَّها خفيفةً، وإنْ كنت في الرَّكعةِ الأولى, ولو في السجدة الثانية منها فاقطعْهَا.وهذا هو الذي تجتمع فيه الأدلَّةُ.(1/343)
ولا فَرْقَ بين أن تقامَ الصَّلاةُ وأنت في المسجدِ أو في بيتِكَ، مع وجوب الجماعةِ عليك. وعلى هذا؛ فلو سمعتَ الإقامةَ وأنت في بيتِك، وقلتَ: سأصلِّي سُنَّةَ الفجرِ؛ لأنَّ الفجرَ تطول فيها القِراءةُ؛ وبيتي قريبٌ مِن المسجدِ؛ ويمكنني أن أدركَ الركعةَ الأولى، فإنَّ ذلك لا يجوزُ لعمومِ الحديثِ: "إذا أُقيمت الصَّلاةُ" ، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامةَ فامشوا إلى الصَّلاةِ" ، فقوله: "فامشوا" أمْرٌ، وبناءً على ذلك: لا فَرْقَ بين أن تُقامَ الصَّلاةُ وأنت في المسجدِ، وبين أن تُقامَ وأنت في بيتِك، فمتى سمعتَ الإقامةَ وأنت في الركعة الأُولى _ على ما اخترناه من الأقوال فاقْطَعْهَا واذهبْ، وإن كنت في الثانية فأتمَّها خفيفةً، هذا ما لم تخشَ فواتَ الجماعةِ؛ لأنك إذا كنتَ خارجَ المسجدِ رُبَّما تخشى فواتَ الجماعةِ؛ ولو كنت في الركعة الثانية، فحينئذٍ اقْطَعْها؛ لأنَّ صلاةَ الجماعةِ واجبةٌ والنافلةُ نَفْلٌ.
وقولُ المؤلِّفِ: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة"، مرادُه إذا كنتَ تريدُ أنْ تصلِّيَ مع هذا الإمامِ، أما إذا كنتَ لا تريدُ أنْ تصلِّيَ معه، فلا حَرَجَ عليك أن تتنفَّلَ، فلو كان بجوارِكَ مسجدان وسمعتَ إقامةَ أحدِهما، وأردت أن تصلِّيَ الرَّاتبةَ؛ لتصلِّيَ في المسجدِ الثاني؛ فلا حَرَجَ عليك.
قوله: "ومن كبّر قبل سلام إمامه لحق الجماعة" .أي: إذا كَبَّرَ المأمومُ قبلَ سلامِ إمامه التَّسليمةَ الأُولى، فإنه يدركُ الجماعةَ إدراكاً تاماً. والقول الثاني : أنَّه لا يدركُ الجماعةَ إلا بإدراكِ ركعة كاملة. وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية .(1/344)
وينبني على هذا: أنك لو أتيتَ إلى مسجدٍ والإمامُ قد رَفَعَ رأسَه مِن الرُّكوعِ في الركعةِ الأخيرةِ، وأنت تعلمُ أنك ستدركُ مسجداً آخر مِن أول الصَّلاةِ، أو ستدرِكُ ركعةً في المسجدِ الثَّاني فإننا نقول لك: لا تدخل مع هذه الجماعةِ؛ لأنَّك سوف تدرك جماعةً إدراكاً تاماً في مسجدٍ آخر، أما على كلامِ المؤلِّفِ فادْخُلْ مع الإمامِ؛ لأنك سوف تدركُ الجماعةَ ما دمتَ قد أدركتَ تكبيرةَ الإحرامِ قبلَ تسليمةِ الإمامِ الأُولى.
قوله: "وإن لحقه راكعا, دخل معه في الركعة ً" أي: لَحِقَ المأمومُ الإمامَ راكعاً دخَلَ معه في الرَّكعةِ، ويكون قد أدركَ الرَّكعةَ.
قوله: "وأجزأته التحريمة" أي: تكبيرةُ الإحرامِ وأجزأته عن تكبيرةِ الرُّكوعِ، فيكبِّرُ مرَّةً واحدة وهو قائمٌ، ثم يركعُ بدون تكبير. والقول الثاني في المسألة : أنه يجبُ أن يكبِّر للرُّكوعِ. ولكن هنا أمْرٌ يجبُ أن يُتفَطَّنُ له، وهو أنَّه لا بُدَّ أنْ يكبِّرَ للإحرامِ قائماً منتصباً قبل أنْ يهويَ؛ لأنَّه لو هَوى في حالِ التكبيرِ لكان قد أتى بتكبيرةِ الإحرامِ غير قائمٍ وتكبيرةُ الإحرامِ لا بُدَّ أن يكونَ فيها قائماً.(1/345)
قوله: "ولا قراءة على مأموم" أي: لا يجب على المأموم أن يقرأَ مع الإِمامِ لا في صلاة السِّرِّ ولا في صلاة الجهرِ. وأن المأموم لو وقف ساكتاً في كل الركعات فصلاته صحيحة, وهذا قول ضعيف جداً. والقول الثاني : وجوبها على المأمومِ في كلِّ الصلواتِ السريةِ والجهريَّةِ، وهذا مقابلٌ للقولِ الأولِ. والقول الثالث : أنها تجبُ على المأمومِ في الصَّلاةِ السريَّةِ دون الجهرية، وهذا القولُ اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابن تيمية . والقولُ الرَّاجحُ في هذه المسألة: وجوبُ قراءةِ الفاتحةِ على المأمومِ في الصَّلاةِ السِّريَّةِ والجهريَّةِ، ولا تسقطُ إلا إذا أدركَ الإمامَ راكعاً، أو أدركَه قائماً، ولم يدرك أنْ يكملَ الفاتحةَ حتى رَكَعَ الإمامُ، ففي هذه الحالِ تسَقطُ عنه .
مسألة : سَبَق إذا أدركَ الإمامَ راكعاً فإنَّ الماتنَ صَرَّحَ بأنه يكبِّرُ للإحرام؛ وتجزئُه عن تكبيرةِ الرُّكوع ، وأنه لو كَبَّرَ للرُّكوعِ لكان أفضلَ، لكن إذا أدركَهُ في غيرِ الرُّكوعِ، مثل أنْ يدركَ الإمامَ وهو جالسٌ، أو يدركِهُ بعدَ الرَّفْعِ مِن الرُّكوعِ، أو يدرِكَهُ وهو ساجدٌ فهنا يُكبِّرُ للإحرامِ، لكن هل يُكبِّرُ مرَّةً ثانية أو لا يُكبِّرُ؟ الجواب : هذا موضعُ خِلافٍ بين العلماءِ: القول الأول : أنه يَنحطُّ بلا تكبير. (و) القول الثاني : أنه يَنحطُّ بتكبيرٍ. والذي نَرى في هذه المسألةِ أنَّ الاحتياطَ أن يكبِّرَ. ولكن مع هذا نقولُ: لو كَبَّرَ الإنسانُ فلا حَرَجَ، وإن تَرَكَ فلا حَرَجَ ونجعلُ الخِيَارَ للإنسانِ؛ لأنه ليس هناك دليلٌ واضحٌ للتَّفريقِ بين الرُّكوعِ وغيرِه.
قوله: "ويستحب في إسرار إمامه وسكوته" أي: يُستحبُّ للمأمومِ قراءةُ الفاتحةِ وغيرِها. "في إسرارِ إمامِهِ" وهذا في الصَّلاةِ السِّريَّةِ. " وسكوته" وهذا في الصَّلاة الجَهريَّةِ.(1/346)
فما هي السكتاتُ في الصَّلاةِ الجهرية. الجواب : السَّكتاتُ: قبلَ الفاتحةِ في الرَّكعةِ الأُولى، وبينها وبين قراءة السُّورةِ في الرَّكعةِ الأُولى والثانية، وقبلَ الرُّكوعِ قليلاً في الرَّكعة الأُولى والثانية . فإذا سَكَتَ الإمامَ في هذه المواضع؛ فإنَّه يقرأُ استحباباً لا وجوباً، وإذا سَكَتَ لعارضٍ، مثل: أن يُصابَ بسُعَالٍ أو عُطَاسٍ، يقرأ: لأنَّ الإمامَ لا يقرأُ.
تنبيه: قولنا: يستحبُّ للمأمومِ قراءةُ الفاتحةِ وغيرِها، مبنيٌّ على كلامِ المؤلِّفِ، وقد سَبَقَ أنَّ قِراءةَ الفاتحةِ على المأمومِ رُكْنٌ لا بُدَّ منه فيقرؤها ولو كان الإمامُ يقرأ .
قوله: "وإذا لم يسمعه لبعد" أي: ويستحبُّ أنْ يقرأَ إِذا لم يسمعْ الإمامَ لبُعْدٍ مثل: أن يكون المسجدُ كبيراً، وليس هناك مُكَبِّرُ صوتٍ فيقرأ المأمومُ إذا لم يسمعْ قراءةَ الإمامِ حتى غيرَ الفاتحةِ، ولا يسكتُ؛ لأنَّه ليس في الصَّلاةِ سكوتٌ.
قوله: "لا لطرش" الطَّرشُ: الصَّممُ، أي: لا إنْ كان لا يسمعُ لصَمَمٍ، لأنَّه إذا قرأ لصَمَمٍ غالباً أشغل الذي حولَه عن استماعِه لقراءةِ إمامِهِ.
والحاصل : أنه إذا لم يسمعْ لمانعٍ خاصٍّ به وهو الصَّمَمُ؛ فإنَّه لا يقرأُ، اللَّهُمَّ إلا لو قُدِّرَ أنَّ كُلَّ المأمومين طُرْشٌ، فحينئذٍ يقرأُ؛ لأنَّه في هذه الحالِ لن يُشوِّشَ على أحدٍ . وإن كان لا يسمع الإمام لمانع عامٍّ كالبعد والضجَّة, كما لو كان حول المسجد ورش تشتغل فإنه يقرأ.(1/347)
قوله: "ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه" أي: أنَّ المأمومَ يقرأْ الاستفتاحَ، ويقرأُ التعوُّذَ فيما يجهرُ فيه الإمامُ، وظاهرُ كلامِهِ : أنه يفعلُ ذلك، وإنْ كان يسمعُ قِراءةَ الإمامِ، وهذا اختيارُ بعضِ أهلِ العِلْم. ولكن هذا القولُ فيه نَظَرٌ ظاهر. والصَّوابُ: أنَّه لا يستفتحُ ولا يستعيذُ فيما يجهرُ فيه الإمامُ. وعلى هذا؛ فإذا دخلتَ مع إمامٍ وقد انتهى مِن قراءةِ الفاتحةِ، وهو يقرأُ السُّورةَ التي بعدَ الفاتحةِ، فإنَّه يسقطُ عنك الاستفتاحُ، وتقرأُ الفاتحةَ على القولِ الرَّاجحِ وتتعوَّذُ؛ لأنَّ التعوّذَ تابعٌ للقِراءةِ.
قوله: "ومَن رَكَعَ، أو سَجَدَ قبل إمامِهِ فعليه أن يرفع ليأتي به بعده" . "من" أي: أيَّ مأمومٍ رَكَعَ أو سَجَدَ قبلَ إمامِهِ فيجب عليه أن يَرْفَعَ. أي: يرجعُ مِن رُكوعِه إنْ كان راكعاً أو سجودِه إنْ كان ساجداً ليأتيَ به بعده. (و)القول الثاني في المسألة : أنَّه إذا رَكَعَ أو سَجَدَ قبلَ إِمامِهِ عامداً فصلاتُهُ باطلةٌ، سواءٌ رَجَعَ فأتى به بعدَ الإِمامِ أم لا. وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، وهذا هو الذي يقتضيه كلامُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل في "رسالة الصلاة" وقال: كيف نقولُ: صلاتُهُ صحيحةٌ وهو آثمٌ؟!فعليه أنْ يستأنفَ الصَّلاةَ.
قوله: "فإن لم يفعل عمداً بطلت" أي: لو رَكَعَ أو سَجَدَ عمداً قبلَ الإمامِ، ولم يرجعْ حتى لَحِقَهُ الإمامُ فإنَّ صلاتَه تبطلُ.
فصار إذا سَبَقَ إلى الرُّكنِ على القولِ الرَّاجحِ بطلتْ صلاتُه إذا كان عالماً متعمِّداً، وعلى كلامِ المؤلِّف لا تبطل، ولكن يرجعُ ليأتيَ به بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ متعمِّداً بطلتْ صلاتُهُ. وإنْ لم يفعلْ سهواً أو جهلاً فصلاتُهُ صحيحةٌ أي: رَكَعَ قبلَ الإمامِ وهو لا يعرفُ أنَّ هذا حرامٌ، ولا يعرفُ أنَّه يجبُ عليه الرجوعُ حتى لَحِقَهُ الإِمامُ فصلاتُه صحيحةٌ.(1/348)
قوله: "وإن ركع ورفع قبل إمامه عالماً عمداً بطلت" ، أي: إنْ رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ ركوعِ إمامِهِ؛ بطلتْ صلاتُهُ؛ لأنَّه سَبَقَ الإِمامَ برُكنِ الرُّكوعِ، ولا يُعَدُّ سابقاً بالرّكنِ حتى ينتقلَ منه إلى الرُّكنِ الذي يليه، فلو رَكَعَ ولَحِقَهُ الإِمامُ في الرُّكوعِ فلا يُعَدُّ سابقاً للإمامِ برُكنٍ، بل نقول: إنَّه سَبَقَ الإِمامَ إلى الرُّكنِ، فإنَّ الرُّكنَ الذي يدركه فيه الإمامُ لا يُعَدُّ سابقاً به، بل سابقاً إليه.
قوله: "وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط" ، أي: إذا رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ إمامِهِ جاهلاً أو ناسياً بطلت الرَّكعةُ التي حصلَ فيها هذا السَّبْقُ فقط، فيلزمُه قضاؤها بعد سلامِ الإمامِ.
والحاصل : أنه إذا سَبَق برُكنِ الرُّكوعِ بأن رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ أن يركعَ الإمامُ، فإن كان عمداً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جهلاً أو نسياناً بطلتْ الرَّكعةُ فقط؛ لأنَّه لم يقتدِ بإمامِهِ في هذا الرُّكوعِ، فصار كمَن لم يدركْهُ ففاتته الرَّكعةُ، لكن إنْ أتى بذلك بعدَ إمامِهِ صحَّت ركعتُه.
قوله: "وإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي، ويصلّي تلك الركعة قضاء" . أي: إنْ رَكَعَ وَرَفَعَ قبل رُكوعِ إمامِهِ، ثم سَجَدَ قبلَ رَفْعِهِ بطلتْ صلاتُه؛ لأنه سَبَقَ الإمامَ برُكنينِ، لكن التمثيلُ بالركوعِ فيه شيءٌ مِن النَّظرِ، وذلك لأنَّ هذه المسألة هي القسم الثالث، وهي السَّبْقُ بالرُّكنينِ وهو إنما يكون في غيرِ الرُّكوعِ، وهذا القسم له حالان:
الأول : أن يكون عالماً ذاكراً فتبطلُ صلاتُه.
الثاني : أن يكون جاهلاً أو ناسياً فتبطلُ ركعته، إلا أنْ يأتيَ بذلك بعد إمامِهِ.
وخلاصةُ أحوالِ السَّبقِ كما يلي:
1 - السَّبْقُ إلى الرُّكنِ. 2 - السَّبْقُ برُكنِ الرُّكوعِ.
3 - السَّبْقُ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ. 4 - السَّبْقُ برُكنينِ غيرِ الرُّكوعِ.(1/349)
وخلاصةُ الكلام في سَبْقِ المأمومِ إمامَه أنَّه في جميعِ أقسامِهِ حرامٌ، أما مِن حيث بُطلان الصَّلاةِ به فهو أقسام: الأول : أن يكون السَّبْقُ إلى تكبيرة الإحرامِ، بأن يكبِّرَ للإحرامِ قبلَ إمامِهِ أو معه، فلا تنعقدُ صلاةُ المأمومِ حينئذٍ، فيلزمُه أن يكبِّرَ بعدَ تكبيرةِ إمامِهِ، فإن لم يفعلْ فعليه إعادةُ الصَّلاةِ.
الثاني : أن يكون السَّبْقُ إلى رُكْنٍ، مثل: أن يركَعَ قبلَ إمامِه أو يسجدَ قبلَه، فيلزمُه أن يرجعَ ليأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلت صلاتُهُ، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاتُه صحيحةٌ.
الثالث : أنْ يكونَ السَّبْقُ برُكنِ الرُّكوعِ، مثل: أن يركعَ ويرفعَ قبلَ أنْ يركعَ إمامُه، فإن كان عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلتْ الرَّكعةُ فقط؛ إلا أن يأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ.
الرابع : أن يكون السَّبْقُ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ، مثل: أن يسجدَ ويرفعَ قبلَ أنْ يسجدَ إمامُه، فيلزمُه أنْ يرجعَ ليأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاته صحيحة.
الخامس : أن يكون السَّبْقُ برُكنين، مثل: أن يسجدَ ويرفعَ قبلَ سجودِ إمامِهِ، ثم يسجدَ الثانيةَ قبلَ رَفْعِ إمامِهِ مِن السَّجدةِ الأولى، أو يسجدَ ويرفعَ ويسجدَ الثانيةَ قبلَ سجودِ إمامِهِ، فإنْ كان عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً بطلتْ ركعتُه فقط؛ إلا أنْ يأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ.
هذه خلاصةُ أحكامِ السَّبقِ على المشهورِ مِن المذهبِ. والصَّحيحُ: أنَّه متى سَبَقَ إمامَه عالماً ذاكراً فصلاتُه باطلةٌ بكلِّ أقسامِ السَّبقِ، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاتُه صحيحةٌ؛ إلا أنْ يزولَ عذره قبل أنْ يدرِكَهُ الإمامُ، فإنه يلزمُه الرجوعُ ليأتيَ بما سَبَقَ فيه بعدَ إمامِه، فإن لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإلا فلا.(1/350)
وبمناسبة الكلام على السَّبْقِ إلى الرُّكنِ أو بالرُّكنِ نذكر أحوالَ المأمومِ مع إمامِهِ، فالمأمومُ مع إمامِهِ له أحوالٌ أربعٌ: 1- سَبْقٌ. 2- تَخَلُّفٌ. 3- موافقةٌ. 4- متابعةٌ.
الاول: السَّبْقُ : وعرفنا أنه محرَّمٌ ومِن الكبائرِ بدلالةِ السُّنَّةِ.
الثاني: التَّخلُّفُ : والتَّخلُّفُ عن الإِمامِ نوعان: 1- تخلُّفٌ لعذرٍ. 2- وتخلُّفٌ لغير عذرٍ. فالنوع الأول : أن يكون لعذرٍ، فإنَّه يأتي بما تخلَّفَ به، ويتابعُ الإمامَ ولا حَرَجَ عليه، حتى وإنْ كان رُكناً كاملاً أو رُكنين، فلو أن شخصاً سَها وغَفَلَ، أو لم يسمعْ إمامَه حتى سبقَه الإمامُ برُكنٍ أو رُكنين، فإنه يأتي بما تخلَّفَ به، ويتابعُ إمامَه، إلا أن يصلَ الإمامُ إلى المكان الذي هو فيه؛ فإنَّه لا يأتي به ويبقى مع الإِمامِ، وتصحُّ له ركعةٌ واحدةٌ ملفَّقةٌ مِن ركعتي إمامهِ الرَّكعةِ التي تخلَّفَ فيها والرَّكعةِ التي وصلَ إليها الإِمامُ. وهو في مكانِهِ. مثال ذلك: رَجُلٌ يصلِّي مع الإِمامِ، والإِمامُ رَكَعَ، ورَفَعَ، وسَجَدَ، وجَلَسَ، وسَجَدَ الثانيةَ، ورَفَعَ حتى وَقَفَ، والمأمومُ لم يسمعْ "المُكبِّرَ" إلا في الرَّكعةِ الثانيةِ؛ لانقطاعِ الكهرباء مثلاً، ولنفرضْ أنه في الجمعة، فكان يسمعُ الإِمامَ يقرأُ الفاتحةَ، ثم انقطعَ الكهرباءُ فأتمَّ الإِمامُ الركعةَ الأُولى، وقامَ وهو يظنُّ أنَّ الإِمامَ لم يركعْ في الأُولى فسمعَه يقرأ )هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) (الغاشية:1) فنقول: تبقى مع الإِمامِ وتكونُ ركعةُ الإِمامِ الثانيةِ لك بقية الركعة الأولى فإذا سلَّمَ الإِمامُ فاقضِ الركعةَ الثانيةَ، قال أهلُ العِلمِ: وبذلك يكون للمأمومِ ركعةٌ ملفَّقةٌ مِن ركعتي إمامِهِ؛ لأَنه ائتَمَّ بإمامه في الأُولى وفي الثانية. فإن عَلِمَ بتخلُّفِهِ قبلَ أن يصلَ الإِمامُ إلى مكانِهِ فإنَّه يقضيه ويتابعُ إمامَه، مثاله: رَجُلٌ قائمٌ مع الإِمامِ فرَكَعَ(1/351)
الإِمامُ وهو لم يسمعْ الرُّكوعَ، فلما قال الإِمامُ: "سَمِعَ اللهُ لمَن حمِدَه" سَمِعَ التسميعَ، فنقول له: اركعْ وارفعْ، وتابعْ إمامَك، وتكون مدركاً للركعةِ؛ لأن التخلُّفَ هنا لعُذرٍ.
النوع الثاني : التخلُّف لغيرِ عُذرٍ. إما أن يكون تخلُّفاً في الرُّكنِ، أو تخلُّفاً برُكنٍ. فالتخلُّفُ في الرُّكنِ معناه: أن تتأخَّر عن المتابعةِ، لكن تدركُ الإِمامُ في الرُّكنِ الذي انتقل إليه، مثل: أن يركعَ الإِمامُ وقد بقيَ عليك آيةٌ أو آيتان مِن السُّورةِ، وبقيتَ قائماً تكملُ ما بقي عليك، لكنك ركعتَ وأدركتَ الإِمامَ في الرُّكوعِ، فالرَّكعةُ هنا صحيحةٌ، لكن الفعلُ مخالفٌ للسُّنَّةِ؛ لأنَّ المشروعَ أن تَشْرَعَ في الرُّكوعِ من حين أن يصلَ إمامك إلى الرُّكوعِ، ولا تتخلَّف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رَكَعَ فاركعوا" . والتخلُّفُ بالرُّكنِ معناه: أنَّ الإِمامَ يسبقك برُكنٍ، أي: أن يركَعَ ويرفعَ قبل أن تركعَ. فالفقهاءُ رحمهم الله يقولون: إنَّ التخلُّفَ كالسَّبْقِ، فإذا تخلَّفتَ بالرُّكوعِ فصلاتُك باطلةٌ كما لو سبقته به، وإنْ تخلَّفتَ بالسُّجودِ فصلاتُك على ما قال الفقهاءُ صحيحةٌ؛ لأنه تَخلُّفٌ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ. ولكن القولُ الراجحُ حسب ما رجَّحنَا في السَّبْقِ: أنَّه إذا تخلَّفَ عنه برُكنٍ لغيرِ عُذرٍ فصلاتُه باطلةٌ، سواءٌ كان الرُّكنُ ركوعاً أم غير ركوع. وعلى هذا؛ لو أنَّ الإِمامَ رَفَعَ مِن السجدةِ الأولى، وكان هذا المأمومُ يدعو اللهَ في السُّجودِ فبقيَ يدعو اللهَ حتى سجدَ الإِمامُ السجدةَ الثانيةَ فصلاتُه باطلةٌ؛ لأنه تخلُّفٌ بركنٍ، وإذا سبقه الإِمامُ بركنٍ فأين المتابعة؟
الثالث: الموافقة: والموافقةُ: إما في الأقوالِ، وإما في الأفعال، فهي قسمان:(1/352)
القسم الأول : الموافقةُ في الأقوالِ فلا تضرُّ إلا في تكبيرةِ الإِحرامِ والسلامِ. أما في تكبيرةِ الإِحرامِ؛ فإنك لو كَبَّرتَ قبلَ أن يُتمَّ الإِمامُ تكبيرةَ الإِحرام لم تنعقدْ صلاتُك أصلاً؛ لأنه لا بُدَّ أن تأتيَ بتكبيرةِ الإِحرامِ بعد انتهاءِ الإِمامِ منها نهائياً. وأما الموافقةُ بالسَّلام، فقال العلماءُ: إنه يُكره أن تسلِّمَ مع إمامِك التسليمةَ الأُولى والثانية، وأما إذا سلَّمت التسليمةَ الأولى بعدَ التسليمة الأولى، والتسليمةَ الثانية بعد التسليمةِ الثانية، فإنَّ هذا لا بأس به، لكن الأفضل أن لا تسلِّمَ إلا بعد التسليمتين.
وأما بقيةُ الأقوالِ: فلا يؤثِّرُ أن توافق الإِمامَ، أو تتقدَّم عليه، أو تتأخَّرَ عنه، فلو فُرِضَ أنك تسمعُ الإِمامَ يتشهَّدُ، وسبقتَه أنت بالتشهُّدِ، فهذا لا يضرُّ لأن السَّبْقَ بالأقوالِ ما عدا التَّحريمةِ والتسَّليمِ ليس بمؤثرٍ ولا يضرُّ، وكذلك أيضاً لو سبقتَه بالفاتحة فقرأت: { ولا الضالين} [الفاتحة] وهو يقرأ: {إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة] في صلاةِ الظُّهرِ مثلاً، لأنه يُشرعُ للإِمامِ في صلاةِ الظُّهر والعصرِ أن يُسمِعَ النَّاسَ الآيةَ أحياناً كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلُ .
القسم الثاني: الموافقةُ في الأفعالِ وهي مكروهةٌ، وقيل: إنها خِلافُ السُّنَّةِ، ولكن الأقربُ الكراهةُ. مثال الموافقة: لما قالَ الإِمامُ: "الله أكبر" للرُّكوعِ، وشَرَعَ في الهوي هويتَ أنت والإِمامُ سواء، فهذا مكروهٌ.(1/353)
الرابع: المتابعة: المتابعة هي السُّنَّةُ، ومعناها: أن يَشْرَعَ الإنسانُ في أفعالِ الصَّلاةِ فَوْرَ شروعِ إمامِهِ، لكن بدون موافقةٍ. فمثلاً: إذا رَكَعَ تركع؛ وإنْ لم تكملْ القراءةَ المستحبَّةَ، ولو بقيَ عليك آيةٌ، لكونها توجب التخلُّفَ فلا تكملها، وفي السُّجودِ إذا رفعَ مِن السجودِ تابعْ الإِمامَ، فكونك تتابعُه أفضلُ من كونك تبقى ساجداً تدعو الله؛ لأنَّ صلاتَك ارتبطت بالإِمامِ، وأنت الآن مأمورٌ بمتابعةِ إمامِكِ.
مسألة : إذا أُقيمت الصَّلاةُ، وكبَّرَ الإِمامُ، وقرأَ الفاتحةَ، ولم يدخلْ رَجُلٌ مع الإِمامِ، وقال: إذا ركعَ الإِمامُ قُمْتُ وركعتُ، فبقيَ في مكانِهِ، أو بقيَ رجُلانِ يتحدَّثان، ولما ركَع الإِمامُ قاما فركعا معه. فهل نقول: إن هذا يوجب أن تكون صلاتُه باطلةٌ؛ لأنَّه لم يقرأ الفاتحةَ، أو نقول: إنَّ هذا مسبوقٌ أدركَ الرُّكوعَ، فتصحُّ صلاتُه؛ لأنَّه قبل أن يدخلَ في الصَّلاةِ غيرُ مطالبٍ بقراءةِ الفاتحةِ؟ الجواب : أنا أَميلُ إلى أنَّه ما دامَ لم يدخلْ في الصَّلاةِ؛ فإنَّه لا يلزمُه حكمُ الصَّلاةِ، لكن نقول: أنتَ أخطأتَ وفَوَّتَ على نفسِك خيراً كثيراً.
قوله: "ويسنّ للإِمام التخفيف" .أي: أنْ يُخفِّفَ للناسِ، والتَّخفيفُ المطلوبُ مِن الإِمامِ ينقسم إلى قسمين: 1 - تخفيفٍ لازم. 2 - تخفيفٍ عارضٍ، وكلاهما مِن السُّنَّةِ.
أما التَّخفيفُ اللازمُ، فألا يتجاوز الإنسانُ ما جاءتْ به السُّنَّةُ، فإن جاوزَ ما جاءت به السُّنَّةُ، فهو مُطوِّلٌ. وأما العارض ، فهو أن يكون هناك سببٌ يقتضي الإِيجازَ عمَّا جاءت به السُّنَّةُ ، أي : أن يُخفِّفَ أكثر مما جاءت به السُّنَّةُ.(1/354)
قوله: "مع الإِتمام". ظاهره: أن الإِتمام سنّة في حق الإِمام، والإِتمام هو: موافقة السنّة، وليس المراد بالإِتمام أن يقتصر على أدنى الواجب، بل موافقة السنّة هو الإِتمام، ولكن إذا نظرنا في الأدلة تبين لنا أن التخفيف الموافق للسنة في حق الإمام واجب.
ولهذا؛ فإنَّ القولَ الذي تؤيُّده الأدلَّة: أنَّ التطويلَ الزائدَ على السُّنَّةِ حرامٌ؛ لأنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام غَضِبَ لذلك. وأيضاً: كلامُ المؤلِّفِ يدلُّ على أن الإِتمامَ سُنَّةٌ، وفي هذا شيء مِن النَّظرِ؛ وذلك لأَنَّ الإِمامَ يتصرَّفُ لغيره، والواجبُ على مَن تصرَّفَ لغيره أن يفعلَ ما هو أحسنُ، أمّا مَن تصرَّفَ لنفسهِ فيفعل ما يشاء مما يُباح له. فإذا كنتُ أصلِّي لنفسي، واقتصرتُ على الواجبِ في الأركان والواجبات، فإنَّ لي ذلك، لكن إذا كنتُ إماماً فليس لي ذلك؛ لأنَّه يجب أن أصلِّي الصَّلاةَ المطابقةَ للسُّنَّةِ بقَدْرِ المستطاعِ؛ لأنني لا أتصرَّفُ لنفسي، لكن لو فُرِضَ أنَّ المأمومين محصورون، وقالوا: يا فلان، عَجِّلْ بنا؛ لنا شُغلٌ، فحينئذٍ له أن يقتصرَ على أدنى الواجبِ؛ لأنَّ المأمومين أذِنوا له في ذلك، فكما أنَّه لو صَلَّى كلُّ واحدٍ منهم على انفرادٍ لكان له أن يقتصرَ على الواجبِ، فكذلك إذا أذِنوا لإِمامِهم، فالتخفيف الذي يُؤذن به ما وافقَ السُّنَّة، لا ما وافقَ أهواءَ النّاسِ. فلا ينبغي للإِمام أنْ يطيعَ بعضَ المأمومين في مخالفة السُّنَّةِ، لأنَّ اتِّباعَ السُّنَّةِ رحمة، إنما لو حصل عارضٌ يقتضي التَّخفيفَ فحينئذٍ يُخفِّفُ؛ لأنَّ هذا مِن السُّنَّةِ، أما الشيءُ اللازمُ الدائمُ فإننا نفعلُ فيه السُّنَّةَ.
قوله: "وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية" ، أي: ويُسَنُّ أيضاً أنْ يطوِّلَ الركعةَ الأُولى أكثر مِن الثانيةِ؛ لأنَّ هذا هو السُّنَّةُ. إلا أنَّ العُلماءَ استثنوا مسألتين:(1/355)
المسألة الأولى : إذا كان الفرقُ يسيراً، فلا حَرج مثل "سبح" و"الغاشية" في يوم الجمعة وفي يوم العيد، فإن "الغاشية" أطول، لكن الطُّولَ يسير.
المسألة الثانية : الوجه الثاني في صلاة الخوف. فالإِمامُ في الركعةِ الثانيةِ كان وقوفُه أطول مِن وقوفِه في الركعةِ الأُولى، لكن هكذا جاءت به السُّنَّةُ مِن أجل مراعاةِ الطائفةِ الثانيةِ.
قوله: "ويستحبُّ انتظار داخل ما لم يشق على مأموم". الانتظارُ يشمَلُ ثلاثةَ أشياء:
1 _ انتظار قبل الدُّخولِ في الصَّلاةِ.
2 _ انتظار في الرُّكوعِ، ولا سيَّما في آخر ركعة.
3 _ انتظار فيما لا تُدرك فيه الركعة، مثل: السُّجود.
أما الأول : وهو انتظارُ الدَّاخلِ قبل الشروعِ في الصَّلاةِ، فهذا ليس بسُنَّة، بل السُّنّة:ُ تقديمُ الصَّلاةِ التي يُسَنُّ تقديمُها، وأما ما يُسَنُّ تأخيرُه مِن الصَّلوات وهي العشاء؛ فهنا يُراعي الدَّاخلين.
الثاني : انتظاره في الرُّكوع، مثل: أن يكون الإِمامُ راكعاً، فأحسَّ بداخلٍ في المسجدِ، فلينتظرْ قليلاً حتى يُدركَ هذا الدَّاخلُ الرَّكعةَ، فهنا يكون للقولِ باستحبابِ الانتظارِ وَجْهٌ، ولا سيما إذا كانت الرَّكعةُ هي الأخيرةُ، مِن أجل أنْ يدركَ الجماعةَ. لكن؛ بشرطِ أن لا يَشُقَّ على المأمومين.(1/356)
الثالث : انتظار الدَّاخلِ في رُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ، أي: في رُكنٍ لا يُدركُ فيه الرَّكعةَ ولا يُحسبُ له، فهذا نوعان: النوع الأول : ما تحصُلُ به فائدةٌ. (و) النوع الثاني : ما ليس فيه فائدةٌ، إلا أن يشاركَ الإِمامُ فيما اجتمع معه فيه. مثال النوع الأول : إذا دخلَ في التشهُّدِ الأخيرِ، فهنا الانتظارُ حَسَنٌ؛ لأنَّ فيه فائدةً، وهي: أنه يدركُ صلاةَ الجماعةِ عند بعضِ أهلِ العِلمِ، فقد مرَّ بنا قولُ المؤلِّفِ: "مَن كبَّرَ قبل سلامِ إمامِهِ لَحِقَ الجماعةَ" . وأيضاً: فيه فائدة؛ حتى على القولِ بعدمِ إدراكِ الجماعةِ؛ لأنَّ إدراكَ هذا الجُزءِ خيرٌ مِن عدمِهِ فهو مستفيدٌ. ومثال النوع الثاني : ما ليس فيه فائدة في إدراكِ الجماعةِ؛ إلا مجرد المتابعة للإِمام، مثل: أن يكون ساجداً في الرَّكعةِ الثالثة في الرُّباعيةِ فأحسَّ بداخلٍ، فهنا لا يُستحبُّ الانتظار. وذهبَ بعضُ أهلِ العِلمِ: إلى أنَّه لا ينتظرُ الدَّاخلَ مطلقاً، حتى وإنْ كان دخولُه في الرُّكوعِ في الركعةِ الأخيرةِ الذي تُدركُ به الجماعةُ. ولكن؛ الصحيحُ: ما سَبَقَ تفصيلُه.
قوله: "وإذا استأذنت المرأةُ إلى المسجد كره منعها" . "إذا استأذنت" أي: طلبت الإذنَ و"المرأة" يُرادُ بها البالغةُ، وقد يُرادُ بها الأنثى، وإنْ لم تكن بالغةً، ولكن؛ الأكثرُ أنَّ المرأةَ كالرَّجُلِ؛ إنما تُطلق على البالغةِ، كما أنَّ الرَّجُلَ يُطلقُ على البالغِ، فإذا طَلبت الإذنَ مِن وليِّ أمرِها، فإن كانت ذاتَ زوجٍ فوَليُّ أمرِها زوجُها، ولا ولايةَ لأبيها ولا لأخيها ولا لعمِّها مع وجودِ الزَّوجِ.
وقوله: "إلى المسجد" أي: لحضورِ صلاةِ الجماعةِ، فإنَّه يُكره له أن يمنَعَها، والكراهةُ في كلام الفقهاءِ: كراهةُ التنزيهِ التي يستحقُّ عليها الثوابَ عند التَّرْكِ، ولا يُعاقب عليها عند الفِعْلِ.(1/357)
والدليلُ: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ" وفيه إشارةٌ إلى توبيخِ المانعِ، لأنَّ الأَمَةَ ليست أَمَتَكَ، والمسجدُ ليس بيتَكَ، بل هو مسجدُ الله، فإذا طلبتْ أَمَةُ اللهِ بيتَ اللهِ فكيف تمنعُها؟ ولأنَّه مَنع مَن لا حَقَّ له عليها في المَنْعِ منه، وهو المسجد. وقال بعضُ العلماءِ: إنَّ هذا الحديث نهيٌ، والأصلُ في النَّهيِ التحريمُ، وعلى هذا؛ فيحرمُ على الوَليِ أنْ يمنعَ المرأةَ إذا أرادت الذِّهابَ إلى المسجدِ لتصلِّي مع المسلمين، وهذا القول هو الصَّحيحُ. لكن؛ إذا تغيَّرَ الزَّمانُ فينبغي للإِنسانِ أن يُقْنِعَ أهلَه بعَدَمِ الخروجِ، حتى لا يخرجوا، ويَسْلَمَ هو مِن ارتكابِ النَّهْيِ الذي نَهَى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "إذا استأذنت المرأة" يشمَلُ الشَّابةَ والعجوزَ، والحسناءَ والقبيحةَ.
وقوله: "إلى المسجد" يدلُّ على أنَّها لو استأذنت لغير ذلك فله منعُها، فلو استأذنت أن تخرجَ إلى المدرسةِ فلزوجها أنْ يمنعَها، إلا أن يكون مشروطاً عليه عند العقدِ، وكذلك لو أرادت أن تخرجَ إلى السُّوقِ فله أنْ يمنعَها.
وقولنا: له أنْ يمنعَها، أي: ليس حراماً عليه، ولكن؛ ينظرُ إلى المصلحةِ، فقد لا يكونُ مِن المصلحةِ أنْ يمنعَها، وقد تكون المصلحةُ في منعِها.
وقوله: "إلى المسجد" أي: للصَّلاةِ، أما لو ذهبت إلى المسجدِ للفُرْجَةِ على بنائِهِ، أو لِتحضُرَ محاضرةً في المسجدِ فله أن يمنعَها.
( وكذلك ) يجوزُ للوَليِّ إذا أرادت المرأةُ أنْ تخرجَ متطيِّبةً أن يمنعَها، بل يجب أنْ يمنعَها في هذه الحالِ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهاها أن تشهد صلاةَ العشاءِ إذا كانت متطيِّبةً، وكذلك لو خرجت متبرجةً بثيابِ زينةٍ أو بنعالٍ صرَّارةٍ أو ذاتِ عَقِبٍ طويلٍ، أو ما أشبه ذلك؛ فله أنْ يمنعَها قياساً على منعِها مِن الخروج متطيِّبةً.(1/358)
قوله: "وبيتها خير لها" يُستثنى مِن ذلك: الخروجُ لصلاةِ العيدِ، فإنَّ الخروجَ لصلاةِ العيدِ للنِّساءِ سُنَّةٌ، ولكن يجب أن تخرجَ غيرَ متبرِّجةٍ بزينةٍ ولا متطيِّبة، بل تخرجُ بسكينةٍ ووقارٍ، وبدون رَفْعِ صوتٍ أو ضَحِكٍ إلى زميلتِها، وبدون مِشيةٍ كمِشيةِ الرَّجُلِ، بل تكون مشيتُها مشيةَ أُنثى، مِشيةَ حياءٍ وخَجَلٍ ووقارٍ.
فصل
قوله: "الأولى بالإِمامة الأقرأ العالم فقه صلاته" هل المرادُ بالأقرأ الأجودُ قِراءةً، وهو الذي تكون قراءتُه تامَّةً، يُخرِجُ الحروفَ مِن مخارِجِها، ويأتي بها على أكملِ وجهٍ، أو المرادُ بالأقرأ الأكثرُ قراءةً؟ الجواب: المراد : الأجودُ قِراءةً، أي: الذي يقرؤه قراءةً مجوَّدةً، وليس المراد التجويد الذي يُعرف الآن بما فيه مِن الغنَّةِ والمدَّاتِ ونحوها، فليس بشرطٍ أن يتغنَّى بالقرآن، وأن يحسِّنَ به صوتَه، وإن كان الأحسنُ صوتاً أَولى، لكنه ليس بشرط.
وقوله: "العالم فقه صلاته" أي: الذي يعلم فِقْهَ الصَّلاةِ، بحيث لو طرأَ عليه عارضٌ في صلاتِهِ مِن سهوٍ أو غيرِه تمكَّنَ مِن تطبيقِهِ على الأحكامِ الشرعيَّةِ. فلو وُجِدَ أقرأ؛ ولكن لا يَعلمُ فِقْهَ الصَّلاةِ، فلا يَعرفُ مِن أحكامِ الصَّلاةِ إلا ما يعرِفُهُ عامَّةُ الناسِ مِن القراءةِ والرُّكوعِ والسُّجودِ، فهو أَولَى مِن العالمِ فِقْه صلاتِهِ. ودليلُ ذلك: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهُم لكتابِ اللهِ" . وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى خِلافِ ما يفيده كلامُ المؤلِّفِ، وهو أَنَّه إذا اجتمعَ أقرأُ وقارىءٌ فَقِيهٌ ، قُدِّمَ القارىءُ الفقيهُ ، على الأقرأ غير الأفقه ، وهذا القول هو الرَّاجحُ. وهذا في ابتداء الإمامة، أي: لو حَضَرَ جماعةٌ، وأرادوا أن يقدِّموا أحدَهم، أما إذا كان للمسجدِ إمامٌ راتبٌ فهو أَولى بكلِّ حالٍ ما دام لا يوجدُ فيه مانعٌ يمنعُ إمامتَه.(1/359)
قوله: "ثم الأفقه" أي: إذا اجتمعَ قارئان متساويان في القِراءةِ، لكن أحدُهما أَفْقَهُ ، فإنَّه يقدِّمُ الأفقهَ ، وهذا لا إشكالَ فيه.
قوله: "ثم الأسنّ" أي: الأكبرُ سناً.
قوله: "ثم الأشرف" ، أي: الأشرفُ نَسَباً، ( وهذا ماقرره المؤلف ). والصَّحيحُ إسقاطُ هذه المرتبةِ، أعني: الأشرفيَّةَ، وأنَّه لا تأثير لها في باب إمامةِ الصَّلاةِ.
قوله: "ثم الأقدم هجرة,ثم الأتقى" .المراتبُ على ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ سِتٌّ: الأقرأُ، ثم الأَفْقَهُ، ثم الأَسَنُّ، ثم الأشرفُ، ثم الأقدمُ هِجرةً، ثم الأتقى. والصَّحيحُ: ما دَلَّ عليه الحديثُ الصحيحُ وهي خمسٌ: الأقرأُ، فالأعلمُ بالسُّنَّةِ، فالأقدم هِجرةً، فالأقدمُ إسلاماً، فالأكبرُ سِنًّا. أما التقوى: فهي صِفةٌ يجبُ أن تُراعى بلا شَكٍّ في كُلِّ هؤلاء، ولا اعتبارَ لأشرفيَّة.
قوله: "ثم من قرع" أي: إذا استوى في هذه المراتبِ كلِّها رَجُلان؛ فإنَّنا في هذه الحال نستعملُ القُرْعَةَ، فمَن غَلَبَ في القُرعةِ فهو أحقُّ .
قوله: "وساكن البيت وإمام المسجد أحق" . أي: ساكنُ البيتِ أحقُّ مِن الضَّيفِ.
مسألة : إذا اجتمعَ مالكُ البيتِ ومستأجرُ البيتِ، فالمستأجرُ أَولى: لأنَّ المستأجرَ مالكُ المنفعةِ، فهو أحقُّ بانتفاعِهِ في هذا البيتِ.
وقوله: "وإمام المسجد أحق" أي: أنَّ إمامَ المسجدِ أحقُّ مِن غيرِه، حتى وإنْ وُجِدَ مَن هو أقرأُ، فلو أنَّ إمامَ المسجدِ كان قارئاً يقرأ القرآن على وَجْهٍ تحصُلُ به براءةُ الذِّمَّةِ، وحضرَ رَجُلٌ عالمٌ قارىءٌ فقيه، فالأَولى إمامُ المسجدِ.
قوله: "إلا من ذي سلطان" أي: أنَّ ذا السُّلطانِ، مقدَّمٌ على إمامِ المسجدِ، والسُّلطانُ هو الإِمامُ الأعظمُ، فلو أنَّ الإِمامَ الأعظمَ حَضَرَ إلى المسجدِ، فهو أَولى مِن إمامِ المسجدِ بالإِمامةِ.(1/360)
قوله: "وحُرٌّ، وحاضر، ومقيم, وبصير, ومختون, ومَن له ثياب أَولى مِن ضِدِّهم " . أي أن الحُرُّ أَولى مِن العبدُ الرَّقيقُ الذي يُباع ويُشترى، والحاضرة أولى من البدوي, والمقيم أَولى مِن المسافر، والبصير أَولى مِن الأعمى, والمختون أَولى مِن الأقلفِ, ومَن عليه ثيابٌ سترُها أكملُ، أَولى ممَّن عليه ثيابٌ يسترُ بها قَدْرَ الواجبِ.
وفُهِمَ مِن قولِ المؤلِّفِ: " ومَن له ثياب أَولى مِن ضِدِّهم" أنَّ هؤلاء المذكورين السِّتَّة تصحُّ إمامتُهم؛ لأنَّ "الأَولى" تدلُّ على الاختيارِ ، ولكن الأَولى العكسُ.
قوله: "ولا تصحُّ خلف فاسق" .شرع المؤلف في بيان مَن لا تصحُّ إمامتُهُ إما مطلقاً أو بمَن هو أكملُ منه. فقال الفاسق لا تصح إمامته,( وهذا أحد القولين في المسألة ) ، والقول الثاني: أنَّ الصلاةَ تصحُّ خلفَ الفاسقِ، ولو كان ظاهرُ الفسق. وهذا القولُ لا يَسَعُ الناسَ اليومَ إلا هو؛ لأننا لو طبَّقنا القولَ الأولَ على الناسِ؛ ما وجدنا إماماً يصلحُ للإِمامة إلا نادراً. إذاً؛ فالقولُ الرَّاجحُ: صحَّةُ الصَّلاةُ خلفَ الفاسقِ، فالرَّجلُ إذا صَلَّى خلفَ شخصٍ حالق لحيتَه أو شارب الدُّخان أو آكل الربا أو زانٍ، أو سارق فصلاته صحيحة، لكن يُقدَّمُ أخَفُّ الفاسقين على أشدِّهما، فيُقدَّم مَن يُقصِّرُ من لحيته على حالِقها.
قوله: " ككافر" أي: كما لا تصحُّ خلفَ الكافرِ. فلو فُرضَ أنَّ شخصاً صلَّى خلفَ رَجُلٍ، ولم يعلَمْ أنه كافرٌ إلا بعدَ الصَّلاةِ فهل تلزمُه إعادةُ الصَّلاةِ أو لا؟ الجواب: مِن العلماءِ مَن قال: إنه لا يعيدُ الصَّلاةَ؛ لأنَّه معذورٌ. ومِنهم مَن قال: بل يعيدُ الصَّلاةَ. (و) القولُ الراجحُ: أنه إن كان جاهلاً فإن صلاتَه صحيحةٌ.
قوله: "ولا امرأة" ، أي: لا تصحُّ صلاةُ الرَّجُلِ خلفَ امرأةٍ.(1/361)
قوله: "ولا خنثى للرجال" أي: ولا تصح صلاةُ الرَّجُلِ خلفَ الخُنثى. والخُنثى هو: الذي لا يُعْلَمُ أَذكرٌ هو أم أنثى.
وفُهِمَ مِن قولِ المؤلِّفِ: "ولا امرأة وخنثى للرجال" أنه يصحُّ أن تكون المرأةُ إماماً للمرأةِ، والخُنثى يصحُّ أن يكون إماماً للمرأة؛ لأنه إما مثلُها أو أعلى منها. لكن؛ هل يصحُّ أن تكون المرأةُ إماماً للخُنثى؟ الجواب: لا؛ لاحتمالِ أن يكون ذَكَراً.
قوله: "ولا صبي لبالغ" أي: لا تصحُّ إمامةٌ مِن صبيٍّ لبالغٍ. والصَّبيُّ: مَن دونَ البلوغِ، والبالغُ مَن بَلَغَ، وهذا ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ . (و) القول الثاني: أنَّ صلاةَ البالغِ خلفَ الصَّبيِّ صحيحةٌ. ( وهو الراجح ).
قوله: "ولا أخرس" أي: ولا تصحُّ إمامةُ الأخرسِ. وظاهرُ كلامِهِ حتى بمثلِه، والأخرسُ: هو الذي لا يستطيعُ النُّطقَ، ( وهذا ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ ). والراجحُ: أنَّ إمامةَ الأخرسِ تصحُّ بمثلِه وبمَن ليس بأخرس؛ لأنَّ القاعدةَ عندنا: أنَّ كلَّ مَن صحَّتْ صلاتُه صحَّتْ إمامتُه. لكن مع ذلك لا ينبغي أن يكون إماماً؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يَؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ" وهذا لا يقرأ، لكن بالنسبة للصِّحَّةِ فالصحيحُ، أنَّها تصحُّ.
قوله: "ولا عاجز عن ركوع أو سجود, أو قعود أو قيام, إلا إمام الحي المرجو زوال علته" المؤلِّفَ أفادنا بهذه العبارات أنَّ مَن عَجِزَ عن رُكنِ القيامِ والقعودِ والركوعِ والسجودِ لا تصحُّ إمامتُه إلا بمثلِه، إلا القيامَ فتصحُّ إمامةُ العاجزِ عن القيامِ بقادرٍ عليه بشرطين:
1 _أنْ يكون العاجزُ عن القيام إمامَ الحَيِّ.(1/362)
2 _أنْ تكون عِلَّتُه مرجوةَ الزَّوالِ، مثل: أن يطرأ عليه وَجَعٌ يُرجى زوالُه في ظهرِه أو بركبتِه، فهنا يصحُّ أن يؤمَّ لأهلِ الحَيِّ وإنْ كان عاجزاً عن القيامِ.وهذا هو المذهب. والصحيحُ: أننا نصلِّي خلفَ العاجزِ عن القيامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والقعودِ. وهذا القولُ هو اختيارُ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية .
( مسألة ): إذا رَكَعَ بالإِيماءِ فهل نركعُ بالإِيماءِ؟ أو نركعُ ركوعاً تاماً؟ الظاهر: أننا نركعُ ركوعاً تامًّا؛ وذلك لأنَّ إيماءَ العاجزِ عن الرُّكوعِ لا يغيرُ هيئةَ القيامِ إلا بالانحناءِ، بخلافِ القيامِ مع القعودِ. وكذلك في العَجْزِ عن السُّجودِ يسجدُ المأموم سجوداً تاماً. وكذا العاجزُ عن القعودِ، نصلِّي خلفَه مع قُدرتِنا على القعودِ، كما لو كان مريضاً لا يستطيع القعودَ ويصلِّي على جنبِه. ولكن هل نضطجعُ؟ الجواب: لا، لأنَّ الأمرَ بموافقةِ الإِمامِ إنَّما جاءَ في القعودِ والقيامِ، وعلى هذا؛ فنصلِّي جلوساً وهو مضطجعٌ، وكذلك لو عَجَزَ عن القعودِ بين السجدتين مثلاً، أو عن القعودِ في التشهُّدِ فإننا نصلِّي خلفَه.
قوله: "ويصلون" الضَّميرِ يعودُ على أهلِ الحَيِّ.
قوله: "وراءه" أي: وراءَ إمامِ الحَيِّ الجالسِ.
قوله: "جلوساً ندباً" حال مِن فاعل يصلُّون.(1/363)
قوله: "ندباً" أي: أنَّ هذا الحكمَ نَدْبٌ، وليس بواجبٍ، والنَّدْبُ السُّنَّةُ، أي: فالسُّنَّةُ أن يصلُّوا خلفَه جلوساً. وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن الصَّلاةَ خلفَه يجبُ أن تكون قعوداً. وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، أنَّ الإِمامَ إذا صلَّى قاعداً وَجَبَ على المأمومين أن يصلُّوا قعوداً، فإن صلُّوا قياماً فصلاتُهم باطلةٌ. وذهبَ كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ إلى أنَّ الإِمامَ إذا صَلَّى قاعداً وَجَبَ على المأمومين القادرين على القيامِ أن يصلُّوا قياماً. فإنْ صلُّوا قعوداً بطلتْ صلاتُهم. ( وذهب ) الإمام أحمد: أن إذا صلّى الإِمامُ بالمأمومين قاعداً مِن أولِ الصَّلاةِ فليصلُّوا قعوداً، وإن صَلَّى بهم قائماً ثم أصابته عِلَّةٌ فجَلَسَ فإنَّهم يصلُّون قياماً، وبهذا يحصُلُ الجَمْعُ بين الدليلين, وهذا لاشك أنه جمع حسن وواضح.
قوله: "فإن ابتدأ" الضمير يعود على الإِمامِ.
قوله: "بهم" الضميرُ يعودُ على الجماعةِ.
قوله: "ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً" أي أصابتْهُ عِلَّةٌ فَجَلَسَ، فإنهم يصلّون خلفَه قياماً وجوباً.
قوله: "وتصح خلف من به سلس البول بمثله" ( إذا ) صلى من به سلس البول مأموماً بإمامٍ سليمٍ مِن هذا المرضِ صحيحةٌ، و( كذلك ) إذا صلى إماماً بمصابٍ بهذا المرضِ فإن صلاته صحيحةٌ. ( أما ) إذا صلى إماماً بمَن هو سليمٌ مِن هذا المرضِ, فإن صلاته وصلاةُ المأمومِ باطلةٌ لا تصحُّ, وهذا مفهوم كلام المؤلف. ( ولكن ) الصحيحُ في هذا: أن إمامةَ مَن به سَلَسُ البولِ صحيحةٌ بمثْلِهِ وبصحيحٍ سليمٍ.
قوله: "ولا تصح خلف محدث ولا متنجس يعلم ذلك." .هاتان مسألتان:
المسألة الأولى: الصلاةُ خلفَ المُحدثِ فتصحُّ بشرطِ أن يكونَ الإِمامُ والمأمومُ جاهلين بذلك حتى تتمَّ الصلاةُ. فإن انتهت الصَّلاةِ فهنا لايعيد المأمومون صلاتهم, والإمام يعيد الصلاة. فإن علم أنه محدث في أثناء الصلاة فإنه تبطل صلاة الإمام والمأمومين.(1/364)
فإن علم واحدٌ من المأمومين؛ والباقون لم يعلموا؛ لا الإمام ولا بقية المأمومين, بطلت صلاتهم جميعاً؛ لقول المؤلف:<< فإن جهل هو والمأموم حت انقضت صحت لمأموم وحده >>. أي: بحيث لا يعلم أحدٌ من المأمومين أنه على غير وضوء, فإن علم واحدٌ ولو في أثناء الصلاة بطلت صلاة الجميع. والصحيح في هذه المسألة: أنَّ صلاةَ المأمومينَ صحيحةٌ بكُلِّ حالٍ، إلا مَن عَلِمَ أنَّ الإِمامَ مُحدِثٌ.
المسألة الثانية: الصلاةُ خلفَ المتنجِّس، وقد جَعَلَ المؤلِّفُ حكمها كحكم الصَّلاةِ خلفَ المحدث. فإذا صَلَّى الإِمامُ بنجاسةٍ يجهلُها هو والمأمومُ، ولم يعلمْ بها حتى انتهتِ الصَّلاةُ، فإنَّ صلاةَ المأمومينَ صحيحةٌ؛ لأنَّهم معذورون بالجهلِ، وأما الإِمامُ فلا تصحُّ صلاتُه فيجبُ أن يغسلَ النجاسةَ التي في ثوبِهِ أو على بدنِهِ، ثم يعيدُ الصَّلاةَ؛ لأنَّ مِن شَرْطِ صحَّةِ الصَّلاةِ اجتنابَ النجاسةِ. والقاعدةُ: أنه إذا تخلَّفَ الشرطُ تخلَّفَ المشروطُ. فإنْ عَلِمَ في أثناءِ الصَّلاةِ وَجَبَ عليه أن يستأنفَ الصَّلاةَ هو والمأمومون بعد إزالةِ النجاسةِ. هذا هو الذي يقتضيه كلام المؤلِّفِ. والقولُ الصَّحيحُ في هذه المسألةِ: أنه إذا جَهِلَ الإِمامُ النجاسةَ هو والمأمومُ حتى انقضتِ الصَّلاةُ فصلاتُهم جميعاً صحيحةٌ, وإنْ عَلِمَ الإِمامُ في أثناءِ الصَّلاةِ بالنجاسةِ، فإنْ كان يمكنه إزالتها أزالها، وإنْ كان لا يمكنه انصرفَ، وأتمَّ المأمومون صلاتَهم.
قوله: "ولا إمامة الأمي وهو: من لا يحسن الفاتحة" ، أي: لا تصحُّ إمامةُ الأُمِّي. والأُمِّيُّ لُغةً: مَنْ لا يقرأ ولا يكتبُ . (و) في الاصطلاح هنا: مَن لا يُحسنُ الفاتحةَ، يعني: لا يُحسنُ قراءتَها لا حِفظاً ولا في المصحفِ، ولو كان يقرأ كُلَّ القرآنِ ولا يُحسنُ الفاتحةَ فهو أُمّيّ.(1/365)
قوله: "أو يدغم فيها ما لا يدغم" أي: يُدغِمُ في الفاتحةِ ما لا يُدْغَمُ. والإِدغامُ عند العلماءِ: كبير، وصغير. فإذا أدغمتَ حرفاً بمثلِهِ فهذا إدغامٌ صغيرٌ. وإذا أدغمتَ حَرْفاً بما يقاربه، فهو إدغامٌ كبيرٌ. وإذا أدغمتَ حَرْفاً بما لا يقارِبُه ولا يماثِلُه، فهو غَلَطٌ.
قوله: "أو يبدل حرفاً" أي: يُبدل حرفاً بحرفٍ، وهو الألتغُ، مثل: أنْ يُبدِلَ الرَّاءَ باللام، أي: يجعلَ الرَّاءَ لاماً فيقول: "الحمدُ لله لَبِّ العالمين" فهذا أُمِّيٌّ؛ لأنه أبدلَ حرفاً مِن الفاتحة بغيرِه. ويُستثنى مِن هذه المسألةِ: إبدالُ الضَّادِ ظاءً فإنَّه معفوٌّ عنه على القولِ الرَّاجحِ وهو المذهبُ.
قوله: "أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى" أي: يَلْحَنَ في الفاتحةِ لحناً يُحيلُ المعنى. واللَّحنُ: تغييرُ الحركات، سواءٌ كان تغييراً صرفياً أو نحوياً، فإن كان يغيِّرُ المعنى، فإن المُغيِّرَ أُمِّيٌّ، وإنْ كان لا يغيِّرُه فليس بأُمِّيٍّ، وليس معنى ذلك جوازُ قِراءةِ الفاتحةِ ملحونةً؛ فإنَّه لا يجوز أنْ يَلْحَنَ ولو كان لا يُحيلُ المعنى، لكن المرادُ صِحَّةُ الإِمامةِ.
قوله: "إلا بمثله" أي: إذا صَلَّى أُمِّيٌّ لا يَعرفُ الفاتحةَ بأُمِّيٍّ مثله فصلاتُه صحيحةٌ لمساواتِه له في النَّقْصِ، ولو صَلَّى أُمِّيٌّ بقارئ فإنَّه لا يَصحُّ، وهذا هو المذهبُ. والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد: أنه يَصحُّ أن يكون الأُمِّيُّ إماماً للقارئ، لكن ينبغي أنْ نتجنَّبَها.
قوله: "وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته" أي: إنْ قَدِرَ الأُمِّيُّ على إصلاح اللَّحنِ الذي يُحيلُ المعنى ولم يُصلِحْهُ فإنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، وإن لم يَقْدِرْ فصلاتُه صحيحةٌ دون إمامتِه إلا بمثلِه. ولكن الصحيحُ: أنَّها تصحُّ إمامتُه في هذه الحالِ.(1/366)
قوله: "وتكره إمامةُ اللَّحَّان" واللَّحَّانُ: كثيرُ اللَّحْنِ، والمرادُ في غيرِ الفاتحةِ، فإنْ كان في الفاتحةِ وأحَالَ المعنى صارَ أُمِّيًّا لا تَصِحُّ إمامتُه على المذهبِ، لكن إذا كان كثيرَ اللَّحْنِ في غيرِ الفاتحةِ فإمامتُه صحيحةٌ، إلا أنَّها تُكره.
قوله: "والفأفاء" يعني تُكره إمامةُ الفَأْفَاء: وهو الذي يُكرِّرُ الفاءَ، أي: إذا نَطَقَ بالفاءِ كرَّرها.
قوله: "والتمتام" وهو مَن يُكرِّرُ التاءَ، ومِن النَّاسِ مَن يُكرِّرُ الواو أو غيرها. وعلى كُلٍّ؛ فالذي يُكرِّرُ الحروفَ تُكرَه إمامتُه مِن أجلِ زيادةِ الحَرْفِ، ولكن لو أمَّ النَّاسَ فإمامتُه صحيحةٌ.
قوله: "ومن لا يفصح ببعض الحروف" أي: يخفيها بعضَ الشيءِ، وليس المرادُ أنَّه يُسقِطُها؛ لأنه إذا أسقطَها فإنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ إذا كان في الفاتحة لنُقصانِها، أما إذا كان يَذكرُها، ولكن بدون إفصاحٍ؛ فإنَّ إمامتَه مكروهةٌ.
ولم يذكرِ المؤلِّفُ كراهةَ إمامةِ مَن لا يقرأُ بالتَّجويدِ؛ لأنَّه لا تُكره القِراءةُ بغيرِ التَّجويدِ. والتَّجويدُ مِن بابِ تحسين الصَّوتِ بالقرآنِ، وليس بواجبٍ، إنْ قرأَ به الإِنسانُ لتحسينِ صوتِه فهذا حَسَنٌ، وإنْ لم يقرأْ به فلا حَرَجَ عليه ولم يفته شيءٌ يأثم بتركِهِ، بل إنَّ شيخَ الإِسلامِ ذمَّ أولئك القومَ الذين يعتنون باللَّفظِ، ورُبَّما يكرِّرونَ الكلمةَ مرَّتين أو ثلاثاً مِن أجل أن ينطِقُوا بها على قواعد التَّجويدِ، ويَغْفُلُونَ عن المعنى وتدبُّرِ القرآنِ.
قوله: "وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن" أي: يُكرَه أنْ يؤمَّ أجنبيةً فأكثر. والأجنبيةُ مَن ليست مِن مَحارِمِهِ. وكلامُ المؤلِّف يحتاجُ إلى تفصيل: فإذا كانت أجنبيةٌ وحدَها، ( فإننا ) نقول: إذا خَلا بها فإنَّه يحرُمُ عليه أن يَؤمَّها, وإن كانت إمامته لإمرأتين فأكثر، فالصحيح: أنه لا يكره, إلا إذا خَافَ الفِتنةَ، فإنْ خَافَ الفِتنةَ فإنَّه حرامٌ.(1/367)
وعُلِمَ مِن قوله: "لا رجل معهنَّ" أنَّه لو كان معهنَّ رَجُلٌ فلا كراهةَ وهو ظاهرٌ.
قوله: "أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق" أي: يُكره أنْ يَؤمَّ قوماً أكثرهم يكرهه بحَقٍّ.
وقوله: "أكثرهم يكرهه بحق", أفادنا المؤلِّفُ: أنَّه لو كان الأقلُّ يكرهه، فلا عبرةَ به. وأفادنا قوله: "بِحَقٍّ" أنَّهم لو كرهوه بغير حَقٍّ، مثل: لو كرهوه لأنَّه يَحْرِصُ على اتِّباعِ السُّنَّةِ في الصَّلاةِ فيقرأ بهم السُّورَ المسنونةَ، ويُصلِّي بهم صلاةً متأنيةً، فإن إمامتَه فيهم لا تُكره؛ لأنَّهم كرهوه بغيرِ حَقٍّ فلا عِبرةَ بكراهتهم. لكن؛ ظاهرُ الحديثِ الكراهةُ مطلقاً، وهذا أصح.
قوله: "وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما" . نَص المؤلِّفُ على وَلَدِ الزِّنا والجُنديِّ؛ لأنَّ بعضَ العلماءِ كَرِهَ إمامَتهما. ولكن؛ لا وَجْهَ للكراهةِِ.
قوله: "ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه" أي : تَصحُّ إمامةُ مَن يؤدِّي الصَّلاةَ بمَن يقضيها، أي: أنَّ المؤدِّي هو الإِمامُ، والمأمومُ هو الذي يقضي فتصِحُّ. وعكسُ ذلك؛ أنْ يؤمَّ مَن يقضي الصَّلاةَ بمَن يؤدِّيها فيكون الإِمامُ هو الذي يقضي، والمأمومُ هو الذي يؤدِّي.
قوله: "لا مفترض بمتنفل" أي: لا يصحُّ ائتمامُ مفترضٍ بمُتنفِّلِ، فلا يجوزُ أنْ يكون الإِمامُ متنفِّلا والمأمومُ مفترضاً. وهذاأحدُ القولين ( في هذه المسألة ). والقول الثاني في المسألة: أن صلاةَ المفترضِ خلفَ المتنفلِ صحيحةٌ. وهذا هو القولُ الرَّاجحُ بلا شَكٍّ، وهو اختيارُ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية.(1/368)
قوله: "ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها" أي: ولا يصحُّ ائتمامُ مَن يصلّي الظُّهرَ بمَن يصلِّي العصرَ، أو غيرها. يعني: مِن الصلوات الرباعية وذلك لاخْتلافِ نِيَّةِ الصَّلاتين, هذا هو المذهب. ولا يُستثنى مِن ذلك إلا المسبوقُ في صلاةِ الجمعةِ إذا أدركَ أقلَّ مِن رَكعة؛ فإنَّه في هذه الحالِ يدخلُ مع الإِمامِ بنيَّةِ الظُّهرِ، والإِمامُ يصلِّي الجُمعةَ. (و) القول الثاني: أنَّه يَصِحُّ أن يأتمَّ مَن يصلِّي الظُّهرَ بمَن يصلِّي العَصرَ، ومَن يصلِّي العَصرَ بمَن يصلِّي الظُّهرَ، ولا بأسَ بهذا. وعلى هذا القول؛ إذا صَلَّى صلاةً أكثر مِن صلاةِ الإِمام فلا إشكال في المسألةِ.
لكن إذا صلَّى صلاة أقلُّ مِن صلاةِ الإِمامِ, كأن يصَلَّى المغربَ خلف مَن يصلِّي العشاءَ, فهل يدخل معه أم لا ؟ الجواب: نعم، يدخلُ معه في القولِ الرَّاجحِ، وأنه يجوزُ أن يصلِّيَ المغربَ خلفَ مَن يصلِّي العشاءَ، وهذه تقعُ كثيراً، فإنْ أدركَ الإِمامَ في الثانية فما بعدَها فلا إشكال، لأنه يتابعُ إمامَه ويُسلِّمُ معه، وإنْ دَخَلَ في الثالثةِ أتى بعدَه بركعةٍ، وإن دَخَلَ في الرابعةِ أتى بركعتين، لكن إنْ دَخَلَ في الأولى فإنَّه يَلزمُه إذا قامَ الإِمامُ إلى الرابعةِ أنْ يجلسَ ولا يقوم.
ولكن إذا جَلَسَ هل ينوي الانفرادَ ويُسلِّمُ، أو ينتظرُ الإِمامَ؟ الجواب: هو مخيّرٌ، لكننا نستحبُّ له أن ينويَ الانفرادَ ويسلِّمُ، إذا كان يمكنه أن يدركَ ما بقيَ مِن صلاةِ العشاءِ مع الإِمامِ؛ مِن أجلِ أنْ يُدركَ صلاةَ الجماعةِ في العشاءِ.
فصلٌ
قوله: "يقف المأمومون خلف الإِمام" المأمومون: جمع، وأقلُّ الجَمْعِ في باب الجماعة اثنان ، فيقفُ الاثنان فأكثر خلفَ الإِمامِ.(1/369)
قوله: "ويصحُّ معه عن يمينه أو جانبيه" .أي: ويَصِحُّ أن يقفوا معه، أي: يصح أن يقفوا مع الإِمامِ عن يمينه أو عن جانبيه، أي: أن يكون المأمومان فأكثر عن يمينه أو عن جانبيه، أي: أحدهما عن يمينِه والثاني عن شمالِه، وهذا أفضلُ مِن أن يكونوا عن يمينِه فقط.
قوله: "لا قدّامه" ، أي: لا يَصِحُّ أن يَقِفَ المأمومون قُدَّام الإِمام، فإن وَقَفَوا قُدَّامه فصلاتُهم باطلةٌ. وقال بعضُ أهل العِلْمِ: إنَّ الصَّلاةَ لا تبطلُ ، وإلى هذا ذهبَ الإِمامُ مالكٌ . وتوسَّطَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّة ، وقال: إنَّه إذا دَعَتِ الضَّرورةُ إلى ذلك صحَّت صلاةُ المأمومِ قُدَّامَ الإِمامِ، وإلا فلا. والضَّرورةُ تدعو إلى ذلك في أيَّامِ الجُمعة، أو في أيَّامِ الحَجِّ في المساجدِ العاديةِ، فإنَّ الأسواقَ تمتلئُ ويصلِّي الناسُ أمامَ الإِمامِ. وهذا القولُ وَسَطٌ بين القولين، وغالباً ما يكون القولُ الوسطُ هو الرَّاجح؛ لأنَّه يأخذُ بدليلِ هؤلاءِ ودليلِ هؤلاء.
قوله: "ولا عن يساره" أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ إنْ وَقَفَ عن يسارِ الإِمامِ، لكن بشرط خُلوِّ يمينِه ، هذا تقريرُ كلامِ المؤلِّفِ. وأكثرُ أهلِ العِلْمِ يقولون بصحَّةِ الصَّلاةِ عن يسار الإِمامِ مع خُلُوِّ يمينِهِ، وأنَّ كون المأمومِ الواحدِ عن يمين الإِمامِ إنَّما هو على سبيلِ الأفضليَّةِ، لا على سبيلِ الوجوبِ. واختار هذا القولَ شيخُنا عبدُ الرَّحمن بن سَعدي - رحمه الله -. وهذا القولُ قولٌ جيدٌ جداً، وهو أرجحُ مِن القولِ ببطلانِ صلاتِه عن يسارِه مع خلوِّ يمينِه.
قوله: "ولا الفذ خلفه" أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ الواحدِ خلفَ الإمام. وأمَّا الإمامُ ففيه تفصيلٌ: إنْ بقيَ على نيِّةِ الإمامةِ لم تَصِحَّ صلاتُه؛ لأنَّه نوى الإمامةَ وليس معه أحدٌ، وإنْ نوى الانفرادَ فصلاته صحيحةٌ.(1/370)
قوله: "أو خلفَ الصف" أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ خلفَ الصَّفِّ؛ لأنَّه منفردٌ وهو المذهب، وهو مِن المفردات.وذهبَ أكثرُ أهلِ العِلمِ وهو رواية عن أحمد : إلى صِحَّة الصَّلاةِ منفرداً خلفَ الصَّفِّ، لعُذرٍ أو لغيرِ عُذر، ولو كان في الصَّفِّ سَعَةٌ. وقال بعضُ العلماءِ: في ذلك تفصيلٌ، فإنْ كان لعذرٍ صَحَّت الصَّلاةُ، وإنْ لم يكن لعُذر لم تَصِحَّ الصَّلاةُ. فإذا جاء المصلِّي ووَجَدَ الصَّفَّ قد تَمَّ فإنَّه لا مكان له في الصَّفِّ، وحينئذٍ يكون انفرادُه لعُذرٍ فتصِحُّ صلاتُه، وهذا القولُ وسطٌ، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية ، وشيخِنا عبد الرحمن بن سَعدي. وهو الصَّوابُ.
مسألة: ما هو الانفراد المبطل للصَّلاة؟ الجواب: الانفرادُ المبطلُ للصَّلاةِ أنْ يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ ولم يدخل مع المسبوقِ أحدٌ، فإنْ دَخَلَ معه أحدٌ قبل أن يرفعَ الإِمامُ رأسَه مِن الرُّكوعِ، أو انفتح مكانٌ في الصَّفِّ فدخلَ فيه قبل أن يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ، فإنَّه في هذه الحالِ يزول عن الفرديَّة.
قوله: "إلا أن يكون امرأة" الضَّميرُ يعودُ على الفَذِّ، أي: إلا أن يكون الفَذُّ امرأة خلفَ رَجُلٍ، أو خلفَ الصَّفِّ أيضاً، فإنَّ صلاتَها تَصِحُّ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن تكون المرأةُ تصلِّي مع جماعةِ رِجالٍ أو مع جماعةِ نساءٍ، ولكن هذا الظَّاهرُ ليس بمرادِه، بل إنَّ المرأةَ مع جماعةِ النساءِ كالرَّجُلِ مع جماعةِ الرِّجَالِ، أي: لا يَصِحُّ أن تَقِفَ خلفَ إمامتها، ولا خلفَ صَفِّ نساءٍ، بل إذا كُنَّ نساءً فإنَّ المرأةَ يجبُ أن تكون في الصَّفِّ، ولا تَصِحُّ صلاتُها منفردةً خلفَ الصَّفِّ ولا خلفَ إمامةِ النِّساءِ.
قوله: "وإمامة النساء تقف في صفهنّ" أي: إذا صَلَّى النِّساءُ جماعةً فإنَّ إمامتَهن تَقِفُ في صفِّهنَّ.(1/371)
إذاً؛ يُستثنى مِن تقدُّمِ الإِمام مسألتان: إمامةُ النساءِ، وإمامُ العُراةِ، أما إمامةُ النساء فتكون بينهنَّ على سبيل الاستحباب، وأما إمامُ العُراة فيكون بينهم على سبيل الوجوبِ إلا إذا كانوا عُمياً أو في ظُلمة فإنه يتقدَّمُ.
قوله: "ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء" . "يليه" أي: يلي الإِمامَ في الصَّفِّ إذا اجتمعَ رجالٌ ونساءٌ صغارٌ أو كبارٌ. الرجال البالغون, ثم الصبيانُ، ثم النساءُ في الخلفِ. وهذا ما لم يمنع مانعٌ، فإنْ مَنَعَ منه مانعٌ بحيث لو جُمعَ الصبيانُ بعضُهم إلى بعضٍ لحصلَ بذلك لعبٌ وتشويشٌ، فحينئذٍ لا نجمعُ الصبيانَ بعضَهم إلى بعضٍ, ( ولكن ) نعملُ كما قال بعضُ العلماءِ: بأنْ نجعلَ بين كُلِّ صبيين بالغاً مِن الرِّجالِ فَيَصفُّ رَجُلٌ بالغٌ يليه صبيٌّ، ثم رَجُلٌ ثم صبيٌّ، ثم رَجُلٌ، ثم صبيٌّ؛ لأنَّ ذلك أضبطُ وأبعدُ عن التشويشِ، وهذا وإنْ كان يستلزمُ أنْ يتأخَّرَ بعضُ الرِّجالِ إلى الصَّفِّ الثاني أو الثالثِ حسب كثرة الصبيان؛ فإنَّه يحصُلُ به فائدةٌ، وهي الخشوعُ في الصَّلاةِ وعدمُ التشويشِ.
وهذا الذي ذكرنا في تقديم الرِّجالِ، ثم الصبيان، ثم النساء، إنَّما هو في ابتداءِ الأمرِ، أما إذا سَبَقَ المفضولُ إلى المكان الفاضلِ؛ بأنْ جاءَ الصَّبيُّ مبكِّراً وتقدَّمَ وصار في الصَّفِّ الأولِ، فإن القولَ الرَّاجحَ الذي اختاره بعضُ أهلِ العِلم ومنهم جَدُّ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية، وهو مَجْدُ الدِّين عبد السلام أنه لا يُقامُ المفضولُ مِن مكانِ.(1/372)
قوله: "كجنائزهم" أي: كما يرتَّبون في جنائزِهم، فإذا اجتمعَ جنائزٌ مِن هؤلاءِ الأجناسِ: الرِّجال والصبيان والنساء، فإنَّهم يُقدَّمونَ على هذا الترتيبِ مما يلي ( القرب ) من الإِمام: الرِّجال، ثم الصبيان، ثم النساء، ونضعُ رأسَ الرَّجُلِ بحذاء وَسَطِ الأُنثى, فإنْ عَكَسَ وَجَعَلَ النساءَ مما يلي الإِمامَ والرِّجال مِن خَلفِهنَّ فإنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّ هذا الترتيبَ على سبيلِ الأفضليَّةِ لا على سبيلِ الوجوبِ.
قوله: "ومن لم يقف معه إلا كافر" .شرعَ المؤلِّفُ في ذِكْرِ المنفردِ حُكماً، بعد أنْ ذَكَرَ المنفردَ حِسًّا فقال: "ومَن لم يقف..." إلخ، أي: لو أنَّ رَجُلاً وَقَفَ خلفَ الصَّفِّ ومعه كافر فهو فَذٌّ، أي: منفردٌ حُكماً؛ لأنَّ اصطفافَ الكافرِ معه كعدمِهِ؛ لأنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، فلا تَصِحُّ مصافتُه. وهذا مع العِلم، ولكن إذا كان يَجهلُ أنَّ الواقف معه كافرٌ فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، وفي هذا نَظَرٌ، بل المُتعيِّنُ أنَّه إذا وَقَفَ معه كافرٌ لا يعلمُ بكفرِه، فإنَّ صلاتَه صحيحةٌ، وأما إذا عَلِمَ بكفرِه فالمذهبُ أنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ؛ لأنه فَذٌّ، وعلى القولِ الذي رجَّحنا، نقول: إنَّه إذا كان الصَّفُّ تامًّا فصلاتُه صحيحةٌ، لأنَّ صلاةَ الفَذِّ خلفَ الصَّفِّ مع تمامِهِ صحيحةٌ ، أما إذا لم يكن تامًّا وقد عَلِمَ بكفرِه فصلاتُه باطلةٌ.
قوله: "أو امرأة" أي: لم يقفْ معه إلا امرأةٌ فهو فَذٌّ، لأنَّ المرأةَ ليست مِن أهلِ المُصافَّةِ للرِّجالِ، فإنْ وقفتْ امرأةٌ مع رَجُلين، فهل تَصِحُّ صلاتُهما وصلاتُها؟ الجواب: نعم، الصَّلاةُ صحيحةٌ، ولا سيما مع الضَّرورةِ كما يحدثُ ذلك في أيام مواسم الحَجِّ في المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النبويِّ، ولكن في هذه الحالِ إذا أحسست بشيءٍ مِن قُربِ المرأةِ منك وَجَبَ عليك الانفصال.(1/373)
مسألة: إذا كانت المرأةُ أمامَ الرَّجُلِ. مثاله: أن يكون صَفُّ رِجالٍ خلفَ صَفِّ نساءٍ فتصِحُّ الصَّلاةُ، ولهذا قال الفقهاء: "صَفٌّ تامٌّ مِن نساءٍ لا يمنعُ اقتداءَ مَن خلفِهنّ مِن الرِّجالِ".
قوله: "أو من علم حدثه أحدهما" أي: الواقف والموقوف معه، مثاله: دَخَلَ رَجُلان المسجدَ فوجدا الصَّفَّ الأولَ تامَّاً فقاما خلفَ الصَّفِّ، وأحدُهما مُحدثٌ يعلمُ حَدَثَ نفسِه، والآخرُ على طهارةٍ ولا يعلمُ أنَّ صاحبَه مُحدثٌ، فالصَّلاةُ على كلامِ المؤلِّفِ غيرُ صحيحةٍ. ولكن؛ الصحيحُ في هذه المسألة: أن الثاني الذي ليس بمحدثٍ صلاته صحيحة؛ إذا كان لا يعلم بحدثِ صاحبِه، لكن لو عَلِمَ أن صاحبَه مُحدثٌ فهو فَذٌّ .
قوله: "أو صبي في فرض ففذ" أي: ومَن لم يقفْ معه إلا صبيٌّ في فَرْضٍ فهو فَذٌّ. والمرادُ بالصبيِّ هنا: مَن لم يَبلغْ.
وقوله: "في فرض" خَرَجَ به ما لو وَقَفَ معه الصَّبيُّ في نَفْلٍ, ( وهذا ما قرره المؤلف ). والرَّاجحُ: أنَّ مَن وَقَفَ معه صبيٌّ فليس فَذَّاً لا في الفريضة ولا في النَّفْلِ، وصلاتُه صحيحةٌ.
قوله: "ومَن وَجَدَ فرجة دخلها" "الفرجة" هي الخَلَلُ في الصَّفِّ، أي: مكاناً ليس فيه أحدٌ. وقوله: دخلها أي: وَجَب عليه دخولها؛ إذا لم يكن معه أحدٌ يَصفُّ معه، فإنْ كان معه أحد يصف معه، فإن كان واحداً، قاما جميعاً خلف الصف، وإن كانا اثنين فأكثر دخل في الفرجة. وإذا وَجَدَ فُرجةً قد تهيَّأ لها شخصٌ ليدخلَها، فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنه يدخلُها، ويكون التفريط مِن المتخلِّفِ عنها، وهذا يقعُ كثيراً فتأتي مثلاً فتجدُ في الصَّفِّ الأول فُرجةً؛ لكن خلفَها شخصٌ يتنفَّلُ وتنفُّلُه خلفَها يقتضي أنه متهيِّئٌ لدخولِها فلك أن تتقدَّمَ فيها. وهذا الذي هو ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ حَقٌّ لا شَكَّ فيه، ولكن إذا خشيتَ فِتنةً أو عداوةً أو بغضاءً فاتركها.(1/374)
قوله: "وإلا عن يمين الإِمام" . أي: إذا لم يَجدْ فُرجةً فإنَّه يقفُ عن يمينِ الإِمامِ , هكذا مُقتضى كلامِ المؤلِّفِ . ( ونحن ) نرى: أنَّ وقوفَ أحدٍ إلى جانبِ الإِمامِ في مثل هذه الصُّورة مِن البِدَعِ التي لم تَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم. نعم؛ إذا كان لا يوجدُ مكان في المسجد إلا مقدار صَفَّين، الصَّفُّ الأول فيه الإِمامُ، والصَّفُّ الثاني فيه المأمومون، ودَخَلَ رَجُلٌ ولم يجد مكاناً إلا يمين الإِمام، فهنا نقول: هذا محلُّ ضرورة، ولا بأس أنْ يقفَ إلى جَنْبِ الإِمامِ.
فإذا قلنا بأنَّه لا يقفُ عن يمينِ الإِمامِ؛ فماذا يعملُ؟ فالجواب: أنه يصلِّي خلفَ الصَّفِّ وحدَه، وأنَّ صلاتَه صحيحةٌ على القول الرَّاجحِ.
قوله: "فإن لم يمكنه فله أن ينبه مَن يقوم معه" أي: إذا لم يمكنه أن يتقدَّم إلى الإِمام ويصلِّي إلى جانبه، مثل: أن يكون الإِمامُ في مكانٍ ضيِّقٍ كطاقِ القِبْلةِ أي: المِحْراب فلا يمكن أنْ يصفَّ فيه أكثرُ مِن واحدٍ، فهنا: لا يتمكَّن أن يقفَ عن يمينِ الإِمامِ.
"فله" أي: لهذا الرَّجُلِ أن يُنبِّه مَن يقومُ معه، فيقول: يا فلان تأخَّرْ جزاك الله خيراً لِتُصلِّيَ معي، ولكن يُكره أن يجذِبَه بدون أن ينبِّهه. وهل يلزم المُنَبَّه أن يتأخَّر مع هذا الرَّجُلِ؟ قالوا: يلزمه أنْ يتأخَّر معه مِن أجل أن يصحِّحَ صلاةَ صاحبِه. ( هذا تقرير المؤلف ). والصَّحيحُ ( كما سبق ): أنَّه يصلِّي خلفَ الصَّفِّ منفرداً متابعاً للإِمامِ .(1/375)
قوله: "فإن صلّى فذاً ركعة لم تصح, وإن ركع فذاً ثم دخل في الصف, أو وقف معه آخر قبل سجود الإمام صحت" .ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يكون ذلك لعُذرٍ أو لغير عُذرٍ. لكن؛ المذهبُ في هذه المسألة خِلافُ ما مشى عليه المؤلِّفُ، وهو: أنه إنْ كان لغيرِ عُذرٍ فَرَفَع الإِمامُ مِن الركوع قبل أنْ تزولَ فَذِّيَّتُه فصلاتُه غيرُ صحيحةٌ، وإنْ زالت فَذِّيَّتُه قبل الرَّفْعِ مِن الركوعِ فصلاتُه صحيحة، هذا إذا كان لغير عُذرٍ، أما إذا كان لعُذر فهو كما قال المؤلِّفُ: العبرةُ بسجودِ الإِمامِ. والصَّحيحُ: أنه إذا كان لعُذرٍ فصلاتُه صحيحةٌ.
فصل
قوله: "يصح اقتداء المأموم بالإِمام في المسجد, وإن لم يره ولا من وراءه إذا سمع التكبير" أي: يصِحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإِمامِ في المسجد الواحد ولو كانت بينهما مسافاتٍ ، وسواء رأى الإِمامَ والمأمومين أو لم يرَه. يسمعِ التكبير إما منه أو ممن يبلِّغُ عنه. فإن كان خارجه فيقول المؤلِّفُ:
قوله: "وكذا خارجه إن رأى الإِمام أو المأمومين" أي: وكذا يصحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإِمامِ إذا كان خارجَ المسجدِ بشرطِ أنْ يَرى الإِمامَ أو المأمومين، إما في كل الصلاة أو في بعضها مع سماع التكبير. وظاهرُ كلام المؤلِّفِ : أنَّه لا يُشترط اتِّصالُ الصُّفوفِ، وما ذكر المؤلف هو المذهب. والقول الثاني: وهو الذي مشى عليه صاحبُ "المقنع": أنَّه لا بُدَّ مِن اتِّصالِ الصُّفوفِ، وأنَّه لا يَصِحُّ اقتداءُ مَن كان خارجَ المسجدِ إلا إذا كانت الصُّفوفُ متَّصلةً ، فإنْ لم تكن متَّصِلة فإنَّ الصَّلاة لا تَصِحُّ.وهذا القولُ هو الصَّحيح. فإذا امتلأ المسجدُ واتَّصلتِ الصُّفوف وصَلَّى النَّاسُ بالأسواقِ وعلى عتبة الدَّكاكين فلا بأس به.
قوله: "وتصح خلف إمام عالٍ عنهم" أي: عن المأمومين.(1/376)
قوله: "ويُكره إذا كان العلوُّ ذِراعاً فأكثر" .أي: يُكره إذا كان الإِمامُ عالياً على المأموم ذِراعاً فأكثر. ( وهذا احد القولين في المسألة ). والقول الثاني: أنَّه لا يُكره علوُّ الإِمامِ مطلقاً. وقيَّدَ بعضُ العلماءِ هذه المسألةَ بما إذا كان الإِمامُ غيرَ مُنفردٍ بمكانِه، فإذا كان معه أحدٌ فإنه لا يُكره؛ ولو زادَ على الذِّراع؛ لأنَّ الإِمامَ لم ينفردْ بمكانِه، وهذا لا شَكَّ أنَّه قولٌ وجيهٌ؛ لأنه إنِ انفردَ الإِمامُ بمكانٍ؛ والمأمومُ بمكانٍ آخر؛ فأين صلاةُ الجماعةِ والاجتماع؟
مسألة: لو كان المأمومُ في مكان أعلى فلا يُكره، فإذا كان الإِمامُ هو الذي في الأسفل، كأن يكون في الخَلوة مثلاً، وفيه أناسٌ يصلُّون فوقَه فلا حَرَجَ ولا كراهة.
قوله: "كإمامته في الطاق" أي: كما يُكره دخول الإِمامِ في الطَّاق، والمراد بالطَّاقِ: طاقُ القِبْلة الذي يُسمَّى "المِحراب"، فيُكره؛ لآثارٍ وَرَدت عن الصحابة ؛ ولأنه إذا دَخَلَ في الطَّاق استتر عن بعض المأمومين فلا يَرَونه لو أخطأ في القيام أو الرُّكوع أو السُّجود فلهذا يُكره، ولكن إذا كان لحاجة مثل: أن تكون الجماعةُ كثيرةً؛ واحتاج الإِمامُ إلى أن يتقدَّمَ حتى يكون في الطَّاقِ فإنه لا بأس به. أما إذا كان الإِمامُ في باب الطَّاقِ، ولم يدخل فيه، ولم يتغيَّب عن النَّاس، وكان محلُّ سجودِه في الطَّاق، فلا بأس به.
ويمكن أن يُؤخذ مِن كلام المؤلِّف: أنَّ هذا الطَّاق الذي هو المِحراب ليس بمكروه وهو كذلك، فاتخاذ المحراب ليس بمكروه، وإن كان بعضُ العلماء استحبَّه؛ لما فيه مِن الدلالة على القِبْلة، وعلى مكانِ الإِمامِ. وبعضُهم كَرِهَه، وقال: إنَّه غيرُ معروف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم. والصَّحيحُ: أنَّه مباحٌ، فلا نأمرُ به ولا ننهى عنه، والقول بأنه مستحبٌّ أقربُ إلى الصَّوابِ مِن القول بأنه مكروه.(1/377)
قوله: "وتطوعه موضع المكتوبة" أي: يكره تطوُّع الإِمام في موضع المكتوبة، أي: في المكان الذي صلَّى فيه المكتوبةَ.وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يتطوَّع في هذا المكان قبل الصَّلاة أو بعدَها، وهذا غير مراد بل المراد بعد الصلاة. أمَّا المأموم؛ فإنه لا يُكره له أن يتطوَّع في موضع المكتوبة . لكن؛ ذكروا أنَّ الأفضلَ أن يَفْصِلَ بين الفرضِ وسُنَّتِهِ بكلامٍ أو انتقال مِن موضعه .
قوله: "إلا من حاجة". مثال الحاجة: أن يريدَ الإِمامُ أن يتطوَّعَ لكن وَجَدَ الصُّفوفَ كلَّها تامَّةً ليس فيها مكان ولا يتيسَّر أن يصلِّي في بيتِه أو في مكانٍ آخر، فحينئذٍ يكون محتاجاً إلى أن يتطوَّع في موضع المكتوبة.
قوله: "وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة" أي: يُكره للإِمام أنْ يُطيلَ قعودَه بعد السَّلام مستقبلَ القِبْلة، بل يخفِّف، ويجلسَ بقَدْرِ ما يقول: "أستغفرُ الله - ثلاث مرات - اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ ومنك السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ" ثم ينصرفُ: هذه هي السُّنَّةُ. وابتداءُ الانصرافِ مِن اليسار أو مِن اليمين كُلُّ ذلك وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "فإن كان ثَمَّ نساء لبث قليلاًًًً؛ لينصرفن" .أي: ( إن كان ) في المسجدِ نساءٌ, لبث ( الإمام ) مستقبلَ القِبْلة قليلاً؛ حتى ينصرف النساء قبل الرِّجال. وذلك لأن الرِّجالَ إذا انصرفوا قبلَ انصرافِ النِّساءِ لَزِمَ مِن هذا اختلاطُ الرِّجالِ بالنِّساءِ، وهذا مِن أسبابِ الفتنة.
قوله: "يكره وقوفهم بين السواري " أي وقوفُ المأمومين. (و) السواري: أي: الأعمدة.(1/378)
قوله: "إذا قطعن الصفوف" اشترط المؤلِّفُ للكراهةِ أن تقطع الصفوف.ومقدار القطع؟ قيَّده بعضُهم بثلاثة أذرع، فقال: إذا كانت السَّاريةُ ثلاثةَ أذرعٍ فإنها تقطع الصَّفَّ، وما دونها لا يقطعُ الصَّفُّ. وقال بعضُ العلماء: بمقدار قيام ثلاثة رِجالٍ،ومقدار قيامٍ ثلاثة رجال أقل مِن ثلاثةِ أذرع، وقيل: المعتبر العُرف وهوظاهر كلام المؤلِّفِ،وأما السَّواري التي دون ذلك فهي صغيرة لا تقطعُ الصُّفوفَ، ولا سيَّما إذا تباعدَ ما بينها. وعلى هذا؛ فلا يُكره الوقوفُ بينها، ومتى صارت السَّواري على حَدٍّ يُكره الوقوفُ بينها فإنَّ ذلك مشروطٌ بعدمِ الحاجةِ، فإنْ احتيجَ إلى ذلك بأن كانت الجماعةُ كثيرة والمسجدُ ضيقاً فإن ذلك لا بأس به من أجلِ الحاجةِ.
فصل
قوله: "يعذر بترك جمعة وجماعة مريض" هذا نوعٌ مِن الأعذارِ. والمراد به: المَرض الذي يَلحق المريضَ منه مشقَّة لو ذَهَبَ يصلِّي وهذا هو النَّوعُ الأول.
قوله: "ومدافع أحد الأخبثين" هذا نوعٌ ثان يُعذر فيه بتركِ الجُمعة والجَماعة.
و"مدافع" تَدلُّ على أنَّ الإِنسانَ يتكلَّفُ دَفْعَ أحد الأخبثين. والأخبثان: هما البولُ والغائطُ، ويَلحقُ بهما الرِّيحُ.
قوله: "ومن بحضرة طعام محتاج إليه" هذا نوعٌ ثالثٌ فيُعذر بتَرْكِ جُمُعَةٍ وجماعةٍ مَن كان بحضْرَةِ طعامٍ، أي: حَضَرَ عنده طعامٌ وهو محتاجٌ إليه، لكن بشرط أن يكون متمكِّناً مِن تناولِه. ولا بُدَّ أيضاً مِن قيد آخر، وهو أنْ لا يجعلَ ذلك عادةً بحيث لا يُقَدَّم العشاءُ إلا إذا قاربت إقامةُ الصَّلاةِ، لأنه إذا اتَّخذَ هذا عادةً فقد تَعمَّدَ أن يَدَعَ الصَّلاةَ، لكن إذا حصلَ هذا بغير اتِّخاذِه عادةً فإنه يبدأ بالطَّعامِ الذي حَضَرَ، سواءٌ كان عشاء أم غداء.
وهل الأكلُ بمقدارِ ما تنكسِرُ نهمتُك، أو لك أنْ تشبعَ؟ نقول: لك أنْ تشبعَ(1/379)
قوله: "وخائف من ضياع ماله، أو فواته، أو ضرر فيه" هذا نوعٌ رابعٌ مما يُعذر فيه بتَرْكِ الجُمعةِ والجماعةِ، أي: إذا كان عنده مال يَخشى إذا ذَهَبَ عنه أن يُسرقَ، أو معه دابةٌ يَخشى لو ذهبَ للصَّلاةِ أن تنفلتَ الدَّابةُ وتضيع، فهو في هذه الحال معذورٌ في تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ؛ لأنَّه لو ذَهَبَ وصَلَّى فإن قلبَه سيكون منشغلاً بهذا المال الذي يَخافُ ضياعه.
وكذلك إذا كان يَخشى مِن فواتِه بأن يكون قد أضاعَ دابَّته، وقيل له: إنَّ دابَّتك في المكان الفلاني؛ وحضرتِ الصَّلاةُ، وخَشيَ إنْ ذهب يُصلِّي الجُمعةَ أو الجماعةَ أنْ تذهبَ الدَّابةُ عن المكان الذي قيل إنَّها فيه، فهذا خائفٌ مِن فواتِه، فله أنْ يتركَ الصَّلاةَ، ويذهب إلى مالِه ليدرِكَه. ومِن ذلك أيضاً: لو كان يخشى مِن ضَررٍ فيه، كإنسان وَضَعَ الخُبزَ بالتنورِ، فأُقيمت الصَّلاةُ، فإنْ ذهبَ يُصلِّي احترقَ الخبزُ؛ فله أن يَدَعَ صلاةَ الجماعة مِن أجلِ أن لا يفوتَ مالُه بالاحتراق.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين المالِ الخطير والمال الصَّغيرِ الذي لا يُعتبر شيئاً؛ لأنه أطلق فقال: "مِن ضياع ماله" وقد يُقال: إنَّه يُفرَّقُ بين المالِ الخطير الذي له شأن، وبين المال القليل في صلاة الجُمعةِ خاصَّة؛ لأنَّ صلاةَ الجُمعة إذا فاتت فيها الجماعةُ لا تُعادُ وإنَّما يُصلَّى بدلها ظُهراً، وغير الجُمعةِ إذا فاتت فيها الجماعةُ يصلِّيها كما هي.
قوله: "أو موت قريبه" هذا نوعٌ خامسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، أنْ يخشى مِن موتِ قريبِه وهو غيرُ حاضرٍ، أي: أنَّه في سياق الموتِ فيخشى أن يموت وهو غيرُ حاضرٍ وأحبَّ أنْ يبقى عندَه ليلقِّنه الشَّهادةَ، وما أشبه ذلك، فهذا عُذر.(1/380)
قوله: "أو على نفسه من ضرر" هذا نوعٌ سادسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرِكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، وهو: أن يَخشى على نفسِه مِن الأمور التي ذكرها المؤلِّفِ، مِن ضَررٍ بأن كان عند بيتِه كلبٌ عقورٌ، وخَافَ إنْ خَرَجَ أنْ يعقِره الكلبُ، فله أنْ يصلِّيَ في بيتِه ولا حَرَجَ عليه.
وقوله: "أو سلطان" يعني: إِذا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ مثل: أنْ يطلبَه ويبحث عنه أميرٌ ظالمٌ له، وخافَ إن خَرَجَ أن يمسكَه ويحبسَه أو يغرِّمه مالاً أو يؤذيه، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّ في ذلك ضرراً عليه، أما إذا كان السلطانُ يأخذُه بحقٍّ فليس له أن يتخلَّفَ عن الجماعةِ ولا الجُمُعةِ، لأنَّه إذا تخلَّفَ أسقط حقّين: حَقَّ الله في الجماعةِ والجُمُعةِ، والحَقَّ الذي يطلبه به السلطانُ.
قوله: "أو ملازمة غريم ولا شيء معه" هذا نوعٌ سابعٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ: بأن كان له غريمٌ يطالبُه ويلازِمُه، وليس عنده فلوسٌ، فهذا عُذْرٌ؛ وذلك لما يلحَقَه مِن الأذيَّةِ لملازمةِ الغريمِ له، فإنْ كان معه شيءٌ يستطيع أن يوفي به فليس له الحَقُّ في تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّه إذا تركهما في هذه الحال أسقطَ حَقَّين: حَقَّ اللهِ في الجماعة والجُمُعةِ، وحَقَّ الآدميِّ في الوفاءِ.
مسألة: إذا كان عليه دينٌ مؤجَّلٌ، لكن غريمه لازَمه فهل له أن يتخلَّفَ؟ الجواب: ينظر؛ فإن كانت السُّلطةُ قويةٌ بحيث لو اشتكاه على السُّلطة لمنعته منه، فهو غيرُ معذورٍ؛ لأنَّ له الحَقُّ أن يُقدِّمَ الشَّكوى إلى السُّلطةِ، أما إذا كانت السُّلطةُ ليست قويةً، أو أنها تحابي الرَّجُلَ فلا تمنعه مِن ملازمةِ غريمه، فهذا عُذرٌ بلا شَكٍّ.(1/381)
قوله: "أو من فوات رفقة" هذا نوعٌ ثامنٌ من أعذار تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ، إذا كان يخشى من فوات الرُّفْقةِ، ولا فَرْقَ بين أن يكون السَّفرُ سفرَ طاعةٍ أو سفراً مباحاً.
قوله: "أو غلبة نعاس" هذا نوعٌ تاسعٌ من أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة؛ إذا غلبه النُّعاسُ فإنه يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ. مثال ذلك: رجل متعبٌ بسبب عَمَلٍ أو سَفَرٍ فأخذه فله أن ينامَ حتى يأخذَ ما يزولُ به النُّعاسُ ثم يُصلِّي براحةٍ.
قوله: "أو أذى بمطر أو وحل" هذا نوعٌ عاشرٌ مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ. فإذا خافَ الأذى بمطرٍ أو وَحْلٍ، أي: إذا كانت السَّماءُ تمطرُ، وإذا خَرَجَ للجُمُعةِ أو الجماعةِ تأذَّى بالمطرِ فهو معذورٌ.
والأذيَّة بالمطرِ أن يتأذَّى في بَلِّ ثيابه أو ببرودة الجَوِّ، أو ما أشبه ذلك، وكذلك لو خاف التأذِّي بوَحْلٍ، وكان النَّاسُ في الأول يعانون مِن الوحلِ؛ لأن الأسواقَ طين تربصُ مع المطر فيحصُلُ فيها الوَحْلُ والزَّلَقُ، فيتعبُ الإِنسانُ في الحضور إلى المسجدِ، فإذا حصلَ هذا فهو معذورٌ،
وأما في وقتنا الحاضرِ فإن الوَحْلَ لا يحصُل به تأذٍّ لأنَّ الأسواقَ مزفَّتة، وليس فيها طين، وغاية ما هنالك أن تجدَ في بعض المواضع المنخفضة مطراً متجمِّعاً، وهذا لا يتأذَّى به الإِنسانُ لا بثيابه ولا بقدميه، فالعُذرُ في مثل هذه الحال إنما يكون بنزولِ المطرِ فإذا توقَّفَ المطرُ فلا عُذر، لكن في بعض القُرى التي لم تُزفَّت يكون العُذرُ موجوداً، ولهذا كان منادي الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي في الليلةِ الباردةِ أو المطيرة: ألا صَلُّوا في الرِّحالِ" .
وفُهِمَ مِن قوله: "أو أذًى بمطرٍ" أنه إذا لم يتأذَّ به بأن كان مطراً خفيفاً فإنَّه لا عُذر له، بل يجب عليه الحضورُ، وما أصابه مِن المشقَّةِ اليسيرةِ فإنه يُثابُ عليها.(1/382)
قوله: "وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة" هذا نوعٌ حادي عشر مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، وهو الرِّيحُ، بشروط:
الأول: أن تكون الرِّيحُ باردةً؛ لأنَّ الرِّيحَ السَّاخنةَ ليس فيها أذًى ولا مشقَّة.
الثاني: كونها شديدةً؛ لأنَّ الرِّيحَ الخفيفةَ لا مشقَّةَ فيها ولا أذًى، ولو كانت باردةً، فإذا كانت الرِّياحُ باردةً وشديدةً فهي عُذرٌ بلا شَكٍّ؛ لأنَّها تؤلم أشدَّ مِن ألم المطرِ.
الثالث: أن تكونَ في ليلةٍ مظلمةٍ: وهذا الشرطُ ليس عليه دليلٌ . والصحيح: أنه إذا وُجِدت ريحٌ باردةٌ شديدةٌ تشُقُّ على النَّاسِ فإنَّه عُذر في تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعة، وهو أَولى مِن العُذرِ للتأذِّي مِن المطر، ويَعرفُ ذلك مَن قاساه.
مسألة: هل يُعذرُ الإِنسانُ بتطويل الإِمامِ؟ الجواب: يُعذرُ بتطويلِ الإِمامِ إذا كان طولاً زائداً عن السُّنَّةِ، وإذا لم يوجد مسجدٌ آخر سَقَطَ عنه وجوبُ الجَماعة.
مسألة: هل يُعذرُ بسرعة الإِمام؟ الجواب: أنَّ هذا مِن بابِ أَولى أن يكون عُذراً مِن تطويلِ الإِمامِ، فإذا كان إمامُ المسجدِ يُسْرِعُ إسراعاً لا يتمكَّنُ به الإِنسانُ مِن فِعْلِ الواجبِ، فإنَّه معذورٌ بتَرْكِ الجماعةِ في هذا المسجدِ، لكن؛ إن وُجِدَ مسجدٌ آخرٌ تُقامُ فيه الجماعةُ وجبت عليه الجماعةُ في المسجدِ الثاني.
مسألة: إذا كان الإِمامُ فاسقاً بحَلْقِ لحيتِه، أو شُرْبِ الدُّخَّان، أو إسبالِ ثوب، فهل هذا عُذر في تَرْكِ الجماعةِ؟ الجواب: إنْ قلنا بأنَّ الصَّلاةَ خلفَه لا تَصِحُّ كما هو المذهب فهو عُذرٌ، وأما إذا قلنا بصحَّةِ الصَّلاةِ خلفَه وهو الصَّحيح فإنَّ ذلك ليس بعُذرٍ.
مسألة: إذا كان الإِنسانُ مجرماً، وخافَ إن خَرَجَ أن تمسِكَه الشرطةُ، فهل هو عُذرٌ؟ الجواب: ليس بعُذرٍ؛ لأنَّه حَقٌّ عليه، أما إذا كان مظلوماً فإنَّه عُذرٌ.(1/383)
مسألة: إذا كان في طريقِه إلى المسجدِ منكراتٌ كتبرُّجِ النِّساءِ، وشُرْبِ الخَمْر، وشُرْبِ الدُّخَّان، وما أشبه ذلك، فهل هذا عُذر؟ الجواب: ليس بعذر فيخرجُ، وينهى عن المنكرِ ما استطاع، فإن انتهى النَّاسُ فله ولهم، وإن لم ينتهوا فله وعليهم.
مسألة: إذا طرأت هذه الأعذارُ في أثناءِ الصَّلاةِ، فمثلاً: في أثناءِ الصَّلاةِ أصابه مدافعةُ الأخبثين؛ فله أنْ ينفردَ ويتمَّ صلاتَه إلا إذا كان لا يستفيدُ بانفرادِه شيئاً، بمعنى أن الإِمام يخفِّفُ تخفيفاً بقَدْرِ الواجبِ، ففي هذه الحال لو انفردَ لم يستفدْ شيئاً؛ إذ لا يمكن أن يخفِّفَ أكثر مِن تخفيفِ الإِمامِ. وهل له أن يقطعَ الصَّلاة؟
الجواب: نعم، له أنْ يقطعَ الصَّلاةَ؛ إذا كان لا يمكنه أن يكمِلها على الوجه المطلوبِ منه، إلا إذا كان لا يستفيدُ مِن قطعِها شيئاً؛ فإنه لا يقطعها، مثاله: لو سمعَ الغريمَ يدعوه في أثناءِ الصَّلاةِ، ففي هذه الحال لو انصرفَ لأمسكَه، فلا يستفيد بقطعِ الصَّلاةِ شيئاً؛ فلا يقطعها.(1/384)
مسألة: هل هذه الأعذارُ عُذرٌ في إخراج الصَّلاةِ عن وقتِها؟ الجواب: ليست عُذراً، فعلى الإِنسان أن يصلِّيها في الوقت على أيِّ حالٍ كانت، إلا أنَّ بعضَ أهلِ العِلم قال: إنَّ مدافعةَ الأخبثين عُذرٌ في إخراجِ الصَّلاةِ عن وقتِها؛ وذلك لأنَّ حَبْسَ الأخبثينِ، يكون به ضررٌ على الإِنسانِ، وبعضُ النَّاسِ أيضاً يَحسُّ إذا حبس الأخبثين، ولا سيما البول بخفقان شديدٍ في القلب فيخشى على نفسه منه، ولكننا نقول: إذا كانت هذه الأعذارُ في الصَّلاة الأُولى التي تُجمع لما بعدَها، فإن هذه الأعذار تُبيحُ الجَمْعَ، وهذه فائدةٌ مهمَّةٌ، فالأعذارُ التي تُبيحُ تَرْكَ الجُمُعةِ والجَماعةِ تُبيحُ الجَمْعَ. وحينئذٍ إذا حصلت لك في وقتِ الصَّلاةِ الأُولى فتنوي الجَمْعَ، وتؤخِّرُ الصَّلاةَ إلى وقتِ الثانيةِ؛ لعمومِ حديث عبد الله بن عبَّاس "جَمَعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ بين الظُّهرِ والعصرِ، وبين المغربِ والعشاءِ مِن غير خوفٍ ولا مطرٍ، قالوا: ماذا أرادَ بذلك؟ قال: أرادَ أن لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ" أي: أنْ لا يَلحقها الحَرَجُ في تَرْكِ الجَمْعِ.
مسألة: الآكلُ للبصلِ؛ هل يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؟ وهل يجوزُ له أنْ يأكلَ البصلَ أم لا؟ الجواب: إنْ قَصَدَ بأكلِ البصلِ أنْ لا يُصلِّيَ مع الجماعةِ فهذا حرامٌ ويأثمُ بتَرْكِ الجمعة والجماعة، أما إذا قَصَدَ بأكلِهِ البصلَ التمتُّعَ به وأنَّه يشتهيه، فليس بحرامٍ. وأما بالنسبة لحضُورِه المسجدَ؛ فلا يحضُرُ، لا لأنه معذورٌ، بل دفعاً لأذيَّتِهِ.(1/385)
مسألة: إذا كان فيه بَخْرٌ، أي: رائحةٌ منتنةٌ في الفَمِ، أو في الأنفِ أو غيرهما تؤذي المصلِّين، فإنَّه لا يحضرُ دفعاً لأذيَّتِه، لكن هذا ليس كآكلِ البصلِ؛ لأنَّ آكلَ البصلِ فَعَلَ ما يتأذَّى به النَّاسُ باختيارِه، وهذا ليس باختيارِه، وقد نقول: إنَّ هذا الرَّجُلَ يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ؛ لأنَّه تخلَّفَ بغير اختيارِه فهو معذورٌ. وقد نقول: إنه لا يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ؛ لكنه لا يأثمُ، كما أنَّ الحائضَ تتركُ الصَّلاةَ بأمره اللهِ ومع ذلك لا يُكتب لها أجرُ الصَّلاةِ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ تَرْكَها للصَّلاةِ نقصاً في دينِها .
مسألة: مَن شَرِبَ دُخَّاناً وفيه رائحةٌ مزعجةٌ تؤذي النَّاسَ، فإنَّه لا يَحِلُّ له أنْ يؤذيهم، وهذا لعلَّه يكون فيه فائدةٌ، وهي أنَّ هذا الرَّجُلَ الذي يشربُ الدُّخَّانَ لما رأى نفسَه محروماً مِن صلاةِ الجماعةِ يكون سبباً في توبته منه وهذه مصلحة.
مسألة: مَن فيه جروحٌ منتنةٌ، وهذا في الزَّمنِ الماضي؛ لعدم وجودِ المستشفيات، فله أن يتخلَّفَ عن الجُمُعةِ والجَماعةِ، ولكن لا نقول: إنه عُذرٌ كعُذرٍ المريض وشبهه، إلا إذا كان يتأخَّرُ عن صلاةِ الجماعةِ خوفاً مِن ازديادِ ألمِ الجُرحِ، لأنَّ الرَّوائحَ أحياناً تؤثِّرُ على الجُروحِ وتزيدها وَجَعاً، فهذا يكون معذوراً، ويدخل في قسم المريض.
باب أهل الأعذار
قوله: "تلزم المريض الصلاة" .أي: الصَّلاة المفروضةُِ.
وقوله: "قائماً" أي: واقفاً، وظاهره: أنه ولو كان مثل الرَّاكعِ، أو كان معتمداً على عصا أو جدارٍ أو عمودٍ أو إنسانٍ، فمتى أمكنه أن يكون قائماً وَجَبَ عليه على أيِّ صِفةٍ كان. ولكن؛ لا يجزئ القيامُ باعتمادٍ تامٍ مع القدرةِ على عدمِه، والاعتمادُ التامُّ هو الذي لو أُزيل العُمدةُ لسقط المعتمدُ.
قوله: "فإن لم يستطع" ، أي: إن لم يكن في طوعِهِ القيامُ، وذلك بأن يعجزَ عنه فإنَّه يصلِّي قاعداً.(1/386)
وقوله: "فإن لم يستطع" ظاهره: أنه لا يُبيحُ القعودَ إلا العجزُ، وأما المشقَّةُ فلا تُبيح القعودَ. ولكن؛ الصَّحيحُ: أنَّ المشقَّةَ تُبيحُ القعودَ، فإذا شَقَّ عليه القيامُ صلَّى قاعداً. وضَّابطُ للمشقَّةِ: هو ما زالَ به الخشوع؛ والخشوعُ هو: حضورُ القلبِ والطُّمأنينةُ، فإذا كان إذا قامَ قَلِقَ قلقاً عظيماً ولم يطمئنَّ، وتجده يتمنَّى أن يصلِ إلى آخر الفاتحةِ ليركعَ مِن شدَّةِ تحمُّلهِ، فهذا قد شَقَّ عليه القيامُ فيصلي قاعداً.
وقوله: "فقاعداً" أي: جالساً، ولكن؛ كيف يجلسُ؟ يجلس متربِّعاً على أليتيه، يكفُّ ساقيه إلى فخذيه. والتربُّع سُنَّةٌ، فلو صَلَّى مفترشاً، فلا بأسَ، ولو صَلَّى محتبياً فلا بأس. وإذا كان في حالِ الرُّكوعِ قال بعضُهم: إنه يكون مفترِشاً، والصَّحيح: أنه يكون متربِّعاً.
قوله: "فإن عجز فعلى جنبه " .وأي الجنبين يكون عليه، نقول: هو مخيَّرٌ على الجَنْبِ الأيمن أو على الأيسر. والأفضل:ُ أن يفعلَ ما هو أيسرُ له، فإن كان الأيسرُ أن يكون على جَنْبِهِ الأيسر فهو أفضل، وإن كان بالعكس فهو أفضلُ، فإن تساوى الجنبان فالجنب الأيمن أفضل.
قوله: "فإن صلى" أي: المريض.
قوله: "مستلقياً" أي: على ظهره.
قوله: "ورجلاه إلى القبلة صح" أي: صَحَّ هذا الفعلُ، أي: مع قدرته على الجنب، لكنه خِلافُ السُّنَّةِ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنه يَصِحُّ مع القُدرة على الجَنْبِ. والقول الثاني: أنه لا يَصِحُّ مع القُدرةِ على الجَنْبِ, وهذا القول هو الرَّاجحُ.(1/387)
فصار ترتيبُ صلاةِ المريضِ كما يلي: يصلِّي قائماً، فإنْ لم يستطعْ فقاعداً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ، فإنْ لم يستطع فمستلقياً ورِجلاه إلى القِبلةِ، فهذه هي المرتبةُ الرابعةُ على القولِ الرَّاجحِ، أما على كلامِ المؤلِّفِ فإنَّها في مرتبة الصَّلاةِ على الجَنْبِ فتدخلُ في المرتبة الثالثة لكنها مفضولةٌ. والصَّحيحُ: أنَّها مرتبة رابعةٌ مستقلَّةٌ، لا تَصِحُّ إلا عند العجزِ عن المرتبةِ الثالثةِ.
قوله: "ويومئ راكعاً وساجداً, ويخفضه عن الركوع" .قوله: "ويومئ" أي: المريض المصلِّي جالساً راكعاً وساجداً، أي: في حالِ الرُّكوعِ والسُّجودِ ويخفضه، أي: السجود عن الركوع، أي: يجعل السُّجودَ أخفضَ، وهذا فيما إذا عَجَزَ عن السُّجُودِ، أما إذا قَدِرَ عليه فيومئ بالرُّكوعِ ويسجد، هذا إذا كان جالساً.
فإن كان مضطجعاً على الجنبِ فإنَّه يومئ بالرُّكوعِ والسُّجودِ، ولكن كيف الإِيماءُ؟ هل إيماءٌ بالرأسِ إلى الأرضِ بحيث يكون كالملتفت، أو إيماء بالرأس إلى الصدر؟ الجواب: أنه إيماءٌ بالرأسِ إلى الصدرِ؛ لأنَّ الإِيماءَ إلى الأرضِ فيه نوعُ التفاتٍ عن القِبلةِ، بخلاف الإِيماءِ إلى الصدرِ، فإن الاتجاه باقٍ إلى القِبْلة، فيومئُ في حال الاضطجاعِ إلى صَدْرِه قليلاً في الركوع، ويومئُ أكثرَ في السُّجودِ.
قوله: "فإن عجز أومأ بعينه" يعني: إذا صار لا يستطيعُ أنْ يومئَ بالرأسِ فيومئُ بالعينِ، فإذا أرادَ أنْ يركعَ أغمضَ عينيه يسيراً، ثم إذا قال: "سَمِعَ اللهُ لمَن حمِده" فتح عينيه، فإذا سَجَدَ أغمضهما أكثر. والصحيح: أنه لا يومئ بها.(1/388)
وفي هذه المسألة ثلاثةُ أقوال: القول الأول: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ يومئُ بعينِه. (و) القول الثاني: تسقطُ عنه الأفعالُ، من دونِ الأقوالِ. (و) القول الثالث: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، يعني: لا تجبُ عليه الصَّلاةُ أصلاً، وهذا القولُ اختيارُ شيخ الإِسلام ابن تيمية . والرَّاجحُ مِن هذه الأقوال الثلاثة: أنه تسقطُ عنه الأفعالُ فقط؛ لأنها هي التي كان عاجزاً عنها، وأما الأقوالُ فإنَّها لا تسقطُ عنه، لأنه قادرٌ عليها.
فإن عَجَزَ عن القولِ والفعلِ بحيث يكون الرَّجُلُ مشلولاً ولا يتكلَّم، فماذا يصنع؟ الجواب: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، وتبقى النِّيةُ، فينوي أنَّه في صلاةٍ، وينوي القراءةَ، وينوي الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ. هذا هو الرَّاجحُ؛ لأن الصَّلاةَ أقوالٌ وأفعالٌ بنيَّةٍ، فإذا سقطت أقوالُها وأفعالُها بالعجزِ عنها بقيت النِّيةُ. والمذهب في هذه المسألة أصحُّ مِن كلامِ شيخِ الإِسلامِ ابن تيمية ، حيث قالوا: لا تسقطُ الصَّلاةُ ما دام العقلُ ثابتاً، فما دام العقلُ ثابتاً فيجبُ عليه مِن الصَّلاةِ ما يقدِرُ عليه منها.
تنبيه: بعض العامة يقولون: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ أومأَ بالإِصبعِ، فينصب الأصبعَ حالَ القيام ويحنيه قليلاً حالَ الركوعِ ويضمُّه حالَ السُّجودِ ، وهذا لا أصلَ له، ولم تأتِ به السُّنَّةُ، ولم يقلْه أهلُ العِلمِ.
قوله: "فإن قَدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر" إن قَدِرَ المريضُ في أثناءِ الصَّلاةِ على فِعْلٍ كان عاجزاً عنه انتقل إليه. مثاله: رَجُلٌ مريضٌ عَجَزَ عن القيامِ فشرعَ في الصَّلاةِ قاعداً، وفي أثناءِ الصَّلاةِ وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فنقول له: قُمْ, وبالعكس فإذا كان في أول الصَّلاةِ نشيطاً فَشَرَعَ في الصَّلاةِ قائماً، ثم تعبَ فجلسَ، نقول: لا بأسَ ( بذلك ) .
مسألتان:(1/389)
المسألة الأولى: لو أتمَّ قراءةَ الفاتحةِ وهو قائمٌ مِن القعودِ في حالِ نهوضِه فهل يجزئه؟ مثاله: مريضٌ يصلِّي قاعداً، فلما وَصَلَ إلى قوله تعالى: { )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فقام، وفي أثناء قيامه قرأ: { )اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)
المسألة الثانية: لو أتمَّها وهو عاجزٌ عن القيامِ حالَ هبوطِه فهل يجزئه؟ مثاله: إنسانٌ يصلِّي قائماً، وفي أثناء القيامِ لما وَصَلَ إلى قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) تعب فنزلَ، وفي أثناء نزوله قرأ: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }.
قال الفقهاء: أما في المسألة الأُولى فلا تجزئِه. وأما في المسألة الثانية فتجزئه. ولكن؛ لو قيل: إنَّ قولَه تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] يشمَلُ الصُّورةَ الأُولى؛ لأنَّ الرَّجُلَ الذي قَدِرَ في أثناء الجلوسِ على القيامِ، نهوضُه هذا هو غايةُ قدرتِه، فإذا كان نهوضُه غايةَ قدرتِه، فقد قرأ الفاتحةَ في الحال التي هي قدرتُه فتجزئه، وهذا أقربُ ، ولكن احتياطاً لهذا الأمر نقول: إذا قدرتَ على القيامِ فاسكت لا تقرأ حتى تستتمَّ قائماً ثم أكمل.(1/390)
قوله: "وإن قدر على قيام وقعود، دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً، وبسجود قاعداً" أي: إنْ قَدِرَ المريضُ على القيامِ، لكن لا يستطيع الركوعَ، إما لمرضٍ في ظهرِه، وإما لوجعٍ في رأسِه، وإما لعمليةٍ في عينه، أو لغير ذلك، ففي هذه الحال نقول له: صَلِّ قائماً وأومئ بالرُّكوعِ قائماً. وكذلك إذا كان يستطيعُ أنْ يجلسَ؛ لكن لا يستطيع أن يسجدَ نقول: اجلسْ وأومئْ بالسُّجودِ، وهذا يحتاجُ الإِنسانُ إليه في الطائرةِ إذا كان السفرُ طويلاً وحان وقتُ الصَّلاةِ، وليس في الطائرةِ مكان مخصَّصٌ للصَّلاةِ، فإنه يصلِّي في مكانِه قائماً؛ بدون اعتماد إذا صارت الطائرةُ مستويةً، وليس فيها اهتزازٌ وإلا فيتمسَّكُ بالكرسي الذي أمامَه، لكن يومئ بالرُّكوعِ قَدْرَ ما يمكن. والظاهر: أنه لا يستطيع السُّجودَ حسب الطائرات التي نعرفُ، فنقول: اجلسْ على الكرسيِّ، ثم أومئْ إيماءً بالسُّجودِ. فمَن لم يقدِرْ على الرُّكوعِ أومأ به قائماً، ومَن لم يقدِرْ على السُّجودِ أومأ به جالساً.
مسألة: إذا كان لا يستطيعُ السُّجودَ على الجبهة فقط؛ لأنَّ فيها جروحاً لا يتمكَّنُ أن يمسَّ بها الأرض، لكن يقدِرُ باليدين وبالركبتين فماذا يصنع؟
الجواب: نأخذ بالقاعدة: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] فيضعُ يديه على الأرضِ ويدنو مِن الأرضِ بقَدْرِ استطاعتِه.وأما قولُ مَن قال مِن العلماءِ: إنَّه إذا عَجَزَ عن السُّجودِ بالجبهة لم يلزمه بغيرِها، فهذا قول ضعيفٌ. ولو فَرَضْنا أنه لا يستطيعُ أن يسجدَ أبداً، بمعنى: لا يستطيعُ أن يحني ظهرَه إطلاقاً فحينئذ لا يلزمه أن يضعَ يديه على الأرضِ؛ لأنه لا يقرب مِن هيئةِ السُّجودِ، أما لو كان يستطيعُ أنْ يدنوَ مِن الأرضِ حتى يكون كهيئة السَّاجدِ، فهنا يجب عليه أنْ يسجدَ، ويُقرِّبَ جبهتَه مِن الأرضِ ما استطاعَ.(1/391)
مسألة: رَجُلٌ مريضٌ يقول: إنْ ذهبتُ إلى المسجدِ لم أستطعْ القيامَ؛ لأني أَصِلُ إلى المسجدِ وأنا متعبٌ فلا أستطيعُ القيامَ، وإن صلَّيتُ في بيتي صلَّيت قائماً؛ لأني لم أتعبْ ولم تحصُلْ عليَّ مشقَّةٌ. وأيضاً: ربَّما يطوِّلُ الإِمامُ تطويلاً يشقُّ عليَّ، وفي بيتي أصلِّي كما شئتُ، فهل نقول: يجبُ عليك أن تذهبَ إلى المسجدِ ثم تصلِّي ما استطعتَ. أو نقول: يجبُ عليك أن تصلِّي في بيتِك؛ لأنَّ القيامَ رُكنٌ وصلاةُ الجماعةِ واجبة، أو نقول: تخيَّر؛ لأنَّه تعارضَ واجبان؟
( الجواب ) : للعلماء فيها ثلاثة أقوال: فمِن العلماءِ مَن قال: إنه يُخيَّر لتعارض الواجبين، واجب الجماعة، وواجب القيام وليس أحدهما أولى بالترجيح مِن الآخر. ومنهم مَن قال: يقدِّم القيامَ، فيصلِّي في بيتِه قائماً؛ لأنَّ القيامَ رُكْنٌ بالاتفاقِ. ومنهم مَن قال: يجب أن يحضر إلى المسجدِ، ثم يصلِّي قائماً إن استطاعَ، وإلا صَلَّى جالساً؛ لأنَّه مأمورٌ بإجابة النِّداء، والنِّداءُ سابقٌ على الصَّلاةِ فيأتي بالسَّابق فإذا وَصَلَ إلى المسجدِ، فإن قَدِرَ صَلَّى قائماً وإلا فلا، وأيضاً: ربَّما يَظنُّ أنه إذا ذهبَ إلى المسجدِ لا يستطيعُ القيامَ، ثم يمدُّه الله بنشاطٍ ويستطيعُ القيامَ. والذي أميلُ إليه ولكن ليس ميلاً كبيراً هو أنَّه يجب عليه حضورُ المسجد, فإن قَدِرَ على القيام فذاك، وإنْ لم يقدِرْ فقد قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] .
قوله: "ولمريض الصلاة مستلقياً" .يعني: مستلقياً على ظهرِه, واللام هنا للإِباحة.
قوله: "مع القدرة على القيام" أي: هو قادر أن يقومَ.
قوله: "بقول طبيب مسلم" اشترط المؤلِّف لجواز الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام أنْ يكون عن قولِ طبيبٍ مسلمٍ فهذان شرطان: أن يكون طبيباً، وأن يكون مسلماً.(1/392)
وعُلِمَ مِن كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لو أمرَه بذلك غيرُ طبيب، يعني: أمرَه إنسانٌ عادي مِن الناس، قال له: أظنُّ أنك إذا قمت تصلِّي قائماً فإن ذلك يضرُّك. فلا يرجع إلى قوله، ولكن هذا ليس على إطلاقه، لأنه إذا عَلِمَ بالتجربة أن مثل هذا المرض يضرُّ المريضَ إذا صلَّى قائماً فإنه يعمل بقول شخص مجرِّبٍ.
وعُلم من كلامه أيضاً أنه لو أمره بذلك غير مسلم لم يأخذ بقوله لأنَّ هذه أمانة، وغير المسلم ليس بأمين. وذهب بعضُ أهلِ العِلم إلى اشتراطِ الثقةِ فقط دون الإِسلام، وقال: متى كان الطبيبُ ثقةً عُمِلَ بقولِه وإنْ لم يكن مسلماً.وهذا هو القول الراجح.
قوله: "ولا تصح صلاته قاعداً في السفينة وهو قادر على القيام" أي: الفريضة، لأن النافلة تصح قاعداً مع القدرة على القيام في السفينة وغيرها، وذلك لأن السفينة ليست كالراحلة، لأن السفينة يمكن للإِنسان أن يصلّي فيها قائماً ويركع ويسجد لاتساع المكان، فإذا كان يمكنه وجب عليه أن يصلّي قائماً، وإذا كان لا يمكنه إما لكون الرياح عاصفة والسفينة غير مستقرة فإنه يصلّي جالساً، وإما لكون سقف السفينة قصيراً فإنه يصلّي جالساً، ولكن سبق أنه إذا أمكن أن يقف ولو كراكع وجب عليه .
قوله: "ويصح الفرض على الراحلة" يعني: البعير أو الحمار أو الفرس أو نحو ذلك.
قوله: "خشية التأذي" أطلق المؤلف فيعم التأذي بأي شيء سواء بوحل أو مطر أو غير ذلك، فالمهم أنه يتأذى لو صلّى على الأرض ولا يستقر في صلاته فله أن يصلّي على الراحلة، وقيد المؤلف الصلاة بكونها فرضاً، لأن النفل على الراحلة جائز، سواء خشي التأذي أم لم يخش.
وقوله: "يصح الفرض على الراحلة خشية التأذي" لم يذكر المؤلف شيئاً عن استقبال القبلة، وعن الركوع وعن السجود، فنقول: يجب أن يستقبل القبلة في جميع الصلاة؛ لأنه قادر عليه إذ يمكنه أن يتوقف في السير ويوجه الراحلة إلى القبلة ويصلِّي.(1/393)
أما الركوع والسجود فيومئ بالركوع والسجود، لأنه لا يستطيع، والقيام أولى، هذا على الرواحل التي يعرفها العلماء رحمهم الله، وهي الإِبل والحمير والخيل والبغال وشبهها، لكن الراحلة اليوم تختلف فالراحلة اليوم سيارات، وبعض السيارات كالسفن يستطيع الإِنسان أن يصلي فيها قائماً راكعاً ساجداً متجهاً إلى القبلة، فهل يقال: إنه لا يصلّي على هذه الرواحل إلا بشرط التأذي بالنزول؟ أو نقول إذا أمكنه أن يأتي بالواجب فيها فله أن يصلي؟ الجواب: الثاني، لو كانت السيارة أتوبيساً كبيراً، وفيها مكان واسع للصلاة والإِنسان يستطيع أن يصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فلا حرج عليه أن يصلّي؛ لأن هذه السيارات كالسفينة تماماً، لكن الغالب أنها صغار، أو نقل جماعي كله كراسي، لكن إن أمكن فهو كغيره، وفي الطائرات إذا كان يمكنه أن يصلّي قائماً وجب أن يصلّي إلى القبلة قائماً ويركع ويسجد إلى القبلة، وإذا لم يمكنه فإن كانت الطائرة تصل إلى المطار قبل خروج الوقت فإنه ينتظر حتى ينزل إلى الأرض، فإن كان لا يمكن أن تصل إلى المطار قبل خروج الوقت، فإن كانت هذه الصلاة مما تجمع إلى ما بعدها كالظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء، فإنه ينتظر حتى يهبط على الأرض فيصلّيهما جمع تأخير، وإذا كانت الصلاة لا تجمع لما بعدها صلّى على الطائرة على حسب حاله، ولكن إذا قدرنا أن الطائرة فيها مكان متسع يتسع للإِنسان ليصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فهل يجوز أن يصلِّي الصلاة قبل أن يهبط إلى المطار؟ فالجواب: يجوز. واستدلَّ في "الرَّوض" بقول يعلى بن مُرَّةَ: أنَّهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَر، فانتهوا إلى مَضِيقٍ، فحضرتِ الصَّلاةُ، فَمُطِرُوا، السَّماءُ من فَوقِهِم، والبِلَّةُ من أسفلَ منهم، فأذَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلتِه، وأقامَ، فتقدَّمَ على راحلتِه فصلَّى بهم، يُومِئُ إيماءً، يجعلُ السجودَ(1/394)
أخفضَ من الركوعِ.رواه أحمد والترمذي وقال: العمل عليه عند أهل العلم. وفي هذا الحديث أنهم يصلّون جماعة، وعلى هذا فيتقدم الإِمام عليهم حتى في الرواحل؛ لأن هذا هو السنّة في موقف الإِمام.
قال في "الروض": "وكذا إن خاف انقطاعاً عن رفقة في نزوله، أو على نفسه، أو عجزاً عن ركوب إن نزل وعليه الاستقبال وما يقدر عليه". أي: إذا خاف انقطاعاً عن رفقته يصلِّي على الراحلة ولو مع الأمن، لأن الإِنسان إذا انقطع عن رفقته فلربما يضيع، وربما يحصُل له مرض أو نوم أو ما أشبه ذلك فيتضرر، فإذا قال: إن نزلت على الأرض وبركت البعير وصليت فاتت الرفقة، وعجزت عن اللحاق بهم، وإن صلّيت على بعيري فإني أدركهم نقول له: صلِّ على البعير .
قوله: "لا للمرض" .يعني: لا تصح الفريضة على الراحلة للمرض، لأن المريض يمكنه أن ينيخ الراحلة وينزل على الأرض ويصلِّي، ولكن إذا علمنا أن هذا المريض لو نزل لم يستطع الركوب؛ لأنه ليس عنده من يركبه، وهذا قد يقع فيصلِّي على الراحلة، لأن هذا أعظم من التأذي بالمطر وأخطر.
فقول المؤلف: "لا للمرض" ليس على إطلاقه بل نقول: لا للمرض إذا كان يمكنه أن ينزل ثم يركب على الراحلة، أما إذا كان لا يمكنه فله أن يصلِّي على الراحلة للمرض، لأن ذلك أشد من الوحل وشبهه.
فصل
لما ذكر المؤلف العذر بالمرض أعقبه بذكر العذر بالسفر فقال: "من سافر سفراً مباحاً" .قوله: "سفراً مباحاً" هذا هو الشرط الأول للقصر, وخرج به المحرم والمكروه، وعلى هذا فلو سافر الإِنسان سفراً محرماً لم يبح له القصر. وقال بعض العلماء: لا قصر إلا في سفر الطاعة كالحج والعمرة. وذهب الإِمام أبو حنيفة وشيخ الإِسلام ابن تيمية وجماعة كثيرة من العلماء؛ إلى أنه لا يشترط الإِباحة لجواز القصر وأن الإِنسان يجوز أن يقصر حتى في السفر المحرم، وهذا القول قول قوي.(1/395)
قوله: "أربعة برد" هذا هو الشرط الثاني من شروط القصر. والبرد: جمع بريد، والبريد نصف يوم، فتكون أربعة برد يومين. وقدّروه بثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلاً، هذا هو مسافة القصر فهو مقدر بالمسافة، والميل المعروف = كيلو وستمائة متر. وأما في الزمن فقالوا: إن مسيرته يومان قاصدان بسير الإِبل المحملة، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء. والصحيح: أنه لا حد للسفر بالمسافة، وإنما يرجع في ذلك إلى العرف.
مسألة: إن أشكل هل هذا سفر عرفاً أو لا؟ نقول: الاحتياط أن تتم؛ لأن الأصل هو الإِقامة حتى نتحقق أنه يسمى سفراً.
قوله: "سنّ له قصر رباعيةٍ ركعتين" .أفادنا المؤلف بقوله: "من سافر" أنه لا يمكن قصر بدون سفر حتى لو كان الإِنسان في أشد المرض، فإنه لا يقصر.فالمرض والشغل والتعب لا يمكن أن يكونا سبباً للقصر.
وقوله: "سنّ له قصر رباعية" أفادنا المؤلف أن القصر سنّة، وهذا موضع خلاف، فعلى ما قال المؤلف إن القصر سنّة لو أتم لم يأثم، ولا يوصف بأن عمله مكروه. وقال بعض أهل العلم: إن الإِتمام مكروه وهذا القول اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية ، وهو قول قوي، بل لعله أقوى الأقوال. وقال بعض أهل العلم: إن القصر واجب، وأن من أتم فهو آثم. والذي يترجح لي وليس ترجحاً كبيراً هو أن الإِتمام مكروه وليس بحرام، وأن من أتم فإنه لا يكون عاصياً.
قوله: "إذا فارق عامر قريته" .المفارقة: ليس المراد بها أن يغيب عن قريته؛ لأنها ربما لا تغيب عن نظره إلا بعد مسافة طويلة، وقد ذكر أن زرقاء اليمامة تبصر من مسيرة ثلاثة أيام، بل المراد بالمفارقة: المفارقة البدنية، لا المفارقة البصرية، أي: أن يتجاوز البيوت، ولو بمقدار ذراع، فإذا خرج من مسامتة البيوت ولو بمقدار ذراع فإنه يعتبر مفارقاً.(1/396)
وقوله: "عامر قريته" لم يقل بيوت قريته؛ لأنه قد يكون هناك بيوت قديمة في أطراف البلد هجرت وتركت ولم تسكن، فهذه لا عبرة بها، بل العبرة بالعامر من القرية، فإذا قدر أن هذه القرية كانت معمورة كلها، ثم نزح أهلها إلى جانب آخر وهجرت البيوت من هذا الجانب فلم يبق فيها سكان فالعبرة بالعامر، فإن كان في القرية بيوت عامرة ثم بيوت خربة ثم بيوت عامرة، فالعبرة بمفارقة البيوت العامرة الثانية وإن كان يتخللها بيوت غير عامرة.
وقوله: "إذا فارق عامر قريته" أضافها إلى نفسه ليفيد أن المراد قريته التي يسكنها، فلو فرض أن هناك قريتين متجاورتين، ولو لم يكن بينهما إلا ذراع أو أقل، فإن العبرة بمفارقة قريته هو، وإن لم يفارق القرية الثانية الملاصقة أو المجاورة.
قوله: "أو خيام قومه" أي: إذا كانوا يسكنون الخيام فالعبرة بمفارقة الخيام، فإذا فارق الخيام حل له القصر، وعلم من كلامه : أنه لا يجوز أن يقصر ما دام في قريته ولو كان عازماً على السفر ولو كان مرتحلاً، ولو كان راكباً يمشي بين البيوت، فإنه لا يقصر حتى يبرز.
مسألة: إذا كان في القصيم وخرج إلى المطار، هل يقصر في المطار؟ الجواب: نعم يقصر؛ لأنه فارق عامر قريته فجميع القرى التي حول المطار منفصلة عنه، أما من كان من سكان المطار؛ فإنه لا يقصر في المطار، لأنه لم يفارق عامر قريته.
مسألة: وهل له أن يفطر في المطار؟ الجواب: نعم له أن يفطر، فلو أراد أن يسافر في رمضان وخرج وبقي في المطار ينتظر الطائرة، وأقصد بذلك مطار القصيم فإنه يفطر، لأنه فارق عامر قريته، ولو قدر أن الطائرة لم تقلع ولم يحصل السفر ذلك اليوم، هل يعيد الصلاة التي كان قصرها؟ الجواب: لا، لأنه أتى بها بأمر الله موافقة لشرعه، فتكون مقبولة.
مسألة: وهل يلزمه إذا لم تأتِ الطائرة ورجع إلى بلده بعد أن أفطر الإِمساك؟ فيه قولان لأهل العلم. والصحيح: أنه لا يلزمه.(1/397)
مسألة: رجل سافر من أجل أن يترخص فهل يترخص؟ الجواب: لا، لأن السفر حرام حينئذ، ولأنه يعاقب بنقيض قصده فكل من أراد التحيُّل على إسقاط الواجب أو فعل المحرم عوقب بنقيض قصده فلا يسقط عنه الواجب ولا يحل له المحرم.
مسألة: إنسان خرج من بلده يتمشّى فهبت رياح أضلته عن الطريق، فصار تائهاً يطلب الطريق، ولم يهتدِ إليه، فهل يقصر الصلاة؟. الجواب: لا يقصر، لأنه لم ينو مسافة القصر وقد يهتدي إلى الطريق قبل بلوغ المسافة، وكذلك من خرج لطلب بعير شارد لا يقصر؛ لأنه لم ينوِ المسافة. ولكن الصحيح: أنه يقصر لأنه على سفر.
قوله: "وإن أحرم حضراً ثم سافر" .إلخ تضمن كلامه عدة مسائل يجب فيها الإِتمام:
المسألة الأولى: أحرم ثم سافر، يعني دخل في الصلاة، فالدخول في الصلاة يعتبر إحراماً، ولهذا نسمي التكبيرة الأولى تكبيرة الإِحرام، فهذا رجل كبر للإِحرام وهو مقيم ثم سافر، كما لو كان في سفينة تجري في نهر يشق البلد وكانت راسية فكبّر للصلاة، ثم مشت السفينة ففارقت البلد وهو في أثناء الصلاة فيلزمه أن يتم؛ لأنه ابتداء الصلاة في حال يلزمه إتمامها، فلزمه الإِتمام.
قوله: "أو في سفر ثم أقام" .هذه هي المسألة الثانية: أي: أحرم للصلاة في سفر ثم أقام، عكس المسألة الأولى، كما لو كانت السفينة مقبلة على البلد والنهر قد شق البلد فكبّر للإِحرام وهو في السفينة قبل أن يدخل البلد، ثم دخل البلد فيلزمه الإِتمام هذا هو المذهب. والراجح: أنه لا يلزمه الإِتمام لأنه ابتدأ الصلاة في حال يجوز له فيها القصر فكان له استدامة ذلك ولا دليل بيّناً على وجوب الإِتمام.
قوله << أوذكر صلاة حضر في سفر >> .هذه هي المسألة الثالثة: مثاله: رجل مسافر، وفي أثناء السفر ذكر أنه لم يصل الظهر في الحضر فإنه يصلي أربعاً.(1/398)
قوله: "أو عكسها" .هذه هي المسألة الرابعة: مثال ذلك: رجل وصل إلى بلده ثم ذكر أنه لم يصل الظهر في السفر، فيلزمه أن يصلي أربعاً،.هذا هو المذهب، ولكن القول الراجح خلافه، وأنه إذا ذكر صلاة سفر في حضر صلاها قصراً.
قوله: "أو ائتم بمقيم" .هذه هي المسألة الخامسة : إذا ائتم المسافر بمقيم فإنه يتم.
مسألة: إذا أدرك المسافر من صلاة الإِمام ركعة في الصلاة الرباعية فبكم يأتي؟ الجواب: يأتي بثلاث، وإن أدرك ركعتين أتى بركعتين، وإن أدرك ثلاثاً أتى بركعة، وإن أدرك التشهد أتى بأربع؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وما فاتكم فأتموا".
قوله: "أو بمن يشك فيه". هذه هي المسألة السادسة: إذا ائتم بمن يشك فيه هل هو مسافر أو مقيم، وهذا إنما يكون في محل يكثر فيه المسافرون، كالمطار مثلاً، ففيه مقيمون، وفيه مسافرون أحياناً يكونون بعلامة وأحياناً بلا علامة، فإن كانوا بعلامة فالأمر ظاهر، وإن لم تكن علامة لزمه الإِتمام للشك في جواز القصر. وظاهر كلامه لزوم الإِتمام وإن تبين أن الإِمام مسافر. والقول الراجح: عندي أنه لا يلزمه الإِتمام في هذه الصورة لأن الأصل في صلاة المسافر القصر، ولا يلزمه الإِتمام خلف الإِمام إلا إذا أتم الإِمام وهنا لم يتم الإِمام.
ولو قال حينما رأى إماماً يصلي بالناس في مكان يجمع بين مسافرين ومقيمين: إن أتمّ إمامي أتممت وإن قصر قصرت، صح وإن كان معلقاً؛ لأن هذا التعليق يطابق الواقع، فإن إمامه إن قصر ففرضه هو القصر، وإن أتم ففرضه الإِتمام، وليس هذا من باب الشك، وإنما هو من باب تعليق الفعل بأسبابه، وسبب الإِتمام هنا إتمام الإِمام والقصر هو الأصل.(1/399)
قوله: "أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها". هذه هي المسألة السابعة: يعني: أن المسافر أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، كما إذا ائتمّ بمقيم فقد أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، فإذا فسدت بحدث أو غيره ثم أعادها فإنه يلزمه الإِتمام، لأن هذه الصلاة إعادة لصلاة يجب إتمامها، فيلزمه أن يصلي أربعاً. ولكن هذا غير مسلم به؛ وذلك لأن الصلاة الأولى التي شرع فيها إنما يلزمه إتمامها تبعاً لإِمامه لا من حيث الأصل، وبعد أن فسدت زالت التبعية فلا يلزمه إلا صلاة مقصورة، وهذا التعليل أقوى من التعليل الذي ذكروه رحمهم الله، فيكون هذا أرجح إن لم يمنع منه إجماع، أي: أنه إذا أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها في حال يجوز له القصر، فإنه لا يلزمه الإِتمام.
مسألة: لو دخل وقت الصلاة وهو في بلده ثم سافر فإنه يقصر، ولو دخل وقت الصلاة وهو في السفر ثم دخل بلده فإنه يتم اعتباراً بحال فعل الصلاة.
قوله: "أو لم ينوِ القصر عند إحرامها". هذه هي المسألة الثامنة: إذا لم ينو القصر عند إحرامها، يعني: دخل في صلاة الظهر وهو مسافر، لكن نوى صلاة الظهر، ولم يستحضر تلك الساعة أن ينويها ركعتين، فهنا يقول المؤلف: يلزمه أن يتم، وهذه المسألة لها ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن ينوي الإِتمام.
الصورة الثانية: أن ينوي القصر.
الصورة الثالثة: أن ينسى فلا ينوي قصراً ولا إتماماً.(1/400)
فإذا نوى الإِتمام لزمه الإِتمام على رأي من يرى جواز إتمام المسافر. وإذا نوى القصر قصر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" . وإذا لم ينوِ القصر ولا الإِتمام؛ فالمذهب أنه يتم ، وعللوا ذلك : أن الأصل وجوب الإِتمام ، فإذا لم ينوِ القصر لزمه الأصل ؛ وهو الإِتمام . والقول الثاني في المسألة:أنه يقصر وإن لم ينوِ القصر، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر، وهذا يقع كثيراً يكبّر الإِنسان في الصلاة الرباعية، وهو مسافر ولا يخطر على باله القصر، لكن بعدما يكبّر ويقرأ الفاتحة أو يركع أو ما أشبه ذلك يذكر أنه مسافر فينوي القصر، فعلى المذهب يجب عليه الإِتمام. والصحيح: أنه لا يلزمه الإِتمام، بل يقصر؛ لأنه الأصل، وكما أن المقيم لا يلزمه نية الإِتمام، كذا المسافر لا يلزمه نية القصر.
قوله: "أو شك في نيته". هذه هي المسألة التاسعة: إذا شك في نية القصر، يعني: شك هل نوى القصر أم لم ينوِ؟ فيلزمه الإِتمام، وهذه المسألة غير المسألة الأولى، فالأولى جزم بأنه لم ينوِ، والثانية شك هل نوى أم لا؟ فالمذهب أنه يلزمه الإِتمام. والصحيح: أنه يقصر ولا يلزمه الإِتمام.
قوله: "أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام". هذه هي المسألة العاشرة: فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أيام في أي مكان كان، سواء نوى الإِقامة في البر أو نوى الإِقامة في البلد، فيلزمه أن يتم.
وهذه المسألة من مسائل الخلاف التي كثرت فيها الأقوال فزادت على عشرين قولاً لأهل العلم، وسبب ذلك أنه ليس فيها دليل فاصل يقطع النزاع، فلهذا اضطربت فيها أقوال أهل العلم، فأقوال المذاهب المتبوعة هي:(1/401)
أولاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله: كما سبق أنه إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام انقطع حكم السفر في حقه ولزمه الإِتمام، لكن لا ينقطع بالنسبة للجمعة؛ لأن الجمعة يشترط فيها الاستيطان، وهذا غير مستوطن، وبناء على هذا القول ينقسم الناس إلى: مسافر، ومستوطن، ومقيم غير مستوطن. فالمسافر أحكام السفر في حقه ثابتة.والمستوطن أحكام الاستيطان في حقه ثابتة، ولا يستثنى من هذا شيء. والمقيم غير المستوطن تثبت في حقه أحكام السفر من وجه وتنتفي من وجه آخر، لكن هذا التقسيم يقول شيخ الإِسلام: إنه ليس عليه دليل لا من الكتاب ولا السنّة.
ثانياً: مذهب الشافعي: إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يلزمه الإِتمام، لكن لا يحسب منها يوم الدخول، ويوم الخروج وعلى هذا تكون الأيام ستة، يوم الدخول، ويوم الخروج، وأربعة أيام بينها.
ثالثاً: مذهب أبي حنيفة: إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يوماً أتم، وإن نوى دونها قصر.
وفيها أيضاً مذاهب أخرى فردية، مثل ما ذهب إليه ابن عباس بأنه إذا نوى إقامة تسعة عشر يوماً قصر، وما زاد فإنه لا يقصر. ولكن إذا رجعنا إلى ما يقتضيه ظاهر الكتاب والسنّة وجدنا أن القول الذي اختاره شيخ الإِسلام هو القول الصحيح، وهو أن المسافر مسافر، سواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو دونها. وعلى هذا فنقول: إن القول الراجح: ما ذهب إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية من أن المسافر مسافر ما لم ينوِ واحداً من أمرين:
1 - الإِقامة المطلقة. 2 - أو الاستيطان.(1/402)
والفرق: أن المستوطن نوى أن يتخذ هذا البلد وطناً، والإِقامة المطلقة أنه يأتي لهذا البلد ويرى أن الحركة فيه كبيرة، أو طلب العلم فيه قوي فينوي الإِقامة مطلقاً بدون أن يقيدها بزمن أو بعمل، لكن نيته أنه مقيم لأن البلد أعجبه إما بكثرة العلم وإما بقوة التجارة أو لأنه إنسان موظف تابع للحكومة وضعته كالسفراء مثلاً، فالأصل في هذا عدم السفر؛ لأنه نوى الإِقامة فنقول: ينقطع حكم السفر في حقه. أما من قيد الإِقامة بعمل ينتهي أو بزمن ينتهي فهذا مسافر، ولا تتخلف أحكام السفر عنه. ولنا في هذا رسالة بيّنّا فيها من اختار هذا القول من العلماء أمثال: شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ محمد رشيد رضا، وعلى كل حال نحن لا نعرف الحق بكثرة الرجال، وإنما نعرف الحق بموافقة الكتاب والسنّة.
قوله: "أو ملاحاً" الملاح قائد السفينة.
قوله: "معه أهله" أي: مصاحبون له.
قوله: "لا ينوي الإِقامة ببلد" يعني: لا ببلد المغادرة، ولا ببلد الوصول، فهذا يجب عليه أن يتم؛ لأن بلده سفينته.
وعلم من قول المؤلف: "معه أهله" أنه لو كان أهله في بلد فإنه مسافر ولو طالت مدته في السفر. وعلم منه أيضاً: أنه لو كان له نية الإِقامة في بلد فإنه يقصر إذا غادره؛ لأنه مسافر، فمثلاً: إذا كان ملاحاً في سفينة وأهله في جدة، لكنه يروح يجوب البحار كالمحيط الهندي والهادي، ويأتي بعد شهر أو شهرين إلى جدة فهذا مسافر؛ لأنه ليس معه أهل، بل له بلد يأوي إليه. وكذلك أيضاً: لو فرض أن الملاح ينوي الإِقامة في بلد فهذا نقول له: إنك مسافر إذا فارقته، لأن لك بلداً معيناً عيّنته للإِقامة.(1/403)
ومثل ذلك أصحاب سيارات الأجرة الذين دائماً في البر نقول: إن كان أهلهم معهم ولا ينوون الإِقامة ببلد فهم غير مسافرين لا يقصرون ولا يفطرون في رمضان، وإن كان لهم أهل في بلد فإنهم إذا غادروا بلد أهلهم فهم مسافرون يفطرون ويقصرون، وكذلك لو لم يكن لهم أهل لكنهم ينوون الإِقامة في بلد يعتبرونه مثواهم ومأواهم، فهم مسافرون حتى يرجعوا إلى البلد الذي نووا أنه مأواهم. فإذا قال قائل: هؤلاء الملاحون أو السائقون لسيارات الأجرة دائماً في سفر، فإذا قلنا: أنتم مسافرون لكم الفطر فمتى يصومون؟ نقول: يمكن أن يصوموا في سفرهم في أيام الشتاء؛ لأنها أيام قصيرة وباردة، فالصوم فيها لا يشق، كذلك لو قدموا إلى بلدهم في رمضان فإنه يلزمهم الصوم ما داموا في بلدهم. فإن قدموا في أثناء اليوم إلى بلدهم ففي لزوم الإِمساك عليهم قولان لأهل العلم، هما روايتان عن الإِمام أحمد . والصحيح: أنه لا يلزمهم الإِمساك، بخلاف من أفطر أول النهار لغير عذر فإنه يلزمه الإِمساك ولا يقول أفسدت صومي فآكل وأشرب، بل نقول: أنت انتهكت حرمة اليوم فيلزمك الإِمساك.
ومثل ذلك أيضاً: لو أن الحائض طهرت في أثناء اليوم من رمضان فإنه لا يلزمها على القول الراجح أن تمسك.
مسألة: من أفطر لإنقاذ معصوم هل يلزمه الإِمساك بقية اليوم كمَن رأى شخصاً غرق في الماء ولا يستطيع أن ينجيه من الغرق إلا إذا أفطر بأكل أو شرب فأفطر ثم أنقذه وأنجاه؟ الجواب: لا يلزمه على القول الراجح؛ لأنه أفطر بسبب مباح. بخلاف الرجل الذي بلغ في أثناء اليوم فإنه يلزمه الإِمساك. والفرق بين هذه المسألة والمسائل التي قبلها: أن المسائل التي قبلها زال فيها المانع، وهذه وجد سبب الوجوب، فإذا وجد سبب الوجوب في أثناء النهار لزمه الإِمساك، كالصغير يبلغ، والمجنون يعقل والكافر يسلم، وفي المسألة خلاف لكن الصحيح: وجوب الإِمساك ولا يقضي اليوم.(1/404)
قوله: "وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما" يعني: رجل في بلد يريد أن يسافر إلى بلد آخر، وللبلد هذا طريقان: أحدهما بعيد، والثاني قريب، أي: أن أحدهما يبلغ المسافة، والآخر لا يبلغها، فسلك أبعدهما فإنه يقصر، لأنه يصدق عليه أنه مسافر سفر قصر، ولكن لو فرض أنه تعمد أن يسلك الطريق الأبعد في رمضان من أجل أن يفطر فهنا نقول له: لا يجوز لك الفطر؛ لأنه يمكنك أن تسلك طريقاً قصيراً بدون فطر، هذا هو الظاهر ومع ذلك ففي النفس من هذا شيء.
قوله: "أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر" . مثاله: سافر إلى العمرة وصلّى بغير وضوء ناسياً، ولما رجع من العمرة سافر إلى المدينة وفي أثناء سفره إلى المدينة ذكر أنه صلّى في سفره للعمرة صلاة بغير وضوء، فنقول: يصلّيها قصراً؛ لأن الصلاة وجبت في السفر أداءً وقضاءً، وكذلك لو نسيها في سفر العمرة، ثم ذكرها في سفر زيارة المدينة فإنه يقصر، لأن هذه الصلاة سفرية أداءً وقضاءً. وإن ذكر صلاة سفر في حضر أو صلاة حضر في سفر فقد سبق الكلام فيها.
وإن ذكر صلاة حضر في حضر فإنه يصلّي أربعاً، وعلى هذا فللمسألة أربع صور:
1 _ ذكر صلاة سفر في سفر، يقصر.
2 _ ذكر صلاة حضر في حضر، يتم.
3 _ ذكر صلاة سفر في حضر، يقصر على الصحيح.
4 _ ذكر صلاة حضر في سفر، يتم.
قوله: "وإن حبس" أي: منع من السفر.
قوله: "ولم ينوِ إقامة" أي: لم ينوِ أن يبقى مدة محددة فإنه يقصر ولو طالت المدة.
وقول المؤلف: "حبس" لم يبيّن نوع الحبس فيشمل: من حبس ظلماً، ومن حبس بحق، ومن حبس بعدو، ومن حبس بمرض، ومن حبس في تغيرات جوية، ومن حبس بخوف على نفسه، فمن منع السفر بأي سبب كان فإنه يقصر.
وقوله: "ولم ينوِ إقامة" هذا شرط لا بد منه، فإن نوى إقامة مطلقة لا إقامة ينتظر بها زوال المانع فإنه يتم.
قوله: "أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة" أي: لم ينوِ إقامة مطلقة.(1/405)
قوله: "قصر أبداً" ولو بقي طول عمره فإنه يقصر، لأنه إنما نوى الإِقامة من أجل هذه الحاجة، ولم ينوِ إقامة مطلقة، وهناك فرق بين شخص ينوي الإِقامة المطلقة وشخص آخر ينوي الإِقامة المقيدة، فالذي ينوي الإِقامة المقيدة لا يعد مستوطناً، والذي ينوي الإِقامة المطلقة يعد مستوطناً.
فالإِقامة المطلقة: أن ينوي أنه مقيم ما لم يوجد سبب يقتضي مغادرته، ومن ذلك سفراء الدول، فلا شك أن الأصل أن إقامتهم مطلقة لا يرتحلون إلا إذا أمروا بذلك، وعلى هذا فيلزمهم الإِتمام، ويلزمهم الصوم في رمضان، ولا يزيدون عن يوم وليلة في مسح الخفين؛ لأن إقامتهم مطلقة، فهم في حكم المستوطنين، وكذلك أيضاً الذين يسافرون إلى بلد يرتزقون فيها هؤلاء إقامتهم مطلقة، لأنهم يقولون: سنبقى ما دام رزقنا مستمراً.
والإِقامة المقيدة: تارة تقيد بزمن، وتارة تقيد بعمل. فالمقيد بزمن سبق لنا أن المشهور من المذهب أنه إذا نوى أكثر من أربعة أيام يتم ودونها يقصر، وكما سبق بيان الخلاف فيها أيضاً . والمقيدة بعمل يقصر فيها أبداً ولو طالت المدة، ومن ذلك لو سافر للعلاج ولا يدري متى ينتهي، فإنه يقصر أبداً حتى لو غلب على ظنه أنه سيطول، لأنه ينتظر هذه الحاجة، وهذا هو عمدة من قال: إنه لا حد للإِقامة؛ لأنهم يقولون: ما دام الحامل له على الإِقامة هي الحاجة، فلا فرق في الحقيقة بين أن يحدد أو لا يحدد، فهو مقيم لشيء ينتظره متى انتهى منه رجع إلى بلده.
وقوله: "قصر أبداً" هذا هو المشهور من المذهب. وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا أقام وانتهت المدة المحددة لانقطاع حكم السفر فإنه يجب عليه الإِتمام، وعليه فإذا أقام لحاجة لا يدري متى تنقضي وانتهت أربعة الأيام لزمه الإِتمام. والأول قول الجمهور حتى إن ابن المنذر حكى الإِجماع عليه وأنه لا يلزمه الإِتمام ما دام ينتظر انتهاء الحاجة.
فصلٌ
قوله: "فصل" يعني: في الجمع بين الصلاتين.(1/406)
قوله: "يجُوزُ الجمع" التعبير بكلمة "يجوز" يحتمل أن يريد المؤلف : أنه لا يمنع.ويحتمل أنه يريد الإِباحة. والمعروف من المذهب أن الجمع جائز، وليس بمستحب، بل إن تركه أفضل، فهو رخصة، وتركه أفضل للخلاف في جوازه، فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز الجمع إلا بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة. والصحيح: أن الجمع سنّة إذا وجد سببه.
قوله: "بين الظهرين, وبين العشاءين في وقت إحداهما ". أي الأولى أو الثانية.
واعلم أنه إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً، فإن شئت فاجمع في وقت الأولى أو في الثانية أو في الوقت الذي بينهما، وأما ظن بعض العامة أنه لا يجمع إلا في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، أو آخر وقت المغرب وأول وقت العشاء فلا أصل له.
قوله: "في سفر قصر" هذا أحد الأسباب المبيحة للجمع، وهو سفر القصر.
وظاهر كلامه أنه يجوز الجمع للمسافر سواء كان نازلاً أم سائراً، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء. فمنهم من يقول: إنه لا يجوز الجمع للمسافر إلا إذا كان سائراً لا إذا كان نازلاً. والقول الثاني: أنه يجوز الجمع للمسافر، سواء كان نازلاً أم سائراً. والصحيح: أن الجمع للمسافر جائز لكنه في حق السائر مستحب وفي حق النازل جائز غير مستحب إن جمع فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل.
قوله: "ولمريض يلحقه بتركه مشقة" أي: يجوز الجمع لمريض يلحقه بترك الجمع مشقة أي تعب وإعياء، أيَّ مرض كان، سواء كان صداعاً في الرأس، أو وجعاً في الظهر، أو في البطن، أو في الجلد، أو في غير ذلك، فمتى لحق المكلف حرج في ترك الجمع جاز له أن يجمع، ولهذا قال المؤلف: "ولمريض يلحقه بتركه مشقة".(1/407)
وفهم من قول المؤلف: أنه لو لم يلحقه مشقة، فإنه لا يجوز له الجمع وهو كذلك. فإذا قال قائل: ما مثال المشقة؟ قلنا: المشقة أن يتأثر بالقيام والقعود إذا فرق الصلاتين، أو كان يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة.. والمشقات متعددة. فحاصل القاعدة فيه: أنه كلما لحق الإِنسان مشقة بترك الجمع جاز له الجمع حضراً وسفراً.
قوله: "وبين العشائين" أي: بين المغرب والعشاء، للأعذار التالية:
الأول: قوله: "لمطر يبل الثياب" يعني: إذا كان هناك مطر يبل الثياب لكثرته وغزارته، فإنه يجوز الجمع بين العشائين، فإن كان مطراً قليلاً لا يبل الثياب فإن الجمع لا يجوز. فإن قيل: ما ضابط البلل؟ فالجواب: هو الذي إذا عصر الثوب تقاطر منه الماء.
الثاني: قوله: "ووحل" الوحل: الزلق والطين؛ فإذا كانت الأسواق قد ربصت من المطر فإنه يجوز الجمع، وإن لم يكن المطر ينزل، وذلك لأن الوحل والطين، يشق على الناس أن يمشوا عليه.
وعلم من قوله: بين العشائين أنه لا يجوز الجمع بين الظهرين لهذه الأسباب وهو المذهب. والراجح أنه جائز لهذه الأسباب وغيرها بين الظهرين والعشائين عند وجود المشقة بترك الجمع، كما يفيده حديث ابن عباس .
الثالث: قوله: "وريح شديدة باردة" اشترط المؤلف شرطين للريح:
1 _ أن تكون شديدة. 2 _ وأن تكون باردة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشترط أن تكون في ليلة مظلمة، بل يجوز الجمع للريح الشديدة الباردة في الليلة المقمرة أيضاً.
فإذا قال قائل: ما هو حد الشدة والبرودة؟ فالجواب على ذلك: أن يقال: المراد بالريح الشديدة ما خرج عن العادة، وأما الريح المعتادة فإنها لا تبيح الجمع، ولو كانت باردة، والمراد بالبرودة ما تشق على الناس.(1/408)
فإن قال قائل: إذا اشتد البرد دون الريح هل يباح الجمع؟ قلنا: لا لأن شدة البرد بدون الريح يمكن أن يتوقاه الإِنسان بكثرة الثياب، لكن إذا كان هناك ريح مع شدة البرد فإنها تدخل في الثياب، ولو كان هناك ريح شديدة بدون برد فلا جمع؛ لأن الرياح الشديدة بدون برد ليس فيها مشقة، لكن لو فرض أن هذه الرياح الشديدة تحمل تراباً يتأثر به الإِنسان ويشق عليه، فإنها تدخل في القاعدة العامة، وهي المشقة، وحينئذٍ يجوز الجمع.
فأسباب الجمع هي: السفر، والمرض، والمطر، والوحل، والريح الشديدة الباردة، ولكن لا تنحصر في هذه الأسباب الخمسة، بل هذه الخمسة التي ذكرها المؤلف كالتمثيل لقاعدة عامة وهي: المشقة، ولهذا يجوز الجمع للمستحاضة بين الظهرين، وبين العشائين لمشقة الوضوء عليها لكل صلاة، ويجوز الجمع أيضاً للإِنسان إذا كان في سفر وكان الماء بعيداً عنه، ويشق عليه أن يذهب إلى الماء ليتوضأ لكل صلاة، حتى وإن قلنا بعدم جواز الجمع في السفر للنازل، وذلك لمشقة الوضوء عليه لكل صلاة.
مسألة: هل من لازم جواز الجمع جواز القصر؟ الجواب: لا، فقد يجوز الجمع ولا يجوز القصر، وقد يجوز القصر ولا يجوز الجمع على رأي من يرى أن الجمع لا يجوز للمسافر النازل فلا تلازم بينهما.
قوله: "ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط" يعني: يجوز الجمع بين العشائين للمطر، ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت سقف. وقال بعض العلماء: إذا كان يصلّي في بيته فإنه لا يجوز أن يجمع لأجل المطر، وكذا إذا كان المسجد طريقه تحت ساباط. والساباط: السقف أي: لو أن الشارع أو السوق الذي يؤدي إلى المسجد طريقه مسقوف بساباط، فإنه لا يجوز له أن يجمع لأنه لا مشقة عليه في الذهاب إلى المسجد. والراجح: أنه يجوز أن يجمع ولو كان طريقه إلى المسجد تحت ساباط لأنه يستفيد الصلاة مع الجماعة. وأما الصلاة في البيت فلها صور:(1/409)
الأولى: أن يكون معذوراً بترك الجماعة لمرض أو مطر ونحوهما. فظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز له الجمع.
الثانية: أن يصلي في بيته بلا عذر وظاهر كلام المؤلف أنها كالأولى.
الثالثة: أن لا يكون يدعو مدعواً لحضور الجماعة كالأنثى فيحتمل أن يكون كلام المؤلف شاملاً لها ويحتمل أن لا يكون شاملاً لها فلا تجمع لأنها ليست من أهل الجماعة.
والراجح: أنه لا يجوز الجمع في هذه الصور الثلاث. فمراد المؤلف في قوله: "ولو صلّى في بيته، أو في مسجد طريقه تحت ساباط"، إذا كان من أهل الجماعة ويصلّي معهم فلا حرج أن يجمع مع الناس؛ لئلا تفوته صلاة الجماعة.
قوله: "والأفضل فعل الأرفق به من تأخير وتقديم" أي: الأفضل لمن يباح له الجمع فعل الأرفق به من تأخير وتقديم، فإن كان التأخير أرفق فليؤخر، وإن كان التقديم أرفق فليقدم.
مسألة: الجمع في المطر هل الأفضل التقديم أو التأخير؟ الأفضل التقديم؛ لأنه أرفق بالناس، ولهذا تجد الناس كلهم في المطر لا يجمعون إلا جمع تقديم. هذا إذا قلنا: إن الجمع للمطر خاص في العشائين. أما إذا قلنا بأنه عام في العشائين والظهرين، فإن الأرفق قد يكون بالتأخير.
قوله: "فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها" إذا جمع في وقت الأولى اشترط ثلاثة شروط:
الشرط الأول: نية الجمع عند إحرامها وهذا مبني على اشتراط نية القصر للمسافر. والصحيح: أنه لا يشترط نية الجمع عند إحرام الأولى، وأن له أن ينوي الجمع ولو بعد سلامه من الأولى، ولو عند إحرامه في الثانية ما دام السبب موجوداً. مثال ذلك: لو أن الإِنسان كان مسافراً وغابت الشمس، ثم شرع في صلاة المغرب بدون نية الجمع، لكن في أثناء الصلاة طرأ عليه أن يجمع فعلى المذهب لا يجوز، وعلى القول الصحيح يجوز، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية . ومثال آخر: لو سلم من صلاة المغرب ثم نزل مطر، يبيح الجمع جاز له الجمع.(1/410)
قوله: "ولا يفرق بينهما إلا بقدر إقامة ووضوء خفيف" هذا هو الشرط الثاني: وهو الموالاة بين الصلاتين ، أي: أن تكون الصلاتان متواليتين لا يفصل بينهما إلا بشيء يسير بمقدار إقامة؛ لأن الإِقامة الثانية لا بد منها، ووضوء خفيف؛ لأن الإِنسان ربما يحتاج إلى الوضوء بين الصلاتين فسومح في ذلك.
قوله: "يبطل براتبة بينهما" أي: يبطل الجمع بصلاة راتبة. بين الصلاة الأولى والثانية، أي: لو جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم، فلما صلّى المغرب صلّى راتبة المغرب، أو فريضة العصر التي نساها أو تطوع، فإنه لا جمع حينئذٍ لوجود الفصل بينهما بصلاة.
مسألة: لو فصل بينهما بفريضة، فبعد أن صلّى المغرب ذكر أنه صلّى العصر بلا وضوء فصلّى العصر، فلا جمع؛ لأنه إذا بطل الجمع بالراتبة التابعة للصلاة المجموعة فبطلانه بصلاة أجنبية من باب أولى. واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنه لا تشترط الموالاة بين المجموعتين .وقد ذكر نصوصاً عن الإِمام أحمد تدل على ما ذهب إليه من أنه لا تشترط الموالاة في الجمع بين الصلاتين تقديماً كما أن الموالاة لا تشترط بالجمع بينهما تأخيراً كما سيأتي، والأحوط : أن لا يجمع إذا لم يوالِ بينهما، ولكن رأي شيخ الإِسلام له قوة.
مسألة: رجل سافر بالطائرة، والمطار خارج البلد، وركب الطائرة، فأخذت دورة فمرت من فوق وهو يصلّي فهل يلزمه الإِتمام؛ لأن الهواء تابع للقرار؟ الجواب: الظاهر لي: أنه لا يلزمه الإِتمام؛ لأن هذا المرور مرور سفر عابر، وليس مرور استقرار وانتهاء سفر، ثم إن المدة في الغالب تكون وجيزة.
قوله: "وأن يكون العذر" إلى آخره أي: العذر المبيح للجمع. وهذا هو الشرط الثالث.(1/411)
قوله: "موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى" أي: افتتاح الصلاتين الأولى والثانية، وعند سلام الأولى، وذلك لأن افتتاح الأولى محل النية وقد سبق أنه يشترط في الجمع نيته عند تكبيرة الإِحرام ، فإذا كان يشترط نية الجمع عند تكبيرة الإِحرام لزم من هذا الشرط أن يشترط وجود العذر عند تكبيرة الإِحرام ، وقد سبق أن القول الصحيح: عدم اشتراط نية الجمع عند تكبيرة الإحرام.
وعلى ذلك لا يشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى، فلو لم ينزل المطر مثلاً إلا في أثناء الصلاة فإنه يصح الجمع على الصحيح، بل لو لم ينزل إلا بعد تمام الصلاة الأولى أي: كانت السماء مغيمة ولم ينزل المطر، وبعد أن انتهت الصلاة الأولى نزل المطر، فالصحيح أن الجمع جائز بناء على هذا القول. وعند شيخ الإِسلام: لا تشترط الموالاة أيضاً كما سبق ؛ وذلك لأن العذر المبيح للجمع إذا وجد جعل الوقتين وقتاً واحداً، فاندمج وقت الثانية في وقت الأولى وصار الإِنسان إذا فعل الأولى في أول الوقت، والثانية في آخر الوقت فلا بأس، وبناء على هذا القول يكون الشرط وجود العذر فقط، فإذا وجد العذر جاز الجمع سواء كان العذر مرضاً أو سفراً أو مطراً أو ريحاً شديدة باردة أو غير ذلك مما يكون في ترك الجمع معه مشقة.(1/412)
بقي الشرط الرابع وهو الترتيب، فيشترط الترتيب بأن يبدأ بالأولى ثم بالثانية . ولكن لو نسي الإِنسان أو جهل أو حضر قوماً يصلّون العشاء وهو قد نوى جمع التأخير، ثم صلّى معهم العشاء ثم المغرب، فهل يسقط الترتيب في هذه الأحوال أو لا يسقط؟ المشهور عند فقهائنا رحمهم الله: أنه لا يسقط، وإن كانوا يسقطونه بالنسيان في قضاء الفوائت ، لكنهم هنا لا يسقطونه، ويجعلون الفرق أن الجمع أداء، والقضاء قضاء، فالأول في وقته والثاني خارج وقته، وبناء على هذا لو أن الإِنسان قدم الثانية على الأولى سهواً أو جهلاً أو لإِدراك الجماعة أو لغير ذلك من الأسباب، فإن الجمع لا يصح فماذا يصنع في هذه الحال؟ الجواب: الصلاة التي صلاها أولاً، لم تصح فرضاً، ويلزمه إعادتها. مثال ذلك: رجل كان ناوياً جمع تأخير، ثم دخل المسجد ووجد ناساً يصلّون العشاء فدخل معهم بنية العشاء، ولما انتهى من العشاء صلّى المغرب، نقول: صلاة العشاء لا تصح؛ لأنه قدمها على المغرب، والترتيب شرط فيصلّي العشاء مرة ثانية والمغرب صحيحة، ومعنى قولنا: لا تصح، أي: لا تصح فرضاً تبرأ به الذمة، ولكنها تكون نفلاً يثاب عليه.
وفيه شرط خامس: أن لا تكون صلاة الجمعة، فإنّه لا يصح أن يجمع إليها العصر. ولكن لو قال قائل: أنا أريد أن أنوي الجمعة ظهراً؛ لأني مسافر وصلاة الظهر في حقي ركعتان يعني على قدر الجمعة؟ فنقول: هذه النية لا تصح على قول من يقول: إنه يشترط اتفاق نية الإِمام والمأموم. أما على القول الراجح: أن نية الإِمام والمأموم لا يضر الاختلاف بينهما فإنه يصح، ولكننا نقول: لا تنوها ظهراً؛ لأنك إذا نويتها ظهراً حرمت نفسك أجر الجمعة وأجر الجمعة أكبر بكثير من أجر الظهر، فكيف تحرم نفسك أجر الجمعة، من أجل الجمع؟ والأمر يسير: اُتْرُك العصر حتى يدخل وقتها ثم صلّها.(1/413)
والصحيح: اشتراط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية. وهل يشترط أن يكون موجوداً إلى انتهاء الثانية؟ الجواب: لا. فلو فرض أن الجمع كان لمطر، وأن المطر استمر إلى أن صلّوا ركعتين من العشاء ثم توقف، ولم يكن هناك وحل؛ لأن الأسواق مفروشة بالزفت، فلا يبطل الجمع؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية، ومثل ذلك: لو أن الإِنسان جمع لمرض وفي أثناء الصلاة الثانية ارتفع عنه المرض، فإن الجمع لا يبطل؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية.
قوله: "وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى" أي: إذا نوى الجمع في وقت الثانية، فيشترط أن ينوي الجمع في وقت الأولى، لأنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر إلا بنية الجمع حيث جاز، فلا بد من نية الجمع قبل خروج وقت الأولى.
قوله: "إن لم يضق عن فعلها" أي: إن لم يضق وقت الأولى عن فعلها، فإن ضاق عن فعلها لم يصح الجمع. فنقول: صلِّ الصلاة الآن حسب ما أدركت من وقتها واستغفر الله عن التأخير، وسيدخل وقت الثانية قبل تمام صلاتك فصلها ولكن لا على أنه جمع، بل على أنه أداء في أول الوقت.(1/414)
قوله: "واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية" أي: يشترط لصحة الجمع أن يستمر العذر إلى دخول الثانية فإن لم يستمر فالجمع حرام. وهذا هو الشرط الثاني لجمع التأخير. مثاله: رجل مسافر نوى جمع التأخير، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى فلا يجوز له أن يجمع الأولى إلى الثانية، لأن العذر انقطع وزال فيجب أن يصلّيها في وقتها، وهذه مسألة تشكل على كثير من الناس، فكثير منهم ينوي جمع التأخير، ويقدم بلده قبل أن يخرج وقت الأولى فلا يصلّيها؛ لأنه نوى الجمع وهذا خطأ، بل الواجب أن يصليها في وقتها فإذا دخل وقت الثانية صلّاها، إلا أن يكون مجهداً يشق عليه انتظار دخول الثانية لاحتياجه إلى النوم مثلاً، فيجوز له الجمع حينئذ للمشقة لا للسفر. ولكن هل يصلّيها أربعاً أو يصلّيها ركعتين؟ الجواب: يصلّيها أربعاً؛ لأن علة القصر السفر وقد زال.
في قوله: "واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية" ولم يذكر الموالاة إشارة إلى عدم اشتراط الموالاة؛ لأن الموالاة في جمع التأخير ليست بشرط فلو أنه جمع جمع تأخير، ودخل وقت الثانية وصلّى الأولى، وبقي ساعة أو ساعتين ثم صلّى الثانية، فالجمع صحيح؛ لأن الموالاة شرط في جمع التقديم، وليست شرطاً في جمع التأخير.وهذا هو المشهور من المذهب. وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة شرط في جمع التأخير كالتقديم. وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة ليست شرطاً لا في التقديم ولا في التأخير، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية.
مسألة: رجل مسافر ونوى جمع التأخير وخرج وقت الأولى، وهو في السفر وقدم البلد في وقت الثانية فله الجمع؛ لأنه سوف يصلّي الأولى ثم يصلّي الثانية، لكن لا يقصر؛ لأنه انتهى مبيح القصر وهو السفر.
فصلٌ(1/415)
قوله: "فصل: وصلاة الخوف" . إلخ، هذا العذر الثالث من الأعذار، فالعذر الأول: السفر، والثاني: المرض ونحوه، والثالث: الخوف، أي: الخوف من العدو أي عدو كان، آدمياً أو سبعاً، مثل: أن يكون في أرض مسبعة فيحتاج إلى صلاة الخوف، لأنه ليس بشرط أن يكون العدو من بني آدم، بل أي عدو كان يخاف الإِنسان على نفسه منه، فإنها تشرع له صلاة الخوف.
قوله: "صحّت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفات كلها جائزة" أي: وردت في السنّة بصفاتٍ وهي ستة أوجه، أو سبعة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول المؤلف: "كلها جائزة" ظاهره: أن كل صفة منها تجوز في أي موضع، ولكن قد نقول: إن هذه الصفات من الصلاة لا يجوز نوع منها إلا في موضعه الذي صلّاها النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ونذكر صفتين منها: الصفة الأولى: ما يوافق ظاهر القرآن، وهي: أن يقسم قائد الجيش جيشه إلى طائفتين، طائفة تصلّي معه، وطائفة أمام العدو، لئلا يهجم، فيصلّي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا قام إلى الثانية أتموا لأنفسهم أي: نووا الانفراد وأتموا لأنفسهم، والإِمام لا يزال قائماً، ثم إذا أتموا لأنفسهم ذهبوا ووقفوا مكان الطائفة الثانية أمام العدو، وجاءت الطائفة الثانية ودخلت مع الإِمام في الركعة الثانية، وفي هذه الحال يطيل الإِمام الركعة الثانية أكثر من الأولى لتدركه الطائفة الثانية، وهذه مستثناة مما سبق في باب صلاة الجماعة : أنه يسنّ تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية، فتدخل الطائفة الثانية مع الإِمام فيصلّي بهم الركعة التي بقيت، ثم يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد قامت هذه الطائفة من السجود رأساً وأكملت الركعة التي بقيت وأدركت الإِمام في التشهد فيسلم بهم.(1/416)
الصفة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة، فإن الإِمام يصفهم صفين ويبتدئ بهم الصلاة جميعاً، ويركع بهم جميعاً ويرفع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف الأول فقط ويبقى الصف الثاني قائماً يحرس، فإذا قام قام معه الصف الأول ثم سجد الصف المؤخر، فإذا قاموا تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم صلّى بهم الركعة الثانية قام بهم جميعاً وركع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف المقدم الذي كان في الركعة الأولى هو المؤخر، فإذا جلس للتشهد سجد الصف المؤخر، فإذا جلسوا للتشهد سلم الإِمام بهم جميعاً، وهذه لا يمكن أن تكون إلا إذا كان العدو في جهة القبلة.
تنبيه: ظاهر كلام المؤلف أن الصفة الأولى جائزة وإن كان العدو في جهة القبلة، ولكن الصحيح: أنها لا تجوز في هذه الحال، وذلك لأن الناس يرتكبون فيها ما لا يجوز بلا ضرورة، لأنهم إذا كان العدو في جهة القبلة فلا ضرورة إلى أن ينقسموا إلى قسمين قسم يصلّي معه وقسم وجاه العدو.
أما بقية الصفات فمذكورة في الكتب المطولة ونحن نقتصر على هاتين الصفتين.
ولكن إذا قال قائل: لو فرض أن الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن تطبيقها في الوقت الحاضر؛ لأن الوسائل الحربية والأسلحة اختلفت؟ فنقول: إذا دعت الضرورة إلى الصلاة في وقت يخاف فيه من العدو، فإنهم يصلّون صلاة أقرب ما تكون إلى الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تتأتى، لقول الله تعالى: {فإتقوا الله ما إستطعتم } [التغابن: 16] .(1/417)
مسألة: إذا اشتد الخوف فهل يجوز أن تؤخر الصلاة عن الوقت؟ في هذا خلاف بين العلماء: فمنهم من يقول: لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، ولو اشتد الخوف، بل يصلّون هاربين وطالبين إلى القبلة، وإلى غيرها يومئون بالركوع والسجود. ومنهم من قال: يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إذا اشتد الخوف، بحيث لا يمكن أن يتدبر الإِنسان ما يقول أو يفعل، أي: إذا كان يمكن أن يتدبر ما يقول أو يفعل في الصلاة فليصل على أي حال.
لكن إذا كانت السهام والرصاص تأتيه من كل جانب ولا يمكن أن يستقر قلبه ولا يدري ما يقول، ففي هذه الحال يجوز تأخير الصلاة، وهذا مبني على "تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في غزوة الأحزاب" ، هل هو منسوخ أو مُحْكَمْ؟ والصحيح: أنه محكم إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك، بمعنى أن الناس لا يقر لهم قرار، وهذا في الحقيقة لا ندركه ونحن في هذا المكان، وإنما يدركه من كان في ميدان المعركة، فلا بأس أن تؤخر الصلاة إلى وقت الصلاة الأخرى، أما إذا كانت صلاة جمع فالمسألة لا إشكال فيها، كتأخير الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء، وأما إذا كانت لا تجمع إلى الأخرى كالعشاء إلى الفجر والفجر إلى الظهر والعصر إلى المغرب، فهذا محل الخلاف.
وذكر في الروض: أنه يشترط لجواز صلاة الخوف أن يكون القتال مباحاً، والقتال المباح: هو قتال الكفار أو قتال المدافعة . أما قتال الهجوم على من لا يحل قتاله فإن ذلك لا يجيز صلاة الخوف، بل نقول لمن قاتل على هذا الوجه: يجب عليك أن تكف عن القتال. والقتال المباح أنواع: قتال الكفار، وقتال المدافعة، وقتال من تركوا صلاة العيد، أو الأذان أو الإِقامة، وغير ذلك من شعائر الإِسلام الظاهرة، وقتال الطائفة المعتدية فيما إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين .(1/418)
قوله: "ويستحب أن يحمل" أفاد أن حمل السلاح في صلاة الخوف مستحب وهذا ما ذهب إليه كثير من أهل العلم. والصحيح: أن حمل السلاح واجب، لأن الله أمر به. قال العلماء: وفي هذه الحال لو فرض أن السلاح متلوث بدم نجس فإنه يجوز حمله للضرورة، ولا إعادة عليه، وهو كذلك.
قوله: "في صلاتها" ، أي: صلاة الخوف.
قوله: "ما يدفع به عن نفسه" يفيد أنه لا يحمل سلاحاً هجومياً، بل يحمل سلاحاً دفاعياً، لأنه مشغول في صلاته عن مهاجمة عدوه، لكنه مأمور أن يتخذ من السلاح الدفاعي ما يدفع به عن نفسه.
قوله: "ولا يشغله" يفهم منه أنه لا يحمل سلاحاً يشغله عن الصلاة، لأنه إذا حمل ما يشغله عن الصلاة زال خشوعه، وأهم شيء في الصلاة الخشوع، فهو لبُّ الصلاة وروحها، فاشترط المؤلف في حمل السلاح شرطين:
1 - أن يكون دفاعياً فقط .
2 - ألّا يشغله .
قوله: "كسيف ونحوه" أي: كالسكين، والرمح القصير، وفي وقتنا كالمسدس.
باب صلاة الجمعة
قوله: " تلزم كل ذكر" ، الضمير يعود على صلاة الجمعة، أي: تلزم صلاة الجمعة كل من اتصف بالشروط الآتية: الأول: كونه ذكراً فخرج به الأنثى والخنثى، فلا تلزمهم صلاة الجمعة.
قوله: "حر" ، هذا هو الشرط الثاني. وضد الحر العبد، والمراد بالعبد المملوك، ولو كان أحمر، أو قبلياً، فالعبد لا تلزمه الجمعة ، وقال بعض العلماء: (إنه) تلزمه الجمعة. وقال (آخرون) : إذا أذن له سيده لزمته؛ لأنه لا عذر له؛ لزوال العلة التي هي سبب منع الوجوب، وإن لم يأذن له لم تلزمه. وهذا القول قول وسط بين قول من يلزمه الجمعة مطلقاً، وقول من لا يلزمه مطلقاً، ووجهه قوي جداً .(1/419)
والعجيب أن الذين قالوا: إن الجمعة لا تجب على العبد قالوا: إن الجماعة تجب عليه، وعندي أنه لو صح حديث طارق أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى العبد لكان عدم وجوب الجماعة من باب أولى؛ لأن الجماعة تكرر خمس مرات، فإذا أسقط عنه ما يجب في الأسبوع مرة فما يجب في اليوم خمس مرات من باب أولى، وإذا أوجبنا عليه الجماعة فالجمعة من باب أولى.
قوله: "مكلف" ، هذا هو الشرط الثالث ، والمكلف عند العلماء من جمع وصفين: أحدهما: البلوغ. والثاني: العقل. ولكن الصغير تصح منه والمجنون لاتصح منه .
قوله: "مسلم" ، هذا هو الشرط الرابع. وضده الكافر، فالكافر لا تجب عليه الجمعة، بل ولا تصح منه.
قوله: "مستوطن" ، هذا هو الشرط الخامس. وضد المستوطن المسافر والمقيم. فالمسافر لا جمعة عليه. أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة، كما لو مرَّ إنسان في السفر ببلد، ودخل فيه ليقيل، ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة. وقالت الظاهرية: إن المسافر تلزمه الجمعة.(1/420)
وبناء على هذا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: مستوطن ، ( و ) مسافر , ( و ) مقيم لا مسافر ولا مستوطن. مثال ذلك: رجل وصل إلى بلد، ونوى أن يقيم فيها أكثر من أربعة أيامٍ، هذا ليس مستوطناً؛ لأنه لم يتخذ هذا البلد وطناً، وليس مسافراً؛ لأنه نوى إقامة تقطع السفر فهو مقيم، فإن أقيمت الجمعة في البلد بأناس مستوطنين لزمته، وإن لم تقم لم تلزمه، وبناء على هذا لو وُجِدَ جماعة مسلمون سافروا إلى بلاد كفر، وهم مائة رجل يريدون أن يدرسوا فيها لمدة خمس سنوات أو ست أو عشر، فإن الجمعة لا تلزمهم، بل ولا تصح منهم لو صلوا جمعة؛ لأنه لا بد من استيطان، وهؤلاء ليسوا بمستوطنين، فلا تصح منهم الجمعة، ولا تلزمهم، لكن لو وجد في هذه القرية أربعون مستوطناً لزمت الجمعة الأربعين، ثم تلزم هؤلاء تبعاً لغيرهم، هذا هو تقرير المذهب؛ وعليه يكون من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام مسافراً من بعض الوجوه غير مسافر من بعض الوجوه فيلزمه إتمام الصلاة، ولا يترخص برخص السفر؛ لانقطاع حكم السفر في حقه، ولا يصح أن يكون إماماً في الجمعة ولا خطيباً فيها ولا يكمل به العدد المشروط، ولكن تلزمه الجمعة إذا أقيمت، وهذا تناقض. ولهذا كان الصحيح أن حكم السفر لا ينقطع في حقه، وأنه يصح أن يكون إماماً وخطيباً في الجمعة، ويكمل به العدد المشروط.
قوله: "ببناء" , أي بوطن مبني، ولم يبين المؤلف بأي شيء بني، فيشمل ما بني بالحجر، والمدر، والإِسمنت، والخشب، وغيرها، وهو يحترز بذلك مما لو كانوا أهل خيام كأهل البادية، فإنه لا جمعة عليهم؛ لأن البدو الذين كانوا حول المدينة لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الجمعة مع أنهم مستوطنون في أماكنهم؛ لكونها ليست ببناء، ولهذا إذا ظعنوا عن هذا الموطن ظعنوا ببيوتهم، ولم يبق لها أثر؛ لأنها خيام.(1/421)
قوله: "اسمه واحد، ولو تفرق" ، أي: أن يكون مستوطناً ببناء، اسم هذا البناء واحد، مثل: مكة، المدينة، عنيزة، بريدة، الرياض، المهم أن يكون اسمه واحداً، حتى لو تباعد، وتفرق بأن صارت الأحياء بينها مزارع، لكن يشملها اسم واحد، فإنه يعتبر وطناً واحداً، وبلداً واحداً ، (وهذا هو المذهب) , وقال بعض العلماء: لو تفرق، وفرقت بينه المزارع، فليس بوطن واحد، وعلى هذا القول يكون كل حي وحده مستقلاً. ولكن الصحيح أنه ما دام يشمله اسم واحد فهو بلد واحد، ولو فرض أن هذا البلد اتسع وصار بين أطرافه أميال أو فراسخ فهو وطن واحد تلزم الجمعة من بأقصاه الشرقي كما تلزم من بأقصاه الغربي، وهكذا الشمال والجنوب؛ لأنه بلد واحد.
قوله: "ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ", هذا الشرط السادس أي: ليس بين الإنسان وبين المسجد أكثر من فرسخ، والفرسخ: أنه ثلاثة أميال، والميل: اثنا عشر ألف ذراع، فعلى هذا لا يلزم الشخص الذي يكون بينه وبين البلد أكثر من فرسخ جمعة، هذا إذا كان خارج البلد، أما إذا كان البلد واحداً فإنه يلزمه، ولو كان بينه وبين المسجد فراسخ.
فإن قال قائل: ما الدليل على التقييد بالفرسخ؟ فالجواب: يقولون الغالب أن من كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ فالغالب أنه لا يسمع النداء، مع أن بعض العلماء قدَّره بالأذان ، والدليل الذي دلت عليه السنة هو سماع الأذان.
وقوله: "ولا تجب على مسافر سفر قصر" ، أي: سفراً يحل فيه القصر، فلا تجب عليه، لكن تجب عليه بغيره كما سبق، [ومعنى ذلك أنها إن أقيمت الجمعة وجبت عليه وإلا فلا.
قوله: "ولا على عبد ولا امرأة" ، لأن من شرط الوجوب أن يكون حراً ذكراً.(1/422)
قوله: "ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به" ، أي: المسافر سفر قصر، والعبيد، والنساء، من حضر الجمعة منهم، وصلى مع الإمام أجزأته جمعة. ولم تنعقد به جمعة.( ومعنى ) لم تنعقد به ، أي: لم تنعقد بواحد من هؤلاء، ومعنى لم تنعقد به أي: لا يحسب من العدد المعتبر؛ لأنهم ليسوا من أهل الوجوب.
قوله: "ولم يصح أن يؤم فيها" ، أي لا يصح أن يكون أحد من هؤلاء إماماً في الجمعة. والراجح : أن المرأة كما قال المؤلف لا يصح أن تكون خطيباً، ولا أن تكون إماماً، ولا تحسب من الأربعين. وأما العبد والمسافر، فالصحيح أنها تنعقد بهما، ويصح أن يكونا أئمة فيها وخطباء أيضاً .
قوله: "ومن سقطت عنه" ، أي الجمعة.
قوله: "لعذر" كمرض.
قوله: "وجبت عليه وانعقدت به" ، يعني إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به؛ لأنه من أهل الوجوب، لكن سقط عنه الحضور للعذر، فإذا حضر ثبت الوجوب. مثال ذلك: مريض سقطت عنه الجمعة من أجل المرض، ولكنه تحمل المشقة وحضر إلى الجمعة، فإنها تنعقد به، فيحسب من الأربعين ويصح أن يكون إماماً، وأن يخطب فيها. وكذا الخائف: تسقط عنه الجمعة، لكنه إذا حضرها تلزمه وتنعقد به، ويصح أن يكون إماماً فيها.(1/423)
قوله: "ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح" ، أي: من صلى الظهر وهو ممن يلزمه الحضور، فإن صلاته لا تصح، وتأمل قول المؤلف: "ممن عليه حضور الجمعة" ولم يقل: ممن تجب عليه الجمعة، وذلك من أجل أن يكون كلامه شاملاً للذي تجب عليه بنفسه، والذي تجب عليه بغيره . مثال ذلك: مسافر حلَّ بلداً تقام فيه الجمعة ، وأذِّن لصلاة الجمعة، فهذا عليه الحضور، وليست واجبة عليه بنفسه ، بل بغيره ، فإذا صلى هذا المسافر قبل صلاة الإمام فإن صلاته لا تصح؛ لأنه فعل ما لم يؤمر به ، وترك ما أمر به. ( مسألة : ) رجل في أقصى البلد، - ويعلم أنه لو ذهب لم يدرك الجمعة - فصلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فلا تصح على مقتضى كلام المؤلف. وقيل: له أن يصلي الظهر إذا علم أنه لن يدرك الجمعة؛ لأنه في هذه الحال لا يلزمه السعي إليها، فلا فائدة في الانتظار.
قوله: "وتصح ممن لا تجب عليه" ، أي: تصح الظهر ممن لا تجب عليه الجمعة ، وإن لم يُصلِّ الإمام . مثال ذلك : مريض مرضاً تسقط به عنه الجمعة صلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فتصح؛ لأنه لا تلزمه الجمعة . مثال آخر: لو صلّت امرأة الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة صحت؛ لأن الجمعة لا تلزمها.(1/424)
قوله: "والأفضل حتى يصلي الإمام" ، أي: أن الأفضل لمن لا تلزمه الجمعة أن يؤخر صلاة الظهر حتى يصلي الإمام، وعلى هذا نقول للنساء: الأفضل في يوم الجمعة ألا تصلين الظهر حتى يصلي الإمام. قالوا: ربما يزول عذره فيدرك صلاة الجمعة، وإذا كان هذا هو التعليل، فإنه لا ينطبق على النساء؛ إذ إن النساء لا يمكن أن يزول عذرهن، فالمرأة امرأة، وعليه فنقول للمرأة: الأفضل أن تصلي الظهر في أول الوقت، ولو قبل صلاة الإمام؛ لأن الصلاة في أول الوقت أفضل من الصلاة في آخر الوقت، وحينئذٍ نقول: إذا كان من لا تلزمه الجمعة ممن يرجى أن يزول عذره ويدركها، فالأفضل أن ينتظر، وإذا كان ممن لا يرجى أن يزول عذره فالأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها؛ لأن الأفضل في الصلوات تقديمها في أول الوقت إلا ما استثني بالدليل.
قوله: "ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال" ، السفر: فاعل يجوز، أي: لا يجوز السفر في يوم الجمعة بعد الزوال لمن تلزمه، سواء كانت تلزمه بنفسه، أو بغيره؛ وذلك أنه بعد الزوال دخل الوقت بالاتفاق، والغالب أنه إذا دخل الوقت يحضر الإمام فيؤذن للجمعة وتصلى، فيحرم أن يسافر. (و) المؤلف علق الحكم بالزوال. والأَوْلَى: أن يعلق الحكم بما علقه الله به وهو النداء إلى الجمعة؛ لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال، ولا يأتي إلا بعد الزوال بساعة، فلا ينادى للجمعة إلا عند حضور الإمام، لذلك نقول: المعتبر النداء.
ويفهم من قول المؤلف: "بعد الزوال" أن السفر قبل الزوال يوم الجمعة جائز وهو كذلك؛ وذلك لأنه لم يؤمر بالحضور فلم يتعلق الطلب به، فجاز له أن يسافر قبل الزوال. لكن بعض العلماء كرهه، وقال: لئلا يفوت على نفسه فضل الجمعة ، ويستثنى من تحريم السفر مسألتان:
الأولى: إذا خاف فوات الرفقة.
الثانية: إذا كان يمكنه أن يأتي بها في طريقه.(1/425)
مسألة: هل مثل ذلك خوف إقلاع الطائرة؟ الجواب: نعم، فلو فرض أن الطائرة ستقلع في وقت صلاة الجمعة، ولو جلس ينتظر فاتته، فهو معذور وله أن يسافر ولو بعد الزوال.
فصل
قوله: "يشترط لصحتها شروط" ، فإذا فقد واحد من الشروط لم تصح الجمعة.
قوله: "ليس منها إذن الإمام" ، إذا قال العلماء: (إمام) فهو صاحب أعلى سلطة في البلد، سواء سمي إماماً أو خليفة أو أميراً أو رئيساً أو شيخاً أو غير ذلك. أي: لو صلى الناس بدون إذن الإِمام فصلاتهم صحيحة.
فإذا قال قائل: لماذا نص المؤلف على نفي هذا الشرط، مع أن السكوت عنه يقتضي انتفاءه؟ فالجواب: لأن في ذلك خِلافاً، فالمذهب: لا يشترط إذن الإمام. وقال بعض العلماء: لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام ، والإمام إذا استؤذن يجب عليه أن يأذن، ولا يحل له أن يمنع، فلو فرض أنه امتنع ومنعهم من إقامة الجمعة مع وجوبها فحينئذٍ يسقط استئذانه. ولو قيل بالتفصيل، وهو: أن إقامة الجمعة في البلد لا يشترط لها إذن الإمام، وأنه إذا تمت الشروط وجب إقامتها، سواء أذن أم لم يأذن، وأما تعدد الجمعة فيشترط له إذن الإمام؛ لئلا يتلاعب الناس في تعدد الجمع، فلو قيل بهذا القول لكان له وجه، والعمل عليه عندنا لا تقام الجمعة إلا بعد مراجعة دار الإفتاء، وهذا القول لا شك أنه قول وسط يضبط الناس .
قوله: "أحدها الوقت" ، هذا هو الشرط الأول . والصلاة قبل الوقت في الجمعة وغيرها لا تصح؛ لأنه في غير الجمعة نقول: لم يدخل الوقت، وفي الجمعة نقول: ليست في الوقت، والصلاة بعد خروج الوقت في غير الجمعة صحيحة إما مطلقاً، وإما لعذر على القول الراجح، وصلاة الجمعة بعد الوقت لا تصح مطلقاً. فلو خرج الوقت ولم يصل ولو لعذر كالنسيان والنوم، فإنه لا يصلي الجمعة، بل يصلي ظهراً(1/426)
قوله: "وأوله أول وقت صلاة العيد" ، أول وقت صلاة الجمعة بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح أي: قدر رمح، والرمح حوالي متر، فلنا أن نصليها من حين أن ترتفع الشمس قدر رمح. والقول بأن صلاة الجمعة تصح قبل الزوال هو المذهب، وهو من المفردات. (و) القول الثاني: أنها لا تصح إلا بعد الزوال، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة. (و) القول الثالث: أنها تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعة. ولا تصح في أول النهار ، وهذا القول هو الراجح , والأفضل على القول بأنها تصح لا تصح في أول النهار في السادسة، أن تكون بعد الزوال وفاقاً لأكثر العلماء.
قوله: "وآخره آخر وقت صلاة الظهر" ، أي آخر وقت صلاة الجمعة، آخر وقت صلاة الظهر، وذلك إذا كان ظل الشيء كطوله بعد فيء الزوال.
قوله: "فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً، وإلا فجمعة" ، أي: إن خرج وقت الجمعة قبل أن يدركوا تكبيرة الإحرام في الوقت فإنهم يصلون ظهراً، لأن الوقت قد فات، فإن الوقت لا يدرك إلا بتكبيرة الإحرام، فمن فاتته تكبيرة الإحرام قبل خروج الوقت فقد فاته الوقت، وهذا الذي مشى عليه المؤلف مبني على أن الإدراك يكون بتكبيرة الإحرام. والصحيح: أن الإدراك لا يكون إلا بركعةوعلى هذا فنقول: إن خرج وقتها قبل إدراك ركعة قبل خروجه فإنهم يصلون ظهراً.(1/427)
قوله: "الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها" ، يعني أن الشرط الثاني لصحة الجمعة حضور أربعين، والمراد حضورهم الخطبتين والصلاة، (( وهذا هو المذهب )). (و) القول الثاني: أنه لا بد من اثني عشر رجلاً من أهل الوجوب. (و) القول الثالث: أنه يشترط أربعة رجال ، وهذا مذهب أبي حنيفة. (و) القول الرابع: أنه يشترط أن يكونوا ثلاثة: خطيب ومستمعان ، وهذا القول قوي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية . (و) القول الخامس: أن الجمعة تجب على اثنين فما فوق ، وهذا مذهب أهل الظاهر، واختاره الشوكاني في شرح المنتقى، وهو قول قوي، لكن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أصح ، وهناك أقوال أخرى. وأقرب الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثة، وتجب عليهم، وعلى هذا فإذا كانت هذه القرية فيها مائة طالب، وليس فيها من مواطنيها إلا ثلاثة فتجب على الثلاثة بأنفسهم، وعلى الآخرين بغيرهم، وإذا كان فيها مواطنان ومائة مسافر مقيم لا تجب عليهم.
مسألة: إذا حضر تسعة وثلاثون، والإمام يرى أن الواجب أربعون، والتسعة والثلاثون يرون أن الواجب ثلاثة فنقول: الإمام لا يصلي بهم، ويصلي واحد من هؤلاء الذين لا يرون الأربعين، ثم يلزم الإمام أن يصلي؛ لأنها أقيمت صلاة الجمعة. وإذا كان بالعكس الإمام لا يرى العدد أربعين، والتسعة والثلاثون يرون العدد أربعين فلا يصلون جمعة؛ لأن التسعة والثلاثين يقولون: نحن لن نصلي فيبقى واحد، فلا تنعقد به الجمعة فيصلون ظهراً .
قوله: "الثالث أن يكونوا بقرية مستوطنين" ، أي: يشترط لصحة صلاة الجمعة أن يكون العدد المشروط مستوطنين بقرية، وهذا هو الشرط الثالث لصحة صلاة الجمعة، فإن كانوا في خيام كالبادية، فإنه لا جمعة عليهم، ولا تصح منهم الجمعة. والمراد بالقرية: المدينة سواء كانت صغيرة أو كبيرة.(1/428)
وقوله: "مستوطنين" ، أي: لا بد أن يكونوا مستوطنين، أي: متخذيها وطناً، سواء كانت وطنهم الأول أم وطنهم الثاني، فالمهاجرون من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اتخذوا المدينة وطناً ثانياً. وضد المستوطن: المسافر والمقيم، فالمسافر هو الذي على جناح سفر مرَّ في البلد، ليقضي حاجة ويمشي، والمقيم من أقام يوماً أو ثلاثة أيام، أو خمسة أيام، أو أكثر لشغل ثم يرجع، ومن أقام بقرية وهو عازم على السفر، فهل هو مقيم أو مسافر؟ الجواب: شيخ الإسلام يرى أنه مسافر، ويقول: ليس في الكتاب ولا في السنة تقسيم الناس إلى مستوطن ومقيم ومسافر، وليس فيهما إلا مسافر ومستوطن، والمستوطن هو المقيم.
قوله: "وتصح" أي: الجمعة.
قوله: "فيما قارب البنيان من الصحراء" . ، أي: إن أهل القرية لو أقاموا الجمعة خارج البلد في مكان قريب، فإنها تصح، فلا يشترط أن تكون في نفس البلد، بشرط أن يكون الموضع قريباً، مثل: مصلى العيد يكون في الصحراء من البلد؛ لأنّهم في الحقيقة لم يخرجوا من القرية.
وقول المؤلف - -: "فيما قارب البنيان من الصحراء" يفهم منه أن ما كان بعيداً لا تصحُّ فيه الجمعة، أي: لو أن أهل القرية خرجوا في نزهة بعيداً عن البلد، وأقاموا الجمعة هناك في مكان النزهة البعيد عن البلد، فإنها لا تجزئ؛ لأنهم انفصلوا عن البلد.
فإذا قال قائل: هل القرب هنا محدد بالعرف أو محدد بالمسافة؟ فالجواب: أن العلماء إذا أطلقوا الشيء، ولم يحددوه يرجع في ذلك إلى العرف، وقال بعض العلماء: لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في البنيان فلو خرجوا قريباً من البنيان فإنها لا تجزئ، لكن ما ذهب إليه المؤلف هو الصحيح .(1/429)
قوله: "فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً" ، "نقصوا" الضمير يعود على العدد المشترط أي: إن نقصوا واحداً فأكثر استأنفوا ظهراً، (و) كلام المؤلف ليس على إطلاقه، بل نقيده بما إذا لم تمكن إعادتها جمعة. فإذا كان الوقت متسعاَ لإعادتها جمعة فإنه يلزمهم إقامتها جمعة ، وقال بعض العلماء: بل يتمونها جمعة. وقال (آخرون:) أنهم إن نقصوا بعد أن أتموا الركعة الأولى أتموا جمعة، فإذا كان النقص في الركعة الثانية فما بعد أتموا جمعة، وإن نقصوا في الركعة الأولى استأنفوا ظهراً ما لم يمكن إعادتها جمعة، وهذا اختيار الموفق ، وهذا القول هو الراجح.
قوله: "ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة" "مع الإمام" أي: إمام الجمعة.
"منها" أي: الجمعة.
"ركعة" أي: ركعة تامة بسجدتيها أتمها جمعة.
قوله: "وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً" ، أي: بأن جاء بعد رفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية فهنا لم يدرك ركعة فيتمها ظهراً.(1/430)
قوله: "إذا كان نوى الظهر" أي: يشترط لإتمامها ظهراً أن ينوي الظهر، وأن يكون وقتها قد دخل، وإنما أضفنا هذا الشرط؛ لأن فيه احتمالاً أن تُصلَّى الجمعة قبل الزوال، فإن لم ينو الظهر بأن دخل مع الإمام بنية الجمعة؛ لأنه يظن أن هذه هي الركعة الأولى، ثم تبين أنها الركعة الأخيرة، فعلى كلام المؤلف يتمها نفلاً؛ لأنه لم ينو الظهر. (و) القول الثاني: أنه إذا دخل معه بنية الجمعة، فتبين أنه لم يدرك ركعة، فلينوها ظهراً بعد سلام الإمام، وهذا هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به، خصوصاً العامة؛ لأن العامي ولو علم أنها الركعة الثانية وقد فاته ركوعها، فإنه سينوي الجمعة، ثم إذا سلم الإمام، فمن العامة من يتمها جمعة أيضاً، ومنهم من يتمها ظهراً، لكن لا ينوي الظهر إلا بعد أن يسلم الإمام، وهذا القول هو الصحيح ، وفي هذه المسألة قد تنخرم القاعدة التي يقال فيها: (إن الانتقال من معين إلى معين يبطل الأول، ولا ينعقد الثاني به). ولكن نقول: هذه المسألة يمكن أن تستثنى من القاعدة بناء على أن الظهر بدل عن الجمعة إذا فاتت فهي فرع لها، وهو لم ينتقل من شيء مغاير من كل وجه.(1/431)
مسألة مهمة تعتري الناس في أيام موسم الحج والعمرة في المسجد الحرام وهي: ما إذا زحم الإنسان عن السجود. قال في الروض: "ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم عن السجود لزمه السجود على ظهر إنسان أو رجله". مثاله: إنسان دخل مع إمام الجمعة، لكن الناس متضايقون، فلما أراد السجود ما وجد مكاناً يسجد فيه، نقول: يجب عليك أن تسجد على ظهر إنسان، أو على رجله. وقال بعض العلماء: إذا زحم فإنه ينتظر حتى يقوم الناس، ثم يسجد، ويكون التخلف هنا عن الإمام لعذر. وقال بعض العلماء: يومئ إيماء أي: يجلس ويومئ بالسجود إيماء؛ لأن الإيماء في السجود قد جاءت به السنة عند التعذر بخلاف التخلف عن الإمام فإنه لم يأت إلا لعذر، وهذا القول أرجح، ويليه القول بأنه ينتظر، ثم يسجد، بعد الإمام، وأما القول بأنه يسجد على ظهر إنسان أو رجله فإنه ضعيف. قال في الروض: "وإن أحرم، ثم زحم، وأخرج عن الصف فصلى فذاً لم تصح" أي: لو أنه زحم، وعجز عن أن يطيق الوقوف في الصف حتى خرج، فإنه على المذهب لا تصح صلاته؛ لأنه فذ. والصحيح: أن صلاته تصح؛ لأنه معذور في الفذية. فإذا كان قد صلى الركعة الأولى في الصف فإنه إذا زحم حتى خرج من الصف ينوي الانفراد ويتمها جمعة؛ لأنه أدرك ركعة كاملة فيتمها جمعة هذا على المذهب، والقول الراجح أنه يتمها جمعة مع الإمام؛ لأن انفراده هنا للعذر.
قوله: "ويشترط تقدم خطبتين" ، أي: يشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، وهذا هو الشرط الرابع ، فإن لم يتقدمها خطبتان لم تصح.(1/432)
قوله: "من شرط صحتهما: حمد الله، والصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية ، والوصية بتقوى الله عز وجل" ، أي: أن الخطبتين لهما شروط لا تصحان بدونها، ذكر منها المؤلف: "حمد الله" ، وهذا هو الشرط الأول بأن يحمد الله بأي صيغة. فيقول: اللهم صلِّ على محمد، أو اللهم صل على أحمد، أو اللهم صل على العاقب، أو اللهم صل على الحاشر، أو اللهم صل على خاتم النبيين، أو المرسل إلى الناس أجمعين. (و) قال بعض العلماء: ولا بد أن يصلى عليه باسم مُظهر، فإن صلى عليه مضمراً لا مظهراً لم تصح، كما لو قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتفياً بذلك، ولكن هذا غير صحيح فإن المضمر يحل محل المظهر متى علم مرجعه.
الشرط الثاني: الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أي: أن يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بأي اسم من أسمائه أو صفة تختص به .
الشرط الثالث: قراءة آية فأكثر من كتاب الله، فإن لم يقرأ آية لم تصح الخطبة، ولكن يشترط في الآية أن تستقل بمعنى، فإن لم تستقل بمعنى لم تجزئ، فلو قرأ { ثم نظر} [المدثر] فلا تستقل بمعنى، من الذي نظر؟ لا يعلم. فلا تجزئ .
الشرط الرابع: الوصية بتقوى الله عز وجل.( بأي صغة ) ، فإن أتى بمعنى التقوى دون لفظها بأن قال: يا أيها الناس افعلوا أوامر الله، واتركوا نواهي الله فيصح.
الشرط الخامس: أن يحضر الخطبتين العدد المشترط، فلا بد أن يحضر أربعون من أهل وجوبها، فإن حضر الخطبة عشرون، ثم لما أقيمت الصلاة قبل أن يشرع في الصلاة تموا أربعين، فإنه لا تجزئ الخطبتان، وعليه إعادتهما.ولو حضر أربعون نصف الخطبة لم يجزئ. والصحيح: أن تقدير العدد بأربعين ليس بصواب كما سبق، لكننا إذا قلنا يشترط حضور ثلاثة صار لا بد من حضور الثلاثة.(1/433)
وهناك شروط أخرى تضاف إلى ماذكره المؤلف: الشرط السادس: أن تكون الخطبتان بعد دخول الوقت، فإن خطب قبل دخول الوقت لم تصح الخطبتان، ثم لا تصح الجمعة بعد ذلك.
وقال بعض أهل العلم : إن الشرط الأساسي في الخطبة أن تشتمل على الموعظة المرققة للقلوب ، المفيدة للحاضرين ، وأن الحمد لله ، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقراءة آية ، كله من كمال الخطبة. ( وليس من شروطها ) ، ولكن هذا القول وإن كان له حظ من النظر لا ينبغي للإنسان أن يعمل به إذا كان أهل البلد يرون القول الأول الذي مشى عليه المؤلف؛ لأنه لو ترك هذه الشروط التي ذكرها المؤلف لوقع الناس في حرج، وصار كلٌّ يخرج من الجمعة، وهو يرى أنه لم يصل الجمعة، وإذا أتيت بهذه الشروط لم تقع في محرم، ومراعاة الناس في أمر ليس بحرام هو مما جاءت به الشريعة.
قوله: "ولا يشترط لهما الطهارة" أي: لا يشترط للخطبتين أن يكون على طهارة، فلو خطب وهو محدث فالخطبة صحيحة؛ لأنها ذكر وليست صلاة. و( لكن ) إذا خطب وهو جنب ففيه مشكلتان:
المشكلة الأولى: اللبث في المسجد، وزوالها أن يقال: إنه يتوضأ فتزول المشكلة بهذا الوضوء.
المشكلة الثانية: قراءة القرآن وهو جنب، والمذهب أن قراءة الآية شرط لصحة الخطبة، وقراءة الجنب للقرآن حرام، فكيف تصح هذه القراءة ، (ولكن الصحيح: أنه تصح قراءة الآية من القرآن وهو جنب مع الإثم.) وقد سبق أن بعض أهل العلم لا يشترط قراءة آية، وعليه لا يرد هذا الإشكال أصلاً.
قوله: "ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة" أي: لا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة، فلو خطب رجل وصلى آخر فهما صحيحتان، والصلاة صحيحة. لكن هل يشترط أن يتولاهما واحد، أو يجوز أن يخطب الخطبة الأولى واحد والثانية آخر؟ الجواب: يجوز، أي: لا يشترط أن يتولاهما واحد، فلو خطب رجل، وخطب الثانية رجل آخر صح.(1/434)
( ولكن هل يشترط أن يتولى الخطبة الواحدة واحد؟ أي: لو أن رجلاً خطب الخطبة الأولى في أولها، وفي أثنائها تذكر أنه على غير وضوء مثلاً فنزل، ثم قام آخر وأتم الخطبة، لم أر حتى الآن من تكلم عليها، ولكنهم ذكروا في الأذان أنه لا يصح من رجلين أي: لا يصح أن يؤذن الإنسان أول الأذان، ثم يكمله الآخر؛ لأنه عبادة واحدة، فكما أنه لا يصح أن يصلي أحد ركعة، ويكمل الثاني الركعة الثانية، فكذلك لا يصح أن يؤذن شخص أول الأذان ويكمله آخر، أما الخطبة فقد يقال: إنها كالأذان أي: لا بد أن يتولى الخطبة الواحدة واحد، فلا تصح من اثنين، سواء لعذر أو لغير عذر، فإن كان لغير عذر فالظاهر أن الأمر واضح؛ لأن هذا شيء من التلاعب. وإذا كان لعذر مثل: أن يذكر الذي بدأ الخطبة أنه على غير وضوء، ثم ينزل ليتوضأ، فهنا نقول: الأحوط : أن يبدأ الثاني الخطبة من جديد، حتى لا تكون عبادة واحدة من شخصين.
مسألة: هل يشترط أن يكون العدد الحاضر لهما هو العدد الحاضر للصلاة. مثلاً: بأن خطب بأربعين، ثم خرج الأربعون، وجاء أربعون غيرهم وصلوا الجمعة. فالجواب: أنه يشترط؛ لأنه لا بد أن يحضروا الخطبتين والصلاة.
مسألة: لم يذكر صاحب المتن ما يبطل الخطبتين، لكن ذكر الشارح في الروض أنهما تبطلان بالكلام المحرم، أي: لو أن الخطيب في أثناء الخطبة تكلم كلاماً محرماً، كقذف أو لعن، أو ما أشبه ذلك، فإنها تبطل؛ لأن ذلك ينافي مقتضى الخطبة. فالمقصود بالخطبة وعظ الناس وزجرهم عن الحرام، فإذا كان الخطيب نفسه يفعل الحرام فإنها تبطل.(1/435)
مسألة: لم يذكر الماتن أيضاً هل يشترط أن تكون الخطبتان باللغة العربية أم لا؟ والجواب: إن كان يخطب في عرب، فلا بد أن تكون بالعربية، وإن كان يخطب في غير عرب، فقال بعض العلماء: لا بد أن يخطب أولاً بالعربية، ثم يخطب بلغة القوم الذين عنده. وقال آخرون: لا يشترط أن يخطب بالعربية، بل يجب أن يخطب بلغة القوم الذين يخطب فيهم، وهذا هو الصحيح , لكن إذا مرَّ بالآية فلا بد أن تكون بالعربية؛ لأن القرآن لا يجوز أن يغير عن اللغة العربية.
قوله: "ومن سننهما أن يخطب على منبر أو موضع عال " أي: من سنن الخطبتين أن يخطب على منبر فإذا لم يوجد منبر، خطب على موضع مرتفع، ولو كومة من التراب، من أجل أن يبرز أمام الناس، ولأن ذلك أبلغ في الصوت، وأبلغ في التلقي عن الخطيب؛ لأن من يُشَاهَدُ يتلقى منه أكثر.
قال العلماء: ينبغي أن يكون المنبر على يمين مستقبل القبلة في المحراب كما هو معمول به الآن؛ من أجل أن الإمام إذا نزل منه ينفتل عن يمينه.
قوله: "ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم" أي: يسن إذا صعد المنبر أن يتجه إلى المأمومين، ويسلم عليهم ، وهذا التسليم العام. أما الخاص فإنه إذا دخل المسجد سلم على من يمر عليه أولاً.
قوله: "ثم يجلس إلى فراغ الأذان" ، أي: يسن إذا سلم على المأمومين أن يجلس حتى يفرغ المؤذن، وفي هذه الحال يتابع المؤذن على أذانه ، وكذلك المأمومون يجيبون المؤذن .
قوله: "ويجلس بين الخطبتين" أي: يسن أن يجلس بين الخطبتين. وعلى هذا يكون للخطيب جلستان: الأولى عند شروع المؤذن في الأذان، والثانية بين الخطبتين.
قوله: "ويخطب قائماً" أي: يسن أن يخطب قائماً.(1/436)
قوله: "ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا" أي: يسن أن يعتمد حال الخطبة على سيف، أو قوس، أو عصا. واستدلوا بحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحته نظر ، وعلى تقدير صحته قال ابن القيم: إنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر أنه اعتمد على شيء. ووجه ذلك: أن الاعتماد إنما يكون عند الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد، مثل أن يكون ضعيفاً يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فهذا سنة؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة، وما أعان على سنة فهو سنة، أما إذا لم يكن هناك حاجة، فلا حاجة إلى حمل العصا.
قوله: "ويقصد تلقاء وجهه" أي: يسن للخطيب أن يتجه تلقاء وجهه، فلا يتجه لليمين أو لليسار، بل يكون أمام الناس.
فإن قال قائل: هل من السنة أن يلتفت يميناً وشمالاً؟ فالجواب: أن هذا ليس من السنة فيما يظهر، وأن الخطيب يقصد تلقاء وجهه، ومن أراده التفت إليه.
وهل من السنّة أن يحرك يديه عند الانفعال؟ الجواب: ليس من السنّة أن يحرك يديه، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك، لكن يشير في الخطبة بأصبعه عند الدعاء. أما الخطبة التي هي غير خطبة الجمعة فقد نقول: إنه من المستحسن أن الإنسان يتحرك بحركات تناسب الجمل التي يتكلم بها .
قوله: "ويقصر الخطبة" أي: يسن أن يجعلها قصيرة, وهي علامة ودليل على فقهه، وأنه يراعي أحوال الناس، وأحياناً تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك، فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي .
قوله: "ويدعو للمسلمين" أي: يسن أيضاً في الخطبة أن يدعو للمسلمين الرعية والرعاة.(1/437)
ولكن قد يقول قائل: (( هل هناك )) دليل خاص في سنية هذا الدعاء ؟ ( فالجواب ) : لقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة" ، فإن صح هذا الحديث فهو أصل في الموضوع، وحينئذٍ لنا أن نقول: إن الدعاء سنّة، أما إذا لم يصح فنقول: إن الدعاء جائز، وحينئذٍ لا يتخذ سنّة راتبة يواظب عليه؛ لأنه إذا اتخذ سنّة راتبة يواظب عليه فهم الناس أنه سنّة، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه.
فصل
قوله: "والجمعة ركعتان يسن أن يقرأ جهراً " ، قوله: "يسن أن يقرأ جهراً" ، يؤخذ منه أنه لو قرأ سراً لصحّت الصلاة، لكن الأفضل الجهر.
قوله: "في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين" أي: يقرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وله أن يقرأ بـ{سبح } و{الغاشية } ثبت ذلك أيضاً في صحيح مسلم ، فالسنة: أن يقرأ مرة بهذا، ومرة بهذا، وعلى الإنسان أن يراعي أحوال الناس ، فإذا علمنا أن الأيسر على المصلين أن نقرأ بسبّح والغاشية، وذلك في شدة البرد والصيف، فالأفضل أن نقرأ بهما، وأما في الأيام المعتدلة الجو فينبغي أن يقرأ بهذا أحياناً، وبهذا أحياناً؛ لئلا تهجر السنّة.
قوله: "وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة" أي: تحرم إقامة صلاة الجمعة في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة، ( وهذا ما ذهب إليه ) الإمام أحمد ،( أي: )أن صلاة الجمعة يجوز تعددها للحاجة. ولكن مع الأسف الآن أصبح كثير من بلاد المسلمين لا يفرقون بين الجمعة وصلاة الظهر، أي: أن الجمعة تقام في كل مسجد، فتفرقت الأمة، وصار الناس يقيمون صلاة الجمعة، وكأنها صلاة ظهر، وهذا لا شك أنه خلاف مقصد الشرع وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جزم المؤلف بتحريم إقامتها في أكثر من موضع في البلد.(1/438)
وقوله: "إلا لحاجة" ، والمراد بالحاجة هنا: ما يشبه الضرورة؛ لأن هناك ضرورة وحاجة، والفرق بين الحاجة والضرورة: أن الحاجة: هي التي يكون بها الكمال. والضرورة: هي التي يندفع بها الضرر. (و) مثال الحاجة: إذا ضاق المسجد عن أهله، ولم يمكن توسيعه؛ لأن الناس لا يمكن أن يصلوا في الصيف في الشمس، ولا في المطر في أيام الشتاء. وكذا إذا تباعدت أقطار البلد، وصار الناس يشق عليهم الحضور فهذا أيضاً حاجة، لكن في عصرنا الآن ليس هناك حاجة من جهة البعد، بل هناك حاجة من جهة الضيق؛ لأن الذين يأتون بالسيارات من أماكن بعيدة يحتاجون إلى مواقف، وقد لا يجدون مواقف، لكن إذا كان هناك مواقف، أو كانت السيارات قليلة فإنه يجب على الإنسان أن يحضر ولو بعيداً، ويقال للقريبين: لا تأتوا بالسيارات؛ لأجل أن يفسحوا المجال لمن كانوا بعيدين.
ومن الحاجة أيضاً: أن يكون بين أطراف البلد حزازات وعداوات، يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة، فهنا لا بأس أن تعدد الجمعة، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح، أما إذا أمكن الصلح وجب الإصلاح.
قوله: "فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام" ، أي: صلوا الجمعة في موضعين فأكثر بلا حاجة فالصحيحة ما باشرها الإمام وأذن فيها، وإذا قال العلماء: "الإمام" فمرادهم من له أعلى سلطة في الدولة.
قوله: "أو أذن فيها" ، أي: إن لم يباشرها، مثل: أن يكون بلد الإمام في محل آخر وهذا البلد الذي فيه تعدد الجمعة لم يكن فيه الإمام حاضراً، لكنه قال: أذنت لكم أن تقيموا جمعتين فأكثر،.(1/439)
قوله: "فإن استوتا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة" ، فإن استوتا، أي: الجمعتان في إذن أو عدمه بأن يكون الإمام قد أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً. فإن أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً فالثانية باطلة على ما يقتضيه كلام المؤلف. والمراد بالثانية ما تأخرت عن الأخرى بتكبيرة الإحرام، وإن كانت الأخرى أسبق منها إنشاء. وقال بعض العلماء: المعتبر السبق زمناً، فالتي قد أنشئت أولاً فالحكم لها؛ لأن الثانية هي التي حدثت على الأولى. وهذا القول هو الصحيح .
قوله: "وإن وقعتا معاً" أي: إن وقعتا معاً بطلتا معاً، فمثلاً إذا كنا نحن نستمع إلى المسجد الشمالي والمسجد الجنوبي فقال إمام كل مسجد منهما: "الله أكبر" في نفس الوقت فنقول لهم: صلاتكم جميعاً باطلة ، وعلى هذا يلزم الجميع إعادتها جمعة في مكان واحد مع بقاء الوقت، وإلا صلوا ظهراً. وعلى القول الذي رجحناه نقول: أهل المسجد الشمالي صحت جمعتهم، وأهل المسجد الجنوبي لم تصح جمعتهم؛ لأن الجمعة في الشمالي هي الأولى إنشاءً.
قوله: "أو جهلت الأولى بطلتا" أي: لو أقيمت جمعتان بلا حاجة، واستوتا في إذن الإمام وعدمه. وجهلت الأولى منهما، ولم يعلم أيهما أسبق بتكبيرة الإحرام بطلتا أي: الجمعتان، ولزمهم صلاة الظهر، ولا يصح استعمال القرعة هنا؛ لأنها عبادة، وهنا تلزمهم صلاة الظهر، ولا تصح إعادتها جمعة.(1/440)
قوله: "وأقل السنّة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست" ، شرع المؤلف في بيان السنن التوابع للجمعة، فأقلها ركعتان, وأكثرها ست ، لأنه ورد عن عبد الله بن عمر بإسناد صححه العراقي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ستاً، ( وكذلك ) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالأربع .فصارت السنة بعد الجمعة، إما ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، ولكن هل هذا مما وردت به السنة على وجوه متنوعة، أو على أحوال متنوعة، فيه أقوال: القول الأول: أنها على أحوال متنوعة. وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيقال: إن صليت راتبة الجمعة في المسجد فصل أربعاً، وإن صليتها في البيت فصل ركعتين.(و) القول الثاني: أنها متنوعة على وجوه فصلِّ أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين.(و) القول الثالث: أنها أربع ركعات مطلقاً. والأولى للإنسان - فيما أظنه راجحاً - أن يصلي أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين. أما الست فإن حديث ابن عمر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم "كان يفعلها". لكن الذي في الصحيحين أنه كان يصلي ركعتين، ويمكن أن يستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته ركعتين، وأمر من صلى الجمعة أن يصلي بعدها أربعاً، فهذه ست ركعات: أربع بقوله وركعتان بفعله، وفيه تأمل.
وعُلم من قول المؤلف: "أقل السنة بعد الجمعة ركعتان" أنه ليس للجمعة سنّة قبلها، وهو كذلك، فيصلي ما شاء بغير قصد عدد، فيصلي ركعتين أو ما شاء، لكن إذا دخل الإمام أمسك.
فإن قال قائل: هل تختارون لي إذا جئت يوم الجمعة أن أشغل وقتي بالصلاة، أو أشغل وقتي بقراءة القرآن؟(1/441)
فالجواب: نرى أن ركعتين لا بد منهما، وهما تحية المسجد، وما عدا ذلك ينظر الإنسان ما هو أرجح له، فإذا كنت في مسجد يزدحم فيه الناس، ويكثر المترددون بين يديك، فالظاهر أن قراءة القرآن أخشع لقلب الإنسان وأفيد، وإذا كنت في مكان سالم من التشويش، فلا شك أن الصلاة أفضل من القراءة؛ لأن الصلاة تجمع قراءة وذكراً ودعاء وقياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، فهي روضة من رياض العبادات فهي أفضل.
قوله: "ويسن أن يغتسل" ، قوله: "يسن أن يغتسل" أي: أنه إذا اغتسل ليوم الجمعة فهو أفضل، وإن لم يغتسل فلا إثم عليه.
وقول المؤلف: "يسن أن يغتسل" لم يبيّن متى يكون الاغتسال. فقال بعضهم: إن أول وقته من آخر الليل. وقال آخرون: بل من طلوع الفجر؛ لأن النهار لا يدخل إلا بطلوع الفجر. وقال آخرون: بل من طلوع الشمس ، وهذا أحوط الأقوال الثلاثة .
وقوله: "يسن أن يغتسل" ، لم يبيّن من الذي يغتسل، هل هم الرجال أو النساء؟ والسنّة تدل على أن الاغتسال خاص بمن يأتي إلى الجمعة ، وعلى هذا فالنساء لا يسنّ لهن الاغتسال، وكذلك من لا يحضر لصلاة الجمعة لعذر، فإنه لا يسنّ له أن يغتسل للجمعة.
وقول المؤلف: "يسنّ أن يغتسل" هو المذهب، وعليه جمهور العلماء. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاغتسال واجب. وهذا القول هو الصحيح. (وهو) الذي نراه وندين الله به ، ونحافظ عليه ، وأنه لا يسقط إلا لعدم الماء، أو للضرر باستعمال الماء، ولم يأت حديث صحيح أن الوضوء كاف .
مسألة: بقي أن يقال: إذا لم يجد الماء، أو تضرر باستعماله.. فهل يتيمم لهذا الغسل، أو نقول: إنه واجب سقط بعدم القدرة عليه؟ الجواب أن نقول: الثاني، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - -، ويقول شيخ الإسلام: جميع الأغسال المستحبة إذا لم يستطع أن يقوم بها فإنه لا يتيمم عنها؛ لأن التيمم إنما شرع للحدث.
قوله: "وتقدم" ، أي: سبق ذكر استحباب الغسل ليوم الجمعة.(1/442)
قوله: "ويتنظف" أي: ويسنّ أن يتنظف ، والتنظّف أمر زائد على الاغتسال، فالتنظّف بقطع الرائحة الكريهة وأسبابها، فمن أسباب الرائحة الكريهة الشعور والأظفار التي أمر الشارع بإزالتها، وعلى هذا فيسنّ حلق العانة، ونتف الإبط، وحف الشارب، وتقليم الأظفار، لكن من المعلوم أن هذا لا يكون في كل جمعة، فقد لا يجد الإنسان شيئاً يزيله، من هذه الأمور الأربعة، وقد وقّت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء الأربعة ألا تزيد على أربعين يوماً ، وقد قال الفقهاء: إن حف الشارب في كل جمعة.
قوله: "ويتطيّب" أي: ويسنّ أيضاً أن يتطيّب، كما جاءت به السنة ، بأي طيب سواء من الدهن أو من البخور، في ثيابه وفي بدنه.
قوله: "ويلبس أحسن ثيابه" أي: ويسنّ لبس أحسن ثيابه. قال في الروض: "وأفضلها البياض، ويعتم، ويرتدي" أي: أفضلها البياض، ولا شك أن أفضل الثياب للرجال البياض، لكن أحياناً لا يجد الإنسان البياض مناسباً للوقت، مثل: أيام الشتاء فإنه يندر أن تجد ثياباً بيضاء تناسب الوقت، فهنا نقول: ارفق بنفسك، ويمكن أن تلبس ثياباً متعددة، ويكون الأعلى هو الأبيض.
قوله: "ويعتم" أي: يلبس العمامة. والعمامة: هي ما يطوى على الرأس، ويكور عليه. والدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يلبس العمامة، ويمسح عليها ، ولكن هل لباسه إياها كان تعبداً، أو لباسه إياها؛ لأنها عُرف؟ الجواب: الثاني هو الصحيح، واتباع العرف في اللباس هو السنة ما لم يكن حراماً؛ لأنّا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما لبس ما يلبسه الناس، والإنسان لو خالف ما يلبسه الناس لكانت ثيابه ثياب شهرة.
قوله: "ويرتدي" أي: يلبس الرداء، وظاهر كلام المؤلف: ولو كان عليه قميص وهذا فيه نظر. لكن بدل الرداء عندنا المشلح، وأكثر الناس اليوم لا يلبسونه، ولو لبسه الإنسان أمام الناس لاستنكروه، بينما كانوا في الأول يستنكرون من لا يلبسه.(1/443)
قوله: "ويبكّر إليها" أي: يسنّ أن يبكّر إلى الجمعة.
قوله: "ماشياً" ، أي: يسن أن يذهب إلى الجمعة ماشياً على قدميه. ولكن لو كان منزله بعيداً، أو كان ضعيفاً أو مريضاً، واحتاج إلى الركوب، فكونه يرفق بنفسه أولى من أن يشق عليها.
قوله: "ويدنو من الإمام" ، وهذا أيضاً من السنّة أن يدنو من الإمام. ودليل ذلك: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" ، ولما رأى قوماً تأخروا في المسجد عن التقدم قال: "لا يزال قوم يتأخرون، حتى يؤخرهم الله" ، فأقل أحواله أن يكون التأخّر عن الأول فالأول مكروه؛ لأن مثل هذا التعبير يعد وعيداً من النبي عليه الصلاة والسلام.
مسألة: دلّت السنّة على أن يمين الصف أفضل من اليسار، والمراد عند التقارب، أو التساوي، وأما مع البعد فقد دلّت السنّة على أن اليسار الأقرب أفضل. وطرف الصف الأول من اليمين أو اليسار أفضل من الصف الثاني، وإن كان خلف الإمام. ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتراصون، ويتمون الأول فالأول" .وعلى هذا فنكمل الأول فالأول، فالأول قبل الثاني، والثاني قبل الثالث، والثالث قبل الرابع... وهكذا.
قوله: "ويقرأ سورة الكهف في يومها" ، أي: يسنّ أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، وجاء في بعض الأحاديث أن من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنته ، وفي بعض روايات الحديث: "من آخر الكهف" ، والجمع بينهما: أن يحتاط الإنسان فيقرأ عشراً من أولها، وعشراً من آخرها.
قوله: "ويكثر الدعاء، ويكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم " أي: يسن أن يكثر الدعاء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة.(1/444)
قوله: "ولا يتخطى رقاب الناس" ، النفي يحتمل أنه للكراهة، ويحتمل أنه للتحريم، وهذه المسألة خلافية، فالمشهور من المذهب أن تخطي الرقاب مكروه. والصحيح: أن تخطي الرقاب حرام في الخطبة وغيرها.
قوله: "إلا أن يكون إماماً" أي: فإن كان إماماً، فلا بأس أن يتخطى؛ لأن مكانه متقدم، ولكن بشرط أن لا يمكن الوصول إلى مكانه إلا بالتخطي، فإن كان يمكن الوصول إلى مكانه بلا تخط بأن كان في مقدم المسجد باب يدخل منه الإمام، فإنه كغيره في التخطي.
قوله: "أو إلى فرجة" أي: مكان متسع في الصفوف المقدمة، فإن كان هناك فرجة، فلا بأس أن يتخطى إليها. ولكن الذي أرى: أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة، لكن لو تخطى برفق واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس.
قوله: "وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه" أي: يحرم أن يقيم غيره من المكان الذي كان جالساً فيه ويجلس مكانه. وهذا قيد أغلبي؛ ( فلو ) أقام غيره لا ليجلس في مكانه فقال: قم عن هذا ولم يجلس فيه كان حراماً.
قوله: "إلا من قدم صاحباً له في موضع يحفظه له" أي: إلا شخصاً قدم صاحباً له في موضع يحفظه له، مثل: أن يقول لشخص ما: يا فلان أنا عندي شغل، ولا ينتهي إلا عند مجيء الإمام، فاذهب واجلس في مكان لي في الصف الأول. فإذا فعل وجلس في الصف الأول فله أن يقيمه؛ لأن هذا الذي أقيم وكيل له ونائب عنه. وظاهر كلام المؤلف أن هذا العمل جائز، وفي هذا نظر لما يلي:
أولاً: أن هذا النائب لم يتقدم لنفسه، وربما يراه أحد فيظنه عمل عملاً صالحاً، وليس كذلك.
ثانياً: أن في هذا تحايلاً على حجز الأماكن الفاضلة لمن لم يتقدم، والأماكن الفاضلة أحق الناس بها من سبق إليها.
وظاهر كلام المؤلف أنه يحرم أن يقيم غيره، ولو كان صغيراً. والمذهب أنه يجوز أن يقيم الصغير، ويجلس مكانه، ولكن الصحيح: أنه لا يجوز أن يقيم الصغير.(1/445)
وفي الروض يقول: "وكره إيثار غيره بمكانه الفاضل، لا قبوله، وليس لغير المُؤْثَر سبقه" . مثاله: أن تكون في الصف الأول، فأردت أن تتأخر إكراماً لشخص حضر ليجلس في مكانك، فيقول صاحب الروض: إن هذا مكروه. والصحيح في هذه المسألة: أن إيثار غيره إذا كان فيه مصلحة كالتأليف فلا يكره، مثل: لو كان الأمير يعتاد أن يكون في هذا المكان من الصف الأول وقمت فيه، ثم حضر الأمير، وتخلفت عنه، وآثرت به الأمير فلا بأس، بل ربما يكون أفضل من عدم الإيثار.
وما دمنا في الإيثار فإنه ينبغي أن نتكلم عليه فنقول: الإيثار أقسام هي:
-1 الإيثار بالواجب: حرام. 2 - الإيثار بالمستحب: مكروه.
-3 الإيثار بالمباح: مطلوب. 4 - الإيثار بالمحرم: حرام على المؤثِر والمؤثَر.
مثال الإيثار بالواجب : رجل عنده ماء لا يكفي إلا لوضوء رجل واحد، وهو يحتاج إلى وضوء، وصاحبه يحتاج إلى وضوء، فهنا لا يجوز أن يؤثره بالماء ويتيمم هو؛ لأن استعمال الماء واجب عليه وهو قادر، ولا يمكن أن يسقط عن نفسه الواجب من أجل أن يؤثر غيره به.
ومثال الإيثار بالمستحب : الإيثار بالمكان الفاضل كما لو آثر غيره بالصف الأول فهذا غايته أن نقول: إنه مكروه، أو خلاف الأولى.
ومثال الإيثار بالمباح : أن يؤثر شخصاً بطعام يشتهيه وليس مضطراً إليه، وهذا محمود.
وقوله: "لا قبوله" أي: لا يكره قبول الإيثار، فلو قلت لشخص: تقدم في مكاني في الصف الأول، فإنه لا يكره له أن يقبل ويتقدم.
وقوله: "وليس لغير المؤثر سبقه" ، أي: لا يحل لغير المؤثر - بفتح التاء - سبقه، أي سبق المؤثر. مثاله: لو آثر زيد عمراً بمكانه فسبق إليه بكر، فإنه لا يحل ذلك لبكر؛ لأن زيداً إنما آثر عمراً.(1/446)
قوله: "وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة" ، يعني أن رفع المصلى الذي وضعه صاحبه ليصلي عليه ثم انصرف حرام، و"المصلى": ما يصلى عليه، مثل: السجادة. وصورة المسألة: رجل وضع سجادته في الصف، وخرج من المسجد فلا يجوز أن ترفع هذا المصلى.( والتعليل لذلك ) : أن هذا المصلى نائب عن صاحبه، قائم مقامه، فكما أنك لا تقيم الرجل من مكانه فتجلس فيه، فكذلك لا ترفع مصلاه.
ومقتضى كلام المؤلف أنه يجوز أن يضع المصلى ويحجز المكان ، وهذا هو المذهب. ولكن الصحيح في هذه المسألة: أن الحجز والخروج من المسجد لا يجوز، وأن للإنسان أن يرفع المصلى المفروش؛ لأن القاعدة: ما كان وضعه بغير حق فرفعه حق ، لكن لو خيفت المفسدة برفعه من عداوة أو بغضاء، أو ما أشبه ذلك، فلا يرفع لأن درأ المفاسد أولى من جلب المصالح ، وإذا علم الله من نيتك أنه لولا هذا المصلى المفروش لكنت في مكانه، فإن الله قد يثيبك ثواب المتقدمين؛ لأنك إنما تركت هذا المكان المتقدم من أجل العذر.
وقوله: "ما لم تحضر الصلاة" أي: فإن حضرت الصلاة بإقامتها فلنا رفعه. لكن هل لنا أن نصلي عليه بدون رفع؟ الجواب: ليس لنا أن نصلي عليه بدون رفع؛ لأن هذا مال غيرنا، وليس لنا أن ننتفع بمال غيرنا بدون إذنه، ولكن نرفعه.
مسألة: يستثنى من القول الراجح من تحريم وضع المصلى؛ ما إذا كان الإنسان في المسجد، فله أن يضع مصلى بالصف الأول، أو أي شيء يدل على الحجز، ثم يذهب في أطراف المسجد لينام، أو لأجل أن يقرأ قرآناً، أو يراجع كتاباً، فهنا له الحق؛ لأنه ما زال في المسجد، لكن إذا اتصلت الصفوف لزمه الرجوع إلى مكانه؛ لئلا يتخطى رقاب الناس.(1/447)
وكذلك يستثنى أيضاً ما ذكره المؤلف: بقوله: "ومن قام من موضعه لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به" ، فإذا حجز الإنسان المكان، وخرج من المسجد لعارض لحقه، ثم عاد إليه فهو أحق به، والعارض الذي يلحقه مثل أن يحتاج للوضوء، أو أصيب بأي شيء اضطره إلى الخروج، فإنه يخرج، وإذا عاد فهو أحق به.
وظاهر كلام المؤلف أنه لو تأخر طويلاً فليس أحق به، فلغيره أن يجلس فيه. وقال بعض العلماء: بل هو أحق، ولو عاد بعد مدة طويلة إذا كان العذر باقياً، وهذا القول أصح ، لكن من المعلوم أنه لو أقيمت الصلاة، ولم يزل غائباً فإنه يرفع.
مسألة: لو فرض أنه رجع قريباً أو بعيداً على قولنا: إنه ما دام العذر فهو معذور ، ووجد في مكانه أحداً فأبى أن يقوم، فحصل نزاع، فالواجب أن يدرأ النزاع وله أجر، ويطلب مكاناً آخر إلا إذا أمكن أن يفسح الناس بأن كان الصف فيه شيء من السعة، فهنا يقول: افسحوا . أن تحية المسجد واجبة
قوله: "ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما " ، ذهب كثير من أهل العلم: إلى أن تحية المسجد واجبة، والذي ترجح عندي أخيراً أن تحية المسجد سنة مؤكدة، وليست بواجبة.
وقال بعض العلماء: تسن تحية المسجد لكل داخل مسجد إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل نقول: إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف لمن دخل ليطوف، فإنه يستغنى بالطواف عن الركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد الحرام لطواف العمرة والحج لم يصل ركعتين، أما من دخل ليصلي، أو ليستمع إلى علم أو ليقرأ القرآن، أو ما أشبه ذلك فإن المسجد الحرام كغيره من المساجد تحيته ركعتان .
قوله: "ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه" ، إذا قيل: لا يجوز فهي عند العلماء بمعنى يحرم، وعلى هذا فالكلام والإمام يخطب حرام.
وقوله: "إلا له" أي: للإمام. وقوله: "أو لمن يكلمه" ، أي: لمن يكلم الإمام أو يكلمه الإمام.(1/448)
قوله: "لمصلحة" قيد للمسألتين جميعاً، وهما من يكلم الإمام أو يكلمه الإمام، فلا يجوز للإمام أن يتكلم كلاماً بلا مصلحة، فلا بد أن يكون لمصلحة تتعلق بالصلاة، أو بغيرها مما يحسن الكلام فيه، وأما لو تكلم الإمام لغير مصلحة، فإنه لا يجوز. وإذا كان لحاجة فإنه يجوز من باب أولى، فمن الحاجة أن يخفى على المستمعين معنى جملة في الخطبة فيسأل أحدهم عنه، ومن الحاجة أيضاً أن يخطئ الخطيب في آية خطأ يحيل المعنى، مثل: أن يسقط جملة من الآية، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى.
والمصلحة دون الحاجة، فمن المصلحة مثلاً إذا اختل صوت مكبر الصوت فللإمام أن يتكلم، ويقول للمهندس: انظر إلى مكبر الصوت ما الذي أخله؟ وكذلك من يكلم الإمام للمصلحة والحاجة يجوز له ذلك.
مسألتان: الأولى: إذا عطس المأموم يوم الجمعة فإنه يحمد الله خفية، فإن جهر بذلك فسمعه من حوله فلا يجوز لهم أن يشمِّتوه.
الثانية: إذا عطس الإمام وحمد الله جهراً فهل يجب على من سمعه أن يشمِّته؟ الجواب: على القول بأنه يجب أن يشمِّته كل من سمعه كما قال ابن القيم، فالظاهر أنه إن سكت الإمام من أجل العطاس فلا بأس أن يشمَّت، وإن لم يسكت فلا؛ لأن الخطبة قائمة. والذي أراه في هذه المسألة أنه ينبغي للإمام أن يحمد سراً حتى لا يوقع الناس في الحرج، فإن حمد جهراً فإن استمر في الخطبة فلا يشمت؛ لأجل ألا يشغل عن استماع الخطبة، وإلا فلا بأس].(1/449)
قوله: "ويجوز قبل الخطبة وبعدها" أي: يجوز الكلام قبل الخطبة، وبعد الخطبة، ولو بعد حضور الخطيب، ولو بعد الأذان ما دام لم يشرع في الخطبة، ويجوز كذلك بعد انتهاء الخطبة، وسواء كان ذلك بعد انتهاء الخطبة الأولى، أو بعد انتهاء الخطبة الثانية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قيد الحكم بما إذا كان الإمام يخطب، والمقيد ينتفي الحكم به بانتفاء القيد، ولكن ليس هذا الجواز على حد سواء؛ لأن الإنسان لو شرع يتكلم قبل أن يبدأ الإمام بالخطبة، فربما يستمر به الأمر حتى يتكلم والإمام يخطب، فالأفضل عدم الكلام؛ لئلا يستمر به الكلام والإمام يخطب.
مسألة: بعض الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا شرع الإمام في الدعاء في حال الخطبة يجوز الكلام؛ لأن الدعاء ليس من أركان الخطبة، ( وهذا ) القول ضعيف, والصحيح: أنه ما دام الإمام يخطب، سواء في أركان الخطبة، أو فيما بعدها فالكلام حرام.
باب صلاة العيدين
ليس في الإسلام عيد سوى هذه الأعياد الثلاثة: الفطر، والأضحى، والجمعة, وكل من أقام عيداً لأي مناسبة، سواء كانت هذه المناسبة انتصاراً للمسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أو انتصاراً لهم فيما بعد، أو انتصار قومية فإنه مبتدع.
مسألة: أسبوع المساجد والشجرة ونحوهما مما يقام ما القول فيها؟ أما أسبوع المساجد فبدعة؛ لأنه يقام باسم الدين ورفع شأن المساجد، فيكون عبادة تحتاج إقامته إلى دليل، ولا دليل لذلك. وأما أسبوع الشجرة فالظاهر أنه لا يقام على أنه عبادة، فهو أهون، ومع ذلك لا نراه. وأما أسبوع أو مؤتمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهذا ليس عيداً؛ لأنه لا يتكرر، وفائدته واضحة وهي جمع المعلومات عن حياة هذا الشيخ ومؤلفاته، فحصل فيها نفع كبير.
مسألة: الحفلات التي تقام عند تخرُّج الطلبة، أو عند حفظ القرآن لا تدخل في اتخاذها عيداً لأمرين:
الأول: أنها لا تتكرر بالنسبة لهؤلاء الذين احتفل بهم.(1/450)
الثاني: أن لها مناسبة حاضرة، وليست أمراً ماضياً.
قوله: "وهي فرض كفاية" ، أفاد المؤلف أنها فرض، وهذا القول الأول في المسألة. (و) القول الثاني: أنها سنّة، وهذا مذهب مالك والشافعي. (و) القول الثالث: أنها فرض عين على كل أحد، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يصلوا صلاة العيد، ومن تخلف فهو آثم، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.، وهذا عندي أقرب الأقوال وهو الراجح.
قوله: "إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام" أي: إذا ترك صلاة العيد أهل بلد فإن الإمام يقاتلهم، أي: إن لم يفعلوها، فإذا علم الإمام أن هؤلاء تركوها، ودعاهم إلى فعلها، ولكنهم أصروا على الترك، فإنه يجب عليه أن يقاتلهم حتى يصلوا. والمسألة فيها شيء من النظر.
مسألة: وإن ترك صلاة عيد من ليسوا أَهْلَ بلدٍ أي: جماعة في البر، وهم قريبون من المدينة، فإنهم لا يقاتلون؛ لأنها إنما تجب على أهل القرى والأمصار كالجمعة، أما البدو الرحّل وما أشبههم فلا تقام فيهم صلاة العيد كما لا تقام فيهم صلاة الجمعة. ولا يجوز أن يقاتلهم إلا الإمام أو نائبه.
قوله: "ووقتها كصلاة الضحى"، أي: صلاة العيد وقتها كوقت صلاة الضحى، ومعلوم أن صلاة الضحى تكون من ارتفاع الشمس قيد رمح بعد طلوعها، وهو بمقدار ربع ساعة تقريباً .
قوله: "وآخره الزوال" أي: آخر وقت العيد زوال الشمس عن كبد السماء.
قوله: "فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد" أي: فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال فإنهم لا يصلون، وإنما يصلون من الغد في وقت صلاة العيد.
والصلوات تنقسم في قضائها إلى أقسام:
الأول: ما يقضى على صفته إذا فات وقته من حين زوال العذر الشرعي، مثل الصلوات الخمس إذا فاتت، فإنك تقضيها بعد زوال العذر، فإن كان العذر نوماً فتقضيها إذا استيقظت، وإن كان نسياناً قضيتها إذا ذكرت(1/451)
الثاني: ما لا يقضى إذا فات كالجمعة، فإن خرج وقتها قبل أن يصليها الناس لم يقضوها وصلوا ظهراً، وإن فاتت الإنسان مع الجماعة فهو لا يقضيها أيضاً، وإنما يصلي بدلها ظهراً.
الثالث: ما لا يقضى إذا فات وقته إلا في وقته من اليوم الثاني، وهو صلاة العيد، فإنها لا تقضى في يومها، وإنما تقضى في وقتها من الغد.
الرابع: ما لا يقضى أصلاً كصلاة الكسوف، فلو لم يعلموا إلا بعد انجلاء الكسوف لم يقضوا، وهكذا نقول: كل صلاة ذات سبب إذا فات سببها لا تقضى.
قوله: "وتسن في صحراء" ، أي: يسن إقامتها في الصحراء خارج البلد، وينبغي أن تكون قريبة؛ لئلا يشق على الناس.
قوله: "وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر" ، أي: ويسنّ تقديم صلاة الأضحى، وعكسه الفطر، أي: تأخير صلاة الفطر.
قوله: "وأكله قبلها" ، أي: يسن أكل الإنسان قبل صلاة عيد الفطر.
قوله: "وعكسه في الأضحى إن ضحى" أي: عكس الأكل، وهو ترك الأكل في الأضحى، فلا يأكل قبل صلاة الأضحى حتى يضحي.
وقوله: "إن ضحى" ، فُهم منه أنه إذا لم يكن لديه أضحية فإنه لا يشرع له الإمساك عن الأكل قبل الصلاة، بل هو بالخيار، فلو أكل قبل أن يخرج إلى الصلاة فإننا لا نقول له: إنك خالفت السنّة.
قوله: "وتكره في الجامع بلا عذر" أي: تكره إقامة صلاة العيد في جامع البلد بلا عذر. وظاهر كلام المؤلف أنها تكره في الجامع، سواء في مكة، أو المدينة، أو غيرهما من البلاد. أما في المدينة فظاهر أن المدينة كغيرها، يسنّ لأهل المدينة أن يخرجوا إلى الصحراء، ويصلوا العيد، هذا هو الأفضل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، ويكره أن يصلوا في المسجد النبوي إلا لعذر، لكن ما زال الناس من قديم الزمان يصلون العيد في المسجد النبوي. (و) أما في مكة فلا أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الذين تولوا مكة كانوا يخرجون عن المسجد الحرام، ولهذا استثنى في "الروض المربع" مكة المشرفة.(1/452)
وقوله: "بلا عذر" ، أفادنا - - أنه إذا صلوا في الجامع لعذر فلا كراهة. والعذر مثل: المطر، والرياح الشديدة، والخوف كما لو كان هناك خوف لا يستطيعون أن يخرجوا معه عن البلد.
قوله: "ويسنّ تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح" ، أي: يسنّ أن يبكّر المأموم إلى صلاة العيد من بعد صلاة الفجر، أو من بعد طلوع الشمس إذا كان المصلى قريباً.
وقوله: "ماشياً" ، أي: يسنّ أن يخرج ماشياً، لا على سيارة، ولا على حمار، ولا على فرس، ولا على بعير، ولكن إذا كان هناك عذر كبعد المصلى، أو مرض في الإنسان، أو ما أشبه ذلك، فلا حرج أن يخرج إليها راكباً.
قوله: "وتأخر إمام إلى وقت الصلاة" أي: يسنّ أن يتأخر الإمام إلى وقت الصلاة.
وكذلك نقول في الجمعة: إن السنّة للإمام أن يتأخر، وأما ما يفعله بعض أئمة الجمعة الذين يريدون الخير فيتقدمون ليحصلوا على أجر التقدم الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة" ، فهؤلاء يثابون على نيتهم، ولا يثابون على عملهم.
قوله: "على أحسن هيئة" ، أي: يسنّ أن يخرج على أحسن هيئة، وهذا يشمل الإمام والمأموم، في لباسه وفي هيئته كأن يحف الشارب، ويقلّم الأظفار، ويتنظّف، ويلبس أحسن ثيابه. وهذا يختلف باختلاف الناس.
قوله: "إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه" أي: ينبغي أن يخرج المعتكف في ثياب اعتكافه، ولو كانت غير نظيفة، وهذا القول في غاية الضعف ، والصحيح: أن المعتكف كغيره يخرج إلى صلاة العيد متنظّفاً لابساً أحسن ثيابه.
قوله: "ومن شرطها" ، أي: من شرط صلاة العيد.
قوله: "استيطان" ، أي: أن تقام في جماعة مستوطنين، فخرج بذلك المسافرون والمقيمون؛ لأن الناس على المشهور من المذهب ثلاثة أقسام:
-1 مسافر 2 - مقيم. 3- مستوطن(1/453)
فالمسافرون لا يشرع في حقهم صلاة العيد، وهذا واضح؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وأما المقيمون فكذلك على المذهب؛ لأنهم ليسوا من أهل إقامة الجمعة فلا يكونون من أهل إقامة العيد. فلو فرضنا أن جماعة تبلغ مائتين في بلد غير إسلامي، وكانوا قد أقاموا للدراسة لا للاستيطان، وصادفهم العيد فإنهم لا يقيمون صلاة العيد؛ لأنهم ليسوا مستوطنين، ولكن في هذا القول نظراً، ولهذا كان الناس الآن على خلاف هذا القول، فالذين أقاموا للدراسة في بلاد الكفر التي لا تقام فيها صلاة العيد يقيمون الجمعة، ويقيمون صلاة العيد، ويرون أنهم لو تخلفوا عن ذلك لكان في هذا مطعن عليهم في أنهم لا يقيمون شعائر دينهم في مناسباتها.
قوله: "وعدد الجمعة" أي: ومن شرطها أيضاً عدد الجمعة، وعدد الجمعة على المشهور من المذهب أربعون رجلاً من المستوطنين أيضاً، وقد سبق لنا أن القول الراجح في العدد المعتبر للجمعة ثلاثة، فهذا يبنى على ذاك، فلا بد من عدد يبلغون ثلاثة، فإن لم يوجد في القرية إلا رجل واحد مسلم، فإنه لا يقيم صلاة العيد، أو رجلان فلا يقيمان صلاة العيد، أما الثلاثة فيقيمونها.
قوله: "لا إذن إمام" أي: لا يشترط إذن الإمام لإقامة صلاة العيد ، وقد سبق لنا في الجمعة أنه ينبغي أن يشترط إذن الإمام لتعدد الجمعة، فكذا العيد أيضاً نقول فيه ما نقول في الجمعة.(1/454)
قوله: "ويسنّ أن يرجع من طريق آخر" ، أي: يسن إذا خرج من طريق لصلاة العيد أن يرجع من طريق آخر اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعدَّى بعضهم هذا الحكم إلى الجمعة، وقالوا: يسنّ أن يأتي إلى الجمعة من طريق، ويرجع من طريق أخرى. وعدَّى بعض العلماء هذا الحكم إلى سائر الصلوات، فقال: يسنّ أن يأتي للصلاة من طريق، ويرجع من طريق آخر. وقال بعض العلماء: يسنّ لكل من قصد أمراً مشروعاً أن يذهب من طريق، ويرجع من طريق آخر. والصواب: مع من يرى أن مخالفة الطريق خاصةٌ بصلاة العيدين فقط، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف - رحمه الله - .
قوله: "ويصليها ركعتين قبل الخطبة" ، أي: يصلى صلاة العيد ركعتين قبل الخطبة، فلا يقدم الخطبة على الصلاة.
قوله: "يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً" ، أي: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يكبّر ست تكبيرات ، ثم يستعيذ ويقرأ .
قوله: "وفي الثانية قبل القراءة خمساً" ، أي: يكبّر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات، ليست منها تكبيرة القيام . والدليل على هذه التكبيرات الزوائد: أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك وإسناده حسن كما قال في الروض، ولكن لو أنه خالف فجعلها خمساً في الأولى والثانية، أو سبعاً في الأولى والثانية حسب ما ورد عن الصحابة، فقد قال الإمام أحمد : اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز، أي: أن الإمام أحمد يرى أن الأمر في هذا واسع، وأن الإنسان لو كبّر على غير هذا الوجه مما جاء عن الصحابة، فإنه لا بأس به، وهذه جادة مذهب الإمام أحمد نفسه أنه يرى أن السلف إذا اختلفوا في شيء، وليس هناك نص فاصل قاطع، فإنه كله يكون جائزاً؛ لأنه يعظم كلام الصحابة ويحترمه، فيقول: إذا لم يكن هناك نص فاصل يمنع من أحد الأقوال فإن الأمر في هذا واسع .(1/455)
قوله: "يرفع يديه مع كل تكبيرة" ، أما تكبيرة الإحرام، فلا شك أنه يرفع يديه عندها ، وأما بقية التكبيرات فهي موضع خلاف بين العلماء: فالقول الأول: يرفع يديه. (و) القول الثاني: لا يرفع يديه. والصواب: أنه يرفع يديه مع كل تكبيرة، وفي تكبيرات الجنازة أيضاً.
قوله: "ويقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلّم تسليماً كثيراً." ، أي: ويقول بين كل تكبيرة وأخرى: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً... إلخ. وهذا الذكر يحتاج إلى نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نص في ذلك. وقال بعض العلماء: يكبّر بدون أن يذكر بينهما ذكراً. وهذا أقرب للصواب، والأمر في هذا واسع، إن ذكر ذكراً فهو على خير، وإن كبّر بدون ذكر، فهو على خير.
قوله: "وإن أحب قال غير ذلك" ، أي: أن الأمر واسع، إن أحب قال غير ذلك، وإن أحب أن لا يقول شيئاً فلا بأس، المهم أن يكبّر التكبيرات الزوائد.
قوله: "ثم يقرأ جهراً" ، أي: يقرأ الفاتحة وما بعدها من السور جهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، وهكذا كان يقرأ جهراً في كل صلاة جامعة، كما جهر في صلاة الجمعة، وجهر في صلاة الكسوف؛ لأنها جامعة، وكذلك في الاستسقاء.
قوله: "في الأولى بعد الفاتحة بسبّح، وبالغاشية في الثانية" ، و ( هذا ثابت ) عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت عنه أنه كان يقرأ في الأولى بـ{ ق والقرآن المجيد}، وفي الثانية بـ{إقتربت الساعة وإنشق القمر } ، ولهذا ينبغي للإمام إظهاراً للسنّة وإحياء لها، أن يقرأ مرة بهذا، ومرةً بهذا، ولكن يراعي الظروف.
قوله: "فإذا سلم خطب خطبتين" ، أي: إذا سلم الإمام من الصلاة يخطب خطبتين، وإن خطب غيره فلا بأس كالجمعة، فيجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر.(1/456)
وقوله: "خطبتين" هذا ما مشى عليه الفقهاء - رحمهم الله - أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه نظر، ظاهره أنه كان يخطب خطبتين ، ومن نظر في السنّة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة ، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنه بعيد؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهن وهذا احتمال. ويحتمل أن يكون الكلام وصلهن ولكن أراد أن يخصهنّ بخصيصة، ولهذا ذكرهنّ ووعظهنّ بأشياء خاصة بهنّ.
قوله: "كخطبتي الجمعة" ، أي: يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة في الأحكام حتى في تحريم الكلام، لا في وجوب الحضور، فخطبة الجمعة يجب الحضور إليها ، وأما خطبتا العيد فلا يجب الحضور إليهما؛ بل للإنسان أن ينصرف من بعد الصلاة فوراً لكن الأفضل أن يبقى ، وإذا بقي حرم عليه الكلام. وقال بعض أهل العلم: لا يجب الإنصات لخطبتي العيدين؛ لأنه لو وجب الإنصات لوجب الحضور، ولحرم الانصراف، فكما كان الانصراف جائزاً، وكان الحضور غير واجب، فالاستماع ليس بواجب. ولكن على هذا القول لو كان يلزم من الكلام التشويش على الحاضرين حرم الكلام من أجل التشويش، لا من أجل الاستماع، وبناء على هذا لو كان مع الإنسان كتاب أثناء خطبة الإمام خطبة العيد فإنه يجوز أن يراجعه؛ لأنه لا يشوش على أحد. وأما على القول الذي مشى عليه المؤلف: فالاستماع واجب ما دام حاضراً.
قوله: "يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع" ، يعني: يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متتابعات والخطبة الثانية بسبع تكبيرات متتابعات. وقال بعض العلماء: إنه يبتدئ بالحمد كسائر الخطب، وعلى هذا فيقول: الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، فيجمع بين التكبير والحمد.(1/457)
قوله: "يحثهم" الفاعل الخطيب، والمفعول به يعود على الناس، أي: يحث الناس.
قوله: "على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون " أي: يحث الخطيب الناس على صدقة الفطر، ويبيّن لهم ما يخرجون، فيبيّن لهم النوعية والقدر والصفة . هكذا ذكر المؤلف أنه يبيّن زكاة الفطر في خطبة العيد، ولكن الصواب: أنه يبين ذلك في خطبة آخر جمعة من رمضان، ويبين في خطبة العيد حكم تأخير صدقة الفطر عن صلاة العيد.
قوله: "ويرغبهم في الأضحى في الأضحية." ، أي: يرغِّب الناس في خطبة عيد الأضحى في الأضحية، ويبيّن لهم فضلها، وأجرها وثوابه وما يتعلق بها.
قوله: "ويبيّن لهم حكمها" ، يعني: هل هي سنّة أو واجبة، وكذلك يبيّن لهم ما يضحَّى به، وهو ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم. ويبيّن لهم أيضاً مقدار السن مما يضحّى .
قوله: "والتكبيرات الزوائد " الزوائد أي: على الواجبة في الصلاة، وهي في الركعة الأولى ست على ما مشى عليه المؤلف، وفي الثانية خمس.
قوله: "والذكر بينها" سواء في ذلك ما ذكره المؤلف من قوله: "الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً..." إلخ، أو أي ذكر آخر يقوله الإنسان من عند نفسه هو سنّة. وقد سبق البحث في كونه سنّة أو ليس بسنة.
قوله: "والخطبتان سنّة" ، يعني: أن خطبتي العيد سنّة. ولو قال أحد بوجوب الخطبة، أو الخطبتين في العيدين لكان قولاً متوجهاً .
قوله: "ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها" ، أي: يكره لمن حضر صلاة العيد أن يتطوع بنفل قبل الصلاة أو بعدها في موضعها، أي: موضع صلاة العيد، فيكره التنفل قبل الصلاة أو بعدها في الموضع، أما في بيته فلا كراهة.(1/458)
وقول المؤلف: "يكره" ، ظاهره أنه مكروه للإمام وغير الإمام ، وقال بعض العلماء: إن الصلاة غير مكروهة في مصلى العيد لا قبل الصلاة ولا بعدها ، وهذا مذهب الشافعي في هذه المسألة ، وهو الصواب. وقال بعض العلماء: تكره الصلاة بعدها لا قبلها؛ [لأن المشروع أن ينصرف. وقال بعض العلماء: تكره قبلها لا بعدها. وبعض العلماء قال: يكره للإمام دون المأموم، وهذا قول للشافعي، أعني التفريق بين الإمام وغيره. والصحيح أنه لا فرق بين الإمام وغيره، ولا قبل الصلاة ولا بعدها، فلا كراهة، لكن لا نقول: إن السنّة أن تصلي، فقد يقال: إن بقاء الإنسان يكبّر الله قبل الصلاة أفضل، إظهاراً للتكبير والشعيرة، وهذا في النفل المطلق.
وأما تحية المسجد فلا وجه للنهي عنها إطلاقا , لأن مصلى العيد مسجد له أحكام المساجد، وأنه إذا دخله الإنسان لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وأنه لا نهي عنهما بلا إشكال، وأما أن يتنفل بعدهما فنقول: لا بأس به، لكن الأفضل للإمام أن يبادر بصلاة العيد إن كان قد دخل وقتها لئلا يحبس الناس، وأما المأموم فالأفضل له إذا صلى تحية المسجد أن يتفرغ للتكبير والذكر.
والسنّة للإمام أن لا يأتي إلا عند الصلاة، وينصرف إذا انتهت فلا يتطوع قبلها ولا بعدها اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما المأموم فالأفضل له أن يتقدم ليحصل له فضل انتظار الصلاة.
قوله: "ويسنّ لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها". هذا هو المذهب أن قضاءها سنّة، وأن الأفضل أن يكون على صفتها. وعلى هذا فلو ترك القضاء فلا إثم عليه. ولو قضاها كراتبة من الرواتب فجائز؛ لأن كونها على صفتها على سبيل الأفضلية وليس بواجب. وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها لا تقضى إذا فاتت، وأن من فاتته، فلا يسنّ له أن يقضيها؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه.(1/459)
فإن قال قائل: أليست الجمعة ذات اجتماع على وجه معين، ومع ذلك تقضى؟ فالجواب: الجمعة لا تقضى، وإنما يصلى فرض الوقت، وهو الظهر، وصلاة العيد أيضاً نقول: فات الاجتماع فلا تقضى، وليس لهذا الوقت فرض، ولا سنّة أيضاً. فهي صلاة شُرعت على هذا الوجه، فإن أدركها الإنسان على هذا الوجه صلاها، وإلا فلا.
وبناءً على هذا القول يتضح أن الذين في البيوت لا يصلونها، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يخرجوا إليها، وأمر النساء العواتق، وذوات الخدور، وحتى الحيَّض أن يشهدن الخير ودعوة المسلمين ، ولم يقل: ومن تخلف فليصلِّ في بيته.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقضيها فإن كنا مصيبين فهذا هو المطلوب، وإن كنا غير مصيبين فإننا مجتهدون؟ فالجواب: نعم، الإنسان إذا اجتهد وفعل العبادة على اجتهاد فله أجر على اجتهاده وعلى فعله أيضاً، لكن إذا تبيّنت السنّة، فلا تمكن مخالفتها.
قوله: "ويسنّ التكبير المطلق في ليلتي العيدين" ، أي: يسنّ التكبير المطلق أي المشروع في كل وقت للرجال والنساء والصغار والكبار في البيوت والأسواق والمساجد وغيرها إلا في الأماكن التي ليست محلاً لذكر الله تعالى.
وأفادنا المؤلف أن التكبير ينقسم إلى قسمين:- مطلق. و مقيد.
فالمطلق سبق القول فيه. والمقيد هو الذي يتقيد بأدبار الصلوات، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
وقوله: "في ليلتي العيدين" ، أي: عيدي الفطر والأضحى وذلك من غروب الشمس، فإذا غابت الشمس آخر يوم من رمضان سنّ التكبير المطلق من الغروب إلى أن تفرغ الخطبة، لكن إذا جاءت الصلاة فسيصلي الإنسان ويستمع الخطبة بعد ذلك. ولهذا قال بعض العلماء: من الغروب إلى أن يكبّر الإمام للصلاة.
ولم يفصح المؤلف بحكم الجهر والإسرار في هذا التكبير ولكن نقول: إن السنّة أن يجهر به إظهاراً للشعيرة، لكن النساء يكبرن سراً إلا إذا لم يكن حولهن رجال فلا حرج في الجهر.(1/460)
قوله: "وفي فطر آكد" ، أي: التكبير في عيد الفطر آكد من التكبير في عيد الأضحى، وقال بعض العلماء: إن التكبير في الأضحى أوكد. (( والصواب: أن )) كل واحد منهما أوكد من الثاني من وجه؛ فمن جهة أن تكبير الفطر مذكور في القرآن يكون أوكد، ومن جهة أن التكبير في عيد الأضحى متفق عليه، وأنَّ فيه تكبيراً مقيداً يقدم على أذكار الصلاة، يكون من هذه الناحية أوكد.
قوله: "وفي كل عشر ذي الحجة" ، أي: ويسنّ التكبير المطلق في كل عشر ذي الحجة. وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر اليوم التاسع، وسميت عشراً، وهي تسع من باب التغليب.
واختلف في محل هذا التكبير المقيد، هل هو قبل الاستغفار وقبل "اللهم أنت السلام ومنك السلام"، أو بعدهما؟ فقال بعض العلماء: يكون قبلهما ، فإذا سلم الإمام وانصرف، كبّر رافعاً صوته حسب ما سيذكر المؤلف، ثم يستغفر ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام". والصحيح: أن الاستغفار، وقول: "اللهم أنت السلام" مقدم .
قوله: "والمقيد عقب كل فريضة في جماعة" ، أفادنا المؤلف أن المقيد يختص بالفرائض، وهي الصلوات الخمس، والجمعة؛ لقوله: "عقب كل فريضة" ، وعلى هذا فالنافلة لا يسنّ بعدها تكبير مقيد.
وأفادنا قوله: "في جماعة" أنه لو صلاها منفرداً، فلا يسن له التكبير المقيد. وكذا النساء في بيوتهن لا يسن لهن تكبير مقيد؛ لأنهن غالباً لا يصلين جماعة. والإنسان الذي تفوته الصلاة في الجماعة ويصليها منفرداً لا يسنّ له أن يكبر التكبير المقيد. وكذلك قيدوا ذلك بالمؤداة فخرج به المقضية. فالشروط ثلاثة:
-1 أن تكون الصلاة فريضة.
-2 أن تكون جماعة.
-3 أن تكون مؤداة.(1/461)
فلو صلى وحده، أو صلى نافلة، أو صلى قضاءً لم يشرع له التكبير المقيد، حتى ولو كانوا جماعة. وقال بعض العلماء: إن التكبير المقيّد سنّة لكل مصلٍّ، فريضة كانت الصلاة أو نافلة، مؤداة أو مقضية، للرجال وللنساء في البيوت. والقول الأول أخص، وهذا أعم. وقال بعض العلماء: إنَّه سنّة في الفرائض، مؤداة كانت أم مقضية، انفراداً كانت أو جماعة، دون النوافل. والمسألة إذا رأيت اختلاف العلماء رحمهم الله فيها بدون أن يذكروا نصاً فاصلاً فإننا نقول: الأمر في هذا واسع. فإن كبّر بعد صلاته منفرداً فلا حرج عليه، وإن ترك التكبير ولو في الجماعة فلا حرج عليه؛ لأن الأمر في هذا واسع والحمد لله.
قوله: "من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق". ، بيّن المؤلف في هذا وقت ابتداء التكبير المقيد، فابتداؤه من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، فيكبّر ثلاثاً وعشرين صلاة. والتكبير باعتبار التقييد والإطلاق على المذهب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما فيه تكبير مطلق فقط.
الثاني: ما فيه تكبير مقيد فقط.
الثالث: ما اجتمع فيه الأمران المقيد والمطلق.
فالتكبير المطلق: في عيد الفطر، وفي عيد الأضحى في عشر ذي الحجة إلى أن ينتهي الإمام من خطبته. ويجتمع المقيد والمطلق من فجر يوم عرفة إلى أن تنتهي خطبة صلاة العيد يوم النحر. والتكبير المقيد: من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق. والصحيح في هذه المسألة: أن التكبير المطلق في عيد الأضحى ينتهي بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
والصواب: أن أيام التشريق ويوم النحر فيها ذكر مطلق، كما أن فيها ذكراً مقيداً. وعلى هذا فالتكبير ينقسم إلى قسمين فقط:
-1 مطلق. -2 مطلق ومقيد.
فالمطلق: ليلة عيد الفطر، وعشر ذي الحجة إلى فجر يوم عرفة. والمطلق والمقيد: من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.(1/462)
قوله: "وإن نسيه قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد" ، أي: إن نسي التكبير المقيد، فالضمير هنا يعود على بعض مرجعه؛ لأن مرجعه يعود على التكبير، لكن المراد بعض التكبير وهو المقيد، أي: إن نسي التكبير المقيد بعد الصلاة قضاه، فلو أنه لما سلم من صلاته استغفر، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام" وسبّح ناسياً التكبير، فنقول: يقضيه إلا في ثلاث أحوال:
-1 ما لم يحدث.
-2 أن يخرج من المسجد.
-3 أن يطول الفصل. ( وهذا ماقرره المؤلف ). والراجح : أن هذا التكبير المقيد يسقط بطول الفصل . أما الحدث وخروجه من المسجد، فإنه لايسقط بهما إلا إذا طال الفصل . فإن لم يطل الفصل فإن التكبير لايسقط .
قوله: "ولا يسن عقب صلاة عيد" الضمير يعود على التكبير المقيد؛ لأننا نتكلم عن المقيد، فلو صلى العيد، وقال: أريد أن أكبِّر، قلنا: لا تكبر؛ لأنه إذا سلم الإمام من صلاة العيد قام إلى الخطبة وتفرغ الناس للاستماع والإنصات، ولا يكبرون.
قوله: "وصفته شَفْعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد" . ، هذه المسألة - أي: صفة التكبير - فيها أقوال ثلاثة لأهل العلم:
الأول: أنه شفع كما قال المؤلف: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد" .
الثاني: أنه وتر، "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
الثالث: أنه وتر في الأولى، شفع في الثانية، "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
والمسألة ليس فيها نص يفصل بين المتنازعين من أهل العلم، وإذا كان كذلك فالأمر فيه سعة، إن شئت فكبر شفعاً، وإن شئت فكبر وتراً، وإن شئت وتراً في الأولى وشفعاً في الثانية.(1/463)
مسألة: قال في الروض: "ولا بأس بقوله لغيره: تقبّل الله منا ومنك كالجواب" ، أي: في العيد، لا بأس أن يقول لغيره: تقبّل الله منّا ومنك، أو عيد مبارك، أو تقبّل الله صيامك وقيامك، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا ورد من فعل بعض الصحابة وليس فيه محذور.
باب صلاة الكسوف
الكسوف عرّفه الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه. والحقيقة أنه لا يذهب، وإنما ينحجب، ولهذا نقول: التعبير الدقيق للكسوف: "انحجاب ضوء أحد النيرين" ، أي: الشمس أو القمر "بسبب غير معتاد" .
مسألة: هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع؟ الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه، وتروضت النفوس له، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها. ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة.
ولو قال قائل: ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء؟ فالجواب: نقول: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به.
مسألة: إذا قال الفلكيون: إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوا" ، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي.(1/464)
قوله: "تسن جماعة، وفرادى" ، أفادنا المؤلف بقوله: "تسن" أن صلاة الكسوف سنة ليست فرض عين، ولا فرض كفاية، وأن الناس لو تركوها لم يأثموا ، هذا وهو المشهور عند العلماء. وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة . وهذا القول قوي جداً، ولا أرى أنه يسوغ أن يرى الناس كسوف الشمس أو القمر ثم لا يبالون به، كل في تجارته، كل في لهوه، كل في مزرعته، فهذا شيء يخشى أن تنزل بسببه العقوبة التي أنذرنا الله إياها بهذا الكسوف. فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب. وإذا قلنا بالوجوب؛ الظاهر أنه على الكفاية.
وقوله: "جماعة وفرادى" ، أي: تسن جماعة، وتسن فرادى. أي: أن الجماعة ليست شرطاً لها، بل يسن للناس في البيوت أن يصلوها، ولكن لا شك أن اجتماع الناس أولى، بل الأفضل أن يصلوها في الجوامع.
قوله: "إذا كسف أحد النيرين" ، أي: تسن إذا كسف أحد النيرين وهما: الشمس والقمر.
قوله: "ركعتين يقرأ في الأولى جهراً" ، بيَّن المؤلف في هذه الجملة صفة صلاة الكسوف، وأنها تصلى ركعتين بلا زيادة، لكن هاتين الركعتين كل واحدة فيها ركوعان.
قوله: "بعد الفاتحة سورة طويلة"، لم يعيّن، سورة البقرة، أو آل عمران، أو النساء، فالمهم أن تكون سورة طويلة؛ لأن الذي جاء في الحديث أنها طويلة أي: يختار أطول ما يكون، وقد سبق أن بعض الصحابة كان يسقط مغشياً عليه من طول القيام .
قوله: "ثم يركع طويلاً" أي: من غير تقدير، المهم أن يكون طويلاً. وقال بعض العلماء: يكون بقدر نصف قراءته أي: الركوع يكون نصف القيام، ولكن الصحيح: أنه بدون تقدير، فيطيل بقدر الإمكان.(1/465)
فإن قال قائل: طول القيام فهمنا ما يفعل فيه وهو القراءة، لكن إذا أطال الركوع فماذا يصنع؟ فالجواب: يكرر التسبيح "سبحان ربي العظيم"، "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، "سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ، فكل ما حصل من تعظيم في الركوع فهذا هو المشروع.
قوله: "ثم يرفع" ، أي: ثم يرفع رأسه من الركوع.
قوله: "ويسمع ويحمد " ، أي: يقول: سمع الله لمن حمده، (و) يقول: ربنا ولك الحمد، بعد أن يعتدل كسائر الصلوات.
قوله: "ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى" ، ومن هنا جاءت الغرابة في هذه الصلاة؛ لأن غيرها من الصلوات لا تقرأ الفاتحة بعد الركوع، بل الذي بعد الركوع هو السجود، أما هذه الصلاة فيقرأ الفاتحة، وسورة طويلة. لكن هل هي دون الأولى بكثير أو بقليل؟ الجواب: جاء في الحديث "دون الأولى" ، فينظر إلى هذا الدون. والظاهر: أنه ليس دونها بكثير، لكنه دون يتميّز به القيام الأول عن القيام الثاني.
قوله: "ثم يركع فيطيل، وهو دون الأول" ، ونقول هنا في قوله: "دون الأول" كما قلنا في القراءة.
قوله: "ثم يرفع" أي: ويسمع ويحمد.وظاهر كلام المؤلف: أنه في الرفع الذي يليه السجود لا يطيل القيام،بل يكون كالصلاة العادية، ولكن هذا الظاهر فيه نظر، والصحيح: أنه يطيل هذا القيام بحيث يكون قريباً من الركوع .
قوله: "ثم يسجد سجدتين طويلتين" ، أي: بقدر الركوع. وظاهر كلامه: أنه لا يطيل الجلوس بينهما. والصواب: أنه يطيل الجلوس بقدر السجود.(1/466)
قوله: "ثم يصلي الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل" أي: من القراءة والركوع، والقيام بعده، والسجود، فالثانية تكون دون الأولى. ولكن هل معناه أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، والقيام الثاني في الثانية دون ذلك، أو معناه: أن كل ركعة وركوع دون الذي قبله؟ الجواب: أن السنّة ليس فيها ما يدل لهذا ولا لهذا. فليس لدينا دليل واضح في هذه المسألة، لكن الذي يظهر - والله أعلم - أن كل قيام وركوع وسجود دون الذي قبله.
قوله: "ثم يتشهد ويسلم" ، أي: كغيرها من الصلوات، وبهذا انتهت هذه الصلاة. وظاهر كلامه: أنه لا يشرع لها خطبة؛ لأنه لم يذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. وقال بعض العلماء: بل يشرع بعدها خطبتان. وقال بعض العلماء: يسنّ لها خطبة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح.
قوله: "فإن تجلى الكسوف فيها" أي: كسوف الشمس، أو القمر. وقوله: "فيها" أي: في الصلاة. ويعلم التجلي بالرؤية، فإن كان في النهار فالأمر واضح، وإن كان في الليل فكذلك، وإن كان تحت السقف فبالخبر.
قوله: "أتمها خفيفة" ، ظاهر كلامه: حتى لو كانت خفة الركعة الثانية بالنسبة للأولى بعيدة جداً؛ فمثلاً: الركعة الأولى استغرقت نصف ساعة، والثانية إذا أتمها خفيفة تستغرق خمس دقائق. فظاهر كلامه: أن الأمر يكون كذلك، وحينئذٍ تكون الصلاة وكأنها صلاة جذماء مقطوعة بعض الأعضاء.
مسائل: الأولى: لو حصل كسوف ثم تلبدت السماء بالغيوم فهل نعمل بقول علماء الفلك بالنسبة لوقت التجلي؟ الجواب: نعمل بقولهم؛ لأنه ثبت بالتجارب أن قولهم منضبط.
الثانية: إذا لم يعلم بالكسوف إلا بعد زواله فلا يقضى.
الثالثة: إذا شرع في صلاة الكسوف قبل دخول وقت الفريضة ثم دخل وقت الفريضة، فماذا يفعل؟ الجواب: إن ضاق وقت الفريضة وجب عليه التخفيف؛ ليصليها في الوقت، وإن اتسع الوقت فيستمر في صلاة الكسوف.(1/467)
قوله: "وإن غابت الشمس كاسفة" ، إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى؛ لأنها لما غابت ذهب سلطانها، وكونها كاسفة أو غير كاسفة بالنسبة لنا حين غابت لا يؤثر شيئاً، فلما زال سلطانها سقطت المطالبة بالصلاة لكسوفها.
مسائل: الأولى: إذا كسفت في آخر النهار، فلا يصلى الكسوف بناء على أنها سنّة، وأن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي وهذا هو المذهب. ولكن الصحيح في هذه المسألة: أنه يصلى للكسوف بعد العصر.
الثانية: إذا شرع في صلاة الكسوف بعد العصر ثم غابت كاسفة فإنه يتمها خفيفة؛ لأنها إذا غابت فهي كما لو تجلى.
الثالثة: إذا طلعت الشمس كاسفة فعلى المذهب لا يصلى إلا إذا ارتفعت قيد رمح، فإن تجلى قبل أن ترتفع قيد رمح سقطت، وعلى القول الصحيح تصلى مباشرة، فإذا تجلى قبل زوال وقت النهي أتمها خفيفة.
الرابعة: لو لم نعلم بكسوفها إلا حين غروبها فلا نصلي، ونعلل: بأن سلطانها قد ذهب، فنحن الآن في الليل لا في النهار، وهي آية النهار.
قوله: "أو طلعت والقمر خاسف" ، هل يمكن أن تطلع والقمر خاسف؟ الجواب: يمكن، ففي نصف الشهر: يكون القمر في الغرب، والشمس في الشرق فربما يكسف بعدما تطلع الشمس، وهذا شيء قد وقع. فإذا طلعت والقمر خاسف فإنه لا يصلي؛ لأنه ذهب سلطانه فإن سلطان القمر الليل، كما لو غابت الشمس، وهي كاسفة.
مسألة: لو طلع الفجر وخسف القمر قبل طلوع الشمس هل يصلى؟ الجواب: قد نقول: إن مفهوم قوله: "أو طلعت والقمر خاسف" إنها تصلى، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تصلى بعد طلوع الفجر إذا خسف القمر؛ لأنه وقت نهي. والصحيح: أنها تصلى إن كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، ولم يبق إلا القليل على طلوعٍ الشمس فهنا قد ذهب سلطانه، والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفاً أو مبدراً.(1/468)
قوله: "أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل" ، أي: إذا وُجدت آية تخويف كالصواعق، والرياح الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والحمم، وغير ذلك فإنه لا تصلى صلاة الكسوف إلا الزلزلة، فإنه إذا زلزلت الأرض فإنهم يصلون صلاة الكسوف حتى تتوقف. والمراد بالزلزلة: الزلزلة الدائمة.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة: القول الأول: ما مشى عليه المؤلف أنه لا يصلى لأي آية تخويف إلا الزلزلة. (و) القول الثاني: أنه لا يصلى إلا للشمس والقمر ، ولا يصلى لغيرهما من آيات التخويف، (و) القول الثالث: يصلى لكل آية تخويف.وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. وهو الراجح.
مسألة: فعلى القول بأنه يصلى لكل آية تخويف، فهل ذلك على سبيل الوجوب كالكسوف؟ الجواب: مقتضى القياس أن ذلك واجب، ولكن لا أظن أن ذلك يكون على سبيل الوجوب.
قوله: "وإن أتى" ، أي: المصلي.
قوله: "في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز" ، لأنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه صلى ثلاث ركوعات في ركعة واحدة"، أخرجه مسلم ، لكن هذه الرواية شاذة، ووجه شذوذها: أنها مخالفة لما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلى صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان فقط" ، ومن المعلوم بالاتفاق أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصلِّ له إلا مرة واحدة فقط. وعلى هذا فالمحفوظ أنه صلّى في كل ركعة ركوعين، وما زاد على ذلك فهو شاذ؛ لأن الثقة مخالف فيها لمن هو أرجح.(1/469)
ولكن ثبت عن علي بن أبي طالب: "أنه صلّى في كل ركعة أربع ركوعات" ، وعلى هذا فيكون من سنّة الخلفاء الراشدين، وهذا ينبني على طول زمن الكسوف، فإذا علمنا أن زمن الكسوف سيطول فلا حرج من أن نصلي ثلاث ركوعات في كل ركعة، أو أربع ركوعات، كما قال المؤلف، أو خمس ركوعات؛ لأن كل ذلك ورد عن الصحابة وهو يرجع إلى زمن الكسوف إن طال زيدت الركوعات، وإن قصر فالاقتصار على ركوعين أولى. وإن اقتصر على ركوعين وأطال الصلاة إذا علم أن الكسوف سيطول فهو أولى وأفضل، والكلام في الجواز، أما الأفضل فلا شك أن الأفضل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه يصلي ركوعين في كل ركعة.
مسائل: الأولى: ما بعد الركوع الأول هل هو ركن أو لا؟ يقول العلماء: إنه سنّة وليس ركناً، وبناء على ذلك لو صلاها كما تصلى صلاة النافلة، في كل ركعة ركوع فلا بأس؛ لأن ما زاد على الركوع الأول سنة.
الثانية: هل تدرك الركعة بالركوع الثاني؟ الجواب: لا تدرك به الركعة، وإنما تدرك الركعة بالركوع الأول، فعلى هذا لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها. وقال بعض العلماء: إنه يعتد بها؛ لأنها ركوع. وفصل آخرون فقالوا: يعتد بها إن أتى الإمام بثلاث ركوعات؛ لأنه إذا أدرك الركوع الثاني وهي ثلاث ركوعات فقد أدرك معظم الركعة فيكون كمن أدركها كلها. والقول الصحيح الأول.
الثالثة: لو انتهت الصلاة والكسوف باق، فهل تعاد الصلاة أو لا؟ وإذا قلنا بالإعادة فهل تعاد كسائر النوافل، أو كصلاة الكسوف؟ والجواب: في هذا ثلاثة أقوال للعلماء: القول الأول: أنها لا تعاد. (و) القول الثاني: أنها تعاد على صفتها. (و) القول الثالث: أنها تعاد على صفة النوافل الأخرى، أي: ركعتين. وأنا لم يترجح عندي شيء لكني أفعل الثاني، وهو: عدم الإعادة.(1/470)
الرابعة: يسن النداء لصلاة الكسوف، ويقال: "الصلاة جامعة" مرتين أو ثلاثاً. بحيث يعلم أو يغلب على ظنه أن الناس قد سمعوا. وإذا قلنا بهذا فإنه يختلف بين الليل والنهار، ففي الليل قد يكون الناس نائمين يحتاجون لتكرار النداء، وفي النهار لا سيما مع هدوء الأصوات يمكن أن يكفيهم النداء مرتين أو ثلاثاً.ولا ينادى لغيرها من الصلوات بهذه الصيغة؛ لأن الصلوات الخمس ينادى لها بالأذان. وقال بعض العلماء؛ وهو المذهب: إنه ينادى للاستسقاء، والعيدين "الصلاة جامعة". لكن هذا القول ليس بصحيح، ولا يصح قياسهما على الكسوف .
باب صلاة الإستسقاء
قوله: "إذا أجدبت الأرض" ، أي: خلت من النبات، وضده الإخصاب إذا أخصبت، أي: ظهر نباتها وكثر.
قوله: "وقحط المطر"، أي: امتنع، ولم ينزل، ولا شك أنه يكون في ذلك ضرر عظيم على أصحاب المواشي، وعلى الآدميين أيضاً، فلهذا صارت صلاة الاستسقاء في هذه الحال سنة مؤكدة.
قوله: "إذا أجدبت الأرض وقحط المطر" ، ظاهره ولو كان ذلك في غير أرضهم. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يستسقي إلا لأرضه وما حولها مما يتضرر به البلد، أما ما كان بعيداً فإنه لا يضرهم، وإن كان يضر غيرهم، ما لم يأمر به الإمام فتصلى.
والاستسقاء الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ورد على أوجه متعددة ، وليس لازماً أن تكون على الصفة التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام أي: طلب السُقيا، فللناس أن يستسقوا في صلواتهم، فإذا سجد الإنسان دعا الله، وإذا قام من الليل دعا الله عز وجل.
قوله: "صلوها جماعة وفرادى" ، أي: صلاة الاستسقاء وستأتي صفتها، والأفضل أن تكون جماعة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.(1/471)
قوله: "وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد" . ، وعلى هذا فتسنّ في الصحراء؛ لأن صلاة العيد تسنّ في الصحراء. ويكبر في الأولى بعد التحريمة والاستفتاح ستاً، وفي الثانية خمساً، ويقرأ بسبّح والغاشية .ولكنها تخالف العيد في أنها سنّة، والعيد فرض كفاية.
قوله: "وإذا أراد الإمام الخروج لها وعظ الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم ، وترك التشاحن، والصيام والصدقة " ، يحتمل أن يريد به الإمام الذي يصلي بهم صلاة الاستسقاء، ويحتمل أن يراد به الإمام الأعظم وهو السلطان ، والمعنى الأول أقرب.
قوله: " والصيام" ، أي: يأمرهم أن يصوموا. قال بعض العلماء: يأمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرج في اليوم الثالث. وقال بعضهم: يجعل الاستسقاء يوم اثنين أو خميس ، هكذا قال المؤلف . ولكن في هذا نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الاستسقاء لم يأمر أصحابه أن يصوموا.
أما ما ذكره المؤلف أولاً من التوبة من المعاصي، والخروج من المظالم فهذه مناسبة، لكن الصيام طاعة تحتاج إلى إثباتها بدليل، وإذا كان الأمر قد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أصحابه بالصيام، فلا وجه للأمر به. لكن نقول: لو اختار يوم الاثنين ولم يجعله سنة راتبة دائماً من أجل أن يصادف صيام بعض الناس، لو قيل بهذا لم يكن فيه بأس. لكن كوننا نجعله سنة راتبة لا يكون الاستسقاء إلا في يوم الاثنين، أو نأمر الناس بالصوم، فهذا فيه نظر.
قوله: "ويعدهم يوماً يخرجون فيه" . أي: يقول: سنخرج في يوم كذا، ويحسن أيضاً أن يعيِّن الزمن من هذا اليوم فيقول: في ساعة كذا؛ ليتأهبوا على وجه ليس فيه ضرر عليهم.(1/472)
قوله: "ويتنظف، ولا يتطيب" ، وعللوا ذلك: بأنه يوم استكانة وخضوع، والطيب يشرح النفس ، ويجعلها تنبسط أكثر، والمطلوب في هذا اليوم الاستكانة والخضوع . وهذا أيضاً مما في النفس منه شيء؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الطيب، وكان يحب الطيب، ولا يمنع إذا تطيب الإنسان أن يكون متخشعاً مستكيناً لله - عز وجل -، ولهذا لو أراد الإِنسان أن يدعو الله بغير هذه الحال، لا نقول: الأفضل ألا تطيب من أجل أن تكون مستكيناً لله.
قوله: "ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً" ، هذه أوصاف تدل على أن الإنسان لا يخرج في فرح وسرور؛ لأن المقام لا يقتضيه.
قوله: "ومعه أهل الدين والصلاح، والشيوخ، والصبيان المميزون " ، لأن هؤلاء أقرب إلى إجابة الدعوة .
قال في الروض : "وأبيح التوسل بالصالحين" ، وهذه عبارة على إطلاقها فيها نظر، ولكنهم يريدون بذلك - رحمهم الله -: التوسل بدعاء الصالحين؛ لأن دعاء الصالحين أقرب إلى الإجابة من دعاء غير الصالحين. والتوسل بدعاء الصالحين مقيد بعدم الفتنة؛ بأن يكون دعاؤه سبباً لفتنته هو، أو لفتنة غيره، فإن خيف من ذلك ترك. وأما التوسل بالصالحين بذواتهم فهذا لا يجوز .
قوله: "وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا" ، أهل الذمة هم: الذين بَقُوا في بلادنا، وأعطيناهم العهد والميثاق على حمايتهم ونصرتهم بشرط أن يبذلوا الجزية. فإذا طلب أهل الذمة أن يستسقوا بأنفسهم منفردين عن المسلمين بالمكان لا باليوم، فإنه لا بأس به، (أما إذا طلبوا أن) ينفردوا بيوم، فإننا (نمنعهم) ولا نوافقهم؛ لأنه ربما ينزل المطر في اليوم الذي استسقوا فيه فيكون في ذلك فتنة، ويقال: هم على حق. ومثل ذلك أهل البدع، لو أن أهل البدع طلبوا منَّا أن ينفردوا بمكان أُذِن لهم، فإن طلبوا أن ينفردوا بزمان منعناهم؛ لأنه إذا منعنا أهل الذمة مع ظهور كفرهم فمنعنا لأهل البدع من باب أولى.(1/473)
مسألة: هل أهل الذمة كل كافر عقدنا معه الذمة، أو يختص بجنس معين من الكفار؟ الجواب: المذهب: أنه يختص بجنس معين من الكفار، وهم ثلاثة: اليهود، والنصارى، والمجوس. والصحيح: أنه عام لكل كافر أبى الإِسلام، ورضخ للجزية، فإننا نعقد معه الذمة .
قوله: "فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة" , أفادنا أن الخطبة تكون بعد الصلاة كالعيد، ولكن قد ثبتت السنة أن الخطبة تكون قبل الصلاة ، كما جاءت السنة بأنها تكون بعد الصلاة . وعلى هذا فتكون خطبة الاستسقاء قبل الصلاة، وبعدها ولكن إذا خطب قبل الصلاة لا يخطب بعدها، فلا يجمع بين الأمرين، فإما أن يخطب قبل، وإما أن يخطب بعد.
قوله: "يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد" ، سبق أن خطبة العيد يفتتحها بالتكبير على المشهور من المذهب، وأن في المسألة خلافاً، فمن العلماء من قال: يفتتحها بالحمد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في جميع خطبه وهكذا في خطبة الاستسقاء. بل لو قال قائل: إن خطبة الاستسقاء تُبدأ بالحمد بخلاف خطبة العيد لكان متوجهاً.
قوله: "ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر به " الاستغفار هو: طلب المغفرة، فيقول: اللهم اغفر لنا، اللهم إننا نستغفرك، وما أشبه ذلك. وقوله: "وقراءة الآيات التي فيها الأمر به" أي: مثل قوله تعالى: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) .(1/474)
قوله: "ويرفع يديه، فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: يرفع الإمام يديه ، وكذلك المستمعون يرفعون أيديهم . وينبغي في هذا الرفع أن يبالغ فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبالغ فيه حتى يُرى بياض إبطيه، ولا يرى البياض إلا مع الرفع الشديد حتى إنه جاء في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "جعل ظهورهما نحو السماء" . واختلف العلماء في تأويله: فقال بعض العلماء: يجعل ظهورهما نحو السماء. وقال بعض العلماء: بل رفعهما رفعاً شديداً حتى كان الرائي يرى ظهورهما نحو السماء؛ لأنه إذا رفع رفعاً شديداً صارت ظهورهما نحو السماء. وهذا هو الأقرب، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية ، وذلك لأن الرافع يديه عند الدعاء يستجدي ويطلب، ومعلوم أن الطلب إنما يكون بباطن الكف لا بظاهره.
قوله: "ومنه: اللهم اسقنا غيثاً مغيثا إلى آخره ً" . قوله: "إلى آخره" يعني آخر الدعاء، وذكره في "الروض المربع" فقال: "هنيئاً مريئاً، غدقاً مجللاً، عاماً سَحًّا، طبقاً دائماً، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين" .
مسألة: يسن على المذهب: أن يقلب رداءه في أثناء الخطبة، ويستقبل القبلة ويدعو. وقال بعض العلماء: إنما يكون القلب بعد الدعاء؛ تفاؤلاً بأن الله أجاب الدعاء، وأنه سيقلب الحال من الشدة إلى الرخاء.
قوله: "وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله" ، الضمير يعود على الناس، أي: إن سقاهم الله وأنزل المطر قبل أن يخرجوا، فلا حاجة للخروج، ولو خرجوا في هذه الحال لكانوا مبتدعين؛ لأن صلاة الاستسقاء إنما تشرع لطلب السُقيا، فإذا سقوا فلا حاجة لها، ويكون عليهم وظيفة أخرى وهي وظيفة الشكر، فيشكرون الله على هذه النعمة بقلوبهم وبألسنتهم وبجوارحهم .(1/475)
قوله: "وينادى الصلاة جامعة" ، ( أي ) : إذا جاء وقت صلاة الاستسقاء، وارتفعت الشمس قيد رمح يُنادى: الصلاةُ جامعة؛ ليحضر الناس؛ قياساً على صلاة الكسوف. والمذهب: يرون أنه ينادى للكسوف، والعيد، والاستسقاء. ولكن ما ذكره الأصحاب في المناداة للعيد، والاستسقاء، ضعيف جداً .
قوله: "وليس من شرطها إذن الإِمام" ، أي: ليس من شرط إقامتها أن يأذن الإِمام بذلك، بل إذا قحط المطر وأجدبت الأرض خرج الناس وصلوا، ولو صلى كل بلد وحده لم يخرجوا عن السنة. بل لو وجد السبب، وقال الإِمام: لا تصلوا، فإن في منعه إياهم نظراً؛ لأنه وجد السبب فلا ينبغي أن يمنعهم، ولكن حسب العُرف عندنا لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بإذن الإِمام. اللهم إلا أن يكون قوم من البادية بعيدون عن المدن ولا يتقيدون، فهنا ربما يقيمونها، وإن كان أهل البلد لم يقيموها.
قوله: "ويسن أن يقف في أول المطر" ، قوله: "أن يقف" ، أي: أن يقف قائماً أول ما ينزل المطر.
قوله: "وإخراج رحله وثيابه ليصيبهما المطر" ، أي: متاعه الذي في بيته، أو في خيمته إن كان في البر، وكذلك ثيابه يخرجها؛ لأن هذا روي عن ابن عباس . والثابت من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه إذا نزل المطر حسر ثوبه" ، أي: رفعه حتى يصيب المطر بدنه، ويقول: "إنه كان حديث عهد بربه" . وهذه السنّة ثابتة في الصحيح، وعليه فيقوم الإِنسان ويخرج شيئاً من بدنه إما من ساقه، أو من ذراعه، أو من رأسه حتى يصيبه المطر اتباعاً لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: "وإذا زادت المياه وخيف منها سنّ أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا اللهمّ على الظراب, والآكام, وبطون الأودية, ومنابت الشجر, ربنا لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به الآية" " ، أي: إذا زادت مياه السماء أي: الأمطار، ومثل ذلك لو زادت مياه الأنهار على وجه يُخشى منه، فإنه يسنّ أن يقول هذا الذكر.(1/476)
وقوله: "ربنا لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به" ، هذه لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنها مناسبة. فإذا قالها الإِنسان لا على سبيل السنية فلا بأس، أما إذا قالها على أنها سنة فلا.
قوله: " الآية" ، أي: إلى آخر الآية، أي: أكمل الآية. وإكمال الآية: ) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا).
كتاب الجنائز
…
مسائل: الأولى: هل يُسْأَلُ المريض كيف يصلي وكيف يتطهر، أو نقول: إن هذا من باب التدخل فيما لا يعني؟ الجواب: الذي نرى أنه إن كان المريض من ذوي العلم الذين يعرفون، فلا حاجة أن تذكره ، وأما إذا كان من العامة الجُهال فهنا يحسن أن يبين له.
الثانية: هل يؤمر المرضى بالتداوي؛ أو يؤمرون بعدم التداوي، أم في ذلك تفصيل؟ الجواب: قال بعض العلماء: ترك التداوي أفضل ولا ينبغي أن يتداوى الإنسان. وقال بعض العلماء: بل يسنّ التداوي. وقال بعض العلماء: إذا كان الدواء مما علم أو غلب على الظن نفعه بحسب التجارب فهو أفضل، وإن كان من باب المخاطرة فتركه أفضل. وقال بعض العلماء: إنه يجب التداوي إذا ظُن نفعه. والأقرب أن يقال ما يلي:
- أن ما عُلم، أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه، فهو واجب.
- أن ما غلب على الظن نفعه، ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل.
- أن ما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل؛ لئلا يلقي الإِنسان بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر.
الثالثة: التداوي بالمحرم لا يجوز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم .
الرابعة: استطباب غير المسلمين لا يجوز إلا بشرطين: الأول: الحاجة إليهم.
الثاني: الأمن من مكرهم . فإذا احتاج الناس إليهم وأمنوا منهم فلا بأس.(1/477)
قوله: "تسنّ عيادة المريض" ، ( المراد بالمريض الذي يعاد هو : ) من مرض مرضاً يحبسه عن الخروج مع الناس، فأما إذا كان لا يحبسه فإنه لا يحتاج إلى عيادة؛ لأنه يشهد الناس ويشهدونه، إلا إذا علم أن هذا الرجل يخرج إلى السوق أو إلى المسجد بمشقة شديدة، ولم يصادفه حين خروجه، وأنه بعد ذلك يبقى في بيته، فهنا نقول: عيادته مشروعة. ( و ) إذا كان لايحتاج إلى عيادة فلا يمنع ذلك أن نسأل عن حاله .
وأما المصاب بالمرض فإن كان غير مسلم فلا يعاد، إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك بحيث نعوده لنعرض عليه الإِسلام، فهنا تشرع عيادته إما وجوباً وإما استحباباً . وأما الفاجر من المسلمين أعني الفاسق بكبيرة من الكبائر أو بصغيرة من الصغائر وأصر عليها، ففيه تفصيل أيضاً، فإذا كنا نعوده من أجل أن نعرض عليه التوبة ونرجو منه التوبة، فعيادته مشروعة إما وجوباً وإما استحباباً، وإلا فإن الأفضل ألا نعوده، وقد يقال: بل عيادته مشروعة ما دام أنه لم يخرج من وصف الإِيمان أو الإِسلام.
وقوله: "تسنّ" ظاهره أنَّه سنة في حق جميع الناس، ولكن ليس هذا على إطلاقه؛ فإن عيادة المريض إذا تعينت براً أو صلة رحم صارت واجبة لا من أجل المرض، ولكن من أجل القرابة، أما من لا يعد ترك عيادته عقوقاً أو قطيعة فإن المؤلف يقول: إنه سنة. وقال بعض العلماء: إنه واجب كفائي أي: يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم، وهذا هو الصحيح.
قوله: "تسنّ عيادة المريض" ولم يبيِّن المؤلف في أي وقت يعاد المريض، ولم يبيّن هل يتحدث عنده، ويتأخر في المقام، أو لا يتحدث، ويتعجل في الانصراف؟ فنقول: عدم ذكرها أحسن، ( لأن ) الصحيح في ذلك أنه يرجع إلى ما تقتضيه حال المريض ومصلحته، ولا نقيدها بزمن ولا بقاء ، بل نقول : إن هذه ترجع إلى أحوال الناس، وهي تختلف بحسب حال المريض.
مسألة: الاتصال بالهاتف لا يغني عن العيادة؛ لا سيما مع القرابة، أما إن كان بعيداً يحتاج لسفر فتغني.(1/478)
قوله: "وتذكيره التوبة والوصية" ، أي: ويسنّ أن يذكره التوبة والوصية، فالتوبة من المعاصي والمظالم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بحق الله - عز وجل -، أو بحقوق العباد، ويؤكد على حقوق العباد. ويذكره أيضاً الوصية. وأهم شيء أن يوصي بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق العباد، فقد يكون عليه زكاة لم يؤدها، وقد يكون عليه حج لم يؤده، وقد يكون عليه كفارة، وقد يكون عليه ديون للناس فيذكر بالوصية بهذا. ويذكر بوصية التطوع، فيقال: لو أوصيت بشيء من مالك في وجوه الخير تنتفع به، وأحسن ما يوصي به للأقارب غير الوارثين؛ لأن الذي يترجّح عندي: أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبة.
وظاهر كلام المؤلف: يدل على أنه يذكر بذلك، سواء كان المرض مخوفاً أو غير مخوف، وسواء كان المريض يرتاع بذلك أو لا. وقال بعض العلماء: لا يذكره بذلك إلا إذا كان مرضه مخوفاً. وفصل بعضهم فقال: أما التوبة فيذكره بها مطلقاً، ولو كان المرض غير مخوف؛ لأن التوبة مطلوبة في كل حال، والوصية لا يذكره بها إلا إذا كان المرض مخوفاً. والذي يظهر لي : أنه يذكره مطلقاً ما لم يخف عليه؛ وذلك لأن التوبة مشروعة في كل وقت، والوصية كذلك.
قوله: "وإذا نزل به" ، أي: نزل به الملك لقبض روحه، والملك الذي يقبض الروح هو ملك واحد يسمى "ملك الموت ، وتسميته بعزرائيل لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي من أخبار بني إسرائيل، ولم يثبت من أسماء الملائكة إلا خمسة أسماء، وهي: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، فهذه هي الأسماء الثابتة فيمن يتولون أعمال العباد، فأما منكر ونكير اللّذان يسألان الميت في قبره، فقد أنكرهما كثير من أهل العلم، ولكن وردت فيهما آثار.(1/479)
قوله: "سُنَّ تعاهد بلّ حلقه بماء أو شراب" ، أي: يسن أن يتعاهد الإِنسان بلَّ حلق المحتضَر بماء أو شراب، ولكن ليس بالماء الكثير؛ لأن الماء الكثير ربما يشرقه ويتضرر به، ولكن بماء قليل نقط تنقط بحلقه، وذلك من أجل أن يسهل عليه النطق بالشهادة؛ لأن المقام مقام رأفة بهذا المريض الذي بين يديك، فاسلك كل طريق يكون به أرفق.
وقول المؤلف: "بماء أو شراب" الماء معروف، والشراب: ما سوى الماء مثل العصير أو شبهه، المهم الشيء الذي يصل إلى حلقه ويبلّه.
قوله: "وتندّى شفتاه بقطنة" ، أي: أن الحاضر ينبغي له مع تنقيط الماء في حلق المحتضَر أن يندي شفتيه بقطنة؛ لأن الشفة يابسة، والحلق يابس فيحتاجان إلى تندية.
قوله: "وتلقينه لا إله إلا الله مرة" ، أي: تعليمه إياها كما يلقن التلميذ. وهل يقولها بلفظ الأمر، فيقول: قل: "لا إله إلا الله" أو يقولها بدون لفظ الأمر بأن يذكر الله عنده حتى يسمعه؟ الجواب: ينبغي في هذا أن ينظر إلى حال المريض، فإن كان المريض قوياً يتحمل، أو كان كافراً فإنه يؤمر فيقال: قل: لا إله إلا الله، اختم حياتك بلا إله إلا الله، وما أشبه ذلك.وإن كان مسلماً ضعيفاً فإنه لا يؤمر، وإنما يذكر الله عنده حتى يسمع فيتذكر.
قوله: "تلقينه لا إله إلا الله" ولم يقل: محمداً رسول الله؛ لأن هذا هو الذي ورد فيه الحديث: "لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله" ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة" . ولو جمع بين الشهادتين؛ فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يمنع هذا من أن يكون آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" ؛ لأن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة تابع لما قبلها ومتممٌ له، فلا يعاد تلقينه، وظاهر الأدلة أنه لا يكفي قول المحتضَر: أشهد أن محمداً رسول الله، بل لا بد أن يقول: لا إله إلا الله.(1/480)
قوله: "ولم يزد على ثلاث" أي: لم يلقنه أكثر من ثلاث؛ لأنه لو زاد على ذلك ضجر.
قوله: "إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق"., إلا أن يتكلم" الفاعل المريض المحتضَر، فإذا تكلم بعد أن قال: لا إله إلا الله فإنه يعيد تلقينه، لكن برفق كالأول.
قوله: "ويقرأ عنده { يس } " ، أي: يقرأ القارئ عند المحتضَر سورة {يس } لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا على موتاكم يس~" ، هذا الحديث مختلف فيه، وفيه مقال، ومن كان عنده هذا الحديث حسناً أخذ به.
وهل يقرؤها سراً أو جهراً، أو في ذلك تفصيل؟ الجواب: قوله: "اقرؤوا على موتاكم" ، يقتضي أن تكون قراءتها جهراً، ولا سيما إذا قلنا: إن العلة تشويق الميت لما يسمعه في هذه السورة، ولكن إذا كان يخشى على المريض من الانزعاج، وأنه إذا سمع القارئ يقرأ سورة {يس }، أو كان في شك في كون الإِنسان في النزع فلا يرفع صوته بها ، فإذا عرف أنه في سياق الموت فإنه يقرؤها بصوت مرتفع، ولا حرج في هذا، لأن الرجل يُحْتَضَر. وهذه القراءة لا يكون معها نفث على المحتضَر؛ لأنه لم يرد.(1/481)
قوله: "ويوجّهه إلى القبلة" أي: من حضر الميت يوجّه الميت إلى القبلة، أي: يجعل وجهه نحو القبلة، وذلك أن المحتضَر إما أن يستدبر القبلة، أو يكون رأسه نحو القبلة أو بالعكس، أو يستقبلها، والأخيرة أفضل الأحوال. وهذا يقتضي أن يكون على جنبه الأيمن، أو الأيسر حسب ما هو متيسر؛ لأن المجلس الذي يستقبل فيه الإنسان القبلة هو أفضل المجالس، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشرف مجالسكم ما استقبلتم به القبلة" ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً" ، وهذا يشمل الميت المحتضر والميت بعد دفنه في القبر، وكلا الحديثين ضعيف، لكن يشهد له ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة - - أن البراء بن معرور أوصى عند موته أن يستقبل به القبلة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصاب الفطرة" . فهذا يشهد للحديثين السابقين، وإلا فإن الذي يظهر من عمل النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة أنهم لا يتقصدون أن يوجّه المحتضَر إلى القبلة، ومن ذلك ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته حيث مات في حجر عائشة، ولم يُذْكر أنها استقبلت به القبلة ، وإنما هذه الأحاديث، وإن كانت ضعيفة فربما تصل إلى درجة الحسن فتكون مقبولة.
قوله: "فإذا مات سنّ تغميضه" ، كل ما تقدم من الكلام محله قبل الموت، فإذا مات فإنه تشرع في حق الميت أمور: أولها: تغميض الميت.
قوله: "وشد لحييه" ، هذا هو الأمر الثاني مما يفعل بالميت، وهو: شد لحييه، أي: ربطهما، واللحيان: هما العظمان اللذان هما منبت الأسنان فليشدهما بحبل،أو بخيط، أو بلفافة؛ لأنه إذا لم يربطهما فربما ينفتح الفم، فإذا شدهما وبرد الميت بقي مشدوداً .
قوله: "وتليين مفاصله" ، هذا هو الأمر الثالث، وهو: تليين مفاصل الميت، أي: أن يحاول تليينها، والمراد مفاصل اليدين والرجلين، وذلك بأن يرد الذراع إلى العضد، ثم العضد إلى الجنب ثم يردهما.(1/482)
وكذلك مفاصل الرجلين: بأن يرد الساق إلى الفخذ، ثم الفخذ إلى البطن، ثم يردهما قبل أن يبرد؛ لأنه إذا برد بقي على ما هو عليه وصعب تغسيله ، وهذا ( والذي قبله ) لا أعلم فيه سنّة، لكن دليله نظري. وهو ما فيه من تليين مفاصل الميت وهذه مصلحة، ولكن يجب أن تليّن برفق، وليس بشدة؛ لأن الميت محل الرفق والرحمة.
قوله: "وخلع ثيابه وستره بثوب " ، هذا هو الأمر الرابع والخامس،؛ وهو: خلع ثياب الميت، و ستره بثوب يكون شاملاً للبدن كله.
قوله: "ووضع حديدة على بطنه" هذا هو الأمر السادس، وهو وضع حديدة على بطن الميت أي: يسن أيضاً أن يوضع على بطنه حديدة أو نحوها من الأشياء الثقيلة. واستدلوا على هذا: بأثر فيه نظر، وبنظر فيه عِلة ، وفي عصرنا الآن نستغني عن هذا، وهو أن يوضع في ثلاجة إذا احتيج إلى تأخير دفنه، وإذا وضع في الثلاجة فإنه لا ينتفخ، لأنه يبقى بارداً فلا يحصل الانتفاخ في بطنه.
قوله: "ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه" هذا هو الأمر السابع، وهو: وضع الميت على سرير الغسل، أي: ينبغي أن يبادر في رفعه عن الأرض؛ لئلا تأتيه الهوام، ولعل ذكر الفقهاء - رحمهم الله لذلك؛ لكثرة الهوام في البيوت في زمانهم فلهذا قالوا: ينبغي أن يبادر فيرفع على سرير الغسل.
وقوله: "متوجهاً" ، أي: إلى القبلة لأن هذا أفضل، ولا أعلم في هذا دليلاً من السنة.
وقوله: "منحدراً نحو رجليه" أي: يكون رأسه أعلى من رجليه.
قوله: "وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة" ، هذا هو الأمر الثامن ، وهو: الإسراع في تجهيز الميت.(1/483)
وقوله: "إن مات غير فجأة" ، فإن مات فجأة فإنه لا يسن الإِسراع بتجهيزه؛ لاحتمال أن تكون غشية لا موتاً . وهذا الذي ذكره العلماء - رحمهم الله - قبل أن يتقدم الطب، أما الآن فإنه يمكن أن يحكم عليه أنه مات بسرعة؛ لأن لديهم وسائل قوية تدل على موت المريض. لكن إذا لم يكن هناك وسائل فإن الواجب الانتظار إلى أن نتيقن موته. وبهذا التقرير نعلم خطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يؤخرون الميت حتى يأتي أقاربه، وأحياناً يكون أقاربه خارج المملكة في أوربا أو غيرها، فينتظرون به يوماً، أو يوماً وليلة من أجل حضور الأقارب، وهذا في الحقيقة جناية على الميت. ( وكذلك ) قبل أن يصلي عليه . أما إذا أخر مثلاً لساعة أو ساعتين أو نحوهما، من أجل كثرة الجمع فلا بأس بذلك، كما لو مات بأول النهار وأخرناه إلى الظهر؛ ليحضر الناس، أو إلى صلاة الجمعة إذا كان في صباح الجمعة؛ ليكثر المصلون عليه، فهذا لا بأس به
قال في الروض: "يعرف موته بانخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه" ، فهذه أربع علامات يعلم بها الموت، وهي علامات حسية بدون آلات، لكن الآن لدى الأطباء آلات تدل على الموت دون هذه العلامات.
قوله: "وإنفاذِ وصيته" ، أي: وإسراع إنفاذ وصيته، أما إنفاذ وصيته فهو واجب، لكن إسراع الإِنفاذ إما واجب أو مستحب؛ لأن الوصية إن كانت في واجب فللإِسراع في إبراء ذمته، وإن كانت في تطوع فلإِسراع الأجر له، والوصية إما واجبة وإما تطوع. قال أهل العلم: فينبغي أن تنفذ قبل أن يدفن, ( وكذلك ) قبل أن يصلى عليه ويدفن، هذه هي السنة.
قوله: "ويجب الإِسراع في قضاء دينه" ، أي دين الميت، سواء كان هذا الدَّين لله، أو للآدمي. فيجب الإِسراع بها بحسب الإمكان، فتأخيرها حرام.
فصل(1/484)
قوله: "غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه فرض كفاية" . , هذه الأربع كلها فرض كفاية، وفرض الكفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن لم يوجد إلا واحد صار في حقه فرض عين.
وقول المؤلف: "دفنه فرض كفاية" ، وما يتوقف عليه الدفن فرض كفاية أيضاً، وكذلك ما تتوقف الصلاة عليه فرض كفاية، فحمله من بيته إلى المصلى فرض كفاية، وحمله من المصلى إلى المقبرة فرض كفاية؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
فإذا قال قائل: إذا كانت هذه الأشياء تحتاج إلى مال، فمن أين يؤخذ هذا المال، فالغسل - مثلاً - يحتاج إلى مال، والكفن يحتاج إلى مال، والدفن يحتاج إلى مال، والحمل قد يحتاج إلى مال؟ فالجواب: أنه يكون أولاً من تركة الميت، ثم على من تلزمه نفقته، فإن لم يمكن فعلى عموم المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.
قوله: "وأولى الناس بغسله وصيه" ، أي: لو تنازع الناس فيمن يغسل هذا الميت؟ قلنا: أولى الناس بغسله وصيه، أي: الذي أوصى أن يغسله.
واستفدنا من قول المؤلف: "وصيه" أنه يجوز للميت أن يوصي ألَّا يغسله إلا فلان .
قوله: "ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته" ، هنا قدموا ولاية الأصول على ولاية الفروع، وفي باب الميراث قدموا الفروع على الأصول، وفي ولاية النكاح قدموا الأصول على الفروع؛ فلو كان للشخص الميت أب وابن ولم يوص أن يغسله أحد، فالأولى الأب.
وقوله: "ثم جده" ، أي: من قبل الأب. وقوله: "ثم الأقرب فالأقرب من عصباته" ، أي: بعد الأب والجد الأبناء، وإن نزلوا، ثم الإِخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام وإن نزلوا، ثم الولاء على هذا الترتيب، ومن المعلوم أن مثل هذا الترتيب إنما نحتاج إليه عند المشاحة، فأما عند عدم المشاحة كما هو الواقع في عصرنا اليوم، فإنه يتولى غسله من يتولى غسل عامة الناس، وهذا هو المعمول به الآن، فتجد الميت يموت وهناك أناس مستعدون لتغسيله، فيذهب إليهم فيغسلونه.
قوله: "ثم ذوو أرحامه" ، أي: أصحاب الرحم.(1/485)
قوله: "وأنثى وصيتها" ، كما قلنا فيما سبق بالنسبة للرجل.
قوله: "ثم القربى فالقربى من نسائها" ، ولم يقل: ثم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لأن النساء ليس فيهن عصبة إلا بالغير أو مع الغير، ولهذا قال: "القربى فالقربى من نسائها" وعلى هذا نقول: الأولى بتغسيل المرأة إذا ماتت: وصيتها، ثم أمها وإن علت، ثم ابنتها وإن نزلت، ثم أختها من أب أو أم أو الشقيقة، ثم عماتها، فخالاتها، إلى آخره.
قوله: "ولكل من الزوجين غسل صاحبه" أي: تغسيله، فالزوج له أن يغسل زوجته إذا ماتت، والزوجة لها أن تغسل زوجها إذا مات.
مسألة: لو مات زوج عن زوجته الحامل، ثم وضعت الحمل قبل أن يغسل فهل لها تغسيله؟ الجواب: ليس لها ذلك؛ لأنها بانت منه حيث إنها انقضت عدتها قبل أن يغسل فصارت أجنبية منه.
قوله: "وكذا سيد مع سُرِّيَته" المراد: مع أمته، ولو لم تكن سُرِّيته، فلو قدر أنها مملوكة، لكن لم يتسرها أي: لم يجامعها، ثم مات فلها أن تغسله، وله أن يغسلها.
قوله: "ولرجل وامرأة غسل من له سبع سنين فقط" ، أي: من ذكر أو أنثى ، فإذا ماتت طفلة لها أقل من سبع سنوات فلأبيها أن يغسلها، وإذا مات طفل له أقل من سبع سنوات فلأمه أن تغسله، فإن ماتت طفلة لها سبع سنوات فأكثر فليس لأبيها أن يغسلها؛ لأنه لا يغسل الرجل المرأة، ولا المرأة الرجل إلا في الزوجين، والمالك وأمته.
قوله: "وإن مات رجل بين نسوة" ، أي إن مات رجل بين نسوة، وكذا من له سبع سنين فأكثر فإنهن لا يغسلنه إلا أن يكون معهن زوجة له أو أمة، فإن كان معهن زوجة أو أمة فإنها تغسله كما سبق، أما إذا لم يكن معهن زوجة ولا أمة فإنه لا يغسل، وإذا كان معهن بنته أو أُمُّه فإنهما لا تغسِّلانه.
قوله: "أو عكسه" أي: أو حصل عكسه؛ بأن ماتت امرأة بين رجال، فإنهم لا يغسلونها إلا أن يكون أحد الرجال سيداً أو زوجاً.(1/486)
قوله: "يُمِّمت كخنثى مشكل" ، أفادنا المؤلف بقوله: "يممت" أنه متى تعذر غسل الميت فإنه ييمم، وتعذره له صور منها: أولاً: هاتان الصورتان: أن تموت امرأة بين رجال ليس معهم من يصح أن يغسلها، أو رجل بين نساء، ليس فيهن من يصح أن تغسله.
ثانياً: إذا كان الميت خنثى مشكلاً كما ذكر المؤلف.
ثالثاً: لو عدم الماء بأن مات ميت في البر، وليس عندنا ماء فإنه ييمم.
رابعاً: لو تعذر تغسيله لكونه محترقاً؛ فإنه ييمم.
وقال بعض العلماء: إن من تعذر غسله لا ييمم. وهذا هو الراجح , وهذا أقرب إلى الصواب من القول بتيممه .
قوله: "ويحرم أن يغسل مسلم كافراً، أو يدفنه، بل يوارى لعدم" ، وكذلك يحرم أن يكفنه، أو يتبع جِنَازته.
وقوله: "أو يدفنه" المراد: يحرم أن يدفنه كدفن المسلم، ولهذا قال: "بل يوارى لعدم" ، ومعنى يوارى: يغطى بالتراب، سواء حفرنا له حفرة ورمسناه بها رمساً، أو ألقيناه على ظهر الأرض وردمنا عليه تراباً؛ لكن الأول أحسن.
وقوله: "بل يوارى لعدم" أي يجب مواراة الكافر، ويشمل ذلك ما إذا وُوري بالتراب، أو وُوري بقعر بئر، أو نحوها .
وقوله: "لعدم" ، أي: لعدم من يواريه، فإن وجد من يقوم بهذا من أقاربه فإنه لا يحل للمسلم أن يساعدهم في هذا، بل يكل الأمر إليهم.
قوله: "وإذا أخذ في غسله ستر عورته" ، قوله: "في غسله" أي: في تغسيله.
وقوله: "ستر عورته" وجوباً وهذا فيمن له سبع سنين فأكثر. والعورة بالنسبة للرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك بالنسبة للمرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة، وعلى هذا فيجرد الميت من كل شيء إلا مما بين السرة والركبة إن كان رجلاً فهو بالنسبة للرجال، وإن كانت امرأة، بالنسبة للنساء..
قوله: "وجرَّده" ، أي: جرَّده من ثيابه فيستر عورته أولاً، ويلف عليها لفافة، ثم يجرده من ثيابه.
قوله: "وستره عن العيون" ، أي: ينبغي أن يستره عن العيون، وهذا غير ستر العورة؛ لأن ستر العورة واجب، وهذا مستحب.(1/487)
قوله: "ويكره لغير معين في غسله حضوره" ., حضوره" نائب الفاعل أي: يكره أن يحضره شخص إلا من احتيج إليه لمعونته.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يحضر ولو كان من أقاربه، مثل أن يكون أباه أو ابنه، أو ما أشبه ذلك، لأنه لا حاجة إليه.
قوله: "ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه، ويعصر بطنه برفق" ، أي: بعد أن يجرده ويستر عورته يرفع رأسه إلى قرب الجلوس أي: رفعاً بيّناً، ويعصر بطنه برفق؛ لأجل أن يخرج منه ما كان متهيئاً للخروج . أما الحامل فإنها لا يعصر بطنها؛ لئلا يسقط الجنين.
وقوله: "ويكثر صب الماء حينئذٍ" ، أي: حين يعصر البطن؛ لأجل إزالة ما يخرج من بطنه حينئذٍ.
قوله: "ثم يلف على يده خرقة فينجّيه" ، أي: أنه إذا فعل ما ذكر من رفع رأسه وعصر بطنه، وخرج ما كان مستعداً للخروج، يلف على يده خرقة، وإذا كان هناك قفازان كما هو الآن متوفر - ولله الحمد - فإنه يلبس قفازين، ثم ينجّيه أي: ينجّي الميت فيغسل فرجه مما خرج منه، ومما كان قد خرج قبل وفاته، ولكنه لم يستنج منه، فينجيه بها.
قوله: "ولا يحل مس عورة من له سبع سنين" ، أي: يجب أن يضع هذه الخرقة إذا كان الميت له سبع سنين فأكثر، فأما إذا كان دون ذلك فله أن ينجيه مباشرة.
قوله: "ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة" ، هذه غير الخرقة الأولى، فالأولى واجبة إذا كان له سبع سنين فأكثر؛ لئلا يمس عورته، وهذه خرقة ثانية جديدة غير الأولى يضعها على يده؛ لأجل أن يكون ذلك أنقى للميت؛ لأنه إذا دلكه بالخرقة كان أنقى له مما لو دلكه بيده، فيستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة .
قوله: "ثم يوضئه ندباً .وليس على سبيل الوجوب بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة فمات، فقال: "اغسلوه بماءٍ وسدر" ، ولم يقل: وضئوه، فدل على أن الوضوء ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاستحباب.(1/488)
قوله: "ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه" ، أي: لا يدخل الماء في فيه بدل المضمضة، ولا في أنفه بدلاً عن الاستنشاق .
قوله: "ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظّفهما" ، وهذا يقوم مقام المضمضة، والاستنشاق. وقوله: "يدخل إصبعيه" ، أي: ملفوفاً عليهما خرقة، وهي الخرقة التي كان يمس بشرته بها فيدخل إصبعيه في فمه ويمسح أسنانه، ويكون ذلك برفق، وكذلك يدخلهما في منخريه فينظّفهما برفق أيضاً.
قوله: "ولا يدخلهما الماء" ، لأنه لو أدخل فمه الماء نزل إلى بطنه، ولو أدخله إلى منخريه كذلك نزل إلى بطنه فيحرك ما كان ساكناً، ويغني عن ذلك ما ذكره المؤلف أن يجعل خرقة مبلولة فينظّف بها أنفه وأسنانه وبقية فمه.
قوله: "ثم ينوي غسله" ثم للترتيب، والنية بمعنى القصد.
وظاهر كلام المؤلف أن النية تكون بعد عمل ما سبق من الاستنجاء والتوضئة، ولكن هذا فيه نظر، بل النية تتقدم الفعل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ، ولعل هذه نية أخرى ينوي بها عموم الغسل؛ لأن ما سبق لا بد أن يكون بنية.
قوله: "ويسمّي" أي: يقول باسم الله، وهذا أيضاً فيه نظر؛ لأن التسمية تكون بعد الاستنجاء قبل أن يوضئه، كما هي الحال في طهارة الحي.
قوله: "ويغسل برغوة السّدر رأسه ولحيته فقط" . أفادنا المؤلف أنه لا بد أن يعد الغاسل سدراً يدقه ويضعه في إناء فيه ماء، ثم يضربه بيديه حتى يكون له رغوة، وهذه الرغوة يغسل بها رأسه ولحيته، وأما الثفل الباقي فإنه يغسل به سائر الجسد.
قوله: "ثم يغسل شقه الأيمن، ثم الأيسر, ثم كلّه ثلاثاً " ، فيغسل الشق الأيمن، ثم الأيسر. (ثم كلّه ثلاثاً).
قوله: "يُمر في كل مرة يده على بطنه" ، من أجل أن يخرج ما كان متهيئاً للخروج، وعلى هذا فإنه يعصر بطنه أربع مرات، المرة الأولى التي قبل الاستنجاء عندما يرفع رأسه إلى قرب الجلوس، وثلاث مرات عند غسله.(1/489)
قوله: "فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى" ، أي: إن لم ينق الميت بثلاث، فإنه يزيد حتى ينقى؛ لأن المقصود بذلك تطهيره.
قوله: "ولو جاوز السبع" أي: زاد عليها، وتعداها. لكن ينبغي قطع الغسل على وتر، فلو نقى بأربع زاد خامسة.
قوله: "ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً" ، والكافور: طيب معروف أبيض يشبه الشب يدق، ويجعل في الإناء الذي يغسل به آخر غسلة.
قوله: "والماء الحار والإشنان والخلال يستعمل إذا احتيج إليه" ، الأفضل: أن نغسل الميت بماء بارد، ولكن إذا احتجنا إلى الماء الحار، مثل: أن تكون عليه أوساخ كثيرة متراكمة فإننا نستعمله، ولكن ليس الحار الشديد الحرارة الذي يؤثر على الجلد برخاوة بالغة، ولكنه حار ليكون أنقى من البارد، ويسخن بأي وقود سواء بالكهرباء، أو بالغاز، أو بالحطب، أو بغير ذلك، وعند عوامنا يقولون: إنه لا يسخن الماء الذي يغسل به الميت إلا بسعف النخل فقط، وغير ذلك لا يسخن به، وهذا لا أصل له، بل يسخن بما تحصل به السخونة.
وقوله: "والإِشنان" والإشنان شجر معروف ينبت في البر يؤخذ وييبس ويدق، ويكون من جنس الرمل حبيبات تغسل به الثياب، ويغسل الإِنسان به جلده من أجل النظافة. والإِشنان يستعمل عند الحاجة للتنظيف؛ لأنه قد يكون على الجلد أوساخ أو دهون لا يزيلها الماء وحده فيزيلها الإِشنان، فإن لم يحتج إليه فلا يستعمله.
وهل مثل ذلك الصابون؟ الجواب: نعم الصابون مثل الإِشنان، بل هو أقوى منه تنظيفاً، فإذا استعمل الصابون من أجل إزالة الوسخ، فلا حرج فيه.
وهل يستعمل مع الصابون ليفة؟ الجواب: لا؛ لأن الليفة تشطب الجلد، وربما هذا الذي يغسله من شدة الحرص على التنظيف يفركه بشدة فيتأثر الجلد، فيكفي أن يمسح باليد.
وقوله: "والخلال يستعمل إذا احتيج إليه" ، أي: خلال الأسنان، إذا كان بأسنانه طعام فإنه يستعمل؛ لأن في ذلك تنظيفاً لأسنانه.(1/490)
قوله: "ويقص شاربه، ويقلّم أظفاره، ولا يسرح شعره، ثم ينشف بثوب" . خصال الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط.
أما الختان: فلا يستعمل مع الميت، بل هو حرام , وأما الشارب والأظفار: فتؤخذ إذا طالت، فإذا كانت عادية، أو كان الميت أخذها عن قرب فإنها لا تؤخذ، بل تبقى على ما هي عليه. وأما الإِبط: فكذلك، إن كثر فإنه يؤخذ، وإلا يبقى على ما هو عليه. وأما العانة: إذا طالت وكثرت فإنها تؤخذ. وقال بعض العلماء: إنها لا تؤخذ؛ لما في ذلك من كشف العورة بخلاف الإبط والأظفار، ولكن الأولى أن تؤخذ إذا كانت كثيرة، وكشف العورة هنا للحاجة.
وقوله: "ولا يسرح شعره" ، أي: أن الغاسل لا يسرح شعر الميت؛ لأن هذا يؤدي إلى تقطع الشعر بالتسريح والمشط.
وقوله: "ثم ينشف بثوب" ، أي: بعد أن يغسل يستحب أن ينشف؛ لأنه إذا بقي رطباً عند التكفين أثر ذلك في الكفن، فالأفضل أن ينشف بثوب.
قوله: "ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها" ، أي: يجعل شعر المرأة ضفائر ثلاثاً، ويسدل من ورائها.
مسألة: ما حكم أسنان الذهب وغيرها مما ركبه الإنسان في حياته هل تدفن معه أم تخلع؟ الجواب: أما ما لا قيمة له فلا بأس أن يدفن معه كالأسنان من غير الذهب والفضة والأنف من غير الذهب، وأما ما كان له قيمة فإنه يؤخذ إلا إذا كان يخشى منه المُثلة، كما لو كان السن لو أخذناه صارت المُثلة فإنه يبقى معه. ثم إن شاء الورثة بعد أن يفنى الميت أن يحفروا القبر ويأخذوا الذهب فلهم ذلك.
قوله: "وإن خرج منه شيء بعد سبع حُشي بقطن" ، أي: خرج من الميت شيء من بول، أو غائط، أو دم، أو ما أشبه ذلك حُشي بقطن، أي سُد بالقطن من أجل أن يتوقف.
قوله: "فإن لم يستمسك فبطين حر" ، الطين الحر: الذي ليس مخلوطاً بالرمل أي: بطين قوي؛ لأن الطين القوي يسد الخارج، واختاروا الطين، لأنه أقرب إلى طبيعة الإنسان؛ حيث إن الإنسان خلق منه، وسيعاد إليه(1/491)
قوله: "ثم يغسل المحل ويوضأ" ، يغسل المحل أي: الذي أصابه ما خرج، فيغسل للتنظيف وإزالة النجاسة إن كان نجساً، ثم يوضأ.
قوله: "وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل" ، أي: إن خرج شيء بعد التكفين لم يعد الغسل .
قال الفقهاء - رحمهم الله - وهو من اجتهادهم -: "إذا خرج قبل السبع وجب غسل المحل وإعادة الغسل، وإن خرج بعد السبع وجب غسل المحل والوضوء، وإن خرج بعد التكفين لم يجب غسل المحل ولا إعادة الوضوء" ، فله ثلاثة أحوال.
قوله: "ومحرم ميت كحيّ" ، أي: في أحكامه، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ، فدل ذلك على أنه باق على إحرامه، وإذا كان كذلك فهو كالحي.
قوله: "يغسل بماءٍ وسدر" ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: "اغسلوه بماءٍ وسدر" ؛ ولأن استعمال السدر للمحرم ليس بحرام، بل هو جائز.
قوله: "ولا يقرّب طيباً" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تحنطوه" ؛ ولأن المحرم ممنوع من الطيب.
قوله: "ولا يلبس ذكرٌ مخيطاً" ، أي: لا يلبس الذكر قميصاً أو سراويل أو عمامة أو غيرها مما يحرم على الحي.
قوله: "ولا يغطى رأسه" ، أي: لا يغطى رأسه، بل يبقى مكشوفاً ، ولكن لا بأس أن يظلل بشمسية أو شبهها، كما يفعل بالمحرم الحي، أما التغطية باللف عليه، فهذا لا يجوز. وأما وجهه فإنه يغطى، لأنه جائز حال الإحرام في الحياة فجاز بعد الوفاة، وأما رواية "ولا وجهه" في حديث الذي وقصته راحلته فشاذة.
قوله: "ولا وجه أُنثى" ، أي: لو ماتت أُنثى محرمة فإن وجهها لا يغطى، وهذا إن لم يُمر بها حول رجال أجانب، فإن مُر بها حول رجال أجانب فإن وجهها يستر، كما لو كانت حية. وأما رأسها فيغطى؛ لأنه يجب تغطيته حال الحياة في الإحرام وغيره.(1/492)
وظاهر كلام المؤلف اجتناب هذه الأشياء حتى بعد التحلل الأول، ولعله غير مراد؛ لأن المحرم بعد التحلل الأول لا يحرم عليه إلا النساء فقط، وعلى هذا يصنع به كما يصنع بالمتحلل تحللاً أولاً، ويمكن أن يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ؛ لأنه إذا شرع في التحلل الأول انقطعت التلبية؛ لأنها تنقطع عند رمي جمرة العقبة.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ، دليل على أنه لا يُقضى عنه ما بقي من نسكه ولو كان الحج فريضةً خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم، وقالوا: إنه يقضى عنه ما بقي من النسك إذا كان الحج فريضة.
قوله: "ولا يغسل شهيد ومقتول ظلماً. لا" نافية، والنفي يحتمل الكراهة ويحتمل التحريم، ولهذا اختلف أصحابنا - رحمهم الله -، هل تغسيل الشهيد حرام أو مكروه؟ فقال بعضهم: إنه مكروه. وقال بعضهم: إنه حرام. والصحيح: أنه حرام .
وقوله: "شهيد" المراد به هنا: شهيد المعركة الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا. أما من قاتل لوطنية أو قومية أو عصبية فليس بشهيد ولو قتل، لكن من قاتل حماية لوطنه الإسلامي من أجل أنه وطنٌ إسلاميٌ فقد قاتل لحماية الدين، فيكون من هذا الوجه في سبيل الله، ولهذا يجب أن نبيّن لإخواننا في الجيش أنهم إنما يتأهبون للقتال لا دفاعاً عن وطنهم من أجل أنه وطنهم، ولكن من أجل أنه وطن إسلامي يقاتلون لحماية الإسلام حتى يكونوا عند الموت شهداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" . فالذي قاتل حمية نقول له: لماذا تقاتل حمية؟ هل هو حدب على قومك، أو رغبة في بقاء الإسلام في بلادك؟ إن قال بالأول فليس بشهيد، وإن قال بالثاني فهو شهيد، كما لو قال: أقاتل حدباً على قومي، ليبقى الإسلام في بلادي.(1/493)
وقوله: "ومقتول ظلماً" ، أي: المقتول ظلماً لا يغسل أيضاً؛ لأن المقتول ظلماً شهيد . والصحيح : أن المقتول ظلماً يغسل كغيره من الناس.
(و) الصحيح ( أيظا ) : أن جميع الموتى من المسلمين يغسلون ويكفّنون ويصلّى عليهم إلا شهداء المعركة فقط، فهؤلاء لا يغسلون، ولا يكفّنون، ولا يصلّى عليهم.
قوله: "إلا أن يكون جنباً " ، أي: إلا أن يكون الشهيد جنباً؛ فإن كان الشهيد جنباً فإنه يغسل، وكذلك لو استشهدت امرأة أو قتلت ظلماً على المذهب، وكانت حائضاً ولم تغتسل من الحيض، فإنها كذلك تغسل، هذا ما ذهب إليه المؤلف. ولكن الصحيح: أنه لا يغسل، سواء أكان جنباً أم غير جنب .
قوله: "ويدفن في ثيابه" ، أي: يدفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها.
قوله: "بعد نزع السلاح والجلود عنه" ، أي: إذا كان معه جلود مثل: سير ربط به إزاره أو رداءه، أو ما أشبه ذلك، أو معه سلاح قد حمله فإنه ينزع منه؛ لأن هذا لا يدخل في الثياب .
قوله: "وإن سُلبها كفن بغيرها" ، الضمير "ها" في قوله: "سُلبها" مفعول ثانٍ يعود على الثياب، ومعنى سلبه إياها: أن تؤخذ منه. مثل: أن يأخذها العدو ويدعه عارياً، كفن بغيرها وجوباً؛ لأنه لا بد من التكفين للميت.
قوله: "ولا يصلى عليه" ، أي: لا يصلي عليه أحد من الناس لا الإمام ولا غير الإمام .
قوله: "وإن سقط عن دابته" ، أي: إن سقط الشهيد عن دابته بغير فعل العدو، غسل وصلي عليه. فإن سقط عن دابته بفعل العدو فمات من ذلك فإنه يكون شهيداً لا يغسل كما سبق.
قوله: "أو وجد ميتاً ولا أثر به" ، أي: ليس به أثر جراحة، ولا خنق، ولا ضرب، ووجد ميتاً فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.(1/494)
وقول المؤلف: "ولا أثر به" يخرج به ما لو وجد به أثر مثل: جرح، أو خنق، أو ضرب أي ضربات مميتة، فإنه يحكم بالظاهر هنا، وهو أن الذي فعل به ذلك العدو، وعلى هذا يكون شهيداً لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وكذا إذا علمنا أنه مات بفعل العدو ولا أثر به كما لو استعمل الغازات. واستثنى بعضهم من الأثر: الدم من الأنف، أو الفم، أو القبل، أو الدبر، قال: لأن هذا قد يقع ممن مات موتاً طبيعياً، فلا يدل على أن العدو هو الذي فعل به هذا، ولكن كلام المؤلف يدل على العموم فمتى وجد به أثر يحتمل أنه من فعل العدو فهو شهيد.
قوله: "أو حُمل فأكل" ، أي: من أرض المعركة فأكل، ثم مات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ولو علمنا أنه مات متأثراً بجراحه؛ لأن كونه يأكل يدل على أن فيه حياة مستقرة؛ إذ إن الذي في حكم الميت لا يأكل.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا أكل ومات ولم يطل الفصل فإنه يغسل. وقال بعض الفقهاء: لا يغسل إذا لم يطل الفصل؛ لأنه قد يأكل بدون شعور وهو في النزع,
وقول المؤلف: "أو حُمل فأكل" ظاهره: أنه إذا لم يحمل فأكل، ثم مات فإنه شهيد لا يغسل، وعبارة بعض الفقهاء: "أو جرح فأكل" ، وهذه العبارة الأخيرة أعم مما إذا حمل أم لم يحمل.والأقرب: أنه إذا أكل سواء حمل، أم لم يحمل، فإن أكله دليل على أن فيه حياة مستقرة فيغسل ويكفن.
قوله: "أو طال بقاؤه عُرفاً غسل وصلي عليه" ، أي: ليس مقدراً بزمان شرعاً بل إذا طال بقاؤه وعرف أنه ليس في سياق الموت فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه. والذي يترجح عندي أنه إذا بقي متأثراً كتأثر المُحتضَر أنه لا يغسل، أما إذا بقي متألماً لكن بقي معه عقله فإنه يغسل ويصلى عليه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لو شرب فإن ذلك لا يسقط حكم الشهادة، وهذا هو اختيار مجد الدين ابن تيمية - وهو عبد السلام جد شيخ الإسلام ابن تيمية ؛ لأن الإنسان قد يشرب، وهو في سياق الموت بخلاف الأكل، فكلام الماتن تابع لكلام المجد رحمه الله.(1/495)
قوله: "والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه" , "السِّقط" : المراد به: الحمل إذا سقط من بطن أمه. فإذا بلغ أربعة أشهر من بدء الحمل، أي: إذا تم له أربعة أشهر، وليس المعنى إذا دخل الشهر الرابع. والمراد بالأشهر هنا: الأشهر الهلالية. وأما الأشهر الاصطلاحية التي هي أشهر النصارى ومن تابعهم، فهذه لا أصل لها شرعاً ولا قدراً.
قوله: "غسل وصلي عليه" أي: وكفن، ودفن، فالمؤلف طوى ذكر الكفن والدفن؛ لأنه معلوم.
وإنما قيده ببلوغ أربعة أشهر؛ لأنه قبل ذلك ليس بإنسان، إذ لا يكون إنساناً حتى يمضي عليه أربعة أشهر. وعلى هذا فهو قبل هذه المدة يكون جماداً قطعة لحم يدفن في أي مكان بدون تغسيل، وتكفين، وصلاة، لكن بعد أربعة أشهر يكون إنساناً ، فيعامل معاملة من مات بعد خروجه.
قال العلماء: ويسمى؛ لأن هذا السقط يبعث يوم القيامة، فلا بد أن يسمى؛ لأن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، فيسمى حتى يدعى باسمه يوم القيامة. فإن شك فيه هل هو ذكر أو أنثى؟ - وهو بعيد - لكن ربما يقع، فإنه يسمى باسم صالح للذكر والأنثى مثل هبة الله، أو عطية الله، أو نحلة الله، وما أشبه ذلك. أما إذا كان ذكراً فيسمى باسم الذكور كعبد لله، وإن كان أنثى يسمى بأسماء الإناث كزينب، وفاطمة.
قوله: "ومن تعذر غسله يُمم" ، أي: من امتنع غسله، أي: تغسيله، فإنه ييمم. وكيفية التيميم: أنه يضرب الحي يديه على الأرض، ثم يمسح بهما وجه الميت وكفيه. ويكون التعذر: إما بعدم الماء، وإما بتعذر استعماله في هذا الميت بأن يكون الميت قد تمزق، أو يكون محترقاً لا يمكن مسه إلا بتمزيق جلده فهنا ييمم؛ لأن تغسيل الميت طهارة مأمور بها، فإذا تعذر تطهيره بالماء عدلنا إلى بدله وهو التراب. وقيل: بأنه لا ييمم إذا تعذر غسله , وهذا هو الراجح. وهذا أقرب إلى الصواب من القول بتيميمه.(1/496)
قوله: "وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً" ، أي: على غاسل الميت ستر ما رآه من الميت إن لم يكن حسناً، فربما يرى منه ما ليس بحسن، إما من الناحية الجسدية، وإما من الناحية المعنوية.
قال العلماء: إلا إذا كان صاحب بدعة، وداعية إلى بدعته ورآه على وجهٍ مكروه، فإنه ينبغي أن يبين ذلك حتى يحذر الناس من دعوته إلى البدعة؛ لأن الناس إذا علموا أن خاتمته على هذه الحال، فإنهم ينفرون من منهجه وطريقه، وهذا القول لا شك قول جيد وحسن؛ لما فيه من درء المفسدة التي تحصل باتباع هذا المبتدع الداعية، وكذا لو كان صاحب مبدأ هدّام كالبعثيين والحداثيين.
وذكر في الروض كلاماً حسناً فقال: "فيلزمه ستر الشر، لا إظهار الخير" ، أي: ستر الشر واجب، وإظهار الخير ليس بواجب، ولكنه حسن ومطلوب لما فيه من إحسان الظن بالميت، والترحم عليه، ولا سيما إذا كان صاحب خير.
وقال: "ونرجو للمحسن ونخاف على المسيء" ، أي: بالنسبة للأموات نرجو للمحسن رحمة الله، ونخاف على المسيء، وخوفنا على المسيء يستلزم أن ندعو الله له، إذا لم تكن إساءته مخرجة إلى الكفر.
فإذا مات الإنسان وهو معروف بالمعاصي التي لا توصل إلى الكفر، فإننا نخاف عليه، ولكننا ندعو الله له بالمغفرة والعفو؛ لأنه محتاج إلى ذلك.
وقال: "ولا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: بالجنة أو بالنار، والشهادة بالجنة أو بالنار على نوعين:
النوع الأول: شهادة للجنس، أي: يشهد بالجنة لكل مؤمن ولكل متق ، وكذلك نشهد لكل كافر أنه في النار.
النوع الثاني: شهادة للعين أي: أن تشهد لشخص بعينه، فلا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.(1/497)
وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية من اتفقت الأمة أو جُلُّ الأمة على الثناء عليه. مثل: الأئمة الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: لمَّا مرَّت جنازة وأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت". لكن ليست شهادتنا لهم بالجنة، كشهادتنا لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم.
فصل
قوله: "يجب تكفينه" الكفن: ما يكفن به الميت من ثياب أو غيرها.وحكم تكفين الميت فرض كفاية .
قوله: "في ماله" ، أي: في مال الميت. ولو فرض أن هناك جهة مسؤولة ملتزمة بذلك، فلا حرج أن نكفنه منها إلا إذا أوصى الميت بعدم ذلك، بأن قال: كفنوني من مالي، فإنه لا يجوز أن نكفنه من الأكفان العامة، سواء كانت من جهة حكومية، أو من جهة خاصة.
قوله: "مقدماً على دَين" ، الدَّين: هو كل ما ثبت في الذمة من ثمن مبيع، أو أجرة بيت، أو دكان، أو قرض، أو صداق، أو عوض خلع، وإن كان العامة لا يطلقون الدين إلا على ثمن المبيع لأجل، فهذا عرف ليس موافقاً لإطلاقه الشرعي.
قوله: "وغيره" يعني: الوصية، والإرث. فالتكفين مقدم على كل شيء، وعموم قول المؤلف: "مقدماً على دين" يشمل ما إذا كان الدين فيه رهن أو لا، وعلى هذا فلو خلف الرجل شاة ليس له غيرها مرهونة بدين عليه، ولم نجد كفناً إلا إذا بعنا هذه الشاة واشترينا بقيمتها كفناً فتباع، ونشتري له كفناً؛ لأن الكفن مما تتعلق به حاجة الشخص خاصة، فيقدم على كل شيء وكذا لو أوصى بها.
قوله: "فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته" ، أي: إن لم نجد له مالاً، فعلى من تلزمه نفقته.
وإذا وجدنا ثوباً قد لبسه الميت وغترة، فهل نكفنه بهما أو لا بد أن نكفنه باللفائف؟ الجواب: إذا كانت ثيابه تقوم بالواجب، فإننا لا نلزم الناس أن يكفنوه ما دام في ماله - ولو ثيابه التي عليه - ما يكفي.(1/498)
قوله: "من تلزمه نفقته" ، أي: الميت حال حياته، وهم الأصول والفروع، فتجب نفقة الوالدين والأولاد بكل حال سواء كانوا وارثين أم لا، وعلى هذا فتجب نفقة الجد على ابن ابنه، وإن لم يكن وارثاً لوجود الابن، أي: وإن كان محجوباً بالابن، وابن البنت تجب نفقته وإن لم يكن وارثاً، وعليه فيجب كفنه على جده من قبل أمه. أما غير الأصول والفروع، فلا تجب النفقة، إلا على من كان وارثاً بفرض أو تعصيب.
مسألة: الأخ هل يجب أن ينفق على أخيه؟ الجواب: إن كان لأخيه أولاد فإنه لا يلزمه أن ينفق عليه؛ لأنه محجوب بهم، وإن لم يكن له أولاد وجب أن ينفق عليه؛ لأنه وارث. هذه القاعدة على المشهور من مذهب الإمام أحمد، والمقام هنا لا يقتضي البسط والترجيح.
قوله: "إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته" ، أي: لو ماتت امرأة، ولم نجد وراءها شيئاً تكفن منه، وزوجها موسر، فإنه لا يلزمه أن يكفنها. وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. والقول الثاني: أنه يلزمه أن يكفّن امرأته. وهذا القول أرجح، ومحل النزاع إذا كان موسراً. فإن لم يوجد من تلزمه النفقة، أو وجد وكان فقيراً ففي بيت المال، فإن لم يوجد بيت مال منتظم فعلى من علم بحاله من المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.
مسألة: لو مات الزوج وكان فقيراً، وكانت الزوجة غنية، فلا يلزمها قيمة الكفن؛ وذهب ابن حزم إلى أنه يلزمها ذلك.
قوله: "ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض" ، فإن كفن بغير الأبيض جاز، وإن كفن بلفافة واحدة جاز أيضاً.
قوله: "تجمّر" أي: تبخر،، ولكن ترش أولاً بماء، ثم تبخر؛ من أجل أن يعلق الدخان فيها.
قوله: "ثم تبسط بعضها فوق بعض" ، أي: تمد الأولى على الأرض، ثم الثانية، ثم الثالثة.
قوله: "ويجعل الحنوط فيما بينها" ، الحنوط: أخلاط من الطيب تصنع للأموات.
قوله: "ثم يوضع عليها مستلقياً" ، أي: على اللفائف مستلقياً.(1/499)
قوله: "ويجعل منه في قطن بين أَليتيه" ، أي: من الحنوط في قطن بين أَليتيه، فيؤتى بهذا الطيب فيجعل منه ما بين الأكفان الثلاثة، ونأخذ منه بقطنة نجعلها بين أليتيه.
قوله: "ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان" ، أي: فوق الحنوط الذي يوضع في القطن، والتبان هو: السروال القصير الذي ليس له أكمام.
قوله: "تجمع أليتيه ومثانته" أي: الخرقة المشقوقة، فيؤتى بخرقة مشقوقة الطرف من أجل أن يمكن إدارتها على الفخذين جميعاً، ثم تشد، ومعنى تشد، أي: تربط لتجمع بين أليتيه ومثانته. إذاً تكون على السوءتين؛ لأنه لا يمكن أن تجمع المثانة مع الأليتين إلا إذا كانت ساترة لهما، وهذا من تمام الستر.
قوله: "ويجعل الباقي على منافذ وجهه، ومواضع سجوده" أي: الباقي من الحنوط الذي وضع في القطن يجعل على منافذ وجهه، وهي: العينان، والمنخران، والشفتان. وفي الروض زيادة: "الأذنين" ، مع أن الأذنين من الرأس، لكنهما لقربهما من الوجه تلحقان به. وكل هذا على سبيل الاستحباب من العلماء، أي: وضع الحنوط في هذه الأماكن، أما الحنوط من حيث أصله فقد جاءت به السنّة.
قوله: "وإن طيب كله فحسن" ، أي: إن طيب الميت كله فحسن؛ لأنه يكون أطيب، لكن ينبغي أن يطيب بطيب ليس حاراً؛ لأن الحار ربما يمزق البدن، بل يكون بارداً، وهذا لم يعرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن فعله بعض الصحابة .(1/500)
قوله: "ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم الثانية، والثالثة كذلك" ، أي: نرد طرف اللفافة العليا وهي التي تلي الميت على شقه الأيمن، ثم نرد طرفها من الجانب الأيسر على اللفافة التي جاءت من قبل اليمين، نفعل بالأولى هكذا، ثم نفعل بالثانية كذلك، ثم بالثالثة كذلك. وإنما قال المؤلف هذا لئلا يظن الظان أننا نرد طرف اللفائف الثلاث مرة واحدة، بمعنى أن نجمع الثلاث ونردها على الجانب الأيمن، ثم نرد الثلاث على الجانب الأيسر، فأولاً أكمل رد اللفافة الأولى، فترد الطرف الذي يلي يمين الميت، ثم الطرف الذي يلي يساره، ثم الثانية، ثم الثالثة على نفس الطريقة.
قوله: "ويجعل أكثر الفاضل على رأسه" ، أي: إذا كان الكفن طويلاً، فليجعل الفاضل من جهة رأسه، أي: يرده على رأسه، وإذا كان يتحمل الرأس والرجلين فلا حرج، ويكون هذا أيضاً أثبت للكفن.
قوله: "ثم يعقدها" ، أي: يعقد اللفائف. والحكمة من عقدها لئلا تنتشر وتتفرق.
أما بالنسبة لعدد العقد فيفعل ما يحتاج إليه، ومن المعلوم أنّ أقل ما يحتاج إليه هو عقدتان، عند الرأس، وعند الرجلين، وقد يحتاج إلى عقدتين أو ثلاث في الوسط، وأما أنه لا بد أن تكون سبع عقد فهذا لا أعلم له أصلاً
قوله: "وتحل في القبر" استدل في الروض "بأثر عن ابن مسعود قال: "إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد ولأن الميت ينتفخ في القبر فإذا كان مشدوداً بهذه العقد تمزق. ولو فرض أنه نُسي أن تحل، ثم ذكروا عن قرب، فإن القبر ينبش من أجل أن تحل هذه العقد.
وقال في الروض: "وكره تخريق اللفائف" ؛ لأنه إفساد لها.
إذا قال قائل: إذا خرقتها لم تستره؟ فنقول: لا، بل تستره فخرق مثلاً العليا، ثم خرق التي تحتها من جهة أخرى لا تقابل الخرق الذي في العليا، ثم الثالثة كذلك.(2/1)
وإنما ذكر صاحب الروض هذا؛ لأن بعض أهل العلم قال: إذا خيف من النباش فإنها تخرق اللفائف؛ لأنه كان هناك سُرَّاقٌ يأتون إلى المقابر ينبشونها ويأخذون الأكفان، فقال هؤلاء: إذا خفت من هؤلاء فخرق اللفائف؛ لكي تفسدها عليهم، كما خرق الخضر السفينة؛ لئلا يأخذها الملك الظالم. لكن الفقهاء المتأخرين قالوا: لا تخرق.
قوله: "وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز" . , القميص: هو الذي نلبسه، أي: الدرع ذو الأكمام. والمئزر: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن. واللفافة: عامة. أي: إذا كفن في هذه فلا بأس، ولكن غالب ما يكفن به الناس اليوم اللفائف الثلاث؛ لأن القميص يحتاج إلى خياطة ومدة أو إلى تجهيز أقمصة تكون مهيئة عند الذين يغسلون الموتى ويكفّنونهم.
قوله: "وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين" . , الإِزار: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن. والخمار: ما يغطى به الرأس. والقميص: الدرع ذو الأكمام. واللفافتان: يعمان جميع الجسد. وقد جاء في هذا حديث مرفوع ، إلا أن في إسناده نظراً؛ لأن فيه راوياً مجهولاً، ولهذا قال بعض العلماء: إن المرأة تكفن فيما يكفن به الرجل، أي: في ثلاثة أثواب يلف بعضها على بعض. وهذا القول - إذا لم يصح الحديث - هو الأصح. وعلى هذا فنقول: إن ثبت الحديث بتكفين المرأة في هذه الأثواب الخمسة فهو كذلك، وإن لم يثبت فالأصل تساوي الرجال والنساء في جميع الأحكام، إلا ما دلّ عليه الدليل.
قوله: "والواجب ثوب يستر جميعه" ، أي: الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع الميت.
وقول المؤلف: "يستر جميعه" يدل على أنه لا بد أن يكون هذا الثوب صفيقاً بحيث لا ترى من ورائه البشرة، فإن رئيت من ورائه البشرة فإنه لا يكفي.(2/2)
فإذا لم يوجد شيء، مثل: أن يحترق بثيابه، ولم يوجد ثياب يكفن بها، فإنه يكفن بحشيش أو نحوه يوضع على بدنه ويلف عليه حزائم، فإن لم يوجد شيء فإنه يدفن على ما هو عليه؛ لعموم قول الله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] .
فصل
قوله: "السنّة أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسطها" ، هذا مابيبنه المؤلف , والصحيح : أنه يقف عند رأس الرجل، لا عند صدره , ويقف عند وسط المرأة. والوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة مستحب، فلو وقف عند الرجلين أجزأ، ولكن لو لم يكن الميت بين يدي الإمام لم يجزئ.
وقوله: "أن يقوم الإمام عند صدره" ، يفهم منه أن هذه الصلاة كغيرها من الصلوات يكون الإمام هو المتقدم والمأمومون خلفه، وقد جرت عادة كثير من الناس اليوم أن يقوم مع الإمام الذين قربوا الجنازة إلى الإِمام، فيقومون عن يمينه غالباً دون يساره، وأحياناً عن يمينه وعن يساره، وكل هذا خلاف السنة. بل السنّة أن يتقدم الإمام، وأما الذين قدموا الجنازة إلى الإمام، فإن كان لهم محل في الصف الأول صفوا في الصف الأول، وإن لم يكن لهم محل صفوا بين الإمام وبين الصف الأول من أجل أن يتميز الإمام بمكانه، ويكون أمام المأمومين، ثم إن قدر أن المكان ضيق لم يتسع لوقوف الإمام وصف خلفه فإنهم يصفون عن يمينه وعن شماله وليس عن اليمين فقط؛ لأن صف المأمومين كلهم عن يمين الإمام خلاف السنّة أيضاً.
تنبيه: لا يشترط أن يكون رأس الميت عن يمين الإمام، فيجوز أن يكون عن يسار الإمام ويمينه. خلافاً لما يعتقد بعض العامة من أنه لا بد أن يكون عن يمينه.
قوله: "ويكبّر أربعاً" , التكبيرات عند الفقهاء هنا كلها أركان؛ لأنها بمنزلة الركعات، فكل تكبيرة عن ركعة.-.
قوله: "يقرأ في الأولى بعد التعوّذ الفاتحة" ، أي: في التكبيرة الأولى بعد التعوّذ، أي: بعد قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقرأ الفاتحة.والفاتحة في صلاة الجنازة ركن.(2/3)
وعُلم من كلامه أنه لا استفتاح فيها. وقال بعض أهل العلم: بل يستفتح .
قوله: "ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهّد" ، أي: يصلي في التكبيرة الثانية "كالتشهّد" أي: كما يصلي عليه في التشهّد. وإن اقتصر على قوله: "اللهم صلّ على محمد" كفى كما يكفي ذلك في التشهّد.
قوله: "ويدعو في الثالثة" أي: في التكبيرة الثالثة يدعو بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان يعرفه، فإن لم يكن يعرفه فبأي دعاء دعا جاز، إلا أنه يخلص الدعاء للميت، أي: يخصه بالدعاء. والدعاء للميت: عام، وخاص، وقد ذكرهما المؤلف ، فبدأ بالدعاء العام أوّلاً.
قوله: "فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأُنثانا , إنك تعلم منقلبنا ومثوانا , وأنت على كل شيء قدير " ، قوله: " انك على كل شيء قدير" تتمة للدعاء، ولكنها من زيادات بعض الفقهاء؛ لأنها لم ترد في الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنّة، ومن توفيته منّا فتوفه عليهما" ، هذه الصيغة لم ترد، والوارد: "اللهم من أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" .
مسألة: الدعاء الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمحافظة عليه من الدعاء غير الوارد، وإن كان الأمر واسعاً.
قوله: "اللهم اغفر له وارحمه , واعف عنه وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار ، اللهم اغفر له وافسح له في قبره ونور له فيه" ، هذا الدعاء الخاص، وبدأ بالدعاء العام؛ لأنه أشمل، أما الخاص فهو خاص بالميت.
قوله: "ونقه من الذنوب والخطايا " ، الوارد في الحديث، "ونقه من الخطايا" . فقط.(2/4)
وقوله: "من الذنوب" ، لو صح الحديث بلفظ: "الذنوب والخطايا" كما أورده المؤلف. لقلنا: الذنوب: الصغائر، والخطايا: الكبائر. ولكن الحديث ورد بلفظ "الخطايا" فقط. وبناء عليه نقول: "الخطايا" هنا تشمل: الصغائر، والكبائر.
وقوله: "اللهم اغفر له" الضمير للمفرد المذكر، فإذا كان الميت أنثى، فهل نقول: اللهم اغفر له، أو نقول: اللهم اغفر لها بالتأنيث؟ الجواب: بالتأنيث؛ لأن ضمير الأنثى يكون مؤنثاً، فنقول: اللهم اغفر لها وارحمها، وعافها، واعف عنها..... إلى آخر الدعاء. وإن كان المقدم اثنين تقول: اللهم اغفر لهما... وإن كانوا جماعة تقول: اللهم اغفر لهم. وإن كن جماعة إناث تقول: اللهم اغفر لهن. وإن كانوا من الذكور والإناث، فيغلب جانب الذكورية، فتقول: اللهم اغفر لهم، فالضمير يكون على حسب من يدعى له. وإن كان الإنسان لا يدري هل المقدم ذكر أو أنثى، فهل يؤنِّث الضمير أو يذكِّرُه؟. الجواب: يجوز هذا وهذا، باعتبار القصد، فإن قلت: اللهم اغفر له، أي: لهذا الشخص، أو للميت، وإن قلت: اللهم اغفر لها، أي: لهذه الجنازة.
قوله: "وإن كان صغيراً قال : اللهم اجعله ذخراً لوالديه ، وفرطاً وأجراً، و شفيعاً و مجاباً , اللهم ثقل به موازينهما , وأعظم به أجورهما , وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم , وقه برحمتك عذاب الجحيم " ، هذا فيه بيان صيغة الدعاء للصغير إذا صلي عليه.
ولكن هل ثبت هذا الدعاء بهذه الصيغة للصغير؟ الجواب: لا، لم يثبت بهذه الصيغة للصغير، ولكن ورد أنه يصلى عليه، ويدعى له، ويدعى لوالديه . ولكن العلماء - رحمهم الله - استحسنوا هذا الدعاء.
قوله: "ويقف بعد الرابعة قليلاً" أي: يقف قليلاً؛ ليتميز التكبير من السلام، أو من أجل أن يتراد إليه نفسه.(2/5)
وقوله: "يقف قليلاً" ظاهره أنه لا يدعو، وهو أحد الأقوال في المسألة. واختار بعض الأصحاب - رحمهم الله - أنه يدعو بقوله: "اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله" . وقال بعضهم يدعو بقوله: "ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" . والقول بأنه يدعو بما تيسر أولى من السكوت؛ لأن الصلاة عبادة ليس فيها سكوت أبداً إلا لسبب كالاستماع لقراءة الإمام، ونحو ذلك.
قوله: "ويسلم واحدة عن يمينه" وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس، لكن عن اليمين أفضل.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يسن الزيادة على تسليمة واحدة وهو المذهب. والصحيح: أنه لا بأس أن يسلم مرة ثانية؛ لورود ذلك في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وكذلك إذا سلم الإمام تسليمة واحدة فللمأموم أن يسلم تسليمتين لأنه لا يتحقق به المخالفة.
قوله: "ويرفع يديه مع كل تكبيرة" ، "ويرفع" الضمير يعود على المصلي، أي : يرفع يديه مع كل تكبيرة على صفة ما يرفعهما في صلاة الفريضة.
وقوله: "مع كل تكبيرة" ، هذا هو القول الصحيح.
قوله: "وواجبها: قيام" أي: ما يجب فيها.
فقوله: "وواجبها" ليس قسيم أركانها؛ لأن هذا الذي ذكره المؤلف أركانها.
وقوله: "قيام" ، أي: واجب إذا كانت فريضة، وعلى هذا فإذا أعيدت صلاة الجنازة مرة ثانية كان القيام في المرة الثانية سنة، وليس بواجب؛ لأن الصلاة المعادة ليست فريضة.
قوله: "وتكبيرات أربع" أي: أركان؛ لأن كل تكبيرة منها كالركعة. وقوله: "أربعٌ" أي: لا تقل عن أربع، وله الزيادة إلى خمس، وإلى ست، وإلى سبع، وإلى ثمان، وإلى تسع كل هذا ورد.(2/6)
مسألة: إذا كبرنا خمساً، فماذا نقول بعد الرابعة والخامسة؟ الجواب: لا أعلم في هذا سنة، لكنني إذا أردت أن أكبر خمساً جعلت بعد الثالثة الدعاء العام، وبعد الرابعة الدعاء الخاص بالميت، وما بعد الخامسة ) رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .
قوله: "والفاتحة" ، قراءة الفاتحة ركن. ولا وجه لمن قال بعدم وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
وإذا انتهى المأموم من قراءة الفاتحة قبل تكبير الإمام للثانية فإنه يقرأ سورة أخرى؛ لأن ذلك قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: "والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: من واجبات الصلاة على الميت، وهو ركن على المشهور من المذهب، وهو مبني على القول بركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات. أما إذا قلنا: بأنها ليست ركناً في الصلوات فهي هنا ليست بركن، لكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لها شأن .
قوله: "ودعوة للميت" ، هذا من الأركان أيضاً.
قوله: "والسلام" أي: ركن، لكنه يكفي فيه تسليمة واحدة، كما سبق ذكره.
والترتيب بين أركان صلاة الجنازة واجب فيبدأ بالفاتحة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء؛ فلا يقدم بعضها على بعض. وكذلك تكميل التكبيرات الأربع؛ فإن سلم من ثنتين ساهياً أكمل مع القرب، وأعاد مع البعد.
قوله: "ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته" ، أي على صفة ما فاته . ويستفاد من قول المؤلف: "شيء من التكبير" ، أن التكبيرة بمنزلة الركعة.(2/7)
مسألة: إذا دخل مع الإمام في التكبيرة الثالثة هل يقرأ الفاتحة، أو يدعو للميت؛ لأن هذا مكان الدعاء؟ الجواب: الظاهر لي: أنه يدعو للميت، حتى على القول بأن أول ما يدركه المسبوق أول صلاته، فينبغي في صلاة الجنازة أن يتابع الإمام فيما هو فيه؛ لأننا لو قلنا لهذا الذي أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة: اقرأ الفاتحة، ثم كبر الإمام للرابعة، وقلنا: صلِّ على النبي ثم حملت الجنازة فاته الدعاء له.
وقول المؤلف: "ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته" ، ظاهره: الوجوب. وظاهره أيضاً: أنه يقضيه، سواء أخشي حمل الجنازة أم لم يخش.ولكن قيده الأصحاب - رحمهم الله - فقالوا: "ما لم يخش رفعها" ، أي: إذا خشي الرفع تابع وسلَّم. والغالب في جنائزنا أنها ترفع ولا يتأخرون فيها حتى يقضي الناس، وعلى هذا فيتابع التكبير ويسلِّم. ومع هذا قالوا: "وله أن يسلم مع الإمام" ؛ لأن الفرض سقط بصلاة الإمام، فما بعد صلاة الإمام يعتبر نافلة، والنافلة يجوز قطعها. وقيل: بل يقضيها على صفتها.
إذاً أحوال المسبوق في صلاة الجنازة ثلاث حالات:
الأولى: أن يمكنه قضاء ما فات قبل أن تحمل الجنازة فهنا يقضي، ولا إشكال فيه .
الثانية: أن يخشى من رفعها فيتابع التكبير، وإن لم يدع إلا دعاء قليلاً للميت.
الثالثة: أن يسلم مع الإمام، ويسقط عنه ما بقي من التكبير. وعلته: أن الفرض سقط بصلاة الإمام، فكان ما بقي مخيراً فيه. ومع هذا فليس هناك نص صحيح صريح في الموضوع؛ أعني سَلَامَهُ مَعَ الإمام، أو متابعته التكبير بدون دعاء، لكنَّهُ اجتهاد من أهل العلم رحمهم الله.
قوله: "ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر" ، أي: يصلي على القبر إن كانت دفنت، وإلا صلى عليها ولا ينتظر؛ لأن الصلاة على القبر إنما تكون للضرورة إذا لم يمكن حضور الميت بين يديه.(2/8)
مسائل: الأولى: يصلى على القبر صلاة الجنازة المعروفة، إن كان رجلاً وقف عند رأسه، وإن كانت أنثى وقف عند وسط القبر، فيجعل القبر بينه وبين القبلة.
الثانية: لو سقط شخص في بئر ولم نستطع إخراجه، فيصلى عليه فيها ثم تطم البئر، ويسقط تغسيله، وتكفينه لعدم القدرة على ذلك.
الثالثة: إذا اجتمعت عدة قبور لم يصل عليها؛ فإن كانت كلها بين يديه فيصلى عليها جميعاً صلاة واحدة. وإلا فيصلى على كل قبر.
قوله: "وعلى غائب بالنية" ، لأن الغائب ليس بين يديه حتى ينوي الصلاة على شيء مشاهد، ولكن يصلي بالنية. وقوله: "غائب" أي: غائب عن البلد، ولو دون المسافة، أما من في البلد فلا يشرع أن يصلي عليه صلاة الغائب، بل المشروع أن يخرج إلى قبره ليصلي عليه.
قوله: "إلى شهر" ، أي: يصلى على الغائب، وعلى القبر إلى نهاية شهر. (( وهذا هو المذهب )) , والصحيح: أنه يُصلى على الغائب، ولو بعد شهر، ونصلي على القبر أيضاً ولو بعد الشهر. إلا أن بعض العلماء قيده بقيد حسن قال: بشرط أن يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلاً للصلاة. مثال ذلك: رجل مات قبل عشرين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله ثلاثون سنة فيصح؛ لأنه عندما مات كان للمصلي عشر سنوات، فهو من أهل الصلاة على الميت.(2/9)
وقوله: "وعلى غائب" أطلق فيشمل كل غائب؛ رجلاً كان أو امرأة، شريفاً أو وضيعاً، قريباً أو بعيداً، فتصلي على كل غائب. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة: القول الأول: أنه يصلى على كل غائب، ولو صلى عليه آلاف الناس. (و) القول الثاني: أنه يصلى على الغائب إذا كان فيه غناء للمسلمين، أي: منفعة، كعالم نفع الناس بعلمه، وتاجر نفع الناس بماله، ومجاهد نفع الناس بجهاده، وما أشبه ذلك، فيصلى عليه شكراً له ورداً لجميله، وتشجيعاً لغيره أن يفعل مثل فعله. وهذا قول وسط اختاره كثير من علمائنا المعاصرين وغير المعاصرين. (و) القول الثالث: لا يصلى على الغائب إلا على من لم يصلَّ عليه. حتى وإن كان كبيراً في علمه، أو ماله، أو جاهه، أو غير ذلك، فإنه لا يصلى عليه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية .وهذا القول أقرب إلى الصواب .
قوله: "ولا يصلي الإمام على الغال" ، إذا أطلق الفقهاء الإمام فالمراد به: الإمام الأعظم، أي: رئيس الدولة فلا يصلي على الغال. والغال: هو من كتم شيئاً مما غنمه في الجهاد. ( وهذا ) من كبائر الذنوب.
قوله: "ولا على قاتل نفسه" ، أي: لا يصلي الإمام على قاتل نفسه نكالاً لمن بقي بعده؛ لأن قاتل نفسه - والعياذ بالله - أتى كبيرة من كبائر الذنوب.
ولكن هل يصلي عليه بقية الناس؟
الجواب: نعم، يصلي عليه ، وعلى الغال بقية الناس.
ولو قال قائل: أفلا ينبغي أن يعدى هذا الحكم إلى أمير كل قرية أو قاضيها أو مفتيها، أي من يحصل بامتناعه النكال، هل يتعدى الحكم إليهم؟
فالجواب: نعم يتعدى الحكم إليهم، فكل من في امتناعه عن الصلاة نكال فإنه يسن له أن لا يصلي على الغال، ولا على قاتل نفسه.
مسألة: هل يلحق بالغال، وقاتل النفس من هو مثلهم، أو أشد منهم أذية للمسلمين، كقطاع الطرق مثلاً؟(2/10)
الجواب: المشهور من المذهب: لا يلحق. والقول الثاني: أن من كان مثلهم، أو أشد منهم، فإنه لا يصلي الإمام عليه. وهذا هو الصحيح: أن ما ساوى هاتين المعصيتين، ورأى الإمام المصلحة في عدم الصلاة عليه، فإنه لا يصلي عليه.
مسألة: إذا وجد بعض ميت فهل يغسل ويكفن ويصلى عليه؟ الجواب: إن كان الموجود جملة الميت؛ بأن وجدنا رجُلاً بلا أعضاء فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإن كان الموجود عضواً من الأعضاء؛ فإن كان قد صلي على جملة الميت فلا يصلى عليه، وإن كان لم يُصلَّ عليه فإنه يصلى على هذا الجزء الموجود.
قوله: "ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد" ، أي: لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد، وإنما قال: "لا بأس" رداً لقول من يقول: تكره الصلاة على الأموات في المساجد . والصحيح: أنه لا بأس بذلك ، ولا نقول: إنه يخشى من الميت على المسجد، إلا إذا كان هناك قضية خاصة بأن يكون الميت مات بحادث، والدم لا زال ينزف منه، فهذا نمنع أن يصلى عليه في المسجد؛ لأنه يلوثه.
…
فصل
قوله: "يسن التربيع في حمله" ، التربيع في حمل الميت سنة، وصفة التربيع: أن يأخذ بجميع أعمدة النعش. هذا ما اختاره أصحابنا رحمهم الله.(2/11)
قوله: "ويباح بين العمودين" ، هذا بيان حكم الحمل بين العمودين. وقال بعض العلماء: يسن أن يحمل بين العمودين، أي: بأن يكون أحد العمودين على كتفه الأيمن والآخر على كتفه الأيسر، هذا إذا كان النعش صغيراً، أما إذا كان واسعاً فيجعل عموداً على يده اليمنى، وعموداً على يده اليسرى, والذي يظهر لي في هذا: أن الأمر واسع، وأنه ينبغي أن يفعل ما هو أسهل، ولا يكلف نفسه، فقد يكون التربيع صعباً أحياناً، فيما إذا كثر المشيعون فيشق على نفسه وعلى غيره. وأما الحمل بين العمودين فهو شاق أيضاً، اللهم إلا إذا كان هناك عمودان يلتقيان عن قرب، بحيث يكون كل عمود على عاتقٍ، فيمكن أن يكون سهلاً. هذا إذا كان الميت محمولاً على نعش، وإن كان صغيراً فيحمل بين الأيدي إذا كان لا يشق.
مسألة: هل ينبغي أن يوضع على النعش "مِكَبَّة" أو لا؟ والمكبة مثل الخيمة أعواد مقوسة توضع على النعش، ويوضع عليها سترٌ. الجواب: إن كانت أنثى فنعم، وقد استحبه كثير من العلماء؛ لأن ذلك أستر لها. أما الرجل فلا يسن فيه هذا، بل يبقى كما هو عليه؛ لأنه فيه فائدة، وهي: قوة الاتعاظ إذا شاهده من كان معه بالأمس جثة على هذا السرير، وإن ستر بعباءة كما هو معمول به عندنا فلا بأس.
قوله: "ويسن الإسراع بها" أي: يستحب ، إلا أن يخشى من تمزق الجنازة كما لو كان محترقاً، فيعمل ما يزول به هذا المحذور. وليس المراد بالإسراع الخبب العظيم، كما يفعل بعض الناس، فإن هذا يتعب المشيعين، وقد ينزل من الميت شيء فيلوث الكفن، لارتخاء أعصابه، وأيضاً التباطؤ الشديد خلاف السنة؛ ولهذا قال في الروض: "الإسراع بها دون الخبب"، والخَبَب: الإسراع الشديد. قال الفقهاء مفسرين للإسراع المشروع: "بحيث لا يمشي مشيته المعتادة .وهذا الإسراع على سبيل الاستحباب ، ولم نَرَ أحداً قال بالوجوب.(2/12)
قوله: "وكون المشاة أمامها والركبان خلفها" ، أي: ينبغي إذا كان المشيعون مختلفين ما بين راكب وماش أن يكون المشاة أمامها، والركبان خلفها. وأما السيارات فإن الأولى أن تكون أمام الجنازة؛ لأنها إذا كانت خلف الناس أزعجتهم.
مسألة: حمل الجنازة بالسيارة لا ينبغي إلا لعذر كبعد المقبرة، أو وجود رياح، أو أمطار، أو خوف، ونحو ذلك؛ لأن الحمل على الأعناق هو الذي جاءت به السنة؛ ولأنه أدعى للاتعاظ والخشوع.
قوله: "ويكره جلوس تابعها حتى توضع" ، أي: أن المشيع لا يجلس حتى توضع الجنازة.
قوله: "ويسجى قبر امرأة فقط" , أي: يغطى قبر المرأة فقط عند إدخالها القبر من أجل ألا ترى المرأة، وذلك أستر لها. وقوله: "فقط" ليخرج قبر الرجل، فإنه لا يسجى.
مسألة: كيف يُدخل الميت القبر؟ الجواب؛ يدخل من عند رجليه، فيؤتى بالميت من عند رجلي القبر، ثم يدخل رأسه سلاً في القبر، هذا هو الأفضل .والطريقة الثانية: أن يؤتى بالميت من قبل القبر ويوضع فيه بدون سل، وهذا أيضاً جائز، وعليه عمل الناس اليوم، فإن أمكنت الصفة الأولى فهي الأفضل، وإن لم تمكن فإن ذلك مجزئ.
قوله: "واللحد أفضل من الشق" ، أي: القبر إذا كان لحداً فهو أفضل. واللحد: أن يحفر للميت في قاع القبر حفرة من جهة القبلة ليوضع فيها، ويجوز من جهة خلف القبلة، لكنها من جهة القبلة أفضل؛ وسمي لحداً، لأنه مائل من جانب القبر.
قوله: "أفضل من الشق" ، الشق: أن يحفر للميت في وسط القبر حفرة. ولكن إذا احتيج إلى الشق فإنه لا بأس به، والحاجة إلى الشق إذا كانت الأرض رملية.
وعلم من قوله: "اللحد أفضل من الشق" أن الشق جائز، وهو كذلك، ولكنه خلاف الأفضل.(2/13)
مسألة: هل يحفر بطول قامة الرجل، أو نصف الرجل، أو أقل، أو أكثر؟ الجواب: التعميق سنة، فيعمق في الحفر، والواجب: ما يمنع السباع أن تأكله، والرائحة أن تخرج منه، هذا أقل ما يجب، وإن زاد في الحفر، فهو أفضل وأكمل لكن بلا حد. وبعضهم حده بأن يكون بطول القامة وهذا قد يكون شاقاً على الناس .
قوله: "ويقول مدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله" ، أي: يقول مدخله عند وضعه بالقبر .
ولكن من الذي يتولى إدخاله؟ الجواب: إن كان له وصي، أي: قال قبل موته: فلان يتولى دفني فإننا نأخذ بوصيته، وإن لم يكن له وصي فنبدأ بأقاربه إذا كانوا يحسنون الدفن، وإن لم يكن له أقارب، أو كانوا لا يحسنون الدفن، أو لا يريدون أن ينزلوا في القبر، فأي واحد من الناس. ولا يشترط فيمن يتولى إدخال الميتة في قبرها أن يكون من محارمها، فيجوز أن ينزلها شخص، ولو كان أجنبياً.
قوله: "ويضعه في لحده على شقه الأيمن" ، ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية أن يكون على الشق الأيمن.
قوله: "مستقبل القبلة" أي: وجوباً . فإن وضعه على جنبه الأيسر مستقبل القبلة، فإنه جائز، لكن الأفضل أن يكون على الجنب الأيمن. ولم يذكر المؤلف أنه يضع تحته وسادة كلبنة، أو حجر، فظاهر كلامه أنه لا يسن، وهذا هو الظاهر عن السلف. واستحب بعض العلماء: أن يوضع له وسادة لبنة صغيرة ليست كبيرة.
ثم إن المؤلف لم يذكر أنه يكشف شيء من وجهه، وعلى هذا فلا يسن أن يكشف شيء من وجه الميت، بل يدفن ملفوفاً بأكفانه، وهذا رأي كثير من العلماء. وقال بعض العلماء: إنه يكشف عن خده الأيمن ليباشر الأرض. فأما كشف الوجه كله فلا أصل له.
مسألة: يسن لمن حضر الدفن أن يحثو ثلاث حثيات لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
مسألة: تلقين الميت بعد الدفن لم يصح الحديث فيه فيكون من البدع.
قوله: "ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً" ، أي: السنة أن يرفع القبر عن الأرض .(2/14)
وقوله: "قدر شبر" . الشبر: ما بين رأس الخنصر والإبهام، عند فتح الكف، ومعلوم أن المسألة تقريبية؛ لأن الناس يختلفون في كبر اليد وصغرها . والغالب: أن التراب الذي يعاد إلى القبر أنه يرتفع بمقدار الشبر، وقد يزيد قليلاً، وقد ينقص قليلاً.
واستثنى العلماء من هذه المسألة: إذا مات الإنسان في دار حرب، أي: في دار الكفار المحاربين، فإنه لا ينبغي أن يرفع قبره بل يسوى بالأرض خوفاً عليه من الأعداء أن ينبشوه، ويمثلوا به، وما أشبه ذلك.
وقوله: "مسنماً" أي: يجعل كالسنام بحيث يكون وسطه بارزاً على أطرافه، وضد المسنَّم: المسطح الذي يجعل أعلاه كالسطح.
قوله: "ويكره تجصيصه" أي: أن يوضع فوقه جص.
قوله: "والبناء" عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك. والاقتصار على الكراهة في هاتين المسألتين فيه نظر. والصحيح: أن تجصيصها والبناء عليها حرام.
قوله: "والكتابة" أي: على القبر، سواء كتب على الحجر المنصوب عليه، أو كتب على نفس القبر.
وظاهر كلام المؤلف: أن الكتابة مكروهة، ولو كانت بقدر الحاجة، أي حاجة بيان صاحب القبر؛ درءاً للمفسدة. وقال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي: المراد بالكتابة: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من كتابات المدح والثناء؛ لأن هذه هي التي يكون بها المحظور، أما التي بقدر الإعلام، فإنها لا تكره.
قوله: "والجلوس والوطء عليه" ، أي: الجلوس على القبر مكروه - وعلى كلام المؤلف - كراهة تنزيه. والصواب : أنه محرم.
قوله: "والاتكاء إليه" ، أي: ( يكره ) أن يتكئ على القبر فيجعله كالوسادة له .
قوله: "ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة" ، أي: يحرم في القبر دفن اثنين فأكثر، سواءٌ كانا رجلين أم امرأتين أم رجلاً وامرأة. ولا فرق بين أن يكون الدفن في زمن واحد بأن يؤتى بجنازتين وتدفنا في القبر، أو أن تدفن إحدى الجنازتين اليوم والثانية غداً.(2/15)
قوله: "إلا لضرورة" ، وذلك بأن يكثر الموتى، ويقل من يدفنهم، ففي هذه الحال لا بأس أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد. وذهب بعض أهل العلم إلى كراهة دفن أكثر من اثنين كراهة تنزيه. وذهب آخرون: إلى أن إفراد كل ميت في قبره أفضل، والجمع ليس بمكروه ولا محرم. والراجح عندي - والله أعلم - القول الوسط، وهو الكراهة كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، إلا إذا كان الأول قد دفن واستقر في قبره، فإنه أحق به، وحينئذٍ فلا يُدخل عليه ثان، اللهم إلا للضرورة القصوى.
قوله: "ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب" ، أي: إذا جاز دفن اثنين فأكثر في القبر الواحد، فإن الأفضل أن يجعل بينهما حاجز من تراب ليكونا كأنهما منفصلان، ولكن هذا ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية.
قوله: "ولا تكره القراءة على القبر" ، القراءة على القبر لا تكره، ولها صفتان:
الصفة الأولى: أن يقرأ على القبر، كأنما يقرأ على مريض.
الصفة الثانية: أن يقرأ على القبر أي عند القبر؛ ليسمع صاحب القبر فيستأنس به.
فيقول المؤلف: إن هذا غير مكروه. ولكن الصحيح: أن القراءة على القبر مكروهة، سواء كان ذلك عند الدفن أو بعد الدفن.
مسألة مهمة: قراءة (يس) على الميت بعد دفنه بدعة، ولا يصح الاستدلال لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا على موتاكم يس" ؛ لأنه لا فائدة من القراءة عليه وهو ميت، وإنما يستفيد الشخص من القراءة عليه ما دامت روحه في جسده، ولأن الميت محتاج للدعاء له؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من حضر الميت أن يدعو له، وقال: "فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" .
قوله: "وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك" ، هذه قاعدة في إهداء القُرب للغير، هل هو جائز، وهل ينفع الغير أو لا ينفع؟(2/16)
وقول المؤلف: "أي قربة" لم يخصصها بالقربة المالية ولا بالبدنية بل أطلق. فإن كان ميتاً ففعل الطاعة عنه قد يكون متوجهاً؛ لأن الميت محتاج ولا يمكنه العمل، لكن إن كان حياً قادراً على أن يقوم بهذا العمل ففي ذلك نظر.
(( مسألة )) : هل عمل العامة اليوم على صواب؟ وعمل العامة أنهم لا يعملون شيئاً إلا جعلوه لوالديهم، وأعمامهم، وأخوالهم، وما أشبه ذلك، حتى في رمضان يقرؤون القرآن وأول ختمة للأم؛ والثانية للأب، والثالثة للجدة، والرابعة للجد، والخامسة للعم، والسادسة للعمة، والسابعة للخال، والثامنة للخالة، فهذا غلط ليس من هدي السلف. وكذلك في مكة يعتمرون، الأولى له، واليوم الثاني لأمه، والثالث لأبيه، والرابع لجده. حتى إن بعض الناس يفتيهم، ويقول: لا بأس أن تكرر العمرة كل يوم إذا لم تكن لنفسك.
ونحن لا ننكر أن الميت ينتفع، لكن ننكر أن تكون المسألة بهذا الإفراط، فكل شيء يجعل للأموات!! حتى إنني حُدثت حديثاً عجباً، وهو أنه إذا قُدم الغداء أفاضوا عليه أيديهم وقالوا: اللهم اجعل ثوابه لفلان، والعشاء كذلك، فلم يبق شيء من الأعمال الصالحة إلا جعلوه لهم، وكل هذا من البدع.
قوله: "وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم" ، ظاهر كلام المؤلف: أن صنع الطعام لأهل الميت سنة مطلقاً، ولكن السنة تدل على أنه ليس بسنة مطلقاً، وإنما هو سنة لمن انشغلوا عن إصلاح الطعام بما أصابهم من مصيبة لقوله: "فقد أتاهم ما يشغلهم" ، والإنسان إذا أصيب بمصيبة عظيمة انغلق ذهنه وفكره ولم يصنع شيئاً. فظاهر التعليل: أنه إذا لم يأتهم ما يشغلهم فلا يسن أن يصنع لهم. ومع ذلك غلا بعض الناس في هذه المسألة غلواً عظيماً لا سيما في أطراف البلاد، حتى إنهم إذا مات الميت يرسلون الهدايا من الخرفان الكثيرة لأهل الميت، ثم إن أهل الميت يطبخونها للناس، ويدعون الناس إليها فتجد البيت الذي أصيب أهله كأنه بيت عرس. وهذا لا شك أنه من البدع المنكرة(2/17)
قوله: "ويكره لهم فعله للناس" ، أي: صنع الطعام مكروه لأهل الميت، أي: أن يصنعوا طعاماً ويدعوا الناس إليه؛ لأن الصحابة - - "كانوا يعدون صنع الطعام والاجتماع لأهل الميت من النياحة" .
فصل
قوله: "تسن زيارة القبور" ، القبور: جمع قبر، وليس الجمع مراداً، بل تسن الزيارة ولو كان قبراً واحداً. فلو أن شخصاً مات في فلاة من الأرض، ومررنا به، وعرجنا على قبره لنزوره فلا بأس به .
قوله: "إلا لنساء" ، فليست بسنة، وفي المسألة خمسة أقوال: فقيل: إنها سنة للنساء، كالرجال. وقيل: تكره. وقيل: تباح. وقيل: تحرم. وقيل: من الكبائر. والمشهور من المذهب عند الحنابلة: أنها تكره، والكراهة عندهم للتنزيه، أي لو زارت المرأة القبور، فإنه لا إثم عليها. والصحيح: أن زيارة المرأة للقبور من كبائر الذنوب.
واستثنى الأصحاب من فقهاء الحنابلة: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه، وقالوا: إن زيارة النساء لهذه القبور الثلاثة لا بأس بها. والذي يترجح عندي: أنه لا استثناء .
قوله: "ويقول إذا زارها: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون, يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم, ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم " ، قوله: "إذا زارها" ، أي: قصد زيارتها وخرج إليها، أو مر بها مروراً قاصداً غيرها.
قوله: "وتسن تعزية المصاب بالميت" ، والتعزية: هي: التقوية، بمعنى: تقوية المصاب على تحمل المصيبة، وذلك بأن تورد له من الأدعية، والنصوص الواردة في فضيلة الصبر ما يجعله يتسلى وينسى المصيبة، لا أن تأتي إليه لتثير أحزانه مثل: أن تأتي لتعزيه بابنه، فتقول - مثلاً -: هذا ولد شاب صالح، فكيف يأخذه الموت، وما أشبه ذلك من الكلام.(2/18)
قوله: "تعزية المصاب" : ولم يقل: تعزية القريب؛ من أجل الطرد والعكس، فكل مصاب ولو بعيداً فإنه يعزى وكل من لم يصب ولو قريباً فإنه لا يعزى، من أصيب فعزِّه، ومن لم يصب فلا تعزه. مثال ذلك: إذا قدرنا أن هناك ولداً شريراً قد آذى أباه وأهله، ثم مات، وإذا وَجْهُ أبيه تبرق أساريره، ويقول: الحمد لله الذي أراحنا منه، فهذا لا يعزى، مع أن الناس يجعلون العلة في التعزية القرابة، وهذا غلط. فالعلة هي: المصيبة. ولهذا قال العلماء: إذا أصيب الإنسان ونسي مصيبته لطول الزمن، فإننا لا نعزيه؛ لأننا إذا عزيناه بعد طول الزمن، فهذا يعني أننا جددنا عليه المصيبة والحزن.
قوله: "ويجوز البكاء على الميت" ، أي : البكاء الذي تمليه الطبيعة، ولا يتكلفه الإنسان، فأما البكاء المتكلف فأخشى أن يكون من النياحة التي يحمل عليها قول النبي عليه الصلاة والسلام: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه .
"يعذب" : أي: في القبر، وقد اختلف العلماء في هذا الحديث، إذ كيف يعذب الإنسان على عمل غيره وقد قال الله تعالى: ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ث)(الزمر: من الآية7)؛ وأحسن الأجوبة فيها هو : أن التعذيب هنا ليس تعذيب عقوبة، ولكنه تعذيب ملل وشبهه، ولا يلزم من التعذيب الذي من هذا النوع أن يكون عقوبة، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب" ، مع أن المسافر لا يعاقب، لكنه يهتم للشيء ويتألم به، فهكذا الميت يُعلم ببكاء أهله عليه فيتألم ويتعذب رحمة بهم، وكونهم يبكون عليه، وليس هذا من باب العقوبة.
مسألة: هل يجوز للمصاب أن يحد على الميت بأن يترك تجارته أو ثياب الزينة، أو الخروج للنزهة، أو ما أشبه ذلك؟ الجواب: أن هذا جائز في حدود ثلاثة أيام فأقل إلا الزوجة، فإنه يجب عليها أن تحد مدة العدة أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً، وإلا إلى وضع الحمل إن كانت حاملا .(2/19)
مسألة: هل يجوز أن يحد في أمر يلحقه أو عائلته به ضرر، مثل: أن يكون رجلاً متجراً، لو عطل التجارة لتضررت كفايته؟ الجواب: لا، هذا ليس مباحاً، بل هو إما مكروه، وإما محرم.
قوله: "ويحرم الندب" ، الندب: هو تعداد محاسن الميت بحرف الندبة وهو "وا" فيقول: واسيداه، وامن يأتي لنا بالطعام والشراب، وامن يخرج بنا إلى النزهة، وامن يفعل كذا وكذا.
قوله: "والنياحة" وهي: أن يبكي، ويندب برنة تشبه نوح الحمام؛ لأن هذا يشعر بأن هذا المصاب متسخط من قضاء الله وقدره.
قوله: "وشق الثوب" ، فيحرم شق الثوب، كما يجري من بعض المصابين، فيشقون ثيابهم إما من أسفل، وإما من فوق؛ إشارة إلى أنه عجز عن تحمل الصبر على هذه المصيبة.
قوله: "ولطم الخد" ، أي يحرم لطم الخد، وهو أن يلطم المصاب خد نفسه؛ لأن بعض المصابين من شدة إصابته يأخذ بلطم نفسه، فيضرب الخد الأيمن، ثم الأيسر، ثم الأيمن، ثم الأيسر، وهكذا. وكذلك أيضاً لو لطم غير الخد، بأن لطم الرأس، أو ضرب برأسه الجدار، وما أشبه ذلك فكل هذا من المحرم.
قوله: "ونحوه" ، مثل: نتف الشعر، فيأخذ بشعر رأسه وينتفه. ومثل أن يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وما أشبهه؛ لأنهذا كله يدل تسخطه من المصيبة .(2/20)