ما يرجع إليه في الأيمان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:(403/2)
الرجوع إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ
فيقول المصنف رحمه الله: [باب جامع الأيمان: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف إذا احتملها اللفظ].
أي: يرجع في الأيمان إلى نية الحالف وقصده؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] وقال سبحانهه في الآية الأخرى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة:89] فإذا كانت اليمين في الأصل لا تنعقد إلا إذا قصد الشخص عقدها، فإذا لم يقصد عقدها بأن جرت على لسانه كانت لغواً ساقطة، دل هذا على قوة تأثير النية، فإذا كانت اليمين لا تنعقد إلا عند القصد والتوجه والنية، فمن باب أولى أن لا تنعقد في الألفاظ والكلمات ما دام أن اللفظ محتمل ويرجع إلى نيته.
والأصل في ذلك حديث عمر رضي الله عنه في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات) والأعمال شاملة للأقوال والأفعال، واليمين قول، فتدخل تحت هذا العموم، فدل على أنه لابد من الرجوع إلى نية الحالف.
وصورة المسألة: لو قال: والله لا أركب السيارة.
فالسيارة لفظ عام يشمل السيارة الصغيرة والكبيرة والباص وغيره، فلو قال: قصدت السيارة -أل للعهد- الفلانية أو سيارة فلان.
فحينئذٍ ينتقل من العموم إلى الخصوص.
والعكس، لو أن شخصاً جاراه في السيارة فقال: والله لا أشتري السيارة.
فظاهر الحال أنه لا يشتري السيارة هذه، لكن قال: نيتي جميع السيارات، يعني: جنس السيارة لا أشتريها، فحينئذٍ النية تتحكم في اللفظ، بشرط أن يكون ذلك اللفظ محتملاً؛ لأن (أل) في السيارة تحتمل الجنس وهذا للعموم، وتحتمل العهد وهذا للخصوص، قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل:15 - 16] قيل: إن أل في الرسول للاستغراق؛ لأن من عصى رسولاً واحداً فكأنما عصى الرسل كلهم، والأشبه أن هذا عهد ذهني.
فهناك شرط في اعتبار النية مؤثرة في اللفظ: وهو أن يكون اللفظ محتملاً، بمعنى: أن وضعه اللغوي يحتمل معنيين فأكثر، فالنية تحدد المراد، أما إذا كان اللفظ لا يحتمل ولا علاقة له بما نوى في وضع اللغة وأصلها، وليس هناك عرف جارٍ به، فنيته لغو، كأن يقول: والله لا آكل البرتقال.
ولكن قصد بالبرتقال التفاح، ومعلوم أنه لا يطلق البرتقال على التفاح فحينئذٍ تسقط نيته ويعتد ويعتبر بظاهره، فما دام أنه تلفظ بهذا اللفظ يؤاخذ به، ويحكم بوجوب الكفارة عليه إن أكل ذلك المسمى.
وهذا مقرر على مسألة مشهورة عند علماء الأصول، وهي: مسألة وضع اللغة، والصحيح أن الله عز وجل هو واضع اللغات، ومن هنا لو تحكم الشخص في اللغة وقال: والله لا أصعد الجبل، وقيل له: ماذا تريد بالجبل؟ قال: السيارة.
لا يوجد أحد يطلق الجبل على السيارة لا لغة ولا عرفاً، ولا توجد مناسبة بين السيارة والجبل، فهو يضع دلالة من عنده لهذا اللفظ، مع أن الجبل من حيث هو موضوع على دلالة معينة، فهو فحينئذٍ يسقط اعتبار النية بشرط احتمال اللفظ، وهذا أصل صحيح مقرر عند العلماء.(403/3)
الرجوع إلى سبب اليمين عند انعدام النية
قال رحمه الله: [فإن عدمت النية رجع إلى سبب اليمين وما هيجها] فأول شيء النية ثم هناك السبب، وسبب اليمين يسمونه: السبب المهيج.
وبعض فقهاء الحنابلة يطلق ويقول: سبب اليمين، وعند المالكية وبعض الفقهاء يسمونه: بساط اليمين.
وبعضهم يعبر عنه: بموجب اليمين، والمراد من ذلك الباعث على اليمين.
ونحن نمثل بأشياء موجودة الآن؛ لأن القديم موجود في كتب العلماء فإذا رجع إليه طالب العالم فإنه يفهم.
مثال: لو أن شخصاً اختصم مع شخص وجرى بينهم لجاج، فقال: تركب معي سيارتي.
فقال له: والله لا أركب سيارتك.
فقوله: (لا أركب سيارتك) في الأصل يقتضي أن كل سيارة يملكها الشخص أنه لا يركبها، ولكن بساط اليمين، وموجب اليمين، والباعث على اليمين، والسبب المهيج لليمين، هو الخصومة عن سيارة معينة.
فحينئذٍ نقول: هذا العموم ينصرف إلى خاص، فلا يحنث إذا ركب سيارة أخرى يملكها ذلك الشخص، إلا إذا نوى، فإن النية مؤثرة، لكن كلامنا هنا عن الشخص الذي قال: والله لا أركب سيارتك.
قلنا له: هل نويت العموم؟ قال: لا ما نويت العموم، بل خرج مني هذا اللفظ بناءً على قوله لي: اركب معي سيارتي، فقلت: لا أريد أن أركب.
فقال لي: لابد أن تركب.
فأحرجني فأردت أن أقطع قوله: فقلت: والله لا أركب سيارتك.
نقول له: إن ركبت أي سيارة غير هذه السيارة فإنك حينئذٍ لا تحنث؛ لأن السبب المهيج يقتضي التخصيص.(403/4)
الرجوع إلى التعيين في اليمين عند انعدام النية والسبب
قال رحمه الله: [فإن عدم ذلك رجع إلى التعيين] إذا: هناك ثلاثة أشياء: - النية.
- السبب.
- التعيين.
والتعيين: أن يعيّن الشيء، وهو ضد الإبهام، فإذا قال: والله لا آكل هذا اللحم.
والله لا ألبس هذا الثوب.
والله لا أكلم هذا الرجل لا أُكلم هذا الصبي لا أُكلم هذه الجارية.
فهذا تعيين، والمعين لا ينصرف إلى غيره؛ لأن مرادهم بعينه وذاته، وعين الشيء ذاته.
قوله: [فإذا حلف: لا لبست هذا القميص فجعله سراويل أو رداءً أو عمامة ولبسه] أي: لو حلف على ذلك الشيء بعينه كأن يقول: لا لبست هذا القميص، ومادة القميص من القماش، إذاً انصب عليها اليمين، فلو أن هذا القميص غُيِّر وفُصِّل سروالاً حنث بلبسه؛ لأنه قال: هذا، فاختص بالتعيين وتقيد به؛ لأن اليمين بالتعيين، فمهما تغير في شكله فذاته موجودة، وانصب المنع على الذات، وحينئذٍ لو تغيرت إلى أي حال فإنه يبقى الحكم معلقاً بها، فيحنث إذا لبسه على أي صورة.
وكذلك لو جعل هذا القميص رداءً أو عمامة، فإنه يحنث بلبسه، والعكس إذا جعل السروال قميصاً، فالمادة موجودة والحكم واحد في هذا.
قوله: [أو لا كلمت هذا الصبي فصار شيخاً] أو صار رجلاً لأن الحكم متعلق بعين الصبي ولا يختلف.
قوله: [أو زوجة فلان هذه، أو صديقه فلاناً، أو مملوكه سعيداً، فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم] لو قال: والله لا أكلم زوجتك.
فليس كقوله: والله لا أكلم هذه الزوجة.
فلو قال: لا أكلم زوجتك.
فقوله: زوجتك لفظ عام، فإذا لم تكن هناك نية وأخذناه على ظاهر اللفظ، فكل زوجة يتزوجها هذا الرجل بمجرد أن يعقد عليها وتدخل في عصمته، فإنه يحنث بكلامه معها بأقل ما يصدق أنه كلام.
فكل امرأة عقد عليها ذلك الشخص فإنه يحنث بكلامه لها، وبمجرد أن تخرج من عصمته وتنتقل عنها، فحينئذٍ إذا كلمها لا يحنث؛ لأن الوصف متعلق بكلام زوجة هذا الرجل، وحينئذٍ متى ما كانت زوجة لهذا الرجل حنث بكلامها، وإذا زالت هذه الصفة من الزوجة لم يحنث، أما إذا قال: لا أكلم زوجتك هذه.
صار الأمر متعلقاً بالزوجة بعينها، فلو طلقها أو بانت منه، فإنه في هذه الحالة لو كلمها فإن اليمين ما زالت منعقدة فيحنث بكلامها، حتى لو تزوجت غيره فإنه لا زال اليمين متعلقاً بالعين فيحنث بكلامها.
قوله: (أو مملوكه سعيداً).
لو قال: لا أكلم مملوكاً لك.
فهذا عام، أي: كل عبد يملكه هذا الشخص، فبمجرد ما يشتريه يحنث بكلامه بأقل ما يصدق عليه أنه كلام، لكن لو قال: لا أكلم مملوكك سعيداً وعيّن، أو مملوكك هذا وعين وخصص، فحينئذٍ كما ذكرنا، لو أنه أعتقه ما زال الحكم متعلقاً بعين المملوك، فيحنث بكلامه.
قوله: (فزالت الزوجية والملك والصداقة ثم كلمهم) الأصل أنه يحنث حتى بعد زوال هذه الأشياء كما ذكرنا وفصلنا.
قوله: [أو لا أكلت لحم هذا الحمل فصار كبشاً].
لأن اليمين متعلقة بلحم الحمل، فحتى إن أكله بعد أن صار كبشاً، فإنه يحنث؛ لأنه قد انصبت اليمين على لحمه.
قوله: [أو هذا الرطب فصار تمراً أو دبساً أو خلاً].
لو جيء لشخص برطب فقال: والله لا آكل رطباً.
فرُفِعَ هذا الرطب ثم صار تمراً بالحرارة وبالتأخر وجيء به إليه، فقيل له: كل.
فأكل، فإنه لا يحنث؛ لأن الأمر متعلق بالوصف الذي هو رطب، ولو قال: والله لا آكل الرطب وقيل له: على هذه النخلة رطب اصعد وكله.
قال: أنا حلفت أن لا آكل الرطب، ثم صبر حتى صار تمراً فصعد وأكل، فإنه يحنث لو صعد وهو رطب وأكل منه، ولا يحنث في الثانية؛ لأنه أكل تمراً؛ ولأنه حلف على الرطب، لكن لو قال: والله لا آكل هذا الرطب، فإنه في هذه الحالة يحنث إن أكله رطباً أو تمراً.
[أو هذا اللبن فصار جبناً أو كشكاً أو نحوه ثم أكله حنث في الكل] وهكذا بالنسبة للبن، يعني يستوي أن ينتقل عن حاله بفعل المكلف أو ينتقل بطبعه، كما ذكرنا في الرطب والتمر، حنث في الكل [إلا أن ينوي ما دام على تلك الصفة] إذاً النية من أقوى ما تكون، ونحن لا نتكلم هنا على قوة السبب.
وعلى هذا يحنث في الكل كما ذكرنا؛ لأنه قصد عين المحلوف عليه.
وإذا كانت له نية فقال: والله لا أكلم زوجتك فلانة، وهذا لأنه رأى أن الرجل متضايق منه بسبب خصومة أو شيء، فقصد في نيته أن هذه المرأة سيئة تسبب مشاكل، فقال: والله لا أكلم هذه الزوجة، وهو يقصد مدة كونها زوجة له، فحينئذٍ هناك تعيين في السبب، ولكن النية أخص من السبب؛ لأنه لم يقصد عين المرأة، وحينئذٍ إذا زالت الزوجية يجوز له أن يكلمها ولا يحنث.(403/5)
الرجوع في اليمين إلى ما يتناوله الاسم عند عدم النية والسبب والتعيين
قال رحمه الله: [فصل: فإن عدم ذلك رجع إلى ما يتناوله الاسم].
إذاً أول شيء النية، ثم السبب، أي: لابد أول شيء أن تكون هناك نية؛ لأن مقاصد المكلفين معتبرة، وقد أجمعت على ذلك نصوص الكتاب والسنة والقاعدة المشهورة: على أن الأمور بمقاصدها، ثم السبب الذي يهيج اليمين.
قوله: (رجع إلى ما يتناوله الاسم) أي: هذا اللفظ يدل على ماذا؟ وهذا عين العدل في الشريعة الإسلامية، فينظر إلى دلالة اللفظ اللغوية والعرفية والشرعية، هذه ثلاثة أنواع من الدلالات، فإذا قال: والله لا أصعد الجبل، والله لا أجلس تحت السماء، والله لا أعبر نهراً ولا أركب بحراً، والله لا أصلي، والله لا أصوم، فكل هذه ألفاظ فيها دلالة لغوية وفيها دلالة شرعية وفيها دلالة عرفية، فحينئذٍ لابد من النظر في اللفظ، هذا إذا قال: ليست عندي نية في شيء معين، وليس هناك سبب هيج على اليمين، فحينئذٍ يُنْظَرُ في دلالة اللفظ.(403/6)
أقسام الحقائق ومتى يرجع إليها في اليمين
قال رحمه الله: [وهو ثلاثة: شرعي وحقيقي وعرفي].
هذه يسمونها.
الحقائق، وهي: - الحقيقة اللغوية.
- الحقيقة الشرعية.
- الحقيقة العرفية.
فالحقيقة اللغوية: مصطلح يكون في أصل التخاطب في لسان العرب، فإذا قالوا: السماء، فهم يعنون بها السماء المعروفة، وإذا قالوا: الأرض، الجبل، الشجر، فهذه أسماء على مسميات معينة وضعت في لغة ولسان العرب، فهذه يسمونها: حقيقة لغوية، وهي ما يدل عليه اللفظ في وضع اللغة.
الحقيقة الشرعية: فالشرع قد ينقل هذا الاسم من عموم إلى خصوص، وقد ينقل هذا الاسم إلى دلالة ليس فيها لا عموم ولا خصوص، وإنما يكون لها معنىً جديد، فالشرع يتصرف في المسميات.
الحقيقة العرفية: العرف يجمع الناس على لفظ له دلالة لغوية فيأخذه الناس، مثلاً السيارة الآن، السيارة: لها معنى في اللغة، وهي في لغة القرآن موجودة: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} [يوسف:19] {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف:10].
لكن هل تلك السيارة التي كانت عندهم هي السيارة الموجودة عندنا الآن؟
الجواب
لا، السيارة في القديم لها معنى، والسيارة في وضع اللغة لها معنى، وفي عرفنا اليوم لها معنى.
ونحن نمثل بشيء موجود: الكتابة في القديم لها معنى، ومعناها اللغوي معروف، وهو الخط باليد، لكن في زماننا الآن يضرب بأصابعه على الآلة ومع ذلك يوصف بكونه كاتباً، فلو قال شخص: والله لا أكتب على الآلة، وهو يختصم مع شخص على أن يطبع له، إذاً يوجد معنى عرفي الآن.
كذلك الوضوء له معنىً لغوي، وله معنىً شرعي، والصلاة والزكاة والصوم والهبة والصدقة والإجارة كلها حقائق فيها معان لغوية وفيها معان شرعية.
ولذلك لما استفتحنا أبواب العلم كنا نقول: في اللغة وفي الشرع، في اللغة: أي: حقيقة لغوية، وفي الشرع: أي حقيقة شرعية، فهذه تسمى: بالحقائق، فإذا تلفظ المكلف فإنه ينظر فيها.(403/7)
الحقيقة الشرعية ومتى يرجع إليها في اليمين
قال رحمه الله: [فالشرعي ما له موضوع في الشرع، وموضوع في اللغة] فالشرعي كالصلاة مثلاً، لها موضوع في اللغة، فتطلق بمعنى: الدعاء، وتطلق بمعنى: الرحمة، وتطلق بمعنى: البركة، ولكنها في الشريعة نقلت إلى العبادة، ذات القيام والركوع والسجود والذكر على الوجه المخصوص.
قال رحمه الله: [فالمطلق ينصرف إلى الموضوع الشرعي الصحيح] اللفظ المطلق إذا كان له معنى لغوي ومعنى شرعي فإننا نصرفه إلى الشرعي، فلو قال: والله لا أصلي، فإنه يحنث بالصلاة نافلة أو فريضة؛ لأن الشرع يطلق الصلاة على هذه العبادة ذات الركوع والسجود، هذا هو المعنى الشرعي.
والمعنى اللغوي: الدعاء، فلو أنه قال: والله لا أصلي.
ثم قال: اللهم! ارحمني لم يحنث؛ لأنه عند تعارض الحقيقة اللغوية مع الحقيقة الشرعية، مع الإطلاق العام يتقيد بالشرع، فإذا قال: والله لا أصلي.
فإنه يحنث بفعل الصلاة، ولا يحنث بالدعاء، ولا بالترحم.
إذاً: الصلاة في هذا المعنى تنصرف إلى المعنى الشرعي، فلا يحنث إلا بفعل فريضة أو نافلة.
ويشترط إذا كانت بالمعنى الشرعي أن تكون معتبرة معتداً بها شرعاً.
فلو قال: والله لا أصلي هذه الساعة.
ثم قال: أريد أن أكفر.
فقام يريد أن يصلي، فصلى ركعتين، ثم أراد أن يكفر، فتبين له أنه محدث، سقطت عنه الكفارة تيسيراً من الله.
إذاً في هذه الحالة لا يحنص إلا إذا كانت صلاة شرعية؛ لأنه قال: والله.
أي: ألزم نفسه فيما بينه وبين الله أنه لا يصلي، فلا يكون حانثاً ولا تجب عليه كفارة إلا إذا حصل الإخلال، ولا يحصل الإخلال إلا بالصلاة الشرعية، فإذا صلى محدثاً لم تكن صلاته مجزئة.
[فإذا حلف لا يبيع أو لا ينكح فعقد عقداً فاسداً لم يحنث] وهذا مثلما ذكرنا، لو قال: لا أصلي ثم صلى صلاة فاسدة لم يحنث؛ لأن الشرع لا يسمي هذا صلاة، ولا يسمي هذا بيعاً، قال: والله لا أبيع.
ثم باع بيعاً فاسداً، كأن يبيع مجهولاً، فإنه يحكم ببطلان البيع؛ لأنه من بيوع الغرر -وقد تقدم معنا- كما لو قال له: أبيعك داراً ولم يصفها، قال: هذه الدار تشتريها مني (بمليون)، قال: قبلت.
أعطاه (المليون) تمت صورة البيع، لكن انفسخ هذا البيع بحكم الشرع، قال القاضي: هذا بيع فاسد؛ لأن الدار لم تصفها ولم تبينها على وجه تزول به الجهالة ويصح به العقد، إذاً هذا عقد فاسد، وذلك لوجود الغرر.
في هذه الحالة لو جاء وقال: أنا قلت: والله لا أبيعه، وقد وقع مني بيع، ولكن أفسده القاضي، أو المفتي حيث قالا: هذا بيع فاسد.
نقول: إذاً وجوده وعدمه على حد سواء، ولا كفارة عليك؛ لأنك حلفت على بيع شرعي وهذا بيع فاسد.
[وإن قيد يمينه بما يمنع الصحة، كأن حلف لا يبيع الخمر أو الخنزير حنث بصورة العقد] إذا قلنا: إن البيع حقيقة شرعية، ولابد أن يكون على الصفة الشرعية، فلو أنه قال: (والله لا أبيع الخمر) ثم باع الخمر هل يحنث؟ قالوا: هنا يحنث بصورة العقد؛ لأن مراده بقوله: (لا أبيع الخمر) صورة العقد؛ لأنه في الأصل يريد أن لا يبادل؛ لأن البيع حقيقته المبادلة، وكأنه يقول: التزمت فيما بيني وبين الله أن لا أبادل الخمر بشيء، فلما وقع البيع فصورة المبادلة وجدت، فحينئذٍ نقول: قد حصل الإخلال فلزمه الكفارة من هذا الوجه.
وهناك من العلماء من لا يرى أنه ليس إخلالاً ولا تجب به الكفارة.(403/8)
الحقيقة اللغوية ومتى يرجع إليها في اليمين
قال رحمه الله: [والحقيقي هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته].
الحقيقي في اللغة: هو الذي لم يغلب مجازه على حقيقته اللغوية، كالسماء والأرض، فهذه حقائق تنطبق على أشياء.
مثلاً: اللحم حقيقة يطلق على اللحم، ولا ينصرف إلى غيره إذا أطلق، وهذا لا إشكال في اعتباره، فلو قال: (لا آكل اللحم) حكمنا بأنه يحنث بأكل اللحم، أياً كان هذا اللحم، فيكون اللحم شاملاً للحم الأنعام ولحم الطيور ولحم الأسماك، فإذا أكله حنث، وتتقيد هذه الحقيقة بدلالتها.
[كاللحلم فإن حلف لا يأكل اللحم فأكل شحماً أو مخاً أو كبداً أو نحوه لم يحنث] لأن الكبد والشحم والمخ هذه ليست بلحم؛ فإن العرب إذا قالت: اللحم، فإنه لا يشمل الكبد ولا المخ ولا الشحم، وقد يستشكل البعض هذا، ويقول: إن الله عز وجل قال في المحرمات: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام:145] نقول: هذا لا إشكال فيه؛ لأنه عبر بالجزء وأراد الكل؛ لأن الذي يأكل الخنزير في الأصل إنما يأكل اللحم، وجعل ما بعده تبعاً له.
فالشاهد من هذا: أن اللحم إذا أطلق فالمراد به اللحم المعروف، ولا يشمل الشحم وبقية الأجزاء التي ليست بلحم حقيقة؛ فإن اللحم له حقيقة، والشحم له حقيقة، والكبد لها حقيقة، الطحال له حقيقة، فإذا قال: لا آكل الكبد فهذه حقيقة تتقيد بالكبد، وإذا قال: والله لا آكل اللحم، فهذه حقيقة تتقيد باللحم.
[وإن حلف لا يأكل أدماً حنث بأكل البيض والتمر والملح والخل والزيتون ونحوه وكل ما يصطبغ به] إذا قال: والله لا آكل ولا أطعم الإدام، والأدم هو: كل ما يؤتدم به، فإنه يحنث به إن أكله، سواء كان من المربى أو الملوخية أو اللوبيا أو الفاصوليا أو الخضار أو غيرها من المطاعم مما يؤتدم به، فكل ما يؤتدم به، تصدق عليه هذه الحقيقة اللغوية الجامعة في دلالتها على هذه الأشياء، فيحنث بها.
[ولا يلبس شيئاً فلبس ثوباً أو درعاً أو جوشناً أو نعلاً حنث] لأن أصل اللبس الدخول في الشيء، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف) وجعل هذا لبساً، فلو قال شخص: والله لا ألبس، فإنه يحنث بكل شيء يكتسي به، ويضعه على بدنه ويدخل فيه، فإذا قال: والله لا ألبس الثوب.
فإنه بمجرد دخوله فيه يحنث.
لكن لو أنه وضع الثوب على كتفيه لم يحنث؛ لأنه لا يصدق عليه اللبس، مثله مثل المحرم، لو أن محرماً أخذ ثوباً ووضعه مثل الإحرام، لم تجب عليه الفدية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم) الذي يشمل أعلى البدن، ثم قال: (ولا السراويلات) الذي يشمل أسفل البدن ثم قال: (ولا البرانس) فشمل أعلى البدن وأسفله، فإذا حصل الدخول حصل الإخلال وإلا فلا.
[وإن حلف لا يكلم إنساناً حنث بكلام كل إنسان] إذا قال: والله لا أكلم إنساناً.
فإن هذه نكرة عامة تشمل كل إنسان، سواءً كان مجنوناً أو كان عاقلاً صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى؛ لأن الحقيقة اللغوية تشمل هذا كله.
[ولا يفعل شيئاً فوكل من فَعَلَهُ حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه] إذا قال: والله لا أعطي فلاناً ثم وكل شخصاً -والوكيل ينزل منزلة الأصيل، والفرع آخذ حكم أصله- وقال له: يا فلان اذهب واعط فلاناً أو قال لابنه: يا محمد اذهب وأعط فلاناً هذا المبلغ حنث؛ لأن عطاء الوكيل عطاء من الأصيل، وهو تابع للأصل فيحنث به.(403/9)
الحقيقة العرفية ومتى يرجع إليها في اليمين
قال رحمه الله: [والعرفي ما اشتهر مجازه فغلب الحقيقة كالرواية والغائط ونحوهما] هذا النوع الثالث من الحقائق: وهي الحقيقة العرفية، فقوله: (ما غلب مجازه على الحقيقة) مثل: الغائط، والراوية، فلو قال: والله لا أذهب إلى الغائط، فالعرف أن الغائط مكان قضاء الحاجة، وذلك لقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء:43] يعني: مكان قضاء الحاجة، فقوله: والله لا أذهب إلى الغائط، أو لا أدخل الغائط، أو لا أجلس في الغائط، يحمل على الحقيقة العرفية، فيحنث بدخوله مكان قضاء الحاجة، وحينئذٍ لا يحكم بكونه حانثاً إلا إذا دخل فيه، لكن لو قصد الحقيقة اللغوية، وقال: أردت بالغائط المكان المطمئن؛ فحينئذٍ نيته تنقله من الحقيقة العرفية إلى الحقيقة اللغوية؛ لأنه نوى ذلك وقصده.
لكن لو تعارضت الحقيقتان، كأن قال: والله لا أجلس في غائط، فقال بعض الفقهاء: هذه حقيقة لغوية وحقيقة عرفية، فأيها يقدم؟ يقدم العرفية على اللغوية في قول جمهور العلماء رحمهم الله في هذه المسألة، وهذا ما درج عليه المصنف رحمه الله، أن العرف معتبر.
إذاً الراوية والغائط تنتقل من المعنى العام إلى المعنى الخاص.
[فتتعلق اليمين بالعرف] الأصل في الاحتجاج بالعرف القاعدة الشرعية التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة: (العادة محكمة)، فإذا جرى العرف بذلك فإنه يؤثر.
جلس قوم في شركة أو مؤسسة وعندهم غرفة معينة اصطلحوا على تسميتها (الغرفة) فهذا عرف خاص، فإذا حلف شخص وقال: والله لا أدخل الغرفة، فالغرفة حقيقة لغوية للمكان المبني بالهيئة المعروفة، فكلمة (الغرفة) في اللغة عامة في كل غرفة، ولكن العرف والأصل أنه يريد هذه الغرفة، لاختصاص هذه الغرفة بالعرف.
إذاً: لابد للفقيه إذا سئل عن الأيمان أن يكون ملماً بدلالة اللغة في هذا اللفظ الذي سُئل عنه، وأن يكون ملماً بدلالة الشريعة، فإذا قال: والله لا أتصدق، والله لا أهب، كيف يعرف أنه حنث أو لم يحنث إذا لم يعلم حقيقة الهبة، وحقيقة الصدقة، وحقيقة الوقف؟ إذاً: لابد من إدراك هذا كله حتى يحكم بكونه حانثاً أو غير حانث.
[فإذا حلف على وطء زوجته أو وطء دار تعلقت يمينه بجماعها وبدخول الدار] أي: لو قال: والله لا أطأ زوجتي.
تعلقت يمينه بجماعها، هذه حقيقة عرفية، ولو قال: والله لا أدخل الدار، لم يحنث إلا بدخول جرمه كاملاً فيها، والدار إذا خصها العرف بشيء معين اختصت به؛ لأن الدار في بعض الأحيان قد تطلق حتى على الخباء، يقول الشخص: هذه داري.
وهي خيمة، وقد تختص بالبناء.
إذاً العرف له تأثير في دلالات الألفاظ، فحينئذٍ نتقيد بهذا العرف، وإن كانت دلالة اللغة عامة كما بيّنا.
[وإن حلف لا يأكل شيئاً فأكله مستهلكاً في غيره كمن حلف لا يأكل سمناً فأكل خبيصاً فيه سمن لا يظهر فيه طعمه، أو لا يأكل بيضاً فأكل ناطفاً لم يحنث] هذه المسألة تقدمت معنا في الصيد في المستهلك ومتى يحكم باستهلاكه وعدمه، في المستهلك من الممنوع أكله وطعمه مثل: الزعفران وغيره.
فعلى كل حال إذا استهلكت وذهبت مادة السمن في المطبوخ فإنه لا يؤثر؛ لأنه لم يصدق عليه أنه أكله، أما لو بقي شيء من المادة فإنه يؤثر.
[وإن ظهر طعم شيء من المحلوف عليه حنث] لأنه حينئذٍ يتحقق السبب الموجب للحنث، وهو وجود طعم الذي حلف أنه لا يطعمه.(403/10)
حكم من أكره على فعل شيء حلف ألا يفعله
قال رحمه الله: [فصل: وإن حلف لا يفعل شيئاً ككلام زيد ودخول دار ونحوه ففعله مكرهاً لم يحنث] بين رحمه الله في هذا الفصل تأثير الإكراه، وأن الإكراه يوجب إسقاط المؤاخذة، وعلى هذا قالوا: إنه لا يحكم بالحنث مع وجود الإكراه، فلو قال: والله لا أدخل الدار، فأكره عليها بالتهديد، أو أكره عليها بأن ربط ووضع في حمالة ونقل، وهذا يسمونه: الإكراه الملجئ، وهناك الإكراه غير الملجئ، أو يقولون: الإكراه التام، والإكراه الناقص، في كلتا الصورتين لم يحنث، فلو قال: والله لا أدخل الدار فحمل إليها مكرهاً، أو لا أكلم فلاناً فأكره على تكليمه فإنه لا تلزمه كفارة؛ لأن الله أسقط بالإكراه أعظم شيء وهو الردة، فلأن يسقط موجب التكفير من باب أولى وأحرى.(403/11)
حكم من حلف ألا يفعل شيئاً ففعله ناسياً أو جاهلاً
قال رحمه الله: [وإن حلف على نفسه أو غيره ممن يقصد منعه كالزوجة والولد أن لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً أو جاهلاً حنث في الطلاق والعتاق فقط].
هذه المسألة ترجع إلى قضية حق الله عز وجل وحق المخلوق، فإذا كان حلف على غيره أن لا يفعل، كولده وزوجته ممن له عليه سلطان، فإنهم فرقوا بين الطلاق والعتاق الذي هو تعلق حق المخلوق بهما دون غيره، أما وجه تعلق حق المخلوق في العتق والطلاق، فلو قال له: إذا فعلت كذا فعبدي فلان حر، وهذا العتق، أو إذا فعلت كذا فزوجتي فلانة طالق، أو زوجتي طالق، أو نسائي طوالق، هذا الطلاق.
في هذه الصور كلها، هذا الحلف على المنع أو الحمل على فعل الشيء في شخص له عليه سلطة وقوة، قالوا: إنه يسقط المؤاخذة بالنسيان في هذه الصور كلها إلا العتق والطلاق؛ لأن العتق تعلق به حق المخلوق، فلو أن الشخص هذا الذي قال له: والله ما تشتري من البقالة.
وإن اشتريت فزوجتي فلانة طالق، هنا تعلق الطلاق بمن له عليه سلطة كولده أو زوجته.
قالوا: إذا فعل هذا المحلوف عليه والمعين ناسياً فإنه لا كفارة عليه ولا يحنث، ولا يلزمه شيء، إلا في الطلاق، والعتق.
فإنه إذا فعله ناسياً حكمنا بالعتق وبوقوع الطلاق؛ لأنه حق للزوجة، أنها تطلق من زوجها، وتنحلُّ العصمة، وحق للملوك؛ لأنه خرج عن الملكية، فما نستطيع أن نقول: إن النسيان مؤثر.
لماذا؟ لأنه دلت النصوص على أن النسيان لا يسقط حقوق المخلوقين.
فلو أن شخصاً نسي ديناً لشخص عليه، ثم رفعه إلى القاضي فقال: عليه دين لي؟ قال: ليس له عليّ شيء.
وهو ناسٍ، وحكم القاضي بأنه لا شيء عليه، ثم بعد عشرين سنة تذكَّر أن عليه ديناً، فهل يسقط الحق هنا؟
الجواب
لا، ويجب عليه الضمان، ويسقط عليه الإثم مدة النسيان، فالنسيان يسقط الإثم، ولكن لا يسقط الحق من المخلوق.
إذاً النسيان الذي هذا حكمه يؤثر ما لم يكن فيه التبعة، الذي هو موجب الضمانات، وقد تقدم معنا في أكثر من مسألة بيان هذا.
وقد استثنى المصنف رحمه الله العتق والطلاق لتعلق حق المخلوق به، فحينئذٍ المرأة لها حق والمملوك له حق، وبعض المتأخرين من العلماء رحمهم الله قال: إن هذا ضعيف أن يسوى الطلاق بالعتق، فقبل الطلاق ولم يقبل العتق.
قال: لأن المرأة قد تبكي وتقول: أريد زوجي وما تريد الطلاق، والواقع أن جمهور العلماء لما قالوا بهذا، قالوا به بوجه صحيح.
وهناك أمر ينبغي على طالب العلم أن ينتبه له وهو: أن كثيراً من إيرادات المتأخرين تنحصر في صور معينة، ولذلك تجد بعض المتأخرين يأتي بصورة عاطفية، أو يأتي بشيء محدود يعيب به على كلام العلماء وينتقدهم فينبغي أن ينتبه لهذا؛ فإننا كثيراً ما نجد ضوابط العلماء شمولية أو عمومية أو غالبية لا تتقيد بصور معينة، وهذا أمر مهم جداً؛ لأن أحكام الشريعة لا تتقيد بحالة دون أخرى.
المقصود أنه قال: إنه قد تبكي المرأة، نقول: أيضاً المملوك الذي حكمنا بعتقه قد يقول: أريد سيدي، لا أريد أن أعتق منه.
وأذكر أيام الرق كان للجد والأسرة منهم بعض من عتق وأبوا أن يبرحوا الجد، بسبب حسن المعاملة، وقد لا يرضى الإنسان، ويحب أن يكون عند سيده؛ من حسن معاملته، وشرفه، وطيبه، وعلمه، فتجد من يبكي ويتذمر منهم.
وأدركنا أناساً حدثونا عن أناس ممن كانوا لا يريدون أبداً أن يعتقوا من أسيادهم، فرجعوا إلى أسيادهم وأصروا على البقاء عندهم.
إذاً المعنى في العتق هو نفس المعنى في الطلاق، ما الذي جعلهم يقولون: إن المرأة عندما تطلق عتقت من موجب العصمة؛ لأن قيام الرجل عليها تضييق في حريتها، هذا بأصل الشرع، وإن كان فيه مفسدة، لكن له مصالح أعظم، ونحن نقول: إن الطلاق يوجب لها الراحة والفكاك في غالب الصور، بغض النظر عن الآحاد، وهذا أمر ينبغي أن يتنبه إليه.
وعلى هذا لا يرد ما ذكره بعض المتأخرين بالتفريق بين العتق والطلاق، والمصنف جمع بينهما وجمعه صحيح ونص عليه الأئمة رحمهم الله.(403/12)
حكم من حلف على من ليس له عليه سلطان
قال رحمه الله: [أو على من لا يمتنع بيمينه من سلطان وغيره ففعله حنث مطلقاً] قوله: (من لا يمتنع بيمينه) سواءً فعله ناسياً أو غير ناس، فرقوا بين من يمتنع وبين من لا يمتنع، والأصل يقتضي التسوية.(403/13)
حكم من حلف على شيء وفعل بعضه
قال رحمه الله: [وإن فعل هو أو غيره ممن قصد منعه بعض ما حلف على كله لم يحنث ما لم تكن له نية] هناك فرق بين الكل والبعض، فلو قال: والله لا آكل الرغيف فإنه يحنث إذا أكل بعضه، أما لو قال: والله لا آكل كل الرغيف.
فأكل نصفه، أو أكل ثلثيه أو ثلاثة أرباعه أو أكل شيئاً يسيراً لم يحنث حتى يأكل الكل، ولو قال: والله لا أدخل الدار فمد يده أو مد رجله لم يحنث حتى يدخل كله.
ومن هنا قالوا: الجزء لا يأخذ حكم الكل، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام لـ عائشة: (ناوليني الخمرة -وكان معتكفاً- قالت: يا رسول الله! إني حائض) وهذا يدل على أن الحائض لا تدخل المسجد، فإنه لو كانت عائشة لا تدرك هذا -وهي الفقيهة- لقامت مباشرة وأعطته، لكن قالت: (إني حائض) ومعنى ذلك: أنه عرف عند الصحابة وتقرر أن الحائض لا تدخل المسجد، لكنهم ظنوا أن الجزء يأخذ حكم الكل؛ فإنها لو مدت يدها لناولته، فقال لها: (إن حيضتك ليست في يدك) يعني: (ناوليني) والمناولة باليد، ما قال: ائتيني أو تعالي بالخمرة إنما قال: (ناوليني) باليد، فدل هذا على أن الجزء لا يأخذ حكم الكل، وأنه لا يحنث.
ومن ذلك: مسألة الأيمان والنذر في الاعتكاف، لو نذر أنه لا يخرج من المسجد فأخرج يده فإن هذا لا يوجب الحكم بانتقاضه.(403/14)
شرح زاد المستقنع - باب النذر
النذر أن يلزم المكلف نفسه بما لم يلزمه به الشرع، ولهذا الإلزام أحكام وأقسام بينها الفقهاء في كتبهم وتصانيفهم، مع بيان ما يترتب على الإخلال بالنذر من الكفارة، ومتى يكون هذا الإخلال واجباً أو محرماً أو مندوباً أو مكروهاً، وغير ذلك من الأحكام.(404/1)
تعريف النذر
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب النذر] علاقة النذر باليمين علاقة قوية، حتى إن الشرع سوى بينهما في حال الإخلال، وجعل كفارة النذر كفارة اليمين، وهذا يدل على قوة التلازم بين الأيمان والنذور، وكثير من العلماء ذكروا باب النذر مقروناً بباب اليمين، وهذا لشدة التلازم بينهما.
والنذر هو: أن يلزم المكلف نفسه بما لم يلزمه به الشرع، ويكون في المعصية ويكون في الطاعة، ولكل حكمه، والأصل فيه الكتاب، حيث أثنى الله عز وجل على عباده فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] والنبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم، كما في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأجمع العلماء على مشروعيته من حيث الجملة.
قال رحمه الله: [لا يصح إلا من بالغ عاقل ولو كافراً] أي: لا يصح النذر إلا من بالغ عاقل، أي: مكلف؛ لأن التكليف بالعقل والبلوغ، فلا يصح نذر الصبي ولا يصح نذر المجنون.
قوله: (ولو كافراً) الكافر يصح نذره؛ لحديث عمر بن الخطاب أنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يوفي بنذره، وهذا يدل على صحة نذر الكافر.(404/2)
أقسام النذر الصحيح
قال رحمه الله: [والصحيح منه خمسة أقسام] إذا قلت: الصحيح.
فمعنى ذلك: أنه تترتب عليه الكفارة عند الإخلال، أما إذا قلت: إنه فاسد أو لاغ.
فهذا ليس له موجب وهو الكفارة.
فقوله: (خمسة أقسام) هذا إجمال قبل البيان والتفصيل.(404/3)
القسم الأول: النذر المطلق
قال رحمه الله: [المطلق: مثل أن يقول: لله عليّ نذر ولم يسم شيئاً فيلزمه كفارة يمين] قوله: (لله عليّ نذر) فيه وجهان في الانعقاد: والجمهور على أنه ينعقد.
وحينئذٍ إذا لم يسم شيئاً يلزمه أن يكفر كفارة يمين، وفيها الزيادة في الحديث المشهور: (من نذر نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين)، وهي زيادة على الرواية الصحيحة، وهذه الرواية موجودة في السنن، والأصل في صحيح مسلم، وهذا يدل على أنه إذا لم يسم النذر، فإن عليه كفارة يمين.
ووجه ذلك أنه قال: لله عليّ فحصل الالتزام، والصيغة موجبة للالتزام، ثم لم يبين شيئاً، فحينئذٍ تعلق به النذر، فلا وجه للإسقاط؛ لأنه التزم، ثم بعد ذلك يلزم بموجب النذر وهو الكفارة.(404/4)
القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب
قال رحمه الله: [الثاني: نذر اللجاج والغضب: وهو تعليق نذره بشرط يقصد المنع منه أو الحمل عليه أو التصديق أو التكذيب] نذر اللجاج والغضب أن يكون الحامل عليه هو أن يغضب من شيء فينفر منه، لا أن حالته حالة الغضب؛ لأن الغضب الذي يسقط التكليف هو الذي يصل إلى حد الجنون، وقد بينّا أن صاحبه غير مكلف، أما هذا فيكون بالحمل على الشيء أو ترك الشيء، فيقول له: لله عليّ أن تفعل كذا أو تفعل كذا، فهذا يعتبر من نذر اللجاج؛ لأنه يحصل عند المراجعات وعند الخصومات بين الناس.
[فيخير بين فعله وبين كفارة يمين] كما لو قال له: أعطني.
قال: لله عليّ أن لا أعطيك.
فحينئذٍ لو أنه رأى أن الخير أن يعطيه فله أن يعطيه، كما أنه لو حلف أن لا يعطيه فله أن يعطيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير) فقال العلماء: من نذر ورأى غيره خيراً منه فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، في الفعل أو الامتناع، سواءً حلف على أن يفعل أو أن لا يفعل.(404/5)
القسم الثالث: نذر المباح والمكروه
قال رحمه الله: [الثالث: نذر المباح: كلبس ثوبه وركوب دابته فحكمه كالثاني] أي: لو أنه نذر لله عز وجل في لبس ثوب أو ركوب دابة، وحصل ما يوجب الحنث، فإن هذا النذر في المباحات بالإجماع، وكذلك لو قال: لله عليّ أن لا أركب الدابة، لله عليّ أن ألبس الثوب، لله عليّ أن أفعل كذا وكذا، فهذا في المباحات وهو من نذر المباح.
قال رحمه الله: [وإن نذر مكروهاً من طلاق أو غيره استحب أن يكفر ولا يفعله] وهذا ما يندب فيه الحنث ويكره فيه الفعل؛ لأن النذر إذا كان بفعل واجب فيجب الوفاء به، ويحرم الحنث فيه، ومنه ما هو مندوب، يكره فيه الحنث، ومنه ما هو مكروه يندب فيه الحنث، وهذا مما يكره ويندب فيه الحنث، فلو أنه نذر على شيء مكروه فإننا نقول له: الأفضل أن تكفر.
وقد تقدم تفصيل هذا في الأيمان.(404/6)
القسم الرابع: نذر المعصية
قال رحمه الله: [الرابع: نذر المعصية: كشرب خمر، وصوم يوم الحيض والنحر، فلا يجوز الوفاء به ويكفر] اختلف العلماء في هذا النوع من النذر، وهو أن ينذر أن يفعل معصية أو يترك واجباً، وهذا يسمى: نذر المعصية بفعل المحرمات أو ترك الواجبات، فقال بعض العلماء: لا ينعقد أصلاً ولا كفارة فيه؛ لأنه لغو.
ومن أهل العلم من قال: فيه كفارة، وهذا جار على الأصول وهو أقوى، وهو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، ولا يجوز له أن يعمل بذلك، فالمرأة فلا يجوز أن تصوم يوم حيضها؛ لأن هذا منهي عنه شرعاً، وكذلك صوم يوم النحر، كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يومي العيد، فلا يجوز له أن يصوم هذين اليومين وإنما يكفر.(404/7)
القسم الخامس: نذر التبرر
قال رحمه الله: [الخامس: نذر التبرر مطلقاً أو معلقاً، كفعل الصلاة والصيام والحج ونحوه] كأن يقول: لله عليّ أن أصوم، لله عليّ أن أصلي، لله علي أن أعتمر، هذا نذر التبرر: وهو طلب البر والطاعة، فهذا مندوب، والرغيبة فيه والأجر فيه والمثوبة فيه، ولذلك يستحب الوفاء به والقيام به ويستحب أن لا يحنث فيه، ومن هنا هذا النوع من النذر مما يستحب فيه الوفاء ويكره فيه الحنث.
وكذلك لو قال: لله عليّ أن أصوم الإثنين والخميس.
وقال: ما رأيكم؟ نقول له: يا أخي! هذا النوع من النذر نذر بر وطاعة وخير فلا تحرم نفسك الأجر، وقد حملت نفسك على هذا الخير بحامل وبإلزام فابق على هذا الإلزام؛ لأنه أعظم لأجرك وأتقى لربك، فهذا النذر يعتبر الوفاء به مندوباً، وقيل: إنه هو الذي ورد الثناء عليه في قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7] وليس النذر المعلق على المكروهات.
قال رحمه الله: [كقوله: إن شفى الله مريضي أو سلّم مالي الغائب فلله عليّ كذا فوجد الشرط لزمه الوفاء به] قوله: (إن شفى الله مريضي).
هذا النذر فيه وجه من الكراهة، وكذلك إن قال: إن سلمت بضاعتي؛ لأنه قد يعتقد أن البضاعة ما سلمت إلا بهذا النذر، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) بمعنى: أن النذر ليس هو الذي يؤثر في قضاء الله وقدره.
فبعض الناس يظن أنه ما دامت تجارته في خطر إذاً ينذر، كأنه بهذا الفعل يجامل ربه، هذا معنى قوله: (لا يأتي بخير) إذاً: يجب أن لا يعتقد الإنسان بنذره كأنه يحمل -حاشا لله- الله عز وجل أن يسلم له بضاعته أو يشفي مريضه، فإن الله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والله الغني ونحن الفقراء، فهذا الاعتقاد قد يحصل من بعض ضعاف النفوس، وهذا وجه كراهة النذر، وهو كون المرء يظن أنه بهذا النذر حصل له المطلوب، واندفع عنه المرهوب الذي لا يحبه ولا يريده، وهذا هو المعنى المذموم شرعاً.(404/8)
حكم من نذر الصدقة بماله كله أو أقل من الثلث
قال رحمه الله: [إلا إذا نذر الصدقة بماله كله أو بمسمىً منه يزيد على ثلث الكل فإنه يجزئه قدر الثلث] إذا نذر أن يتصدق بماله كله فوجهان: قيل: إنه يقبل منه، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه حينما خرج من ماله، وخرج بعض الصحابة من مالهم.
ومن أهل العلم من قال: من نذر أن يتصدق بماله كله، فإنه يتصدق بالثلث ويجزيه، ويسقط عنه الإلزام في الكل، وأخذوا هذا من حديث: (قال: يا رسول الله! إن من توبة الله عليّ أن أتصدق بمالي.
قال: أمسك عليك مالك) قالوا: إن هذا يدل على أنه لا يتصدق بالمال كله.
وقبل النبي صلى الله عليه وسلم من سعد الثلث كما في حديث الوصايا فقال: (الثلث والثلث كثير) ففرقوا بين الكثير والقليل فقالوا: يخرج الثلث، وظاهر السنة يدل على قبول خروجه من المال كله، خاصة إذا كان قوي الإيمان قوي الاعتقاد فلا بأس بذلك ولا حرج، كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر رضي الله عنه ذلك.
[وفيما عداها يلزمه المسمى] قوله: (وفيما عداها يلزمه ما سماه) أي: إذا كان أقل من الثلث كما لو سمى الربع أو سمى الثمن فإنه يلزمه أن يفي به.(404/9)
حكم من نذر صوم شهر
قال رحمه الله: [ومن نذر صوم شهر لزمه التتابع].
من نذر صوم شهر فله حالتان: الحالة الأولى: أن يسمي شهراً بعينه، فيفوت بفوات أول يوم منه، فلو أفطر في أوله فحينئذٍ انتقض نذره ولزمته الكفارة، كما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهر ربيع الأول، فإذا هل هلال ربيع الأول لزمه أن يصوم الشهر كاملاً متتابعاً، سواءً كان ناقصاً أو كاملاً، فهذا المعين يتقيد به.
الحالة الثانية: أن يطلق، فإذا أطلق يخير بين أن يصوم أثناء الشهر أو أن يصوم شهراً كاملاً، فلو أنه حلف أن يصوم شهراً فابتدأ ببداية شهر ربيع، وتبين أن ربيع ناقص أجزأه؛ لأن الشهر يكون ناقصاً وكاملاً كما قال صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا).
لكن إذا أراد أن يصوم أثناء الشهر فلابد أن يعد ثلاثين يوماً، وللعلماء وجهان: منهم من قال: إنه يصوم ثلاثين يوماً ولو متفرقة، إلا إذا قصد التتابع، وهذا أقوى مما اختاره المصنف رحمه الله أنه يلزمه التتابع.(404/10)
عدم لزوم التتابع لمن نذر صيام أيام معدودة
قال رحمه الله: [وإن نذر أياماً معدودة لم يلزمه إلا بشرط أو نية] قال: لله عليّ أن أصوم عشرة أيام، أو لله عليّ أن أصوم عشرين يوماً، فإن شاء صامها متفرقة وإن شاء صامها متتابعة.(404/11)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب القضاء
من رحمة الله بعباده أن شرع لهم القضاء لحل خصوماتهم، فيكف الظالم، وينصر المظلوم، وشرع سبحانه لهم شريعة يحكمون بها، وألزم الشرع الإمام بأن يختار قضاة ذوي كفاءة ودين وورع وعدالة، كل هذا لأجل أن تعم العدالة حياة المسلمين.(405/1)
تعريف القضاء وحكمه
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب القضاء].(405/2)
تعريف القضاء
القضاء يطلق في اللغة على عدة معانٍ: الأول: الفراغ من الشيء، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة:200]، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} [النساء:103] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة:10] أي: فرغتم منها وانتهيتم من أدائها.
الثاني: الحكم والإيجاب والأمر بالشيء والتوصية، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].
الثالث: الإعلام، كما في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ} [الحجر:66] أي: أعلمناه.
الرابع: الشيء المحتم، كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ:14] أي: أصبح أمراً محتماً لازما ًعليه.
الخامس: الخلق، ومنه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12].
أما في الاصطلاح: فهو قطع النزاعات وفصل الخصومات، وقيل: (بحكم الله) إضافة قيد.
وعرفه بعض العلماء بقولهم: الفصل بين خصمين بحكم الله عز وجل.
وهذا من أنسب التعاريف.(405/3)
مشروعية القضاء
القضاء سنة متبعة، بها يحق الحق ويبطل الباطل، ولابد للمسلمين من قضاة يقومون بمصالحهم، يردعون الظالم عن ظلمه، ويعطون المظلوم حقه، وبذلك يتحقق العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
وقد دلّ دليل الكتاب والسنة وانعقد الإجماع على شرعية القضاء، والعقل أيضاً يدل، قال تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]، وقال سبحانه تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26]، فأمر بالقضاء.
والقاضي مستخلف على مصالح المسلمين؛ ليحرص على جلب المصالح لهم، ودرء المفاسد عنهم.
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قضى كما في الصحيحين في قصة اختصام علي وجعفر، وكذلك قصة الزبير مع جاره، وكذلك أيضاً ولّى القضاة، كما بعث علياً رضي الله عنه إلى اليمن قاضياً، وبعث معاذاً وأبا موسى الأشعري أيضاً رضي الله عن الجميع، وتولى القضاء من بعده الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة على الأمصار وعلى الأقاليم.
وأجمع المسلمون على شرعية القضاء.
والقاضي خليفة عن الإمام العام للمسلمين في هذا الأمر الذي يناط به، وهي أمانة عظيمة ومسئولية جسيمة.
فمن عرف من نفسه الكفاءة والأهلية ولم يجد غيره، أو غلب على ظنه أنه يتعطّل هذا الحق إذا لم يله تعين عليه أن يطلب القضاء، وتعين عليه أن يصير قاضياً، كما قال تعالى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وأما إذا وُجد غيره فإن السلامة مندوب إليها، وفعلها أئمة السلف، أنه إذا غلب الفساد في الناس وغلب على ظنه أنه لا يحق حقاً ولا يبطل باطلاً فالسلامة أفضل.
قيل لـ أبي قلابة الجرمي رحمه الله -الإمام الجليل فقهاً وحديثاً- عندما أكره على القضاء وفرّ، فقيل له: كيف وأنت الإمام وعندك العلم والدراية بالقضاء؟ قال: إلى متى يسبح السبّاح في البحر؟ يعني: إذا عظمت الفتن أصبحت مثل الشخص الماهر القوي في داخل بحر، يسبح يسبح حتى يتعب ثم يسقط، وهذا لمن غلب على ظنه أنه لا يقوى على الفتن.
وقال أبو حنيفة حينما دعي إلى القضاء: والله! لا أصلح، إن كنتُ صادقاً فقد صدقت، وإن كنتُ كاذباً فكيف تولي من يكذب؟! وكان هو وإياس مرشحين للقضاء، قيل: امتنع إياس وامتنع أبو حنيفة، فلما قال أبو حنيفة ذلك قال إياس: يا أمير المؤمنين! أتيت بإمام أوقفته على شفير جهنم حلف عليها يميناً يفتدي منها بكفارة، قال: أما وقد عرفت فقهها لا يقضي غيرك.
وكان لدى إياس رحمه الله ذكاء.
وقيل: لما قيل لـ أبي حنيفة: لماذا لم تلِ القضاء وأنت أنت؟!! قال: إني لا أملك القلب الذي أقضي به عليك وعلى أمثالك.
يعني: لا أملك الصرامة والقوة أن أنفذ الحق، فلذلك لا يمكن أن يكون القاضي قائماً بحق الله عز وجل إلا إذا كان حازماً، وصدق وبر واتقى الله عز وجل.(405/4)
القضاء فرض كفاية
قال رحمه الله: [وهو فرض كفاية].
وهو -أي: القضاء- فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.(405/5)
واجب الإمام في القضاء واختيار القضاة
قال رحمه الله: [يلزم الإمام أن ينفذ في كل إقليم قاضياً].
يجب على إمام المسلمين وولي أمرهم أن يختار القضاة للأمصار والأقاليم وفي الأماكن على حسب الحاجة، فيعين من هو أهل للقيام بهذه المصالح.
والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث القضاة -وممن بعثهم علي رضي الله عنه- وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده اختاروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء وأرسلوهم قضاة في الأمصار والأقاليم، وهذا يدل على أنه ينبغي اختيار القاضي، ولعظم مسئولية القضاء لا يختار له كل أحد، بل ينبغي أن تتوافر فيه الصفات المعتبرة.
قال رحمه الله: [ويختار أفضل من يجده علماً].
لأن الله سيسأله عمن يختاره، وسيقف بين يدي الله ويسأل عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم وعما اختار لهم، إن نصح فقد نصح، وإن لم ينصح فإنه مسئول محاسب عن ذلك.
إذاً: من واجب النصيحة أنه إذا وجد الناس على فضل بحث عن أفضلهم وأكملهم، وهذا مبالغة في النصيحة لعامة المسلمين، وكل من ولي أمراً من أمور المسلمين -حتى ولو كان مدرساً- وأراد أن يختار أحداً للقيام بمصلحة من المصالح فعليه أن يختار الأفضل، فهذه هي النصيحة التي هي الدين، يقول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) أن ينصح لعامة المسلمين باختيار الأفضل علماً -أن يكون عنده علم ودراية-؛ لأنه لا يمكن إحقاق الحق وإبطال الباطل إلا بالبصيرة، وهي النور الذي يقذفه الله في القلوب، {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162] فالرسوخ والبينة طريقان لاستبانة الحق ومعرفته؛ لأن الجاهل بالحق لا يمكن أن يقضي به، فلابد أن يكون لديه علم.
ويعرف علم الرجل بشهادة العلماء وبشهادة من هو أعلم بأن فلاناً عنده علم، فإذا شُهد له -أو عرف بالسماع عنه- أنه مبرز في علم القضاء فإنه يختار لذلك.
[وورعاً].
الورع أن يكون عنده انكفاف عن محارم الله عز وجل، فيدع ما لا بأس به خوفاً من الوقوع فيما به بأس، وإذا كان القاضي ورعاً عف عن أموال المسلمين، وكف عن أذيتهم بلسانه وعن أذيتهم بقوته وسلطانه، وكان أخوف ما يخاف من الله عز وجل أن يقف أحد منهم خصماً له بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وهذا الورع هو الذي يقف به في وجه الظالم لكي يكبحه عن ظلمه كائناً من كان، ويجد أنه بهذا الورع أقوى من القوي في قوته، ويجد أن الضعيف في عينه صار قوياً بهذا الورع، وأن القوي صار ضعيفاً.(405/6)
نماذج من القضاة القدوة
القضاة من أئمة السلف رحمهم الله ودواوين العلم والصلاح سطروا المواقف العظيمة الجليلة الكريمة.
فقد أثر أن المأمون لما جاء إلى المدينة ومعه الحمالون لمتاعه ما إن نزل واستقر حتى أتوا إلى قاضي المدينة؛ فما إن دخل إلى قصر عامله بالمدينة حتى جاءه رسول القاضي يقول له: إن القاضي يدعوك إلى مجلس القضاء، حضر خصوم لك.
فما كان منه إلا أن بعث حاجبه، وقال له: إذا خرجت فمر الناس ألا يقوموا؛ فإني ماض إلى مجلس القضاء.
فلما مضى إلى مجلس القضاء وجاء إلى مجلس القاضي فرشت له السجادة، فقال له القاضي: يا أمير المؤمنين! لا تترفع عن خصمك، -وخصومه هم الحمالون الذين كانوا يحملون متاعه لما جاء مسافراً من دار الخلافة إلى المدينة- فإما أن تفرش لك ولهم وإلا جلست معهم على أرض المسجد.
فجلس معهم على أرض المسجد، فلما جلس معهم قال: ما خصومتهم؟ قال: إنهم لم يأخذوا حقوقهم، فقال: إني قد أمرت وكيلي أن يدفع إليهم، قال: فلتدفع إليهم الساعة؟ قال: أفعل.
فما كان من القاضي بعد أن انتهى هذا الأمر إلا أن ذهب وجلس وراء المأمون، فقال له: ويحك! ما الذي تفعله؟ قال: يا أمير المؤمنين! كنت في حق الله وقضيت، فالآن أبقى في حق أمير المؤمنين.
وفي زمان الرشيد أثر عن أحد القضاة أنه كان من أصلح القضاة، فجاءته امرأة فقالت له: أنا بالله ثم بالقاضي من عم أمير المؤمنين عيسى بن موسى، وكان له مكانته، قال: ما شأنك؟ قالت: إن أبي خلف لي بستاناً فكان بيني وبين أخوتي، فاشترى من إخوتي نصيبهم وساومني أن يأخذ حقي فامتنعت، فما زال بي حتى كان البارحة أرسل أعوانه فهدموا الجدار فأصبحت لا أعرف حقي من حق إخواني، فأنا بالله ثم بالقاضي.
فكتب إليه: إلى عم أمير المؤمنين فلان بن فلان، تحضروا إلى مجلس القضاء أنت أو وكيلك، فقد حضرت امرأة تستعدي عليك.
فلما جاء الكتاب إليه أخذته العزة بالإثم فغضب غضباً شديداً فنادى أكبر العلماء في قرية كانت في ضاحية فقال له: اذهب إلى هذا القاضي وقل له: نوليك القضاء حتى تقضي علينا؟! فقال له هذا العالم الموفق: أعفني من ذلك؛ لأنه يعرف أن هذا القاضي صارم لا تأخذه في الله لومة لائم، فقال: أعفني من ذلك، قال: والله! لا يذهب غيرك.
قال: أما وقد أقسمت علي فإني سأبعث بفراشي إلى سجن القاضي؛ لأنه يعرف أنه سيسجنه.
فما إن جاء إلى القاضي وقال له: إن عم الخليفة يقول لك كذا وكذا، قال: بئس ما جئتني به، أوتحول دون الحق، وتعين على الباطل؟! اذهبوا به إلى السجن.
قال: قد علمت، وقد سبقني فراشي.
فكتب إليه مباشرة؛ لأنه رد الشرع وأهان القاضي فرد له بالإهانة: إلى فلان بن فلان حضرت امرأة تستعدي عليك، فلتحضر إلى مجلس القضاء بنفسك.
بينما في المرة الأولى قال له: أنت أو وكيلك، فقال له هذه المرة: بنفسك.
فما كان منه إلا أن ازداد غضبه ثم نادى تسعة من العلماء من أعيان البلد وأمرهم أن يذهبوا، فلما صلى القاضي العصر جاءوا حوله وتحلقوا لكي يساوموه في المصلحة وما تقتضيه المصلحة، فلما تكلموا قال: بئس ما جئتوني به، هل هنا أحد من فتيان الحي؟ فقالوا: أنا أنا، فقال: كل منكم يأخذ بواحد منهم ويذهب به إلى السجن.
ثم كتب إليه: إما أن تحضر إلى مجلس القضاء وإلا ختمت القنطر، فوالله! لا خير فيَّ إن لم أقم الحق عليك وعلى غيرك.
فلما مضى إليه الكتاب ما كان منه إلا أن غضب ولم ينظر في الكتاب ولم يقرأه ثم أمر بالباب أن يكسر وأخرج أولئك من السجن، فلما بلغ ذلك القاضي ختم القنطر، وإذا ختم القنطر لابد أن يذهب إلى هارون الرشيد، فلما صلوا المغرب إذا به قد تهيأ أن يخرج، فخرجت القرية عن بكرة أبيها؛ لأن من نصر الحق نصره الله عز وجل، فصاح الناس، وسأل هذا: ما شأن الناس وهو جالس في مزرعته؟ قالوا: إن القاضي ختم القنطر وهو يريد أن يذهب إلى أمير المؤمنين.
قال: وما شأنه؟ قالوا: لأنك لم تأت إلى مجلس القضاء.
وكان يعلم أن هارون الرشيد رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم، كانت له حسنات جليلة، فعلم أنه لو ذهب إليه سيهينه ويرده إلى مجلس القضاء، فما كان منه إلا أن ركب دابته ووقف للقاضي في طريقه قبل أن يخرج من القرية، فقال له القاضي: لا أرضى حتى يرجع كل من أخرجته؛ لأن هذا حق لله لست أنت الذي تخرجه.
فردوا إلى مجلسه، فلما ردوا قال له: تذهب الآن مع المرأة وتدخل إلى المسجد.
فمضى معها كما يمضي غيره من عامة الناس، ثم لما دخل القاضي وصلى الركعتين وجلس للخصومة جاء عم أمير المؤمنين فأراد أن توضع له الطنفسة، قال: تجلس على أرض المسجد ولا تجلس على بساطك وعلى فراشك، فأنت في مجلس خصومة.
فقامت المرأة ورفعت صوتها، فقال لها بعض أعوان عيسى بن موسى: اخفضي صوتك.
فقال لها القاضي: انطقي؛ فإن الحق رفع صوتك قولي ما عندك، فصاحت المرأة بقضيتها، فقال: ما تقول؟ قال: أقول: قالت حقاً، قال: تبني جدارها الساعة، قال: أفعل، فقالت المرأة: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين وعن أمة محمد خير الجزاء.
هذه النماذج العظيمة القوية بها يحق الحق، ولا يمكن أن يكون القاضي إلا إذا كان صادقاً وكان أهلاً، فإذا غلب على ظنه أنه يحق الحق ويبطل الباطل فحيهلاً وإلا فلا.(405/7)
ما يجب على الإمام أن يأمر به من يوليهم القضاء
قال رحمه الله: [ويأمره بتقوى الله].
أي: يأمر القاضي أن يتقي الله عز وجل؛ لأن أساس الأمور وصلاحها كلها في تقوى الله، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً أو بعث سرية أمر وأوصى الأمير في خاصته ومن معه بتقوى الله عز وجل، فهي أساس ومنبع كل خير وبر.
قال رحمه الله: [وأن يتحرى العدل وأن يجتهد في إقامته].
أي: يوصيه أن يتحرى العدل حتى يعذر إلى الله عز وجل، ويقول: إني وليتك هذا الأمر فاتق الله واعدل؛ لأن الحكم قوامه العدل فالقوي ضعيف عندك حتى تأخذ الحق منه، والضعيف قوي حتى ترد الحق إليه، وأن لا تأخذك في الله لومة لائم، وأن تتذكر معونة الله لك، وتأييد الله لك، وأنه لا يزال لك من الله نصير وظهير ما دمت تطلب الحق وتنشده؛ لأن القاضي إذا طلب الحق وتجرد للحق لا يزال معه من الله معين وظهير، ما لم تخن خائنة في قلبه والعياذ بالله {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، نسأل الله بعزته وجلاله ألا يزيغ قلوبنا.
قال رحمه الله: [فيقول: وليتك الحكم أو قلدتك ونحوه ويكاتبه في البعد].
الأولى صيغة قولية، يقول له: وليتك قلدتك هذه من الصيغ التي يوجهها الإمام العام -ولي الأمر- لمن يوليه القضاء؛ لأن القاضي نائب عنه منفذ بالشرع بالأحكام له نيابة عن الإمام وما دام أن القاضي نائب عن الإمام، فلابد أن تكون هناك وكالة شرعية تكون باللفظ الصريح: وليتك قلدتك نصبتك، ونحو ذلك، أو أنت قاضي كذا.
أو يكتب إليه ويصدر أمراً بتعيينه ونحو ذلك، فهذا يقوم مقام اللفظ.(405/8)
مهام القاضي
قال رحمه الله: [وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم].
إذا كان القضاء في ولايات عامة وخاصة، يكون عاماً في الولاية عاماً في المكان، كأن يقول له: أنت قاضٍ على دولتي كلها، أي: جميع ما يتعلق بالقضاء راجع إليك، فهذه ولاية عامة في عموم العمل وهذه يطلقون عليها: (عموم النظر في عموم العمل) فجميع ما يتعلق بالقضاء يرجع فيه إلى هذا المولى.
ويكون أيضاً: عموم في خصوص (عموم النظر في خصوص العمل) كأن يقول له: وليتك القضاء في الأنكحة وفي الرهون وفي البيوعات وفي الحدود وفي القصاص، وفي الوصايا وفي الأيتام ونحو ذلك عامة، في مدينة كذا أو كذا؛ فهذا يسمى (عموم النظر في خصوص العمل).
أو يوليه (خصوص النظر في خصوص العمل) كأن يكون هناك قضاة في الوكالات يتولون كتابة صكوك الوكالات، وهناك قضاة يتولون الحدود، وآخرون يتولون الجنايات، يقول -مثلاً-: أنت وليتك قضايا القتل في مكة، أو في المدينة (خصوص النظر في خصوص العمل).
إذاً: ولاية القاضي تكون خاصة وتكون عامة، وهذه من التشريعات الإسلامية، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (واغد -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) فاعترفت فرجمها، فولاه عليه الصلاة والسلام خصوص النظر في قضية خاصة معينة، وجعله قاضياً إن اعترفت، والاعتراف لا يصح إلا في مجلس القاضي وفي مجلس الحكم، (فارجمها) والرجم لا يكون إلا بحكم القاضي، فجعله قاضياً في قضية مخصوصة، وهذا من خصوص الولاية.
قوله: (وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم، وأخذ الحق لبعضهم من بعض).
كلما اختصم خصمان يفصل بينهما؛ لأنه مسئول عن هذا، سواء كانت الخصومات في الأموال أو كانت في الأنكحة، أو كانت في الحقوق العامة، أو كانت في الحدود ونحو ذلك، كل هذه يتولاها للعموم.
قال رحمه الله: [والنظر في أموال غير المرشدين].
كل قاضٍ ينبغي عليه أن ينظر من ولاهم على الأيتام وعلى القاصرين، وهم (النظار) فيستدعيهم ويسألهم ويعرف كيف يصرفون، وكيف يقومون، حتى يعلم صدق الصادق وكذب الكاذب، وخيانة الخائن، وأمانة الأمين، ويعرف هل هو فعلاً قائم بهذه الولاية.
فكل من ولي قضاء أول ما يأتي ينبغي أن يستدعي هؤلاء ويسألهم، وقد نبه على هذا الأئمة رحمهم الله في كتبهم: كأدب القاضي للإمام الماوردي، وابن أبي الدم من فقهاء الشافعية، وكذلك نبه عليه ابن فرحون في التبصرة، وغيرهم من الأئمة والفقهاء، وشيخ الإسلام أشار إلى هذا فهذه من مسئولياته وأمانته أن ينظر في أموال القصار -إذا كانت الولاية عامة- ويولي أوصياء عليهم، وكذلك يتفقد القائمين على أموال السفهاء ومن يتولى عليهم النظار، هل هم قائمون أم مقصرون؟! قال رحمه الله: [والحجر على من يستوجبه لسفه أو فلس].
يوليه هذه الولاية وتكون ولاية عامة، ولاية الحجر على السفيه.
قال رحمه الله: [والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها وتنفيذ الوصايا].
إذا كان في مدينة يستدعي النظار على الأوقاف، ويسألهم عن أوقافهم، وهذه الأوقاف ماذا اشترط الأموات فيها؟ وماذا اشترطوا في هذه الأوقاف؟ وهذه مسئولية عظيمة ولا يمكن أن تستقيم الأمور إلا بها، وكيف نفذوا هل نفذوا شروط الوقف أم لم ينفذوا؟ هل هم متلاعبون؟ هل هم مقصرون؟ هل هم محتاجون إلى مساعدة أو معونة؟ حتى يستجلي جميع هذه الأمور، فكلها في رقبته، وهو مسئول عنها أمام الله سبحانه وتعالى، ولذلك ينبغي عليه القيام بها كاملة.
قال رحمه الله: [وتنفيذ الوصايا].
وكذلك هي.
قال رحمه الله: [وتزويج من لا ولي لها].
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له).
قال رحمه الله: [وإقامة الحدود وإمامة الجمعة والعيد، والنظر في مصالح عمله بكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه].
بالنسبة للجمعة ينصب شخصاً فهذا المسجد تصلى فيه الجمعة، والمنطقة التي هو فيها يقول: لا يصلون إلا في مسجد واحد؛ لأن الأصل أن الجمعة لا تعدد، فله النظر في مساجد الجمعات، وكذلك تنفيذ الحدود.
قال رحمه الله: [ويولى عموم النظر في عموم العمل].
كما ذكرنا، قلنا: أنت المسئول عن القضاء في البلد كله، أو في الدولة كلها.
قال رحمه الله: [ويولى خاصاً فيهما أو في أحدهما].
كما ذكرنا.(405/9)
ما يشترط في القاضي
قال رحمه الله: [ويشترط في القاضي عشر صفات].(405/10)
أن يكون بالغاً عاقلاً ذكراً
قال رحمه الله: [كونه بالغاً عاقلاً].
لا يصح القضاء إلا إذا كان القاضي بالغاً؛ لأن الصبي لا ولاية له على نفسه فكيف يكون والياً على الغير، ومن هنا أمر الله عز وجل بالحجر على أموال اليتامى والقاصرين الذين هم دون البلوغ، فلابد أن يكون بالغاً.
وأن يكون عاقلاً، فلا يصح قضاء المجنون.
ذكراً بالغاً عاقلاً وهذه يتأهل بها للتكليف وكل تكليف بشرط العقل مع البلوغ بدم أو حمل وتستحب فيه الجزالة وشرطه التكليف والعدالة أي: يستحب أن تكون عبارته جزلة واضحة، وأن يكون كلامه موجزاً.
(وشرطه التكليف والعدالة) أي: يشترط أن يكون مكلفاً، فلا يصح أن يولي صبياً ولا مجنوناً.(405/11)
أن يكون حراً
قال رحمه الله: [حراً].
لأن المملوك كما قال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] هذا نص القرآن بين أن المملوك لا يقدر على شيء، والمملوك يتأثر بأحوال الناس وعظماء الناس، والغالب أنه يضعف ويجبن ويخاف، وهو مشغول بخدمة سيده، ولذلك لا يصح أن يولى القضاء، وهذا يزري بالقضاء وينقص من مكانته إذا ولي الضعفاء، فينبغي أن يولى القضاء من فيه قوة على إحقاق الحق حتى يردع السفيه عن سفهه، والظالم عن ظلمه.(405/12)
أن يكون مسلماً عدلاً
قال رحمه الله: [مسلماً].
فلا يصح أن يولى كافر، قال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، حتى لو كانوا كفاراً من أهل الكتاب، وأرادوا أن نولي عليهم قاضياً لا نولي إلا مسلماً؛ لأن الله أمرنا أن نحكم بينهم بالعدل وبشريعتنا، فلا نولي قضاتهم وإنما نولي قضاة مسلمين، لكن لو كانوا يرجعون إلى قضاة فيما بينهم فهذا قدمنا أحكامه في أحكام أهل الذمة.
وقوله: [عدلاً].
ومن يجتنب الكبائرا ويتقي في الأغلب الصغائرا العدل هو: الذي لا يفعل الكبيرة ولا يصر على الصغيرة، فيشترط أن يكون القاضي عدلاً؛ لأن العدالة تحمل على إحقاق الحق وإبطال الباطل، فكما أنه يشترط في القاضي التكليف، كذلك يشترط فيه العدالة، فلا يجوز تولية الفاسق؛ لأن الفسق فيه إضاعة لحق الله عز وجل، ومن ثبتت خيانته في حق الله فإنه سيخون في حق المخلوق من باب أولى وأحرى، ومن هنا لا يولى الفاسق القضاء إلا في أزمنة خاصة يتعذر فيها وجود العدول، أو يكون فسقه خارجاً عن القضاء، يعني: لا يؤثر في قضائه، مثلاً: يشرب الخمر، لكنه من أصدق الناس، وعنده تحفظ ورعاية، لكنه مبتلى بشرب الخمر، فحينئذٍ يولى إذا كان هذا لا يؤثر في قضائه.
فالشاهد من هذا: أن الفسق إذا لم يكن متعدياً للولاية فقد قرر الأئمة خاصة عند فساد الزمان أنه يجوز تولية أمثل الفساق.(405/13)
أن يكون سميعاً بصيراً
قوله: [سميعاً].
فلا يولى الأصم القضاء إذ كيف يسمع الخصوم؟! وكيف يسمع الحجج ويصغي إليها؟! قوله: [بصيراً].
الأعمى اختلف فيه، والصحيح أنه يصح قضاء الأعمى إذا كان يميز الأصوات ولديه قدرة على القيام بحق الله عز وجل في قضائه، بل قد يكون أفضل من المبصر؛ فإن العمى عمى البصيرة، وكم من قضاة من العميان هم بكثير من غيرهم، مثل ابن عباس رضي الله عنه القضاء، فإذا كان أعمى عنده قدرة على القضاء فإنه يولى، هذا هو الصحيح، أما مذهب بعض العلماء من أنه لا يصح تولية العميان القضاء فهو قول مرجوح، وأشار إليه بعض العلماء بقوله: وأن يكون ذكراً حراً سلم من فقد رؤية وسمع وكلم فهذه من الشروط: أن يكون ذكراً فالأنثى لا تولى.
حراً ألا يكون رقيقاً.
سلم يعني: في عافية في سمعه فلا يكون أصم، وفي بصره فلا يكون أعمى، وفي كلامه فلا يكون أبكم.(405/14)
أن يكون متكلماً مجتهداً
قوله: [متكلماً].
متكلماً؛ لأنه كيف يحكم؟! قوله: [مجتهداً ولو في مذهبه].
مجتهداً اجتهاداً مطلقاً أو اجتهاداً مقيداً؛ حتى يستطيع أن يعرف الحق وأن يميزه.(405/15)
القضاء الخاص في مسائل خاصة (التحكيم)
قال رحمه الله: [وإذا حكم اثنان بينهما رجل يصلح للقضاء نفذ حكمه في المال والحدود واللعان وغيرها].
بعد أن بين رحمه الله الولاية العامة شرع في ولاية القضاء الخاصة في المسائل الخاصة، كما لو اتفق شخصان على أن يحكما شخصاً بينهما فإنه ينفذ حكمه، ولذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وكذلك أمر بالاحتكام إلى الحكمين في قضية نشوز المرأة، فإذا اتفقوا أن فلاناً يحكم بينهم فإنه يمضي حكمه، والأصل في ذلك ما ذكرناه من دليل الكتاب والسنة وكذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم، كما فعل علي رضي الله عنه في قضيته مع معاوية حيث حكما أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص رضي الله عن الجميع.(405/16)
شرح زاد المستقنع - باب آداب القاضي
ينبغي للقاضي أن يتحلى بجملة من الأخلاق وأن يراعيها في أقواله وأفعاله وأحواله، منها: القوة في غير عنف، واللين في غير ضعف، ليقوى الضعيف بحكمه، ويضعف الظالم بعدله، وعليه أن يراعي النزاهة في حكمه والبعد عن الشبهات والرشوة، والعدل بين المتخاصمين، ومجانبة ما يشوش عليه في حكمه، وأن يعتبر البينة، ولا وغيرها والآداب والأحكام التي يجب توافلرها في القاضي المسلم.(406/1)
آداب القاضي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب آداب القاضي].
الآداب جمع أدب، والأدب من مكارم الأخلاق ومن محاسن العادات.
وهذا الباب -باب آداب القاضي- باب عظيم اعتنى به العلماء رحمهم الله، وهي جملة من الأمور التي ينبغي للقاضي أن يراعيها في أقواله وأفعاله وأحواله في مجلس القضاء، والسبب في ذلك أن القضاء لابد له من هيبة، ولابد له من صيانة وتحفظ يستعان بهما بعد الله عز وجل في إيصال الحقوق إلى أهلها، فالتبذل وعدم العناية بحق القضاء شره وبلاؤه عظيم، ومن هنا اعتنى العلماء بهذا الباب.
وآداب القاضي منها: آداب ظاهرة وآداب باطنة، والآداب الظاهرة: قولية، وفعلية، وكلها ينبغي أن يستجمعها القاضي في قضائه.(406/2)
أن يكون قوياً من غير عنف
قال رحمه الله: [ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف].
فلا تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه إذا كان ضعيفاً لا يستطيع أن يأمر بما أمر الله به، ولا أن ينهى عما نهى الله عنه، فلابد وأن يكون قوياً من غير عنف، فالقوة إذا جاوز وأفرط فيها فإنها تصبح عنفاً، فينبغي أن تكون القوة بحدود، وهي القوة لإحقاق الحق وإبطال الباطل من غير عنف.
وإذا كان قوياً من غير عنف فإنه حينئذٍ يهابه الباغي والظالم، ويطمع في عدله المظلوم؛ لأن المظلوم لما يرى القاضي ضعيفاً يكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، فيفضل السكوت؛ لأنه كيف يشتكي إلى إنسان ضعيف؟ حينما فلابد أن يكون القاضي قوياً حتى يطمع الناس في الوصول إلى حقوقهم عن طريقه، وإذا كان القاضي بهذه الصفة رغب الناس في حكم الله عز وجل والعدل الذي يبينه، فإذا أفرط في القوة نفر الناس وظلم الناس وأجحف بالناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم قوياً من دون عنف، وهو أن يضع الشدة في موضعها.(406/3)
أن يكون ليناً من غير ضعف
قال رحمه الله: [ليناً من غير ضعف].
ليناً رفيقاً حتى لا ينفر منه الضعيف، ولا يهابه هيبة ترده عن الشكوى إليه؛ لأن القاضي إذا كان غير لين خافه الناس وهابوه، لكنه إذا كان ليناً ألفه الضعيف واستطاع أن يبث إليه حزنه وأن يشتكي إليه وأن يبين مظلمته، فيمكن الخصوم من بيان مظالمهم وحوائجهم، لكن يشترط أن تكون هذه اللينة من دون ضعف وخور؛ لأن الضعف والخور يطمع الباغي في بغيه، ومن هنا قالوا: إنه ينبغي عليه أن يكون جامعاً لهاتين الصفتين الجامعتين بين الحسنيين أن يكون قوياً من دون عنف، ليناً من دون ضعف.(406/4)
أن يكون حليماً ذا فطنة وأناة
قال رحمه الله: [حليماً ذا أناة وفطنة].
لأن القاضي سيأتي إليه السفيه بسفهه، والجاهل بجهله، والناس تأتي وقد أُخذت حقوقها، وضاعت، فيصرخ الرجل وتتألم المرأة ويتضجر المظلوم، فيحتاج إلى صبر وإلى تحمل وإلى أناة، وإلى عدم استعجال وعدم تضجر من هذه الأشياء، ولذلك الأجر في هذا عظيم، فمن ابتلي بمصالح المسلمين كل الناس تأتيه على اختلاف أحوالها حتى العالم الطبيب الخطيب، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يسع الناس برحمته ولطفه، حتى يستطيع كل شخص أن يبدي ما عنده ما دام أنه يقدر على ذلك، أما إذا كان لا يقدر على ذلك أو كان مريضاً أو عنده فهذا أمر آخر، لكن في الأصل العام أنه يبذل ما يستطيع، حتى يستطيع أن يعلم ماذا عند الناس، ويوصلهم إلى حكم الله عز وجل ودينه وشرعه بالتي هي أحسن.
والحلم خصلة يحبها الله، قال صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، والحلم سعة الصدر، ويلزم أن يكون القاضي حليماً؛ قد يأتي الخصم -في بعض الأحيان- بحالة متفجع، فتصدر منه عبارات، فلابد أن يكون لديه من الحلم ما يطفئ هذا الغضب، ولا ينفر منه الناس في تعاملهم معه.
[ذا أناة].
أي: صاحب أناة لا يستعجل في الأمور، فإذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه فلا تحكم عليه حتى ترى خصمه، فلعله فقئت عيناه، وقد يأتيك الشخص وهو يبكي ويشتكي وإذا بك تشعر أنه المظلوم، ثم يتبين أنه مزور أو كذاب أو غشاش، أو يكون رجلاً صالحاً وعظم الأمر عندك ولكنه فهم خطأ، فلا يمكن أن تستبين هذه الأمور إلا بالأناة والتروي وعدم الاستعجال، ولذلك من رُزق الأناة فقد رزق الخير الكثير.
[وفطنة].
الفطنة هي: الكياسة والحذر والتنبه، ومن الناس من رزق الفطنة حتى إذا ولي القضاء يبلغ به الحال أنه يجلس إليه الخصمان فيعرف المحق منهما من المبطل، وهذا أثر عن بعض السلف وبعض العلماء الأجلاء الذين كانوا على درجة من الفطنة والفهم، حتى بلغ بأحدهم أنه لا يتكلم عنده الخصمان إلا شعر أيهما الظالم من المظلوم من كثرة التعامل مع الناس وتفطنه لأقوالهم وطرقهم وألاعيبهم وكذبهم وغشهم، فأصبح -غالباً- من قوة فراسته يستطيع أن يدرك كثيراً من الخلل، وليس معنى ذلك أنه يعلم الغيب، وإنما هي فراسة المؤمن.
لكن ينبغي -كما يقول العلماء- في هذه الفراسة والفطنة أن لا يجاوز فيها ولا يسرف، وذلك أنه قد تكون عند إنسان فراسة -وقد تصيب- لكن لا يسرف فيها؛ فإن الشيطان -من خبثه- ربما يستدرج الإنسان إذا أصاب في التفرس مرة أو مرتين حتى يوقعه في سوء الظن بالمسلمين، وربما سدده بالفراسة المرة والمرتين حتى لربما خونه في أهله وعرضه وزوجه، فيحذر الإنسان من استدراج الشيطان له، فالفراسة لها حدود، والفطنة لها حدود، ولذلك قالوا: يكره شديد الذكاء في القضاء؛ لأنه إذا اشتد ذكاؤه ربما حمل الأمور ما لا تتحمل، وحملها على غير ما لا ينبغي أن تحمل عليه.(406/5)
أن يكون مجلسه قريباً فسيحاً
قال رحمه الله: [وليكن مجلسه في وسط البلد فسيحاً].
للقاضي أن يجلس في أي مكان، لكن ينبغي أن يراعي فيه الرفق بالناس، لئلا يكون فيه تعنيت للخصوم والشهود بالذهاب إليه في أماكن بعيدة، ولذلك اختاروا وسط المدينة ما أمكن، واختلفوا هل يقضي في المسجد أو لا؟ الجمهور على جواز ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه، ولأن الخلفاء الراشدين من بعده كذلك، واستحب بعض العلماء من الجمهور القضاء في المسجد، ولكن الصحيح أنه يجوز أن يجلس حيث أمكنه، ومن هنا قال بعض العلماء: وحيث لاق للقضاء يقعد وفي البلاد يستحب المسجد وحيث لاق للقضاء يقعد يعني: حيث كان المكان لائقاً يجلس، حتى لو في السوق، بلغ ببعض أئمة السلف رحمهم الله أنه إذا جاءه خضمان يقول: لا يحل لي أن تجاوز قدمي قدميهما حتى أفصل بينهما.
أي: لا يجوز أن أفارقهما ولا أن أؤخرهما فلربما جاءوه وهو في السوق، فينتحي ناحية من السوق ويسمع من الخصمين ويقضي بينهما، وهذا مما وضع له من البركة.
وفي البلاد يستحب المسجد فيجوز أن يكون القضاء في المسجد.
وقوله: [فسيحاً] أي: أن يكون المكان فسيحاً لكن في المسجد اشترط بعض العلماء: أن لا يؤذي الناس والمصلين، فإذا كان ذلك يشوش عليهم، وحصلت المفاسد فالمصلحة أن يصرفه عنهم.(406/6)
العدل بين الخصوم في التعامل معهم أثناء القضاء
قال رحمه الله: [ويعدل بين الخصمين في لحظه] وهذا من أدب المجلس؛ لأن عمر بن الخطاب لما كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب القضاء -الذي شرحه الإمام ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين، وهو يسمى كتاب السياسة الكبيرة وهو من أعظم الكتب التي اعتنى العلماء بها- قال له: (آسِ بين الخصمين في عدلك ولحظك ومجلسك) في لحظك: أي: ينبغي أن يعدل بين الخصمين في اللحظ، فلا ينظر إلى أحدهما أكثر من الآخر، ولا ينظر إلى أحدهما بشدة دون الآخر، ولا يطيل النظر على وجه الريبة؛ لأن هذا يحدث في النفوس شيئاً، فإذا نظر إلى أحدهما فلينقل النظر إلى الآخر، وإذا أجلسهما فيجلسهما في مكان واحد، فلو جلس أحدهما على شيء دون الآخر سوى بينهما في المجلس، ولا يجلس أحدهما بجواره والآخر أمامه، بل يجلسان أمامه، كل هذا من باب الحيادية في القضاء، وقد بلغ القضاء الإسلامي الأوج والعظمة وحاز أعلى المراتب وأسماها؛ لأنه من حكيم حميد، وكل هذا من أجل أن يكون العدل، حتى في الصورة والشكل.
وقوله: [ولفظه].
ولفظه: يعني في كلامه، فلا يتكلم مع أحدهما أكثر من الآخر، إلا إذا وجدت حاجة أو وجد أمر، ولا يلحظ أحدهما لحظاً شديداً إلا إذا وجدت حاجة، كل هذا من باب أن يكون على حيادية، فلا يخون في مجلسه ولا في نظره ولا في قوله.
[ومجلسه] كذلك مكان جلوسه، فلا يجعل أحدهما في مكان أبرد من مكان الآخر، ولا مكان أشرف من مكان الآخر، ولا يكون أحدهما في مكان فيه تكرمة والآخر في مكان لا تكرمة فيه، بل ينبغي أن يجلس الخصمان مجلساً متساوياً، ويكون دخولهما من باب واحد، وأن يكون حال القاضي بينهما حالاً واحداً، فلا يقوم لأحدهما ولا يقوم للآخر، ولا يحتفي بأحدهما دون الآخر، بل مثلما يفعل مع هذا يفعل مع هذا.
وقد أثر عن بعض أهل العلم أنه كان في القضاء، فدخل عليه رجل واختصم مع آخر -وهذه مأثورة عن الإمام الشيخ: عبد الله بن حميد نسأل الله أن يقدس روحه وعلماء المسلمين أجمعين- في جنات النعيم، فلما جاء دخلا عليه قالا: يا شيخ! أتينا في خصومة، قال: أتيتما في خصومة؟ قالا: نعم -وكان أحدهما دخل من باب خاص- فقال: يا فلان! من أين دخلت؟ قال: دخلت من باب كذا، قال: اذهب وادخل مع خصمك، ثم إذا دخلتما من باب واحدٍ قضيت بينكما.
وهكذا العدل، فلابد أن يكون بهذا التجرد وبهذا الصفاء والنقاء؛ لتحصل الطمأنينة لدى الناس للوصول إلى الحق.(406/7)
اتخاذ المستشارين من العلماء
قال رحمه الله: [وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب] فمثلاً: لو رفعت إليه حادثة عن شخص فعل فعلاً، قد يكون معتقداً لحرمة هذا الفعل، لكن غيره يعتقد جوازه، ويخفى عليه مذهب غيره، فيأتي ويعزر المسكين، ولربما قال له أحد الخصوم: هذا جائز عندنا، وهو يكذب أو يقول: عملت على مذهب كذا، وأنا أعتقد مذهب الحنفية أو المالكية أو الحنابلة، وعندنا هذا جائز، فكيف يعرف صدقه من كذبه؟ لابد من مشاورة العلماء، وهذا جرت عليه السنة، وهو أن مجلس القاضي يحضره العلماء، وبعد أن يسمع تفاصيل القضية يشاورهم فيما نزل به، هذه هي السنة التي أمر الله بها عز وجل نبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، فالشورى كلها خير، وإذا عجز عن ذلك فإنه يتصل بهم ويذاكرهم ويناظرهم حتى يجد الحق ويصل إليه.
[ويشاورهم فيما أشكل عليه] هذا هو الأصل، والله المستعان.(406/8)
يحرم القضاء إذا كان القاضي مشوش الذهن
قال رحمه الله: [ويحرم القضاء وهو غضبان كثيراً].
ويحرم القضاء وهو غضبان- وهو غضبان: جملة حالية- لأن الغضب يمنع الإنسان من التأمل والتدبر، ولربما اشتد في قوله وتعامله؛ ولذلك لا يجوز أن يقضي وهو على هذه الصفة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قوله: [أو حاقن أو في شدة جوع أو عطش].
أشير إلى الحاقن بوله أن احتقانه يشوش عليه فكره، أو شدة عطش كذلك يشوش عليه فكره، والنص جاء في الغضبان، وألحق به ما في معناه.
[أو همّ أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج].
كل هذه الأمور تؤثر عليه في فكره وتأثر عليه في تركيزه، فلابد أن يكون على حالة بخلاف هذه الحالات، لكي تعينه على أن يكون أصفى ذهناً وأقدر على معرفة الحق.
[وإن خالف فأصاب الحق نفذ].
وإن خالف فقضى وهو غضبان أو قضى وهو مهموم أو قضى وهو عطشان أو قضى وهو جائع شديد الجوع، نفذ قضاؤه إن أصاب حقاً، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، والعلة هنا أنه يخشى مع هذه الحالات أن يتشوش فكره فلا يمعن النظر، لكن فإذا لم يشوش فإنه يصح قضاؤه.(406/9)
تحريم الرشوة والهدايا للقضاة
قال رحمه الله: [ويحرم قبوله رشوةً، وكذا هدية] ويحرم عليه أن يقبل الرشوة، وفيها اللعن -والعياذ بالله- الراشي والمرتشي، والرائش -وهو الذي يمشي بينهما- والعياذ بالله، فلا يجوز للقاضي أن يقبل الرشوة، وهي السحت الذي حرم الله ورسوله، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188]، هذه الرشوة ثم انظر وتأمل قوله تعالى: (تُدْلُوا بِهَا) ذكر بعض المفسرين أن القاضي إذا قبل الرشوة نزل من المنزلة العالية السامية إلى الحضيض، ولذلك قال سبحانه: (تُدْلُوا) كالدلو ينزل إلى القاع، فإنزال الرشوة وإدلاؤها إلى القاع، (القاضي) الذي صار في الحضيض بعد أن كان في مقام يشرفه الله عز وجل به ويكرمه ويعزه فيأبى إلا أن يهين نفسه ويذلها.
(وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ)، وهذا من أسرار اللغة الجميلة، ولذلك لا يمكن أن يترجم القرآن إلى أية لغة؛ لأنه لا تستطيع أن تجد فيها هذه المعاني الجميلة المتجددة.
[إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته إذا لم تكن له حكومة].
إلا أن يكون هذا الشخص يهاديه من قبل، كصديقة أو رفيقه أو ابن عمه أو قريبه، وكان بينهما مودة، فإذا هاداه بعد الولاية كان كحاله قبل الولاية؛ لكن إذا كان له عند القاضي قضية فلا يجوز للقاضي أن يقبل منه.(406/10)
استحباب ألا يكون الحكم إلا بحضرة الشهود
قال رحمه الله: [ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود].
يستحب للقاضي أن لا يحكم في قضية شهد فيها الشهود إلا إذا كانوا حاضرين؛ ولهذا فوائد عظيمة، منها: أنهم إذا شهدوا على شخص بضرر، وحكم عليه فإن هذا يردع شهود الزور من شهادتهم ويوقع في قلوبهم الهيبة مما أقدموا عليه، وكذلك أيضاً الشهود يصححون خطأ القاضي، فلربما نسي شيئاً مما ذكروه، وربما قضى ببعض الكلام دون البعض، فالشاهد عندما يكون حاضراً يكون هذا موافقاً لحكمه.(406/11)
لا يقبل حكم القاضي لنفسه ولا لقرابته
قال رحمه الله: [ولا ينفذ حكمه لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته له].
(لا ينفذ حكمه لنفسه)، فالقاضي لا يقضي لنفسه، وإنما يختصم إلى قاض غيره إذا حصلت خصومة بينه وبين شخص آخر، فيرفعه إلى قاضٍ غيره يحكم له أو يحكم لخصمه، وكذلك بالنسبة لمن هو معه كالشيء الواحد كابنه، فلا يقضي لابنه وإن نزل، ولا لابنته وإن نزلت، ولا لأبيه وإن علا؛ لأنه لو فعل ذلك فكأنه قاضٍ لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما فاطمة بضعة مني)، فلا يشهد لهم ولا يقضي لهم، ولا يصح قضاؤه لهم، فإن فعل فكأنه قضى لنفسه.
وفي حكم ذلك أيضاً الاستخوان، وما هو مظنة الخيانة والريبة، مثلما يقضي في قضية بين رجل وآخر شريك للقاضي في شركة، وله فيها مصلحة، وجاء صاحب الشركة أو مدير الشركة وخاصم شخصاً عند هذا القاضي، ففي هذا ملابسة، فكأنه قضى لنفسه، لأن له جزءاً من المصلحة؛ لأن هذه الشركة له فيها سهم، سواءً تمحضت من ماله أو كان له فيها شركة ونحو ذلك.(406/12)
إذا كان أحد الخصمين امرأة أو مريضاً
قال رحمه الله: [ومن ادعى على غير برزة لم تحضر وأمرت بالتوكيل].
(غير برزة)، أي: لا تخرج دائماً، بل هي امرأة محتشمة؛ لأن من النساء من هي (برزة) مثل المرأة التي عندها أيتام، فتخرج وتسعى لرزقها، وكان بعض النساء يتولين البيع لظروف خاصة قاهرة، وهذا النوع من النساء يقال له: البرزة، وسميت بذلك لأنها تكثر البروز والخروج؛ لأنه على مر تاريخ المسلمين ما عرف النساء إلا القرار في البيوت، تقول أم عطية: أمرنا أن نخرج العواتق وذات الخدور والحيّض.
فما يعرفن الخروج إلا لصلاة العيد، وهذا هو الأصل؛ لأن المرأة خيرٌ لها أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال.
ويؤثر عن عمر بن الخطاب أنه نصب الشفاء في السوق، وقد فهم بعض الجاهلين أن هذا يدل على أن المرأة كالرجل، وهذا خطأ واضح، وجهل بيّن بالحقائق؛ لأن قصة الشفاء فيها ضعف، وقد تكلم عليها العلماء، لكن على فرض ثبوتها يكون ولاها أمر سوق النساء، وهذا يفيد أن النساء لا يلي أمرهن إلا النساء.
أما من ظن أنه ولاها على الرجال فهذا يأباه الله ويأباه صالح المؤمنين، ولا يظن ذلك الظن إلا ذوو الأفهام المعكوسة المنكوسة التي لا تحسن النظر، وقد نبه على هذا العلماء رحمهم الله.
إذاً: البرزة هي التي تخرج للبيع والشراء، أو بعض كبيرات السن اللاتي لهن العذر فنحو هؤلاء النسوة يخرجن، فلو ادعي على مثلها دُعيت إلى مجلس القضاء؛ لأنها اعتادت الخروج، أما لو كانت محتشمة أو كانت غير برزة فلا يلزمها الحضور في مجلس القضاء، ولها أن توكل فتبعث وكيلها.
قال رحمه الله: [وإذا لزمها يمين أرسل من يحلفها، وكذا المريض].
أي: وإذا لزمتها اليمين بعث إليها شخصاً يسمع منها اليمين، وكذلك المريض الذي لا يمكنه حضور مجلس القضاء.(406/13)
شرح زاد المستقنع - باب طريق الحكم وصفته
بينت الشريعة الإسلامية الطريق للقضاة والحكام ليحققوا الواجب المنوط بهم، وهو تحقيق العدالة، وردع الظالم، وإنصاف المظلوم، فبينت كيفية التعامل مع دعاوى الخصوم، واعتبار البينات، وحقيقة الدعوى، وعدالة الشهود، وغير ذلك من الأحكام.(407/1)
صفة الحكم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:(407/2)
عرض الدعوى
فيقول المصنف رحمه الله: [باب طريق الحكم وصفته: إذا حضر إليه خصمان قال: أيكما المدعي؟ فإن سكت حتى يبدأ جاز].
إذا حضر إليه الخصمان قال: أيكما المدعي، يسألهما من المدعي، هذا وجه، أو يسكت حتى يتكلما، فإذا سكت وتكلم أحدهما قبل الآخر قدمه: وقدّم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام فإذا سبق أحدهما وجاء وتكلم فله ذلك، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، والغالب أن السابق يكون هو المدعي.
ويجوز للقاضي أن يقول لهم: أيكم المدعي، ويجوز أن يسكت.
[فمن سبق بالدعوى قدمه].
من سبق بالدعوى وتكلم قدمه؛ كما قلنا: وقدم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام(407/3)
حكم إقرار المدعى عليه
مثلاً: قال أحدهما: لي عند فلان عشرة آلاف ريال بسبب قرض أو بيع دينٍ -وحرر الدعوى- ولم يقضني، قال له للآخر: ماذا تقول؟ قال: نعم، له عليّ في ذمتي عشرة آلاف ريال، قال: اقضه وأد إليه.
هو هذا الإقرار، فإذا أقر أخذ بإقراره؛ لأنه لا يوجد أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك يقولون: الإقرار: سيد الأدلة، لأنه ليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً، ولما شهد رجل عند شريح رحمه الله وأقر -فيما لا يحكم فيه إلا بالشهود- فأخذه شريح بإقراره قال: رحمك الله! من شهد عليّ؟ وكيف تحكم عليّ بدون شهود؟ قال: شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني أنت شهدت على نفسك، فابن أخت الخالة هو نفس الرجل، فلا أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك قبلها الله في أعظم الأشياء وهو توحيده سبحانه وأقام الحجة بها على عباده.
وسيأتي في مسائل الإقرار.(407/4)
طلب البينة من المدعي إن أنكر المدعى عليه
[وإن أنكر؛ قال للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت].
لو قال المدعى عليه: ليس له عندي شيء، قال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (ألك بينة؟ قال: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً يحلف خصمك، قال: يا رسول الله! الرجل رجل سوء ... )، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن هلال بن أمية قذف امرأته بـ شريك بن سحماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك).
البينة: مأخوذة من البيان وهي الوضوح، وتعريفها في الاصطلاح: ما يُظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، والبينة تشمل الإقرار، والكتاب، والأيمان، والحجج التي اعتبرتها الشريعة.
وقوله: (ألك بينة؟) هذه المقولة تقال: للبر والفاجر، أي: شخص يدعي نطالبه بالبينة إذا أنكر خصمه، ولو كان من أصدق الناس؛ لأن هذا هو الأصل الذي دلت عليه السنة.
والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيه بينة (والمدعي مطالب بالبينة) يعني يقال له: ألك بينة؟ (وحالة العموم فيه بينة) أي: ولو كان من أصدق الناس، ولو كان من أصلح الناس وأعلم الناس فقل له: هل لك بينة؟ كما طُلبت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.(407/5)
حكم القاضي إذا رفض المدعى عليه الإجابة إقراراً أو إنكاراً
فإن أبى المدعى عليه الإجابة على الدعوى إقراراً أو إنكاراً.
ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي فيلزمه القاضي بالجواب إن أبى، ويحاول أن يلزمه في ذلك، فإذا رفض الإقرار أو الإنكار كُلّف ولو بالقوة، فإذا أبى فإن القاضي يحكم عليه وهذا ما يسمى بالنكول.
وقد ثبتت به الآثار وعمل به الأئمة رحمهم الله، وهو أن السكوت يدل على اعتباره؛ لأنه أعطي المجال أن ينكر فلم ينكر، فدل هذا على أنه مقر بما اتهم به فيؤاخذ على ظاهره.(407/6)
اعتبار البينة وشهادة الشهود لا علم القاضي
قال رحمه الله: [فإن أحضرها سمعها وحكم بها] أي: البينة، كشهادة شهود، ويجب على القاضي أن يسمع منهم.
[ولا يحكم بعلمه].
ولا يحكم القاضي بعلمه، ولا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه إلا في مسائل، وهي تزكية الشهود وجرحهم، فلو كان يعلم أن هذا الشاهد لا تقبل شهادته، وجيء به في قضية، وقيل له: فلان يشهد فنظر فيه، فقال: هذا ما نقبل شهادته، فهذا من حقه؛ لأنه يعلم فيه جرحاً؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] ممن ترضون: يعني يكون مرضياً عنهم، ولذلك لما أتى شخص لدى القاضي إياس رحمه الله بشاهد ولم يقبله إياس، قال له: لمَ ترد شاهدي رحمك الله؟ قال: يا هذا إن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}، وأنا لم أرضَ شاهدك، وفي بعض الروايات: وإن هذا ليس ممن أرضاه، فهذا يدل على أن من حق القاضي أن يقضي بعلمه: وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلماء.
فإذا عرفهم بالتزكية قبلهم وزكاهم، وإذا علم أن فيهم حرجاً ردهم.
وفي سواهم مالك قد شددا في حكمه بغير الشهدا وهو مذهب الجمهور، وليس خاصاً بـ مالك، فالشاهد من هذا: أن قضاء القاضي بعلمه لا يجوز، والدليل على عدم عمل القاضي بعلمه، قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي على نحوٍ مما أسمع).
وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما حدث اللعان بين عويمر وامرأته، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به على صفة كذا وكذا -كما ذكرنا في اللعان- قال: فقد كذب عليها والولد ولده، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فقد صدق عليها وهي زانية)، فأراد الله عز وجل أن تجيء به على صفة من اتهمت به -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه)، فدل على أنه علم واطلع على ذلك، وجاء بالقرينة واستقر عنده الدليل واتضح أنها زانية، ومع ذلك لمن يقضِ بعلمه، فدل على أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه.(407/7)
اليمين حال عدم وجود البينة وعدم الإقرار
[وإن قال المدعي: ما لي بينة، أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه].
قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه)، فأعلمه أنه ليس له من الخصم إلا اليمين، هكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[فإن سأل أحلفه وخلى سبيله].
فلا يحلفه القاضي مباشرة، بل يقول له: ليس لك إلا يمينه، فهل أحلّفه؟ فإن قال: حلّفه، حلفه.
[ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي].
ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي؛ لأن مجلس الحكم والقضاء ينبغي أن تكون خطوات الحكم فيه مرتبة على ما ذكرنا، من أنه يمكث ثم بعد ذلك يطلب من الخصم البينة فإذا تعذر وجود البينة، أو قال: لا بينة عندي، يقول له القاضي: ليس لك إلا يمينه، فإذا سبق وحلف قبل أن يطلب القاضي منه القسم فهذه يمين ريبة ترد ولا تقبل، وهي في غير موضعها؛ لأن موضعها أن يطلبها القاضي.
[وإن نكل قضى عليه].
كما ذكرنا.
[فيقول: إن حلفت، وإلا قضيت عليك، فإن لم يحلف قضى عليه].
ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي(407/8)
حكم وجود البينة بعد يمين المنكر
قال رحمه الله: [وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة، حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق].
بيّن رحمه الله قوة اليمين واعتبارها في إسقاط الدعوى عن المدعى عليه، ولكن هذا الإسقاط لا يقتضي إسقاطها من كل وجه، بحيث لو وجد الشخص البينة ووجد من يشهد له، فإنه لو أقامها بعد ذلك، سمع منه، لكن ثمة إشكال عند العلماء، وهو إذا قيل له: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، ثم حلف الخصم، ثم جاء المدعي بالبينة فهذا فيه شبهة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وفيها تفصيل تكلم فيه العلماء، ولكن حاصل ما يقال: أنه إذا وجد العذر، كأن يكون ناسياً أن لديه بينة فتذكر، أو كان لا يعلم أن شاهداً حضر ثم تبين أنه حضر الموقف المختلف عليه، ونحو ذلك من الأدلة، أو قال شخص: إني أشهد بما أقر عندي فلان أنك أنت أعطيته ونحو ذلك، فهذه بينة يجهلها، فإذا كان نفيه له وجه فيه وله عذرٌ قبل وإلا فلا.(407/9)
مسائل في حقيقة الدعوى(407/10)
حكم الدعوى المجهولة وشرط المدعى عليه
قال رحمه الله: [فصلٌ: ولا تصح الدعوى إلا محررة معلومة المدعى به].
لا تصح الدعوى مجهولةً، ولا تصح إلا إذا استوفيت الشروط من الوضوح والبيان، وتكون بالجزم، فلا يقول: أشك أو أظن أن لي على فلان كذا، بل لابد أن يقول: لي على فلان كذا.
محررة: أي: تحقق الدعوة.
والمدعى فيه له شرطان: تحقق الدعوى مع البيان تكون على يقين وعلى بينة دون شك وتردد مع تبيين السبب، مثلاً: يقول المدعي: لي عليه ألف ريال ديناً، أو: لي عليه في بيع، ويصف السبب الموجب لهذا الحق.
[إلا ما تصححه مجهولاً كالوصية وعبد من عبيده مهراً ونحوه].
تقدم معنا في كتاب الصداق والوصايا، أنه إذا كان المجهول من جنس ما يقبل به المجهول؛ فإنها تصح، لكن الأصل أن تكون معلومة كما ذكرنا.(407/11)
دعوى عقد النكاح
قال رحمه الله: [وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلابد من ذكر شروطه].
إذا كانت المرأة ادعت أو ادعى هو عقد النكاح فلابد أن يأتي بشروطه، كل هذا صيانة للقضاء بالفاسد؛ لأنه قد يدعي عقد نكاح فاسد، وقد يدعي بيعاً فاسداً، فإذا كان عقد النكاح وعقد البيع فاسداً فلا يصح للقاضي أن يلزم المشتري بدفع الثمن، ولا يصح أن يلزم البائع بدفع المثمن إلا بعد أن يتبين من أن العقد صحيح، هذا وجه أن نلزمه ببيان الشروط التي توجب زوال الريبة في العقد.
[وإن ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها].
لأن هذا كما تقدم له أصل؛ لأنها إذا ادعت ذلك سمعت دعواها، ثم بعد ذلك الرجل إذا نفى أنها امرأته وقام، تقيم الدليل على ثبوت النكاح وإلا لا يقبل منها مطلقاً ما تقوله، وإلا لصُدِّقت كل امرأة تقول: لي على فلان نفقة كذا وكذا، وليس لها شيء إلا إذا أقر وثبت عقد النكاح.(407/12)
دعوى الإرث
قال رحمه الله: [وإن ادعى الإرث ذكر سببه].
كما لو قالت امرأة -مثلاً-: لي عشرة آلاف ريال نصف ميراث، وأنا أخت فلان الذي توفي، وهذا قائم على أموال فلان فأريد أن يعطيني مالي، فتبين الدعوى بياناً صحيحا وتبين الإرث وسبب الإرث، فإذا قالت -مثلاً-: أنا أخت ولي النصف، توفي أخي وما ترك إلا ابن عم، فالأخت لها النصف وابن العم له الباقي تعصيباً، فبينت سبباً صحيحا ووضحت تقبل دعواها.(407/13)
عدالة الشهود
قال رحمه الله: [وتعتبر عدالة البينة ظاهراً وباطناً].
أي: لا يقبل من الشهود إلا العدول، كما قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فقال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ}، والفاسق لا يرضى، كذلك قال: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96]، إذاً: ينبغي أن يكون ممن يرضى، كذلك دلّ دليل آية الحجرات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، على أن الفاسق لا تقبل شهادته؛ لأنه قال: (فَتَبَيَّنُوا): أي فتثبتوا ولا تعجلوا فلو كان خبر الفاسق مقبولاً، لحكم به مباشرة، ولما أمرنا بالتريث، فدل على أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرةً، والفسق سواءً كان في الأقوال أو كان في الأفعال، يوجب رد الشهادة إلا في أحوال مخصوصة، التي هي شهادة أمثل الفساق، إذا لم يوجد إلا هم، وسيأتينا إن شاء الله في باب من تقبل شهادته ومن ترد.
والعدالة قسمان: عدالة ظاهرة وعدالة باطنة، فإذا كان مسلماً، فهذه عدالة ظاهرة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143]، أي: عدولاً، لكن العدالة الباطنة أن يعرف حاله؛ ولذلك لا تقبل شهادة الشاهد حتى يزكى، فإذا زكي قبلت شهادته، هذا إذا كان القاضي لا يعرفه، ولذلك جاء رجل إلى عمر بن الخطاب وشهد عنده فقال له عمر: إني لا أعرفك، اذهب وائتني بمن يزكيك، فجاء برجل فقال: أتعرفه؟ قال: نعم، قال: فَبِم تعرفه؟ قال: بالخير، فقال: هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: هل عاملته بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على صدق الرجل وأمانته؟ قال: لا، قال: اذهب؛ فإنك لا تعرفه.
فالتزكية -أيضاً- لا تقبل إلا ممن هو أهل.
إذاً: لا تقبل العدالة إلا ظاهراً وباطنا، هذا مذهب الجمهور، أما الحنفية فعندهم أي مسلم يشهد تقبل شهادته؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من صلى صلاتنا، وذبح ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا ... ) وغيره من العمومات، ولكن هذا القول ضعيف.
يقول شيخ الإسلام -في رد جميل-: من قال: إنهم يقولون إن الأصل في المسلم العدالة فهذا القول ضعيف؛ لأن الله تعالى يقول: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، والأصل فيه: الظلم والجهل حتى يزكى بالإسلام، ثم تأتي العدالة تزكية زائدة على التزكية الأصلية؛ ولذلك الوصف بالعدالة ليس وصفاً مطلقاً للإنسان، وإنما هو وصف يحتاج إلى تزكية، فلا تقبل إلا ظاهراً وباطنا، وهذا مذهب الجمهور، وأيضاً الإمام الماوردي ناقش استدلالهم وبين أن هذا الوصف زائد، وهو الذي قصده الشرع لقوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] فخصص، والشهداء مسلمون، ولكنه قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وهذا يدل على أنه وصفٌ زائد.(407/14)
السؤال عمن جهلت عدالته
قال رحمه الله: [ومن جهلت عدالته سئل عنه].
ينبغي أن يكون للقاضي رجالاً مخصوصين يعتمد عليهم بعد الله عز وجل، فيكتب إليهم سراً باسم الشاهد ونسبه وموضعه وعمله، ثم يأمرهم أن يسألوا في عمله ويتحروا عنه حتى يعرفوا صدقه من كذبه، كل هذا صيانة للقضاء الإسلامي، وهو موجود في كتب العلماء واعتنى به الأئمة على خلاف مذاهبهم، كالإمام الخصاف من الحنفية في كتابه شرح أدب القضاء، نبه عليه وبين أصوله، وكذلك المالكية تكلم عليه الإمام ابن فرحون في التبصرة، وكذلك تكلم عليه الإمام الماوردي، وهو من أنفس الكلام في أدب القاضي في الحاوي الكبير، وتكلم عليه الإمام النووي من الشافعية في الروضة، وكذلك من الحنابلة تكلم عليه الإمام ابن قدامة في المغني وابن مفلح في المبدع.
وهذه المهمة كانت مهمة أعوان القضاة، يُرسل إليهم سراً ليسألوا عن الرجل ويتحروا هل تقبل شهادته أو لا؛ فإن تعذر وجود العدول أو كثر الفسق قبل أمثل الفساق كما ذكرنا، وهذا قرره الأئمة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن فرحون وغيرهم.
[وإن علم عدالته عمل بها].
كما ذكرنا أنه يحكم على ما يعلمه في الشهود عدالة وجرحاً.
[وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به وأنظر له ثلاثة إن طلبه].
كما لو قال شخص: عندي بينة قال: أحضر بينتك، فجاء شاهدان وشهدا أن فلاناً أعطى فلاناً ديناً عشرة آلاف ريال، فقال الخصم المشهود عليه: هذان الشاهدان عدوان لي، وأنا أجرح شهادتهما بالعداوة، يقول له القاضي: أثبت لي هذه العداوة، يقول له: أنظرني فيعطيه القاضي مهلة ثلاثة أيام ليذهب ويبحث ويأتي بشهود أنه حصلت خصومة بينه وبين الشهود الذين شهدوا عليه، فيمهله لرد الشهادة التي عليه.
وكذا لو قال للقاضي: الشاهد الأول شريك لفلان في الشركة شريك لفلان في هذه الأرض وله مصلحة، فقال: أثبت ذلك، فيقول: أمهلني حتى أحضر شهوداً على ذلك وسيأتينا إن شاء الله تفصيل في القوادح وما يطعن في شهادة الشاهد، والمقصود هنا أن المشهود عليه له الحق أن يدافع عن نفسه؛ ولذلك أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا موسى أن يمهل الخصم ويعذر إليه هذا الإعذار حتى يمكنه من دفع الشهادة عنه.
[وللمدعي ملازمته].
وللمدعي ملازمة الخصم، خلال مدة المهلة.
[فإن لم يأت ببينة حكم عليه].
حكم عليه؛ لأن الأصل أن البينة ماضية ويحكم بها إن زُكِّيت وعُدّلت وثبتت شهادتها وصحت، فلا تعطّل، وإلا عطلت الأحكام.
[وإن جهل حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم].
وإن جهل القاضي حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم، فلو ادعى شخص أن فلانة زنت أو قذفها بالزنا والعياذ بالله، فقال له القاضي: أحضر الشهود، فقال: أمهلني، فإنه يمهله ثلاثة أيام، وهكذا من طعن في شهود خصمه وطلب الإمهال يمهله القاضي ثلاثة أيام حتى يأتي ببينة على جرحه لهم.
وكذلك تزكية الشهود.
[ويكفي فيها عدلان يشهدان بعدالته].
يكفي في التزكية عدلان يشهدان بعدالة الشاهد، أو عدلان يشهدان بالجرح.(407/15)
عدالة المترجم والمزكي والجارح والمعرف والرسول وعددهم
[ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح والتعريف والرسالة إلا قول عدلين].
هذه الشهادة على أنها شهادة كما ذكر رحمه الله.
[ولا يقبل في الترجمة]، في ترجمة كلام الشهود -مثلاً- لو كانوا على لغة لا يعرفها القاضي، فإنه يأتي بمترجمين، ويشترط فيهم التعدد.
ومسألة تعدد المترجمين، اختلف فيها على قولين بناءً على المسألة المشهورة: هل الترجمة شهادة أو خبر؟ فإن قلنا: خبر، كفى فيها الواحد، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة، وبناءً على ذلك لا يشترط فيها التعدد، واحتجوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـ زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود، واكتفى به صلى الله عليه وسلم في ذلك.
[والتزكية والجرح].
التزكية والجرح، أي: كون الشاهد مجروحاً أو كونه عدلاً؛ لابد أن يكونا بشهادة شاهدين على عدالته أو جرحه، وإذا كانت خبراً كما هو الظاهر يكفي فيها تعديل الواحد.
[والتعريف] والتعريف: مثل أن تأتي امرأة وتدعي أن فلان ابن فلان زوجها… فهذه المرأة كيف يعرف القاضي أنها فلانة؟ يأتي أحد المحارم ويشهد أن الحاضرة في مجلس القضاء فلانة بنت فلان.
[والرسالة إلا قول عدلين].
والرسالة كذلك، فإذا كتب القاضي -وسيأتي الحديث عنها- فلابد أن تكون بشهادة عدلين.(407/16)
المحاكمة غيابياً (الحكم على غائب)
[ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق].
هذه مسألة خلافية: هل يحكم القاضي على الغائب أو لا يحكم عليه، فمن قال: بأنه يحكم عليه؟ يحتج بحديث هند رضي الله عنها وأرضاها، أنها قالت: (يا رسول الله! إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ مسيك، أفآخذ من ماله؟ قال: خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف)، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وهو غائب.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحديث: هل هو فتوى أو قضاء، فإذا قلنا: إنه قضاء فهو حجة على جواز حكم القاضي على الغائب، والذين يقولون بعدم جوازه يقولون: هذه فتوى، فالنبي صلى الله عليه وسلم تارةً يكون مفتيا وتارة يكون قاضيا وتارة يتصرف بالرسالة، وهذا ما يعرف بشخصيات الرسول، ومن أنفس الكتب التي كتبت في ذلك كتاب الإمام القرافي رحمه الله: الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام وبيان تصرفات القاضي والإمام، وقد ذكر فيه هذا الحديث وخلاف العلماء فيه.
[وإن ادعى على حاضر بالبلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة].
إلا بعد طلب الخصم، لكي يجيب عنها ويقف معه ويخاصمه؛ لأنه يمكن حضوره، وحينئذٍ لا يحكم عليه -وهو في نفس المدينة حاضر- إلا إذا امتنع من الحضور وأصر وتخفى، فهذه مسألة مستثناة ولها ضوابطها عند العلماء، وقد أفتى غير واحد من أهل العلم بجواز القضاء عليه.(407/17)
شرح زاد المستقنع - باب كتاب القاضي إلى القاضي
كتاب القاضي إلى القاضي سنة متبعة معتبرة عند العلماء رحمهم الله، وهذا الكتاب له أحكام وشروط ينبغي توافرها فيه حتى يعمل به ويؤخذ بما فيه، وقد بين أهل العلم هذه المادة هذه الأحكام والشروط أتم البيان.(408/1)
كتاب القاضي إلى القاضي
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب كتاب القاضي إلى القاضي].
كتاب القاضي إلى القاضي، ثبتت السنة به كما في حديث ضحاك بن سفيان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه: (أن ورث امرأة أشيم من ميراثه)، فهذا أصل عند العلماء رحمهم الله في صحة كتاب القاضي إلى القاضي، وبعضهم يحتج بكتاب سليمان، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، ولكن هذا أعم من موضع النزاع، لكن هذا الحديث أصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كتب بما ثبت عنده؛ لأن المرأة ادعت الميراث من زوجها، وثبت عنده فكتب إلى قاضيه، الذي هو الضحاك بن سفيان رضي الله عنه وأرضاه، وكان كما في رواية أبي داود والحديث صححه الترمذي وغيره: أن يورث امرأة أشيم الضبابي رضي الله عنها وعنه من ميراثه، فحكم بأن لها ميراثاً وأنه ينفذ بالتوريث لإعطائها ذلك الحق.
فهذا مما يكتب به القاضي إلى القاضي، أو أن يكتب له بالشهود أنهم شهدوا بالقضية ويذكرهم ببينة دون عدالة أو جرح فيكتب إليه حتى ينظر في عدالته وجرحه، وإما أن يكتب له بعد شهادة الشهود وتزكيتهم مثبتاً شهادتهم ويوكل إليه النظر بالحكم، وإما أن يكتب إليه بعد شهادة الشهود وثبوت تزكيتهم والحكم عليهم لكي ينفذ حكمه، وهذه كلها أحوال على حسب الحاجة يكتب فيها.
[يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق حتى القذف].
والأئمة الأربعة رحمهم الله كلهم على العمل بكتاب القاضي إلى القاضي، وأنها سنة متبعة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وأنه لا بأس بذلك ولا حرج.
[لا في حدود الله]، الحدود يتولى النظر فيها بنفسه ولا يعتمد كتاب قاضٍ إليه صيانة للدماء وعظم أمرها؛ ولذلك لا يحكم فيها بكتاب القاضي، ولا ينفذ فيها كتاب القاضي إلى القاضي حتى يقرأ القاضي الثاني ويطلع ويقوم على القضية بنفسه، هذا فقط في الحدود، وهذا مما يستثنى في حكم القاضي على القاضي، إلا القذف؛ لوجود حق المخلوق والخالق، فإنه من الحقوق المشتركة، وقد تقدم معنا في باب القضاء.
[كحد الزنا ونحوه].
والقتل كذلك، لا يعمل بكتاب القاضي إلى القاضي، وهذا لعظم أمر الحدود.
[ويقبل فيما حكم به لينفذه].
ويقبل فيما حكم به لينفذه، الخصم في مكة فكتب القاضي من المدينة إلى مكة أنه ثبت عندي بشهادة الشهود فلان وفلان أن فلاناً له في ذمة فلان كذا وكذا ويحرر له القضية ثم يختم الكتاب ويقرؤه على الشاهدين ثم يقوم الشاهدان بالذهاب بالكتاب إلى القاضي، فينفذ ما فيه.
[وإن كانا في بلد واحد].
بعض الأحيان يكون هو القاضي الكبير والآخر تحت ولايته، قالوا: إن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الضحاك من هذا المعنى، فقد كان الضحاك والياً على قضاء الأعراب كما في رواية الترمذي، وحينئذٍ هو تحت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم العامة، فيستفاد منها أنه لو كان في نفس البلد فله أن يكتب ذلك.
[ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلا أن يكون بينهما مسافة قصر].
هذا بالنسبة السفر، اشترطوا أن يكون فيه السفر وهو من مسألة مبنية على وجود الحاجة، أما إذا لم توجد فإنه يتولى القضية بنفسه وينفذها بنفسه.
[ويجوز أن يكتب إلى قاض معين وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين].
أي: يجوز أن يكتب إلى قاض معين: إلى فلان ابن فلان قاضي المدينة أو قاضي مكة، أو أن يكتب إلى عموم قضاة المسلمين، وهذا يختلف باختلاف القضايا والحقوق أنه تارة يجعل كتابه عاما وتارة يجعله خاصاً.
[ولا يقبل إلا أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين يحضرهما فيقرأه عليهما ثم يقول: اشهدا أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان ثم يدفعه إليهما].
حجية الكتابة للعلماء فيها وجهان: منهم من يقوي حجيتها بخط القاضي إلى القاضي، وجماهير السلف على أن وجود شهادة الشهود تقوي العمل بالكتاب، ذلك بأن يقرأ الكتاب على الشهود أو يطلعهما على ما في الكتاب ثم يشهدان بما فيه، وأن هذا هو كتاب القاضي فلان ابن فلان في قضية كذا وكذا ويشهدان بما فيه، فحينئذٍ يكون الكتاب موثقاً، ويقبله القاضي الثاني، أما إذا لم يشهدا عليه فإنه لا يقبله.(408/2)
شرح زاد المستقنع - باب القسمة
ألحق العلماء باب القسمة بكتاب القضاء؛ لأن كثيراً من القضايا تكون ناتجة عن اختلاف الشركاء في القسمة، وعلى هذا فالقسمة قد تكون يشترط فيها رضا الشركاء، أو قسمة إجبار لا يشترط فيها ذلك.(409/1)
القسمة تعريفها ومشروعيتها وأنواعها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب القسمة].
القسمة مأخوذة من قولهم: قسمت الشيء أقسمه أقساماً وقسمة.
وأصل القسم: النصيب والحظ من الشيء، وغالباً ما يكون في الأشياء التي لها شركة، أو يجتمع فيها شخص فأكثر.
وقوله: [باب القسمة].
أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالقسمة، سواء كانت قسمة تنبني على التراضي أو كانت قسمة إجبار، هذان هما نوعا القسمة.
والأصل في القسمة كتاب الله عز وجل، كما قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى} [النساء:8]، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جابر رضي الله عنه مرفوعاً: (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وتفرفت الطرق فلا شفعة)، وهذا يدل على مشروعية قسم الأشياء من المنقولات والعقارات، فالآية في المنقولات وشاملة أيضاً للعقار من جهة التبع، وبالنسبة للحديث فإنه في العقارات.(409/2)
النوع الأول: قسمة التراضي
قال رحمه الله: [لا تجوز قمسة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر أو إلا برد عوض].
هذا هو النوع الأول من القسمة، وهو قسمة التراضي، ولا يمكن فيها أن نجبر أحد الشركاء على القسمة، بل إذا رضي بالقسمة قسمنا وإلا فلا؛ والسبب في ذلك وجود الضرر؛ لأن القسمة شرعت لدفع الضرر، والقاعدة تقول: (الضرر لا يزال بالضرر)، إلا في مسائل مستثناة، منها مسألة: (درء المفسدة العليا بارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين) ونحو ذلك، لكن الأصل الشرعي: أن الضرر لا يدفع بالضرر.
ومثال: إذا كان هناك مزرعة وفيها بئر واحد لا يمكن قسمته، أو كان هناك عقار لا يمكن أبداً أن يؤجر إلا مجتمعاً، فإذا قسم تعطلت منافعه، ونحو ذلك من المسائل كما ذكر المصنف في الأشياء الصغيرة كالحمام والغرف الصغيرة التي لا يمكن قسمتها.
فهذا النوع يسمى (قسمة التراضي) بمعنى: أننا لا نحكم بالقسمة إلا إذا رضي الطرف الثاني -وهو المتضرر- فإذا رضي بذلك قسمنا، وهذا الحكم عام، فيدخل فيه استواء الأنصبة واختلاف الأنصبة.
استواء الأنصبة: أن يكون لأحدهما نصف الأرض وللآخر النصف الآخر، أو تكون الأرض منقسمة أثلاثاً لكل واحد منهم ثلث الأرض، فالنصيب متساوٍ.
أو يكون الضرر بسبب اختلاف في النصيب، كأن يكون لأحدهم ثلاثة الأرباع، والآخر له الربع، فلو قُسمت فلا شك أنه ستتحسن المنافع باجتماع الثلاثة الأرباع ولكنها لا تتحسن لمن له الربع، وقد يكون هناك عقار بين اثنين، لأحدهما فيه العشر وللآخر تسعة أعشار، فالذي له العشر لا يمكنه بحال أن ينتفع من العقار، وهذا كله مبني على أن الأصل في مشروعية القسمة هو دفع الضرر، ولذلك يعتبرون هذا الباب -وهو باب القسمة- مبنياً على القاعدة الشرعية: (الضرر يزال) وهي إحدى القواعد الخمس المشهورة التي أشرنا غير مرة أنه انبنى عليها الفقه الإسلامي.
وقوله: [إلا برضا الشركاء].
إلا برضا الشريك أو الشركاء، فإن كان العقار بين اثنين وطالب أحدهما بالقسمة سألنا الطرف الآخر أن يرضى، وإذا كانوا أكثر من واحد فإنه يُطْلَبْ رضا الأطراف الأخرى الذين لم يطالبوا بالقسمة، فلو اتفقوا كلهم على القسمة فلا إشكال، إنما الإشكال إذا كان أحدهما يطالب بالقسمة، والآخر يقول: أنا أتضرر بالقسمة ولا أريد القسمة.
ويحصل هذا في الميراث، كأن يتوفى الرجل ويترك وارثين، فيرثا أرضاً، ومزرعة، وداراً، فالقسمة تضر بهما أو بأحدهما؛ فحينئذ لا نحكم بإجبار الطرف الآخر على القسمة.
قال رحمه الله: [كالدور الصغار، والحمام والطاحون الصغيرين].
الحمام والطاحون الصغيران لا يمكن قسمتهما؛ لأن منافع الحمام ومنافع الطاحون لا يمكن قسمتها، والحمام في القديم هو مكان الاغتسال، وليس الحمام الذي هو دورة المياة -كما يعرف في زماننا- فكان عبارة عن بناء يوقد تحته النار من أجل تسخين المياه وهو معروف إلى زماننا، فهذا الحمام لا يمكن قسم منافعه، ولا يمكن أبداً أن نعطي شخصاً تسعة أعشار الحمام، أو نعطي شخصاً ثلث الحمام، أو نعطي شخصاً ربع الحمام، إلا إذا كان كبير المساحة يمكن قسمته والفصل بين الأنصبة والأجزاء.
فلو كان الورثة لهذا الحمام خمسة أبناء ذكور، فإن الحمام يقسم بينهم أخماساً، فإذا وجد في القسمة ضرر على أحد الشركاء فهذه يسمونها (قسمة التراضي) بمعنى أنه لا يجبر القاضي الطرف الآخر على أن يقسم لتحصيل مصلحة الطرف الأول.
قال رحمه الله: [والأرض التي لا تتعدل بأجزاء].
مثل أن يكون عنده أرض بعضها على الشارع وبعضها بعيد عن الشارع، أو بعضها يمكن الانتفاع به وبعضها لا يمكن الانتفاع به، أو بعضها جبل وبعضها غير صالح للزراعة، بعضها سبخة وبعضها صحراء ونحو ذلك، فإذا تفاوتت أجزاء الأرض ولا يمكن قسمتها لوجودالضرر، أو لا تمكن القسمة إلا برد العوض -ولذلك يضبطون هذا النوع وهو (قسمة التراضي) بأنها التي لا يمكن إعمالها إلا بوجود الضرر أو بتعديل الأجزاء بالمال- فإذا حصل ذلك وهو رد العوض فإنه يعتبر من قسمة التراضي.
[ولا قيمةٍ كبناءٍ أو بئر في بعضها].
ففي هذه الحال لا يمكن قسمتها إلا بضرر أو بقيمة.
[فهذه القسمة في حكم البيع] أي: تأخذ أحكام البيع، فإذا رضيا فحينئذ تجري عليهما أحكام البيع، مثلاً: يثبت فيها خيار المجلس، فلو أنه رضي ثم ندم على الرضا وهما جالسان، كان من حقه أن يقول: رجعت عن رضاي أو لا أريد القسمة؛ لأنها آخذة حكم البيع، والبيع يجوز فيه خيار المجلس، وهو ثابت بالسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أصح قولي العلماء.
ومن فوائده: أننا لو قسمنا أشياء من الربويات كحبوب وكان فيها ضرر ثم تراضوا وقسموا كأن يكون على النخل، فحينئذ لابد من التقابض؛ لأن كل قسم في مقابل القسم الآخر، فلابد أن يحصل التقابض، كما يشترط في البيع، فتجري عليه أحكام البيع.
[ولا يجبر من امتنع من قسمتها].
وهذا من أحكامها التي تأخذ أحكام البيع، فمثلاً: ورثة ورثوا شيئاً واشتركوا فيه، فاشتكى أحد الورثة، وقال: أريد أن أقسم مع إخواني، ولما نظر القاضي فإذا بالعين التي يراد قسمتها لا يمكن قسمتها إلا بضرر على الأطراف الأخرى أو بعضهم، فامتنعوا، وقالوا: لا نريد، فحينئذ ليس من حق القاضي أن يجبرهم على القسمة.
إذاً: قسمة التراضي لا يحصل فيها إجبار، وإذا تراضوا وتمت القسمة بينهم جرت أحكام البيع على ذلك.(409/3)
النوع الثاني: قسمة الإجبار
قال رحمه الله: [أما ما لا ضرر ولا رد عوض في قسمته، كالقرية والبستان والدار الكبيرة والأرض والدكاكين الواسعة، والمكيل والموزون من جنسٍ واحدٍ كالأدهان والألبان ونحوها، إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها].
هذا هو النوع الثاني من القسمة: وهو قسمة ما لا يحصل الضرر بقسمته، فلو كانت أرضاً والأرض كلها على الشارع ويمكن قسمها إلى أجزاء على حسب الحصص، فمثلاً: أخوان وارثان كل منهما له النصف، ورثا ميتاً عصبة، فقسمت الأرض بينهم مناصفة، قالوا: نريد القسمة، فتقسم بينهم مناصفة، وبما أن كلا النصفين على الشارع وكلا المميزات الموجودة في هذا النصف موجودة في النصف الآخر؛ فحينئذ يجوز قسمتها، ولا إشكال في هذا، وهذا معنى (لا ضرر فيه).
كذلك المكيلات يمكن تحديد الأجزاء فيها بالكيل، فمثلاً: لو ترك المورث خمسين صاعاً من بر، وقال أحد الوارثين: أريد أن أقسم حتى أتصرف في قسمي، وقال الآخر: لا نقسم، بل نبيعها كلها، فحينئذ يجبر القاضي الطرف الآخر على القسمة؛ لأن قسمة الخمسين صاعاً لا ضرر فيها، ويمكن العدل فيها بين الطرفين، فيجبر الرافض للقسمة منهما على هذا، وهو أكثر ما يقع في مسائل الميراث وفي الشركات بين الشركاء، ولذلك أدخله العلماء رحمهم الله -والمصنف رحمه الله- في باب القضاء؛ لحصول التنازع فيه.
[وهذه القسمة إفراز لا بيع].
إفراز النصيب لكل منهما.
وقد تكون القسمة في المنافع، وهي التي سميناها قسمة المهايأة، وهي أن يهيئ كل منهما للآخر نصيبه الذي يرتزق به، كما لو اتفق وارثان، أحدهما قال: أنا أسكن في الدور العلوي، والثاني قال: أنا أسكن في الدور السفلي، والدار بينهما، فحينئذ تهيأا للانتفاع من الدار، وهذه هي قسمة المهايأة.(409/4)
من يقسم بين الشركاء وعلى من تكون أجرته
[ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم، وبقاسم ينصبونه].
(ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم) إذا حصلت القسمة بينهم برضا الأطراف، فحينئذ لا إشكال، ولا يجب عليهم أن يترافعوا إلى القاضي، ولا يجب عليهم أن يُنصبوا قاسماً يقسم بينهم، ما دام أنهم تراضوا، ورضي كل منهم بحصته.
(وبقاسم ينصبونه) (يَنْصِبُوْنَه أو يُنَصِّبُوْنَه) أي: يأتون بشخص، فمثلاً: إذا كانت أرضاً وجاءوا بمهندس -كما في زماننا- ينظر إلى الأرض ويعدّلها ورضوا بقسمته، فإذا كان متبرعاً فلا إشكال، لكن لو قال: أريد أجرة على ما عملت، فحينئذ تنقسم الأجرة على قدر نصيب كل واحد منهم، فإذا كانت الأرض بين الاثنين مناصفةً، وجب على كل واحد منهما أن يدفع نصف الأجرة، وإذا كانت الأرض أرباعاً لكل واحد من الأربعة الربع، وجب على كل واحد أن يدفع ربع أجرة القاسم.
فإذا قال: أجرة مثلي في هذه القسمة لهذا العقار أو هذه الأرض أو هذه المزرعة أربعمائة ريال، فإذا كانوا أربعة فحينئذٍ يدفع كل شخص مائة ريال؛ لأن هذه الأرض غنمها وغرمها على الجميع بقدر النصيب، كما أنها لو خسرت ونقصت قيمتها دخل النقص والخسارة على الجميع، كذلك لو ربحت وزاد نماؤها كان نماؤها على الجميع، وأصول الشريعة تقتضي هذا، ولذلك القاعدة الشرعية تقول: الخراج بالضمان، وتقول: الغنم بالغرم،، وبعضهم يقول: الغرم بالغنم، والمعنى واحد، وعلى كل حال الربح لمن يضمن الخسارة، وقد تقدم تقرير هذا في غير ما موضع، وأشرنا إلى حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وغيره في تقرير هذا الأصل.
قال رحمه الله: [أو يسألوا الحاكم نصبه، وأجرته على قدر الأملاك].
قوله: (أو يسألوا الحاكم نصبه) إذا وجد عند الحاكم لجنة، أو لدى القاضي أناس من أهل الخبرة؛ لأن القضاة ينبغي عليهم أن يكون عندهم أناس لهم خبرة في شؤون الناس ومشاكل الناس وأحوالهم يرجع إليهم القاضي عند الحاجة، تارةً يكونون منصبين من قبل القاضي ويكون لهم رزق من بيت المال على خلاف بين العلماء رحمهم الله في مسألة إعطائهم أرزاقاً من بيت المال.
فإذا سألوا القاضي أن ينصبه، فمذهب طائفة من العلماء أن هذه القسمة الحظ فيها للشركاء، وإذا كان الحظ للشركاء فلا تُدخل على بيت المال ضرراً، بمعنى أن بيت المال لا يتحمل أجرة القسمة، بل يتحملها الشركاء؛ لأنه لا علاقة لبيت المال في قطع خصومة ما، بحيث تحمل على بيت مال المسلمين.
[وأجرته على قدر الأملاك] كما ذكرنا، من كان له النصف فيدفع نصف أجرته، ومن كان له الربع فيدفع الربع، وهكذا.
قال رحمه الله: [فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة].
قوله: (فإذا اقتسموا) النصيب، وجرت القسمة لزمتهم، بالأطراف، والأصل يقتضي هذا، وإلا فما هو المراد من قسمتها.(409/5)
القرعة في القسمة
قال رحمه الله: [وكيف اقترعوا جاز].
وكذلك القرعة، فمثلاً: لو قسموها قسمين، وهما شريكان، قال أحدهم: أنا آخذ اليمنى، وقال الآخر: أنا آخذ اليسرى، فلا إشكال، وكذلك لو شُق شارع وقسم الأرض قسمين، فقال أحدهما: أنا آخذ الشمالية.
والآخر قال: أنا آخذ الجنوبية.
أو قال أحدهما: الشرقية، وقال الآخر: الغربية.
واصطلحوا على هذا؛ فلا إشكال، لكن لو قال أحدهما: أنا آخذ اليمنى، وقال الآخر: أنا آخذ اليمنى.
وليس هناك تميز في إحداهما؛ لأن القسمة لا تمكن إلا بالتعديل، فإذا استوت أجزاؤها، لكن أحدهما قال: أنا أريد الشمالية، وقال الآخر: وأنا أريد الشمالية؛ فحينئذ لابد من القرعة.
والقرعة لها أصل يدل على المشروعية، وهو قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:141]، والحديث الذي في قصة سليمان عليه السلام، والأصل يقتضي مشروعية القرعة وجريانها، ولها عدة صور؛ كيفما اقترعوا جاز، فمثلاً: لو أنهم وضعوا الشمالية في ورقة والجنوبية في ورقة، ثم تخلط الأوراق، وكل واحد منهما يأخذ ورقة أو يؤتى بشخص جاهل أو طفل لا يعلم -كما ذكر بعض العلماء- حتى يكون أبعد عن التهمة والريبة، وبعد خلطه للورقتين يقول أحدهما: أنا آخذ الورقة الأولى، والآخر يقول: أنا آخذ الورقة الثانية.
وهكذا.
وعلى كل حال أنهم: كيفما اقترعوا جاز، ما دام أنه أمر خفي، ولا تحصل فيه التهمة ولا الريبة، وليس فيه تنبيه لأحدهما على ما يريد وما يطلب، فإنه جائز.(409/6)
شرح زاد المستقنع - باب الدعاوى والبينات
يختصم الناس إلى القضاء في كثير من المشاكل التي تقع بينهم، وفي هذه الخصومات يقوم كل خصم بتقديم البينات والحجج لإثبات صحة دعاواهم، وقد درج كثير من المصنفين على إلحاق باب مختص بالدعاوى والبينات بكتاب القضاء؛ لما لهذا الباب من أهمية في بيان المدعي من المدعى عليه، وما هي البينة المقبولة من المردودة، وغير ذلك من المسائل.(410/1)
باب الدعاوى والبينات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب الدعاوى والبينات].
الدعاوى: جمع دعوى، ويقال: دعا إذا طلب، ودعا إذا تمنى في لغة العرب.
والمراد بها إضافة الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو في ذمته، هذا بالنسبة لحقيقتها في اصطلاح العلماء رحمهم الله، وهذه الإضافة توسّع بعض العلماء فيها، فقالوا: إنها من حيث الأصل تأتي على سبيل الإثبات وعلى سبيل النفي.
وقوله رحمه الله: (والبينات) جمع بينة، وقد تقدم تعريفها.
يقول رحمه الله: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من أحكام المسائل التي تتعلق بأحكام الدعاوى في القضاء وأحكام البينات والحجج التي يرفعها الخصوم لكي يثبت كل واحد منهم صحة ما يدعيه، والبينات تتعدد وتختلف، ولذلك يفرد العلماء رحمهم الله باباً يختص بالدعاوى وبالبينات ويلحقونه بكتاب القضاء.(410/2)
الفرق بين المدعي والمدعى عليه
قال رحمه الله: [المدعي من إذا سكت تُرك].
والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك هذه المسألة تعرف بمسألة تمييز المدعي من المدعى عليه، ولا يمكن لقاضٍ أن يقضي في قضية حتى يستطيع أن يعرف أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، ومن أصول الدعوى والمرافعات في القضاء، أن يميز بين المدعي والمدعى عليه، إذ لا يمكن لأحد أن يفصل في قضية، حتى ولو لم تكن قضائية، حتى في العلم في مسائل العلم؛ لأن الإنسان إذا علم من هو المدعي، قال له: عليك الحجة وعليك البينة، وطالبه بالحجة والبينة، وإذا علم المدعى عليه بقي على قوله حتى يدل الدليل على خلافه، ولذلك تجد طلاب العلم الذين لا يحسنون هذا الباب، يجلس بعضهم مع بعض، ويقول كل واحد منهم: أعطني دليلاً، والآخر يقول: أعطني دليلاً، فهم لم يعرفوا الأصول ولم يثبتوا الأصول، حتى يميزوا من الذي يطالب بالدليل والحجة، ومن استطاع أن يضبط الأصول ويعرف القواعد والأسس في ضبطها، فإنه لا يشكل عليه أمرها.
ومن هنا قال الإمام الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله: من عرف المدعي من المدعى عليه، لم يلتبس عليه حكم في القضاء.
إذاً لابد من معرفة حال المدعي والمدعى عليه، حتى قال بعض العلماء في نظمه: تمييز حال المدعي والمدعى عليه جملة القضاء وقعا عليه جملة القضاء وقعا: كل القضايا لا يمكن أن يبت فيها حتى يُعرف من المدعي ومن المدعى عليه.
وهذه الضابط الذي ذكره المصنف رحمه الله ارتضاه كثير من أهل العلم رحمهم الله.
وصححوه، وقال به فقهاء الحنفية، وقال به بعض الشافعية، ورجحه الإمام الشوكاني وغيره، وانتصر له الإمام الماوردي رحمة الله على الجميع في الحاوي: أن المدعي من إذا سكت تُرك؛ لأن الحق حقه، فلو أنه لا يريد أن يدعي لا نأتي ونقول له: طالب، ويجب عليك أن ترافع، والمدعى عليه إذا أقيمت عليه الدعوى، فإنه إذا سكت، نقول له: أجب، ولا يترك، ويطالب بالرد، لكن المدعي لا يطالب؛ لأن له الحق في أن يطالب، وإذا سكت ولم يطالب لم يفرض عليه أحد أن يتكلم، ولم يفرض عليه أحد أن يخاصم، ولكن المدعى عليه -ولا تقل: هذا مدعى عليه؛ إلا إذا ثبتت دعوى- لا يمكن أن يترك؛ بل يقال له: أجب، وقد تقدم معنا أنه يجبر على الجواب حتى ولو سكت: ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا ولذلك يطالب وإذا سكت لم يترك، أما المدعي فهو الذي إذا سكت ترك، هذا هو الضابط الذي اختاره المصنف رحمه الله.
وهناك ضابط آخر -وهو صحيح وقوي جداً- وهو أن المدعي من كان قوله موافقاً للأصل، والمدعى عليه من كان قوله خلاف الأصل، فمثلاً: شخص جاء وقال: فلان زنى.
فالأصل أنه غير زانٍ، فحينئذ الذي قال: فلان زنى، هذا مدعٍ، والطرف الآخر الأصل -وهو المدعى عليه- فيه البراءة من التهم، حتى يثبت أنه متهم، فإذا قال شخص: فلان ضرب فلاناً.
الأصل أنه لم يضرب، فحينئذ الذي يقول: فلان ضرب فلاناً؛ مدعٍ.
ويكون الطرف الآخر مدعىً عليه، هذا ضابط.
وهناك ضابط آخر يضبط القضايا بألفاظها.
فقال بعضهم: المدعي من يقول: حصل كذا، كان كذا، يعبرون بقولهم: كان كذا، أي: بعت، اشتريت، أجَّرْت، أخذ مني سيارةً، أخذ داري، اعتدى عليَّ، شتمني، ضربني، والمدعى عليه: هو الذي يقول: ما ضربته، ما شتمته، لم يكن كذا.
فقالوا: المدعي هو الذي يقول: كان، والمدعى عليه: هو الذي يقول: لم يكن.
وكذلك أيضاً يعرف المدعي إذا كان قوله خلاف الظاهر، والمدعى عليه من هو على الظاهر ويكون بالعرف، فمثلاً: عندنا بالعرف أنه إذا كان شخص يسكن في بيت، وجاء شخص وقال: البيت بيتي، أو العمارة عمارتي، أو الأرض أرضي، فحينئذ الظاهر أن الأرض لمن يعمل فيها، والبيت لمن هو ساكن فيه، فظاهر العرف يشهد بأن الإنسان ما يتصرف إلا في ماله، كذلك لو وجدنا شخصاً راكباً على بعير، والآخر غير راكب، فقال الراجل: هذا بعيري، فالظاهر يشهد وكذا العرف يشهد بأن هذا مدعٍ، والراكب مدعىً عليه، ونعود في ذلك إلى التعريف الذي ينص على أن الذي خلا قوله عن الأصل وعن العرف أو الظاهر الذي يشهد بصدق قوله فإنه حينئذ يكون مدعياً.
وأما إذا اقترن قوله بالأصل واقترن قوله بالظاهر؛ فإننا نقول: إنه مدعىً عليه، وحينئذ لا نطالبه بالحجة، ونبقى على قوله حتى يدل الدليل على خلاف قوله، والبعض صاروا إلى هذا كما يقول الناظم رحمه الله: فالمدعي من قوله مجرد من أصل أو عرف بصدق يشهد (من أصل) فمثلاً قال: فلان زنى، الأصل أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
فقوله مجرد من الأصل، فنقول له: ائتِ بالبينة، وأنت مدعٍ أو (عرف بصدق يشهد) أي: عرف يشهد بصدق قوله، وقد قلنا: إن العرف يحكم بأن راكب الدابة هو صاحبها، وكذلك لو كان اثنان على دابة، فالعرف يقضي أن الذي في المقدمة مالكها، أي: لو قال كل منهما: هذه دابتي، فالذي في المقدمة مدعىً عليه والذي في الخلف مدعٍ.
ولو كانا في سيارة وأحدهما يقود والآخر راكب، فإن العرف يشهد بأن الذي يقود السيارة مالكها -والآن أوراق التملك تحل القضية- فمن حيث الأصل أن المدعي من تجرد قوله من الظاهر ومن الأصل ومن العرف الذي يشهد بصدق قوله: وقيل من يقول (قد كان) ادعى و (لم يكن) لمن عليه يُدعى (وقيل) أي: من جملة الأقوال في ضابط المدعي والمدعى عليه، (من يقول: قد كان؛ ادعى أي: أنه مدعٍ، كان كذا، حصل كذا، وقع كذا، فلان ضرب، فلان شتم، فلان أخذ، فلان سرق، فلان كذا.
فهذا مدعٍ.
والذي قال: ما فعلت، أو ما سرقت، أو ما أخذت، أو ما تكلمت، أو ما آذيت.
هذا مدعىً عليه.(410/3)
عدم صحة الدعوى إلا من جائز التصرف
قال رحمه الله: [ولا تصح الدعوى والإنكار إلا من جائز التصرف].
وهو المكلف البالغ العاقل الحر الرشيد، وقد تقدم هذا معنا في عقود المعاملات المالية، وبينا أنه لا يصح التصرف من رجل مجنون.
ولا من صبي إلا في مسائل مخصوصة، مثل الصبي المميز إذا أذن له وليه بالتجارة، ولا يصح التصرف من العبد كما أخبر الله عز وجل {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75]، وبينا هذا وبينا الأصول والأدلة التي تدل عليه، وجائز التصرف يشترط أن يكون رشيداً، فالسفيه لا يصح تصرفه، فلو أقام الدعوى -في المال- من هو محجور عليه لم تقبل دعواه؛ لأنه ليس له حق في ذلك.(410/4)
القول قول صاحب اليد مع يمينه إلا إذا وجدت بينة
قال رحمه الله: [وإن تداعيا عيناً بيد أحدهما فهي له مع يمينه إلا أن تكون له بينة فلا يحلف].
مثلاً: محمد وعبد الله اختصما على أرض، أو كتاب أو ثوب، وهذه الشيء بيد أحدهما، وليس المراد بقوله: (بيده) القبض باليد، لكن بالمعنى الشمولي العام، فتقول: (في يده) أي: تحت تصرفه أو تحت عمله أو تحت ولايته ونظره، وهو الذي يقوم عليها، وهو الذي يتصرف بها، فحينئذ فالسيارة (في يده) أي: يقودها، ومعه مفاتيحها، والبيت إذا كان ساكناً فيه، والأرض يحرثها ويزرعها، ويقوم على مصالحها، فجاء محمد ادعى عيناً بيد عبد الله، وقال: الأرض أرضي، أو السيارة سيارتي، أو القلم قلمي الثوب ثوبي الكتاب كتابي، فنظرنا فوجدنا أن الكتاب بيد عبد الله، فحينئذ نقول لمحمد: أنت مدعٍ، وحينئذ لا يمكن أن تقبل دعواك إلا إذا أقمت البينة وإلا حلف خصمك وانتهت القضية.
فمن ادعى عيناً في يد آخر فحينئذ يطالب الخارج بالبينة والداخل لا يطالب إلا باليمين في حال الإنكار إذا سأل خصمه أن يحلف اليمين وإلا لم يلزمه شيء.(410/5)
تعارض البينات
قال رحمه الله: [وإن أقام كل واحد بينة أنها له، قضى للخارج ببينته ورفض بينة الداخل] هذه المسألة مشهورة عند العلماء، وهي مسألة تعارض البينات، فلو اختلفا في بيت أو في كتاب أو في أرض -أي: سواء كان عقاراً أو منقولاً- وعرفنا من المدعى عليه أحدهما القائم على مصالح هذا الشيء، كساكن في البيت في الداخل، وجاء الخارج وأقام بينة، ثم الداخل أقام بينة، هذا عنده شاهدان يشهدان أن البيت بيته، وأنه لن ينتقل منه إلى الآخر إلا بعوض؛ لأن البيت بيته وأنه ملك له، والآخران أيضاً شهدا بأن البيت بيت فلان وملك لفلان، فهذان شاهدان وهذان شاهدان، والشريعة اعتبرت الشهادة حجة، فماذا يفعل في هذه الحالة؟ طبعاً من العلماء من قال: تسقط البينتان، يعني بينة الداخل وبينة الخارج، أي: إذا تعارضتا سقطت هذه وسقطت هذه فألغيتا؛ لأننا لو عملنا بهذه بناء على أن الشرع يعتبرها حجة، فكذلك يجب علينا أن نعمل بالأخرى؛ لأن الشرع يعتبرها شهادة وحجة ليس عليها أي غبار ولا فيها أي مطعن، فلا يمكننا أن نفضل حجة على حجة، وإن فهم القضاء بالحياد لأحد الخصمين لكن إن وجد المجرم قال سقطت البينتان.
لكن هناك أحوال بعض العلماء يستثنيها، يقول: لو كانت إحدى البينتين شهودها معروفون بالضبط وبالإتقان وبالعدالة، وهذا تغليب ظن قوة الحجتين، قالوا: فترجح، لكن هذا ضعيف؛ لأن العلم المستفاد من حيث الأصل حجية، والحجية موجودة في الاثنين، فحينئذ مثلاً إذا كان الشاهد مرضياً فلا إشكال إذا قامت الحجتان.
ومن أهل العلم من قال: نقدم بينة الخارج على بينة الداخل، وهذا هو الذي رجحه المصنف رحمه الله، بمعنى أنه يقول: إذا كنت ساكناً في الدار وعندك حجة وبينة، والآخر خارج الدار وادعى عليك وجاء بحجة وبينة؛ قدمنا حجة الخارج، قال: لأن هذا الذي في داخل البيت لما أثبت لنفسه فالظاهر شاهد على حاله، وبالنسبة للخارج جاء بشيء يحتمله العرف، وهو أنه باع أو تصرف، أي أن الساكن في البيت قد باع للخارج، ومن هنا تقوى بينة الخارج وترجح على بينة الداخل، هذا تعليل بعض العلماء في ترجيح القول الذي اختاره المصنف.
ولكن في الحقيقة من أقوى القرائن: زيادة العلم، وهي أن بعض العلماء قال: إن بينة الداخل -الذي هو داخل الدار- جارية على الأصل، وبينة الخارج ناقلة من الأصل، والناقل عن الأصل جاء بزيادة، وحينئذ يقدم، وهذه المسألة مثل ما ذكروا إذا تعارض الحاضر والمبيح، قالوا: يقدم الحاضر على المبيح؛ لأن المبيح جارٍ على الأصل؛ لأن الأصل في الأشياء حلها وإباحتها، فإذا جاء المحرم فمعنى ذلك أننا نقلنا عن الأصل فصارت استفادة وزيادة علم هذا وجه.
فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا تقدم حجة الخارج، وأن بينة الخارج ساقطة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، لأن هذا التعليل في كلتا الحالتين ضعيف، وأن الأقوى والمعتبر من جهة النص، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)، فنحن نقول: هذان شخصان اختلفا في البيت، فإذا جئنا نقدم بينة الداخل على بينة الخارج خالفنا النص؛ لأن الذي في الداخل مدعى عليه، والذي في الخارج مدعٍ، فحينئذ الأصل الشرعي يقتضي أن ينظر في بينة الخارج لا في بينة الداخل؛ لأن الذي في الداخل مطالب باليمين -إذا لم توجد بينة- ولا يطالب ببينة، إنما الذي يطالب بالبينة هو الخارج، ومن هنا نرجح أن هذا القول قوي من جهة النقل لا من جهة العقل والتعليل؛ لأن الذي ذكرناه في الأول تعليلات، فنرجح هذا القول الذي نص عليه المصنف رحمه الله وهو تقديم بينة الخارج على بينة الداخل، ويكون الترجيح مستفاداً من جهة أن بينة الخارج مبنية على النص، حيث إن المدعي مطالب بالبينة والمدعى عليه لا يطالب بالبينة، فحينئذ نقول: لما جاءتنا بينة الخارج لزمنا بحكم النص أن نعمل بها، ومعارضة بينة الداخل، ومثله ليس له أن يأتي بالحجة، فتُقدم حجة الخارج على الداخل، هذا بالنسبة للمسألة إجمالاً ووجه ترجيحها، وعلى كل حال لا يخلو الفقهاء من بعض المخارج، كان بعض مشايخنا يقول: فليخرج، ثم إذا خرج يقيم دعوى جديدة، ويأتي ببينة حتى يصبح الأمر على الدور، ومن هنا قالوا: إن هذا لا إشكال فيه، فإنما أسقطنا البينة الثانية؛ لأنها تؤدي إلى الدور، (وما أدى إلى باطل فهو باطل)، والفقيه يجد له مخرجاً.(410/6)
شرح زاد المستقنع - مقدمة كتاب الشهادات
تعتبر الشهادة من الأمور المهمة التي يحتاجها الناس لتوثيق معاملاتهم، وحل مشاكلهم وخصوماتهم ونزاعاتهم، وهي مشروعة بالكتاب والسنة، وتحملها فرض كفاية، وقد يكون فرض عين إذا لم يوجد إلا من تقوم به الشهادة، فإذا تحملها وجب عليه أداؤها إذا لم يعد عليه ذلك بالضرر.
ولا يشهد أحد إلا بما يعلمه، ويلزم أن يؤدي الشهادة كما علمها بدون زيادة ولا نقصان.
وهناك شروط فيمن تقبل منه الشهادة إذا توفرت قبلت منه، وإلا فلا.(411/1)
تعريف الشهادة ومشروعيتها وأحكامها
يقول المصنف رحمه الله: [كتاب الشهادات].
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: قوله: (كتاب الشهادات) الشهادات: جمع شهادة، تطلق الشهادة بمعنى الحضور، تقول: شهدت كذا إذا كنت حاضراً، ومنه سمي الشهيد شهيداً؛ لأن الملائكة تحضره، قال صلى الله عليه وسلم لـ جابر حينما كان يكشف الثوب عن وجه أبيه ويبكي، وقد استشهد يوم أحد، قال صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع)، ومنه قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [القصص:44] أي: من الحاضرين، وتطلق الشهادة بمعنى العلم، تقول: أشهد بكذا بمعنى: أعلم، كقولك: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أعلم علم اليقين أنه لا إله إلا الله، ومنه الشهادة في القضاء، فهي منتزعة من المعنى الثاني.
وأما في الاصطلاح: فهي الإخبار عن حق للغير، بلفظ مخصوص، وإخبار مخصوص، عن شيء مخصوص.
والأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة، أما الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وقال سبحانه: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، وقال سبحانه: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، وقال تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فهذا نص الكتاب.
وأما نص السنة: فقد جاء في قصة الحضرمي كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ وائل بن حجر: (شاهداك أو يمينه) وهذا يدل على أن الشهادة حجة في القضاء، وحجة في النزاع والخصومات.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على اعتبارها حجة من حجج الإثبات في القضاء الإسلامي.
وأما في العقل: فالعقل يدل على مشروعية الشهادة؛ لأن الناس يحتاجون إلى من يوثّق معاملاتهم، خاصة في حال الخصومات والنزاعات، والشهادة طريق إلى ذلك.(411/2)
حكم تحمل الشهادات في غير حق الله تعالى
قال رحمه الله: [تحمل الشهادات في غير حق الله فرض كفاية].
أي: أن الشهادة فيها التحمل وفيها الأداء.
والتحمل: هو أن يكون الإنسان يعلم بما يشهد به، فينظر فيما يطلب منه أن يشهده، فيحضر ويسمع ويرى، وتكون شهادته عن علم برؤية أو سماع، أما الأداء: فهو أن يؤدي ذلك في مجلس القضاء.
فالعلماء يقولون: تحمل وأداء، المرحلة الأولى التحمل، والمرحلة الثانية الأداء، والتحمل مقصود من أجل الأداء، فتحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية، بمعنى: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وهذا أصل في الأمور التي يحتاج إليها، أنه إذا قام بها البعض وسدوا الكفاية سقطت عن الباقين.
وعلى هذا: لو أن شخصاً دعي إلى الشهادة، أو قال لك رجل -وأنت في إدارة أو في أي موضع-: اشهد، فحينئذٍ ننظر إذا كانت القضية يمكن أن يشهد عليها غيرك، وهذا الغير تتوفر فيه شروط الشهادة وتقبل شهادته لو شهد، فإنه حينئذٍ لا يجب عليك تحمل الشهادة، وبإمكانك أن تقول له -إذا كان عندك ظرف أو عمل أو غيره-: اعذرني يا أخي، أو كنت لا تحب أن تذهب وتتحمل بعض المصاعب والمتاعب، فلك أن تقول له: اعذرني، ولك الحق أن تتركها؛ لأنها لم تتعين عليك.
قال رحمه الله: [وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه].
أي: إذا لم يوجد غيرك وشاهد آخر، والحق لا يثبت إلا بكما، فحينئذٍ لا يجوز لك أن تتخلى عن الشهادة، ويحرم عليك ذلك، قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، فإذا كانت هناك قضية وقيل لك: اشهد، ولا يوجد غيرك، أو يوجد شخص غيرك لكن لا تقبل شهادته وأنت تقبل شهادتك؛ كما لو كان هناك رجل عنده أولاده، وإذا شهد أولاده لا تثبت شهادة الولد لوالده، فحينئذٍ إذا قيل لك: اشهد، فاشهد، كما لو حدثت مشكلة أو خصومة، ولا يوجد إلا أنت وشخص آخر معك، فحينئذٍ يجب عليك ويتعين عليك أن تسمع وأن تعلم؛ لأن هذا يؤدي إلى وصول الحق إلى صاحبه، ويؤدي إلى منع الظالم من الظلم، وإنصاف الناس في حقوقهم، ويؤدي إلى معونة القضاء على ذلك؛ لأن القضاء بلاء، ولا يمكن دفع هذا البلاء بشيء مثل الشهادة، كما قال بعض أئمة السلف، وهذا مروي عن شريح: القضاء بلاء، فادفعه عنك بعودين.
يعني: بشاهدين، فهذان العودان: هما الشاهدان، فإذا جاءا وشهدا انتهى الأمر، فقالا: سمعناه يقول كذا، رأيناه يفعل كذا، فحينئذٍ يعرف المحق من المبطل.
أما إذا كان الأمر فيه سعة، ويوجد من يمكن أن يشهد ويتحمل فلك الخيار، والأفضل أن تشهد؛ إحقاقاً للحق، وإبطالاً للباطل، ومعونة لأخيك، وتثاب على ذلك، وأنت مأجور عليه، لكن إذا خشيت بعض التعقيد أو الضرر أو نحو ذلك، فلك الحق أن تمتنع.(411/3)
حكم أداء الشهادة على من تحملها
قال رحمه الله: [وأداؤها فرض عين على من تحملها متى دعي إليها وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، وكذا في التحمل] أداء هذه الشهادة فرض عين على من تحملها، مثال ذلك: لو وقع حادث أو وقعت خصومة وشهد اثنان كانا حاضرين أثناء الحادث، ورفعت القضية إلى القضاء، فجاء صاحب القضية وقال للاثنين: أريدكما أن تشهدا معي، فحينئذٍ يجب عليهما أن يحضرا إلى مجلس القضاء، وأن يشهدا بما علما، وذلك فرض عين عليهما، وإذا تعطلا أو امتنعا فإنهما آثمان شرعاً، ويتحملان المسئولية أمام الله عز وجل، وقد قال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283].
وأجمع العلماء رحمهم الله على أن الشاهد إذا دعي، خاصة إذا لم يوجد غيره، وتوقف إحقاق الحق على وجوده، فإنه إذا امتنع يتحمل الإثم -والعياذ بالله- والوزر، وهذا بإجماع العلماء، ويحكم بفسقه؛ وهذا فيه وعيد شديد، وأيضاً فيه تعطيل للحقوق، وفيه عدم صيانة للقضاء؛ لأن القاضي إذا لم يجد شهوداً سيضطر إلى قبول اليمين، وقد تكون يمينه غموساً، وحينئذٍ يحق الباطل ويبطل الحق، فتضيع حقوق الناس، فتحملها فرض عين على الإنسان، إذا لم يوجد غيره، ويجب عليه أداؤها إذا لم يكن هناك شهود غيره، فإن كان هناك شهود، فحينئذٍ ننظر إذا كانوا موجودين أحياء، ويمكنهم أن يشهدوا، وجاء صاحب الحق وقال لك: أريدك أن تشهد، فإن كان عندك قدرة أن تذهب وتشهد فاذهب، وهذا أفضل وأعظم لأجرك وأتقى لربك، أما إذا كان الإنسان عنده عذر، أو لا عذر عنده، وقال: أنا لا أريد أن أذهب، فحينئذٍ ترك الأفضل، وهناك مندوحة لأن هناك من يقوم بهذا الأمر من غيره.
فإذا كان من حضروا قد ماتوا ولم يبق منهم إلا هذان الاثنان، فحينئذٍ يتعين عليهما الحضور، أو كان البقية مسافرين، وحضرت القضية فإنه يجب عليهما أن يذهبا ويشهدا.
إذاً: إذا تعينت عليه صارت فرض عين، وأما إذا وجد من يقوم بها من غيره ممن تقبل شهادته، لم تصر فرض عين عليه، لا في التحمل ولا في الأداء.
وقوله: (متى دعي إليها): من العلماء من قال: الشاهد إذا دعي فيجب عليه أن يجيب، سواء وجد غيره أم لم يوجد؛ لعموم قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، والورع تعاطي ذلك.(411/4)
حكم تحمل الشهادة وأدائها لمن خشي الضرر على نفسه
وقوله: (وقدَرَ بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله).
أي: وقدر على الأداء بلا ضرر؛ لأن الضرر لا يزال بالضرر، فلو قيل له: تعال واشهد، والذي سيشهد عليه ابن عمه، وهناك شهود آخرون غيره، فحينئذٍ لو جاء ليشهد فستقع فتنة بينه وبين بني عمه، وتقطع بسببها الأرحام، وقد يكون ابن عمه شريراً فقد يقتله، وقد يؤذيه، وقد يضر به وبولده، وفي بعض الأحيان تقع النعرات والمشاكل، وربما قد لا يُنكِح ولا يُنكَح، وهذا ضرر عليه وعلى أولاده، ولربما شُمِتَ به مع أنه على حق.
فإن كان به من الإيمان والقوة والصبر والجلد فلم يزده الله بذلك إلا عزاً، فمن أهان عبداً لله اتقى الله فيما اتقى فيه ربه جعل الله إهانته كرامة، وجعل الله ذله عزاً، وجعل الله منقصته كمالاً، ومن أراد أن يجرب فليفعل؛ لأنه ليس هناك أعظم من نقمة الله عز وجل ممن ظلم عبداً اتقى ربه، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وجاءته الدنيا ذليلة صاغرة)، ومن هنا فمن حقه أن يمتنع إن خشي الضرر.
ولذلك فإن العلماء رحمهم الله في مسائل الضرر يقولون: إن الضرر قد يُتحمل إذا كان عند الإنسان صبر وجلد على البلاء، وعلى الفتنة والأذية، يقولون: فيجوز له أن يؤدي الشهادة؛ لكن بشرط أن لا يخاف الفتنة على نفسه؛ لأن من الناس من إذا تضرر ندم على ما فعل، وضعف إيمانه، وحينئذٍ فلا هو حصل على الأجر فيما مضى لندمه ورجوعه عما فعل، ولا هو سلمت له نفسه بحصول الضرر بعد ذلك، قالوا: وهذا هو معنى رد النبي صلى الله عليه وسلم على الذي قال: (إن من توبة الله علي أن أنخلع من مالي) يعني: أتصدق بكل مالي، فهو فارح بتوبة الله، فربما إذا انتهى فرحه ندم على تصدقه بجميع ماله، فيذهب عليه الأجر بالندم، فلا هو بقي له ماله، ولا هو ثبت له الأجر.
وهنا في الشهادة كذلك، فإذا كان الشخص يتحمل وعنده قوة إيمان وصبر وجلد فبها، وإلا فلا.
وقوله: (وكذا في التحمل) أي: إذا وجد الضرر على نفسه وأهله وماله جاز له أن يمتنع، والعلماء ذكروا من الضرر: قطيعة الأرحام، والفتنة، حتى قالوا: إن القاضي من حقه أن يؤخر تنفيذ الحكم إذا خشي أن تقع مقتلة، أو تقع فتنة، ولذلك قال الناظم: ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام فلا يجوز للحاكم أن يوقف الحكم، ولا أن يعطل الحكم، بل يجب عليه تنفيذه، وإذا أخر فإنه يأثم، فإذا تبين له الحق يجب عليه أن يحكم به، ولكن إذا خاف الفتنة أو الشحناء للأرحام، عدل إلى الصلح في القضية خوف وقوع ما هو أعظم.
والصلح يستدعى له إن أشكلا حكم وإن تعين الحق فلا ما لم يخف بنافذ الأحكام فتنة أو شحناء للأرحام(411/5)
حرمة كتمان الشهادة
قال رحمه الله: [ولا يحل كتمانها] ولا يحل كتمانها؛ لقوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة:283]، وكتمانها يكون على صورتين: أن يعلم أن لفلان على فلان حقاً، وغالباً ما يكون هذا إذا كان الشخص صاحب الحق لم يعلم أنه شاهد، أو أن الذي رأى القضية أو الحادثة مع كون صاحب الحق عنده شاهداً أو شهوداً ثم توفي الشهود، أو امتنعوا من الشهادة، أو جنوا، أو تعلق بهم مانع يمنع من قبول شهادتهم؛ كأن يحصل لهم أمر يوجب ردَّ شهادتهم، ولا يعلم صاحب القضية أن فلاناً شاهد، فحينئذٍ يجب على هذا الذي يعلم أن يأتي للشخص الذي له الحق ويقول له: يا فلان! أنا أعلم بهذه القضية، وعندي لك شهادة، إن أردتني أن أشهد فسأشهد، فإنه يثاب على فعله هذا، وهذا من أعظم ما يكون؛ لأن فيه إحقاق الحق، وهذا الذي يؤدي شهادته قبل أن يُسألها قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بخير الشهود؟ هو الذي يؤدي شهادته قبل أن يستشهد)، وهذا من باب الندب والحرص على الخير.(411/6)
مستند الشهادة ومستند الشاهد
قال رحمه الله: [ولا أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية أو سماع، أو استفاضة فيما يتعذر علمه بدونها؛ كنسب وموت وملك مطلق ونكاح ووقف ونحوها].
قوله: (ولا أن يشهد إلا بما يعلمه) هذا شروع في شيء يسميه العلماء: مستند الشهادة، ومستند الشاهد، بمعنى: شهادة الشاهد هذه من أين أخذها، وعلى أي شيء بنى؟ وذلك يكون إما بالرؤية، أو بالسماع، أي: أن يسمع بأذنه، أو استفاضة، والاستفاضة: أن ينتشر بين الناس هذا الأمر؛ كالموت والوقف والنسب، فيما تقبل فيه شهادة السماع، وهي شهادة الاستفاضة، فإذا كان الشاهد يريد أن يشهد فلابد أن يشهد بأحد أمرين: إما بشيء رآه، وإما بشيء سمعه، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81]، فالشاهد لا يجوز له أن يشهد إلا بشيء يعلمه ويحققه.
هذا بالنسبة للحقوق والحدود، فلا يقبل فيها إلا العلم، وإذا لم يكن يعلم فلا تقبل شهادته إلا في مسألة الشهادة على الشهادة، ففيها تفصيل للعلماء رحمهم الله وستأتي.
أما بالنسبة للاستفاضة كما ذكرنا في النسب ونحوه، فمثلاً: يشهد أن آل فلان من الأشراف، ومن ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ يجوز إثبات النسب بالاستفاضة، كأن يعرف أن بيت فلان من الأشراف، وانتشر في المدينة، أو انتشر في قريته، أو في جماعته: أن هذه الأسرة أو أن هذا الاسم من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى: شهادة السماع، فيثبت بها النسب، وقد أجمع العلماء على قبول شهادة السماع في النسب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم شهداء الله في الأرض)، ولذلك إذا قبلت الشهادة بالسماع بالخير في تزكيته عند ربه، فأن تقبل في أمور الناس من باب أولى وأحرى.
وعلى كل حال: إذا اشتهر واستفاض عند الناس أن هذا وقف بني فلان، أو أن هذا نسب من القبيلة الفلانية يرجعون إلى بني فلان، أو يرجعون إلى آل فلان، فهذا يسمى: شهادة الاستفاضة، وحينئذٍ يجوز للشهود أن يقولوا: نشهد أن فلاناً من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن فلاناً شريف، أو أن فلاناً من بني فلان، وهم من قبيلة كذا، بناء على شهادة السماع والاستفاضة.(411/7)
ذكر الشروط عند الشهادة في النكاح وغيره من العقود
قال رحمه الله: [ومن شهد بنكاح أو غيره من العقود فلابد من ذكر شروطه] أي: من شهد بنكاح أو بيع أو إجارة أو نحو ذلك من العقود فلابد أن يذكر شروطه، وهذه مسألة تكلم عليها الإمام ابن قدامة رحمه الله والإمام العز بن عبد السلام كلاماً نفيساً بينا فيه: أنه ربما اختلف مذهب الشاهد مع مذهب القاضي، وحينئذٍ فلابد أن يحكم القاضي بهذا العقد على شيء يعتقد صحته، ومن هنا قرر الأئمة: أنه إذا اختلف مذهب الشاهد مع مذهب القاضي، فكان الشاهد يرى صحة العقد، والقاضي لا يرى صحته، فالعبرة بمذهب القاضي لا بمذهب الشاهد، إلا في مسائل منها: مسألة التفسيق، ومنها: مسألة التعزير، إذا فعل فعلاً يرى جوازه واعتقد حله، وكان له فيه شبهة، فحينئذٍ لا يؤاخذ ولا يأخذه القاضي بذلك.(411/8)
لزوم الوصف في الشهادة على رضاع أو سرقة أو شرب
قال رحمه الله: [وإن شهد برضاع أو سرقة أو شرب أو قذف فإنه يصفه] أي: يلزمه أن يصف الرضاع، ويصف السرقة، مثل: عدد الرضعات، وتقبل شهادة النساء فيه، فلو قالت: أربع أو خمس رضعات مشبعات معلومات، قبلنا منها؛ لأن هذا يترتب عليه أحكام.
وقد ذكر العلماء ومنهم الإمام العز بن عبد السلام، والإمام ابن قدامة: أن الشهود ربما شهدوا بالشيء يظنونه شرعياً وهو ليس بشرعي، ولربما بمجرد أن يرى الطفل التقم الثدي فهم أنه رضع رضاعة شرعية، فيأتي ويقول: فلان رضع من فلانة رضاعة شرعية، فهذا لا يقبل، ومن هنا قالوا: لا يقبل الجرح إلا مفسراً، فلو قال مثلاً: هذا الشاهد فاسق، فيقول له القاضي: بم تفسقه؟ بماذا هو فاسق؟ أو لو أن شاهداً جاء وشهد على شخص فقال المشهود عليه: أنا آتي بما يطعن في شهادته، فأتى بشخص يطعن في الشاهد، فنقول له: هل تطعن في الشاهد؟ فإذا قال: نعم، وهذا الشاهد لا يقبل منه القاضي شهادته حتى يفسر، فيقول له: بم رددت شهادته؟ وبم تطعن في شهادته؟ قال الإمام الشافعي رحمه الله: حضرت رجلاً مستهلاً يصيح ويطعن في شاهد، ومن توفيق الله للقاضي أن قال لذلك الذي يطعن في الشاهد: لا أقبل منك حتى تبين جرحك له، فقال: أنا أعلم ما الذي يجرح وما الذي لا يجرح -ما شاء الله! هناك بعض الناس يصل إلى درجة لا يسأل عما يفعل ولا يسأل عما يقول- فقال القاضي: لا أقبل طعنك ولا أقبل قدحك حتى تبين، فقال الرجل: رأيته يبول قائماً.
سبحان الله! وهل إذا بال قائماً سقطت شهادته وتركت؟ والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث حذيفة أتى سباطة قوم فبال قائماً، فقال القاضي: وما عليه أن يبول قائماً؟ قال الرجل: إذا بال قائماً تطاير البول على ثوبه، ثم إذا تطاير على ثوبه صلى بذلك الثوب وبطلت صلاته، فهل عندك شك في بطلان الصلاة بالبول؟ فقال له القاضي -وهذا من فقهه وعلمه-: هل رأيت بوله يتطاير على ثوبه، ورأيت البول على الثوب عندما صلى؟ فأسكته.
إذاً: فلا يمكن أن يقبل الطعن في الشهادة إلا مفسراً، وقد يأتي العامي فيظن شيئاً فيقبل منه، وإلا استغل القضاء بشهادة الجهال، ولذلك ينبغي صيانة القضاء، وانظر كيف أن الفقه الإسلامي دقيق في كل شيء؛ لأنه مبني على شريعة كاملة، ولن تجد مهما بحثت لا من قوانين وضعية ولا غيرها من يستطيع أن يدخل في التفصيليات من الإثبات والحجج مثلما بينته هذه الشريعة، فالحمد لله على فضله.
إذاً: لابد أن يبين معاملته مع غيره، فإذا أراد أن يبيع.
فعليه أن يسأل: هل باع شيئاً يملكه؟ هل البيت مباح؟ هل هو على صفة يحكم بها بصحته أو لا؟(411/9)
حكم الوصف في الشهادة بالزنا وحدوده وضوابطه
قال رحمه الله: [ويصف الزنا بذكر الزمان والمكان والمزني بها] كأن يقول: فلان زنى بفلانة، وفيه للعلماء وجهان: فبعض العلماء يقول: لا ينبغي للقاضي أن يعنت الشهود، بمعنى: أن يحرجهم بالأسئلة إلى أن يدخل في تفاصيل قد تحدث الضرر عند الشاهد، وحينئذٍ يكون هذا من التعنيت، والدليل على ذلك أن الله تعالى قال: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة:282]، فحرم علينا الإضرار بالشهداء، ولذلك تعامل العلماء مع هذه القضية بحذر، بمعنى: أنهم لا يجيزون للقاضي أن يسأل الشهود إلا في حدود معينة وبضوابط مقيدة؛ كل هذا حتى لا يعتبر من تعنيت الشهود والإضرار بهم، فالوسط الذي هو بين الإفراط والتفريط.
فيسأله عن مكان الزنا، فيقول: فلان زنى بهذه في مكان كذا، أو فلان زنى بفلانة بنت فلان بنت فلان على وجه ينتفي به اللبس؛ لأنه ربما يقول: رأيته يفعل بالمرأة، وقد تكون زوجته، وحينئذٍ فلابد أن يتفق الشهود على هذا، فلو قال أحدهم: زنى بالليل، وقال الآخر: زنى بالنهار، وقال أحدهم: رأيته يزني في غرفة، وقال الآخر: رأيته يزني في العراء في البر، فحينئذٍ ثبت على أن هذه جريمة وهذه جريمة، وهذه شهادتها ناقصة وهذه شهادتها ناقصة.
ومن هنا يحتاط القاضي لأعراض المسلمين، وهذا ليس من الظلم والحيف، وإنما هو من الحياد؛ حتى تكون الشهادة موثوقاً بها، مبنية على أصول صحيحة، ويظهر بها صدق الصادق وكذب الكاذب، ولذلك فإن كثيراً من المظالم وشهادات الزور انكشفت بفضل الله عز وجل ثم بفطنة القضاة وحسن تعاملهم مع الشهود، فقد استطاعوا أن يدركوا أو يبينوا كذب الشهود وزيفهم، ومما يظهر به فضل الله عز وجل على القضاة حسن استخراجهم للخلل والخطأ في الشهادة حتى ترد.(411/10)
ضرورة البيان لما يعتبر في الحكم
قال رحمه الله: [ويذكر ما يعتبر للحكم ويختلف به في الكل] كما ذكرنا؛ لأن الأحكام اختلف فيها العلماء رحمهم الله، وقد يكون هناك أمر يظنه على شكل والواقع أنه على شكل آخر، ومن هنا فلا يقبل الإجمال فيما ينبغي فيه البيان، سواء كانت من الأمور الشرعية، أو من الأمور المحتملة في بعض الوقائع، ومن هنا قال المغيرة رضي الله عنه لـ عمر -لما اتهم بالزنا وجيء بالشهود، وكان يعتبر من دهاة العرب-: يا أمير المؤمنين!: أرآني مدبراً أم مقبلاً؟ فقال: رأيته من رجليه، يعني: مدبراً، فقال: ما درى أنها فلانة زوجتي، فأفحم الشاهد بهذا.
وهناك أشياء لا يمكن أن تؤخذ على ظاهرها، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحسس، ونهى عن سوء الظن، ونهى عن المحامل التي لا تنبغي، وكم من أمور ظاهرها الخلل وهي مبنية على براءة وغفلة، ومن هنا ينبغي للشهود أن يتحروا، وأن يتأكدوا، وأن تثبت شهادتهم على وجه لا شك فيه ولا لبس.(411/11)
شروط من تقبل شهادته
قال رحمه الله: [فصل: شروط من تقبل شهادته ستة].
نجملها قبل البيان والتفصيل، فقد شرع رحمه الله في شروط الشهادة؛ لأن الأصل الشرعي يقتضي أن لا نقبل كل شهادة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] وصدر الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]، فقال: (يا أيها الذين آمنوا.
من رجالكم)، فخصص ولم يعمم؛ لأن صدر الآية مخاطب به المؤمنون، فدل على أن قوله: (من رجالكم) أي: من المؤمنين؛ لأنه قال: (يا أيها الذين آمنوا)، وقوله: (رجالكم)، الكاف كاف خطاب، إذاً لا تقبل شهادة كافر.
ومفهوم ذلك أيضاً: أن الصبي لا تقبل شهادته، وأن المرأة لا تقبل شهادتها من حيث الأصل في بعض القضايا، مثل: الحدود وغيرها، ولكن استثنى الشرع قبول شهادتها في بعض القضايا.
قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فهذا استثناء، وكذلك قال: (ممن ترضون من الشهداء)، فخرج الذي لا يرضى في مضمون الشهادة، كالشخص الذي فيه غفلة وفيه ضعف في الضبط، ومن لا يرضى من ساقط العدالة، وهو الفاسق، ولا يرضى مخروم المروءة، وسنبين علته، فهذه الآية أصل في بيان أن الشهادة لا يقبل فيها كل أحد، ومن هنا يجب أن يكون الشاهد قد توفرت فيه صفات معتبرة، وهذه الصفات مقصود الشرع من اشتراطها وإلزام الناس بها: أن يتوصل إلى الشهادة الصحيحة، وأن يكون العمل بمضمونها بما تحصل به الطمأنينة، ومن هنا اعتنى الفقهاء والأئمة رحمهم الله، وجاءت السنة تؤكد هذا المعنى، فرد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة ذي الحنة، وهو الذي بينه وبين من شهد عليه إحنة وعداوة، وأجمع العلماء رحمهم الله على رد شهادة الكفار إلا فيما استثناه الدليل، وسيأتي إن شاء الله، وأجمعوا على رد شهادة الصبي من حيث الأصل إلا في مسائل، وأجمعوا على رد شهادة المجنون وشهادة خفيف الضبط، ومن فيه غفلة وعند نسيان، ونحو ذلك.(411/12)
الشرط الأول: البلوغ
قال رحمه الله: [البلوغ، فلا تقبل شهادة الصبيان].
البلوغ: هو انتقال الصبي من طور الصبا إلى طور الحلم.
وقوله: (فلا) الفاء للتفريع، أو تفصيلية، والأصل في اشتراط البلوغ قوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، والصبي ليس برجل هذا أولاً.
وثانياً: أن الصبي لا يوثق بقوله؛ لأنه ناقص الإدراك وناقص العقل، وقد يرى أشياء لا يميزها، وقد ينتابه الخوف وينتابه الاستعجال، فحينئذٍ لا يوثق بقوله وخبره.
ثالثاً: قال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، والصبي لا ترضى شهادته للعلل التي ذكرناها، فاجتمع الدليلان: الدليل الأول: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، والصبي ليس من الرجال، وقد لفت إلى هذا الوجه ابن عباس حبر الأمة ترجمان القرآن رضي الله عنهما في دلالته على رد شهادة الصبيان.
وقد استثنيت مسألة وقع فيها الخلاف بين السلف رحمهم الله والأئمة، وهي: شهادة الصبيان بعضهم على بعض، فمثلاً: لو وقعت حادثة كأن يضرب صبي صبياً، أو حصل شيء بين الصبيان وهم مع بعض، فمذهب عبد الله بن الزبير من الصحابة والمالكية وطائفة من أهل العلم رحمهم الله: أنه تقبل شهادة الصبيان في هذه المسألة خاصة، واشترطوا شروطاً: الأول: أن يكون فيما بينهم؛ لأن الغالب أن لا يحضره الرجال، وهذا ما يسمونه: شهادة الحاجة، أي: أنه وجدت حاجة لقبولها، كالحوادث التي تقع بين الأطفال.
الثاني: أن لا يدخل بينهم كبير، وأن لا يختلطوا بالكبار، فيؤخذون بعد الحادث مباشرة، وتؤخذ أقوالهم بعد الحادثة، قبل أن يدخل بينهم كبير ويلقنهم، وقبل أن يختلطوا بأهليهم وبالناس، لأنه قد يحدث التخويف والترويع، فتختلف شهادتهم.
والصحيح: أنه لا تقبل شهادتهم مطلقاً؛ لظاهر النص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة -وذكر منهم-: الصبي حتى يحتلم)، فالصبي لا يوثق بقوله؛ لأنه ليس مؤاخذاً على كذب، وليس مؤاخذاً على خلل يفعله، ولو كان عمداً، ومن هنا ترد شهادته حتى ولو كانت على الصبيان.(411/13)
الشرط الثاني: العقل
قال رحمه الله: [الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة مجنون ولا معتوه] قوله: (العقل، فلا تقبل شهادة مجنون) وهذا بالإجماع؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وفي الحديث في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقبل شهادة ذي الجنة)، وهو المجنون، فدل على اشتراط العقل في الشاهد، فلا تقبل شهادة المجانين بالإجماع.
وكذلك المعتوه، والعته: ضرب من الخفة في العقل بحيث لا يضبط الأشياء ولا يميزها، وقد يلقن ويقبل التلقين، ويستعجل بالأمور، ولذلك لا يوثق بخبره.
قال رحمه الله: [وتقبل ممن يخنق أحياناً في حال إفاقته] أي: تقبل الشهادة ممن يجن تارة ويفيق تارة إذا أداها في حال إفاقته؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وقد تقدم نظائر لهذه المسألة.(411/14)
الشرط الثالث: الكلام
قال رحمه الله: [الثالث: الكلام، فلا تقبل شهادة الأخرس ولو فهمت إشارته، إلا إذا أداها بخطه] أولاً: لا تقبل شهادة الأخرس؛ لأن الشهادة محتملة، والحركات محتملة، حتى ولو وجد من يفسرها، فلا تقبل شهادة الأخرس.
ثانياً: يستثنى من هذا أن يكتبها؛ لأن الكتابة تنزل منزلة المقال، ودليلنا على أن الكتابة تنزل منزلة المقال: أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]، فأمره الله بالبلاغ، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الأرض، ونزل الكتابة منزلة العبارة والقول، فأخذ العلماء من هذا أصلاً وهو: أن من كتب الطلاق فإنه يمضي عليه طلاقه، ومن كتب الكفر حكم بردته، ومن كتب شهادته قبلت شهادته؛ لأن كتابته تنزل منزلة العبارة، فكأنه متكلم.(411/15)
الشرط الرابع: الإسلام
قال رحمه الله: [الرابع: الإسلام] أي: من الشروط الإسلام، فلا تقبل شهادة الكافر؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282]، ثم قال: {مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وقد قدمنا أن الكاف للخطاب، فخص به المؤمنين، فدل على أنه لا تقبل شهادة الكافرين.
هذا أولاً.
ثانياً: يقول الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18]، والكفر قد أهان الله أهله، والشهادة تكريم؛ لأن الشاهد يحكم على غيره، ومن هنا فلا يمكن أن يكرم من أهانه الله عز وجل.
ثالثاً: أنه لا تقبل شهادته على المسلم، وهذا ظاهر؛ لأن فيها نوعاً من العلو، وقد قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141]، فالشاهد له سلطان وله علو وله قوة على المشهود عليه؛ لأنه يضر به ويقبل قوله، والكافر ليس بأهل لهذا العلو.
رابعاً: أن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظم العداوة عداوة الدين، فقد يعتقد الكافر التقرب لآلهته ومن يعبده بأذية المسلمين.
ومن هنا اجتمعت الأدلة العقلية والنقلية على عدم قبول شهادة الكفار، إلا في الوصية عند حضور الموت في السفر، أي: أن تكون الوصية في السفر، فتقبل من نوع خاص من الكفار وهم أهل الكتاب، ولا تقبل من غيرهم، لا تقبل شهادة المجوس ولا الوثنيين ولا المرتدين؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106]، وقد عمل الصحابة الكرام بهذه الآية الكريمة، كما في قصة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أنه حينما رفعت إليه قضية في شهادة اثنين من أهل الكتاب على وصية صحابي أو تابعي في سفره لم يجد من المسلمين، فأشهدهما، وحلفا بالله عز وجل أنهما لم يغيرا ولم يبدلا، فقبل شهادتهما على الصفة المعتبرة شرعاً، ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فاجتمعت دلالة الكتاب والسنة على قبول شهادة الكفار، بشرط أن تكون شهادتهم على المسلمين في السفر على الوصية.
إذاً: لا تقبل شهادتهم في الحضر؛ لأن القرآن نص على هذا، وكذلك أيضاً لا تقبل شهادة الكفار ولو على كافر مثله، سواءً اتحدت ملتهما، كشهادة يهودي على يهودي، ونصراني على نصراني، أو اختلفت الملة مع اتفاق الأصل، كيهودي على نصراني، أو نصراني على يهودي، في اتفاق كونهما من أهل الكتاب، أو وثني على وثني، فكل هؤلاء لا تقبل شهادتهم مطلقاً.(411/16)
الشرط الخامس: الحفظ
قال رحمه الله: [الخامس: الحفظ].
وذلك لأن قبول الشهادة مبني على الوثوق بخبر المخبر، ولا يتأتى هذا إلا إذا كان حافظاً لا ينسى، أما إذا عرف منه النسيان والغفلة وعدم الضبط، فإنه لا تقبل شهادته، والدليل على ذلك قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وهذا يخص قبول الشهادة إذا كانت ممن يرضى في ضبطه وتحريه ونقله، فإذا كان بهذه الصفة قبلت شهادته وإلا فلا.(411/17)
الشرط السادس: العدالة
قال رحمه الله: [السادس: العدالة] فلا تقبل شهادة الفاسق، والعدل: هو الشيء الوسط الذي بين الإفراط والتفريط، وهو القسط المعتبر الذي هو بين الغلو والإجحاف، والأصل أن العدل هو الذي يجتنب الكبائر ويتقي في غالب حاله الصغائر.
عدل الرواية الذي قد أوجبوا هو الذي من بعد هذا يجلب العدل من يجتنب الكبائر ويتقي في الأغلب الصغائر فإذا كان مجتنباً للكبائر ولا يصر على الصغائر فإنه عدل، وتقبل شهادته والدليل على عدم قبول شهادة الفاسق بل العدل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6].
فبين سبحانه وتعالى أن خبر الفاسق لا يقبل مباشرة، وهذا يدل على أنه ليس بحجة؛ فقد أمر بالتثبت والتوقف في خبر الفاسق، فدل على أنه لا يقبل، والفسق سواء كان بالأقوال كالقذف، أو كان بالأعمال كأكل الحرام، أو كشرب الخمر وتعاطي المخدرات والعياذ بالله! أو كان بالفعل كالسرقة والزنا، فكل هذا يوجب الحكم برد الشهادة.
والجمهور على أنه لا تقبل شهادة الفاسق من حيث الجملة، والحنفية على قبولها بشرط أن لا يكون فسقه مؤثراً في الشهادة، وهو فسق الكذب، قالوا: لأنه قد يكون الشخص فاسقاً بشرب الخمر، وهو من أصدق الناس ولا يكذب، وقد يكون فاسقاً بخلل ولكنه يضبط الشهادة ويحفظ ويصون، ولكن الجمهور قالوا: إن خلله في شيء لا يمنع من خلله في غيره، والأصل يقتضي عدم قبول شهادته كما ذكرنا، وعلى هذا فلا تقبل شهادة الفاسق.
لكن إذا فسد الزمان وقل وجود العدول وتعذر، فإنه تقبل شهادة أمثل الفساق، وهذا الأمر اختاره المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، وابن فرحون المالكي كما قرره في كتابه: (القضاء في تبصرة الحكام)، وبين أنه تقبل شهادة أمثل الفساق عند تعذر وجود العدول ويقبلها القاضي.(411/18)
ما يعتبر للعدالة من صلاح الدين والمروءة
قال رحمه الله: [ويعتبر لها شيئان: الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض بسننها الراتبة، واجتناب المحارم بأن لا يأتي كبيرة ولا يدمن على صغيرة، فلا تقبل شهادة فاسق].
كل هذا قد تقدم.
وقوله: (لا يأتي كبيرة) الصحيح هو مذهب جماهير السلف والخلف أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، ودليل ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32]، فدلت هاتان الآيتان الكريمتان على أن الذنوب كبائر وصغائر، ودل عليها قوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فلما قال: (الكفر) دل هذا على أن الخروج عن طاعة الله على ثلاثة أقسام: الأول: الكفر، وهو الخروج من الملة والعياذ بالله! الثاني: الصغائر، وهو اللمم والعصيان.
الثالث: ما بينهما وهو الفسوق.
ولذلك قال: (كره إليكم الكفر والفسوق)، وهو ارتكاب الكبائر الذي لا يخرج من الملة.
وأصل الفسوق من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، قالوا: سمي الفاسق فاسقاً؛ لأنه خرج عن طاعة الله عز وجل.
وقد اختلفت عبارات العلماء في ضبط الكبيرة إلى قرابة عشرين قولاً، وأصح الأقوال وأجمعها قول ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره الإمام أحمد، والإمام ابن حزم وغيرهما من الأئمة: أن الكبيرة كل ما سماه الله ورسوله كبيرة، أو ورد عليه الوعيد في الدنيا أو الآخرة، بنفي إيمان أو غضب ونحو ذلك، أو ترتبت عليه عقوبة، هذا كله من الكبائر، وهذا من أجمع ما قيل في ضابط الكبيرة.
وهناك من قال: هي ما كان فيها عقوبة، وهذا ضعيف؛ لأنه يخرج ما ورد فيه الوعيد وليست فيه عقوبة، ومنهم من يقول: عقوبة مطلقة، ومنهم من يقول: عقوبة محددة، والخمر فيه عقوبة غير محددة على الخلاف الذي ذكرناه، فالشاهد: أن الضابط الذي ذكرناه من أجمع الضوابط.
قال رحمه الله: [الثاني: استعمال المروءة، وهو فعل ما يجمله ويزينه، واجتناب ما يدنسه ويشينه] المروءة: هي التي تحمل على مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات والأقوال والأعمال، جعلنا الله وإياكم من أهلها، وقد قل وجودها في هذه الأزمنة، ويقل وجودها كلما تباعدت أزمنة الناس عن أزمنة النبوة، وهي حياة الإنسان، ولذلك ففيها الحياء وفيها الخجل، قال الشاعر: يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء فمن أجمع خصال المروءة: الحياء، ولذلك إذا ذهب الحياء ذهب الخير عن الإنسان، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)، والمروءة تقل بفساد الزمان كما ذكر الأئمة: مررت على المروءة وهي تبكي فقلت: علام تنتحب الفتاة؟ فقالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعاً دون خلق الله ماتوا! فذهب أهل المكرمات وأهل الحياء والخجل، والأصل فيها قوله عليه الصلاة والسلام: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فقوله: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) دل على أن من لا مروءة عنده يفعل ما شاء، ومن هنا اختلفت تعليلات العلماء لرفض شهادة من لا مروءة له.
ومن خوارم المروءة: أن يأتي السوق ويكشف رأسه، أو يجلس في وسط السوق ويأكل، أو يأخذ الأكل معه في يده وداخل سيارته ولا يبالي، إلا إذا كان في أحوال مخصوصة، مثل أن يكون مسافراً ونحو ذلك، أو جرى العرف بكشف الرأس في السوق أو في مجامع الناس، فهذا ليس فيه بأس.
أو يصيح ويرفع صوته في المساجد بين الناس في مجامع الناس، أو يجتمع كبار الناس وكبار القبيلة وكبار الجماعة من أهل الحل والعقد فلا يراعي أدباً، أو يمد رجليه وهو جالس أمام أهل العلم وأهل الفضل، ويفعل ما يشاء، ويضحك بحضور أناس ينبغي الحشمة معهم، كل هذا مما يخرم المروءة.
قال بعض العلماء: إن تعاطي هذه الأمور يدل على خفة العقل؛ لأن العقل يعقل الإنسان، فالذي لا يبالي ويفعل ما يشاء، كأن يرفع صوته في مجامع أو في خطابه للناس، ولا يراعي منازل الناس، فهذا دليل على أن عنده نقصاً في عقله، ومن نقص عقله لم تقبل شهادته؛ لأن هذا يؤثر في الوثوق بقوله وبخبره، وقالوا: إذا لم يتورع في الظاهر فإنه لا يتورع في الباطن، وهذه دلالة الظاهر على الباطن، هذا الوجه الأول، وحينئذٍ يكون الخلل من عدم الصيانة.
وهناك وجه ثان: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس وهو من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي لا يستحيي لا يتورع عن شيء، وإذا لم يتورع عن شيء فلا يتورع عن الكذب في شهادته، ولن يتورع أن يقول: أنا متأكد مائة بالمائة، وهو ليس بمتأكد، ويبالغ ويعظم الأمور، ويبالغ في مدح نفسه وفي الوثوق بقوله، فقالوا: مثل هذا لا ترضى شهادته، فهذان وجهان، والحقيقة أنه لا مانع من اعتبار كلا الوجهين موجبين لرد شهادة من لا مروءة له.
وهذا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأعراف، فهذا كله يعتبر من خوارم المروءة.
ولا يعتبر من خوارم المروءة العمل بالسنة وإظهارها، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يأتي شخص ويفعل شيئاً من السنة أمام جماعته، أو أمام كبار السن، فلا ينبغي لأحد أن يقول له: أنت لا تستحيي، بل فعله هذا هو عين الحياء؛ لأن السنة لا تأتي إلا بخير، وجزاه الله خيراً أن أحيا سنة أميتت، فهذا لا يعتبر مذموماً، وليس عليه منقصة ولا ملامة في هذا.(411/19)
قبول الشهادة عند زوال المانع من قبولها
قال رحمه الله: [ومتى زالت الموانع فبلغ الصبي، وعقل المجنون، وأسلم الكافر، وتاب الفاسق؛ قبلت شهادتهم].
أي: متى زالت الموانع قبلت شهادتهم، فلو أن الصبي صار بالغاً قبلت شهادته، وهكذا المجنون إذا أفاق من جنونه قبلت شهادته؛ لأن ما شرع لعلة يبطل بزوالها، والسبب في رد الشهادة وجود هذه العلل، وقد زالت، فيزول الحكم برد شهادته إذا توفرت فيه شروط قبول الشهادة.
أما الفاسق فإنه إذا صلح حاله قبلت شهادته، فمثلاً: لو أنه قذف شخصاً وردت شهادته بالقذف، أو فعل معصية من المعاصي وثبتت عليه وحكم بفسقه، قالوا: يترك مدة حتى تثبت فيها استقامته، واختلف العلماء في ضابطها، فمن العلماء من قال: إذا تاب توبة ظاهرة واستقام أغلب الحول، بأن تمضي عليه أكثر من ستة أشهر وهو على براءة؛ حُكِمَ بعدالته، وإلا فلا.
وبناء على هذا القول: لو أنه ردت شهادته بالقذف، ثم صلح حاله وتاب ورجع عن شهادته؛ لم تقبل شهادته حتى يمضي عليه أغلب الحول.
والصحيح هو مذهب الجمهور، وهو أن من قذف وأقيم عليه الحد، وتاب عن القذف ورجع عنه قبلت شهادته، قال عمر رضي الله عنه لـ أبي بكرة: تب أقبل شهادتك.
وهذا يدل على أنه إذا تاب ورجع قبلت شهادته، وحينئذٍ فلا يشترط مضي مدة في المحدود بالقذف إذا قال: رجعت عن قذفي، فتقبل شهادته مباشرة، ويستثنى من هذا الأصل.
لكن لو زنى -والعياذ بالله- فظهرت عليه دلائل التوبة والاستقامة والرجوع إلى الله عز وجل، وأقيم عليه الحد كما لو كان بكراً وهو حي، فإذا مضت ثلاثة أشهر وشهد لم تقبل، بناء على أنه لم تمض مدة يستبرأ بها على الاستقامة والخير.(411/20)
شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [1]
للشهادة موانع إذا وجدت فلا تقبل معها الشهادة، وهذا يدل على شدة عناية الإسلام بالشهادة والحرية فيها، ومن هذه الموانع: شهادة الوالد لولده والعكس، وشهادة أحد الزوجين لصاحبه، وشهادة العدو على عدوه، وشهادة من يجر لنفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً.
ولابد من شهادة أربعة شهود في الزنا، ويكفي شاهدان في بقية الحدود والقصاص، وتقبل شهادة المرأة في الأموال دون الحدود.(412/1)
موانع قبول الشهادة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب موانع الشهادة وعدد الشهود].(412/2)
شهادة الولد لوالده والعكس
[لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض] وذلك كالأب يشهد لابنه، والابن يشهد لأبيه، والأم تشهد لابنها، والجد من الآباء أو الأمهات لفروعهم وإن نزل، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، والأب مع الابن متهم، فإنه لا ترضى شهادته، وهذه يسميها العلماء: شهادة التهمة، فمن العلماء من جمع هذه العوارض تحت أصل يسمونه: التهمة، ثم قال: التهمة من جهة الضبط كما في المغفل وخفيف الضبط، الذي ذكره المصنف رحمه الله في شرط الحفظ، وجعل من أنواع التهمة: تهمة البعضية، والبعضية: هي شهادة الوالد لولده، والولد لأحد الوالدين، فهذه تهمة البعضية، أن يكون الشاهد بعضاً من المشهود له، أو يكون العكس، فحينئذٍ لا تقبل الشهادة.
والدليل الأول على البضعية آية البقرة وهي في مسألة الشهادة، والدليل الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما فاطمة بضعة مني)، والبضعة من الشيء قطعة منه، ومعناه: أن الأب إذا شهد لابنه كأنه شهد لنفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم)، فجعل الولد مع والده كالشيء الواحد، وهذا يدل على أن البعضية موجبة للتهمة ورد الشهادة، فلا يشهد الإنسان لنفسه.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل شهادة الوالدين للولد أو الولد للوالدين مردودة بأصل الشرع على ظاهر آية البقرة، أم أنها مردودة لفساد الزمان وحصول الريبة؟ وظاهر ما ورد عن الزهري رحمه الله قوله: كان السلف يقبلون شهادة الولد لوالده والوالد لولده، ثم لما ظهر فساد الناس امتنعوا من ذلك.
هذا وجه، وحينئذٍ تكون آية البقرة غير دالة إلا من جهة فساد الزمان، لا أنها في الأصل مردودة، وهذا ما يسمى: اختلاف الحكم باختلاف الزمان والمكان، والأقوى أنها رُدَّت في الأصل، ولذلك أثر عن علي رضي الله عنه أنه أعفى شريحاً من القضاء ثم رضي عنه ورده، وهذا في قصة مشهورة: حين شهد الحسن والحسين لأبيهما في قصة الدرع، فامتنع شريح رحمه الله من قبول شهادتهما، فغضب علي رضي الله عنه وقال: أترد شهادة سيدي شباب أهل الجنة؟! فمنعه علي من القضاء فترة ثم رده.
فعلى هذا الوجه يكون السلف فعلاً قد ردوا هذه الشهادة، وظاهر السنة يقوي كونها مردودة بالأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوالد مع والده كالشيء الواحد وقال: (إنما فاطمة بضعة مني)، والإنسان لا يشهد لنفسه، وهذا أقوى من جهة الدليل.
وإذا شهد الأب على ولده بجريمة أو بحق، فإنه في هذه الحالة تقبل شهادته.
إذاً: إذا كانت الشهادة للولد من الوالد أو العكس فإنها لا تقبل، بخلاف ما إذا كانت عليهم، فإنها تقبل؛ لأن التهمة منتفية، بل إن غالب الظن أنه صادق؛ لأنه مع العاطفة ومع المحبة ومع الشفقة ومع ذلك شهد عليه، فدل ذلك على قوة صدقه، وهذه الموانع في البعض دون الكل.(412/3)
شهادة أحد الزوجين لصاحبه أو عليه
قال رحمه الله: [ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه] الزوج لا يشهد للزوجة، والزوجة لا تشهد للزوج، حتى ولو كان الزوج في شركة أموال، والمرأة تقبل شهادتها في الأموال، فجاءت وقالت: أنا أشهد، ففي هذه الحالة إذا قالت: أنا أشهد، فإن الزوج سينفق عليها من ذلك المال إذا ثبت للزوج، فحينئذٍ هي متهمة، وهذه يسمونها: تهمة المنفعة، فإن التهمة تكون بجلب منفعة أو دفع مضرة، فترد شهادة الشاهد إذا اتهم بجلب المنفعة لنفسه، سواء كانت أساساً أو تبعاً؛ أساساً كأن يشهد الشريك لشريكه، فإن المال الذي سيثبت سيكون قسمة بينه وبين شريكه، هذا في الأساس، أو تبعاً كشهادة المرأة لزوجها؛ لأنها ستحصل على منفعة من وراء هذه الشهادة، فتستفيد المرأة من نفقة زوجها عليها.
وكذلك شهادة الزوج لزوجته، ومن العلماء من فرق بين شهادة الزوجة لزوجها، وشهادة الزوج لزوجته، لكن في شهادة الزوج لزوجته لا شك أن التهمة قد تكون ضعيفة، خاصة إذا كان الزوج معروفاً بالعدالة والاستقامة.
أما الدليل من حيث قبول الشهادة -من حيث الأصل العام- في الزوج لزوجته والشريك لشريكه ونحو ذلك، فحديث الحاكم في مستدركه وصححه غير واحد من أهل العلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجوز -أي: لا تقبل ولا يعمل بها- شهادة ذي الظِّنة ولا ذي الحنة)، وأيضاً في حديث المستدرك وهو عند أبي داود في السنن، وهو قوله: (رد النبي صلى الله عليه وسلم شهادة الخادم لأهل بيته)؛ لأنه يستفيد من مال سيده، ومن هنا خرّجوا مسألة الزوجة؛ لأنها تستفيد من مال زوجها، وقد أشرنا إلى الضعف؛ لأن الخادم ليس كالزوجة، فالخادم من حيث الأصل تبع لسيده يملكه وما ملك، لكن الزوجة لا يملكها وما ملكت، إلا أن شبهة النفقة موجودة في الزوجة، فإذا قيل بتعليلها في الحديث استقام ما ذكر.
قال رحمه الله: [وتقبل عليهم] أي: تقبل شهادة أحد الزوجين على صاحبه لا له.(412/4)
شهادة من يجر لنفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً
قال رحمه الله: [ولا من يجر إلى نفسه نفعاً أو يدفع عنها ضرراً].
أي: لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً؛ كالشريك لشريكه، ويدفع عنها ضرراً أيضاً، فلو أنه شهد بأن شريكه أعطى العامل أجرته، وهم شركاء في مزرعة، فحينئذٍ إذا لم تثبت هذه الشهادة سيغرم هو وشريكه أجرة العامل، كأن بنى لهما رجل بيتاً أو عمارة، فقال شريكه: أديته حقه، فقال: ما أديتني، فاختصما إلى القاضي، فقال: عندي شهود، فجاء بشريكيه، والعمارة بين ثلاثة، فجاء بالشريكين، فالشريكان إذا قبلت شهادتهما دفعا الضرر عن نفسيهما؛ لأنه يجب على الثلاثة أن يتقاسموا قيمة البناء والعمارة وأجرة العامل.
والعكس: فلو ادعى مالاً، فقيل للشريك: أحضر شهودك، فجاء بشركائه، فإنه إذا ثبت له شيء ثبت للشركاء استحقاقهم على قدر حصتهم من أصل الشركة، فحينئذٍ لا تقبل لمن يجر لنفسه نفعاً ولا لمن يدفع عنها ضرراً.(412/5)
شهادة العدو على عدوه وله
قال رحمه الله: [ولا عدو على عدوه، كمن شهد على من قذفه أو قطع الطريق عليه] فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، فإن العداوة تحمل على الأذية والضرر، وأعظمها عداوة الدين، ومن هنا قالوا برد الشهادة بعداوة الدين، وقد ردت الشريعة شهادة الكافر على المسلم.
وأما بالنسبة للعدو على عدوه من المسلمين فاختلفت عبارات العلماء: فإن العداوة يكون ظاهرها واضحاً، كأن ترى الشخص يفرح لمساءة الشخص، ويحزن ويغتم -والعياذ بالله- للنعمة تصيبه، فإذا ثبت هذا كأن يتكلم بكلام يظهر منه أنه لا يريد هذا الشيء، أو يصرح بأنه عدو، إما بإقراره أنه عدوه، أو تحدث بينهما خصومة؛ فحينئذٍ لا تقبل شهادته على عدوه.
وهذا النوع من الشهادة عكس من لا تقبل شهادة من يجر لنفسه نفعاً، أو يدفع عنها ضرراً، فهنا العدو على عدوه لا تقبل، لكن شهادة العدو لعدوه تقبل عكس الوالد لولده، وتقبل شهادة الوالد على ولده، وهذا يدل على مسألة قررها الإمام أبو البركات رحمه الله من فقهاء الحنابلة، وله كلام نفيس جداً في باب الشهادات في المحرر، وأيضاً علق عليه الإمام ابن مفلح رحمه الله في النكت فذكر: أن العلماء بعضهم توسع وبعضهم حجم في مسألة التهمة، لحديث: (ذو الظنة)، والظنين: هو المتهم، وقد جاء اللفظ الآخر: (لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين)، والظنين: هو المتهم، من الظنة وهي التهمة، كما قال تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] وفي قراءة (بظنين) أي: بمتهم، فلما قال: (لا تقبل شهادة الخصم والظنين)، والخصومة هي العداوة، فصارت أصلاً في رد شهادة العدو على عدوه، ومن هنا حصل اتفاق العلماء على عدم قبول شهادة من ثبتت عداوته على عدوه.
أما بالنسبة للتهمة: فمنهم من توسع فيها، ومنهم من ضيق، ومنهم من توسط، والمطلوب هو الوسط، ولذلك نجد ممن توسع أتى بأمر غريب، حتى قال بعضهم: لا تقبل شهادة من يبيع أكفان الموتى، قال: لأنه يتمنى موت المسلمين؛ ولأنه لا يربح سوقه إلا ببيعها، وإذا ما حصل موت فلن يجد من يشتري منه، ومن هنا قالوا: لا تقبل شهادته، فيأتون بتهم باطلة، وهذا أمر ينبغي على طالب العلم المسلم الدِّين التقي النقي السوي الرضي أن ينتبه لهذه النوعيات من الناس، حتى إن بعضهم يتكلم في العلماء والدعاة والمشايخ وطلاب العلم من عقول وأفهام ضيقة يعبث بها الشيطان؛ ومن هنا فإن الذي يغسل الموتى ويأخذ أجرةً نفس الحكم، والذي عنده سيارة يحمل الموتى نفس الحكم وتدخل في شيء لا ينتهي، وهذا توسع في إعمال التهمة، وهذا لم يذكره الإمام أبو البركات، وإنما ذكر ضابطه.
ولكن هذه الأمور الغريبة تجدها في كتب الفقهاء رحمهم الله، وهذه لا تنقص من قدر العلماء؛ لأن العالم فلابد أن يبين؛ لأنه إذا جرى على قاعدة وأصل لا بد أن يذكر مثل هذه الغرائب، ومن هنا تجد عنده بعض العذر، لكن ليس كل عذر يقبل، فقد يقع من عامة الناس شيء من هذا بسبب ضعف دينهم، لكن من حيث الأصل لا تعتبر التهمة موجبة للرد إلا إذا قويت، وعلى هذا فلا ترد الشهادة بمطلق التهمة؛ بل ينبغي أن تحرر التهمة وأن تكون مؤثرة في شهادة الشاهد.
قال رحمه الله: [ومن سره مساءة شخص أو غمه فرحه فهو عدوه] بين رحمه الله -بعد أن ذكر أن شهادة العدو لا تقبل- ضابط العدو: وهو الذي يسر بالمساءة تصيب الرجل، ويثبت عليه بالشهود أنه سر حينما وقع حادث على فلان، أو اغتم حينما صار الخير له، فحينئذٍ يثبت أنه عدو؛ لأن هذه يسمونها: دلالة الظاهر على الباطن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أُمرت أن آخذ بظواهر الناس)، فإذا وُجِدَ رجل أصابه مكروه، فوجدنا شخصاً فرح وسرّ بهذا؛ دل على أنه عدو له، ومنهم من يسجد سجدة الشكر إذا بلغه وقوع مصيبة على عدوه نعم، له أن يفرح إذا كان الشخص يظلمه ويؤذيه ويضطهده، وكان باغياً ومعتدياً عليه، وبلغه عنه ما يسوءه وأن ذلك يعيقه عن أذيته، فسجد لله شاكراً أن قطع الله عنه دابره.
ومن غير المسلمين يمكن أن تقبل، لكن من المسلمين من الصعب أن تقبل، لكن إذا جاءه ضرر من هذا الرجل ودائماً يؤذيه لسبب، فله أن يشكر الله؛ وذلك لقوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148]، فكيف إذا كان أبدا فرحه بنعمة الله عليه؟ لأن الله امتن على بني إسرائيل بذهاب البلاء والشر عنهم، وانتصارهم على عدوهم.
فإذا كانت هناك عداوة عن ظلم وأذية وإضرار، وفرح الإنسان بهذا، فإنه لا ينقص من قدره ولا يؤثر فيه، وإنما يؤثر في الشهادة لو كان العدو صالحاً.
ومن حقك مثلاً أن تفرح أن عدوك كبته الله عنك ولو كان مسلماً، كأن يكون لك جار سوء مؤذٍ يتهمك بالباطل يقذف عرضك، يتهمك في عقيدتك، ثم أصابه بلاء، وقطع الله دابره عنك، ففرحت أن الله سبحانه وتعالى أزاح عنك هذا الهم، فهذا لا يعتبر منقصة لك، وإنما هذا شر صرفه الله عنك، لكن لو ثبت عن الإنسان أنه فرح واغتم فيما فيه شبهة العداوة، فإنه يثبت عنه أنه عدو، ومسألة الحكم أنه يجوز أو لا يجوز هذه مسألة أخرى، لكن مسألة ما هو الضابط؟ بغض النظر عن كونه مشروعاً للإنسان أو غير مشروع، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له.(412/6)
وجوب شهادة أربعة شهود في الزنا
قال رحمه الله: [فصل: ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة] هذا بالنسبة لمسألة العدد في الشهادة، فلا يقبل في الزنا والإقرار به أي: أن فلاناً أقر أنه زان حتى يؤاخذ بالإقرار إلا إذا شهد عليه أربعة شهود عدول؛ وذلك لنص آية النور على ذلك: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فنص على أن شهادة الزنا لا تقبل إلا بأربعة عدول، وقد تقدم في باب الزنا أن الشهادة في الزنا اختصت بأمرين: أولاً: اختصت شهادة الزنا بخصائص في العدد أربعة، فلا تقبل شهادة أقل من أربعة، ولذلك لما حصل رجوع الشاهد الرابع في شهادته على المغيرة عند عمر، حمد الله عمر على أن الله لم يفضح محمداً عليه الصلاة والسلام في أصحابه بعد موته، وردت شهادتهم وجُلدوا حد القذف، فهذا أصل أجمع العلماء عليه، أنه لابد من العدد.
ثانياً: تنفرد أنها خاصة بالذكور، وكذلك بقية الحدود لا يقبل فيها إلا الذكور؛ من جنس الحدود، والحدود تنفرد بكونها لا يقبل فيها إلا الرجال، فلا تقبل شهادة النساء فيها، فالأربعة شهود يشهدون على الزنا ويصفونه بما ذكرناه فيما تقدم.(412/7)
قبول شاهدين عدلين على من أتى بهيمة
قال رحمه الله: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان] لأنه هذا كما قلنا: ليس بحد، وإنما هو تعزير، وهل يقتل أو لا يقتل؟ هذا قد تقدم معنا، لكن إذا ثبت بشهادة رجلين أنه أتى ناقة أو أتى بقرة أو نحو ذلك، فإنه يعزره القاضي بما يراه، وإذا قلنا: إن التعزير يكون بالقتل ورأى أن المصلحة قتله، قتله؛ وإذا قيل: إن التعزير يكون بما يتناسب مع حاله إذا كان محصناً؛ قتله، هذا هو وجهه، لكن قد بينا أن إتيان البهيمة فيه التعزير، وعلى هذا فلا يجب أن تكون فيه شهادة الحد كاملة.(412/8)
قبول شاهدين عدلين في بقية الحدود والقصاص
قال رحمه الله: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً؛ كنكاح وطلاق ورجعة وخلع ونسب وولاء وإيصاء إليه يقبل فيه رجلان].
هذا كله بالنسبة للحدود من غير الزنا حتى ولو كان قتلاً، فإذا شهد اثنان أن فلاناً قتل فلاناً، فتقبل شهادتهما بالشروط المعتبرة، وكذلك أيضاً السرقة تقبل شهادة اثنين على السرقة، وكذلك على شخص أنه شرب الخمر والعياذ بالله! هذا بالنسبة للجرائم.
أما بالنسبة للحقوق فإذا شهد اثنان على بيع أو إجارة أو هبة أو صدقة أو وصية أو نكاح أو غير ذلك، فكل هذا تقبل فيه شهادة الاثنين.(412/9)
قبول شهادة المرأة في الأموال دون الحدود والحكمة من ذلك
قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي].
بالنسبة للحدود لا تقبل فيها شهادة النساء، ولا يقبل فيها شاهد ويمين، بل لا بد فيها من شهادة رجلين، كالسرقة، فإنه لا تثبت بشهادة أربع نسوة، ولا بامرأتين مع رجل، فلا تقبل فيها شهادة النساء، وهذا له حكمة، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طلاب العلم؛ لأن كثيراً من أعداء الإسلام يتكلمون على الشريعة الإسلامية أنها تظلم المرأة، وشاهت وجوههم! فليس هناك شرع أتم ولا أكمل من شرع الله عز وجل، وهو الذي أعطى كل ذي حقٍ حقه، ولذلك لا تقبل شهادة المرأة في الحدود لسبب، وتقبل شهادتها في الأموال وغيرها لسبب، ولو كان المراد أذية المرأة لما قبلت شهادتها مطلقاً، ولكن قبلت شهادتها حيث غلب على الظن الوثوق بقولها، وردت حيث كان العكس.
والمرأة في طبيعتها وجبلتها ليست كالرجل، يرضى من يرضى ويسخط من يسخط، والله تعالى يقول: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، فهذا شرع الله ونص الله عز وجل على أن الذكر ليس كالأنثى، لا في التكاليف ولا في القدرة والتحمل والصفات، ولذلك جعل الله من الشرائع ما يختص بالرجال دون النساء، وهذا لا ينقص المرأة أبداً؛ بل هذا جاء من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض، حيث لم يكلف ولم يحمل الإنسان إلا ما يطيق.
والمرأة فيها ضعف، فقد خلقها الله ضعيفة، والله يخلق ما يشاء، يخلق القوي ويخلق الضعيف، وليس من حق الضعيف أن يقول: يا رب! لم خلقتني ضعيفاً؟ بل عليه أن يرضى ويسلِّم، فقد خلق الرجل في الأصل، وخلق المرأة من الرجل، وجعل التكريم للرجل، فلا يستطع أحد أن يقول: لماذا فضل الله الرجل على المرأة؟ فإن فضله بتفضيل الله، فقد خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته.
فالأصل في الخِلقة هو الرجل، ثم جاءت المرأة تبعاً للرجل، قال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189]، وهذا يرضى به من يرضى ويسخط من يسخط؛ لأن هذا نص القرآن، وعلى الإنسان أن ينتبه وأن لا يجامل في دين الله، ولا بد أن يقول الحق، ولا يزال الإسلام غريباً، وسيأتي ما هو أغرب من ذلك، فهذا نص القرآن يبين أن الأصل في الخِلقة هو الرجل، وأن المرأة خُلقت من الرجل، وحق الرجل على المرأة عظيم.
إذا ثبت هذا فالصفات الموجودة في المرأة ليست كالصفات الموجودة في الرجل، ولذلك تقدم معنا في القضاء وبيناه: أن من شروط القضاء: أن يكون رجلاًَ؛ لأن المرأة ضعيفة فلا تتحمل القضاء؛ وذلك لقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] أي: من الذي يتحلى ويتزين؟ إنه المرأة، وهذه طبيعتها، وهكذا خلقها الله لأجل أن يسكن إليها الرجل.
{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فإذا حصلت خصومة فإنها لا تستطيع أن تبين عن نفسها، فكيف نجعلها قاضية تبين عن غيرها، وتتولى حقوق الناس وتقف فيها، وتجابه هذه المشاكل والمعضلات؟ قال تعالى: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] انظر إلى طبيعة المرأة، إذا جاءت مشكلة، ووقفت في وجه زوجها ليس في وجه أجنبي، وأرادت أن تبين حجتها، فلا تستطيع أن تكمل كلامها، بمجرد أن تدخل في الحجة تجدها تقول: أنت ما تفهم، أنت ما تريدني، طلقني، لا أريدك، وإذا بها تدخل في أشياء خارجة عن المشكلة، فهي لا تستطيع أن تبين عن نفسها.
وعندما نتكلم عن نقص المرأة قد يظن ظان أننا نريد أن نشمت بها لا؛ فإن هذه طبيعة تكوينها، وهكذا خلقت بالضعف الذي فيه رقة الأنوثة، وحنان الأنوثة؛ لكي تحتوي الرجل، وتكون للرجل كما شاء الله عز وجل بشيء يشرفها ولا يشينها؛ لأنها خلقة الله، فهي لا تلام على شيء خلقت له، ولو أن شخصاً ضعيف لا يستطيع أن يبين، وعبناه، فهل نعيب المخلوق أم الخالق؟ معناه: أننا إذا عبناه كأننا نعيب الخالق والعياذ بالله! ولذلك لا نستهزئ ولا يجوز لأحد أن يستهزئ بهذا، إنما هذا شرع الله، وهذه النصوص وهذه الحقائق من الله عز وجل.
فإذا كانت المرأة لا تستطيع أن تبين عن نفسها، فكيف نقبل شهادتها في الحدود؟! فالمرأة من طبيعتها لو أنها جاءت في حادثة قتل مثلاً، فإنها بمجرد أن ترى أي شيء يزعجها تراها تصرف وجهها، وإذا لم تستطع أن تصرف وجهها وضعت يديها على وجهها، وهذا أمر واقع، ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا، فما تستطيع المرأة أن تتحمل، قال تعالى حاكياً عن زوجة إبراهيم عليه السلام: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29]، وقال تعالى حاكياً عنها أيضاً: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا} [هود:72]، فقوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) وهي سارة، ومع أنها زوجة نبي فما استطاعت أن تتحمل لا في فرح ولا في حزن، فها هي في الفرح قالت: (يَا وَيْلَتَا) فلم تستطع أن تتحمل ذلك.
فالمرأة هذا تحملها وهذه طاقتها، ويأتي شخص ويقول: نريد أن نجعلها قاضية!! المرأة مكرمة في ديننا، والإسلام أعطاها حقها، وبين الله طاقتها وقدرتها، هذا هو الشيء الذي جبل الله عز وجل المرأة عليه، وهذه هي الفطرة، فإذا كانت المرأة لا تتحمل هذا الشيء، فلماذا تحملونها ما لا تطيق؟! ولذلك نجد أن من طبيعة المرأة إذا حدث شيء وبجوارها رجل فلا يمكن أن توجه ذلك الشيء لوحدها، بل مباشرة تنطلق إلى الرجل، ومن العجيب أن بعض الأطباء يقول: والله إن المرأة الطبيبة حتى في توليدها للنساء، إذا حدثت مشكلة وعندها رجل طبيب، فإنها تترك كل شيء وتذهب إلى الرجل، فلا تستطع أن تتحمل.
إذاً: إذا منعت من القضاء ومنعت من الشهادة، فهذا عين العدل، وعين الحق أن تعطي المخلوق قدرته وطاقته، ثم إذا كانت الشريعة قالت: إنه لا تشهد المرأة لوجود خلل، إذا كانت المرأة لا تتحمل أن ترى الدماء، ولا تتحمل أن ترى القتل والضرب والأذية، وكذلك في الحدود، حتى في الزنا لو أنها رأت المرأة فإن فيها شدة الغيرة، حتى ولو كان من رجل أجنبي مع امرأة فإنه يحدث منها الغيرة، وهذه طبيعة الفطرة وطبيعة الخلقة، وحينئذٍ يكون هناك نوع من الاعتداء في الشهادة، ووجود الخلل في شهادتها على الدماء، وفي شهادتها على الحدود، وفي شهادتها على الزنا، وكل هذا بسبب وجود الضعف الخَلْقِي الذي لا تلام فيه.
فالأصل يدل على هذا، وإذا ثبت هذا فإننا نقول: إن المرأة لا تقبل شهادتها إلا في الأموال، ثم لما قبلت في الأموال قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة:282]، فقوله: (أَنْ تَضِلَّ) أي: تنسى، قالوا: لأن المرأة لما ركبت من الشهوة في طبيعتها وفطرتها، وهذا له تأثير على العقل، والعقل نور من الله عز وجل، ومن أقوى ما يضعف العقل الشهوة، ومن تورع في الشهوات وصان نفسه عنها حفظ الله له نور عقله، ولذلك أعقل الناس هو أورعهم عن الشهوات، ومن هنا قالوا: إن الله عز وجل لما نهى عن قربان الفواحش ختم بقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151]، فهذه وصية من أجل أن يحصل العقل.
فالمرأة من حيث هي مركبة من الشهوة، ووجود الشهوة فيها من طبيعتها وجبلتها، وهذا يؤثر في تركيزها وفي ضبطها، ومن هنا قالوا: لأجل هذه الجبلة وهذه الطبيعة جعل الله شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وهذا من أصل خلقتها، فإذا ثبت هذا فلا تقبل شهادتها إلا في الأموال، أو ما يئول إلى الأموال، فيستشهد رجل وامرأتان، ولو استشهدنا النساء منفردات على المال، لجاز ذلك؛ مثاله: لو باع رجل أرضاً لابن عمه وأشهد أربع نسوة؛ صحت وقبلت الشهادة؛ لأنها مال، وهكذا بالنسبة لغير الحدود مما تقبل فيها شهادة النساء.(412/10)
ما تقبل فيه شهادة النساء خاصة
قال رحمه الله: [وما لا يطلع عليه الرجال كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه تقبل فيه شهادة امرأة عدل، والرجل فيه كالمرأة].
والأصل في هذا حديث في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قبل شهادة المرأة على الرضاع، وفرق عليه الصلاة والسلام بين الرجل وامرأته بهذا، فقد جاءت أمة سوداء وقالت: إنها أرضعت رجلاً وامرأته وهو عقبة رضي الله عنه، وامرأته بنت أبي إهاب بن عزيز، فقال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟)، وقبل شهادة المرأة الواحدة.
ومن هنا قالوا: إن الرضاع يخفى على الرجال غالباً؛ لأنه يكون بين النساء، وهذا يسمونه: الشهادة الخاصة، فتقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه إلا النساء، وفيما لا يطلع عليه الرجال غالباً، كعيوب المرأة تحت الثياب، من البكارة والثيوبة، فإذا اختلف هل هي ثيب أو بكر؟ فتطلع امرأة عليها وتقبل شهادتها عند القاضي، حتى تبين للقاضي هل هي ثيب أو بكر؟ إذاً: تقبل شهادة المرأة في العيوب الموجودة في المرأة التي لا يطلع عليها إلا النساء؛ قالوا: لأن اطلاع الجنس على الجنس أخف وأقل ضرراً وفطرة من الاطلاع مع اختلاف الجنس.
إذاً: المرأة لا تقبل شهادتها في غير هذه الأشياء التي ذكرها: أولاً: قوله: (ويقبل في المال) أي: ما يقصد به المال، وما يئول إلى الأموال.
ثانياً: قوله: (والخيار فيه ونحوه).
فيلتحق بالمال مثل الخيار، فتقبل شهادة المرأة على إثبات الخيار، كأن قال: بعتك العمارة ولم أجعل لك خياراً، فقال: بل بعتني واشترطت عليك الخيار، فقال: لم تشترط عليَّ الخيار، فقال: بل اشترطت عليك الخيار ثلاثة أيام، وعندي شهود، فجاء بنسوة، تقبل شهادة النسوة على المال وما يئول للمال.
ثالثاً: قوله: (وما لا يطلع عليه الرجال).
أي: ما لا يطلع عليه الرجال من الأمور الخفية، كما ذكرنا في شهادة المرأة الواحدة.(412/11)
عدم ثبوت القود والدية بشهادة النساء
قال رحمه الله: [ومن أتى برجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود؛ لم يثبت به قود ولا مال] لم يثبت فيه القود؛ لأن القود في القصاص يشترط فيه الرجال، أما النساء فلا تقبل شهادتهن في الدماء، ولا تثبت الدية على شهادتهن أيضاً؛ لأن الدية مبنية على ثبوت القود؛ لأنه قد يعترض معترض ويقول: إذاً أسقطوا القود وأثبتوا الدية، لو قال مثلاً: إنه يثبت له ضمان الجناية أو شهدوا خطأً فإنه لا تقبل؛ لأنه إذا ثبت القود بُنِيَ عليه ثبوت المال، وإذا لم يثبت القود لم يثبت استحقاق المال.(412/12)
ثبوت المال دون القطع في شهادة النساء بالسرقة
قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع].
هنا مسألة من صنفين، اجتماعهما على أصل واحد بأن يكون أحدهما بدلاً عن الآخر، وافتراقهما كنوعين، والقود يشترط فيه الرجال، وإذا شهدت المرأة قبلت شهادتها فيما تقبل، وهو ثبوت المال دون القطع، أي: تقبل شهادة رجل وامرأتين، وتقبل شهادة أربع نسوة على السرقة، ونضمِّن المشهود عليه المسروق، ونقول: يجب عليه الضمان، لكن لا نثبت الحد؛ لماذا؟ لأن المال ليس هو بدلاً عن السرقة، بخلاف القود، فإن الدية بدل عن القود، وحينئذٍ الفرع تابع لأصله، لكن هنا استقل ولم يصبح مندرجاً تحت الأصل، بحيث لو شهدت المرأة بأنه سرق ردت شهادتها في الحد دون المال، وكذلك لو سرقت سيارة من نوع كذا وكذا، أو أن سيارة فلان من نوع كذا وكذا سرقت، وشهد أربع نسوة أنه سرقها فلان، فحينئذٍ يثبت عليه ضمان هذه السيارة؛ لأنها مال، وفي السرقة ثبوت الحد وثبوت الضمان، فإذا لم يثبت الحد لوجود شهادة النساء بقي ثبوت الضمان.
قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في خلع ثبت له العوض وتثبت البينونة بمجرد دعواه].
قوله: (ثبت له العوض) كما ذكرنا في الخلع، أن امرأة قالت: ما خالعتك، أنت الذي طلقتني، وافترقنا بطلاق، فقال: لا، بل افترقنا بخلع؛ لأنه إذا قال: افترقنا بخلع يستحق أن يرد له المهر، فهي تقول: أنت طلقتني وافترقنا بالطلاق، وارتفعوا إلى القاضي، فجاء بالنسوة، قبلت شهادة النسوة ليشهدن على إثبات المهر، وحينئذٍ يثبت المال وهو منفصل عن الخلع.(412/13)
وصية جامعة لما ينبغي على طالب العلم تجاه العلماء
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصاً لوجهه الكريم.
وأحب أن أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، وخاصة طالب العلم الذي يجب عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يستشعر المسئولية والأمانة، فإن هذه المسائل وهذه الأحكام حجة للإنسان أو على الإنسان، وما من شيء أفضل ولا أعظم بعد الإيمان بالله من العلم النافع، فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا العلم لأوليائه وصفوته من خلقه بعد أنبيائه، فما من أحد يأخذه بحقه ويقوم بحقوقه، إلا رفع الله شأنه وأعزه، ويسر أمره، وشرح صدره، وجعل له من حسن العاقبة والتوفيق ما لم يخطر له على بال.
ووالله إن في العلم جنة في الدنيا قبل جنة الآخرة يعرفها من يعرفها، وهم الذين استقاموا على الطريقة، واستقاموا على طاعة الله، ووفوا بعهد الله عز وجل.
واعلم رحمك الله! أن أي مجلس علم تجلسه أو تسمع فيه، أول ما يجب عليك أن تحمد الله وتشكره أن قيض لك هذا العلم.
الأمر الثاني: أن تعتقد فضل أهل العلم أحياءً وأمواتاً، فتترحم على علماء المسلمين، وتترضى عليهم، وتذكرهم بالجميل، وتعلم أنه ما وقف عالم بين يديك ولا معلم بين يديك إلا بفضل الله ثم بفضل هؤلاء الأئمة من دواوين السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان، نفعاً لهذه الأمة وتعليماً لها، فاحفظ حق العلماء عليك، فإن الله سبحانه وتعالى نزع البركة ممن لا يحفظ حق من علمه، وبالأخص علماء السلف، فاعتقد حبهم وتعظيمهم وإجلالهم.
وعلى المسلم أن لا يصغي بسمعه إلى من ينتقصهم ويذمهم ويتتبع عثراتهم؛ بل ينظر إلى كنوز العلم كيف تناثرت بين يديه، وكلمات هؤلاء العلماء شموس الدجى وأنوارها بفضل الله عز وجل كيف كانت بين يديك، ووالله ثم والله ما صيغت هدراً ولا عبثاً، ولو علمت كم كابدوا من المشاق، وكم عانوا من المتاعب والصعاب؛ لعلمت أن فضلهم عليك بعد فضل الله عظيم.
يا هذا! أي علم ينثر بين يديك، وأي قول يقال لك فتصغي إليه بسمعك أو يعيه قلبك، لو علمت فضله وعلمت حقه وعلمت منزلته، لقمت بحقوقه، وحفظت نفسك وصنتها، وكنت كما ينبغي أن يكون عليه طالب العلم من الوفاء.
فلابد أن يفي المسلم لعلماء المسلمين، وأن يعتقد فضلهم، وأن يتعود دائماً على ذكرهم بالخير، ووالله ثم والله أن من أعظم الأسباب التي وجدناها بعد توفيق الله هو فهم كلام العلماء وضبطه وإتقانه، وسأشهد بين يدي الله بتعظيم أهل العلم، فطالب العلم الذي يتعود احترام كلام العلماء، ويقرأ الكلمة أو يسمع في مجلس عالم يوثق بعلمه كلاماً، ويتلقاه بالقبول، ويبدأ بتفكيك هذا الكلام وفهمه، فإنه يفتح عليه ويبارك له، ويبدأ من منطلق القبول لا من منطلق الرفض؛ لأن الأصل أن الجاهل يتقبل، بخلاف طالب العلم بمجرد أن يجلس يقول: لماذا هذا؟ أو لماذا قال هذا؟ فأولاً: افهم ما يقال لك، وابحث عن دليله، وينبغي عليك أن تتلقى العلم بالوعي والفهم، ثم بعد ذلك يؤهلك الله إلى مرتبة المناقشة؛ لأن الجاهل يتعلم قبل أن يتكلم، فليحفظ كل طالب علم مكانته، وننبه على هذا؛ لأن من طلاب العلم من إذا تعلم شيئاً تكلم على أهل العلم، فتجده يقرأ في الكتب، ويقول: لقد حضرت زاد المستقنع، ثم بمجرد أن يقرأ شيئاً لا يعرفه ولم يقرأه على شيخه يبدأ بنقضه وهدمه، فعليه أن يتقي الله عز وجل حتى لا يكون علمه وبالاً عليه، ومن جاء ناقداً رجع فاقداً، والمحروم من حُرم، وأعظم الحرمان حرمان العلم، وأعظم النفحة والمنحة والعطية عطية العلم، ولذلك فعلى المسلم أن يعتقد فضل العلماء من السلف الصالح، فهذه الكتب لو كنت تعلم أي زمان كتبت فيه، لقد كتبت حينما كانوا يتغربون ويسافرون عن أوطانهم وبلدانهم، وهم في جوع وشدة وخوف ورهبة وضنك لا يعلمه إلا الله عز وجل.
يا هذا! إن وجدت شرحاً واضحاً لعبارة فاعلم أنها ما صدرت من العالم إلا ووراء ذلك أمور، وراءها مرضات الله عز وجل، فما وضعها لك في الكتاب إلا وهو يرجو رحمة الله، وما وضعها لك في الكتاب إلا وهو ناصح لك، وما وضعها لك في الكتاب إلا لعلك أن تذكره بعد موته فتترحم عليه، وتستغفر له، لعلك أن تذكره بالجميل، فهذا الكتاب الذي تحمله لكل درس، وهذا المتن الذي نشرحه، أسألك بالله كم ترحمت على العالم الذي ألفه؟ وكم ذكرته؟! فالله الله، إن من أهل العلم من كان لا يجلس مجلساً إلا استغفر لمن كان له فضل في علمه، ولو كان كلمة أو حرفاً، ومن حفظ العهد بورك له، وإذا أردت أن ترى ذلك فافعل وسترى، وهذا شيء وصى به العلماء رحمهم الله.
وهذا الذي تراه من الاحتقار لأهل العلم، وهذا الذي تراه من الغفلة في حمل الكتب إلى مجالس العلماء والجلوس بين أيديهم، إنما هي غفلة الغافلين، وسهو الساهين، فلا تكن من الذين لا يوقنون، ولا تكن من الذين لا يعلمون، بل عليك أن تحس بالحق الذي عليك، إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برد المعروف بأفضل منه: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، فكيف بمعروف يقود إلى جنات عدن؟! وكيف بمعروف ترقى به أعلى المنازل؟! وكيف بمعروف تتكلم به فيسكت الناس لك؟! وكيف بمعروف تتبوأ به الدرجات العلى من الجنة؟! كيف تكافئ أهله؟! أقل ما يكون بالدعاء والترحم، والذكر بالجميل، والترضي.
وما أدركنا أهل العلم إلا على الأدب، ما أدركناهم إلا على حفظ العهد.
ووالله ثم والله كم يتقرح قلبي وكم يتألم حينما أرى أُناساً من خيار طلبة العلم تمنيت أن لو عاشوا الأزمنة التي عشناها، ورأوا من رأينا من أهل العلم، وكيف كان أهل العلم على الترحم والترضي وذكر العلماء بالجميل، وما كنا نسمع اللمز والغمز والاحتقار ونسيان أهل الفضل، فهذه الجرأة العظيمة، والكلمات الساقطة الهابطة التي تنزع ثقة الناس من علمائها، أعرض عنها؛ لأن الله أمرك بالإعراض عن الجاهلين.
وإياك ثم إياك أن تستخف بحقوق العلماء، خاصة سلف الأمة، وإياك أن تضيق عليك الدنيا حتى لا تجد إلا مثالب العلماء، ومناقص العلماء، وعيوب العلماء، ووطِّن نفسك إن أحسن الناس أن تحسن، وإن أساءوا أن تجتنب الإساءة وتترفع، وليكن هذا العلم قائداً لك إلى مرضات الله، لكن الثمن غالياً، وذلك أنك لن تكون بإذن الله على ذلك إلا بعد توفيق الله عز وجل أولاً وآخراً.
وثانياً: أن تحرص على أن تستشعر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب) بهذه المشاعر نحب ولكن ليس هناك دلائل تدل على الحب، نحب السلف لكن ما الذي قدمناه؟ ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يكون غيوراً، فلا يقبل من أحد أن ينتقص علماء الأمة، وأن يزري بهم، ولا يتقبل ذلك أبداً؛ لأن الزمان قد فسد وأصبحت هناك غربة، ولن يكون الدين غريباً إلا إذا أصبح العلماء غرباء، فطوبى للغرباء، اللهم ارحم غربتنا! اللهم ارحم غربتنا! نسأل الله بعزته وجلاله أن يتولانا برحمته، وأن يشملنا بعفوه ومنه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت نسألك في هذه الساعة أن تسبغ رحمتك ومغفرتك التامة الكاملة على قبور من علَّمنا وأدبنا، وأحسن إلينا من مشايخنا ومن علماء المسلمين وممن استفدنا من علمه، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم نور قبورهم، اللهم نور قبورهم، اللهم نور قبورهم، وكفر سيئاتهم، وتجاوز عن خطيئاتهم، اللهم اجعلهم في الفردوس الأعلى في الجنة، بفضلك العظيم لا إله إلا أنت، اللهم فاجزهم عنا خير ما جزيت معلماً في تعليمه، ومؤدباً في تأديبه، ومرشداً في دلالته، يا حي يا قيوم ارفع درجاتهم، وكفر خطيئاتهم، واجعل لهم أعظم الأجر والثواب في العقبى والمآب، يا سريع الحساب، يا من لا إله إلا أنت.
اللهم عظم حقهم، ولا نستطيع الوفاء بحقوقهم فأعنا ويسر لنا ذلك، اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم اجعلنا ممن وفى وبر، اللهم أحسن الخاتمة لأحيائهم، اللهم أحسن خاتمة أحيائهم، اللهم أحسن خاتمة أحيائهم، واجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، وأجزهم عنا أحسن الجزاء يا فاطر الأرض والسماء.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم فرج كروبهم، اللهم نفس كروبهم، وفرج همومهم وغمومهم، واشرح صدورهم، ويسر أمورهم، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، نستغفر الله ونتوب إليه، نستغفر الله ونتوب إليه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(412/14)
شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [2]
لابد من اكتمال العدد المطلوب شرعاً في الشهادة؛ فلا يقبل في الزنا إلا شهادة أربعة ذكور عدول، وفي بقية الحدود والقصاص وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يطلع عليه إلا الرجال غالباً تقبل فيه شهادة رجلين، ومن الأموال أو ما يئول إلى الأموال تقبل شهادة رجل وامرأتين أو شهادة رجل ويمين المدعي، وتقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن، ولا يثبت قود ولا مال بشهادة المرأة، وفي السرقة تقبل شهادة المرأة في المال دون الحد.(413/1)
مقدمة في بيان النصاب في الشهادات ومواضع شهادة الرجل والمرأة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة]: من عادة العلماء رحمهم الله عند بيانهم لأحكام الشهادة، أن يبينوا النصاب المعتبر في شهادة الشهود، وذلك أن النصوص في الكتاب والسنة اعتنت بذلك، فبين الله سبحانه وتعالى اشتراط العدد، كما سنذكره في الآيات الكريمات في سورة البقرة، وسورة النساء، وسورة النور، وكذلك سورة الطلاق، وبينت السنة أيضاً اشتراط العدد، كما في حديث الأشعث رضي الله عنه في الصحيحين، وغيره من الأحاديث الأخر.
فهذا كله يدل على أن الشهادة ينبغي أن تكون كاملة النصاب، وقد اختلفت أحكام الشريعة بحسب اختلاف مضمون الشهادة، فتارة يكون النصاب أربعة كما في شهادة الزنا، حيث نص الله سبحانه وتعالى على اشتراط أربعة شهود، وقد بينا ذلك في باب حد الزنا، وبين العلماء رحمهم الله أن الزنا مبنيٌ على الستر وعدم الحرص على الفضيحة، لما يترتب على ذلك من البلاء، فرأت الشريعة -وهي شريعة رحمة- الستر ما أمكن، ولكن في الحدود المقبولة، ومن هنا اشترط وجود الأربعة.
وكذلك أيضاً ربما كان النصاب دون ذلك؛ كالشاهدين في سائر الحقوق، وسنبين مثل الحقوق المالية، والحدود التي هي من غير الزنا، فإنه يكفي فيها شهادة الشاهدين، وكذلك أيضاً هذا النصاب الذي هو المركب على العدد واختلفت فيه أحكام الشريعة: فتارة تمحض بالذكور، كما في الشهادة على القصاص والحدود أو القود والدماء، وتارة يكون بالنساء مع الرجال، كما في الشهادة على الأموال وما يئول إلى الأموال.
وفي بعض الصور ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على عدم اشتراط التعدد، كما في قبوله عليه الصلاة والسلام لشهادة المرضعة، وكذلك قبوله لشهادة خزيمة بن ثابت رضي الله عنه وحده.
وبناءً على هذا ونظراً للاختلاف والتعدد لا بد من وضع أصول شرعية يبني عليها القضاء الإسلامي أحكامه في الشهادات، فيشترط العدد فيما اشترطت فيه الشريعة العدد، ويتمحض هذا العدد بالذكور فيما نص الشرع على اختصاص شهادة الذكور فيه، ويتمحض بالإناث، أو يشترك الإناث والذكور فيما رخص الشرع فيه بالشهادة على هذا الوجه.
أيضاً هناك شيئاً آخر وهو: انضمام حجة من غير الشهود إلى شهادة الشهود، كما في انضمام اليمين إلى شهادة الشاهد، وهنا الشريعة نزلت اليمين منزلة الشاهد، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بقضائه في الشاهد مع اليمين، وهذا نوعٌ آخر، فلما كانت الشهادة تتعدد وتختلف أفرد المصنف رحمه الله في هذه المسألة فصلاً خاصاً يبين فيها أحكام التعدد.(413/2)
شهادة أربعة شهود ذكور في الزنا
قال رحمه الله: [ولا يقبل في الزنا والإقرار به إلا أربعة].
وهذا لنص الله عز وجل في آية النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، وفي هذه الآية مسائل: المسألة الأولى: أن دعوى الزنا لا تقبل مجردة، وهذا محل إجماع، ما لم يقر المدعى عليه بدعوى الزنا أو يعترف.
المسألة الثانية: أن الزنا لا يثبت حده إلا بأربعة شهود، فلو شهد ثلاثة، حتى ولو كانوا من الصحابة؛ ردت شهادتهم، وهذا يدل على عظم أمر الزنا، وقد خاطب الله بهذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما هم فيه من العدالة وتزكية الشرع لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني)، ومع هذا لا يُقبل إلا أربعة شهداء.
المسألة الثالثة: أن هذه الشهادة خاصة بالذكور دون الإناث، والدليل على ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال في شهادة الأموال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، فذكر البدل عن الرجال، وهو شهادة النساء، فلو كان الزنا يقبل فيه شهادة النساء لبينه الله عز وجل، ومع ذلك لم ينص على شهادتهن في هذا الحد.
المسألة الرابعة: أن الله تعالى أمر بأربعة شهداء في حد الزنا، ونصت الشريعة على أن شهادة المرأة تعدل نصف شهادة الرجل، وهذا نص آية البقرة كما في آية الدين، فإذا ثبت هذا فمعناه: أنه لا يجوز لنا أن نقبل ثمان نسوة في حد الزنا، فإن هذا خلاف ما نص عليه القرآن، ولذلك فجماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على عدم قبول شهادتهن في الحدود وفي الدماء؛ للأصل الذي ذكرناه، وقد تقدم بيان العلة وأنها الضعف الموجود في خلقة المرأة، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282].
والأصل في قبول شهادة الشاهد غلبة الظن بصدقه، وغلبة الظن بحفظه للقضية، فإذا كان عند الشاهد عوارض من الضعف وعدم القدرة على التحمل؛ فحينئذٍ يؤثر هذا في الشهادة، وهذا من رحمة الله بالأمة وتيسيره عليهم.
كذلك أيضاً قوله تعالى: {بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:4]، مطلق وجاء ما يقيده بالشهداء العدول كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال في آية الدين: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، وقد تقدم هذا.(413/3)
قبول شهادة رجلين على من أتى بهيمة
قال رحمه الله: [ويكفي على من أتى بهيمة رجلان]: أي: يكفي في الشهادة على من أتى بهيمة رجلان، وينزل منزلة الزنا اللواط والعياذ بالله! وإن قلنا: إنه يأخذ حكم الزنا فلابد من شهادة أربعة، ومذهب جمهور العلماء رحمهم الله والأئمة على أن اللواط يثبت بشهادة شاهدين، وأما إتيان البهيمة فإنه ليس بحد، وإنما تقتل البهيمة لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتلها، وهذا الأمر بقتل البهيمة إتلاف للمال، ولذلك قبل فيه شهادة شاهدين، وبالنسبة للفاعل يعزر، فليست هناك عقوبة لمن أتى البهيمة كحد، ومن هنا لم ترتق إلى حد الزنا، فليست بحد كامل كحد الزنا، وعلى هذا خفف في نصابها، ورجعت إلى الأصل في الحدود، فيقبل فيها شاهدان، كما يقبل في السرقة وشرب الخمر ونحو ذلك من الحدود، فإذا قبل في الحدود شاهدان، فلأن يقبل في التعزير من باب أولى وأحرى، والحكم هنا تعزيري، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف رحمهم الله.(413/4)
قبول شهادة رجلين في بقية الحدود دون الزنا
قال رحمه الله: [ويقبل في بقية الحدود والقصاص، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً؛ كنكاح وطلاق ورجعة وخلعٍ ونسب وولاءٍ وإيصاءٍ إليه يقبل فيه رجلان] قوله: (ويقبل في بقية الحدود) كحد شرب الخمر، فإذا شهد شاهدان أنهما رأيا شخصاً وهو يشرب الخمر، أو يتعاطى المخدرات، فحينئذٍ تكفي شهادتهما، وهكذا بالنسبة للسرقة، فلو رآه شخصان وهو يسرق فإن شهادة الشاهدين كافية لإثبات حد السرقة، وهذا تحديد وتأقيت من الشرع، فلا يشترط أكثر من اثنين في بقية الحدود إلا الزنا فأربعة من الشهود؛ لأن الله عز وجل قال في غير الزنا: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، فأصبح أصلاً عند جماهير السلف والخلف والأئمة رحمهم الله على أن قبول الشهادة بالتعدد، وهذا ما يسميه العلماء: بالتقدير الشرعي، وفي الشريعة التقدير يكون على صور: الصورة الأولى: أن يمنع الزيادة ويجيز النقصان المقدر شرعاً.
الصورة الثانية: أن يمنع النقصان ويجيز الزيادة.
الصورة الثالثة: أن يمنع النقصان والزيادة.
فهذه الصور الثلاث هي أصل في التقدير الشرعي، فإذا جاء التقدير الشرعي عليها فإنه يلزم المكلف بها على نفس الطريقة التي ذكرناها.
فالصورة الأول: وهي أن التقدير يمنع النقصان ويجيز الزيادة فمثل: عشر رضعات معلومات يحرمن، ونسخن بخمسٍ معلومات يحرمن، فالرضاع فيه حدٌ وتقدير شرعي، بحيث لو أرضعت أكثر من خمس رضعات ثبت الرضاع، ولكن إذا أرضعت أقل من خمس رضعات فإنه لا يكفي.
كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) فحد الخمس من الإبل، فما زاد فالزكاة ثابتة فيه، ولا يمنع الزكاة ما زاد وإنما يمنع الزكاة النقص، فالزيادة لم تمنع والنقص يمنع.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة) كما في الصحيح، فلا يمنع الزيادة ولكنه يمنع النقصان في إيجاد الزكاة، فهذا تقدير شرعي يمنع أن يحكم بوجوب الزكاة فيما نقص عن هذا القدر، ولكننا نجيزها فيه إذا زاد.
وكذلك أيضاً قد يمنع النقص في أشياء كثيرة، كما في المقدرات الشرعية من الأنصبة في الأموال وغيرها من الوارد في الشرع تحديده.
وأما الصورة الثانية: وهي أن التقدير يمنع الزيادة ويجيز النقص على عكس الأول، فمثلاً: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثلاثاً، فحينئذٍ يجوز للمكلف أن يتوضأ مرة ومرتين وثلاثاً، ولكن لا يجوز له أن يزيد فيغسل العضو أربع مرات، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث السنن وهو صحيح: (هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم)، فهذا التقدير بالثلاث يمنع الزيادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حدد هذه الثلاث، وكذلك لما رخص عليه الصلاة والسلام بالخمسة الأوسق في بيع الرطب بالتمر -وقد تقدم معنا في البيوع- حد عليه الصلاة والسلام في هذه المعاملة الربوية الحد بخمسة أوسق، فحينئذٍ تمنع الزيادة عن خمسة أوسق، فلا يرخص للمسلم فيما زاد على خمسة أوسق، ولكنه لو أراد أن يأخذ بالرخصة فيما دونها فلا بأس ولا حرج، فما نقص مأذونٌ به وما زاد ممتنع، وهكذا بقية المقدرات في الزيادة.
والصورة الثالثة: وهي أن التقدير يمنع الزيادة والنقص، فيلزم المكلف بالعدد الوارد، ولا يجوز له أن يزيد عليه ولا يجوز أن ينقص منه، كما في حد الزنا، قال تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فالمائة جلدة هذه لا يجوز لأحد أن يزيد عليها في حد الزنا، ولا يجوز له أن ينقص منها؛ لأنها مؤقتة مقدرة، لا يجوز أن يعطل حد الله عز وجل فينقص منها سوطاً وجلدة واحدة، ولا يجوز أن يظلم المجلود فيزيده بجلدة زائدة على هذا المقدر شرعاً.
وكذلك أيضاً حد القذف، قال تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4]، فإنه لا يجوز لأحد أن يزيد على الثمانين جلدة، ولا يجوز أن ينقص منها.
أما حد الخمر فقد تقدم معنا، فإن زيادة عمر رضي الله عنه على الأربعين أربعين أخرى ليست من الحد، وإنما هي زيادة تعزيرية جاءت بسبب خاص، وهو: انهماك الناس في الخمر، ثم إن نفس الخمر اشتبه فيه الصحابة هل هو محدد أو غير محدد؟! لأن علياً رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدده، يعني: لم يقدره بمقدار معين.
وقد قال أنس: كان يؤتى بالشارب فمنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه، فهذا لا يكون داخلاً في الأصل على الوجه الذي ذكرنا، وقد تقدم شرح هذه المسألة في حد الخمر، وبينا خلاف العلماء رحمهم الله في الزيادة على الأربعين.
وقد تكلم العلماء على هذه الأنواع، وممن فصل فيها الإمام السرخسي رحمه الله في المبسوط، والأصل عند العلماء في المقدرات هو هذا، فإذا قال الله {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] دل على أنه لا يجوز لنا أن ننقص عن شاهدين، هذا هو الأصل، وإلا لما كان لذكر الشاهدين معنى وفائدة؛ لأنه لو كان يقبل أقل من الشاهدين لما ضيق الله على عباده، ولقال: استشهدوا شاهداً من رجالكم، ولكنه لما قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] دل -كما ذكرنا في المقدرات- على أنه من المقدرات التي تجوز الزيادة فيها، أي: لك أن تُشْهِدَ على مالك خمسة أو ستة أو عشرة، كأن تخاف أن يموت بعضهم، أو أن ترد شهادة بعضهم، فتحتاط فتشهد أكثر من شاهد، ولكن أقل من اثنين لا يقبل منك من حيث الأصل العام.
وهذه الآية -آية الدين التي في سورة البقرة- جاءت كأصل في الشهادة في الحقوق، ولذلك يعتمد عليها العلماء، وقد ردوا بها قول من يقول: إنها تقبل شهادة الواحد؛ ولذلك لم نجد من النبي صلى الله عليه وسلم قضاءً وحكومة وخصومة قبل فيها شهادة الواحد المجردة إلا في مسائل خاصة، منها: قبوله شهادة المرأة المرضعة، كما في حديث عقبة بن الحارث في الصحيحين مع أم يحيى بنت أبي إهاب رضي الله عن الجميع، فقد كان نكحها ثم جاءت أمة وقالت: إنها أرضعتهما، فقال عقبة: إنها كذبت، فقال صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!)،
و
السؤال
هل هذا حكم، أم قضاء، أم خصومة، أم أنه فتوى من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا هو الإشكال، ولذلك لم تجر على سنن القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تارة يحكم بحكم القضاء ويفصل بحكم القضاء، وتارة يفصل بالفتوى، وقد بينا هذا وفصلناه، ولذلك لم يقوَ الدليل على معارضة النصوص الصريحة القوية في أن البينة لابد فيها من اثنين غالباً.
وقد جاء من حديث الأشعث بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (اختصمت أنا ورجل في بئر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال الرجل: إنها بئري، فقال صلى الله عليه وسلم للأشعث: شاهداك أو يمينه) والحديث في الصحيح، فما قال له: ائتني بشاهد، أو ائتني بأي شيء يدل على أن البئر حقك، بل قال: (شاهداك أو يمينه) فخيره بهذا، فدل على أن العدد في الشهود مقصود، وأنه لا يقبل ما قل عن ذلك، إلا إذا كان معتضداً باليمين، فيما دل الشرع على جواز الشهادة مع اليمين، وسنبينه إن شاء الله.
إذا ثبت هذا فلا بد من التعدد، وقال بعض السلف: إنه يمكن أن تقبل شهادة الواحد، واحتجوا بحديث أم يحيى الذي ذكرناه، والجواب عنه معروف، ومما احتجوا به أيضاً قبول النبي صلى الله عليه وسلم لشهادة الشاهد على رؤية الهلال، فقد قال رجل: إنه رأى الهلال، وهو من حديث بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال! قم فأذن بالناس) يعني: للصوم، قالوا: وهذا يدل على أن شهادة الواحد كافية.
وهنا مسألة نحب أن ننبه إليها في الجواب عن هذا الدليل: أولاً: من ناحية السند فيه ضعف.
ثانياً: أن هناك شيئاً اسمه: الشهادة، وهناك شيئاً اسمه: الخبر، وهناك شيئاً اسمه: الرواية، فالرواية: معرفة النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابي، أو عمن بعدهم، وهذا لا يشترط فيه التعدد بإجماع العلماء من حيث الأصل، إلا في المسائل التي تعم بها البلوى، وقد اختلف الجمهور مع الحنفية، والمسألة معروفة في الأصول، لكن من حيث الأصل نقبل خبر الواحد إذا جاءنا بنقل العدل عن مثله فإننا نقبل روايته، ولا يشترط في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكون عن أكثر من واحد، ولذلك قبل العلماء الحديث الغريب برواية الواحد، كما في حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، والعزيز والمشهور فيما جاء من الأخبار، واعتمدوا الصحة والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون الراوي ممن تقبل روايته، فباب الرواية لا يشترط فيه التعدد وجهاً واحداً.
الباب الثاني: باب الخبر: وهو أن يكون خارجاً عن حكم القضاء، فيأتي الإنسان ويخبر عن شيء، كأن جئت تصلي فسألت شخصاً: هل أذن لصلاة العصر أو لم يؤذن؟ فقال لك: لقد أُذن، فهنا تقبل خبر الواحد إذا وثقت بقوله، أو دخلت إلى قرية أو مدينة فيجب عليك أن تسأل أهلها عن القبلة، ولا يجوز لك أن تجتهد ولو كنت مسافراً، ما دمت قد نزلت وبإمكانك السؤال؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك، فتأتي إلى رجل ظاهره الخير، أو رجل تعرفه، أو صديق لك، وتقول له: أين جهة القبلة؟ فإنه سيقول لك: هكذا، فهذا خبر للواحد وتقبله، وتعمل به في الديانة، وتتعبد الله عز وجل به، لكنه من باب الخبر لا من باب الشهادة، فهذا يسمى: خبر، ولا يسمى: شهادة.
وكذلك أيضاً لو جئت تصلي على فراش، وشككت هل هذا الفراش نجس أو طاهر؟ فقلت: يا فلان! هل هذا الفراش طاهر أو نجس؟ فقال لك: الفراش طاهر، فصدقت قوله، وتعبدت الله ع(413/5)
قبول شهادة رجلين في القصاص
قوله: (والقصاص) أي: والقصاص كذلك لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين بالصفات التي ذكرناها، وأن يكونا سالمين من القوادح والموانع التي تمنع من قبول شهادتيهما، فلو أن شخصاً ادعى على شخص أنه قطع يده، فإننا نقول للمدعى عليه: أقطعت يده؟ فإن أنكر فحينئذٍ نقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: عندي بينة، وأحضر شاهدين عدلين مستوفيين للشروط، فحينئذٍ نحكم بثبوت القصاص إذا كان قطع يده عدواناً.
مثال آخر: لو أن شخصاً ادعى أن أباه قتله فلان عمداً عدواناً، فأتينا بالمدعى عليه وقلنا له: هل قتلت فلاناً؟ فأنكر، فنقول للورثة أبناء القتيل: أعندكم بينة؟ فإن قالوا: نعم، وأقاموا شاهدين عدلين مستوفيين للشروط خاليين من الموانع؛ فحينئذٍ نحكم بثبوت القصاص على القاتل.
إذاًَ: القصاص يثبت بشهادة رجلين مستوفيين للشروط، سواء كان القصاص في النفس مثل القتل، أو كان في الأطراف بالشروط التي ذكرناها في ثبوت القود في الأطراف.(413/6)
قبول شهادة رجلين فيما ليس بعقوبة ولا مال ويطلع عليه الرجال
وقوله: (وما ليس بعقوبة ولا مال).
ما ليس بعقوبة ولا مال مثل النكاح، فليس بعقوبة ولا مال، والطلاق ليس بعقوبة ولا مال، وكذلك الرجعة، كأن يقوم شخص ويطلق امرأته طلقة، وكانت الطلقة الأولى، وأراد أن يراجعها، فهذا ليس بمال وليس بعقوبة، فحينئذٍ تقبل فيه شهادة الرجلين العدلين، كما نص الله عز وجل على ذلك.
وقوله: (ولا يقصد به المال).
أي: لا يئول إلى المال، وسيأتي هذا النوع الثالث.
وقوله: (ويطلع عليه الرجال غالباً) ما كان من هذا الصنف ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: يطلع عليه الرجال غالباً، بمعنى: أنه يقع أمام الرجال، مثل: النكاح، فإنه يجتمع ولي المرأة مع الزوج، وغالباً في محضر رجال، والطلاق نفس الشيء، وهذا يطلع عليه الرجال غالباً، فالرجل عندما يطلق امرأته غالباً يعلم صديقه وأخوه وقريبه، ولذلك إذا كانت الأمور التي يشهد بها من جنس ما يطلع عليه الرجال غالباً؛ فإنه يقبل شهادة الشاهدين من الرجال العدول على الصفة التي ذكرناها في الشهادة.
وقد أراد المصنف رحمه الله أن يحترز من النوع الذي تقبل فيه شهادة النساء، وهو الذي لا يطلع عليه الرجال غالباً، فقال رحمه الله: (غالباً)، وإلا فالنساء قد يطلعن على النكاح ويطلعن على الطلاق، لكن لما قال: (غالباً)، فمعناه: أن هذا الشيء الذي ذكره قد يطلع عليه النساء.
وقوله: (كنكاح).
النكاح الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، وأكثر ما يوجد بين الرجال، وقد يقع بين النساء ولكن الحكم للغالب، ولماذا نقول: يطلع عليه الرجال غالباً، ويطلع عليه النساء غالباً؟ لأنه إذا كان يطلع عليه الرجال غالباً أجريته على القاعدة العامة، وجعلته تحت حكم الشريعة في الشهادة، في كون الشهادة تختص بالذكور، وتكون بالعدلين بالصفة التي ذكرناها، فإن خرج عن هذا إلى كونها تختص بالنساء، فهذا يسمونه: الخاص، والخاص لا يقدح في الأصل العام، وهذا الفقه أن تعرف ما جرى على الأصل فتطرد الدليل العام فيه، وذلك مثل قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، فلما خص الله عز وجل الشهادة بالاثنين، وجعلها متعددة وجعلها خاصة بالرجال، ولم يذكر لها بدلاً من النساء، فعلمنا حينئذٍ أن هذا النوع يختص بالرجال، ووجدنا من صفاته الذي يكون وصفاً مناسباً للشرعية في الحكم، لما نظرنا الصفات وجدنا هذا الشيء غالباً في الرجال، ولذلك يكون جارياً على الأصل بقبول شهادة الرجلين فقط.
أما إذا أصبح هذا الشيء واقعاً بين النساء، ويقل اطلاع الرجال عليه، مثل العيوب الموجودة في النساء التي لا يطلع عليها الرجال غالباً، وحينئذ إذا صارت الأمور التي تختص بالنساء كالعيوب الموجودة للمرأة ونحو ذلك مما يحتاج إلى اطلاع النساء، أو يطلع عليه النساء غالباً، فمعناه: أنها حالة خاصة؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع، فحينئذٍ تستثنى؛ لأنك لو قلت: لا أقبل إلا الرجال؛ لأوقعت الناس في حرجٍ عظيم، ولضاعت الحقوق، وهذا خلاف شرع الله عز وجل، ولأصبحت المرأة تتبذل حتى ينظر الرجل إلى بكارتها وثيوبتها، فلأن ينظر الجنس مع اتحاد الجنس أخف من أن ينظر الجنس مع اختلاف الجنس، وهذا هو شرع الله أن يعطي كل شيء حقه وقدره.
لكن هذا الاستثناء لا يعتبر قاعدة عامة، ومن هنا ضبطوه بقولهم: أو ما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً؛ لأنه إذا كان من جنس ما لا يطلع عليه إلا جنسٌ مخصوص، فحينئذٍ يحتاج الناس عند الإشهاد عليه إلى هذا الغالب، فإذا ألزمتهم بغير الغالب -وهو الرجل- أحرجتهم، والله يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وإذا كان هذا الشيء من جنس النساء، وأدخلت الرجال على النساء أحرجتهم، والله عز وجل يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وضيقت عليهم والله عز وجل يريد أن ييسر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] فهذا هو وجه تفسير العلماء وتفريقهم بين ما يطلع عليه الرجال وما يطلع عليه النساء، ثم ضبط بالغالب؛ لأن الحكم للغالب، وإلا فقد يوجد اطلاع الرجال على هذه الأشياء في النادر، كالطبيب مثلاً عندما يطلع وينظر إلى بكارة المرأة وعدمها، كما لو اشتكت امرأة من ألم فاضطر أن ينظر إلى فرجها، فنظر فعلم أنها بكر، ثم بعد ذلك حدثت حادثة في نفس اليوم بعد خروجها واحتيج إلى شهادته، فقال الزوج: هي ثيب من أسبوع، وهذا قد كشف عليها بالأمس ورأى واطلع وقال: إنها لا زالت بكراً، وهذا النادر لا يناط بحكم الشهادة، فهذا وجه تخصيص العلماء رحمهم الله والفقهاء للمسألة بالغالب.
وقوله: (وطلاق).
كذلك الغالب فيه أنه لا يطلع عليه إلا الرجال، ولا يمتنع أن يطلع عليه النساء، فالطلاق يثبت بشاهدين من الرجال، ومثاله: قالت المرأة: إنها زوجة، وإن فلاناً توفي ولم يطلقها، وهي تستحق الميراث، فأقام ورثة الميت شهوداً على أنها مطلقة، وأنها بانت من مورثهم قبل وفاته، فنحكم بذلك ونعتبرها مطلقة، ولا حق لها في الميراث، إذاً يثبت الطلاق بشهادة الشاهدين العدلين المستوفيين للشروط، دون وجود موانع فيهما.
وقوله: (ورجعة).
كأن يقول: هذه زوجتي وقد راجعتها، ولذلك أطلب من القاضي أن تفسخ نكاحها من هذا الرجل، فقالت المرأة: ما راجعني، وأنا مكثت حتى خرجت من عدتي وتزوجت، وعندي شهود أني اعتددت، وأني ما تزوجت إلا بعد انتهاء العدة، فجاءت بالشهود وأثبتت أنها نكحت بعد انتهاء العدة، وجاء بالشهود على أنه راجعها في اليوم العاشر قبل حيضتها الثالثة، ما بين الثانية والثالثة، أو بين الحيضة الأولى والثانية، فحينئذٍ نحكم بالرجعة، وأنها زوجة للأول وليست زوجة للثاني، ونفسخ نكاح الثاني، إذاً تثبت الرجعة بشهادة الشاهدين.
وقوله: (وخلعٍ).
أي: لو قال: إنه خالع زوجته، وقد تقدم معنا أنه إذا ادعى أنه خالع المرأة، وادعت المرأة أن زوجها طلقها، فتسعى لإثبات حق لها، أو دفع ضرر عن نفسها، كأن تقول المرأة: إنك طلقتني وليس لك علي المهر، فقال: لا، بل خالعتك، فاختصم مثلاً هو وامرأته التي كانت في عصمته، وكلهم متفقون على أنه حصل فراق، لكن
السؤال
هل حصل الفراق بالخلع فيجب عليها أن ترد له المهر، أم حصل الفراق بالطلاق وليس له شيء؟ فهي تقول طلقني، وهو يقول: خالعتها، لم أطلقها، فلما اختصما جاء بشاهدين عدلين على أنه خالعها، وأن الذي وقعت به الفرقة هو الخلع وليس الطلاق، فاستحق أن يطالبها بالمهر، وحينئذٍ نحكم بثبوت حقه في ذلك بناءً على وجود شهادة شاهدين عدلين.
وقوله: (ونسبٍ).
كما لو قال: إنه الابن الوحيد لفلان، ويستحق ميراثه، فلما ادعى ذلك أنكر العصبة، كإخوان الميت، وقالوا: ليس له ذرية، وليس له ولد، وأنت لست ولداً له، فقام وجاء بشاهدين عدلين عند القاضي مقبولي الشهادة، فإنه لا مانع من قبول شهادتهما، ويُحكم بكونه ابناً لهذا الميت ويستحق الميراث، ويحجب بقية العصبة، إذاً يثبت النسب ويثبت ما يترتب على النسب بشهادة العدلين.
وقوله: (وولاءٍ).
كذلك إثبات الولاء يكون بشاهدين عدلين؛ لأن الولاء تترتب عليه أحكام شرعية، قال صلى الله عليه وسلم: (الولاء لحمته كلحمة النسب)، وهو أحد الأسباب الموجبة للإرث، فلو أن مولى أعتقه فلان من الناس، فتوفي هذا المولى، فإن مولاه يرثه إذا لم يكن له وارث لا بالفرض ولا بالتعصيب، أو مثلاً كان يعني: هذا المولى هو المسلم الوحيد، فأعتقه في حياته، وهو مثلاً سيده، فلما أعتقه أصبح ثرياً وغنياً، فتوفي هذا المولى وليس معه أحد من ورثته، فإن المال سيذهب إلى بيت مال المسلمين؛ لأن بيت المال يرث من لا يورث، ففي هذه الحالة جاء سيده وأقام دعوى على أنه مولاه، وأنه يستحق المال بحكم أنه مولى من مواليه، فنقول له: أثبت ذلك، فجاء بشاهدين عدلين، فحينئذٍ له ذلك ويحكم بذلك المال له.
وقوله: (وإيصاءٍ إليه).
كذلك الوصية، وقد تقدمت أحكامها، كأن يقول: أوصى لي فلان بربع التركة، أو أوصى لي بهذه المزرعة، أو أوصى لي بهذه العمارة، فكذبه الورثة وقالوا: ما أوصى له، وهو رجل أجنبي، أو رجل غريب غير وراث، فقال له القاضي: ألك بينة؟ فأحضر شاهدين وشهدا، فحينئذٍ حكم بالشاهدين له.
وقوله: (يُقبل فيه رجلان).
أي: نقبل الرجلين؛ وذلك لأن الله تعالى يقول: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وهذا هو الأصل، وقال سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2]، وقال صلى الله عليه وسلم: (شاهداك أو يمينه)، وكما قلنا: لابد من كونهما شاهدين عدلين بالصفة التي تقدمت في الشهود.(413/7)
ما تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال
قال رحمه الله: [ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار فيه ونحوه رجلان، أو رجلٌ وامرأتان، أو رجلٌ ويمين المدعي].
قوله: (ويقبل في المال وما يقصد به) أي: ما يقصد به من الأموال، أو ما يئول إلى المال، فبعضهم يقول: يقصد به المال، وبعضهم يقول: يئول إلى المال، فيشهد في ذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، أو أربع نسوة، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282]، هذا الأصل أن الرجل يريد أن يكتب ديناً لآخر عليه، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الحق -وهو الدين- يثبت بشهادة الشاهدين، فبين كيف تكون كتابة أو توثيق هذا الدين وهذا الحق، وذلك بكتابته وصفة الكاتب وما ينبغي على الكاتب، وما ينبغي على المملي.
وبعد هذا قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] أي: أن يملي الشخص ويكون ذلك بحضور شاهدين يشهدان على ما يقر به ويكتب، وبعض العلماء يقول: الحجة في الشاهدين، تعظيماً لأمر الشهادة على الكتابة، فإن الكتابة بذاتها ليست حجة؛ لأن الخطوط تتشابه والخطوط تزور، وإنما الحجة جاءت في الشاهدين، ومن هنا كانت الآية أصلاً في قبول الشهادة، فلما كان صدر الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة:282] هذه الآية في الحقوق المالية صارت أصلاً، ومن هنا قالوا: يقبل في الأموال الشاهدان.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282]، فدل هذا على أن الحقوق المالية يُقبل فيها شهادة النسوة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يذكر النساء إلا في هذا النوع من الحقوق، وقد ذكر الحدود وذكر الجنايات ومع ذلك لم يثبتها إلا بشهادة الذكور، فدل على اختلاف الحكم، كما مشى على ذلك وجرت عليه جماهير السلف والخلف من حيث الجملة.
إذا ثبت هذا فإن الأموال يقبل فيها الشاهدان الرجلان، أو الرجل والمرأة بنص القرآن، ثم يرد
السؤال
هل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] تنبيه على البدلية من كل وجه؟ بمعنى: أنه يمكننا أن نقبل أربع نسوة منفردات؛ لأن المراد أن شهادة النساء تحل محل الرجال، بغض النظر عن كونهن منفردات أو كونهن مجتمعات مع الرجال، وهذا هو مسلك الجمهور على أنه يمكن أن تقبل شهادة أربع نسوة في الدَّيْنِ، فلو أن رجلاً له على رجل مائة ألف ريال، وخاف أن يأتيه الموت، فأشهد اثنتين من أخواته واثنتين من زوجاته على هذا الحق الذي عليه، صح؛ لأن هذا الحق يثبت بشهادة النساء منفردات وبشهادتهن مجتمعات مع الرجال.
هناك من قال: لا تقبل شهادة المرأة إلا مع الرجل، والصحيح أنها تقبل شهادة النساء، سواءً اجتمعن أو انفردن في الحقوق المالية.
وقوله: (كالبيع).
أي: لو باعه بيتاً فإن له أن يشهد رجلين أو يشهد رجلاً وامرأتين، أو يشهد أربع نساء.
وقوله: (والأجل).
كذلك أيضاً إشهاد الرجال مع النساء في التأجيل، أي: كون الدين مؤجلاً أو معجلاً في الحقوق المالية.
فمثلاً قال له: بعت البيع نقداً، فقال: لا، بل بعتني إلى أجل، والأصل في البيع أن يكون نقداً، لكن إذا ادعى أنه باعه إلى أجل، وقال القاضي للبائع: أبعته إلى أجل؟ فقال: لا، أنا بعته نقداً، فحينئذٍ نقول لهذا: ألك بينة على أنه باع إلى أجل؟ فإن قال: نعم، وجاء بشاهدين من الذكور أو برجلٍ وامرأتين فإنه يصح؛ لأن التأجيل هنا المراد به إثبات حق المال، فالشهادة فيه راجعة إلى الأموال، فتثبت في البيع تأجيل البيع وعدم تأجيله.
وقوله: (والخيار فيه ونحوه).
أي: يجوز إشهاد الرجال والنساء في الخيار في البيع.
وقوله: (رجلان أو رجل وامرأتان) هنا لم يذكر الأربع النسوة، وهذا بناءً على ما اختاره بعض العلماء: أنه لا تقبل شهادة النساء منفردات، والصحيح: أنها تقبل شهادتهن منفردات في الحقوق المالية؛ لأن الله بين أن شهادة المرأتين بمثابة شهادة الرجل الواحد، وعلى هذا فتقبل شهادة الأربع مقابل الرجلين.
والدليل الثالث الذي يُقبل في شهادة الأموال وما يئول إلى المال: شهادة الشاهد مع اليمين، مثل: أن يقوم شخص ويقترض من شخص مائة ألف، وحضر هذا القرض شخصٌ واحد، ثم توفي المقترض، فجاء صاحب الدين إلى الورثة وقال: لي على أبيكم مائة ألف، فقالوا: لا نعترف لك بذلك، أعندك حجة أو كتابة فنقبل منك، فهو لم يخبرنا أن لك عليه مائة ألف؟ فاشتكى إلى القاضي، فقال له القاضي: ألك بينة؟ قال: نعم، لي رجل واحد يشهد، وهذا الشاهد مستوفٍ للشروط، حينها قال القاضي: تحلف معه اليمين، وتستحق ما ادعيت، والدليل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح: (أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد مع اليمين)، وهذا عن أكثر من عشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت عنهم هذه السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهر ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أحمد في مسنده ومسلم وغيره رحمة الله على الجميع، فهذا يدل على ثبوت سنة الشاهد مع اليمين، ويقول جمهور العلماء رحمهم الله: إنه يقبل الشاهد مع اليمين، ونعتبر قول الشاهد مع اليمين أصلاً بقبول الشهادة، وإذا اعتبرنا جنس الشاهد فإنه يقبل شهادة المرأتين مع اليمين؛ لأن المرأتين قائمتان مقام الرجل؛ ولأن الله أنزل المرأتين منزلة الرجل، وحينئذٍ يكون جنس الشاهد مع اليمين المراد به من اعتد بشهادته، بغض النظر من كونه من الرجال أو من النساء.(413/8)
قبول شهادة النساء فيما يخص النساء
قال رحمه الله: [وما لا يطلع عليه الرجال غالباً كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة والرضاع والاستهلال ونحوه تقبل فيه شهادة امرأة عدل].
هذا لما قدمنا من وجود الحرج، فإن أمور النساء الخاصة الغالب أنه لا يطلع عليها إلا النساء، وقد أخذوا هذا من حديث أم يحيى بنت أبي إهاب رضي الله عنها وأرضاها، وقد بينا ما في الحديث، لكنه أصل في أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل خبر المرأة، ولذلك بين رحمه الله هذه الأمور، فقال: (كعيوب النساء تحت الثياب كالبكارة والثيوبة)، فإثبات بكارة المرأة وثيوبتها يحتاج إلى اطلاع على الفرج، وهذا الاطلاع من الجنس أخف من اطلاع غيره، ولذلك فالمرأة الثقة المعروفة بالأمانة والتحفظ يمكن أن تطلع وتخبر القاضي بما اطلعت عليه.
وهل هذه شهادة لها حكم أم أنها شهادة أهل الخبرة استثنيت لوجود الحاجة كما يقول العلماء؟!(413/9)
حكم قبول شهادة الرجل فيما لا يطلع عليه إلا النساء غالباً
قال رحمه الله: [والرجل فيه كالمرأة].
أي: لو أن هذا الشيء الذي لا يطلع عليه إلا النساء شهد به رجل كالطبيب فتقبل شهادته، بمعنى: أننا عندما نقول: إنه لا تقبل فيه إلا شهادة امرأة، ليس على سبيل الحصر، وإنما الأصل أن يتولى هذه الأمور النساء، لكن لو حصل أن رجلاً اطلع عليه لجاز له أن يشهد.(413/10)
حكم ثبوت القود والمال بشهادة النساء أو شاهد ويمين
قال رحمه الله: [ومن أتى برجلٍ وامرأتين أو شاهدٍ ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قودٌ ولا مال].
بينا في الدرس الماضي: أن هذا مبني على أن ثبوت المال مفرع على ثبوت القود، فمثلاً: جاء بشاهد وأراد أن يحلف اليمين معه على أن فلاناً داس أباه بالسيارة عمداً عدواناً، فهذا قتل عمد لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين عدلين، ففي هذه الحالة إذا لم يثبت القصاص لا تثبت الدية، فلا يقول قائل: نسقط الدية؛ لأن القتل قتل عمد يجب القصاص، فالشريعة تنظر إلى الدعوى، بحيث لو أن الدعوى جاءت على هذا الوجه فحينئذٍ لا نقبل إلا شهادة رجلين عدلين بالصفة المعتبرة بالشهادة، فإذا لم يقمهما لم نحكم له صحيح أن هناك مالاً، لكن هذا المال وهو الدية مفرع أو مبني على ثبوت القود؛ لأن أولياء المقتول يخيرون كما قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقاد وإما أن يودى)، فجعل الدية بدل القود، فإذا لم يثبت القود لا تثبت الدية، وهذا معناه: أن يأتي المال مشتركاً مع غيره لا على سبيل البدلية، فلا تقبل فيه شهادة النساء ولا يقبل فيها شهادة ويمين؛ لأنه لم يتمحض فيها قصد المال، وإنما جاءه مبني على ثبوت ما يشترط فيه شهادة الرجال وحدهم، فلا يقبل فيه الشاهد مع اليمين، ولا يُقبل فيه شهادة النسوة منفردات أو مجتمعات مع الرجال.(413/11)
شهادة النساء في السرقة يوجب المال دون الحد
قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في سرقة ثبت المال دون القطع].
إذا شهد في السرقة ثبت القطع وثبت ضمان المال، ولكن هذا الثبوت لضمان المال ليس مركباً على ثبوت القطع، ولذلك يثبت الحقان: أولاً: القطع الذي هو حقٌ الله عز وجل.
ثانياً: المال الذي هو حق للمخلوق؛ فإذا كان حق الله لم يثبت؛ فإن حق المخلوق يثبت؛ لأنه إذا قال: سرق مالي، فالرجل يحتاج أن يرد له ماله، وحينئذٍ فحقه ثابت، فانفصل حق المال عن حق الحد، فإذا انفصل فإنه حينئذٍ يثبت المال، ونقول له: لا نثبت حد السرقة بشهادة النساء؛ لأن هذا النوع من الشهادات لا يثبتها، ولكن يجب عليه أن يضمن المسروق؛ لأن المال يثبت بهذه الشهادة.(413/12)
ثبوت العوض في الخلع بشهادة النساء مع الرجال
قال رحمه الله: [وإن أتى بذلك في خلعٍ ثبت له العوض].
قوله: (وإن أتى بذلك في خلع) الخلع يثبت فيه المهر، فإذا أثبت أنه خالع المرأة - كما تقدم معنا في المثال- فهو أثبت أنه خالعها بشهادة رجل وامرأتين، فإننا نقول: إن هذا يثبت المهر ولا يثبت الخلع.(413/13)
ثبوت البينونة بمجرد دعواه الخلع
قال رحمه الله: [وتثبت البينونة بمجرد دعواه].
أي: إذا ادعى الرجل أنه خالع امرأته فإننا حينئذٍ نحكم بثبوت البينونة؛ لأنه اعترف بأنها ليست زوجة له، وأنه قد فارقها، والخلع طلاق، وهذا من الفوائد التي تترتب على أن الخلع طلاق.(413/14)
شرح زاد المستقنع - باب موانع الشهادة وعدد الشهود [3]
إن من نعم الله تعالى ولطفه بعباده أنه عند تعذر إقامة الشهود الأصليين، أجاز شهادة من سمع الشهود أن يشهد بها.
ويشترط في الشهادة على الشهادة ما يشترط في الشهادة الأصلية، كالبلوغ والعقل والعدالة، ولا تكون الشهادة على الشهادة إلا بإذن الأصل أو إقراره عند القاضي، أو عزوه الشهادة لسبب من الأسباب.
أما مسألة الرجوع في الشهادة فإنه يترتب عليها أحكام مهمة، سواءً كانت قبل الحكم أو بعده.(414/1)
حكم الشهادة على الشهادة وما يشترط لها ومسائلها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي].
بعد أن بين المصنف رحمه الله أصول باب الشهادة، والأمور المعتبرة في قبول الشهادة وردها؛ شرع في بيان حكم الشهادة على الشهادة، والشهادة على الشهادة مركب يكون بعد بيان المفرد، والمراد بالشهادة على الشهادة: أن يكون هناك شاهدان على حق من الحقوق، فتعذر إقامة الشاهدين في القضاء، أو مات الشاهدان، وهناك شهود شهدوا على شهادتهما، وهذا من نعم الله عز وجل ولطفه بعباده.
وقد نص الأئمة رحمهم الله واتفقت المذاهب الأربعة على قبول الشهادة على الشهادة من حيث الجملة، والدليل على قبولها عموم الأدلة التي دلت على قبول الشهادة، فإن الله تعالى لم يفرق بين كونها شهادة أصل أو شهادة فرع، فإن الله أمرنا بقبول شهادة العدل والعمل بها، فإذا جاء شهود على شهود وهم عدول، أي: شهود الأصول عدول، فإننا نقبل الشهادة كالشهادة الأصلية؛ لأن الفرع آخذ حكم أصله، فالشهادة على الشهادة مركبة على أصل، فإذا كان الأصل مقبولاً فالشهادة على الشهادة مقبولة؛ لأن حفظ الحقوق مقصود شرعاً، وهو يتأتى بالشهادة على الشهادة.
وقد بيّن رحمه الله: أن الشهادة على الشهادة تكون فيما يكون فيه كتاب القاضي، وقد تقدم بيانه، فلا تقبل الشهادة على الشهادة في قصاص، ولا في إثبات حد من الحدود، وذلك لما ذكرناه، ومن أهل العلم من قال بعمومها، ولكن لوجود الشبهة وخوف الخطأ والخلل استثنى الحنابلة رحمهم الله الدماء وما لا يقبل فيه كتاب القاضي.
ويشترط في الشهادة على الشهادة ما يشترط في الشهادة الأصلية، ولكن لا بد أن يكون الشاهد بالغاً عاقلاً عدلاً غير متهم في شهادته، ضابطاً للشهادة، فإذا استوفى الشروط المعتبرة، فيرد
السؤال
هل تقبل فيها شهادة النساء، أو لا تقبل؟ أولاً: الشهادة على الشهادة، الأصول تقتضي قبول شهادة الرجال والنساء عموماً، وهذا مذهب طائفة من العلماء، والحنابلة عندهم لا تقبل شهادة النساء في الشهادة على الشهادة.
والصحيح: أنه تقبل شهادة امرأتين وتنزل منزلة شهادة الرجل الواحد، وتتعدد بتعدد شهادة الأصول في الرجال.(414/2)
متى تقبل الشهادة على الشهادة
قال رحمه الله: [ولا يحكم بها إلا أن تتعذر شهادة الأصل بموته] إذاً: لو أن رجلاً كبيراً في السن عنده شهادة فجاء وقال: إن هذه الأرض ملك لوقف فلان، وهناك كبير سن آخر يشهد بنفس الشهادة، فيأتي شاهدان ويشهدان على شهادة الشاهد الأول الذي اسمه عبد الله في ثبوت الحق، ويسترعيهم الشهادة، وأيضاً يأتي شاهدان آخران لشهادة عبد الرحمن كبير السن الآخر، فإذا حصلت الشهادة فمعنى ذلك: أن أربعة شهود سيشهدون في مقابل شهادة الاثنين، وسينقلون شهادة الاثنين، وكلٌ منهما شاهدٌ على صاحبه، كل اثنين سيشهدان على ما شهد عليه، وحينئذٍ تقبل الشهادة إذا تعذر، إما لموت الأصل أو غيره من الأسباب، مثل أن أكون أنا وأخي سمعنا والدنا يقول كذا وكذا، ثم توفي الوالد، فأنا وأخي ملزمان شرعاً بأداء هذا الحق الذي طُلب منا، فهذا فيه حفظ للحقوق وصيانة لها.
فبين رحمه الله أنه عند التعذر من موت أو مرض كأن يشهد ثم مرض، وتعذر عليه أن يأتي إلى مجلس القضاء، وعلى هذا فتقبل الشهادة عند وجود العذر، أما إذا لم يوجد العذر فللعلماء وجهان: الوجه الأول: لو كان الأصل موجوداً في المدينة أو موجوداً في مدينة أخرى، ويمكن أن يسافر ويأتي، فمن أهل العلم من قال: إنه إذا كان على مسافة القصر فإنه يسقط عنه الحضور.
الوجه الثاني: إذا كان في داخل المدينة فإنه لا تقبل الشهادة على الشهادة؛ لأن القدرة على اليقين تمنع من الشك؛ ولأن نقل الشهادة على الشهادة مزلة الخطأ والخلل، فينبغي إشهاد الأصل، وهذا القول فيه احتياط، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله، والأصول تقتضي القبول.
قال رحمه الله: [أو غيبة مسافة قصر].
كما ذكرنا، كأن يكون في مدينة والقاضي في مدينة أخرى.(414/3)
متى يشهد الفرع بدلاً عن الأصل
قال رحمه الله: [ولا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا أن يسترعيه شاهد الأصل].
كأن يقول له: اشهد على شهادتي أن فلاناً له على فلان كذا وكذا، واشهد على شهادتي أن فلاناً أوقف داره أو أوقف أرضه، أو أن فلاناً وهب، أو أن فلاناً شارك فلاناً، أو أن فلاناً أعطى فلاناً قرضاً، فقوله: اشهد على شهادتي هذا استرعاء.
قال رحمه الله: [فيقول: اشهد على شهادتي بكذا، أو يسمعه يقر بها عند الحاكم].
إذا شهد بها عند الحاكم فهي شهادة شرعية وحينئذٍ ينقل هذه الشهادة.
قال رحمه الله: [أو يعزوها إلى سبب من قرض أو بيع أو نحوه].
كأن يقول: إن لفلان على فلان مائة من أصل بيع، سواء كان من قيمة أرض أو من قيمة سيارة، فيسندها إلى أصل، أما لو قال: إن له في ذمته كذا ولم يبين السبب، فلا تقبل.(414/4)
مسألة الرجوع عن الشهادة وصورها
قال رحمه الله: [وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض].
هذه المسألة تعرف عند العلماء بمسألة الرجوع عن الشهادة، أن يشهد الشهود ثم بعد شهادتهم يقولون: رجعنا، فهذه على صورتين: الصورة الأولى: أن يقولوا: كذبنا وزورنا، ونحن قد تبنا إلى الله ورجعنا عن شهادتنا، فهذا اعتراف بالخطأ، بمعنى: أنهم تحملوا وأدوا الشهادة زوراً وكذباً.
أو أن يكون منهم الرجوع لتبين خطأ، فيقولون: رجعنا، فإن الذي قتل فلاناً ليس بفلان، نحن أخطأنا وما تعمدنا شهادة الزور، وإنما تبين لنا أن الذي قتل فلاناً هو فلان، وأننا أخطأنا في الشهادة الأولى.
وهذا الرجوع إما أن يكون قبل الحكم بالشهادة، وإما أن يكون بعد الحكم، فإذا كان بعد الحكم إما أن يكون قبل تنفيذ الحكم فإما أن يكون بعد تنفيذ الحكم.
الحالة الأولى: أن يرجع الشهود قبل الحكم بشهادتهم: فإن القاضي لا يحكم بشهادتهم قولاً واحداً عند العلماء، مثاله: لو ادعى شخص على شخص ديناً، ثم أقام شاهدين فشهدا عند القاضي وقالا: إن فلاناً له على فلان كذا، وقد سبق أن قلنا: إنه إذا شهد الشهود فيبحث القاضي عن الشهود هل هم عدول؟ هل هم أهل للشهادة أو لا؟ فإذا قالوا بعد ذلك: رجعنا عن شهادتنا، فهذا قبل الحكم، أو قال المدعى عليه: هؤلاء الشهود فسقة لا تقبل شهادتهم، وسأُقيم البينة على فسقهم، فلما أعطى القاضي مهلة ثلاثة أيام حتى يثبت -كما تقدم معنا في أدب القاضي- رجع الشهود، إذاً شهدوا وقبل أن يحكم بشهادتهم رجعوا.
فإن رجعوا وقالوا: إنهم مزورون، فحينئذٍ يترتب حكمان: الأول: رد الشهادة.
الثاني: تعزيرهم من القاضي، وقد اختلفت عبارة العلماء في التعزير، حتى قال بعضهم: له أن يشوه، كأن يحلق لحى الشهود، ويمشي بهم في الأسواق، ويقال: هؤلاء كذبة وشهود زور.
والصحيح: أنه لا تحلق اللحية، وإنما يطاف بهم في الأسواق إذا رأى المصلحة، ويقول: هؤلاء شهود زور وكذبة؛ لأنهم كذبوا على القاضي، وهذا يفضي إلى اختلال الأحكام الشرعية، واستغلال القضاء للسوء؛ ولأنه قد تستباح الدماء، وقد تستباح الفروج، فالطواف بهم بين الناس يردع غيرهم عن هذا الفعل الذي به قوام العدل عن هذا الفعل، الذي يؤدي إلى ضياع العدل وانتهاك الحرمات، فبعض العلماء رحمهم الله يقولون: إنهم يعزرون بالطواف، والأصل يقتضي أن الأمر إلى القاضي فيعزرهم بما يرى من المصلحة.
أما إذا كان رجوعهم بالخطأ، وقالوا: نحن شهدنا وتبين لنا الخطأ، فحينئذٍ لا يعزرون، لكن يسقط شهادتهم، وإذا أسقط شهادتهم تبين أنهم أناس فيهم خلل في الشهادة؛ لأنهم اعترفوا على أنفسهم أنهم أخطئوا، فمعنى ذلك: أنهم أناس لا يضبطون الشهادة، وحينئذٍ لا تقبل شهادتهم بعد ذلك.
الحالة الثانية: أن يكون رجوعهم بعد الحكم بالشهادة وقبل تنفيذ الحكم، فحينئذٍ إذا شهدوا بحق مالي، وشهدوا أن فلاناً باع سيارته، وأن فلاناً باع أرضه، فإن رجوعهم عن الشهادة بعد الحكم ساقط، ولا يؤثر في الحكم؛ لأنه إذا شهد أن لفلان على فلان ألفاً، وكانت شهادتهم مزكاة معتبرة شرعاً، فحينئذٍ ثبت عندنا أن لفلان على فلان ألفاً، فإذا قالوا: كذبنا وزورنا، فقد طعنوا في أنفسهم بالفسق، وحينئذٍ جرحوا أنفسهم، فلا يقبل رجوعهم؛ لأنهم شهدوا على أنفسهم أنه لا يقبل قولهم، ونحن قد قبلنا قولهم قبل ذلك بالتعديل، فحينئذٍ لا نرجع إذا غلب على ظننا صدقهم إلى أمرٍ تبين أنهم فسقة، وأنهم لا تقبل شهادتهم، فلو شهدوا بحق لمحمد، ثم قالوا: كذبنا وزورنا، فإن قولهم: كذبنا وزورنا إنما شهدوا على أنفسهم بالفسق، ومن شهد على نفسه بالفسق فقد أسقط شهادته، فحينما يقولون: كذبنا وزورنا، والحق إنما هو لفلان وليس لفلان، فحينئذٍ سقطت شهادتهم الثانية وبقيت شهادتهم الأولى على الأصل؛ وكذلك الحكم إذا ثبت أنهم قالوا: زورنا فإنهم يعزرون.
ولو قالوا: أخطأنا، والحق ليس لفلان وإنما هو لفلان، وكان هذا بعد حكم القاضي بالحق المالي، فنقول: إذا حكم القاضي بالمال وسدد، فحينئذ لا ينقض الحكم؛ لأنه ثبت بصورة شرعية معتبرة.
وقولهم: أخطأنا، فهم شهدوا على أنفسهم بسقوط شهادتهم، فهناك سقطوا بالتزوير، وهنا سقطوا بخفة الضبط؛ لأن من شرط قبول الشهادة أن يكون الشاهد ضابطاً لشهادته؛ لأن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282]، فتسقط الشهادة الثانية وتبقى الشهادة الأولى، ويثبت الحق لصاحبه، ولا يؤثر في حكم القاضي؛ لأن الأحكام القضائية لا تنقض إلا في مسائل خاصة، وهذه ليست منها، وحينئذٍ يبقى الحكم على ما هو عليه وينفذ.
الحالة الثالثة: أن يكون رجوعهم بعد الحكم، وأن يكون الحكم مشتملاً على حد أو قصاص، فحينئذ يسقط الحد ويسقط القصاص؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
فلو قالوا: زورنا وكذبنا، فإن فلاناً ما سرق، فحينئذٍ لا تقطع اليد، أو أن فلاناً ما زنى، فإنه لا يرجم؛ ولذلك سبق أن قلنا: إنه عند الرجم يؤتى بالشهود بحيث لو كانوا كذبة فقد يرجعون عن شهادتهم، فإذا قالوا: إنهم كذبوا، فحينئذ يسقط تنفيذ الحد، وإذا كان في الحد حق مالي، مثل السرقة؛ فإنه يثبت المال لصاحبه، ولكن لا يقام الحد.
والخلاصة: أنهم إذا رجعوا قبل الحكم وجهاً واحداً لا ينقض، وإذا رجعوا بعد الحكم، فإن كان بعد الحكم وقبل التنفيذ مضى الحكم ونفذ، إلا أن يكون مشتملاً على حدٍ أو قود دون قصاص، فحينئذٍ لا ينفذ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
ولو حكم الحاكم بشهادتهم ونفذ الحكم في القتل، وجاءوا وقالوا: رجعنا عن شهادتنا، فعلى صورتين: الصورة الأولى: إما أن يقولوا: كذبنا وتعمدنا قتله، فإنهم يقتلون؛ لأنهم تسببوا في قتله، ولولا شهادتهم لما حصل قتل، وهي السببية المفضية إلى الزهوق، وقد تقدم معنا شرحها في كتاب القصاص، وحينئذٍ قال علي رضي الله عنه كما في القصة عنه: أنه شهد عنده شهود أن فلاناً سرق فقطع يده، ثم جاءوا وقالوا: أخطأنا، فقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما.
صحيح أن الذي قطع هو الذي أمره القاضي بالقطع، وهذه السببية يسمونها: السببية المفضية للزهوق، فالسببية المؤثرة المفضية للزهوق لا شك أنها توجب القصاص، فحينئذٍ يقتص منهم إذا تعمدوا قطع الأطراف، لكن لو قالوا: أخطأنا، فحينئذٍ لا يقتص، فيسقط القصاص، ولكن يجب عليهم الضمان.
قال رحمه الله: [ويلزمهم الضمان دون من زكاهم] يرد
السؤال
هل الذين زكوا الشهود يحكم بوجوب القصاص عليهم؟ إذا قالوا: تعمدنا، ونعلم أنهم فسقة وأعنَّاهم على هذا، فحينئذٍ هم شركاء، لكن لو قالوا: نحن نعلم أنهم فسقة وزكيناهم مجاملة، ولا نعلم أن هذا سيفضي إلى الزيغ، فللعلماء أوجه: فمن أهل العلم من قال: إنه يقتص منهم، ومنهم وقال: لا يقتص منهم، من الذين يرون القصاص قالوا: إذا كان المزكون علموا أنهم ليسوا بأهل الشهادة وزكوهم، فإنه يقتص منهم.
والخلاصة: أن المزكي يلزمه الضمان إذا علم أن شهادته زور؛ لأنه أعانه على الزور؛ ولأنه أعانه على الإثم، وحينئذ يكون الحكم كما ذكرنا في قتل الجماعة، وأن كل سببية تفضي وتعين على الزهوق فتأخذ حكم الاشتراك.(414/5)
حكم رجوع الشاهد مع اليمين وما يجب عليه
قال رحمه الله: [وإن حكم بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم المال كله].
قوله: (وإن حكم بشاهد ويمين)، قال بعض العلماء: إنه يجزئ؛ لأن اليمين مقام الشاهد، والشاهد الذي أخطأ عليه ضمان نصف المال.
والصحيح: أن عليه ضمان المال كله؛ لأن اليمين لا تكون إلا بعد وجود الشاهد، وحينئذٍ الشاهد هو الذي تسبب في الحكم كله، وعلى هذا يجب عليه ضمان المال كله.(414/6)
شرح زاد المستقنع - باب اليمين في الدعاوى
تشرع اليمين في الدعاوى، وقد دل على مشروعيتها دليل الكتاب والسنة، وهي حجة من حجج القضاء، وتشرع في حال الإنكار، فمن أنكر عليه اليمين، ولا تشرع في العبادات والحدود؛ لأنها حقوق لله تعالى، وهناك أمور لا يجوز فيها الاستحلاف؛ كالنكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاء والنسب والقود والقذف.(415/1)
مشروعية اليمين في الدعاوى وحجيتها وأحكامها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب اليمين في الدعاوى].
اليمين في الدعاوى حجة من حجج القضاء؛ ولذلك دلت السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين، من حديث الأشعث رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لك إلا يمينه) أي: ليس للمدعي إذا لم تكن له بينة إلا أن يحلف خصمه، فليس له إلا ذلك، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الحاكم وغيره بسندٍ صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، وقوله: (اليمين على من أنكر) هذا أصل يستدلون به في مسألة خاصة، وهي مسألة: شهادة أهل الكتاب على وصية المسلم في السفر، وهي التي تقدمت معنا.
وفي آية المائدة في قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [المائدة:106]، فقوله: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ) أقام الله عز وجل اليمين للتوثيق في القضاء والحكم، وكذلك أيضاً أقام أيمان اللعان وقد تقدمت معنا، ودلّ على اعتدادها؛ لأنها قامت مقام الشهود، وهذا يدل على أنها يمين لها تأثير في القضاء وأنه يحكم بها.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة حويصة ومحيصة ابني مسعود، مع عبد الله بن سهل وعبد الرحمن بن سهل ابني عمهما: ذلك أن عبد الله بن سهل انطلق مع محيصة بن مسعود إلى خيبر، فافترقا في بعض أماكنها، فرجع محيصة إلى المكان الذي تواعدا فيه مع عبد الله بن سهل، فوجد عبد الله بن سهل رضي الله عنه يتشحط في دمه، والشاهد من هذا: أنه دفنه ثم رجع إلى المدينة، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لما رفعوا القضية إليه: (تحلفون خمسين يميناً على رجل منهم فتستحقون دم صاحبكم)، وقد تقدم هذا معنا في القسامة، وهذا يدل على أن اليمين حجة في القضاء.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا حينما قال للأشعث: (شاهداك أو يمينه، قال: يا رسول الله! الرجل فاجر يحلف ولا يبالي، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا يمينه).
فدل على أنها تقبل من البر والفاجر.(415/2)
عدم جواز الاستحلاف في العبادات والحدود
قال رحمه الله: [لا يستحلف في العبادات ولا في حد من حدود الله].
أي: لا تكون اليمين في حقوق الله عز وجل، فمثلاً: لو قال شخص: فلان ما صلى، فقال: بل صليت، فاختصما للقاضي، فالقاضي يقول للمدعي: ائت ببينة أنه ما صلى، فإذا قال: ما عندي بينة، فحينئذٍ لا نقول للشخص الذي ادعي عليه أنه ما صلى: احلف اليمين، فلا نقول بحلف اليمين في هذا الحالة؛ لأن الحق لله، ولذلك بعض العلماء يعلل بعلة وهي: أن حقوق الله له، وحينئذ تعذَّر أن يحلفه صاحب الحق، وسقط التحليف في حقوق الله الخالصة، وكذلك أيضاً لو قال: ما أدى الزكاة، وقال الآخر: بل أديتها، فترافعا إلى القاضي، فلا يقال له: احلف على أنك أديتها، فلا يحلّف ولا يستقيم تحليفه قضاءً.
ومن هنا: لا يمين في حقوق الله ولا في الحدود؛ لأنه إذا أقر بالحد ملك الرجوع عنه، وقد تقدم هذا معنا في الحدود، فإذا ادعي عليه الزنا، فلا يحلَّف بالله إذا أنكر، وإنما يقال للمدعي: إما أن تقيم البينة وإلا نقيم عليك الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث ابن عباس لما قذف هلال بن أمية امرأته بـ شريك بن سحماء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، فهذا يدل على أنه إما أن يقيم البينة أو يقام عليه حد القذف، وكأنه من حقه لو اعترف بالزنا أن يرجع، فإن المقر لو أقر بالزنا من حقه أن يرجع، كما سنبينه إن شاء الله.(415/3)
مشروعية استحلاف المنكر في حقوق الآدميين
قال رحمه الله: [ويستحلف المنكر في كل حق لآدمي].
كأن يقول له: لقد بعتني سيارتك، فيقول: ما بعتك سيارتي، فارتفعا إلى القاضي، فقيل للذي يدعي البيع: ألك بينة؟ فإذا قال: ما لي بينة، فيقال: إذاً يحلف.
وهناك شروط لجواز الحلف: أولاً: أن تكون الدعوى في غير حق الله، كما ذكر المصنف رحمه الله في الحدود.
ثانياً: أن ينكر الخصم.
ثالثاً: عدم وجود البينة؛ لأنه إذا وجدت البينة فلا يمين.
رابعاً: أن يطلب الخصم تحليف خصمه، أي: لابد أن يطلب الخصم بتحليف خصمه، ومما ذكر عن بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة: أن أحدهم عُين في القضاء، فسمع رفقاء له بذلك، فاختصم إليه اثنان من المبرزين عند الإمام في الفقه والعلم، فقال أحدهما: لي على فلان حق، وذكر حقه، فقال للمدعى عليه: هل له عليك شيء؟ قال: لا، فقال للمدعي: ألك بينة؟ قال: ليس لي بينة، فقال للمدعى عليه: إذاً احلف.
وهنا وجه تخطئته.
فقال المدعي: ومن قال للقاضي أن يطلب من الخصم أن يحلف وأنا ما طلبت منك أن تحلِّف خصمي؟ ثم قالا له: إنما أردنا أن نعلمك أن هناك علماً وفقهاً لعلم القضاء؛ لأنه ليس كل واحد تعلم يستطيع أنه يقضي، وليس كل إنسان تعلم يستطيع أن يعلم غيره، فهنا ثَقُلَ العلمُ، فالشاهد من هذا: أنه لابد أن يطلب الخصم تحليف خصمه؛ لأنه حق له.(415/4)
أمور لا يشرع فيها الاستحلاف
قال رحمه الله: [إلا النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء وأصل الرق والولاء والاستيلاد والنسب والقود والقذف].
قوله: (إلا النكاح) أي: أنه لا يحلِّف فيه، فلو قال: نكحتها، وقالت: إنه ليس بزوجي، أو قال: تزوجتك، وقالت: ما تزوجتك، فإنه لا تطالب المرأة باليمين؛ لأن الأصل عدم النكاح.
قوله: (والطلاق).
أي: لو قالت: طلقتني، وقال: ما طلقتك، وحلف على نفي الطلاق، أو ادعى أنه طلقها في أول السنة، فليس لها النفقة، فقالت: بل طلقتني في جمادى فلي نفقة الستة الأشهر، فحينئذ إثبات الطلاق ونفيه من حيث أصل وجود النكاح، وقالوا: إنه لا يحلف على تطليقه لها عند نفي التأخير، وإنما تطالب المرأة بالبينة على الأصل؛ لأنه إذا قال: طلقت في محرم، فإن له ذلك، والأصل أن الزوج مطلق؛ لأنه الذي يملك العصمة، فقالوا في هذه الحالة: لا يطالب باليمين على النفي والإنكار.
وعلى هذا: فإن أي أصل اعتضد بأصل آخر فإنه يكتفى به وتسقط اليمين، هذا على مذهب الحنابلة، ومن أهل العلم من قال بالعموم في الحقوق كلها، وأنه يطالب الخصم النافي بالبينة، وهذا يشهد له عموم النص.
وقوله: (والرجعة).
أي: لو أنه طلقها ثم ادعى أنه راجعها، فقالت: ما راجعتني، فقال: بل راجعتك وأنت زوجة لي الآن، فقالت: ما راجعتني، فنقول للزوج: هل عندك بينة على أنك راجعت المرأة قبل خروجها من عدتها؟ فإن قال: ما عندي شهود، فحينئذٍ لا نقول للمرأة: احلفي أنه ما راجعك، أي: احلفي على نفي الرجعة؛ لأنه من المعلوم أن نفي الرجعة نفي للنكاح، إذاً نفي الطلاق هذا يطالب فيه بالبينة؛ لأن الأصل معها، والأصل أنها أجنبية ما دام أنه فرط في الإشهاد على الرجعة؛ لأن الله أمره أن يشهد، قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق:2].
وقوله: (والإيلاء).
كذلك لو قالت: أَحْلِف أن لي أربعةَ أشهر ما مسني، وقال الزوج: أنا ما آليت، فالذي نفى الإيلاء -وهو الزوج- لا يطالب باليمين، وإنما نقول للمرأة: ائتي بالبينة أنه آلى منك وأنه حلف يمين الإيلاء، وقد تقدم معنا الإيلاء.
وقوله: (وأصل الرق) أي: إذا ادعى أن فلاناً رقيق له، فقال: بل أنا حر، فإننا نقول للذي ادعى الرق: هات بينتك على أن هذا رقيق أو مملوك لك، فإن قال: ليس عندي بينة، فحينئذٍ لا نقول: إن هذا الشخص رقيق؛ لأن الأصل أنه حر، والأصل أنه غير رقيق حتى يدل الدليل على رقه، ولا نطالبه باليمين على نفي الرق، هذا الذي انتزعه الحنابلة من معارضة الأصل.
وقوله: (والولاء).
لو قال: إن فلاناً مولى لي، فقال: لست بمولى لك، فإنه يأخذ نفس الحكم على الذي ذكرنا في الرقيق؛ لأن الأصل عدم هذه الأشياء.
وقوله: (والاستيلاد) أي: الاستيلاد من الأَمَةِ، كأن يقول: لي منها ولد، فقالت: ليس لك مني ولد، والعكس، فإنه لا يطالب النافي باليمين؛ لأن الأصل يشهد بصحة قوله؛ إذ أن الأصل عدم وجود الولد، وعدم وجود النسل منها حتى يثبت.
وقوله: (النسب) قالوا: النسب لا يحلَّف فيه، وهذا فيه خلاف بين العلماء رحمهم الله، ومن أهل العلم من قال بالتحليف، فإذا قيل له: أنتسب لفلان؟ فقال: لست منه، ولست بولده، فإنه لا يطالب بالدليل؛ لأن الأصل أن يطالب المدعي بالبينة، والذي نفى فهو بنسبه المدعَى صحيح أنه فلان بن فلان، والناس مؤتمنون على أنسابهم، فإذا جاء أحد يدعي أنه ليس ابن فلان، إنما هو ابن فلان، فهذا خلاف الأصل، فهو يذكر أمثلة على ما قال في الأصل، إذا خالف قول المدعي الأصل فإنه في هذه الحالة لا يحلّف، بناءً على ما يقرره الحنابلة رحمهم الله في المسألة التي تقدمت معنا: أن المدعي من إذا سكت لم يترك، والمدعى عليه من إذا سكت ترك.
وقوله: (والقود) كذلك أيضاً الأصل حرمة الدماء وعصمتها، فإنه لو قال: إن فلاناً هو الذي قطع يد فلان، فقال: ما قطعتها، أو قال: أنت الذي قطعت يد فلان، وأنت الذي قطعت رجله، وأنت الذي اعتديت على إصبع فلان عمداً عدواناً، فنقول له: ائت ببينة تثبت قولك، ولا يمين لك على خصمك؛ لأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
وقوله: (والقذف) قالوا: إن مثل هذا لا يثبت فيه اليمين، والقذف فيه إشكال؛ لأن القذف من الحقوق المشتركة، لكن ارتفع الإشكال في القذف لأنه الأصل، فلو قذف شخصٌ شخصاً فقال له: أنت زان، فقال: ما زنيت، فترافعا إلى القاضي، فإن القاضي يقول للذي يدعي الزنا: إما أن تثبت الزنا وإما أن يقام عليك حد القذف، إذا طلبه صاحبه، فإذا قذف فإنه في هذه الحالة لا يطالب الخصم بيمين الإنكار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البينة أو حدٌ في ظهرك)، وما وجه اليمين على المدعَى عليه.(415/5)
بيان صفة اليمين المشروعة
قال رحمه الله: [واليمين المشروعة اليمين بالله تعالى].
بعد أن بين محل اليمين شرع في بيان صفة اليمين، فقال: (اليمين المشروعة اليمين بالله عز وجل) وهو أن يقول: والله ما فعلت، والله ما بعت السيارة، والله ليس له دين عندي، ونحو ذلك على النفي والإثبات.(415/6)
حكم تغليظ اليمين وأنواعه
قال رحمه الله: [ولا تغلظ إلا فيما له خطر].
أي: ولا تغلظ اليمين، وتغليظ اليمين بالله مثل أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، فهذا من تغليظ اليمين.
وتغلظ بالمكان؛ كأن يحلف بين الركن والمقام، أو بين المقام والباب، كما اختار بعض العلماء، وتغلظ بالزمان: كأن تكون بعد صلاة العصر، كما في آية المائدة في الشهادة على الوصية في السفر.
والصحيح: أن التغليظ فيه مذهبان مشهوران للعلماء: فمنهم من قال بشرعية التغليظ، وأن الأمر مرجوع إلى القاضي، فيغلظ متى شاء.
ومنهم من قال: لا يغلظ إلا في الوارد، إذا ورد نفس التغليظ يغلظ وإلا فلا، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الظاهرية: أنه لا يغلظ إلا في الوارد، وأنه لا يضيق على الخصوم، بل نقول بالسنة التي وردت: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر)، فنحلفه اليمين وكفى باليمين تعظيماً، فإنه: (ما حلف أحدٌ يمين القضاء كاذباً فاجراً إلا لقي الله وهو عليه غضبان)، والعياذ بالله! فعلى هذا لا نقول بالتغليظ إلا بما ورد فيه النص.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(415/7)
شرح زاد المستقنع - كتاب الإقرار
كتاب الإقرار من كتب الفقه المهمة، خاصة لمن يمارسون القضاء، وتأتي أهمية هذا الباب من حيث اعتباره من أقوى حجج القضاء؛ لأنه شهادة على النفس، لكن هذه الشهادة لها شروط لابد أن يتصف بها المقر حتى يلزم بها، ولها قوادح تسقط بها إن وجدت.(416/1)
الإقرار تعريفه ومشروعيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [كتاب الإقرار]:(416/2)
تعريف الإقرار
الإقرار: مأخوذ من قَرَّ الشيء إذا ثبت، وفي الاصطلاح: الاعتراف بالحق، ويكون لفظاً وكتابة وإشارة مفهمة؛ فافترق الإقرار هنا عن الشهادة، والسبب في ذلك: أن الإشارة المفهمة شهادة من الإنسان على نفسه، ولكن الشهادة شهادة على الغير، ويسوغ في شهادة الإنسان على نفسه ما لا يسوغ في شهادته على غيره.(416/3)
مشروعية الإقرار
أجمع العلماء على اعتبار الإقرار لبثبوت السنة باعتبار الإقرار، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم إقرار ماعز والمرأة على نفسيهما بالزنا، وهذا يدل على حجية الإقرار وثبوته واستيفاء الشروط، والإجماع المنعقد على أنه حجة شرعية.
قال بعض العلماء: أقوى حجج القضاء الإقرار؛ لأنه ليس هناك إنسان عاقل تتوافر فيه شروط الإقرار لقبول إقراره ويشهد على نفسه بالضرر إلا إذا كان صادقاً، ومن هنا فهو أقوى الحجج، ومن هنا أخذ الله الإقرار على أنبيائه وعباده وخلقه، وهذا يدل على عظم حجية الإقرار.(416/4)
شروط من يصح منه الإقرار
قال رحمه الله: [يصح من مكلف] يصح الإقرار من كل مكلف بالغ عاقل، فلا يصح من مجنون، ولا سكران.
أما الدليل على سقوطه عن المجنون والسكران: فلأن كل منهما لا يعلم ما يقول، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]؛ فدل على أن السكران لا يعلم ما يقول، فلربما أقرّ بأشياء لا حقيقة لها، سواء كان سكره على وجه يعذر به شرعاً، كمن أعطي المخدر لعملية جراحية وقبل الإفاقة أقرّ بأشياء، فإنه لا يُقبل إقراره، وذلك للشبهة، ولا يوثق بقوله.
أو كان سكره تعمداً فإنه لا يؤاخذ بإقراره على الصحيح من أقوال العلماء.
ودليلنا على سقوط إقرار السكران: ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث بريدة بن حصيب رضي الله عنه وأرضاه: أن ماعز بن مالك نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فقال: (إني أصبت حداً فطهرني، فقال صلى الله عليه وسلم: أبه جنون؟ -يسأل جماعته وقرابته ممن كان قد أسلم- فقالوا: لا) ليس به جنون ونعرفه عاقلاً.
وهذا يدل على أن المجنون لا يقبل إقراره، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (أشربت خمراً؟ -لأنه قال: إني أصبت حداً فطهرني- فقام رجل فاستنكهه) يعني: شم رائحة فمه، فلم يجد رائحة خمر.
وهذا يدل على أنه لا يقبل الإقرار من سكران.
ومن الأدلة أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط مقالة الردة عنه كما في الصحيحين في قصة حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا يدل على أنه لا عبرة بإقرار المجنون والسكران.
أيضاً: لا يُقبل إقرار الصبي؛ لأنه لا يوثق بخبره، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة: -وذكر منهم- والصبي حتى يحتلم) فالصبي لا يوثق بقوله، فلا عقل عنده ولا حلم يمنعه ويردعه.
قال رحمه الله: [مختار].
أي: غير مكره، فالمكره لا يُقبل إقراره، وقد بينا أدلة سقوط مؤاخذة الإكراه في أكثر مسائل الأموال والحدود، فإذا أكره فإنه لا يؤاخذ على ما يقول؛ لأن الله أسقط أحكام الردة -وهي قول من أقوال المكره بالإكراه- فدل على أن قول المكره لا يُعتد به، ولذلك لا ينفذ طلاقه ولا عتقه ولا إقراره، وقد أسقط الله عز وجل قول المكره في الردة وهي أعظم شيء؛ لأن المكره قلبه مطمئن بالإيمان، وهذا له ضابط، أولاً: أن تستوفى شروط الإكراه وقد قدمناها في مباحث الإكراه على الطلاق.
ثانياً: أن يتقيد بما أُكره عليه، فإذا أُكره على أن يقر بسيارة، فأقر بسيارة ومزرعة، أُخذ بإقرار المزرعة، ولم يؤخذ بإقرار السيارة؛ لأنه يتقيد بحدود ما أُكره عليه، فما زاد فإنه يؤاخذ به في إقراره.
قال رحمه الله: [غير محجور عليه] فلا يصح إقرار السفيه بالمال؛ لأن أصل الحجر عليه هو منعه من التصرف في أمواله، وهذا نص قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، فأسقط تصرفاتهم المالية؛ فإذا جئنا نصحح إقرار السفيه بالمال فإنه حينئذٍ ربما يقول لفلان عليّ عشرة آلاف، ويضيع ماله؛ لأنه سفيه، ومن هنا حُجر على السفهاء في إقراراتهم المالية أو ما يئول إلى المال، أما لو كان إقراره بحد أو قطع فيصح إقراره؛ لأن المراد هنا إسقاط إقراره في الأموال وما يئول للمال، وهو الذي حجر عليه فيه، ولو قيده فقال: (غير محجور عليه فيما أقر به) لكان أدق؛ فإن هذا الذي عليه العمل عند العلماء، أما إقرار المحجور عليه في غير ما حجر عليه؛ فإنه عاقل ومكلف ومستوفٍ للشروط فيؤاخذ بإقراره، فلو أقر أنه قتل عمداً وعدواناً فإنه يقتص منه، وإقراره صحيح ما دام أنه مستوفٍ للشروط.
قال رحمه الله: [ولا يصح من مكره، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه لذلك صح].
ذكرنا أنه يتقيد الإكراه بما طلب منه، فالشخص يزن مثلاً الدراهم والدنانير ثم يصرفها ويبيعها، فأُكره على أن يزن فوزن ثم باع، فالبيع صحيح؛ لأن الذي أكره عليه هو الوزن لا البيع، فبيعه لم يصادف محلاً للإسقاط، والأصل إعماله، فيعمل العقد ويبقى على صحته.
إذاً: شرط صحة تأثير الإكراه في الإقرار أن لا يتجاوز المحل الذي أُكره عليه أو القدر الذي طلب منه أن يقر به.(416/5)
قوادح الإقرار
قال رحمه الله: [ومن أقر في مرضه بشيء فكإقراره في صحته إلا في إقراره بالمال لوارثه فلا يُقبل](416/6)
صورة قدح المرض في الإقرار
المرض نوعان: مرض مخوف، وغير مخوف.
فأما المرض غير المخوف فكالزكام، فلو قال شخص مزكوم: فلان له عليّ ألف، فإن إقراره صحيح.
وأما المرض المخوف، فقد تقدم تعريف ضابطه، فهذا المرض يؤثر في الإقرار إذا كان لوارث بمال، فحينئذٍ شرع المصنف رحمه الله في قوادح الإقرار في الصور الخاصة وهو: أن يكون في الأموال أو ما يئول إلى المال على الضابط الذي ذكرناه، أما لو أقر بغير ذلك كأنه يلزمه، في هذه الحالة إذا كان مريضاً مرضاً مخوفاً فعلى ضربين: الضرب الأول: أن يكون مرضه مؤثراً في عقله، كما هو الحال في الجلطات إذا أصيب بجلطة قبل موته، وكانت الجلطة مؤثرة على دماغه، فأثرت في تركيزه وحفظه، فأقر وقال: فلان له عليّ ألف، فإنه ربما كان سدد الألف فنسي بسبب الجلطة فإذا قال الأطباء: إن هذا النوع من المرض أو الأدوية التي يعطاها تؤثر في ذاكرته وضبطه فإقراره ساقط؛ لأن التهمة موجودة.
الضرب الثاني: إذا كان مرضه لا يؤثر في أهليته بالإقرار وضبطه، فننظر حينئذٍ إما أن يقر في مرض الموت لوارث، وإما أن يقر لغير وارث -وهو الأجنبي- فإذا أقر لغير وارث أن في ذمته مائة ألف حكمنا بصحة الإقرار واعتباره؛ لأن الإنسان ربما كان ظالماً آكلاً لأموال الناس جاحداً لها، أو متساهلاً في رد حقوق الناس حتى إذا مرض مرض الموت أدركته رقة الآخرة، فانكسر وتاب، فيمكَّن من أن يخلص نفسه ويرد الحقوق إلى أهلها والمظالم إلى أصحابها.
أما إذا كان قد أقر لوارث ففيه معارضة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية للوارث، وحينئذ تحصل الشبهة يقولون: هذه تهمة في الإقرار، ويُشترط في صحة الإقرار أن لا يكون متهماً، فهذا وجه إدخال المصنف رحمه الله لهذه المسألة في أول كتاب الإقرار في الشروط؛ لأن من شروط صحة الإقرار أن لا يكون متهماً، فإذا كان في مرض الموت وأقر لوارث اتهم، فإنه ربما أقر له محاباة له، أو لأنه ابن بار به.
يتخلص من شروط الوصية ويعطيه عن سبيل الإقرار، وهذا من باب التحفظ والصيانة، فحينئذٍ لا يقال ببطلان الإقرار؛ لأن الإقرار صحيح من حيث الأصل، لكن التهمة تمنع إعمال الإقرار إلا بإذن الورثة، فإذا رضي الورثة وأجازوه صحت الوصية، -وقد تقدم- وأما إذا قال الورثة: لا.
فحينئذٍ نقول: الإقرار موقوف على الورثة، ولا يحكم ببطلانه.
لكن هذا يسمونه الإقرار الموقوف ويحكم بصحته في الأصل ثم نقول لبقية الورثة: هل تجيزونه أو لا؟ فإن أجازوه صح ونفذ وإلا فلا.(416/7)
صورة قدح الزوجية في الإقرار
قال رحمه الله: [وإن أقر لامرأته بالصداق فلها مهر بالزوجية، لا بإقراره].
إذا أقر بأن للمرأة عنده صداق، فمعنى ذلك: أنه أقر أنها زوجة له؛ لأنه لا صداق إلا بنكاح، ولا نكاح يوجب الصداق إلا إذا كان نكاحاً صحيحاً شرعياً، وحينئذٍ تثبت الزوجية بإقراره، ويكون لها مهر المثل.
قال رحمه الله: [ولو أقر أنه كان أبانها في صحته لم يسقط إرثها] لو أن مريضاً مرض الموت ادعى أنه طلق امرأته طلاقاً بائناً في حال صحته، فحينئذٍ يتهم، وقد سبق بيان هذا في الطلاق، حتى إن بعض الصحابة يقول: من طلق زوجته في مرض الوفاة نورثها منه، حتى لو خرجت من عدتها، بل بعض السلف يورثها ولو تزوجت رجلاً آخر، قالوا: لأنه لما أخرها إلى مرض الوفاة وطلقها دل على أنه يريد حرمانها من الإرث، وهذا ما يسميه العلماء: المعاملة بنقيض القصد.(416/8)
صورة قدح الإرث في الإقرار
قال رحمه الله: [وإن أقر لوارث؛ فصار عند الموت أجنبياً لم يلزم إقراره؛ لأنه باطل] إن أقر لوارث فقال: فلان ابن عمي له عندي ألف ريال، ولم يكن حين أقر له عنده ولد، ثم شاء الله عز وجل بعد موته أن ولدت المرأة فأنجبت ذكراً، فابن العم عصبة يحجب بالابن؛ لأن مرتبة البنوة تحرم ابن العم، فعندما أقر له واعترف كان وارثاً وهذا يوجب بطلان الإقرار له إذا لم يجز الورثة -كما ذكرنا-، ثم كونه صار أجنبياً بعد ذلك لم يصادف محلاً، أي: أن بطلان الإقرار لا يعاد مرة ثانية، فيحكم بصحته بعد إلغائه؛ لأن الإبطال إلغاء، ولا يمكننا أن نعمل بعد الإلغاء، فإذا ألغي الإقرار وسقط لم يؤثر زوال المانع.
وفي الشريعة موانع إذا زالت رُجع إلى الأصل، مثلاً: الفاسق الذي لا تقبل شهادته، إذا صار عدلاً قُبلت شهادته، فالفسق مانع مؤقت، فما دام أنه موجود يمنع، لكن إذا زال رجع الحكم للأصل وقبلت الشهادة.
لكن هنا كونه أقر فسقط الإقرار في حال الابتداء لا يوجب أن نقول: الآن أصبح أجنبياً فنصحح الإقرار؛ لأن الإقرار بطل من أصله.
ومن أهل العلم طبعاً من فصل في هذه المسألة بتفصيل أدق؛ لأنه في حال الإقرار إذا أقر وقلنا: إن الإقرار موقوف على إجازة الورثة.
فهذا معناه أنه صحيح، وإذا كان صحيحاً في الأصل فإنه إذا زال الموجب للمنع رجع إلى الأصل من القبول بالإقرار.
قال رحمه الله: [وإن أقر لغير وارث أو أعطاه صح، وإن صار عند الموت وارثاً] وإن أقر لغير وارث صح الإقرار، وحينئذٍ إذا صح الإقرار ثبت الحق لصاحبه، مثلاً: أقر لابن العم وعنده ابن ذكر، فابن العم لا يرث مع وجود الفرع الذكر الوارث، ثم شاء الله عند الإرث أن توفي الابن قبل وفاة الأب؛ فرجع ابن العم وارثاً، وهو في الأصل غير وارث، قالوا: لأنه بمجرد إنشاء الإقرار ثبت الحق لصاحبه واعتد به، وزوال المانع بعد ثبوت الإقرار لا يؤثر.
وهذا صحيح.
قال رحمه الله: [وإن أقرت امرأة على نفسها بنكاح ولم يدعه اثنان قُبل].
أي: إن أقرت امرأة على نفسها بأنها زوجة لفلان، (ولم يدعه اثنان) أي: لم توجد خصومة أو منازع قبل إقرارها.(416/9)
صور لما يثبت بالإقرار
قال رحمه الله: [وإن أقر وليها المجبر بالنكاح، أو الذي أذنت له صح].
وهو الولي الذي ينزل منزلتها، إما بالولاية كالأب الذي له حق ولاية الإجبار على ابنته البكر، فأجبرها وقال: أقر أن فلاناً هو زوج ابنتي، وأن فلانة ابنتي زوجة لفلان، فإنه يؤاخذ بهذا الإقرار ويعتد به، وهكذا من كان قائماً مقامها.
قال رحمه الله: [وإن أقر بنسب صغير أو مجنون مجهول النسب أنه ابنه ثبت نسبه] فيؤاخذ به ويرث منه إذا كان حياً، ويرثه إذا كان ميتاً؛ لأن هذا المحل قابل للإقرار بلا تهمة، فإن قال: فلان ابني وليس هناك من يدعيه، وهو صغير جاهل لا يعرف نسبه فنعم، أما إذا كان كبيراً فإنه لا يثبت إذا نفى ولم يصدق، لأن هذا من حقه.
فإذا أقر بنسب ابن صغير أو مجنون أو نحو ذلك، وليس هناك أحد ينازعه في هذا الإقرار قُبل منه هذا الإقرار، وإذا قُبل ثبت به ما يثبت بالنسب من الإرث والمحرمية وغير ذلك من الأحكام المترتبة على هذا الإقرار.
قال رحمه الله: [فإن كان ميتاً ورثه] إن كان هذا الصغير ميتاً ورثه الأب الذي ادعى نسبه، لأنه في هذه الحالة له حق الإرث، وهذا الآن قليل، خاصة مع وجود الوسائل من توثيق الولادة وغيره، ولكن إن حصل في لقيط أو نحو ذلك، فقال: هذا اللقيط ابني، ثبت إقراره، وينسب إليه، ويعامل معاملة الولد له إذا كان هذا اللقيط صغيراً أو مجنوناً، أما إذا كان كبيراً فالحكم واضح في مثل هذا.
قال رحمه الله: [وإذا ادعى على شخص بشيء فصدقه صح].
إذا ادعى شخص عليه بمال، فقال: لي عليك ألف ريال، فقال: نعم، فحينئذ يؤاخذ بإقراره؛ لأن السؤال معاد في الجواب، أي: نعم لك علي ألف، ولو قال: أنا قصدت نعم لشيء آخر، نقول: لا يُقبل؛ لأن نعم جاءت مركبة على السؤال، والسؤال هذا لو سأله القاضي: له عليك ألف، فقال: نعم؛ فإنه يؤاخذ ويعتبر إقراراً.
إذا ادعى عليه بأي شيء -من حيث الأصل- فقال: نعم، هذا حصل ووقع أو قال: نعم أنا ضربته أنا شتمته أنا كسرت بابه أنا كسرت سيارته.
فحينئذٍ يؤاخذ بإقراره متى كان مستوفياً للشروط، فإذا ادعى عليه بلا شيء، فلا شيء له.
قيل: خاصم رجل رجلاً عند قاضي، فقال: ما خصومتكما؟ قال: سله.
فقال: هل له عليك شيء؟ قال: لا.
ما له عندي شيء، قال: هذا (اللا شيء) أنا أريده منه، يعني الخصم يقول: ما دام أنه ما عنده شيء أنا أريد هذا الذي يدعي عليه، ومثل هؤلاء ممن بلغ عقله إلى هذا المستوى كيف تجيبه؟ تقول له: ما لك شيء، يقول: أريد هذا اللا شيء، قال: أنت ذو عقل، فأجبني إذا سألتك، أترى في يدي شيئاً؟ ثم فتحها، قال: ليس فيها شيء، قال: إذاً خذ من هذا ألا شيء، وقد وهبته لك في حق صاحبك، إذاً: لابد وأن يكون المدعى شيئاً، وهذا الشيء قد يكون في الحقوق المالية، وقد يكون في الحقوق الشخصية، فإذا ادعى عليه شيئاً فإنه يؤاخذ بإقراره.(416/10)
ما يسقط به الإقرار
قال رحمه الله: [فصل: إذا وصل بإقراره ما يسقطه، مثل أن يقول له: عليّ ألف لا تلزمني، ونحوه؛ لزمه الألف] هذه مسألة الوصل، وهي تابعة لشروط الإقرار، وهي عدم رجوع المقر عن إقراره، وعدم إبطاله من حيث الأصل؛ لأن الرجوع يؤثر في مسائل معينة، ولا يؤثر في الحقوق المالية وحقوق الآدميين، لكنه لو رجع عن حق من حقوق الله عز وجل فإنه يؤثر، والأصل في ذلك قصة ماعز، وقد تقدمت معنا في باب الزنا.
فلو وصل بإقراره ما يبطله، فحينئذٍ يكون هذا الإبطال نوعاً من الرجوع، كأنه أقر بشيء ثم رجع عنه، فهذه المسألة يبحثها العلماء هنا، وهي في الحقيقة تابعة لمسائل الرجوع، فقال رحمه الله: [إذا وصل بإقراره ما يسقطه، مثل أن يقول: له عليّ ألف لا تلزمني ونحوه] فقوله: (له عليّ ألف) هذا يثبت به الحق، وقوله: (لا تلزمني) يسقط به الحق؛ فوصل بإقراره ما يسقطه.
وهذا نوع من الرجوع ونوع من الإبطال لا يعتد به ولا يُقبل، فنقول له: لما قلت: (لك عليّ ألف) ثبتت الألف لصاحبها، وقولك: (لا تلزمني) رجوع عن حق مالي، والرجوع في الإقرار عن الحقوق المالية وحقوق الآدميين لا يؤثر؛ لأنه قد ثبت بإقراره واعترافه في الحق، وحينئذٍ لا نعدل عن هذا إلا بيقين أو غالب ظن مثله، فإذا قال: ليس له عليّ شيء؛ فإنه يتهم بأنه يريد أن يسقط عن نفسه التبعات، فلا يُقبل منه قوله: لا تلزمني، فتثبت الألف.
قال رحمه الله: [وإن قال: كان له عليّ وقضيته.
فقوله بيمينه] هذا يسميه العلماء قبول الإقرار كلاً دون قبوله للتجزئة، وهذا مذهب بعض العلماء.
فإذا قال: له عليّ ألف وقضيته، قالوا: في هذه الحالة قد جمع في إقراره بين أصلين لا يمكن إسقاطهما؛ لأنهما جاءا في إقرار واحد، فلا يمكن أن نقول: نقبل إقراره ولا نقبل قضاؤه، ومن هنا قالوا: مع يمينه؛ لأنها يمين تهمة، ويقبل منه ذلك.
قال رحمه الله: [ما لم تكن بينة] ما لم تكن بينة تثبت أنه قد دينه أو أعطاه، بمعنى: أن عندنا أصلين: إقراره بالألف وقضاؤه لها، فأنت إذا فصلت في هذه القضية جاءك المقر وأقر بهما معاً، حينئذ تقول: إما أن أقبل الإقرار كلاً وإما أن نسقطه كلاً، فتقول: القول قوله بيمينه، فقبلت إقراره وأعطيته اليمين حتى يتخلص من الحق، وإما أن نقول: أن يثبت المدعي الأصل الأول، فيقول: له عليّ ألف، وقامت البينة على الألف، فحينئذ لا يقبل قوله: وقضيته، فتقبل جزء الإقرار بإثبات الألف أو يقيم بينة على السداد.
قال رحمه الله: [أو يعترف بسبب الحق] كأن يقول: من بيع من هبة ونحو ذلك فيسنده إلى السبب.
قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ مائة، ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه، ثم قال: زيوفاً أو مؤجلة؛ لزمه مائة جيدة حالة].
هناك شيء يسمونه الإطلاق وشيء يسمونه التقييد، فالمطلق في عرف يتقيد بهذا العرف، فإذا قال: له عليّ مائة، فالعرف عندنا أنها الريال السعودي، فنقول له: ادفع مائة ريال، فلو أنه قال: له علي مائة.
وسكت، ثم ذكر عملة منحطة قيمتها لا تساوي الريال فإننا نلزمه بالأغلى؛ لأنه المنصرف عرفاً وهو الأصل، فكونه سكت سكوتاً يمكنه أن يصف ولم يصف ثبت به الأول، وكان بإمكانه أن يستدرك، لكنه لم يستدرك لنفسه، ويثبت كون المائة جيدة صحيحة غير مزيفة، وكون العملة أعلى، ولو كان هناك عملة في البلد وعلمت أن غيرها أعلى، فالمعروف أنه عند الإطلاق تنصرف إلى الجيدة الصحاح فلا يقبل قوله: مكسرة؛ لأن قوله مكسرة يقع هروباً مما أقر به، فكما أن قوله: لا تلزمني، يسقط كل المقر به، فهنا يسقط جزء المقر به، لكنه إسقاط بنوع من التلاعب والتحايل، ولو فتح هذا الباب سقطت حقوق الناس.
ومن أهل العلم من قال: إنه يقبل منه، حتى ولو مضى وقت، إذا سأل وبين.
وهذا مبني ومقيس على مسألة استثناء البعض من الكل.
قال رحمه الله: [وإن أقر بدين مؤجل فأنكر المقر له الأجل؛ فقول المقر مع يمينه] مثاله: أقر محمد لعبد الله بألف، قال: ولكنها دين مؤجل، فقال المقر له: لا.
بل إني أعطيته الألف وديعة آخذها منه حينما أريد، فحينئذٍ يلزمه الدفع فوراً؛ لأن الأصل في الحقوق أنها تدفع فوراً، وبناء على ذلك نقول: إقراره بالألف أو بالحق يوجب عليه دفعه لصاحبه، ما لم يثبت ما خالف الأصل وهو التأجيل.
وهذا راجع إلى الأصل وما خالف الأصل، فالمطلق يقيد به، فعندنا الذهب المغشوش والذهب الخالص، والصحاح والمزيفة والمكسرة، والصحاح والمكسرة والزيوف والخالصة والعملة الغالية، كلها تنصرف إلى المعروف عرفاً حتى يثبت خلافها؛ لأنها الأصل.
قال رحمه الله: [وإن أقر أنه وهب أو رهن وأقبض، أو أقر بقبض ثمن أو غيره، ثم أنكر القبض ولم يجحد الإقرار، وسأل إحلاف خصمه؛ فله ذلك] هذه المسألة قد تشكل على البعض وصورتها: أن كون شخصاً يقول: وهبت فلاناً وأقبضته، فحينما يعترف أنه وهب فلاناً وأقبضه معناه أنه يعترف أنه ملّكه؛ لأن الهبة تملك بالقبض -وقد بينا هذا في باب الهبة- إذاً ما الذي يجعل المقر له ينكر أنه قبض؟ ما الذي يجعل المقر يعدل عن الإقباض؟ هذا يتأتى في مسائل الخصومات إذا حصل ضرر من الشيء الموهوب، فمثلاً: أعطاه عمارة هبة ثم سقطت العمارة على أربعة أشخاص وقتلتهم، فالدية لأربعة أشخاص أعظم من قيمة العمارة، فحينئذ إذا أثبت أنه وهبه وأقبضه.
فهذا من مصلحة المقر، والمقر له من مصلحته أن يقول: وهب ولكن ما أقبضني، وحينئذ يرد الإشكال: هل قبض أو لم يقبض؟ وانتقال اليد موقوف على القبض؛ لأن الهبة بالإجماع تثبت بالقبض لقصة أبي بكر رضي الله عنه مع ابنته عائشة: (إني كنت قد نحلتك ثلاثمائة وسقاً جاداً من نخل نخلي بالغابة، فلو أنك احتجتيه وقبضتيه لكان ملكاً لك، أما إنك لم تفعلي ذلك فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء) وهذا يدل على اشتراط القبول في الهبة، فحينئذ إذا ادعى أنه أقبضه، وقال الموهوب له: ما أقبضه، فإنه أول شيء يقر أنه وهبه، ثم يقر أنه أقبضه، فالمقر له يتهرب من قضية الإقباض، فإذا قال: ما أقبضني، يقول: أنا أسأل القاضي أن يحلفه أني ما أقبضته؛ كان له ذلك المراد، ولذلك بعض الشراح يقول: كيف يقر الخصم أنه أعطاه ثم نقول له: يحلف؟! ولا يتأتى إلا في مسائل فيها الخصومة والنزاع التي يخشى الإنسان فيها من بقاء الملكية واليد، خاصة إذا حدث الضرر من العين ونحو ذلك.
قال رحمه الله: [وإن باع شيئاً أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر].
كإقراره في الرقيق والعبيد، كأن يجني عبداً جناية، فمن المصلحة أن لا يكون العبد في ملكه، وحينئذ يرد النزاع في الإقباض وعدمه؛ لأن الملكية تنتقل بالقبض.
قال رحمه الله: [وإن باع شيئاً أو وهبه أو أعتقه، ثم أقر أن ذلك كان لغيره لم يقبل قوله، ولم ينفسخ البيع ولا غيره ولزمته غرامته] الصورة الأولى: إذا قال له: بعتك هذا الكتاب، فأخذ الكتاب بعشرة، ثم بعد البيع ادعى البائع أن الكتاب ليس له، فحينئذ عقد البيع ثابت على وجه لا إشكال فيه، وهو عقد شرعي أمرنا الله بالوفاء به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فإذا جاء البائع يدعي أنه ملك لغيره، ففي هذه الحالة الأصل أن هذا الكتاب انتقل إلى المشتري، فإقراره بعد البيع لم يصادف شيئاً يملكه، فقد تم عقد شرعي وهو البيع ثم جاء إقرار لم يصادف محلاً، فهو يقر بشيء لم يعد له عليه يد؛ لأن البيع قد تم وانتهى، فمن هنا سقط إقراره بعد ثبوت البيع، لكنه بهذا الإقرار قد أقر أنه تصرف في مال الغير، فاشتمل إقراره على أمرين: الأول: أنه أراد أن يسقط البيع، والقاعدة الشرعية تقول: الإعمال أولى من الإهمال، الأصل إعمال العقود لا إهمالها ولا إلغاؤها؛ فنبقي البيع سارياً في إعماله، فتثبت به الملكية، ثم جاء إقراره بهذا المال للغير أشبه بالشهادة، فهو ليس إقراراً يوجب ثبوته؛ لأنه لم يملكه، وشرط صحة الإقرار: أن يقر بشيء يملكه وبشيء له حق أن يقر فيه.
لكن الجانب الثاني: وهو كونه يقول: هذا الكتاب لزيد وليس لعمرو الذي اشترى مني، فحينئذ قد أثبت بنفسه جناية على مال زيد، يعني أنه باع مال زيد، وحينئذ نقول له: تغرم لزيد المال، ويصحح البيع إعمالاً له على الظاهر.
الصورة الثانية: يقول: أنا لم أكن مالكاً له، فإذا قال: لم أكن مالكاً له؛ فحينئذ جاء بشرط يؤثر في البيع، ويورد الشبهة في العقد، أما أن يقول: هذا الكتاب ليس لعمرو الذي اشتراه وإنما هو لزيد فهذا إقرار لم يصادف محلاً.
هذا هو وجه التفريق بين الإقرارين، حينما ينفي أنه ملكه فحينئذ لا إشكال؛ لأن من شرط صحة العقد أن يكون مالكاً له، وحينما يقول: هو لفلان وليس لفلان فقد جاء إقراره غير مصادف للمحل المعتبر، فيسقط في الثاني ويعتد به في الأول.
قال رحمه الله: [وإن قال: لم يكن ملكي ثم ملكته بعد، وأقام بينة قبلت] إذا قال: لم يكن ملكي وبعته وأنا لا أملكه؛ لأن الإنسان قد يسهو ويأخذ كتاب صاحبه يظنه كتابه فيبيعه، ثم لما باعه قال: هذا الكتاب ليس ملكاً لي، بل ملكاً لغيري، وأقام بينة على أن فلاناً جاء بكتابه ووضعه عنده وكلا الكتابين يشبه أحدهما الآخر فأخطأ وباع، فحينئذ يقبل قوله ويحكم بانفساخ البيع؛ لأنه باع ما لا يملكه، ومن شرط صحة البيع أن يكون لما يملكه.
قال رحمه الله: [إلا أن يكون قد أقر أنه ملكه أو أنه قبض ثمن ملكه لم يقبل] هذا يسمونه التناقض: أن يكون عنده إقرار سابق ثم يأتي بإقرار لاحق، يقصد به إلغاء الإقرار السابق وإبقاء الإقرار اللاحق، يقول: يا فلان! بكم هذا الكتاب؟ قال: بعشرة، قال: هو ملك لك؟ قال: نعم، هو ملك لي، وأقر بملكيته، ثم جاء وقال: ليس بملك لي، فحينئذ يريد إبطال البيع، فلا نقبل منه إقراره بأنه غير مالك.
إذاً شرط قبول إقراره بأنه غير مالك: أن لا تكون هناك تهمة في مناقضته لإقرار سابق، أما لو ثبت أنه أقر سابقاً فإنه يسقط الثاني ويبقى الحكم الأول.(416/11)
الإقرار المجمل
قال رحمه الله: [فصل: إذا قال: له عليّ شيء، أو كذا، قيل له: فسره] هذا يسمونه الإقرار بالمجمل، والمجمل هو الذي يتردد بين معنيين فأكثر لا مزية لأحدها على الآخر، أو بين معنيين فأكثر بالسوية.
والمجملات تحتاج إلى بيان وتفسير، ولذلك من شرط قبول الإقرار: أن يكون بيناً، وبعض العلماء يقول بعدم قبول الإقرار المجمل نهائياً، ومنهم من يقول: نقبل الإقرار المجمل ولكن نطلب تفسيره ممن أقر به.
وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله، وهو مذهب طائفة من أهل العلم.
فقوله: له عليّ شيء (شيء) هذه نكرة يحتمل أنه غالي ويحتمل أنه رخيص يحتمل أنه من العقارات ويحتمل أنه من المنقولات يحتمل أنه حق من الحقوق العامة مثل الشفعة يحتمل أنه حق في القذف أو عرض أو نحو ذلك، فيطالب ببيان وتفسير ما أجمل، فإذا أراد أن يفسر ينبغي أن يفسر بشيء له قيمة يصدق على أنه شيء، ولو قال: علي مال، ينبغي أن يكون الشيء الذي يقر به مالاً محترماً شرعاً، وعلى هذا لو قال: له عليّ مال، ثم قيل له: ما هذا المال؟ قال: ميتة، أو خمر، أو خنزير، نقول: هذا التفسير ساقط، ونلزمه بدفع أقل ما يصدق عليه أنه مال، وإذا لم يبين ولم يفسر الأصل يقتضي أنه يحبس حتى يبين ويفسر ما أجمله؛ لأن فيه حقاً للغير، وهو الخصم الذي أقر له.
قال رحمه الله: [فإن أبى حبس حتى يفسره] هذا مذهب من يرى الحبس في الحقوق المبهمة والمجملة، والحبس ينبغي أن لا يكون إلا بدليل واضح بين.
قال رحمه الله: [فإن فسره بحق شفعة، أو بأقل مال قبل] (فإن فسره بحق شفعة) قال: له عليّ حق أن أشفع له في عقار بينه وبين أقاربي، وفعلاً كان بينه وبينهم عقار فيقبل منه؛ لأنه يصدق عليه بأنه شيء، وله حق أيضاً.
(أو بأقل مال) قال: له عليّ مال، ثم قيل: كم المال؟ قال: ريال ونصف، الريال والنصف يصدق عليه أنه مال، فنقبل منه، لكن لو قال: له عليّ شيء، قال: فسر، قال: حبة شعير، هذه لا يمكن أن تقبل ولا يصدق عليها أنها مال عرفاً.
قال رحمه الله: [وإن فسره بميتة أو خمر أو كقشر جوزة لم يقبل] هذا مفهوم العبارة السابقة، قال: له عليّ مال، قال: ما هو المال؟ قال: ثعلب محنط -مثلما يحنطون الآن- هذا ليس بمال؛ لأنه لا يجوز بيع الثعالب المحنطة، نقول: هذا ميتة وليس بمال، إنما يقبل أن يكون مالاً محترماً شرعاً، وهكذا لو فسره بالخمر وبالخنزير كله لا يقبل؛ لأنه لما قال: له عليّ مال، ثم ذكر شيئاً لا قيمة له في الشرع ولا يعتد به شرعاً فكأنه تهرب من الإقرار، كما ذكرنا عند قوله: (له عليّ ألف لا تلزمني) وهو التهرب الصريح والتهرب الضمني.
قال رحمه الله: [ويقبل بكلب مباح نفعه، أو حد قذف] (ويقبل بكلب مباح نفعه) وهو كلب الحراسة وكلب الصيد المعلم، فإذا فسره فقال: له عليّ كلب معلم قُبل تفسيره.
والنفع المباح هو الصيد والماشية، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استثناء الكلب للصيد وحراسة الغنم والدواب والبهائم، هذه ثلاثة أنواع من الكلاب: (من اتخذ كلباً إلا كلب صيد أو حرث أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان)، وهذا يدل على أنه له قيمة شرعاً ومنفعته مباحة.
ومذهب بعض العلماء أنه إذا أتلف كلب الصيد المعلم الذي خسر على تعليمه فعليه ضمانه، وهو مذهب ضعيف، لكن له وجه مما ذكرناه.
قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ ألف، رجع في تفسير جنسه إليه] (وإن قال: له عليّ ألف) هذه الألف ما ندري دولارات أو ريالات أو دنانير أو دراهم.
نقول له: فسر، هل هي ألف دولار أو دينار، فإذا فسره بالدولار قبل، وإذا فسره بالريال قبل؛ لأنه يحتمل، ولو فسر المحتمل بأي تفسير قبل منه؛ إذا كان اللفظ يحتمله.
قال رحمه الله: [فإن فسره بجنس واحد أو بأجناس قبل منه] قال: هذه الألف دولارات؛ فأخذ بالقيمة الغالية قبل منه، هذه الألف ريالات؛ فأخذ بالقيمة الدنيا قبل؛ له ألف؛ خمسمائة دولارات وخمسمائة ريالات -مشترك- قبل، قال بأي شيء؛ سواء أجناس أو جنس واحد.
قال رحمه الله: [وإذا قال: له عليّ ما بين درهم وعشرة؛ لزمه ثمانية] لأن التسعة تسقط بالبينية، ويوافق في هذا بعض فقهاء المالكية الحنابلة رحمهم الله، فما بين درهم وعشرة يلزمه أن يدفع ثمانية؛ لأن هذا يقتضي البينية.
ومن أهل العلم من قال: يلزمه تسعة، لوجود المقاربة، فيدفع تسعة دراهم، والقول الأول يختاره المصنف رحمه الله لوجود البينية، لكن ما الذي يبين له البينية من ناحية ما بين التسعة وما بين الدرهم وبين العشرة؛ لأن التسعة مقاربة للعشرة وما قارب الشيء أخذ حكمه.
قال رحمه الله: [وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة، أو من درهم إلى عشرة؛ لزمه تسعة].
هذا للمقاربة لا إلى الغاية، وحينئذ تكون الغاية إلى العشرة وما دونها غير منفية، فتكون تسعة، وما بين درهم وعشرة نفس الحكم، قالوا: لأن هذا يقتضي البينية وقد بيناها في اللفظ وفي المعنى.
قال رحمه الله: [وإن قال: له علي درهم أو دينار؛ لزمه أحدهما].
الدينار أغلى من الدرهم، مثل: له عليّ دولار وريال والدولار أغلى من الريال، نقول له: فسر.
وهذا مراد المصنف: أنه إذا تردد بين الغالي والرخيص طلب منه أن يبين؛ لأن هذا محتمل.
قال رحمه الله: [وإن قال: له عليّ تمر في جراب، أو سكين في قراب، أو فص في خاتم ونحوه؛ فهو مقر بالأول].
(له عليّ تمر في جراب) قالوا: مقر بالتمر وغير مقر بالجراب؛ لأنه قال: تمر في جراب، وما قال: تمر وجراب، وبعض الأحيان الشخص يقول: له عليّ كيس في الثلاجة، فليس معنى ذلك أن نأتي نأخذ الكيس والثلاجة؛ لأن بعضهم يقر بهذا ويقصد أن الذي عليه موضوع في جراب أو في ثلاجة، هذا وجهه، وحينئذ المقر به الأول، وليس المحل تبعاً لما أقر به، والتمر في الجراب.
(أو سكين في قراب) كذلك هو في هذه الحالة لا يقصد؛ لأن كثيراً من الناس يعبر بهذا التعبير ولا يقصد مجموع الأمرين؛ لأنه لو قصد هذا لعبر بالمشاركة، أو قال مثلاً: له عليّ جراب فيه تمر، فهذا واضح بأنه يقصد الجراب مع التمر، لكن إذا قال: تمر في جراب، أو سكين في قراب أو سيف في غمده ونحو ذلك فإنه يقصد به الأول دون الثاني، وهكذا لو قال: فص في خاتم.
فهو مقر (بالأول) بالتمر وبالسكين وبالفص، ولا يلزمه الجراب ولا القراب ولا الخاتم؛ لأنه لم يقر بالثاني.
قال رحمه الله تعالى: [والله سبحانه وتعالى أعلم].
والله أعلم وأحكم سبحانه، سبحان من علم آدم وعلم الأنبياء والعلماء.
ونسأل الله بعزته وجلاله أن يجعله علماً نافعاً وعملاً صالحاً، ونسأله بعزته وجلاله أن يجعله شافعاً نافعاً يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.(416/12)
خاتمة شرح زاد المستقنع - وصايا لطلاب العلم
كل من وفقه الله وأكرمه بطلب العلم فقد تحمل مسئولية عظمى، ألا وهي حفظ هذا العلم عن كل ما يشوبه من سمعة ورياء وعجب، وعليه أن يشكر نعمة الله عليه، وأن يضبط علمه بالمتون، ويمتثل أخلاق طالب العلم المخلص لله عز وجل في طلبه وتبليغه، ويعمر وقته بهذا العلم الجليل وبذكر الله تعالى، وأن يعلم أن دعاء الله والاستعانة به خير معين على ما هو مقدم عليه من أيامه.(417/1)
وصايا لطلاب العلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه أمور مهمة أحب أن أوصي بها طلبة العلم.(417/2)
الشعور بالمسئولية أمام العلم
أحب أن أوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، وهذه الوصية كثير قائلها قليل من يعمل بها، وهي التي جمعت خير الدين والدنيا والآخرة، ومن وصى غيره بتقوى الله فقد جمع له الإسلام كله، فأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل.
ثم هناك أمر ينبغي التنبيه عليه بالنسبة لطلاب العلم الذين حضروا هذه الدروس وأتموا قراءة هذا الكتاب: كل طالب علم وفقه الله عز وجل لقراءة كتاب كامل على شيخه فينبغي عليه أن ينتبه للضوابط الشرعية التي يلزم بالتقيد بها، وكل من ابتلي بهذا العلم فعليه أن يدرك حقيقة لا شك فيها ولا مرية: أن هذا العلم سلاح ذو حدين، فوالله الذي لا إله غيره ولا رب سواه أن هذا العلم إما أن يرفع صاحبه إلى خير وبر ورحمة في الدين والدنيا والآخرة لم تخطر له على بال، وإما أن يمحق له بركة دينه ودنياه وآخرته، فيصبح من أشقى العباد -نسأل الله السلامة والعافية- فليس بين العلم تردد، فإما إلى العلا وإما إلى الحضيض، ومن تعلم العلم لغير الله مكر الله به، ومن تعلم العلم ولم يعرف ماذا يراد بهذا العلم، وماذا يراد منه؛ فقد ذبح بغير السكين، وسيورد نفسه الموارد، فكل طالب علم عليه أن يستشعر المسئولية تجاه ما تعلمه.
ومن حيث الأصل نحن ملزمون بقراءة هذا المتن، وبشرح الكلمة ومعرفة معناها، وذكر المثال والحكم المستنبط منه، ثم ذكر الأمثلة والدليل على الحكم، هذا هو الأصل الذي ينبغي في قراءة الجملة الفقهية، أما الخلافات والردود والمناقشات، فهذه ليس ملزماً بها طالب العلم، ولسنا ملزمين بالخوض فيها، ولكن لوجود الحاجة وكثرة الاعتراضات والأقوال المخالفة مما قد يشكل على طلاب العلم احتجنا إلى هذا البيان، ولوجود نوعية من طلاب العلم تريد التوسع، إذاً الأصل أنك ملزم بالرجوع لهذا الكتاب.(417/3)
تلخيص ما فهم من كل كتاب
وأوصي طلاب العلم الذين قرءوا هذا الكتاب أن يرجعوا إلى أوله، ويكتبوا معنى كل عبارة وحكمها ودليلها، وذكر أمثلة قديمة أو حديثة حتى تلم به، وهذا ما يسمى: اختصار الشرح، وأما الخلافات والردود والمناقشات والتوسعات فتترك جانباً؛ لأن طالب العلم لا ينبغي له أن يتناول هذه الخلافات إلا بعد التأهل وضبط العلم، وبعد وجود الحاجة، فتبدأ -رحمك الله- بمراجعته بهذه الطريقة، فالذين أتموا حضور الكتاب أوصيهم إذا تيسر للإنسان أن يراجع في خاصة نفسه؛ فهذا من أقوى وأفضل ما يكون لطالب العلم، أن يعتمد على الله ثم على نفسه بعيداً عن الرياء والانشغال بالناس، ويكيف نفسه ووقته قدر ما يستطيع.
ففي هذه الحالة إذا كنت تريد أن تضبط بالمراجعة فهناك محاذير منها: كثرة السآمة والملل، وتسلط عدو الله إبليس الرجيم بالوسوسة والتثبيط عن هذا العلم؛ فوالله إنك في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، والله إن هذه الجنة قد حفت بالمكاره التي لم تخطر لك على بال، وليأتينك عدو الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك في كل صغير وكبير ما لم يتداركك الله برحمته، فتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى إن استطعت أن تختار أفضل الأوقات لهذا العلم؛ لأنه أشرف شيء، وتستشعر عندما تقوم بك الهمة أنك مسئول أمام الله سبحانه وتعالى، فكل من حضر شرحاً أو بين له حكم؛ فإن العالم أو من شرح أو من علم قد أعذر إلى الله، ونقل الأمانة منه إلى غيره، وحينئذ لما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أشهد الله عليهم، فكل من حضر وسمع المسألة بدليلها فقد برئت ذمة العالم وأعذر إلى ربه، والأمل في الله ثم فيكم، وكل طالب علم إذا استشعر أنه مسئول أمام هذه الأحكام شحذت همته، وقويت عزيمته، وأصبح يشعر أن كل مسألة أمانة في رقبته أمام أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما أن يخيب ظن مشايخه وعلمائه ومن تعب وجد في تعليمه فلا، نسأل الله أن لا يخيب ظننا ولا ظنهم.
ففي هذه الحالة إذا استشعر أنه مسئول أمام الله عز وجل راجع العلم، وستجد نوعاً من السآمة والملل والتثبيط، ولكن والله ما إن تصبر إلا ويفتح الله عليك من واسع رحماته، وكلما عظمت المشاغل والضيق والسآمة والملل كلما عظم فتح الله عليك، فيا هذا! انتبه لنفسك واحرص على وقتك، إذا كنت تريد أن تراجع لوحدك فالأمر يحتاج إلى عزم، ومن أفضل الأشياء التي تعين على الصبر على العلم وقوة النفس على العلم: قيام الليل، فتستعين بالله عز وجل عند قيام الليل أن يعينك على مراجعة هذا العلم، وعلى ضبطه وإتقانه في الدعاء والصلاة.(417/4)
شكر الله على نعمة العلم
ومما يحتاجه طالب العلم: استشعار عظيم ما يدخره الله فيكمل الفضل إن أنت أتقنت تذكر أن الله سبحانه وتعالى اختارك واصطفاك، وقد كنا والله في طلب العلم لا نزال نحس بنعمة الله عز وجل علينا في قلوبنا، ونقول: سبحان الله! كيف أن الله اختارني أجلس بين يدي الوالد رحمة الله عليه وبين يدي كل من يبث لي درراً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: يا رب! لك الحمد أن اخترتني، وما مرت علي حلقة عالم ولا سمعت عالماً يذكر حديثاً أو حكما ًمن كتاب الله أو سنة إلا قلت: الحمد لله أن شرفني الله أن أنقل هذا العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)، فإذا وفقك الله ويسر لك هذه الرحمة فاستشعر عظيم نعمة الله عز وجل عليك.
ومن استشعار المسئولية: ترتيب الوقت وتنظيمه، ومن العلم الذي سيعان صاحبه أن يكون في كل لحظة مستشعراً أنه مسئول عن هذا العلم، والله إن من طلاب العلم من كان ينشغل بحقوق أهله وإخوانه والناس وهو يفكر في مسائل علم وينقل ويفعل… حتى المصالح الدنيوية تكون عنده وهو يذاكر مسائل العلم في عقله؛ هذه هي الهمة العالية في الطلب، فكن ذلك رحمك الله، وهذا كله بتوفيق الله.(417/5)
اختيار طالب علم لمراجعة الدروس
واجتهد ما تستطيع في اختيار طالب علم تذاكر معه في هذه الحالة، وأوصي بطلاب العلم الصادقين، وهنا وقفة: ينبغي على اللاحق أن يعترف بفضل السابق، ووالله لا بركة لطالب العلم إلا أن يحفظ حق إخوانه، فإذا تتلمذ على شيخ يعرف أن هناك من سبقه، وأن السابق له حق وحرمة، فيحترمه ويقدره، ويرجع إليه إذا مرت عليه مسألة ما قرأها، ويعرف أن فلاناً ربما قرأها وهو أعلم بها، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم ينصحون بالتابعين، فيقول له: اذهب إلى فلان، وعائشة رضي الله عنها تقول: (سل عبد الله بن عمر)؛ لأنه كان أعلم، وكانوا يسألون أمهات المؤمنين.
وهذا من النصيحة، والدين النصيحة.
وهنا ننبه: أن الأفضل أن يجتمع الإنسان بالأكثر، وهذا يختلف إذا ما كان عندك نوعية جدية ممتازة، ثلاثة أو أربعة أو خمسة، لكن في حدود الخمسة أحسن، إذا كانت منضبطة في نفس يوم الدرس، فبدلاً من أن تحضر الدرس يمكن أن تحدد الوقت الذي يناسب للمراجعة، ثم كل منكم يتقي الله في أخيه، إن وجده مجداً شحذ همته وثبته، وإن وجده متقاعساً قواه، وإذا وجد أنه لا يصلح لهذا تخلى عنه، لكن بعد أن يعذر منه، فإن هذا العلم لا ينبغي أن يؤتمن عليه الكسول ولا الخمول، بل ينبغي أن يختار له أفضل وأحسن الناس جداً واجتهاداً واستشعاراً بالمسئولية، فإذا رأيتم الخمول، والكسلان غداً سيتعلم العلم ثم يقعد في بيته {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5].
فهذا العلم لا ينال إلا بالجد والاجتهاد، من يريد أن يسابق ويتغرب من يحمل هذا العلم وليس عنده أي مانع أن يسافر إلى أقصى الشرق والغرب من أجل أن يبلغ رسالة الله عز وجل، إما همة صادقة ورجل علم صادق وإلا فلا، وتبحث عن رفيق صادق في طلبه للعلم وجده واجتهاده، فالأفضل أن الاثنين والثلاثة يأتون لمن هو أقدم منهم، ويقرءون عليه ويراجعون معه من البداية؛ لأن من درس ثلاثة أو أربعة كتب استبان له بعض الشيء في المنهج، فحينئذ إذا جلس مع طالب علم متمكن فيمكن أن يسد الثغرات الموجودة عنده، ويكمل نقصه فيما فيه النقص.
وهنا أمر ينبغي أن ينتبه له الطالب الذي يأتي إلى من هو أقدم، فينبغي أن يترفق به، وإذا اعتذر له فلا يحمله على المحمل السيئ، فإن المشكلة الآن في طلاب العلم أنهم يريدون من يعلمهم كما يريدون، وتجد طالباً يأتي ويقول: يا شيخ! أنا أريد أن تعطيني درساً في كتاب كذا وكذا، وهو الذي يختار الدرس، وهو الذي يختار الوقت، ولو قدر له أن يختار كيف أشرح لفعل، وأيضاً يقول: لا تتسرع إذا أتيت إلى شخص وقال لك: لا أستطيع.
فيجب أن تحسن الظن به، ولا تحمله على أنه لا يريد أن يعلمك؛ بل تحسن به الظن، وتقول له: بارك الله فيك وأعانك الله، فإن تيسر له وقت احرص على هذا الوقت ولو كان قليلاً، فربما هذه الساعة التي تراها قليلة فيها خير كثير وفيها بركة.
ثم أوصي طالب العلم الجيد أن لا يرد أحداً قادراً عليه، ومن تعلم منا علماً فإننا نناشده الله أن لا يبخل به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يتقي الله عز وجل، فليس لنا من هذا العلم إلا بقاؤه في الناس، أما وقد تحملنا ما تحملناه رجاء أن يبقى علمنا في الناس، فينصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا الزمان، فكل يحتاج فيه إلى من يعلمه.(417/6)
وصايا للمتميزين من طلبة العلم
ثم أوصي هؤلاء الطلبة المميزين، أولاً بتقوى الله عز وجل، وبأن يحمدوا الله سبحانه وتعالى أن اختارهم فحضروا الدروس كلها، والله إن الإنسان يقف بعد مرور سنوات فيقول: سبحان الله! الله قادر أن يبتلي عبده بالمرض أو بالنسيان، أو بالشواغل الله قادر على كل شيء، مَن الذي يسر وسهل لنا هذا؟ الفضل لله وحده لا شريك له.
وأوصي هؤلاء أن يستشعروا نعمة الله عليهم حتى يبارك لهم في النعمة التي أوتوها، فيحرص كل الحرص على التضحية والصبر والتحمل والتجمل، وتبليغ رسالة الله عز وجل ما أمكن، وأسأل الله أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتيسيره، وأن يفتح لهم من أبواب فضله ما لم يخطر لهم على بال، وهذا رجاؤنا وأملنا في الله، ونرجو الله أن لا يخيب رجاءنا فيه.
ويحرص هؤلاء الطلاب الجيدون الممتازون على ما يلي: أولاً: أن يوطنوا أنفسهم بضبط العلم، وأسألهم بالله عز وجل أن لا يقولوا علينا إلا ما قلناه، وأن يفرقوا بين العبارة التي نقول ونقلهم عنا بالمعنى، فلا يأتي شخص ويقول: قال الشيخ كذا وكذا، وهو قد نقل بالمعنى، ولكن يقول: الذي أفهم من كلام الشيخ كذا، والذي أفهم من فتواه كذا، أما أن يحفظ نص كلام الشيخ ويقول: قال الشيخ كذا وكذا، فهذه أمانة ستسأل عنها أمام الله عز وجل.
ثانياً: أوصي بالتقيد بالعبارات، وهو من أفضل ما وجدناه بركة للعلم، أنك لا تجلس عند عالم ولا تقرأ كتاباً إلا وتحرص أن تنقل نفس العبارة والكلمة، ولذلك قال الله: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف:4]، والإنسان يأتي بالأثر والشيء كما هو وكما حفظه وكما رآه، قال أبو شريح الوليد بن عمرو بن خزاعة رضي الله عنه: (أبصرته عيناي، وسمعته أذناي، ووعاه قلبي)، يقصد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذلك من شدة التحري والضبط أبصرته عيناي إذ يتكلم، وسمعته أذناي إذ نطق صلوات الله وسلامه عليه، ووعاه قلبي لما قال، وهذه هي الرحمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (نضَّر الله امرأً -وفي رواية: رحم الله امرأً- سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها) والعلم ربما نقل بالمعنى فيحدث أموراً كثيرة، وكذلك أيضاً التقيد بما سمع، وأن لا يحمل العبارات ما لا تتحمل.
ثالثاً: الدقة في ضبط المسائل ونقلها، فالمسائل تحتاج إلى نوع من التركيز والدقة، خاصة مسائل الفقه والأحكام، وخاصة إذا كان الذي يفهم من العوام، فينتبه الإنسان في العبارات التي يقولها، فمن الناس من يقرأ الفقه فيتحدث بكلام العامة، فإذا جاء يشرح كتاباً كأنه يتكلم كلاماً عاماً، فيأتي بعبارات هزيلة، ولربما يأتي بأمثلة من الأسواق، وهذا لا ينبغي، بل ينبغي عليك أن تصون نفسك، وأن تحفظ قولك، وإذا جلس معك طلاب العلم فتتقي الله عز وجل وتشرف العلم، وتتكلم كلام العلماء، ولا تتشدد ولا تبالغ في العبارات، فإذا كان الذي يقرأ عليك عامياً يكون تركيزه وضبطه وسطاً بين الإفراط والتفريط، فلا تبالغ في تنميق العبارات، إنما تأتي بعبارة علمية صحيحة، تعلم أن هناك شيئاً وهو شرح الكتاب، وأن هناك فتاوى، وعلم الكتاب له طريقة، وعلم الفتاوى له طريقة، وليس كل من حضر كتاباً يستطيع أن يقرأه، وليس كل من استطاع أن يشرح كتاباً يستطيع أن يفتي في المسائل، وليس كل من استطاع أن يعلم ويفتي يستطيع أن يقضي.
فهذه كلها تحتاج إلى أهلية وضبط وتمكن، لكن إذا كنت تريد أن تذاكر مع إخوانك وخاصتك فحينئذ تحرص على أن تتقيد بالعبارات ما أمكن، هذا الذي أفضل أن يكون عليه طالب العلم.(417/7)
تحذير طالب العلم من العجب
ومما أحذر منه: العجب، فإذا فتح الله عز وجل عليك، وأصبح طلاب العلم يجلسون بين يديك، فخف على نفسك ولا تعجب، ولا تبالغ في الغرور، فإن الغرور هلاك للإنسان، والعبد قد يفتن في علمه، ثم إذا بلغ يمتحن حتى يبلغ مبلغ العلماء، ثم إذا بلغ مبلغ العلماء امتحن في التواضع لله عز وجل وعدم الغرور، فإياك أن تغتر، والله قد ذكر الذين تكبروا وسماهم فقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83]، فطالب العلم والعالم الموفق السعيد هو الذي يزيده علمه تواضعاً، ولا ينبل الرجل حتى يأخذ عمن فوقه، وعمن دونه، وعمن هو مثله، والحكمة ضالتك، وبغيتك، ومطلبك، ومقصدك، فابحث عن الحكمة، وإذا وجدتها تتواضع لها، ولا تغتر، فيجلس الإنسان ويقول: أنا من طلاب فلان، وقد حضرنا درس فلان، وقرأنا على فلان، وقال شيخنا، والبعض يحضر للشيخ درسين أو ثلاثة، ثم يقول: قال شيخنا! وهذا نوع من التدليس، وهذا لا يصح إلا إذا كان الإنسان قرأ عليه كتاباً كاملاً، فيقول: قال شيخنا في العبارة التي سمعتها، لكن أنك تأتي في باب لم تقرأه على الشيخ، ثم بعد ذلك تسمع أحداً يقول، ثم تقول: قال شيخنا، وتوهم من يسمعك أنك قرأت عليه، فهذا لا يجوز، وهو غش، فينبغي التقيد بالأمانة والإنصاف، حتى إن البعض يدّعي أنه من طلاب الشيخ فلان وعلان، وهو ما تتلمذ إلا على كتبه، وعلى هذا فيمكن أن يقول شخص: قال شيخنا شيخ الإسلام، وهذا تدليس للأمة، فلا ينبغي أن يقول شخص: قال شيخنا؛ لأن هذه العبارة إذا سمعها طلاب العلم، يتبادر إلى ذهنهم أنه قد قرأ على هذا الشيخ، فالناس لا تغني لك من الله شيئاً رحمك الله، مدح الناس وثناء الناس لا شيء، سواء تتلمذت على يد الشيخ فلان وعلان، فلن يقدم لك شيئاً أخّره الله عنك، ولن يؤخر عنك شيئاً قدمك الله إليك.
فعلى كل إنسان أن يوطن نفسه بتقوى الله عز وجل، والبعد عن الغرور والعجب، ومن حقك أن تقول: تتلمذت على الشيخ فلان، وقرأنا على الشيخ فلان؛ ليعرف الناس قدرك، وليعرف الناس قدر العلم الذي تعلمته، ومن حق طالب العلم أن يقول: أنا من طلاب الشيخ فلان، وقرأنا عليه كتاب كذا، وقرأنا عليه كتاب كذا، كما قال يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]، وقد نص العلماء على جواز هذا إذا قصد به الثقة بما يقول، والعمل بعلمه، وإنزاله منزلة تليق به، فهذا منصوص عليه عند العلماء، ولا حرج ولا بأس، لكن الحرج هو الغرور.(417/8)
الاعتراف بنعمة الله
وهنا أقول كلمة: والله ثم والله! ليس هناك أبرك من طالب العلم، ولا أعظم خيراً ولا أحسن عاقبة من معاملته لله عز وجل، فعليه أن يعلم أن عزته في الله وحده، وأن علمه من الله وفهمه، فإن الله هو الذي علمه ما لم يكن يعلم، وأن فضل الله عليه عظيم، فيعترف بفضل الله سبحانه وتعالى، ولا يبحث عن القشور التي عند الناس.
من حقك أن تعترف بفضل غيرك عليك تبعاً لفضل الله، والمخلوق ليس له فضل كفضل الخالق، إنما فضله تبع، ولذلك تشكر الناس، لكن شكرهم تبع لشكر الله سبحانه وتعالى، فهو الذي علمك وفهمك، ولذلك فلا يغتر الواحد بمشايخه وبعلمائه؛ لأن هذا الغرور سيدعوه أن يرد أقوال العلماء وانتقاص الآخرين، والحط من فتاوى العلماء.
ولهذا أوصي طلابي أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وعليهم أن يستندوا إلى الحق؛ لأن الحق يستمد قوته من ذاته، ويبينوا للناس ما ترجح عند شيخهم، أو عند من قرءوا عليه، ولكن لا يحطموا أهل العلم، ولا ينتقصوا قدر العلماء، وما وجدنا أهل العلم يؤلفون الكتب أو يفتون أو يعلمون من أجل الحط من أقدار العلماء الآخرين، وإنما زادهم العلم اعترافاً لأهل العلم بفضلهم، واعترافاً لكل ذي حق بحقه.
وأوصي طلابي أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يتخذوا من تعلمهم وسيلة للعجب إلى درجة نسيان حقوق العلماء الآخرين، وإذا جاءك أحد بقول مخالف لقولك الذي قرأته، فاعلم أنك إذا اعتقدت حكماً شرعياً، وعندك فيه دليل من كتاب وسنة، ممن يوثق بعلمه في فهم هذا الحديث؛ فقد أعذرت إلى الله.(417/9)
التقيد في مرحلة الطلب بما درس على المشايخ
وبعد هذا تتقيد بهذا العالم، وهذا ما يسميه العلماء بمرحلة الاتباع، فتتقيد به حتى تدرس أصول الفقه، وتعرف الذي خالفه، وما دليله، وهل الحجة مع شيخك؟ أو مع من خالفه؟ فقبل أن تصل إلى هذه المرحلة تلزمك مرحلة التتبع، ويلزمك هذا الأصل؛ لأنك تسير على أصول وضوابط، ولو أنك انتقلت إلى غيرك فقد نفّقت، فقد يكون هذا الشيخ أعمل دلالة أسقطتها أنت في العبادة والمعاملة، وحينئذ تعمل بدليل الاضطراب، وهذا ما يعنيه العلماء بالاتباع، وإذا أخذت قول شيخ بدليل تقول: هذا الذي تعلمته، وهذا الذي أعرفه، وهذا الذي تذكره قول لبعض العلماء، لكن هذا الذي درسناه، وهذا تعلمناه، وانتهى الإشكال، قولكم خطأ، وقولنا صواب، وكذا، وإقامة الدنيا.
ومما أوصي به طالب العلم، وهذا من نعم الله عز وجل عليك: ترك الجدال والمناقشة، كثير من طلاب العلم الآن-إلا من رحم الله- محقت منه البركة، وضاع عليه وقت كبير من وقته وعمره بسبب المناظرة، كل شخص يبحث مسألة يريد الأقوال فيها، والردود، والمناقشات؛ لأنه مولع، ويريد من يناقشه حتى يرد عليه، وهذه هي آفة العلم، فعليك-رحمك الله- أن تقرأ، والحكم بدليله، وتتقيد بهذا الحكم والدليل، حتى تصل إلى مرتبة أهل العلم الذين يجتهدون، فإذا سرت على هذا الطريق جمع لك من العلم ما لا يحصى، ولذلك كان الإمام شيخ الإسلام محمد بن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة معروفاً عنه أنه لا يمكن أن يجادل أحداً، وهو على درجة من التثبت والرسوخ في العلم، وكان معروفاً عنه أنه إذا جلس في مجلسه، وسأله أحد سؤالاً، ثم فتحوا باب المناقشات، لماذا؟ وكيف؟ هذا ليس من باب الاستفادة، باب الاستفادة -هذا نقله إلي الوالد رحمه الله- بمجرد أن يأتي ويقول: لماذا؟ ويقوم هذا ويقول: لا، قال فلان، قال علان، يتركه، ويقوم من المجلس، ولا يمكن أن يجلس مجلساً فيه هذا اللجاج والمناظرة؛ لأن القلوب تفسد، ويحدث نوع من الغرور للمتكلم أو للسامع أو للمعترض عليه، وقد تحط من قدر العالم، ولذلك فالسلامة غنيمة، من عنده علم عمل بالدليل: ما علمت فقد كفاني وما جهلت فجنبوني مادام أني أخذت هذا العلم عمن يوثق بعلمه ودينه، فيجب أن أضبط هذا العلم، وأعكف عليه، وستضبط كتب العبادة والمعاملة بهذه الطريقة التي لا تشويش فيها، وليس عندك أحد يدخل عليك الشبه حتى تضبط، وبعد ما تضبط يفتح الله عز وجل عليك، وتتوسع في أصول الفقه، وضوابط العلماء في الاستدلال، ووجه الدلالة، ثم تنكشف لك الأدلة، ثم تبحث، وهذا من أفضل ما يكون.(417/10)
طريقة الشرح لكتب الفقه
وهناك تنبهيات، منها: أننا في شرح الزاد ربما تركنا أبواباً ما أسهبنا فيها، وأسهبنا في أماكن أخرى، فمثلاً: في العبادات والمعاملات المالية في شرح بلوغ المرام إذا وجدت أني قلت قولاً ورجحته باختصار، ولم أسهب في المسألة، فتجدها في الشروح الأخرى مطولة، وهذا يعرفه الطلاب، والأفضل أنك تجمع الشروح كلها، وتحاول أن تعرف قسط هذه المسائل، فتضع عندك مثل الفهارس، تلخص به الشرح، ثم تجعل إحالات للتوسع في الأقوال والردود.
بالنسبة لهذه الرسالة فقد كان بالإمكان أن ننتهي منها في شهرين أو ثلاثة، ولكن قد لا يضبط إلا طالب العلم المتمكن، أما إذا طالت المدة فإنه يتضح المنهج لطالب العلم، ولذلك تجد طلاب العلم الذين يقرءون السنة والسنتين والثلاث يسيرون على منهج واضح، وطريقة واضحة، وترسخ عندهم الطريقة، وأما الاستعجال فلربما تأتي آفات لطالب العلم، وتبقى فيه كثير من الأدران، والتنبيهات، فيستعجل ويخرج دون نضوج، ثم يوجد من يستعجل من غير أولئك وله عذره، وجزاه الله خيراً عن أمة محمد، ولا نقلل من شأنه، لكن هذا الذي اخترته لأجل مصلحة العلم، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل العلم لنا فيما اخترناه، وهذا من ناحية إطالة المدة، المهم أن تعرف العبارة والحكم والمثال والدليل، هذه هي قراءة الفقه، فلا يقال: الأبواب الأخيرة ما شرحت؛ لأن هذا نوع من الفضل غير واجب لك، الأصل أننا نبين معنى العبارة ومثالها والدليل، هذا هو الأصل، وهذه طريقة قراءة الفقه.
فتعود إلى هذا الأصل، وتضبطه، وتحرر المسائل الناقصة من غيرها، أما الأبواب الأخيرة: الأطعمة، الذكاة، الصيد، الأيمان، النذور، كل هذه قد تكون فيها دورات مستقلة-إن شاء الله- نبين فيها ونفصل، سواء في المدينة، أو في جدة، أو في مكة، وطلاب العلم عليهم أن يكونوا على اتصال بالدروس العلمية، ويحاولوا أن يستدركوا بعض التفصيلات والتفريعات الموجودة فيها إذا احتاجوا إلى هذا التفصيل والتفريع.(417/11)
أخلاق طالب العلم
كذلك هناك أمور ينبغي التنبيه عليها بالنسبة لطلاب العلم فيما بينهم، وهي: أخلاق الإسلام؛ أن يحرص طالب العلم على أن ينفع أخاه ما أمكنه، والتضحية والإيثار من خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أدب الله بذلك بنيه صلوات الله وسلامه عليه، فيحرص طالب العلم على أن يؤثر أخاه إلا فيما فيه الخير من استثنائه للعلم، ويحرص طلاب العلم مع بعضهم على المحبة، والصفاء، والنقاء، والمودة، وليعلم كل طالب منتسب إلى شيخه أن عليه حرمة أن يزين هذه النسبة، وألا يشينها، فيكون عفيفاً عن أهل العلم، وعن حدود الله عز وجل ومحارمه، وعن العلماء.
وأوصيه بتقوى الله في أهل العلم من السابقين والباقين -نفع الله بعلمهم- ممن قضوا ومضوا رحمة الله على الجميع، أوصي باحترامهم، وتوقيرهم، وحفظ حقوقهم، وأن لا يشين أحداً من طلابنا، وكل إنسان محسوب على نفسه، وعندما يقال: هو من طلاب فلان، فلا يؤذي شيخه بل لا يؤذي حتى طلابه ويشينهم.
وهذا أمر أحب أن أوصي به؛ لأن الزمان كثرت فيه الفتن، وإن شاء الله طلاب العلم هم أرفع من هذا كله، لكن كثرة الفتن والمحن توجب التنبيه على مثل هذه الأمور.(417/12)
تعليم الناس العلم
وكذلك أيضاً مما أحب أن أوصي به: الحرص على اختيار الأوقات المناسبة في تعليم الناس، فطالب العلم الذي وفقه الله لضبط هذه المسائل، وقراءة هذا الكتاب، له أن يُقرئه ويدرسه في حدود ما علم، وهذه إجازة لمن اتقى الله عز وجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظ حق التعليم, وقرأ في منهج العلماء رحمهم الله، أو جالس أهل العلم، واستفاد من سمتهم ودلهم، أن ينفع أبناء المسلمين ما أمكنه، وأن يبذل ما يستطيع، إذا استطاع أن يفتح درساً في مسجد حيه ولو بعد الصلاة يتحدث فيه عن أحكام الطهارة، وإذا جاءته أسئلة يقول: أنا لست أهلاً للفتوى، أما إذا ضبط الأسئلة والإجابة عنها، وعلم أن السؤال والجواب موجود؛ لأنه قرأ على أيدي العلماء.
فعلى كل حال: الحرص على فتح درس، أو الجلوس مع الإخوة في الطلعات والنزه فيقول: هلموا نتذاكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم هلموا نتذاكر أحكام الزكاة، والبيع، فيعمر وقته بذكر الله، وطاعة الله.(417/13)
عمارة الوقت بالذكر والورع من الدنيا
ومن الأمور التي أوصي بها كل من يريد أن يبارك الله عز وجل له في علمه: أن يستغرق وقته في طاعة الله؛ لأن العالم وطالب العلم إذا حفظ وقته في طاعة الله يبارك له، ويفتح عليه، ويقال: إنه ما حُرص على أمرين إلا نال الإنسان فتحاً في هذا العلم، فسيفتح الله عليه، ويبارك له في الفهم: الأمر الأول: استنفاد الوقت في ذكر الله وطاعته، فأولى الناس بالفهم والوعي عن الله ورسوله، وحسن التعليم للناس، والقبول؛ من رزقه الله عمارة وقته بذكر الله عز وجل، وهذه وصية علمائنا ومشايخنا، أن يحرص طالب العلم على عمارة وقته بذكر الله عز وجل.
الأمر الثاني: التورع، والتحفظ من الدنيا ما أمكنه، خاصة إذا قُصد بها المطامع، وأراد من تلك الدنيا أن يذلك، فالله أعزك، وأراد غيره أن يذلك، فارض بعزة الله، وكرامته لك، إن هذا العلم أمانة في رقبتك، ولذلك صن هذا العلم، فبمجرد أن تحس أن الشخص يريد أن يذلك بهذه العطية، أو بهذا المال، فابتعد، قال سفيان الثوري رحمه الله: (أوتيت فهم القرآن، ولما قبلت الصرة نزع مني)، فحينما يتورع الإنسان عن أموال الناس ومطامع الدنيا يرتفع قد تجد الإنسان من أهل الدنيا يأتي ويضعك في صدر مجلسه، أو في مكان أعلى مما أنت تستحقه، ويريد أن يستدرجك، فتربأ بنفسك، ولا ترضى لنفسك إلا بتقديم ربك، والله ليرفعنك الله ولو وضعك الناس، وليضعن الله من عصاه ولو رفعه الناس، لو أطبق من في الدنيا على أن يرفعوك على منزلتك شعرة وهم راضون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
فعامل الله، واحذر من هذه الدنيا، والدنيا لا تختص بالمال، حتى ولو أتى ليشرفك، ويريد أن يضعك في مكان فيه نوع من المجاملة والمحاباة، وترى من هو أعلم منك وأفضل فتأخر، وقل: فلان أعلم مني؛ لأنك تعلم أن هذا يرضي ربك، وفلان أولى مني، وإذا سئلت عن علم، وهناك من هو أعلم منك، فقل: اذهبوا إلى فلان، فلان أكثر ملازمة للشيخ مني، فلان كذا، وهكذا، وإلا فلا.
فإذا حرصت على هذين الأمرين: عمارة الوقت، والتعفف عن الدنيا، فإن الله سيفتح عليك من فواتح رحمته، وما من عبد يترك شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه.
وعليك أن تحرص في تعليمك لطلابك على غرس أخلاق ومبادئ الإسلام، فالأدب قبل الطلب، والعمل الذي يرضي الله عز وجل يزين العلم فتحرص على أن يتأدب طلابك بآداب الإسلام، وهذا يحتم على طالب العلم أو على من يريد أن يعلم الناس أن يعلمهم السكينة والوقار، والأدب في مجلس العلم؛ لأن هناك ملائكة تغشى حلق الذكر، فتجمل، ولا تري الله من نفسك إلا كل خير من السمت، والوقار، وحسن الصمت، وإياك واللغو، وأخلاق الجاهلية، فهذه مما تشين الإنسان.(417/14)
الاعتزاز بالعلم ورفعه
عليك أن تربو بهذا العلم، وكذلك أيضاً من عزتك بالعلم أن لا تنزله في المواضع التي يمتهن فيها، فتأتي إلى الناس وهم جالسون في لهو، وتريد أن تفتح درساً، أو تتكلم في شيء يكون فيه امتهان للعلم، أو يأتي أحدهم ويتهكم بك، يقول: حدثنا عن كذا، على سبيل التهكم؛ بل ارفع هذا العلم، فإن رفعته رفعك الله عز وجل، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه لـ عكرمة: (إياك أن تأتي الناس في مجالسهم تحدثهم)؛ لأن العلم إذا جاء بالقهر والقسر امتهن، ولذلك دعهم حتى يسألوا، ثم قال له من وصاياه أيضاً رضي الله عنه وأرضاه: (لا تفت الناس إلا فيما احتاجوا إليه، فإنك إن أفتيتهم فيما احتاجوا إليه طرحت عنك تبعة العلم)، فإن كثيراً من أسئلة الناس فيها فضول، فلا تجبهم إلا فيما يحتاجونه الناس يأتون يتكلمون في الفضول، والواحد منهم لا يعرف كيف يتوضأ، ولا يعرف ماذا يفعل لو سها في صلاته، فإذا جئت لمجلس وقالوا: حدثنا، بدل أن يحدثنا إنسان في بعض الأمور، يقولون: تحدث عن بعض الأمور التي مصلحتها قليلة، فتقول لهم: يا إخوة! أنتم الآن مسلمون، لو أن ميتاً مات، وأنتم في سفر، كيف ستغسلونه؟ وتبدأ تصف لهم غسل الميت، وأحكام السهو في الصلاة؛ فإن هذه أمور تحتاجها العامة، وهذا من النصيحة، وتختار لهم أفضل ما يختار، فتختار لهم أطيب الكلام، ولذلك قالوا: إن الحكيم والأديب هو الذي يكتب أحسن ما يقرأ، ويحفظ أحسن ما يكتب، ثم يملي بأحسن ما حفظ.
يصفي الشيء تلو الشيء، ثم لا يتكلم إلا بأحسن أحسن الشيء، فليس منفلت الزمام، يحدث ويتكلم بكل شيء.
ثم إن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وكل الأمر يعود إلى شيء واحد، وهو: المعاملة مع الله، مهما تكلم الإنسان أو سكت، فالقليل المبارك خير من الكثير المنزوع البركة، فعامل الله وأبشر بكل خير، فوالله ثم والله ما رأينا من ربنا بهذا العلم إلا كل خير، وجدناه سبحانه وتعالى عظيماً، حليماً، كريماً، براً، رحيماً، ما وجدنا أوفى من ربنا، ولا أكرم منه سبحانه وتعالى علَّمنا وكنا جاهلين، وهدانا وكنا تائهين حائرين، ورفعنا وكنا وضعاء، ولن نزل وضعاء فقراء حتى يرحمنا وهو رب العالمين، به استغنينا عمن سواه، واستكفينا عمن عداه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فعامل الله وأبشر بكل خير، واعلم أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع عبده، ولن يخذل من والاه، فكن لله يكن الله عز وجل لك، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يحب الصادقين والمخلصين فكن منهم، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يحسن الجزاء لعبده، ويجزي المحسن، فإذا عاملت الله فلتكن معاملتك في قولك وفعلك على أحسن وأجمل وأتم وأكمل ما تكون المعاملة لله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً لا يقبل الله النفاق، ولا الرياء، ولا التصنع، ولا التكلف، ولكن ما وقر في القلب من إرادة وجهه، وصدقه العمل المبني على شرعه، فمن كان كذلك بورك له في قوله وعمله، وبينك وبين هذا العلم الذي تتعلمه الأيام، فإنه صدقت مع الله ليصدقن الله معك حياً وميتاً، وليطيبنك بهذا العلم حياً وميتاً، قائماً وقاعداً، نائماً ومستيقظاً، ولتجدن البركة والخير من الله عز وجل ما لم يخطر لك على بال، فاستغن بالله، واعلم أنه ليس هناك أسعد منك وأنت تقرأ، وليس هناك أحد أسعد منك وأنت تفهم كلام الله، وتتفقه في دين الله، وليس هناك أحد أسعد منك وأنت تعلم الناس، ولذلك عاش أئمة السلف مرقعة ثيابهم، حافية أقدامهم، ولكنهم أغنى الناس بهذا العلم؛ لأنهم شعروا بغنى الله عز وجل الذي أغناهم به، فاعرف قدر هذا العلم.(417/15)
دعاء
أسأل الله بعزته وعظمته وكماله، في هذه الساعة المباركة بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا: أن يتقبل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، اللهم إنا نسألك أن تعفو عن أخطائنا، وما كان منا في كل ما علمناه وتعلمناه، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اجبر كسرنا، اللهم اغفر ذنوبنا في ذلك كله، ما علمناه وما لم نعلمه، ومما تعنتناه ومما أخطأنا فيه، اللهم اغفر لنا جميع ذلك يا حي يا قيوم، اللهم ارحمنا بمغفرة ذلك كله يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل هذا العلم خالصاً لوجهك، موجباً لرضوانك، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء، اللهم أعظم لنا فيه الجزاء في الدنيا والآخرة، بارك لنا فيما جزيتنا فيه، اللهم أعطنا فيه خير ما أعطيت من تعلمه وعلمه خالصاً لوجهك، وابتغاء مرضاتك، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، نسألك في هذه الساعة المباركة أن تسبغ شآبيب رحماتك ومغفراتك على قبور علماء المسلمين، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم ارفع درجاتهم بوجهك العظيم إلى الفردوس الأعلى في الجنة، اللهم اجزهم عنا خير ما جزيت عالماً عن علمه، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء وأعظمه وأوفاه، اللهم قدس أرواحهم في جنات النعيم، وتفضل عليهم بأفضل الخير والتكريم يا أرحم الراحمين! اللهم اغفر لمشايخنا خاصة، اللهم نور على الأموات منهم قبورهم، اللهم نور عليهم قبورهم، وافسح لهم فيها، وارفع درجاتهم إلى أعلى عليين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واجزهم عنا خير ما جزيت شيخاً عن طالبه، ومعلماً عن تعليمه، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين! اللهم اجزهم فيما اجتهدوا فيه لنا في تعليمنا، ودلالتنا إلى الخير بأحسن الجزاء يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم عجزنا عن مكافأتهم، وأحلناه عليك يا كريم يا رحيم، أعظم جزاءهم، وثقل في موازين الحسنات ثوابهم، اللهم سر ناظريهم بعظيم الأجر فيما علمونا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا، اللهم لا تخيب ظنهم فينا.
اللهم بارك لأحيائهم في أعمارهم، وأحسن خاتمتهم، ويسر أمروهم، واشرح صدورهم، وفرج كروبهم، يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم! اللهم إنا نسألك العلم والعمل، اللهم إنا نسألك العلم والعمل، والإخلاص والقبول، اللهم إنا نسألك علماً يرضيك عنا، اللهم إنا نسألك علماً يرضيك عنا، اللهم اجبر كسرنا، وارحم ضعفنا، واستر عيبنا، فأنت ربنا لا إله إلا أنت، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا، اللهم ارحم ضعفنا في هذا العلم، وارحم تقصيرنا يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما تعلمناه وعلمناه، وأن تعيننا على العمل والبلاغ يا أرحم الراحمين! اللهم أعنا على الإخلاص لوجهك، واتبغاء ما عندك، اللهم أعنا على الإخلاص في ذلك لوجهك، وابتغاء مرضاتك، وبارك لنا في هذه العلوم، واجعلها شافعة نافعة لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتاك بقلب سليم، اللهم اغفر لنا، ولمن أحبنا فيك، ولمن حضر مجالسنا، اللهم اغفر لنا، ولمن أحبنا فيك، ولمن حضر مجالسنا، وأعاننا على تبليغ رسالتنا، اللهم اغفر لنا أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تعيذنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما بقي لنا من أعمارنا، اللهم إنا نسألك أن تبارك لنا فيما بقي لنا من أعمارنا، اللهم بارك في أعمارنا، اللهم بارك لنا فيما بقي من أعمارنا، واجعلها فيما يرضيك عنا، يا أرحم الرحمين! يا أرحم الرحمين! اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغلسهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً، وبالسيئات عفواً وصفحاً ومغفرة ورضواناً، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتاهم أجمعين، يا أرحم الراحمين! يا أرحم الرحمين! اللهم إنا نعوذ بك من درك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وعضال الداء، وخيبة الرجاء، يا أرحم الرحمين! اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، اللهم إنا نسألك النصر على الأعداء، لا إله إلا أنت، نسألك مرافقة الأنبياء، وعيشة السعداء، لا إله إلا أنت، يا أرحم الرحمين! ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(417/16)