كتاب الطهارة
باب المياه
...
كتاب الاختيارات العلمية في اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية
رتبه علي ترتيب الأبواب الفقهية الشيخ الإمام العالم أقضى القضاة مفتى المسلمين علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد ابن عباس البعلي الدمشقي
"قال في الرد الوافر" وجمع في مصنف اختياراته من مسائل الفروع ورتبها على أبواب الفقه مع زيادات من فوائده على المجموع
ولما كان كتاب الاختيارات من أجل ما برحل إليه لا سيما في هذا العصر الجديد فإن النفوس مشتاقة إلى اختيارات شيخ الإسلام وكان شديد المناسبة لهذا المجلد بل خلاصة الفتاوى وزبدتها لهذا ألحقناه به تتميما للفائدة(1/382)
كتاب الطهارة
باب المياه
الطهارة تارة تكون من الأعيان النجسة وتارة من الأعمال الخبيثة وتارة من الأحداث المانعة فمن الأول: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} المدثر 4 على أحد الأقوال ومن الثاني: قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} التوبة: 108 الآية ومن الثالث قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} المائدة: 6 وقد اختلف في الطهور هل هو بمعنى الطاهر أم لا وهذا النزاع معروف بين المتأخرين من أتباع الأئمة الأربعة
قال كثير من أصحاب مالك وأحمد والشافعي: الطهور متعد والطاهر لازم وقال كثير من أصحاب أبي حنيفة: الطاهر هو الطهور وهو قول الخرقي وفصل الخطاب: أن صيغة اللزوم والتعدي لفظ مُجمل يراد به اللزوم الطاهر يتناول الماء وغيره وكذلك الطهور فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل التراب طهوراً ولكن لفظ الطاهر يقع على جامدات كثيرة: كالثياب والأطعمة وعلى مائعات كثيرة: كالأدهان والألبان وتلك لا يجوز أن يطهر بها فهي طاهرة ليست بطهور
قلت: وذكر ابن دقيق العيد في "شرح الإلمام" عن بعض المالكية المتأخرين معنى ما أشار إليه أبو العباس قال بعض الناس: لا فائدة في النزاع في المسألة قال القاضي أبو يعلى: فائدته أنه عندنا لا تجوز إزالة النجاسة بغير الماء لا لاختصاصه بالتطهير عندنا وعندهم تجوز لمشاركته غير الماء في الطهارة
قال أبو العباس: له فائدة أخرى الماء يدفع النجاسة عن نفسه بكونه مطهراً كما دلّ عليه قوله: "الماء طهور لا ينجس بشيء" وغيره ليس بطهور فلا يدفع وعندهم الجميع سواء(1/383)
وتجوز طهارة الحدث بكل ما يُسمّى ماء وبمعتصر الشجر قاله ابن أبي ليلى والأوزاعي والأصم وابن شعبان وبمتغير بطاهر وهو رواية عن أحمد رحمه الله وهو مذهب أبي حنيفة وبماء حلت به امرأة لطهارة وهو رواية عن أحمد -رحمه الله تعالى- وبمستعمل في رفع حدث وهو رواية اختارها ابن عقيل وأبو البقاء وطوائف من العلماء وذهبت طائفة إلى نجاسته وهو رواية عن أحمد رحمه الله وحمل كلامه على الغدير يغتسل فيه أقل من قلتين من نجاستة الحدث وليست من موارد الظنون بل هي قطعية بلا ريب ولا يستحب غسل الثوب والبدن منه وهو أصح الروايتين عنه وأوَّل القاضي القول بنجاسة الماء بجعله في صفة النجس في معنى الوضوء لا أنه جعله نجساً حقيقة وكلامه في التعليق لا يرتفع عن الأعضاء إلا بعد الإنفصال كما لا يصير مستعملاً إلا بذلك هذا إذا نوى وهو في الماء وإذا نوى قبل الانغماس ففيه الوجهان وأما إذا صب على العضو فهنا ينبغي أن يرتفع الحدث ويكره الغسل لا الوضوء بماء زمزم قاله طائفة من العلماء
ولا ينجس الماء إلا بالتغيير وهو رواية عن أحمد اختارها ابن عقيل وابن المني وأبو المظفر بن الجوزي وأبو نصر وغيرهم من أصحابنا وهو مذهب مالك ولو كان تغييره في محل التطهير وقاله بعض أصحابنا وفرقت طائفة من محققي أصحاب الإمام أحمد رحمه الله بين الجاري والواقف وهو نص الروايتين فلا ينجس الجاري إلا بالتغير سواء كان قليلاً أو كثيراً وحوض الحمام إذا كان فائضاً يجري إليه الماء فإنّه جار في أصح قولي العلماء كما نُص عليه وإذا وَقَعَت نجاسةٌ في ماء كثير هل يقتضي القياس فيه أنّ النجاسة كاختلاط الحلال بالحرام إلى حين يقوم الدليل على تطهيره أو مقتضى القياس طهارته إلى أن تظهر النجاسة فيه قولان والثاني الصواب
والمائعات كلها حكمها حكم الماء قَلَّت أو كثُرت وهو رواية عن أحمد ومذهب الُّزهري والبخاري وحكي رواية عن مالك وذُكر في "شرح العمدة": أن نجاسة الماء ليست عَينية لأنّه يُطهِّر غيره فنفسه أولى(1/384)
وفي الثياب المشتبهة بنجس أنه يتحرى ويصلي في واحد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي سواء قلَّت الطاهرة أو كثرت
ذكره ابن عقيل في "فنونه" و "مناظراته"
قلت: ورجحه ابن القيم قال: وهو الرواية الأخرى عن مالك كما يتحرى في القبلة وقال ابن عقيل: إن كثر عدد الثياب تحرى دفعاً للمشقة وإن قل عمل باليقين ونص الإمام أحمد رحمه الله: إذا سقط عليه ماء من ميزاب ونحوه ولا إمارة على النجاسة لم يلزم السؤال عنه بل يكره
وإن سئل فهل يلزمه رد الجواب فيه وجهان واستحب بعض الأصحاب وغيرهم السؤال وهو ضعيف وأضعف منه من أوجبهما
قال الأزجي: إن علم المسؤول نجاسته وجب الجواب وإلا فلا وإذا شك في النجاسة هل أصابت الثوب أو البدن فمِن العلماء مَن يأمر بنضحه ويجعل حكم المشكوك فيه النضح كما يقوله مالك ومنهم َ لا يوجبه فإذا احتاط ونضح كان حَسناً كما رُوي في نضح أَنس للحصير الذي قد اسودَّ ونضح عمر ثوبه ونحو ذلك(1/385)
باب الآنية
...
"باب الآنية"
يحرم استعمال آنية الذهب والفضة واتخاذها ذكره القاضي في "الخلاف" ويحرم استعمال إناء مفضض إذا كان كثيراً ولا يكره يسيره لحاجة ويكره لغيرها ونص على التفضيل في رواية الجماعة وفي رواية أبي الحارث رأس المكحلة والميل وحلقة المرأة إذا كانت من فضة فهي من الآنية
وقال في رواية أحمد بن نصر وجعفر بن محمد: لا بَأس بما يضببه وأكره الحلقة وقال في رواية مهنا وأبي منصور لا بأس في إناء مفضض إذا لم يقع فمّه على الفضة وقال القاضي: قد فرق بين الضبة والحلقة ورأس الحلقة
قال أبو العباس: وكلام أحمد رحمه الله لمن تدبره لم يتعرض للحاجة وعدمها وإنّما فَرَّق بين ما يستعمل وبين ما لا يستعمل فأمّا يسير الذهب فلا(1/385)
يباح بحال نص عليه في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث في "النص": إذا خاف عليه أن يسقط هل يجعل له مسمار من ذهب فقال: إنّما رُخص في الأسنان على الضرورة فأمّا المسمار فلا فإذا كان هذا في اللباس ففي الآنية أولى وقد غلطت طائفة من أصحاب أحمد حيث حَكت قولاً بيسير الذهب تبعاً في الآنية عن أبي بكر عبد العزيز وأبو بكر إنّما قال ذلك في باب اللباس والتحلي وباب اللباس أوسع ولا يجوز تمويه السقوف بالذهب والفضة ولا يجوز لطخ اللجام والسرج بالفضة نص عليه وعنه ما يدل على إباحته وهو مذهب أبي حنيفة وحيث أبيحت الضبة يراد من إباحتها أن تحتاج إلى تلك الصورة لا إلى كونها من ذهب أو فضة فإنّ هذه ضرورة وهي تبيح المُتَعَذر ويباح الاكتحال بميل الذهب والفضة لأنها حاجة ويباحان لها قاله أبو المعالي(1/386)
باب آداب التخلي
...
"باب آداب التخلي"
يحرم استقبال القبلة واستدبارها عند التخلي مطلقاً سواء في الفضاء والبنيان وهو رواية اختارها أبو بكر عبد العزيز ولا يكفي انحرافه عن الجهة
قلت: وهو ظاهر كلام جده ويحمد الله في نفسه إذا عطس بخلاء وكذلك في صلاته قال أبو داود للإمام أحمد: أَيُحرك بها لسانه قال: نعم
قال القاضي: ونقل بكر بن محمد: يحرك به شفتيه في الخلاء
قال القاضي: بحيث لا يسمعه وقال: ما لا يسمعه لا يكون كلاماً فيجري مجرى الذكر في نفسه ولا تبطل الصلاة في الرواية عنه وفاقاً للقاضي وجعلها أولى الروايتين
قال أبو العباس: أمّا مسألة الصلاة فتقارب مسألة الخلاء فإنّ الحمد لله ذكٌر لله ونص أحمد أنه يقوله في الصلاة بمنزلة أذكار المخافتة لكن لا يجهر به كما يجهر خارج الصلاة ليس أنه لا يسمع نفسه وأما
مسألة الخلاء: فيحتمل أن يكون ما قال القاضي ويحتمل أن يكون(1/386)
في المسألة روايتان: إحداهما في نفسه بلا لفظ والثانية باللفظ ويكره السلت والنتر ولم يصح الحديث في الأمر والمشي والتنحنح عقيب البول بدعة ويجزي الاستجمار ولو بواحدة في الصفحتين والحشفة وغير ذلك لعموم الأدلة بجواز الاستجمار ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك تقدير ويجزى بعظم وروث
قلت: وما نهى عنه في ظاهر كلامه لحصول المقصود ولأنّه لم ينه عنه لأنه لا ينفي بل لإفساده فإذا قيل: يزول بطعامنا مع التحريم فهذا أولى والأفضل الجمع بينهما ولا يكره الإقتصار على الحجر على الصحيح وليس له البول في المسجد ولو في وعاء وقال في موضع آخر في البول حول البركة في المسجد: هذا يشبه البول في قارورة في المسجد ومنهم مَن نهى عنه ومنهم مَن يُرخص فيه للحاجة فأمّا اتخاذه َمبالاً فلا ولا يجوز أن يذبح في المسجد ضحايا ولا غيرها وليس للمسلم أن يتخذ المسجد طريقاً فكيف إذا اتخذه الكافر طريقاً ويُحرم منع المحتاج إلى الطهارة ولو وقفت على طائفة معينة في رباط ولو في ملكه لأنّها بموجب الشرع والعرف مبذولة للمحتاج ولو قدرت أن لواقف صرح بالمنع فإنّما يسوغ مع الاستغناء وإلا فيجب بذل المنافع المحصنة للمحتاج كسكنى داره والانتفاع بما حوته ولا أجرة لذلك وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد ويُمنع أهل الذمة من دخول بيت الخلاء إن حصل منهم تضييق أو فساد ماء أو تحبيس وإن لم يكن بهم ضرر ولهم ما يستغنون به فليس لهم مزاحمتهم(1/387)
باب السواك
...
"باب السواك وغيره"
يطلق على الفعل ما يتسوك به وهو مُذكَر قال الليث: وتؤنثه العرب أيضاً وغلطه الأزهري في ذلك وتبعه ابن سيده في "المحكم" وهو في جميع الأوقات مستحب والأصح ولو للصائم بعد الزوال وهو رواية وقاله مالك وغيره والأفضل بيده اليسرى(1/387)
وقال أبو العباس: ما علمت إماماً خالف فيه والسواك ما علمت أحداً كرهه في المسجد والآثار تدل عليه ويكره ترك شعره في المسجد وإن لم يكن نجساً ويفعل الأصلح كل بلد بما يناسبه في العمل والأفضل قميص من سراويل لا رداء وإزار ولو مع القميص وهو أحد قولي العلماء ويحرم حلق اللحية ويجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة وينبغي إذا راهق البلوغ أن يختتن كما كانت العرب تفعل لئلا يبلغ إلا وهو مختون(1/388)
باب صفة الوضوء
...
"باب صفة الوضوء"
لم يرد الوضوء بمعنى غسل اليد إلا في لغة اليهود فإنّه روي أن سليمان الفارسي قال: إنّا نَجده في التوراة وقال صلى الله عليه وسلم: "إن من بركة الطعام الوضوء قبله وبعده" وهو من خصائص هذه الأمة كما جاءت الأحاديث الصحيحة أنهم يبعثون يوم القيامة وحديث ابن ماجه: "وضوء الأنبياء قبلي" ضعيف عند أهل العلم بالحديث لا يجوز الاحتجاج بمثله وليس له عند أهل الكتاب خبر عن أحد من الأنبياء أنه كان يتوضأ وضوء المسلمين بخلاف الاغتسال من الجنابة فإنه كان مشروعاً ولم يكن لهم تيمم إذا عدموا الماء ويجب الوضوء بالحدث ذكره ابن عقيل وغيره وفي "الانتصار": بإرادة الصلاة نزاع لفظي والراجح أنه لا يكره الوضوء في المسجد وهو قول الجمهور إلا أن يحصل معه بصاق أو مخاط والأفضل بثلاث غرفات المضمضة والاستنشاق يجمعها بغرفة واحدة وتجب النية لطهارة الحدث لا الخبث وهو مذهب جمهور العلماء ولا يجب نطقه بها سراً باتفاق الأئمة الأربعة وشذ بعض المتأخرين فأوجب النطق بها وهو خطأ مخالف للإجماع وقولين في مذهب أحمد وغيره في استحباب النطق بها والأقوى عدمه واتفق الأئمة على أنه لا يشرع الجهر بها ولا تكرارها وينبغي تأديب مَنْ اعتاده وكذا بقية العبادات لا يستحب النطق بها إلا الإحرام وغيره
قال أبو داود لأحمد: يقول قبل الإحرام شيئاً والجهر بلفظها منهى عنه(1/388)
عند الشافعي وسائر أئمة المسلمين وفاعله مسيء وإنْ اعتقده ديناً خرج عن إجماع المسلمين ويجب نهيه ويعزل عن الإمامة إن لم يتب ويجوز مسح بعض الرأس للعذر
قاله القاضي في "التعليق" ويمسح معه العمامة ويكون كالجبيرة فلا توقيت وإن لم يكن عذر وجب مسح جميعه وهو مذهب أحمد الصحيح عنه وما يفعله بعض الناس من مسح شعره أو بعض رأسه بل شعره ثلاث مرات خطأ مخالف للسنة المجمع عليها ولا يسن تكرار مسح جميعه وهو ظاهر مذهب أحمد ومالك وأبي حنيفة ولا يُمسح العنق وهو قول جمهور العلماء ولا أخذه ماء جديداً للاذنين وهو أصح الروايتين عن أحمد وهو قول أبي حنيفة وغيره وإن مُنع يسير وسخ الظفر ونحوه وصول الماء صحت الطهارة وهو وجه لأصحابنا ومثله كل يسير منع وصول الماء حيث كان: كدم وعجين ولا يستحب إطالة الغرة وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد والوضوء إن كان مستحباً له أن يقتصر على البعض لوضوء ابن عمر لنومه جنباً(1/389)
باب المسح على الخفين
...
"باب المسح على الخفين"
قال أبو العباس: وخفي أصله على كثير من السلف والخلف حتى أنكره بعض الصحابة وطائفة من أهل المدينة وأهل البيت وصنّف الإمام أحمد كتاباً كبيراً في "الأشربة في تحريم المسكر" ولم يذكر فيه خلافاً عن الصحابة فقيل له في ذلك فقال: هذا صح فيه الخلاف عن الصحابة بخلاف المسكر ومالك مع سعة علمه وعلو قدره أنكره في رواية وأصحابه خالفوه في ذلك
قلت: وحكى ابن أبي شيبة إنكاره عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وضعف الرواية عن الصحابة بإنكاره غير واحد والله أعلم والذين خُفي عليهم ظنوا معارضة آية المائدة للمسح لأنّه أمر بغسل الرجلين فيها واختلف في الآية مع المسح على الخفين فقالت طائفة: المسح على الخفين ناسخ للآية قاله الخطابي قال: وفيه دلالة على أنهم كانوا يروُن نسخ القرآن بالسنة(1/389)
قال الطبري: مُخصص وهو قول طائفة: هو أمر زائد على ما في الكتاب وطائفة: بيان لما في الكتاب ومال إليه أبو العباس وجميع ما يدعى من السنة أنه ناسخ للقرآن غلط أما أحاديث المسح فهي تبين المراد بالقرآن إذ ليس فيه أن لابس الخف يجب عليه غسل الرجلين وإنّما فيه أنّ مَن قام إلى الصلاة يَغسل وهذا عام لكل قائم إلى الصلاة لكن ليس عاماً لأحواله بل هو مطلق في ذلك مسكوت عنه
قال أبو عمر بن عبد البر معاذ الله أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله بل يبين مراده به وطائفة قالت: كالشافعي وابن القصّار ومال إليه أبو العباس أيضاً: أن الآية قرئت بالخَفْض والنَّصب فيُحمَل النصب على غسل الرجلين والخفض على مسح الخفين فيكون القرآن كآيتين وهل المسح أفضل أم غسل الرجلين أم هما سواء ثلاث روايات عن أحمد والأفضل في حق كل أحد بحسب قدمه فللابس الخف أن يمسح عليه ولا ينزع خفيه اقتداء به صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولمن قدماه مكشوفتان الغسل ولا يتحرى لبسه ليمسح عليه وكان صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه إذا كانتا مكشوفتين ويمسح إذا كان لابس الخفين
ويجوز المسح على اللفائف في أحد الوجهيْن حكاه ابن تميم وغيره وعلى الخف المخرق ما دام اسمه باقياً والمشي فيه ممكن وهو قديم الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء وعلى القدم ونعلها التي يشق نزعها إلا بيد أو رجل كما جاءت به الآثار والاكتفاء بأكثر القدم هنا والظاهر منها غسلاً ومسحاً أولى من مسح بعض الخف ولهذا لا يتوقت
وذكر في موضع آخر أن الرِّجل لها ثلاث أحوال الكشف له الغسل وهو أعلى المراتب والستر المسح وحالة متوسطة وهي في النعل فلا هي بارزة فيجب الغسل فأعطيت حالة متوسطة وهو الرش وحيث أطلق عليها لفظ المسح في هذا الحال فالمراد به الرش وقد ورد الرش على النعلين والمسح عليها في "المسند" من حديث أوس ورواه ابن أوس ورواه ابن حبان والبيهقي من حديث ابن عباس ومنصوص أحمد المسح على الجوربين ما لم يخلع النعلين فإذا أجاز عليهما فالزربول الذي لا يثبت إلا بسير يشده به متصلاً ومنفصلاً عنه أولى بالمسح عليه من الجوربين وما لبسه من فرو أو قطن وغيرهما وثبت بشده بخيط متصل أو منفصل مسح عليه وأما اشتراط الثبات بنفسه(1/390)
فلا أصل له في كلام أحمد وإنّما المنصوص عنه ما ذكرناه وعلى القول باعتبار ذلك فالمراد به ما ثبت في الساق ولم يسترسل عند المشي ولا يعتبر موالاة المشي فيه كما ذكره أبو عبد الله بن تيمية ويجوز على العمامة الصماء وهي كالقلانس والمحكي عن أحمد الكراهة والأقرب أنها كراهة السلف لغير المحنكة على الحاجة إلى ذلك لجهاد أو غيره والعمائم المكلبة بالكلاب تشبه المحنكة من بعض الوجوه فإنّه يمسكها كما تمسك الحنك العمامة ومَنْ غسل إحدى رجليه ثم أدخلها الخف قبل غسل الأخرى فإنّه يجوز المسح عليها من غير اشتراط خُلع ولبسه قبل إكمال الطهارةكلبسه بعدها وكذا لبسها قبل كمالها وهو إحدى الروايتين وهو مذهب أبي حنيفة ولو غسل الرجلين في الخفين بعد أن لبسها محدثاً جاز المسح وهو مذهب أبي حنيفة وقول مخرج في مذهب أحمد
قلت: وهو رواية في "المنهج" ولا تتوقت مدة المسح في حق المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين وعليه يحمل قصة عقبة بن عامر وهو نص مذهب مالك وغيره ممَن لا يرى التوقيت ولا ينتقض وضوء الماسح على الخف والعمامة بنزعهما ولا يجب عليه مسح رأسه ولا غسل قدميه وهو مذهب الحسن البصري كإزالة الشعر الممسوح على الصحيح من مذهب أحمد وقول الجمهور وإذا حل الجبيرة فهل تنتقض طهارته كالخف على قول مَن يقول بالنقض أو لا تنتقض كحلق الرأس الذي ينبغي أن لا تنتقض الطهارة بناء على أنّها طهارة أصل لوجوبها في الطهارتين وعدم توقيتها وأن الجبيرة بمنزلة باقي البشرة إلا أن الفرض استتر بما يمنع وصول الماء إليه فانتقل الفرض إلى الحائل في الطهارتين كما ينتقل الوضوء إلى منبت الشعر في الوجه والرأس للمشقة لا للشعر وهذا قوي على قول مَن لا يشترط الطهارة لشدها فأمّا مَنْ اشترط الطهارة لشدها فألحقها الحوائل البنيلية فتنتقض الطهارة بزوالها كالعمامة والخف ويتوجه أن تنبني هذه على الروايتين في اشتراط الطهارة
قلت: البدل عندنا في حل الجبيرة إن كان بعد البرء وإلا فكالخف إذا خلعه وإن كان قبله فوجهان أصحهما كذلك والله سبحانه وتعالى أعلم(1/391)
باب ما ظن ناقضا وليس بناقض
...
"باب ماظن ناقضاً وليس بناقض"
ماظن ناقضاً وليس بناقض والأحداث اللازمة: كدم الاستحاضة وسلس البول لا تنقض الوضوء مالم يوجد المعتاد وهو مذهب مالك والدم والقيء وغيرهما من النجاسات الخارجة من غير المخرج المعتاد: لا تنقض الوضوء ولو كثرت وهو مذهب مالك والشافعي
قلت: اختاره الأجرمي في غير القيء والنوم: لا ينقض مطلقاً إن ظن بقاء طهارته وهو أخص من رواية حكيت عن أحمد: أن النوم لا ينقض بحال ويستحب الوضوء من أكل لحم الإبل وأمّا اللحم الخبيث المباح للضرورة: كلحم السباع فينبني الخلاف فيه على أن النقض بلحم الإبل تعبدي فلا يتعدى إلى غيره أو معقول المعنى فيعطى حكمه بل هو أبلغ منه ويستحب الوضوء عقيب الذنب ومن مس الذكر إذا تحركت الشهوة بمسه وتردد فيما إذا لم تتحرك ومال أبو العباس أخيراً إلى استحباب الوضوء دون الوجوب من مس النساء والأمرد إذا كان لشهوة
قال: إذا مس المرأة لغير شهوة فهذا مما علم بالضرورة أن الشارع لم يوجب منه وضوء ولا يستحب الوضوء منه
قال أبو العباس في قديم خطه: خطي لي أن الردة تنقض الوضوء لأن العبادة من شرط صحتها دوام شرطها استصحاباً في سائر الأوقات وإذا كان كذلك فالنية من شرائط الطهارة على أصلنا والكافر ليس من أهلها وهو مذهب أحمد ولا يفتح المصحف للفأل قاله طائفة من العلماء خلافاً لأبي عبد الله بن بطة ويجب احترام القرآن حيث كتب وتحرم كتابته حيث يهان ببول حيوان أو جلوس عليه إجماعاً والناس إذا اعتادوا القيام وإن لم يقيم لأحدهم أفضى إلى مفسدة فالقيام دفعاً لها خير من تركه(1/392)
وينبغي للإنسان أن يسعى في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعادتهم واتباع هديهم والقيام بكتاب الله أولى والدراهم المكتوبة عليها "لا إله إلا الله محمد رسول الله" يجوز للمحدث لمسها وإذا كانت معه في منديل أو خريطة وشق إمساكها جاز أن يدخل بها الخلاء(1/393)
باب الغسل
...
"باب الغسل" إذا وجب الغسل بخروج المني فقياسه وجوبه بخروج الحيض ويجب غسل الجمعة على من له عرق أو ريح يتأذى به غيره وهو بعض من بعض مطلقاً بطريق الأولى ولو اغتسل الكافر بسبب يوجبه ثم أسلم لا يلزمه إعادته إن اعتقد وجوبه بناء على أنه يثاب على طاعته في الكفر إذا أسلم ويكره الذكر للجنب لا للحائض ولا يستحب الغسل لدخول مكة والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار ولا لطواف الوداع ولو قلنا باستحبابه لدخول مكة كان نوع عبث للطواف لا معنى له وفي كلام أحمد ما ظاهره وجوب الوضوء على الجنب إذا أراد النوم وظاهر كلام أبي العباس: إذا أحدث أعاده لمبيته على الطهارة وظاهر كلام أصحابنا: لا يعيده
لتعليلهم بخفة الحدث أو بالنشاط ويحرم على الجنب اللبث في المسجد إلا إذا توضأ ولا تدخل الملائكة بيتاً فيه جنب إلا إذا توضأ وإذا نوى الجنب الحدثين الأصغر والأكبر ارتفعا قاله الأزجي ولا يستحب تكرار الغسل على بدنه وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد ويكره الاغتسال في مستحم أو ماء: عرياناً وعليه أكثر النصوص ونهيه عليه السلام عن الاغتسال في الماء بعد البول فهذا إن صح فهو كنهيه عن البول في المستحم(1/393)
ويجوز التطهير في الحياض التي في الحمامات سواء كانت فائضة أو لم تكن وسواء كان الأنبوب يصب فيها أو لم يكن وسواء كان نائتاً أو لم يكن ومن اعتقد غسله من الحوض الفائض مسطراً أو ديناً فهو مبتدع مخالف للشريعة مستحق التعزير الذي يردعه وأمثاله أن يشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ولا يجب غسل باطن الفرج من حيض أو جنابة وهو اصح القولين في مذهب أحمد
قال أبو العباس في تقسيمه للحمام بعد ذكر مَن ذمّه ومَن مدحه من السلف فصلاً للنزاع: الأقسام أربعة: يحتاج إليها ولا محظور فلا ريب في جوازه ولا محظور ولا حاجة فلا ريب في جواز بنائها فقد بنيت الحمامات في الحجاز والعراق على عهد علي -رضي الله عنه- وأقروها وأحمد لم يقل ذلك حرام ولكن كره ذلك لاشتماله غالباً على مباح ومحظور وفي زمن الصحابة كان الناس أتقى لله وأرعى لحدوده من أن يكثر فيها المحظور فلم يكن مكروهاً إذ ذاك للحاجة ولا محظور غالباً فالحاجات: منها ما هو واجب: كغسل الجنابة والحيض والنفاس ومنها ما هو مُؤكد قد نوزع في وجوبه: كغسل الجمعة والغسل في البلاد الباردة ولا يمكن إلا في حمام وإن اغتسل من غيره خيف عليه التلف ولا يجوز الانتقال إلى التيمم مع القدرة عليه بالماء في الحمام وهل يبقى مكروهاً عند الحاجة إلى استعماله في طهارة مستحبة هذا مَحل تردد فإذا تبين ذلك فقد يقال: بناء الحمام واجب حيث يحتاج إليه لأداء الواجب العام ّ إذا اشتمل على محظور مع إمكان الاستغناء كما في حمامات الحجاز في الأزمان المتأخرة فهذا محل نص أحمد وبحث ابن عمر وقد يقال عنه: إنّما يكره بناؤها ابتداء فأمّا إذا بناها غيرنا فلا نأمر بهدمها لما في ذلك من الفساد وكلام أحمد إنّما هو في البناء لا في الإبقاء والاستدامة أقوى من الابتداء وإذا انتفت الإباحة: كحرارة البلد وكذا إذا كان في البلد حمامات تكفيهم كره الأحداث
ويتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع وإلا ظهر أن الصاع خمسة أرطال وثلث عراقية سواء صاع الطعام والماء وهو قول جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة(1/394)
وذهبت طائفة من العلماء كابن قتيبة والقاضي أبي يعلى في "تعليقه" وأبي البركات: أن صاع الطعام خمسة أرطال وثلث وصاع الماء ثمانية أرطال عراقية والوضوء ربع ذلك(1/395)
باب التيمم
...
"باب التيمم"
ويجوز التيمم بغير التراب من أجزاء الأرض إذ لم يجد تراباً وهو رواية ويلزمه قبول الماء فرضاً وكذا ثمنه إذا كان له ماء يوفيه ولا يكره لعادمه وطء زوجته ومن أبيح له التيمم فله أن يصلي به أول الوقت ولو علم وجوده آخر الوقت وفيه أفضلية وقال غير واحد من العلماء: ومسح الجرح بالماء أولى من مسح الجبيرة وهو خير من التيمم ونقله الميموني عن أحمد ويجوز التيمم لمن يصلي التطوع بالليل وإن كان في البلد ولا يؤخر ورده إلى النهار ويجوز لخوف فوات صلاة الجنازة وهو رواية عن أحمد وأسحاق وألُحِقَ به مَن خاف فوات العيد وقال أبو بكر عبد العزيز والأوزاعي: بل لمن خاف فوات الجمعة ممن انتقض وضوءه وهو في المسجد ولا يتيمم للنجاسة على بدنه وهو قول الثلاثة خلافاً لأشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى ويجب بذل الماء للمضطر المعصوم ويعدل إلى التيمم كما قاله جمهور العلماء ومَن استيقظ آخر وقت صلاة وهو جنب وخاف إن اغتسل خرج الوقت اغتسل وصلى ولو خرج الوقت وكذا من نسيها بخلاف من استيقظ أول الوقت فليس له أن يفوت الصلاة بل يتيمم ويصلي ومَن أمكنه الذهاب إلى الحمام لكن لا يمكنه الخروج منه إلا بعد خروج الوقت: كالغلام والمرأة التي معها أولادها ولا يمكنها الخروج حتى تغسلهم ونحو ذلك فالأظهر يتيمم ويصلي خارج الحمام لأن الصلاة في الحمام وبعد الوقت منهى عنها وتصلي المرأة بالتيمم عن الجنابة إذا كان يشق عليها تكرار النزول إلى الحمام(1/395)
ولا تقدر على الاغتسال في البيت وكل مَن صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان فلا إعادة عليه وسواء كان العذر نادراً أو معتاداً قاله أكثر العلماء وصفة التيمم أن يضرب بيديه الأرض يمسح بهما وجهه وكفيه لحديث عمّار بن ياسر الذي في "الصحيح" والجريح إذا كان محدثاً حدثاً أصغر فلا يلزمه مراعاة الترتيب وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره فيصح أنْ يتيمم بعد كمال الوضوء بل هذا هو السنة والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة ولا يستحب حمل التراب معه للتيمم قاله طائفة من العلماء خلافاً لما نقل عن أحمد ومَن عدم الماء والتراب يتوجه أن يفعل ما يشاء من صلاة فرض أو نفل وزيادة قراءة على ما يجزء وفي "الفتاوى المصرية" على أصح القولين وهو قول الجمهور وإذا صلى قرأ القراءة الواجبة
قلت: والذي ذكره جده وغيره: أن من عدم الماء والتراب لا ينتفل ولا يزيد في القراءة على ما يجزئ والله أعلم
والتيمم يرفع الحدث وهو مذهب أبي حنيفة ورواية أحمد واختارها أبو بكر محمد الجوزي
وفي "الفتاوى المصرية": التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى: كمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وهو أعدل الأقوال ولو بذل ماء الأولى من حي وميت فالميت أولى ولو كان الحي عليه نجاسة وهو مذهب الشافعي واختيار أبي البركات
قال أبو العباس: وهذه المسألة في الماء المشترك أيضاً وهو ظاهر ما نقل عن أحمد لأنه أولى من التشقيص وإذا كان على وضوء وهو حاقن يحدث ثم يتيمم إذ الصلاة بالتيمم وهو غير حاقن أفضل من صلاته بالوضوء وهو حاقن(1/396)
باب إزالة النجاسة
...
"باب إزالة النجاسة" واختلاف كلام أبي العباس في نجاسة الكلب ولكن الذي نقل عنه أخيراً أن مذهبه نجاسة غير شعره وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره أبو بكر عبد العزيز والمسك وجلدته طاهران عند جماهير العلماء كما دلّت(1/396)
لا تخليلها فعموم كلام الأصحاب يقتضي أنها لا تحل سداً للذريعة ويحتمل أن تحل وإذا انقلبت بفعل الله تعالى فالقياس فيها مثل أن يكون هناك ملح فيقع فيها من غير فعل أحد فينبغي على الطريقة المشهورة أن تَحل وعلى طريقة مَن علل النجاسة بإلقاء شيء لا تحل فإنّ القاضي ذكر في خمر النبيذ: أنها على الطريقة لا تحل لما فيها مَن الماء وأن كلام الإمام أحمد يقتضي حِلها
أما تخليل الذمي الخمر بمجرد إمساكها فينبغي جوازها على معنى كلام أحمد فإنّه علل المنع بأنه لا ينبغي لمسلم أن يكون في بيته الخمر وهذا ليس بمسلم ولأن الذمي لا يُمنع من إمساكها وعلل القول بأن النجاسة لا تَطْهُر بالاستحالة فيعفى من ذلك عمّا يشق الاحتراز عنه كالدخان والغُبار المستحيل من النجاسة كما يُعفى عمّا يشق الاحتراز عنه من طين الشوارع وغبارها وإنْ قيل: أنّه نجس فإنّه يعفى عنه على أصح القولين ومَنْ قال: أنّه نجس ولم يَعفُ عما يَشُق الاحتراز عنه فقوله أضعف الأقوال ولو كان المانع غير الماء كثيراً فزال تغيره بنفسه توقف أبو العباس في طهارته وتُطهر الأرض النجسة بالشمس والريح إذا لم يبق أثر النجاسة وهو مذهب أبي حنيفة لكن لا يجوز التيمم عليها بل تجوز الصلاة عليها بعد ذلك ولو لم تغسل ويَطْهر غيرها بالشمس والريح أيضاً وهو قول في مذهب أحمد ونص عليه أحمد في حبل الغسال وتكفي غلبة الظن بإزالة نجاسة المذي أو غيره وهو قول في مذهب أحمد ورواية عنه في المذي ونقل عن أحمد في جوارح الطير إذا أكلت الجيف فلا يعجبني عرقها فدلَّ على أنه كرهه لأكلها فقط أولى ولا فرق في الكراهة بين جَوارح الطير وغيرها وسواء كان يأكل الجيف أم لا وإذا شك في الروثة هل هي من روث ما يؤكل لحمه أو لا فيه وجهان في مذهب أحمد مبنيان على أن الأصل في الأرواث الطهارة إلا ما استثنى وهو الصواب أو النجاسة إلا ما استثنى
قلت: والوجهان يمكن أن يكون أصلهما روايتين: إحداهما: قال عبد الله: أن الأبوال كلها نجسة إلا ما أكل لحمه(1/398)
والثانية: قال أحمد في رواية محمد بن أبي الحارث في رجل وطئ على روث لا يدري هل هو روث حمار أو برذون فرخص فيه إذ لم يعرفه وبول ما أكل لحمه وروثه طاهر لم يذهب أحد من الصحابة إلى تنجسه بل القول بنجاسته قول مُحْدَث لا سلف له من الصحابة وروث دود القز طاهر عند أكثر العلماء ودود الجروح ومني الآدمي طاهر وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي وبول الهرة وما دونها في الخلقة طاهر يعني أن جنسه طاهر وقد يعرض له ما يكون نجس العين: كالدود المتولد من العذرة فإنه نجس ذكره القاضي وتتخرج طهارته بناء على أن الاستحالة إذا كانت بفعل الله تعالى طهرت ولا بد أن يلحظ طهارة ظاهرة من العذرة بأن يغمس في ماء ونحوه إلى أن لا يكون على بدنه شيء منها ويَطْهُر جلد الميتة الطاهرة حال الحياة بالدباغ وهو رواية عن أحمد أيضاً ولا يجب غسل الثوب والبدن من المذي والقيح والصديد ولم يقم دليل على نجاسته وحكى أبو البركات عن بعض أهل العلم طهارته والأقوى في المذي: أنه يجزئ فيه النضح وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويد الصبي إذا أدخلها في الإناء فإنّه يكره استعمال الماء الذي فيه وكذلك تكره الصلاة في ثوبه وقد سئل أحمد رحمه الله تعالى في رواية الأثرم عن الصلاة في ثوب الصبي فكرهه وقرن الميتة وعظمها وظهرها وما هو من جنسه: كالحافر ونحوه طاهر وقاله غير واحد من العلماء
ويجوز الانتفاع بالنجاسات وسواء في ذلك شحم الميتة وغيره وهو قول الشافعي وأومأ إليه وأحمد في رواية ابن منصور ويعفى عن يسير النجاسة حتى بعر فأرة ونحوها في الأطعمة وغيرها وهو قول في مذهب أحمد ولو تحققت نجاسة طين الشارع عفى عن يسيره لمشقة التحرز عنه ذكره أصحابنا وما تطاير من غبار السرجين ونحوه ولم يمكن التحرز عنه عفى عنه وإذا قلنا يعفى عن يسير النبيذ المختلف فيه لأجل الخلاف فيه فالخلاف في الكلب أظهر وأقوى فعلى إحدى الروايتين يعفى عن يسير نجاسته وإذا أكلت الهرة فأرة ونحوها فإذا طال الفصل طهر فمها بريقها لأجل الحاجة وهذا أقوى الأقوال واختاره طائفة من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وكذلك أفواه الأطفال والبهائم والله أعلم(1/399)
باب الحيض
...
"باب الحيض لله"
ويحرم وطء الحائض فإنْ وطئ في الفرج فعليه دينار كفارة ويعتبر أن يكون مضروباً وإذا تكرر من الزوج الوطء في الفرج ولم ينزجر فرِّق بينهما كما قلنا فيما إذا وطئها في الدبر ولم ينزجر
ويجوز للحائض الطواف عند الضرورة ولا فدية عليها وهو خلاف ما يقوله أبو حنيفة من أنه يصح منها مع لزوم الفدية ولا يأمرها بالإقدام عليه وأحمد رحمه الله تعالى يقول ذلك في رواية إلا أنهما لا يقيدانه بحال الضرورة وإن طافت مع عدم الضرورة فمقتضى توجيه هذا القول يجب الدم عليها
ويجوز للحائض قراءة القرآن بخلاف الجنب وهو مذهب مالك وحكي رواية عن أحمد وإن ظنت نسيانه وجب وإذا انقطع دمها فلا يطؤها زوجها حتى تغتسل إن كانت قادرة على الاغتسال وإلا تيممت وهو مذهب أحمد والشافعي ولا يتقدر أقل الحيض ولا أكثر بل كل ما استقر عادة للمرأة فهو حيض وإن نقص عن يوم أو زاد على الخمسة أو السبعة عشر ولا حد لأقل سن تحيض فيه المرأة ولا لأكثره ولا لأقل الطهر بين الحيضتين والمبتدأة تحسب ما تراه من الدم ما لم تصر مستحاضة وكذلك المنتقلة إذا تغيرت عادتها بزيادة أو نقص أو انتقال فذلك حيض حتى تعلم أنها استحاضة باستمرار الدم
والمستحاضة ترد إلى عادتها ثم إلى تمييزها ثمّ إلى غالب عادات النساء كما جاءت في كل واحدة من هؤلاء سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ الإمام أحمد بالسنن الثلاث فقال: الحيض يدور على ثلاثة أحاديث: حديث فاطمة بنت أبي حبيش وحديث أم حبيبة وحديث حمنة واختلفت الرواية عنه في تصحيح حديث حمنة وفي رواية عنه: وحديث أم سلمة فكان في حديث(1/400)
أم حبيبة والصفرة والكدرة بعد الطهر لا يليفت إليها قال أحمد وغيره لقول أم عطية: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً.
ولا حد لأقل النفاس ولا لأكثره ولو زاد على الأربعين أو الستين أو السبعين وأنقطع فهو نفاس ولكن إن اتصل فهو دم فساد وحينئذ فالأربعون منتهى الغالب، والامل قد تحيض وهو مذهب الشافعي وحكاه البيهقي رواية عن أحمد بل حكى أنه رجع إليه.
ويجوز التداوي لحصول الحيض إلا في رمضان لئلا تفطر وقال أبو يعلي الصغير والأحوط أن المرأة لا تستعمل دواء يمنع تفوق المني في مجاري الحبل والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/401)
كتاب الصلاة
*
...
كتاب الصلاة
وقد تنازع الناس في أسم الصلاة هل هو من الأسماء المنقولة عن مسماها في اللغة أو أنها باقية على ما كانت عليه في اللغة، أو أنها تصرف فيها الشارع تصرف أهل العرف، فهي بالنسبة إلى اللغة مجاز وبالنسبة إلى عرف الشارع حقيقة على ثلاثة أقوال.
والتحقيق أن الشارع لم يغيرها ولكن استعملها مقيدة لا مطلقة كما تستعمل نظائرها، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} فذكر بيتا خاصا فلم يكن لفظ الحج متناولا لكل قصد مخصوص دل عليه اللفظ نفسه، ومن كان قبلنا كانت لهم صلاة ليست مماثلة لصلاتنا في الأوقات والهيئات.
ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد ، فعلى هذا لا تلزم الصلاة حربيا أسلم في دار الحرب ولا يعلم وجوبها ، والوجهان في كل من ترك واجبا قيل بلوغ الشرع كمن لم يتيمم لعدم الماء لظنه عدم الصحة ، أو لم يزك أو أكل حتى تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود لظنه ذلك، أو لم تصل مستحاضة، والأصح لا قضاء ولا إثم إذا لم نقصد اتفاقا للعفو عن الخطأ والنسيان(1/401)
ومَن عقد عقداً فاسداً مختلفاً فيه باجتهاد أو تقليد واتصل به القبض لم يؤمر برده وإن كان مخالفاً للنص وكذلك النكاح إذا بان له خطأ الاجتهاد أو التقليد وقد انقضى المفسد لم يفارق وإن كان المفسد قائماً فارقها
بقي النظر فيمَن ترك الواجب وفعل المحرم لا باعتقاد ولا بجهل يعذر فيه ولكن جهلاً وإعراضاً عن طلب العلم الواجب عليه مع تمكنه منه أو من سماع إيجاب هذا وتحريم هذا ولم يلتزمه إعراضاً لا كفراً بالرسالة فإنّ هذا ترك الاعتقاد الواجب بغير عذر شرعي كما ترك الكافر الإسلام فهل يكون حال هذا إذا تاب فأقر بالوجوب والتحريم تصديقاً والتزاماً بمنزلة الكافر إذا أسلم لأن التوبة تجب ما قبلها كالإسلام وأمّا على القول الذي جزمنا بصحته فهذا فيه نظر وقد يقال ليس هذا بأسوأ حالاً من الكافر المعاند والتوبة والإسلام يهدمان ما قبلهما ولا تلزم الصلاة صبياً ولو بلغ عشراً وقاله جمهور العلماء وثواب عبادة الصبي له
قلت: وذكره الشيخ أبو محمد المقدسي في غير موضع والله أعلم
ولا يجب قضاء الصلاة على من زال عقله بمحرم وفي "الفتاوى المصرية": يلزمه بلا نزاع ومَن كفر بترك الصلاة الأصوب أنه يصير مسلماً بفعلها من غير إعادة الشهادتينلأن كفره بالامتناع كإبليس وتارك الزكاة كذلك وفرضها متأخروا الفقهاء
مسألة يمتنع وقوعها: وهي أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة فدعي إليها وامتنع ثلاثاً مع تهديده بالقتل فلم يصل حتى قُتل هل يموت كافراً أو فاسقاً على قولين وهذا الفرض باطل إذ يمتنع أن يعتقد أن الله فرضها ولا يفعلها ويصبر على القتل هذا لا يفعله أحد قط ومَن ترك الصلاة فينبغي الإشاعة عنه بتركها حتى يصلي ولا ينبغي السلام عليه ولا إجابة دعوته والمحافظ على الصلاة أقرب إلى الرحمة ممن لم يصلها ولو فعل ما فعل(1/402)
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لغير الجمع وأما المسافر العادم للماء إذا علم أنه يجد الماء بعد الوقت: لا يجوز له التأخير إلى ما بعد الوقت بل يصلي بالتيمم في الوقت بلا نزاع وكذلك العاجز عن الركوع والسجود والقراءة إذا علم بعد الوقت أنه يمكنه أن يصلي بإتمام الركوع والسجود والقراءة: كان الواجب أن يصلي في الوقت بحسب إمكانه
وأمّا قول بعض أصحابنا: لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناس وجمعهما أو مشتغل بشرطها فهذا لم يقله أحد قبله من الأصحاب بل ولا من سائر طوائف المسلمين إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي وهذا لا شك ولا ريب أنه ليس على عمومه وإنّما أراد صوراً معروفة كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلاً يستقي به ولا يفرغ إلا بعد الوقت أو أمكن العريان أن يخيط ثوباً ولا يفرغ إلا بعد الوقت ونحو هذه الصورة ومع هذا فالذي قاله في ذلك هو خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وجماهير العلماء وما أظنه يوافقه إلا بعض أصحاب الشافعي ويؤيد ما ذكرناه أيضاً أن العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية يشتري منها ثوباً ولا يصلي إلا بعد الوقت لا يجوز له التأخير بلا نزاع وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد الأخير إذا ضاق الوقت صلى على حسب حاله وكذلك المستحاضة إذا كان دمها ينقطع بعد الوقت لم يجز لها التأخير بل تصلي في الوقت بحسب حالها(1/403)
باب المواقيت
...
"باب المواقيت"
بدأ جماعة من أصحابنا كالخرقي و القاضي في بعض كتبه وغيرهما بالظهر ومنهم من بدأ بالفجر كابن أبي موسى وأبي الخطاب والقاضي في موضع وهذا أجود لأن الصلاة الوسطى هي العصر وإنّما تكون الوسطى إذا كان الفجر الأول ومن زعم أن وقت العشاء بقدر حصة الفجر في الشتاء وفي الصيف فقد غلط غلطاً بيناً باتفاق الناس وجمهور العلماء يرون تقدم الصلاة أفضل إلا إذا كان في التأخير مصلحة(1/403)
راجحة مثل المتيمم يؤخر ليصلي آخر الوقت بوضوء والمنفرد يؤخر حتى يصلي آخر الوقت مع جماعة ونحو ذلك ويعمل بقول المؤذن في دخول الوقت مع إمكان العلم بالوقت وهو مذهب أحمد وسائر العلماء المعتبرين وكما شهدت له النصوص خلافاً لبعض أصحابنا ومَنْ دخل عليه الوقت ثم طرأ مانع من جنون أو حيض: لا قضاء إلا أن يتضايق الوقت عن فعلها ثم يوجد المانع وهو قول مالك وزفر رواه زفر عن أبي حنيفة ومتى زال المانع مِن تكليفه في وقت الصلاة لزمته إن أدرك فيها قدر ركعة وإلا فلا وهو قول الليث وقول الشافعي ومقالة في مذهب أحمد ولا تسقط الصلاة بحج ولا تضعيف في المساجد الثلاثة ولا غير ذلك إجماعاً وتارك الصلاة عمداً لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه بل يُكثر مِن التطوع وكذا الصوم وهو قول طائفة من السلف: كأبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وداود وأتباعه وليس في الأدلة ما يخالف هذا بل يوافقه وأمره عليه السلام المجامع بالقضاء ضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه وقال أبو الخطاب في "الانتصار": إذا مات في أثناء الصلاة قال بعض الحنفية: لا يكون عاصياً بالاجماع وقال أبو الخطاب: يحتمل عصيانه لأنّه إنّما يجوز له التأخير بشرط سلامة العاقبة كما يجوز له التأخير في قضاء رمضان وقضاء الصلاة والنذر والكفارة وكل ذلك بشرط سلامة العاقبة وإن قلنا لا يعصى وهو الصحيح فلأن ما وجب وجوباً موسعاً لا يعصى من أخره إلى آخر الوقت إذا مات كالمسائل التي ذكرناها
قال أبو العباس: أماّ قضاء الصلاة والنذر والكفارة فعندنا على الفور وقد قيل أنه على التراخي فلا تناظر المسألة وإنّما نظيرها قضاء رمضان فإنّه وقت مُوسع والمذاهب هناك أنه إذا مات بعد استطاعة القضاء أطعم عنه المشهور في الصلاة لا يعصى فيتوجه التخريج فيهما كما اقتضاه كلامه وقال أبو الخطاب اتفق على الإيجاب الموسع في القضاء والحج والكفارة(1/404)
والزكاة والدين المؤجل وهذا غلط فإنَّ فيه ما هو مضيق وما هو على التراخي ويجب قضاء الفوائت على الفور وهو مذهب أحمد وغيره والنائم ليس عليه أن يفعل الصلاة حال نومه بلا نزاع لكن تنازع العلماء هل وجبت في ذمته بمعنى أنه وجب عليه أن يفعلها إذا استيقظ أو يقال: لم تجب في ذمته لكن انعقد سبب وجوبها على قولين
وجمهور العلماء: على أنها قضاء ومنهم من يقول: هي أداء والنزاعان لفظيان ويشبه هذا النزاع فيمن غلب على ظنّه في الواجب على التراخي أنه يموت في هذا الوقت فإنه يجب تقديمه فلولم يمت ثم فعله فهل يكون أداء كقول الجمهور أو قضاء كقول الباقلاني وغيره: فيه نزاع ولا تأثير لهذا النزاع في الأحكام وإنّما هو نزاع لفظي فقط بل لو اعتقد بقاء الوقت فصلى أداء ثم تبين خروجه أو بالعكس: صحت الصلاة من غير نزاع أعلمه وقال أبو العباس في قديم خطه: قول الباقلاني قياس المذاهب إذ الاعتبار بحالة غلبة الظن لا بما يخالفها وذلك كما قلنا من غير خلاف أعلمه في المذاهب في المعضوب الذي لا يرجى برؤه إذا حج عن نفسه ثم برأ أنه لا يلزمه إعادة الحج فاعتبرنا حالة غلبة الظن ولم نعتبر تبين فساده ولا أعرف بينهما فرقاً(1/405)
باب الآذان والإقامة
...
"باب الأذان والإقامة"
والصحيح أنهّما فرض كفاية وهو ظاهر مذهب أحمد وغيره وقد أطلق طوائف من العلماء أن الأذان سنة ثم مِن هؤلاء مَن يقول: أنه إذا اتفق أهل بلد على تركه قُوتلوا والنزاع مع هؤلاء قريب من النزاع اللفظي فإنّ كثيراً من العلماء مَن يطلق القول بالسنة على ما يُذم تاركه ويعاقب تاركه شرعاً وأما من زعم أنه سُنّة لا إثم على تاركه فقد أخطأ وليس الأذان بواجب للصلاة الفائتة وإذا صلى وحده أداء أو قضاء وأذن وأقام فقد أحسن وإن اكتفى بالإقامة أجزأه وإن كان يقضي صلوات فأَذن أول مرة وأقام لبقية الصلوات كان حَسناً أيضاً وهو أًَفضل من الإمامة وهو أصح الروايتين عن أحمد واختيار أكثر أصحابه(1/405)
وأمّا إمامته صلى الله عليه وسلم وإمامة الخلفاء الراشدين فكانت متعينة عنده فإنّها وظيفة الإمام الأعظم ولم يُمكن الجمع بينها وبين الأذان فصارت الإمامة في حقهم أفضل من الأذان لخصوص أحوالهم وإن كان لأكثر الناس الأذان أفضل ويتخرج أن لا يجزئ الأذان القاعد لغير عذر كأحد الوجهيْن في الخطبة وأولى إذ لم يُنقل عن أحد من السلف الأذان قاعداً لغير عذر وخطب بعضهم قاعداً لغير عذر وأطلق أحمد الكراهة والكراهة المطلقة هل تنصرف إلى التحريم أو التنزيه على وجهيْن
قلت: قال أبو البقاء العبكري في "شرح الهداية": نقل عن أحمد إن أَذّن القاعد يعيد قال القاضي: محمول على نفي الاستحباب وحمله بعضهم على نفي الاعتداد به والله أعلم
وأكثر الروايات عن أحمد المنع من أذان الجنب وتوقف عن الإعادة في بعضها وصرح بعدم الإعادة في بعضها وهو اختيار أكثر الأصحاب وذكر جماعة عنه رواية بالإعادة واختارها الخرقي وفي إجزاء الأذان من الفاسق روايتان أقواهما عدمه لمخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمّا ترتيب الفاسق مؤذناً فلا ينبغي قولاً واحداً والصبي المميز يستخرج أذانه للبالغ روايتان كشهادته وولايته وقال في موضع آخر اختلف الأصحاب في تحقيق موضع الخلاف منهم من يقول: موضع الخلاف سقوط الفرض به والسنة المؤكدة إذا لم يوجد سواه وأمّا صحة أذانه في الجملة وكونه جائزاً إذا أذن غيره فلا خلاف في جوازه ومنهم من أطلق الخلاف لأن أحمد قال: لا بأس أن يؤذن الغلام قبل أن يحتلم إذا كان قد راهق وقال في رواية علي بن سعيد: وقد سئل عن الغلام يُؤذن قبل أن يحتلم فلم يعجبه والأشبه أن الأذان الذي يسقط الفرض عن أهل القرية ويعتمد في وقت الصلاة والصيام لا يجوز أن يباشره صبي قولاً ولا يسقط الفرض ولا يعتمد في مواقيت العبادات وأمَّا الأذان الذي يكون سنة مؤكدة في مثل المساجد التي في المصر ونحو ذلك فهذا فيه الروايتان والصحيح جوازه ويكره أن يوصل الأذان بما قبله مثل قول بعض المؤذنين قبل الأذان: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} الإسراء: 111(1/406)
ويستحب للمؤذن أن يرفع فمه ووجهه إلى السماء إذا أذن أو أقام ونص عليه أحمد كما يستحب للذي يتشهد عقيب الوضوء أن يرفع رأسه إلى السماء وكما يستحب للمحرم بالصلاة أن يرفع رأسه قليلاً لأن التهليل والتكبير إعلان بذكر الله لا يصلح إلا له فاستحب الإشارة له كما تستحب الإشارة بالإصبع الواحدة في التشهد والدعاء هذا بخلاف الصلاة والدعاء إذ المستحب فيه خفض الطرف
وإذا أقيمت الصلاة وهو قائم يستحب له أن يجلس وإن لم يكن صلى تحية المسجد
قال ابن منصور رأيت أبا عبد الله أحمد يخرج عند المغرب فحين انتهى إلى موضع الصف أخذ المؤذن في الإقامة فجلس والخروج من المسجد بعد الأذان منهي عنه وهل هو حرام أو مكروه في المسألة وجهان إلا أن يكون التأذين للفجر قبل الوقت فلا يكره الخروج نص عليه أحمد والإقامة كالنداء بالأذان والسنة أن ينادي للكسوف بالصلاة جامعة لحديث عائشة: خسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً الصلاة جامعة ولا ينادي للعيد والاستسقاء وقاله طائفة من أصحابنا ولهذا لا يشرع للجنازة ولا للتراويح على نص أحمد خلافاً للقاضي لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم والقياس على الكسوف فاسد الاعتبار وقال الآمدي: السنة أن يكون المؤذن من أولاد من جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم الأذان وإن كان من غيرهم جاز
قال أبو العباس: ولم يذكر هذا أكثر أصحابنا وظاهر كلام أحمد لا يقدم بذلك فإنه نص على أن المتنازعين في الأذان لا يقدم أحدهما بكون أبيه هو المؤذن وأما ما سوى التأذين قبل الفجر من تسبيح ونشيد ورفع الصوت بدعاء ونحو ذلك في المآذن فهذا ليس بمسنون عند الأئمة
بل قد ذكر طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد: أنَّ هذا من جملة البدع المكروهة ولم يقم دليل شرعي(1/407)
على استحبابه ولا حدث سبب يقتضي أحداثه حتى يقال أنه مِن البدع اللغوية التي دلت الشريعة على استحبابها وما كان كذلك لم يكن لأحد أن يأمر به ولا ينكر على مَن تركه ولا يعلق استحقاق الرزق به وإنّ شرطه واقف وإذا قيل: أنّ في بعض هذه الأصوات مصلحة راجحة على مفسدتها فتقتصر من ذلك على القدر الذي يحصل به المصحلة دون الزيادة التي هي ضرر بلا مصلحة راجحة ويستحب أن يجيب المؤذن ويقول مثل ما يقول ولو في الصلاة وكذلك يقول في الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة ويجيب مؤذناً ثانياً وأكثر حيث يستحب ذلك كما كان المؤذنان يؤذنان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأما المؤذنون الذين يؤذنون مع المؤذن الراتب يوم الجمعة في مثل صحن المسجد فليس أذانهم مشروعاً باتفاق الأئمة بل ذلك بدعة منكرة وقد اتفق العلماء على أنه لا يستحب التبليغ وراء الإمام بل يكره إلا لحاجة وقد ذهب طائفة من الفقهاء أصحاب مالك وأحمد إلى بطلان صلاة المبلغ إذا لم يحتج إليه وظاهر كلامه هذا أن المجيب يقول مثل ما يقول حتى في الحيعلة وقيل: يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ويجوز الأذان للفجر قبل دخول وقتها وقاله جمهور العلماء وليس عند أحمد نص في أول الوقت الذي يجوز فيه التأذين إلا أن اصحابنا قالوا: يجوز بعد نصف الليل كما يجوز بعد نصف الليل الإفاضة من مزدلفة وعلى هذا فينبغي أن يكون الليل الذي يعتبر نصفه أوله غروب الشمس وآخره طلوها كما أن النهار المعتبر نصفه أوله طلوع الشمس وآخره غروبها لانقسام الزمان ليلاً ونهاراً ولعل قول النبي صلى الله عليه وسلم في أحد الحديثين: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل" الذي ينتهي لطلوع الفجر وفي الآخر حين يمضي نصف الليل يعني الليل الذي ينتهي بطلوع الشمس فإنه إذا انتصف الليل الشمسي يكون قد بقي ثلث الليل الفجري تقريباً ولو قيل: تحديد وقت العشاء إلى نصف الليل تارة وإلى ثلثه أخرى من هذا الباب لكان متوجهاً ويستحب إذا أخر(1/408)
المؤذن في الأذان أن لا يقوم إذ في ذلك تشبه بالسلطان
قال أحمد: لا يقوم أو ما يبدي أو يصير(1/409)
باب ستر العورة
...
"باب ستر العورة"
اختلف عبارة أصحابنا في وجه الحرة في الصلاة فقال بعضهم: ليس بعورة وقال بعضهم: عورة وإنّما رخص في كشفه في الصلاة للحاجة والتحقيق: أنه ليس بعورة في الصلاة وهو عورة في باب النظر إذ لم يجز النظر إليه ولا يختلف المذهب في أن ما بين السرة والركبة من الأمة عورة وقد حكى جماعة من أصحابنا أن عورتها السوأتان فقط كالرواية في عورة الرجل وهذا غلط قبيح فاحش على المذهب خصوصاً وعلى الشريعة عموماً وكلام أحمد أبعد شيء عن هذا القول ولا يصح الصلاة في الثوب المغصوب والحرير والمكان المغصوب هذا إذا كانت الصلاة فرضاً وهو أصح الروايتين عن أحمد وإن كانت نفلاً فقال الآمدي: لا تصح رواية واحدة
وقال أبو العباس: أكثر أصحابنا أطلقوا الخلاف وهو الصواب لأنَّ منشأ القول بالصحة أن جهة الطاعة مغايرة لجهة المعصية فيجوز أن يثاب من وجه ويعاقب من وجه وينبغي أن يكون الذي يجر ثوبه خيلاء في الصلاة على هذا الخلاف لأن المذهب أنه حرام وكذلك مَن لبس ثوباً فيه تصاوير
قلت: لازم ذلك أن كل ثوب يحرم لبسه يجري على هذا الخلاف وقد أشار إليه صاحب "المستوعب" والله أعلم ولو كان المصلي جاهلاً بالمكان والثوب أنه حرام فلا إعادة عليه سواء قلنا: أن الجاهل بالنجاسة يعيد أو لا يعيد لأن عدم علمه بالنجاسة لا يمنع العين أن تكون نجسة وكذا إذا لم يعلم بالتحريم لم يكن فعله معصية بل يكون طاعة وأمّا المحبوس في مكان غصب فينبغي أن لا تجب عليه الإعادة إذا صلى فيه قولاً واحداً لأن لبثه فيه ليس بمحرم ومن أصابنا من يجعل فيمن لم يجد إلا الثوب الحرير روايتين كمن لم يجد(1/409)
إلا الثوب النجس وعلى هذا فمن لم يمكنه أن يصلي إلا في الموضع الغصب فيه الروايتان وأولى وكذلك كل مكره الكون بالمكان النجس والغصب بحيث يخاف ضرراً من الخروج في نفسه أو ماله ينبغي أن يكون كالمحبوس وذكر ابن الزاغوني في صحة الصلاة في ملك غيره بغير أذنه إذا لم يكن محوطاً عليه وجهين وأن المذهب الصحة يؤيده أنه يدخله ويأكل ثمره فلأن يدخله بلا أكل ولا أذى أولى وأجزى والمقبوض بتعد فاسد من الثياب والعقار أفتى بعض أصحابنا بأنّه كالمغصوب سواء وعلى هذا فإنْ لم يكن المال الذي يلبسه ويسكنه حلالاً في نفسه لم يتعلق به حق الله تعالى ولا لعبادهوإلا لم تصح فيه الصلاة
وكذلك الماء في الطهارة وكذلك المركوب والزاد في الحج وهذا يدخل فيه شيء كثير وفيه نوع مشقة ومَنْ لم يجد إلا ثوباً لطيفاً أرسله على كتفه وعجزه وصلى جالساً ونص عليه أو اتزر به وصلى قائماً وقال القاضي: يستر منكبيه ويصلي جالساً والأول هو الصحيح وقول القاضي ضعيف ولو صلى على راحلة مغصوبة فهو كالأرض المغصوبة وإن صلى على فراش مغصوب فوجهان أظهرهما البطلانولو غصب مسجداً وغيره بأن حوله عن كونه مسجداً بدعوى ملكه أو وقفه على جهة أخرى لم تصح صلاته فيه وإن أبقاه مسجداً ومنع الناس من الصلاة فيه في صحة صلاته فيه وجهان اختار طائفة من المتأخرين الصحة والأقوى البطلان ولو تلف في يده لم يضمنه عند ابن عقيل وقياس المذهب ضمانه وإن لم يجد العريان ثوباً ولا حشيشاً ولكن وجد طيناً لزمه الاستتار عند ابن عقيل ولا يلزمه عند الآمدي وغيره وهو الصواب المقطوع به وقيل: إنه المنصوص عن أحمد لأن ذلك يتناثر ولا يبقى ولكن يستحب أن يستتر بحائط أو شجرة ونحو ذلك إن أمكن وتستحب الصلاة بالنعل وقاله طائفة من العلماء والعبد الآبق لا يصح نفله ويصح فرضه عند ابن عقيل وابن الزاغوني وبطلان فرضه قوي أيضاً كما جاء في الحديث مرفوعاً وينبغي قبول صلاته والله تعالى أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الأعراف: 31 فعلق الأمر(1/410)
باسم الزينة لا بستر العورة إيذاناً بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة(1/411)
باب اجتناب النجاسات ومواضع الصلاة
...
"باب اجتناب النجاسة ومواضع الصلاة"
وجوب تطهير البدن من الخبث يحتج عليه بأحاديث الاستنجاء وحديث التنزه من البول وبقوله صلى الله عليه وسلم: "حتيه ثم اقرصيه ثم انضحيه بالماء ثم صلي فيه" من حديث أسماء وغيرها وبحديث أبي سعيد في دلك النعلين بالتراب ثم الصلاة فيهما وطهارة البقعة يستدل عليها بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والعذرة" وأمره بصب الماء على البول ومَنْ صلى بالنجاسة ناسياً أو جاهلاً فلا إعادة عليه وقاله طائفة من العلماء لأن مَن كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله مخطئاً أو ناسياً لا تبطل العبادة به وذكر القاضي في "المجرد" والأمدي: أن الناسي يعيد رواية واحدة عن أحمد لأنه مفرط وإنّما الروايتان في الجاهل والروايتان منصوصتان عن أحمد في الجاهل بالنجاسة فأمّا الناسي فليس عنه نص فلذلك اختلف الطريقان والنهي عن قربان المسجد لمن أكل الثوم ونحوه عام في كل مسجد عند عامة العلماء وحكى القاضي عياض أن النهي خاص بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها والنهي عن ذلك إنّما هو سد لذريعة الشرك وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة لأنه لا يتناول اسم المقبرة وإنّما المقبرة ثلاثة قبور فصاعداً وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور وهو الصواب والمقبرة كل ما قبر فيه
لا أنه جمع قبر وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه فهذا يعين أن المنع يكون متناً ولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه وذكر الأمدي وغيره أنه لا تجوز الصلاة فيه أي المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم هذا منصوص أحمد ولا تصح الصلاة في الحش ولا إليه ولا فرق عند عامة أصحابنا بين أن يكون(1/411)
الحُش في ظاهر جدار المسجد أو باطنه واختار ابن عقيل أنه إذا كان بين المصلى وبين الحش ونحوه حائل مثل جدار المسجد لم يكره والأول هو المأثور عن السلف والمنصوص عن أحمد والمذهب الذي عليه عامة الأصحاب كراهة دخول الكنسية المصورة فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك ومقتضى كلام الأمدي وأبي الوفاء بن عقيل: أنه لا تصح الصلاة في أرض الخسف وهو قوي ونص أحمد لا يصلى فيها وقال الأمدي: ويكره في الرحى ولا فرق بين علوها وسفلها
قال أبو العباس: ولعل هذا لما فيها من الصوت الذي يلهي المصلي ويشغله ولا تصح الفريضة في الكعبة بل النافلة وهو ظاهر مذهب أحمد وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في البيت فإنها كانت تطوعاً فلا يلحق الفرض لأنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل البيت ركعتين ثم قال: "هذه القبلة" فيشبه -والله أعلم- أن يكون ذكره لهذا الكلام في عقيب الصلاة خارج البيت بياناً لأن القبلة المأمور بإستقبالها هي البنية كلها لئلا يتوهم متوهم أن استقبال بعضها كاف في الفرض لأجل أنه صلى التطوع في البيت وإلا فقد علم الناس كلهم أن الكعبة في الجملة هي القبلة فلا بد لهذا الكلام من فائدة وعلم شيء قد يخفى ويقع في محل الشبهة وابن عباس روى هذا الحديث وفهم منه هذا المعنى وهو أعلم بمعنى ما سمع وإنْ نذر الصلاة في الكعبة جاز كما لو نذر الصلاة على الراحة وأما إن نذر الصلاة مطلقاً اعتبر فيها شروط الفريضة لأن النذر المطلق يحذى به حذو الفرائض(1/412)
باب استقبال القبلة
...
"باب استقبال القبلة"
قال الدارقطني وغيره في قول الراوي أنه صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حمار غلط من عمرو بن يحيى المازني وإنّما المعروف صلاته صلى الله عليه وسلم على راحلته أو البعير والصواب أن الصلاة على الحمار من فعل أنس كما ذكره مسلم في رواية أخرى ولهذا لم يذكر البخاري حديث عمرو هذا وقيل في أن تغليطه نظراً وقيل: إنه شاذ لمخالفته رواية الجماعة وقوله(1/412)
صلى الله عليه وسلم: "ما بين المشرق والمغرب قبلة" هذا خطاب منه لأهل المدينة ومَن جرى مجراهم كأهل الشام والجزيرة والعراق وأمّا أهل مصر فقبلتهم بين المشرق والجنوب من مطلع الشمس في الشتاء وذكر طائفة من الأصحاب أن الواجب في استقبال القبلة هواؤها دون بنيانها بدليل المصلي على أبي قبيس وغيره من الجبال العالية فإنّه إنّما يستقبل الهواء لا البناء وبدليل لو انتقضت الكعبة والعياذ بالله فإنّه يكفيه استقبال العرصة
قال أبو العباس: الواجب استقبال البنيان وأمَا العرصة والهواء فليس بكعبة ولا ببناء وأما ما ذكروه من الصلاة على أبي قبيس ونحوه فإنّما ذلك لأن بين يدي المصلي قبلة شاخصة مرتفعة وإن لم تكن مسامتة فإنَّ المسامتة لا تشترط كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالإمام وأما إذا زال بناء الكعبة فنقول بموجبه وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئاً يصلي إليه لأن أحمد جعل المصلي على ظهر الكعبة لا قبلة له فعلم أنه جعل القبلة الشيء الشاخص وكذلك قال الآمدي: إن صلى بإزاء البيت وكان مفتوحاً لاتصح صلاته وإن كان مردوداً صحت وإن كان مفتوحاً وبين يديه شيء منصوب كالسترة صحت لأنه يصلي إلى جزء من البيت فإن زال بنيان البيت والعياذ بالله وصلى بين يديه شيء صحت الصلاة وإن لم يكن بين يديه شيء لم تصح وهذا من كلام الآمدي يدل على أن البناء لو زال لم تصح الصلاة إلا أن يكون بين يديه شيء وإنّما يعني به والله -أعلم- ما كان شاخصاً كما قيده فيما إذا صلى إلى الباب ولأنّه علل ذلك بأنّه إذا صلى إلى سترة فقد صلى إلى جزء من البيت فعلم أن مجرد العرصة غير كاف ويدلّ على هذا ما ذكره الأزرقي في "أخبار مكة": أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير لا تدع الناس بغير قبلة انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل الستور عليها حتى يطوف الناس من ورائها ويصلون إليها ففعل ذلك ابن الزبير وهذا من ابن عباس وابن الزبير دليل على أن الكعبة التي يطاف بها ويصلى إليها لا بد أن تكون شيئاً منصوباً شاخصاً وأن العرصة ليست قبلة ولم ينقل أن أحداً من السلف خالف في ذلك ولا أنكره نعم لو فرض أنه قد تعذر نصب شيء من الأشياء موضعها بأن يقع ذلك إذا(1/413)
هدمها ذو السويقتين من الحبشة في آخر الزمان فهنا ينبغي أن يكتفي حينئذ باستقبال العرصة كما يكتفي المصلي أن يخط خطاً إذا لم يجد سترة فإنّ قواعد إبراهيم كالخط وذكر ابن عقيل وغيره من أصحابنا أن البناء إذا زال صحت الصلاة إلى هواء البيت مع قولهم أنه لا يصلي على ظهر الكعبة ومَن قال هذا يفرق بأنه إذا لم يبق هناك شيء شاخص يستقبل بخلاف ما إذا كان هناك قبلة تستقبل ولا يلزم من سقوط الشيء الشاخص إذا كان معدوماً سقوط استقباله إذا كان موجوداً كما فَرّقنا بين حال إمكان نصب شيء وحال تعذره وكما يفرق في سائر الشروط بين حال الوجود والعدم والقدرة والعجز فإذا قلنا لا بد من الصلاة إلى شيء شاخص فإنّه يكفي شخوصه ولو أنه شيء يسير كالعتبة التي للباب قاله ابن عقيل
وقال أبو الحسن الآمدي: لا يجوز أن يصلي إلى الباب إذا كان مفتوحاً لكن إذا كان بين يديه شيء منصوب كالسترة صحت فعلى هذا لا يكفي ارتفاع العتبة ونحوها بل لا بد أن يكون مثل آخرة الرحل لأنها السترة التي قدر بها الشارع السترة المستحبة فلأن يكون تقديرها في الواجب أولى ثم إن كانت السترة التي فوق السطح ونحوه بناء أو خشبة مسمرة ونحو ذلك مما يتبع في مطلق البيع لو كان في موضع مملوك جازت الصلاة إليه لأنه جزء من البيت وإن كان هناك لبن وآجر بعضه فوق بعض أو خشبة معروضة غير مسمرة ونحو ذلك لم يكن قبلة فيما ذكره أصحابنا لأنه ليس من البيت ويتوجه أن يكتفي في ذلك بما يكون سترة في الصلاة لأنه شيء شاخص ولأن حديث ابن عباس وابن الزبير دليل على الاكتفاء بكل ما يكون قبلة وسترة فإنَّ الخشب والستور المعدة عليها لا يتبع في مطلق البيع
قلت: وقد يقال: إنّما اكتفي بما نصبه ابن الزبير وإن لم يتبع في مطلق البيع لأنه حال ضرورة ولا ضرورة بالمصلي إلى الصلاة على ظهر الكعبة أو باطنها إذ يمكنه أن يتوجه إلى جزء منها أو أن يستقبل جميعها والله أعلم وقال ابن حامد بن عقيل في "الواضح" وأبو المعالي: لو صلى إلى الحجر من غرضه المعاينة لم تصح صلاته لأنه في المشاهدة والعيان ليس من الكعبة البيت الحرام وإنما وردت الأحاديث بأنه كان من البيت فعمل بتلك الأحاديث في وجوب الطواف دون الاكتفاء به للصلاة(1/414)
احتياطاً للعبادتين وقال القاضي في "التعليق": يجوز التوجه إليه في الصلاة وتصح صلاته كما لو توجه إلى حائط الكعبة
قال أبو العباس: وهذا قياس المذهب لأنه من البيت بالسنة الثابتة المستفيضة وبعيان من شاهده من الخلق الكثير لما نقضه ابن الزبير ونص أحمد أنه لا يصلي الفرض في الحجر فقال: لا يصلي في الحجر الحجر من البيت
قال أبو العباس: والحجر جميعه ليس من البيت وإنّما الداخل في حدود البيت ستة أذرع وشيء فمن استقبل ما زاد على ذلك لم تصح صلاته البتة(1/415)
باب النية
...
"باب النية"
والنية تتبع العلم فمَن عَلِمَ ما يريد فعله قصده ضرورة ويحرم خروجه لشكه في النية للعلم بأنّه ما دخل إلا بالنية ولو أحرم منفرداً ثم نوى الإمامة صحت صلاته فرضاً ونفلاً وهو رواية عن أحمد اختارها أبو محمد المقدسي وغيره ولو سمّى إماماً أو جنازة فأخطأ صحت صلاته إن كان أفسده خلف مَن حضر وإلا فلا ووجوب مقارنة النية للتكبير قد يُفسر بوقوع التكبير عقيب النية وهذا ممكن لا صعوبة فيه بل عامة الناس إنّما يصلون هكذا وقد يُفسر بانبساط آخر النية على أجزاء التكبير بحيث يكون أولها مع أوله وآخرها مع آخره وهذا لا يصح لأنه يقتضي عزوب كمال النية عن أول الصلاة وخلو أول الصلاة عن النية الواجبة وقد يُفسر بحضور جميع النية الواجبة وقد يُفسر بجميع النية مع جميع أجزاء التكبير وهذا قد نُوزع في إمكانه فضلاً عن وجوبه ولو قيل بإمكانه فهو متعسر فيسقط بالحرج وأيضاً فما يبطل هذا والذي قبله أن المكبر ينبغي له أن يتدبر التكبير ويتصوره فيكون قلبه مشغولاً بمعنى التكبير لا بما يشغله عن ذلك من استحضار المنْْوي ولأنَّ النية من الشروط والشرط يتقدم العبادة ويستمر حكمه إلى آخرها(1/415)
باب تسوية الصفوف
...
"باب تسوية الصفوف لله"
وظاهر كلام أبي العباس أنه يجب تسوية الصفوف لأنه عليه السلام رأى رجلاً بادياً صدره فقال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" وقال عليه السلام: "سووا صفوفكم فإنَّ تسويتها مِن تمام الصلاة" متفق عليهما وترجم عليه البخاري بباب: إثم مَن لم يقم الصف
قلت: ومَن ذكر الإجماع على استحبابه فمراده ثبوت استحبابه لا نفي وجوبه والله أعلم
وإذا قدر المصلي أن يقول: الله أكبر لزما ولا يجزئه غيرها وهو قول مالك وأحمد ولا يُشترط أن يسمع المصلي نفسه القراءة الواجبة بل يكفيه الإتيان بالحروف وإن لم يسمعها وهو وجه في مذهب أحمد واختاره الكرخي من الحنفية وكذا كل ذكر واجب ويستحب أن يجمع في الاستفتاح بين قوله: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره وبين: وجهت وجهي إلى آخره وهو اختيار أبي يوسف وابن هبيرة ولا يجمع بين لفظي: كبير وكثير بل يقول هذا تارة وهذه تارة وكذا المشروع في القراءات السبع أن يقرأ هذه تارة وهذه تارة لا الجمع بينهما ونظائره كثيرة والأفضل أن يأتي في العبادات الواردة على وجوه متنوعة بكل نوع منها: كالاستفتاحات وأنواع صلاة الخوف وغير ذلك والمفضول قد يكون أفضل لمن انتفاعه به أتم ويستحب التعوذ أول كل قراءة ويجهر في الصلاة بالتعوذ وبالبسملة وبالفاتحة في الجنازة ونحو ذلك أحياناً فإنّه المنصوص عن أحمد تعليماً للسنة ويستحب الجهر بالبسملة للتأليف كما استحب أحمد ترك القنوت في الوتر تأليفاً للمأموم ولو كان الإمام متطوعاً تبعه المأموم والسنة أولى ونص عليه أحمد
قلت: وحكي عن أبي العباس التخيير بين الجهر والإسرار وهو مذهب إسحاق بن راهويهوالظاهر أن هذا القول أخذ من قوله: أنه يجهر بها أحياناً وهذا المأخذ ليس بجيد والله أعلم
والبسملة آية مُنْفردة فاصلة بين السور ليست من أول كل سورة لا الفاتحة ولا غيرهما وهذا ظاهر مذهب أحمد وروى الطبراني بإسناد حسن عن ابن(1/416)
العباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم إذا كان بمكة وأنّه لما هاجر إلى المدينة ترك الجهر بها حتى مات ورواه أبو داود في كتاب "الناسخ والمنسوخ" وهو مناسب للواقع فإنَّ الغالب على أهل مكة كان الجهر بها وأمّا أهل المدينة والشام والكوفة فلم يكونوا يجهرون والدارقطني لما دخل مصر وسئل أن يجمع أحاديث الجهر بالبسملة فجمعها فقيل له: هل فيها شيء صحيح فقال: أما عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا وأما عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف وتكتب البسملة أوائل الكتب كما كتبها سليمان وكتبها النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وإلى قيصر وغيره فتذكر في ابتداء جميع الأفعال وعند دخول المنزل والخروج منه للبركة وهي تَطرد الشيطان وإنّما تستحب إذا ابتدأ فعلاً تبعاً لغيرها لا مستقلة فلم تجعل كالهيللة والحمدلة ونحوهما والفاتحة أفضل سورة في القرآن قال عليه السلام فيها: "أعظم سورة في القرآن" رواه البخاري وذكر معناه ابن شهاب وغيره وآية الكرسي أعظم آي القرآن كما رواه مسلم عنه عليه السلام
وحكي عن أبي العباس أن تفاضل القرآن عنده في نفس الحرف أي ذات الحرف واللفظ بعضه أفضل من بعض وهذا قول بعض أصحابنا ولعل المراد غير آية الكرسي والفاتحة لما تقدم والله أعلم ومعاني القرآن ثلاثة أصناف: توحيد وقصص وأمر ونهي
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الإخلاص: 1 متضمنة ثلث التوحيد ولا يستحب قراءتها ثلاثاً إلا إذا قُرئت منفردة وقال في موضع آخر السنة إذا قرأ القرآن كله أن يقرأها كما في المصحف وأما إذا قرأها منفردة أو مع بعض القرآن ثلاثاً فإنّها تَعْدِل القرآن وإذا قيل: ثواب قراءتها مرة يعدل ثلث القرآن فمعادلة الشيء للشيء يقتضي تساويهما في القدر لا تماثلهما في الوصف كما في قوله تعالى: { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} المائدة: 95 ولهذا لا يجوز أن يستغني بقراءتها ثلاث مرات عن قراءة سائر القرآن لحاجته إلى الأمر والنهي والقصص كما لا يستغني من ملك نوعاً شريفاً من المال عن غيره ويحسن ترجمة القرآن لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة
قلت: وذكر(1/417)
غيره هذا المعنى والله أعلم
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات" رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب
المراد بالحرف الكلمة ووقوف القارئ على رؤوس الآيات سنة وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف أو غير ذلك والقراءة القليلة يتفكر أفضل من الكثير بلا تفكر وهو المنصوص عن الصحابة صريحاً ونُقل عن أحمد ما يدل عليه نقل عنه مثنى بن جامع رجل أكل فشبع وأكثر الصلاة والصيام ورجل أقل الأكل فقلت نوافله وكان أكثر فكرة أيّهما أفضل فذكر ما جاء في الفكر "تفكر ساعة خير من قيام ليلة" قال: فرأيت هذا عنده أفضل للفكر وما خالف المصحف وصح سنده صحت الصلاة به وهذا نص الروايتين عن أحمد ومصحف عثمان أحد الحروف السبعة وقاله عامة السلف وجمهور العلماء ويكره أن يقول مع إمامه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الفاتحة: 5 ونحوه وقراءة المأموم خلف الإمام أصول الأقوال فيها ثلاثة طرفان ووسط فأحد الطرفين لا يقرأ بحال الثاني يقرأ بكل حال والثالث: وهو قول أكثر السلف إذا سمع قراءة الإمام أنصت وإذا لم يسمع قرأ بنفسه فإنَّ قراءته أفضل من سكوته والاستماع لقراءة الإمام أفضل من السكوت وعلى هذا فهل القراءة حال مخافتة الإمام واجبة على المأموم أو مستحبة على قولين في مذهب أحمد أشهرهما أنها مستحبة ولا يقرأ حال تنفس إمامه وإذا سمع همهمة الإمام ولم يفهم قراءته قرأ لنفسه وهو رواية عن أحمد
وأحمد وغيره استحب في صلاة الجهر سكتتين عقيب التكبير للاستفتاح وقبل الركوع لأجل الفصل ولم يستحب أن يسكت سكتة تتسع لقراءة المأموم ولكن بعض أصحابه استحب ذلك والقراءة إذا سمع هل هي محرمة أو مكروهة(1/418)
وهل تبطل الصلاة إن قرأ على قولين في مذهب أحمد وغيره
أحدهما: القراءة محرمة وتبطل الصلاة بها حكاه ابن حامد والثاني: لا تبطل وهو قول الأكثرين وهو المشهور من مذهب أحمد وهل الأفضل للمأموم قراءة الفاتحة للاختلاف في وجوبها أم غيرها لأنه استمعها مقتضى نصوص أحمد وأكثر أصحابه أن القراءة بغيرها أفضل
قلت: فمقتضى هذا أنه إنما يكون غيرها أفضل إذا سمعها وإلا فهي أفضل من غيرها والله أعلم
ولا يستفتح ولا يستعيذ حال جهر الإمام وهو رواية عن أحمد ومِن أصحاب أحمد مَن قال: لا يستفتح ولا يستعيذ حال جهر الإمام رواية واحدة وإنّما الخلاف حال سكوت الإمام والمعروف عند أصحابه أن النزاع في حال الجهل لأنه بالاستماع يحصل مقصود القراءة بخلاف الاستفتاح والتعوذ وما ذكره ابن الجوزي من قراءة المأموم وقت مخافتة الإمام أفضل من استفتاحه: غلط بل قول أحمد وأكثر أصحابه الاستفتاح أولى لأن استماعه بدل عن قراءته والمرأة إذا صلت بالنساء جهرت بالقراءة وإلا فلا تجهر إذا صلت وحدها ونقل ابن أصرم عن أحمد في من جهل ماقرأ به إمامه: يعيد الصلاة قال أبو إسحاق بن شاقلا: لأنه لم يدر هل قرأ إمامه الحمد أم لا ولا مانع من السماع
وقال أبو العباس: بل لتركه الإنصات الواجب وحديث عبد الرحمن بن أبزى: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يتم تكبيره
رواه أبو داود والبخاري في "التاريخ" وقد حكى عن أبي داود الطيالسي: أنه قال حديث باطل
قال أبو العباس: وهذا وإن كان محفوظاً فلعل ابن أبزى صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مؤخر المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم صوته ضعيفاً فلم يسمع تكبيره فاعتقد أنه لم يتم التكبير وإلا فالأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف هذا
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن النخعي: إن أول من نقص التكبير زيادة وكان أميراً في زمن عمر
وإذا رفع الإمام رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد(1/419)
ملء السماوات وملء الأرض وملء ماشئت من شيء بعد وهو رواية عن أحمد واختارها أبو الخطاب والآجري وأبو البركات
ويُسن رفع اليدين إذا قام المصلي من التشهد الأول إلى الثالثة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو البركات كما يُسن في الركوع والرفع منه ومَن لم يقدر على رفع يديه إلا بزيادة على أذنيه رفعهما لأنه يأتي بالسنة وزيادة لا يمكنه تركها
وتبطل الصلاة بتعمد تكرار الركن الفعلي لا القولي وهو مذهب الشافعي وأحمد ومن لم يحسن القراءة ولا الذكر أو الأخرس لا يحرك لسانه حركة مجردة ولو قيل: أن الصلاة تبطل بذلك كان أقرب لأنّه عبث ينافي الخشوع وزيادة على غير المشروع وآل النبي صلى الله عليه وسلم أهل بيته ونص عليه أحمد واختاره الشريف أبو جعفر وغيره فمنهم بنو هاشم وفي بني المطلب الروايتان في الزكاة وفي دخول أزواجه في أهل بيته روايتان والمختار الدخول وأفضل أهل بيته علي وفاطمة وحسن وحسين الذين أدار عليهم الكساء وخصهم بالدعاء وظاهر كلام أبي العباس في موضع آخر أن حمزة أفضل من حسن وحسين واختاره بعض العلماء ولا تجوز الصلاة على غير الأنبياء إذا اتخذت شعاراً وهو قول متوسط بين مَن قال بالمنع مطلقاً وهو قول طائفة من أصحابنا ومَن قال بالجواز مطلقاً وهو منصوص أحمد ويستحب الجهر بالتسبيح والتحميد لا التكبير عقيب الصلاة قاله بعض السلف الخلف لا يقرأ آية الكرسي سراً لا جهراً لعدم نقله والتسبيح المأثور أنواع: أحدها: أن يسبح عشراً ويحمد عشراً ويكبر عشراً والثاني: إن يسبح إحدى عشرة ويحمد إحدى عشرة ويكبر إحدى عشرة والثالث: أن يسبح ثلاثاً وثلاثين ويحمد ثلاثاً وثلاثين ويكبر ثلاثاً وثلاثين فيكون تسعة وتسعين
والرابع: أن يقول ذلك ويختم المائة بالتوحيد التام: وهو لا إله إلا الله(1/420)
وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
الخامس: أن يسبح ثلاثاً وثلاثين ويحمد ثلاثاً وثلاثين ويكبر أربعاً وثلاثين
السادس: أن يسبح خمساً وعشرين ويحمد خمساً وعشرين ويكبر خمساً وعشرين ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
خمساً وعشرين ولا يستحب الدعاء عقيب الصلوات لغير عارض كالاستسقاء والاستنصار أو تعليم المأموم ولم تستحبه الأئمة الأربعة وما جاء في خبر ثوبان من أن الإمام إذا خص نفسه بالدعاء فقد خان المؤمنين المراد به الدعاء الذي يؤمن عليه كدعاء القنوات فإنَّ المأموم إذا أَمَّن كان داعياً
قال تعالى لموسى وهارون: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} يونس: 89 وكان أحدهما يدعو والآخر يُؤمن والمأموم إنّما أمّن لاعتقاده أن الإمام يدعو لهما فإن لم يفعل فقد خان الإمام المأموم ويسن للداعي رفع يديه والابتداء بالحمد لله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وأن يختمه بذلك كله وبالتأمين وصفة المشروع في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ما صحت به الأخبار
قال أبو العباس: الأحاديث التي في الصحاح لم أجد في شيء منها: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم بل المشهور في أكثر الأحاديث والطرق لفظ: "و آل إبراهيم" بإسناد ضعيف عن ابن مسعود مرفوعاً ورواه ابن ماجه موقوفاً على ابن مسعود
قلت: بل روى البخاري في "صحيحه" الجمع بينهما والله أعلم
واتفق المسلمون على أن محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل لكن وقع النزاع في أنّه هل هو أفضل من جملتهم قطع طائفة من العلماء بأنه وحده أفضل مِن جملتهم كما أن صديقه وُزِّن بمجموع الأمة فرجح بهم وقد أنكر طائفة من العلماء على محمد بن أبي زيد في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحم محمداً وآل محمد لأنه خلاف الوارد في تعليم الصلاة
قلت: وحكى القاضي عياض في "شرح مسلم" المنع قول الأكثرين والله أعلم
ويحرم الاعتداء في الدعاء لقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الأعراف: 55 وقد يكون الاعتداء(1/421)
في نفس الطلب وقد يكون في نفس المطلوب ولا يكره رفع بصره إلى السماء في الدعاء لفعله صلى الله عليه وسلم وهو قول مالك والشافعي ولا يستحب وإذا لم يُخْلِص الداعي الدعاء ولم يجتنب الحرام تبعد إجابته إلا مضطراً أو مظلوماً ويستحب للمصلي أن يدعو قبل السلام بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ أن يقوله دُبر كل صلاة: "اللهم أَعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ولا يفرد المنفرد ضمير الدعاء لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين ويكون دعاء الاستخارة قبل السلام وقال ابن الزاغوني: بل بعده والدعاء سبب لجلب المنافع ودفع المضار لأنه عبادة يثاب عليها الداعي ولا يحصل بها جلب المنافع ودفع المضار وهو مذهب أهل السنة والجماعة وإذا ارتاضت نفس العبد على الطاعة وانشرحت بها وتنعمت بها وبادرت إليها طواعية ومحبة: كان أفضل ممن يجاهد نفسه على الطاعات ويكرهها عليها وهو قول الجنيد وجماعة من عباد البصرة والتكبير مشروع في الأماكن العالية وحال ارتفاع العبد وحيث يقصد الإعلان: كالتكبير في الأذان والأعياد وإذا علا شرفاً وإذا رقى الصفا والمروة وإذا ركب دابة والتسبيح في الأماكن المنخفضة كما في "السنن" عن جابر كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا علونا كبرنا وإذا هبطنا سبحنا فوضعت الصلاة على ذلك وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن في الركوع والسجود دليل على أن القرآن أشرف الكلام إذ هو كلام الله وحالة الركوع والسجود ذُل وانخفاض من العبد فمِن الأدب منع كلام الله أن لا يقرأ في هاتين الحالتين والانتظار أولى(1/422)
باب ما يبطل الصلاة وما يكره فيها
...
"باب ما يبطل الصلاة وما يكره فيها"
والنفخ إذا بان منه حرفان هل تبطل الصلاة به أم لا في المسألة عن مالك وأحمد روايتان وظاهر كلام أبي العباس ترجيح عدم الإبطال والسعال والعطاس(1/422)
والتثاؤب والبكاء والتأوه والأنين الذي يمكن دفعه فهذه الأشياء كالنفخ فالأولى أن لا تبطل فإنّ النفخ أشبه بالكلام من هذه وإلا ظهر أن الصلاة تبطل بالقهقهة إذا كان فيها أصوات عالية تنافي الخشوع الواجب في الصلاة وفيها من الاستخفاف والتلاعب ما يناقض مقصود الصلاة فأبطلت لذلك لا لكونها كلاماً ويقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود والبهيم وهو مذهب أحمد رحمه الله والمشهور عن الأئمة إذا غلب الوسواس على أكثر الصلاة أنها لا تبطل ويسقط الفرض بذلك وقال أبي حامد الغزالي في "الأحياء" وتبعه ابن الجوزي: تبطل وعلى الأول لا يثاب إلا على ما علمه بقلبه فلا يكفر من سيئاته إلا بقدره فالباقي يحتاج إلى تكفير فإذا ترك واجباً استحق العقوبة فإذا كان له تطوع سد مسده فكمل ثوابه وهذا الكلام في المؤمن الذي يقصد العبادة لله بقلبه مع الوسواس
وأما المنافق الذي لا يصلي إلا رياء وسمعة فهذا عمله حابط لا يحصل به ثواب ولا يرتفع به عقاب وابن حامد ونحوه سوّى بين النوعين فإن كليهما إنما تسقط عنه الصلاة القتل في الدنيا من غير أن تبرأ ذمته ولا ترفع عنه عقوبة الآخرة والتسوية بين المؤمن والمنافق في الصلاة خطأ ولا بأس بالسلام على المصلي إن كان يحسن الرد بالإشارة وقاله طائفة من العلماء ولا يثاب على عمل مشوب إجماعاً ومن صلى لله ثم حسنَّها وأكملها للناس أثيب على ما أخلصه لله لا على ما عمله للناس ولا يظلم ربُك أحداً ولا تبطل الصلاة بكلام الناسي والجاهل وهو رواية عن أحمد ولا مما إذا أبدل ضاداً بظاء وهو وجه في مذهب أحمد وقاله طائفة من العلماء ولا بأس بالقراءة لحناً غير مخلٍ للمعنى عَجزاً وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم(1/423)
أن يذهب إلى النعل فيأخذه ويقتل به الحية أو العقرب ثم يعيده إلى مكانه وكذلك سائر ما يحتاج إليه المصلي من الأفعال وكان أبو برزة ومعه فرسه وهو يصلي كلما خطا يخطو معه خشية أن ينفلت وقال أحمد: إن فَعل كما فعل أبو برزة فلا بأس وظاهر مذهب أحمد وغيره أن هذا لا يُقدر بثلاث خطوات ولا ثلاث فعلات كما مضت به السنة ومَن قيدها بثلاث كما يقوله أصحاب الشافعي وأحمد فإنّما ذلك إذا كانت متصلة وأما إذا كانت موقوفة فيجوز وإن زادت على ثلاث و الله أعلم(1/424)
باب سجود التلاوة
...
"باب سجود التلاوة"
قال أبو العباس: والذي تبين لي أن سجود التلاوة واجب مطلقاً في الصلاة وغيرها وهو رواية عن أحمد ومذهب طائفة من العلماء ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل هذا هو السنة المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعليها عامة السلف وعلى هذا فليس هو صلاة فلا يشترط له شروط الصلاة بل يجوز على غير طهارة واختارها البخاري لكن السجود بشروط الصلاة أفضل ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به لكن يقال: إنه لا يجب في هذا الحال
كما لا يجب على السامع إذا لم يسجد قارئ السجود وإن كان ذلك السجود جائزاً عند جمهور العلماء والأفضل أن يسجد عن قيام وقاله طائفة من أصحاب أحمد والشافعي وسجود الشكر لا يفتقر إلى طهارة: كسجود التلاوة ووافق أبو العباس على سجود السهو في اشتراط الطهارة ولو أرد الإنسان الدعاء فعفر وجهه لله في التراب وسجد له ليدعوه فهذا سجود لأجل الدعاء ولا شيء يمنعه وابن عباس سجد سجوداً مجرداً لما جاء نعي بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم آية فاسجدوا" وهذا يدل على أن السجود يشرع عند الآيات فالمكروه هو(1/424)
ومن البدع إن صلى الصبح أو غيرها من الصلوات سجد بعد فراغه منها وقبل الأرض وذكر غير واحد من العلماء أن هذا السجود من المنكرات وأما تقبيل الأرض ونحو ذلك مما فيه السجود مما يفعل قدام بعض الشيوخ وبعض الملوك فلا يجوز بل لا يجوز الانحناء كالركوع أيضاً أما إذا أكره على ذلك بحيث أنه لو لم يفعله يحصل له ضرر فلا بأس وأما إن فعل لنيل الرياسة والمال فحرام(1/425)
باب سجود السهو
...
"باب سجود السهو"
يشرع للسهو لا للعمد عند الجمهور ومن شك في عدد الركعات بنى على غالب ظنه وهو رواية عن أحمد وهو مذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهما وعلى هذا عامة أمور الشرع ويقال مثله في الطواف والسعي ورمي الجمار وغير ذلك وأظهر الأقوال وهو رواية عن أحمد فرق بين الزيادة والنقص وبين الشك مع التحري والشك مع البناء على اليقين فإذا كان السجود لنقص كان قبل السلام لأنه جابر ليتم الصلاة به وإن كان لزيادة كان بعد السلام لأنه ارغام للشيطان لئلا يجمع بين زيادتين في الصلاة كذلك إذا شك وتحرى فإنه يتم صلاته وإنّما السجدتان إرغام للشيطان فتكونان بعده وكذلك إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها فقد أتمها والسلام فيها زيادة والسجود في ذلك بعد السلام ترغيماً للشيطان وأما إذا شك ولم يبن له الراجح فيعمل هنا على اليقين فأما أن يكون صلى خمساً أو اربعاً فإنْ كان صلى خمساً فالسجدتان يشفعان له صلاته ليكون كأنه صلى الله ستاً لا خمساً وهذا إنما يكون قبل السلام فهذا الذي بصرناه يستعمل فيه جميع الأحاديث الواردة في ذلك وما شرع قبل السلام يجب فعله قبل السلام وما شرع بعد السلام لا يفعل إلا بعده وجوباً وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره وعليه يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة وهل يتشهد ويسلم إذا سجد بعد السلام فيه ثلاثة أقوال ثالثها المختار يسلم ولا يتشهد وهو قول ابن سيرين ووجه في مذهب أحمد والأحاديث الصحيحة تدل على ذلك(1/425)
والتكبير لسجود السهو ثابت في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول عامة أهل العلم وإنْ نَسي سجود السهو سجد ولو طال الفصل تكلم أو خرج من المسجد وهو رواية عن أحمد(1/426)
باب صلاة التطوع
...
"باب صلاة التطوع"
والتطوع يُكمل به صلاة الفرض يوم القيامة إن لم يكن المصلي أتمها وفيه حديث مرفوع رواه أحمد في "المسند" وكذلك الزكاة وبقية الأعمال واستيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلاً ونهاراً أفضل من جهاد لم يذهب فيه نفسه وماله والعبادة في غيره تعدل الجهاد للأخبار الصحيحة المشهورة وقد رواها أحمد وغيره والعمل بالقوس والرمح أفضل من الرباط في الثغر وفي غير نظيرها ومَن طلب العلم أو فعل غيره مما هو آجر في نفسه لما فيه من المحبة له لا لله ولا لغيره من الشركاء فليس مذموماً بل قد يثاب بأنواع من الثواب إمّا بزيادة فيها -وفي أمثالها فتنعم بذلك- وإما بغير ذلك وتعلم العلم وتعليمه يدخل بعضه في الجهاد وأنه من أنواع الجهاد من جهة أنه من فروض الكفايات واشد النّاس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه فذنبه مِن جنس ذنب اليهود و المتأخرون من أصحابنا أطلقوا القول بأنّ أفضل ما تطوع به الجهاد وذلك لمن أراد أن يفعله تطوعاً باعتبار أنه ليس بفرض عين عليه بحيث أن الفرض قد سقط عنه وإذا باشره وقد سقط الفرض عنه فهل يقع فرضاً أو نفلاً على وجهين كالوجهين في صلاة الجنازة إذا أعادها بعد أن صلاها غيره وانبنى على(1/426)
الوجهين في صلاة الجنازة جواز فعلها بعد الفجر والعصر مرة ثانية والصحيح أن ذلك يقع فرضاً وأنه يجوز فعلها بعد الفجر والعصر وإن كان ابتداء الدخول في ذلك تطوعاً كما في التطوع الذي يلزم بالشروع فإنّه كان نفلاً ثم يصير إتمامه فرضاً والطواف بالبيت أفضل من الصلاة فيه وهو قول العلماء والذكر بقلب أفضل من القرآن بلا قلب
وقال أبو العباس في رده على الرافضي بعد أن ذكر تفضيل أحمد للجهاد والشافعي للصلاة وأبي حنيفة ومالك للعلم: والتحقيق أنّه لا بد لكل من الأخريْن وقد يكون كل واحد أفضل في حال كفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بحسب المصلحة والحاجة هذا قول إبراهيم بن جعفر لأحمد: الرجل يبلغني عنه صلاح فأذهب فأصلي خلفه قال: قال لي أحمد: انظر إلى ما هو أصلح لقلبك فافعله وقال الإمام أحمد: معرفة الحديث والفقه أعجب إلي من حفظه: ويجب الوتر على مَن يتهجد بالليل وهو مذهب بعض من يوجبه مطلقاً ويُخيَّر في الوتر بين فصله ووصله وفي دعائه بين فعله وتركه والوتر لا يقضى إذا فات لفوات المقصود منه بفوات وقته وهو إحدى الروايتين عن أحمد ولا يَقْنُت في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة فيقنت كل مُصلٍ في جميع الصلوات لكنه في الفجر والمغرب آكد بما يناسب تلك النازلة وإذا صلى قيام رمضان فإن قنت جميع الشهر أو نصفه الأخير أو لم يقنت بحال فقد أحسن والتراويح إن صلاها كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد: عشرين ركعة أو: كمذهب مالك ستاً وثلاثين أو ثلاث عشرة أو إحدى عشرة فقد أحسن
كما نص عليه الإمام أحمد لعدم التوقيف فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره ومَن صلاّها قبل العشاء فقد سلك سبيل المبتدعة المخالفين للسنة ويقرأ أول ليلة من رمضان في العشاء الآخرة سورة القلم لأنها أول ما نزل ونقله إبراهيم بن محمد الحارث عن الإمام أحمد وهو أحسن(1/427)
مما نقله غيره أنه يبتدئ بها التراويح ومن السنن الراتبة قبل الظهر أربع وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى وليس للعصر سنة راتبة وهو مذهب أحمد وما تبين فعله منفرداً كقيام الليل وصلاة الضحى ونحو ذلك إنْ فعل جماعة في بعض الأحيان فلا بأس بذلك لكن لا يتخذ سنة راتبة وتستحب المداومة على صلاة الضحى إنْ لم يقم في ليلة وهو مذهب بعض مَن يستحب المداومة عليها مطلقاً
قلت: لكن أبو العباس له قاعدة معروفة وهي ما ليس من السنن الراتبة لا يداوم عليه حتى يلحق بالراتب كما نص الإمام أحمد على عدم سورة "السجدة" و "هل أتى" يوم الجمعة ولا يجوز التطوع مضطجعاً لغير عذر وهو قول جمهور العلماء وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء ومِن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد وللمالكية وجهان في كراهتها وكرهها مالك
وأمّا قراءة واحد والباقون يتسمعون له فلا يكره بغير خلاف وهي مستحبة وهي التي كان الصحابة يفعلونها: كأبي موسى وغيره وتعليم القرآن في المسجد لا بأس به إذا لم يكن فيه ضرر على المسجد وأهله بل يستحب تعليم القرآن في المساجد وقول الإمام أحمد في الرجوع إلى قول التابعي عام في التفسير وغيره وقيام بعض الليالي كلها مما جاءت به السنة وصلاة الرغائب بدعة مُحدثة لم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف وأمّا ليلة النصف من شعبان ففيها فَضل وكان في السلف مَنْ يصلي فيها لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة الصلاة الألفية وتقول المرأة في سيد الاستغفار وما في معناه: وأنا أمتك بنت أمتك أو بنت عبدك ولو قالت: وأنا عبدك فله مخرج في العربية بتأويل شخص وتكفير الطهارة والصلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصغائر فقط وكذا الحج لأن الصلاة ورمضان أعظم منه وكثرة الركوع والسجود وطول القيام سواء في الفضيلة وهو(1/428)
فقودة(1/429)
باب صلاة الجماعة
...
مفقودة(1/429)
مفقودة(1/430)
إحدى الروايتين عن أحمد واختارها جماعة من أصحابنا وهو مذهب مالك ووجه في مذهب الشافعي واختاره الروياني
وأصح الطريقين لأصحاب أحمد: أنه يصح ائتمام القاضي بالمؤدي وبالعكس لا يخرج عن ذلك ائتمام المفترض بالمنتفل ولو اختلفا أو كانت صلاة المأموم أقل وهو اختيار أبي البركات وغيره وحكى أبو العباس في صلاة الفريضة خلف صلاة الجنازة روايتين واختار الجواز
وقال أبو العباس: سُئلت عن ما يفعله الرجل شاكاً في وجوبه على طريق الاحتياط فهل يتم به المفترض قال: قياس المذهب أنّه يصح لأن الشاك يؤديها بنية الوجوب إذا احتاط ويجزئه عن الواجب حتى لو تبين له فيما بعد الوجوب أجزأه كما قلنا في ليلة الاغماء وإنْ لم نَقل بوجوب الصوم وكما قلنا فيمَن فاتته صلاة من خمس لا يعلم عينها وكما قلنا فيمن شك في انتقاض وضوئه فتوضأ وكذلك سائر صور الشك في وجوب طهارة أو صيام أو زكاة أو صلاة أو نسك أو كفارة أو غير ذلك بخلاف ما لو اعتقد عدم الوجوب وأداه بنية النفل وعكسه كما لو اعتقد الوجوب ثم تبين عدمه فإنَّ هذه خرج فيها خلاف في الحقيقة نفل لكنها في اعتقاده واجبة والمشكوك فيها هي في قصده واجبة والاعتقاد متردد والمأموم إذا لم يعلم بحدث الإمام حتى قضيت الصلاة أعاد الإمام وحده وهو مذهب أحمد وغيره ويلزم الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره وليس له أن يزيد على القدر المشروع وينبغي أن يفعل غالباً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد ويزيد وينقص للمصلحة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد وينقص أحياناً والصلاة بالمسجد الحرام بمائة ألف وبمسجد المدينة بألف والصلاة في الأقصى بخمسمائة والجن ليسوا كالإنس في الحد والحقيقة لكنهم يشاركونهم في جنس التكليف بالأمر والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع بين العلماء وكان أبو العباس إذا أتى(1/431)
بالمصروع وعظ من صرعه وأمره ونهاه فإن انتهى وأفاق المصروع أخذ عليه العهد أن لا يعود وإن لم يأتمر ولم ينته ولم يفارقه ضربه على أن يفارقه والضرب في الظاهر يقع على المصروع وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه ولهذا لا يتألم من ضربه ويصحو ولا يقدم في الإمامة بالنسب وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد ويجب تقديم من قدمه الله ورسوله ولو مع شرط الواقف بخلافه فلا يلتفت إلى شرط يخالف شرط الله ورسوله وإذا كان بين الإمام والمأموم معاداة من جنس معاداة أهل الأهواء أن المذاهب لم ينبغ أن يؤمهم بالصلاة جماعة لأنها لا تتم إلا بالائتلاف ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وإذا فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد يتبعه المأموم فيه وإذا كان هو لا يراه مثل: القنوت في الفجر ووصل الوتر وإذا ائتم من يرى القنوت بمن لا يراه تبعه في تركه ولا تصح الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع والفسقة مع القدرة على الصلاة خلف غيرهم وتصح إمامة مَن عليه نجاسة يعجز عن إزالتها بمن ليس عليه نجاسة ولو ترك الإمام ركناً يعتقده المأموم ولا يعتقده الإمام صحت صلاته خلفه وهو إحدى الروايتين عن أحمد ومذهب مالك واختيار المقدسي وقال أبو العباس في موضع آخر لو فعل الإمام ما هو محرم عند المأموم دونه ما يسوغ فيه الاجتهاد صحت صلاته خلفه وهو المشهور عن أحمد وقال في موضع آخر أن الروايات المنقولة عن أحمد لا توجب اختلافاً وإنما ظواهرها أن كل موضع يقطع فيه بخطأ المخالف تجب الاعادة وما لا يقطع فيه بخطأ المخالف لا تجب الإعادة وهو الذي تدل عليه السنة والاثار وقياس الأصول وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء ولم يتنازعوا في أنه لا ينبغي تولية الفاسق ولا يجوز أن يقدم العامي على فعل لا يعلم جوازه ويفسق به إن كان مما يفسق به ذكره القاضي وتصح صلاة الجمعة ونحوها قدام الإمام لعذر وهو قول في مذهب أحمد مَن تأخر بلا عذر له فلما أذن جاء فصلى قدامه عُزِّر وتصح صلاة(1/432)
الفذ لعذر وقاله الحنفية وإذا لم يجد إلا موقفاً خلف الصف فالأفضل أن يقف وحده ولا يجذب مَن يصافه لما في الجذب من التحرف في المجذوب فإن كان المجذوب يطيعه قائماً أفضل له وللمجذوب الاصطفاف مع بقاء فرجة أو وقوف المتأخر وحده وكذلك لو حضر اثنان وفي الصف فرجة فأيهما أفضل: وقوفهما جميعاً أو سد أحدهما الفرجة وينفرد الآخر رجح أبو العباس الاصطفاف مع بقاء الفرجة لأن سد الفرجة مستحب والاصطفاف واجب وإذا ركع دون الصف ثم دخل الصف بعد اعتدال الإمام كان ذلك سائغاً ومن أخر الدخول في الصلاة مع إمكانه حتى قضى القيام أو كان القيام متسعاً لقراءة الفاتحة ولم يقرأها فهذا تجوز صلاته عند جماهير العلماء وأمّا الشافعي فعليه عنده أن يقرأ وإن تخلف عن الركوع وإنما تسقط قراءتها عنده عن المسبوق خاصة فهذا الرجل كان حقه أن يركع مع الإمام ولا يتم القراءة لأنه مسبوق والمرأة إذا كان معها امرأة أخرى تصاففها كان من حقها أن تقف معها وكان حكمها إن لم تقف معها حكم الرجل المنفرد عن صف الرجال وهو أحد القولين في مذهب أحمد وحيث صحت الصلاة عن يسار الإمام كرهت إلا لعذر والمأموم إذا كان بينه وبين الإمام ما يمنع الرؤية والاستطراق صحت صلاته إذا كانت لعذر وهو قول مذهب أحمد بل نص أحمد وغيره وينشأ مسجد إلى جنب آخر إذا كان محتاجاً إليه ولم يقصد الضرر فإنْ قُصد الضرر أو لا حاجة فلا ينشأ وهو إحدى الروايتين عن أحمد نقلها عنه محمد بن موسى ويجب هدمه وقاله أبو العباس فيما بنى بجوار جامع بني أمية ولا ينبغي أن يترك حضور المسجد إلا لعذر كما دلت عليه السنن والآثار ونهى عن اتخاذه بيتاً مقيلاً قاله أحمد في رواية حارث وقد سئل عن النساء يخرجن في العيد في زماننا قال: لا يعجبني هذا
انتهى وبهذا يعلم سائر الصلوات و الله سبحانه وتعالى أعلم(1/433)
باب صلاة أهل الأعذار
...
"باب صلاة أهل الاعذار لله"
متى عجز المريض عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة ولا يلزمه الإيماء بطرفه وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد ويكره إتمام الصلاة في السفر قال أحمد: لا يعجبني ونقل عن أحمد إذا صلى أربعاً أنه توقف في الإجزاء وتوقفه عن القول بالإجزاء يقتضي أنه يخرج على قولين في مذهبه ولم يثبت أن أحد من الصحابة كان يتم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في السفر وحديث عائشة في مخالفة ذلك لا تقوم به الحجة ويجوز قصر الصلاة في كل ما يُسمَّى سَفراً سواء قل أو كَثُر ولا يتقدر عده وهو مذهب الظاهرية ونصره صاحب "المغني" فيه وسواء كان مباحاً أو محرماً ونصره ابن عقيل في موضع وقاله بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي وسواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو لا وروى هذا عن جماعة من الصحابة وقرر أبو العباس قاعدة نافعة وهي: أن ما أطلقه الشارع بعمل يطلق مسمّاه ووجوده ولم يجز تقديره وتحديده بمدة فلهذا كان الماء قسمين طاهراً طهوراً أو نجساً ولا حد لأقل الحيض وأكثره ما لم تصر مستحاضة ولا لأقل سنة وأكثره ولا لأقل السفر أمّا خروجه إلى بعض علم أرضه وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى قباء فلا يسمّى سَفراً ولو كان بريداً ولهذا لا يتزود ولا يتأهب له أهبة السفر هذا مع قصره المدة فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر لا البعيدة في المدة القليلة ولا حد للدرهم والدينار فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية خالصاً أو مغشوشاً قل غشه أو كَثُر لا درهماً أسود عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما ولا تأجيل في الدية وأنه نص أحمد فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُؤجلها وإن رأى الإمام تأجيلها فعل لأن عمر أَجلَها فأيهما رأى الإمام فَعل وإلا فإيجاب أحد الأمريْن لا يسوغ والخلع فسخ مطلقاً والكفارة في كل أَيمان المسلمين وفروع هذه القاعدة مذكورة في هذا المختصر في مظانها(1/434)
ويوتر المسافر ويركع سنة الفجر ويسن تركه غيرهما والأفضل له التطوع في غير السنن الراتبة ونقله بعضهم إجماعاً والجمع بين الصلاتين في السفر يختص بمحل الحاجة لأنّه مِن رخص السفر من تقديم وتأخير وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عليه ويجمع لتحصيل الجماعة وللصلاة في الحمام مع جوازها فيه خوف فوات الوقت ولخوف يحرج في تركه وفي الصحيحين: من حديث ابن عباس أنه سئل لما فعل ذلك قال: أراد أن لا يحرج أحداً من أمته فلم يعلله بمرض ولا غيره وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد فإنّه جوَّز الجمع إذا كان له شغل كما روى النسائي ذلك مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأول القاضي وغيره نص أحمد على أن المراد بالشغل الذي يبيح ترك الجمعة والجماعة ولا موالاة في الجمع في وقت الأولى وهو مأخوذ من نص الإمام أحمد في جمع المطر إذا صلى إحدى الصلاتين في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس ومِن نصه في رواية أبي طالب والمروزي: للمسافر أن يصلي العشاء قبل أن يغيب الشفق وعلله أحمد بأنه يجوز له الجمع ويجمع ويقصر بمزدلفة وعرفة مطلقاً وهو مذهب مالك وغيره من السلف وقول طائفة من أصحاب الشافعي واختاره أبو الخطاب في "عباداته" ويجوز الجمع للمُرضع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في وقت كل صلاة ونَص عليه ويجوز الجمع أيضاً للطبَاخ والخبّاز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله وقال غيره بترك الجمع ولا يشترط للقصر والجمع نية واختاره أبو بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره وتصح صلاة الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرفقة أو حصول ضرر بالمشي أو تبرز للخفر ويصلي صلاة الخوف في الطريق إذا فات الوقوف بعرفة وهو أحد الوجوه الثلاثة في مذهب أحمد(1/435)
باب اللباس
...
"باب اللباس"
ولبس الحرير حيث يكون سدى بحيث يكون القطن والكتان أغلى قيمة(1/435)
منه وفي تحريمه إضرار بهم لأنّه أرخص عليهم يخرج على وجهين لتعارض لفظ النص ومعناه كالروايتين في إخراج غير الأصناف الخمسة إذا لم يكن قوتاً لذلك البلد ولو كان الظهور للحرير وهو أقل من غيره ففيه ثلاثة أوجه التحريم والكراهة والإباحة وحديث السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما ظهر فيه خيوط حرير أو سيور لا بد أن يُنسج مع غيرها من الكتان الحرير لأنّ ما فيه أو القطن فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها ولم يسأل هل وزن ذلك الموضع من القطن والكتان أكثر أم لا مع أن العادة أنه أقل فإن استويا فالأشبه بكلام أحمد التحريم والثياب القسية: ثياب مخطوطة بحرير
قال البخاري في "صحيحه": قال عاصم: عن أبي بردة: قلنا لعلي: ما القسية قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر مضلعة فيها حرير كأمثال الأترج وقال أبو عبيد: هي ثياب يؤتى بها من مصر فيها حرير فقد اتفقوا كلهم على أنها ثياب فيها حرير وليست حريراً مصمتاً وهذا هو الملحم والخز أخف من وجهين: أحدهما: أن سداه من حرير والسدي أيسر من اللحمة وهو الذي بيّن ابن عباس جوازه بقوله: فأما العلم والحرير والسدي لثوب فلا بأس به والثاني: أن الخز ثخين والحرير مستور بالوبر فيه فيصير بمنزلة الحشو والخز اسم لثلاثة أشياء: للوَبَر الذي يُنسج مع الحرير وهو وبر الأرنب واسم لمجموع الحرير والوبر واسم لرديء الحرير فالأول والثاني: حلال والثالث: حرام وجعل بعض أصحابنا المتأخرين الملحم والقسي والخز على الوجهيْن وجعل التحريم قول أبي بكر لأنّه حرَّم الملحم والقسي والإباحة قول ابن البناء لأنه أباح الخز وهذا لا يصلح لأنَّ أبا بكر قال: ويلبس الخز ولا يلبس الملحم ولا الديباج وأمّا المنصوص عن أحمد وقدماء الأصحاب فإباحة الخز دون الملحم وغيره فمَن زعم أن في الخز خلافاً فقد غلط وأمّا لبس الرجال الحرير كالكلوبة والقبا: فحرام على الرجال بالاتفاق على(1/436)
الأجناد وغيرهم لكن تنازع العلماء في لبسه عند القتال لغير ضرورة على قولين: أظهرهما الإباحة وأمَّا إن احتاج إلى الحرير في السلاح ولم يقم غيره مقامه فهذا يجوز بلا نزاع وأما إلباسه الصبيان الذي دون البلوغ ففيه روايتان أظهرهما: التحريم ولبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان ذلك دليلاً على إباحة ذلك وما هو في معناه وما هو أولى منه بالإباحة وما لم يكن كذلك يحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه وتباح المنطقة الفضة في أظهر قولي العلماء وكذلك التركاشي وغشاء القوس والنشاب والجوشن والقرقل والخوذة وكذلك حلية المهماز الذي يحتاج إليه لركوب الخيل والكلاليب التي يحتاج إليها أولى بالإباحة من الخاتم فإن الخاتم يتخذ للزينة وهذه للحاجة وهي متصلة بالسير ليست مفردة: كالخاتم ولا حد للمباح من ذلك وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم لباس الفضة على الرجال وعلى النساء
وإنّما حرم على الرجال لبس الذهب والحرير وحرم آنية الذهب والفضة والرخصة في اللباس أوسع من الآنية لأن حاجتهم إلى اللباس أشد وتنازع العلماء في يسير الذهب في اللباس والسلاح على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره: أحدها: لا تباح والثاني: تباح في السيف خاصة والثالث: تباح في السلاح وكان عثمان بن حنيف في سيفه مسمار من ذهب والرابع: وهو الأظهر أنه يباح يسير الذهب في اللباس والسلاح فيباح طراز الذهب إذا كان أربعة أصابع فما دونها وخز القبان وحيلة القوس كالسرج والبردين ونحو ذلك وحديث: "لا يباح من الذهب ولو خربصيصة" وخز بصيصة: عين الجرادة محمول على الذهب المفرد: كالخاتم ونحوه والحديث رواه الإمام أحمد في "مسنده" وجعل القاضي وابن عقيل تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من قسم المكروه والصحيح: أنه محرم وحكى بعض أصحابنا التحريم رواية وما كان من(1/437)
لبس الرجال مثل: العمامة والخف والقبا الذي للرجال والثياب التي تبدي مقاطع خلقها والثوب الرقيق الذي لا يستر البشرة وغير ذلك فإنَّ المرأة تنهى عنه وعلى وليها كأبيها وزوجها أن ينهاها عن ذلك وهذه العمائم التي تلبسها النساء على رؤوسهن حرام بلا ريب
قال أبو العباس: وقد سُئل عن لبس القبا والنظري ليس له التشبيه في لباسه بلباس أعداء المسلمين واللباس والزي الذي يتخذه بعض النساك من الفقراء والصوفية والفقهاء وغيرهم بحيث يصير شعاراً فارقاً كما أمر أهل الذمة بالتمييز عن المسلمين في شعورهم وملابسهم
فيه مسألتان: المسألة الأولى: هل يشرع ذلك استحباباً لتميز الفقير والفقيه من غيره فإنّ طائفة من المتأخرين استحبوا ذلك وأكثر الأئمة لا يستحبون ذلك بل قد كانوا يكرهونه لما فيه من التمييز عن الأمة وبثوب الشهرة
أقول: هذا فيه تفصيل في كراهته وإباحته واستحبابه فإنْ يجمع من وجه ويفرق من وجه
المسألة الثانية: إن لبس المرقعات والمصبغات والصوف من العباءة وغير ذلك: فالناس فيه على ثلاثة طرق: منهم مَنْ يكره ذلك مطلقاً: إما لكونه بدعة وإما لما فيه من إظهار الدين ومنهم مَن استحبه بحيث يلزمه ويمتنع من تركه وهو حال كثير ممن ينسب إلى الخرقة واللبسة وكلا القولين والفعلين خطأ والصواب: أنه جائز: كلبس غير ذلك وأنه يستحب أن يرقع الرجل ثوبه للحاجة كما رقع عمر بن الخطاب ثوبه وعائشة وغيرهما من السلف وكما لبس قوم الصوف للحاجة ويلبس أيضاً للتواضع والمسكنة مع القدرة على غيره كما جاء في الحديث: "من ترك جيد اللباس وهو يقدر كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة" فأما تقطيع الثوب الصحيح وترقيعه فهذا فساد وشهرة وكذلك تعمد صبغ الثوب لغير فائدة أو حك الثوب ليظهر التحتاني أو المغالاة في الصوف الرفيع ونحو ذلك مما فيه إفساد المال ونقص قيمته أو فيه إظهار التشبه بلباس أهل التواضع والمسكنة مع ارتفاع قيمته وسعره فإنَّ هذا من النفاق والتلبيس فهذان النوعان فيهما إرادة العلو في الأرض أو الفساد والدار الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً مع ما في ذلك من النفاق وأيضاً فالتقييد بهذه اللبسة بحيث يكره اللابس غيرها أو يكره أصحابه أن لا يلبسوا غيرها هو أيضاً منهى عنه وليس للإنسان أن يطول القميص والسراويل وسائر اللباس أسفل من الكعبين لله.(1/438)
باب صلاة الجمعة
...
"باب صلاة الجمعة "
وتجب الجمعة على مَنْ أقام في غير بناء كالخيام وبيوت الشعر ونحوها وهو أحد قولي الشافعي وحكى الأزجي رواية عن أحمد ليس على أهل البادية جمعة لأنهم ينتقلون فأسقطها عنهم وعلل بأنهم غير مستوطنين
وقال أبو العباس في موضع آخر يشترط مع إقامتهم في الخيام ونحوها أن يكونوا يزرعون كما يزرع أهل القرية ويحتمل أن تلزم الجمعة مسافراً له القصر تبعاً للمقيمين وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحد يخطب واثنان يستمعان وهو إحدى الروايات عن أحمد وقول طائفة من العلماء وقد يقال بوجوبها على الأربعين لأنّه لم يثبت وجوبها على مَن دونهم وتصح ممن دونهم لأنه انتقال إلى أعلى الفرضين: كالمريض بخلاف المسافر فإنَّ فرضه ركعتان ولا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت بل لا بد من مُسمَّى الخطبة عرفاً ولا تحصل باختصار يَفُوت به المقصود ويجب في الخطبة أن يشهد أن محمداً عبده ورسوله وأوجب أبو العباس في موضع آخر الشهادتين وتردد في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة وقال في موضع آخر ويحتمل وهو الأشبه أن تجب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيها ولا تجب مفردة لقول عمر وعلي: الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم وتقدم الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم على الدعاء لوجوب تقديمه على النفس وأمّا الأمر بتقوى الله فالواجب أما معنى ذلك وهو الأشبه من أن يقال: الواجب لفظ التقوى ومن أوجب لفظ التقوى فقد يحتج بأنها جاءت بهذا اللفظ في قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} النساء: 131 وليست كلمة أجمع لما أمر الله من كلمة التقوى قال الإمام أحمد في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الأعراف: 204: أجمع الناس أنها نزلت في الصلاة وقد قيل في الخطبة: والصحيح أنها نزلت في ذلك كله وظاهر كلام أبي العباس أنّها تدل على وجوب الاستماع وصرح بأنها تدل على وجوب القراءة في الخطبة لأنَّ كلمة إذا إنّما تقولها العرب فيما لا بد من وقوعه لا فيما يحتمل الوقوع(1/439)
وعدمه لأن إذا ظرف لما يُستقبل من الزمان يتضمن معنى الشرط غالباً والظرف للفعل لابد أن يشتمل على الفعل وإلا لم يكن ظرفاً والسُّنة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه سراً كالدعاء أما رفع الصوت بها قدام بعض الخطباء فمكروه أو محرم اتفاقاً لكن منهم مَن يقول: يُصلي عليه سراً ومنهم مَن يقول: يسكت ودعاء الإمام بعد صعوده لا أصل له ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة وهو أصح الوجهين لأصحابنا لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما كان يشير بأصبعه إذا دعا وأمّا في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر ويقرأ في أولى فجر الجمعة آلم السجدة وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الآنْسَانِ} الانسان: 1 ويكره مداومته عليهما وهو منصوص أحمد وغيره ويكره تحري سجدة غيرها والسنة إكمال السجدة و {هَلْ أَتَى} الانسان: 1 وصلاة الركعتين قبل الجمعة سُنّة مشروعة ولا يداوم عليها إلا لمصلحة ويحرم تخطي رقاب الناس
وقال أبو العباس في موضع آخر ليس لأحد أن يتخطى الناس ليدخل في الصف إذا لم يكن بين يديه فُرجة لا يوم الجمعة ولا غيره لأنَّ هذا من الظلم والتعدي لحدود الله تعالى وإذا فرش مصلى ولم يجلس عليه ليس له ذلك ولغيره رفعه في أظهر قولي العلماء وإذا وقع العيد يوم الجمعة فاجتزي بالعيد وصلى ظهراً جاز إلا للإمام وهو مذهب أحمد وأمَّا القُصاص الذين يقومون على رؤوس الناس ثم يسألون فهؤلاء منعهم من أهم الأمور فإنَّهم يكذبون ويتخطون الناس ويشغلون الناس ويشغلون عما يشرع في الصلاة والقراءة والدعاء لا سيما أن قَصُّوا أو سألوا والإمام يخطب فإنَّ هذا من المنكرات الشنيعة التي ينبغي إزالتها باتفاق الأئمة وينبغي لولاة الأمور أن يمنعوا من هذه المنكرات كلها فإنّهم متصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1/440)
باب صلاة العيدين
...
"باب صلاة العيدين"
وهي فرض عملي وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد وقد يقال بوجوبها على النساء ومن شرطها الاستيطان وعدد الجمعة ويفعلها المسافر والعبد(1/440)
والمرأة تبعاً ولا يستحب قضاؤها لمن فاتته منهم وهو قول أبي حنيفة ويستفتح خطبتها بالحمد لله لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه افتتح خطبة بغيرها والتكبير في عيد الأضحى مشروع باتفاق وكذا مشروع في عيد الفطر عند مالك والشافعي وأحمد وذكر الطحاوي ذلك مذهباً لأبي حنيفة وأصحابه والمشهور عنهم خلافه والتكبير فيه هو المأثور عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتكبير فيه آكد من جهة أمر الله به والتكبير أوله من رؤية الهلال وآخره انقضاء العيد وهو فراغ الإمام من الخطبة على الصحيح والتكبير في عيد النحر آكد من جهة أنّه ُ أدبار الصلاة وأنه متفق عليه وعيد النحر أفضل من عيد الفطر ومِن سائر الأيام والاستغفار المأثور عقيب الصلوات وقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام هل يقدم على التكبير والتلبية أم يقدمان عليه كما يقدم عليه سجود السهو وبَيَّض لذلك أبو العباس والذي يدل عليه كلام أحمد في أكثر المواضع وهو الذي تدل عليه السنة وآثار السلف أن الاجتماع على الصلاة أو القراءة وسماعها أو ذكر الله تعالى أو دعائه أو تعليم العلم أو غير ذلك نوعان: نوع شرع اجتماع له على وجه المداومة وهو قسمان: قسم يدور بدوران الأوقات: كالجمعة والعيدين والحج والصلوات الخمس أو يتكرر بتكرر الأسباب: كصلاة الاستسقاء والكسوف والآيات والقنوت في النوازل والمؤقت فرضه ونفله إمّا أنْ يعود بعود اليوم وهو الذي يسمّى عمل يوم وليلة: كالصلوات الخمس وسننها: الرواتب والوتر والأذكار والأدعية المشروعة طرفي النهار وزلفاً من الليل وإمّا أنْ يعود بعود الأسبوع: كالجمعة وصوم الاثنين والخميس وإمّا أن يعود بعود الشهر كصيام أيام البيض أو ثلاثة أيام من كل شهر(1/441)
والذكر المأثور عند رؤية الهلال وإمّا أن يعود بعود الحلول: كصيام شهر رمضان والعيديْن والحج والمتسبب ماله سبب وليس له وقت محدود: كصلاة الاستسقاء والكسوف وقنوت النوازل وما لم يُشرع فيه الجماعة: كصلاة الاستخارة وصلاة التوبة وصلاة الوضوء وتحية المسجد ونحو ذلك مما لم يذكر نوعه في باب صلاة التطوع والأوقات المنهى عن الصلاة فيها
والنوع الثاني: ما لم يُسنْ له الاجتماع المعتاد الدائم: كالتعريف في الأمصار والدعاء المجتمع عليه عقب الفجر والعصر والصلاة والتطوع المطلق في جماعة والاجتماع لسماع القرآن وتلاوته أو سماع العلم والحديث ونحو ذلك فهذه الأمور لا يكره الاجتماع لها مطلقاً ولم يسن مطلقاً بل المداومة عليها بدعة فيستحب أحياناً ويباح أحياناً وتكره المداومة عليها وهذا هو الذي نص عليه أحمد في الاجتماع على الدعاء والقراءة والذكر ونحو ذلك والتفريق بين السنة والبدعة في المداومة أمر عظيم ينبغي التفطن له(1/442)
باب صلاة الكسوف
...
"باب صلاة الكسوف"
ويجهر بالقراءة في صلاة الكسوف ولو نهاراً وهو مذهب أحمد وغيره وتصلى صلاة الكسوف لكل آية كالزلزلة وغيرها وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد وقول محققي أصحابنا وغيرهم ولا كسوف إلا في ثامن وعشرين أو تاسع وعشرين ولا خسوف إلا في إبدار القمر والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ك
مسألة اليمين به والتوسل بالإيمان به وطاعته ومحبته والصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وبدعائه وشفاعته مما هو فعله أو أفعال العباد المأمور بها في حقه مشروع إجماعاً وهو مِن الوسيلة المأمور بها في قوله: {تَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} المائدة: 35 وقصد القبر للدعاء عنده رجاء الإجابة بدعة لا قربة باتفاق الأئمة وقول القائل: أنا في(1/442)
بركة فلان وتحت نظره إن أراد بذلك أن نظره وبركته مستقلة بتحصيل المصالح ودفع المضار فكذب وإن أراد أن فلاناً دعا لي فانتفعت بدعائه أو أنّه علمني وأدبني فأنا في بركة ما انتفعت به من تعليمه وتأديبه فصحيح وإنْ أراد بذلك أنه بعد موته يجلب المنافع ويدفع المضار أو مجرد صلاحه ودينه وقربه من الله ينفعني من غير أن يطيع الله فكذب(1/443)
باب الجنائز
...
" كتاب الجنائز"
واختلف أصحابنا وغيرهم في عيادة المريض وتشميت العاطس وابتداء السلام والذي يدل عليه النص وجوب ذلك فيقال: هو واجب على الكفاية
الأديان عند الموت على العبد ليس أمراً عاماً لكل أحد ولا هو أيضاً منفياً عن كل أحد بل مِن الناس مَن لا يُعرض عليه الأديان ومنهم من يعرض عليه وذلك كله مِن فتنة المحيا التي أمرنا أن نستعيذ في صلاتنا منها ووقت الموت يكون الشيطان أحرص ما يكون على إغواء بني آدم وعمل القلب من التوكل والخوف والرجاء وما يتبع ذلك والصبر واجب بالاتفاق ولا يلزم الرضا بمرض وفقر وعاهة وهو الصحيح من المذهب والصبر تنافيه الشكوى والصبر الجميل تنافيه الشكوى إلى المخلوق لا إلى الخالق بل هي مطلوبة بإجماع المسلمين قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} الأنعام: 42 إلى غير ذلك من الايات وينبغي للمؤمن أن يكون خوفه ورجاؤه واحداً فأيهما غلب هلك صاحبه ونص عليه الإمام أحمد لأن من غلب خوفه وقع في نوع من اليأس ومن غلب رجاؤه وقع في نوع من الأمن من مكر الله وتعتبر المصلحة في العبادة الدعائية ولا يشهد بالجنة إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أو اتفقت الأمة على الثناء عليه وهو أحد القولين وتواطؤ الرؤيا لتواطئ الشهادات ومَن ظنَّ أن غيره لا يقوم بأمر الميت تعين(1/443)
عليه وقاله القاضي وغيره في فرض الكفاية وتستحب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة ولا تجب وهو ظاهر نقل أبي طالب ويصلي على الجنازة مرة بعد أخرى لأنه دعاء وهو وجه في المذهب واختاره ابن عقيل في القنوت وقال أبو العباس في موضع آخر ومن صلى على الجنازة فلا يعيدها إلا لسبب مثل أن يعيد غيره الصلاة فيعيدها معه أو يكون هو أحق بالإمامة من الطائفة التي صلت أولاً فيصلي بهم ويصلي على القبر إلى شهر وهو مذهب أحمد
صلى على جنازة وهي على أعناق الرجال وهي واقفة فهذا له مأخذان الأول استقرار المحل فقد يخرج على الصلاة في السفينة وعلى الراحلة مع استيفاء الفرائض وإمكان الانتقال وفيه روايتان والثاني اشتراط محاذاة المصلي للجنازة فلو كانت أعلى من رأسه فهذا قد يخرج على علو الإمام على المأموم فلو وضعت على كرسي عالٍ أو منبر ارتفع المحذور الأول دون الثاني
قلت: قال أبو المعالي: لو صلى على جنازة وهي محمولة على الأعناق أو على دابة أو صغير على يدي رجل لم يجز لأن الجنازة بمنزلة الإمام وقال صاحب "التلخيص" وجماعة: يشترط حضور السرير بين يدي المصلي ولا يصلي على الغائب عن البلد إن كان صلى عليه وهو وجه في المذهب ومقتضى اللفظ أن من هو خارج السور أو ما يقدر سوراً يصلي عليه أمّا الغائب فهو الذي يكون انفصاله عن البلد بما يعد الذهاب إليه نوع سفر وقال القاضي وغيره: أنه يكفي خمسون خطوة وأقرب الحدود ما يجب فيه الجمعة لأنه إذا كان من أهل الصلاة في البلد فلا يُعد غائباً عنه ولا يصلي كل يوم على غائب لأنه لم ينقل يؤيده قول الإمام أحمد: إذا مات رجل صالح صلي عليه واحتج بقصة النجاشي وما يفعله بعض الناس من أنه كل ليلة يصلي على جميع من مات من المسلمين في ذلك اليوم لا ريب أنه بدعة ومَن مات وكان لا يزكي ولا يصلي إلا في رمضان ينبغي لأهل العلم والدين أن يدعوا الصلاة عليه عقوبة ونكالاً لأمثاله لتركه صلى الله عليه وسلم الصلاة على القاتل نفسه وعلى الغال والمدين الذي له وفاء ولا بد أن يصلي عليه بعض الناس وإن كان منافقاً كمن علم نفاقه لم يصل(1/444)
عليه ومن لم يعلم نفاقه صلى عليه ولا يجوز لأحد أن يَترحم على مَن مات كافراً ومَن مات مُظهراً للفسق مع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر ومَن امتنع من الصلاة على أحدهم زجراً لأمثاله عن مثل فعله كان حسناً ولو امتنع في الظاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان أولى من تفويت إحداهما وترك النبي صلى الله عليه وسلم غسل الشهيد والصلاة عليه يدل على عدم الوجوب أما استحباب الترك فلا يدل على تحريم الفعل ويتبع الجنازة ولو لأجل أهله فقط إحساناً إليهم لتألفهم أو مكافأة أو غير ذلك روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "الميت يبعث يوم القيامة في ثيابه التي قبض فيها" أخرجه ابن ماجه في "صحيحه" وغيره وحمله أبو سعيد الخدري على أن الثياب التي يموت فيها العبد هي ما مات عليه من العمل سواء كان صالحاً أو سيئاً ورجح أبو العباس هذا بأن الذي جاء في الحديث أنه يبعث على ما مات عليه رواه أبو حاتم في "صحيحه" وقال: الأحاديث الصحيحة تبين أنهم يحشرون عراة ويستحب القيام للجنازة إذا مرت به وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار ابن عقيل وإذا كان مع الجنازة منكر وهو عاجز عن إزالته تبعها على الصحيح وهو إحدى الروايتين وأنكر بحسبه ويكره رفع الصوت مع الجنازة ولو بالقراءة اتفاقاً وضرب النساء بالدف مع الجنازة منكر منهي عنه ومن بنى في مقبرة المسلمين ما يختص به فهو عاص وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ويحرم الإسراج على القبور واتخاذ المساجد عليها وبينها ويتعين إزالتها
قال أبو العباس: ولا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين وإذا لم يمكنه المشي إلى المسجد إلا على الجبابة فله ذلك ولا يترك المسجد ويستحب أن يدعو للميت عند القبر بعد الدفن واقفاً قال أحمد: لا بأس به قد فعله علي والأحنف وروى سعيد عن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف فيدعو ولأنه معتاد بدليل قوله تعالى في المنافقين: {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} التوبة: 84 وهذا هو المراد(1/445)
على ما ذكره المفسرون وتلقين الميت بعد موته ليس بواجب بإجماع المسلمين ولكن من الأئمة من رخص فيه كالإمام أحمد وقد استحبه طائفة من أصحابه وأصحاب الشافعي ومِن العلماء من يكرهه لاعتقاده أنه بدعة كما يقوله من يقوله من أصحاب مالك وغيره فالأقوال فيه ثلاثة: الاستحباب والكراهة والإباحة وهو أعدل الأقوال وغير المكلف يُمتحن ويسأل وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد قاله أبو حكيم وغيره ويكره دفن اثنين فأكثر في قبر واحد وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختارها جماعة من الأصحاب وحديث عقبة بن عامر ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا فسر بعضهم القبر بأنه الصلاة على الجنازة وهذا ضعيف لأن صلاة الجنازة لا تكره في هذا الوقت بالإجماع وإنّما معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات كما يكره تعمد تأخير صلاة العصر إلى إصفرار الشمس بلا عذر فأما إذا وقع الدفن في هذه الأوقات بلا تعمد فلا يكره ولا يستحب للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه والعبد لا يدري أين يموت وإذا كان مقصود الرجل الاستعداد للموت فهذا يكون من العمل الصالح ويستحب البكاء على الميت رحمة له وهو أكمل من الفرح لقوله صلى الله عليه وسلم: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده" متفق عليه والميت يتأذى بنوح أهله عليه مطلقاً قاله طائفة من العلماء وما يهيج المصيبة من انشاد الشعر والوعظ فمِن النائحة وفي "الفنون" لابن عقيل ما يوافقه ويحرم الذبح والتضحية عند القبر ونقل أحمد كراهة الذبح عند القبر ولهذا كره العلماء الأكل من هذه الذبيحة
وقال أبو العباس في موضع آخر وإخراج الصدقة مع الجنازة بدعة مكروهة وهي تشبه الذبح عند القبر ولا يشرع شيء من العبادات عند القبور الصدقة وغيرها ويجوز زيارة قبر الكافر للاعتبار ولا يمنع الكافر من زيارة قبر أبيه المسلم واستفاضت الآثار بمعرفة الميت أهله وبأحوال أهله وأصحابه في الدنيا(1/446)
وإن ذلك يعرض عليه وجاءت الآثار بأنه يرى أيضاً وبأنه يدري بما يفعل عنده فيسر بما كان حسناً ويتألم بما كان قبيحاً وتجتمع أرواح الموتى فينزل الأعلى إلى الأدنى لا العكس ولا تتبع النساء الجنائز ونقل الجماعة عن أحمد كراهة القرآن على القبور وهو قول جمهور السلف وعليها قدماء أصحابه ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن القراءة عند القبر أفضل ولا رخَّص في اتخاذه عيداً كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم أو الذكر أو الصيام واتخاذ المصاحف عند القبر بدعة ولو للقراءة ولو نفع الميت لفعله السلف بل هو عندهم كالقراءة في المساجد ولم يقل أحد من الأئمة المعتبرين أن الميت يُؤجر على استماعه للقرآن ومَنْ قال: أنه ينتفع بسماعه دون ما إذا بعد فقوله باطل يخالف الإجماع والقراءة على الميت بعد موته بدعة بخلاف القراءة على المحتضر فإنّها تستحب بياسين وقال أبو العباس في غرس الجريدتين نصفين على القبرين: إن الشجر والنبات يسبح ما دام اخضر فإذا يبس انقطع تسبيحه والتسبيح والعبادة عند القبر مما توجب تخفيف العذاب كما يخفف العذاب عن الميت بمجاورة الرجل الصالح كما جاءت بذلك الآثار المعروفة ولا يمتنع أن يكون في اليابس من النبات ما قد يكون في غيره من الجامدات مثل حنين الجذع اليابس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر والمدر عليه وتسبيح الطعام وهو يؤكل وهذا التسبيح تسبيح مسموع لا بالحال كما يقوله بعض النظار وأما هذه الأوقاف على الترب ففيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن وتلاوته هذه الأموال معونة على ذلك وحاضَّة عليه إذ قد يدرس حفظ القرآن بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه وفيها مفاسد أخر من حصول القراءة لغير الله والتأكل بالقرآن وقراءته على غير الوجه المشروع واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة فمتى أمكن تحصيل هذه المصحلة بدون ذلك الفساد جاز والوجه النهي عن ذلك المنع وإبطاله وإن حصول مفسدة أكثر من ذلك(1/447)
لم يدفع أدنى الفسادين باحتمال لأعلاهما ولم يكن من عادة السلف إذا صلوا تطوعاً أو صاموا تطوعاً أو حجوا تطوعاً أو قرأوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين فلا ينبغي العدول عن طريق السلف فإنّه أفضل وأكمل وقال أبو العباس في موضع آخر الصحيح أنه ينتفع الميت بجميع العبادات البدنية من الصلاة والصوم والقراءة كما ينتفع بالعبادات المالية من الصدقة والعتق ونحوهما باتفاق الائمة وكما لو دعا له واستغفر له والصدقة على الميت أفضل من عمل ختمة وجمع الناس ولو أوصى الميت أن يصرف مال في هذه الختمة وقصده التقرب إلى الله صرف إلى محاويج يقرأون القرآن وختمة أو أكثر وهو أفضل من جمع الناس ولا يستحب القرب للنبي صلى الله عليه وسلم بل هو بدعة هذا الصواب المقطوع به
قال أبو العباس: وأقدم مَن بلغنا أنه فعل ذلك علي بن الموفق أحد الشيوخ المشهورين كان أقدم من الجنيد أحمد طبقته وعاصره وعاش بعده واتفق السلف والأئمة على أنَّ مَنْ سلم على النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والصالحين فإنَّه لا يُتَمسح بالقبر ولا يقبله بل اتفقوا أنه لا يسلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود اليماني يستلم ولا يقبل على الصحيح
قلت: بل قال إبراهيم الحربي: يستحب تقبيل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم و الله أعلم وإذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة ودعا في المسجد ولم يدعُ مستقبلاً للقبر كما كان الصحابة يفعلونه وهذا بلا نزاع أعلمه وما نقل عن مالك فيما يخالف ذلك مع المنصور فليس بصحيح وإنّما تنازعوا في وقت التسليم هل يستقبل القبر أو القبلة فقال أصحاب أبي حنيفة: يستقبل القبلة والأكثرون على أنه يستقبل القبر وتغشية قبور الأنبياء والصالحين وغيرهم ليس في الدين والصواب الذي عليه المحققون أن الخضر عليه السلام ميت لم يدرك الإسلام وعيسى بن مريم عليه السلام لم يمت بحيث فارقت روحه بدنه بل هو حي مع كونه توفي والتوفي الاستيفاء وهو يصلح لتوفي النوم ولتوفي الموت الذي هو فراق الروح البدن ولم يذكر القبض الذي هو قبض الروح والبدن جميعاً ونهى النساء عن زيارة القبور هل هو نهي تنزيه أم تحريم فيه قولان وظاهر(1/448)
كلام أبو العباس ترجيح التحريم لاحتجاجه بلعن النبي صلى الله عليه وسلم زائرات القبور وتصحيحه إياه ورواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وأنه لا يصح ادعاء النسخ بل هو باق على حكمه والمرأة لا يشرع لها زيارة لا الزيارة الشرعية ولا غيرها اللهم إلا إذا اجتازت بقبر بطريقها فسلمت عليه ودعت له فهذا أحسن ولا يحل للمرأة أن تحد فوق ثلاث إلا على زوجها وهذا باتفاق المسلمين ويستحب أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم ولا يصلحون هم طعاماً للناس وهو مذهب أحمد وغيره ولا بد أن تكون مقابر أهل الذمة متميزة عن مقابر المسلمين وكلما بعدت كان أصلح ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب أو النعيم لروح الميت وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة وأيضاً تتصل بالبدن أحياناً فيحصل له معها النعيم أو العذاب ولأهل السنة قول آخر أن النعيم أو العذاب يكون للبدن دون الروح وعلماء الكلام لهم أقوال شاذة فلا عبرة بها وروح الآدمي مخلوقة وقد حكى الإجماع على ذلك محمد بن نصر المروزي وغيره
"فصل"
قال عبد العزيز الكتاني المحدث المعروف: ليس من قبور الأنبياء ما يثبت إلا قبر نبينا صلى الله عليه وسلم
وقال غيره: وقبر إبراهيم أيضاً وذكر ابن سعد في كتاب "الطبقات" عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة قال: لا نعلم قبر نبي من الأنبياء إلا ثلاثة قبر إسماعيل فإنه تحت الميزاب بين الركن والبيت وقبر هود في كثيب من الرمل تحت جبل من جبال اليمن عليه شجرة تبدو موضعه أشد الأرض حراً وقبر نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين
قال أبو العباس: والقبة التي على العباس بالمدينة يقال: فيها سبعة: العباس والحسن وعلي بن الحسن وأبو جعفر محمد بن علي وجعفر بن محمد ويقال: أن فاطمة تحت الحائط أو قريب من ذلك وأن رأس الحسين هناك وأما القبور المكذوبة منها القبر المضاف إلى أُبي بن كعب في دمشق والناس متفقون على أن أبي بن كعب مات بالمدينة النبوية(1/449)
ومَن قال: أن بظاهر دمشق قبر أم حبيبة وأم سلمة أو غيرهما من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب ولكن بالشام من الصحابيات امرأة يقال لها: أم سلمة بنت يزيد بن السكن فهذه توفيت بالشام فهذه قبرها محتمل وأمّا قبر بلال فممكن فإنّه دُفن بباب الصغير بدمشق فيعلم أنّه دفن هناك وأما القَطْعُ بتعيين قبره ففيه نظر فإنّه يقال: أن تلك القبور حرثت ومنها القبر المضاف إلى أويس القرني غربي دمشق فإنَّ أويساً لم يجئ إلى الشام وإنّما ذهب إلى العراق ومنها القبر المضاف إلى هود عليه السلام بجامع دمشق كذب باتفاق أهل العلم فإنّ هوداً لم يجئ إلى الشام بل بعث باليمن وهاجر إلى مكة فقيل: أنه مات باليمن وقيل: أنه مات بمكة وإنّما ذلك قبر معاوية بن يزيد بن معاوية الذي تولى الخلافة مدة قصيرة ثم مات ولم يعهد إلى أحد وكان فيه دين وصلاح ومنها قبر خالد بحمص يقال أنه قبر خالد بن يزيد بن معاوية أخو معاوية هذا ولكن لما اشتهر أنه خالد والمشهور عند العامة أنه خالد بن الوليد وقد اختلف في ذلك هل هو قبره أو قبر خالد بن يزيد وذكر أبو عمر بن عبد البر في "الإستيعاب": أن خالد بن الوليد توفي بحمص وقيل: بالمدينة سنة إحدى وعشرين أو اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- وأوصى إلى عمر و الله أعلم ومنها قبر أبي مسلم الخَوْلاني الذي بداريا اختلف فيه
ومنها قبر علي بن الحسين الذي بمصر فإنه كذب قطعاً فإن علي بن الحسين توفي بالمدينة بإجماع ودفن بالبقيع ومنها مشهد الرأس الذي بالقاهرة فإن المصنفين في مقتل الحسين اتفقوا على أن الرأس ليس بمصر ويعلمون أن هذا كذب وأصله أنه نقل من مشهد بعسقلان وذلك المشهد بُني قبل هذا بنحو من ستين سنة أو أواخر المائة الخامسة وهذا بني في أثناء المائة السادسة بعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- بنحو ثلثمائة عام(1/450)
وقد بيّن كذب المشهد أبو دحية في "العلم المشهور" وأن الرأس دفن بالمدينة كما ذكره الزبير بن بكار والذي صح من حمل الرأس ما ذكره البخاري في "صحيحه": أنه حمل إلى عبيد الله بن زياد وجعل ينكث بالقضيب على ثناياه وقد شهد ذلك أنس بن مالك وفي رواية أبو برزة الأسلمي وكلاهما كان بالعراق وقد روي بإسناد منقطع أو مجهول: أنه حمل إلى يزيد وجعل ينكث بالقضيب على ثناياه وأن أبا برزة كان حاضراً وأنكر هذا وهذا كذب فإن أبا برزة لم يكن بالشام عند يزيد بل كان بالعراق وأما بدن الحسين فبكربلاء بالاتفاق
قال أبو العباس: وقد حدثني طائفة عن ابن دقيق العيد وطائفة عن أبي محمد عبد الملك بن خلف الدمياطي وطائفة عن أبي بكر محمد بن أحمد القسطلاني وطائفة عن أبي عبد الله القرطبي صاحب "التفسير" كل هؤلاء حدثني عنه من لا اتهمه وحدثني عن بعضهم عدد كثير كل يحدثني عمن حدثه من هؤلاء: أنه كان ينكر أمر هذا المشهد ويقول: أنه كذب وليس فيه قبر الحسين ولا شيء منه والذين حدثوني عن ابن القسطلاني ذكروا عنه أنه قال: إنما فيه غيره ومنها قبر علي -رضي الله عنه- الذي بباطن النجف فإنَّ المعروف عند أهل العلم أن علياً دفن بقصر الإمارة بالكوفة كما دفن معاوية بقصر الإمارة بالشام ودفن عمرو بقصر الإمارة بمصر خوفاً عليهم من الخوارج أن ينبشوا قبورهم ولكن قيل أن الذي بالنجف قبر المغيرة بن شعبة ولم يكن أحد يذكر أنه قبر علي ولا يقصد أحد أكثر من ثلثمائة سنة ومنها قبر عبد الله بن عمر في الجزيرة متفقون على أن عبد الله بن عمر مات بمكة عام قتل ابن الزبير وأوصى أن يدفن بالحل لكونه من المهاجرين فشق(1/451)
ذلك عليهم فدفنوه بأعلى مكة ومنها قبر جابر الذي بظاهر حران متفقون على أن جابراً توفي بالمدينة وهو آخر من مات من الصحابة بها ومنها قبر نُسب إلى أم كلثوم ورقية بالشام وقد اتفق الناس أنهما ماتا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة تحت عثمان وهذا إنما هو سبب اشتراك الأسماء لعل شخصاً يسمى باسم من ذكر توفي ودفن في موضع من المواضع المذكورة فظن بعض الجُهال أنه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين و الله أعلم(1/452)
كتاب الزكاة
...
" كتاب الزكاة"
لا تجب في دين مؤجل أو على معسر أو مماطل أو جاحد ومغصوب ومسروق وضال وما دفنه ونسيه جهل عند من هو ولو حصل في يده وهو رواية عن أحمد واختارها وصححها طائفة من أصحابه وقول أبي حنيفة
الدين الذي له على أبيه قال أبو العباس: الأشبه عندي أن يكون بمنزلة المال الضال فيخرَّج على الروايتين ووجهه ظاهر فإنَّ الابن غير ممكن من المطالبة به فقد حيل بينه وبينه ولو قيل: لا تلزمه زكاته بمنزلة دين الكتابه لكان متوجهاً ودين الولد هل يمنع الزكاة عن الأب لثبوته في الذمة أم لا لتمكنه من إسقاطه خرَّجه أبو العباس على وجهين وجعل أصلهما الخلاف على أن قدرة المريض على استرجاع ملكه المنتقل عنه عيناً أو غيره هل ينزل منزلة تبرعه في المرض أم لا وتجب الزكاة في جميع أجناس الأجرة المقبوضة ولا يعتبر لها مضي حول وهو رواية عن أحمد ومنقول عن ابن عباس ويصح أن يشترط رب المال زكاة(1/452)
رأس المال أو بعضه من الربح ولا يقال بعدم الصحة ونقله المروزي عن أحمد لأنه قد تحيط الزكاة بالربح فيختص رب المال بعمله لأنا نقول: لا يمتنع ذلك كما يختص بنفعه في المساقاة إذا لم يثمر الشجر وبركوب الفرس للجهاد إذا لم يغنموا وهل يعتبر في وجوب الزكاة إمكان الأداء فيه روايتان ولو تلف النصاب بغير تفريط من المالك لم يضمن الزكاة على ذلك من الروايتين واختاره طائفة من أصحاب أحمد ولو كان المانع من الزكاة ديون لم يقم يوم القيامة بالزكاة لأن عقوبتها أعظم ولا يحل الاحتيال لإسقاط الزكاة ولا غيرها من حقوق الله تعالى وإذا كانت الماشية سائمة اكثر الحول وجبت الزكاة فيها على الصحيح وإذا نُقل الزكاة إلى المستحقين بالمصر الجامع مثل أن يعطي مَن بالقاهرة من العشور التي بأرض مصر فالصحيح جواز ذلك فإنَّ سكان المصر إنما يعانون من مزارعهم بخلاف النقل من إقليم مع حاجة أهل المنقول عنها وإنّما قال السلف: جيران المال أحق بزكاته وكرهوا نقل الزكاة إلى بلد السلطان وغيره ليكتفي كل ناحية بما عندهم من الزكاة ولهذا في كتاب معاذ بن جبل: من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف جيرانه والمخلاف عندهم كما يقال المعاملة: ما يكون فيه الوالي والقاضي وهو الذي يستحلف فيه ولي الأمر جابياً بأخذ الزكاة من أغنيائهم فيردها على فقرائهم ولم يقيد ذلك بمسير يومين وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصحلة شرعية وإذا أخذ الساعي من أحد الشريكين رجع المأخوذ منه على شريكه بحصته ولو اختلفا في قيمة المدفوع
قال أبو العباس: يتوجه قبول قول المعطي لأنه كالأمين وإن أخذ الساعي أكثر من الواجب ظلماً بلا تأويل من أحد الشريكين ففي رجوعه على شريكه قولان أظهرهما الرجوع وكذلك في المظالم المشتركة التي يطلبها الولاة من الشركاء أو الظلمة من البلدان أو التجار أو الحجيج أو غيرهم والكلف السلطانية على الأنفس والدواب والأموال يلزمهم التزام العدل في ذلك كما يلزم فيما يؤخذ بحق فمَن تغيب أو امتنع فأخذ من غيره حصته رجع المأخوذ منه على مَن أدى عنه في الأظهر إن لم يتبرع ولمن له الولاية على المال أن يصرف(1/453)
مما يخصه من الكلف كناظر الوقف والوصي والمضارب والوكيل قام فيها بنية تقليل الظلم كالمجاهد في سبيل الله ومن صودر على أداء مال وأكره أقاربه أو جيرانه أو أصدقاؤه أو شركاؤه على أن يؤدوه عنه فلهم الرجوع عليه لأنهم ظُلِموا من أجله ولأجل ماله والطالب مقصوده ماله لا مالهم ومَنْ لم يخلص مال غيره من التلف إلا بما أدى عنه رجع في أظهر قولي العلماء ولو أخذ الساعي فوق الواجب بتأويل أو أخذ القيمة فالصواب الأجزاء ولو اعتقد المأخوذ منه عدمه وجعله أبو العباس في موضع آخر كالصلاة خلف التارك ركناً أو شرطاً
"فصل"
ورجَّح أبو العباس: أن المعتبر لوجوب زكاة الخارج من الأرض الإدخار لا غير لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه بخلاف الكيل فإنّه تقدير مَحض فالوزن في معناه
قال: وكذلك العد كالجوز والزرع كالجوز المستنبت في دمشق ونحوها ولهذا تجب الزكاة عندنا في العسل وهو رطب ولا يوسقلكونه يبقى ويُدخر ونص أبو العباس على وجوب الزكاة في التين للادخار وإنّما اعتبر الكيل والوزن في الربويات لأجل التماثل المعتبر فيها وهو غير معتبر ههنا وتسقط فيما خرج من مؤنة الزرع والثمر منه وهو قول عطاء بن أبي رباح لأن الشارع أسقط في الخرص زكاة الثلث أو الربع لأجل ما يخرج من الثمرة بالاعراء والضيافة وإطعام ابن السبيل وهو تبرع فيما يخرج عنه لمصلحته التي لا تحصل إلا بها أولاً بإسقاط الزكاة عنه وما يديره الماء من النواعير ونحوها مما يُصنع من العام إلى العام أو إثناء العام ولا يحتاج إلى دولاب تديره الدواب يجب فيه العشر لأن مؤنته خفيفة فهي كحرث الأرض وإصلاح طرق الماء
وكلام أبي العباس في "اقتضاء الصراط المستقيم": يُعطي أن أهل الذمة منعوا من شراء الأرض العشرية ولا يصح البيع وجزم الأصحاب بالصحة ولكن حكى الإمام أحمد عن عمر بن عبد العزيز والحسن أنهم يمنعون من الشراء فإن اشتروا لم تصح وتعطيل الأرض العشرية باستئجار الذمي لها أو مزارعته فيها كتعطيله بالشراء وكلام(1/454)
أحمد يوافقه فإنّه قال: لا يؤجر منه أي الأرض من الذمي ولا يجوز بقاء أرض بلا عشر ولا خراج اتفاقاً فيخرج من أقطع أرضاً بأرض مصر أو غيرها العشر قلت: والمراد ما عدا أرض الذمي فإنّه لو جعل داره بستاناً أو مزرعة أو رضخ الإمام له من الغنيمة فإنّه لا يبني فيها نقله الجماعة عن الإمام أحمد و الله أعلم ويلحق بالمدفون حكماً الموجود ظاهراً في مكان جاهلي أو طريق غير مسلوك
"فصل"
ويجوز إخراج زكاة العروض عرضاً ويقوى على قول مَن يقول تجب الزكاة في عين المال
"فصل"
ويجزئه في الفطرة من قوت بلده مثل الأرز وغيره ولو قدر على الأصناف المذكورة في الحديث وهو رواية عن أحمد وقول أكثر العلماء ولا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة وهو من يأخذ لحاجته لا في الرقاب والمؤلفة وغير ذلك ويجوز دفعها إلى فقير واحد وهو مذهب أحمد ولا يعتبر في زكاة الفطر ملك نصاب بل تجب على من ملك صاعاً فاضلاً عن قوته يوم العيد وليلته وهو قول الجمهور وإذا كان عليه دين وصاحب لا يطالبه به أدى صدقة الفطر كما يطعم عياله يوم العيد وهو مذهب أحمد ومن عجز عن صدقة الفطر وقت وجوبها عليه ثم أيسر فأداها فقد أحسن وقدر الفطر صاع من التمر والشعير وأما من البر فنصف وهو قول أبي حنيفة وقياس قول أحمد في بقية الكفارات
"فصل"
وما سماه الناس درهماً وتعاملوا به تكون أحكامه أحكام الدرهم من وجوب الزكاة فيما يبلغ مائتين منه والقطع بسرقة ثلاثة دراهم منه إلى غير ذلك من الأحكام قل ما فيه الفضة أو كثر وكذلك ما سمي ديناراً ونقل عن غير واحد من الصحابة أنه قال: زكاة الحلي عاريته ولهذا تنازع أهل هذا القول هل أن تعيره لمن يستعيره إذا لم يكن في ذلك ضرر عليها على وجهين في مذهب أحمد وغيره والذي ينبغي إذا لم تخرج الزكاة عنه أن تعيره وأمّا إن كانت تكريه ففيه الزكاة عند جمهور العلماء وكتابة القرآن على الحياضة والدرهم والدينار مكروهة ويجوز إخراج(1/455)
القيمة في الزكاة لعدم العدول عن الحاجة والمصلحة مثل أن يبيع ثمرة بستانه أو زرعه فهنا إخراج عشر الدراهم يجزئه ولا يكلف أن يشتري تمراً أو حنطة فإنه قد ساوى الفقير بنفسه وقد نص أحمد على جواز ذلك ومثل أن تجب عليه شاة في الإبل وليس عنده شاة فإخراج القيمة كاف ولا يكلف السفر لشراء شاة أو أن يكون المستحقون طلبوا القيمة لكونهم أنفع لهم فهذا جائز أما الفلوس فلا يجزئ إخراجهم عن النقدين على الصحيح لأنها ولو كانت نافقة فليست في المعاملة كالدراهم في العادة لأنها قد تكسد ويحرم المعاملة بها ولأنها أنقص سعراً ولهذا يكون البيع بالفلوس دون البيع بقيمتها من الدراهم وغايتها أن تكون بمنزلة المنكسرة مع الصحاح والبهرجة مع الخالصة فإنَّ تلك إلى النحاس أقرب وعلى هذا إذا أخرج الفلوس وأخرج التفاوت جاز على المنصوص في جواز أخرج التفاوت فيما بين الصحيح والمنكسر بناء على أن جبران الصفات كجبران المقدار لكن يقال: المنكسرة من الجنس والفلوس من غير الجنس فينتفي فيها المأخذ ولا ينبغي أن يكون إلا وجهان إلا إذا خرجت بقيمتها فضة لا بسعرها في العوض
"فصل"
ولا ينبغي أن يعطي الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله فإنَّ الله تعالى فرضها معونة على طاعته كمن يحتاج إليها من المؤمنين كالفقراء والغارمين أو لمن يعاون المؤمنين فمَن لا يصلي من أهل الحاجات لا يعطي شيئاً حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة ويجب صرف الزكاة إلى الأصناف الثمانية إن كانوا موجودين وإلا صرفت إلى الموجود منهم إلى حيث يوجدون وبنو هاشم إذا منعوا من خمس الخمس جاز لهم الأخذ من الزكاة وهو قول القاضي يعقوب وغيره من أصحابنا وقاله أبو يوسف والإصطخري من الشافعية محل حاجة وضرورة ويجوز لبني هاشم الأخذ من زكاة الهاشميين وهو محكي عن طائفة من أهل البيت ويجوز(1/456)
صرف الزكاة إلى الوالدين وإن علوا وإلى الولد وإن سفُل كانوا فقراء وهو عاجز عن نفقتهم لوجود المقتضى السالم عن المعارض العادم وهو أحد القولين في مذهب أحمد وكذا إن كانوا غارمين أو مكاتبين أو أبناء السبيل وهو أحد القولين أيضاً وإذا كانت الأم فقيرة ولها أولاد صغار لهم مال ونفقتها تضر بهم أعطيت من زكاتهم والذي يخدمه إذا لم تكفه أجرته أعطاه من زكاته إذا لم يستعمله بدل خدمته ومَن كان في عياله قوم لا تجب عليه نفقتهم فله أن يعطيهم من الزكاة ما يحتاجون إليه مما لم تجر عادته بإنفاقه من ماله واليتيم المميز يقبض الزكاة لنفسه وإن لم يكن مميزاً قبضها كافلة كائناً من كان وأما إسقاط الدين عن المعسر فلا يجزئ عن زكاة العين بلا نزاع لكن إذا كان له دين على من يستحق الزكاة فأعطاه منها وشارطه أن يعيدها إليه لم يجز وكذا إن لم يشرط لكن قصده المعطي في الأظهر وهل يجوز أن يسقط عنه قدر ذلك الدين ويكون ذلك زكاة ذلك الدين فيه قولان في مذهب أحمد وغيره أظهرهما الجواز لأن الزكاة مواساة ومَن ليس معه ما يشتري به كثيباً مشتغل فيها يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري له به ما يحتاج إليه في إقامة مؤنته وإن لم ينفقه بعينه في المؤنة وقيل: الرجل يكون له الزرع القائم وليس عنده ما يحصده أيأخذ من الزكاة قال: نعم يأخذ ويأخذ الفقير من الزكاة ما يصير به غنياً وإن كثُر وهو أحد القولين في مذهب أحمد والشافعي ويجوز إعتاق الرقيق من الزكاة وافتكاك أسرى المسلمين وهو مذهب أحمد ويجوز للإمام أن يعتق من مال الفيء والمصالح إذا كان في الاعتاق مصلحة أما لمنفعة المسلمين أو لمنفعة المعتق أو تأليفاً لقلوب مَن يحاج إلى تأليفه وقد ينفذ العتق حيث لا يجوز إذا كان في الرد فساد كما في الولايات مثل أن يكون قد أسلموا وهم لكافر ذمي أو معاهد حربي ومَنْ لم يحج حجة الإسلام وهو(1/457)
فقير أعطي ما يحج به وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويبرأ بدفع الزكاة إلى ولي الأمر العادل وإن كان ظالماً لا يَصْرف الزكاة في المصارف الشرعية فينبغي لصاحبها أن لا يدفعها إليه فإنْ حصل له ضرر بعد دفعها إليه فإنه يجزئ عنه إذا أخذت منه في هذه الحالة عند أكثر العلماء وهم في هذه الحال ظلموا مستحقها كولي اليتيم وناظر الوقف إذا قبضا المال وصرفاه في غير مصارفه الشرعية ولا تسقط الزكاة والحج والديون ومظالم العباد عمَنْ مات شهيداً وإذا قبض من ليس من أهل الزكاة مالاً من الزكاة وصرفه في شراء عقار أو نحوه فالنَّماء الذي حصل بعمله وسعيه يجعل مضاربة بينه وبين أهل الزكاة وإعطاء السُؤال فرض كفاية إنْ صدقوا ومَن سأل غيره الدعاء لنفع ذلك الغير أو نفعهما أثيب وإن قصد نفع نفسه فقط نهى عنه كسؤال المال وإن كان قد لا يأثم قال أبو العباس في "الفتاوى المصرية": لا بأس بطلب الناس الدعاء بعضهم مِن بعض لكن أهل الفضل يُفوزون بذلك إذ الذي يطلبون منه الدعاء إذا دعا لهم كان له من الأجر على دعائه أعظم مِن أجره لو دعا لنفسه وحده ويلزم عامل الزكاة رفع حساب ما تولاه إذا طلب منه الخراج وصلة الرحم المحتاج أفضل من العتق(1/458)
كتاب الصوم
*
...
" كتاب الصوم"
تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة بهذا فإنْ اتفقت لزمه الصوم وإلا فلا وهو الأصح للشافعية وقول في مذهب أحمد ومَن رأى هلال رمضان وحده وردت شهادته لم يلزمه الصوم ولا غيره ونقله حنبل عن أحمد في الصوم وكما لا يعرِّف ولا يضحي وحده والنزاع مبني على أصل وهو: أن الهلال هو اسم لما يطلع من السماء وإن لم يشتهر ولم يظهر أو لأنه لا يسمى هلالاً إلا بالاشتهار والظهور كما يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد وإن نوى نذراً أو نفلاً ثم بان من رمضان أجزأه إن كان جاهلاً كمن دفع وديعة رجل إليه على(1/458)
طريق الشرع ثم تبين أنه كان حقه فإنه لا يحتاج إلى إعطاء ثان بل يقول له الذي وصل إليك هو حق كان لك عندي ومَن خطر بقلبه أنه صائم غداً فقد نوى والصائم لما يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصيام ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي رمضان النية المترددة كقوله: إن كان غداً من رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل وهو إحدى الروايتين عن أحمد ويصح صوم الفرض بنية من النهار إذا لم يعلم وجوبه بالليل كما إذا شهدت النية بالنهار وإن حال دون منظرة لهلال ليلة الثلاثين غيم أو قتر فصومه جائز لا واجب ولا حرام وهو قول طوائف من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة والمنقولات الكثيرة المستفيضة عن أحمد إنّما تدلَّ على هذا ولا أصل للوجوب في كلامه ولا في كلام أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- وحكى أبو العباس أنه كان يميل أخيراً إلى أنه لا يستحب صومه ومَنْ تجدد له صوم بسبب -كما إذ قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار- فإنّه يتم بقية يومه ولا يلزمه قضاء وإن كان قد أكل والمريض إذا خاف الضرر استحب له الفطر والمسافر الأفضل له الفطر فإنْ أضعفه عن الجهاد كره له بل يجب منعه عن واجب وأفتى أبو العباس لما نزل العدو دمشق في رمضان بالفطر في رمضان للتقوِّي على جهاد العدو وفعله وقال: هو أولى للسفر ويصح صوم الجنُب باتفاق الأئمة وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أقل من أربعة أيام فله الفطر وإذا نوى صيام التطوع بعد الزوال ففي ثوابه روايتان عن أحمد والأظهر الثواب وإن لم ينو الصوم ولكن إذا اشتهى الأكل واستمر به الجوع فهذا يكون جوعه من باب المصائب التي تكفر بها خطاياه ويثاب على صبره عليها ولا يكون من باب الصوم الذي هو عبادة يثاب عليها ثواب الصوم و الله سبحانه وتعالى أعلم
"فصل"
ولا يفطر الصائم بالاكتحال والحقنة وما يفطر في احليله ومداواة المأمومة والجائفة وهو قول بعض أهل العلم ويفطر بإخراج الدم بالحجامة وهو مذهب أحمد وبالفصد والتشريط وهو وجه لنا أو بإرعاف نفسه وهو قول(1/459)
الأوزاعي ويفطر الحاجم إن مص القارورة ولا يفطر بمذي بسبب قبلة أو لمس أو تكرار نظر وهو قول أبي حنيفة والشافعي وبعض أصحابنا وأما إذا ذاق طعاماً ولفظه أو وضع في فيه عسلاً ومجه فلا بأس به للحاجة كالمضمضة والاستنشاق والكذب والغيبة والنميمة إذا وجدت من الصائم فمذهب الأئمة أنه لا يفطر أنه لا يعاقب على الفطر كما يعاقب من أكل أو شرب والنبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكر "رب صائم حظه من الصوم الجوع والعطش" لما حصل من الإثم المقاوم للصوم وهذا أيضاً لا تنازع فيه بين الأئمة ومَنْ قال: إنّها تفطر بمعنى أنه لم يحصل مقصود الصوم أو: أنها قد تذهب بأجر الصوم فقوله يوافق قول الأئمة ومَن قال: إنها تفطر بمعنى أنه يُعاقب على ترك الصيام فهذا مخالف لقول الأئمة وإذا شتم الصائم استحب أن يجيب بقوله: إني صائم وسواء كان الصوم فرضاً أو نفلاً وهو أحد الوجوه في مذهب أحمد وشم الروائح الطيبة لا بأس به للصائم
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء" صححه الترمذي من حديث زيد بن خالد والمراد بتفطيره أن يشبعه ومَن أكل في شهر رمضان معتقداً أنه ليل فبان نهاراً فلا قضاء عليه وكذا من جامع جاهلاً بالرفث أو ناسياً وهو إحدى الروايتين عن أحمد وإذا أكره الرجل زوجته على الجماع في رمضان يُحمل عنها ما يجب عليها وهل تجب كفارة الجماع في رمضان لإفساد الصوم الصحيح أو لحرمة الزمان فيه قولان الصواب الثاني
"فصل"
وإن تبرع إنسان بالصوم عمن لا يطيقه لكبره ونحوه أو عن ميت وهما معسران توجه جوازه لأنه أقرب إلى المماثلة من المال وحكى القاضي في صوم النذر في حياة الناذر نحو ذلك ومَنْ مات وعليه صوم نذر أجزأ الصوم عنه بلا كفارة ولا يقضي متعمد بلا عذر صوماً ولا صلاة ولا تصح منه وما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في رمضان بالقضاء فضعيف لعدول البخاري ومسلم عنه وإذا شرعت المرأة في قضاء رمضان وجب عليها إتمامه(1/460)
ولم يكن لزوجها تفطيرها وإن أمرها أن تؤخر القضاء قبل الشروع فيه كان حسناً لحديث عائشة
"فصل"
يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر للأخبار الصحيحة وفي بعضها: هو كصوم الدهر والمراد بذلك أنَّ مَن فعل هذا حصل له أجر صيام الدهر من غير حصول المفسدة وصيام يوم عرفة كفارة سنتين فلو غم هلال ذي الحجة أو شهد برؤيته من لا تقبل شهادته إمّا لانفراده بالرؤية أو لكونه ممن لا يجوز قبوله ونحو ذلك واستمر الحال على إكمال ذي القعدة فصوم يوم التاسع الذي هو يوم عرفة من هذا الشهر المشكوك فيه جائز بلا نزاع
قلت: ولكن روى ابن أبي شيبة في "كتابه" عن النخعي في صوم يوم عرفة في الحضر
إذا كان فيه اختلاف فلا يصومن وعنه قال: كانوا لا يرون بصوم يوم عرفة بأساً إلا أن يتخوفوا أن يكون يوم الذبح
وروي عن مسروق وغيره من التابعين مثل ذلك وكلام هؤلاء قد يقال: إنه محمول على كراهة التنزيه دون التحريم
و الله أعلم
وأما إن شهد بهلال ذي الحجة من يثبت الشهر به لكن لم يقبله الحاكم إما لعذر ظاهر أو لتقصير في أمره فأقول: هذه الصورة تخرج على الخلاف المشهور في
مسألة المنفرد بهلال شوال هل يفطر عملاً برؤيته أم لا يفطر إلا مع الناس في ذلك قولان مشهوران فعلى قول من يقول: لا يفطر المنفرد برؤية هلال شوال بل يصوم يفطر إلا مع النّاس فإنه يقول: لا يستحب صوم يوم عرفة للشاهد الذي لم تقبل شهادته بهلال ذي الحجة ومَنْ قال في الشاهد بهلال شوال يفطر سراً قال هنا: أنه يفطر ولا يصوم لأنه يوم عيد في حقه ولكن لا يُضحي ولا يقف بعرفة بذلك وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة ولا يكره إفراده بالصوم ومقتضى كلام أحمد أنه يُكره وهو قول ابن عباس وأبي حنيفة ووجب صومه ونسخ وهو قول ابن عباس -رضي الله عنهما- ورواية عن أحمد اختارها بعض أصحابنا(1/461)
وصوم الدهر الصواب قول من جعله تركاً للأولى أو كرهه ومَن صام رجب معتقداً أنه أفضل من غيره من الأشهر أَثم وعُزر وعليه يحمل فعل عمر وفي تحريم إفراده وجهان ومَن نذر صومه كل سنة افطر بعضه وقضاه وفي الكفارة خلاف وأما مَن صام الأشهر الثلاثة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصوم شهراً كاملاً إلا شهر رمضان وكان يصوم أكثر شعبان ولم يصح عنه في رجب شيء وإذا أفطر الصائم بعض رجب وشعبان كان حسناً ولا يكره صوم العشر الأواخر مِن شعبان عند أكثر أهل العلم ولا يكره إفراد يوم السبت بالصوم ولا يجوز تخصيص صوم أعياد المشركين ولا صوم يوم الجمعة ولا قيام ليلتها قال أبو العباس في رده على الرافضي: جاءت السنة بثوابه على ما فعله وعقابه على ما تركه ولو كان باطلاً كعدمه لم يجبر بالنوافل والباطل في عرف الفقهاء ضد الصحيح في عرفهم وهو ما أبرأ الذمة فقولهم بطلت صلاته وصومه لمن ترك ركنً بمعنى: أنه لا يثاب عليها شيئاً في الآخرة وقال تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} محمد: 33 الإبطال هو بطلان الثواب ولا يسلم بطلان جميعه بل قد يثاب على مافعله فلا يكون مبطلاً لعمله وأما ثامن شوال فليس عيداً لا للأبرار ولا للفجار ولا يجوز لأحد أن يعتقده عيداً ولا يحدث فيه شيئاً من شعائر الأعياد
"فصل"
في مسائل التفضيل وليلة القدر مِن أفضل الليالي وهي في الوتر في العشر الأخير من رمضان والوتر قد يكون باعتبار الماضي فيطلب إحدى وعشرين وليال ثلاث إلى آخره وقد يكون باعتبار الباقي لقوله صلى الله عليه وسلم: "لتاسعة تبقى" الحديث فإذا كان الشهر ثلاثين فتكون تلك من ليالي الإشفاع وليلة الثانية والعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع سابعة تبقى كما فسره أبو سعيد الخدري وإن كان تسعاً وعشرين كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي ويوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع إجماعاً ويوم النحر أفضل أيام العام وليلة الإسراء أفضل في حق النبي صلى الله عليه وسلم وليلة القدر أفضل بالنسبة إلى الأمة وخديجة إيثارها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشركها(1/462)
عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين وإيثار عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم لم تشركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها ومريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون من أفضل النساء والفواضل من نساء هذ الأمة كخديجة وعائشة وفاطمة أفضل منهما والصواب الذي عليه عامة المسلمين وحكي الإجماع عليه أنهما ليستا بنبيتين وأما أزواجهما في الآخرة فقد روي في مريم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو العباس: ولا أعلم صحة ذلك ولا أعلم ما يقطع به والغني الشاكر والفقير الصابر أفضلهما أتقاهما لله تعالى فإن استويا في الدرجة وصالحوا البشر أفضل باعتبار النهاية وصالحوا الملك أفضل باعتبار البداية وعشر ذي الحجة أفضل من غيره لياليه وأيامه وقد يقال ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل وأيام تلك أفضل
قال أبو العباس: والأول أظهر ورمضان أفضل الشهور ويكفر من فضل رجباً عليه ومكة أفضل بقاع الله وهو قول أبي حنيفة والشافعي ونص الروايتين عن أحمد قال أبو العباس ولا أعلم أحد فضل تربة النبي صلى الله عليه وسلم على الكعبة إلا القاضي عياض ولم يسبقه إليه أحد ولا وافقه والصلاة وغيرها من القرب بمكة أفضل والمجاورة بمكان يكثر فيه إيمانه وتقواه أفضل حيث كان وتضاعف السيئة والحسنة بمكان أو زمان فاضل وذكره القاضي وأبو الجوزي انتهى(1/463)
باب الاعتكاف
...
"باب الاعتكاف"
ومن نذر الاعتكاف في مسجد غير المساجد الثلاثة تعين ما امتاز على غيره بمزية شرعية كقدم وكثرة جمع اختاره أبو العباس في موضع آخر من وجهين في مذهبنا ولا يجوز سفر الرجل إلى المشاهد والقبور والمساجد الثلاثة وهو قول مالك وبعض أصحابه وقال ابن عقيل من أصحابنا: وإن قرأ القرآن عند الحكم الذي أنزل له أو ما يناسبه فحسن كقوله لمن دعاه(1/463)
إلى ذنب تاب منه: وما يكون لنا أن نتكلم بهذا وقوله عندما أهمه أمر إنما أشكو بثي وحزني إلى الله والتحقيق في الصمت أنه إذا طال حتى يتضمن ترك الكلام الواجب صار حراماً كما قال الصديق وكذا إن بعد بالصمت عن الكلام المستحب والكلام الحرام يجب الصمت عنه وفضول الكلام ينبغي الصمت عنه ولم ير أبو العباس لمن قصد المسجد للصلاة أو غيرها أن ينوي الإعتكاف مدة لبثه والسياحة في البلاد لغير قصد شرعي كما يفعله بعض النساك أمر منهي عنه قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فِعل النبيين والصالحين(1/464)
كتاب الحج
*
...
" كتاب الحج"
ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقين وهو ظاهر إطلاق أحمد وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر فإنّ شق عليه ولم يضره وجب وإلا فلا وإنّما لم يقيده أبو عبد الله لسقوط الفرائض بالضرر وتحرم في المعصية ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فحينئذٍ ليس للأبوين منع ولدهما من الحج الواجب لكن يستطيب أنفسهما فإن أذنا وإلا حج وليس للزوج منع زوجته من الحج الواجب مع ذي محرم وعليها أن تحج وإن لم يأذن في ذلك حتى أن كثيراً من العلماء أو أكثرهم يوجبون لها النفقة عليه مدة الحج والحج واجب على الفور عند أكثر العلماء والقول بوجوب العمرة على أهل مكة قول ضعيف جداً مخالف للسنة الثابتة ولهذا كان أصح الطريقين عن أحمد أن أهل مكة لا عمرة عليهم رواية واحدة وفي غيرهم روايتان وهي طريقة أبي محمد وطريقة أبي البركات في العمرة ثلاث روايات ثالثها تجب على غير أهل مكة ومن وجب عليه الحج فتوفي قبله وخلف مالاً حج عنه منه في أظهر قولي(1/464)
الشرعي والتجارة ليست محرمة لكن ليس للإنسان أن يفعل ما يشغله عن الحج ومن أراد سلوك طريق يستوي فيها احتمال السلامة والهلاك وجب عليه الكف عن سلوكها فإن لم يكف فيكون أعان على نفسه فلا يكون شهيداً ويجوز الخفارة عند الحاجة إليها في الدفع عن المخفر ولا يجوز مع عدمها كما يأخذه السلطان من الرعايا وتحج كل امرأة آمنة مع عدم محرم
قال أبو العباس: وهذا متوجه في سفر كل طاعة وأما إماء المرأة يسافرن معها ولا يفتقرن إلى محرم لأنه لا محرم لهن في العادة الغالبة فأما عتقاؤها من الإماء بيض لذلك أبو العباس قال بعض المتأخرين: يتوجه احتمال أنهن كالإماء على ما قال إذ لم يكن لهن محرم في العادة الغالبة أو احتمال عكسه لانقطاع التبعية وملك أنفسهن بالعتق بخلاف الأمة وصحح أبو العباس في "الفتاوى المصرية": أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع زوج أو ذي محرم والمحرم زوج المرأة أو مَن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب ولو كان النسب وطء شبهة ولا زنا وهو قول أكثر العلماء واختاره ابن عقيل وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين في التحريم لا المحرمية اتفاقاً ويجوز للرجل الحج عن المرأة باتفاق العلماء وكذا العكس على قول الأئمة الأربعة وخالف فيه بعض الفقهاء والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة وأمّا إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته فأمّا إذا كان كلاهما تطوعاً فالحج أفضل لأنه عبادة بدنية مالية وكذلك الأضحية والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك لكن هذا بشرط أن يقيم الواجب في الطريق ويترك المحرمات ويصلي الصلوات الخمس ويصدق الحديث ويؤدي الأمانة ولا يتعدى على أحد
"فصل"
وينعقد الإحرام بنية النسك مع التلبية أو سوق الهدي وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد وقاله جماعة من المالكية وحكى قولاً للشافعية ويحرم عقب فرض إن كان أو فعل لأنه ليس للإحرام صلاة تخصه ويستحب(1/465)
للمحرم الاشتراط إن كان خائفاً وإلا فلا جمعاً بين الأخبار والقَران أفضل من التمتع إن ساق هدياً وهو إحدى الروايتين عن أحمد
اعتمر وحج في سفرتين أو اعتمر قَبل أشهر الحج فالإفراد أفضل باتفاق الأئمة الأربعة
ومن أفرد العمرة بسفرة ثم قدم في أشهر الحج فإنه يتمتع والنبي صلى الله عليه وسلم حج قارناً
قال الإمام أحمد: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارناً والتمتع أحب إلي قال أبو العباس: وعلى هذا متقدمو أصحابنا ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز على الصحيح ويجوز العكس بالاتفاق ويجوز للمرأة المحرمة أن تغطي وجهها بملاصق خلا النقاب والبرقع ويجوز عقد الرداء في الإحرام ولا فدية عليه فيه ومَن ميقاته الجحفة كأهل مصر والشام إذا مروا على المدينة فلهم تأخير الإحرام إلى الجحفة ولا يجب عليهم الإحرام من ذي الحُليفة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ويجوز للمحرم لبس مقطوع الكعبين مع وجود النعل واختاره ابن عقيل في "المفردات" وأبو البركات ومن جامع بعد التحلل الأول يعتمر مطلقاً وعليه نصوص أحمد ويجزئ في فدية الأذى رطلاً خبز عراقية وينبغي أن يكون بأدم ومما يأكله أفضل من بر أو شعير والمحرم إن احتاج وقطع شعره لحجامة أو غسل لم يضره والقمل والبعوض والقرد إن قرصه قتله عقاباً وإلا فلا يقتله ولا يجوز قتل النحل ولو بأخذ كل عسله وإن لم يندفع ضرره إلا بقتله جاز ويسن أن يستقبل الحجر الأسود في الطواف وتسن القراءة أفضل من جنس الطواف لا الجهر بها والشادر وإن ليس من البيت بل جعل عماداً له ولا يشرع تقبيل المقام ومسحه إجماعاً فسائر المقامات أولى ولا يشرع صعود جبل الرحمة إجماعاً وتختلف أفضلية الحج راكباً أو ماشياً بحسب الناس والوقوف راكباً(1/466)
أفضل وهو المذهب ويقص من شعره وإذا حل لا من كل شعرة بعينها والحلق أو التقصير إما واجب أو مُستحب ومن حكى عن أحمد أنه مباح فقد غلط ولا يستحب فيه يتمنع أن يطوف طواف قدوم بعد رجوعه من عرفة قبل الإفاضة هذا هو الصواب وقاله جمهور الفقهاء وهو أحد القولين في مذهب أحمد والمتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة وهو إحدى الروايتين عن أحمد نقلها عبد الله عن أبيه كالقارن ويحل للمحرم بعد التحلل كل شيء حتى عقد النكاح هذا منصوص أحمد إلا النساء
وليس للإمام المقيم للمناسك التعجيل لأجل مَن يتأخر
قال أصحابنا: وإن خرج إنسان غير حاج فظاهر كلام أبي العباس لا يودع وذكر ابن عقيل وابن الزاغوني: لا يودع البيت ظهره حتى يغيب
قال أبو العباس: هذا بدعة مكروهة ويحرم طوافه بغير البيت العتيق اتفاقاً واتفقوا أنه لا يقبله ولا يتمسح به فإنّه مِن الشرك والشرك لا يغفره الله وكذا الخروج من مكة لعمرة تطوع بدعة لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه على عهده لا في رمضان ولا في غيره ولم يأمر عائشة بها بل أذن لها بعد المراجعة تطييباً لقلبها وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقاً وخروجه عند مَن لم يكرهه على سبيل الجواز والذين أوجبوا الوضوء للطواف ليس معهم دليل أصلاً وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما طاف توضأ فهذا لا يدلَّ فإنه كان يتوضأ لكل صلاة وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن حج فلم يَرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" يدخل فيه من أتى بالعمرة ولهذا أنكر الإمام أحمد على مَنْ قال: إن حجة المتمتع حجة مكية ومن اعتقد أن الحج يسقط ما عليه من الصلاة والزكاة فإنّه يُستتاب بعد تعريفه إنْ كان جاهلاً فإنْ تاب وإلا قتل ولا يسقط حق الآدمي من مال أو عرض أو دم بالحج إجماعاً ومَنْ جرد مع الحاج أو غيره وجمع له من الجند(1/467)
المقطعين ما يعينه على كلفة الطريق أبيح له أخذه ولا ينقص أجره وله أجر الحج والجهاد وليس في هذا اختلاف وشهر السلاح عند قدوم تبوك بدعة محرمة وما يذكره الجهال من حصار تبوك كذب لا أصل له والمحصر بمرض أو ذهاب نفقة كالمحصر بعدو وهو إحدى الروايتين عن أحمد ومثله حائض تعذر مقامها وحرم طوافها ورجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزيارة أو لعجزها عنه أو لذهاب الرفقة والمحصر يلزمه دم في أصح الروايتين ولا يلزمه قضاء حجه إن كان تطوعاً وهو إحدى الروايتين(1/468)
باب الهدي والأضحية
...
"باب الهدي والأضحية"
وتجوز الأضحية بما كان أصغر من الجذع من الضأن لمن ذبح قبل صلاة العيد جاهلاً بالحكم ولم يكن عنده ما يعتد به في الأضحية وغيرها لقصة أبي بردة بن نيار ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "ولن يجزئ أحد بعدك" أي بعد حالك والأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقاً وتجزي الهتمى التي سقط بعض أسنانها في أصح الوجهين ولا تضحية بمكة وإنّما هو الهدي وإذا ذبح قال: اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم ولا يستحب أخذ شعره بعد ذبح الأضحية وهو إحدى الروايتين عن أحمد والتضحية عن الميت أفضل من الصدقة بثمنها وآخر وقت ذبح الأضحية آخر أيام التشريق وهو مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب أحمد ولم ينسخ تحريم الإدخار عام مجاعة لأنه سبب التحريم وقاله طائفة من العلماء ومن عدم ما يضحي به ويعق اقترض وضحى وعق مع عدم القدرة على الوفاء والأضحية من النفقة بالمعروف فتضحي امرأة من مال زوجها عن أهل البيت بلا أذنه ومدين لم يطالبه رب الدين ولا يعتبر التمليك في العقيقة(1/468)
كتاب البيع
*
...
" كتاب البيع"
وكل ما عده الناس بيعاً أو هبة من متعاقب أو متراخ مِن قولٍ أو فعلٍ:(1/468)
باب الربا
...
"باب الربا"
والعلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم وهو رواية عن أحمد ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل ويجعل الزائد في مقابلة الصيغة ليس بربا ولا بجنس بنفسه فيباع خبز بهريسة(1/473)
وزيت بزيتون وسمسم بسيرج والمعمول من النحاس والحديد إذا قلنا: يجري الربا فيه يجري في معموله إذا كان يقصد وزنه بعد الصنعة كثياب الحرير والأسطال ونحوها وإلا فلا وهو ثالث أقوال أهل العلم ويحرم بيع اللحم بحيوان من جنسه مقصوداً للحم ويجوز بيع الموزونات الربوية بالتحري وقاله مالك وما لا يختلف فيه الكيل والوزن مثل الأدهان يجوز بيع بعضه ببعض كيلاً ووزناً وعن أحمد ما يدل عليه ويجوز العرايا والزروع ويجوز
مسألة مُدَّ عجوة وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة وظاهر مذهب أحمد جواز بيع السيف المحلى بجنس حليته لأن الحلية ليست بمقصودة ويجوز بيع فضة لا يقصد غشها بخالصة مثلاً بمثل ولا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقديْن وهو رواية عن أحمد نقلها أبو منصور واختارها ابن عقيل وما جاز التفاضل فيه كالثياب والحيوان يجوز النسأ فيه إن كان متساوياً وإلا فلا وهو رواية عن أحمد وإن اصطرفا ديناً في ذمتهما جاز وحكاه ابن عبد البر عن أبي حنيفة ومالك خلافاً لما نص عليه أحمد ويحرم
مسألة القورق وهو رواية عن أحمد ومن باع ربوياً نسيئة حرم أخذه عن ثمن ما لا يباع نسيئة ما لم تكن حاجة وهو توسط بين الإمام أحمد في تحريمه والشيخ أبي محمد المقدسي في حله والتحقيق في عقود الربا إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد وإن كان بعض الفقهاء يقول بطل العقد فهو بطلان ما لم يتم بطلان ما تم والكيمياء باطلة مُحرمة وتحريمها أشد من تحريم الربا ولا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة صناعتها وأُفتي بعض ولاة الأمور بإتلافها
"فصل"
والصحيح أنه لا يجوز بيع المقاثي جملة بعروقها سواء بدا(1/474)
صلاحها أو لا وهذا القول له مأخذان أحدهما: أن العروق كأصول الشجر فبيع الخضروات قبل بدو صلاحها كبيع الشجر بثمره قبل بدو صلاحه يجوز تبعاً والمأخذ الثاني وهو الصحيح: أن هذه لم تدخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم بل يصح العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة إلى أن تيبس المقثاة لأن الحاجة داعية إلى ذلك ويجوز بيع المقاثي دون أصولها وقاله بعض أصحابنا وإذا بدا صلاح بعض شجرة جاز بيعها وبيع ذلك الجنس وهو رواية عن أحمد وقول الليث بن سعد وبقية الأجناس التي ساء حمله فإن أصاب ذلك أو الزرع الذي بجائحة ولو من جراد أو جيش لا يمكن تضميَّنه فمِن ضمان بائعه إن لم يفرط المشتري وثبتت الجائحة في المزارع كما إذا اكترى الأرض بألف مثلاً وكانت تساوي بالجائحة سبعمائة وبعض الناس يظن أن هذا خلاف ما في المعنى أن نفسه إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزرع لا يكون كالثمرة المشتراة فهذا ما فيه خلاف وإنّما الخلاف في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها فيكون كما لو انقطع الماء عن الرحا ونبتت الجائحة في المزارع ولو قال في الإجارة إنّه أجره إياها مقيلاً أو مُضيفاً أو مراحاً أو مزروعاً وثبتت الجائحة في حانوت أو حمام نقص نفعه وحكم بذلك أبو الفضل سليمان بن جعفر المقدسي
قال أبو العباس: لكنّه بخلاف ما رأيته عن الإمام أحمد وقياس أصول أحمد ونصوصه: إذا عطل نفع الأرض بآفة انفسخت الإجارة فيما بقي من المدة كاستهدام الدار ولو يبست الكروم بجراد أو غيره سقط من الخراج حسب ما يعطل من النفع وإذا لم يمكن النفع به ببيع أو إجارة أو عمارة أو غير ذلك لم يجز المطالبة بالخراج(1/475)
باب السلم
...
"باب السلم"
ولو أسلم مقداراً معلوماً إلى أجل معلوم في شيء يحكم أنه إذا حل يأخذه بأنقص مما يساوي بقدر معلوم صح كالبيع بالسعر ويصح السلم حالاً إن كان المُسلم فيه موجوداً في ملكه وإلا فلا ويجوز بيع الدين في الذمة من الغريم وغيره ولا فرق بين دين السَلَم وغيره وهو رواية عن أحمد وقال ابن عباس: لكن بقدر القيمة فقط لئلا يربح فيما لم يضمن ويصح تعليق البراءة على شرط وهو عن أحمد
وما قبضه أحد الشريكين من دين مشترك بعقد أوراث أو إتلاف أو ضريبة وسبب استحقاقها واحد فلشريكه الأخذ من الغريم ويحاصه فيما قبضه وهو مذهب الإمام وكذا لو تلف ولو تبارءا ولأحدهما على الآخر دين مكتوب فادعى استثناء بقلبه وإنه لم يبرئه منه قُبل ولخصمه تحليفه(1/476)
باب القرض
...
"باب القرض"
ويجوز قرض الخبز ورد مثله عدداً بلا وزن من غير قصد الزيادة وهو مذهب أحمد ولو أقرضه في بلد آخر جاز على الصحيح ويجوز قرض المنافع مثل أن يحصد معه يوماً ويحصد معه الآخر يوماً أو يسكنه الآخر بدلها لكن الغالب على المنافع أنها ليست من ذوات الأمثال حتى يجب رد المثل بتراضيهما وإذا ظهر المقترض مُفلساً ووجد المقرض عين ماله فله الرجوع بعين ماله بلا ريب والدين الحال يتأجل بتأجيله سواء كان الدين قرضاً أو غيره وهو قول مالك ووجه في مذهب أحمد ويتخرج رواية عن أحمد من إحدى الروايتين في صحة إلحاق الأجل بعد لزوم العقد ولو أقرض إكاره بذراً أو أمره ببذره وأنه في ذمته كما يفعله الناس فهو فاسد وله نصيب المثل ولو تلف لم يضمنه لأنّه أمانة ولو اقترض من(1/476)
رجل قروضاً متفرقة ووكل المقرض في ضبطها أو ابتاع منه شيئاً ووكل البائع في ضبط المبيع حفظاً أو كتابة فينبغي أن يكون قول هذا المؤتمن ههنا مقبولاً ويجب على المقترض أن يُوفي المقرض في بلد القرض ولا يكلفه مؤونة السفر والحمل(1/477)
باب الضمان
...
"باب الضمان"
وقياس المذهب أنه يصح بكل لفظ يفهم منه الضمان عُرفاً مثل: زوجه وأنا أؤدي الصداق أو: بعه وأنا أعطيك الثمن أو: اتركه لا تطالبه وأنا أعطيك الثمن ولو تغيب مضمون عنه قادر فأمسك الضامن وغرم شيئاً أو أنفقه في الحبس رجع به على المضمون عنه ويصح ضمان المجهول ومنه ضمان السوق وهو أن يضمن ما يلزم التاجر من دين وما يقبضه من عين مضمونة وتجوز كتابته والشهادة به لم ير جوازها وكذلك تجوز الشهادة على المزارعة لمن لم يَر جوازها لأن ذلك محل اجتهاد وأما الشهادة على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها فحرام ويصح ضمان حارس ونحوه وتجار حرب بما يذهب من البلد أو البحر وغايته ضمان مجهول وما لم يجب وهو جائز عند أكثر أهل العلم مالك وأبي حنيفة وأحمد ومن كفل إنساناً فسلمه إلى المكفول له ولا ضرر في تسليمه برئ ولو في حبس الشرع ولا يلزمه اختياره منه إليه عند أحد الأئمة والسجان ونحوه ممن هو وكيل على بدن الغريم كالكفيل للوجه عليه إحضار الخصم فإنْ تعذر إحضاره كان كما لو لم يحضر المكفول به يضمن ما عليه عندنا وعند مالك وإذا لم يكن الوالد ضامناً لولده ولا له عنده مال يجب له على الوالد معاونة صاحب الحق على إحضار ولده ونحوه ولزمه ذلك
"فصل"
والحوالة على ماله في الدين إن أذن في الاستيفاء فقط والمختار الرجوع ومطالبته وليس للابن أن يحيل على الأب ولا يبيح دينه إذا جوَّزنا بيع ما على الغريم إلا برضاء الأب وكره الإمام أحمد أن يتزوج الرجل أو(1/477)
يقترض أو يشتري إذا لم يعلم الآخر بعسرته أولاً لأن ظاهر الحال أن الرجل إنّما يعامل من كان قادراً على الوفاء فإذا كتم ذلك كان عذراً
"فصل"
ويجوز رهن العبد المسلم مِن كافر بشرط كونه في يد مسلم واختاره طائفة من أصحابنا ويجوز أن يرهن الإنسان مال نفسه على دين غيره كما يجوز أن يضمنه وأولى وهو نظير إعارته للمرهن وإذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين فالقول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من قيمة الرهن وهو مذهب مالك ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع الدين وهو مذهب أحمد وغيره وإذا لم يكن للمديون وفاء غير الرهن وجب على رب الدين إمهاله حتى يبيعه فمتى لم يمكن بيعه إلا بخروجه من الحبس أو كان في بيعه وهو في الحبس ضرر عليه وجب إخراجه ويضمن عليه أو يمشي معه هو أو وكيله(1/478)
باب الصلح وحكم الجوار
...
"باب الصلح وحكم الجوار"
ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً وهو رواية عن أحمد وحكى قولاً للشافعي ويصح عن دية الخطأ و عن قيمة المتلف غير المثل بأكثر منها من جنسها وهو قياس قول أحمد والغبن والمنفعة التي لا قيمة لها عادة كالاستظلال بجدار الغير والنظر في سراجه لا يصح أن يرد عليها عقد بيع أو إجارة اتفاقاً ولو اتفقا على بناء حائط بستان فبنى أحدهما فما تلف من الثمرة بسبب إهمال الآخر ضمن لشريكه نصيبه وإذا احتاج الملك المشترك إلى عمارة لا بد منها فعلى أحد الشريكين أن يعمر مع شريكه إذا طلب ذلك منه في أصح قولي العلماء ويلزم إلا على التستر بما يمنع مشارفة الأسفل وإن استويا وطلب أحدهما بناء السترة أُجبر الآخر معه مع الحاجة إلى السترة وهو مذهب أحمد وليس للإنسان أن يتصرف في ملكه بما يُؤذي به جاره من بناء حمّام وحانوت وطبّاخ ودّقاق وهو مذهب أحمد
ومَن لم يسد بئره سداً يمنع من التضرر بها ضَمن ما تلف بها وله تعلية بنائه ولو أفضى إلى سد الفضاء عن جاره
قلت: وفيه على قاعدة أبي العباس نظر و الله أعلم(1/478)
وليس له منعه خوفاً من نقص أجره ملكه بلا نزاع والمضارة مَبناها على القصد والإرادة أو على فعل ضرر عليه فمتى قصد الإضرار ولو بالمناخ أو فعل الاضرار من غير استحقاق فهو مُضار وأما إذا فعل الضرر المستحق للحاجة إليه والانتفاع به لا لقصد الأضرار فليس بمُضار ومِن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النخلة التي كانت تضر صاحب الحديقة لما طلب من صاحبها المعاوضة عنها بعدة فلم يفعل فقال: " إنما أنت مُضار" ثم أمر بقلعها فدلَّ على أن الضرار محرم لا يجوز تمكين صاحبه منه ومن كانت له ساحة تلقى فيها التراب والحيوانات ويتضرر الجيران بذلك فإنّه يجب على صاحبها أن يدفع ضرر الجيران إمّا بعمارتها أو إعطائها لمن يعمرها أو يمنع أن يلقى فيها ما يضر بالجيران وإذا كان المسجد معداً للصلاة ففي جواز البناء عليه نزاع بين العلماء وليس لأحد أن يبني فوق الوقف ما يضر به اتفاقاً وكذا إن لم يضر به عند الجمهور وإذا كان الجدار مختصاً بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار ولا يضر بصاحب الجدار ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر في أصح القولين في مذهب أحمد وحكم به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فالساباط الذي يضر بالمارة مثل أن يحتاج الراكب أن يحني رأسه إذا مر هناك وإن غفل عن نفسه رمى عمامته أو شج رأسه ولا يمكن أن يمر هناك جمل عال إلا كُسرت رقبته والجمل اُلمحمَّل لا يمر هناك فمثل هذا الساباط لا يجوز إحداثه على طريق المارة باتفاق المسلمين بل يجب على صاحبه إزالته فإنْ لم يفعل كان على ولاة الأمور إلزامه بإزالته حتى يزول الضرر حتى لو كان الطريق منخفضاً ثم ارتفع على طور الزمان وجب إزالته إذا كان الأمر على ما ذكر و الله أعلم(1/479)
باب الحجر
...
"باب الحجر"
وإذا لزم الإنسان الدين بغير معاوضة كالضمان ونحوه ولم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه في الإعسار وهو مذهب أحمد وغيره ومن أراد(1/479)
سفراً وهو عاجز عن وفاء دينه فلغريمه منعه حتى يقيم كفيلاً بدينه ومَنْ طُولب بأداء دين عليه فطلب أمهالاً أُمهل بقدر ذلك اتفاقاً لكن إذا خاف غريمه منه احتاط عليه بملازمته أو بكفيل أو برسم عليه ومَنْ كان قادراً على وفاء دينه وامتنع أُجبر على وفائه بالضرب والحبس ونص على ذلك الأئمة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم
قال أبو العباس: ولا أعلم فيه نزاعاً لكن لا يزاد كل يوم على أكثر من التعزير إن قيل يتقدر وللحاكم أن يبيع عليه ماله ويقضي دينه ولا يلزمه وإذا كان الذي عليه الحق قادراً على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أخرجه إلى الشكاية فما غرمه بسبب ذلك فهو على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد وممن عرف بالقدرة فادعى إعساراً وأمكن عادة قُبل وليس له إثبات إعساره عند غيره من حبسه بلا إذنه ويقضي دينه من مال له فيه شبهة لأنه لا يبقى شبهة بترك واجب ولو ادعت امرأة على زوجها بحقها وحبسته لم يسقط من حقوقه عليها شيء قبل الحبس بل يستحقها عليها بعد الحبس كحبسه في دين غيرها فله إلزامها ملازمة بيته ولا يدخل عليها أحد بلا إذنه ولو خاف خروجها من منزله بلا إذنه أسكنها حيثُ شاء ولا يجب حبسه بمكان معين فيجوز حبسه في دار نفسه بحيث لا يُمَكَّن من الخروج ولو كان قادراً على أداء الدين وامتنع ورأى الحاكم منعه من فضول الأكل والنكاح فله ذلك إذ التعزير لا يختص بنوع معين وإنّما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم في نوعه وقدره إذا لم يتعد حدود الله ومَنْ ضاق ماله عن ديونه صار محجوراً عليه بغير حكم حاكم بالحجر وهو رواية عن أحمد ومَن عليه نفقة واجبة فلا يملك التبرع بما يخل بالنفقة الواجبة وكلام أحمد يدلَّ عليه وإن نُوزع المحجور عليه لحظر في الرشد فشهد شاهدان برشده قُبل لأنه قد يعلم بالاستفاضة ومع عدم البيّنة له على وليه أنه لا يعلم رشده ما صرفه في الحرام أو كان صرفه في مباح قدراً زائداً على المصلحة ولو وصى من فسقه ظاهر أو لا وجب إنفاذه كحاكم فاسق حكم بالعدل والولاية على الصبي والمجنون والسفيه تكون لسائر الأقارب ومع الاستقامة لا يحتاج إلى الحاكم إلا إذا امتنع من طاعة الولي وتكون الولاية لغير الأب والجد والحاكم وهو(1/480)
مذهب أبي حنيفة ومنصوص الشافعي في "الأم" وأما تخصيص الولاية بالأب والجد والحاكم فضعيف جداً والحاكم العاجز كالعدم ولو مات مَن يتجر لنفسه وليتيمه بماله وقد اشترى شيئاً ولم يعرف لمن هو لم يقسم ولم يوقف الأمر حتى يصطلحا كما يقوله الشافعي بل مذهب أحمد أنه يفرغ فمن فرغ خلف واحد ولو مات الوصي وجهل بقاء مال وليه كان ديناً في تركته ولوصي اليتيم أقل الأمريْن من أجرة مثله أو كفايته ولا يجوز أن يولى على مال اليتيم إلا من كان قوياً خبيراً بما ولي عليه أميناً عليه والواجب إذا لم يكن الولي بهذه الصفة أن يستبدل به ولا يستحق الأجرة المسماة لكن إذا عمل لليتامى استحق أجرة المثل كالعمل في سائر العقود الفاسدة ولا يقبل من السيد دعوى عدم الإذن لعبده مع علمه بتصرفه ولو قدر صدقه فتسليطه عليه عدوان وتردد أبو العباس فيما إذا لم يمكن الولي خلاص حق موليه إلا برفع مَن هو عليه إلى والٍ يظلمه ويستحب التجارة بمال اليتيم لقول عمر وغيره: اتجروا بأموال اليتامى كيلا تأكلها الصدقة(1/481)
باب الوكالة
...
"باب الوكالة"
قال القاضي في ضمن
مسألة: بقاء الوكيل بموت الموكل فأما إن أخرج الموكل فيه عن ملكه مثل اعتاقه العبد وبيعهفإنه تنفسخ الوكالة بذلك ففرق بين الموت وبين العتق والمبيع بأن حكم الملك هنا قد زال وهناك السلعة بعد الموت باقية على حكم مالكها وما قاله القاضي فيه نظر فإنَّ الانتقال بالموت أقوى منه بالبيع والعتق فإنّ هذا يمكن الموكل الاحتراز عنه فيكون بمنزلة عزله بالقول وذلك زال الملك فيه بفعل الله تعالى وإذا تصرف بلا إذن ولا ملك ثم تبين أنه كان وكيلاً أو مالكاً ففي صحة تصرفه وجهان كما لو تصرف بعد العزل ولم يعلم فلو تصرف بإذن ثم تبين أن الأذن كان من غير المالك والمالك أذن له ولم يعلم أو أذن بناء على جهة ثم تبين أنه لم يكن يملك الأذن بها بل بغيرها أو بناء أنه مالك شبر ثم تبين أنه كان وارثاً فإنْ قلنا يصح التصرف في الأول فههنا أولى وإن قلنا لا يصح هناك فقد يقال: صح هنا لأنه كان مباحاً(1/481)
له في الظاهر والباطن لكن الذي اعتقده ظاهر ليس هو الباطل فنظيره إذا اعتقد أنه محدث فتطهر ثم تبين فساد طهارته وإنه كان متطهراً قبل هذا ولو وكل شخصاً أن يوكل له فلاناً في بيع ونحوه فقال الوكيل الأول للوكيل الثاني: بع هذا ولم يشعر أنه وكيل الموكل
قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة فقلت: نسبة أنواع التوكيل والموكلين إلى الوكيل كنسبة أنواع التمليك والمملكين إلى الملك ثم لو ملك شيئاً لم يحتج أن يتبين هل هو وكيله أو وكيل فلان وإن كان الحكم فيهما مختلفاً بالنسبة إلى الموكل والمملك نقل ههنا في رجل دفع إلى رجل ثوباً يبيعه فباعه وأخذ الثمن فوهبه المشتري من الثمن درهماً فإنَّ الضمان على الذي باع الثوب فقد نص أحمد على أن ما حصل للوكيل من زيادة فهي للبائع وما نقص فهو عليه ولم يفرق بين أن يكون النقص قبل لزوم العقد أو بعده وينبغي أن يفصل إذا لم يلزمه والوكيل في الضبط والمعرفة مثل مَن وكل رجلاً في كتابة ماله وما عليه كأهل الديوان فقوله أولى بالقبول من وكيل التصرف لأنه مؤتمن على نفس الإخبار بما له وما عليه وهذه
مسألة نافعة ونظير إقرار كتاب الأمراء وأهل ديوانهم بما عليهم من الحقوق بعد موتهم وإقرار كتاب السلطان وبيت المال وسائر أهل الديوان مما على جهاتهم من الحقوق ومَن ناظر الوقف وعامل الصدقة والخراج ونحو ذلك فإنَّ هؤلاء لا يخرجون عن ولاية أو وكالة وإن استعمل الأمير كاتباً جابياً أو عاملاً أثم بما أذهب من حقوق الناس لتفريطه ومن استأمنه أميراً على ماله فخشي من حاشيته إن منعهم من عادتهم المتقدمة لزمه فعل ما يمكنه وما هو اصلح للأمير من تولية غيره فيرتع معهم لا سيما وللأخذ شبهة
قال في "المحرر": وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل أو بدونه صح ولزمه النقص والزيادة ونص عليه
قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك وقال: هذا ظاهر فيما إذا فرط وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم(1/482)
ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم ويشبه تصرفه قبل علمه بالعزل وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجّر أو زارع أو ضارب ثم تبين الخطأ فيه مثل: أن يأمر بعمارة أو غرس ونحو ذلك ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه وهذا باب واسع وكذلك المضارب والشريك فإنّ عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة ولا لزوم عليه فيهما وتضمين مثل هذا فيه نظر وهو يشبه بما إذا قتُل في دار الحرب من يظنه حربياً فبان مسلماً فإنَّ جماع هذا أنه مجتهد مأمور بعمل اجتهد فيه وكيف يجتمع عليه الأمر والضمان هذا الضرب هو خطأ في الاعتقاد والقصد لا في العمل وأصول المذهب تشهد له بروايتين قال أبو حفص في "المجموع": وإذا سمى له ثمناً فنقص منه نص الإمام أحمد في رواية ابن منصور إذا أمر رجلاً أن يبيع له شيئاً فباعه بأقل قال: البيع جائز وهو ضامن لما نقص قال أبو العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن لأنهما يريان فساد العقد وهو يدعي صحته فكان القول قوله ويضمن الوكيل النقص وإذا وكله أو أوصى إليه أن يتصدق بمال ذكره فإنّه يصح وتعيين المعطي إلى الوكيل أو الوصي هذا هو الذي ذكروه في الوصية والوكالة مثلها وكذلك لو وكله أو أوصى إليه بإخراج حجة عنه وإن وكله أو أوصى إليه أن يقف عنه شيئاً ولم يُعين مَصرفاً فينبغي أن يكون كالصدقة فإنَّ المصرف للوقف كالمصرف للصدقة ويبقى إلى الوكيل والوصي تعيين المصرف وإن عين مصرفاً منقطعاً فينبغي أن يكون إلى الوصي تتميمه بذكر مصرف مؤيد إلا أن يقال: الصدقة لها جهة معلومة بالشرع والعرف وهم الفقراء وإنّما النظر للوصي في تعيين أفراد الجهة بخلاف الوقف فإنَه لا يتبين له جهة معينة شرعاً ولا عرفاً فالكلام في هذا ينبغي أن يكون كما لو نذر أن يقف أو يتصدق وحديث أبي طلحة يقتضي أنَّ مَنْ نذر الصدقة بمال فإنَّ الأفضل أن يصرفه في أقربيه وإن كان فيهم غني وهذا يقتضي أن الصدقة المطلقة في النذر ليست محمولة على الصدقة الواجبة في الشرع لكن على جنس المستحبة شرعاً ويتوجه(1/483)
على أدنى الواجب أو أدنى التطوع فبين الوكالة والإيمان مشابهات والوكيل أمين لا ضمان عليه ولو عُزل قبل علمه بالعزل وقلنا: ينعزل لعدم تفريطه وكذا لا يضمن مشترٍ الأجرة إذا لم يعلم وهو أحد القولين ومَن وكل في بيع أو استئجار أو شراء فإنْ لم يسم الموكل في العقد فضامن وإلا فروايتان وظاهر المذهب تضمينه ولو تصرف الوكيل فادعى الموكل أنه عزله قبل التصرف لم يقبل فلو أقام بينه ببلد آخر وحكم به حاكم فإن لم ينعزل قبل العلم صح تصرفه وإلا كان حكماً على الغائب ولو حكم قبل هذا الحكم بالصحة حاكم لا يرى عزله قبل العلم فإن كان قد بلغه ذلك بعد الحكم الناقض له فهو مردود وإلا وجوده كعدمه
قال القاضي في "المجرد" و ابن عقيل في "الفصول": ولو جاء رجل إلى امرأة فقال لها: وكلني فلان لأزوجك له فرغبت في ذلك وأذنت لوليها في تزويجها ثم إن ذلك الموكل أنكر أن يكون وكله في التزويج له فالقول قوله ولا يلزمه النكاح ولا تلزم للوكيل بل يحكم ببطلانه ويتفرع على هذا أن الرجل إذا وكل وكيلاً في أن يتزوج له امرأة فتزوجها فلا بد أن يذكر حال العقد أنه تزوجها لفلان فإن أطلق ولم يسم الموكل لم يلزمه النكاح في حقه ولا في حق الموكل لأن الظاهر أنه عقد العقد لنفسه ونيته أن يعقده لغيره وإذا لم يذكر اسم ذلك الغير فقد أخل بالمقصود ولو وكله أن يشتري له سلعة فاشتراها لم يشترط في صحة العقد ذكر فلان بل إذا أطلق ونوى الشراء له صح لأن القصد منه حصول الثمن وقد وجد وإذا بطل عقد النكاح في حقهما فهل يلزم الوكيل نصف الصداق على روايتين
قال أبو العباس: فقد جعلا فيما إذا لم يسم الوكيل الموكل في العقد روايتين وهذا فيه نظر بل إذا قال: زوجتك فلانة فقال: قبلت فقد انعقد النكاح في الظاهر للوكيل فإذا قال: نويت أن النكاح لموكلي فهو يدعي فساد العقد وإنَّ الزوج غيره فلا يقبل قوله على المرأة إلا أن تُصدقه ولو صدقته لم يلزمه شيء قولاً واحداً إلا أنَّ هنا الإنكار من الزوج بخلاف مسألة انكار الوكالة ولو قبل(1/484)
منه فتزوج غيرها ثم كتب لزوجته الجديدة وكالة وقال: متى رددتها كان طلاقها بيدك إلى مدة عشرين سنة وقد طلق التي بيدها الوكالة فهذه المسألة قد يظن أن الوكالة بحالها بناء على أن الزوج إذا وكل امرأته في بيع ونحوه ثم طلقها ثلاثاً لم تبطل الوكالة بالتطليق كما ذكره الفقهاء وليست كتلك والصواب في هذه الصورة أنها تبطل بالتطليق لأنه هناك لم يرد أن يطلقها وقد استناب غيره في ذلك وإنّما يريد أن يبيع متاعه فيوكل شخصاً وهنا المراد تمكينها هي من الطلاق لئلا تبقى زوجة إلا برضاها وأما بعد البينونة فلا يقصد رضاها كيف وقد طلقها وهذا كله إذا جعل الشرط لازماً وأمّا إذا لم يجعله شرطاً لازماً فيكون كما لو قال لها: ابتداء أمرك بيدك أو: أمر فلانة بيدك فإنّ هذا له الرجوع فيه قال الأصحاب: ومن ادعى الوكالة في استيفاء حق فصدقه الغريم لم يلزمه الدفع إليه ولا اليمين أن كذبه والذي يجب أن يقال: إن الغريم متى غلَب على ظنَّه أن الموكل لا ينكر وجب عليه التسليم فيما بينه وبين الله تعالى الذي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وكيله وعلم له علامة فهل يقول أحد: أن ذلك الوكيل لم يكن يجب عليه الدفع وأمّا في القضاء فإنْ كان الموكل عدلاً وجب الحكم لأن العدل لا يجحد والظاهر أنه لا يستثني فإن دفع من عنده الحق إلى الوكيل ولم يصدقه بأنّه وكيل وأنكر صاحب الحق الوكالة رجع عليه وفاقاً ومجرد التسليم ليس تصديقاً وكذا إن صدقه في أحد قولي أصحابنا بل نص إمامنا وهو قول مالك لأنه متى لم يتبين صدقه فقد غره وكل إقرار كذب فيه ليحصل بما يمكن أساؤه ويجعل أنساً مثل من يقول: وكلت فلاناً ولم يوكله فهو نظير أن يجحد الوصية فهل يكون جحده رجوعاً ففيه وجهان وإذا اشترى شيئاً من موكله أو موليه كان الملك للموكل والمولى عليه ولو نوى شراءه لنفسه لأن له ولاية الشراء كالغصب لكن لو نوى أن يقع الملك له وهذه نية محرمة فتقع باطلة ويصير كأن العقد عري عنها إذا كان يريد النقد من مال المولى عليه أو الموكل قال أبو العباس في "تعاليقه" القديمة: حديث عروة في شراء الشاة يدل على أن الوكيل في شراء معلوم بمعلوم إذا(1/485)
اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع الفاضل وكذا ينبغي أن يكون الحكم ويغلب على ظني أنه منقول كذا حسبه في كفالة الكافي
قلت: ما قاله أبو العباس من النقل فصحيح قال صاحب "الكافي": ظاهر كلام أحمد صحة ذلك الحديث عن عروة ولكن ذكره في وكالة الكافي فنسب العلم لأبي العباس فكتب كفالة الكافي و الله أعلم
"فصل"
الاشتراك في مجرد الملك بالعقد مثل أن يكون بينهما عقار فيشيعانه أو يتعاقد على أن المال الذي لهما المعروف بهما بينهما يكون نصفين ونحو ذلك مع تساوي ملكهما فيه فجوازه متوجه لكن يكون قياس ما ذكروه في الشركة أنه ليس بيع كما أن القسمة ليست بيعاً ولا نفقة للمضارب إلا بشرط أو عادة فإنْ شرطت مطلقاً فله نفقة مثل طعامه وكسوته وقد يخرج لنا أن للمضارب في السفر الزيادة على نفقة الحضر كما قلنا في الولي إذا جحد الصبي لأن الزيادة إنّما احتاج إليها لأجل المال وقال أبو العباس: أيضاً يتوجه فيها ما قلناه في نفعه في الصبي إذا أحجه الولي هل يكون الزائد فيها من مال الصبي أو مال الولي على القولين كذلك وقد ثبت مَن أصلنا صحة الإشتراك في العقود وإن تختلط الأعيان كما تصح الأقسام بالمحاسبة وإن لم تتميز الأعيان ولو دفع دابته أو نخلة إلى من يقوم به وله جزء من ثمانية صح وهو رواية عن أحمد ويجوز قسمة الدين في ذمة أو ذمم وهو رواية عن أحمد فإن تكافأت الذمم فقياس المذهب في الحوالة على ولي وجوبها ولو كتب رب المال للجابي والسمّسار ورقة ليسلمها إلى الصبي في المتسلم ماله وأمره أن لا يسلمه حتى يقتص منه فخالف ضمن لتفريطه ويصدق الصبي مع يمينه والورقة شاهدة له لأن العادة جارية بذلك وتصح شركة الشهود وللشاهد أن يقيم مقامه إن كان الجعل على عمل في الذمة وإن كان على شهادته بعينه فالأصح جوازه وللحاكم أن يكرههم لأن له نظر في العدالة وغيرها وإن اشتركوا على أنه كلما حصله كل واحد منهم بينهم بحيث إذا كتب أحدهم وشهد شاركه الآخر وإن لم يعمل فهي شركة الأبدان تجوز بحيث تجوز به الوكالة وأما(1/486)
حيث لا تجوز ففيه وجهان كشركة الدلالين وقد نص أحمد على جوازها فقال في رواية أبي داود وقد سئل عن الرجل يأخذ الثوب ليبيعه فيدفعه إلى الآخر يبيعه ويناصفه فيما يأخذ من الكراء: للذي باعه إلا أن يكون يشتركان فيما أصابا ووجه صحتها أن بيع الدلال وشراءه بمنزلة خياطة الخياط وتجارة التجار وسائر الأجراء المشتركين ولكل منهم أن يستنيب وإنْ لم يكن للوكيل أن يوكل ومأخذ من منع أن الدلالة من باب الوكالة وسائر الصناعات مِن باب الإجارة وليس الأمر كذلك ومحل الخلاف في شركة الدلالين التي فيها عقد فأمّا مجرد النداء والعرض واحضار الديون فلا خلاف في جوازه وتسليم الأموال إلى الدلالين مع العلم باشتراكهم أذن لهم ولو باع كل واحد ما أخذه ولم يعط غيره واشتركا في الكسب جاز في أظهر الوجهين وموجب العقد المطلق التساوي في العمل وأمّا بإعطائه زيادة في الأجرة بقدر عمل وإن اتفقوا على أن يشترطوا له زيادة جاز وليس لولي الأمر المنع بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان والوجوه والمساقاة والمزارعة ونحوها مما يشرع فيه الاجتهاد والربح الحاصل من مال لم يأذن مالكه في التجارة فيه فقيل هو للمالك فقط كنماء الأعناب وقيل: للعامل فقط لأن عليه الضمان وقيل: يتصدقان به لأنه ربح خبيث وقيل: يكون على قدر النفعين بحسب معرفة أهل الخبرة وهو أصحها وبه حكم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلا أن يتجر به على غير وجه العدوان
مثل: أن يعتقد أنه مال نفسه فتبين مال غيره فهنا يقتسمان الربح بلا ريب وذكر أبو العباس في موضع آخر أنه إن كان عالماً بأنه مال الغير فهنا يتوجه قول مَن لا يعطه شيئاً لأنه حصل بعمل محرم فلا يكون سبباً للإباحة فإنّ تاب سقط حق الله بالتوبة وأبيح له حينئذ بالقسمة فأما إذا لم يتب ففي حله نظر وكذلك المتوجه فيما إذا غصب شيئاً كفرس وكسب به مالاً كالصيد أن يجعل المكسوب بين الغاصب ومالك الدابة على قدر نفعهما
بأن تقوم منفعة الراكب ومنفعة الفرس ثم يقسم الصيد بينهما وأما إذا كسب العبد فالواجب أن يعطي(1/487)
المالك أكثر من الأمريْن من كسبه أو قيمة نفعه ومَن كانت بينهما أعيان مشتركة مما يكال أن يُوزن فأخذ أحدهما قدر حقه بإذن حاكم جاز قولاً واحداً وكذلك بدون إذنه على الصحيح. انتهى.(1/488)
باب المزارعة والمساقاة
...
"باب المزارعة والمساقاة"
ولو دفع أرضه إلى آخر يغرسها بجزء من الغَرس صح كالمزارعة واختاره أبو حفص العكبري والقاضي في "تعليقه" وهو ظاهر مذهب أحمد ولو كانت الأرض مغروسة فعامله بجزء من غراسها صح وهو متقضى ما ذكره أبو حفص ولا فرق بين أن يكون الغارس ناظر وقف أو غيره ولا يجوز لناظر بعده نصيب الوقف من الشجرة وللحاكم الحكم بلزومها في محل النزاع فقط والحكم له من جهة عوض المثل ولو لم تقم به بينة لأنه الأصل ويجوز للإنسان أن يتصرف فيما في يده بالوقف وغيره حتى تقوم حجة شرعية بأنه ليس ملكاً له لكن لا يحكم بالوقف حتى يثبت الملك ومقتضى قول أبي حفص أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض كما جاز النسج بجزء مَن غَزل نفسه فإنْ اشترطا في المغارسة أن يكون على الغارس الماء أو بعضه فالمتوجه أن الماء كالغرس والبذر سيجيء مثله في المزارعات
لأن الماء أصل يفنى ومتى كان من العامل أصل فإنَّ فيه روايتان وإن غارسه على أن رب الأرض تكون له دراهم مسماة إلى حين إثمار الشجر فإذا أثمرت كانا شريكين في الثمر
قال أبو العباس: فهذه لا أعرفها منقولة وقد يقال: هذا لا يجوز كما إذا اشترط شيئاً مقدراً فإنَّه قد لا يحصل إلا ذلك المشروط فيبقى الآخر لا شيء له لكن الأظهر أن هذا ليس بمحرم والمناصب على أن عليه سقي الشجر والقيام عليها إذا باع نصيبه من ذلك لمن يقوم مقامه في العمل جاز وصح شرطه كالمكاتب إذا بيع على كتابه هذا قياس المذهب وإذا لم يقم الغارس بما شرط عليه كان لرب الأرض الفسخ فإذا فسخ العامل لو كانت فاسدة فلرب الأرض أن يتملك نصيب الغارس(1/488)
إذا لم يتفقا على القلع وإذا ترك العامل العمل حتى فسد الثمر فينبغي أن يجب عليه ضمان نصيب المالك وينظر كم يحيى لو عمل بطريق الاجتهاد
كما يضمن لو يبس الشجر وهذا لأن تركه العمل من غير فسخ العقد حرام وضرر وهو سبب في عدم هذا الثمر فيكون كما لو تلفت الثمرة تحت اليد العادية مثل أن يغصب الشجر غاصب ويعطلها عن السقي حتى يفسد ثمرها أما الضمان باليد العادية كالضمان بسبب الإتلاف لا سيما إذا انضم إليه العادية واستيلاؤه على الشجر مع عدم الوفاء بما شرطه هل هو يد عادية فيه نظر لكنه سبب في الإتلاف وهذا في الفوائد نظير المنافع فإنَّ المنافع لم توجد وإنّما الغاصب منع من استيفائها وحاصله أن الاتلاف نوعان: إعدام موجود وتفويت لمعدوم انعقد سبب وجوده وهذا تفويت وعلى هذا فالعامل في المزارعة إذا ترك العمل فقد استولى على الأرض وفوت نفعها فينبغي أيضاً ضمان إتلاف أو ضمان إتلاف ويد لكن هل يضمن أجرة المثل أو يضمن ما جرت به العادة في مثل تلك الأرض مثل أن يكون الزرع في مثلها معروفاً فيقاس بمثلها
أما على ما ذكره أصحابنا فينبغي أن يضمن بأجرة المثل والأصوب الأقيس بالمذهب أن يضمن بمثل ما يثبت وعلى هذا فلا يكون ضمان يد وإنما هو ضمان تعزيز والمزارعة أحل من الاجارة لاشتراكهما في الغُنم والمغرم ولا يشترط كون البذر من رب الأرض وهو رواية عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه ولو كان من إنسان الأرض ومن ثان العمل ومن ثالث البذر ومن رابع البقر صح وهو رواية عن أحمد وإذا نبت الزرع من الحب المشترك قُسم الزرع على قدر منفعة الأرض والحب في أصح القولين وإنْ شَرط صاحب البذر أن يأخذ مثل بذره ويقتسمان الباقي جاز كالمضاربة وكاقتسامهما ما يبقى بعد الكلف وإذا صحت المزارعة فيلزم(1/489)
المقطع عشر نصيبه ومَنْ قال: العشر كله على الفلاح فقد خالف الإجمع وإن الزموا الفلاح به ف
مسألة الظَفْر والحق ظاهر فيجوز له قدر ما ظلم به والمساح على المالك ويتبع في الكلف السلطانية العرف ما لم يكن شرط وما طُولب من القرية من الوظائف السلطانية ونحوها فعلى قدر الأموال وإن وضعت على الزرع فعلى ربه وإن منعت مطلقاً فالعادة ولا يجوز أن يشترط المقطع على الفلاح شيئاً مأكولاً وما يؤخذ من نصيب الفلاح للمقطع والعشر والرئاسة إن كانت لو دفعت مقاسمة قسمت أو جرت العادة بمقدار فأخذ قدره فلا بأس وهدية الفلاح للمقطع إنّما هي بسبب الاقطاع فينبغي أن يحسبها له مما عنده أو لا يأخذها وإذا فسدت المزارعة أو المساقاة أو المضاربة استحق العامل نصيب المثل وهو ما جرت العادة في مثله لا أجرة المثل وإذا كنا نقول في الغاصب: أن زرعه لرب الأرض وعليه النفقة فلأن نقول مثل ذلك في المزارعة الفاسدة إن الزرع لرب الأرض وإن كان البذر لغيره أولى و الله أعلم(1/490)
باب الاجارة
...
"باب الإجارة"
وهل تنعقد الاجارة بلفظ البيع وجهان يثبتان على أن هذه المعاوضة نوع من البيع أو شبه به ويصح أن يستأجر الدابة بعلفها وهو رواية عن أحمد وجزم به القاضي في "التعليق" ويصح أن يستأجر لابنه ولو جعل الأجرة نفقة نص مالك على جواز إجارة لابنه فمِن أصحابه مَن جوّز ذلك تبعاً لنصه ومنهم من منع بها مورد مورد النص ولم يدل عليها نصه وإذا استأجر لبنه فنقص عن العادة كبعير العادة ببعير العادة في المنفعة بملك المستأجر.(1/490)
وأما الأرش فيجوز إجارة ما قناه مدة وما قابض تركه راماه ويجوز إجارة الشجر لأخذ ثمره والسمع ليشغله وهو قياس المذهب فيما إذا أجره كل شهر بدرهم ومثله وكلما أعتقت عبداً من عبيدك فعلى ثمنه فإنّه يصح وإنْ لم يُبين العدد والثمن ويجوز للمؤجر إجارة العين المؤجرة من غير المستأجر في مدة الإجارة ويقُوم المستأجر الثاني مقام المالك في استيفاء الأجر من المستأجر الأول وغلط بعض الفقهاء فأفتى في نحو ذلك بفساد الاجارة الثانية ظناً منه أن هذا كبيع المبيع ّ تصرف فيما لا يملك وليس كذلك بل هو تصرف فيما استحقه على المستأجر ويجوز إجارة الاقطاع
قال أبو العباس: وما علمت أحداً من علماء الإسلام الأئمة الأربعة قال: إجارة الإقطاع لا تجوز حتى حدث بعض أهل زماننا فابتدع القول بعدم الجواز ويجوز للمستأجر إجارة العين المؤجرة لمن يقوم مقامه بمثل الأجرة وزيادة وهو ظاهر مذهب أحمد والشافعي فإنْ شرط المؤجر على المستأجر أن لا يستوفي المنفعة إلا بنفسه أو أن لا يؤجرها إلا لعدل أو لا يؤجرها من زيد
قال أبو العباس: فقياس المذهب فيما أراه أنها شروط صحيحة لكن لو تعذر على المستأجر الاستيفاء بنفسه لمرض أو تلف مال أو إرادة سفر ونحو ذلك فينبغي أن يثبت له الفسخ كما لو تعذر تسليم المنفعة ولو اضطر إلى السُكنى في بيت إنسان لا يجد سواه أو النزول في خان مملوك أو رحا للطحن أو غير ذلك من النافع وجب بدله بأجرة المثل بلا نزاع والأظهر أنه يجب بدله محاباً وهو ظاهر المذهب ويجوز أن يأخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث ونحوهما إن كان محتاجاً وهو وجه في المذهب ولا يصح الاستئجار على القراءة وإهدائها إلى الميت لأنه لم ينقل عن أحد من الأئمة الأذن في ذلك وقد قال العلماء: إن القارئ إذا قرأ لأجل المال فلا ثواب له فأي شيء(1/491)
يُهدى إلى الميت وإنما ّيصل إلى الميت العمل الصالح والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة وإنما ّتنازعوا في الاستئجار على التعليم ولا بأس بجواز أخذ الأجرة على الرقية ونص عليه أحمد
والمستحب أن يأخذ الحاج عن غيره ليحج لا أنّ يحج ليأخذ فمَن أحب إبرار الميت برؤية المشاعر يأخذ ليحج ومثله كل رزق أخذ على عمل صالحففْرقَ بين من يقصد الدين والدنيا وسيلته وعكسه فالأشبه أن عكسه ليس له في الآخرة من خلاق والأعمال التي يختص فاعلها أن يكون من أهل القربى هل يجوز إيقاعها غير وجه القرية فمَن قال: لا يجوز ذلك لم يُجِزْ الإجارة عليها لأنها بالعوض تقع غير قربة وإنّما الأعمال بالنيات و الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه ومَن جّوز الإجارة جوّز إيقاعها على وجه القربة وقال: تجوز الإجارة عليها لما فيها من نفع المستأجر وأما ما يُؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرة بل رزق للإعانة على الطاعة فمَنْ عمل منه لله أثيب وما يأخذه رزق للإعانة على الطاعة وكذلك المال الموقوف على أعمال البر والموصى به والمنذور وكذلك ليس كالأجرة والجُعل في الأجارة إلى ماله الاختصاص فلو استأجر أرضاً مِن جُندي ثم غرسها قضباً وانتقل الإقطاع إلى آخر فالجندي الثاني لا يلزمه حكم الإجارة الأولى وله أن يؤجرها لمن له فيها القضب وكذا لغيره على الصحيح ويقوم ذلك المؤجر فيها مقام المؤجر الأول وإذا وقعت الإجارة بالأشهر فالذي وقع في أثناء الشهر ففيه عن أحمد روايتان إحداهما يعتبر ذلك الشهر الذي وقع فيه الإنبات بالعدد وباقي الشهور بالأهلة وعلى هذه الرواية فإنّما يُعتبر الشهر الأول بحسب تمامه ونقصانه فإنْ كان تاماً كمل تاماً وإن كان ناقصاً كمل ناقصاً فإذا وقع أول المدة في عاشر الشهر مثلاً كُمّل ذلك الشهر في عاشر الثاني إن كان الشهر الأول ناقصاً(1/492)
وليس للوكيل أن يُطلق في الإجارة مدة طويلة بل العرف كسنتين ونحوهما وإذا شرط الواقف أن النظر للموقوف عليه أو أتى بلفظ يدلُّ على ذلك فأفتى بعض أصحابنا أن إجارته كإجارة الناظر وعلى ما ذكره ابن أحمد أن ليس كذلك وهو الأشبه وتنفسخ إجارة البطن الأول إذا انتقل الوقف إلى البطن الثاني في أصح الوجهين
وصناعة التنجيم وأخذ الأجرة عليها وبذلها حرام بإجماع المسلمين وعلى ولاة أمور المسلمين المنع من ذلك والقيام في ذلك من أفضل الجهاد في سبيل الله وإذا ركب المؤجر إلى شخص ليؤجره لم يجز لغيره الزيادة عليه فكيف إذا كان المستأجر ساكناً في الدار فإنّه لا تجوز الزيادة على ساكن الدار وإذا وقعت الإجارة صحيحة فهي لازمة من الطرفين ليس للمؤجر الفسخ لأجل زيادة حصلت باتفاق الأئمة وما ذكره بعض متأخري الفقهاء من التفريق بين أن تكون الزيادة بقدر الثلث فتقبل الزيادة أو أقل فلا تقبل فهو قول مبتدع لا أصل له عن أحد من الأئمة لا في الوقف ولا في غيره ولا التزم المستأجر بهذه الزيادة على الوجه المذكور لم تلزمه اتفاقاً ولو التزمها بطيب نفس منه في لزومها له قولان فعند الشافعي وأحمد لا تلزمه أيضاً بناء على أن إلحاق الزيادة والشروط بالعقود اللازمة لا يصح وتلزمه إذا فعلها بطيب نفس منه مُتبرعاً بذلك في القول الآخر وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في القول الآخر بناء على أنه تلحق الزيادة بالعقود اللازمة
لكن إذا كانت العادة لم تُجْرِ بأنَّ أحد هؤلاء يلحقها بطيب نفسه ولكن خوفاً من الإخراج فحينئذٍ لا تلزمها بالاتفاق بل لهم استرجاعها ممن قبضها منهم وأجرة المثل ليست شيئاً محدوداً وإنما هي ما تساوي الشيء في نفوس أهل الرغبة ولا عبرة بما يحدث في أثناء المدة من ارتفاع الكراء أو انخفاضه ولو استأجر تفاحة يحتمل الجواز ويجوز إجارة المقصبة ليقوم عليها المستأجر(1/493)
ويسقيها فتنبت العروق التي فيها بمنزلة مَنْ يسقي الأرض لينبت فيها الكلأ بلا بذر وإذا عمل الأجير بعض العمل أعطي من الأجرة بقدر ما عمل وإذا مات المستأجر لم يلزم ورثته تعجيل الأجرة في أصح قولي العلماء وهذا على قول مَنْ يقول: لا يحل الدين بالموت ظاهر وكذا على قول مَنْ يقول بحلوله في أظهر قوليهم إذ يفرقون بين الإجارة وغيرها ما يفرقون في الأرض المحتكر إذا بيعت أو ورثت فإنَّ الحكر يكون على المشتري والوارث وليس لأصحاب الحكر أخذ الحكر من البائع ومَنْ تركه الميت في أظهر قولي العلماء ويجوز الجمع بين البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قوليهم ولا يجوز أن يستأجر مَنْ يصلي معه نافلة ولا فريضة في جنبه ولا يمينه باتفاق الأئمة وإذا تقايلا الإجارة أو فسخها المستأجر بحق وكان حرثها فله ذلك وليس لأحد أن يقطع غراس المستأجر وزرعه سواء كانت الإجارة صحيحة أو فاسدة بل إذا بقي فعليه أجرة المثل وترك القابلة ونحوها الأجرة لحاجة المقبولة أفضل من أخذها الصدقة بها وإجارة المضاف يفسر بشيئين أن يؤجر سنة أو سنتين والثاني أن يؤجر مدة لا يمكن الانتفاع بالمأخوذ لما استؤجر له في المدة فمِن الحكام مَن يرى أن الإجارة لا تجوز إلا إذا أمكن الإنتفاع بالعين عقب العقد فإن أراد أن يستأجر الأرض للازدراع ونحوه كتب فيها أنه استأجرها مقيلاً ومراحاً ومزدرعاً ونحو ذلك لتكون المنفعة ممكنة حالة العقد ونصوص الإمام أحمد كثيرة في المنع من إجارة المسلم داره من أهل الذمة وبيعها لهم واختلف الأصحاب في هذا المنع هل هو كراهة تنزيه أو تحريم فأطلق أبو علي وأبو موسى والآمدي بالكراهة وأمّا الخلال وصاحبه فمقتضى كلامهما وكلام القاضي تحريم ذلك وكلام أحمد يحتمل الأمرين وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة إنّما محله إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة فأما إن أجره إياها لأجل بيع الخمر واتخاذها كنيسة لم يجز قولاً واحداً
قال أبو طالب: سألت أبا عبد الله عن الرجل يغسل الميت بكراء قال: بكراء !(1/494)
واستعظم ذلك
قلت: يقول: أنا فقير ! قال: هذا كسب سوء ووجه هذا النص أن تغسيل الموتى من أعمال البر والتكسب بذلك يؤذن بتمني موت المسلمين فنسبه إلى الاحتكار قال أصحابنا: يستحب أن يعطي الظئر عند الفطام عبداً أو أمة إذا أمكن للخبر ولعل هذا في المتبرعة بالرضاع وأمّا في الإجارة فلا يفتقر إلى تقدير عوض ولا إلى صيغة بل ما جرت العادة بأنه إجارة فهو إجارة يستحق فيه أجرة المثل في أظهر قولي العلماء
نقل أحمد بن الحسين قال: سأل رجل أحمد بن حنبل وأنا أسمع عن رجل يأخذ الأجرة على كتابة العلم فقال أبو عبد الله: أكرهه لا نأخذ على شيء من أعمال البر أجرة وكان أبن عيينة لا يراه
قال القاضي: ظاهر هذا المنع
قال أبو العباس: لعله مع الغنى وإلا فهو بعيد قال القاضي في "التعليق": إذا دفع إلى دلال ثوباً أو داراً وقال له: بع هذا فمضى وعرض ذلك على جماعة مشترين وعرف ذلك صاحب المبيع فامتنع من البيع وأخذ السلعة ثم باعها هو من ذلك المشتري أو من غيره لم تلزمه أجرة الدلال للمبيع لأن الأجرة إنما جعلها في مقابلة العقد وما حصل له ذلك
قال أبو العباس: الواجب أن يستحق من الأجرة بقدر ما عمل وهذه من مسائل الجعلات وتصح إجارة الأرض للزرع ببعض الخارج منها وهو ظاهر المذهب وقول الجمهور قال ابن منصور قلت لأحمد: الرجل يستأجر البيت إذا شاء أخرجه وإذا شاء خرج قال: قد وجب فيهما إلى أجله إلا أن يهدم البيت أو يغرق الدار أو يموت البعير فلا ينتفع المستأجر بما استأجر فيكون عليه بحساب ما سكن أو ركب
قال القاضي: ظاهر هذا أن الشرط الفاسد لا يبطل الإجارة
وقال أبو العباس: هذا اشتراط النجار لكنه في جميع المدة مع الأذن في الانتفاع فإذا ترك الأخير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه وللمستأجر مطالبة المؤجر بالعمارة وهي واجبة من وجهين من جهة حق أهل الوقف ومن جهة حق المستأجر(1/495)
واتخاذ الحجامة صناعة يتكسب بها هو مما نهى عنه عند إمكان الاستغناء عنه فإنه يقضي إلى كثرة مباشرة النجاسات والاعتناء بها لكن إذا عمل ذلك العمل بالعوض استحقه وإلا فلا يجتمع عليه استعماله في مباشرة النجاسة وحرمانه أجرته ونهى عن أكله مع الاستغناء عنه مع أنه ملكه وإذا كانت عليه نفقة رقيق أو بهائم يحتاج إلى نفقتها أنفق عليها من ذلك لئلا يفسد ماله إذا كان الرجل محتاجاً إلى هذا الكسب ليس له ما يغنيه عنه إلا المسألة للناس فهو خير له من مسألة الناس كما قال بعض السلف: كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس
وإذا بيعت العين المؤجرة أو المرهونة ونحوهما به تعلق حق غير البائع وهو عالم بالعيب فلم يتكلم فينبغي أن يقال: لا يملك المطالبة بفساد البيع بعد هذا لأن إخباره بالعيب واجب عليه بالسنة بقوله ولا يحل لمن علم ذلك إلا أن بيته فكتمانه تعزير والغار ضامن وكذا ينبغي أن يقال فيما إذا رأى عيباً فلم ينهه وفي جميع المواضع فإنَّ المذاهب أن السكوت لا يكون إذناً فلا يصح التصرف لكن إذا لم يصح يكون تغريراً فيكون ضامناً بحيث أنه ليس له أن يطالب المشتري بالضمان فإنَّ ترك الواجب عندنا كفعل المحرم كما يقال فيمَنْ قدر على إنجاء إنسان من هلاكه بل الضمان هنا أقوى وظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني أن من باع العين المؤجرة ولم يتبين للمشتري أنها مستأجرة أنه لا يصح البيع ووجهه أنه باع ملكه وملك غيره فهي مسألة تفريق الصفة
"فصل"
والعارية تجب مع غناء المالك وهو أحد القولين في مذهب أحمد وهي مضمونة يشترط ضمانها وهي رواية عن أحمد ولو سلم شريك شريكه دابة فتلفت بلا تعد ولا تفريط لم يضمن وقياس المذهب إذا قال: أعرتك دابتي لتعلفها أن هذا يصح لأن أكثر ما فيه أنه بمنزلة استئجار العبد بطعامه وكسوته لكن دخول العوض فيه يلحقه بالإجارة إلا أن يكون ذلك يسيراً لا يبلغ أجرة المثل بلا تعد فيكون حكم العارية باقياً وهذا في المنافع نظير الهبة المشروط فيها الثواب في الأعيان
قال أبو العباس: في قديم خطه نفقة العين المعارة تجب على المالك أو على المستعير لا أعرف فيها نقلاً إلا أن قياس المذهب فيما يظهر لي أنها تجب على المستعير لأنهم قد قالوا: إنه يجب عليه مؤنة ردها وضمانها إذا تلفت وهذا دليل(1/496)
على أنه يجب عليه ردها إلى صاحبها كما أخذها منه سوى نقص المنافع المأذون له فيها ثم إنه خطر لي أنها تخرج على الأوجه في نفقة الدار الموصى بمنفعتها فقط أحدها: يجب على المالك لكن فيه نظر وثانيها على المالك للنفع وثالثها في كسبها فإن قيل: هناك المنفعة مستحقة وليس بذلك هنا فإنَّ مالك الرقبة هو مالك المنفعة غير أن المستعير ينتفع بها بطريق الإباحة وهذا يقوي وجوبها على المعير والأصل الأول يقوي وجوبها على المستعير ثم أقول: هذا لا تأثير له في مسألتنا فإن المنفعة حاصلة في الأصل والفرع ثم كونه يملك انتزاع المنفعة من يده غير مؤثر بدليل ما لو كان واهب المنفعة أباً وكان الموهوب له ابنه وهذه في غير صورة الوصية
قلت: ذكر هذه المسألة أبو المعالي بن المنجا في "شرح الهداية" فقال: ونفقة العين المعارة واجبة على المعير ووافقه في "الرعاية" وقال: وعلى المستعير مؤنة رد المعار لا مؤنة عينه وذكر الحلواني في "التبصرة": أنها على المستعير و الله سبحانه وتعالى أعلم(1/497)
كتاب السبق
...
" كتاب السبق"
ويجوز اللعب بما قد يكون فيه مصلحة بلا مضرة وظاهر كلام أبي العباس لا يجوز المعروف بالطلب والمنقلة وكلما أفضى كثيراً إلى حرمة إذا لم يكن فيه مصلحة بل حجة لأنه يكون سبباً للشر والفساد وما ألهى وشَغَل عن ما أمر الله به فهو منهي عنه وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة وأما سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يُستعان به في حق شرعي فكله حرام وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم: أن عائشة -رضي الله عنها- وجواري معها يلعبن بالبنات وهو اللعب -والنبي صلى الله عليه وسلم يراهن فيرخص فيه للصغار ما لا يرخص فيه للكبار والصراع والسبق بالأقدام ونحوهما طاعة إذا قصد به نصر الإسلام وأخذ السبق عليه أخذ بالحق فالمغالبة الجائزة تحل بالعوض إذا كانت مما ينتفع(1/497)
به في الدين كما في مراهنة أبي بكر -رضي الله عنه- وهو أحد الوجهين في المذهب- قلت: وظاهر ذلك جواز الرهان في العلم وفاقاً للحنفية لقيام الدين بالجهاد والعلم و الله أعلم المسابقة بلا محلل ولو أخرج المتساوي وتصح شروط السبق للإنشاد وشراء قوس وكراء حانوت وإطعام الجماعة لأنه مما يعين على الرمي(1/498)
كتاب الغصب
*
...
" كتاب الغصب"
قال في "المحرر": وهو الإستيلاء على مال الغير ظلماً
قوله: على مال الغير ظلماً يدخل فيه مال المسلم والمعاهد وهو المال المعصوم ويخرج منه استيلاء المسلمين على أموال أهل الحرب فإنه ليس بظلم فيه إستيلاء المحاربين على مال المسلمين وليس بجيد فإنه ليس من الغصب المذكور حكمه هنا بإجماع المسلمين لا خلاف أنه لا يضمن بالإتلاف ولا بالتلف وإنّما الخلاف في وجوب رد عينه وأمّا أموال أهل البغي وأهل العدل فقد لا يرد لأن هناك لا يجوز الاستيلاء على عينها ومتى أتلفت بعد الاستيلاء على عينها ضمنت وإنّما الخلاف في ضمانها بالاتلاف وقت الحرب ويدخل فيه ما أخذ الملوك والقطاع من أموال الناس بغير حق من المكوس وغيرها فأمّا استيلاء أهل الحرب بعضهم على بعض فيدخل فيه وليس بجيد لأنه ظلم فيحرم عليهم قتل النفوس وأخذ الأموال إلا بأمر الله لكن يقال: لما كان المأخوذ مباحاً بالنسبة إلينا لم يصر ظلماً في حقنا ولا في حق مَن أسلم منهم فأمّا ما أُخذ من الأموال والنفوس أو أُتلف منها في حال الجاهلية أقر قراره لأنه كان مباحاً لكن لما كان الإسلام عفى عنه فهو عفو بشرط الإسلام وكذلك بشرط الأمان فلو تحاكم إلينا مستأمنان حكمنا بالاستقرار وإذا كان المتلف مما لا يباع مثل الثمر والزرع قبل بدو صلاحه فههنا لا يجوز تقويمه بشرط القطع لأنه(1/498)
مستحق للإبقاء وقد لا يكون له قيمة بل كالجنين في الحيوان فههنا إما أن يقوم مستحق الإبقاء وإلا لم يجز بيعه كذلك وإما أن يقوم مع الأصل ثم يقوم الأصل بدونه وإما أن ينظر إلى حال كحاله فيقوم بدون نفقة الإبقاء ففيه نظر لإمكان تلفه قبل وإما إذا جاز بيعه مستحق الإبقاء فيقوم مستحق الإبقاء كما يقوم المنقولات مع جواز الآفات عليها جميعاً
قال أبو العباس: سئلت عن قوم أخذت لهم غنم أو غيرها من المال ثم ردت عليهم أو بعضها وقد اشتبه ملك بعضهم ببعض
قال: فأجبت أنه إن عرف قدر المال تحقيقاً قسم الموجود عليهم على قدره وإن لم يعرف إلا عدده قُسمّ على قدر العدد لأن الماليْن إذا اختلطا قُسما بينهما وإن كان كل منهم يأخذ عين ما كان للآخر لأن الاختلاط جعلهم شركاء لا سيما على أصلنا: أن الشركة تصح بالعقد مع امتياز المالين لكن الاشتباه في الغنم ونحوها يقوم مقام الاختلاط في المائعات وعلى هذا فينبغي أنه إذا اشتركا بما يتشابه من الحيوان والثياب أنه يصح كما لو كان رأس المال دراهم إذا صححناها بالعرض وإذا كانوا شركاء بالاختلاط والاشتباه فعند القسم يقسم على قدر المالين فإن كان المردود جميع ما لهم فظاهر وإن كان بعضه فذلك البعض هو بعض المشترك كما لو رد بعض الدراهم المختلطة إن كان حيواناً فهل تجب قسمته أعياناً عند طلب بعضهم قولاً واحداً أو يخرج على القولين في الحيوان المشترك الشبه خروجه على الخلاف لأنه إذا كان لأحدهم عشرة رؤوس وللآخر عشرون فما وجد فلأحدهما ثلثه وللآخر ثلثاه كما لو ورثاه
لذلك فإنّ المحدود في هذه المسألة: أن مال كل منهما إن عرف قيمته فظاهر وإن لم يعرف إلا عدده مع أن غنم أحدهما قد يكون خيراً من غنم الآخر فالواجب عند تعذر معرفة رجحان أحدهما على صاحبه التسوية لأن الأصل عدم فضل غنم أحدهما على الآخر ولأن الضرورة تلجئ إلى التسوية وعلى هذا فسواء اختلط غنم أحدهما بالآخر عمداً أو خطأ يقسم المالان على العدد إذا لم يعرف الرجحان وإن عَرِف وجُهل قدره وأثبت منه القدر المتيقن وأسقط الزائد المشكوك فيه لأن الأصل عدمه ويضمن المغصوب بما نقص رقيقاً كان أو غيره(1/499)
وهو رواية عن أحمد واختارها طائفة من أصحابه قال في "المحرر" ومن قبض مغصوباً من غاصبه ولم يعلم فهو بمنزلته في جواز تضمينه العين والمنفعة لكنه يرجع إذا غرم على غاصب بما لم يلزمه ضمانة خاصة
قال أبو العباس: يتخرج ألا يضمن الغاصب ما لم يلتزمه على قولنا: أنه لا يقلع غرسه وبناءه حتى يضمن بعضه ويرجع به على البائع وعلى ظاهر كلامه في المنع: يضمن مودع المودع إذا لم يعلم وعلى إحدى الروايتين كان المغرور لا يضمن الأول بل يضربهم الغار ابتداء وإذا مات الحيوان المغصوب فضمنه الغاضب مجلدة إذا قلنا يطهُر بالدباغ للمالك وقياس المذهب ويتخرج أنه للغاصب وإذا كان بين اثنين مال مشترك فغصب نصيب أحدهما مشاعاً مِن عقار أو منقول فأصح قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد: أن النصف الآخر حلال للشريك الآخر ويذكر عن أبي حنيفة رواية عن أحمد أن ما يأخذه الظالم يكون من النصيبين جميعاً لأن الظالم ليس له ولاية القسمة وإن وقف الرجل وقفاً على أولاده مثلاً ثم باعه وهم يعلمون أنه قد وقفه فهل يكون سكوتهم عن الإعلام تغريراً مع أنهم هم المستحقون فهذا يستمد من السكوت هل هو إذن وهو ما إذا رأى عبده أو ولده يتصرف فقال أصحابنا: لا يكون إذناً لكن هل يكون تقريراً فإنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم في السلعة المعيبة لا يحل لمن يعلم ذلك إلا أن يبينه يقتضي وجوب الضمان وتحريم السكوت فيكون قد فعل فعلاً مُحرماً تلف به مال معصوم فهذا قوي جداً لكن قد يقال: فطرده أن َ علم بالعيب غير البائع فلم يبينه فقد غر المشتري فيضمن فيقال: هذا ينبني أن الغرور من الأجنبي ولو لم يكن الأولاد أو غيرهم قد عرف فإذا وجب الرجوع على الواقف(1/500)
بما قبضه من الثمن وبما ضمنه المشتري من الأجرة ونقص قيمة البناء والغرس ونحو ذلك ولو كان قد مات معسراً أو هو معسراً في حياته فهل يؤخذ من ريع الوقف الثمن الذي غرمه المشتري لا شك أن هذا بعيد في الظاهر لأن ريع الوقف للموقوف عليه وهو لم يقر فلا يؤخذ من ماله ما يقضي به دين غيره لكن باعتباره هذا الدين على الواقف بسبب تغريره بالوقف كان الواقف هو الآكل لريع وقفه وقد يتوجه ذلك إذا كان الوقف قد احتل بأن وقف ثم باع فإن قصد الحيلة إذا كان متقدماً على الوقف لا ينفع في المحتال عليه الذي هو أكل مال المشتري المظلوم ولو وطأ المالك رجلاً على أن يبيع داره ويظهر أنها للبائع لا أنه يبيعها بطريق الوكالة فهل تجعل هذه المواطأة وكالة وإن لم يأذن في بيعها لنفسه أم يجعل غروراً فإنه ما أذن في بيع فاسد لكن قصد التغرير فهل يعاقب بجعل البيع صحياً أم بضمان التقرير ولو اشترى مغصوباً من غاصبه رجع بنفقته وعمله على بائع غار له ومن زرع بلا إذن شريكه والعادة بأن من زرع فيها له نصيب معلوم ولربها نصيب قسم ما زرعه في نصيب شريكه كذلك ولو طلب أحدهما من الآخر أن يزرع معه أو يهايئه فأتى فللأول الزرع في قدر حقه بلا أجرة
واعتبر أبو العباس في موضع آخر إذن ولي الأمر ويضمن المغصوب بمثله مكيلاً أو موزوناً أو غيرهما حيث أمكن وإلا فالقيمة وهو المذهب عند أبي موسى وقاله طائفة من العلماء وإذا تغير السعر وفقد المثل فينتقل إلى القيمة وقت الغصب وهو أرجح الأقوال ولو شق ثوب شخص خيِّر مالكه بين تضمين الشاق نقصه وبين شق ثوبه ونقله إسماعيل عن أحمد ومن كانت عنده غصوب وودائع وغيرها لا يعرف أربابها صرف في المصالح وقال العلماء: ولو قصدت بها جاز وله الأكل منها ولو كان عاصياً إذا تاب(1/501)
وكان فقيراً ومن تصرف بولاية شرعية لم يضمن كمن مات ولا ولي له ولا حاكم وليس لصاحبه إذا عرف رد المعارضة كثبوت الولاية عليها شرعاً ومن غرم مالاً بسبب كذب عليه عند ولي الأمر فله تضمين الكاذب عليه بما غرمه ولو طرق فحل غيره على فرس نفسه فنقص الفحل ضمنه ولا يجوز لوكيل بيت المال ولا غيره بيع شيء من طريق المسلمين النافذ وليس للحاكم أن يحكم بصحته وما لبيت المال من المقاسمة أو الأرض الخراجية لا يباع لما فيه من إضاعة حقوق المسلمين ومن أمر رجلاً بإمساك دابة ضاربة فجنت عليه ضمنه إن لم يعلمه بها ويضمن جناية ولد الدابة إن فرط نحو أن يعرفه شموصاً والدابة إذا أرسلها صاحبها بالليل كان مُفرطاً فهو كما إذا أرسلها قرب زرع ولو كان معها قائداً أو راكباً أو سائقاً فما أفسدت بفمها أو يدها فهو عليه لأنه تفريط وهو مذهب أحمد ومن العقوبة الثالثة إتلاف الثوبين المعصفرين كما في "الصحيح" من حديث عبد الله بن عمرو وإراقة عمر اللبن الذي شيب بالماء للبيع والصدقة بالمغشوش أولى من إتلافه
ومَن ندم ورد المغصوب بعد موت المغصوب منه كان للمغصوب منه مطالبته بالأجرة لتفويته الانتفاع به في حياته كما لو مات الغاصب فرده وارثه ولو حبس المغصوب وقت حاجة مالكه إليه كمدة شبابه ثم رده في مشيبه فتفويت تلك المنفعة ظُلم يفتقر إلى جزاء ومَن مات معدماً يرجى أن الله يقضي عنه ما عليه وللمظلوم الاستعانة بمخلوق فإذا خالفه فالأولى له الدعاء على مَن ظلمه ويجوز الدعاء بقدر ما يوجبه ألم ظلمه لا على مَن شتمه أو أخذ ماله بالكفر ولو كذب عليه لم يفتر عليه بل يدعو إليه بمن يفتري عليه نظيره وكذا إن أفسد عليه دينه ومَن ترك دينه باختياره ويمكن من استيفائه فلم يستوفه حتى مات طالب به ورثته فإنْ عجز هو وورثته فالمطالبة في الأشبه كما في المظالم للخبر وإذا كان للناس على إنسان ديون أو مظالم بقدر ماله على أساس من الديون والمظالم كان يسوغ أن يقال: يحاسب بذلك فيه بقدر حقه من هذا ويصرف إلى غريمه كما يفعل في الدنيا بالمدَبر الذي له وعليه يستوفي ماله ويوفي ما عليه(1/502)
وقدر المتلف إذا لم يكن تحديده عمل فيه بالاجتهاد كما يفعل في قدر قيمته بالاجتهاد في معرفة مقدار ثمنه بل قد يكون بالخرص أسهل وكلاهما يجوز مع الحاجة ولو بايع الرجل مبايعات يعتقد حلها ثم صار المال إلى وارث أو منهب أو مشترٍ يعقد تلك العقود محرمة فالمثال الأصلي لهذا اقتداء المأموم بصلاة إمام أخل بما هو فرض عند المأموم دونه والصحيح الصحة وما قبضه الإنسان بعقد مختلف فيه يعتقد صحته لم يجب عليه رده في أصح القولين ومن كسب مالاً حراماً برضاء الدافع ثم مات كثمن الخمر ومهر البغي وحلوان الكاهن فالذي يتلخص من كلام أبي العباس أن القاضي إن لم يعلم التحريم ثم علم جاز له أكله وإن علم التحريم أولاً ثم تاب فإنه يتصدق به كما نص عليه أحمد في حامل الخمر وللفقير أكله ولولي الأمر أن يعطيه أعوانه وإن كان هو فقير أخذ كفايته وفيما إذا عرف ربه هل يلزمه رده إليه أم لا قولان: وظاهر كلام أبي العباس: أن نفس المصيبة لا يؤجر عليها وقال أبو عبيدة: بلى
إن صبر أثيب على صبره
قال: وكثير ما يفهم من الأجر غفران الذنوب فيكون فيها أجر بهذا الاعتبار(1/503)
باب الشفعة
...
"باب الشفعة"
وتثبت في كل عقار يقبل قسمة الأخيار باتفاق الأئمة وإن لم يقبلها فروايتان الصواب الثبوت وهو مذهب أبي حنيفة واختيار ابن سريح من الشافعية وابن الوفاء من أصحابنا وتثبت شفعة الجوار مع الشركة في حق من حقوق الملك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب في الطريق وقالت طائفة من العلماء: لا يحيل الاحتياط لإسقاط الشفعة ولا يجب على المشتري أنَّ يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن إذا طالبه الشريك وإذا حابا البائع المشتري بالثمن محاباة خارجة عن العادة يتوجه أن لا يكون للمشتري أخذه إلا(1/503)
بالقيمة أو أن لا شفعة له فإن المحاباة بمنزلة الهبة من بعض الوجوه ولا شفعة في بيع الخيار إذا نقص
نص عليه أحمد في رواية حنبل قال القاضي: لأَنّ أخذ الشفيع بالشفعة يسقط حق البائع من الخيار فلم يجز له المطالبة بالشفعة وهذا التعليل من القاضي يقتضي أن الخيار إذا كان للمشتري وحده فللشفيع الأخذ كما يجوز للمشتري أن يتصرف فيه في هذا الموضع وأولى مذهب الإمام أحمد أنه لا شفعة لكافر على مسلم وقد يفرق بين أن يكون الشقص لمسلم فلا تجب الشفعة أو لذمي فتجب وحينئذٍ فهل العبرة بالبائع أو المشتري أو كلاهما أو أحدهما أربع احتمالات(1/504)
باب الوديعة
...
"باب الوديعة"
ولو أودع المودع بلا عذر ضمن والمودع الثاني لا يضمن إن جهل وهو رواية عن أحمد وكذا المرتهن منه وهو وجه في المذهب ولو قال المودع: أودعنيها الميت وقال: هي لفلان وقال ورثته بل هي له وليست لفلان ولم تقم بينة على أنها كانت للميت ولا على الايداع
قال أبو العباس: أفتيت أن القول قول المودع مع يمينه لأنه قد ثبت له اليد وإذا تلفت الوديعة فللمودع قبض البدل لأن من يملك قبض العين يملك قبض البدل كالوكيل وأولى
"فصل"
حريم البئر العادية وهي التي اعتدت خمسون ذراعاً ولو ترك جامداً في حر شديد حتى ذاب وتقاطر ماؤه فقصد إنسان إلى ذلك القطر واستلقاه في أناء وجمعه وشربه كان مضموناً عليه وإن كان لو تركه لضاع ذكره أو طالب في "الاتنصار" وفيه نظر ومن استنقذ مال غيره من المهلكة ورده استحق أجرة المثل ولو بغير شرط في أصح القولين وهو منصوص أحمد وغيره وإذا استنقذ فرساً للغير ومرض الفرس بحيث أنه لم يقدر على المشي فيجوز بل يجب في هذه الحال أن يبيعه(1/504)
الذي استنقذه ويحفظ الثمن لصاحبه وإن لم يكن وكيله في البيع وقد نص الأئمة على هذه المسألة ونظائرها
"فصل"
وتعرّف اللقطة سنة قريباً من المكان الذي وجدها فيه ولا يلتقط الطير والظباء ونحوها إذا أمكن صاحبها إدراكها ولا تملك لقطة الحرم بحال ويجب تعريفها أبداً وهو رواية عن أحمد واختارها طائفة من العلماء وتضمن اللقطة بالمثل كبدل القرض وإذا قلنا بالقيمة فالقيمة يوم ملكها الملتقط قطع به ابن أبي موسى وغيره خلافاً للقاضي أبي البركات فإذا باع الملتقط اللقطة بعد الحول ثم جاء ربها فالأشبه أن الملك لا يملك انتزاعها من المشتري(1/505)
كتاب الوقف
*
...
" كتاب الوقف"
ويصح الوقف بالقول وبالفعل الدال عليه عرفاً كجعل أرضه مسجداً أو أذن للناس لصلاة فيه أو أذن فيه وأقام ونقله أبو طالب وجعفر وجماعة عن أحمد أو جعل أرضه مقبرة وأذن بالدفن فيها ونص عليه أحمد أيضاً ومَنْ قال: قريتي التي بالثغر لموالي الذين بها ولأولادهم صح وقفاً ونقله يعقوب بن حبان عن أحمد وإذا قال واحداً أو جماعة: جعلنا هذا المكان مسجداً أو وقفاً صار مسجداً ووقفاً بذلك وإن لم يكملوا عمارته وإذا قال كل منهم جعلت ملكي للمسجد أو في المسجد ونحو ذلك صار بذلك حقاً للمسجد ولو قال للإنسان: تصدقت بهذا الدهن على هذا المسجد ليوقد فيه جاز وهو من باب الوقف وتسميته وقفاً بمعنى أنه وقف على تلك الجهة لا ينتفع به في غيرها لا تأباه اللغة وهو جائز في الشرع ووقف الهازل كوقف التلجئة إنْ غُلب على الوقف شبه التحريم ومن جهة أنه لا يقبل الفسخ فينبغي أن يصح كالعتق والإتلاف وإنْ غَلَبَ عليه شبه التمليك فيشبه الهبة والتمليك وذلك لا يصح من الهازل على الصحيح ويصح الوقف على النفس وهو أحد الروايتين عن أحمد واختارها طائفة من أصحابه ويصح الوقف على الصوفية فمن كان جماعاً للمال ولم يتخلق بالأخلاق المحمودة ولا تأدب بالآداب الشرعية وغُلبت عليه الآداب الوضيعة أو فاسقاً لم يستحق شيئاً وإن كان قد يجوز(1/505)
للغني مجرد السكنى وينبغي أن يشترط في الواقف وقفت أن يكون مِمن يمكن من وقف تلك القرية فلو أراد الكافر أن يَقِف مسجداً مُنع منه ولو قال الواقف: هذه الدراهم على قرض المحتاجين لم يكن جواز هذا بعيداً وإذا أطلق وقفاً لنقدين ونحوهما مما يمكن الانتفاع ببدله فإنَّ منع صحة هذا الوقف فيه نظر خصوصاً على أصلنا فإنه يجوز عندنا بيع الوقف إذا تعطلت منفعته وقد نص أحمد في الذي حبس فرساً عليها حلية محرمة
إن الحلية تباع وينفق عليها وهذا تصريح بجواز وقف مثل هذا ولو وقف منفعة يملكها كالعبد الموصى بخدمته أو منفعة أم ولده في حياته أو منفعة بعين المستأجرة فعلى ما ذكره أصحابنا لا يصح
قال أبو العباس: وعندي هذا ليس فيه فقه فإنه لا فرق بين وقف هذا ووقف البناء والغراس ولا فرق بين وقف ثوب على الفقراء يلبسونه أو فرس يركبونه أو ريحان يشمه أهل المسجد وطيب الكعبة حكمه حكم كسوتها فعلم أن الطيب منفعة مقصودة لكن قد يطول بقاء مدة التطيب وقد يقصد ولا أثر لذلك ويصح وقف الكلب المعلَّم والجوارح المعلمة وما لا يقدر على تسليمه وأقرب الحدود في الوقف: أنه كل عين تجوز عاريتها قال في الرعاية وإن وقف نصف عبد صح وإن لم يسر إلى بقية وإن كان لغيره وإن أعتق ما وقفه منه أو اعتقه الموقوف عليه لم يصح عتقه ولم يسر وإن أعتق ما وقفه منه أو أعتقه شريكه فقد صح عتق نفسه ولم يَسْرِ إلى الموقوف
قال أبو العباس: هذا ضعيف ولا يصح على الأغنياء على الصحيح قال في "المحرر": ولا صح وقف المجهول
قال أبو العباس: المجهول نوعان مبهم ومعين مثل دار لم يرها فمنع هذا بعيد وكذلك هبته فأمّا الوقف على المبهم فهو شبيه بالوصية له وفي الوصية روايتان منصوصتان مثل أن يوصي لأحد هذيْن أو لجاره محمد وله جاران بهذا الاسم ووقف المبهم مفرع على هبته وبيعه وليس عن أحمد في هذا منع ويصح الوقف على أم ولده بعد موته وإن وقف على غيرها على أن ينفق عليها مدة حياته أو يكون الربع لها مدة حياته صح فإنَّ(1/506)
استثناء الغلة لأم ولده كاستثنائها لنفسه وإن وقف عليها مطلقاً فينبغي في الحال أنا إذا صححنا وقف الإنسان على نفسه صح لأن ملك أم ولده أكثر ما يكون بمنزلة ملكه وإن لم نصححه فيتوجه أن يقال: هو كالوقف على العبد القن فإنه قد يخرج عن ملكه فيكون ملكاً لعبد الغير وأما إذا مات السيد فقد تخرّج هذه المسألة على مسألة تفريق الصفقة لأن الوقف على أم الولد يعم حال رقها وعتقها فإذا لم يصح في أحد الحالين خرج في الحال الأخرى وجهان
وإذا قلنا أن الوقف المنقطع الابتداء يصح فيجب أن يقال ذلك وإن قلنا يصح فهذا كذلك ومأخذه الوقف المنقطع: أن الوقف هل يصح توقيته بغاية مجهولة أو غير مجهولة فعلى قول من قال: لا يزال وقفاً لا يصح توقيته وعلى قول من قال: يعود ملكاً يصح توقيته فإن غلب جانب التحريم فالتحريم لا يتوقت لأنه ليس له شريك وإنْ غلب جانب التمليك فتوقيت جميعه قريب من توقيته على بعض البطون كما لو قال: هذا وقف على زيد سنة ثم على عمرو سنة ثم على بكر سنة وضابط الأقوال في الوقف المنقطع أما على جميع الورثة وأما على العصبة وأما على المصالح وأما على الفقراء والمساكين منهم وعلى الأقوال الأربعة فأما وقف وأما ملك فهذه ثمانية منها أربعة في الأقارب وهل يختص به فقراؤهم فيصير فيهم ثمانية والثالث عشر تفصيل ابن أبي موسى: أنه إذا رجع إلى جميع الورثة يكون ملكاً بينهم على فرائض الله بخلاف رجوعه إلى العصاة
قال أبو العباس: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد وإذا اشترط القبول في الوقف على المعين فلا ينبغي أن يشترط المجلس بل يلحق بالوصية والوكالة فيصح معجلاً أو مؤجلاً في القول والفعل فأخذ ريعه قبول وينبغي أنه لو رده بعد قبوله كان له ذلك والصواب الذي عليه محققو الفقهاء في مسألة الوقف على المعين إذا لم يقبل أو رده أن ذلك ليس كالوقف المنقطع الابتداء بل الوقف هنا صحيح قولاً واحداً ثم إن قيل الموقوف عليه وإلا انتقل إلى مَنْ بعده كما لو مات أو تعذر استحقاقه لفوات فيه إذ الطبقة الثانية تتلقى من الواقف لا من الموقف عليه ومن شرط النظر لرجل ثم لغيره إن مات فعزل نفسه أو فسق فكموته لأن(1/507)
تخصيصه للغالب ولا نظر لغير الناظر الخاص معه وللحاكم النظر العام فيعترض عليه أن فعل ما لا يشرع ولو ضم أمين إليه مع تفريطه أو تهمته يحصل به المقصود ومَنْ ثبت فسقه أو أضر في تصرفه مخالفاً للشراء الصحيح عالماً بتحريفه فإما أن ينعزل أو يعزل أو يضم إليه أمين على الخلاف المشهور ثم إن صار هو أو الوصي أهلاً عاد كما لو صرح به وكالموصوف ومن شرط النظر لحاكم المسلمين شمل أي حاكم كان سواء كان مذهبه مذهب حاكم البلد زمن الواقف أو لا وإلا لم يكن له النظر لو انفرد وهو باطل اتفاقاً ولو فرضه حاكم لم يكن لحاكم آخر نقضه ولو ولي كل واحد من الحكام شخصاً قدم ولي الأمر أحقها
ولا يجوز لواقف شرط النظر لذي مذهب معين دائماً ومن وقف مدرسة على مدرس وفقهاء فللناظر ثم الحاكم تقدير أعطيتهم فلو زاد النماء فهو لهم والحكم بتقدير مدرس أو غيره باطل ولو نفذه حكام وإن قيل: إن المدرس لا يزداد ولا ينقص بزيادة النماء ونقصه كان باطلاً لأنه لهم والقياس أن يسوي بينهم ولو تعاونوا في المنفعة كالإمام والجيش في المغنم لكن دلَّ العرف على التفضيل وإنما قدم القيم لأن ما يأخذه أجره ولهذا يحرم أخذه فوق أجرة مثله فلا شرط والإمام والمؤذن كالقيم بخلاف المدرس والمتعبد والفقهاء فإنّهم من جنس واحد وإذا وقف على إمام ومؤذن وقدر لكل واحد جزاء معلوماً وزاد الوقف خمسة أمثاله مثلاً جاز أن يصرف إلى الإمام والمؤذن من الزائد إذا لم يكن له مصرف بعد تمام كفايتهما لوجهين: أحدهما: أن تقدير الواقف دراهم مقدرة قد يزاد له بالنسبة مثل أن يشترط له عشرة والمغل مائة فيزاد به العشر فإن كان هناك قرينة تدل على هذا عمل بها ومن المعلوم في العرف إذا كان الوقف مغله مائة درهم وشرط له ستة ثم صار خمسمائة فإنّ العادة في مثل هذا أن يشترط أضعاف ذلك مثل خمسة أمثلة ولم يجز عادة من شرط ستمائة أن يشترط ستة من خمسمائة فيحمل كلام الناس على ما جرت به عادتهم في خطابهم والوجه الثاني: أن الواقف لو لم يشترط هذا فزائد الوقف يصرف(1/508)
المصالح التي هي نظير مصالحه ومَن قدر له الوقف بسافله أكثر منه إن استحقه بموجب الشرع ولو عطل وقف مسجد سنة تسقط الأجرة المستقبلة عليها وعلى السنة الأخرى لأنه خير من التعطيل ولا ينقض الإمام بسبب تعطيل الزرع العام ومَن لم يقم بوظيفته غَيره فلمن له الولاية أن يولي من يقوم بها إلى أن يتوب الأول ويلتزم بالواجب ويجب أن يولى في الوظائف وإمامة المساجد الأحق شرعاً وأن يعمل ما قدر عليه من عمل الواجب وليس للناس أن يولوا عليهم الفاسق وإنْ نفذ حكمه أو صحت الصلاة خلفه واتفق الأئمة على كراهة الصلاة خلفه واختلفوا في صحتها ولم يتنازعوا أنه لا ينبغي توليته وللناظر انساخ كتاب الوقف والسؤال عن حاله وأجره وتسجيل كتاب الوقف من الوقف كالعادة ويجب عمارة الوقف بحسب البطون والجمع بين عمارة الوقف وأرباب الوظائف حسب الإمكان أولى بل قد تجب ولا يلزم الوفاء بشرط الواقف إلا إذا كان مستحباً خاصة وهو ظاهر المذهب أخذاً من قول أحمد في اعتبار القربة في أصل الجهة الموقوف عليها وإذا شرط في استحقاق ريع الوقف العزوبة فالمتأهل أحق من المعتزب إذا استويا في سائر الصفات ولو شرط للصلوات الخمس على أهل مدرسة في القدس كان الأفضل لأهلها أن يصلوا الصلوات الخمس في الأقصى ولا يقف استحقاقهم على الصلاة في المدرسة وكان يفتي به ابن عبد السلام وغيره ويجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه وإن اختلف ذلك باختلاف الزمان حتى لو وقف على الفقهاء والصوفية واحتاج الناس إلى الجهاد صرف إلى الجند وإذا وقف على مصالح الحرم وعمارته فالقائمون بالوظائف التي يحتاج إليها المسجد من التنظيف والحفظ والفرش وفتح الأبواب وإغلاقها ونحو ذلك يجوز الصرف إليهم وقول الفقهاء: نصوص الواقف كنصوص الشارع يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل.(1/509)
مع أن التحقيق أن لفظ الواقف والموصي والناذر والحالف وكل عاقد يحمل على مذهبه وعادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها وافق لغة العرب أو لغة الشارع أو لا والعادة المستمرة والعرف المستقر في الوقف يدل على شرط الواقف أكثر مما يدل لفظ الاستفاضة ولا يجوز أن يولى فاسقاً في جهة دينية كمدرسة وغيرها مطلقاً لأنه يجب الانكار عليه وعقوبته فكيف ينزل وظاهر كلام أبي العباس في موضع آخر خلاف ذلك وإن نزل تنزيلاً شرعياً لم يجز صرفه بلا موجب شرعي وكل متصرف بولاية إذا قيل له: افعل ما تشاء فإنّما هو لمصلحة شرعية حتى لو صرح الواقف بفعل ما يهواه أو ما يراه مطلقاً فهو شرط باطل لمخالفته الشرع وغايته أن يكون شرطاً مباحاً وهو باطل على الصحيح المشهور حتى لو تساوى فعلان عمل بالقرعة وإذا قيل هنا بالتخيير فله وجه وعلى الناظر بيان المصلحة فيعمل بما ظهر ومع الاستنباه وإن كان عالماً عادلاً ساغ له الاجتهاد
قال أبو العباس: ولا أعلم خلافاً أن مَنْ قَسمَّ شيئاً يلزمه أن يتحرى فيه العدل ويتبع ما هو أرضى لله تعالى ولرسوله وسواء استفاد القسمة بولاية كالإمام والحاكم أو بعقد كالناظر والوصي وإذا وقف على الفقراء فأقارب الواقف الفقراء أحق من الفقراء الأجانب مع التساوي في الحاجة وإذا قدر وجود فقير مضطر كان دفع ضرورته واجباً وإذا لم تندفع ضرورته إلا بتنقيص كفاية أقارب الواقف من غير ضرورة تحصل لهم تعين ذلك وإن لم يشترط له شيء ليس له إلا ما يقابل عمله لا العادة واعتبر أبو العباس: في موضع جواز أخذ الناظر أجرة عمله مع فقره كوصي اليتيم ولا يقدم الناظر بمعلومه بلا شرط وما يأخذه الفقهاء من الواقف هل هو إجارة أو جُعالة أو كرزق من بيت المال فيه أقوال ثالثها المختار والمكوس إذا أقطعها الإمام الجيد فهي حلال لهم إذا جهل مستحقها وكذلك(1/510)
إذا رتبها للفقهاء وأهل العلم والذي يتوجه أنه لا يجوز للموقوف عليهم أن يتسلفوا الأجرة لأنهم لم يملكوا المنفعة المستقبلة ولا الأجرة عليها وعلى هذا فلهم أن يطلبوا الأجرة من المستأجرة لأنه فرّط ولهم أن يطالبوا الناظر ويد الواقف ثابتة على المتصل بالوقف ما لم يأت حجة تدفع موجبها كمعرفة كون الغارس غرسها بماله بحكم إجارة أو إعارة أو غصب ومَنْ أكل المال بالباطل قَوم لهم رواتب أضعاف حاجاتهم وقَوم لهم جهات معلومها كثير يأخذونه يستثنون يسيراً والنيابة في مثل هذه الأعمال المشروطة جائزة ولو عينه الواقف إذا كان مثل مستشنيه وقد يكون في ذلك مفسدة راجحة كالأعمال المشروطة في الإجارة على عمل في الذمة ويستحق حمل موجود عند تأبير النخل أو بدو صلاح الثمر من حين موت أبيه ولو لم يتفصل وإذا زرع البطن الأول من أهل الوقف في الأرض الموقوفة ثم مات وانتقل إلى البطن الثاني كان مبقي إلى أوان جده بأجره
وقال أبو العباس: في موضع آخر تجعل مزارعة بين الزارع ورب الأرض لنموه من أرض أحدهما وبذر الآخر وكذا الحكم في الإقطاع المزروع إذا انتقل إلى مقطع آخر والزرع قائم فيها وشجر الجوز الموقوف إن أدرك وإن قطعه في حياة الباطن الأول فهو له فإن مات وبقي في الأرض مدة حتى زاد كانت الزيادة حادثة من منفعة الأرض التي للبطن الثاني والأصل الذي ورث الأول فإمّا أن يقسم الزيادة على قدر القسمين وإما أن يعطي الورثة أجرة الأرض إلى البطن الثاني وإن غرسه البطن الأول من مال الوقف ولم يدرك إلا بعد انتقاله إلى البطن الثاني فهو لهم وليس لورثة الأول فيه شيء ومَن وقف وقفاً مستقلاً ثم ظهر عليه دين ولم يمكن وفاء الدين إلا ببيع شيء من الوقف وهو في مرض الموت بيع باتفاق العلماء وإن كان الوقف في الصحة فهل يباع لوفاء الدين فيه خلاف في مذهب أحمد وغيره ومنعه قوي
قلت: وظاهر كلام أبي العباس ولو كان الدين حادثاً بعد الوقف قال: وليس(1/511)
هذا بأبلغ من التدبير وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم باع على المدبر في الدين و الله أعلم
وإذا وقف الواقف وعليه دين مستغرق واثبت عند حاكم ولم يتعرض لصحة الوقف ولم يعلم الموقوف عليهم ثم مات الواقف فرد الموقوف إلى الموقوف عليهم وطلب أرباب الديون دينهم ورفعت القصة إلى حاكم يرى بطلان هذا الوقف من جهة شرط النظر لنفسه وكونه يستغرق الذمة بالدين وكونه لم يخرجه من يده فهل يجوز نقضه فيقال: حكم الحاكم بما قامت به البينة والقضاء بموجبه والإلزام بمقتضاه لا يمنع الحاكم الثاني الذي عنده أن الواقف كانت ذمته مشغولة بالديون حين الوقف أن يحكم بمذهبه في بطلان هذا الواقف وصرف المال إلى الغرماء المستحقين للوفاء فإنَّ الحاكم الأول في وجوه هؤلاء الخصوم ونوابهم لا يضمن حكمه عمله بهذا الفصل المختلف فيه وإذا صادف حكمه مختلفاً فيه لم يعلمه ولم يحكم فيه جاز نقضه ومن نزل في مدرسة ونحوها استحق بحصته من المغل ومن جعله كالولد فقد أخطأ ولورثته أمام مسجد أجرة عمله في أرض المسجد كما لو كان الفلاح غيره ولهم مِن مغله بقدر ما باشر مورثهم ويستحق ولد الولد وإن لم يستحق أبوه شيئاً ومَن ظن أن الوقف كالإرث فإنْ لم يكن والده أخذ شيئاً لم يأخذ هو فلم يقله أحد من الأئمة ولم يدر ما يقول
ولهذا لو انتفت الشروط في الطبقة الأولى أو بعضها لم تحرم الثانية مع وجود الشروط فيهم إجماعاً ولا فرق والأظهر فيمَن وقف على ولديه نصفين ثم على أولادهما وأولاد أولادهما وعقبهما بعدهما بطناً بعد بطن أنه ينتقل نصيب كل إلى ولده وإن لم ينقرض جميع البطن الأول وهو أحد الوجهين في مذهب أحمد وقول الواقف: مَن مات عن ولد فنصيبه لولده يشتمل الأصل لا العائد وهو أحد الوجهين في المذهب ولو قال: وقفت على أولادي ثم أولادهم الذكور والإناث ثم أولادهم الذكور وإن سفلوا فإن أحد الطبقة الأولى لو كانت بنتاً(1/512)
فماتت ولها أولاد فما استحقته قبل موتها فلهم ولو قال: ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأخوه ثم نسلهم وعقبهم عمن لم يعقب ومن أعقب ثم انقطع عقبه وقول الواقف: ومن مات من غير نسل يعود ما كان جارياً عليه على من هو في درجته وذوي طبقته يقدم الأقرب إلى المتوفى فالأقرب وهو حرمان الطبقة السفلى فقط لا حرمان العليا وإذا وجد في كتاب الوقف وقف على بنيه وبني بنيه والإمارة تدل على أحد الأمرين فمذهبنا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقرع بينهما كإقراره بما في يده لأحد الشخصين لا يعلم عينه والثاني: أن يرجح بنو البنين والواو كما لا تقتضي الترتيب لا تنفيه فهي سالبة عنه نفياً وإثباتاً ولكن تدل على التشريك وهو الجمع المطلق فإن كان في الوقف ما يدل على الترتيب مثل أن رتب أو لا عمل به ولم يكن ذلك منافياً لمقتضى الواو ولا يلزم من التشريك التسوية بل يعطي بحسب المصلحة ولو طلب المدرس الخمس فقلنا له: فاعط القيم الخمس لأنه نظير المدرس لظهر بطلان حجته ولو وقف مسجداً وشرط إماماً وأثبت قراء وقَيّماً ومؤذناً وعجز الوقف عن تكميل حق الجميع ولم يرض الإمام والمؤذن والقيم إلا بأخذ جامكية مثلهم صرف إلى الإمام والمؤذن والقيم جامكية مثلهم مقدمة على القراء فإنَّ هذا هو المقصود الأصلي ولو وقف على آل جعفر وآل علي فهل يستوي بين أفرادهم أو يقسم بينهم نصفين
قال أبو العباس: أفتيت أنا وطائفة من الفقهاء أنه يقسم بين أعيان الطائفتين وأفتى طائفة أنه يقسم نصفين فيأخذ آل جعفر النصف وإن كانوا واحداً وهومقتضى أحد قولي أصحابنا ولو أقر الموقوف عليه أنه لا يستحق في هذا الوقف إلا مقداراً معلوماً ثم ظهر شرط الواقف أنه يستحق أكثر حكم له بمقتضى شرط الواقف ولا يمنع من ذلك إقراره المتقدم ولو وقف على ابني أخيه يوسف وأيوب ثم ظهر أن أيوب اسمه صالح فشك فيه لم يكن لأخيه ابنان سواهما فحق أيوب ثابت ولا يضر الغلط في اسمه وإن كانوا ثلاثة بنين ووقع الشك في عين الثالث أخرج بالقرعة في رواية عن أحمد(1/513)
ومَن عَمّر وقفاً بالمعروف ليأخذ عوضه فله أخذه من غلته واليتيم من لم يبلغ ثلاث لكن يعطي من ليس له أب يعرف في بلد الإسلام ولا يعطي كافر وإذا مات شخص من مستحقي الوقف وجهل شرط الواقف صُرف إلى جميع المستحقين بالتسوية وجوَّز جمهور العلماء تغيير صورة الوقف للمصلحة كجعل الدور حوانيت والحكورة مشهورة ولا فرق بين بناء ببناء وعرصة بعرصة أولاً ولو وقف كروماً على الفقراء ويحصل على جيرانها ضرر يعوض عنها بما لا ضرر فيه على الجيران ويعود الأول ملكاً والثاني وقفاً ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله وبلا حاجة يجوز بخير منه لظهور المصلحة وهو قياس الهَدْى وهو وجه في المناقلة ومال إليه أحمد ونقل صالح ينتقل المسجد لمنفعة الناس ولا يجوز أن يبدل الوقف بمثله لفوات التعيين بلا حاجة وما حصل للأسير من ريع الوقف فإنّه يتسلمه ويحفظه وكيله ومن يتنقل إليه بعده جميعاً وما فَضُل عن حاجة المسجد صرف إلى مسجد آخر لأن الواقف له غرض في الجنس والجنس واحد وقد روى الإمام عن علي: أنه حض الناس على إعطاء المكاتب فلو صرف إلى المسجد الثاني ففضل شيء عن حاجته فصرفه في المكاتبين وقال أبو العباس في موضع آخر ويجوز صرفه في سائر المصالح وبناء مساكن لمستحقي ريعه القائمين بمصالحه وإن علم أن وقفه يبقى دائماً وجب صرفه لأن بقاء صرفه بقاء فساد ولا يجوز لغير الناظر صرف الفاضل وإذا وقف مدرسة على الفقهاء والمتفقهة الفلانية برسم سكناهم واشتغالهم فيها فلا تختص السكنى بالمرتزقة من المال بل يجوز الجمع بين السكنى والرزق من المال بل يجوز الجمع بين السكنى والإرتزاق للشخص الواحد ويجوز السكنى من غير ارتزاق كما يجوز الارتزاق من غير سكنى ولا يجوز قطع أحد الصنفين إلا بسبب(1/514)
شرعي إذا كان الساكن مشتغلاً سواء كان يحضر الدرس أم لا والأرزاق التي يقدرها الواقفون ثم يتغير النقد فيما بعد نحو أن يشترط مائة درهم ناصرية ثم يحرم التعامل بها وتصير الدراهم ظاهرية فإنّه يعطي المستحق من نقد البلد ما قيمته قيمة المشروط ولولي الأمر أن ينصب ديواناً مستوفياً لحساب أموال الأوقاف عند المصلحة وله أن يفرض له على عمله ما يستحقه مثله من كل مال يعمل فيه بمقدار ذلك المال وإذا قام المستوفي بما عليه من العمل استحق ما فرض له(1/515)
باب الهبة
...
"باب الهبة"
وإعطاء المرء المال ليمدح ويثنى عليه مذموم وإعطاؤه لكف الظلم والشر عنه ولئلا ينسب إلى البخل مشروع بل هو محمود مع النية الصالحة والإخلاص في الصداقة أن لا يسأل عوضها من المعطي ولا يرجو بركته وخاطره ولا غير ذلك من الأقوال قال الله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} الإنسان: 9 وتصح هبة المعدوم كالثمر واللبن بالسنة واشتراط القدرة على التسليم هنا فيه نظر بخلاف البيع وتصح هبة المجهول كقوله ما أخذت من مالي فهو لك أو من وجد شيئاً من مالي فهو له وفي جميع هذه الصور يحصل الملك بالقبض ونحوه وللمبيح أن يرجع فيما قال قبل التملك وهذا نوع لهبة يتأخر القبول فيه عن الإيجاب كثيراً وليس بإباحة وتجهيز المرأة بجهازها إلى بيت زوجها تمليك
قال القاضي: قياس قولنا في بيع المعطاة أنه تملكه بذلك وأفتى به بعض أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة وغيرهم
قال أبو العباس: ويظهر لي صحة هبة الصوف على الظهر قولاً واحداً وقاسه أبو الخطاب على البيع والصدقة أفضل من الهبة إلا لقريب يصل بها رحمه أو أخ له في الله تعالى فقد تكون أفضل من الصدقة ومن العدل الواجب من له يد أو نعمة أن يجزئه بها والهبة تقتضي عوضاً مع الصرف(1/515)
ولا يجوز للإنسان أن يقبل هدية من شخص ليشفع له عند ذي أمر أو أن يرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقه أو يوليه لأنه يستحقها أو يستخدمها في الجند المقاتلة وهو مستحق لذلك ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه وهو المنقول عن السلف والأئمة الأكابر وفيه حديث مرفوع رواه أبو داود وغيره ونقل يعقوب بن يحيى عن أحمد أنه قال: لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية
قال أبو العباس: هذا خاطب الرجل لأن المرأة لا تبذل وإنّما الزوج يبذل وتصح العمرى ويكون للمعمر ولورثته إلا أن يشترط المعمر عودها إليه فيصح الشرط - وهو قول طائفة من العلماء ورواية عن أحمد ولا يدخل الزوجان في قوله: ولعقبك وإذا تفاسخا عقد الهبة صح ولا يفتقر إلى قبض الموهوب وتكون العين أمانة في يد المتهب بخلاف البيع في وجه ويجب التعديل في عطية أولاده على حسب ميراثهم وهو مذهب أحمد مسلماً كان الولد أو ذمياً ولا يجب على المسلم التسوية بين أولاد أهل الذمة ولا يجب التسوية بين سائر الأقارب الذين لا يرثون كالأعمام والأخوة مع وجود الأب ويتوجه في البنين التسوية كآبائهم فإنْ فَضُل حيث منعناه فعليه التسوية أو الرد وينبغي أن يكون على الفور وإذا سوى بين أولاده في العطاء ليس له أن يرجع في عطية بعضهم والحديث والآثار تدل على وجوب التعديل بينهم في غير التمليك أيضاً وهو في ماله ومنفعته التي ملكهم والذي أباحهم كالمسكن والطعام ثم هنا نوعان نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك فتعديله فيه أن يعطي كل واحد ما يحتاج إليه ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير ونوع تشترك حاجتهم إليه من عطية أو نفقة أو تزويج فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه وينشأ من بينهما نوع ثالث وهو: أن ينفرد أحدهما بحاجة غير معتادة مثل أن يقضي عن أحدهما ديناً وجب عليه من أرش جناية أو يعطي عنه المهر أو يعطيه نفقة الزوجة ونحو ذلك ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر وتجهيز البنات بالنِحل أشبه وقد يلحق(1/516)
بهذا والأشبه أن يقال في هذا: أنه يكون بالمعروف فإنْ زاد على المعروف فهو من باب النِحل ولو كان أحدهما محتاجاً دون الآخر أنفق عليه قدر كفايته وأمّا الزيادة فمِن النِحل فلو كان أحد الأولاد فاسقاً فقال والده: لا أعطيك نظير أخوتك حتى تتوب فهذا حسن يتعين استثناؤه وإذا امتنع من التوبة فهو الظالم فإن تاب وجب عليه أن يعطيه وأما إن امتنع من زيادة الدين لم يجز منعه فلو مات الوالد قبل التسوية الواجبة فللباقين الرجوع وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار ابن بطة وأبي حفص وأما الولد المفضل ينبغي له الرد بعد الموت قولاً واحداً وهل يطيب له الإمساك إذا قلنا: لا يجبر على الرد كلام أحمد يقتضي روايتين فقال في رواية ابن الحكم: وإذا مات الذي فضل لم أطيبه له ولم أجبر على رده وظاهره التحريم ونقل عنه أيضاً قلت: فترى الذي فضل أن يرده قال: إن فعل فهو أجود وإن لم يفعل ذلك لم أجبره وظاهره الاستحباب وإذا قلنا: يرده بعد الموت فالوصي يفعل ذلك فلو مات الثاني قبل الرد والمال بحاله رده أيضاً لكن لو قسمت تركة الثاني قبل الرد أو بيعت أو وهبت فههنا فيه نظر لأن القسمة والقبض بقرب العقود الجاهلية وهذا فيه تأويل
وكذلك لو تصرف المفضل في حياة أبيه ببيع أو هبة واتصل بهما القبض ففي الرد نظر إلا أن هذا متصل بالقبض في العقود الفاسدة وللأب الرجوع فيما وهبه لولده ما لم يتعلق به حق أو رغبة فلا يرجع بقدر الدين وقدر الرغبة ويرجع فيما زاد وعن الإمام أحمد فيما إذا تصدق على ولده: له أن يرجع فيه روايتان بناء على أن الصدقة نوع من الهبة أو نوع مستقل وعلى ذلك يبنى ما لو حلف لا يهب فتصدق هل يجب على وجهين والصدقة أفضل من الهبة إلا أن يكون في الهدية معنى تكون به أفضل مثل الإهداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة له ومثل الإهداء لقريب يصل به الرحم أو أخ له في الله فهذا قد يكون أفضل من الصدقة ويرجع الأب فيما أبرأ منه ابنه من الديون على قياس المذهب كما للمرأة على أحد الروايتين الرجوع على(1/517)
زوجها فيما أبرأته من الصداق ويملك الأب إسقاط دين الابن عن نفسه ولو قتل ابنه عمداً لزمته الدية في ماله نص عليه الإمام أحمد وكذا لو جنى على طرفه لزمته ديته وإذا أخذ من مال ولده شيئاً ثم انفسخ سبب استحقاقه بحيث وجب رده إلى الذي كان مالكه مثل أن يأخذ صداقها فتطلق أو يأخذ الثمن ثم ترد السلعة بعيب أو يأخذ المبيع ثم يفلس الولد بالثمن ونحو ذلك فالأقوى في جميع الصور أن للمالك الأول الرجوع على الأب وللأب أن يتملك من مال ولده ما شاء ما لم يتعلق به حق كالرهن والفلس وإن تعلق به رغبة كالمداينة والمناكحة وقلنا: يجوز الرجوع في الهبة ففي التمليك نظر وليس للأب الكافر تملك مال ولده المسلم لا سيما إذا كان الولد كافراً فأسلم وليس له أن يرجع في عطيته إذا كان وهبه في حال الكفر فأسلم الولد فأما إذا وهبه في حال إسلام الولد ففيه نظر
وقال أبو العباس: في موضع آخر فأما الأب والأم الكافرة فهل لهما أن يتملكا مال الولد المسلم أو يرجعا في الهبة يتوجه أن يخرج فيه وجهان على الروايتين في وجوب النفقة مع اختلاف الدين بل يقال: إن قلنا: لا تجب النفقة مع اختلاف الدين فالتملك أبعد وإن قلنا: تجب النفقة فالأشبه ليس لهما التملك والأشبه أنه ليس للأب المسلم أن يأخذ من مال ولده الكافر شيئاً فإنَّ أحمد علل الفرق بين الأب وغيره وبأن الأب يجوز أخذه من مال ابنه ومع اختلاف الدين لا يجوز والأشبه في زكاة دين الابن على الأب أن يكون بمنزلة المال التاوي كالضال فيخرج فيه ما خرج في ذلك وهل يمنع دين الأب وجوب الزكاة والحج وصدقة الفطر والكفارة المالية وشرائه العتيق يتوجه أنه لا يمنع ذلك لقدرته على إسقاطه ويتوجه أن يمنع أن وفاءه قد يكون خيراً له ولولده وعقوبة الأم والجد على مال الولد قياس قولهم: أنه لا يعاقب على الدم والعرض أن لا يكون عليهما حبس ولا ضرب للامتناع من الأداء وقوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" يقتضي إباحة نفسه كإباحة ماله وهو نظير قول موسى عليه السلام لا أملك إلا نفسي وأخي وهو يقتضي جواز استخدامه وأنه يجب على الولد خدمة أبيه(1/518)
ويقويه جواز منعه من الجهاد والسفر ونحو ذلك فيما يفوت انتفاعه به
لكن هذا يشترك فيه الأبوان فيحتمل أن يقال: خص الأب بالمال وأما منفعة البدن فيشتركان فيها وقياس المذهب جواز أن يؤجر ولده لنفسه مع فائدة فيشتركان فيها وقياس المذهب جواز أن يؤجره لنفسه مع فائدة الولد مثل أن يتعلم صنعة أو حاجة الأب وإلا فلا ويستثنى ما للأب أن يأخذه من سرية الابن إن لم تكن أم ولد فإنها تلحق بالزوجة ونص عليه الإمام أحمد في أكثر الروايات وعنه ألحقنا سرية العبد بزوجته في إحدى الروايتين في أن السيد لا ينتزعها ولا يبطل إبراء الزوجة الزوج بدعواها السفه ولو مع بينة أنها سفيهة ولم يجب الحجر ولو أبرأته وولدت عنده ومالها بيدها تتصرف فيه لم يصدق أبوها أنها كانت سفيهة يجب حجرها بلا بينة و الله أعلم(1/519)
كتاب الوصية
*
...
" كتاب الوصية"
وتصح الوصية بالرؤيا الصادقة المقترنة بما يدل على صدقها إقرار كاتب أو إنشاء لقصة ثابت بن قيس التي نقضها الصديق -رضي الله عنه- وقد اختلف في الكشف هل هو طريق للأحكام فنفاه ابن حامد والقاضي وأكثر الفقهاء وقال القاضي: أنّ في كلام أحمد في ذم المتكلمين على الوسواس والخطرات إشارة إلى هؤلاء وأثبته طائفة مَن الصوفية وبعض الفقهاء والمقصود أن التصرف بناء على ذلك جائز وإن لم يجز الرجوع إليه في الأحكام لأن عمدة التصرف على غلبة الظن بأي طريق كان بخلاف الأحكام فإن طرقها مضبوطة وقول الإمام أحمد وغيره من السلف وصية الصبي صحيحة إذا أصاب الحق يحتمل بادئ الرأي وجهين: أحدهما: أنه إذا أوصى بما يجوز للبائع لكن هذا فيه نظر فإن هذا الشرط ثابت في حق كل موص فلا حاجة إلى تخصيص الصبي به والثاني: أنه إذا أوصى بما يستحب أن يوصي به مثل أن يوصي لأقاربه الذين لا يرثون فعلى هذا فلو أوصى لبعيد دون القريب المحتاج لم تنفذ وصيته بخلاف البائع لأن(1/519)
الصبي لما كان قاصر التصرف فلا بد أن ينظم إليه نظر الشرع كما إذا احتاج بيعه إلى إذن الولي وكذلك إحرامه بالحج على إحدى الروايتين ويدل على ذلك أن أصحابنا عللوا الصحة بأنه إن مات كان صرف ما أوصى به إلى جهة القرب وما يحصل له به الثواب أولى متى صرفه إلى ورثته وهذا إنّما يتم في الوصية المستحبة فأما إن كان المال قليلاً والورثة فقراء فترك المال لهم أفضل
قال أبو العباس: وما أظنهم قصدوا -و الله أعلم- إلا هذا وتنفذ الوصية بالخط المعروف وكذا الإقرار إذا وجد في دفتره وهو مذهب الإمام أحمد ولا تصح الوصية لوارث بغير رضى الورثة ويدخل وارثه في الوصية العامة بالأوصاف دون الأعيان ولكن نص الإمام أحمد في الوصية أن يحج عنه بخلاف هذا وأفتى أبو العباس: لمن نذر أن يتصدق بثيابه وله أب فقير أن يصرفها إليه و الله أعلم ولو أوصى بوقف ثلثه فأخر الوقف حتى نمى فنماؤه يصرف مصرف نماء الوقف ولو وصى أن يصلي عنه بدراهم لم تنفذ وصيته وتصرف الدراهم في الصدقة ويخص أهل الصلاة ولو وصى أن يشتري مكاناً معيناً ويوقف على جهة بر فلم يبع ذلك المكان اشترى مكاناً آخر وقف على الجهة التي وصى بها الموصي وقد ذكر العلماء فيما إذا قال: بيعوا غلامي من زيد وتصدقوا بثمنه فامتنع زيد من شرائه فإنّه يباع من غيره ويتصدق بثمنه ولو وصى بمال ينفق على وجه مكروه صرف في القرب ولو وصى أن يحج عنه زيد تطوعاً بألف فيتوجه أنه إذا أبى المعين الحج حج عنه غيره وكذا إذا مات أو مات الفرس الحبيس صرف ما وصى للتفقه عليه في مثله ولو استغنى الموقوف عليه لفقره رد الفضل في مثله ولو جمع كفن ميت فكفن وفضل من ثمنه شيء صرف في تكفين الموتى أو رد إلى المعطي وكلام أحمد يقتضيه في رواية ويقبل في تفسير الموصى مراده وافق ظاهر اللفظ أو خالفه وفي الوقف يقبل في الألفاظ المجملة والمتعارضة ولو فسره بما يخالف الظاهر فقد يحتمل القبول كما لو قال: عبدي(1/520)
أو جبتي أو ثوبي وقف وفسره بمعين وإن كان ظاهره العموم وهذا أصل عظيم في الإنشاءات التي يستقل بها دون التي لا يستقل بها كالبيع ونحوه(1/521)
باب تبرعات المريض
...
"باب تبرعات المريض"
ليس معنى المرض المخوف الذي يغلب على القلب الموت منه أو يتساوى في الظن جانب البقاء والموت لأن أصحابنا جعلوا ضرب المحاص من الأمراض المخوفة وليس الهلاك غالباً ولا مساوياً للسلامة وإنما الغرض أن يكون سبباً صالحاً للموت فيضاف إليه ويجوز حذوته عنده وأقرب ما يقال ما يكثر حصول الموت منه فلا عبرة بما يندر وجود الموت منه ولا يجب أن يكون الموت منه أكثر من السلام لكن ينفي ما ليس مخوفاً عند أكثر الناس والمريض قد يخاف منه أو هو مخوف والرجل لم يلتفت إلى ذلك فيخلط ما هو مخوف للمتبرع وإن لم يكن مخوفاً عند جمهور الناس ذكر القاضي: أن الموهوب له لا يقبض الهبة ويتصرف فيها مع كونها موقوفة على الإجازة وهذا ضعيف والذي ينبغي أن تسليم الموهوب إلى الموهوب له لم يذهب لعلة حيث شاء وإرسال العبد المعتق أو إرسال المحابي لا يجوز بل لا بد أن يوقف أمر التبرعات على وجه يتمكن الوارث من ردها بعد الموت إذا شاء وبتلك الورثة أن يحجروا على المريض إذا اتهموه بأنه تبرع بما زاد على الثلث مثل أن يتصدق ويهب ويحابي ولا يحسب ذلك أو يخافون أن يعطي بعض المال لإنسان يمتنع عطيته ونحو ذلك وكذلك لو كان المال بيد وكيل أو شريك أو مضارب وأرادوا الاحتياط على ما بيده بأن يجعلوا معه يداً أخرى لهم فالأظهر أنهم يملكون ذلك أيضاً وهكذا يقال: في كل عين تعلق بها حق العبد كالعبد الجاني والتركة فأما المكاتب فللسيد أن يثبت يده على ماله فيمكن الفرق بينه وبين هذا بأن العبد قد ائتمنه بدخوله معه في الكتابة بخلاف المريض ووكيله فإن الورثة لم يأتمنونه ودعوى المريض فيما خرج من العادة ينبغي أن تعتبر من الثلث ومنافعه لا تحسب من(1/521)
الثلث وإسراف المريض في الملاذ والشهوات ذكره القاضي وجوازه محل وفاق
وقال أبو العباس: يحتمل وجهيْن ولو قال لعبده: يا سالم إذا اعتقت غانماً فأنت حر
وقال: أنت حر في حال إعتاقي إياه ثم أعتق غانماً في مرضه ولم يحتملهما الثلث قياس المذهب وهو الأوجه أن يقرع بينهما وإذا خرجت القرعة لسالم عتق دون غانم نعم لو قال: إذا أعتقت سالماً فغانم حراً وقال: إذا أعتقت سالماً فغانم حر بعد حريته فبهذا يعتق سالم وحده لأن عتق غانم معلق بوجود عتقه لا بوجود إعتاقه ولو وصى لوارث أولاً حين يزايد على الثلث فأجاز الورثة الوصية بعد موت الموصي صحت الإجازة بلا نزاع وكذا قبله في مرض الموت وخرجه طائفة من الأصحاب رواية من سقوط الشفعة بإسقاطها قبل البيع وإن أجاز الوارث الوصية وقال: ظننت قيمته ألفاً فبانت أكثر قبل وكذا لو أجاز الورثة أصل الوصية(1/522)
باب الموصى له
...
"باب الموصى له"
وتصح الوصية للحمل وقياس المنصوص في الطلاق أنها إذا وضعته لتسعة أشهر استحق الوصية وإن كانت ذات زوج أو سيد يطأ ولأكثر من أربع سنين إن اعتزلا وهو الصواب وإن وصف الموصى له أو الموقوف عليه بخلاف صفته مثل أن يقول: على أولادي السود وهم بيض أو العشر وهم اثني عشر فها هنا الأوجه إذا علم ذلك أن يعتبر الموصوف دون الصفة وقد يقال ببطلان الوقف والوصية كمسألة الإبهام وقد يقال في مسأل القدر ويعطي العشرة إما بتعيين الورثة في الوصية بالقرعة في الوقف والذي يقتضيه المذهب أن الغلط في الصفة لا يمنع صحة العقد ولو وصى بفكاك الأسرى أو وقف مالاً على فكاكهم صرف من يد الموصى ويد وكيله ولوليه أن يقترض عليه ثم يوفيه منه وكذلك في سائر الجهات ومن أفتك أسيراً غير شرعي جاز صرف المال إليه وكذا لو اقترض غير الوصي مالاً فك به أسيراً جازت توفيته منه وما احتاج إليه الوصي في(1/522)
افتكاكهم من أجرة صرف من المال ولو تبرع بعض أهل الثغور بفدائه واحتاج الأسير إلى نفقة الإياب صرف من مال الأسرى وكذلك لو اشترى من المال الموقوف على افتكاكهم أنفق منه عليه إلى بلوغ محله قال أبو بكر أو قال الموصي أعتق عبداً نصرانياً فأعتق مسلماً أو أدفع ثلثي إلى نصراني فدفعه إلى مسلم ضمن
قال أبو العباس: وفيه نظر(1/523)
باب الموصى به
...
"باب الموصى به"
قال أبو العباس في "تعاليقه القديمة": ويظهر لي أنه لا تصح الوصية بالحمل نظراً إلى علة التفريق إذ ليس التفريق يختص بالبيع بل هو عام في كل تفريق إلا العتق وافتداء الأسرى وتصح الوصية بالنفقة أبداً ويكون تمليكاً للرقبة ولا يستحق الورثة منه شيء وإن قصد مع ذلك ملك الورثة للرقبة والانتفاع الآخر تبطل الامتناع أن تكون المنافع كلها لشخص والرقبة لآخر ولا يسأل عن ترجيح إحدى الأمرين فيبطلان أما إن وصى في وقت بالرقبة لشخص وفي وقت آخر بالمنافع لغيره فهو كما لو وصى بعين لاثنين في وقتين(1/523)
باب الموصى إليه
...
"باب الموصي إليه"
ومن أوصى بإخراج حجة فولاية الدفع والتعيين للوصي الخاص إجماعاً وإنّما للولي العام الاعتراض عليه لعدم أهليته أو فعله محرماً وما أنفقه وصي متبرع بالمعروف في شؤون الوصية فمِن مال اليتيم ومن ادعى ديناً على الميت وهو ممن يعامل الناس نظر الوصي إلى ما يدل على صدقة ودفع إليه وإلا فيحرم الإعطاء حتى يثيب عند القاضي غير المخالف للسنة والإجماع وكذلك ينبغي أن يكون ناظر الوقف ووالي بين المال وكل وال على حق غيره إذا تبين له صدق الطالب دفع إليه وذلك واجب عليه إن أمن التبعية وإن خالف التبعية فلا ولو وصى بإعطاء مدع بيمينه ديناً نفذه الوصي من رأس المال لا من الثلث ولو قال: يدفع هذا إلى يتامى فلان فإقرار بقرينة وإلا وصية ويجب على الوصي(1/523)
كتاب الفرائض
...
" كتاب الفرائض"
أسباب التوارث رحم ونكاح وولاء عتق إجماعاً وذكر عند عدم ذلك كله موالاته ومعاقدته وإسلامه على يديه والتقاطه وكونهما من أهل الديوان وهو رواية عن الإمام أحمد ويرث مولى من أسفل عند عدم الورثة وقاله بعض العلماء فيتوجه إلى ذلك أنه ينفق على المنعم ومنقطع السبب عصبة عصبة أمه وإن عدمته فعصبتها وهو رواية عن الإمام أحمد واختيار أبي بكر وقول ابن مسعود وغيره ولا يرث غير ثلاث جدات أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب وإن علون أمومة أبوة إلا المدلية بغير وارث كأم أب الأم وإذا استكملت الفروض المال سقطت العصبة ولو في الحمارية وهو مذهب الإمام أحمد ولو مات متوارثان وجهل أولهما موتاً لم يرث بعضهم من بعض وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي والأمر بقتل مورثه لا يرثه ولو التقى عنه الضمان ولو تزوج في مرض موته مضارة لتنقيص أرث غيرها وأقرّت به ورثته لأن له أن يوصي بالثلث ولو وصى بوصايا أجزاء وتزوجت المرأة بزوج يأبا أخذ النصف فهذا الموضع فيه نظر فإنه المفسدة في هذا هو المسلم من قريبه الكافر الذمي بخلاف العكس(1/524)
لئلا يمتنع قريبه من الإسلام ولوجود نظره ولا ينظروننا والمرتد إن قُتل في ردته أو مات عليها فماله لوارثه المسلم وهو رواية عن الإمام أحمد وهو المعروف عن الصحابة ولأن ردته كمرض موته والزنديق منافق يرث ويورث لأنه عليه السلام لم يأخذ من تركة منافق شيئاً ولا جعله فيئاً فعلم أن التوارث مداره على النظرة الظاهرة واسم الإسلام يجري عليه في الظاهر إجماعاً
وإذا قال السيد لعبده: أنت حر مع موت أبيك ورثه لسبق الحرية الإرث وإن قال أنت حر عقب موته أو إذا مات أبوك فأنت حر فهذا يتخرج على وجهين بناء على أن الأهلية إذا حدثت مع الحكم هل يكفي ذلك أم لا بد من تقدمها
"فصل"
والإخوة لا يحجبون الأم من الثلث إلى السدس إلا إذا كانوا وارثين غير محجوبين بالأب فللأم في مثل أبوين وأخوين الثلث والجد يسقط الأخوة من الأم إجماعاً وكذا من الأبوين أو الأب وهي رواية عن الإمام أحمد واختارها بعض أصحابه وهو مذهب الصديق وغيره من الصحابة -رضي الله عنهم- ولو خلفت المرأة زوجاً وبنتاً وأماً فهذه الفريضة تقسم على أحد عشر للبنت ستة أسهم وللزوج ثلاثة أسهم وللأم سهمان وهذا على قول مَنْ يقول بالرد كأبي حنيفة والإمام أحمد ومَن لا يقول بالرد كمالك والشافعي ينقسم عندهم على اثني عشر سهماً للبنت ستة أسهم وللزوج ثلاثة وللأم سهمان والباقي لبيت المال
قلت: أبو حنيفة لا يقول بالرد على الزوجين فللزوج عنده الربع والثلاثة أرباع الباقية تقسم أرباعاً ثلاثة أرباعها للبنت وربعها للأم فتصح هذه المسألة عنده من ستة عشر للزوج أربعة وللبنت تسعة وللأم ثلاث و الله أعلم
"فصل"
ومن طلق امرأته في مرض موته يقصد حرمانها من الميراث ورثته إذا كان الطلاق رجعياً إجماعاً وكذا إن كان بائناً عند جمهور أئمة الإسلام وقضى به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ولم يعرف أحد من الصحابة ذكر(1/525)
خلافاً وإنّما ظهر الخلاف في خلافة ابن الزبير وعلى قول الجمهور فهل تعتد عدة طلاق أو وفاة أو أطولهما فيها أقوال أظهرها الثالث وهل يكمل لها المهر فيه قولان أظهرهما أنه يكمل
"فصل"
ولو أقر واحد من الورثة بالولاء أو النسب والباقون لا صدقوه ولا كذبوه ثبت الولاء أو النسب وهذا ظاهر قول الإمام أحمد وظاهر الحديث فإنَّ الإمام أحمد قال: إذا أقر وحده ولم يكن أحد يدفع قوله وعلى هذا فلو رد هذا النسب مَنْ له فيه حق قبل منه وارثاً كان أو غير وارث على ظاهر كلامه ونكاح المريض في مرض الموت صحيح وترث المرأة في قولي جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ولا تستحق إلا مهر المثل لا الزيادة عليه بالاتفاق(1/526)
كتاب العتق
...
" كتاب العتق"
ومن أعتق جارية ونبه يعتقها أن تكون مستقيمة لم يحرم عليه بيعها إذا كانت زانية وإذا أعتق أحد الشريكين نصيبه وهو موسر عتق نصيبه ويعتق نصيب شريكه بدفع القيمة وهو قول طائفة من العلماء وإن كان معسراً عتق كله واستسعى في باقي قيمته وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها بعض أصحابه والمالك إذا استكره عبده على الفاحشة عتق عليه وهو أحد القولين في المذهب وقال بعض السلف: يبنى على القول بالعتق بالمثلة وإذا استكره أمة امرأته على الفاحشة عتقت وغُرم مثلها لسيدتها وقاله الإمام أحمد في رواية إسحاق لخبر سلمة بن المحبق وكذا أمة غير امرأته إلا أن يفرق بين أمة امرأته وغيرها فرق شرعي وإلا فموجب القياس التسوية ولو مُثِّل بعبد غيره يجب أن يعتق عليه ويضمن قيمته لسيده كما دل عليه حديث المستكره لأمة امرأته فإنَّه يدلُّ على أن الاستكراه تمثيل وأن التمثيل يوجب العتق ولو بعبد الغير ويدلَّ أيضاً على أن مَن تصرف في ملك الغير على وجه يمنعه من الانتفاع به له المطالبة بقيمته.(1/526)
قال أبو العباس: ما أعرف للحديث وجهاً إلا هذا والأشبه بالمذهب صحة شرط الخيار والكتابة ولو قيل: بصحة شرط الخيار في الكتابة لم يبعد وأمّا شرط الخيار في "التعليقات" ففيه نظر ويجوز شرط وطء المكاتبة ونص عليه الإمام أحمد ويتوجه على هذا جواز وطئها بلا شرط بإذنها وعلى قياس هذا يجوز أن يشترط الراهن وطء المرتهن ومَنْ أعتق من مال الفيء والمصالح يحتمل أن يقال: لا ولاء عليه لأحد بمنزلة عبد الكافر إذا أسلم وهاجر ويحتمل أن يُقال: الولاء عليه للمسلمين وعلى هذا فإذا اشترى السلطان رقيقاً ونقد ثمنه من بيت المال ثم أعتقه كان الملك فيه ثابتاً للمسلمين استحقاقاً أو لكونه لا وارث له فيوضع ماله في بيت المال وليس ميراثه لورثة السلطان لأنه اشتراه بحكم الملك لا بحكم الملك ولو احتمل أن يكون اشتراه لنفسه وأن يكون اشتراه للمسلمين حرم فإنه شراء لنفسه من بيت المال وهو ممتنع ولو عرف أنه اشتراه لنفسه بمال المسلمين حكم بأن الملك للمسلمين لا له لأن له ولاية الشراء للمسلمين من بيت مالهم فإذا اشترى بمالهم شيئاً كان لهم دونه وفيه الشراء لنفسه بمالهم محرمة فتلغو وتصير كأن العقد عري عنها
"فصل"
ولا تعتق أم الولد إلا بموت سيدها ويجوز لسيدها بيعها وهو رواية عن الإمام أحمد وهل للخلاف في جواز بيعها شبهة فيه نزاع والأقوى أن له شبهة وينبني عليه لو وطئ معتقداً تحريمه هل يلحقه النسب أو يرجم رجم المحصن أما التعزير فواجب(1/527)
كتاب النكاح
*
...
" كتاب النكاح"
والإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله ولا هو دين الأنبياء قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} الرعد: 38 والنكاح في الآيات حقيقة في العقد والوطء والنهي لكل منهما وليس للأبوين إلزام الولد بنكاح مَن لا يريد فلا يكون عاقاً كأكل ما لا يريد ويحرم النظر بشهوة إلى النساء وا لمُرد ومن استحله كفر إجماعاً ويحرم النظر مع وجود ثوران الشهوة وهو منصوص الإمام أحمد والشافعي(1/527)
ومن كرر النظر إلى الأمرد ونحوه وقال: لا أنظر بشهوة كذب في دعواه وقاله ابن عقيل ومَن نظر إلى الخيل والبهائم والأشجار على وجه استحسان الدنيا والرئاسة والمال فهو مذموم لقوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وأمّا إنْ كان على وجه لا ينقص الدين وإنّما فيه راحة النفس فقط كالنظر إلى الأزهار فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق وكل قسم متى كان معه شهوة كان حراماً بلا ريب سواء كانت شهوة تمتع بالنظر أو كانت شهوة الوطء واللمس كالنظر وأولى وتحرم الخلوة بغير محرم ولو بحيوان يشتهي المرأة أو تشتهيه كالقرد وذكره ابن عقيل وتحرم الخلوة بأمرد غير حسن ومضاجعته كالمرأة الأجنبية ولو لمصلحة التعليم والتأديب والمقر موليه عند من يعاشره لذلك ملعون ديوث ومَنْ عرف بمحبتهم أو معاشرة بينهم منع من تعليمهم وإن احتاج الإنسان إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدمه على الحج الواجب وإن لم يخف قدم الحج ونص الإمام أحمد عليه في رواية صالح وغيره واختاره أبو بكر وإن كانت العبادات فرض كفاية كالعلم والجهاد قدمت على النكاح إن لم يخش العنت
قلت: وما قاله أبو العباس -رضي الله عنه- ظاهر إن قلنا إن النكاح سنة وأما إن قلنا إنه لا يقع إلا فرض كفاية كما قاله أبو يعلى الصغير وابن المني في "تعليقهما" فقد تعارض مع فرض كفاية ففيه نظر وإن قلنا: إن النكاح واجب قدمه لأن فروض الأعيان مقدمة على فروض الكفايات و الله أعلم
ويباح التصريح والتعريض من صاحب العدة فيها إن كانا ممن يحل له التزويج بها في العدة كالمختلعة فأماّ إن كانا ممن لا يحل له إلا بعد انقضاء العدة كالمزني بها والموطوءة شبهه فينبغي أن يكون كالأجنبي والمعتدة باستبراء كأم الولد أو مات سيدها أو اعتقها فينبغي أن تكون في حكم الأجنبية كالمتوفى عنها والمطلقة ثلاثاً والمنفسخ نكاحها برضاع أو لعان فيجوز التعريض دون التصريح والتعريض أنواع تارة يذكر صفات نفسه مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم(1/528)
قال أبو العباس: وهو يقضي بأن إجازة العقد الموقوف إذا قلنا بانعقاده تفتقر إلى شاهدين وهو مستقيم حسن وصرح الأصحاب بصحة نكاح الأخرس إذا فهمت إشارته قال في "المجرد" و "الفصول": يجوز تزويج الأخرس لنفسه إذا كانت له إشارة تفهم ومفهوم هذا الكلام: أن لا يكون الأخرس ولياً ولا وكيلاً في النكاح وهو مقتضى له تعليل القاضي في "الجامع" لأنه يستفاد من غيره ويحتمل أن يكون ولياً لا وكيلاً وهو أقيس والجد كالأب في الأجبار وهو رواية عن الإمام أحمد وليس للأب إجبار بنت التسع بكراً كانت أو ثيباً وهو رواية عن أحمد اختارها أبو بكر ورضا الثيب الكلام والبكر الصمات
قال أبو العباس: بعد ذكره لقول أبي حنيفة ومالك تزوج المثابة بالجبر كما تزوج البكر هذا قول قوي وإذا تعذر من له ولاية النكاح انتقلت الولاية إلى أصلح من يوجد ممن له نوع ولاية في غير النكاح كرئيس القرية وهو المراد بالدهقان وأمير القافلة ونحوه
قال الإمام أحمد في رواية المروزي في البلد يكون فيه الوالي وليس فيه قاض يزوج: إن الوالي ينظر في المهر وإن أمره ليس مفوضاً إليها وحدها كما أن أمر الكفء لكفء ليس مُفوضاً إليها وحدها وقال في رواية الأثرم وصالح وأبي الحارث عن المهر لا نجد فيه حَداً هو ما تراضوا عليه الأهلون وهو في رواية المروزي: ما تراضى عليه الأهلون في النكاح جائز وهو يقتضي أن للأهلين نظراً في الصداق ولو كان أمره إليها فقط لما كان لذكر الأهلين معنى وتزويج الأيامى فرض كفاية إجماعاً فإنّ أباه حاكم أن لا يظلم كطلبه جعلاً لتستحقه صار وجوده كعدمه ويزوج وصي المال الصغير واشترط الجد في "المحرر" وفي الولي رشداً والرشد في الولي هنا هو المعرفة بالكفء ومصالح النكاح ليس حفظ المال ويتخرج لنا مثل قول أبي حنيفة: أن الولي كل وارث بفرض أو تعصيب ولغير العصبة من الأقارب التزويج عند عدم العصبة ويخرج ذلك مما إذا قدمنا التوريث لذوي الأرحام على التوريث بالولاء(1/530)
ولو كانت المرأة يهودية ووليها نصراني أو بالعكس فينبغي أن يخرج على الروايتين لذوي الأرحام على التوريث في توارثهما وقبول شهادته عليها إذا قلنا: تقبل أهل الذمة بعضهم على بعض وكذلك في ولاية المال والعقل ويضم للولي الفاسق أمين كالوصي في رواية ولو قيل: إن الابن والأب سواء في ولاية النكاح كما إذا أوصى لأقرب قرابته لكان متوجهاً ويتخرج لنا أن الابن أولى من الأب إذا قلنا: الأخ أولى من الجد وقد حكى ذلك ابن المني في "تعاليقه" فقال: يقدم الابن على الأب على قول عندنا وإن لم يعلم وجود الأقرب في الكل حتى زوج الأبعد فقد يقال بطرد القاعدة والقياس أن لا يصح النكاح كالجهل الشرعي مثل أن يعتقد صحة النكاح بلا ولي أو بالولي إلا بعد أو بلا شهود وقد يقال: يصح النكاح
كما أن المعتبر في الشهود والولي هو العدالة الظاهرة على الصحيح فلو ظهر فيما بعد أنهم كانوا فاسقين وقت العقد ففيه وجهان ثابتان يؤيد هذا أن الولي الأقرب إنّما يشترط إذا أمكن فأمّا تعذره فيسقطه كما لو عَضل أو غاب وبهذا قيد ابن أبي موسى وغيره قول الجماعة: إذا تزوج الأبعد مع القدرة على الأقرب لم يصح ومن لم يعلم أنه موجود فهو غير مقدور على استئذانه فيسقط بعدم العلم كما يسقط بالبعد وهذا إذا لم ينتسب في عدم العلم إلى تفريط ومع هذا لو زوجت بنت الملاعن ثم استلحقها الأب فلو قلنا بالأول لكان يتعين أن لا يصح النكاح وهو بعيد بل الصواب: أنه يصح
قال الإمام أحمد في رواية حنبل: لا يعقد نصراني ولا يهودي عقدة نكاح لمسلم ولا مسلمة ولا يكونان وليين بل لا يكون إلا مسلماً وهذا يقتضي أن الكافر لا يزوج مسلمة بولاية ولا وكالة وظاهره يقضي أن لا ولاية للكافر على ابنه الكافر متولياً لنكاح ولكن لا يظهر بطلان العقد فإنّه ليس على بطلانه دليل شرعي
قال الإمام أحمد في رواية محمد بن الحسن في الأخوين صغير وكبير ينبغي أن ينظر إلى العقل والرأي وكذلك قال في رواية الأثرم في الأخوين الصغير(1/531)
والكبير كلاهما سواء إلا أنه ينبغي أن ينظر في ذلك إلى الفضل والرأي وظاهر كلام الإمام أحمد هذا لأنه أثر للبس هنا واعتبره أصحابنا ولو زوج المرأة وليان وجهل أسبق العقدين ففيه روايتان إحداهما يتميز الأسبق بالقرعة والذي يجب أن يقال على هذه الرواية: أن من خرجت له القرعة فهي زوجته بحيث يجب عليه نفقتها وسكناها وورثته لكن لا يطأ حتى يجدد العقد لحل الوطء فقط هذا قياس المذهب أو يقال: إنه لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد ويكون التجديد واجباً عليه وعليها كما كان الطلاق واجباً على الآخر والرواية الثانية يفسخ النكاحان ومن أصحابنا من ذكر أنهما يطلقانها فعلى هذا هل يكون الطلاق واقعاً بحيث تنقضي العدة ولو بزوجها ينبغي أن لا يكون كذلك لأنّه لا ينبغي وقوع الطلاق به فإنْ ماتت المرأة قبل الفسخ والطلاق فذكر أبو محمد المقدسي احتمالين أحدهما: لأحدهما نصف الميراث وربع النفقة حتى يصطلحا عليها والثاني: يقرع بينهما فمَنْ قرع حلف أنه استحق وورث
قال أبو العباس: وكلا الوجهين لا يخرج على المذهب أمّا الأول فلأنه لا يتفق الخصمان وأما الثاني فكيف يحلف مَن قال: لا أعرف الحال وإنّما المذهب على رواية: أنه قرع فله الميراث بلا يمين وأما على قولنا لا يقرع فإذا قلنا أنها تأخذ من أحدهما نصف المهر بالقرعة فكذلك يرثها أحدهما بالقرعة بطريق الأولى وإنْ قلنا لا مهر فهنا قد يقال بالقرعة أيضاً وإذا قال: قد جعلت عتق أمتي صداقها أو قد أعتقتها وجعلت عتقها صداقها صح بذلك العتق والنكاح وهو مذهب الإمام أحمد ويتوجه أن لا يصح العتق إذا قال: قد جعلت صداقك فلم تقبل لأن العتق لم يصر صداقاً وهو لم يوقع غير ذلك ويتوجه أن لا يصح وإن قبلت لأن هذا القبول لا يصير به العتق صداقاً فلم يتحقق ما قال ويتوجه في الصورة الثانية: أنها إنْ قبلت صارت زوجة وإلا عتقت مجاناً أو لم تعتق بحال وإذا قلنا إلحاق الشرط لا يغير الطلاق فإلحاق العطف في النكاح بطريق الأولى وتجب قيمة نفسها ويتخرج ثبوت الخيار أو اعتبار إذنها من عتقها بجنب حر فإنَّ الخيار يثبت لها في رواية(1/532)
وكذلك إذا عتقا معاً كان حدوث الحرية بعد العتق يثبت الفسخ فالمقارنة أولى أن تثبت الفسخ ولو أعتقها وزوّجها من غيره وجعل عتقها صداقها فقياس المذهب صحته لأنهم قالوا: الوقت الذي جُعل فيه العتق صِداقاً كان يملك إجبارها في حق الأجنبي فلم يبقَ إلا أنه جعل ملك بعضاً وقت حريتها وهذا لا يؤثر كما لو كان هو المتزوج ويدلَّ على ذلك أن أصحابنا قالوا: إذا قال: زوجتك هذه على أنها حرة صح وإن لم يعلمه أنه أعتقها قبل ذلك ويكون هو المصدق لها عن الزوج ويحتمل أن يقال: هو السيد خاصة لأنه لا يمكنه أن يتزوجها وهي رقيقة وعلى هذا فسواء قال: أعتقتها وزوجتها منك أو زوجتها منك وأعتقتها ولو قال: أعتقت أمتي وزوجتكها على ألف درهم فقياس المذهب جوازه فهو مثل أن يقول أعتقتها وأكريتها منك سنة بألف درهم وهذا بمنزلة استثناء الخدمة مثل أن يقول: أعتقك على خدمة سنة ولو قال عتقتك وتزوجتك على ألف درهم صح هذا النكاح بطريق الأولى لأنه لم يجعل العتق صداقاً ولو قال: وهبتك هذه الجارية وزوجتها من فلان أو: وهبتك وأكريتها من فلان أو: بعتكها وزوجتها أو: أكريتها من فلان قياس المذهب صحته لأنه في معنى استثناء المنفعة
وحاصله: إنّا كما جوّزنا العتق والوقف والهبة والبيع مع استثناء منفعة الخدمة جوّزنا أن يكون الأعتاق والإنكاح في زمن واحد وجعلنا ذلك بمنزلة الإنكاح قبل الاعتاق لأنها حين الاعتاق لم تخرج عن ملكه والذي يقتضيه كلام أحمد: أن الرجل إذا تبين له ليس بكفء فرّق بينهما وأنه ليس للولي أن يزوج المرأة من غير كفء ولا للزوج أن يتزوج ولا للمرأة أن تفعل ذلك وأن الكفاءة ليست بمنزلة الأمور المالية مثل مهر المرأة إن أحبت المرأة والأولياء طلبوه وإلا تركوه ولكنه أمر ينبغي لهم اعتباره وإن كانت منفعتة تتعلق بغيرهم وفقد النسب والدين لا يقر معهما النكاح بغير خلاف عن أحمد وفقد الجزية غير مبطل بغير خلاف عنه بل يثبت بها الخيار بعد الكفاءة للمرأة أو لوليها وعلى هذا التراخي في ظاه(1/533)
فعلى هذا يسقط خيارها بهما يدل على الرضى من قول أو فعل وأمّا الأولياء فلا يسقط إلا بالقول ويفتقر الفسخ به إلى حاكم في قياس المذهب كالفسخ للعيوب للاختلاف فيه ولو كان ناقصاً من وجه آخر
مثل: أن كان دونها في النسب فرضوا به ثم بان فاسقاً وهي عدل فيها ينبغي ثبوت الخيار كما رضيت به لعلة مثل الجذام فظهر به عيب آخر كالجنون والعُنَّة فأمّا إن رضوا بفسقه من وجه فَبَان فاسقاً من آخر مثل أن ظنوه يشرب الخمر فظهر أنه يلوط أو يشهد بالزور أو يقطع الطريق وبَيض لذلك أبو العباس وإن حدثت له الكفاءة مقارنة بأن يقول سيد العبد بعد إيجاب النكاح له: قبلت له النكاح وأعتقته فقياس المذهب صحة ذلك وتخرج رواية أخرى على مسألة إذا أعتقهما معاً وعلى مسألة: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك لا ريب في أن النكاح مع الإعلان يصح وإن لم يشهد شاهدان مع الكتمان والإشهاد فهذا بما ينظر فيه وإذا انتفى الإشهاد والإعلان فهو باطل عند عامة العلماء وإن قُدر فيه خلاف فهو قليل وقد يظن أن في ذلك خلافاً في مذهب الإمام أحمد(1/534)
باب المحرمات في النكاح
...
"باب المحرمات في النكاح"
وتحرم بنته من الزنا قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يزني بامرأة فتلد منه ابنة فيتزوجها فاستعظم ذلك وقال: يتزوج ابنته عليه القتل بمنزلة المرتد على أنه لم يقع له الخلاف فاعتقد أن المسألة إجماع أو على أن هذا فيمَن عقد عليها غير متأول ولا مقلد فيجب عليه الحد
وقال أبو العباس: كلام أحمد يقتضي أنه أوجب حد المرتد لاستحلال ذلك لا حد الزنى وذلك أنه استدل بحديث البراء وهذا يدل على أن استحلال هذا كفر عنده
قال القاضي في "التعليق" و الشيخ في "المُغني": يكفي في التحريم أن يعلم أنّها بنته ظاهراً وإن كان النسب لغيره.(1/534)
قال أبو العباس: وظاهر كلام الإمام أحمد: أن الشبهة تكفي في ذلك لأنه قال: أليس أمر النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تحتجب من ابن زمعة وقال: "الولد للفراش" وقال: إنما حجبها للشيء الذي رأى بعينه
قال القاضي: والخلوة إن تجردت عن نظر أو مباشرة دون الفرج فروايتان قال: وفيما أطلق القول في رواية أبي الحارث إذا خلا بها وجب الصداق والعدة ولا يحل أن يتزوج أمها وبنتها ولا تحل المرأة لأبيه وابنه
قال: وهذا محمول على أنه حصل مع الخلوة نظراً أو مباشرة فيخرج كلامه على إحدى الروايتين
قال أبو العباس: وهذا ضعيف وإنما الخلوة هنا إن اتصلت بعقد النكاح قامت مقام الوطء فأمّا الخلوة بالأمة والأجنبية فلا أثر لها وسحاق النساء قياس المذهب المنصوص أنه يخرج على الخلاف في مباشرة الرجل الرجل بشهوة وتحرم بنت الربيبة لأنها ربيبة وابن الربيب أيضاً نص عليهما الإمام أحمد في رواية صالح
قال أبو العباس: ولا أعلم في ذلك نزاعاً وتحرم زوجة الربيب نص عليه أحمد في رواية ابن مشيش وكذا في الربيب يتزوج امرأة رابه لأنه ليس من الأبناء والمنصوص عن الإمام أحمد في مسألة التلوط إنّما هو أن الفاعل لا يتزوج بنت المفعول وكذلك أمه وهذا قياس جيد فأمّا تزوج المفعول بأم الفاعل وابنته ففيه خلاف ولم ينص عليه وذلك لأن واحداً منهما تمتع بأصل وفرع والأصل أنه يتمتع بالرجل أصل وفرع أو يتمتع بالمرأة أصل وفرع وهذا المفعول به يتمتع في أحد الطرفين وهو يتمتع في الطرف الآخر والوطء الحرام لا يثير تحريم المصاهرة واعتبر أبو العباس: في موضع آخر التوبة حتى في اللواط ويحرم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين كقول جمهور العلماء وقيل لأحمد في رواية ابن منصور الجمع بين المملوكتين أتقول إنه حرام قال: لا أقول إنه حرام ولكن(1/535)
ينهى عنه قال القاضي: ظاهر هذا أنه لا يحرم الجمع وإنّما يكره
قال أبو العباس: الإمام أحمد لم يقل ليس هذا حراماً وإنّما قال: لا أقول: هو حرام وكانوا يكرهون أن يقولوا: هو فرض ويقولون: يُؤمر به وهذا الأدب في الفتوى مأثور عن جماعة من السلف وذلك إما لتوقف في التحريم أو استهابة لهذه الكلمة ما يستهاب لفظ الفرض إلا فيما علم وجوبه فإذا كان المفتي يمتنع أن يقول هو فرض إما لتوقفه أو لكون الفرض ما ثبت وجوبه بالقاطع أو ما بين وجوبه في الكتاب فكذلك الحرام وأمّا أن يجعل عن أحمد أنه لا يحرم بل يكره فهذا غلط عليه ومأخذه الغفلة عن دلالة الألفاظ ومراتب الكلام وقد ذكر القاضي هذا في العدة بعينه في مسألة الفرض هل هو أعلى من الواجب وذكر لفظ الإمام أحمد في هذه الرواية ولفظه في الميقة فعلم أنه لم يجعل في المسألة خلافاً فلو وطئ إحدى الأختين المملوكتين لم تحل له الأخرى حتى يحرم على نفسه الأولى بإخراج عن ملكه أو تزويج
قال ابن عقيل: ولا يكفي في إباحتها مجرد إزالة الملك حتى تمضي حيضة الاستبراء وتنقضي فتكون الحيضة كالعدة وقال أبو العباس: وليس هذا القيد في كلام أحمد وجماعة الأصحاب وليس هو في كلام علي وابن عمر مع أن علياً لا يجوز وطء الأخت في عدة أختها ولو زال ملكه عن بعضها كفى وهو قياس قول أصحابنا فإنْ حرم إحداهما بنقل الملك فيها على وجه يمكن استرجاعه مثل أن يهبهما لولده أو يبيعها بشرط فقد ذكر الجد الأعلى في البيع والرهن بشرط الخيار وجهيْن فإنْ أُخرج الملك لازماً ثم عرض له المبيح للفسخ مثل أن يبيعها سلعة فتبين أنها كانت مبيعة أو يفلس المشتري بالثمن أو يظهر في العوض تدليس أو يكون مَغبُوناً فالذي يجب أن يُقال في هذه المواضع: أنه يباح وطء الأخت بكل حال على عموم كلام الصحابة والفقهاء أحمد وغيره والبيع والهبة يُوجبان التفريق بين ذوي الرحم المحرم وهو لا يجوز بين الصغار وفي جوازه بين الكبار روايتان وقد أطلق علي وابن عمر والفقهاء أحمد وغيره أن يبيعها أو يهبها مع أن علياً(1/536)
مفقودة(1/537)
قال أبو العباس: وفي هذا نظر فإن ظاهر السنة يخالف ذلك لم يذكر فيها هذا الشرط ويمكن الفرق بين هذه وبين غيرها وتأملت كلام أحمد وعامة أصحابنا فوجدتهم قد ذكروا أنه يُمسك منهن أربعاً ولم يشترطوا في جواز وطئه انقضاء العدة لا في جمع الرحم ولو كان لهذا أصل عندهم لم يغفلوه فإنهم دائماً في مثل هذا ينبهون على اعتزال الزوجة كما ذكره الإمام أحمد فيما إذا وطئ أخت امرأته بنكاح فاسد أو زنى بها وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى فإنَّ العدة تابعة لنكاحها وقد عفا الله عن جميع نكاحها فكذلك يعفو عن توابع ذلك النكاح لكن قياس هذا القول أنه لو أسلم وتحته سريتان أختان فحرم واحدة على نفسه بعد الإسلام جاز وطء الأخرى قبل استبراء تلك فأّما لو طلق زوجته واحدة على نفسه بعد الإسلام جاز وطء الأخرى قبل انقضاء عدة المطلقة فهذا لا يجوز وتحرير هذه المسائل: أن العدة إما أن تكون من نكاح على المشهور ولا توطأ بنكاح ولا بملك يمين حتى تنقضي العدة ولا يجوز في عدة النكاح تزوج أربع سواها قولاً واحداً ويجوز ذلك في عدة ملك اليمين وإن كانت العدة من نكاح فاسد أو شبه نكاح فهي كحقيقة النكاح في المشهور من المذاهب وإن كانت العدة من نكاح فاسد أو شبهة ملك فإنما الواجب الاستبراء وذلك لا يزيد على حقيقة الملك وتحرم الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها وهو مذهب الإمام أحمد وغيره وصفة توبتها أن يراودها عن نفسها فإن أجابت لم تتب وإن لم تجبه فقد تابت وهو مروي عن عمر وابنه وابن عباس ومنصوص الإمام أحمد وعلى هذا كل من أراد مخالطة إنسان اتهمه حتى يعرف بره وفجوره أو توبته ويسأل عن ذلك من يعرفه ويمنع الزاني مَنْ تزويج العفيفة حتى يتوب
قال أبو العباس: بعد أن حكى عن علي -رضي الله عنه-: أنه فّرق بين رجل وامرأته وقد زنى قبل أن يدخل بها وعن جابر بن عبد الله والحسن والنخعي أنه يُفرق بينهما ويؤيد هذا من أصلنا أنه يعضل الزانية لتختلع منه وأن الكفاءة إذا زالت في أثناء العقد فإَّن لها الفسخ في أحد الوجهين وإذا كانت المرأة تزني لم يكن له أن يمسكها على تلك الحال بل يفارقها وإلا كان دَيوثاً وكلام الإمام أحمد(1/538)
عامة يقتضي تحريم التزويج بالحربيات وله فيما إذا خاف على نفسه روايتان والمنْع مِن النكاح في أرض الحرب عام في المسلمة والكافرة ولو تزوج المرتد كافرة مرتدة كانت أو غيرها أو تزوج المرتدة كافراً ثم أسلما فالذي ينبغي أن يقال هنا: أنا نقرهم على نكاحهم أو مناكحهم كالحربي إذا نكح نكاحاً فاسداً ثم أسلما فإنَّ المعنى واحد وهذا جيد في القياس إذا قلنا: أن المرتد لا يُؤمن بفعل ما تركه في الردة من العبادات لكن طرده أنه لا يحد على ما ارتكبه في الردة من المحرمات وفيه خلاف في المذهب وإنْ كان المنصوص أنّه يُحد فإذا قلنا أنه يؤمَّن بقضاء ما تركه من الواجبات ويَضمن ويعاقب على ما فعله من المحرمات ففيه نظر ومما يدخل في هذا كل عقود المرتدين إذا أسلموا قبل التقابض أو بعده وهذا باب واسع يدخل فيه خمسة أحكام أهل الشرك: في النكاح وتوابعه والأموال وتوابعها وتمالؤوا على مال مسلم أو تقاسموا ميراثاً ثم أسلموا بعد ذلك والدماء وتوابعها وقال القاضي أو القاضي في "الجامع": فإنْ كان الحر كتابياً لم يجز له أن يتزوج الأمة الكتابية
وقال أبو العباس: مفهوم كلام الجد: أنه يباح للكافر نكاح الأمة الكافرة وتباح الأمة لواجد الطول غير خائف العنت إذا شرط على السيد عتق كل مَنْ يولد منها وهو مذهب الليث لامتناع مفسدة إرقاق ولده وكذا لو تزوج أمة كتابية شرط له عتق ولدها منه والآية إنّما دلّت على تحريم غير المؤمنات بالمفهوم ولا عموم له بل يصدق بصورة ولو خشي القادر على الطول على نفسه الزنا بأمة غيره لمحبته لها ولم يبذلها سيدها له بملك أبيح له نكاحها وهو مروي عن الحسن البصري وغيره من السلف ولو تزوج الأمة في عدة الحرة جاز عند أصحابنا إذا كانت العدة من طلاق بائن وكان خائفاً للعنت عادماً لطول حرة بناء على أن علة المنع ليست هي الجمع بينهما وبين الحرة ويخرج المنع إذا منعنا من الجمع بينهما وكذلك خرج الجد في "الشرح"
ذكر أصحابنا: أن الزوج إذا اشترى زوجته انفسخ النكاح وقال الحسن: إذا اشترى زوجته للعتق فأعتقها حين ملكها فهما على نكاحهما وهذا قوي فيما إذا قال: ملكتك فأنت حُرة وصححنا الصفة لأنه إذا ملكها(1/539)
فالملك لا يوجب بطلان النكاح لأن الحرية لا تنافيه وإنّما التنافي أن تكون مملوكته زوجته فإذا زال الملك عقب ثبوته لم يجامع النكاح فلا يبطله لأنه حين زوال كان ينبغي زوال النكاح والملك في حال زواله لا ثبوت له وهذا الذي لحظه الحسن فإنَّه إذا اشتراها ليعتقها فأعتقها لم يكن للملك قوة تفسح النكاح ويؤيد هذا القول: أن حدوث الملك بمنزلة اختلاف الدين وإذا لم يدم تغير الدين فهما على نكاحهما فكذلك هنا إذ النكاح يقع سابقاً وهذا إنّما يكون إذا كان العتق حصل بعد الملك فههنا لم يتقدم الانفساخ على العتق ويكره نكاح الحرائر الكتابيات مع وجود الحرائر المسلمات قاله القاضي وأكثر العلماء كما يكره أن يجعل أهل الكتاب ذباحين مع كثرة ذباحين مسلمين ولكن لا يحرم ولو قتل رجل رجلاً ليتزوج امرأته حُرمت على القاتل مع حلها لغيره ولو جبر امرأته على زوجها حتى طلقها ثم تزوجها وجب أن يعاقب هذا عقوبة بليغة وهذا النكاح باطل في أحد القولين في مذهب مالك وأحمد وغيرهما ويجب التفريق بين هذا الظالم المعتدي وبين هذه المرأة الظالمة وإذا أحب امرأة في الدنيا ولم يتزوجها وتصدق بمهرها وطلبها من الله تعالى أن تكون له زوجة في الآخرة رجى له ذلك من الله تعالى ولا يحرم في الآخرة ما يحرم في الدنيا من التزوج بأكثر من أربع والجمع بين الأختين ولا يمنع أن يجمع بين المرأة وبنتها(1/540)
باب الشروط والعيوب في النكاح
...
"باب الشروط والعيوب في النكاح"
إذا شرط الزوج للزوجة في العقد أو اتفقا قبله: أن لا يخرجها من ديارها أو بلدها أو لا يتزوج عليها أو لا يتسرى أو إن تزوج عليها فلها تطليقها صح الشرط وهو مذهب الإمام أحمد ولو خدعها فسافر بها ثم كرهته لم يكرهها وإذا أراد أن يتزوج عليها أو يتسرى وقد شرط لها عدم ذلك فقد يفهم من إطلاق أصحابنا جوازه بدون إذنها لكونهم إنما ذكروا أن لها الفسخ ولم يتعرضوا للمنع
قال أبو العباس: وما أظنّهم قصدوا ذلك وظاهر الأثر والقياس يقتضي منعه كسائر الشروط الصحيحة وإذا فعل ذلك ثم قبل أن تفسخ طلق أو باع فقياس المذهب أنها لا تملك الفسخ وأمّا إنْ شرط إن كان له زوجة أو سرية(1/540)
فصداقها ألفان ثم طلق الزوجة أو أعتق السرية بعد العقد قبل أن تطالبه ففي إعطائها ذلك نظر ومَنْ شرط لها أن يسكنها منزل أبيه فسكنت ثم طلبت سكنى منفردة وهو عاجز لم يلزمه ما عجز عنه بل لو كان قادراً فليس لها عند مالك وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد وغيره غير ما شرط لها وعليه بطلان نكاح الشغار من اشتراط عدم المهر فإنْ سمّوا مهراً صح وقياس المذهب أنه شرط لازم لأنه شرط استحل به الفرج ولولا لزومه لم يك قول المجيب والقابل مصححاً لنكاح الأول وإن شرط الزوجان أو أحدهما فيه خياراً صح العقد والشرط وإن شرطها بكراً أو جميلة أو ثيباً فبانت بخلافه ملك الفسخ وهو رواية عن الإمام أحمد وقول مالك وأحد قولي الشافعي ولو شرط عليها أن تحافظ على الصلوات الخمس أو تلزم الصدق والأمانة فيما بعد العقد فتركته فيما بعد َملك الفسخ كما لو شرطت عليه ترك التسري فتسرى فيكون فوات الصفة إمّا مقارناً وإمّا حادثاً كما أن العنت إما مقارن أو حادث وقد يتخرج في فوات الصفة في المستقبل قولان كما في فوات الكفاءة في المستقبل وحدوث العنت لكن المشروط هنا فعل تحدثه أو تركه فعلاً ليس هو صفة ثابتة لها ولو شرطت مقام ولدها عندها ونفقته على الزوج فهو مثل اشتراط الزيادة في الصداق ويرجع في ذلك إلى العرف كالأجير بطعامه وكسوته ولو شرطت أنه يطأها في وقت دون وقت ذكر القاضي في "الجامع": أنّه من الشروط الفاسدة ونص الإمام أحمد في الأمة يجوز أن يشترط أهلها أن تخدمهم نهاراً ويرسلوها ليلاً يتوجه منه صحة هذا الشرط إن كان فيه غرض صحيح مثل أن يكون لها بالنهار عمل فتشترط أن لا يستمتع بها إلا ليلاً ونحو ذلك وشرط عدم النفقة فاسد ويتوجه صحته لا سيما إذا قلنا: أنه إذا أعسر الزوج ورضيت الزوجة به لم تملك المطالبة بعد وإذا شرطت أن لا تسلم نفسها إلا في وقت بعينه فهو نظير تأخير التسليم في البيع والإجارة وقياس المذهب صحته وذكر أصحابنا أنه لا يصح ولو شرطت زيادة في النفقة الواجبة فقياس المذهب وجوب الزيادة(1/541)
وكذلك إذا شرطت زيادة على المنفعة التي يستحقها بمطلق العقد مثل أن تشترط أن لا يترك الوطء إلا شهراً أو أن لا يسافر عنها أكثر من شهر فإن أصحابنا القاضي وغيره قال في تعليل المسألة: لأنها شرطت عليه شرطاً لا يمنع المقصود بعقد النكاح ولها فيه منفعة فيلزم الزوج الوفاء به كما لو شرطت من غير نقد البلد وهذا التعليل يقتضي صحة كل شرط لها فيه منفعة ولا يمنع مقصود النكاح ولا يصح نكاح المحلل ونية ذلك كشرطه وأما نيه الاستمتاع وهو أن يتزوجها ومِن نيته أن يطلقها في وقت أو عند سفره فلم يذكرها القاضي في "المجرد" ولا "الجامع" ولا ذكرها أبو الخطاب وذكرها أبو محمد المقدسي وقال: النكاح صحيح لا بأس به في قول عامة العلماء إلا الأوزاعي
قال أبو العباس: ولم أر أحداً من أصحابنا ذكر أنه لا بأس به تصريحاً إلا أبا محمد وأما القاضي في "التعليق" فسوى بين نيته على طلاقها في وقت بعينه وبين التحليل وكذلك الجد وأصحاب الخلاف وإذا أدعى الزوج الثاني أنه نوى التحليل أو الاستمتاع فينبغي أن لا يقبل منه في بطلان نكاح المرأة إلا أن تصدقه أو تقوم بينة إقرار على التواطئ قبل العقد ولا ينبغي أن يقبل على الزوج الأول فتحل في الظاهر بهذا النكاح إلا أن يصدق على إفساده فأمّا إن كان الزوج الثاني ممن يعرف بالتحليل فينبغي أن يكون ذلك لتقدم اشتراطه إلا أن يصرح له قبل العقد بأنه نكاح رغبة وأما الزوج الأول فإنْ غلب على ظنه صدق الزوج الثاني حرمت عليه فيما بينه وبين الله تعالى ولو تقدم شرط عرفي أو لفظي بنكاح التحليل وادعى أنه قصد إلى نكاح الرغبة قبل في حق المرأة أن صححنا هذا العقد وإلا فلا وإن ادعاه بعد المفارقة ففيه نظر وينبغي أن لا يقبل قوله لأن الظاهر ولو صدقت الزوجة أن النكاح الثاني كان فاسداً فلا تحل للأول لاعترافها بالتحريم عليه وولد المغرور بأمة حر بفدية ولدة وإن كان عبداً تعلق برقبته وجهاً واحداً(1/542)
لأنه ضمان جناية محضة ولو لم يكن ضمان جناية لم يلزمه الضمان بحال لانتفاء كونه ضمان عقد أو ضمان يد فيعتبر أن يكون ضمان إتلاف أو منع لما كان ينعقد ملكاً للسيد كضمان الجنين وفارق ما لو استدان العبد فإنه حينئذ قبض المال بإذن صاحبه وهنا قبض مالية الأولاد بدون إذن السيد فهي جناية محضة ولو أذن له السيد في نكاح حرة فالضمان عليه لأنه أذن له في الاتلاف أو الإستدانة على رواية
"فصل في العيوب المثبتة للفسخ والاستحاضة" عيب يثبت به فسخ النكاح في أظهر الوجهين وإذا كان الزوج صغيراً أو به جنون أو جذام أو برص فالمسألة التي في الرضاع تقتضي أن لها الفسخ في الحال ولا ينتظر وقت إمكان الوطء وعلى قياسه الزوجة إذا كانت صغيرة أو مجنونة أو عقلاء أو قرناء ويتوجه أن لا فسخ إلا عند عدم إمكان الوطء في الحال وإذا لم يقر بالعنة ولم ينكر أو قال: لست أدري أعنين أنا أم لا فينبغي أن يكون كما لو أنكر العنَّة ونكل عن اليمين فإنَّ النكول عن الجواب كالنكول عن اليمين فإنّ قلنا: يحبس الناكل عن الجواب فالتأجيل أيسر من الحبس ولو نكل عن اليمين فيما إذا ادعى الوطء قبل التأجيل فينبغي أن يؤجل هنا كما لو نكل عن اليمين في العنّة والسنة المعتبرة في التأجيل هي الهلالية هذا هو المفهوم من كلام العلماء لكن تعليلهم بالفصول يُوهم خلاف ذلك لكن ما بينهما متقارب ويتخرج إذا علمت بعنته أو اختارت المقام معه على عسرته هل له الفسخ على روايتين ولو خرج هذا في جميع العيوب لتوجه وترد المرأة بكل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع ولو بان الزوج عقيماً فقياس قولنا بثبوت الخيار للمرأة: أن لها حقاً في الولد ولهذا قلنا: لا يعزل عن الحرة إلا بإذنها وعن الإمام أحمد ما يقتضيه وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أيضاً وتعليل أصحابنا توقف الفسخ على الحاكم باختلاف أهل العلم فإنّه إن أريد كل خيار مختلف فيه قومه يتوقف على الحاكم فخيار المعتقة يجب وهو مختلف فيه وخيارها بعد الثلاث مختلف فيه وهما لا يتوقفان على الحاكم ثم خيار امرأة المجبوب متفق عليه وهو من جملة العيوب التي قال: لا تتوقف على الحاكم ولا لما يعني الإعتذار(1/543)
فإنَّ أصل خيار العنت الشرط مختلف فيه بخلاف أصل خيار المعتقة لأن أصل خيار العيب ثم خيارات البيع لا تتوقف على الحاكم مع الإختلاف والواجب أولاً التفريق بين النكاح والبيع ثم لو علل بخفاء الفسخ وظهوره فإنَّ العيوب وفوات الشرط قد تخفى وقد يتنازعون فيها بخلاف إعتاق السيد لكان أولى من تعليله بالإختلاف ولو قيل: بأن الفسخ يثبت بتراضيهما تارة وبحكم الحاكم أخرى أو بمجرد فسخ المستحق ثم الآخر إن أمضاه وإلا أمضاه الحاكم لتوجه وهو الأقوى ومتى أذن الحاكم أو حكم لأحد باستحقاق عقد أو فسخ مأذون لم يحتج بعد ذلك إلى حكم بصحته بلا نزاع لكن لو عقد الحاكم أو فسخ فهو فعله وإلا صح أنه حكم وإذا اعتبر تفريق الحاكم ولم يكن في الموضع حاكم فالأشبه أن لها الامتناع وكذلك تملك الانتقال من منزله فإنَّ مَن ملك الفسخ ملك الامتناع من التسليم وينبغي أن تملك النفقة في هذه المدة لأن المانع منه وإذا اعتقت الأمة تحت عبد ثبت لها الخيار اتفاقاً وكذلك تحت حر وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وإن كان الزوج عبداً لملكها رفقها وبضعها ولو شرط عليها سيدها دوام النكاح تحت حر أو عبد فرضيت لزمها ذلك ومذهب الإمام أحمد يقتضيه فإنّه يجوز العتق بشرط
ذكر أبو محمد المقدسي: إذا أسلمت الأمة أو ارتدت أو أرضعت من يفسخ نكاحها إرضاعه قبل الدخول سقط المهر وجعله أصلاً قائماً عليه ما إذا أعتقت قبل الدخول واختارت الفراق معه: أن المهر يسقط على رواية لنا
قال أبو العباس: والتنصيف في مسألة الإسلام ونظائرها أولى فإنها إنّما فسخت لإعتاقه لها فالإعتاق سبب للفسخ ومن أتلف حقه متسبباً سقط وإن كان المباشر غيره بخلاف ما إذا كان السبب والمباشرة من الغير فإذا قيل في مسألة العتق بالتنصيف فالردة والإسلام والرضاع أولى بلا شك وإذا دخل النقص على الزوج بالمرأة وفوات صفة أو شرط صحيح أو باطل فإنهّ ينقص من المسمّى(1/544)
بنسبة ما نقص وهذا النقص من مهر المثل لو لم يسلم لها ما شرطته أو كان الزوج معيناً فيقال: ألف درهم وإذا أسلم لها ذلك أو كان الزوج سليماً فيقال ثمانمائة درهم فيكون فوات الصفة والعيب قد صار من مهر المثل الخمس فينقصها من المسمّى بحسب ذلك فيكون بقيمته مال ذهب منه فيزاد عليه مثل ربعه فإذا كان ألفين استحق ألفين وخمسمائة وهذا هو المهر الذي رضيت به ولو كان الزوج معيباً أو لم يشترط صفة وهذا هو العدل ويرجع الزوج المغرور بالصداق على من غره مِنْ المرأة أو الولي في أصح قول العلماء(1/545)
باب نكاح الكفار
...
"باب نكاح الكفار" والصواب أن أنكحتهم المحرمة في دين الإسلام حراماً مطلقاً إذا لم يسلموا عوقبوا عليها وإن أسلموا عفي لهم ذلك لعدم اعتقادهم تحريمه واختلف في الصحة والفساد والصواب: أنها صحيحة من وجهيْن فإنْ أريد بالصحة أباحة التصرف فإنّما يُباح لهم بشرط الإسلام وإنْ أُريد نفوذه وترتيب أحكام الزوجية عليه من حصول الجمل به للمطلق ثلاثاً ووقوع الطلاق فيه وثبوت الإحصان به فصحيح وهذا مما يقوي طريقة مَن فرق بين أن يكون التحريم لغير المرأة أو لوصف لأن ترتيب هذه الأحكام على نكاح المحارم بعيداً جداً وقد أطلق أبو بكر وابن أبي موسى وغيرهما صحة أنكحتهم من تصريحهم بأنه لا يحصل الإحسان بنكاح ذوات المحارم ولو قيل: أنَّ مَنْ لم يعلم التحريم فهو في ملك المحرمات بمنزلة أهل الجاهلية كما قلنا على إحدى الروايتين: أنَّ مَنْ لم يعلم الواجبات فهو فيها كأهل الجاهلية فلا يجب عليهم القضاء
كذلك أولئك تكون عقودهم وفعلهم بمنزلة عقود أهل الجاهلية فإذا اعتقدوا أن النكاح بلا ولي ولا شهوة وفي العدة صحيح كان بمنزلة أهل الجاهلية ويحمل ما نقل عن الصحابة على أن المعاند لم يعذر لتركه تعلمه العلم مع تقصيره بخلاف أهل البوادي والحديث العهد بالإسلام ومَنْ قلد فقيهاً فيتوارثون بهذه الأنكحة ولو تقاسموا ميراثاً جهلاً فهذا شبيه بقسم ميراث المفقود إذا ظهر حياً لا يضمنون ما أنفقوا(1/545)
لأنهم معذورون وأما الباقي فيفرق بين المسلم والكافر كما فرقنا في أموال القتال بينهما فإنَّ الكافر لا يرد باقياً ولا يضمن تالفاً والمسلم يرد الباقي ويضمن التالف وعلى قياسه كل متلف معذور في إتلافه لتأويل أو جهل وإذا أسلم الكافر وتحته معتدة فإنْ كان لم يدخل بها منع من وطئها حتى تنقضى العدة وإن كان دخل بها لم يمنع الوطء إلا أن تكون قبل وطئه وعلى التقديرين فلا ينفسخ النكاح ويحتمل أن يقال في أنكحة الكفار التي نقضي بفسادها: إن كان حصل بها دخول استقر وإن لم يكن دخل وقبضته فرض لها مثل المهر ونص عليه الإمام أحمد في رواية ابن منصوص لأنا إنّما نقرر تقابض الكفار في المشهور إذا كان من الطريقين
فإذا قبضت الخمر أو الخنزير قبل الدخول لم يحصل التقابض من الطرفين فأشبه ما لو باع خمراً بثمن وقبضها ثم أسلما فإنّا لا نحكم له بالثمن فكذا هنا وإذا لم يقبضه فرض لها مهر المثل فإن كان عين لها محرماً مثل إن كان عادتهم التزويج على خمر أو خنزير أو دراهم مع خمر وخنزير يحتمل ذلك وجهيْن: أحدهما: أنهّ يُجعل ذلك وجوده كعدمه ويكون كمن لا أقارب لها فينظر في إعادة أهل البلد وإلا فأقرب البلاد
والثاني: تعتبر قيمة ذلك عندهم وفرّق أصحابنا في غير هذا الموضع بين الخمر والخنزير فكذلك ها هنا فيتخرج أنّ لها في الخنزير مهر المثل وفي الخمر القيمة وحيث وجبت القيمة فلا كلام وإن اختلفا فإنْ قامت بينة للمسلمين بالقيمة عندهم بأن يكون ذلك المسلم يعرف بسعر ذلك عندهم قضى به وإلا فالقول قول الزوج مع يمينه وإن لم يكن سمّى لها صداقاً فرض لها مهر المثل ويتوجه أن الإسلام والترافع إنْ كانا قبل الدخول فلها ذلك كما لو كان على محرم وأولى وإن كان بعد الدخول فإيجاب مهرها فيه نظر فإنَّ الذين أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعض أنكحتهم ذلك ولم يأمر أحدهم بإعطاء مهر وإذا أسلمت الزوجة والزوج كافر ثم أسلم قبل الدخول أو بعد الدخول فالنكاح باق ما لم تنكح(1/546)
غيره والأمر إليها ولا حكم له عليها ولا حق عليه لأن الشارع لم يفصل وهو مصلحة محضة وكذا إن أسلم قبلها وليس له حبسها فمتى أسلمت ولو قبل الدخول أو بعده فهي امرأته إن اختار وكذا إن ارتد الزوجان أو أحدهما ثُمَّ أسلما أو أحدهما وإن كان الزوجان سبق أحدهما بالإسلام ولم يعلم عينه فللزوجة نصف المهر قاله أبو الخطاب تغريماً على رواية: أن لها نصف المهر إن كان هو المسلم وقال القاضي: إن لم تكن قبضته لم يجز أن تطالبه بشيء وإن كانت قبضته ثم يرجع عليها فيما فوق النصف وقياس المذهب هنا القرعة
قال أبو العباس: وقياس المذهب فيما أراه: أن الزوجة إذا سلمت قبل الزوج فلا نفقة لها لأن الإسلام سبب يوجب البينونة والأصل عدم السلامة في العدة فإذا لم يسلم حتى انقضت العدة تبيّنا وقوع البينونة بالإسلام ولا نفقة عندنا للبائن وإن أسلم الكافر وله ولد صغير تبعه في الإسلام فإذا كان تحت الصغير أكثر من أربع نسوة فقال القاضي: ليس لوليه الاختيار منهنَّ لأنه راجع إلى الشهوة والإرادة ثم قال في "الجامع": يوقف الآمر حتى يبلغ فيختار وقال في "المحرر": حتى يبلغ عشر سنين وقال ابن عقيل حتى يراهق ويبلغ أربعة عشر سنة
وقال أبو العباس: الوقف هنا ضعيف لأن الفسخ واجب فيقوم الولي مقامه في التعيين كما يقوم مقامه في تعيين الواجب عليه من المال من الزكاة وغيرها
أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة فأسلمن معه اختار منهن أربعاً وفارق سائرهن وليس طلاق إحداهن اختيار لها في الأصح(1/547)
باب الصداق
...
"باب الصداق"
ولا يجوز كتابة الصداق على الحرير وقاله ابن عقيل وكلام الإمام أحمد في(1/547)
رواية حنبل يقتضي أنه يستحب أن يكون الصداق أربعمائة درهم وهذا هو الصواب مع القدرة واليسار فيستحب بلوغه ولا يزاد عليه وكلام القاضي وغيره يقتضي أنه لا يستحب بل يكون بلوغه مباحاً ولو قيل: إنه يكره جعل الصداق ديناً سواء كان مؤخر الوفاء وهو حال أو كان مؤجلاً لكان متوجهاً لحديث الواهبة والصداق المقدم إذا كثُر وهو قادر على ذلك لم يكره إلا أن يقترن بذلك ما يوجب الكراهة من معنى المباهاة ونحو ذلك فأمّا إذا كان عاجزاً عن ذلك كره بل يحرم إذا لم يتوصل إليه إلا بمسألة أو غيرها من الوجوه المحرمة فأما إن كثر وهو مؤخر في ذمته فينبغي أن يكره هذا كله لما فيه من تعريض نفسه لشغل الذمة والأوجه أنه إذا تزوج بنية أن يعطيها صداق محرماً أولا يوفيها الصداق أن الفرج لا يحل له فإنَّ هذا لم يستحل الفرج بماله فلو تاب من هذه النية ينبغي أن يقال حكمه حكم ما لو تزوجها يعني بحرمة والمرأة لا تحرر محرماً قال في "المحرر" كلما صح عوضاً في بيع أو إجارة صح مهراً إلا منافع الزوج الحر المقدرة بالزمان فإنها على روايتين وأما القاضي في "التعليق" فأطلق الخلاف في منافع الحر من غير تقييده بزوج وكذلك ابن عقيل وأما أبو الخطاب والشيخ أبو محمد في "المقنع" فلفظهما إذا تزوجها على منافعه مدة معلومة فعلى روايتين فاعتبر صاحب "المحرر" القيدين الزوجية والحرية ولعل مأخذ المنع أنها ليست بمال كقول الحنفية وسلمة القاضي ولم يمنعه في غير موضع وقال أبو محمد هذا ممنوع بل هي مال وتجوز المعاوضة عليها
قال أبو العباس: والذي يظهر في تعليل رواية المنع أنه لما فيه من كون كل من الزوجين يصير ملكاً للآخر فكأنه يقضي إلى تنافي الأحكام كما لو تزوجت عبدها وعلى هذا التعليل فينبغي إذا كانت المنفعة لغيرها أن تصح وعلى هذا تخرج قصة شعيب وموجب هذا التعليل أن المرأة لا تستأجر زوجها أجارة معينة مقدرة بالزمان وأن كل واحد من الأجيرين لا يستأجر الآخر ويجوز أن يكون المنع مختصاً بمنفعة خاصة لما فيه من المهنة والمناجاة وإذا لم(1/548)
تصح المنافع صداقاً فقياس المذهب أنه تجب قيمة المنفعة المشروطة إلا إذا علما أنّ هذه المنفعة لا تكون صداقاً فيشبه ما لو أصدقها مالاً مغصوباً في أنّ الواجب مهر المثل في أحد الوجهيْن وإذا تزوجها على أن يُعلِمها أو يُعَلِم غلامها صنعة صح ذكره القاضي والأشبه جوازه أيضاً ولو كان المعلم أخاها أو ابنها أو أجنبياً وإن لم يحصل للمرأة ما أصدقها لم يكن النكاح لازماً ولو أعطيت بدله كالبيع وإنّما يلزم ما ألزم الشارع به أو التزمه المكلف وما خالف هذا القول ضعيف مخالف للأصول فإذا لم نَقُل بامتناع العقد بتعذر تسليم المعقود عليه فلا أقل مِن أنْ تملك المرأة الفسخ فإذا أصدقها شيئاً معيناً وتلف قبل قبضه ثبت للزوجة فسخ النكاح وإنْ كان الشرط باطلاً ولم يعلم المشترط ببطلانه لم يكن العقد لازماً بل إن رضي بدون الشرط وإلا فله الفسخ وإذا تزوجها على أن يشتري لها عبد زيد فامتنع زيد من بيعه فأعطاها قيمته ثم باعه زيد العبد فهل لها رد البدل وأخذ العبد تردد فيه أبو العباس ولو أصدقها عبداً بشرط أن تعتقه فقياس المشهور من المذهب أنه يصح كالبيع والذي ينبغي في أصناف سائر المال كالعبد والشاة والبقرة والثياب ونحوهما: أنه إذا أصدقها شيئاً من ذلك أن يرجع فيه إلى مسمى ذلك اللفظ في عرفها كما نقول في الدراهم والدنانير المطلقة في العقد وإن كان بعض ذلك غالباً أخذ به كالبيع أو كان من عادتها اقتناؤه أو لبسه فهو كالملفوظ به ونص الإمام أحمد في رواية جعفر والنسائي: أنه إذا أصدقها عبداً من عبيده أنه يصح ولها الوسط على قدر ما يخدمها ونقلها دليل على ذلك فإنّه لم يعتبر الخادم مطلقاً وإنّما اعتبر ما يناسبها
قال أبو العباس في الخُلع: ولو خالعها على عبد مطلق لو قيل: يجب ما يجزئ عتقه في الكفارة وما يجب في النذر المطلق لكان أقرب إلى القياس إلا أنه لا يعتبر فيه الإيمان
أطلق القاضي: أنه إذا تزوجها على بيت أنه لا يصح واستدل بمسألة تفاوتها(1/549)
في الحضر ومفهومها أن البدوية ليست كذلك وهذا أشبه لأن بيوت البادية من جنس واحد كالخادم بخلاف الحضر فإن بيوتهم تختلف جنساً وقدراً وصفة اختلافاً متفاوتاً ولو علم السورة أو القصيدة غير الزوج ينوي بالتعليم أنه عن الزوج من غير أن يعلم الزوجة فهل يقع عن الزوج فيتوجه أن يقال إن قلنا لا يجبر الغريم على استيفاء الدين من غير المدين لم يلتفت إلى نيته إذ لم يظهرها لأن هذا الاستيفاء شرط بالرضا والغريم المستحق لم يرض أنه يستوفي دينه من غير المدين وإن قلنا: يجبر المستحق على الإستيفاء من غير الغريم فيوجه أن يؤثر مجرد دينه الموفى ويقبل قوله فيما بعد ولو تزوجها على مائة مقدمة ومائة مؤجلة صح ولا تستحق المطالبة بالمؤجلة إلا بموت أو فرقة ونص عليه الإمام أحمد في رواية جماعة واختاره شيوخ المذهب كالقاضي وغيره جاء عن ابن سيرين عن شريح: أنه تزوج امرأة على عاجل وآجل إلى الميسرة فقدمته إلى شريح فقال: دلتنا على ميسرة فأخذه لك وقياس المذهب أن هذا شرط صحيح لأنَّ الجهالة فيه أقل من جهالة الفرقة وكان في الحقيقة هذا الشرط مقتضى العقد ولو قيل بصحته في جمع الآجال لكان متجهاً صرح الإمام أحمد والقاضي وأبو محمد وغيرهم بأنّه إذا اطلق الصداق كان حالاً
قال أبو العباس: إن كان الفرق جارياً بين أهل الأرض أن المطلق يكون مؤجلاً فينبغي أن يحمل كلامهم على ما يعرفونه ولو كانوا يفرقون بين لفظ المهر والصداق فالمهر عندهم ما يعجل والصداق ما يؤجل كان حكمهم على مقتضى عرفهم ولو امرأة اتفق معها على صداق عشرة دنانير وأنه يظهر عشرين دينار أو أشهد عليها بقبض عشرة فلا يحل لها أن تغدر به بل يجب عليها الوفاء بالشرط ولا(1/550)
يجوز تحليف الرجل على وجود القبض في مثل هذه الصورة لأن الأشهاد بالقبض في مثل هذا يتضمن الإبراء ولو تزوجها على أن يعطيها في كل سنة تبقى معه مائة درهم فقد يؤخذ من كلام كثير من أصحابنا أن هذه تسمية فاسدة لجهالة المسمّى وتتوجه صحته بل هو الأشبه بأصولنا كما لو باعه الصبرة كل قفيز بدرهم أو إكراء الدار كل شهر بدرهم ولأن تقدير المهر بمدة النكاح بمنزلة تأجيله بمدة النكاح إذ لا فرق بين جهالة القدر وجهالة الأجل وعلى هذا لو تزوجها على أن يخيط لها كل شهر ثوباً صح أيضاً إذ لا فرق بين الأعيان والمنافع وإن تزوجها على منفعة داره أو عبده ما دامت زوجته وفيها قد تبطل المنفعة قبل زوال النكاح فإنْ شرط لها مثلاً إذا تلفت فهنا ينبغي أن يصح وإن لم يشترط ففيه نظر ولو قيل في كل موضع تبرعت المرأة بالصداق ثم وقع الطلاق وهو باق بعينه أنه يرجع بالنصف على مَنْ هو في يده وكذلك في جميع الفسوخ لم يبعد بخلاف ما لو خرج بمعاوضة ولو ادعى الزوج أن الصداق في عقد واحد تكرر وقالت: بل هو عقدان بينهما فرقة فالقول قولها ولها المهران هذا قول أبي الخطاب والجد وينبغي أن يكون القول قوله لأنه الأصل عدم الفرقة بينهما والأصل براءة ذمته مما زاد على المهر الثاني ولا يستحق إلا نصفه لأن الأصل عدم الدخول ولم يثبت بينة ولا إقرار وقال أبو محمد: إن أنكر الدخول فالقول قوله وإن لم ينكره ولم يعترف به فالقول قولها في وجود الدخول
قال أبو العباس: وهكذا يحق في كل صورة ادعت عليه صداقاً في نكاح فأنكر الزوج وقامت به البينة ووقع منه الطلاق هل يحكم عليه بجميع المسمى أو بنصفه أو يفرق بين ادعائه المسقط وعدمه على الأوجه ومأخذ المسألة أن الصداق إذا تبين بالعقد وحصلت الفرقة فهل يحكم به عليه ما لم يدع عدم الدخول ولو صالحت عن صداقها المسمّى بأقل جاز لأنه إسقاط لبعض حقها ولو صالحته على أكثر من ذلك بطل الفضل لأن في ذلك ربا لأنه زيادة على حقها وقياس المذهب جوازه لأنه زيادة على المهر بعد العقد وذلك جائز وصححنا أنّه يصح(1/551)
أن يصطلحا على مهر المثل بأقل منه وأكثر مع أنه واجب بالعقد والزيادة في المهر هل يفتقر لزومها إلى قبول الزوجة ينبغي أن يكون كإتيانه الفرض بعد الفرض فلو فرض لها أكثر من مهر المثل فهل يلزم بمجرد فرضه كلام أحمد زادها في مهرها مطلق لم يَفْصل بين أن تكون قبلتها أم لا ولو أراد أن يغير المهر مثل تبديل نقد بنقد أو تأجيل الحال أو إحلال المؤجل ونحو ذلك فموجب تعليل أصحابنا في الفرق بين النكاح والبيع والإجارة أن هذا لا يصح لأن هذا ليس تبديل فرض وإنّما هو تغيير لذلك الفرض وقد يحتمل كلامهم صحته أيضاً لأن هذه الحالة بمنزلة ابتداء العقد وهو أشبه بكلامهم
وقال أبو العباس: وقد كتبت عن الإمام أحمد فيما إذا أهدى لها هدية بعد العقد فإنّها تُرد ذلك إليه إذا زال العقد الفاسد فهذا يقتضي أن ما وهبه لها سببه النكاح فإنّه يبطل إذا زال النكاح وهو خلاف ما ذكره أبو محمد وغيره وهذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافقة لأصول الشريعة وهو أن كل من أهدى أو وهب له شيء بسبب يثبت بثبوته ويزول بزواله ويحرم بحرمته ويحل بحله حيث جاز في تولي الهدية مثل من أهدى له للفرض فإنّه يثبت فيه حكم بدل الفرض وكذلك من أهدى له لولاية مشتركة بينه وبين غيره كالإمام وأمير الجيش وساعي الصدقات فإنّه يثبت في الهدية حكم ذلك الاشتراك ولو كانت الهدية قبل العقد وقد وعدوه بالنكاح فزوجوا غيره رجع بها والنقد المقدم محسوب من الصداق وإن لم يكتب في الصداق إذا تواطأوا عليه ويطالب بنصفه عند الفرقة قبل الدخول لأنه كالشرط المقدم إلا أن يُفتوا بخلاف ذلك وإذا أعتق أمته على أن تزوجه نفسها ويكون عتقها صداقها قال القاضي: هي بالخيار إن شاءت تزوجته وإنْ شاء لم تتزوجه وتابعه أبو محمد وأبو الخطاب وغيرهما لأنه سلف في النكاح فلا يلزم الوفاء به ويتوجه صحة السلف في العقود كلها كما يصح في العتق ويصير(1/552)
العتق مستحقاً على المسلف إنْ فعله وإلا قام الحاكم مقامه في توفية العقد المستحق كما يقوم مقامه في توفية الأعيان والمنافع لأن العقد منفعة من المنافع فجاز السلم فيه كالصناعات وهذا بمنزلة الهبة المشروط فيها الثواب والمنصوص عن الإمام أحمد في اشتراط التزويج على الأمة إذا أعتقها لزوم هذا الشرط قبلت أم لم تقبل كاشتراط الهدية قال أحمد بن القاسم: سئل أحمد عن الرجل يعتق الجارية على أن يتزوجها يقول: قد أعتقتك وجعلت عتقك صداقك أو يقول: قد أعتقتك على أن أتزوجك قال: هو جائز وهو سواء أعتقتك وتزوجتك وعلى أن أتزوجك إذا كان كلاماً واحداً إذا تكلم به وهو جائز
وهذا نص من الإمام أحمد على أن قوله أن أتزوجك بمنزلة قوله: وتزوجتك وكلامه يقتضي أنها تصير زوجة بنفس هذا الكلام وعلى قول الأولين إذا لم يتزوجها ذكروا أنه يلزمها قيمة نفسها سواء كان الامتناع منه أو منها وهذا فيه نظر إذا كان الامتناع منه ويتخرج على قولهم أنّها تعتق مجاناً ويتخرج أنه يرجع إلى بدل العوض لا إلى بدل العتق وهو قياس المذهب وأقرب إلى العدل إذ الرجل طابت نفسه بالعتق إذا أخذ هذا العوض وأخذ بدله قائم مقامه ومن أعتقت عبدها على أن يتزوج بها أو بسواها أو بدونه عتق ولم يلزمه شيء ذكره أصحابنا وعلله ابن عقيل بأنها اشترطت عليه تمليك البضع وهو لا قيمة له وعلله القاضي بأنّه سلف في النكاح والحظ في النكاح للزوج وهذا الكلام فيه نظر فإنّ الحظ في النكاح للمرأة ولهذا ملك الأولياء أن يجبروها عليه دون الرجل وملك الولي في الجملة أن يطلق على الصغير والمجنون ولم يملك ذلك من الصغيرة ولو أراد أن يفسخ نكاحها ومعلوم أنها اشترطت نفقة ومهراً أو استمتاعاً وهذا مقصود كما أنه إذا أعتقها على أن يتزوجها شرط عليها استمتاعاً تجب عليه النفقة وأما إذا خُيّر بين الزواج وعدمه فيتوجه أن عليه قيمة نفسه وإذا بدل التزويج فليس عليه إلا مهر المثل فإنّه مقتضى النكاح المطلق وإنّما أوجبنا عليه قيمة نفسه لأن العوض المشروط في العقد هو تزوجه بها ولا قيمة له في الشرع فيكون كمن أعتقه(1/553)
على عوض لم يسم لها ويتوجه أنه إذا لم يتزوجها يعطيها مهر المثل أو نصفه لأنه هو الذي تستحقه عليه إذا تزوجها فإنه يملك الطلاق بعد ذلك وإنّما يجب لها بالعقد مهر المثل وهذا البحث يجري فيما إذا أعتق عبده على أن يزوجه أخته أو يعتقها وإذا لم نصحح الطلاق مهراً فذكر القاضي في الجامع وأبو الخطاب وغيرهما أنّها تستحق مهراً بضده وقاله ابن عقيل وهو أجود فإن الصداق وإن كان له بدل عنه تعذره فله بدل عند فساد تسميته هذا قياس المذهب ولو قيل ببطلان النكاح لم يبعد لأن المسمّى فاسد لا بدل له فهو كالخمر وكنكاح السفاح وإذا صححنا أصداق الطلاق فماتت الضرة قبل الطلاق فقد يقال حصل مقصودها من الفرقة بأبلغ الطرق فيكون كما لو وفى عنه المهر أجنبي وفيه نظر والذي ينبغي في الطلاق أنه إذا كان السائل له ليخلص المرأة جاز له بدل عوضه سواء كان نكاحاً أو مالاً كأن كانت له امرأة يضربها ويؤذيها فقال طلق امرأتك على أن أزوجك بنتي فهذا سلف في النكاح أو قال: زوجتك بنتي على طلاق امرأتك فهذه مسألة أصداق الطلاق والأشبه أن يقال في مثل هذا أن الطلاق يصير مستحقاً عليه كما لو قال خذ هذا الألف على أن تطلق امرأتك وهذا سلف في الطلاق وليس يمتنع كما تقدم وأما إن كان باذل العوض لغرض ضرر المرأة فههنا لا يجوز للحديث فصلى هذا فلو خالعت الضرة عن ضرتها بمال أو خالع أبوها فهنا ينبغي أن لا يجوز هذا كما لا يجوز أن يخالع الرجل أو كان مقصوده التزويج بالمرأة فالأجنبي ينظر في مسألة الطلاق إن كانت محرمة فله حكم وإن كانت مباحة أو مستحقة فله حُكم وإذا كان الأجنبي قد حرم عليه أن يسأل الطلاق فهل يحل للزوج أن يجيبه ويأخذ العوض وهذا نظير بيعه إياه على بيع أخيه ولو زوج مُوليته بدون مهر مثلها ولم يكن أباً لزم الزوج المسمّى والتمام على الولي وهو رواية عن الإمام كالوكيل في البيع ويتحرر لأصحابنا فيما إذا زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أزيد روايات
إحداهن: أنه على الابن مطلقاً إلا أن يضمنه الأب فيكون عليهما
الثانية: أن يضمنه فيكون عليه وحده
الثالثة: أنه على الأب ضماناً
الرابعة: أنه عليه أصالة
الخامسة: أنه إذا كان الابن مقراً فهو على الأب أصالة
السادسة: الفرق بين رضا الابن وعدم رضاه وضمان(1/554)
الأب المهر والنفقة على الابن قد يكون بلفظ الضمان وقد يكون بلفظ آخر
مثل أن يقول: الذي لي لابني أو أنا وابني شيء واحد وهل يترك والد ولده ونحو ذلك من الألفاظ التي تغرهم حتى يزوجوا ابنه وقد يكون بدلالة الكلام وقد يذكر الأب ما يقتضي أنه قد ملك ابنه مالاً أو يخبرهم بذلك فيزوجوه على ذلك مثل أن يقول: أنا أعطيته عشرة آلاف درهم أو له عشرة آلاف درهم ونحو ذلك فهذا ينبغي أن يتعلق حقهم بهذا القدر من مال الأب ونفقة الزوجة قبل بلوغ الزوج أو قبل رضاه ينبغي أن تكون كالمهر قال القاضي في "الجامع": إذا مات الأب الذي عليه مهر ابنه فأخذ من تركته فإنه يرجع به على الابن نص عليه في رواية ابن منصور والبرزالي قال القاضي: يحتمل أن يكون أثبت له ذلك بناء على الرواية الأخرى وأنه تطوع بذلك لكن لم يحصل القبض منه وعلى هذا حمله أبو حفص
قال أبو العباس: ولا يتم الجواب إلا بالمأخذيْن جميعاً وذلك أن الأب قائم مقام ابنه فلو ضمنه أجنبي بإذنه صح فإذا ضمنه هو فأولى أن يكون ضماناً لازماً للابن وإذا كان له أن يثبت المال في ذمته بدون ضمانه فضمانه وقضاؤه أولى قال القاضي في "الجامع": إذا ضمّنه الأب لزمه كما لو ضمنه أجنبي وإذا أقبضها إياه فهل يملك الرجوع به على الأب على روايتين أصلهما ضمان الأجنبي عن غيره بغير إذنه
قال أبو العباس: بل يرجع قولاً واحداً لأنّه قائم مقام ابنه في الأذن لنفسه كما لو ضمن أجنبي بإذن نفسه وإذا وفى الإنسان عن غيره ديناً من صداق أو غيره كان للمستوفي أخذه له وفاء عن دينه وبدلاً عنه وأمّا الموفى عنه إذا لم يرجع به عليه فهو متبرع عليه ثم هل يقال: لو انفسخ يثبت الاستحقاق أو بضعه كالطلاق قبل الدخول وفسخ البيوع للموفى عنه أو لم يملك فيعود إلى الموفى الراجح أن لا يجب انتقاله ويتقرر المهر بالخلوة وإن منعته الوطء وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب وقيل له: فإنَّ أخذها وعندها نسوة وقبض عليها ونحو ذلك من غير أن يخلو بها قال: إذا نال منها شيئاً لا يحل لغيره فعليه المهر وإن قلنا: لا مهر بالخلوة في النكاح الفاسد على قولنا بوجوب العدة فيه والفسخ لاعتبار الزوج بالمهر أو النفقة نظير الفسخ لعنة بالزوج فيتخرج منه(1/555)
التنصيف على الرواية المنصوص عنه فيه فإنَّ لها نصف المهر لكونها معذورة في الفسخ ويتخرج ذلك ويلزم مَنْ قال: إن خروج البضع من ملك الزوج يتقوم وتجب المتعة لكل مطلقة وهو رواية عن الإمام أحمد نقلها حنبل وهو ظاهر دلالة القرآن واختار أبو العباس في "الاعتصام بالكتاب والسنة": أن لكل مطلقة متعة إلا التي لم يدخل بها وقد فرض لها وهو رواية عن الإمام أحمد وقاله عمر وإذا أوجبنا المتعة للمدخول بها وكان الطلاق بائناً أو رجعياً فينبغي أن تجب لها أيضاً مع نفقة العقد حيث أوجبناها وتكون نفقة الرجعية متعينة عن متاع آخر بحيث لا تجب لها كسوتان ولا بد من اعتبار العصر في مهر المثل فإنَّ الزمان إن كان زمان رُخص رخص وإن زادت المهور وإن كان زمن غلاء وخوف نقص وقد تعتبر عادة البلد والقبيلة في زيادة المهر ونقصه ينبغي أيضاً اعتبار الصفات المعتبرة في الكفاءة فإذا كان أبوها موسراً ثم افتقر أو ذا صنعة ثم تحول إلى دونها أو كانت له رئاسة أو ملك ثم زالت عنه تلك الرئاسة والملك فيجب اعتبار مثل هذا وكذلك لو كان أهلهما لهم عز في أوطانهم ورئاسة فانقلبوا إلى بلد ليس لهم عز فيه ولا رئاسة فإنَّ المهر يختلف بمثل ذلك في العادة وإن كانت عادتهم يُسمّون مهراً ولكن لا يستوفونه قط مثل عادة أهل الجفاء مثل الأكراد وغيرهم فوجوده كعدمه والشرط المتقدم كالمقارن والاطراد العرفي كالمقتضى
وقال أبو العباس: وقد سئلت عن مسألة مَنْ هذا وقيل لي: ما مهر مثل هذه فقلت: ما جرت العادة بأنه يُؤخذ من الزوج فقالوا: إنّما يؤخذ المنحل قبل الدخول فقلت: هو مهر مثلها والأب هو الذي بيده عقدة النكاح وهو رواية عن الإمام أحمد وقاله طائفة من العلماء وليس في كلام الإمام أحمد أن عفوه صحيح لأن بيده عقدة النكاح بل لأن له أن يأخذ مِن مالها ما شاء وتعليل الإمام أحمد بالأخذ من مالها ما شاء يقتضي جواز العفو بعد الدخول عن الصداق كله وكذلك سائر الديون والأشبه في مسألة الزوجة الصغيرة أنه يستحق وليها المطالبة لها بنصف(1/556)
الصداق والنصف الآخر لا يطالب به إلا إذا مكنت من نفسها لأن النصف مستحق بإزاء الحبس وهو حاصل بالعقد والنصف الآخر بإزاء الدخول فلا يستحق إلا ببذله وإذا اختلفا في قبض المهر فالمتوجه إن كانت العادة الغالبة جارية بحصول القبض في هذه الديون أو الأعيان فالقول قول مَنْ يوافق العادة وهو جار على أصولنا وأصول مالك في تعارض الأصل والعادة والظاهر أنه يرجح وفرق بين دلالة الحال المطلقة العامة وبين دلالة الحال المقيدة المخصوصه فأما إن كانت الزوجة وقت العقد فقيرة ثم وجد معها الف درهم فقال: هذا هو الصداق وقالت: أخذته من غيره ولم تعين ولم يحدث لها قبض مثله فهو نظير تعليم السورة المشروطة وفيها وجهان ونظيره الإنفاق عليها والكسوة وفي هذه المواضع كلها إذا أبدت جهة القبض الممكن منها كالممكن من الزوج فينبغي أن القول قولها وإلا فلا
قال أصحابنا وغيرهم: يجب مهر المثل للموطوءة بشبهة وينبغي أنه إن أمكن أن يكون في وطء الشبهة مسمى فيكون هو الواجب فإنّ الشبهة ثلاثة أقسام: شبهة عقد وشبهة اعتقاد وشبهة ملك فأمّا عقد النكاح فلا ريب فيه وأمّا عقد البيع فإنه إذا وطئ المرأة المشتراة شراء فاسداً فالأشبه أن لا مهر ولا أجرة لمنافعها وأمّا شبهة الاعتقاد فإنْ كان الاشتباه عليه فقط فينبغي أن لا يجب لها مهر وإن كان عليها فقط فإن اعتقدت أنه زوجها فلا يبعد أن يجب المهر المسمى وأما شبهة الملك مثل مكاتبته وأمة مكاتبته والأمة المشتركة فإنْ كان قد اتفق مع مستحق المهر على شيء فينبغي أن لا يجب سواه وهذا قياس ضمان الأعيان والمنافع فإنّها تضمن بالقيمة إلا أن يكون المالك قد اتفق مع المتلف على غير ذلك سواء كان الاتلاف حلالاً أو حراماً وإذا تكرر الوطء في نكاح الشبهة فلا ريب أن الواجب مهر واحد كما تجب عدة واحدة ولا يجب المهر للمكرهة على الزنا وهو رواية عن أحمد ومذهب أبي حنيفة واختيار أبي البركات وذكر أبو العباس في موضع آخر عن أبي بكر التفرقة فأوجبه البكر دون الثيب ورواه ابن منصور عن الإمام أحمد لكن الأمة البكر إذا وطئت(1/557)
مكرهة أو شبهة أو مطاوعة فلا ينبغي أن يختلف في وجوب أرش البكارة وهو ما نقص قيمتها بالثيوبة وقد يكون بعض القيمة أضعاف مهر مثل الأمة ومتى خرجت منه زوجته بغير اختياره بإفسادها أو بإفساد غيرها أو بيمينه لا يفعل شيئاً ففعله فله مهرها وهو رواية عن الإمام أحمد كالمفقود بناء على الصحيح أن خروج البضع من ملك الزوج متقوم وهو رواية عن الإمام أحمد والفرقة إذا كانت من وجهتها فهي كإتلاف البائع فيخير على المشهور بين مطالبتها بمهر المثل وضمان المسمى لها وبين إسقاط المسمّى(1/558)
باب الوليمة
...
"باب الوليمة"
وتختص بطعام العرس في مقتضى كلام أحمد في رواية المروزي وقيل: تطلق على كل طعام لسرور حادث وقاله في "الجامع" وقيل: تطلق على ذلك إلا أنّه في العرس أظهر ووقت الوليمة في حديث زينب وصفته تدل على أنهّ عقب الدخول والأشبه جواز الإجابة لا وجوبها إذا كان في مجلس الوليمة مَنْ يهجر وأعدل الأقوال أنه إذا حضر الوليمة وهو صائم إنْ كان يَنْكسر قلب الداعي بترك الأكل فالأكل أفضل وإن لم ينكسر قلبه فإتمام الصوم أفضل ولا ينبغي لصاحب الدعوة الإلحاح في الطعام للمدعو إذا امتنع فإنَّ كلا الأمريْن جائز فإذا الزمه بما لا يلزمه كان مِن نوع المسألة المنهى عنها ولا ينبغي للمدعو إذا رأى أنه يترتب على امتناعه مفاسد أن يمتنع فإنَّ فطره جائز فإنْ كان ترك الجائز مستلزماً لأمور محذورة ينبغي أن يفعل ذلك الجائز وربما يصير واجباً وإنْ كان في إجابة الداعي مصلحة الإجابة فقط وفيها مفسدة الشبهة فالمنع أرجح
قال أبو العباس: هذا فيه خلاف فيما أظنّه والدعاء إلى الوليمة إذن في الأكل والدخول قاله في "المغني" وقال في "المحرر": لا يباح الأكل إلا بصريح إذن أو عرف وكلام الشيخ عبد القادر يوافقه وما قالاه مخالف ما قاله عامة الأصحاب والحضور مع الإنكار المزيل على قول عبد القادر هو حرام وعلى قول القاضي والشيخ أبي محمد هو واجب والأقيس بكلام الإمام أحمد في التخيير عند المنكر المعلوم غير المحسوس أن يتخيرهما أيضاً وإن كان الترك أشبه بكلامه لزوال المفاسد(1/558)
بالحضور والإنكار لكن لا يجب لما فيه مِن تكليف الإنكار ولأن الداعي أسقط حرمته باتخاذه المنكر ونظير هذا إذا مر بمتلبس بمعصية هل يسلم عليه أو يترك التسليم وإنْ خافوا أن يأتوا بالمحرم ولم يغلب على ظنّهم أحد الطرفين فقد تعارض الموجب وهو الدعوة والمبيح وهو خوف شهود الخطيئة فينبغي أن لا يجب لأن الموجب لم يسلم عن المعارض المساوي ولا يحرم لأن المحرم كذلك فينتفي الوجوب والتحريم وينبغي الجواز ونصوص الإمام أحمد كلها تدل على المنع مِن اللبث في المكان المُضر وقاله القاضي: وهو لازم للشيخ أبي محمد حيث جزم بمنع اللبث في مكان فيه الخمر وآنية الذهب والفضة ولذلك مأخذان أحدهما: أن إقرار ذلك في المنزل منكر فلا يدخل إلى مكان فيه ذلك وعلى هذا فيجوز الدخول إلى دور أهل الذمة وكنائسهم وإن كانت فيها صور لأنهم لا يقرون على ذلك فإنهم لا ينهون عن ذلك كما ينهون عن إظهار الخمر وبهذا يخرج الجواب عن جميع ما احتج به أبو محمد ويكون منع الملائكة سبباً لمنع كونها في المنزل وعلى هذا فلو كان في الدعوة كلب لا يجوز اقتناؤه لم تدخل الملائكة أيضاً بخلاف الجُنب فإنَّ الجنب لا يطول بقاؤه جنباً فلا تمتنع الملائكة عن الدخول إذا كان هناك زَمناً يسيراً والثاني: أن يكون نفس اللبث محرماً أو مَكْرُوهاً ويستثنى من ذلك أوقات الحاجة كما في حديث عمر وغيره وتكون العلة ما يكتسبه المنزل من الصورة المحرمة حتى أنَّه لا يدخل منازل أهل الذمة
ورجح أبو العباس: في موضع آخر عدم الدخول إلى بيعة فيها صور وأنها كالمسجد على القبر والكنائس ليست ملكاً لأحد وأهل الذمة ليس لهم منع مَنْ يُعبد الله فيها لأنا صالحناهم عليه والعابد بينهم وبين الغافلين أعظم أجراً ويحرم شهود عيد اليهود والنصارى ونقله مهنأ عن أحمد وبيعه لهم فيه ويخرج من رواية منصوصة عن الإمام أحمد في منع التجارة إلى دار الحرب إذا لم يلزموه بفعل محرم أو ترك واجب وينكر ما يشاهده من المنكر بحسبه ويحرم بيعهم ما يعلمونه كنيسة أو مثالاً ونحو وكل ما فيه تخصيص لعيدهم أو ما هو بمنزلته.(1/559)
قال أبو العباس: لا أعلم خلافاً أنه من التشبه بهم والتشبه بهم منهى عنه إجماعاً وتجب عقوبه فاعله ولا ينبغي إجابة هذه الدعوة ولما صارت العمامة الصفراء أو الزرقاء مِن شعارهم حُرِّم لبسها ويحرم الأكل والذبح الزائد على المعتاد في بقية الأيام ولو العادة فعله أو لتفريح أهله ويعزر إن عاد ويكره موسم خاص: كالرغائب وليلة القدر وليلة النصف من شعبان وهو بدعة وأمّا ما يُروى في الكحل يوم عاشوراء أو الخضاب أو الإغتسال أو المصافحة أو مسح رأس اليتيم أو أكل الحبوب أو الذبح ونحو ذلك: فكل ذلك كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك بدعة لا يستحب منه شيء عند ائمة الدين وما يفعله أهل البدع فيه من النياحة والندب والمأتم وسب الصحابة -رضي الله عنهم- هو أيضاً من أعظم البدع والمنكرات وكل بدعة ضلالة وهذا وإن كان بعض البدع والمنكرات أغلظ من بعض والخلاف في كسوة الحيطان إذا لم تكن حريراً أو ذهباً فأما الحرير والذهب فيحرم كما تحرم سيور الحرير والذهب على الرجال والحيطان والأثواب التي تختص بالمرأة ففي كون ستورها وكسوتها كفرشها نظر إذ ليس هو مِن اللباس ولا ريب في تحريم فرش الثياب تحت دابة الأمير لا سيما إن كانت خزاً أو مغصوبة ورخص أبو محمد ستر الحيطان لحاجة من وقاية حر أو برد ومقتضى كلام القاضي المنع لإطلاقه على مقتضى كلام الإمام أحمد ويكره تعليق الستور على الأبواب من غير حاجة لوجود إغلاق غيرها من أبواب ونحوها وكذلك الستور في الدهليز لغير حاجة فإن ما زاد على الحاجة فهو سرف وهل يرتقي إلى التحريم نظر قال المروزي: سألت أبا عبد الله عن الجوز ينثر فكرهه وقال: يعطون أو يقسم عليهم وقال في رواية إسحاق بن هانئ: لا يعجبني انتهاب الجوز وأن يوكل السكر كذلك قال القاضي: يكره الأكل التقاطاً من النثار سواء أخذه أو أخذه ممن أخذه وقول الإمام أحمد: هذه نهبة تقتضي التحريم وهو قوي وأمَّا الرخصة المحضة فتبعد جداً ويكره الأكل والشرب قائماً لغير حاجة ويكره القرآن فيما جرت العادة بتناوله إفراداً واختلف كلام أبي العباس في أكل الإنسان حتى(1/560)
يتخم هل يكره أو يحرم وجزم أبو العباس: في موضع آخر بتحريم الاسراف وفسر بمجاوزة الحد وإذا قال عند الأكل: بسم الله الرحمن الرحيم كان حسناً فإنَّه أكمل بخلاف الذبح فإنه قد قيل: إن ذلك لا يناسب ويلم الإنسان من بيت صديقه وقريبه بغير إذنه إذا لم يحزه عنه(1/561)
باب عشرة النساء
...
"باب عشرة النساء"
ولو شرط الزوج أن يتسلم الزوجة وهي صغيرة ليحصنها فقياس المذهب على إحدى الروايتين اللتيْن خَرَّجهما أبو بكر أنها إذا استثنت بعض منفعتها المستحقة بمطلق العقد أنه يصح هذا الشرط كما لو اشترط في الأمة التسليم ليلاً أو نهاراً وإذا اشترط في الأمة أن تكون نهاراً عند السيد وقلنا: أن ذلك موجب العقد المطلق أو لم نقل فأحد الوجهيْن أن هذا الشرط للسيد لا عليه كاشتراطها دارها وهو شرط له وعليه ولو خرج هذا على اشتراط دارها وهو أنه إذا اشترطت دارها لم يكن عليه أجرة تلك الدار لكان متوجهاً وإذا كان مُوجب العقد من التقابض مرده إلى العرف فليس العرف أن المرأة تسلم إليه صغيرة ولا تستحق ذلك لعدم التمكن من الانتفاع و لا تجب عليه النفقة فإنّه إذا لم يكن له حق في بدنها لعدم تمكنه فلا نفقة لها إذ النفقة تتبع الانتفاع وتجب خدمة زوجها بالمعروف من مثلها لمثله ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وخدمة القويه ليست كخدمة الضعيفة وقاله الجوزجاني من أصحابنا وأبو بكر بن أبي شيبة ويتخرج من نص الإمام أحمد على أنه يتزوج الأمة لحاجته إلى الخدمة لا إلى الاستمتاع وكلام الإمام أحمد يدل على أنه ينهي عن الإذن للذمية بالخروج إلى الكنيسة والبيعة بخلاف الأذن للمسلمة إلى المسجد فإنّه مأمور بذلك وكذا قال في "المغني": إن كانت زوجته ذمية فله منعها مبن الخروج إلى الكنيسة وللزوج منع(1/561)
الزوجة مِن الخروج من منزله فإذا نهاها لم تخرج لعيادة مريض مُحرم لها أو شهود جنازته فأمّا عند الإطلاق فهل لها أن تخرج لذلك إذا لم يأذن ولم يمنع كعمل الصناعة أو لا تفعل إلا بإذن كالصيام تردد فيه أبو العباس وكلام القاضي في "التعليق" يقتضي أن التمكين من القبلة ليس بواجب على الزوجة
قال أبو العباس: وما أراه صحيحاً بل تجبر على تمكينه من جميع أنواع الاستمتاع المباحة ولو تطاوع الزوجان على الوطء في الدبر فُرِّق بينهما وقاله أصحابنا وعلى قياسه المطاوعة على الوطء في الحيض وتَهْجُر المرأة زوجها في المضجع لحق الله بدليل قصة الذين خلفوا وينبغي أن تملك النفقة في هذه الحال أن المنع منه كما لو امتنع عن أداء الصداق ويجب على الزوج وطء امرأته بقدر كفايتها ما لم ينهك بدنه أو تشغله عن معيشته غير مقدر بأربعة أشهر كالأمة فإنْ تنازعا فينبغي أن يفرضه الحاكم كالنفقة وكوطئه إذا زاد ويتوجه أن لا يتقدر قسم الابتداء الواجب كما لا يتقدر الوطء بل يكون بحسب الحاجة فإنّه قد يقال جواز التزوج بأربع لا يقتضي أنه إذا تزوج بواحدة يكون لها حال الانفراد ما لها حال الاجتماع وعلى هذا فتحمل قصة كعب بن سور على أنه تقدير شخص لا يراعى كما لو فرض النفقة وقول أصحابنا يجب على الرجل المبيت عند امرأته ليلة من أربع وهذا المبيت يتضمن سنتين إحداهما المجامعة في المنزل والثانية في المضجع وقوله تعالى {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} النساء: 34 مع قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يَهْجُر إلا في المضجع" دليل على وجوب المبيت في المضجع ودليل على أنه لا يهجر المنزل ونص الإمام أحمد في الذي يصوم النهار ويقوم الليل يدل على وجوب المبيت في المضجع وكذا ما ذكره في النشوز إذا نشزت هجرها في المضجع دليل على أنه لا يفعله بدون ذلك وحصول الضرر للزوجة بترك الوطء مقتض للفسخ بكل حال سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد ولو مع قدرته وعجزه كالنفقة وأولى للفسخ بتعذره في الإيلاء إجماعاً وعلى هذا فالقول في امرأة الأسير والمحبوس(1/562)
ونحوهما ممن تعذر انتفاع امرأته به إذا طلبت فرقته كالقول في امرأة المفقود بالإجماع كما قاله أبو محمد المقدسي قال أصحابنا: ويجب على الزوج أن يبيت عند زوجته الحرة ليلة من أربع وعند الأمة ليلة من سبع أو ثمان على اختلاف الوجهين ويتوجه على قولهم: أنه يجب للأمة ليلة من أربع لأن التنصيف إنما هو في قسم الابتداء فلا يملك الزوج بأكثر من أربع وذلك: أنه إذا تزوج بأربع إماء فهن في غاية عدده فتكون الأمة كالحرة في قسم الإبتداء وأمّا قسم التسوية فيختلفان إذا جوّزنا للحر أن يجمع بين ثلاث حرائر وأمة في رواية وأمّا على الرواية الأخرى فلا يتصور ذلك وأمّا العبد فقياس قولهم أنه يقسم للحرة ليلة من ليلتين والأمة ليلة من ثلاث وأربع ولا يتصور أن يجمع عنده أربعاً على قولنا وقول الجمهور وعلى قول مالك يتصور
قال أصحابنا: ويجب للمعيبة كالبرصاء والجذماء إذا لم يجز الفسخ وكذلك عليهما تمكين الأبرص والأجذم والقياس وجوب ذلك وفيه نظر إذ من الممكن أن يقال عليها وعليه في ذلك ضرر لكن إذا لم تمكنه فلا نفقة لها وإذا لم يستمتع بها فلها الفسخ ويكون المثبت للفسخ هنا عدم وطئه فهذا يقود إلى وجوبه وينفق على المجنون المأمون وليه والأشبه أنه مَن يملك الولاية على بدنه لأنه يملك الحضانة فالذي يملك تعليمه وتأديبه الأب ثم الوصي
قال أصحابنا: ويأثم إن طلق إحدى زوجتيه وقت قسمها وتعليلهم يقتضي أنه إذا طلقها قبل مجيء نوبتها كان له ذلك ويتوجه أن له الطلاق مطلقاً لأن القسم إنما يجب ما دامت زوجة كالنفقة وليس هو شيء هو مستقر في الذمة قبل مضي وقته حتى يقال هو دين
نعم لو لم يقسم لها حتى خرجت الليلة التي لها وجب عليه القضاء فلو طلقها قبله كان عاصياً ولو أراد أن يقضيها عن ليلة من ليالي الشتاء ليلة من ليالي الصيف كان لها الامتناع لأجل تفاوت بين الزمانين ويجب على الزوج التسوية بين الزوجات في النفقة وكلام القاضي في "التعليق" يدل عليه وكذا الكسوة
قال أصحابنا: ولا يجوز أن تأخذ الزوجة عوضاً عن حقها من المبيت وكذا الوطء ووقع في كلام القاضي ما يقتضي جوازه.(1/563)
قال أبو العباس: وقياس المذهب عندي جواز أخذ العوض عن سائر حقوقها من القسم وغيره لأنه إذا جاز للزوج أن يأخذ العوض عن حقه منها جاز لها أن تأخذ العوض عن حقها منه لأن كلاً منهما منفعة بدنية وقد نص الإمام أحمد في غير موضع على أنه يجوز أن تبذل المرأة العوض ليصير أمرها بيدها ولأنها تستحق حبس الزوج كما يستحق الزوج حبسها وهو نوع من الرق فيجوز أخذ العوض عنه وقد تشبه هذه المسألة الصلح عن الشفعة وحد القذف ولو سافر بإحداهن بغير قرعة قال أصحابنا: يأثم ويقضي والأقوى أنه لا يقضي وهو قول الحنفية والمالكية وإذا ادعت الزوجة أو وليها أن الزوج يظلمها وكان الحاكم وليها وخاف ذلك نصب الحاكم مُشرفاً وفيه نظر ومسألة نصب المشرف لم يذكر الخرقي والقدماء ومقتضى كلامه إذا وقعت العداوة وخيف الشقاق بعث الحكمان من غير احتياج إلى نصب مشرف قال أصحابنا: ويجوز أن يكون الحكمان أجنبيين ويستحق أن يكونا من أهلهما ووجوب كونهما من أهلهما هو مقتضى قول الخرقي فإنه اشترطه كما اشترط الأمانة وهذا أصح فإنه نص القرآن ولأن الأقارب أخبر بالعلل الباطنة وأقرب إلى الأمانة والنظر في المصلحة وأيضاً فإنّه نظر في الجمع والتفريق وهو أولى من ولاية عقد النكاح لا سيما إن جعلناهما حاكمين كما هو الصواب ونص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين وهو قول علي وابن عباس وغيرهما ومذهب مالك وهل للحكمين إذا قلنا هما حاكمان لا وكيلان أن يطلقا ثلاثاً أو يفسخا كما في المولى قالوا: هناك لما قام مقام الزوج في الطلاق ملك ما يملكه من واحدة وثلاث فيتوجه هنا كذلك إذا قلنا: هما حاكمان وإن قلنا
وكيلان لم يملكا إلا ما وكلا فيه وأما الفسخ هنا فلا يتوجه لأنه ليس حاكماً أصلياً(1/564)
كتاب الخلع
...
" كتاب الخلع"
اختلف كلام أبي العباس في وجوب الخلع لسوء العشرة بين الزوجين وإن كانت مبغضة له لخلقه أو لغير ذلك من صفاته وهو يحبها فكراهة الخلع في حقه(1/564)
تتوجه ونقل أبو طالب عن الإمام أحمد: إن كانت المرأة تبغض زوجها وهو يحبها لا آمرها بالخلع وينبغي لها أن تصبر وحمله القاضي على الاستحباب لا الكراهة لنّصه على جوازه في مواضع ولو عضلها لتفتدي نفسها منه ولم تكن تزني حرمت عليه قال ابن عقيل: العوض مردود والزوجة بائن
قال أبو العباس: وله وجه حسن ووجه قوي إذا قلنا: الخلع يُصح بلا عِوض فإنّه بمنزلة مَن خلع على مغصوب أو خنزير ونحوه وتخريج الروايتين هنا قوي جداً وخلع الحُبلى لا يصح على الأصح كما لا يصح نكاح المحلل لأنه ليس المقصود به القربة وإنما يقصد به بقاء المرأة تبع زوجها كما يقصد بنكاح المحلل وطئها لتعود إلى الأول والعقد لا يقصد به بعض مقصوده وإذا لم يصح لم تبن به الزوجة ويجوز الخلع عند الأئمة الأربعة والجمهور من الأجنبي فيجوز أن يختلعها كما يجوز أن يفتدي الأسير وكما يجوز أن يبذل الأجنبي لسيدها العبد عوضاً لعتقه ولهذا ينبغي أن يكون ذلك مشروطاً بما إذا كان قصده تخليصهاً من رق الزوج لمصلحتها في ذلك ونقل مهنا عن الإمام أحمد في رجل قال لرجل: طلق امرأتك حتى أتزوجها ولك ألف درهم فأخذ منه الألف ثم قال لامرأته: أنت طالق فقال: سبحان الله رجل يقول: لرجل طلق امرأتك حتى أتزوجها لا يحل هذا! وفي مذهب الإمام الشافعي وجهان: إذا قيل إن الخلع فسخ لا يصح من الأجنبي قالوا: لأنه إقالة والإقالة لا تصح من الأجنبي ذكره أبو المعالي وغيره من أهل الطريقة الخراسانية والصحيح في المذهبين أنه على القول بأنه فسخ هو فسخ وإنْ كان مع الأجنبي كما صرح بذلك من صرح مَن فقهاء المذهبين وإن كان شارح "الوجيز" لم يذكر ذلك فقد ذكره ائمة العراقيين كأبي إسحاق في "خلافه" وغيره وفي معنى الخلع من الأجنبي العفو عن القصاص وغيره على مال من الأجنبي كما ذكره الفقهاء في الغارم لإصلاح ذات البين يضمن لكل من الطرفين مالاً من عنده والتحقيق أنّه يصح ممن طلاقه أو الوكالة والولاية كالحاكم في الشقاق وكذا لو فعله الحاكم في الإيلاء والعُنّة أو الأعسار أو غيرها من المواضع التي(1/565)
يملك الحاكم الفرقة لأن العبد والسفيه يصح طلاقهما بلا عوض فبالعوض أولى لكن قد يقال في قبولهما للوصية والهبة بلا إذن الولي وجهان فإنْ لم يكن بينهما فرق صحيح فلا يخرج الخلاف والأظهر أن المرأة إذا كانت تحت حجر الأب أنّ له أن يخالع إذا كان لها فيه مصلحة ويوافق ذلك بعض الروايات عن مالك وتخرج أصول لأحمد والخلع بعوض فسخ بأي لفظ كان ولو وقع بصريح الطلاق وليس من الطلاق الثلاث وهذا هو المنقول عن عبد الله بن عباس وأصحابه وعن الإمام أحمد وقدماء أصحابه لم يفرق أحد من السلف ولا أحمد بن حنبل ولا قدماء أصحابه في الخلع بين لفظ ولفظ لا لفظ الطلاق ولا غيره بل ألفاظهم كلها صريحة في أنه فسخ بأي لفظ كان قال عبد الله: رأيت أبي يذهب إلى قول ابن عباس وابن عباس صح عنه أنه كل ما أجازه المال فليس بطلاق والذي يقتضيه القياس أنهما إذا طلقها النكاح ثبت صداق المثل فهكذا الخلع وأولى وقال: يقتضيه القياس أنّهما إذا طلقها النكاح ثبت صداق المثل فهكذا الخلع وأولى
وقال أبو العباس في موضع آخر هل للزوج إبانة امرأته بلا عوض فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ليس له أن يبينها إلا بعوض وإن كان طلاق وقع بعد الدخول بلا عوض فرجعي وهذا مذهب الشافعي وأحد القولين في مذهب مالك وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد والقول الثاني: إبانتها بغير عوض مطلقاً باختيارها وغير اختيارها وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد
والقول الثالث: له إبانتها بغير عوض في بعض المواضع دون بعض فإذا اختارت الإبانة بغير عوض فله أن يبينها ويصح الخلع بغير عوض ويقع به البينونة إما طلاقاً وإمّا فسخاً على أحد القولين وهذا مذهب مالك المشهور عنه في رواية أبي القاسم وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد اختارها الخرقي وهذا القول له مأخذان أحدهما: أن الرجعة حق للزوجين فإذا تراضيا على إسقاطها سقطت والثاني: أن ذلك فرقة بعوض لأنها رضيت بترك النفقة والسكنى ورضي هو بترك ارتجاعها إسقاط ما ثبت لهما بالطلاق كما لو خالعها على نفقة الولد وهذا قول قوي وهو داخل في النفقة من غيره ولو شرط الرجعة في الخلع فقياس المذهب صحة هذا الشرط كما لو بذلت له مالاً على أن تملك أمرها فإنّ الإمام أحمد نص(1/566)
مفقودة(1/567)
كتاب الطلاق
*
...
مفقودة(1/567)
رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو بكر ونقل الميموني عن أحمد الرجوع عما سواها فقال: كنْتُ أقول يقع طلاق السكران حتى تبينت فغلب على أنه لا يقع وقصد إزالة العقل بلا سبب شرعي محرم ولو ادعى الزوج أنه حين الطلاق زائل العقل لمرض أو غشي
قال أبو العباس: أفتيت أنه إذا كان هناك سبب يمكن معه صدقه فالقول قوله مع يمينه ويجب على الزوج أمر زوجته بالصلاة فإنْ لم تصل وجب عليه فراقها في الصحيح
وقال أبو العباس: في موضع آخر إذا دعيت إلى الصلاة وامتنعت انفسخ نكاحها في أحد قولي العلماء ولا ينفسخ في الآخر إذ ليس كل من وجب عليه فراقها ينفسخ نكاحها بلا فعله فإن كان عاجزاً عن طلاقها لثقل مهرها كان مُسيئاً بتزوجه بمَن لا تصلي وعلى هذا الوجه فيتوب إلى الله تعالى من ذلك وينوي أنه إذا قدر على أكثر من ذلك فعله ولا يقع طلاق المكره والإكراه يحصل إمّا بالتهديد أو بأن يغلب على ظنّه أنه يضره في نفسه أو ماله بلا تهديد وقال أبو العباس: في موضع آخر كونه يغلب على ظنه تحقق تهديده ليس بجيد بل الصواب أنه لو استوى الطرفان لكان إكراهاً وأمّا إنْ خاف وقوع التهديد وغلب على ظنّه عدمه فهو محتمل في كلام أحمد وغيره ولو أراد للكره وإيقاع الطلاق وتكلم به وقع وهو رواية حكاها أبو الخطاب في "الانتصار" وإنْ سحره ليُطلق فإكراه
وقال أبو العباس: تأملت المذهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها فإنَّ أحمد قد نص في غير موضع على أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بتعذيب من ضرب أو قيد ولا يكون الكلام إكراهاً وقد نص على أن المرأة لو وهبت زوجها صداقها أو مسكنها فلها أن ترجع بناء على أنها لا تهب له إلا إذا خافت أن يطلقها أو يُسيء عشرتها فجعل خوف الطلاق أو سوء العشرة إكراهاً في الهبة ولفظه في موضع آخر لأنّه أكرهها ومثل هذا لا يكون إكراهاً على الكفر فإنَّ(1/568)
الأسير إذا خشي من الكفار أن لا يزوجوه وأن يحولوا بينه وبين امرأته لم يبح له التكلم بكلمة الكفر ومثل هذا لو كان له عند رجل حق من دين أو وديعة فقال: لا أعطيك حتى تبيعني أو تهبني فقال مالك: هو إكراه وهو قياس قول أحمد ومنصوصه في مسألة ما إذا منعها حقها لتختلع منه وقال القاضي تبعاً للحنفية والشافعية: ليس إكراهاً وكلام أحمد في وجوب طلاق الزوجة بأمر الأب مقيد بصلاح الأب والطلاق في زمن الحيض محرم لاقتضاء النهي الفساد ولأنه خلاف ما أمر الله به وإن طلقها في طهر أصابها فيه حرم ولا يقع ويقع من ثلاث مجموعة أو مفرقة بعد الدخول واحدة
قال أبو العباس: ولا أعلم أحد فرق بين الصورتين والرجعية لا يلحقها الطلاق وإن كانت في العدة بناء على أن إرسال طلاقه على الرجعية في عدتها قبل أن يراجعها محرم ولو قال: أنت طالق في آخر طهرك ولم يطأ فيه فهو مباح إلا على رواية: القروء الأطهار وقاله جمهور أصحابنا وقال الجعد تبعاً للقاضي في "المجرد": هو بدعة ومن حلف بالطلاق كاذباً يعلم كذب نفسه لا تُطلق زوجته ولا يلزمه كفارة يمين ولو قال رجل: امرأة فلان طالق فقال: ثلاثاً فهذه تشبه ما لو قال: لي عليك ألف فقال: صحاح وفيه وجهان وهذا أصله في الكلام من اثنين إذا أتي الثاني بالصفة ونحوها هل يكون متمماً للأول وعقد النية في الطلاق على مذهب الإمام أحمد أنها إن اسقطت شيئاً من الطلاق لم تقبل مثل قوله: أنت طالق ثلاثاً وقال: نويت إلا واحدة فإنّه لا يقبل رواية واحدة وإن لم تسقط من الطلاق وإنما عدل به من حال إلى حال مثل أن ينوي مِن وثاق وعقال ودخول الدار إلى سنة ونحو ذلك فهذا على روايتين: إحداهما: يقبل كما لو قال: أنت طالق أنت طالق وقال: نويت بالثانية التأكيد فإنّه يقبل منه رواية واحدة وأنت طالق ومطلقة ومن شاكل ذلك من الصيغ هي إنشاء من حيث أنها هي إثبات للحكم وشهادتهم وهي إخبار لدلالتها على المعنى الذي في النفس ومن أشهد عليه بطلاق ثلاث ثم أفتى بأنه لا شيء عليه لم يؤاخذ بإقراره لمعرفة أن مستنده في إقراره ذلك مما يجهله وإذا صرف الزوج لفظه إلى ممكن يتخرج أن يقبل قوله إذا كان عدلاً كما قاله أحمد فيمن أخبرت(1/569)
أنها نكحت من أصابها وفي المخبر بالثمن إذا ادعى الغلط على رواية ولو قيل بمثل هذا في المخبرة بحيضها إذا علق الطلاق به يتوجه وذلك لأن المخبر إذا خالف خبره الأصل اعتبر فيه العدالة ولا يقع الطلاق بالكناية إلا بنية إلا مع قرينة أراد الطلاق فإذا قُرن الكنايات بلفظ يدل على أحكام الطلاق مثل أن يقول: فسخت النكاح وقطعت الزوجية ورفعت العلاقة بيني وبين زوجتي وقال الغزالي في "المستصفى" في ضمن مسألة القياس: لا يقع الطلاق بالكناية حتى ينويه
قال أبو العباس: هذا عندي ضعيف على المذاهب كلها فإنهم مَهدوا في كتاب الوقف أنه إذا قُرن بالكناية بعض أحكامه صارت كالصريح ويجب أن يفرق بين قول الزوج: لستِ لي بامرأة وما أنت لي بامرأة وبين قوله ليس لي امرأة وبين قوله إذا قيل له لك امرأة فقال: لا فإنَّ الفرق ثابت بينهما وَصْفاً وعدداً إذ الأول نفي لنكاحها ونفي النكاح عنها كإثبات طلاقها ويكون إنشاء ويكون إخباراً بخلاف نفي المنكوحات عموماً فإنّه لا يُستعمل إلا إخباراً وفي "المغني" و "الكافي" وغيرهما: أنه لو باع زوجته لا يقع به طلاق وقال ابن عقيل: وعندي أنه كناية
قال أبو العباس: وهذا متوجه إذا قصد الخلع لا يبع الرقبة
قال القاضي: إنْ قال لها اختاري نفسك فذكرت أنها اختارت نفسها فأنكر الزوج فالقول قوله لأن الاختيار مما يمكنها إقامة البينة عليه فلا يقبل قوله في اختيارها
قال أبو العباس: يتوجه أن يقبل قولها كالوكيل على ما ذكره أصحابنا في أن الوكيل يقبل قوله في كل تصرف وكل فيه ولو ادعى الزوج أنه رجع قبل إيقاع الوكيل لم يقبل قوله إلا ببينة نص عليه الإمام أحمد في رواية أبي الحارث ذكره القاضي في "المجرد" وإذا قال لزوجته: إن أبرأتيني فأنت طالق فقالت: ابرأك الله مما تدعي النساء على الرجال إذا كانت رشيدة(1/570)
باب ما ييختلف به عدد الطلاق
...
"باب ما يختلف به عدد الطلاق"
وإذا قال الزوج: يلزمني الطلاق وله أكثر مِن زوجة فإنْ كان هناك نية أو(1/570)
سبب يقتضي التعميم أو التخصيص عمل به ومع فقد النية والسبب فالتحقيق أن هذه المسألة مبنية على الروايتين في وقوع الثلاث بذلك على الزوجة الواحدة لأن الاستغراق في الطلاق يكون تارة في نفسه وتارة في محله وقد فُرِّق بينهما بأن عموم المصدر لإفراده أقوى من عمومه لمفعولاته وقال أبو العباس في موضع آخر وقوع الطلاق لجميع الزوجات دون وقوع الثلاث بالزوجة الواحدة وفرق بأن وقوع الثلاث بالواحدة محرم بخلاف المتعددات وإذا قلنا بالعموم فلا كلام وإن لم نقل به فهل تتعين واحدة بالقرعة أو يخرج بتعيينه على روايتين والفصل بين المستثنى والمستثنى منه بكلام الغير والسكوت لا يكون فصلاً مانعاً من صحة الاستثناء والاستثناء والشرط إذا كان سؤال ساير أثر وكل هذا يؤيد الرواية الأخرى وهو أنهما ما داما في ذلك الكلام فله أن يلحق به ما يغيره فيكون اتصال الكلام الواحد كاتصال القبول والإيجاب ولا يشترط في الاستثناء والشرط والعطف المغير والاستثناء بالمشيئة حيث يؤثر في ذلك فلا بد أن يسمع نفسه إذا لفظ به
قال أبو العباس: تأملت نصوص كلام الإمام أحمد فوجدته يأمر باعتزال الرجل زوجته في كل يمين حلف الرجل عليها بالطلاق وهو لا يدري أبار هو فيها أو حانث حتى يستيقن أنه بار فإن لم يعلم أنه بار في وقت وشك في وقت اعتزلها وقت الشك نص على فروع هذا الأصل في مواضع: إذا قال لامرأته إن كنت حاملاً فأنت طالق فإنّه نص على أنه يعتزلها حتى تتبين أنها ليست بحامل ولم يذكر القاضي خلافاً في أنه يمنع من وطئها قبل الاستبراء إن كان قد وطئها قبل اليمين وتلخص من كلام القاضي أنها إذا لم تحض ولم يظهر بها حمل فهل يحكم ببراءة الرحم بحيث يجوز وُطؤها ويتبين أن الطلاق لم يقع بمضي تسعة أشهر أو ثلاثة أشهر على وجهيْن(1/571)
وهذا إنّما هو في حق من تحيض وتحمل وأما الآيسة والصغيرة فإن الواجب أن تستبرآ بمثل الحيضة وهو ثلاثة أشهر أو شهر واحد على ما فيه من الخلاف أو يقال: يجوز وطء هذه قبل الاستبراء إلا أن تكون حاملاً هذا هو الصواب وكل موضع يكون الشرط أمراً عدمياً يتبين فيما بعد مثل أن يقول: إن لم يقدم زيد أو إن لا يقدم في هذا الشهر ونحو ذلك فلا يجوز الوطء حتى يتبين ومنها إذا وكل وكيلاً في طلاق زوجته فإنه يعتزلها حتى يدري ما فعل وحمله القاضي على الاستحباب والوجوب متوجه ومنها إذا قال: أنت طالق ليلة القدر فإنه يعتزلها إذا دخل العشر الأواخر لإمكان أن تكون ليلة القدر أول ليلة وحمله القاضي على المنع ومنها إذا قال: أنت طالق قبل موتي بشهر فإنه يعتزلها أبداً وحمله القاضي على الاستحباب ومنها مسألة إن كان هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق ثلاثاً وقال آخر إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق ثلاثاً وطار ولم يعلم ما هو فإنهما يعتزلان نساءهما حتى يتيقنا وحمله القاضي على الاستحباب وما كان من هذه الشروط مما يئسا من استبانته ففيه مع العلم وقوعه ذكر القاضي في مسألة الطائر أن ظاهر كلام أحمد إيقاع الحنث وتعليل القاضي في مسألة أنت طالق إن شاء الله صريح في ذلك فإنه جعل الشرط الذي لا يعلم بمنزلة عدم الاشتراط وهذا ظاهر في قول أحمد: أنت طالق إن شاء فلان فلو لم يشأ تطلق لأن مشيئة العباد ومشيئة الله لا تدرك مغيبة عنه فإن هذا يقتضي أن كل شرط مغيب لا يدرك يقع الطلاق المعلق به
وعلى هذا من حلف: ليدخلن الجنة يحنث لأنّه مغيب لا يدرك لكن كلام الإمام أحمد في أكثر المواضع إنّما فيه الأمر بالاعتزال فقط وهذا فقه حسن فإنَّ الحلف بالطلاق محمول على الحلف ب الله ولو حلف ب الله على أمر وهو لا يعلم أنه صادق في يمينه كان آثماً بذلك وإن لم يتيقن أنه كاذب فكذلك يمين الطلاق وأشد(1/572)
وقد نص على أنه إذا شك هل طلق أم لا أنه لا يقع به الطلاق ولم يتعرض للاعتزال فلينظر هل يؤمر بالإعتزال هنا أم يفرق بأن هذا لم يحلف يميناً فهو بمنزلة من شك هل حلف أم لا قال في "المحرر": وتمام التورع في الشك قطعه برجعة أو عقد إن أمكن وإلا ففرقة متيقنة بأن يقول: إن لم يكن طلقت فهي طالق: وقال القاضي: أمّا في الورع فإنْ كان يعلم من نفسه أنه متى طلق فإنّما يطلق واحدة لاعتقاده أن الزيادة عليها بدعة ألزم نفسه طلقة وراجعها فإنْ كان الطلاق قد وجد فقد راجع وإن لم يكن قد وجد منه فما ضره وإن كان يعلم من نفسه أنه متى طلق فإنّما يطلق ثلاثاً ألزم نفسه ثلاثاً ومعناه أنه يوقع عدد الطلقات الثلاث فتحل لغيره من الأزواج ظاهراً وباطناً
قال أبو العباس: وما يدل على أنه متى أوقع الشك في وقوع الطلاق فالأولى استيفاء النكاح بل يكره أو يحرم إيقاعه لأجل الشك أن الطلاق بغيض إلى الرحمن حبيب إلى الشيطان ويدل عليه قصة هاروت وماروت وأيضاً فإن النكاح دوامه آكد من ابتدائه كالصلاة وإذا شك في الصلاة هل أحدث أم لا لم يستحب له أن ينصرف عنها بالشك بنص الحديث لما فيه من إبطال الصلاة بالشك فكذلك إبطال النكاح بل الصلاة إذا أبطلها أمكن ابتداؤها بخلاف النكاح وإن طلق واحدة من نسائه معينة ثم نسيها أو مبهمة غير معينة أخرجت بالقرعة على الصحيح(1/573)
باب تعلق الطلاق بالشروط
...
"باب تعلق الطلاق بالشروط"
والمعلق من الطلاق على شرط إيقاع له عند الشرط ولهذا يقول بعض الفقهاء: إن التعليق يصير إيقاعاً في ثاني الحال ويقول بعضهم: أنه متهيء لأن يصير إيقاعاً وإذا علق الطلاق بالنكاح فالمذهب المنصوص أنه لا يصح ولو قال: على مذهب مالك إذ هو التزام لمذهب معين وذلك لا يلزم وهذا إذا لم تكن الزوجة حال التعليق في نكاحه فإنَّ كانت في نكاحه حينئذٍ وعلق طلاقها على طلاق يوجد فنص أحمد في رواية ابن منصور وغيره على أنه يصح هذا التعليق وحكاه(1/573)
القاضي في "المجرد" عن أبي بكر ورجحه ابن عقيل لأن التعليق هنا في نكاح ومن أصلنا: أن الصفة المطلقة تتناول جميع الأنكحة بإطلاق وتقيد الصفة فيها فكيف إذا اقترنت بنكاح معين ولو قال كما وتعليق النذر بالملك مثل: إن رزقني الله مالاً فلله علي أن أتصدق به أو شيء منه فيصح اتفاقاً وقد دلّ عليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} التوبة: 75 الآية وتعليق العتق بالملك صحيح وهو المذهب المنصوص عن أحمد والخلال وصاحبه لا يحكيان في ذلك خلافاً وابن حامد والقاضي يحكيان روايتين
قال جمهور أصحابنا: إذا قال المعلق: عجلت ما علقته لم يتعجل وفيما قالوه نظر فإنّه يملك تعجيل الدين المؤجل وحقوق الله تعالى وحقوق العباد في الجملة سواء تأجلت شرعاً أو شرطاً ولو قيل: زنت امرأتك أو: خرجت من الدار فغضب وقال: فهي طالق لم تُطلق وأفتى به ابن عقيل: وهو قول عطاء بن أبي رباح وقريب منه ما ذكره ابن أبي موسى وخالف فيه القاضي إذا قال لامرأته: أنت طالق أَن دخلت الدار بفتح الهمزة أنها لا تطلق إذا لم تكن دخلت لأنه إنما طلقها لعلة فلا يثبت الطلاق بدونها ومن هذا الباب ما يسأل عنه كثير مثل أن يعتقد أن غيره أخذ ماله فيحلف ليردنه أو يقول: إن لم يرده فامرأتي طالق ثم تبين أنه لم يأخذه أو يقول: ليحضرن زيد ثم يتبين موته أو: لتعطيني من الدراهم التي معك ولا دراهم معه
ثم هذا قسمان:
الأول: منه ما يتبين حصول غرضه بدون الفعل المحلوف عليه مثل ما إذا ظن أنها سرقت فيحلف ليردنه فوجدها لم تسرقه
والثاني: ما لم يحصل معه غرضه مثل أن يحلف: ليعطيني ألف درهم من هذا(1/574)
الكيس فيتبين أنه ليس فيه دراهم فالقسم الأول يظهر فيه جداً أنه لا يحنث لأن مقصوده لتردنه إن كنت أخذته وهذا الشرط وإن لم يذكر في اللفظ فهو قطع والثاني: فإنَّه وإن لم يحصل فيه غرضه لكن لا غرض له مع وجود المحلوف عليه فيصير كأنه لم يحلف عليه وفي الأول يحصل غرضه منه فيصير كأنه بر بالفعل ولو قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غداً وأنا من أهل الطلاق
قال أبو العباس: فإنّه يقع الطلاق على ما رأيته لأنه ما جعل هذا شرطاً يتعلق وقوع الطلاق به فهو كما لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر فإنه لم يجعل موته شرطاً يقع به الطلاق عليها قبل شهر وإنّما رتبه فوقع على ما رتب ومن علق الطلاق على شرط أو التزمه لا يقصد بذلك إلا الحض أو المنع فإنّه يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت وكره الشرط أولاً وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم وعليه يدل كلام أحمد في نذر اللجاج والعصب وقوله: هو يهودي إن فعلت كذا والطلاق يلزمني ونحوه يمين باتفاق العقلاء والفقهاء والأمم ويتوجه إذا حلف ليفعلن كذا أن مطلقه يوجب فعل المحلوف عليه على الفور ما لم تكن قرينة تقتضي التأخير لأن الإيمان كالأمر في الشريعة بخلاف قوله لتدخلن المسجد الحرام وقوله بلى وربي لتبعثن فإنَّ مقصوده الخبر لا الحض وقد يجاب عن هذا بأن الفور ما جاء من جهة اللفظ بل من جهة حكم الأمر
قال أبو العباس: سئلت عمن قال الطلاق يلزمني ما دام فلان في هذا البلد فأجبت أنه إن قصد به الطلاق إلى حين خروجه فقد وقع ولغا التوقيت وهذا هو الوضع اللغوي وإن قصد أنت طالق إن دام فلان فإن خرج عقب اليمين لم يحنث وإلا حنث وهذا نظير أنت طالق إلى شهر
قال أبو الحسن التميمي سئلت عن رجل له أربع نسوة قال لواحدة منهن وهو مواجه لها: مَن بدأت بطلاقها منكن فعبدي حر وقال للثانية: إن طلقتك فعبدان حران وقال للثالثة: إن طلقتك فثلاث من عبيدي أحرار وقال إن طلقت الرابعة فأربعة من عبيدي أحرار ثم طلقهن(1/575)
كم يعتق عليه
قال: فأجبت على ما حضر من الحساب أنه يعتق عليه بطلاقه لهن عشرة أعبد
قال أبو العباس: هذه المسألة لم تجمع الصفات في عين واحدة ولكن طلاق كل واحدة صفة على انفرادها وهذا إذا كان قد طلقهن متفرقات فالمتوجه أن يعتق عشرة أعبد كما قال أبو الحسن وإن طلقهن بكلمة واحدة توجه أن يعتق ثلاثة عشر عبداً وأصح الطرق في الاكتفاء ببعض الصفة أن الصفة إن كانت حضاً منعاً أو تصديقاً أو كذباً فهي كاليمين وإلا فهي علة محضة فلا بد من وجودها بكمالها
قال أبو العباس: سئلت عمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً غير اليوم قال فقلت ظاهره وقوع الطلاق في الغد لكن كثيراً ما يعني به سوى هذا الزمان وهو الذي عناه الحالف فإنه كما لو قال أنت طالق في وقت آخر وعلى غير هذه الحال أو في سوى هذه المدة ونوى التأخير فإنْ عَيّن وقتاً بعينه مثل وقت مرض أو فقر أو غلاء أو رخص ونحو ذلك تقيد به وإن لم ينو شيئاً فهو كما لو قال أنت طالق في زمان متراخ عن هذا الوقت فيشبه الحين إلا أن المغايرة قد يراد بها المغايرة الزمانية وقد يراد بها المغايرة الحالية والذي عناه الحالف ليس معيناً فهو مطلق فمتى تغيرت الحال تغيراً يناسب الطلاق وقع وإن قال أنت طالق في أول شهر كذا طلقت بدخوله وقاله أصحابنا وكذا في غرته ورأسه واستقباله وإذا قال أنت طالق مع موتي أو مع موتك فليس هذا بشيء نقله منها عن الإمام أحمد وجزم به الأصحاب ولكن يتوجه على قول ابن حامد أن تطلق لأن صفة الطلاق والبينونة إذا وجدت في زمن واحد وقع الطلاق ولعل ابن حامد يفرق بأن وقوع الطلاق مع البينونة له فائدة وهو التحريم أو نقص العدد بخلاف البينونة بالموت ولو علق الطلاق على صفات ثلاث فاجتمعن في عين واحدة لا تطلق إلا طلقة واحدة لأنه الأظهر في مراد الحالف والعرف يقتضيه إلا أن ينوي خلافه ونص الإمام أحمد في رواية ابن منصور فيمَن قال لامرأته أنت طالق طلقة إن ولدت ذكراً أو طلقتين إن ولدت أنثى فولدت ذكراً وأنثى أنه على ما نوى إنما أراد(1/576)
ولادة واحدة وأنكر قول سفيان أنه يقع عليها بالأول ما علق به وتبين بالثاني ولا تطلق به قال أصحابنا إذا قال أنت طالق وعبدي حر إن شاء زيد لم يقع إلا بمشيئة زيد لها إذ لم ينو غيره ويتوجه أن تعود المشيئة إليهما إما جميعاً وإما مطلقاً بحيث لو شاء أحدهما وقع ما شاء وكذلك نظيرها في الخلع أنتما طالقان ونظيره أن يقول و الله لا مؤمن ولا كافر فكن إن شاء الله الجميع فينتفي الشرط ولم يفعل جميع المحلوف عليه فيحنث
قال القاضي في "الجامع" فإنْ قال أنت طالق إن لم يشأ زيد فقد علق الطلاق بصفة هي عدم المشيئة فمتى لم يشأ وقع الطلاق لوجود شرطه وهو عدم المشيئة من جهته
قال أبو العباس: والقياس أنها لا تطلق حتى تفوت المشيئة إلا أن تكون نية أو قرينة تقتضي الفورية وإذا قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله أنه لا يقع به الطلاق عند أكثر العلماء وإن قصد أنه يقع به الطلاق وقال إن شاء الله تثبيتاً لذلك وتأكيداً لإيقاعه وقع عند أكثر العلماء ومِن العلماء مَن قال لا يقع مطلقاً ومنهم من قال يقع مطلقاً وهذا التفصيل الذي ذكرناه هو الصواب وتعليق إن كان تعليقاً محضاً ليس فيه تحقيق خبر ولا حض على فعل كقوله إن طلعت الشمس فهذا يفيد فيه الاستثناء ويتوجه أن يخرج على قول أصحابنا هل هذا يمين أم لا ومن هذا الباب توقيته بحادث يتعلق بالطلاق معه غرض كقوله إن مات أبوك فأنت طالق أو إن مات أبي هذا فأنت طالق ونحو هذا وقياس المذهب أن الإستثناء لا يؤثر في مثل هذا فإنه لا يحلف عليه ب الله والطلاق فرع اليمين ب الله وإن كان المحلوف عليه أو الشرط خبراً عن مستقبل لا طلباً كقوله ليقد من الحاج أو السلطان فهو كاليمين ينفع فيه الاستثناء وإن كان الشرط أمراً عدمياً كقوله: إن لم أفعل كذا فأنت طالق إن شاء الله تعالى فينبغي أن يكون كالثبوت كما في اليمين ب الله ويفيد الاستثناء في النذر كما في لا تصدقن إن شاء(1/577)
الله لأنه يمين ويفيد الاستثناء في الحرام والظهار وهو المنصوص عن أحمد فيهما وللعلماء في الاستثناء النافع قولان أحدهما لا ينفعه حتى ينويه قبل فراغ المستثنى منه وهو قول الشافعي والقاضي أبي يعلى ومن تبعه والثاني ينفعه وإن لم يرده إلا بعد الفراغ حتى لو قال له بعض الحاضرين قل إن شاء الله نفعه وهذا هو مذهب أحمد الذي يدل عليه كلامه وعليه متقدموا أصحابه واختيار أبي محمد وغيره وهو مذهب مالك وهو الصواب ولا يعتبر قصد الاستثناء فلو سبق على لسانه عادة أو أتى به تَبركاً رفع حكم اليمين وكذا قوله: إن أراد الله وقصد بالإرادة مشيئته لا محبته وأمره ومَن شك في الإستثناء وكان من عادته الاستثناء فهو كما لو علم أنه استثنى كالمستحاضة تعمل بالعادة والتمييز ولم تجلس أقل الحيض والأصل وجوب العبادة في ذمتها
قال في "المحرر": إذا قال إذا طلقتك فأنت طالق أو فعبدي حر لم يحنث في يمينه إلا بتطليق ينجزه أو يعلقه بعدمها بشرط فيؤاخذ وقال أبو العباس: يتوجه إذا كان الطلاق المعلق قبل عقد هذه الصفة أو معها معلقاً بفعله فعله باختياره أن يكون فعله له تطليقاً وأن التطليق يفتقر إلى أن تكون الصفة من فعله أيضاً فإذا علقه بفعل غيره ولم يأمره بالفعل لم يكن تطليقاً وإلا حلف لا يطلق فجعل أمرها بيدها أو خيّرها فطلقت نفسها فالمتوجه أن تخرج على الروايتين في تنصيف الصداق إن قلنا يتنصف جعلناه تطليقاً وإن قلنا يسقط لم نجعله تطليقاً وإنّما هو تمكين من التطليق وإذا قال: إذا طلقتك أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً فتعليقه باطل ولا يقع سوى المنجزة وقال ابن سريح ينحسم باب الطلاق وما قاله محدث في الإسلام لم يفت به أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من الأئمة الأربعة وأنكر جمهور العلماء على مَن أفتى بها ومَن قلد فيها شخصاً وحلف بالطلاق بعد ذلك معتقداً أنه لا يقع عليه الطلاق بها لم يقع عليه طلاق في أظهر قولي العلماء كمن أوقعه فيمن يعتقدها أجنبية وكانت في الباطن امرأته فإنّها لا تطلق على الصحيح وإن حلف على غيره ليكلمن فلاناً ينبغي أن لا يبدأ إلا بالكلام الطيب كالكلام ونحوه دون السب ونحوه فإنّ اليمين في جانب النفي أعم من اللفظ اللغوي وفي جانب الإثبات أخص كما قلنا فيمن حلف ليتزوجن ونظائره فإنه لا يبر إلا بكمال المسمى ولو علق الطلاق على كلام زيد فهل كتابته أو رسالته الحاضرة كالإشارة فيجيء(1/578)
فيها الوجهان أو يحنث بكل حال
تردد فيه أبو العباس قال: وأصل ذلك الوجهان انعقاد النكاح بكتابة القادر على النطق وإذا قال: إن عصيت أمري فأنت طالق ثم أمرها بشيء أمراً مطلقاً فخالفت حنث وإن تركته ناسية أو جاهلة أو عاجزة ينبغي أن لا يحنث لأنَّ هذا الترك ليس عصياناً وإنْ أمرها أمراً بَيّن أنه ندب بأن يقول: أنا آمرك بالخروج وأبيح لك العقود فلا حنث عليه لحمل اليمين على الأمر المطلق على مطلق الأمر والمندوب ليس مأموراً به أمراً مطلقاً وإنّما هو مأمور به أمراً مقيداً ولو علق على خروجها بغير إذن ثم أذن لها مرة فخرجت أخرى بغير إذن طُلقت وهو مذهب أحمد لأن خرجت نكرة في سياق الشرط وهي تقتضي العموم وإنْ أذن لها فقالت: لا أخرج ثم خرجت الخروج المأذون فيه
قال أبو العباس: سئلت عن هذه المسألة ويتوجه فيها أن لا يحنث لأن امتناعها من الخروج لا يخرج الإذن عن أن يكون إذناً لكن هو إذا قالت: لا أخرج قد اطمأن إلى أنها لا تخرج ولم تشعره بالخروج فقد خرجت بلا علم والأذن علم وإباحة
ويقال أيضاً: أنها ردت الأذن عليه فهو بمنزلة قوله: أمرك بيدك إذا أردت ذلك وأصل هذا أن هذا الباب نوعان
توكيل وإباحة فإذا قال له: بع هذا فقال: لا أبيع
أن النفي يرد القبول في الوصية والموصي إليه لم يملكه بعد وإذا أباحه شيئاً فقال: لا أقبل فهل له أخذه بعد ذلك فيه نظر ويتوجه أن الإنشاء كالخبر في التكرار وظاهر كلام أبي العباس: أن لتقضينه حقه في وقت عينه فأبرأه قبله لا يحنث وهو قول أبي حنيفة ومحمد وقول في مذهب أحمد وغيره(1/579)
باب جامع الإيمان
...
"باب جامع الأيمان"
وإذا حلف على معين موصوف بصفة فبان موصوفاً بغيرها كقوله: والله لا أكلم هذا الصبي فتبين شيخاً أو لا أشرب من هذا الخمر فتبين خلاً أو كان الحالف يعتقد أن المخاطب يفعل المحلوف عليه لاعتقاده أنه ممن لا يخالفه إذا(1/579)
أكد عليه ولا يحنثه أو لكون الزوجة قريبته وهو لا يختار تطليقها ثم تبين أنه كان غالطاً في اعتقاده فهذه المسألة وشبهها فيها نزاع والأشبه أنه لا يقع كما لو لقي امرأة ظنها أجنبية فقال أنت طالق فتبين أنها امرأته فإنّها لا تطلق على الصحيح إذ الاعتبار بما قصده في قلبه وهو قصد معيناً موصوفاً ليس هو هذا العين وكذا لا حنث عليه إذا حلف على غيره ليفعلنه فخالفه إذا قصد إكرامه لا إلزامه به لأنه كالأمر إذا فهم منه الإكرام لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر بالوقوف في الصف ولم يقف ويتوجه أن يفرق بين المخالفة في الذات والمخالفة في الصفات كما فرّق بينهما في صحة العقد وفساده ولو حلف لا يدخل الدار فأدخل بعض جسده فهل يحنث على روايتين ويتوجه أن يفرق بين أن يكون المقصود تحريم البقية على الرجل فيحنث بإدخال بعض جسده إلى بعضها لمباشرته بعض المحرم وبين أن يكون مقصوده التزامه بقعة فإذا أخرج بعضه لم يحنث كما في المعتكف ولو حلف: لا آكل الربا ولا أشرب الخمر ولا أزني فشرب النبيذ المختلف فيه أو أقرض قرضاً جر منفعة أو نكح بلا ولي ولا شهود فيحنث عندنا إن اعتقد التحريم أو لم يكن له اعتقاد وحددناه وإن اعتقد حله أو لم نحده ففي تحنيثه تردد ويتوجه أن يفرق بين ما يسوغ فيه الخلاف كالحيل الربوية وكمسألة النبيذ ولو حلف
لا أشارك فلاناً ففسخا الشركة وبقيت بينهما ديون مشتركة أو أعيان
قال: أفتيت أن اليمين تنحل بانفساخ عقد الشركة ومن حلف لا يشم ورداً ولا بنفسجاً فشم دهنهما أو ماء الورد حنث وقال القاضي لا يحنث
قال أبو العباس: ويتوجه أن يحنث بالماء دون الدهن وكذلك ماء اللبان والنيلوفر لأن الماء هو الحامل لرائحة الورد ورائحته فيه بخلاف الدهن فإنّه مضاف إلى الورد ولا تظهر فيه الرائحة كثيراً وفي دخول الفاكهة اليابسة في مطلق الحلف على الفاكهة نظر وكذلك استثنى أبو محمد بعض ثمر الشجر كالزيتون ومن حلف لا يدخل دار فلان فدخل داراً أوصى له بمنفعتها فهي كالمستأجرة وكذلك الموقوفة على عينه وإن كانت وقفاً على الجنس فهي أقوى من المعارة لأن المنفعة مستحقة للجنس ولا يدخل العقيق والسبح في مطلق الحلف على لبس الحلى إلا ممن(1/580)
عادته التحلي به وإذا زوج ابنته ثم قال: والله لا أزوجكها أو ما بقيت أزوجكها فهنا التزويج اسم للتسليم الذي هو الدخول وكذلك في الإجارة ونحوها ولو حلف لا يكلم فلاناً حيناً ولم ينو شيئاً فهو ستة أشهر نص عليه أحمد وهذه المسألة تقتضي أصلاً وهو أن اللفظ المطلق الذي له حد في العرف وقد علم أنه لم يزدد فيما يتناوله الاسم فإنّه ينزل على ما وقع من استعمال الشرع وإن كان اتفاقياً كما يقوله في مواطن كثيرة وإذا حلف لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً ليمينه أو جاهلاً بأنه المحلوف عليه فلا حنث عليه ولو في الطلاق والعتاق وغيرهما ويمينه باقية وهو رواية عن أحمد ورواتها بقدر رواة التفرقة ويدخل في هذا مِن فعله متأولاً إمّا تقليداً لمن أفتاه أو مقلداً لعالم ميت مصيباً كان أو مخطئاً ويدخل في هذا إذا خالع وفعل المحلوف عليه معتقداً أن الفعل بعد الخلع لم تتناوله يمينه أو فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً وقد ظن طائفة من الفقهاء أنه إذا حلف بالطلاق على أمر معتقده كما حلف فتبين بخلافه أنه يحنث قولاً واحداً وهذا خطأ بل الخلاف في مذهب أحمد ولو حلف على نفسه أو غيره ليفعلن شيئاً فجهله أو نسيه فلا حنث عليه إذ لا فرق بين أن يتعذر المحلوف عليه لعدم العلم أو لعدم القدرة ويتوجه فيما إذا نسي اليمين بالكلية أن يقضي الفعل إن أمكن قضاؤه وإنْ لم يعلم المحلوف عليه بيمين الحالف فكالناسي ولو حلف لا يزوج بنته فزوجها الأبعد أو الحاكم حنث إن تسبب في التزويج وإن لم يتسبب فلا حنث إلا أنه تقتضي النية أو التسبب أن مقصوده أنه لا يمكنها من التزويج فإنْ قدر على ذلك فلم يمنعها حنث وإلا فلا وإن كان المقصود أنها لا تتزوج حنث بكل حال ولو حلف لا يعامل زيداً ولا يبيعه فعامل وكيله أو باعه حنث ومتى فعل المحلوف على تزويجه بنفسه أو وكيله حنث
قال في "المجرد" و "الفصول": فإنْ كان بيد زوجته تمرة فقال: إن أكلتيها فأنت طالق وإن لم تأكليها فأنت طالق فأكلت بعضها حَنَث بناء على قولنا فيمَن حلف أن لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه
قال أبو العباس: ينبغي أن يقال في مثل هذه اليمين مثل قوله في مسألة السلم(1/581)
وهي إن نزلت أو صعدت أو أقمت في الماء أو خرجت أن يحنث بكل حال لمنعه لها من الأكل ومِن تركه فكأن الطلاق معلق بوجود الشيء وبعدمه فوجود بعضه وعدم البعض لا يخرج عن الصفتين كما إذا علق بحال الوجود فقط أو بحال العدم فقط(1/582)
كتاب الرجعة
*
...
" كتاب الرجعة"
قال أبو العباس: أبو حنيفة يجعل الوطء رجعة وهو أحد الروايات عن أحمد والشافعي لا يجعله رجعة وهو رواية عن أحمد ومالك يجعله رجعة مع النية وهو رواية أيضاً عن أحمد فيبيح وطء الرجعية إذا قصد به الرجعة وهذا أعدل الأقوال وأشبهها بالأصول وكلام أبي موسى في "الإرشاد" يقتضيه ولا تصلح الرجعة مع الكتمان بحال وذكره أبو بكر في "الشافي" وروي عن أبي طالب قال: سألت أحمد عن رجل طلق امرأته وراجعها واستكتم الشهود حتى انقضت العدة قال: يفرق بينهما ولا رجعة له عليها ويلزم إعلان التسريح والخلع والإشهاد كالنكاح دون ابتداء الفرقة
قال أحمد في رواية ابن منصور فإن طلقها ثلاثاً ثم جحد تفدي نفسها منه بما تقدر عليه فإن أجبرت على ذلك فلا تتزين له ولا تقربه وتهرب إن قدرت وقال في رواية أبي طالب تهرب ولا تتزوج حتى يظهر طلاقها ويعلم ذلك فإن لم يقر بطلاقها ومات لا ترث لأنها تأخذ ما ليس لها وتفر منه ولا تخرج من البلد ولكن تختفي في بلدها قيل له: قال بعض الناس: تقتله بمنزلة من يدفع عن نفسه فلم يعجبه ذلك فإن قال: استحللت وتزوجتها قال: تقبل منه قال القاضي: لا تقتله معناه لا تقصد قتله وإن قصدت دفعه فأدى ذلك إلى قتله فلا ضمان
قال أبو العباس: كلام أحمد يدل على أنه لا يجوز دفعه بالقتل وهو الذي لم يعجبه لأن هذا ليس متعدياً في الظاهر والدفع بالقتل إنما يجوز لمن ظهر اعتداؤه وقطع جمهور أصحابنا بحل المطلقة ثلاثاً بوطء المراهق والذمي إن كانت ذمية(1/582)
. قال أبو العباس: النكاح الذي يقرَّان عليه بعد الإسلام والمجيء به إلينا للحكم صحيح فعلى هذا يحلها النكاح بلا ولي ولا شهود وكذلك لو تزوجها على أخت ثم ماتت الأخت قبل مفارقتها فأما لو تزوجها في عدة أو على أخت ثم طلقها مع قيام المفسد فهنا موضع نظر فإنَّ هذا النكاح لا يثبت به التوارث ولا يحكم فيه بشيء من أحكام النكاح فينبغي أن لا تحل له قال أصحابنا: ومَن غابت مطلقته المحرمة ثم ذكرت أنها تزوجت من أصابها وانقضت عدتها منه وأمكن ذلك فله نكاحها إذا غلب على ظنه صدقها وإلا فلا وقد تضمنت هذه المسألة أن المرأة إذا ذكرت أنه كان لها زوج فطلقها فإنه يجوز تزوجها وتزويجها وإن لم يثبت أنه طلقها ولا يقال: أن ثبوت إقرارها بالنكاح يوجب تعلق حق الزوج بها فلا يجوز نكاحها حتى يثبت زواله ونص الإمام أحمد في الطلاق إذا كتب إليها أنه طلقها لم تتزوج حتى يثبت الطلاق
وكذلك لو كان للمرأة زوج فادعت أنه طلقها لم تتزوج بمجرد ذلك باتفاق المسلمين لأنا نقول المسألة هنا فيما إذا ادعت أنها تزوجت من أصابها وطلقها ولم تعينه فإنَّ النكاح لم يثبت لمعين بل لمجهول فهو كما لو قال: عندي مال لشخص وسلمته إليه فإنّه لا يكون إقراراً بالاتفاق فكذلك قولها: كان لي زوج وطلقني وسيدي أعتقني ولو قالت: تزوجني فلان وطلقني فهو كالإقرار بالمال وادعاء الوفاء لا يكون إقراراً(1/583)
باب الإيلاء
...
"باب الإيلاء"
وإذا حلف الرجل على ترك الوطء وغيا بغاية لا يغلب على الظن خلو المدة منها فخلت منها فعلى روايتين: إحداهما هل يشترط العلم بالغاية وقت اليمين أو يكفي ثبوتها في نفس الأمر وإذا لم يفئ وطلق بعد المدة أو طلق الحاكم عليه لم يقع إلا طلقة رجعية وهو الذي يدل عليه القرآن ورواية عن أحمد فإذا راجع فعليه أن يطأ عقب هذه الرجعة إذا طلبت ذلك منه ولا يمكن من الرجعة إلا بهذا(1/583)
بالشرط ولأنَّ الله إنّما جعل الرجعة لمن أراد إصلاحاً بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} البقرة: 228ّ(1/584)
كتاب الظهار
...
" كتاب الظهار"
وإذا قال لزوجته: أنت علي حرام فهو ظهار وإن نوى الطلاق وهو ظاهر مذهب أحمد والعود هو الوطء وهو المذهب ولو عَزم على الوطء فأصح القولين لا تستقر الكفارة إلا بالوطء ولا ظهار من أمته ولا أم ولده وعليه كفارة نقله الجماعة ونقل أبو طالب كفارة ظهار ويتوجه على هذا أن تحرم عليه حتى يكفر كأحد الوجهيْن لو قال: أنت علي حرام وأولى قال في "المحرر": ولو وطئ في حال جنونه لزمته الكفارة نص عليه مع أنه ذكر في الطلاق ما يقتضي: أنه لا حنث عليه في ظاهر المذهب فإنْ توجه فرق وإلا كان المنصوص الحنث في الجنون مطلقاً وفيه نظر وما يخرج في الكفارة المطلقة غير مقيد بالشرع بل بالعرف قدراً أو نوعاً من غير تقدير ولا تمليك وهو قياس المذهب في الزوجة والأقارب والمملوك والضيف والأجير المستأجر بطعامه والإدام يجب إن كان يطعم أهله بإدام وإلا فلا وعادة الناس تختلف في ذلك في الرخص والغلاء واليسار والإعسار وتختلف بالشتاء والصيف والواجبات المقدرات في الشرع من الصدقات على ثلاثة أنواع تارة تقدر الصدقة الواجبة ولا يقدر من يعطاها كالزكاة وتارة يقدر المعطي ولا يقدر المال كالكفارات وتارة يقدر هذا وهذا كفدية الأذى وذلك لأن سبب وجوب الزكاة هو المال فقدر المال الواجب وأما الكفارات فسببها فعل بدله كالجماع واليمين والظهار فقدر فيها المعطي كما قدر العتق والصيام وما يتعلق بالحج فيه بدن ومال فعبادته بدنية ومالية فلهذا قدر فيه هذا وهذا(1/584)
كتاب اللعان
*
...
" كتاب اللعان"
ولو لم يقل الزوج في أيمانه فيما رميتها به قياس المذهب صحته كما إذا اقتصر(1/584)
باب ما يلحق من النسب
...
"باب ما يلحق من النسب"
ولا تصير الزوجة فراشاً إلا بالدخول وهو مأخوذ من كلام الإمام أحمد في رواية حرب وتتبعض الأحكام لقوله: "احتجبي يا سودة" وعليه نصوص أحمد وإن استلحق ولده من الزنا ولا فراش لحقه وهو مذهب الحسن وابن سيرين والنخعي وإسحاق ولو أقر بنسب أو شهدت به بينة فشهدت بينة أخرى: أنَّ هذا ليس من نوع هذا بل هذا رومي وهذا فارسي فهذا في وجه نسبه تعارض القافة أو البينة ومِن وجه كبر السن فهذا المعارض الباقي للنسب هل يقدح في المقتضى له.(1/585)
قال أبو العباس: هذه ال مسألة حدثت وسئلت عنها وكان الجواب أن التغاير بينهما إن أوجب القطع بعدم النسب فهو كالسن مثل: أن يكون أحدهما حَبشياً والآخر رُومياً ونحو ذلك فهنا ينتفي النسب وإن كان أمراً محتملاً لم ينفعه لكن إن كان المقتضي للنسب الفراش لم يلتفت إلى المعارضة وإن كان المثبت له مجرد الإقرار أو البينة فاختلاف الجنس معارض ظاهر فإنْ كان النسب بنوة فثبوتها أرجح من غيرها إذ لا بد للابن من أب غالباً وظاهراً قال في "الكافي": ولو أنكر المجنون بعد البلوغ لم يلتفت إلى إنكاره
قال أبو العباس: ويتوجه أن يقبل لأنه إيجاب حق عليه بمجرد قول غيره مع منازعته كما لو حكمنا للقيط بالحرية فإذا بلغ فأقر بالرق قبلنا إقراره ولو أدخلت المرأة لزوجها أمتها إن ظن جوازه لحقه الولد وإلا فروايتان ويكون حراماً على الصحيح إنْ ظن حلها بذلك وإذا وطئ المرتهن الأمة المرهونة بإذن الراهن وظن جواز ذلك لحقه الولد وانعقد حراً وإذا تداعيا بهيمة أو فصيلاً فشهد القائف أن دابة هذا تنتجها ينبغي أن يقضي بهذه الشهادة وتقدم على اليد الحسية ويتوجه أن يحكم بالقيافة في الأموال كلها كما حكمنا بذلك في الجذع والمقلوع إذا كان له موضع في الدار وكما حكمنا في الإشتراك في اليد الحسية بما يَظْهر من اليد العرفية فأعطينا كل واحد من الزوجين ما يناسبه في العادة وكل واحد من الصانعين ما يناسبه وكما حكمنا بالوصف في اللقطة إذا تداعاها اثنان وهذا نوع قيافة أو شبيه به وكذلك لو تنازعا غراساً أو تمراً في أيديهما فشهد أهل الخبرة أنه من هذا البستان ويرجع إلى أهل الخبرة حيث يستوي المتداعيان كما رجع إلى أهل الخبرة بالنسب وكذلك لو تنازع اثنان لباساً أو بغلاً من لباس أحدهما دون الآخر أو تنازعا دابة تذهب من بعيد إلى اصطبل أحدهما دون الآخر أو تنازعا زوج خف أو مصراع مع الآخر شكله أو كان عليه علامة لأحدهما كالزربول التي للجند وسواء كان المدعى في أيديّهما أو في يد ثالث
أمّا إنْ كانت اليد لأحدهما دون الآخر فالقيافة المعارضة لهذا كالقيافة المعارضة(1/586)
للفراش فإذا قلنا بتقديم القيافة في صورة الرجحان فقد نقول ههنا كذلك ومثل أن يدعي أنه ذهب من ماله شيء ويثبت ذلك فيقص القائف أثر الوطء من مكان إلى مكان آخر فشهادة القائف: أن المال دخل إلى هذا الموضع تُوجب أحد الأمريْن أمّا الحاكم به وإمّا أن يكون الحكم به مع اليمين للمدعي وهو الأقرب فإنَّ هذه الإمارة ترجح جانب المدعي واليمين مشروعة في أقوى الجانبين ولو مات الطفل قبل أن تراه القافة
قال المزني: يوقف ماله وما قاله ضعيف وإنّما قياس المذهب للقرعة ويحتمل الشركة ويحتمل أن يرث واحد منهما(1/587)
كتاب العدد
...
" كتاب العدد"
ويتوجه في المعتق بعضها إذا كان الحر يليها أن لا تجب الاقراء فإنَّ تكميل القروء من الأمة إنما كان للضرورة فيؤخذ للمعتق بعضها بحساب الأصل ويكمل قال في "المحرر": وإذا ادعت المعتدة انقضاء عدتها بالاقراء أو الولادة قُبل قولها إذا كان ممكناً إلا أن تدعيه بالحيض في شهر فلا يقبل قولها إلا ببينة نص عليه وقبله الخرقي مطلقاً
قال أبو العباس: قياس المذهب المنصوص أنها إذا ادعت ما يخالف الظاهر كلفت البينة وإذا أوجبنا عليها البينة فيما إذا علق طلاقها بحيضها فقالت: حضت فإنَّ التهمة في الخلاص من العدة كالتهمة في الخلاص من النكاح فيتوجه أنها إذا ادعت الانقضاء في أقل من ثلاثة أشهر كلفت البينة وإن ادعت الانقضاء بالولادة فهو كما لو ادعت أنها ولدت وأنكر الزوج فيما إذا علق طلاقها على الولادة وفيها وجهان وإذا أقر الزوج أنه طلق زوجته من مدة تزيد على العدة الشرعية فإنْ كان المقر فاسقاً أو مجهول الحال لم يقبل قوله في انقضاء العدة التي فيها حق الله تعالى وإن كان عدلاً غير متهم مثل أن يكون غائباً فلما حضر أخبرها أنه طلقها من مدة كذا وكذا فهل العدة حين بلغها الخبر إذ تقم بذلك بينة أو من حين الطلاق كما لو قامت به بينة فيه خلاف مشهور عند أحمد والمشهور عنه هو الثاني والصواب في امرأة المفقود مذهب عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة وهو أنها تتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك وهي زوجة(1/587)
الثاني ظاهراً وباطناً ثم إذا قدم زوجها الأول بعد تزوجها خُيّر بين امرأته وبين مهرها ولا فرق بين ما قبل الدخول وبعده وهو ظاهر مذهب أحمد وعلى الأصح لا يعتبر الحاكم فلو مضت المدة والعدة تزوجت بلا حكم
قال أبو العباس: وكنت أقول أن هذا شبه اللقطة من بعض الوجوه ثم رأيت ابن عقيل قد ذكر ذلك ومثل ذلك وهذا لأن المجهول في الشرع كالمعدوم وإذا علم بعد ذلك كان التصرف في أهله وماله موقوفاً على إذنه ووقف التصرف في حق الغير على إذنه يجوز عند الحاجة عندنا بلا نزاع وأما مع عدم الحاجة ففيه روايتان كما يجوز التصرف في اللقطة بعدم العلم لصاحبها فإذا جاء المالك كان تصرف الملتقط موقوفاً على إجازته وكان تربص أربع سنين كالحول في اللقطة وبالجملة كل صورة فرق فيها بين الرجل وامرأته بسبب يوجب الفرقة ثم تبين انتفاء ذلك السبب فهو شبيه المفقود والتخيير فيه بين المرأة والمهر هو أعدل الأقوال ولو ظنت المرأة أن زوجها طلقها فتزوجت فهو كما لو ظنت موته ولو قدر أنها كتمت الزوج فتزوجت غيره ولم يعلم الأول حتى دخل بها الثاني فهنا الزوجان مشهوران بخلاف المرأة لكن إذا اعتقدت جواز ذلك بأن تعتقد أنه عاجز عن حقها أو مفرط فيه وأنه يجوز لها الفسخ والتزويج بغيره فتشبه امرأة المفقودة وأمّا إذا علمت التحريم فهي زانية لكن المتزوج بها كالمتزوج بامرأة المفقود وكأنها طلقت نفسها فأجازه وإذا طلق واحدة من امرأتيه مُبْهمة ومات قبل الإقراع فأحدهما وجبت عليها عدة الوفاة والأخرى عدة الطلاق فالأظهر هنا وجوب العدتين على كل منهما والواجب أن الشبهة إن كانت شبهة نكاح فتعتد الموطوءة عدة المزوجة حرة كانت أو أمة وإن كانت شبهة ملك فعدة الأمة المشتراة وأمّا الزنا فالعبرة بالمحل
وقال أبو العباس في موضع آخر الموطوءة بشبهة تستبرأ بحيضة وهو وجه في المذهب وتعتد المزني بها بحيضة وهو رواية عن أحمد والمختلعة يكفيها الإعتداد بحيضة واحدة وهو رواية عن أحمد ومذهب عثمان بن عفان وغيره والمفسوخ نكاحها كذلك وأومأ إليه أحمد في رواية صالح والمطلقة ثلاث تطليقات(1/588)
عدتها حيضة واحدة
قلت: علق أبو العباس من الفوائد بذلك عن ابن اللبان ومن ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه إن علمت عدم عوده فتعتد بالأشهر وإلا اعتدت بسنة والمطلقة البائن وإن لم تلزمه نفقتها إن شاء أسكنها في مسكنه وغيره إن صلح لها ولا محذور تحصيناً لمائه وأنفق عليها فله ذلك وكذلك الحامل من وطء الشبهة أو النكاح الفاسد لا يجب على الواطئ نفقتها إن قلنا بالنفقة لها إلا أن يسكنها في منزل يليق بها تحصيناً لمائه فيلزمها ذلك وتجب لها النفقة والله أعلم
"فصل في الاستبراء" ولا يجب استبراء الأمة البكر سواء كانت كبيرة أو صغيرة وهو مذهب ابن عمر واختيار البخاري ورواية عن أحمد والأشبه ولا مَن اشتراها مِن رجل صادق وأخبره أنه لم يطأ أو وطئ واستبرأ انتهى(1/589)
كتاب الرضاع
...
" كتاب الرضاع
وإذا كانت المرأة معروفة بالصدق وذكرت أنها أرضعت طفلاً خمس رضعات قُبل قولها
وثبت حكم الرضاع على الصحيح ورضاع الكبيرة تنتشر به الحرمة بحيث لا يحتشمون منه للحاجة لقصة سالم مولى أبي حذيفة وهو مذهب عائشة وعطاء والليث وداود ممن يرى أنه نشر الحرمة مطلقاً والإرتضاع بعد الفطام لا ينشر الحرمة وإن كان دون الحول وقاله ابن القاسم صاحب مالك وإذا اشترك اثنان في وطء امرأة فحكم المرتضع مِن لبنها حُكم ولدها من هذيْن الرجلين وأولادهما فإنْ لم يلحق بأحدهما فالواجب أنه يَحرُم على أولادهما لأنه أخ لأحد الصنفين وقد اشتبه أو يقال كما قيل في الطلاق بحل منهما فإنّ الاشتباه في حق اثنين لا واحد(1/589)
كتاب النفقات
*
...
" كتاب النفقات"
وعلى الولد الموسر أن ينفق على أبيه المعسر وزوجة أبيه وعلى إخوته الصغار(1/589)
باب الحضانة
...
"باب الحضانة"
هل الحضانة إلا لرجل من العصبة أو لامرأة وارثة أو مدلية بعصبة أو بوارث فإنْ عدموا فالحاكم وقيل: إن عدموا ثبتت لمن سواهم من الأقارب ثم للحاكم(1/592)
ويتوجه عند العدم أن تكون لمن سبقت إليه اليد كاللقيطة فإنَّ كفال اليتامى لم يكونوا يستأذنون الحاكم والوجه أن يتردد ذلك بين الميراث والمال والعمة أحق من الخالة وكذا نساء الأب أحق يقدمن على نساء الأم لأن الولاية للأب وكذا أقاربه وإنما قدمت الأم على الأب لأنه لا يقوم مقامها هنا في مصلحة الطفل وإنّما قدم الشارع عليه السلام خالة بنت حمزة على عمتها صفية لأن صفية لم تطلب وجعفر طلب نائباً عن خالتها فقضى لها بها في غيبتها وضعف البصر يمنع من كمال ما يحتاج إليه المحضون من المصالح وإذا تزوجت الأم فلا حضانة لها وعلى عصبة المرأة منعها من المحرمات فإن لم تمتنع إلا بالحبس حبسوها وإن احتاجت إلى القيد قيدوها وما ينبغي للمولود أن يضرب أمه ولا يجوز لهم مقاطعتها بحيث تتمكن من السوء بل يلاحظونها بحسب قدرتهم وإن احتاجت إلى رزق وكسوة كسوها وليس لهم إقامة الحد عليها والله سبحانه وتعالى أعلم(1/593)
كتاب الجنايات
*
...
" كتاب الجنايات"
العقوبات الشرعية إنّما شرعت رحمة من الله تعالى بعباده فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان إليهم ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم والرحمة لهم كما يقصد الوالد تأديب ولده وكما يقصد الطبيب معالجة المريض وتوبة القاتل للنفس عمداً مقبولة عند الجمهور وقال ابن عباس: لا تقبل وعن الإمام أحمد روايتان وإذا اقتص منه في الدنيا فهل للمقتول أن يستوفي حقه في الآخرة فيه قولان في مذهب أحمد وغيره وليست التوبة بعد الجرح أو بعد الرمي قبل الإصابة مانعة من وجوب القصاص ذكر أصحابنا من صور القتل العمد الموجب للقود: من شهدت عليه بينة بالردة فقتل بذلك ثم رجعوا وقالوا: عمدنا قتله وهذا فيه نظر لأن المرتد إنّما يقتل إذا لم يتب فيمكن المشهود عليه التوبة كما يمكنه التخلص إذا القي في الغار والدول على من يقتل بغير حق يلزمه القود والدية إذا تعمد وإمساك الحيات(1/593)
جناية محرمة قال في "المحرر": لو أمر به يعني القتل سلطان عادل أو جائر ظلماً من لم يعرف ظلمه فيه فقتله فالقود والدية على الآمر خاصة
قال أبو العباس: هذا بناء على وجوب طاعة السلطان في القتل المجهول وفيه نظر بل لا يطاع حتى يعلم جواز قتله وحينئذ فتكون الطاعة له معصية لا سيما إذا كان معروفاً بالظلم فهنا الجهل بعدم الحل كالعلم بالحرمة وقياس المذهب: أنه إذا كان المأمور ممن يطيعه غالباً في ذلك أنه يجب القتل عليهما وهو أولى من الحاكم والشهود سبب يقتضي غالباً فهو أقوى من المكره ولا يقتل مسلم بذمي إلا أن يقتله غيلة لأخذ ماله وهو مذهب مالك قال أصحابنا: ولا يقتل حر بعبد ولكن ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة كما في الذمي بل أجود ما روي: "من قتل عبده قتلناه" وهذا لأنه إذا قتله ظلماً كان الإمام ولي دمه وأيضاً فقد ثبت في السنة والآثار أنه إذا مثل بعبده عتق عليه وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما وقتله أعظم أنواع المثلة فلا يموت إلا حراً لكن حريته لم تثبت حال حياته حتى ترثه عصبته بل حريته ثبتت حكماً وهو إذا عتق كان ولاؤه للمسلمين فيكون الإمام هو وليه فله قاتل عبده وقد يحتج بهذا مَن يقول إن قاتل عبد غيره لسيده قتله وإذا دلَّ الحديث على هذا كان هذا القول هو الراجح وهذا قوي على قول أحمد فإنّه يجوز شهادة العبد كالحر بخلاف الذمي فلماذا لا يقتل الحر بالعبد وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم" ومَن قال: لا يقتل حر بعبد يقول: إنه لا يقتل الذمي الحر بالعبد المسلم والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} البقرة: 221 فالعبد المؤمن خير من الذمي المشرك فكيف لا يقتل به والسنة إنّما جاءت لا يقتل والد بولد فإلحاق الجد أبي الأم بذلك بعيد ويتوجه أن لا يرث القاتل دماً من وارث كما لا يرث هو المقتول وهو يشبه حد القذف المطالب به إذا كان القاذف هو الوارث أو وارث الوارث فعلى هذا لو قتل أحد الابنين أباه والآخر أمه وهي في زوجية الأب فكل واحد منهما يستحق قتل الآخر فيتقاصان لا سيما إذا قيل إنه مستحق القود بملك نقله إلى غيره إمّا بطريق التوكيل بلا ريب وإما بالتمليك وليس ببعيد(1/594)
وإذا كان المقتول رضي بالاستيفاء أو بالذمة فينبغي أن يتعين كما لو عفا وعليه تخرج قصة علي إذا لم تخرج على كونه مرتداً أو مفسداً في الأرض أو قاتل الأئمة وإذا قال أنا قاتل غلام زيد فقياس المذهب إن كان نحوياً لم يكن مُقراً وإن كان غير نحوي كان مقراً كما لو قاله بالإضافة ومن رأى رجلاً يفجر بأهله جاز له قتلهما فيما بينه وبين الله تعالى وسواء كان الفاجر محصناً أو غير محصن معروفاً بذلك أم لا كما دلَّ عليه كلام الأصحاب وفتاوى الصحابة وليس هذا من باب دفع الصائل كما ظنه بعضهم بل هو من عقوبة المعتدين المؤذين وأما إذا دخل ولم يفعل بعد فاحشة ولكن دخل لأجل ذلك فهذا فيه نزاع والأحوط لهذا أن يتوب من القتل في مثل هذه الصورة ومن طلب منه الفجور كان عليه أن يدفع الصائل عليه فإن لم يندفع إلا بالقتل كان له ذلك باتفاق الفقهاء فإن ادعى القاتل أنه صال عليه وأنكر أولياء المقتول فإنْ كان المقتول معروفاً بالبر وقتله في محل لا ريبة فيه لم يقبل قول القاتل وإن كن معروفاً بالفجور والقاتل معروفاً بالبر فالقول قول القاتل مع يمينه لا سيما إذا كان معروفاً بالتعرض له قبل ذلك(1/595)
باب استيفاء القود والعفو عنه
...
"باب استيفاء القود والعفو عنه"
والجماعة المشتركون في استحقاق دم المقتول الواحد إما أن يثبت لكل واحد بعض الاستيفاء فيكونون كالمشتركين في عقد أو خصومة وتعيين الإمام قوي كما يؤجر عليهم لنيابته عن الممتنع والقرعة إنما شرعت في الأصل إذا كان كل واحد مستحقاً أو كالمستحق ويتوجه أن يقدم الأكثر حقاً أو الأفضل لقوله "كبر" وكالأولياء في النكاح وذلك أنهم قالوا: هنا من تقدم بالقرعة قدمته ولم تسقط حقوقهم ويتوجه إذا قلنا ليس للولي أخذ الدية إلا برضا الجاني أن يسقط حقه بموته كما لو مات العبد الجاني أو المكفول به وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي ثواب وأبي القاسم وأبي طالب ويتوجه ذلك وإن قلنا: لواجب القود عيناً أو أحد شيئين لأن الدية عديل العفو فأمّا الدية مع الهلاك فلا والذي ينبغي أن لا يعاقب المجنون بقتل ولا قطع لكن يضرب على فعل ليزجر(1/595)
وكذا الصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيراً بليغاً
قال أصحابنا: وإن وجب لعبد قصاص أو تعزير قذف فطلبه وإسقاطه إليه دون سيده ويتوجه أن لا يملك إسقاطه مجاناً كالمفلس والورثة مع الديون المستغرفة على أحد الوجهيْنوكذلك الأصل في الوصي والقياس أن لا يملك السيد تعزير القذف إذا مات العبد إلا إذا طالب كالوارث ويفعل بالجاني على النفس مثل ما فعل بالمجني عليه ما لم يكن محرماً في نفسه أو يقتله بالسيف إن شاء وهو رواية عن أحمد ولو كوى شخصاً بمسمار كان للمجني عليه أن يكويه مثل ما كواه إن أمكن ويجري القصاص في اللطمة والضربة ونحو ذلك وهو مذهب الخلفاء الراشدين وغيرهم ونص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعد الشالنجي ولا يستوفى القود في الطريق إلا بحضرة السلطان ومن أبرأ جانياً حراً جنايته على عاقلته إن قلنا تجب الدية على العاقلة أو تحمل عنه ابتداء أو عبداً إن قلنا: جنايته في ذمته مع أنه يتوجه الصحة مطلقاً وهو وجه بناء على أن مفهوم هذا اللفظ في عرف الناس العفو مطلقاً والتصرفات تحمل موجباتها على عرف الناس فتختلف باختلاف الاصطلاحات وإذا عفا أولياء المقتول عن القاتل بشرط ألا يقيم في هذا البلد ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازماً بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول العلماء وبالدم في قول آخر وسواء قيل: هذا الشرط صحيح أم فاسد يفسد به العقد أم لا ولا يصح العفو في قتل الغفلة لتعذر الاحتراز منه كالقتل في المحاربة وولاية القصاص والعفو عنه ليست عامة لجميع الورثة بل تختص بالعصبة وهو مذهب مالك وتخرج رواية عن أحمد وإذا اتفق الجماعة على قتل شخص فلأولياء الدم أن يقتلوهم ولهم أن يقتلوا بعضهم وإن لم يعلم عين القاتل فللأولياء أن يحلفوا على واحد بقتله أنه قتله ويحكم لهم بالدم انتهى(1/596)
كتاب الديات
*
...
" كتاب الديات"
المعروف أن الحر يضمن بالإتلاف لا باليد إلا الصغير ففيه روايتين كالروايتين في سرقته(1/596)
فإن كان الحر قد تعلق برقبته حق لغيره مثل أن يكون عليه حق قَود أو في ذمته مال أو منفعته أو عنده أمانات أو غصوب تلفت بتلفه مثل أن يكون حافظاً عليها وإذا تلف زال الحفظ فينبغي أنه إن أتلف فما ذهب باتلافه من عين أو منفعة مضمونه ضمنت كالقود فإنّه مضمون لكن هل ينتقل الحق إلى القاتل فيخير الأولياء بين قتله والعفو عنه أو إلى ترك الأول ففيه روايتان وأمّا إذا تلف تحت اليد العادية فالمتوجه أن يضمن ما تلف بذلك مِن مال أو بدل قَود بحيث يقال: إذا كان عليه قود فحال بين أهل الحق والقود حتى مات ضمن لهم الدية ومَن جنى على سنه اثنان واختلفوا فالقول قول المجني عليه في قدر ما أتلفه كل منهما
قاله أصحابنا ويتوجه أن يقترعا على القدر المتنازع فيه لأنه ثبت على أحدهما لا بعينه كما لو ثبت الحق لأحدهما لا بعينه وإذا أخذ من لحيته ما لا جمال فيه فهل يجب القسط أو الحكومة
"فصل"
وأبو الرجل وابنه من عاقلته عند الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء ولا يؤجل على العاقلة إذا رأى الإمام المصلحة فيه ونص على ذلك الإمام أحمد ويتوجه أن يُعقل ذوو الأرحام عند عدم العصبة إذا قلنا تجب النفقه عليهم والمرتد يجب أن يعقل عنه من يرثه من المسلمين أو أهل الدين الذي انتقل إليه(1/597)
باب القسامة
...
"باب القسامة"
نقل الميموني عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ وإذا كان ثم سبب بين وإذا كان ثم عداوة وإذا كان مثل المدعي عليه يفعل هذا فذكر الإمام أحمد أربعة أمور اللطخ وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة والسبب البين كالتعرف عن قتيل والعداوة كون المطلوب من المعروفين بالقتل وهذا هو الصواب واختاره ابن الجوزي ثم لوث يغلب على الظن أنه قَتل مِن اتهم بقتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يميناً ويستحقوا دمه وأما ضربه ليقر(1/597)
فلا يجوز إلا مع القرائن التي تدل على أنه قتله فإنَّ بعض العلماء جوَّز تقريراً بالضرب في هذه الحال وبعضهم منع من ذلك مطلقاً(1/598)
كتاب الحدود
*
...
" كتاب الحدود"
قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} النساء: 15 قد يستدل بذلك على أن المذنب إذا لم يعرف فيه حكم الشرع فإنّه يُمسك فيحبس حتى يعرف فيه الحكم الشرعي فينفذ فيه وإذا زنى الذمي بالمسلمة قُتل ولا يصرف عنه القتل الإسلام ولا يعتبر فيه أداء الشهادة على الوجه المعتبر في المسلم بل يكفي استفاضته واشتهاره وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سبب حدت إن لم تدعي الشبهة وكذا مَن وُجد منه رائحة الخمر وهو رواية عن أحمد فيهما وغلظ المعصية وعقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان والكبيرة الواحدة لا تحبط جميع الحسنات لكن قد تحبط ما يقابلها عند أهل السنة ولا يشترط في القطع بالسرقة مطالبة المسروق منه بماله وهو رواية عن أحمد اختارها أبو بكر ومذهب مالك كإقراره بالزنا بأمة غيره ومَن سرق تمراً أو ماشية من غير حرز أضعفت عليه القيمة وهو مذهب أحمد وكذا غيرها وهو رواية عنه واللص الذي غرضه سرقة أموال الناس ولا غرض له في شخص معين فإنَّ قطع يده واجب ولو عفا عنه رب المال
"فصل"
والمحاربون حكمهم في المصر والصحراء واحد وهو قول مالك في المشهور عنه والشافعي وأكثر أصحابنا قال القاضي: المذهب على ما قال أبو بكر في عدم التفرقة ولا نص في الخلاف بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء والزوى فالمباشرة في الخراب وهو مذهب أحمد وكذا في السرقة والمرأة التي تحضر النساء للقتل تُقتل والعقوبات التي تقام من حد أو تعزير إذا ثبتت بالبينة فإذا أظهر من وجب عليه الحد التوبة لم يوثق منه بها فيقام عليه وإن كان تائباً في الباطن كان الحد مكفراً وكان مأجوراً على صبره وإن جاء تائباً بنفسه فاعترف فلا يقام عليه في ظاهر مذهب أحمد ونص عليه في غير موضع كما جزم به الأصحاب(1/598)
وغيرهم في المحاربين وإن شهد على نفسه كما شهده ماعز والغامدية واختار إقامة الحد عليه اقيم وإلا لا وتصح التوبة من ذنب مع الإصرار على آخر إذا كان المقتضي للتوبة منه أقوى من المقتضي للتوبة من الآخر أو كان المانع من أحدهما أشد هذا هو المعروف عن السلف والخلف ويلزم الدفع عن مال الغير وسواء كان المدفوع من أهل مكة أو غيرهم وقال أبو العباس: في جند قاتلوا عرباً نهبوا أموال تجار ليردوها إليهم فهم مجاهدون في سبيل الله ولا ضمان عليهم بقود ولا دية ولا كفارة ومن أمن للرئاسة والمال لم يُثب على فساد نيته كالمصلي رياء وسمعة
"فصل"
والأفضل ترك قتال أهل البغي حتى يبدأ الإمام وقاله مالك وله قتل أهل الخوارج ابتداء أو متممة تخريجهم وجمهور العلماء يُفرقون بين الخوارج والبغاة المتأولين وهو المعروف عن الصحابة وأكثر المصنفين لقتال أهل البغي يرى القتال من ناحية علي ومنهم مَن يرى الإمساك وهو المشهور مِن قول أهل المدينة وأهل الحديث مع رؤيتهم لقتال من خرج عن الشريعة كالحرورية ونحوهم وأنه يجب والأخبار توافق هذا فاتبعوا النص الصحيح والقياس المستقيم وعلي كان أقرب إلى الصواب من معاوية ومن استحل أذى من أمره ونهاه بتأويل فكالمبتدع ونحوه يسقط بتوبته حق الله تعالى وحق العبد واحتج أبو العباس: لذلك بما أتلفه البغاة لأنه من الجهاد الذي يجب الأجر فيه على الله تعالى وقتال التتار ولو كانوا مسلمين هو قتال الصديق -رضي الله عنه- مانعي الزكاة ويأخذ مالهم وذريتهم وكذا المقفز إليهم ولو ادعى إكراهاً ومن أجهز على جريح لم يأثم ولو تشهد ومَن أخذ منهم شيئاً خمس وبقيته له والرافضة الجبلية يجوز أخذ أموالهم وسبي حريمهم يخرج على تكفيرهم قال أصحابنا: وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان ضامنتان فأوجبوا الضمان على مجموع الطائفة وإن لم يعلم عين المتلف وإن تقاتلا تقاصا لأن المباشرة والمعين سواء عند الجمهور وإن جهل قدر ما نهبه كل طائفة من الأخرى تساويا كمن جهل قدر الحرام المختلط بماله فإنّه يُخرج النصف والباقي له(1/599)
ومن دخل لصلح فقتل فجهل قاتله ضمنه الطائفتان وأجمع العلماء على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة من شرائع الإسلام فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله كالمحاربين وأولى
"فصل"
وإذا شككت في المطعوم والمشروب هل يسكر أو لا لم يحرم بمجرد الشك ولم يقم الحد على شاربه ولا ينبغي إباحته للناس إذ كان يجوز أن يكون مسكراً لأن إباحة الحرام مثل تحريم الحلال فتكشف عن هذا شهادة مَن تُقبل شهادته مثل أن يكون طعمه ثم تاب منه أو طعمه غير معتقد تحريمه أو معتقداً حله لتداوٍ ونحوه أو على مذهب الكوفيين في تحليل يسير النبيذ فإنْ شهد به جماعة ممن يتأوله معتقداً تحريمه فينبغي إذا أخبر عدد كثير لا يمكن تواطؤهم على الكذب أن يحكم بذلك فإنَّ هذا مثل التواتر والاستفاضة كما استفاض بين الفساق والكفار الموت والنسب والنكاح والطلاق فيكون أحد الأمرين أما الحكم بذلك لأن التواتر لا يشترط فيه الإسلام والعدالة وأما الشهادة بذلك بناء على الاستفاضة فلا يحصل بها التواتر ولنا أن نمتحن بعض العدول بتأوله لوجهين: أحدهما: أنه لا يعلم تحريم ذلك قبل التأويل فيجوز الإقدام على تناوله وكراهة الإقدام على الشبهة تعارضها مصلحة بيان الحال
الوجه الثاني: أن المحرمات قد تباح عند الضرورة والحاجة إلى البيان موضع ضرورة فيجوز تناولها لأجل ذلك والحشيشة القنبية نجسة في الأصح وهي حرام سكر منها أو لم يسكر والمسكر منها حرام باتفاق المسلمين وضررها من بعض الوجوه أعظم من ضرر الخمر ولهذا أوجب الفقهاء فيها الحد كالخمر وتوقف بعض المتأخرين في الحد بها وإن أكلها يوجب التعزير بما دون الحد فيه نظر إذ هي داخلة في عموم ما حرم الله تعالى وأكلتها يتبشون عنها ويشبهونها بشرب الخمر وأكثر وتصدهم عن ذكر الله وإنما لم يتكلم المتقدمون في خصوصها لأنها إنما حدث أكلها في أواخر المائة السادسة أو قريباً من ذلك فكان ظهورها مع ظهور(1/600)
سيف بن بخشخا ولا يجوز التداوي بالخمر ولا بغيرها من المحرمات وهو مذهب أحمد ويجوز شرب لبن الخيل إذ لم يصر مسكراً والصحيح في حد الخمر أحد الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره: أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام كما جوّزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه بالجريد والنعال وأطراف الثياب في بقية الحدود ومن التعزير الذي جاءت به السنة ونص عليه أحمد والشافعي: نفي المخنث وحلق عمر رأس نصر بن حجاج ونفاه لما افتتن به النساء فكذا من افتتن به الرجال من المردان ولا يقدر التعزير بل بما يردع المعزر وقد يكون بالعزل والنيل من عرضه مثل أن يقال له: يا ظالم يا معتدي وبإقامته من المجلس والذين قَدروا التعزير من أصحابنا إنّما هو فيما إذا كان تعزيراً على ما مضى مِن فعل أو ترك فإنْ كان تعزيراً لأجل ترك ما هو فاعل له فهو بمنزلة قتل المرتد والحربي وقتال الباغي والعادي وهذا التعزير ليس يقدر بل ينتهي إلى القتل كما في الصائل لأخذ المال يجوز أن يمنع من الأخذ ولو بالقتل وعلى هذا فإذا كان المقصود دفع الفساد ولم يندفع إلا بالقتل قُتل وحينئذ فمَن تكرر منه فعل الفساد ولم يرتدع بالحدود المقدرة بل استمر على ذلك الفساد فهو كالصائل الذي لا يندفع إلا بالقتل فيقتل قيل: ويمكن أن يخرج شارب الخمر في الرابعة على هذا ويقتل الجاسوس الذي يكرر التجسس وقد ذكر شيئاً من هذا الحنفية والمالكية وإليه يرجع قول ابن عقيل وهو أصل عظيم في صلاح الناس وكذلك تارك الواجب فلا يزال يُعاقب حتى يفعله ومَن قفز إلى بلاد العدو أو لم يندفع ضرره إلا بقتله قُتل والتعزير بالمال سائغ إتلافاً وأخذاً وهو جار على أصل أحمد لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها وقول الشيخ أبي محمد المقدسي ولا يجوز أخذ مال المعزر فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة
ومَن وطئ امرأة مشركة قدح ذلك في عدالته وأُدب والتعزير يكون على فعل المحرمات وترك الواجبات فمَن جنس ترك الواجبات من كتم ما يجب بيانه(1/601)
كالبائع المدلس والمؤجر والناكح وغيرهم من العاملين وكذا الشاهد والمخبر والمفتي والحاكم ونحوهم فإنّ كتمان الحق مشبه بالكذب وينبغي أن يكون سبباً للضمان كما أن الكذب سبب للضمان فإن الواجبات عندنا في الضمان كفعل المحرمات حتى قلنا لو قدر على إنجاء شخص بإطعام أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه فعلى هذا فلو كتم شهادة كتماناً أبطل بها حق مسلم ضمنه مثل أن يكون عليه حق بينه وقد أداه حقه وله بينة بالأداء فكتم الشهادة حتى يغرم ذلك الحق وكما لو كانت وثائق لرجل فكتمها أو جحدها حتى فات الحق ولو قال أنا أعلمها ولا أؤديها فوجوب الضمان ظاهر وظاهر نقل ابن حنبل وابن منصور سماع الدعوى من الأعداء والتحليف في الشهادة ومِن هذا الباب لو كان في القرية أو المحلة أو البلدة رجل ظال فسأل الوالي أو الغريم عن مكانه ليأخذ منه الحق فإنه يجب دلالته عليه بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحق فعلى هذا إذا كتموا ذلك حتى تلف الحق ضمنوه ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب كما يملك تعزير المقر إقراراً مجهولاً حتى يفسره أو من كتم الإقرار وقد يكون التعزير بتركه المستحب كما يعزر العاطس الذي لم يحمد الله بترك تشميته وقال أبو العباس: في موضع آخر والتعزير على الشيء دليل على تحريمه من هذا الباب ما ذكره أصحابنا وأصحاب الشافعي من قتل الداعية من أهل البدع كما قتل الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان القدري وقتل هؤلاء له مأخذان
أحدهما: كون ذلك كفراً كقتل المرتد أو جحوداً أو تغليظاً وهذا المعنى يعم الداعي إليها وغير الداعي وإذا كفروا فيكون قتلهم من باب قتل المرتد والمأخذ الثاني: لما في الدعاء إلى البدعة من إفساد دين الناس ولهذا كان أصل الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث وعلمائهم يفرقون بين الداعي إلى البدعة وغير الداعي في رد الشهادة وترك الرواية عنه والصلاة خلفه وهجره ولهذا ترك(1/602)
في الكتب الستة و "مسند أحمد" الرواية عن مثل عمرو ابن عبيد ونحوه ولم يترك عن القدرية الذين ليسوا بدعاة وعلى هذا المأخذ فقتلهم من باب قتل المفسدين المحاربين لأن المحاربة باللسان كالمحاربة باليد ويشبه قتل المحاربين للسنة بالرأي قتل المحاربين لها بالرواية وهو قتل من يتعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قتل النبي صلى الله عليه وسلم الذي كذب عليه في حياته وهو حديث جيد لما فيه من تغيير سنته وقد قرر أبو العباس هذا مع نظائر له في "الصارم المسلول" كقتل الذي يتعرض لحرمه أو يسبه ونحو ذلك وكما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المفرق بين المسلمين لما فيه من تفريق الجماعة ومن هذا الباب الجاسوس المسلم الذي يخبر بعورات المسلمين ومنه الذي يكذب بلسانه أو بخطه أو يأمر بذلك حتى يقتل به أعيان الأمة علماؤها وأمراؤها فتحصل أنواع من الفساد كثيرة فهذا متى لم يندفع فساده إلا بقتله فلا ريب في قتله وإن جاز أن يندفع وجاز أن لا يندفع قتل أيضاً وعلى هذا جاء قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ} المائدة: 32 وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} المائدة: 33 وأمّا إن اندفع الفساد الأكبر بقتله لكن قد بقي فساد دون ذلك فهو محل نظر
قال أبو العباس: وأفتيت أميراً مقدماً على عسكر كبير في الحربية إذ نهبوا أموال المسلمين ولم ينزجروا إلا بالقتل أن يقتل من يكفون بقتله ولو أنهم عشرة إذ هو من باب دفع الصائل قال: وأمر أميراً خرج لتسكين الفتنة الثائرة بين قيس ويمن وقد قتل بينهم ألفان أن يقتل من يحصل بقتله كف الفتنة ولو أنهم مائة
قال: وأفتيت ولاة الأمور في شهر رمضان سنة أربع بقتل من أمسك في سوق المسلمين وهو سكران وقد شرب الخمر مع بعض أهل الذمة وهو مجتاز بشقة لحم يذهب بها إلى ندمائه وكنت أفتيتهم قبل هذا بأنه يعاقب عقوبتين: عقوبة على الشرب وعقوبة على الفطر فقالوا ما مقدار التعزير فقلت هذا يختلف باختلاف الذنب وحال المذنب وحال الناس وتوقف عن القتل فكبر هذا على الأمراء(1/603)
والناس حتى خفت أنه إن لم يقتل ينحل نظام الإسلام على انتهاك المحارم في نهار رمضان فأفتيت بقتله فقتل ثم ظهر فيما بعد أنه كان يهودياً وأنه أظهر الإسلام والمطلوب له ثلاثة أحوال: أحدها: براءته في الظاهر فهل يحضره الحاكم على روايتين وذكر أبو العباس في موضع آخر أن المدعي حيث ظهر كذبه في دعواه بما يؤذي به المدعى عليه عزر لكذبه ولأذاه وأن طريقة القاضي رد هذه الدعوى على الروايتين بخلاف ما إذا كانت ممكنة ونص أحمد في رواية عبد الله فيما إذا علم بالعرف المطرد أنه لا حقيقة للدعوى لا يعذبه وفيما لم يعرف واحد من الأمرين يعذبه
كما في رواية الأثرم وهذا التفريق حسن
والحال الثاني: إحتمال الأمرين وأنه يحضره بلا خلاف والحال الثالث: تهمته وهو قياس سبب يوهم أن الحق عنده فإن الاتهام افتعال من الوهم وحبسه هنا بمنزلة حبسه بعد إقامة البينة وقبل التعزير أو بمنزلة حبسه بعد شهادة أحد الشاهدين فأما امتحانه بالضرب كما يجوز ضربه لامتناعه من أداء الحق الواجب ديناً أو عيناً ففي المسألة حديث النعمان بن بشير في "سنن أبي داود" لما قال: إن شئتم ضربته فإن ظهر الحق عنده وإلا ضربتكم وقال: هذا قضاء الله ورسوله وهذا يشبه تحليف المدعي إذا كان معه لون فإن اقتران اللون بالدعوى جعل جانبه مرجحا فلا يستبعد أن يكون اقترانه بالتهمة يبيح مثل ذلك والمقصود أنه إذا استحق التعزير وكان متهماً بما يوجب حقاً واحداً مثل أن يثبت عليه هتك الحرز ودخوله ولم يقر بأخذ المال وإخراجه ويثبت عليه الحراب خروجه بالسلاح وشهره له ولم يثبت عليه القتل والأخذ فهذا يعزر لما فعله من المعاصي وهل يجوز أن يفعل ذلك أيضاً امتحاناً لا غير فيجمع بين المصلحتين
هذا قوي في حقوق الآدميين فأمّا في حدود الله تعالى عند الحاجة إلى إقامتها فيحتمل ويقوي ذلك أن يعاقب الإمام من استحق العقوبة بقتل وتوهم العامة أنه عاقبه على بعض الذنوب التي يريد الحذر عنها وهذا أشبه أنه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزواً وروى بغيرها والذي لا ريب فيه أن الحاكم إذا علم(1/604)
كتمانه الحق عاقبه حتى يقر به كما يعاقب كاتم المال الواجب أداؤها فأما إذا احتمل أن يكون كاتماً فهذا كالمتهم سواء وخبر مَن قال له جني بأن فلاناً سرق كذا كخبر إنسي مجهول فيفيد تهمة وإذا طلب المتهم بحق فمن عرف مكانه دلّ عليه والقوادة التي تفسد النساء والرجال ما يجب عليها الضرب البليغ وينبغي شهرة ذلك بحيث يستفيض هذا في النساء والرجال وإذا ركبت دابة وضمت علهيا ثيابها ونودي عليها هذا جزاء مَن يفعل كذا وكذا كان من أعظم الجرائم إذ هي بمنزلة عجوز السوء امرأة لوط وقد أهلكها الله تعالى مع قومها ومَن قال لمن لامه الناس: تقرأون تواريخ آدم وظهر منه قصد معرفتهم بخطيئته عُزر ولو كان صادقاً وكذا من يمسك الجنة ويدخل النار ونحوه وكذا من ينقص مسلماً بأنّه مسلماني أو أباه مع حسن إسلامه ومَن غضب فقال: ما نحن مسلمون إن أراد ذم نفسه لنقص دينه فلا حرج فيه ولا عقوبة ومَن قال: لذمي يا حاج عزر لأن فيه تشبيه قاصد الكنائس بقاصد بيت الله وفيه تعظيم ذلك فهو بمنزلة من يشبه أعياد الكفار بأعياد المسلمين وكذا يعزر مَن يُسمي مِن زار القبور والمشاهد حاجاً إلا أن يسمى حاجاً بقيد كحاج الكفار والضالين ومن سمى زيارة ذلك حجاً أو جعل له مناسك فإنّه ضال مضل ليس لأحد أن يفعل في ذلك ما هو من خصائص حج البيت العتيق وإن اشترى اليهودي نصرانياً فجعله يهودياً عُزر على جعله يهودياً ولا يكون مسلماً ولا يجوز للجذماء مخالطة الناس عموماً ولا مخالطة الناس لهم بل يسكنون في مكان مُفرد لهم ونحو ذلك كما جاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه وكما ذكره العلماء وإذا امتنع ولي الأمر مِن ذلك أو المجذوم أثم بذلك وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق ومِن دعي عليه ظلماً له أن يدعو على ظالمه بمثل ما دعا به عليه نحو أخزاك الله أو لعنك أو يشتمه بغير فرية نحو يا كلب يا خنزير فله أن يقول له مثل ذلك وإذا كان له أن يستعين بالمخلوق مِن وكيل ووالٍ وغيرهما فاستعانته بخالقه أولى بالجواز ومن وجب عليه الحد بقتل أو غيره يسقط عنه بالتوبة وظاهر كلام أصحابنا لا يجب عليه التعزير كقولهم هو واجب في كل معصية لأحد فيها ولا كفارة(1/605)
وذكر أبو العباس: في موضع آخر أن المرتد إذا قبلت توبته ساغ تعزيره بعد التوبة
"فصل"
ويقام الحد ولو كان مَنْ يقيمه شريكاً لمن يقيمه عليه في المعصية أو عوناً له ولهذا ذكر العلماء أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط بذلك بل عليه أن يأمر وينهي ولا يجمع بين معصيتين والرقيق إن زنا علانية وجب على السيد إقامة الحد عليه وإن عصى سراً فينبغي أن لا يجب عليه إقامته بل يخير بين ستره أو استتابته بحسب المصلحة في ذلك كما يخير الشهود على من وجب عليه الحد بين إقامتها عند الإمام وبين الستر عليه واستتابته بحسب المصلحة فإنَّه يرجح أن يتوب إن ستروه وإن كان في ترك إقامة الحد ضرر على الناس كان الراجح فعله ويجب على السيد بيع الأمة إذا زنت في المرة الرابعة ويجتمع الجلد والرجم في حق المحصن وهو رواية عن أحمد اختارها شيوخ المذهب(1/606)
باب حكم المرتد
...
باب حكم المرتد
والمرتد من أشرك بالله تعالى أو كان مبغضاً للرسول صلى الله عليه وسلم ولما جاء به أو ترك إنكار منكر بقلبه أو توهم أن أحداً من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم قاتل مع الكفار أو جاز ذلك أو أنكر مجمعاً عليه إجماعاً قطعياً أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم ومَن شك في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمرتد وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتد ولهذا لم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الشاك في قدرة الله وإعادته لأنه لا يكون إلا بعد الرسالة ومنه قول عائشة -رضي الله عنها-: مهما يكتم الناس يعلمه الله قال: "نعم" وإذا أسلم المرتد عصم دمه وماله وإن لم يحكم بصحة إسلامه حاكم باتفاق الأئمة بل مذهب الإمام أحمد المشهور عنه وهو قول أبي حنيفة والشافعي: أنه مَن شهد عليه بالردة فأنكر حكم بإسلامه ولا يحتاج أن يفي بما شهد عليه به وقد بين الله تعالى أنه يتوب عن أئمة الكفر الذين هم أعظم من أئمة البدع ومن شفع عنده في رجل(1/606)
فقال: لو جاء النبي صلى الله عليه وسلم يشفع فيه ما قبلت منه إن تاب بعد القدرة عليه قتل لا قبلها في أظهر قولي العلماء فيهما ولا يضمن المرتد ما أتلفه بدار الحرب أو في جماعة مرتدة ممتنعة وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال وصاحبه
والتنجيم كالاستدلال بأحوال الفلك على الحوادث الأرضية هو من السحر ويحرم إجماعاً وأقوال المنجمين: إن الله يدفع عن أهل العبادة والدعاء ببركة ذلك ما زعموا أن الأفلاك توجبه وأن لهم من ثواب الدارين ما لا تقوى الأفلاك أن تجلبه وأطفال المسلمين في الجنة إجماعاً وأما أطفال المشركين فأصح الأجوبة فيهم ما ثبت في "الصحيحين": أنه سئل عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين" فلا نحكم على معين منهم لا بجنة ولا نار ويروى أنهم يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع منهم دخل الجنة ومن عصى دخل النار وقد دلّت الأحاديث الصحيحة على أن بعضهم في الجنة وبعضهم في النار والصحيح في أطفال المشركين أنهم يمتحنون في عرصات القيامة(1/607)
كتاب الجهاد
*
...
كتاب الجهاد
ومَن عجز عن الجهاد ببدنه وقدر على الجهاد بماله وجب الجهاد بماله وهو نص أحمد في رواية أبي الحكم وهو الذي قطع به القاضي في "أحكام القرآن" في سورة براءة عند قوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} التوبة: 41 فيجب على الموسرين النفقة في سبيل الله وعلى هذا فيجب على النساء الجهاد في أموالهنَّ إن كان فيها فضل وكذلك في أموال الصغار وإذا احتيج إليها كما تجب النفقات والزكاة وينبغي أن يكون محل الروايتين في واجب الكفاية فأمّا إذا هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه فإنَّ دفع ضررهم عن الدين والنفس والحرمة واجب إجماعاً
قال أبو العباس: سئلت عمن عليه دين وله ما يوفيه وقد تعين الجهاد فقلت: من الواجبات ما يقدم على وفاء الدين كنفقة النفس والزوجة والولد الفقير(1/607)
ومنها ما يقدم وفاء الدين عليه كالعبادات من الحج والكفارات ومنها ما يقدم عليه إلا إذا طولب به كصدقة الفطر فإنْ كان الجهاد المتعين لدفع الضرر كما إذا حضره العدو أو حضر الصف قدم على وفاء الدين كالنفقة وأولى وإن كان استنفار فقضاء الدين أولى إذ الإمام لا ينبغي له استنفار المدين مع الاستغناء عنه ولذلك قلت: لو ضاق المال عن إطعام جياع والجهاد الذي يتضرر بتركه قدمنا الجهاد وإن مات الجياع كما في مسألة التترس وأولى فإنا هناك نقتلهم بفعلنا وهنا يموتون بفعل الله وقلت أيضاً: إذا كان الغرماء يجاهدون بالمال الذي يستوفونه فالواجب وفاؤهم لتحصيل المصلحتين: الوفاء والجهاد ونصوص الإمام أحمد توافق ما كتبته وقد ذكرها الخلال قال القاضي إذا تعين فرض الجهاد على أهل بلد وكان على مسافة يقصر فيها الصلاة فمَن شرط وجوبه الزاد والراحلة كالحج وما قاله القاضي مِن القياس على الحج لم ينقل عن أحمد وهو ضعيف فإنَّ وجوب الجهاد قد يكون لدفع ضرر العدو فيكون أوجب من الهجرة ثم الهجرة لا تعتبر فيها الراحلة فبعض الجهاد أولى وثبت في "الصحيح" من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "على المرء المسلم السمع والطاعة في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه وأثره عليه" فأوجب الطاعة التي عمادها الاستنفار في العسر واليسر وهنا نص في وجوبه مع الإعسار بخلاف الحج
هذا كله في قتال الطلب وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعاً فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده والجهاد منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه ويجب على القعدة لعذر أن يخلفوا الغزاة في أهليهم ومالهم قال المروزي سئل أبو عبد الله عن الغزو في شدة البرد في مثل الكانونين فيتخوف الرجل إن خرج في ذلك الوقت أن يُفَرط في الصلاة فترى له أن يغزو أو يقعد قال: لا يقعد الغزو خير له وأفضل فقد قال الإمام أحمد بالخروج مع خشية تضييع الفرض لأن هذا(1/608)
مشكوك فيه أو لأنه إذا أخر الصلاة بعض الأوقات عن وقتها كان ما يحصل له من فضل الغزو مربياً على ما فاته وكثيراً ما يكون ثواب بعض المستحبات أو واجبات الكفاية أعظم من ثواب واجب كما لو تصدق بألف درهم وزكى بدرهم قال ابن بخنان: سألت أبا عبد الله عن الرجل يغزو قبل الحج قال: نعم إلا أنه بعد الحج أجود وسئل أيضاً عن رجل قدم يريد الغزو ولم يحج فنزل على قوم مثبطوه عن الغزو وقالوا: إنك لم تحج تريد أن تغزو! قال أبو عبد الله: يغزو ولا عليه فإنْ أعانه الله حج ولا نرى بالغزو قبل الحج بأساً
قال أبو العباس: هذا مع أن الحج واجب على الفور عنده لكن تأخيره لمصلحة الجهاد كتأخير الزكاة الواجبة على الفور لانتظار قوم أصلح من غيرهم أو لضرر أهل الزكاة وتأخير الفوائت للانتقال عن مكان الشيطان ونحو ذلك وهذا أجود ما ذكره بعض أصحابنا في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج إن كان وجب عليه متقدماً وكلام أحمد يقتضي الغزو وإن لم يبق معه مال للحج لأنه قال: فإنْ أعانه الله حج مع أن عنده تقديم الحج أولى كما أنه يتعين الجهاد بالشروع وعند استنفار الإمام لكن لو أذن الإمام لبعضهم لنوع مصلحة فلا بأس وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة وأنّه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم ونصوص أحمد صريحة بهذا وهو خير مما في "المختصرات"
لكنْ هل يجب على جميع أهل المكان النفير إذا نفر إليه الكفاية كلام أحمد فيه مختلف وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيراً لا طاقة للمسلمين به لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على مَن يخلفون من المسلمين فهنا قد صرح أصحابنا بأنّه يجب أن يبذلوا مُهجهم ومُهج مَنْ يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإنْ انصرفوا استولوا على الحريم فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الإنصراف فيه بحال ووقعة أحد من هذا الباب والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد وترامي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر(1/609)
الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا يراءا أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا والرباط أفضل من المقام بمكة إجماعاً ولا يستعان بأهل الذمة في عمالة ولا كتابة لأنه يلزم منه مفاسد أو يفضي إليها وسئل أحمد في رواية أبي طالب في مثل الخراج فقال: لا يستعان بهم في شيء ومَنْ تولى منهم ديوناً للمسلمين أينقض عهده ومَنْ ظهر منه أذى للمسلمين أو سعى في فساده لم يجز استعماله وغيره أولى منه بكل حال فإنَّ أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- عهد أن لا يستعمل من أهل الردة أحداً وإن عاد إلى الإسلام لما يخاف من فساد ديانتهم وللامام عمل المصلحة في المال والأسرى لعمل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة
وقال أبو العباس: في رده على الرافضي يقع منها التأويل في الدم والمال والعرض ثم ذكر قتل أسامة للرجل الذي أسلم بعد أن علاه بالسيف وخبر المقداد فقال: قد ثبت أنهم مسلمون يحرم قتلهم ومع هذا فلم يضمن المقتول بقود ولا كفارة ولا دية لأن القاتل كان متأولاً وهذا قول أكثرهم كالشافعي وأحمد وغيرهم وإن مثل الكفار بالمسلمين فالمثلة حق لهم فلهم فعلها للاستيفاء وأخذ الثأر ولهم تركها والصبر أفضل وهذا حيث لا يكون في التمثيل السائغ لهم دعاء إلى الإيمان وحرز لهم عن العدوان فإنّه هنا من إقامة الحدود والجهاد ولم تكن القضية في أحد كذلك فلهذا كان الصبر أفضل فأمّا إن كانت المثلة حق الله تعالى فالصبر هناك واجب كما يجب حيث لا يمكن الانتصار ويحرم الجزع انتهى(1/610)
باب قسمة الغنائم
...
باب قسمة الغنائم وأحكامها
لم ينص الإمام أحمد على أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر ولا على عدمه وإنّما نص على أحكام أخذ منها ذلك فالصواب أنهم يملكون مُلكاً مقيداً لا يساوي ملك المسلمين من كل وجه وإذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين فهي لهم نص عليه الإمام أحمد وقال في رواية أبي طالب: ليس بين المسلمين اختلاف في ذلك.(1/610)
قال أبو العباس: وهذا يرجع إلى أن كل ما قبضه الكفار من الأموال قبضاً يعتقدون جوازه فإنه يستقر لهم بالإسلام كالعقود الفاسدة والأنكحة والمواريث وغيرها ولهذا لا يضمنون ما أتلفوه على المسلمين بالإجماع وما باعه الإمام من الغنيمة أو قَسَّمه وقلنا: لم يملكوه ثم عرف ربه فالأشبه أن المالك لا يملك انتزاعه من المشتري مجاناً لأن قبض الإمام بحق ظاهراً وباطناً ويشبه هذا ما يبيعه الوكيل والوصي ثم يتبين مُودعاً أو مغصوباً أو مرهوناً وكذا القبض والقبض منه واجب ومنه مباح وكذلك صرفه منه واجب ومنه مباح قال في "المحرر" وكل ما قلنا: قد ملكوه ما عدا أم الولد فإذا اغتنمناه وعرفه ربه قبل قسمته رد إليه إن شاء وإلا بقي غنيمة
قال أبو العباس: يظهر الفرق إذا قلنا قد ملكوه يكون الرد ابتداء ملك وإلا كان كالمغصوب وإذا كان ابتداء ملك فلا يملكه ربه إلا بالأخذ فيكون له حق الملك ولهذا قال: وإلا بقي غنيمة والتحقيق أنه فيه بمنزلة سائر الغانمين في الغنيمة وهل يملكونها بالظهور أو بالقيمة على وجهين وعليهما من ترك حقه صار غنيمة ومثله لو ترك العامل حقه في المضاربة أو ترك أحد الورثة حقه أو أحد أهل الوقف المعين حقه ونحو ذلك وعلى ذلك إجازة الورثة ومثله عفو المرأة أو الزوج عن نصف الصداق قال في "المحرر": وإن لم يعرفه ربه بعينه قسم ثمنه وجاز التصرف فيه
قال أبو العباس: أما إذا لم يعلم أنه ملك المسلم فظاهر أنه لا يرده وأمّا إذا علم فهل يكون كاللَقُطة أو كالخمس والفيء واحداً أو يصير مصرفاً في المصالح وهذا قول أكثر السلف ومذهب أهل المدينة ورواية عن أحمد ووجه في مذهبه وليس للغانمين إعطاء أهل الخمس قدره من غير الغنيمة وتحريق رجل الغال من باب التعزير لا الحد الواجب فيجتهد الإمام فيه بحسب المصلحة ومِن العقوبة المالية حرمانه -عليه السلام- السلب للمددي لما كان في أخذه عدواناً على ولي الأمر وإذا قال الإمام: من أخذ شيئاً فهو له أو فُضَّل بعض الغانمين على بعض وقلنا: ليس له ذلك على رواية هل تباح لمن لا يعتقد جواز أخذه ويقال: هذا مبني على(1/611)
الروايتين فيما إذا حكم بإباحة شيء يعتقده المحكوم له حراماً وقد يُقال: يجوز هنا قولاً واحداً لا بالتفرق وإنّا في تصرفات السلطان بين الجواز وبين النفوذ لأنا لو قلنا: تبطل ولايته وقسمه وحكمه لما أمكن إزالة هذا الفساد إلا بأشد فساداً منه فينفذ دفعاً لاحتماله ولما هو شر منه في الوفاء والواجب أن يقال: يباح الأخذ مطلقاً لكن يشترط أن لا يظلم غيره إذا لم يغلب على ظنّه أن المأخوذ أكثر من حقه ففيه نظر والتحريم في الزيادة أقرب وإنْ لم يغلب على ظنه واحد من الأمريْن فالحل أقرب ولو ترك قمسة الغنيمة وترك هذا القول وسكت سكوت الأذن في الانتهاب وأقر على ذلك فهو إذن فإنَّ الأذن منه تارة يكون بالقول وتارة بالفعل وتارة بالإقرار على ذلك فالثلاث في هذا الباب سواء كما في إباحة المالك في أكل طعامه ونحو ذلك بل لو عرف أنه راضٍ بذلك فيما يرون أن يصدر منه قول ظاهر أو فعل ظاهر أو إقرار فالرضا منه بتغيير إذنه بمنزلة أذنه الدال على ذلك إذ الأصل رضاه حتى لو أقام الحد وعقد الأنكحة مَن رضي الإمام بفعله ذلك كان بمنزلة إذنه على أكثر أصولنا فإنَّ الأذن العرفي عندنا كالفظي والرضا الخاص كالإذن العام فيجوز للإنسان أن يأكل طعام من يعلم رضاه بذلك لما بينهما من المودة وهذا أصل في الإباحة والوكالة والولاية لكن لو ترك القسمة ولم يرض بالانتهاب إما لعجزه أو لأخذه المال ونحو ذلك أو أجاز القسمة فهنا مَن قدر على أخذ مبلغ حقه من هذا المال المشترك فله ذلك
لأن مالكيه متعينون وهو قريب مِن الورثة لكن يشترط انتفاء المفسدة من فتنة أو نحوها وترضخ البغال والحمير وهو قياس المذهب والأصول كمن يرضخ لمن لا سهم له من النساء أو العبيد والصبيان وتجوز النيابة في الجهاد إذا كان النائب ممن لم يتعين عليه والطفل إذا سبي يتبع سابيه في الإسلام وإن كان مع أبويه وهو قول الأوزاعي ولأحمد نص يوافقه ويتبعه أيضاً إذا اشتراه ويحكم بإسلام الطفل إذا مات أبواه أو كان نسبه منقطعاً مثل كونه ولد زنا أو منفياً بلعان وقاله غير واحد من العلماء(1/612)
باب الهدنة
...
باب الهدنة
ويجوز عقدها مطلقاً ومؤقتاً والمؤقت لازم من الطرفين يجب الوفاء به ما لم ينقضه العدو ولا ينقض بمجرد خوف الخيانة في أظهر قولي العلماء وأمّا المطلق فهو عقد جائز يعمل الإمام فيه بالمصلحة وسئل أبو العباس: عن سبي ملطية مسلميها ونصاراها فحرم مال المسلمين وأباح سبي النصارى وذريتهم ومالهم كسائر الكفار إذ لا ذمة لهم ولا عهد لأنهم نقضوا عهدهم السابق من الأئمة بالمحاربة وقطع الطريق وما فيه الغضاضة علينا والإعانة على ذلك ولا يعقد لهم إلا مِن عن قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وهؤلاء التتر لا يقاتلونهم على ذلك بل بعد إسلامهم لا يقاتلون الناس على الإسلام ولهذا وجب قتال التتر حتى يلتزموا شرائع الإسلام منها الجهاد والتزام أهل الذمة بالجزية والصغار ونواب التتر الذين يُسمّون الملوك لا يجاهدون على الإسلام وهم تحت حكم التتر ونصارى ملطية وأهل المشرق ويهودهم لو كان لهم ذمة وعهد من ملك مسلم يجاهدهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية كأهل المغرب واليمن لما لم يعاملوا أهل مصر والشام معاملة أهل العهد جاز لأهل مصر والشام غزوهم واستباحة دمهم ومالهم لأن أبا جندل وأبا بصير حاربا أهل مكة مع أن بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهداً وهذا باتفاق الأئمة لأن العهد والذمة إنما يكون من الجانبين والسبي المشتبه يحرم استرقاقه ومن كسب شيئاً فادعاه رجل وأخذه فعلى الآخذ للمأخوذ منه ما غرمه عليه من نفقة وغيرها إن لم يعرف أنه ملكه أو ملك الغير أو عرف وأنفق غير متبرع والله أعلم(1/613)
باب عقد الذمة وأخذ الجزية
...
باب عقد الذمة وأخذ الجزئة
وأخذ الجزية والكتابة الذي بأيدي الخيابرة الذين يدعون أنه بخط علي في إسقاط الجزية عنهم باطل وقد ذكر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم كأبي العباس بن سريج والقاضي ابن يعلى والقاضي الماوردي وذكر أنه إجماع وصدق في ذلك.(1/613)
قال أبو العباس: ثم إنه عام إحدى وسبعمائة جاءني جماعة من يهود دمشق بعهود في كلها: أنه بخط علي بن أبي طالب في إسقاطه الجزية عنهم وقد لبسوها ما يقتضي تعظيمها وكانت قد نفقت على ولاة الأمور في مدة طويلة فأسقطت عنهم الجزية بسببها وبيدهم تواضع ولاة الأمور فلما وقفت عليها تبين لي في نقشها ما يدل على كذبها من وجوه عديدة جداً
إذا كان من أهل الذمة زنديق يبطن جحود الصانع أو جحود الرسل أو الكتب المنزلة أو الشرائع أو المعاد ويظهر التدين بموافقة أهل الكتاب فهذا يجب قتله بلا ريب كما يجب قتل من ارتد من أهل الكتاب إلى التعطيل فإن أراد الدخول في الإسلام فهل يقال أنه يقتل أيضاً ما يقتل منافق المسلمين لأنه ما زال يظهر الإقرار بالكتب والرسل أو يقال: بل دين الإسلام فيه من الهدى والنور ما يزيل شبهته بخلاف دين أهل الكتابين هذا فيه نظر ويمنع أهل الذمة من إظهار الأكل في نهار رمضان فإنَّ هذا من المنكر في دين الإسلام ويمنعون من تعلية البنيان على جيرانهم المسلمين
وقال العلماء: ولو في ملك مشترك بين مسلم وذمي لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب والكنائس العتيقة إذا كانت بأرض العنوة فلا يستحقون إبقاءها ويجوز هدمها مع عدم الضرر علينا وإذا صارت الكنيسة في مكان قد صار في مسجد للمسلمين يصلى فيه وهو أرض عنوة فإنّه يجب هدم الكنيسة التي به لما روى أبو داود في "سننه" عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع قبلتان بأرض" وفي أثر آخر "لا يجتمع بيت رحمة وبيت عذاب" ولهذا أقرهم المسلمون في أول الفتح على ما في أيديهم من كنائس العنوة بأرض مصر والشام وغير ذلك فلما كثر المسلمون وبنيت المساجد في تلك الأرض أخذ المسلمون تلك الكنائس فأقطعوها وبنوها مساجد وغير ذلك وتنازع العلماء في كنائس الصلح إذا استهدمت هل لهم إعادتها على قولين ولو انقرض أهل مصر ولم يبق أحد ممن دخل في العقد المبتدأ فإن انتقض فكالمفتوح عنوة ويمنعون من ألقاب(1/614)
المسلمين كعز الدين ونحوه ومِن حمل السلاح والعمل به وتعلم المقاتلة الدقاف والرمي وغيره وركوب الخيل ويستطب مسلم ذمياً بقعة عنده كما يودعه ويعامله فلا ينبغي أن يعدل عنه ويكره الدعاء بالبقاء لكل أحد لأنه شيء قد فرغ منه ونص عليه الإمام أحمد في رواية أبي أصرم وقال له رجل: جمعنا الله وإياك في مستقر رحمته فقال: لا تقل هذا وكان أبو العباس يميل إلى أنه لا يكره الدعاء بذلك ويقول أن الرحمة ههنا المراد بها الرحمة المخلوقة ومستقرها الجنة وقول طائفة من السلف واختلف كلام أبي العباس في رد تحية الذمي هل ترد مثلها أو وعليكم فقط ويجوز أن يقال: أهلاً وسهلاً ويجوز عيادة أهل الذمة وتهنئتهم وتعزيتهم ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة كرجاء الإسلام وقال العلماء يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام وليس لهم إظهار شيء من شعار دينهم في دار الإسلام لا وقت الاستسقاء ولا عند لقاء الملوك ويمنعون من المقام في الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة والينبع وفدك وتبوك ونحوها وما دون المنحنى وهو عقبة الصواب والشام كمعان والعشور التي تؤخذ من تجار أهل الحرب تدخل في أحكام الجزية وتقديرها على الخلاف واختار أبو العباس: في رده على الرافضي أخذ الجزية في جميع العقار وأنه لم يبق أحد من مشركي العرب بعد بل كانوا قد أسلموا وقال في "الاعتصام بالكتاب والسنة" من أخذها من الجميع أو سوى بين المجوس وأهل الكتاب فقد خالف ظاهر الكتاب والسنة ولا يبقى في يد الراهب مال إلا بلغته فقط ويجب أن يؤخذ منهم مال كالورق التي في الديورة والمزارع إجماعاً ومَن له تجارة منهم أو زراعة وهو مخالطهم أو معاونهم على دينهم كمن يدعو إليه من راهب وغيره تلزمه الجزية وحكمه حكمهم بلا نزاع وإذا أبى الذمي بذل الجزية أو الصغار أو التزام حكمنا ينقض عهده(1/615)
وساب الرسول يقتل ولو أسلم وهو مذهب أحمد ومن قطع الطريق على المسلمين أو تجسس عليهم أو أعان أهل الحرب على سبي المسلمين أو أسرهم وذهب بهم إلى دار الحرب ونحو ذلك مما فيه مضرة على المسلمين فهذا يقتل ولو أسلم ولو قال الذمي هؤلاء المسلمون الكلاب أبناء الكلاب ينغصون علينا إن أراد طائفة معينين عوقب عقوبة تزجره وأمثاله وإن ظهر منه قصد العموم ينقض عهده ووجب قتله(1/616)
باب قسمة الفيئ
...
باب قسمة الفيء
ولا حق للرافضة في الفيء وليس لولاة الأمور أن يستأثروا منه فوق الحاجة كالإقطاع يصرفونه فيما لا حاجة إليه ويقدم المحتاج على غيره في الأصح عن أحمد وعمال الفيء إذا خانوا فيه وقبلوا هدية أو رشوة فمن فرض له دون أجرته أو دون كفايته وكفاية عياله بالمعروف لم يستخرج منه ذلك القدر وإن قلنا لا يجوز لهم الأخذ خيانة فإنه يلزم الإمام الإعطاء كأخذ المضارب حصته أو الغريم دينه بلا إذن فلا فائدة في استخراجه ورده إليهم بل إن لم يصرفه الإمام مصارفه الشرعية لم يعن على ذلك وقد ثبت أن عمر شاطر عماله كسعد وخالد وأبي هريرة وعمرو بن العاص ولم يتهمهم بخيانة بينة بل بمحاباة اقتضت أن جعل أموالهم بينهم وبين المسلمين ومَنْ علم تحريم ما وزنه أو غيره وجهل قدره قسمه نصفين وللإمام أن يخص من أموال الفيء كل طائفة بصنف وكذلك في المغانم على الصحيح وليس للسلطان إطلاق الفيء دائماً ويجوز للإمام تفضيل بعض الغانمين لزيادة منفعة على الصحيح انتهى(1/616)
كتاب الأطعمة
...
كتاب الأطعمة
والأصل فيها الحل لمسلم يعمل صالحاً لأن الله تعالى إنما أحل الطيبات(1/616)
كتاب الزكاة
...
كتاب الذكاة
وإذا لم يقصد المذكي الأكل بل قصد مجرد حل ميتة لم تبح الذبيحة وما أصابه بسبب الموت كأكيلة السبع ونحوها فيه نزاع بين العلماء هل يشترط أن لا يتقي موتها بذلك السبب أو أن يبقى معظم اليوم أو أن أن يبقى فيها حياة بقدر حياة المذبوح أو أزيد من حياته أو يمكن أن يزيد فيه خلاف وإلا ظهر أنه لا يشترط شيء من ذلك بل متى ذبح فخرج منه الدم الأحمر الذي يخرج من المُذكي المذبوح في العادة ليس هو دم الميتة فإنهّ يحل أكله وإن لم يتحرك في أظهر قولي العلماء وتقطع الحلقوم والمريء والودجان والأقوى أن قطع ثلاثة من الأربع يبيح(1/618)
سواء كان فيها الحلقوم أو لم يكن فإنَّ قَطع الودجين أبلغ من قطع الحلقوم وأبلغ من أنهار الدم والقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان أبوه وأجداده في ذلك الدين قبل النسخ والتبديل قول ضعيف بل المقطوع به بأن كون الرجل كتابياً أو غير كتابي هو حكم يستفيده بنفسه لا بنسبه فكل مَن تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم سواء كان أبوه أو جده قد دخل في دينهم أو لم يدخل وسواء كان دخوله بعد النسخ والتبديل أو قبل ذلك وهو المنصوص الصريح عن أحمد وإن كان بين أصحابه خلاف معروف وهو الثابت بين الصحابة بلا نزاع بينهم وذكر الطحاوي أنَّ هذا إجماع قديم والمأخذ الصحيح المنصوص عن أحمد في تحريم ذبائح بني تغلب: أنهم لم يتدينوا بدين أهل الكتاب في واجباتهم ومحظوراتهم بل أخذوا منهم حل المحرمات فقط ولهذا قال علي: أنهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر لا أنا لم نعلم أن أبائهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل فإذا شككنا فيهم هل كان أجدادهم من أهل الكتاب أم لا فأخذنا بالاحتياط فحقنا دمائهم بالجزية وحرمنا ذبيحتهم ونساءهم احتياطاً وهذا ما أخذ الشافعي وبعض أصحابنا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فاحسنوا القِتلة وإذا ذبحتهم فاحسنوا الذِبحة" وفي هذا دليل على أن الإحسان واجب على كل حال حتى في إزهاق النفس ناطقها وبهيمها فعلى الإنسان أن يحسن القتلة للآدمين والذبيحة للبهائم ويحرم ما ذبحه الكتابي لعيده أو ليتقرب به إلى شيء يعظمه وهو رواية عن أحمد والذبيح إسماعيل وهو رواية عن أحمد واختيار ابن حامد وابن أبي موسى وذلك أمر قطعي
فصل
والصيد لحاجة جائز وأما الصيد الذي ليس فيه إلا اللهو واللعب فمكروه وإن كان فيه ظلم للناس بالعدوان على زرعهم وأموالهم فحرام والتحقيق أن المرجع في تعليم الفهد إلى أهل الخبرة فإن قالوا: إنه من جنس تعليم الصقر بالأكل الُحق به وإن قالوا: إنه تعلم بترك الأكل كالكلب أُلحق به وإذا أكل بعد تعلمه لم يحرم ما تقدم من صيده ولم يبح ما أكل منه(1/619)
كتاب الاْيمان
*
...
كتاب الأيمان
الحالف لا بد له من شيئين من كراهة الشرط الجزاء عند الشرط ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفاً سواء قصده الحض والمنع أو لم يكن قال أصحابنا: فإنْ حلف باسم من أسماء الله تعالى التي قد يسمّى بها غيره وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى فهو يمين إن نوى به الله أو أطلق وإن نوى غيره فليس بيمين
قال أبو العباس: هذا من التأويل لأنه نوى خلاف الظاهر فإنْ كان ظالماً لم تنفعه وتنفع المظلوم وفي غيرهما وجهان إذ الكلام المحلوف به كالمحلوف عليه وأظن أن كلام أحمد في المحلوف به نصاً قال في "المحرر": فإنْ قال اسم الله مرفوعاً مع الواو أو عدمه أو منصوباً مع الواو ويعني في القسم باسم فهو يمين إلا أن يكون من أهل العربية ولا يريد اليمين
قال أبو العباس: يتوجه فيمَن يعرف العربية إذا أطلق وجهان كما جاء في "الحاسب" و "النحوي" في الطلاق كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة في اثنين ويتوجه أن هذا يمين بكل حال لأن ربطه جملة القسم يوجب في اللغة أن يكون يميناً لأنه لحن لحناً لا يحيل المعنى بخلاف مسألة الطلاق
قال في "المحرر": وإن قال إيمان البيعة لازم لي أو لم يلزم لي إن فعلت كذا فهذه يمين رتبها الحجاج تتضمن اليمين بالله تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال فإنْ عرّفها الحالف ونواها انعقدت يمينه بما فيها وإلا فلا وقيل تنعقد إذا نواها وإن لم يعرفها وقيل لا تنعقد الأيمان بالله بشرط النية قال أبو العباس قياس إيمان المسلمين تلزمني أنه عرف إيمان البيعة انعقدت بلا نية ويتوجه أيضاً أنها تلزمه بكل حال يعرفها وهو مقتضى قول الخرقي وابن بطة
ثم قال صاحب "المحرر" ولو قال إيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا ألزمه يمين الظهار(1/620)
والطلاق والعتاق والنذر واليمين بالله نوى ذلك أو لم ينو ذكره القاضي وقيل لا يتناوله اليمين بالله تعالى
قال أبو العباس: قياس إيمان البيعة تلزمني أن لا تنعقد إيمان المسلمين تلزمني إلا بالنية وجمع المسلمين
كما ذكره صاحب المحرر كأنه من طريقين ولو قال علي لأفعلن فيمين لأن هذه لام القسم فلا تذكر إلا معه مظهراً أو مقدراً
قال في "المحرر" وإن عقدها يظن صدق نفسه فبان بخلافه فهو كمن حلف على عدم فعل شيء في المستقبل ففعله ناسياً
قال أبو العباس: وهذا ذهول لأن أبا حنيفة ومالكاً يحنثان الناسي ولا يحنثان هذا لأن تلك اليمين انعقدت بلا شك وهذه لم تنعقد ولم يقل أحد أن اليمين على شيء تغيره عن صفته بحيث توجب إيجاباً أو تحرم تحريماً لا ترفعه الكفارة ويجب إبرار القسم على معين ويحرم الحلف بغير الله تعالى وهو ظاهر المذهب وعن ابن مسعود وغيره: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً
قال أبو العباس: لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسبب الكذب أسهل من سبب الشرك واختلف كلام أبي العباس في الحلف بالطلاق فاختار في موضع آخر أنه لا يكره وأنه قول غير واحد من أصحابنا لأنه لم يحلف بمخلوق ولم يلتزم لغير الله شيئاً وإنّما التزم لله كما يلتزم بالنذر والالتزام به بدليل النذر له واليمين به ولهذا لم تنكر الصحابة على من حلف بذلك كما أنكروا على من حلف بالكعبة والعهود والعقود متقاربة المعنى أو متفقة فإذا قال: أعاهد الله أني أحج العام فهو نذر وعهد ويمين وإن قال: لا أكلم زيداً فيمين وعهد لا نذر فالأيمان تضمنت معنى النذر وهو أن يلتزم لله قربة لزمه الوفاء وهي عقد وعهد ومعاهدة لله لأنه التزم لله ما يطلبه الله منه وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس وهو أن يلتزم كل من المتعاقدين للآخر ما اتفقا عليه فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها إن كان العقد لازماً وإن لم يكن لازماً خُيّر وهذه أيمان بنص القرآن ولم يعرض لها ما يحل عقدتها إجماعاً ولو حلف لا يغدر فغدر كفر للقسم إلا لعذر مع أن الكفارة لا ترفع إثمه ومن(1/621)
كرر أيماناً قبل التكفير فروايتان ثالثها وهو الصحيح: إن كانت على فعل فكفارة وإلا فكفارتان ومثل ذلك الحلف بنذور مُكفرة وطلاق مُكَفِر ولا يجوز التعريض لغير ظالم وهو قول بعض العلماء كما لظالم بلا حاجة ولأنه تدليس كتدليس المبيع وقد كره أحمد التدليس وقال: لا يعجبني ونصه: لا يجوز التعريض مع اليمين ولو حلف ليتزوجنَّ على امرأته المنصوص عن أحمد لا يبر حتى يتزوج ويدخل بها ولا يشترط مماثلتها والكلام يتضمن فعلاً كالحركة ويتضمن ما يقترن بالفعل من الحروف والمعاني ولهذا يجعل القول قسيماً للفعل تارة وقسماً منه أخرى وبنى عليه من حلف لا يعمل عملاً فقال قولاً كالقراءة ونحوها هل يحنث وفيه وجهان في مذهب أحمد وغيره والزيات ليست سكين اتفاقاً ولو طالت مدتها(1/622)
باب النذر
...
باب النذر
توقف أبو العباس في تحريمه وحرمه طائفة من أهل الحديث وأما ما وجب بالشرع إذا العبد أو عاهد عليه الله أو بايع عليه الرسول أو للإمام أو تحالف عليه جماعة فإنَّ هذه العقود والمواثيق تقتضي له وجوباً ثانياً غير الوجوب الثابت بمجرد الأمر الأول فيكون واجباً من وجهين وكان تركه موجباً لترك الواجب بالشرع والواجب بالنذر هذا هو التحقيق وهو رواية عن أحمد وقاله طائفة من العلماء ونذر اللجاج وللغضب يُخير فيه بين فعل ما نذره والتكفير ولا يضر قوله على مذهب من يلزم بذلك ولا أقلد من نوى الكفارة ونحوه لأن الشرع لا يتغير بتوكيد وإن قصد الجزاء عند الشرط لزمه مطلقاً عند أحمد ولو قال: إن قدم فلان أصوم كذا فهذا نذر يجب الوفاء به مع القدرة
قال أبو العباس: لا أعلم فيه نزاعاً ومن قال: هذا ليس بنذر فقد أخطأ وقول القائل: لئن ابتلاني الله لأصبرن ولئن لقيت عدواً لأجاهدن ولو علمت أي العمل أحب إلى الله لعملته فهو نذر معلق بشرط كقول الله تعالى: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ}(1/622)
يمين فإنّها لا تجزئ إلا بتعين النية على المشهور والتعيين يسقط بالعذر إلى كفارة أو إلى غير كفارة كالتعيين في رمضان والواجبات غير الصلاة المنذورة أيضاً
قال أصحابنا: ومَن نذر المشي إلى بيت الله تعالى أو موضع من الحرم لزمه أن يمشي في حج أو عمرة فإنْ ترك المشي وركب لعذر أو غيره يلزمه كفارة يمين وعليه دم
قال أبو العباس: إما لغير عذر فالمتوجه لزوم الإعادة كما لو قطع التتابع في الصوم المشروط فيه التتابع أو يتخرج لزوم الكفارة لأن البدل قائم مقام المبدل ولو نذر الطواف على أربع طاف طوافين وهو المنصوص عن أحمد ونقل عن ابن عباس ولو قال: إن فعلت كذا فعلي ذبح ولدي أو معصية غير ذلك أو نحوه وقصد اليمين فيمين وإلا فنذر معصية فيذبح في مسألة الذبح كبشاً ولو فعل المعصية لم تسقط عنه الكفارة ولو في اليمين ويلزم الوفاء بالوعد وهو وجه في مذهب أحمد ويخرج رواية عنه من تعجيل العارية والصلح عن عوض المتلف بمؤجل وإن نذر أن يهب بر بالإيجاب ليمينه وقد يحمل على الكمال انتهى(1/624)
باب القضاء
...
باب القضاء
وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر فهو تنبيه على أنواع الاجتماع والواجب اتخاذه ولاية القضاء ديناً وقربة فإنّها من أفضل القربات وإنّما فسد حال الأكثر لطلب الرئاسة والمال بها ومَن فعل ما يمكنه لم يلزمه ما يعجز عنه وما يستفيده المتولي بالولاية لأحد له شرعاً بل يتلقى من اللفظ والأحوال والعرف وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح ويجب العمل بموجب اعتقاده فيما له وعليه إجماعاً والولاية لها ركنان القوة والأمانة فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل بتنفيذ الحكم والأمانة ترجع إلى خشية الله تعالى
ويشترط في القاضي أن يكون ورعاً والحاكم فيه صفات ثلاث فمِن جهة الإثبات هو شاهد ومن جهة الأمر والنهي هو صفة من جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد لأنه لا بد أن يحكم بعدل ولا يجوز(1/624)
الاستفتاء إلا ممن يفتي بعلم وعدل وشروط القضاء تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره فيولي لعدمه أنفع الفاسقين وأقلهما شراً وأعدل المقلدين وأعرفهما بالتقليد وإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قدم فيما قد يظهر حكمه ويخاف الهوى فيه الأورع وفيما ندر حكمه ويخاف فيه الاشتباه ألا علم وأكثر من يميز في العلم من المتوسطين إذا نظر وتأمل أدلة الفريقين بقصد حسن ونظر تام ترجح عنده أحدهما لكن قد لا يثق بنظره بل يحتمل أن عنده ما لا يعرف جوابه فالواجب على مثل هذا موافقته للقول الذي ترجح عنده بلا دعوى منه للاجتهاد كالمجتهد في أعيان المفتين والأئمة إذا ترجح عنده أحدهما قلده والدليل الخاص الذي يرجح به قول على قول أولى بالأتباع من دليل عام على أن أحدهما أعلم وأدين وعلم الناس بترجيح قول على قول أيسر من علم أحدهم بأن أحدهما أعلم وأدين لأن الحق واحد ولا بد ويجب أن ينصب على الحكم دليلاً وأدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع وتكلم الصحابة فيها وإلى اليوم بقصد حسن بخلاف الإمامية
وقال أبو العباس: النبيه الذي سمع اختلاف العلماء وأدائهم في الجملة وعنده ما يعرف به رجحان القول وليس للحاكم وغيره أن يبتدئ الناس بقهرهم على ترك ما يشرع وألزامهم برأيه اتفاقاً ولو جاز هذا لجاز لغيره مثله وأفضى إلى التفرق والاختلاف وفي لزوم التمذهب بمذهب وامتناع الانتقال إلى غيره وجهان في مذهب أحمد وغيره وفي القول بلزوم طاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه وهو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه ومن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قُتل وإن قال: ينبغي كان جاهلاً ضالاً ومن كان متبعاً لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم وأتقى فقد أحسن وقال أبو العباس: في موضع آخر بل يجب عليه وإنَّ أحمد نص عليه ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع وكره العلماء الأخذ بالرخص ولا يجوز التقليد مع معرفة الحكم اتفاقاً وقبله لا يجوز على المشهور إلا أن يضيق الوقت ففيه(1/625)
وجهان أو يعجز عن معرفة الحق بتعارض الأدلة ففيه وجهان فهذه أربع مسائل والعجز قد يعني به العجز الحقيقي وقد يعني به المشقة العظيمة والصحيح الجواز في هذين الموضعين والقضاء نوعان: أخبار هو إظهار وإبداء وأمر هو إنشاء وابتداء فالخبر ثبت عندي ويدخل فيه خبره عن حكمة وعن عدالة الشهود وعن الإقرار والشهادة والآخر وهو حقيقة الحكم أمر ونهي وإباحة ويحصل بقوله: أعطه ولا تكلمه أو الزمه وبقوله: حكمت وألزمت
قال الحاكم: ثبت عندي بشهادتهما فهذا فيه وجهان أحدهما: أن ذلك حكم كما قاله ابن عقيل وغيره وفعل الحاكم حكم في أصح الوجهين في مذهب أحمد وغيره والوكالة يصح قبولها على الفور والتراخي بالقول والفعل والولاية نوع منها قال القاضي في "التعليق": إذا استأذن امرأة في غير عمله ليزوجها فأذنت له فزوجها في عمله لم يصح العقد لأن إذنها يتعلق بالحكم وحكمه في غير عمله لا ينفذ فإنْ قالت: إذا حصلت في عملك فقد أذنت لك فزوجها في عمله صح بناء على جواز تعليق الوكالة بالشرط ومَن شرط جواز العقد عليها أن تكون في عمله حين العقد عليها فإنْ كانت في غير محله لم يصح عقده لأنه حكم على من ليس في عمله
قال أبو العباس: لا فرق بين أن تقول: زوجني إذا صرت في عملك أو إذا صرت في عملك فزوجني لأن تقييد الوكالة أحسن حالاً من تعليق نعم لو قالت: زوجني الآن أو فهم ذلك من أذنها فهنا أذنت لغير قاض وهذا هو مقصود القاضي
قال في "المحرر": ويجوز أن يولي قاضيين في بلد واحد وقيل: إن ولاهما فيه عملاً واحداً لم يجز
قال أبو العباس: تولية قاضيين في بلد واحد إما أن يكون على سبيل الاجتماع بحيث ليس لأحدهما الإنفراد كالوصيين والوكيلين وإمّا على طريق الإنفراد
أما الأول فليس هو مسألة الكتاب ولا مانع منه إذا كان فوقهما مَن يرد مواضع تنازعهما وأمّا الثاني فهو مسألة الكتاب وتثبت ولاية القضاء بالأخبار وقصة ولاية عمر بن عبد العزيز هكذا كانت وإذا استناب الحاكم في الحكم من غير مذهبه إن كان لكونه أرجح فقد أحسن وإلا لم تجز الإستنابة(1/626)
وإذا حكَّم أحد الخصمين خصمه جاز لقصة ابن مسعود وكذا مُفتَ في مسألة اجتهادية وهل يفتقر ذلك إلى تعيين الخصمين أو حضورهما أو يكفي وصف القصة له الأشبه أنه لا يفتقر بل إذا تراضيا بقوله في قضية موصوفة مطابقة لقضيتهم فقد لزمه فإن أراد أحدهما الامتناع فإنْ كان قبل الشروع فينبغي جوازه وإن كان بعد الشروع لم يملك الامتناع لأنه إذا استشعر بالغلبة امتنع فلا يحصل المقصود
قال القاضي في "التعليق": وعلى أن الحدود تدخل في ولاية القضاء فمَن لا يصلح لبعض ما تتضمنه الولاية لا يصلح لشيء منها ولا تنعقد الولاية له
قال أبو العباس: وكلام أحمد في تزويج الدهقان وتزويج الوالي صاحب الحسير يخالف هذا ولاية القضاء يجوز تبعيضها ولا يجب أن يكون عالماً بما في ولايته فإنّ منصب الاجتهاد ينقسم حتى لو ولاه في المواريث لم يجب أن يعرف إلا الفرائض والوصايا وما يتعلق بذلك وإن ولاه عقد الأنكحة وفسخها لم يجب أن يعرف إلا ذلك وعلى هذا فقضاة الأطراف يجوز أن لا يقضي في الأمور الكبار والدماء والقضايا المشكلة وعلى هذا فلو قال: اقض فيما تعلم كما يقول له: أفت فيما تعلم جاز ويبقى ما لا يعلم خارجاً عن ولايته كما يقول في الحاكم الذي ينزل على حكمه الكفار وفي الحاكم في جزاء الصيد قال في "المحرر" وغيره ويشترط في القاضي عشر صفات
قال أبو العباس: هذا الكلام إنما اشترطت هذه الصفات فيمَن يولي لا فيمن يحكمه الخصمان وذكر القاضي: أن الأعمى لا يجوز قضاؤه وذكره محل وفاق قال: وعلى أنه لا يمتنع أن يقول إذا تحاكما به ورضيا به جاز حكمه
قال أبو العباس: هذا الوجه قياس المذهب كما يجوز شهادة الأعمى إذ لا يعوزه إلا معرفة عين الخصم ولا يحتاج إلى ذلك بل يقضي على موصوف كما قضَى داود بين المالكين ويتوجه أن يصح مطلقاً ويعرف بأعيان الشهود والخصوم كما يعرف بمعاني كلامهم في الترجمة إذ معرفة كلامه وعينه سواء وكما يجوز(1/627)
أن يقضي على غائب باسمه ونسبه وأصحابنا قاسوا شهادة الأعمى على الشهادة على الغائب والميت وأكثر ما في الموضعين عند الرواية والحكم لا يفتقر إلى الرؤية بل هذا في الحاكم أوسع منه في الشاهد بدليل الترجمة والتعريف بالحكم دون الشهادة وما به يحكم أوسع مما به يشهد ولا تشترط الحرية في الحاكم واختاره أبو الخطاب وابن عقيل قال وفي "المحرر": وفي العزل حيث قلنا به قبل العلم وجهان كالوكيل
قال أبو العباس: الأصوب أنه لا ينعزل هنا وإن قلنا ينعزل الوكيل لأن الحق في الولاية لله وإن قلنا هو وكيل والنسخ في حقوق الله لا يثبت قبل العلم كما قلنا على المشهور أن نسخ الحكم لا يثبت في حق من لم يبلغه وفرقوا بينه وبين الوكيل بأن أكثر ما في الوكيل ثبوت الضمان وذلك لا ينافي الجهل بخلاف الحكم فإنَّ فيه الإثم وذلك ينافي الجهل كذلك الأمر والنهي وهذا هو المنصوص عن أحمد ونص الإمام أحمد على أن للقاضي أن يستخلف من غير إذن الإمام فرقا بينه وبين الوكيل وجعلا له كالوصي إلا أنه لا يكره للحاكم شراء ما يحتاجه في مظنة المحاباة والاستغلال والتبدل قال القاضي في "التعليق" قاسه المخالف على الوصي في مباشرة البيع فإنه لا يحابي في العادة والقاضي بخلافه ولا يكره له البيع في مجلس فتياه ولا يكره له قبول الهدية بخلاف القاضي
قال أبو العباس: هذا فيه نظر وتفصيل فإن العالم في هديته ومعاملته شبيه بالقاضي وفيه حكايات عن أحمد والعالم لا يعتاض على تعليمه والقضاة ثلاثة: من يصلح ومن لا يصلح والمجهول فلا يرد من أحكام من يصلح إلا ما علم أنه باطل ولا ينفذ من أحكام مَن لا يَصلحُ إلا ما علم أنه حق واختار صاحب "المغني" وغيره إن كان توليته ابتداء وأما المجهول فينظر فيمن ولاه وإن كان يولي هذا تارة وهذا تارة نفذ ما كان حقاً ورد الباطل والباقي موقوف وبين لا يصلح إذاً للضرورة ففيه مسألتان:(1/628)
إحداهما: على القول بأن من لا يصلح تنقض جميع أحكامه هل ترد أحكام هذا كلها أم يرد ما لم يكن صواباً والثاني المختار لأنها ولاية شرعية والثانية: هل تنفذ المجتهدات من أحكامه أم يتعقبها العالم العادل هذا فيه نظر وإن أمكن القاضي أن يرسل إلى الغائب رسولاً ويكتب إليه الكتاب والدعوى ويجاب عن الدعوى بالكتاب والرسول فهذا هو الذي ينبغي كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمكاتبة اليهود لما ادعى الأنصاري عليهم قتل صاحبهم وكاتبهم ولم يحضروه وهكذا ينبغي أن في كل غائب طلب إقراره أو إنكاره إذا لم يقم الطالب بينة وإن أقام بينة فمن الممكن أيضاً أن يقال: إذا كان الخصم في البلد لم يجب عليه حضور مجلس الحاكم بل يقول: أرسلوا إلى من يعلمني بما يدعي به علي وإذا كان لا بد للقاضي من رسول إلى الخصم يبلغه الدعوى ورد الجواب بإقرار أو إنكار وهذا نظير ما نص عليه الإمام أحمد من أن النكاح يصح بالمراسلة مع أنه في الحضور لا يجوز تراخي القبول عن الإيجاب تراخياً كثيراً ففي الدعوى يجوز أن يكون واحداً لأنه نائب الحاكم كما كان أنيس نائب النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الحد بعد سماع الاعتراف أو يخرج على المراسلة من الحاكم إلى الحاكم وفيه روايتنا فينظر في قضيته خبيراً
قال أبو العباس: فما وجدت إلا واحداً ثم وجدت هذا منصوصاً عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب فإنه نص فيها على أنه أقام بيّنة بالعين المودعة عند رجل سلمت إليه وقضى على الغائب قال: ومن قال بغير هذا يقول: له أن ينتظر بقدر ما يذهب للكتاب ويجيء فإن جاء وإلا أخذ الغلام المودع وكلامه محتمل تخيير الحاكم بين أن يقضي على الغائب وبين أن يكاتبه في الجواب(1/629)
باب الحكم وصفته
...
باب الحكم وصفته
ومسألة تحرير الدعوى وفروعها ضعيفة لحديث الحضرمي في دعواه على الآخر أرضاً غير موصوفة وإذا قيل: لا تسمع الدعوى إلا محررة فالواجب أن(1/629)
مَن ادعى مجملاً استفصله الحاكم وظاهر كلام أبي العباس صحة الدعوى على المتهم كدعوى الأنصار قتل صاحبهم ودعوى المسروق منه على بني أبيرق وغيرهم
ثم المبهم قد يكون مطلقاً وقد ينحصر في قوم كقولها انكحني أحدهما وزوجني أحدهما والثبوت المحض يصح بلا مدعى عليه وقد ذكره قوم من الفقهاء وفعله طائفة من القضاة وسمعت الدعوى في الوكالة من غير حضور الخصم المدعى عليه ونقله ههنا عن أحمد ولو كان الخصم في البلد وتسمع دعوى الاستيلاد وقاله أصحابنا وفسره القاضي بأن يدعى استيلاد أمة فتنكره
وقال أبو العباس: بل هي المدعية ومن ادعى على خصمه أن بيده عقاراً استغله مدة معينة وعينه وإنّه استحقه فأنكر المدعى عليه واقام المدعي بينة باستيلائه لا باستحقاقه لزم الحاكم إثباته والشهادة به كما يلزم البينة أن تشهد به لأنه كفرع مع أصل وما لزم أصلاً الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادات ونحو ذلك إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور بخلاف الحكم ثم إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه وإلا فهو كمالٍ مجهول يصرف في المصالح ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه لا ينزع منه بذلك لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق ولو شهدت له بينة بملكه إلى حين وقفه وأقام وارث بينة أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه قدمت بينة الوارث: أن مورثه اشتراه من الواقف قبل وقفه لأن معها زيادة علم كتقديم مَن شهد له بأنه اشتراه من أبيه على من شهد له بأنه ورثه من أبيه قال القاضي: إذا ادعى على رجل ألفاً من ثمن مبيع أو قرض أو غصب فقال: لا يستحق علي شيئاً ولم أغصبه فهل يكون جواباً يحلف عليه على وجهين:
أحدهما: هو جواب صحيح يحلف عليه والثاني: ليس بجواب صحيح(1/630)
يحلف عليه لأنه يحتمل أن يكون غصبه ثم رده عليه أو أقرضه ثم رده عليه أو باعه ثم رده إليه
قال أبو العباس: إنّما يتوجه الوجهان في أن الحاك هل يلزمه بهذا الجواب أم لا وأما صحته فلا ريب فيها وقياس المذهب: أن الإجمال ليس بجواب صحيح لأن المطلوب قد يعتقد أنه ليس عليه الجهل أو تأويل ويكون واجباً عليه في نفس الأمر أو في مذهب الحاكم ويمين المدعي بمنزلة الشاهد وكما لا يشهد بتأويل أو جهل ومن أصلنا إذا كان له علي ثم أوفيته لم يكن مقراً فلا ضرر عليه في ذلك إلا إذا قلنا بالرواية الضعيفة فقد أطلق أحمد التعديل لي موضع فقال عبد الله: سألت أبي عن أبي يغفور العبدي فقال: ثقة قال داود لأحمد: الأسود بن قيس فقال: ثقة
قال أبو العباس: وعلى هذه الطريقة فكل لفظ يحصل به تعديل الشهود مثل أن يقول الناس فيه: لا نعلم إلا خيراً كما نقل عن شريح وسوار وغيرهما ثم وجدت القاضي قد احتج في المسألة بأنَّ عمر سأل رجلاً عن رجل فقال: لا نعلم إلا خيراً وعلى هذا فلا يعتبر لفظ الشهادة وإن أوجبنا اثنين لأن هذا من باب الاجتهاد بمنزلة تقويم المقوم والقائف لأنه من باب المسموع ومثله المزكي والتفليس والرشد ونحوها فإنَّ هذا كله إثبات صفات اجتهادية ويقبل في الترجمة والجرح والتعديل والتعريف والرسالة قول عدل واحد وهو رواية عن أحمد ويقبل الجرح والتعديل باستفاضة ومقتضى تعليل القاضي أنه لو قال المُزكي: هو عدل لكن ليس على أنه يقبل مطلقاً مثل أن يكون عدو المعدل وشهادة العدو لعدوه مقبولة فوجود العداوة لا يمنع التزكية وإن لم تقبل شهادته على المزكي وإذا كان المدعي به مما يعلمه المدعى عليه فقط مثل أن يدعي الورثة أو الوصي على غريم للميت فيزكي قضى عليه بالنكول وإن كان مما يعلمه المدعي كالدعوى على ورثة ميت حقاً عليه يتعلق بتركته وطلب من المدعي اليمين على البتات فإنْ لم يحلف لم يأخذ وإن كان كل منهما يدعي العلم أو طلب من المطلوب اليمين على نفي العلم فهنا يتوجه القولان والقول بالرد أرجح وأصله أن اليمين ترد على جهة أقوى المتداعيين(1/631)
المجاحدين ولو وصى لطفلة صغيرة تحت نظر أبيها دون الثلث وتوفيت الموصية وقتل والد الطفلة فيحكم للطفلة بمايثبت لها في الوصية ولا يحلف والدها ولا يوقف الحكم إلى بلوغها وخلقها بلا نزاع بل أبلغ من هذا لو ثبت للصبي أو المجنون حق على غائب بما لو كان المستحق بالغاً عاقلاً لحلف على عدم الإبراء والاستيفاء في أحد الوجهين يحكم به للصبي والمجنون ولا يحلف وليه كما نص عليه العلماء ولم يذكر العلماء تحليف البالغ الموصى له في الوصية وإنّما أخذ به بعض الناس قال الإمام أحمد في رواية مهنا في الرجل يقيم الشهود: أيستقيم للحاكم أن يقول: أحلف! فقال: قد فعل ذلك علي ويقيم ذلك قال: إن فعل ذلك علي وقال في رواية إبراهيم بن الحارث في رجل جاء بشهود على حق فقال: المدعى عليه استلحفه لم يلزم المدعي اليمين فحمل القاضي الرواية الأولى على ما إذا لو ادعى على صبي أو مجنون أو غائب والثانية: على ما إذا ادعى على غيره وحمل أبو العباس الرواية الأولى على أن للحاكم أن يفعل ذلك إذا أراد مصلحة لظهور ريبة في الشهور لأنه يجب مطلقاً والثانية: لا يجب مطلقاً: فلا منافاة بين الروايتين كما قلنا في تفريق الشهود بين أين ومتى وكيف فإنَّ الحاكم يفعل ذلك عند الريبة ولا يجب فعله في كل شهادة وكذلك تغليظ اليمين للحاكم أن يفعله عند الحاجة
اختلفت الرواية عن أحمد فيما لو حكم الحاكم بما يرى المحكوم له تحريمه فهل يباح بالحكم على روايتين والتحقيق في هذا أنه ليس للرجل أن يطلب من الإمام ما يرى أنه حرام ومَن فعل هذا فقد فعل ما يعتقد تحريمه وهذا لا يجوز لكن لو كان الطالب غيره أو ابتدأ الإمام بحكمه أو قسمه فهنا يتوجه القول بالحل قال أصحابنا ولا ينقض الحاكم حكم نفسه ولا غيره إلا أن يخالف نصاً أو إجماعاً
قال أبو العباس: يفرق في هذا بما إذا استوفى المحكوم له الحق الذي ثبت له من مال أو لم يستوف فإن استوفى فلا كلام وإن لم يستوف فالذي ينبغي(1/632)
نقض حكم نفسه والإشارة على غيره بالنقض وليس للإنسان أن يعتقد أحد القولين في مسائل النزاع فيما له والقول الآخر فيما عليه باتفاق المسلمين كما يعتقد أنه إذا كان جاراً استحق شفعة الجوار وإذا كان مشترياً لم يجب عليه شفعة الجوار والقضية الواحدة المشتملة على أشخاص أو أعيان فهل للحاكم أن يحكم على شخص أو له بخلاف ما حكم هو أو غيره لشخص آخر أو عليه أو عين مثل أن يدعي في مسألة الحمارية بعض ولد الأبوين فيقضي له بالتشريك ثم يدعى عنده فيقضي عليه بنفي التشريك أو يكون حاكم غيره قد حكم بنفي التشريك لشخص أو عليه فيحكم هو بخلافه فهذا ينبني على أن الحكم لأحد الشريكين أو الحكم عليه حكم عليه وله وقد ذكر ذلك الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لكن هناك يتوجه أن يبقى حق الغائب فيما طريقه الثبوت لتمليكه من قدح الشهود ومعارضته
أما إذا كان طريقة الفقه المحض فهنا لا فرق بين الخصم الحاضر والغائب ثم لو تداعيا في عين من الميراث فهل يقول أحد: أن الحكم باستحقاق عين معينة لا يمنع الحكم بعدم استحقاق العين الأخرى مع اتحاد حكمها من كل وجه هذا لا يقوله أحد يوضح ذلك: أن الأمة اختلفت في هذه المسألة على قولين قائل يقول: يستحق جميع ولد الأبوين جميع التركة وقائل يقول: لا حق لواحد منهم في شيء منها فلو حكم حاكم في وقتين أو حاكمان باستحقاق البعض أو استحقاقهم للبعض لكان قد حكم في هذه القضية بخلاف الإجماع وهذا قد يفعله بعض قضاة زماننا لكن هو ظنين في علمه ودينه بل ممن لا يجوز توليته القضاء هذا طبقات الوقف أو أزمنة الطبقة فإذا حكم حاكم بأن هذا الشخص مستحق لهذا المكان من الوقف ومستحق الساعة بمقتضى شرط شامل لجميع الأزمنة فهو كالميراث وأما إن حكم باستحقاق تلك الطبقة فهل يحكم للطبقة الثانية إذا اقتضى الشرط لهما وأخذ هذا فيه نظر من حيث أن تلقي كل طبقة من الواقف في زمن حدوثها شبيه بما لو مات عتيق شخص فحكم حاكم بميراثه المال وذلك أن كل طبقة من أهل الوقف تستحق ما حدث لها من أهل الوقف عند وجودها مع أن كل عصبة تستحق ميراث المعتقين عند موتهم والأشبه المسألتين ما لو حكم حاكم في عتيق بأن ميراثه لأكبر ثم توفي ابن ذلك العتيق الذي كان محجوباً عن ميراث أبيه(1/633)
فهل لحاكم آخر أن يحكم بميراثه لغير الأكبر هذا يتوجه هنا وفي الوقف مما يترتب الاستحقاق فيه بخلاف الميراث ونحوه مما يقع مشتركاً في الزمان
نقل الشيخ أبو محمد في "الكافي" عن أبي الخطاب: أن الشهود إذا بانوا بعد الحكم كافرين أو فاسقين وكان المحكوم به إتلافاً فإن الضمان عليهم دون المزكين والحاكم قال: لأنهم فوتوا الحق على مستحقه بشهادتهم الباطلة
قال أبو العباس: هذا يبنى على أن الشاهد الصادق إذا كان فاسقاً أو متهماً بحيث لا يحل للحاكم الحكم بشهادته هل يجوز له أداء الشهادة إن جاز له أداء الشهادة بطل قول أبي الخطاب وإن لم يجز كان متوجهاً لأن شهادتهم حينئذ فعل محرم وإن كانوا صادقين كالقاذف الصادق وإذا جوَّزنا للفاسق أن يشهد جوَّزنا للمستحق أن يستشهده عند الحاكم ويكتم فسقه وإلا فلا وعلى هذا فلو امتنع الشاهد الصادق العدل أن يؤدي الشهادة إلا بجعل هل يجوز إعطاؤه الجعل إن لم يجعل ذلك فسقاً فعلى ما ذكرنا قال صاحب "المحرر": وعنه لا ينتقض الحكم إذا كانا فاسقين ويغرم الشاهدان المال لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها اللزوم
قال أبو العباس: وهذا يوافق قول أبي الخطاب ولا فرق إلا في تسميته ضمانها نقضاً وهذا لا أثر له لكن أبو الخطاب يقوله في الفاسق وغير الفاسق على ما حكي عنه وهذا الرواية لا تتوجه على أصلنا إذا قلنا: الجرح المطلق لا ينقض وكان جرح البينة مطلقاً فإنه اجتهاد فلا ينتقض به اجتهاد ورواية عدم النقض أخذها القاضي من رواية الميموني عن أحمد في رجلين شهدا ههنا أنهما دفنا فلاناً بالبصرة فقسم ميراثه ثم إن الرجل جاء بعد وقد تلف ماله قد بين للحاكم أنهما شهدا على زور أيضمنهما ماله قال: وظاهر هذا أنه لم ينقض الحكم لأنه لم يغرم الورثة قيمة ما أتلفوه من المال بل أغرم الشاهدين ولو نقضه لأغرم الورثة ورجعوا بذلك على الشهود لأنهم معذورون فيكون قوله: يضمنهما يعني الورثة
قال أبو العباس: النقض في هذه الصورة لا خلاف فيه فإنْ تبين كذب الشاهد غير تبين فسقه فقول أحمد إما أن يكون ضماناً في الجملة كسائر المتسببين أو يكون استقراراً كما دلّت عليه أكثر النصوص من أن المعذور لا ضمان عليه(1/634)
ولو زكى الشهود ثم ظهر فسقهم ضمن المزكون وكذلك يجب أن يكون في الولاية لو أراد الإمام أن يولي قاضياً أو والياً لا يعرفه فسأل عنه فزكاه أقوام ووصفوه بما يصلح معه للولاية ثم رجعوا أو ظهر بطلان تزكيتهم فينبغي أن يضمنوا ما أفسده الوالي والقاضي وكذلك لو أشاروا عليه وأمروا بولايته لكن الذي لا ريب في ضمانه من تعهد المعصية منه مثل الخيانة أو العجز ويخبر عنه بخلاف ذلك أو يأمر بولايته أو يكون لا يعلم حاله ويزكيه أو يشير له فأما أن اعتقد صلاحه وأخطأ فهذا معذور والسبب ليس محرماً وعلى هذا فالمزكي للعامل من المقترض والمشتري والوكيل كذلك وأخبار الحاكم أنه ثبت عندي بمنزلة أخباره أنه حكم به أما إن قال شهد عندي فلان أوقر عندي فهو بمنزلة الشاهد سواء فإنه في الأول تضمن قوله ثبت عندي الدعوى والشهادة والعدالة والإقرار وهذا من خصائص الحكم بخلاف قوله شهد عندي أو أقر عندي فإنّما يقتضي الدعوى وخبره في غير محل ولايته كخبره في غيره زمن ولايته ونظير أخبار القاضي بعد قوله أخبار أمير الغزو أو الجهاد بعد عزله بما فعله
ومَنْ كان له عند إنسان حق ومنعه إياه جاز له الأخذ من ماله بغير إذنه إذا كان سبب الحق ظاهراً لا يحتاج إلى إثبات مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها واستحقاق الأقارب النفقة على أقاربهم واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به وإن كان سبب الحق خفياً يحتاج إلى إثبات لم يجز وهذه الطريقة المنصوصة عن الإمام أحمد وهي أعدل الأقوال(1/635)
كتاب القضاء
باب القاضي إلى القاضي
...
كتاب القضاء
باب القاضي إلى القاضي
ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود والقصاص وهو قول مالك وأبي ثور في الحدود وقول مالك والشافعي وأبي ثور ورواية عن أحمد في القصاص والمحكوم إذا كان عيناً في بلد الحاكم فإنه يسلمه إلى المدعي ولا حاجة إلى كتاب وأما إن كان ديناً أو عيناً في بلد أخرى فهنا يقف على الكتاب وههنا ثلاث مسائل متداخلات مسألة إحضار الخصم إذا كان غائباً
ومسألة الحكم على الغائب(1/635)
ومسألة كتاب القاضي إلى القاضي ولو قيل: إنما نحكم على الغائب إذا كان المحكوم به حاضراً لأن فيه فائده وهي تسليمه وأما إذا كان المحكوم به غائباً فينبغي أن يكاتب الحاكم بما ثبت عنده من شهادة الشهود حتى يكون الحكم في بلد التسليم لكان متوجهاً وهل يقبل كتاب القاضي بالثبوت أو الحكم من حاكم غير معين مثل أن يشهد شاهدان أن حاكماً نافذ الحكم حكم بكذا وكذا: القياس أنه لا يقل بخلاف ما إذا كان الكاتب معروفاً لأن مراسلة الحاكم ومكاتبته بمنزلة شهادة الأصول للفروع وهذا لا يقبل في الحكم والشهادات وإن قبل في الفتاوى والأخبارات وقد ذكر صاحب "المحرر" ما ذكره القاضي من أن الخصمين إذا أقر بحكم حاكم عليهما خير الثاني بين الامضاء والاستئناف لأن ذلك بمنزلة قول الخصم شهد على شاهدان ذوي عدل فهنا قد يقال بالتخيير أيضاً ومن عرف خطه بإقراره أو إنشاء أو عقد أو شهادة عمل به كالميت فإن حضر وأنكر مضمونه فكاعترافه بالصوت وإنكار مضمونه وللحاكم أن يكتب للمدعى عليه إذا ثبت براءته محضراً بذلك إن تضرر بتركه وللمحكوم عليه أن يطالب الحاكم عليه بتسمية البينة ليتمكن من القدح فيها باتفاق(1/636)
باب القسمة
...
باب القسمة
وما لا يمكن قسم عينه إذا طلب أحد الشركاء بيعه وقسم ثمنه بيع وقسم ثمنه وهو المذهب المنصوص عن أحمد في رواية الميموني وذكره الأكثرون من الأصحاب فيقال على هذا: إذا وقف قسطاً مشاعاً مما لا يمكن قسمة عينه فأنتم بين أمريْن إما بيع النصيب الموقوف وإما إبقاء شركة لازمة وجوابه إما الفرق أو إما الالتزام أما الفرق فيقال: الوقف منع من نقل الملك في العين فلا ضرر في شركة عينه وما الشركة في المنافع فيزول بالمحاباة أو المؤاجرة عليهما والالتزام أن يجوز مثل هذا أو جعل الوقف مفرزاً تقديماً لحق الشريك كما لو طلب قسمة العين وأمكن فإنّا نقدم حق الإقرار على حق الوقف ومن قال هذا فينبغي له أن يقول بقسم الوقف وإن(1/636)
قلنا القسمة بيع ضرورة وقد نص أحمد على بيع الشائعة في الوقف والاعتياض عنها ومن تأمل الضرر الناشئ من الاشتراك في الأموال الموقوفة لم يخف عليه هذا لو طلب أحد الشريكين الإجارة أجبر الآخر معه ذكره الأصحاب في الوقف ولو طلب أحدهم العلو لم يجب بل يكري عليهما على مذهب جماهير العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وإذا أوجبنا على الشريك أن يؤاجر مع صاحبه فأجَّر أحد الشريكين العين المؤجرة بدون إذن شريكه مدة فينبغي أن يستحق أكثر الأمرين من أجرة المثل والأجرة المسماة لأن الأجرة المسماة إذا كانت أكثر فالمستأجر رضي أن ينتفع بها وعلى قياس ذلك كل من اكترى مال غيره بغير إذنه ويلزم إجابة من طلب المحاباة بالزمان والمكان وليس لأحدهما أن يفسخ حتى ينقضي الدور ويستوفي كل واحد منهما حقه منه ولو استوفى أحدهما نوبته ثم تلفت المنافع في مدة الإجارة فإنّه يرجع على الأول ببدل حصته من تلك المدة التي استوفاها ما لم يكن قد رضي بمنفعة الرهن التأخر على أي حال كان جعلاً للتألف قبل القبض كالتالف في الإجارة وسواء قلنا القسمة إفراز أو بيع فإنَّ المعادلة معتبرة فيها على القولين فلهذا يثبت فيها خيار البيع والتدليس وإذا كان بينهما أشجار فيها الثمرة أو أغنام فيها اللبن أو الصوف فهو كاقتسام الماء الحادث والمنافع الحادثة وجماع ذلك انقسام المعدوم لكن لو نقص الحادث المعتاد فللآخر الفسخ قال القاضي: رأيت في "تعليق أبي حفص العكبري" عن أبي عبد الله بن بطة في قوم بينهم كروم فيها ثمرة لم تبلغ مثلي الحصرم فأرادوا قسمتها فقال: لا تجوز قسمتها وفيها غلة لم تقلع لأن القسمة لا تجوز إلا بالقيمة والقسمة كالبيع وكما لا يجوز بيعه كذلك لا تجوز قسمته قال: وهذا يدل من كلام أحمد على أنها بيع
قال أبو العباس: هذا من ابن بطة يقتضي أن بيع الشجر الذي عليه ثمرة لم تبلغ لا يصح لتضمنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وهو خلاف المعروف من المذهب وخلاف قوله: "مَن باع ثمرة قد أبرأت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" ومفهوم كلامه أن الحصرم إذا بلغ جازت القسمة مع أنها إنّما تقسم خرصاً كأنه بيع شاة ذات لبن بشاة ذات لبن وعلى قياسه يجوز عنده بيع نخلة ذات رطب بنخلة ذات رطب لأن الربوي تابع وإذا طلب أحد الشركاء القسمة فيما يقسم لزم(1/637)
الحاكم إجابته ولو لم يثبت عنده أنه ملكه كبيع المرهون والجاني وكلام أحمد في بيع ما لا ينقسم وقسم ثمنه أم فيما يثبت عنده أنه ملكه وما لا يثبت كجميع الأموال التي تباع وإن مثل ذلك لو جاءته امرأة فزعمت أنها خلفه لا ولي لها هل يزوجها بلا بينة وقد نص أحمد في رواية حرب فيمن أقام بينة بسهم من ضيعة بيد قوم بعداً منه تقسم عليهم ويدفع إليه حقه فقد أمر الإمام أحمد الحاكم أن يقسم على الغائب إذا طلب الحاضر وإن لم يثبت ملك الغائب والمكيلات والموزونات المتساوية من كل وجه إذا قسمت لا يحتاج فيها إلى قرعة نعم الإبتداء بالكيل أو الوزن لبعض الشركاء ينبغي أن يكون بالقرعة ثم إذا خرجت القرعة لصاحب الأكثر فهل يوفى جميع حقه أو بقدر نصيب الأقل الأوجه أن يوفى الجميع كما يوفى مثله في العقار بين انصبائه لأن عليه في التفريق ضرراً وحقه من جنس واحد بخلاف الحكومات فإنَّ الخصم لا يقدم إلا بواحدة لعدم ارتباط بعضها ببعض نعم إن تعدد سبب استحقاقه مثل أن يكون ورث ثلث صبرة وابتاع ثلثها فهنا يتوجه وجهان وإذا تهايأ فلاحو القرية الأرض وزرع كل واحد منهم حصته فالزرع له ولرب الأرض نصيبه إلا مَن نزل من نصيب مالك فله أخذ أجرة الفضيلة أو مقاسمتها وأجرة وكيل القرى والأمين لحفظ الزرع على المالك والفلاح كسائر الأملاك فإذا أخذوا من الفلاح بقدرها عليه أو ما يستحقه الضيف حل لهم وإن لم يأخذ الوكيل لنفسه إلا قدر أجرة عمله بالمعروف والزيادة يأخذها المقطع فالمقطع هو الذي ظلم الفلاحين والموقف على جهة واحدة لا تقسم عينة اتفاقاً والله أعلم(1/638)
باب الدعاوى
...
باب الدعاوى
ويجب أن يفرق بين فسق المدعى عليه وعدالته فليس كل مدعى عليه يرضى منه باليمين ولا كل مدع يطالب بالبينة فإنَّ المدعي به إذا كان كبيرة والمطلوب(1/638)
لا تعلم عدالته فمَن استحل أن يقتل أو يسرق استحل أن يحلف لا سيما عند خوف القتل أو القطع ويرجح باليد العرفية إذا استويا في الخشية أو عدمها وإن كانت العين بيد أحدهما فمَن شاهد الحال معه كان ذلك لوناً فيحكم له بيمينه قال الأصحاب: ومن ادعى أنه اشترى أو اتهب من زيد عبده وادعى وكذلك أو ادعى العبد العتق وأقام بينتين بذلك صححنا أسبق التصرفين إن علم التاريخ وإلا تعارضتا فيتساقطان أو يقتسم أو يقرع على الخلاف وعن أحمد تقدم بينة العتق
قال أبو العباس: الأصوب أن البينتين لم يتعارضا فإنَّه مِن الممكن أن يقع العقدان لكن يكون بمنزلة ما لو زوج الوليان المرأة وجهل السابق فأمّا أن يقرع أو يبطل العقدان بحكم أو بغير حكم ولو قامت بينة بأن الولي أجر حصته بأجرة مثلها وبينة بنصفها أخذ بأعلى البينتين وقاله طائفة من العلماء قال في "المحرر" ولو شهد شاهدان أنه أخذ من صبي ألفاً وشاهدان على رجل آخر أنه أخذ من الصبي ألفاً لزم الولي أن يطالبهما بالألفين إلا أن تشهد البينتان على ألف بعينها فيطلب الولي ألفاً من أيهما شاء
قال أبو العباس: الواجب أن يقرع هنا إذا لم يكن فعل كل منهما مضمناً
نقل مهنا عن أحمد في عبد شهد له رجلان بأن مولاه باعه نفسه بألف درهم وشهد لمولاه رجل آخر أنه باعه بألفين يعتق العبد ويحلف لمولاه أنه لم يبعه إلا بألف
قال القاضي: فقد نص على الشاهد واليمين في قدر العوض الذي وقع العتق عليه
قال أبو العباس: بل اختلف الشاهدان وليس هذا مما يتكرر فليس للسيد أن يحلف مع شاهده الأكبر لاختلافهما كما لا يحلف مع شاهده بالقيمة الكثيرة قال أصحابنا: ومن تغليظ اليمين بالمكان عند صخرة بيت المقدس وليس له أصل في كلام أحمد ونحوه من الأئمة بل السنة أن تغلظ اليمين فيها كما تغلظ في سائر المساجد عند المنبر والتغليظ بالمكان والزمان واللفظ لا يستحب على قول أبي البركات ويستحب على قول أبي الخطاب مطلقاً وكلام أحمد في رواية الميموني يقتضي التغليظ مطلقاً من غير تعليق باجتهاد الإمام ولنا قول ثالث يستحب إذا(1/639)
رآه الحاكم مصلحة ومتى قلنا التغليظ مستحب إذا رآه الحاكم مصلحة فينبغي أنه إذا امتنع منه الخصم صار ناكلاً ولا يحلف المدعي عليه بالطلاق وفاقاً(1/640)
كتاب الشهادات
...
كتاب الشهادات
الشهادة سبب مُوجب للحق وحيث امتنع أداء الشهادة امتنعت كتابتها في ظاهر كلام أبي العباس والشيخ أبي محمد المقدسي ويجوز أخذ الأجرة عل أداء الشهادة وتحملها ولو تعينت إذا كان محتاجاً وهو قول في مذهب أحمد ويَحرم كتمها ويقدح فيه ولو كان بيد إنسان شيء لا يستحقه ولا يصل إلى من يستحقه بشهادتهم لم يلزم أداؤها وإن وصل إلى مستحقه بشهادتهم لزم أداؤها وتعين الشهود متأول مجتهد والطلب العرفي أو الحال في طلب الشهادة كاللفظي علمها المشهود له أولاً وهو ظاهر الخبر وخبر "يشهد ولا يستشهد" محمول على شهادة الزور وإذا أدى الآدمي شهادة قبل الطلب قام بالواجب وكان أفضل كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة والمسألة تشبه الخلاف في الحكم قبل الطلب وإذا غلب على ظن الشاهد أنه يمتحن فيدعي إلى القول المخالف للكتاب والسنة أو إلى محرم فلا يسوغ له أداء الشهادة وفاقاً اللهم إلا أن يُظهر قولاً يريد به مصلحة عظيمة ويشهد بالاستفاضة ولو عن واحد تسكن نفسه إليه اختاره الجد
قال القاضي لا تصح الشهادة لمجهول ولا بمجهول
قال أبو العباس: وفي هذا نظر بل تصح الشهادة بالمجهول ويقتضي له بالمتيقن وللمجهول يصح في مواضع كثيرة أما حيث يقع الحق مجهولاً فلا ريب فيها كما لو شهد بالوصية بمجهول أو لمجهول أو شهد باللقطة أو اللقيط والمجهول نوعان مبهم كأحد هذين ومطلق كبعد وكذلك في البيع والإجارة والصداق كما قلنا في الواجب المخير والمطلق قال أبو العباس: وقد سئلت عن بينة شهدت بوقف من دار معينة من دور ثم تهدمت وصارت عُرصة فلم تعرف عين تلك الدار فيها السهم ولا عدد الدور فقلت: يحتمل أن يَقرع قرعتين قرعة لعدد الدور وقرعة لتعيين ذات السهم(1/640)
وكذلك في كل حق اختلط بغيره وجهلنا فيقرع فيكتب رقاعاً بأسماء العدد أخرج لعدد الحق الفلاني والشاهد يشهد بما يسمع وإذا قامت بينة تعين ما دخل في اللفظ قبلت ويتوجه أن الشهادة بالدين لا تقبل إلا مُفسرة للنسب ولو شهد شاهدان أن زيداً يستحق من ميراث مورثه قدراً معيناً أو من وقف كذا وكذا جزءاً معيناً أو أنه يستحق منه نصيب فلان ونحو ذلك فكل هذا لا تقبل فيه الشهادة إلا مع إثبات النسب لأن الإنتقال في الميراث والوقف حكم شرعي يدرك باليقين تارة وبالاجتهاد أخرى فلا تقبل حتى يتبين سبب الانتقال بأن يشهدا بشرط الواقف وبمن بقي من المستحقين أو يشهدا بموت المورث وبمن خلف من الورثة وحينئذ فإن رأى الحاكم أن ذلك السبب يفيد الانتقال حكم به وإلا ردت الشهادة وقبول مثل هذه الشهادات يوجب أن تشهد الشهود بكل حكم مجتهد فيه مما اختلف فيه أو اتفق عليه وأنه يجب على الحكام الحكم بذلك فتصير مذاهب الفقهاء مشهوداً بها حتى لو قال الشاهد في مسألة الحمارية: أشهد أن هذا يستحق مِن تركة الميت بناء على اعتقاده التشريك يتعين أن ترد مثل هذه الشهادة المطلقة وقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} يقتضي أنه يقبل في الشهادة على حقوق الآدميين من رضوه شهيداً بينهم ولا ينتظر إلى عدالته كما تكون مقبولاً عليه فيما ائتمنوه عليه وقوله تعالى في آية الوصية {حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} المائدة: 106 أي صاحبا عدل العدل في المقال هو الصدق والبيان الذي هو ضد الكذب والكتمان كما بينه الله تعالى في قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} الأنعام: 152 والعدل في كل زمان ومكان وطائفة بحسبها فيكون الشاهد في كل قوم من كان ذا عدل فيهم وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدله على وجه آخر وبهذا يمكن الحكم بين الناس وإلا فلو اعتبر في شهود كل طائفة أن لا يشهد عليهم إلا من يكون قائماً بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصحابة لبطلت الشهادات كلها أو غالبها وقال أبو العباس: في موضع آخر إذا فسر الفاسق في الشهادة بالفاجر وبالمتهم فينبغي أن يفرق بين حال الضرورة وعدمها كما قلنا في الكفار وقال أبو العباس في موضع: ويتوجه أن تقبل شهادة المعروفين بالصدق(1/641)
وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضرورة مثل الحبس وحوادث البدو وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل وله أصول منها: قبول شهادة أهل الذمة في الوصية وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل وشهادة الصبيان فيما لا يطلع عليه الرجال ويظهر ذلك بالمحتضر في السفر إذا حضره اثنان كافران واثنان مسلمان يصدقان وليسا بملازمين للحدود أو اثنان مبتدعان فهذان خير من الكافرين والشروط التي في القرآن إنّما هي في استشهاد التحمل لا الأداء وينبغي أن نقول في الشهود ما نقول في المحدثين وهو أنه مَن الشهود من تقبل شهادته في نوع دون نوع أو شخص دون شخص كما أن المحدثين كذلك ونبأ الفاسق ليس بمردود بل هو موجب للتبين عند خبر الفاسق الواحد ولم يؤمر به عند خبر الفاسقين وذلك أن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد
أما إذا علم أنهما لم يتواطئا فهذا قد يُحّصل العلم وترد الشهادة بالكذبة الواحدة وإن لم نقل هي كبيرة وهو رواية عن أحمد ومَن شهد على إقرار شرعية قدح ذلك في عدالته ولا يستريب أحد فيمَن صلى مُحدثاً أو إلى غير القبلة أو بعد الوقت أو بلا قراءة أنه كبيرة ويحرم اللعب بالشطرنج وهو قول أحمد وغيره من العلماء كما لو كان بعوض أو تضمن ترك واجب أو فعل محرم إجماعاً وهو شر من النرد وقاله مالك ومن ترك الجماعة فليس عدلاً ولو قلنا هي سنة وتحرم محاكاة الناس المضحكة ويعزر هو ومن يأمر به لأنه أذى ومن دخل قاعات العلاج فتح على نفسه باب الشر وصار من أهل التهم عند الناس لأنه اشتهر عمن اعتاد دخولها وقوعه في مقدمات الجماع أو فيه والعشرة المحرمة والنفقة في غير الطاعة وعلى كافر والأمرد منع منها ومن عشرة أهلها ولو بمجرد خوف وقوع الصغائر فقد بلغ عمر أن رجلاً يجتمع إليه الأحداث فنهى عن الاجتماع به بمجرد الريبة
وتقبل شهادة الكافر على المسلم في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيره وهو مذهب أحمد ولا تعتبر عدالتهم وإن شاء لم يحلفهم بسبب حق الله ولو حكم حاكم بخلاف آية الوصاية لنقض حكمه فإنه خالف نص الكتاب بتأويلات سمعة وقول أحمد: أقبل شهادة أهل الذمة إذا كانوا في سفر ليس فيه غيرهم هذه ضرورة(1/642)
أبو طالب: قال أبو عبد الله العلم شهادة وزاد أبو بكر بن حماد قال أبو حماد قال أبو عبد الله قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} الزخرف: 86 وقال {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} يوسف: 81 وقال المروزي: ظن أني سمعت أبا عبد الله يقول: هذا جهل أقول فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أشهد أنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو العباس: ولا أعلم نصاً يخالف هذا ولا يعرف عن صحابي ولا تابعي اشترط لفظ الشهادة ولا يعتبر في أداء الشهادة وأن الدين باق في ذمة الغريم إلى الآن بل يحكم الحاكم باستصحاب الحال إذا ثبت عنده سبق الحق إجماعاً ويعرض في الشهادة إذا خاف الشاهد من إظهار الباطن ظلم المشهود عليه وكذلك التعريض في الحكم إذا خاف الحاكم من إظهار الأمر وقوع الظلم وكذلك التعريض في الفتوىوالرواية كاليمين وأولى إذ اليمين خبر وزيادة
"فصل"
قصة أبي قتادة وخزيمة تقتضي الحكم بالشاهد في الأموال وقال القاضي في التعليق الحكم بالشاهد الواحد غير متبع كما قاله المخالف في الهلال في الغيم وفي القابلة على أنا لا نعرف الرواية بمنع الجواز
قال أبو العباس: وقد يقال اليمين مع الشاهد الواحد حق للمستحلف وللإمام فله أن يسقطها وهذا أحسن ويعتبر في شهادة الإعسار بعد اليسار ثلاثة وفي حل المسألة وفي دفع الغرماء وكلام القاضي يدل عليه ولو قيل: إنه يحكم بشهادة امرأة واحدة مع يمين الطالب في الأموال لكان القاضي يدل عليه ولو قيل: إنه يحكم بشهادة امرأة واحدة مع يمين الطالب في الأموال لكان متوجهاً لأنهما أقيما الرجل في التحمل وتثبت الوكالة ولو في الرضاع فإن عقبة بن الحارث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن المرأة أخبرته أنها أرضعته فنهاه عنها من غير سماع من المرأة وقد احتج به الأصحاب في قبول شهادة المرأة الواحدة في الرضاع فلولا أن الإقرار بالشهادة بمنزلة الشهادة ما صحت الحجة يؤيده أن الإقرار بحكم الحاكم بالعقد الفاسد يسوغ إلى الحاكم الثاني أن ينفذه مع مخالفته لمذهبه
وشاهد الزور إذا تاب بعد الحكم فيما لا يبطل برجوعه فهنا قد يتعلق به حق(1/645)
آدمي فلا يسقط عنه التعزير وأما إذا تاب قبل الحكم أو بعد الحكم فيما يبطل برجوعه فهنا لمن يتعلق به حق آدمي ثم تارة يجيء إلى الإمام تائباً فهذا بمنزلة قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة وتارة يتوب بعد ظهور تزويره فهنا لا ينبغي أن يسقط عنه التعزير ومَنْ شهد بعد الحكم شهادة تنافي شهادته الأولى فكرجوعه عن الشهادة وأولى وأفتى أبو العباس في شاهد قاس بكذا وكتب خطه بالصحة فاستخرج الوكيل على حكمه ثم قاس وكتب خطه بزيادة فغرم الوكيل الزيادة
قال أبو العباس: يغرم الشاهد ما غرمه الوكيل من الزيادة بسبب تعمد الكذب أوالخطأ كالرجوع والله سبحانه وتعالى أعلم
آدمي فلا يسقط عنه التعزير وأما إذا تاب قبل الحكم أو بعد الحكم فيما يبطل برجوعه فهنا لمن يتعلق به حق آدمي ثم تارة يجيء إلى الإمام تائباً فهذا بمنزلة قاطع الطريق إذا تاب قبل القدرة وتارة يتوب بعد ظهور تزويره فهنا لا ينبغي أن يسقط عنه التعزير ومَنْ شهد بعد الحكم شهادة تنافي شهادته الأولى فكرجوعه عن الشهادة وأولى وأفتى أبو العباس في شاهد قاس بكذا وكتب خطه بالصحة فاستخرج الوكيل على حكمه ثم قاس وكتب خطه بزيادة فغرم الوكيل الزيادة
قال أبو العباس: يغرم الشاهد ما غرمه الوكيل من الزيادة بسبب تعمد الكذب أوالخطأ كالرجوع والله سبحانه وتعالى أعلم(1/646)
كتاب الإقرار
...
" كتاب الإقرار"
والتحقيق أن يقال: إن المخبر إن أخبر بما على نفسه فهو مُقر وإن أخبر بما على غيره لنفسه فهو مُدع وإن أخبر بما على غيره لغيره فإن كان مؤتمناً عليه فهو مخبر وإلا فهو شاهد فالقاضي والوكيل والمكاتب والوصي والمأذون له كل هؤلاء ما أدوه مؤتمنون فيه فأخبارهم بعد العزل ليس إقراراً وإنّما هو خبر محض وإذا كان الإنسان ببلد سلطان أو قطاع طريق ونحوهم من الظلمة فخاف أن يؤخذ ماله أو المال الذي يتركه لورثته أو المال الذي بيده للناس إمّا بحجة أنه ميت لا وارث له أو بحجة أنه مال غائب أو بلا حجة أصلاً فيجوز له الإقرار بما يدفع هذا الظلم ويحفظ هذا المال لصاحبه مثل أن يقر لحاضر أنه ابنه أو يقر أن له عليه كذا وكذا أو يقر أن المال الذي بيده لفلان ويتأول في إقراره بأن يعني بقوله ابني كونه صغيراً أو بقوله: أخي إخوة الإسلام وأن المال الذي بيده له: أي له لأنه قبضه لكوني قد وكلته في إيصاله أيضاً إلى مستحقه لكن يشترط أن يكون المقر له أميناً والاحتياط أن يشهد على المقر له أيضاً أن هذا الإقرار تلجئة تفسيره كذا وكذا وإن أقر من شك في بلوغه وذكر أنه لم يبلغ(1/646)
فالقول قوله بلا يمين قطع به في "المغني" و "المحرر" لعدم تكليفه ويتوجه أن يجب عليه اليمين لأنه إن كان لم يبلغ لم يضره وإن كان قد بلغ حجزته فأقر بالحق
نص الإمام أحمد في رواية ابن منصور إذا قال البائع: بعتك قبل أن أبلغ وقال المشتري بعد بلوغك أن القول قول المشتري وهكذا يجيء في الإقرار وسائر التصرفات هل وقعت قبل البلوغ أو بعده لأن الأصل في العقود الصحة فأما أن يقال: هذا عام وأما أن يفرق بين أن يتيقن أنه وقت التصرف كان مشكوكاً فيه غير محكوم ببلوغه أو لا يتيقن فإنا مع تيقن الشك قد تيقنا صدور التصرف ممن لم يثبت أهليته والأصل عدمها فقد شككنا في شرط الصحة وذلك مانع من الصحة وأمّا في الحالة الأخرى فإنه يجوز صدوره في حال الأهلية وحال عدمها والظاهر صدوره وقت الأهلية والأصل عدمه قبل وقتها فالأهلية هنا متيقن وجودها
ثم ذكر أبو العباس أن مَن لم يقر بالبلوغ حتى تعلق به حق مثل إسلامه بإسلام أبيه أو ثبوت الذمة تبعاً لأبيه أو بعد تصرف الولي له أو تزويج ولي أبعد منه لموليته فهل يقبل منه دعوى حينئذ أم لا لثبوت هذه الأحكام المتعلقة به في الظاهر قبل دعواه وأشار أبو العباس إلى تخريج المسألة على الوجهين فيما إذا راجع الرجعية زوجها فقالت: قد انقضت عدتي وشبيه أيضاً بما ادعى المجهول المحكوم بإسلامه ظاهراً كاللقيط الكفر بعد البلوغ فإنه لا يسمع منه على الصحيح وكذلك لو تصرف المحكوم بحريته ظاهراً كاللقيط ثم ادعى الرق ففي قبول قوله خلاف معروف وإذا أقر المريض مرض الموت المخوف لوارث فيحتمل أن يجعل إقراره لوارث كالشهادة فترد في حق من ترد شهادته له كالأب بخلاف من لا ترد ثم هذا هل يحلف المقر له معه كالشاهد وهل يعتبر عدالة المقر ثلاث احتمالات ويحتمل أن يفرق مطلقاً بين العدل وغيره فإن العدل معه من الدين ما يمنعه من الكذب ونحوه في براءة ذمته بخلاف الفاجر ولو حلف المقر له مع هذا تأكد فإن في قبول الإقرار مطلقاً فساداً عظيماً وكذلك في رده مطلقاً ويتوجه(1/647)
فيمن أقر في حق الغير وهو غير متهم كإقرار العبد بجناية الخطأ وإقرار القاتل بجناية الخطأ أن يجعل المقر كشاهد ويحلف معه المدعي فيما ثبت شاهد آخر كما قلنا في إقرار بعض الورثة بالنسب هذا هو القياس والاستحسان وإقرار العبد لسيده ينبني على ثبوت مال السيد في ذمة العبد ابتداءً ودواماً وفيها ثلاثة أوجه في الصداق وإقرار سيده له ينبني على أن العبد إذا قيل يملك هل يثبت له دين على سيده قال في "الكافي": وإن أقر العبد بنكاح أو قصاص أو تعزير قذف صح وإن كذبه الولي
قال أبو العباس: وهذا في النكاح فيه نظر فإنَّ العبد لا يصح نكاحه بدون إذن سيده لأن في ثبوت نكاح العبد ضرراً عليه فلا يقبل إلا بتصديق السيد
قال: وإن أقر لعبده غيره بمال صح وكان لسيده
قال أبو العباس: وإذا قلنا يصح قبول الهبة والوصية بدون إذن السيد لم يفتقر الإقرار إلى تصديق السيد وقد يقال: بل وإن لم تقل بذلك لجواز أن يكون قد يملك مباحاً فأقر بعينه أو تلفه وتضمن قيمته وإذا حجر المولي على المأذون له فأقر بعد الحجر قال القاضي وغيره: لا يقبل وقياس المذهب تتبعض ومتى ثبت نسب المقر له من المقر ثم رجع المقر وصدقه المقر له هل يقبل رجوعه فيه وجهان حكاهما في "الكافي"
قال أبو العباس: إن جعل النسب فيه حقاً لله تعالى فهو كالجزية وإن جعل حق آدمي فهو كالمال والأشبه أنه حق آدمي كالولاء ثم إذا قبل الرجوع عنه فحق الأقارب الثابت من المحرمية ونحوها هل يزول أو يكون كالإقرار بالرق تردد نظر أبي العباس في ذلك فأمّا إن ادعى نسباً ولم يثبت لعدم تصديق المقر له أو قال: أنا فلان ابن فلان وانتسب إلى غير معروف أو قال: لا أب لي أو لا نسب لي ثم ادعى بعد هذا نسباً آخر أو ادعى أن له أباً فقد ذكر الأصحاب في باب ما علق من النسب أن الأب إذا اعترف بالابن بعد نفيه قبل منه فكذلك غيره لأن هذا النفي والإقرار بمحل ومنكر لم يثبت به نسب فيكون إقراره بعد ذلك مقبولاً كما قلنا فيما إذا أقر بمال لمكذب إذا لم يجعله ليثبت المال فإنّه إذاً إذا(1/648)
ادعى المقر بعد هذا أنه ملكه قبل منه وإن كان المقر به رق نفسه فهو كغيره بناء على أن الإقرار المكذب وجوده كعدمه وهناك على الوجه الآخر يجعله بمنزلة المال الضائع أو المجهول فيحكم بالجزية وبالمال ليثبت المال وهنا يكون بمنزلة مجهول ينسب فيقبل به الإقرار ثانياً وسر المسألة أن الرجوع عن الدعوى مقبول والرجوع عن الإقرار غير مقبول والإقرار الذي لم يتعلق به حق الله ولا الآدمي هو من باب الدعاوى فيصح الرجوع عنه ومن أقر بطفل له أم فجاءت أمه بعد موت المقر تدعي زوجيته فالأشبه بكلام أحمد ثبوت الزوجية فهنا حمل على الصحة وخالف الأصحاب في ذلك ومن أقر بقبض ثمن أو غيره ثم أنكر وقال: ما قبضت وسأل خلاف خصمه فله ذلك في اصح قولي العلماء ولا يشترط في صحة الإقرار كون المقر به بيد المقر والإقرار قد يكون بمعنى الإنشاء كقوله: {إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} آل عمران: 81 ولو أقر به وأراد إنشاء تمليكه صح ومن أنكر زوجية امرأة فأبرأته ثم أقر بها كان لها طلبها بحقها ومن أقر وهو مجهول نسبه ولا وارث حي أخ أو عم فصدقه المقر له وأمكن قبل صدقه المولي أو لا وهو قول أبي حنيفة وذكره الحل تخريجاً وكل صلة كلام مغيرة له استثناء وغير المتقارب فيها متواصل والإقرار مع الاستدراك متواصل وهو احد القولين ولو قال في الطلاق أنه سبق لسانه لكان كذلك ويحتمل أن يقبل الإقرار المتصل ومن أقر بملك ثم ادعى شراءه قبل إقراره ولا يقبل ما يناقض إقراره إلا مع شبهة معتادة ولو أبان زوجته في مرضه فأقر وارث شافعي: أنه وارثه وأقبضها وورثها مع علمه بالخلاف لم يكن له دعوى ما يناقضه ولا يسوع الحكم له وقياس المذهب فيما إذا قال أنا مقر في جواب الدعوى أن يكون مقرا بالمدعي به لأن الممفعول ما في الدعوى كما قلنا في قوله قبلت أن القبول ينصرف إلى الإيجاب لا إلى شيء آخر وهو وجه في الممذهب
وأما إذا قال لا أنكر ما تدعيه فبين الإنكار والإقرار مرتبة وهي السمون ولو قال الرجل انا لا أكذب فلانا لم يكن مصدقا له فالمتوجه أنه مجرد نفي الأنكار إن لم ينضم إليه قرينة بأن يكون المدعي مما يعلمه المطلوب وقد ادعى عليه علمه(1/649)
وإلا لم يكن إقرارا حكى صاحب الكافي عن القاضي أنه قال فيما إذا قال المدعي لي عليك ألف فقال المدعي عليه قضيتك منها مائة أنه ليس بإقرار لأن المائة قد رفعها بقوله والبافي لم يقربه وقوله منها يحتمل ما تدعيه
قال أبو العباس هذا يخرج على أحد الوجهين في أبرأتها وأخذتها وقبضتها أنه مقر هنا بالألف لأن الهاء يرجع إلى المذكرور ويتخرج أن يكون مقرأ بالمائة على رواية في قوله كان له على وقضيته ثم هل يكون مقرا بها وحدها أو الجميع على ما تقدم والصواب في الإقرار المعلق بشرط أن نفس الإقرار لا بتعلق وإنما يتعلق المقربه لأن المقر به قد يكون معلقا بسبب قد يوجبه أو يوجب أداءه دليل يظهره فالأول كما لو قال مقراً إذا زيد فعلي لفلان ألف صح وكذلك إن قال إن رد عبده الآبق فله ألف ثم أقر بها فقال: إن رد عبده الآبق فله ألف صح
وكذلك الإقرار بعوض الخلع لو قالت: إن طلقتني أو إن عفا عني فله عندي ألف وأما التعليق بالشهادة فقد يشبه التحكيم ولو قال: إن حكمت علي بكذا التزمته لزمه عندنا فلذلك قد يرضى بشهادته وهو في الحقيقة التزام وتزكية للشاهد ورضي بشهادة واحد وإذا أقر العامي بمضمون محض وادعى عدم العلم بدلالة اللفظ ومثله يجهله قُبل منه على المذهب وإذا أقر لغيره بعين له فيها حق لا يثبت إلا برضى المالك كالرهن والإجارة ولا بينة قال الأصحاب: يقبل ويتوجه أن يكون القول قوله لأن الإقرار ما تضمن ما يوجب تسليم العين أو المنفعة فما أقر ما يوجب التسليم كما في قوله: كان له علي وقضيته ولأنا نجوز مثل هذا الاستثناء في الإنشاءات في البيع ونحوه فكذلك في الإقرارات والقرآن يدل على ذلك في آية الدين وكذا لو أقر بفعل فعله وادعى إذن المالك والاستثناء يمنع دخول المستثنى في اللفظ لأنه يخرجه بعد ما دخل في الأصح
قال القاضي: ظاهر كلام أحمد جواز استثناء النصف لأن أبا منصور روى عن أحمد إذا قال كان لك عندي مائة دينار فقضيتك منها خمسين وليس بينهما بينة فالقول قوله
قال أبو العباس: ليس هذا من الاستثناء المختلف فيه فإنَّ قوله قضيتك(1/650)
ستين مثل خمسين قال أبو حنيفة إذا قال له علي كذا وكذا درهماً لزمه أحد عشر درهماً وإن قال كذا وكذا درهماً لزمه إحدى وعشرين وإن قال كذا درهم لزمه عشرون وما قاله أبو حنيفة أقرب مما قاله أصحابنا فإنَّ أصحابنا بنوه على أن كذا وكذا تأكيداً وهو خلاف لأنه يكفيه أن يقول كذا درهماً لما كان في أراد درهماً وأيضاً لو لغت العرب هو خلاف لا النصب ثم يقتضي الرفع لهما وهذا مثل الترجمة وأن الدرهم المعروف الظاهر أن يقول درهم والواجب أن يفرق بين الشيئين الذي يتصل أحدهما بالأرض عادة كالقراب في السيف والخاتم في الفص لأن ذلك إقرار بهما وكذلك الزيت في الزق والتمرة في الجراب ولو قال غصبته ثوباً في منديل كان إقراراً بهما لا له عندي ثوب في منديل فإنه بالثوب خاصة وهو قول أبي حنيفة
وإذا قال له علي من درهم إلى عشرة أو ما بين الدرهم إلى العشرة فلهذا أوجه أحدها: يلزمه تسعة وثانيها: عشرة وثالثها: ثمانية والذي ينبغي أن يجمع بين الطرفين من الأعداد فإذا قال من واحد إلى عشرة لزمه خمسة وخمسون إن أدخلنا الطرفين وخمسة وأربعون إن أدخلنا المبتدأ فقط وأربعة وأربعون إن أخرجناهما ويعتبر في الإقرار عرف المتكلم فيحمل مطلق كلامه على أقل محتملاته والله سبحانه وتعالى أعلم(1/651)