الحمد لله باعث الهمم ومجلي الهم والحزن , ورازق الفقه في الدِّين وموزع الأقسام في الأمم , والصلاة والسلام على من نحن له تبع ؛ محمد بن عبد الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه أفضل صلاة وأزكى تسليم ... أما بعد :
فمع قرب دخول شهر رمضان , أنعم الله علينا ببلوغه , ورزقنا القيام بحقوقه , امتنَّ الله على عبده الضعيف أن يشرع في شرح مختصر لكتاب الصيام من كتاب التسهيل في فقه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وألحقت بها ملفا آخراً يحوي على المسائل والواقعات وهو "المرجان في أهم مسائل رمضان" , رغبة وإسهاما في نفع إخوانه في الشبكة ونشر العلم بينهم , لعلَّ دعوة من أحدهم في الشهر الفضيل تنجيه , وتغسل حوبته , وأداء لزكاة علم منحه الله إياه , لا بجودٍ منه إنما ابتلاء من الله له أيشكر أم يكفر ؛ فلك اللهم الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك .
**
قال المصنف رحمه الله " كتاب الصيام "
كتاب : بمعنى مكتوب أي مجموع ومنه قول الشاعر :
لا تأمنن فزاريا خلوت به = على قلوصك واكتبها بأسيار .
أي اجمعها بأسيار .
وسمي الكتاب كتاباً لجمعهِ الحروف والكلمات والجمل .
الصيام في اللغة : الإمساك عن الشيء والكف عنه.
تقول صامت الخيل أي أمسكت عن الصهيل . ومنه قول الشاعر :
خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ = تحت العجاجِ وأخرى تعلك اللجما .
ومنه قول الله تعالى في سورة مريم ( فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً ) الآية 26.
وفي الشرع : الإمساك بنية تعبدا لله عزَّ وجل عن كل ما يفطر في زمن معين من شخص مخصوص .(1/1)
فرضه الله جل جلاله في السنة الثانية ؛ فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات , وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على فرضيته ؛ فمن الكتاب قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
سورة البقرة: 183 .
وقوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) سورة البقرة الآية 185.
والأمر للوجوب , ومن السنة حديث ابن عمر رضي الله عنه في الصحيح , قال رسول الله عليه وسلم : "بني الإسلام على خمس ..." وذكر منها " صوم رمضان ".
والإجماع قائم على فرضيته وأنَّ من أنكر وجوبه فقد كفر .
والصيام معروف قبل الإسلام ؛ يدل لذلك الآية السابقة في قوله ( كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .
وما ورد في صحيح مسلم [2695] عَنْ عَائِشَةَ، - رضي الله عنها - أَنَّ يَوْمَ، عَاشُورَاءَ كَانَ يُصَامُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ .
وكان الإنسان في أول الأمر مخير بين الصيام أو الإطعام كما قال تعالى ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) سورة البقرة: 184 .
ثم نسخ التخيير إلى الوجوب على كل مستطيع ؛ كما قال تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ). وما روى مسلم في صحيحه [2742] عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ، - رضي الله عنه - اَنَّهُ قَالَ كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ اَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ حَتَّى أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ )
**(1/2)
يقول المصنف رحمه الله " يجب برؤية الهلال أو كمال شعبان, أو إحالة غيم أو قتر دونه ليلة الثلاثين..".
أورد المصنف رحمه الله تعالى جواب مسألة وهي: بما يجب أو يثبت صيام شهر رمضان ؟
فقال رحمه الله " يجب برؤية الهلال" يدل لذلك ما ورد عند مسلم [2550] عَنِ ابْنِ عُمَرَ، - رضي الله عنهما - عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ " لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوُا الْهِلاَلَ وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَاقْدِرُوا لَهُ " .
فعلّق الصيام بالرؤية ومنه يُعلم أنَّ دخول رمضان لا علاقة له بالحسابات الفلكية الجارية اليوم مهما تقدمت ؛ لأمور منها:
1/ أن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الصيام والفطر به.
2/ أنه سبق في علم الله تعالى تقدم أهل الفلك في حسابهم ومع ذلك لم يشر النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ولو كان سيعهد إليها لكان أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرنا بذلك صلى الله عليه وسلم.
3/ أن هذا الآلات لا يدركها كل أحد ولا تحصل في كل بلد بخلاف الرؤية.
وهناك من العلماء من يقول يعتمد على الحساب الفلكي في النفي دون الإثبات وهو قول معالي فضيلة الشيخ ابن منيع - أطال الله في عمره على طاعته -
ثم ذكر رحمه الله ثاني ما يجب أو يعرف به دخول شهر رمضان فقال" أو كمال شعبان".
وهو أن تكتمل عدة الشهر فإن الشهر لا يزيد عن ثلاثين يوما فمتى ما تمت العدة ابتدأ الشهر الذي يليه ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما كما عند مسلم[ 2563] وغيره ( إِنَّا اُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا - وَعَقَدَ الإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ - وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا ) " . يَعْنِي تَمَامَ ثَلاَثِينَ .
ثم قال رحمه الله " أو إحالة غيم أو قتر دونه ليلة الثلاثين.."(1/3)
ما سبق متفق عليه ؛ أما هذا السبب ففيه خلاف وهو ثالث ما يجب به الصيام على قول المصنف ؛ وهو أن يحول دون رؤية الهلال غيم أو قتر فإنه في هذه الحالة يجب الصيام واستدلوا بما أورده الإمام أحمد في مسنده [4258] عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ فَلَا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْهُ وَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ فَاِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ قَالَ نَافِعٌ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا مَضَى مِنْ شَعْبَانَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ يَبْعَثُ مَنْ يَنْظُرُ فَاِنْ رُئِيَ فَذَاكَ وَاِنْ لَمْ يُرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ وَلَا قَتَرٌ أَصْبَحَ مُفْطِرًا وَاِنْ حَالَ دُونَ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرٌ أَصْبَحَ صَائِمًا .
هذا من جهة ؛ ومن جهة أخرى فإنهم فسروا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما ( فاقدروا له ) أي ضيقوا عليه أخذا من قوله تعالى في سورة الأنبياء ( فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) سورة الأنبياء الآية 87 .
والصحيح خلافه وهو قول الجمهور واختيار ابن تيمية رحمه الله فإنه لا يجب صيامه ؛ بل يجب عند عدم رؤية الهلال إتمام شعبان ثلاثين لما روى البخاري [1909] ومسلم [1081] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ).
ويجاب عن استدلال من أخذ بقول المصنف رحمه الله تعالى:
1/ أن ابن عمر رضي الله عنه لم يوجبه على غيره ؛ ومعلوم أن ابن عمر له اجتهادات تفرد بها عن غيره من الصحابة كغَسْلِ داخل عينيه في الوضوء , وتتبع ما مرَّ عليه النبي صلى الله عليه وسلم.(1/4)
2/ إن اجتهاد ابن عمر رضي الله عنهما مقابل باجتهاد غيره من الصحابة وفعلهم , والأحاديث التي تدل على وجوب الصيام في مثل هذه الحالة ومنها :
- حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه عند النسائي[2200] مَنْ صَامَ الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم.
- أن الأصل بقاء الشيء على ما كان وأن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين, فنبقى على الأصل وهو بقاء شعر شعبان حتى نتيقن دخول شهر رمضان.
- ويجاب عن تفسيرهم للفظ الحديث " فاقدروا له " أن المراد أبلغوه قدره وتمامه لا التضييق عليه , كما تدل عليه الأحاديث الأخرى كحديث أبي هريرة السابق وما روى مسلم [2570] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
" لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلاَ يَوْمَيْنِ إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ " .
**
ثم قال المصنف رحمه الله " وإنما يقبل عدل في رمضان "
شرع المصنف رحمه الله في بيان شرط قبول الرائي وهو أن يكون عدلاً , ولم يُفرق بين الذكر والأنثى , ولم يشترط التعدد في العدد بل يكفي أن يرى الهلال واحد .
والعدل: هو من استقام دينه ومروءته, وكان موثوقا بخبره.
ويمكن أن نجمل الصفات المطلوبة في الرائي على نحو ما يلي:
1/ استقامة الدين استقامة تجعله موثوقا بخبره .
2/ أن تكون له مروءة تمنعه من التسرع والوقوع فيما لا يحمد .
3/ قوة الحواس كالعقل والبصر .
**
ثم قال المصنف رحمه الله " ورؤيته نهارا للمقبلة "
يريد المصنف رحمه الله بهذا بيان حال من خفي عليهم رؤية الهلال فرأوه نهار الثلاثين هل يلزمهم الإمساك بناء على أن الهلال لليلة الماضية أم لا يلزمهم بناء على أنه لليلة المقبلة ؟(1/5)
المصنف بيّن هنا أنه هنا لليلة المقبلة ذكر هذا ليرد على من قال بأنها لليلة الماضية لأن الرؤية لا عبرة بها قبل الغروب ويدل لذلك ما أورده الدارقطني[ 2/168] عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله " إذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا, إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية ".
**
ثم قال رحمه الله " ورؤية بلد لجميع الناس .."
أي إذا رؤي الهلال في بلد فإنه يلزم الناس كلهم الصيام.
والقول الثاني في هذه المسألة وهو الصحيح أنهم لا يلزم الناس كلهم بل يلزم أهل البلد وحدهم, ولا يعني هذا تفرقة الأمة وتشتيتها كما يدعي البعض قول هذا.. ويريد توحيد بداية الشهر والحسابات الفلكية .. فإن بداية شهر رمضان ونهايته تختلف باختلاف المطالع تماما كاختلاف أوقات الصلوات من بلد إلى بلد.
**
ثم قال رحمه الله " أو جماعا "
أي أن يتعمد الصائم الذاكر لصيامه الجماع ؛ فإنه يبطل صيامه بخلاف الناسي ففيه خلاف .
**
ثم قال رحمه الله " أو استمناء "
أي أن يتعمد الصائم الذاكر لصيامه الاستمناء .
والاستمناء : السين والتاء في اللغة تعني الطلب فالاستمناء معناه : استدعاء الإنسان خروج المني بفعله أو بفعل غيره .
**
ثم قال رحمه الله " أو إنزال بتكرار نظر "
أي: أن يتعمد الصائم الذاكر لصيامه تكرار النظر لما يثيره حتى أنزل بسببه , ويفهم منه أنَّ من أنزل مع عدم تكرار النظر أو بغير إرادة منه فلا شيء عليه ويبقى على صيامه ؛ لعدم إمكانية التحرز من ذلك ؛ ولأنه ليس من فعله وإرادته وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله .
**
ثم قال رحمه الله " لا غبار ونحوه أو ريق معتاد .."
والمعنى أن الغبار وما كان في معناه يدخل جوف الإنسان بغير إرادة منه ويصعب التحرز منه ؛ أما إنْ قصد شيئا من ذلك فإنَّ صيامه يبطل ؛ لأنه دخل بفعله وإرادته .(1/6)
أما الريق فلا يُفَطِّر للمشقة الحاصلة في التحرز منه هذا ما لم يجمعه ؛ أما إنْ جمعه ففيه خلاف هل يُفطر أم لا ؟
**
ثم قال رحمه الله " وحجما واحتجاماً "
حجما : المراد به من يفعل الحجامة وهو الحجام لأنه يمص الدم غالبا أما إن بدون مص فلا فطر في حقه .
وأما المراد بقوله " احتجاما " أي فعل المحجوم فيفطر ؛ لأنه سبب في ضعف البدن أشبع القيء .
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن الحاجم والمحجوم يفسد صومهم ودليله حديث شداد بن أوس رضي الله عنه عند أبي داود [2371] عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى رَجُلٍ بِالْبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ وَهُوَ اخِذٌ بِيَدِي لِثَمَانَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَ " أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ " . قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَرَوَى خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ بِإِسْنَادِ أَيُّوبَ مِثْلَهُ .
والقول الآخر وهو مذهب الأئمة الثلاثة : أنها لا تفطر .
وأجابوا عن حديث شداد بن أوس رضي الله عنه وما كان في معناه أنها منسوخة, واستدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البخاري [1973] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ، وَهْوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهْوَ صَائِمٌ .
وحديث أبي سعيد الخدري عند ابن خزيمة قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة للصائم ورخص في الحجامة " صححه الألباني في الإرواء .
فكونه يقول ( رخص ) يدل على أنه لم يرخص في السابق, فالرخص في الشريعة لا تأتي إلا بعد عزيمة.
وهو القول الأقرب للصواب.
**
ثم قال رحمه الله " ولو أكل شاكاً في الغروب .."
مثاله :
إنسان أفطر مع عدم يقينه أن الشمس قد غربت بل يشك في غروبها ثم تبين له أنها لم تغرب .(1/7)
يقول المصنف رحمه الله في هذه الحالة يلزمك القضاء ؛ لأن الأصل بقاء الشيء على ما كان وما ثبت بيقين فلا يزول إلا بيقين , فالأصل بقاء النهار وعدم غروب الشمس ؛ أما إن غلب على ظنه غروبها فلا قضاء عليه وصومه صحيح .
**
ثم قال رحمه الله " لا الفجر "
أي أن هذا الحكم لا يجري في الفجر فمن جامع أو أكل أو شرب شاكا في طلوع الفجر فلا شيء عليه لأن الأصل بقاء الليل فمتى ما تبين له دخول الفجر لزمه الإمساك ولا قضاء عليه .
**
ثم قال رحمه الله " أو اعتقده ليلا فخالف قضى .."
أي إن أكل معتقداً بقاء الليل فخالف اعتقاده فبانَ نهاراً ؛ فإنه يقضي صيامه .
واختار ابن تيمية أنه لا قضاء عليه ؛ واستدل رحمه الله تعالى بما رواه البخاري[1996] عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَتْ أَفْطَرْنَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ . قِيلَ لِهِشَامٍ فَأُمِرُوا بِالْقَضَاءِ قَالَ بُدٌّ مِنْ قَضَاءٍ . وَقَالَ مَعْمَرٌ سَمِعْتُ هِشَامًا لاَ أَدْرِي أَقْضَوْا أَمْ لاَ .
**
ثم قال رحمه الله " ويتحرى الأسير ويجزئه إن وافقه أو بعده ."
مراد المصنف رحمه الله أن من وقع في الأسر , ولم يتمكن من معرفة دخول الشهر ولا خروجه ؛ فإنه يجتهد ويصوم وفق ما يمليه عليه اجتهاده مع بذل الوسع والجهد والطاقة من التحري ونحو ذلك إلا إن تبين له أنه صام قبل دخول الوقت فإنه يلزمه قضاء ما صام قبله لأنه فعل عبادة قبل وقتها .
والقول الثاني وله ثقله أنه لا يقضي ؛ لأنه عمل وفق اجتهاده والرسول صلى الله عليه وسلم قال كما عند مسلم [4584] عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، اَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ . وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَاَ فَلَهُ أَجْرٌ " .
**(1/8)
قال المصنف رحمه تعالى " يسن تأخير سحور, وتعجيل فطر على رطب, ثم تمر, ثم ماء ..."
ابتدأ المصنف رحمه الله في هذا الفصل بذكر ما يسن فعله من قبل الصائم فقال " ويسن تأخير سَحور "
السحَُور بفتح الحاء هو ما يؤكل, وبالضم هو الفعل .
قال " يسن" أي ليس بواجب ؛ ولا يلزم من مخالفة هذا الأمر ارتكاب محظور وفعل محرم .
أي يسن لمن أراد الصيام أن يؤخر السحور فلا يتسحر أول الليل ؛ بل يجعل سحوره قبل الفجر بوقت يكفي لتسحره وأكله ؛ ودليل ذلك ما ورد عند البخاري [1955] عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ . قُلْتُ كَمْ كَانَ بَيْنَ الآَذَانِ وَالسَّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً .
وأيضا ما ورد عنده [1954] عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
وفوائد ذلك كثيرة .. منها :
1/ الإعانة على القيام لصلاة الفجر وأداءها مع الجماعة والدخول في ذمة الله تعالى حتى المساء .
2/ تخفيف الجوع في وقت النهار ؛ فإن من تسحر قبل أن ينام في أول الليل في الساعة الحادية عشر مثلاً ؛ سيكون جوعه أشد ممن تسحر قبيل الآذان .
ثم قال " وتعجيل فطر"
أي ويسن للصائم أن يعجل بالفطر وليس معنى هذا أن يفطر قبل الوقت ! كلا ؛ بل يستعد للفطر ويهيئه , ودليل ذلك ما ورد عند البخاري [1994] ومسلم [2608] عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ " .(1/9)
وفيه أيضا مخالفة لمن خالف شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , وإبهاج النفس وتصبيرها بقرب الفطر , وكأنه يشير إلى أن الحسنات والأعمال الصالحة تحتاج لصبر , وسيحل بعدها الأجر العظيم ؛ وفي تعجيل الفطر من الإشارات التي تعين العبد على الطاعات ما لا يتسع المجال لذكره .
ثم قال " على رطب, ثم تمر, ثم ماء "
بعدما انتهى المصنف رحمه الله من ذكر ما يسن في الوقت ابتداءً وانتهاءً شرع رحمه الله في ذكر ما يسن الإفطار عليه ؛ فقال " على رطب ثم تمر ثم ماء"
والرطب هو التمر اللين بخلاف التمر - فإنه القاسي أو الناشف أو اليابس سمه ما شئت - ثم ماء .
وذكر بين هذه الأنواع حرف " ثم " وهي أداة تعرف عند أهل اللغة بأنها تفيد التعقيب ؛ بمعنى إن لم يجد رطباً فعلى تمر , وإن لم يجد تمراً , فعلى ماء ؛ ودليل ذلك ما ورد عند الترمذي [700] عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ " كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتُمَيْرَاتٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تُمَيْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ " . قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
* وفي هذا الترتيب فائدة ؛ فإن الرطب أفضل من التمر , وذلك لكثرة ماءه وبرودته وحلاوته , فهي تبرد كبد الصائم بعد الجوع الذي كان معه ويستفيد منها فائدة كبيرة , ويهضمها الجسم ويأخذ فوائدها أسرع من التمر ؛ وقد ذكر الرطب في كتاب الله تعالى لمريم البتول أم عيسى عليه السلام عندما أجاءها المخاض فأمرها اللطيف الخبير أن تهزَّ إليها بجذع النخلة تساقط عليها رطباً جنيا , وهو كذلك فقد وجد أن الرطب فيه فوائد لمن أتاها الوضع ؛ فإنه يسهل لها أمرها بإذن من الله , وله فوائد كبيرة وكثيرة لا حصر لها قال الله تعالى في سورة مريم ( وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ) الآية 25.(1/10)
* وفي هذا تنبيه لطيف ؛ وهو الترتيب والتدرج والرفق فلا يحسن بالمرء عند الإفطار وسماع المؤذن أن يأكل من جميع أنواع الطعام ! وهذا ما ينصح به الأطباء ويعرفه كبار السن فإنهم كانوا في السابق لا يعطون الماء لمن وجدوه في حالة يرثى لها من العطش إلا بالتدرج لكي لا يضره ؛ لذا من الخطأ ما يفعله بعض الناس من وضع جميع الطعام بعد الأذان فمع ما فيه من ضرر فإنه يؤخرهم عن الحضور إلى الصلاة ويجعلها ثقيلة عليهم .
**
ثم قال رحمه الله " والذكر عنده "
أي ويسن الذكر عند الإفطار, فضمير الهاء يعود إليه ؛ وسن هنا الذكر لما في هذا الوقت من الفضل والشرف وقد ورد عند الترمذي [3947] وعند ابن ماجه [1824] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ وَالإِمَامُ الْعَادِلُ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ " . قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
**
ثم قال رحمه الله " وعلى مفطر رمضان بجماع ولو مرارا قبل التكفير القضاء.."
أي ومن جامع في رمضان فإن عليه قضاء اليوم الذي جامع فيه وأفسد صيامه .
فالمصنف يرى قضاء اليوم وأن القضاء لا علاقة له بالكفارة ؛ فالكفارة على الذنب ويبقى اليوم في ذمته لابد من قضائه .
والقول الثاني في هذه المسألة - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - أنه لا قضاء عليه لعدم ورود الأمر بذلك .
فإن قضى إبراء لذمته فهذا أفضل .
قوله " ولو مراراً قبل التكفير القضاء وكفارة الظهار .."
أي جامع عدة مرات قبل أن يكفر عن فعله سواء أكان جماعه في نفس اليوم أم في أيام متتالية ؛ المهم كان هذا الجماع قبل التكفير فإنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة . هذا قول .(1/11)
والقول الآخر أن الكفارة تتعدد بتعدد الجماع إذا تكرر في غير اليوم الذي جامع فيه , بمعنى أن كل يوم يعتبر مستقلا بالعبادة ؛ فلو جامع ثلاث مرات في ثلاثة أيام فإن عليه ثلاث كفارات .
فالقول الأول قاس الكفارات على الحدود .
والقول الثاني أخرجها عنه ؛ ولأن هذا الحكم سيفضي إلى التساهل والوقوع في الحرام وانتهاك حرمة الشهر الفضيل .
أما قوله " قبل التكفير"
يفهم منه أنه لو جامع في أول النهار ثم كفَّر عن فعله ثم جامع آخر النهار فإنَّ عليه كفارة أخرى . وهذا أحد الأقوال .
والقول الآخر وهو رأي الجمهور أنه لا كفارة عليه لفساد هذا اليوم في حقه وبطلانه فيكتفى بكفارة واحدة عن جميع اليوم .
ثم قال " القضاء وكفارة الظهار "
أي يلزمه كما بينا على رأي المصنف قضاء اليوم والكفارة .
قال" وكفارة الظهار "
فهل الجماع في نهار رمضان هنا يعد ظهاراً ؟!!
الجواب: كلا ؛ إنما مراد المصنف رحمه الله أن كفارة الجماع في نهار رمضان مثل كفارة الظهار سواء بسواء .
فيجب عليه العتق فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع يطعم ستين مسكينا . قال الله تعالى في سورة المجادلة ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) الآيات 4:3 .(1/12)
ودليل مشابهتها لكفارة الظهار ما ورد عند البخاري [1970] أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ . قَالَ " مَا لَكَ " . قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا " . قَالَ لاَ .
قَالَ " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ إَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " . قَالَ لاَ . فَقَالَ " فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا " . قَالَ لاَ .
قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ اُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ ـ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ ـ قَالَ " أَيْنَ السَّائِلُ " . فَقَالَ اَنَا . قَالَ " خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ " . فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا ـ يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ ـ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ " أَطْعِمْهُ اَهْلَكَ " .
**
قال رحمه الله " وغيره يقضي فقط "
أي أن من أفطر في رمضان بغير جماع فليس عليه كفارة إنما عليه القضاء فقط .
**
ثم قال رحمه الله " وعلى من مات ولم يصم مد طعام لكل يوم إن فرّط "
أي أن من جاءه أجله وعليه أيام من رمضان لم يقضها ولا عذر شرعي له في تأخيرها فإن عليه مد طعام عن كل يوم لم يصمه .
ودليل ذلك ما ورد عند أبي داود [2403] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ إِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَصُمْ أُطْعِمَ عَنْهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ قَضَى عَنْهُ وَلِيُّهُ .(1/13)
والمد هو : قدر ما يملأ الإنسان معتدل الخلقة كفيه . ويطعم عنه من تركته التي تركها .
وقد وردت أحاديث عامة تفيد جواز صيام الولي وأهل الميت عنه , وسقوط ذلك عنه ؛ مثل ما ورد عند البخاري [1988] ومسلم [2748] من حديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ " .
وما ورد عند البخاري [1989] ومسلم [2749] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رضي الله عنهما - أَنَّ امْرَأَةً ، أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ . فَقَالَ " أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ " . قَالَتْ نَعَمْ . قَالَ " فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ " .
ولا تعارض بينها وإن كان من أهل العلم من قصرها على صيام النذر ؛ لكن الذي يظهر أنه يشمل صيام الواجب عموما .
**
قال " إن فرط "
ويفهم من هذا أنه إن لم يفرط فإنه لا يطعم عنه ؛ لوجود العذر والمانع الشرعي لصيامه .
**
ثم قال رحمه الله " ولو عبر رمضان آخر قبل صومه لغير عذر قضى وأطعم .."
انتقل المصنف رحمه الله من الميت إلى من كان على قيد الحياة , وفرط في القضاء حتى أتى عليه شهر رمضان التالي ولم يقض ما عليه ؛ فقال في هذه الحالة " قضى وأطعم " أي عليه القضاء والإطعام .
ويفهم منه أنه إن لم يفرط فليس عليه إلا القضاء .
**
ثم قال رحمه الله " ومن مات وقد نذر صوما, أو حجا, أو اعتكافا فعله عنه وليه .."
انتقل رحمه الله بعد أن ذكر الواجبات في أصل الشرع إلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من غير ملزم له من الشرع قبل ذلك , فقال
" ومن مات ونذر صوما "
أي من نذر أن يصوم لله صوماً , ومات قبل الوفاء به فما الحكم ؟
قال المصنف رحمه الله " فعله عنه وليه "(1/14)
أي يصوم عنه وَلِيُّه استحباباً لا وجوباً ؛ مثلُ الدَّين إذا كان على الميت , فإنه لا يلزم الولي سداده ؛ لكن يستحب له من باب البر والصلة .
والولي هو من يرث بالدرجة الأولى , ويجوز أن يكون غيرهم من القرابة ونحوهم .
ودليل قضاء الصوم حديث عائشة رضي الله عنها السابق .
وكذا من نذر حجاً فإنه يفعله عنه وليه , ودليل ذلك ما ورد عند البخاري [1883] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ امْرَأَةً ، مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ " نَعَمْ . حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ ".
قال " أو اعتكافاً "
أي من نذر أن يعتكف فمات اعتكف عنه وليه ؛ هذا رأي المصنف رحمه الله ويُستدل له بعموم الأحاديث السابقة , ولحديث ابن عباس رضي الله عنهما كما عند البخاري [6781] أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ الأَنْصَارِيَّ اسْتَفْتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَذْرٍ كَانَ عَلَى أُمِّهِ، فَتُوُفِّيَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْضِيَهُ . فَأَفْتَاهُ أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهَا، فَكَانَتْ سُنَّةً بَعْدُ .
* ووجه الاستشهاد أن النبي صلى الله عليه وسلم أَذِنَ له بالقضاء من دون أن يستفصل منه ما هو النذر ؟
وقال بعض العلماء أنه لا يعتكف لعدم ورود الأمر بذلك .
**
قال المصنف رحمه الله " باب صوم التطوع "
أي هذا باب يذكر فيه أحكام صوم التطوع .
والتطوع هو : التبرع .
وفي الشرع صوم التطوع هو : ما لم يكن واجبا بأصل الشرع وكان مشروعاً كالسنن والنوافل .(1/15)
وفعل التطوع أمر مندوب؛ استحبه الشارع وحثَّ عليه ففي الحديث القدسي كما عند البخاري [6581] من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَال:َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ " .
وفيه أيضا تكميل ما نقص , وجبره من الطاعات ؛ كما عند الترمذي من حديث أبي هريرة [ 415] قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلاَتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ فَإِنِ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنَ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ " .
**
قال المصنف رحمه الله " أفضله صيام داود عليه السلام , صوم يوم وفطر يوم , وأفضل شهر بعد رمضان المحرم , وسن صوم عشر ذي الحجة والبيض وعرفة لغير من بها وعاشوراء والاثنين والخميس, وستة من شوال "(1/16)
ابتدأ المؤلف رحمه الله بذكر الأيام التي يسن صيامها فبدأ أولاً بصيام داود عليه السلام فقال " أفضله صيام داود عليه السلام, صوم يوم وفطر يوم "
ذكر رحمه الله أفضل الصيام وطريقته فقال صيام داود عليه السلام وطريقة صيامه يصوم يوماً ويفطر يوماً , ودليل ذلك ما ورد عند مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في حديث طويل [2786] وفيه.. قَالَ " صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَهُوَ أَعْدَلُ الصِّيَامِ " . قَالَ قُلْتُ فَإِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ " .
**
ثم قال " وأفضل شهر بعد رمضان المحرم "
أي أفضل شهر للصوم بعد شهر رمضان هو شهر محرم . ودليل ذلك ما ورد عند مسلم [2812] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ " .
**
ثم قال " وسنَّ صوم عشر ذي الحجة "
وهذا لا دليل عليه ؛ بل لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه صام هذه الأيام ؛ كما عند مسلم [2846] عَنْ عَائِشَةَ، - رضي الله عنها - قَالَتْ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ .(1/17)
وما ثبت في صيامهن لا يعوَّل عليه لضعفه ؛ لكن حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على الإكثار من الأعمال الصالحة فيها , فتكون من ضمن الأعمال الصالحة ؛ ولا شك أن للصوم أجر كبير فقد ورد عند مسلم [2760] من حديث أَبَي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخِلْفَةُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ " .
**
ثم قال " والبِيْض "
أي ومن صيام التطوع صيام الأيام البيض , وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر ؛ وورد فيه حديث متكلم فيه عند الترمذي [766] عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ، يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَصُمْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَخَمْسَ عَشْرَةَ " .
والصحيح أنه يسن صيام ثلاثة من كل شهر من غير تحديد بالأيام ودليل ذلك ما ورد عند مسلم [2801] عن مُعَاذَةُ، الْعَدَوِيَّةُ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ قَالَتْ نَعَمْ .
فَقُلْتُ لَهَا مِنْ أَىِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ كَانَ يَصُومُ قَالَتْ لَمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَىِّ أَيَّامِ الشَّهْرِ يَصُومُ .(1/18)
وورد فيه فضل كما عند مسلم [2804] عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ ، رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِهِ قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً وَبِبَيْعَتِنَا بَيْعَةً .
قَالَ فَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ الدَّهْرِ فَقَالَ " لاَ صَامَ وَلاَ أَفْطَرَ " . أَوْ " مَا صَامَ وَمَا أَفْطَرَ " .
قَالَ فَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ " وَمَنْ يُطِيقُ ذَلِكَ " .
قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمَيْنِ قَالَ " لَيْتَ أَنَّ اللَّهَ قَوَّانَا لِذَلِكَ " .
قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمٍ وَإِفْطَارِ يَوْمٍ قَالَ " ذَاكَ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ " .
قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ قَالَ " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ " .
قَالَ فَقَالَ " صَوْمُ ثَلاَثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ صَوْمُ الدَّهْرِ " .
قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ " يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ " .
قَالَ وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ " يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ " .
**
ثم قال " وعرفة لغير من بها "
أي يسن صيام يوم عرفة ولا يجب ؛ لكن لغير الحاج , فقال " لغير من بها " ولعلَّ الحكمة من ذلك أنه يوم عيد لمن بها ؛ فلا يسن لهم صيامه , ولكي يتقووا على العبادة والدعاء في ذلك اليوم .
ويوم عرفة هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة وورد في صيامه أحاديث منها ما ذكر قبل قليل .
**
ثم قال " وعاشوراء "(1/19)
أي يسن صيام يوم عاشوراء ولا يجب ؛ ويوم عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم وورد في فضل صيامه أحاديث منها ما ذكر قبل قليل وما عند مسلم [2714] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ ؟ "
فَقَالُوا هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ " .
فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ .
وهو يوم معروف قبل الإسلام ؛ ودليل ذلك ما ذكرناه من حديث عائشة في معرفة أهل الجاهلية للصوم قبل الإسلام ؛ فإنهم كانوا يصومونه .
ولا حرج في إفراده , وإن كان مكروهاً عند بعض العلماء لمشابهة اليهود ؛ فإنهم يفردونه والشرع يتطلع لعدم مشابهة الكفار في شيء من
عبادتهم , كما أن الأفضل صيام يوم قبله أو بعده .
أما ما يذكره البعض أن أرفع المنازل هو صوم اليوم التاسع والعاشر والحادي عشر ! فلم يثبت فيه دليل ؛ لعدم ورود الشرع بذلك , أما إن أراد بصيامه ثلاثة أيام من كل شهر فلا بأس ويحصل له أجرها - بإذن الله - وفضل الله واسع , فمن ذا الذي يحجبه !
**
ثم قال " والاثنين والخميس "
أي ويسن صيام يوم الاثنين والخميس , ويوم الاثنين آكد من يوم الخميس فقد ورد عند مسلم [2807] عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ، رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الاِثْنَيْنِ فَقَالَ " فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ " .(1/20)
وفيهما جميعا ورد عند الترمذي [752] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ " قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
**
ثم قال" وستة من شوال "
أي ويسن صيام ستة من شوال ودليل ذلك ما ورد عند مسلم [2815] عَنْ عُمَرَ، بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْخَزْرَجِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، - رضي الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ " .
**
ثم قال رحمه الله " وليلة القدر في العشر الأخير رمضان, والوتر آكد, وأرجاه ليلة سبع وعشرين ويدعو بالعفو "
انتهى المصنف رحمه الله تعالى من ذكر ما يسن صومه ثم بدأ بذكر ما يسن فعله في شهر الصيام , والتنبيه إلى أفضل الأعمال في هذا الشهر فقال " وليلة القدر في العشر الأخير من رمضان"
أي أن ليلة القدر هي في العشر الأخير من رمضان خلافا لمن قال بأنها في الشهر كله وأنها تتنقل !
ودليل ذلك ما ورد عند مسلم [2833] عَنْ عَائِشَةَ، - رضي الله عنها - قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ " الْتَمِسُوا - وَقَالَ وَكِيعٌ - تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ " .
ولهذه الليلة من الفضل العظيم ما لا يحصى ؛ ومن ذلك ما ورد في كتاب الله تعالى في سورة الدخان قوله تعالى ) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ( الآية :4(1/21)
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري [ 1935] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ " مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ " .
**
ثم قال " والوتر آكد "
الوتر هي الأعداد الفردية والأعداد الزوجية تسمى شفع. ودليل أنها آكد ما ورد عند مسلم [2820] عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، - رضي الله عنه - قَالَ رَأَى رَجُلٌ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا " .
**
ثم قال " وأرجاه ليلة سبع وعشرين "
أي أن أرجى هذه الليالي هي ليلة سبع وعشرين وعليه الأكثر ودليل ذلك ما ورد عند مسلم [2835] عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ، - رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ أُبَىٌّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُهَا - قَالَ شُعْبَةُ وَأَكْبَرُ عِلْمِي - هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقِيَامِهَا هِيَ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ .
ووردت أحاديث أخرى تدل على خلاف ذلك ؛ فالذي يظهر - جمعاً بين الأدلة - أنها تتنقل في العشر الأخير من رمضان .
**
ثم قال " ويدعو بالمغفرة "
أي يسن له في هذه الليالي الدعاء بالعفو والإكثار من ذلك؛ ودليل هذا ما ورد عند الترمذي [3855] عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَىُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ " قُولِي اللَّهُمَّ اِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي " . قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
**(1/22)
ثم قال رحمه الله " فصل .. كره إفراد رجب والجمعة والسبت والشك والدهر وكل يوم يعظمه الكفار ما لم يوافق عادة "
بعدما انتهى المصنف من ذكر ما يسن صومه ناسب أن يذكر ما يكره صومه فقال " كره إفراد رجب " أي يكره إفراد شهر رجب بالصوم لعدم ورود ذلك في الشرع والعبادة توقيفية فلابد من دليل يثبت مشروعيتها ولا دليل.
فلا يشرع فيه صيام ولا قيام وليس فيه أي فضل..
أما إن جمع معه غيره كأن تكون عادته صوم يوم وإفطار فيجوز له ذلك لأنه لم يفرده بالصوم ولم يخصه بذلك.
**
ثم قال " والجمعة "
أي يكره إفراد يوم الجمعة بالصيام ؛ ودليل ذلك ما ورد عند مسلم [2737]مَنْ مُحَمَّدِ، بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنهما -وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَقَالَ نَعَمْ وَرَبِّ هَذَا الْبَيْتِ .
**
ثم قال" والسبت"
أي ويكره إفراد صيام يوم السبت ؛ لعدم ورود تخصيص هذا اليوم بفضل, أما إن كان فرضاً فله أن يصومه ؛ فإن ذلك جائز . والله أعلم
**
ثم قال " والشك "
أي ويكره صيام يوم الشك .
ويوم الشك هو : يوم الثلاثين من شعبان إذا مَنَعَ من رؤية الهلال قترٌ أو غيمٌ .
فإذا لم يكن كذلك كأن تكون ليلته صحوا ولم ير فإنه يجوز صيامه.
ودليل منع صيام يوم الشك ما ذكر سابقا من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما فإنه حكم على من صامه بالمعصية , والمعصية ذنب فإن صامه على أنه من رمضان فإنه لا يجوز كما بيِّنا سابقا . والله تعالى أعلم.
**
ثم قال" والدهر"
أي يكره صيام الدهر ؛ والدهر هو : أيام السنة .
أي يكره صيام أيام السنة على التوالي ودليل ذلك الحديث الذي ذكر سابقا.
**
ثم قال " وكل يوم يعظمه الكفار ما لم يوافق عادة"
أي يكره صيام كل يوم يقدسه الكفار ويعتبرونه عظيما عندهم ما لم يوافق هذا اليوم عادة مشروعة يعملها الإنسان .(1/23)
**
ثم قال رحمه الله " ويحرم صوم العيدين وأيام التشريق, لا لمن تمتع ولم يجد هديا "
انتقل رحمه الله بعد أن ذكر ما يسن صومه ومما يكره صومه إلى ما يحرم.
فقال" ويحرم صوم العيدين "
أي عيد الفطر وعيد الأضحى ؛ ودليل ذلك ما ورد عند مسلم [2728] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ يَوْمِ الأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ .
وورد مثله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه برقم[2730].
ووردت علة الفطر في الحديث كما عند البخاري [2029] ومسلم [2727] عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ ، مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ أَنَّهُ قَالَ شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - فَجَاءَ فَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ إِنَّ هَذَيْنِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ وَالآخَرُ يَوْمٌ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ .
**
ثم قال "وأيام التشريق"
أي يحرم صيام أيام التشريق وهي الأيام الثلاثة التي تلي يوم النحر وسميت بهذا الاسم لأن الناس في السابق كانوا يشرقون اللحم أي ينشرونها ويضعون عليها الملح لتحفظ وهو القديد الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجه [ 3437] عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، قَالَ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ فَقَالَ لَهُ " هَوِّنْ عَلَيْكَ فَاِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ " .
ولأنها أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى ؛ كما ورد عند مسلم [2733] عَنْ نُبَيْشَةَ، الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ " . وزاد " وذكر لله ".
**(1/24)
ثم قال " لا لمن تمتع ولم يجد هديا "
معلوم أن من حجَّ متمتعاً أو حتى قارناً فعليه هدي ؛ فإن لم يجد صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ؛ فجاز له الصيام فيها كما ذكر الله تعالى في سورة البقرة ) فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ( الآية196 .
وما ورد عند البخاري [2037] وَعَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي الله عنهم ـ قَالاَ لَمْ يُرَخَّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ، إِلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْىَ .
**
ثم قال رحمه الله " وسن لمن تطوع بعبادة إتمامها إلا الحج والعمرة فيجب إتمامها وقضاء فاسدهما "
أي يسن لمن شرع في العبادة إتمامها ولا يلزمه إتمامها , بل هو على التخيير ؛ لكن الأفضل ألا يقطعها إلا بعذر شرعي تعظيما للعبادة التي هو فيها , ولقوله تعالى في سورة محمد ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ( الآية 33 .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع في عبادة ثم قطعها كما عند مسلم [2771] عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَتْ دَخَلَ عَلَىَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ " هَلْ عِنْدَكُمْ شَىْءٌ " . فَقُلْنَا لاَ . قَالَ " فَاِنِّي إِذًا صَائِمٌ " . ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ . فَقَالَ " أَرِينِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا " . فَأَكَلَ .
قال " إلا الحج والعمرة فيجب إتمامها وقضاء فاسدهما "
أي أن الحج والعمرة تستثنى من هذا الحكم فيلزم المضي فيهما ؛ بل وقضاء ما فسد منهما , ودليل ذلك قوله تعالى في سورة البقرة
) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ( الآية 196 .
فيجب الإتمام والقضاء إن أفسدهما سواء بجماع أو نحوه .
**(1/25)
ثم قال رحمه الله " والفطر في الفرض لمرض يشق وسفر قصر وخوف حامل أو مرضع على نفسيهما فتقضي وعلى ولدهما فتقضي وتطعم مسكينا لكل يوم والهرم ومن لا يرجى برؤه يطعم فقط "
بدأ المصنف رحمه الله بذكر الأسباب التي يشرع فيها قطع العبادة وخصوصا الصوم فقال " والفطر في الفرض لمرض يشق"
أي يجوز للصائم صوم فرض الفطر إذا مرض مرضا يشق عليه أما إن كان الصوم سببا في هلاكه وكان هذا بإشراف طبي فإنه يحرم عليه الصيام ولا يجب عليه.
ويفهم منه أنه في صيام النفل لا يشترط للإفطار المرض الشاق .
ودليل ذلك ما ورد في سورة البقرة )مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( الآية 184 .
**
ثم قال " وسفر قصر "
أي يسن للصائم المسافر سفر قصر الفطر ؛ ودليل ذلك ما ورد عند مسلم [2685] من حديث حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ بي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ " . قَالَ هَارُونُ فِي حَدِيثِهِ " هِيَ رُخْصَةٌ " . وَلَمْ يَذْكُرْ مِنَ اللَّهِ .
**
ثم قال" وخوف حامل أو مرضع على نفسيهما فتقضي "
أي إذا خافت الحامل أو المرضع على نفسها الضرر بسبب الصوم فلها أن تفطر وتقضي بعد وضعها أو بعد فطام ولدها .
**
ثم قال" وعلى ولدهما فتقضي وتطعم مسكينا لكل يوم "
أي إن أفطرت الحامل أو المرضع بسبب خوفها على ولدها لا على نفسها ؛ فإنها تقضي الأيام التي أفطرت فيها لاستطاعتها على القضاء وتطعم مسكينا عن كل يوم .
والصحيح أنه لا كفارة عليهما بل عليهما القضاء فقط ؛ لأنهما أفطرتا بسبب شرعي مقبول ؛ فلا كفارة في حقهما , ولأن الكفارة عن إثم ولا إثم هنا .(1/26)
وهناك قول آخر أنها تطعم ولا تقضي ؛ لكن الصحيح القضاء عليهما ولا كفارة .
**
ثم قال " والهرم ومن لا يرجى برؤه يطعم فقط ".
أي من كان هرماً وهو من كبر سنه ورشده معه أو من كان مريضاً مرضاً لا يرجى الشفاء منه , ولا يستطيع كل منهما الصيام , وهذا ما يطيقانه فلهما الفطر ويطعما عن كل يوم مسكينا.
وكل من سقط عنه التكليف فقد سقط عنه القضاء والإطعام ؛ لأنها من التكاليف ولا تكليف عليه .
ودليل الإطعام فعل أنس رضي الله عنه ؛ فإنه عندما كبر وعجز عن الصيام صنع طعاما ودعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم إياه.
**
ثم قال " ويقضي المغمى عليه إلا المجنون "
لأن الصوم يحتاج إلى نية , وهذا أغمي عليه قبل وجوب الإمساك.
والخلاف واقع في قضاء من كانت هذه حاله وتعرضنا لها سابقا ؛ فالمصنف رحمه الله يرى وجوب القضاء عليه .
والقول الثاني: أنه لا قضاء في حقه ؛ وهذا هو الأظهر لسقوط التكليف عنه في هذه الحالة وفقدانه العقل أشبه المجنون .
واستثنى المجنون لفقدانه العقل وهو أحد شروط التكليف, والمجنون رفع عنه القلم والتكليف ؛ كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أحمد [910] والترمذي [1488]والبخاري تعليقا في باب الطلاق في الإغلاق عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَعْتُوهِ أَوْ قَالَ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ وَعَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَشِبَّ .
وسبق أن ذكرنا أنه متى ما توفرت شروط التكليف لزمه الإمساك ولا قضاء عليه .
**
ثم قال المصنف رحمه الله " باب الاعتكاف "
أي هذا باب الاعتكاف ؛ والاعتكاف هو : لزوم الشيء.
وفي الشرع عرفه المصنف فقال: " هو سنة ولزوم المسجد للطاعة "
أي حكم الاعتكاف سنة وهو لزوم المسجد لعبادة الله تعالى .(1/27)
ولم يخصص بزمن معين ؛ لكن يتأكد في العشر الأواخر من رمضان. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف في رمضان وفي غيره وأمر بذلك ؛ ومن ذلك ما ورد عند البخاري [2065] ومسلم [2841] عَنْ عَائِشَةَ، - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ .
**
ثم قال رحمه الله " ويجب بالنذر, وإنما يصح بنية, ومسجد جماعة ممن تلزمه في مدة اعتكافه "
أي أن الاعتكاف سنة لكن يجب بالنذر لأن الاعتكاف طاعة ؛ وورد عند البخاري [6780] أَنَّ عُمَرَ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ اَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . قَالَ " أَوْفِ بِنَذْرِكَ .
ولما ورد عند البخاري [6783] عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ " .
قال رحمه الله" وإنما يصح بنية "
لأنها عبادة والأعمال بالنيات .
ثم قال " ومسجد جماعة ممن تلزمه في مدة اعتكافه "
أي أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة , إذا كانت صلاة الجماعة ممن تلزمه وقت اعتكافه ؛ فأخرج المعذور في ترك الجماعة , وكذا المرأة ؛ لأن المرأة لا جماعة في حقها , أما إن اعتكف في وقت لا صلاة فيه فيجوز له ذلك ؛ كمن يعتكف بعد الفجر إلى قبل الظهر .
**
ثم قال " ومن المرأة في كل مسجد سوى مسجد بيتها "
أي ويصح من المرأة الاعتكاف في أي مسجد ولو لم تقم فيه الجماعة إلا المكان الذي تتخذه في بيتها لأداء الصلاة فلا تعتكف فيه والصحيح أن المكان الذي تصلي فيه في بيتها لا يعد مسجدا .
ويدل على جواز اعتكاف المرأة حديث عائشة السابق.
**(1/28)
ثم قال رحمه الله " ولو نذرا شهرا مطلقا لزمه متتابعا والشروع قبل ليلته "
أي أن من نذر أن يعتكف شهراً , ولم يُقيِّد ذلك بشيء لزمه أن يعتكف شهراً متتابعاً ؛ لأنه هو الذي يصدق عليه مسمى الشهر. هذا قول .
والقول الثاني: إن أطلق فإنه يلزمه العدد ولو قضاه متفرقا ؛ وهو الذي يترجح لأنه الأصل.
ويفهم من كلام المصنف أن التتابع لا يلزم إن ذكر العدد حتى لو كانت ثلاثين يوما .
والقول الآخر أنه يلزمه التتابع .
ويلزمه أن يدخل معتكفه أو يعتكف قبل ليلته الأولى ؛ فإنه لو كان سيعتكف ابتداء من السبت فإنه يلزمه أن يشرع في الاعتكاف قبل ليلة السبت أي قبل أن تغرب شمس يوم الجمعة , ولا يخرج إلا بعد غروب الشمس من ليلة العيد وهو الصحيح.
واستحب بعض العلماء أن يكون عند خروجه لصلاة العيد.
**
ثم قال رحمه الله " ويبطل: بردة وسكر وجماع وإنزال بمباشرة "
بدأ المصنف هنا بذكر ما يفسد الاعتكاف فقال " ويبطل بردة , وسكر "
والردة سبق أن عرفناها وهي الرجوع عن دين الإسلام إلى الكفر ؛ وتكلمنا عن ذلك.
أما السكر فهو غياب العقل بفعل من الإنسان , ودليل بطلانه النهي عن قرب الصلاة في هذه الحال ؛ قال الله تعالى في سورة النساء )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى ( الآية 43 .
أما الجماع فللنهي عن ذلك ؛ ولأنه يخالف مقصود المعتكف من التفرغ للعبادة قال تعالى في سورة البقرة ) وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ( الآية 187 .(1/29)
أو حتى أنزل بمباشرة وهي ما دون الجماع فإنه يبطل اعتكافه ؛ لخروجه عن المقصد الأعظم في الاعتكاف إلا إن كانت المباشرة بدون شهوة ولم ينزل فهذه لا تبطل ودليل ذلك ما ورد عند البخاري [2067] عَنْ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصْغِي إِلَىَّ رَأْسَهُ وَهْوَ مُجَاوِرٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَأُرَجِّلُهُ وَأَنَا حَائِضٌ .
**
ثم قال رحمه الله " لا بخروج لابد منه كحاجته وواجب ومسنون شَرَطَهُ "
بيّن المصنف رحمه الله أنه لا يباح للمعتكف الخروج , وأن خروجه يُبطل اعتكافه ؛ واستثنى الخروج الذي لابدَّ منه كأن يقوم بحاجة له لابد منها أو قضاء حاجة أو عمل سواء أكان هذا العمل واجبا عليه أم مسنوناً بشرط أن يكون شَرَطَ ذلك واستثناه قبل دخوله .
ودليل ذلك ما ورد عند البخاري [2068] أَنَّ عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُدْخِلُ عَلَىَّ رَأْسَهُ وَهْوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لاَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ، إِذَا كَانَ مُعْتَكِفًا.
وأيضا ما ورد عنده [2074] أَنَّ صَفِيَّةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ باب الْمَسْجِدِ عِنْدَ باب أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم(1/30)
فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ " . فَقَالاَ سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ . وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَاِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا " .
**
ثم قال رحمه الله " وله السؤال عن المريض ما لم يخرج "
أي يسن للمعتكف أن يسأل بشرط ألا يترتب على سؤاله الخروج فلا يذهب لأجل السؤال إلا إن شرط ذلك.
**
ثم قال رحمه الله " ويشتغل بالقرب, ويجتنب ما لا يعنيه "
أي على المعتكف أن يشغل نفسه بما يقربه من ربه ويتجنب فضول الكلام والعمل .
**
ثم قال رحمه الله " ولو نذر الصلاة في مسجد فله فعله في أفضل, وأفضلها :الحرام ثم المدينة ثم الأقصى . "
أي ولو نذر المسلم الاعتكاف أو الصلاة في أي مسجد فله ويجوز له أن يفعله في مسجد أفضل منه لا دونه في الفضل ؛ فمن نذر أن يصلي أو يعتكف في مسجد حيِّه فله ذلك , ويجوز أن يعتكف في مسجد المدينة , ومن نذر في المسجد النبوي فله قضاؤه في المسجد الحرام لا العكس ؛ فلا يجوز أن ينذر صلاة أو اعتكافاً في المسجد الحرام ويؤديه في المسجد النبوي أو في المسجد النبوي ويؤديه في مسجد حيِّه فإنه لا يجوز ؛ لاختلافهما في الفضل والمرتبة .
ودليل ذلك ما ورد عند أبي داود [3307] عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، : أَنَّ رَجُلاً، قَامَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ مَكَّةَ أَنْ أُصَلِّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ رَكْعَتَيْنِ قَالَ : " صَلِّ هَا هُنَا " ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ : " صَلِّ هَا هُنَا " ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ : " شَاْنَكَ إِذًا " .(1/31)
ودليل تفضيل المساجد ما ورد عند أحمد [1519] عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ .
***
وبهذا نكون قد انتهينا من شرح كتاب الصيام من كتاب التسهيل في فقه الإمام أحمد رحمه الله تعالى ..؛ فلا تنسونا من دعواتكم في الشهر الفضيل وخصوصا العشر الأخير , نسأل الله أن يسهل لنا ولكم كل عسير , وأن يغفر لكاتب هذه الأحرف ومن استفاد منهم ومن استفاد منه ..,
وكتبه / محبرة الداعي
Me7barh@hotmail.com
http://me7barh.maktoobblog.com/(1/32)